الكتاب: مباحث العقيدة في سورة الزمر المؤلف: ناصر بن علي عايض حسن الشيخ الناشر: مكتبة الرشد، الرياض، المملكة العربية السعودية، الطبعة: الأولى، 1415هـ/1995م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- مباحث العقيدة في سورة الزمر ناصر بن علي عائض حسن الشيخ الكتاب: مباحث العقيدة في سورة الزمر المؤلف: ناصر بن علي عايض حسن الشيخ الناشر: مكتبة الرشد، الرياض، المملكة العربية السعودية، الطبعة: الأولى، 1415هـ/1995م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] بسم الله الرحمن الرحيم ال مقدمة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل الله فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله، واهتدى بهداه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فإن أحق ما يشتغل به الباحثون، وأفضل ما يتسابق فيه المتسابقون، وأجل ما يتنافس فيه المتنافسون هو دراسة كتاب الله تعالى، ومواصلة البحث فيه، والتعمق في الكشف عن علومه وحقائقه، وإظهار إعجازه، وتجلية محاسنه والدفاع عنه بنفي الشكوك، والريب فيه. فالقرآن الكريم بحر لا يدرك غوره، ولا تنفذُ درره ولا تنقضي عجائبه فما أحق الأعمار أن تفنى فيه، والأزمان أن تشغل به، وكل ساعة يقضيها الباحث في النظر في كتاب الله، والتأمل فيه، أو في البحث فيما يتصل به فهو في سبيل الله ونصرة لدينه. والقرآن الكريم هو كتاب الله المنزل على خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم بلفظه ومعناه نقل إلينا بالتواتر المفيد للقطع واليقين، أحكمه فأتقن إحكامه، وفصّله فأحسن تفصيله كما قال تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} 1 لا يتطرق إليه نقض ولا باطل. قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} 2. والقرآن العظيم هو المعجزة العظمى التي أوتيها نبينا صلى الله عليه وسلم، وهو الحجة البالغة   1- سورة هود، آية: 1. 2- سورة فصلت، آية: 41 ـ 42. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 الباقية على مر الدهور والعصور تحدى الإنس والجن أن يأتوا بمثله، أو ببعضه فباؤوا بالعجز. والقرآن الكريم هو هداية الله لخلقه، وشريعته في أرضه، وهو الكتاب الذي اشتمل على كل ما يحتاج إليه البشر في أمور دينهم ودنياهم في العقائد والأخلاق، وفي العبادات والمعاملات وهو في كل ذلك حكيم كل الحكمة لا يعتريه خلل ولا اختلاف، ولا تناقض قال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} 1. فلا عجب إذن أن كانت السعادة الحقة لا تنال إلا بالإهتداء بهديه والإلتزام بما جاء به، ولا عجب أن كان مصدراً لشفاء الأمراض التي تعتري النفوس والمجتمعات، فاهتدت به القلوب بعد ضلال وأبصرت العيون بعد عمى، واستنارت به العقول بعد جهالة، واستضاءت به الدنيا بعد ظلمات {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} 2 {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً} 3. {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 4. والقرآن الكريم هو الكتاب الذي بين الله فيه وفي سنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ للناس، ما يجب له على عباده من إفراده بجميع أنواع العبادة، وإخلاص الدين له وحده لا شريك له أنزله الله ليتمسك العباد بما فيه من أوامر ويجتنبوا الأمور التي نهى عنها، فيجب عليهم الإلتزام بما فيه عقيدة وسلوكاً قولاً وعملاً، ظاهراً وباطناً. وهو الكتاب الذي بين الله فيه العقيدة الصحيحة بأسلوب سهل يفهمه جميع الناس على اختلاف مستوياتهم، فقد فهم الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين "ما وصف الله به   1- سورة النساء، آية: 82. 2- سورة الإسراء، آية: 9 ـ 10. 3- سورة الإسراء، آية: 82. 4- سورة المائدة، آية: 15 ـ 16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 نفسه الكريمة في كتابه العزيز الذي نزل به على قلبه صلى الله عليه وسلم الروح الأمين، وبما أوحى إليه ربه تعالى فلم يسأله صلى الله عليه وسلم أحد من العرب بأسرهم قرويهم وبدويهم عن معنى شيء من ذلك كما كانوا يسألونه صلى الله عليه وسلم عن أمر الصلاة والزكاة والصيام والحج وغير ذلك مما لله فيه ـ سبحانه ـ أمر ونهي، وكما سألوه صلى الله عليه وسلم عن أحوال القيامة والجنة والنار إذ لو سأله إنسان منهم عن شيء من الصفات الإلهية لنقل، كما نقلت الأحاديث الواردة عنه صلى الله عليه وسلم في أحكام الحلال والحرام، وفي الترغيب والترهيب وأحوال القيامة، والملاحم والفتن ونحو ذلك مما تضمنته كتب الحديث معاجمها ومسانيدها وجوامعها، ومن أمعن النظر في دواوين الحديث النبوي ووقف على الآثار السلفية علم أنه لم يرد قط من طريق صحيح، ولا سقيم عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم على اختلاف طبقاتهم، وكثرة عددهم أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معنى شيء مما وصف ـ الرب سبحانه ـ نفسه الكريمة في القرآن الكريم، وعلى لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، بل كلهم فهموا معنى ذلك وسكتوا عن الكلام في الصفات نعم، ولا فرّق أحد منهم بين كونها صفة ذات أو صفة فعل، وإنما أثبتوا له تعالى صفات أزلية من العلم والقدرة والحياة والإرادة، والسمع والبصر، والكلام، والجلال والإكرام والجود والإنعام والعزة والعظمة، وساقوا الكلام سوقاً واحداً. وهكذا أثبتوا رضي الله عنهم بلا تشبيه، ونزهوا من غير تعطيل ولم يتعرض مع ذلك أحد منهم إلى تأويل شيء من هذا، ورأوا بأجمعهم إجراء الصفات كما وردت. ولم يكن عند أحد منهم ما يستدل به على وحدانية الله تعالى، وعلى إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم سوى كتاب الله، ولا عرف أحد منهم شيئاً من الطرق الكلامية ولا مسائل الفلسفة فمضى عصر الصحابة رضي الله عنهم على هذا1. ونتيجة لتلقي الصحابة العقيدة الصافية النقية من مصدريها الكتاب والسنة، وتمسكهم بها كانوا خير أمة أخرجت للناس، وكانوا مضرب الأمثال في الإيمان والإخاء والعدل والوفاء، والوفاق والوئام، وصاروا علماء حكماء رحماء، وسادة قادة في الحكم والحرب والسيادة لم يوجد لهم من بعدهم مثيل كما أنه لم يوجد قبلهم بعد الأنبياء والمرسلين من يماثلهم، فقد نعم العالم في زمنهم برغد العيش والأمن والسلام حقباً من الزمان في ظل العقيدة الإسلامية، وكانت دولة الإسلام في عهدهم دولة مرهوبة.   1- الخطط للمقريزي 2/356، وانظر "تلبيس إبليس لابن الجوزي ص85. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 الجانب ذل لها كل عدو للإسلام والمسلمين، وكانت تلك الدولة الإسلامية تستمد قوتها من تمسكها بعقيدة التوحيد النقية التي لم تندس بالفلسفة اليونانية، والطرق الكلامية فكانت عقيدتهم صافية نقية كما أخذوها من الكتاب المبين. ومن السنة النبوية الصحيحة التي أوحاها الله إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم فقويت شوكة الإسلام وسيطر سلطان العقيدة على أرجاء المعمورة. ولما حدثت الطرق الكلامية والمذاهب الفلسفية تمزقت الأمة وانقسمت فرقاً وأحزاباً1، فأخذ الضعف ينخر في أمة الإسلام فشيئاً فشيئاً حتى تدهورت العقيدة من نفوس المسلمين، واهتز الإيمان في قلوبهم، وكان لضعف العقيدة عند المسلمين الأثر السيئ في جميع نواحي الحياة، ولقد فهم أعداء المسلمين أن مصدر قوة المسلمين إنما هو في تمسكهم بعقيدتهم، والتزامهم بما في كتاب ربهم فأخذوا يبعدونهم عما في هذا الكتاب من الخير الدنيوي والأخروي بالدعوة إلى عدم تحكيمه واستبداله بقوانين البشر الطاغوتية فكانت حالة المسلمين على ما ترى!! ضعفوا عن الوصول إلى غاياتهم من قيادة الأمم، وهداية الشعوب، يتنازعهم أعداؤهم من جميع الجهات، ويسعون جاهدين لإضعافهم وإذلالهم نتيجة لتخليهم عن هذا الكتاب الذي هو مصدر قوة عقيدتهم، وعزهم، ورفع رايتهم وجمع كلمتهم، فأصبحوا فريسة لأعدائهم ضعفاء مهزومين متذللين لهم ينظرون إليهم بعين الإكبار والإجلال، وهذه الهوة وقع فيها أكثر المسلمين إلا من رحم الله تعالى ولا يمكن أن يعود للمسلمين عزهم ومجدهم إلا بالعودة للتمسك بعقيدتهم المستمدة من القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة إذ لا تصفو عقيدة المسلمين بما طرأ عليها من شوائب الشرك والبدع إلا بالرجوع إلى هذين المصدرين اللذين صلحت بهم الدنيا، وحينئذٍ يعود للمسلمين شأنهم وكما كان للسلف الصالحين الذين حملوا راية الإسلام، وسعوا جاهدين في نشر العقيدة الإسلامية الصافية النقية حتى عمت معظم الكرة الأرضية فنعم الناس في ظلها بالأمن والرخاء والسعادة. فالكتاب العزيز اشتمل على بيان العقيدة الصحيحة وتجليتها، والناظر فيه يجد أن معانيه "دائرة على التوحيد وبراهينه والعلم بالله وما له من أوصاف الكمال، وما ينزه عنه من   1- انظر الخطط للمقريزي 2/344 ـ 355. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 سمات النقص، وعلى الإيمان بالرسل وذكر براهين صدقهم، وأدلة صحة نبوتهم، والتعريف بحقوقهم، وحقوق مرسلهم، وعلى الإيمان بملائكته، وهم رسله في خلقه وأمره، وتدبيرهم الأمور بإذنه ومشيئته، وما جعلوا عليه من أمر العالم العلوي والسفلي، وما يختص بالنوع الإنساني منه من حين يستقر في رحم أمه إلى يوم يوافي ربه، ويقدم عليه، وعلى الإيمان باليوم الآخر، وما أعد الله فيه لأوليائه من دار النعيم المطلق التي لا يشعرون فيها بألم ولا نكد وتنغيص، وما أعد لأعدائه من دار العقاب الوبيل التي لا يخالطها سرور، ولا رخاء، ولا راحة، ولا فرح وفصَّل ذلك أتم تفصيل وأبينه، كما اشتمل على تفاصيل الأمر والنهي والشرع والقدر، والحلال والحرام، والمواعظ والعبر، والقصص والأمثال، والأسباب والحكم، والمبادئ والغايات في خلقه وأمره"1. وهكذا اشتمل القرآن العظيم على بيان وحدانية الخالق وتفرده بصفات الكمال والجلال، والإيمان بالملائكة والكتب والرسل الكرام، وحث الناس على الإيمان بالبعث والمعاد. ووجه العقول والأنظار إلى النظر في الأنفس وما فيها من عجائب وأسرار {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} 2 كما وجهها إلى النظر في الآفاق والآيات الكونية علويها وسفليها، ظاهرها وخفيها وعما تنطوي عليه من حكمٍ، وما أودع الله فيها من خواص وسنن وأفاض في ذلك في غير ما آية وسورة {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 3 {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ ِلأُولِي الأَلْبَابِ} 4 {وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ5 يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ   1- مدارج السالكين 1/452. 2- سورة الذاريات، آية: 21. 3- سورة البقرة، آية: 164. 4- سورة آل عمران، آية: 190. 5- جمع صنو أي: نخلات أصلها واحد ونخلات ليس كذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 1 إلى غير ذلك من الآيات التي لا يحصيها العد. وبالجملة فكتاب الله قد اشتمل على كل ما يسعد الإنسان ويحتاج إليه في أمر دينه ودنياه، وما من مشكلة تعرض للأمة الإسلامية إلا وقد وضع لها حلاً وعلاجاً يتناسب معها، ولكن المسلمين لما أعرضوا عنه وجعلوه وراء ظهورهم، وقفوا أمام مشكلاتهم حائرين مع أن هذا الكتاب المبين قد أبان لهم كل خير، ووضع لهم جميع أسباب النجاة وأعظم سبب يكفل لهم سعادتهم في الدنيا والآخرة هو تمسكهم بالعقيدة السلفية الصحيحة وإخلاصهم العبادة له ـ وحده لا شريك له ـ إذ هي الغاية التي خلق الله الخليقة من أجلها: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} 2 ومن أجلها أرسل الله الرسل وأنزل الكتب، فالرسل عليهم الصلاة والسلام جميعهم من لدن نوح إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم دعوا أقوامهم إلى توحيد الله ـ عز وجل ـ {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} 3. {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 4 فالتوحيد هو العماد الأول في حياة الإنسان ولذلك زخر القرآن بآياته وسوره بالدعوة إلى عقيدة التوحيد وإخلاصها لله ـ وحده لا شريك له ـ فلا نجاة ولا سعادة، ولا فوز ولا فلاح لأحد من العباد إلا بتحقيق عقيدة التوحيد طبقاً لما في الكتاب المبين وسنة نبيه الأمين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. وقد اخترت أن يكون موضوع رسالتي لنيل درجة "العالمية الماجستير" مباحث العقيدة في {سورة: الزمر} . سبب اختياري لهذا الموضوع: إن سبب اختياري لسورة "الزمر" لتكون موضوع رسالتي هذه ذلك لأنها من أكثر سور القرآن شمولاً لكثير من مباحث العقيدة الإسلامية، وهي من السور المكية5 التي   1- سورة الرعد، آية: 4. 2- سورة الذاريات، آية: 56. 3- سورة الأنبياء، آية: 25. 4- سورة النحل، آية: 36. 5- اللهم إلا ما روي عن ابن عباس "أن وحشياً قاتل حمزة رضي الله عنه نزل فيه بضع آيات منها: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ الله ... } إلى آخر ثلاث آيات، وقيل: إلى آخر سبع آيات" انظر: "الدر المنثور 7/210، زاد المسير 7/160، فتح القدير للشوكاني 4/447"، وانظر "أسباب النزول للواحدي" ص249، لباب النقول للسيوطي ص185، روح المعاني 23/232". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 عالجت قضايا العقيدة على سبيل التفصيل، فقد تناولت الحديث عن التوحيد بأنواعه الثلاثة: توحيد الأسماء والصفات وذلك بذكر الكثير من صفات الله تعالى وإثباتها له كما يليق بجلاله، وتوحيد الألوهية: وذلك بذكر الكثير من أنواع العبادة التي لا يستحقها إلا الله تعالى، وتوحيد الربوبية: وذلك بذكر الكثير من دلائله المحسوسة التي يلمسها العباد ويشاهدونها في حياتهم، واشتملت أيضاً: على بيان ما يناقض التوحيد وينافيه وهو الشرك بالله العظيم، وذلك بذكر الفرق بين المشرك والموحد وأصل الشرك في بني الإنسان، وذم الإنسان الذي يجعل لله أنداداً، وبيان أن الشرك محبط للعمل وأن صاحبه من الخاسرين. ثم انتقل الحديث فيها إلى وجوب الإيمان بالملائكة، والكتب والأنبياء والرسل، كما تناولت الحديث عن الإيمان بالقدر بذكر مراتبه الأربع، ثم ختم الحديث فيها عن وجوب الإيمان باليوم الآخر الذي يكون فيه المصير النهائي للمؤمنين والكافرين حيث بين الله في خاتمتها أن الجنة دار المتقين، وأن النار دار الكافرين الذين عبدوا غير الله وأشركوا معه غيره في العبادة فهي دارهم وبئس المصير. ومن هذا يعلم أن السورة تكاد تكون مقصورة من أولها إلى آخرها على الإهتمام بالإيمان بالله تعالى وأنه المعبود بحق دون سواه، وأنه المتفرد بصفات الكمال والجلال، والإيمان بالملائكة والكتب والرسل عليهم الصلاة والسلام، والإيمان بالقدر والبعث والمعاد، وأن هناك حياة أخرى خيراً من هذه الحياة فإذا ما آمن العباد بهذه العقائد سهل عليهم بعد تلقي تعاليم الشريعة الغراء والإلتزام بها علماً وعملاً وسلوكاً فمن أجل هذه المباحث المتقدمة التي عرضت لها "سورة: الزمر" أحببت أن تكون موضوعاً لرسالتي هذه، ولأن من أجل الأعمال وأفضلها الإشتغال بدراسة كتاب الله تعالى وفهم معانيه وتدبر آياته، وذلك من أحب الأعمال إلى الرب جل وعلا وأعظمها أجراً لأنه كلام الله، وكل عمل يتصل بهذا الكتاب من أجل خدمته وتبيينه للناس ليعملوا به فهو قربة يتقرب به إلى الله تعالى، فإنه ليس شيء أنفع للعباد في معاشهم ومعادهم وأقرب إلى نجاتهم من الإلتزام بما في هذا الكتاب المبين عقيدة وعملاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 منهج البحث: إن المنهج الذي اتبعته في إعداد رسالتي هذه هو كالآتي: أولاً: حصرت مباحث العقيدة التي اشتملت عليها "سورة: الزمر" وجمعت الآيات التي تتعلق بكل مبحث على حدة، وجعلت لها عنواناً يتناسب مع ما تدل عليه، ثم بينت وجه دلالتها على المسألة الإعتقادية مستعيناً في ذلك بأقوال أهل العلم الذين لهم جهود في توضيح العقيدة الإسلامية من علماء التوحيد من سلفنا الصالح كما استعنت بأقوال بعض المفسرين المتقدمين والمتأخرين وشراح الحديث. ثانياً: أحياناً أكرر الآية الواحدة من "سورة: الزمر" تحت أكثر من عنوان وذلك لاشتمالها على أكثر من مسألة من مسائل العقيدة فأضطر إلى إعادتها، وتكرارها في مباحث كثيرة من مباحث الرسالة. ثالثاً: أذكر القول الحق في المسألة الإعتقادية وأذكر ما يخالفه غالباً مع بيان الرد عليه. رابعاً: رتبت الموضوعات التي وردت في هذه الرسالة على حسب ترتيب أركان الإيمان الستة الواردة في حديث عمر بن الخطاب والمشهور بحديث جبريل الطويل1 ولم أرتبها على حسب ورودها في السورة غير أنني قدمت موضوع الإيمان بالقدر على الإيمان باليوم الآخر لأن من المناسب موضوعياً أن يكون اليوم الآخر هو نهاية المطاف في هذه الرسالة. خامساً: التزمت عند النقل من أي مرجع، أو الاستفادة منه الإشارة إلى رقم جزئه وصفحته بالإضافة إلى ذكر طبعات المراجع في الفهرست. سادساً: بينت مواضع الآيات التي وردت في الرسالة من غير "سورة: الزمر" بذكر اسم السورة ورقمها في الهامش أما آيات "سورة: الزمر" فلم أذكر رقمها وإنما أذكر عقب الآيات الواردة في كل مبحث أنها من "سورة: الزمر".   1- صحيح مسلم 1/36 ـ 37. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 سابعاً: عزوت الأحاديث التي أوردتها في الرسالة إلى مصادرها الأصلية من كتب السنة المعتمدة بذكر الجزء والصفحة في الهامش مع بيان درجة الحديث من خلال أقوال المحدثين إن كان الحديث من غير الصحيحين في الغالب. ثامناً: ترجمت للأعلام الذين جرى نقل شيء من كلامهم في الرسالة. تاسعاً: شرحت المفردات الغريبة التي وردت في بعض الأحاديث مستعيناً في ذلك بكتب غريب الحديث ومعاجم اللغة، وشروح الحديث ثم ختمت الرسالة بالفهارس الآتية: فهرس الأعلام المترجم لهم مرتبة ترتيباً هجائياً. فهرس المصادر والمراجع مرتبة كذلك. فهرس الموضوعات. خطة البحث: لقد قسمت البحث إلى مقدمة، وثلاث أبواب، وخاتمة، وتشتمل المقدمة على بيان اشتمال القرآن على كل ما يسعد الإنسان في دنياه وأخراه، وعلى بيان اهتمام القرآن بالتوحيد والعقيدة الإسلامية كما تشتمل على سبب اختياري لهذا الموضوع، والمنهج الذي سرت عليه في البحث، وهذه الخطة التي بني عليها هذا البحث. الباب الأول دلالة السورة على الإيمان بالله تعالى وفيه أربعة فصول: الفصل الأول: دلالة السورة على توحيد الأسماء والصفات ويشتمل على المباحث الآتية: المبحث الأول: تعريف توحيد الأسماء والصفات. المبحث الثاني: إثبات صفة العلو والفوقية. المبحث الثالث: القرآن كلام الله منزل غير مخلوق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 المبحث الرابع: إثبات صفة العزة. المبحث الخامس: إثبات صفة الحكمة. المبحث السادس: تنزيه الله تعالى من نسبة الولد إليه. المبحث السابع: إثبات صفتي الوحدانية والقهر. المبحث الثامن: إثبات صفتي الرحمة والمغفرة. المبحث التاسع: إثبات صفة الغنى لله تعالى. المبحث العاشر: إثبات صفة الرضا. المبحث الحادي عشر: إثبات صفة العلم. المبحث الثاني عشر: بيان معنى اسمه تعالى "الوكيل". المبحث الثالث عشر: إثبات صفة اليدين. الفصل الثاني: دلالة السورة على توحيد العبادة. ويشتمل على المباحث الآتية: المبحث الأول: تعريف توحيد العبادة. المبحث الثاني: وجوب إفراد الله تعالى بتوحيد العبادة. المبحث الثالث: أهمية الإخلاص في توحيد العبادة. المبحث الرابع: عبودية الدعاء. المبحث الخامس: عبودية الخوف. المبحث سادس: عبودية الرجاء. المبحث السابع: انقسام العبودية إلى عامة، وخاصة. المبحث الثامن: الإسلام دين جميع الأنبياء والرسل. المبحث التاسع: بيان الطاغوت الذي أوجب الله على عباده أن يجتنبوه. المبحث العاشر: عبودية الإنابة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 المبحث الحادي عشر: عبودية التوكل. المبحث الثاني عشر: الشفاعة نوعان منفية، ومثبتة. المبحث الثالث عشر: الرسل بعثوا للدعوة إلى توحيد الله بتوحيد العبادة. الفصل الثالث: دلالة السورة على توحيد الربوبية: ويشتمل على المباحث الآتية: المبحث الأول: تعريف توحيد الربوبية. المبحث الثاني: دلائل توحيد الربوبية من السورة. المبحث الثالث: إقرار المشركين الذين بعث فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم بوجود الله تعالى. المبحث الرابع: الإقرار بتوحيد الربوبية يستلزم الإقرار بتوحيد الألوهية. الفصل الرابع: ما جاء في السورة بشأن الشرك ويشتمل على المباحث الآتية: المبحث الأول: تعريف الشرك. المبحث الثاني: أنواع الشرك. المبحث الثالث: أصل الشرك في بني الإنسان. المبحث الرابع: ذم الإنسان على جعله أنداداً لله تعالى. المبحث الخامس: الفرق بين المشرك والموحد. المبحث السادس: التحذير من الشرك وبيان أنه محبط للعمل. الباب الثاني دلالة السورة على الإيمان بالملائكة والكتب، والرسل، والقدر وفيه أربعة فصول: الفصل الأول: دلالة السورة على الإيمان بالملائكة وفيه مبحثان: المبحث الأول: تعريف الملائكة، ومن أي شيء خلقوا؟. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 المبحث الثاني: ذكر بعض أعمال الملائكة. الفصل الثاني: دلالة السورة على الإيمان بالكتب وفيه مبحثان: المبحث الأول: كيفية الإيمان بالكتب السابقة. المبحث الثاني: كيفية الإيمان بالقرآن. الفصل الثالث: دلالة السورة على الإيمان بالأنبياء والرسل وفيه خمسة مباحث: المبحث الأول: تعريف النبي والرسول والفرق بينهما. المبحث الثاني: كيفية الإيمان بالأنبياء السابقين. المبحث الثالث: كيفية الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم. المبحث الرابع: ما يجب للرسل، وما يجوز عليهم. المبحث الخامس: موضوع الرسالات السماوية. الفصل الرابع: دلالة السورة على الإيمان بالقدر ويشتمل على المباحث الآتية: المبحث الأول: تعريف القضاء والقدر، ومعنى الإيمان به. المبحث الثاني: بيان المبتدعة الذين نازعوا في القدر والرد عليهم. المبحث الثالث: مراتب القدر. المبحث الرابع: ما يتعلق بالهداية والضلال. الباب الثالث دلالة السورة على الإيمان باليوم الآخر وفيه ثلاثة فصول: الفصل الأول: مباحث في اليوم الآخر قبل دخول الجنة، أو النار وهي: المبحث الأول: النفخ في الصور. المبحث الثاني: بعث الموتى من قبورهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 المبحث الثالث: عناية القرآن بإثبات البعث. المبحث الرابع: أرض المعشر. المبحث الخامس: كتاب الأعمال. المبحث السادس: جزاء الأعمال يوم القيامة. الفصل الثاني: النار دار الكافرين ويشتمل على المباحث الآتية: المبحث الأول: كيفية دخول أهل النار النار. المبحث الثاني: أبواب جهنم. المبحث الثالث: خزنة جهنم. المبحث الرابع: إحاطة النار بأهلها وشدة عذابها. المبحث الخامس: صفات أهل النار. المبحث السادس: أبدية النار ودوام عذابها. الفصل الثالث: الجنة دار المتقين ويشتمل على المباحث الآتية: المبحث الأول: كيفية دخول أهل الجنة الجنة. المبحث الثاني: أبواب الجنة. المبحث الثالث: خزنة الجنة. المبحث الرابع: أرض الجنة. المبحث الخامس: صفات أهل الجنة. المبحث السادس: غرف الجنة، وقصورها، وأنهارها. المبحث السابع: أبدية الجنة ودوام نعيمها. المبحث الثامن: وجوب الإيمان بالعرش وهو سقف الجنة. وأما الخاتمة: فقد ضمنتها أهم النتائج التي توصلت إليها في الرسالة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 الباب الأول: دلالة السورة على الإيمان بالله تعالى الفصل الأول: دلالة السورة على توحيد الأسماء والصفات المبحث الأول: تعريف توحيد الأسماء والصفات ... المبحث الأول: تعريف توحيد الأسماء والصفات هو: أن يعتقد العبد اعتقاداً جازماً أن ما أخبر الله في كتابه من أوصافه العليا، وأسمائه الحسنى، وكذا ما جاءت به الأحاديث الصحيحة من أسمائه وصفاته هي على ما يليق بجلاله وعظمته وكبريائه. جاء في لوامع الأنوار: "وتوحيد الصفات أن يوصف الله ـ تعالى ـ بما وصف به نفسه وبما وصفه به نبيه صلى الله عليه وسلم نفياً، وإثباتاً فيثبت له ما أثبته لنفسه وينفي عنه ما نفاه عن نفسه، وقد علم أن طريقة سلف الأمة وأئمتها إثبات ما أثبته من الصفات من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل. وكذلك ينفون عنه ما نفاه عن نفسه ـ ويثبتون له ـ ما أثبته من الصفات من غير إلحاد في الأسماء ولا في الآيات، فإنه تعالى ذم الملحدين في أسمائه وآياته" أ. هـ 1. ولا يعرف الإنسان ربه إلا بمعرفته بصفاته وأسمائه، فإذا ما تم له معرفة ذلك عرف ـ ربه جل وعلا ـ وحينئذ يسأل ربه ويدعوه بأسمائه الحسنى كما أمر الله بذلك في محكم كتابه حيث قال: ـ عز شأنه ـ: {وَللهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} 2. وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} 3 وقال تعالى: {اللهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} 4.   1- لوامع الأنوار البهية 1/129، وانظر تيسير العزيز الحميد ص19. 2- سورة الأعراف، آية: 180. 3- سورة الإسراء، آية: 110. 4- سورة طه، آية: 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 وقد عرف السلف ربهم ومعبودهم عن طريق معرفة أسمائه الحسنى وصفاته العلى التي أثبتها لنفسه في كتابه ـ العزيز ـ وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته الشريفة. قال الصابوني1: مبيناً عقيدة السلف في أسماء الله ـ تعالى ـ وصفاته "أصحاب الحديث حفظ الله أحياءهم ورحم أمواتهم يشهدون لله ـ تعالى ـ بالوحدانية وللرسول صلى الله عليه وسلم بالرسالة والنبوة ويعرفون ربهم ـ عز وجل ـ بصفاته التي نطق بها وحيه وتنزيله، أو شهد له بها رسوله صلى الله عليه وسلم على ما وردت الأخبار الصحاح به، ونقلته العدول الثقات عنه، ويثبتون له ـ جلّ وعلا ـ ما أثبته لنفسه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يعتقدون تشبيهاً لصفاته بصفات خلقه فيقولون: إنه خلق آدم بيده كما نص ـ سبحانه ـ وتعالى عليه في قوله عز من قائل: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} 2 ولا يحرفون الكلام عن مواضعه بحمل اليدين على النعمتين، أو القوتين ولا يكيفونهما بكيف أو تشبيههما بأيدي المخلوقين، وقد أعاذ الله أهل السنة من التحريف والتكييف، ومنَّ عليهم بالتعريف، والتفهيم حتى سلكوا سبل التوحيد والتنزيه وتركوا القول بالتعطيل والتشبيه واتبعوا قول الله ـ عز وجل ـ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 3. وكذلك يقولون في جميع الصفات التي نزل بذكرها القرآن ووردت بها الأخبار الصحاح. من السمع والبصر والعين والوجه والعلم والقوة والقدرة والعزة والعظمة والإرادة والمشيئة، والقول والكلام والرضا والسخط والحياة واليقظة والفرح والضحك وغيرها من غير تشبيه لشيء من ذلك بصفات المربوبين المخلوقين، بل ينتهون فيها إلى ما قاله الله ـ تعالى ـ وقاله رسوله صلى الله عليه وسلم من غير زيادة عليه ولا إضافة إليه ولا تكييف له ولا تشبيه ولا تحريف ولا تبديل" أ. هـ4.   1- هو: إسماعيل بن عبد الرحمن بن أحمد بن إسماعيل، أبو عثمان الصابوني مقدم أهل الحديث في بلاده خراسان، لقبه أهل السنة فيها بشيخ الإسلام فلا يعنون ـ عند إطلاقهم هذه اللفظة ـ غيره. ولد سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة وتوفي سنة تسع وأربعين وأربعمائة هجرية. انظر ترجمته: "معجم الأدباء 7/16، وتهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر 3/30 ـ 36، الأعلام 1/314". 2- سورة ص، آية: 75. 3- سورة الشورى، آية: 11. 4- مجموع الرسائل المنيرية 1/106 ـ 107. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 ومن قبل الصابوني قال الإمام عثمان بن سعيد الدارمي1 مقرراً عقيدة السلف في صفات الله ـ تعالى ـ: "الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى. {عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} 2. يعلم سر خلقه وجهرهم ويعلم ما يكسبون، نحمده بجميع محامده، ونصفه بما وصف به نفسه ووصف به الرسول فهو الله، الرحمن الرحيم قريب مجيب مريد {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} 3 الأول قبل كل شيء والآخر بعد كل شيء له الأمر من قبل ومن بعد و {لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 4 {لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} 5 يسبح له ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم، يقبض ويبسط ويتكلم ويرضى، ويسخط ويغضب، ويحب ويبغض، ويكره ويضحك، ويأمر وينهى. ذو الوجه الكريم، والسمع السميع والبصر البصير، والكلام المبين، واليدين والقبضتين، والقدرة والسلطان والعظمة والعلم الأزلي، لم يزل كذلك ولا يزال، استوى على عرشه فبان من خلقه لا تخفى عليه منهم خافية علمه بهم محيط وبصره بهم نافذ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 6. فبهذا الرب نؤمن وإياه نعبد وله نصلي ونسجد فمن قصد بعبادته إلى إله بخلاف هذه الصفات فإنما يعبد غير الله وليس معبوده بإله كفرانه لا غفرانه" أ. هـ7. هذا هو منهج السلف في تعرفهم على ربهم وهو معرفته لهم عن طريق معرفة أسمائه وصفاته التي أتصف بها كما نطق بها كتابه الكريم ونطقت بها سنة رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم، يدعونه ـ تعالى ـ بها ويتعبدونه بذكرها.   1- هو: أبو سعيد عثمان بن سعيد بن خالد الدارمي الشافعي السجستاني الهروي. ولد سنة مائتين وتوفي سنة ثمانين ومائتين هجرية، وهو أحد الأعلام الثقات من أئمة الحديث والفقه، وكان شديد الرد على المحرفين للعقيدة الإسلامية. انظر ترجمته في: "تذكرة الحفاظ 2/621، الأعلام 4/205". 2- سورة سبأ، آية: 3. 3- سورة البروج، آية: 16. 4- سورة الأعراف، آية: 54. 5- سورة طه، آية: 8. 6- سورة الشورى، آية: 11. 7- الرد على الجهمية ص3 ـ 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 وهناك أمور ينبغي أن تعلم نحو أسمائه ـ تبارك وتعالى ـ: الأمر الأول: أن أسماءه ـ تعالى ـ لا تدخل تحت حصر ولا يحويها عدد1 لحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما أصاب أحد قط هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ناصيتي بيدك ماض فيَّ حكمك عدل فيَّ قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب الله حزنه وأبدله مكانه فرجاً" 2. وأما ما ورد في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن لله تسعاً وتسعين اسماً ـ مائة إلا واحدة ـ من أحصاها دخل الجنة" 3 فليس المراد منه حصر الأسماء وإنما المراد الإخبار بأن من أحصى هذه الأسماء دخل الجنة، وقد اختلف العلماء في معنى الإحصاء، وأقرب الأقوال إلى الصواب أن المراد بالإحصاء حفظها مع اعتقاد ما دلت عليه والعمل بذلك"4. الأمر الثاني: إن من أسماء الله ـ تعالى ـ ما لا يطلق على الرب ـ سبحانه ـ إلا مقترناً بمقابله، إذ لو أطلق عليه وحده أوهم نقصاً ـ تعالى الله عن ذلك ـ فمن تلك الأسماء المانع يذكر مع المعطي، والضار يذكر مع النافع، والقابض يذكر مع الباسط، والمذل يذكر مع المعز، والخافض يذكر مع الرافع، فمثل هذه الأسماء تطلق على الله مع ذكر مقابلها5. الأمر الثالث: هناك بعض الأفعال أطلقها ـ البارئ سبحانه ـ على نفسه وهي تدل على صفات الله تعالى تليق به، ولا يجوز أن يشتق له أسماء من تلك الصفات.   1- بدائع الفوائد 1/166. 2- رواه أحمد من حديث ابن مسعود المسند مع الفتح الرباني 14/262 ـ 263، قال الهيثمي: رواه أبو يعلي ورجال الحديث رجال الصحيح غير أبي سلمة الجهني، وقد وثقه ابن حبان. مجمع الزوائد 10/186. 3- صحيح البخاري مع الفتح 13/377، صحيح مسلم بشرح النووي 17/5. 4- فتح الباري 13/378. 5- بدائع الفوائد لابن القيم 1/167. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 مثل قوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} 1. ومثل قوله تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ الله} 2 ومثل قوله تعالى: {وإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ* اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} 3. ونحو ذلك من الآيات فهذه الصفات تتضمن مدحاً وكمالاً ـ للبارئ سبحانه ـ لكن لا يجوز أن يقال: الله مخادع، ماكر، مستهزئ، ولا يقال: الله يستهزئ، ويخادع ويمكر على سبيل الإطلاق دون ذكر الاستهزاء والمخادعة، والمكر بأعدائه4. الأمر الرابع: أن دلالة أسمائه ـ تعالى ـ حق على حقيقتها مطابقة، وتضمناً والتزماً، فدلالة اسمه "الرحمن" على ذاته ـ عز وجل ـ مطابقة وعلى صفة الرحمة تضمناً، وعلى الحياة وغيرها التزاماً وهكذا سائر أسمائه ـ تعالى ـ فإن الله ـ تبارك وتعالى ـ هو الإله وما سواه عبيد، وهو الرب وما سواه مربوب، وهو الخالق وما سواه مخلوق فلو كانت أسماء الله ـ تعالى ـ غيره، كما زعم ذلك أهل الأهواء لكانت مخلوقة مربوبة محدثة معرضة للفناء، إذ كل ما سواه ـ سبحانه ـ فانٍ. قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: في معرض بطلان قول القائلين بأن صفات الله ـ تعالى ـ غيره لأن مسمى اسم "الله" يدخل فيه صفاته بخلاف مسمى الذات فإنه لا يدخل فيه الصفات. ولهذا لا يقال: "صفات الله زائدة عليه ـ سبحانه وتعالى ـ، وإن قيل: الصفات زائدة على الذات لأن المراد زائدة على ما أثبته المثبتون من الذات المجردة، والله هو الذات الموصوفة بصفاته اللازمة فليس "اسم الله" متناولاً لذات مجردة عن الصفات أصلاً، ولا يمكن وجود ذلك، ولهذا قال أحمد5 رحمه الله في مناظرة الجهمية6 لا   1- سورة النساء، آية: 142. 2- سورة آل عمرا، آية: 54. 3- سورة البقرة، آية: 14 ـ 15. 4- انظر بدائع الفوائد 1/162. 5- هو: الإمام أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني المروزي ثم البغدادي الفقيه، الحافظ. ولد سنة أربع وستين ومائة. وتوفي سنة إحدى وأربعين ومائتين هجرية. انظر ترجمته في: تذكرة الحفاظ 2/431، طبقات الحنابلة 1/4، صفة الصفوة 2/336، تهذيب الكمال 1/437. 6- هي: إحدى الطوائف المنحرفة تتبع الجهم بن صفوان الذي قال: بالإجبار والاضطرار إلى الأعمال، وأنكر الاستطاعات كلها وزعم أن الجنة والنار تبيدان وتفنيان وزعم أيضاً: أن الإيمان هو المعرفة بالله ـ تعالى ـ فقط، وأن الكفر هو الجهل به فقط، وقال: لا فعل ولا عمل لأحد غير الله ـ تعالى ـ وإنما تنسب الأعمال إلى المخلوقين على المجاز، ونفي أسماء الله ـ تعالى ـ وصفاته كلية". انظر: "الفرق بين الفرق" ص211، الملل والنحل 1/86، اعتقادات فرق المسلمين والمشركين للرازي ص68. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 نقول: الله وعلمه، والله وقدرته والله ونوره، ولكن نقول: الله بعلمه وقدرته ونوره هو إله واحد"1.   1- اقتضاء الصراط المستقيم ص421. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 المبحث الثاني: إثبات صفة العلو والفوقية إن أول ما افتتحت به "سورة: الزمر" هو إثبات صفة العلو والفوقية ـ للباري جل وعلا ـ وذلك في خمس آيات منها: قال تعالى {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ. إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهِ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} . وقال تعالى: {اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} . وقال تعالى {إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} . وقال تعالى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} . ففي هذه الآيات الخمس دلالة واضحة على إثبات علو الله ـ تعالى ـ وأنه فوق المخلوقات جميعها، لأن نزول الشيء يكون من أعلى إلى أسفل. فالآية الأولى: من تلك الآيات المتقدمة هي قوله تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} فيها إخبار منه ـ تعالى ـ بأن مبدأ تنزيل القرآن كائن منه ـ جل وعلا ـ ومن عنده ـ تبارك وتعالى ـ. وأما الآية الثانية: فهي قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ... } الآية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 أخبر تعالى بأنه أنزل الكتاب الذي هو القرآن على نبيه صلى الله عليه وسلم من عنده بالحق الذي لا مرية فيه ولا شك. وأما الآية الثالثة فهي قوله تعالى: {اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ... } الآية فقد دلت على علو الله ـ تعالى ـ لأن التنزيل يكون من أعلى إلى أسفل كما تضمنت وصف القرآن المنزل من عنده ـ تعالى ـ بثلاثة صفات هي: كونه متشابهاً أي: يشبه بعضه بعضاً في الكمال والجودة ويصدق بعضه بعضاً في المعنى ويماثله وكونه "مثاني" حيث ثنى الله فيه الأنباء والأخبار والقضاء والأحكام. قال قتادة1 "ثنى الله فيه الفرائض والقضاء والحدود"2. وكونه تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم أي: تقشعر منه جلود الأبرار الذين يخشون ربهم لما يفهمون منه من الوعد والوعيد والتخويف والتهديد. وأما الآية الرابعة فهي قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ ... } الآية. فقد بين تعالى بأنه أنزل كتابه على رسوله من عنده ـ تعالى ـ فالآية دلت على علوه ـ تعالى ـ كما دلت أيضاً: أنه ـ تعالى ـ أنزل هذا الكتاب لجميع الخلق من الجن والإنس لينذرهم به، وأن من اهتدى منهم فإنما يعود نفع ذلك إلى نفسه، ومن ضل فإنما يعود وبال ضلاله عليه، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس بموكل على هدايتهم، وإنما هو نذير عليه البلاغ، وعلى الله الحساب. وأما الآية الخامسة: وهي قوله تعالى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ... } الآية. فقد تضمنت أمراً من الله ـ جل وعلا ـ لجميع عباده بأن يتبعوا ما أمرهم به ـ تعالى ـ في كتابه الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم، وبذلك دليل على علوه ـ سبحانه ـ.   1- هو: قتادة بن دعامة السدوسي من أئمة التفسير، كان من أحفظ أهل البصرة. ولد سنة إحدى وستين، وتوفي سنة ثماني عشرة ومائة هجرية. أنظر ترجمته في: "تذكرة الحفاظ" 1/122 وما بعدها، "اللباب في تهذيب الأنساب" 2/108، التهذيب 8/351. 2- جامع البيان 23/210. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 قال العلامة ابن جرير1: "فإن قال قائل: ومن القرآن شيء أحسن من شيء قيل له: القرآن كله حسن وليس معنى ذلك ما توهمت، وإنما معناه: واتبعوا مما أنزل إليكم ربكم من الأمر والنهي والخبر والمثل والقصص والجدل والوعد والوعيد أحسنه، وأحسنه أن تأتمروا لأمره وتنتهوا عما نهى عنه، لأن النهي مما أنزل في الكتاب، فلو عملوا بما نهوا عنه كانوا عاملين بأقبحه ـ أي العمل ـ فذلك وجهه" أ. هـ2. فهذه الآيات الخمس من الآيات المحكمة التي أثبتت علو ـ الباري سبحانه ـ على جميع خلقه وأنه ـ جل جلاله ـ في السماء أي: "العلو" لا كما يزعمه أهل الباطل من الجهمية المعطلة من أنه ـ تعالى ـ في أسفل الأرضين، بل هو ـ تعالى ـ في السماء كما أخبر بذلك عن نفسه في مواضع كثيرة من كتابه، وأكد ذلك رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته المطهرة. قال ابن خزيمة3 ـ رحمه الله تعالى ـ: "إن الرب ـ جل وعلا ـ في السماء لا كما قالت الجهمية المعطلة أنه في أسفل الأرضيين فهو في السماء" أ. هـ4. وقد وردت آيات كثيرة في الكتاب العزيز كلها تدل دلالة قطعية على إثبات علوه ـ تعالى ـ على خلقه وأنه ليس تحت الأرض ولا في كل مكان كما يزعم ذلك أهل الزيغ والباطل ومن تلك الآيات ما يلي: أحدها: أنه سبحانه وتعالى صرح بفوقيته المقترنة بأداة "من" المعينة للفوقية بالذات. قال تعالى: {وَللهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ. يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} 5.   1- هو: محمد بن جرير بن يزيد الطبري، أبو جعفر، المؤرخ المفسر الإمام، ولد في آمل طبرستان، واستوطن بغداد وتوفي بها. ولد سنة أربع وعشرين ومائتين وتوفي سنة عشر وثلاثمائة. انظر ترجمته في: "تذكرة الحفاظ 2/710، وفيات الأعيان 1/456، البداية والنهاية 11/163 ـ 165، وانظر الأعلام 6/294. 2- جامع البيان 24/17 ـ 18. 3- هو: محمد بن إسحاق بن خزيمة السلمي أبو بكر، إمام نيسابور في زمنه. كان فقيهاً مجتهداً عالماً بالحديث. ولد سنة ثلاث وعشرين ومائتين، وتوفي سنة إحدى عشرة وثلاثمائة هجرية. له مؤلفات كثيرة: لقب بإمام الأئمة. انظر ترجمته في: "تذكرة الحفاظ" 2/720 وما بعدها، طبقات الحفاظ للسيوطي ص313 ـ 314، البداية والنهاية 11/167 4- كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب ص 110. 5- سورة النحل آية: 49 ـ 50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 ففي الآية الثانية إعلام من الله ـ تعالى ـ بأنه فوق ملائكته، وفوق ما في السموات وما في الأرض من دابة، وأخبرنا بأن ملائكته يخافون ربهم الذي فوقهم والمعطلة يزعمون أن المعبود ـ سبحانه ـ تحت الملائكة تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. ثانياً: ذكره تعالى الفوقية مجردة عن الأداة: قال تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} 1 وهذه الآية فيها الإخبار منه ـ تعالى ـ بأنه فوق جميع عباده من الجن والإنس والملائكة الذين هم سكان السموات. ثالثاً: إخباره تعالى بعروج الملائكة والروح إليه. قال تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} 2 فقد أخبرنا ـ تعالى ـ في هذه الآية بأن الملائكة تعرج إليه، والعرج يكون من الأسفل إلى الأعلى. رابعاً: التصريح منه ـ تعالى ـ بالصعود إليه: قال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} 3. والمفهوم من هذه الآية أن الرب ـ جل جلاله ـ فوق من يتكلم بالكلمة الطيبة فتصعد إلى الله كلمته، لا كما تزعمه المعطلة الجهمية أنه تهبط إليه الكلمة الطيبة كما تصعد إليه وتأويلهم هذا يدل على تردي عقولهم وسوء فهمها لكتاب الله ـ تعالى ـ. خامساً: تصريحه تعالى برفع بعض المخلوقات إليه كرفعه لعيسى عليه الصلاة والسلام. قال تعالى: {بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً} 4 فمن المستحيل أن يهبط الإنسان من ظهر الأرض إلى بطنها، أو إلى أي مكان أخفض وأنزل فيقال: رفعه الله إليه، لأن الرفع في لغة العرب الذين بلغتهم خاطبنا الله لا يكون إلا من أسفل إلى أعلى وفوق. سادساً: تصريحه ـ تعالى ـ بعلوه المطلق الدال على جميع مراتب العلو ذاتاً، وقدراً، وقهراً قال تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} 5.   1- سورة الأنعام آية: 18. 2- سورة المعارج آية: 4. 3- سورة فاطر آية: 10. 4- سورة النساء آية: 158. 5- سورة البقرة آية: 255. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 وقوله تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} 1. وقوله ـ عزَّ شأنه ـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} . 2 فالعلي: هو الذي له العلو المطلق من جميع الوجوه. علو الذات: كونه فوق جميع المخلوقات. علو القدر: فله من كل صفات الكمال أعلاها. علو القهر: فهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير3. "وإذا كانت صفة العلو والفوقية صفة كمال لا نقص فيها ولا تستلزم نقصاً ولا توجب محذوراً ولا تخالف كتاباً ولا سنة ولا إجماعاً فنفي حقيقتها يكون عين الباطل، والمحال الذي لا تأتي به شريعة أصلاً فكيف إذا كان لا يمكن الإقرار بوجوده وتصديق رسله والإيمان بكتابه وبما جاء به رسوله إلا بذلك فكيف إذا انضم إلى ذلك شهادة العقول السليمة والفطرة المستقيمة، والنصوص الواردة المتنوعة المحكمة الدالة على علو الله على خلقه وكونه فوق عباده"4. سابعاً: تخصيصه بعض المخلوقات بأنها عنده وأن بعضها أقرب إليه من بعض. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} 5. وقال تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ} 6 ففرَّق ـ سبحانه ـ في هاتين الآيتين بين من له عموماً وبين من عنده من ملائكته وعبيده خصوصاً. ثامناً: تصريحه تعالى بأنه في السماء:   1- سورة سبأ آية: 23. 2- سورة الأعلى آية: 1. 3- مدارج السالكين 1/31. 4- شرح الطحاوية 318 ـ 319. 5- سورة الأعراف آية: 206. 6- سورة الأنبياء آية: 19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 قال تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} 1. فهاتان الآيتان صريحتان في أن الله ـ تعالى ـ في السماء فلا تقبلان جدلاً ولا تأويلاً لأن "من" فيهما لا يمكن أن يراد بهما سوى ـ الرب جل شأنه ـ لا ملكه ولا أمره كما يزعم ذلك المعطلة النفاة. وفي في الآيتين إما أن تكون بمعنى الظرفية، ويكون المراد بالسماء العلو. وإما أن يراد بها معنى "على" ويكون المراد بالسماء المبنية. وليس في هذا خلاف عند أهل الحق من أهل السنة والجماعة، ولا يجوز الحمل على غير ذلك. تاسعاً: تصريحه تعالى بأنه يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه. قال تعالى: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} 2. واللغة العربية التي خاطبنا الله بها وفهمها العرب الفصحاء تبين بأن تدبير أمر السماء إلى الأرض إنما يدبره المدبر وهو في السماء لا في الأرض والمعروف عند العرب أن المعارج هي المصاعد. عاشراً: إخباره ـ تعالى ـ عن فرعون أنه حاول الصعود إلى السماء ليطلع إلى إله موسى فيكذبه فيما أخبره به ممن أنه ـ سبحانه ـ فوق السموات قال تعالى حكاية عن فرعون: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً} 3. فالذي ينفي العلو من الجهمية فهو فرعوني، والذي أثبته فهو موسوي محمدي. قال الإمام عثمان بن سعيد الدارمي: "ففي هذه الآية بيان بين، ودلالة ظاهرة أن موسى كان يدعو فرعون إلى معرفة الله بأنه   1- سورة الملك، آية: 16، 17. 2- سورة السجدة، آية: 5. 3- سورة غافر، آية: 36، 37. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 فوق السماء فمن أجل ذلك أمر ببناء الصرح ورام الإطلاع وكذلك نمروذ فرعون إبراهيم، اتخذ التابوت والنسور ورام الإطلاع إلى الله لما كان يدعو إبراهيم إلى معرفته في السماء"1. الحادي عشر: من الأدلة الدالة على علوه تعالى إخباره ـ تعالى ـ بأنه استوى على عرشه الذي هو أعلى مخلوقاته وقد ذكر هذه الصفة في كتابه في مواضع سبعة من كتابه، ومن العجيب أن الله ـ تعالى ـ ما يذكر هذه الصفة إلا وهي مقرونة بما ببهر العقول من صفات جلاله وكماله فهي صفة من صفات المدح التي مدح الله بها نفسه ـ سبحانه ـ وإليك المواضع التي ذكرت فيها صفة الاستواء الدالة على علوه ـ تعالى ـ. 1ـ قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 2. فهل لأحد أن يتجرأ وينفي هذه الصفة التي دلت على الجلال والكمال اللهم إلا من كان من أهل الزيغ والضلال. 2ـ قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} 3. 3ـ قال تعالى: {الله الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأجَلٍ مُسَمّىً} 4. 4ـ قال تعالى: {طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى * تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 5. 5 ـ قال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ   1- الرد على الجهمية ص21. 2- سورة الأعراف، آية: 54. 3- سورة يونس، آية: 3. 4- سورة الرعد، آية: 2. 5- سورة طه آية: 1 ـ 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 عِبَادِهِ خَبِيراً * الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} 1. 6 ـ وقال تعالى: {اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} 2. 7 ـ وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} 3. فهذه سبعة مواضع في كتاب الله ـ تعالى ـ أثبت الله ـ تعالى ـ لنفسه فيها صفة الاستواء، وهي تدل دلالة واضحة وصريحة على علوه تعالى فوق جميع مخلوقاته، كما تدل على أنه ـ تعالى ـ مستو على عرشه استواءً يليق بجلاله من غير تكييف، ولا تمثيل، ولا تحريف ولا تعطيل. قال العلامة ابن القيم4 رحمه الله تعالى: " واستواءه وعلوه على عرشه سلام من أن يكون محتاجاً إلى ما يحمله، أو يستوي عليه، بل العرش محتاج إليه، وحملته محتاجون إليه فهو الغنى عن العرش وعن حملته وعن كل ما سواه، فهو استواء وعلو لا يشوبه حصر ولا حاجة إلى عرش ولا غيره ولا إحاطة شيء به ـ سبحانه ـ وتعالى، بل كان ـ سبحانه ـ ولا عرش، ولم يكن به حاجة إليه وهو الغني الحميد بل استواؤه على عرشه واستيلاؤه على خلقه من موجبات ملكه وقهره من غير حاجة إلى عرش ولا غيره بوجه ما"5. أ. هـ   1- سورة الفرقان، آية: 58، 59. 2- سورة السجدة، آية: 4. 3- سورة الحديد، آية: 4. 4- هو: محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد الزرعي الدمشقي أبو عبد الله شمس الدين من أركان الإصلاح الإسلامي وأحد كبار علماء الدين، ولد سنة إحدى وتسعين وستمائة وتوفي سنة إحدى وخمسين وسبعمائة هجرية. له مؤلفات عديدة في مختلف العلوم والفنون. انظر ترجمته: في الدرر الكامنة 3/400، البداية والنهاية 14/202 ـ 204 ط. المتوسط ـ بيروت ـ لبنان، بدون تاريخ. 5- بدائع الفوائد 2/136. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 وقال عثمان بن سعيد الدارمي بعد أن ساق كثيراً من الآيات الدالة على علو الله ـ تعالى ـ راداً على الجهمية ومبيناً بطلان مذهبهم في إنكار صفة العلو: " أقرت هذه العصابة ـ يعني الجهمية ـ بهذه الآيات بألسنتها وادعوا الإيمان بها، ثم نقضوا دعواهم بدعوى غيرها، فقالوا: الله في كل مكان لا يخلو منه مكان قلنا قد نقضتم دعواكم بالإيمان باستواء الرب على عرشه إذا ادعيتم أنه في كل مكان فقالوا: تفسيره عندنا: أنه استولى عليه وعلاه. قلنا فهل من مكان لم يستول عليه ولم يعله حتى خص العرش من بين الأمكنة بالاستواء عليه؟. وكرر ذكره في مواضع كثيرة من كتابه فأي معنى إذاً لخصوص العرش إذا كان عندكم مستوياً على جميع الأشياء وكاستوائه على العرش ـ تبارك وتعالى ـ هذا محال وباطل في الكلام"1. أ. هـ. فلو كان ـ الباري سبحانه وتعالى ـ في كل مكان على حسب زعم الجهمية لجعل كل شيء دكاً فإنه حين سأله كليمه موسى عليه السلام أن يريه ينظر إليه قال له: {قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} 2. قال ابن خزيمة في معنى هذه الآية "أفليس العلم محيطاً يا ذوي الألباب أن الله ـ عز وجل ـ لو كان في كل موضع ومع كل بشر وخلق كما زعمت ـ الجهمية ـ المعطلة لكان متجلياً لجميع أرضه سهلها ووعرها وجبالها وبراريها ومفاوزها ومدنها وقراها وعمارتها وخرابها وجميع ما فيها من نبات وبناء لجعلها دكاً كما جعل الله الجبل الذي تجلى له دكاً" أ. هـ3. وبالجملة فظاهر القرآن يدل على إثبات علو الله ـ تبارك وتعالى ـ وأنه على عرشه الذي هو أعلى المخلوقات وهو ـ سبحانه ـ بائن من خلقه ويغنينا في ذلك التنزيل ولا حاجة لنا إلى تأويل المكذبين به في أنفسهم ويتسترون عن ذلك باسم التأويل وليس هو تأويلاً، وإنما هو تحريف وتعطيل وتبديل.   1- الرد على الجهمية ص18. 2- سورة الأعراف، آية: 143. 3- كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب ص112. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 والقاري للكتب التي ألفت في أسباب نزول آيات القرآن يجد أن الصحابة الذين فسروا كتاب الله ـ تعالى ـ وبينوا أحكامه، وفرائضه وحدوده، يقولون: نزلت آية كذا في كذا، ونزلت سورة كذا في مكان كذا ولم ينقل عن أحد منهم أنه قال: طلعت من تحت الأرض، ولا جاءت من أمام، ولا من خلف بل كل الآيات والسور يذكرون أنها نزلت من فوق لا من تحت الأرض، ولا خرجت منها. وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة أن الله ـ تعالى ـ متصف بصفة العلو والفوقية ومن تلك الأحاديث ما يلي: 1 ـ حديث معاوية بن الحكم السلمي قال: "كانت لي غنم بين أحد والجوانية1 فيها جارية لي، فأطلعتها ذات يوم فإذا الذئب قد ذهب منها بشاة ـ وأنا رجل من بني آدم ـ فصككتها، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فعظَّم ذلك عليّ فقلت يا رسول الله أفلا أعتقها؟ قال: ادعها: فدعوتها فقال لها أين الله؟ قالت في السماء. قال: من أنا؟ قالت: رسول الله. قال: اعتقها فإنها مؤمنة"2. فهذا الحديث من أنصع الأدلة وضوحاً على إبطال مذهب الجهمية وهو صفعة قوية لأهل التعطيل على رؤوسهم حيث شهد الرسول صلى الله عليه وسلم للجارية بالإيمان حين وجّه لها سؤالين اختبر بهما إيمانها، ولما نجحت في الإجابة عليهما، وبالأخص السؤال الأول حيث أجابت بأن الله ـ تعالى ـ في السماء فرضي عليه الصلاة والسلام إجابتها وأقرها عليها وشهد لها بالإيمان، وفي الحقيقة أن إجابة تلك الجارية لا يستطيع أن يجيب بها جهمي، ومن يدور في ركابه لما حل في قلبه من الإعتقاد الفاسد لأنه يعتقد أن الله ـ جل وعلا ـ في كل مكان ولو سألت معطلاً وقلت له أين الله؟ لقال: لا يسأل عن الله بأين. قال عثمان بن سعيد الدارمي بعد سياقه لحديث معاوية بن الحكم السلمي:"ففي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا دليل على أن الرجل إذا لم يعلم أن الله في السماء دون الأرض فليس بمؤمن ولو كان عبداً فأعتق لم يجز في رقبة مؤمنة إذ لا يعلم أن الله في السماء"3. أ. هـ. لو كان الله في الأرض كما يدعيه ضلال الجهمية لأنكر عليها الرسول صلى الله عليه وسلم وعلّمها،   1- الجوانية: موضع شمالي المدينة بقرب أحد. "شرح النووي على مسلم 5/23". 2- صحيح مسلم 1/382، وانظر: الرد على الجهمية للدارمي ص22، كتاب التوحيد لابن خزيمة ص121. 3- الرد على الجهمية ص22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 ولكنها علمت به فصدقها وشهد لها بالإيمان، ولو كان الله في الأرض لم يتم لها إيمان حتى تعرفه في الأرض كما عرفته في السماء. 2ـ ما رواه البخاري في صحيحه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "جاء زيد بن حارثة يشكو فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "اتق الله وأمسك عليك زوجك" قال أنس: لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً لكتم هذه قال: فكانت زينب تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: زوجكن أهاليكن وزوجني الله تعالى من فوق سبع سموات"1. وهذا دليل واضح وصريح في أن الله ـ تعالى ـ عالٍ فوق سمواته وعلى جميع مخلوقاته وعلى هذا تلقت أم المؤمنين زينب رضي الله عنها عقيدتها من النبي صلى الله عليه وسلم. 3ـ ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قسمة الذهب الذي بعث به علي ابن أبي طالب من اليمن قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء يأتيني الوحي صباحاً ومساءاً" 2. فقد بين صلى الله عليه وسلم بأنه أمين من في السماء والذي في السماء والمشار إليه إنما هو الله ـ تعالى ـ لو كان الجهمية يعلمون، ولربهم ينزهون، ولقد تتلمذ الصحابة ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ على رسول الله صلى الله عليه وسلم في دينهم وعقيدتهم، ونطقوا بما نطق به الكتاب والسنة من أن الله تعالى في السماء وأقوالهم في أن الله ـ تعالى ـ في السماء كثيرة جداً3، واعتقادهم في أنه ـ تعالى ـ في السماء إنما تلقوا ذلك عن الرسول صلى الله عليه وسلم وبلغوه إلى من وراءهم من التابعين لهم بإحسان فقد كان القول بأن الله ـ تعالى ـ في السماء متداولاً بينهم موقنين به. قال الحافظ 4 وأخرج البيهقي بسند جيد عن الأوزاعي5 قال: كنا والتابعون   1- 4/281. 2- 1/161 ـ 162. 3- انظر أقوال الصحابة في كتاب" العلو للذهبي" ص62 وما بعدها. 4- هو: أحمد بن علي بن محمد الكناني العسقلاني، أبو الفضل شهاب الدين ابن حجر، من أئمة العلم والتاريخ أصله من عسقلان. له مؤلفات عديدة في مختلف الفنون والعلوم. ولد سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة، وتوفي سنة اثنتين وخمسين وثمانمائة هجرية. انظر ترجمته في: "البدر الطالع للشوكاني 1/87، الأعلام 1/173". 5- هو: عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد الأوزاعي، أبو عمرو عالم أهل الشام في زمانه. ولد سنة ثمان وثمانين، وتوفي سنة سبع وخمسين ومائة هجرية. انظر ترجمته في: "وفيات الأعيان 1/275، حلية الأولياء 6/135 ـ 149، الأعلام 4/94". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 متوافرون نقول: إن الله ـ عز وجل ـ فوق عرشه ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته"1. فالصحابة والتابعون أجمعوا على أن الله ـ تعالى ـ عالٍ على عرشه فوق سمواته وعلمه في كل مكان لا يخلو منه شيء. قال شيخ الإسلام ابن تيمية2 ـ رحمه الله تعالى ـ: قال أبو عمر بن عبد البر ـ رحمه الله تعالى ـ في التمهيد: "وعلماء الصحابة والتابعين الذين حمل عنهم التأويل قالوا: في تأويل قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ} 3 هو على العرش وعلمه في كل مكان وما خالفهم في ذلك من يحتج به"4 أ. هـ. فابن عبد البر ينقل إجماع الصحابة والتابعين على أنه ـ سبحانه وتعالى ـ عالٍ على جميع خلقه ولم يحدث القول بأن الله في كل مكان إلا الجهمية وقولهم لا قيمة له لأنه لا عبرة بخلافهم ولا يحتج بقولهم لأنهم ضلال مارقون. ولذلك كفرهم الأئمة الأربعة وضللوهم، وبدعوهم، وحكموا عليهم بالكفر إن لم يرجعوا عن دعواهم بأن الله ـ تعالى ـ ليس في السماء. فقد جاء عن أبي مطيع الحكم بن عبد الله البلخي قال: سألت أبا حنيفة5 عمن   1- الفتح 13/406، الأسماء والصفات للبيهقي ص408، الذهبي في العلو ص102، الحموية ص23. 2- هو: أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم الخضر النمريري الحراني الدمشقي الحنبلي أبو العباس تقي الدين ابن تيمية الإمام، شيخ الإسلام كان آية في التفسير والأصول، فصيح اللسان برز في جميع الفنون جاهد المنحرفين عن الدين بقلمه، ولسانه، وسيفه. ولد سنة إحدى وستين وستمائة، وتوفي سنة ثمان وعشرين وسبعمائة هجرية. انظر ترجمته في: "الدرر الكامنة 1/144، البداية والنهاية 14/125، النجوم الزاهرة 9/271، فوات الوفيات 1/74- 80، الأعلام 1/140". 3- سورة المجادلة، آية: 7. 4- العقيدة الحموية الكبرى ص51. 5- هو: النعمان بن ثابت التيمي بالولاء الكوفي، أبو حنيفة إمام الحنفية، الفقيه، المجتهد، المحقق أحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة. ولد سنة ثمانين وتوفي سنة خمسين ومائة هجرية. انظر ترجمته في: "تاريخ بغداد 13/323 ـ 454، وفيات الأعيان 2/163، النجوم الزاهرة 2/12، البداية 10/107. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 يقول: لا أعرف ربي في السماء أو في الأرض فقال: قد كفر لأن الله ـ تعالى ـ يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 1 وعرشه فوق سمواته فقلت: إنه يقول: أقول على العرش استوى ولكن لا يدري العرش في السماء أو في الأرض قال: إذا أنكر أنه في السماء فقد كفر 2. وقال الإمام مالك بن أنس "الله في السماء وعلمه في كل مكان" 3 وروى اللالكائي4 في كتاب "السنة" عن جعفر بن عبد الله: جاء رجل إلى مالك بن أنس 5 فقال: يا أبا عبد الله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 6. كيف استوى؟ قال: فما رأيت مالكاً وجد من شيء كموْجدته من مقالته وعلاه الرّحضاء7 قال: وأطرق القوم وجعلوا ينظرون ما يأتي منه فيه قال: فسري عن مالك فقال: الكيف غير معقول، والاستواء غير مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة، فإني أخاف أن تكون ضالاً وأمر به فأخرج"8. وأما الإمام الشافعي9 فقد أثر عنه أنه قال: "السنة التي أن عليها ورأيت عليها   1- سورة طه، آية: 5. 2- ذكره عنه الذهبي في " العلو للعلي الغفار" ص101. 3- المصدر السابق: ص103. 4- هو هبة الله بن الحسن بن منصور الطبري الرازي أبو القاسم اللالكائي. حافظ، للحديث، من فقهاء الشافعية من أهل طبرستان. توفي سنة ثماني عشرة وأربعمائة هجرية. انظر ترجمته في "الكامل لابن الأثير 9/364، شذرات الذهب 3/211، تذكرة الحفاظ 3/1083، وما بعدها، الأعلام 9/57. 5- هو مالك بن أنس بن مالك الأصبحي الحميري أبو عبد الله إمام دار الهجرة وأحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة وإليه تنسب المالكية. كان صلباً في دينه، بعيداً عن الأمراء والملوك. ولد سنة ثلاث تسعين، وتوفي سنة تسع وسبعين ومائة هجرية. انظر ترجمته في: "الديباج المذهب ص17 ـ 30، وفيات الأعيان 1/439، تهذيب التهذيب 10/5، صفوة الصفوة 2/99". 6- سورة طه، آية: 5. 7- الرحضاء العرق. 8- 3/398 ، وانظر "كتاب العلو" للذهبي ص103، فتح الباري 13/407". 9- هو: محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع الهاشمي القرشي المطلبي أبو عبد الله أحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة وإليه تنسب الشافعية. ولد سنة خمسين ومائة، وتوفي سنة أربع ومائتين هجرية. انظر ترجمته في: "تذكرة الحفاظ 1/361، تهذيب التهذيب 9/25، وفيات الأعيان 1/447، صفوة الصفوة 2/140، تاريخ بغداد 2/56. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 الذين رأيتهم مثل سفيان ومالك وغيرهما إقرار بشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن الله على عرشه في سمائه يقرب من خلقه كيف شاء، وينزل إلى السماء الدنيا كيف شاء"1. وأما الإمام أحمد بن حنبل فقد قال عنه يوسف بن موسى القطان شيخ أبي بكر الخلال قال: قيل لأبي عبد الله فوق السماء السابعة على عرشه بائن من خلقه، وقدرته وعلمه بكل مكان؟ قال: "نعم هو على عرشه لا يخلو شيء من علمه"2، وكلام الأئمة وغيرهم في إثبات صفة العلو للباري ـ جل وعلا ـ كثير، وكلهم مجمعون على القول بعلو الله وفوقيته على جميع خلقه اتباعاً لكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع الصحابة والتابعين. وكما تقرر إثبات علو الله تعالى وفوقيته على خلقه بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، كذلك دلت الفطرة والعقل على علوه ـ تعالى ـ وفوقيته. "أما الفطرة فإنه قد تقرر في فطر بني آدم علمائهم وجهالهم، أحرارهم ومماليكهم ذكورهم وإناثهم، بالغيهم وأطفالهم، وحتى الكفار منهم يعلمون يقيناً بأنه ـ تعالى ـ عالٍ على جميع المخلوقات إذ كل من دعى الله منهم فإنما يرفع رأسه إلى السماء ويمد يديه إلى العلي الأعلى لا إلى أسفل"3. وكم من إنسان إذا أراد جلب ما ينفعه، أو كشف ما يضره شخص ببصره إلى السماء إضافة إلى رفع يديه إلى جهة العلو إلى من يعلم السر وأخفى فيتوجه إليه بقلبه لعلمه أن المعبود ـ سبحانه ـ فوقه، وأنه إنما يدعى من أعلى لا من أسفل، وليس الإنسان وحده فحسب هو الذي عرف أن الله يدعى من أعلى لا من أسفل بل الحيوانات قد عرفت أن الله ـ تعالى ـ في السماء أي ـ جهة العلو ـ ولذلك فإنها ترفع رأسها عند الجدب والقحط تستمطر ربها وفي هذا إبطال لقول الجهمية أن الله في كل مكان فقد أخرج الحاكم بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "خرج نبي من الأنبياء يستسقي فإذا هو   1- العلو للذهبي ص120، عون المعبود 13/41، الفتوى الحموية الكبرى ص24. 2- ذكره الذهبي في "كتابه العلو" ص130. 3- انظر كتاب التوحيد لابن خزيمة ص110، الفتوى الحموية الكبرى ص29، شرح الطحاوية ص325. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 بنملة رافعة بعض قوائمها إلى السماء فقال ارجعوا فقد استجيب لكم من أجل شأن النملة" ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه1 وأقره الذهبي2 وفي "كتاب الزهد" للإمام أحمد "خرج سليمان بن داود عليهما السلام يستسقي فإذا هو بنملة مستلقية على ظهرها رافعة قوائمها إلى السماء تقول: اللهم إنا خلق من خلقك ليس بنا غنى عن سقياك فقال: ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم"3. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "وأحرى بهذه النملة وأخواتها من النمل أن يكونوا أعرف بالله من الجهمية"4 وفي هذا بيان واضح أن الحيوانات تعرف أن الله ـ عز وجل ـ إنما يدعى من أعلى كما يعرف ذلك المؤمنون، وهذا ما فطر الله عليه خلقه أجمعين وهذه ضرورة يحس بها الإنسان والحيوان. ذكر محمد بن طاهر المقدسي أن الشيخ أبا جعفر الهمذاني حضر مجلس الأستاذ أبي المعالي الجويني المعروف بإمام الحرمين وهو يتكلم في نفي صفة العلو ويقول: كان الله ولا عرش، وهو الآن على ما كان!! فقال الشيخ أبو جعفر: "أخبرنا يا أستاذ عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا؟ فإنه ما قال عارف قط: يا الله إلا وجد في قلبه ضرورة طلب العلو لا يلتفت يمنة، ولا يسرة فكيف ندفع بهذه الضرورة عن أنفسنا قال: فلطم أبو المعالي على رأسه ونزل! وأظنه قال: وبكى وقال: حيَّرني الهمذاني حيرني! أراد الشيخ أن هذا أمر فطر الله عليه عباده من غير أن يتلقوه من المرسلين يجدون في قلوبهم طلباً ضرورياً يتوجه إلى الله ويطلبه في العلو"5.   1- المستدرك 1/325 ـ 326. 2- هو: محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز الذهبي، شمس الدين أبو عبد الله. حافظ، مؤرخ، علامة، محقق. ولد سنة ثلاث وسبعين وستمائة، وتوفي سنة ثمان وأربعين وسبعمائة. انظر ترجمته في "شذرات الذهب 6/153، الدرر الكامنة 3/336، النجوم الزاهرة 10/182". 3- كتاب الزهد ص87 إلا أن في إسناد أحمد زيد العمي وهو ضعيف. انظر "ميزان الإعتدال 2/102، وانظر التقريب 1/274". 4- اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية ص133. 5- منهاج السنة النبوية 1/263، شرح الطحاوية ص325ـ 336. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 وقال أبو الحسن الأشعري1: بعد أن ساق كلاماً كثيراً يريد منه إثبات أن الله ـ تعالى ـ مستو على عرشه فوق سمواته قال ـ رحمه الله ـ: "ورأينا المسلمين جميعاً يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السماء لأن الله ـ عز وجل ـ مستو على العرش الذي هو فوق السموات فلولا أن الله ـ عز وجل ـ على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش كما لا يحطونها إذا دعوا إلى الأرض"2. وأما دلالة العقل على ذلك فنقول: إن العقل قد دل على أن الله عال على جميع خلقه من وجو: أحدها: العلم البديهي القاطع بأن كل موجودين، إما أن يكون أحدهما سارياً في الآخر قائماً به كالصفات، وإما أن يكون قائماً بنفسه بائناً من الآخر. الثاني: أنه ـ تعالى ـ لما خلق العالم فإما أن يكون خلقه في ذاته أو خارجاً عن ذاته والأول باطل. أما أولاً: فبالاتفاق، وأما ثانياً: فلأنه يلزم أن يكون محلاً للخسائس، والقاذورات ـ تعالى الله ـ عن ذلك علواً كبيراً. والثاني: يقتضي كون العالم واقعاً خارج ذاته، فيكون منفصلاً فتعينت المباينة لأن القول بأنه غير متصل بالعالم، وغير منفصل عنه غير معقول. الثالث: أن كونه ـ تعالى ـ لا داخل العالم ولا خارجه يقتضي نفي وجوده بالكلية لأنه غير معقول فيكون موجوداً، إما داخله وإما خارجه، والأول باطل، فتعيّن الثاني فلزمت المباينة3. وللجهمية في إنكارهم صفات الله ـ عز وجل ـ وقولهم أن الله ـ عز وجل ـ في كل   1- هو: أبو الحسن الأشعري علي بن إسماعيل بن إسحاق من نسل الصحابي أبي موسى الأشعري. كان من الأئمة المجتهدين. ولد في البصرة سنة ستين ومائتين، وتوفي سنة أربع وعشرين وثلاثمائة هجرية. انظر ترجمته في: "طبقات الشافعية 3/347، البداية والنهاية 11/210، اللباب 1/64، شجرة النور الزكية في طبقات المالكية ص79". 2- الإبانة في أصول الديانة ص30ـ31. 3- شرح الطحاوية ص325. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 مكان شبه أجاب عنها أهل السنة ووضحوا بطلانها من ذلك استدلالهم بقوله تعالى: {وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} 1. على أنه ـ تعالى ـ في كل مكان ولا يخلو منه مكان فهو استدلال باطل وتفسير لكتاب الله ـ تعالى ـ بغير المراد منه فالآية: معناها إله من في السموات، وإله من في الأرض وهو على عرشه، وعلمه محيط بالعرش وما دون العرش، ولا يخلو مكان من علم الله ـ سبحانه وتعالى ـ ولا يمكن أن يكون علمه في مكان دون مكان بل إنه ـ تعالى ـ قد أحاط بكل شيء علماً فهذا هو المعنى الصحيح للآية. قال الإمام أحمد ـ رحمه الله تعالى ـ مبيناً بطلان استدلالهم بالآية السابقة على أن الله في كل مكان. فقلنا لما أنكرتم أن يكون الله على العرش وقد قال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 2؟ فقالوا: هو تحت الأرض السابعة كما هو على العرش فهو على العرش، وفي السموات، وفي الأرض، وفي كل مكان، ولا يخلو منه مكان، وتلوا آية من القرآن {وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} فقلنا: قد عرف المسلمون أماكن كثيرة ليس فيها من عظمة ـ الرب ـ شيء فقالوا: أي مكان؟ فقلنا: أجسامكم وأجوافكم، وأجواف الخنازير والحشوش والأماكن القذرة ليس فيها من عظمة ـ الرب ـ شيء وقد أخبرنا أنه في السماء ... إلى أن قال ـ رحمه الله تعالى ـ: أليس تعلمون أن إبليس مكانه والشياطين مكانهم فلم يكن الله ليجتمع هو وإبليس في مكان واحد، وإنما معنى قول الله ـ جل ثناؤه ـ {وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} 3 يقول: هو إله من في السموات وإله من في الأرض وهو على العرش، وقد أحاط علمه بما دون العرش، ولا يخلو من علم الله مكان، ولا يكون علم الله في مكان دون مكان فذلك قوله {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} 4.   1- سورة الأنعام، آية: 3. 2- سورة طه، آية: 5. 3- سورة الأنعام، آية: 3. 4- الرد على الجهمية والزنادقة ص135ـ 136 وآية رقم 12 من سورة الطلاق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 وقال ابن كثير1: حول الآية: {وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} اختلف مفسرو هذه الآية على أقوال بعد اتفاقهم على إنكار قول الجهمية.. القائلين ـ تعالى ـ عن قولهم علواً كبيراً بأنه في كل مكان حيث حملوا الآية على ذلك فالأصح من الأقوال أنه المدعو الله في السموات وفي الأرض أي يعبده ويوحده ويقر له بالإلهية من في السموات ومن في الأرض ويسمونه الله، ويدعونه رغباً ورهباً إلا من كفر من الجن والإنس، وهذه الآية على هذا القول كقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} 2. ومن الآيات التي احتج بها الجهمية على أن الله في كل مكان قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 3. ويقال لهم: إن معنى الآية ليس كما فهمتم منها بل معناها المراد منها أنه ـ تعالى ـ حاضر كل نجوى، ومع كل أحد من فوق عرشه بعلمه لأن علمه ـ سبحانه ـ محيط بجميع خلقه، وبصره نافذ فيهم لا يحجب علمه وبصره شيء ولا يستطيعون التواري منه بشيء وهو عالٍ على عرشه بائن من خلقه {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} 4 لأنه ـ سبحانه ـ لا يبعد عليه شيء ولا تخفى عليه خافية في السموات ولا في الأرض فهو ـ سبحانه ـ رابعهم وخامسهم وسادسهم بعلمه المحيط بكل شيء كما بينت الآية ذلك بفاتحتها وخاتمتها"5. قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: "إذا أردت أن تعلم أن الجهمي كاذب على الله حين زعم أن الله في كل مكان، ولا يكون في مكان دون مكان فقل: أليس الله كان ولا شيء؟ فيقول: نعم فقل له: حين خلق الشيء خلقه في نفسه أو خارجاً من نفسه فإنه يصير إلى ثلاثة أقوال لا بد له من واحد منها":   1- هو: إسماعيل بن عمر بن كثير بن ضوّ بن درع القرشي البصري ثم الدمشقي أبو الفداء عماد الدين. حافظ، مؤرخ. فقيه. ولد سنة واحد وسبعمائة وتوفي سنة أربع وسبعين وسبعمائة هجرية. انظر ترجمته في: "طبقات المفسرين 1/111ـ113، الدرر الكامنة1/373، شذرات الذهب 6/231، البدر الطالع 1/153. 2- تفسير القرآن العظيم 3/7 وآية: 84 من سورة الزخرف، وانظر أضواء البيان 2/162. 3- سورة المجادلة، آية: 7. 4- سورة طه، آية: 7. 5- الرد على الجهمية للدارمي ص19 مع التصرف في بعض ألفاظه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 1ـ إن زعم أن الله خلق الخلق في نفسه كفر حين زعم أن الجن والإنس والشياطين في نفسه. 2ـ وإن قال: خلقهم خارجاً من نفسه ثم دخل فيهم كان هذا كفراً أيضاً حين زعم أنه دخل في مكان وحش وقذر رديء. 3ـ وإن قال: خلقهم خارجاً من نفسه، ثم لم يدخل فيهم رجع عن قوله أجمع وهو قول أهل السنة. أ. هـ1. كذلك استدلوا على أنه ـ تعالى ـ في كل مكان: بما رواه الترمذي2 في سننه من حديث الحسن3 عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "بينما نبي الله جالس في أصحابه إذ أتى عليهم سحاب فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: هل تدرون ما هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم قال هذا العنان4 هذه روايا الأرض يسوقها الله إلى قوم لا يشكرونه ولا يدعونه" والحديث طويل وفيه: لو أنكم دلّيتم بحبل إلى الأرض السفلى لهبطتم على الله ثم قرأ {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 5. قال الترمذي: هذا حديث غريب من هذا الوجه، ويروى عن أيوب ويونس بن عبيد وعلي بن زيد قالوا: لم يسمع الحسن من أبي هريرة6. هذا الحديث أفاض البحث حوله العلامة ابن القيم وبين أن العلماء انقسموا فيه إلى طائفتين.   1- الرد على الجهمية والزنادقة ص139. 2- هو: محمد بن عيسى بن سورة السلمي البوغي الترمذي أبو عيسى من أئمة علماء الحديث وحفاظه من أهل ترمذكان يضرب به المثل في حفظ الحديث. ولد سنة تسع ومائتين وتوفي سنة تسع وسبعين ومائتين هجرية. انظر ترجمته في: "التهذيب" 9/387، والتذكرة 2/633ـ635، وفيات الأعيان 1/484، الأعلام 7/213. 3- هو: الحسن بن يسار البصري أبو سعيد تابعي، كان إمام أهل البصرة وحبر الأمة في زمنه وهو أحد العلماء الفقهاء الفصحاء الشجعان النساك. ولد سنة إحدى وعشرين، وتوفي سنة عشر ومائة هجرية. انظر ترجمته في: "تهذيب التهذيب" 2/263، حلية الأولياء 2/131ـ161، الأعلام 2/242. 4- العنان: السحاب. النهاية 3/313. 5- سورة الحديد، آية: 3. 6- سنن الترمذي 5/77ـ78. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 طائفة: قبلت الحديث على اعتبار أن سنده ثابت إلى الحسن. وطائفة ثانية: رفضت الحديث بالكلية على اعتبار أن الحديث منقطع وأن الحسن لم ير أبا هريرة فضلاً عن أن يسمع منه، واكتشفوا فيه علة أخرى وهو أن عبد الرزاق بن همام الصنعاني رواه عن معمر عن قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم فكان الحديث على هذا مرسلاً، والذين قبلوا الحديث اختلفوا في معناه على قولين: قيل: إن المعنى يهبط على علم الله وقدرته وسلطانه إلى ما تحت التحت فلا يعزب عنه شيء وهذا القول حكاه الترمذي عن بعض أهل العلم1. وقالت طائفة أخرى: بل هذا المعنى اسمه ـ تعالى ـ المحيط، واسمه الباطن فإنه ـ سبحانه ـ محيط بالعالم كله، وأن العالم العلوي والسفلي في قبضته كما قال تعالى: {وَاللهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} 2، وإحاطته ـ تعالى ـ تقتضي علوه وفوقيته على جميع خلقه بالذات فلو دلي بحبل لسقط في قبضته وهو فوق عرشه والحديث لم ينص على أنه يهبط على جميع ذاته فهذا لم يقله أحد البتة. والتأويل الأول: الذي ذكره الترمذي بيّن ابن القيم أنه من تصرفات الجهمية. قال ـ رحمه الله ـ: قال شيخنا3: "هو ظاهر الفساد من جنس تأويلات الجهمية، بل بتقدير ثبوته، فإنما يدل على الإحاطة، والإحاطة ثابتة عقلاً ونقلاً وفطرة"4. فالجهمية لا دليل لهم على دعواهم التي مضمونها التنقيص لله ـ جل وعلا ـ لا من الكتاب ولا من السنة. وإن استدلوا بآيات من القرآن فإنهم يفسرونها بغير المراد منها، وإن أتوا بأحاديث تكون غير صحيحة، وأحياناً تكون لا وجود لها في كتب الحديث المعتمدة بالكلية، وحاصل ما تقدم أن علو الله ـ تعالى ـ على خلقه ثابت بنص الكتاب العزيز والسنة المطهرة، بل نطقت بذلك جميع الكتب السماوية المنزلة على رسله، وجميع أهل   1- المصدر السابق. 2- سورة البروج، آية: 20. 3- هو: شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى. 4- مختصر الصواعق المرسلة 2/272 ـ 275. وانظر: "مجموعة الرسائل والمسائل" 4/142. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 السموات ومؤمنو أهل الأرض من الجن والإنس، أتباع الرسل، وشهدت بذلك الفطر السليمة والقلوب المستقيمة التي لم تجتلها الشياطين عن دينها، كما فعلت بطائفة الجهمية الذين اتبعوا غير سبيل المؤمنين فأطاعوا الشيطان وابتعدوا عما يريده الرحمن، فجميع الخلق إلا من خذله الله يشهدون بأن خالقهم وفاطرهم، ومعبودهم الذي يألهونه، ويفزعون إليه ويدعونه رغباً ورهباً هو فوق كل شيء عالٍ على جميع خلقه، مستوٍ على عرشه، بائن من خلقه، وهو يعلم أحوالهم، ويسمع أقوالهم، ويرى حركاتهم وسكناتهم وجميع تقلباتهم، وما هم عليه لا يخفى منه خافية، ومن لم يعتقد ذلك فهو ضال عن سواء السبيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 المبحث الثالث: القرآن كلام الله منزل غير مخلوق لقد دلت السورة على أن القرآن منزل من الله غير مخلوق، وأنه صفة من صفاته تعالى، وصفاته ـ تعالى ـ كما هو معلوم ليست مخلوقة في عدة آيات: قال تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ. إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ الله مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} . وقال تعالى: {اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} . وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} . وقال تعالى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} . وقال تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} . هذه سبع آيات من السورة، الخمس الآيات الأولى منها دلت على أن القرآن منزل من الله ـ تعالى ـ غير مخلوق كما تضمنت الرد على القائلين بخلق القرآن، وهم المعتزلة وترد قول القائلين أن المراد من النزول نزول الملك الذي بلّغه إلى الرسول، وليس المراد به القرآن الذي هو صفة من صفات الله ـ تعالى ـ كما قال ذلك الرازي1.   1- التفسير الكبير 26/238. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 ووجه الرد عليهم بالآيات الخمس الأولى: أنها صرحت بتنزيل وإنزال الكتاب الذي هو القرآن بواسطة الرسول الملكي فهو منزل من الله وهو كلامه حقيقة. وأما الآية السادسة: وهي قوله تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} . بين الله ـ تعالى ـ فيها أنه مثّل للمشركين من كل مثل من أمثال الأمم الخالية في هذا القرآن تخويفاً منه، وتحذيراً ليتعظوا ويتذكروا علّهم ينزجرون عما هم عليه من التكذيب بالرسول والكفر بالله تعالى. وأما الآية السابعة: وهي قوله تعالى: {قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} . قال السيوطي1 حول هذه الآية: "فيها الرد على من قال بخلق القرآن"2. وروى اللالكائي والآجري3 بسند صحيح إلى ابن عباس رضي الله عنهما {قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} قال غير مخلوق4. فتلك الآيات من السورة دلت على أن القرآن منزل غير مخلوق وكما هو معلوم أن الإيمان بالكتب ركن من أركان الإيمان الستة، ومن الإيمان بالكتب الإيمان بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق منه بدا وإليه يعود، وأن الله تكلم به حقيقة، وأن هذا القرآن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم هو كلام الله حقيقة، لا كلام غيره، ولا يجوز إطلاق القول بأنه حكاية عن كلام الله، أو عبارة، بل إذا قرأه الناس، أو كتبوه بذلك في المصاحف لم يخرج بذلك عن أن يكون كلام الله ـ تعالى ـ حقيقة فإن الكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئاً لا   1- هو: عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد بن سابق الدين الخضيري السيوطي، جلال الدين إمام حافظ مؤرخ أديب. له مؤلفات كثيرة في مختلف العلوم والفنون. ولد سنة تسع وأربعين وثمانمائة وتوفي سنة إحدى عشرة وتسعمائة هجرية. انظر ترجمته في: "الكواكب السائرة 1/226، شذرات الذهب 8/51، الضوء اللامع 4/65، حسن المحاضرة 1/334. 2- الإكليل في إستنباط التنزيل ص224. 3- هو: محمد بن الحسين بن عبد الله أبو بكر الآجري. فقيه، شافعي، محدث. توفي سنة ستين وثلاثمائة هجرية. انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 2/243. 4- السنة للالكائي 2/217، كتاب الشريعة للآجري ص77، الأسماء والصفات للبيهقي ص311. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 إلى من قاله مبلغاً مؤدياً، وهو كلام الله حروفه ومعانيه ليس كلام الله الحروف دون المعاني، ولا المعاني دون الحروف"1. وهذا ما يجب اعتقاده في القرآن ولا يجوز العدول عنه بحال. قال الصابوني: "ويشهد أصحاب الحديث ويعتقدون أن القرآن كلام الله، وكتابه ووحيه وتنزيله غير مخلوق، ومن قال بخلقه فهو كافر عندهم، والقرآن الذي هو كلام الله ووحيه هو الذي ينزل به جبريل على الرسول صلى الله عليه وسلم: {قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيراً وَنَذِيراً} 2. وكما قال ـ عز من قائل ـ {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} 3. وهو الذي بلغه الرسول صلى الله عليه وسلم أمته ... إلى أن قال: سمعت الحاكم أبا عبد الله الحافظ يقول سمعت أبا الوليد حسان بن محمد يقول: سمعت الإمام أبا بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق فمن قال: إن القرآن مخلوق فهو كافر بالله العظيم لا تقبل شهادته ولا يعاد إن مرض ولا يصلى عليه إن مات ولا يدفن في مقابر المسلمين ويستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه4. هذا الذي ذكره الصابوني ـ رحمه الله تعالى ـ معتقد أهل السنة والجماعة في كتاب الله ـ تعالى ـ وهو ما كان عليه السلف الصالح حيث كانوا على عقيدة واحدة في كتابه ـ تعالى ـ وهو القول بأنه كلام الله حقيقة منزل غير مخلوق. قال العلامة ابن القيم: "وقد تنازع الصحابة رضي الله عنهم في كثير من مسائل الأحكام ـ وهم سادات المؤمنين، وأكمل الأمة إيماناً ولكن بحمد الله لم يتنازعوا في مسألة واحدة من مسائل الأسماء والصفات والأفعال، بل كلهم على إثبات ما نطق به الكتاب والسنة كلمة واحدة"5.   1- مجموع الفتاوى 3/144. 2- سورة فصلت، آية: 3 ـ 4. 3- سورة الشعراء، آية: 192 ـ 195. 4- عقيدة السلف وأصحاب الحديث ضمن مجموعة الرسائل المنيرية 1/107 ـ 108. 5- إعلام الموقعين 1/49. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 هذا هو واقع الصحابة فقد كان مجتمعهم مجتمعاً سليماً من الشوائب والانحرافات المشؤومة، ولم يحدث القول بخلق القرآن إلا الجهمية من المعتزلة، وهو من أعظم الفتن التي مرت بها الأمة الإسلامية في تاريحها، وكان أول من أحدث القول بخلق القرآن هو "الجعد بن درهم"1 سنة أربع وعشرين ومائة هجرية، ولما هلك أخذ الراية من بعده "الجهم بن صفوان" سنة ثمان وعشرين ومائة هجرية. ولما بدأ القرن الثالث الهجري تولى نشر هذه البدعة بشر بن غياث المريسي سنة ثماني عشرة ومائتين هجرية، ثم تلقاها أحمد بن أبي دؤاد سنة أربعين ومائتين هجرية وزينها للمأمون حتى اعتنقها، وحمل الناس عليها وأكرههم على اعتقادها، وحذى حذوه من بعده أخوه المعتصم والواثق. وفي زمن هؤلاء الثلاثة الخلفاء العباسيين نزلت المحنة والبلاء بعلماء أهل السنة والجماعة الذين ثبتوا في اعتقادهم على منهج السلف وردوا كيد المعتزلة في نحورهم ببيان الحق في كلام الله ـ تعالى ـ حتى أن الإمام أحمد ـ رحمه الله تعالى ـ ضرب في هذه المحنة كي يحصلوا منه على أدنى كلمة توافق مذهب الإعتزال فلم يستطيعوا إلى ذلك سبيلاً، فثبت ـ رحمه الله تعالى ـ على التمسك بعقيدة السلف الصالح حتى كان سبباً في حفظ العقيدة السلفية الصحيحة التي حماها الله من التلوث ببراثن الجهمية المعتزلة، وبيّن ـ رحمه الله ـ بموقفه ذلك بطلان ما دبره الجهمية والمعتزلة من الكيد للإسلام، فبلّغ الأمة فساد قولهم بأن القرآن مخلوق، ولم ترتفع تلك الفتنة وهي فتنة القول بخلق القرآن إلا في زمن المتوكل سنة أربع وثلاثين ومائتين2، وبسبب تلك المحنة التي امتحن فيها أئمة الإسلام، وثبت فيها إمام أهل السنة أحمد بن حنبل تنازع الناس في القرآن نزاعاً كبيراً،   1- هو: الجعد بن درهم مولى سويد بن غفلة أصله من خراسان. سكن دمشق فلما أظهر القول بخلق القرآن أخذ الأمويين في البحث عنه فهرب إلى الكوفة فلقي الجهم بن صفوان ولقنه مذهبه ذلك فقبض عليه أمير الكوفة "خالد بن عبد الله القسري" وضحى به حيث قال وهو على المنبر "أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم فإنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً ولم يكلم موسى تكليماً تعالى الله عما يقول الجعد علواً كبيراً ثم نزل فذبحه". البداية 9/350، الميزان 1/399، خلق أفعال عباد ص7، الرد على الجهمية للدارمي ص113. 2- تاريخ الأمم والملوك للطبري 8/631-646، البداية والنهاية 10/308 ـ 311، 319، 358، مطبعة السعادة وانظر تاريخ الجهمية والمعتزلة ص60-70. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 فانقسموا إلى طوائف مختلفة في صفة الكلام حتى قيل إن علم الكلام إنما سمي بهذا الاسم أخذاً من الكلام في هذه المسألة وسأذكر هنا الأقوال المذكورة عن الفرق في صفة الكلام بطريقة مختصرة: مذهب السلف: قالوا: إن الكلام صفة لله كسائر الصفات الأخرى، وهي صفة ذات وفعل، يتكلم متى شاء وكيف شاء، وهو حروف وأصوات يسمعها من يشاء من مخلوقاته، وإن كلامه وصوته ليس كصوت المخلوقين وكلامهم فهو قديم النوع حادث الأفراد. كما أنهم أجمعوا على أن موسى عليه السلام سمع كلام الله من الله تعالى لا من الشجر أو الحجر، أو من غير ذلك كما زعمت الجهمية والمعتزلة لأنه لو سمع من غير الله ـ تعالى ـ لكان بنو إسرائيل أفضل ذلك منه، فإنهم سمعوا من أفضل ممن سمع منه موسى لكونهم سمعوا من موسى عليه السلام وهو على زعمهم إنما سمع من الشجرة، وهو غير معقول. وكذلك لم يجز أن يكون الكلام الذي سمعه إلا صوتاً وحرفاً، وليس معنى في النفس، فإنه لو كان معنى في النفس كما زعمت الكلابية والأشاعرة والماتريدية لم يكن ذلك تكليماً لموسى عليه السلام ولا هو شيءٌ يسمع1. فالقرآن عند أهل السنة والجماعة سلفاً وخلفاً كلام الله ـ تعالى ـ ووحيه، وتنزيله فيه معاني توحيده، ومعرفة آياته، وأنه غير مخلوق بحروفه ومعانيه فهو كلام الله ـ تعالى ـ حقيقة ويضاف الكلام إلى من قاله مبتدئاً لا إلى من قاله مبلغاً، ومؤدياً، ولا يجوز إطلاق القول بأنه حكاية عن كلام الله، أو عبارة عنه، كما يزعم ذلك الكلابية، والأشاعرة. مذهب الفلاسفة: قالوا: "إن كلام الله هو عبارة عما يفيض من العقل الفعَّال أو من غيره على النفوس الفاضلة الزكية، بحسب استعدادها، فأوجب لها ذلك الفيض تصورات، وتصديقات   1- انظر مجموع الفتاوى 12/39 ـ 40، مختصر الصواعق المرسلة 2/296 ـ 298، شرح العقيدة الطحاوية ص189، لوامع الأنوار البهية 1/140. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 بحسب ما قبلته منه، ولهذه النفوس عندهم ثلاث قوى، قوة التصور، وقوة التخيل، وقوة التعبير، فتدرك بقوة تصورها من المعاني ما يعجز عنه غيرها، وتدرك بقوة تخيلها شكل المعقول في صورة المحسوس، فتتصور المعقول صوراً نورانية تخاطبها وتكلمها بكلام تسمعه الآذان، وهو عندهم كلام الله ولا حقيقة له في الخارج وإنما ذلك كله من القوة الخيالية الوهمية"1. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فيقولون هذا القرآن كلام الله وهذا الذي جاءت به الرسل كلام الله، ولكن المعنى أنه فاض على نفس النبي صلى الله عليه وسلم من العقل الفعَّال، وربما قالوا: إن العقل هو جبريل الذي ليس على الغيب بضنين أي: بخيل لأنه فيَّاض. ويقولون إن الله كلم موسى من سماء عقله، وأن أهل الرياضة والصفا يصلون إلى أن يسمعوا ما سمعه موسى كما سمعه موسى2. وهذا المذهب: من أبعد المذاهب عن الحق والصواب إذ مضمونه أن كلام الله ـ تعالى ـ من الوهم والخيال ليس له وجود في الخارج إذ أنهم يزعمون: أن موسى سمع كلام الله من سماء عقله أي: بكلام لم يسمعه من خارج. وهذا مناقض للكتاب والسنة وإنكار لربوبية الخالق ـ سبحانه وتعالى ـ، والكتاب والسنة دلا بوضوح على أن الله ـ تعالى ـ أوحى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم وإلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين، والوحي كان إما بتكليم الله لهم بلا واسطة، أو يوحي إليهم بواسطة الملك الذي يأمره الله بتبليغ الوحي إلى النبي الذي اصطفاه الله لتبليغ رسالته إلى عباده من الجن والإنس. قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} 3. فهذه الآية دلت على أن الوحي إلى الرسل كان حقيقة ولم يكن تخييلاً يتخيله الرسول كما زعم ذلك الفلاسفة المارقون ومن جرى في ركابهم من المتكلمين فدعواهم ذلك من أبطل الباطل.   1- رسائل إخوان الصفا 4/209، نقض المنطق ص32، مجموعة الرسائل والمسائل 3/428، منهاج السنة النبوية 1/221، مختصر الصواعق 2/288، إغاثة اللهفان 2/262، شرح الطحاوية ص179. 2- مجموع الفتاوى 12/23. 3- سورة الشورى، آية: 51. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 "والأصل الذي قادهم إلى هذا عدم الإقرار بالرب الذي عرَّفت به الرسل ودعت إليه وهو القائم بنفسه المباين لخلقه العالي فوق سمواته، فوق عرشه الفعَّال لما يريد بقدرته ومشيئته العالم بجميع المعلومات القادر على كل شيء فهم أنكروا ذلك كله"1. مذهب الجهمية: أما مذهب الجهمية في صفة الكلام فإنهم قالوا: إن كلامه ـ سبحانه ـ مخلوق، ومن بعض مخلوقاته ليس قائماً بذاته ـ سبحانه ـ فالكلام بدأ من هذه المخلوقات وليس من الله ولا يقوم بالله كلام ولا إرادة وأنه ـ سبحانه ـ كلّم موسى بكلام خلقه في الشجرة، وكلّم جبريل بكلام خلقه في الهواء2. قال أبو الحسن الأشعري: "وزعمت الجهمية كما زعمت النصارى لأن النصارى زعمت أن كلمة الله حواها بطن مريم، وزادت الجهمية عليهم فزعمت أن كلام الله مخلوق حل في شجرة وكانت الشجرة حاوية له فلزمهم أن تكون الشجرة بذلك الكلام متكلمة، ووجب عليهم أن مخلوقاً من المخلوقين كلم موسى، وأن الشجرة قالت: {إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي} 3. وقال البغدادي وهو يذكر بعض الأمور التي اتفقت عليها الجهمية فقال: "وقال: أي ـ جهم ـ بحدوث كلام الله ـ تعالى ـ كما قالت القدرية ولم يسم الله ـ تعالى ـ متكلماً به" أ. هـ4. وقال البخاري ـ رحمه الله تعالى ـ: "وقال بعض أهل العلم: إن الجهمية هم المشبهة لأنهم شبهوا ربهم بالصنم والأصم، والأبكم الذي لا يسمع ولا يبصر ولا يتكلم، ولا يخلق، وقالت الجهمية: هو كذلك لا يتكلم ولا يبصر نفسه"5.   1- مختصر الصواعق المرسلة 2/288. 2- الملل والنحل 21/89، أصول الدين للبزدوي ص53، مختصر الصواعق 2/288. 3- الإبانة ص20، والآية رقم: 14 من سورة "طه". 4- الفرق بين الفرق ص212. 5- خلق أفعال العباد ص15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 ولقد ذكر ابن قتيبة ـ رحمه الله تعالى ـ: مذهب الجهمية في صفة الكلام فقال: "وقالوا: في كلام الله إنه مخلوق"1. وقال الإمام عثمان بن سعيد الدارمي "باب الاحتجاج للقرآن" أنه غير مخلوق ثم ذكر حشداً كبيراً من الأدلة على عدم خلق القرآن ثم قال: "ففي هذا بيان بين أن القرآن خرج من الخالق لا من المخلوقين، وأنه كلام الخالق لا كلام المخلوقين" أ. هـ2. فهذا هو مذهب الجهمية الزنادقة في كلام الله ـ تعالى ـ حيث يزعمون أن القرآن كلام الله على سبيل المجاز وهو مخلوق، وقولهم هذا ظاهر البطلان لمخالفته الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها. مذهب المعتزلة: أما المعتزلة أفراخ الجهمية فقد قالوا: "إن كلام الله ـ تعالى ـ مخلوق، خلقه الله منفصلاً عنه، وهو حرف وصوت وأن موسى سمع كلاماً أحدثه الله في الشجرة، ولم يسمع كلام الله حقيقة"3. قال عبد الجبار بن أحمد مبيناً مذهبه ومذهب إخوانه من أهل الاعتزال في القرآن: "وأما مذهبنا في ذلك فهو أن القرآن كلام الله ـ تعالى ـ ووحيه، وهو مخلوق محدث أنزله الله على نبيه ليكون علماً ودالاً على نبوته، وجعله دلالة لنا على الأحكام لنرجع إليه في الحلال والحرام" أ. هـ4. وقال في كتابه "المغني" " اختلف الناس في ذلك "الكلام" والذي يذهب إليه شيوخنا أن كلام الله ـ عز وجل ـ من جنس الكلام المعقول في الشاهد، وهو حروف منظومة، وأصوات مقطعة، وهو عرض يخلقه الله ـ سبحانه ـ في الأجسام علو وجه يسمع ويفهم معناه ويؤدي الملك ذلك إلى الأنبياء عليهم السلام بحسب ما يأمر به ـ عز وجل ـ ويعلمه صلاحاً ويشتمل على الأمر والنهي وسائر الأقسام ككلام العباد".   1- الاختلاف في اللفظ ص233 ضمن عقائد السلف. 2- الرد على الجهمية ص98 ـ 99. 3- انظر المقالات لأبي الحسن الأشعري 1/627، وما بعدها، وأصول الدين البزدوي ص53، الملل والنحل 1/45. 4- شرح الأصول الخمسة ص528. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 وقال أيضاَ: "ولا خلاف بين أهل العدل في أن القرآن مخلوق محدث مفعول لم يكن، ثم كان وأنه غير الله ـ عز وجل ـ وأنه أحدثه بحسب مصالح العباد، وهو قادر على أمثاله وأنه يوصف بأنه مخبر به، وقائل، وآمر، وناه من حيث فعله وكلهم أنه ـ عز وجل ـ متكلم به" أ. هـ1. قال شيخ الإسلام ابن تيمية مبيناً وجه تقارب مذهب المعتزلة والجهمية ووجه افتراقهما: "فمذهبهم ـ أي المعتزلة ـ ومذهب الجهمية في المعنى سواء، لكن هؤلاء يقولون: هو متكلم حقيقة وأولئك ينفون أن يكون متكلما حقيقة، وحقيقة قول الطائفتين أنه غير متكلم، فإنه لا يعقل متكلم إلا من قام به الكلام ولا مريد إلا من قامت به الإرادة، ولكن معنى كونه ـ سبحانه ـ متكلماً عندهم، أنه خلق الكلام في غيره" أ. هـ2. والقرآن والسنة يقرران بطلان مذهب المعتزلة من أساسه قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 3. ووجه الدلالة من الآية: أن الله ـ تعالى ـ خلق كل شيء بقوله "كن" ولو كانت "كن" مخلوقة لأدى ذلك إلى أن مخلوقاً خلق مخلوقاً آخر وهذا من القول المستحيل الذي لا يقول به أحد قط. وقال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 4. وجه الدلالة من هذه الآية: أن الله فرَّق بين خلقه وأمره فالمراد بالخلق في الآية هو المخلوقات، والمراد بالأمر في الآية القرآن فالآية دلت على إبطال قول المعتزلة بأن القرآن مخلوق إذ الأمر ما يكون به الخلق.   1- 7/3، وانظر الفرق بين الفرق ص114. 2- مجموع الفتاوى 12/311-312. 3- سورة يس، آية: 82. 4- سورة الأعراف، آية: 54. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 وقال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} 1. ووجه الدلالة من الآية: أن الله ـ تعالى ـ بين أن القول منه وما كان منه فليس مخلوقاً. وروى اللالكائي بإسناده إلى وكيع بن الجراح أنه قال: "من زعم أن القرآن مخلوق فقد زعم أن شيئاً من الله مخلوق فقيل له: يا أبا سفيان من أين قلت هذا؟ قال: لأن الله ـ تبارك وتعالى ـ يقول: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} ولا يكون من الله شيء مخلوق"2. وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ} 3. وجه الدلالة من هذه الآية: أن المخلوقات كلها نافدة وفانية، أما كلمات الله ـ تعالى ـ فلا تنفد ولا تفنى ولذلك يقول الباري ـ سبحانه ـ عندما تفنى الخلائق كلها لمن الملك اليوم؟ فيجيب {لله الْوَاحِدِ الْقَهَّار} 4. وروى ابن جرير الطبري بإسناده إلى الحسن البصري في الآية: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ} قال: لو جعل شجر الأرض أقلاماً، وجعل البحور مداداً وقال: إن من أمري كذا ومن أمري كذا لنفد ماء البحور وتكسرت الأقلام"5. وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السموات بيمينه ثم يقول: أنا الملك فأين ملوك الأرض ... " 6 الحديث.   1- سورة السجدة، آية: 13. 2- شرح أصول السنة لللالكائي 2/219. 3- سورة لقمان، آية: 27. 4- سورة غافر، آية: 16. 5- تفسير ابن جرير 21/81. 6- متفق عليه من حديث أبي هريرة. صحيح البخاري مع الفتح 11/373، صحيح مسلم 4/2148. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 فهذا الحديث والآيات قبله فيها الرد الواضح الصريح على المعتزلة القائلين بأن كلام الله مخلوق لأن كلام الله صفة من صفاته، وصفاته كذاته ليس شيء من ذلك مخلوق والذي حمل المعتزلة على القول بأن القرآن مخلوق منفصل عن الله ـ تعالى ـ خلقه في غيره. قالوا: "إنما قلنا ذلك لأنا إنما استدللنا على حدوث العالم بحدوث الأجسام، وإنما استدللنا على حدوثها بقيام الحوادث بها وأن ما لا ينفك عن الحوادث فهو حادث لامتناع حوادث لا أول لها فلو قلنا إنه تقوم به الصفات والكلام لزم قيام الحوادث به لأن هذه الأعراض حادثة". وهذا الكلام المحدث المبتدع جعلوه أصلاً لهم في نفي صفات الله ـ تعالى ـ وظنوا أنهم ينصرون به الإسلام، ويضرون به أعداءه، ولكن لا الإسلام نصروا ولا أعداءه كسروا وإنما النتيجة التي حصلت لهم من وراء هذا الأصل الباطل أن سلطوا على أنفسهم علماء الشرع والعقل، فعلماء الشرع قالوا لهم: إنكم خالفتم بقولكم هذا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلماء الفلسفة قالوا لهم: إنكم خالفتم بقولكم هذا المعقول رغم أن المعتزلة أعرف من الفلاسفة بعلوم الدين وأولئك أجهل منهم بالشرع والعقل في الإلهيات، ففتحوا على أنفسهم مدخلاً دخلوا عليهم منه، ونقموا عليهم بسبب مخالفتهم للعقل1. وأما استدلال المعتزلة على خلق القرآن بقوله تعالى: {اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} 2. ويقولون: "إن القرآن داخل في عموم "كل" لأنه شيء فيكون مخلوقاً فهذا مما يعجب له العقلاء، إذ أنهم يزعمون أن أفعال العباد غير مخلوقة لله ـ جل وعلا ـ وإنما يخلقها العباد جميعها لا يخلقها الله فأخرجوها من عموم "كل"، وأدخلوا كلام الله في عمومها مع أنه صفة من صفات الله ـ تعالى ـ به تكون الأشياء المخلوقة إذ المخلوقات تكون بأمره ـ سبحانه ـ كما تقدم ذلك، ومن قال: بأن صفات الله ـ تعالى ـ مخلوقة كالعلم والقدرة وغيرهما فهذا من الكفر الصريح لأن علمه ـ تعالى ـ شيء وحياته شيء وقدرته شيء،   1- منهاج السنة 2/80 بتصرف يسير. 2- سورة الرعد، آية: 16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 فيدخل في العموم الذي تتضمنه "كل" فيكون مخلوقاً بعد أن لم يكن ـ تعالى الله ـ عما يقولون علواً كبيراً"1. قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ تعالى: "احتج المعتزلة على مخلوقية القرآن بقوله ـ تعالى ـ {اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} " ونحو ذلك من الآيات، فأجاب الأكثرون بأنه عام مخصوص، يخص محل النزاع كسائر الصفات من العلم ونحوه. قال ابن عقيل2 في الإرشاد: ووقع لي أن القرآن لا يتناوله هذا الإخبار ولا يصلح لتناوله قال: لأن به حصل عقد الإعلام بكونه خالقاً لكل شيء وما حصل به عقد الإعلام والإخبار لم يكن داخلاً تحت الخبر قال: ولو أن شخصاً قال: لا أتكلم اليوم كلاماً إلا كان كذباً لم يدخل إخباره بذلك تحت ما أخبر به قلت: ثم تدبرت هذا فوجدته مذكوراً في قوله تعالى في قصة مريم {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً} 3. وإنما أمرت بذلك لئلا تسأل عن ولدها فقولها "فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً" به حصل إخبار بأنها لا تكلم الإنس، ولم يكن ما أخبرت به داخلاً تحت الخبر وإلا كان قولها هذا مخالفاً لنذرها" أ. هـ4. "فقوله تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} التي استدل بها المعتزلة على خلق القرآن آية عامة في جميع الخلق لا يخرج عنها شيء من هذا الوجود أعيانه وأفعاله، وحركاته وسكناته، ولا يخصص بذات الله ـ تعالى ـ وصفاته إذ الباري ـ سبحانه ـ خالق بذاته وصفاته وما سواه مخلوق له ـ تعالى ـ ونفس اللفظ في الآية قد فرّق بين الخالق ـ سبحانه ـ وبين المخلوق، وصفاته ـ تعالى ـ داخلة في مسمى اسمه ـ تعالى ـ فإن لفظ الجلالة "الله" اسم للإله   1- انظر شفاء العليل ص53، شرح الطحاوية ص183. 2- علي بن عقيل بن محمد بن عقيل البغداد الظفري، أبو الوفاء، ويعرف بابن عقيل. عالم العراق وشيخ الحنابلة ببغداد في وقته. كان قوي الحجة ولد سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة، وتوفي سنة ثلاث عشرة وخمسمائة. انظر ترجمته في: شذرات الذهب 4/35، ميزان الإعتدال 3/146 جلاء العينين ص160. 3- سورة مريم، آية: 26. 4- بدائع الفوائد 4/218. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 ـ تعالى ـ الموصوف بكل صفة كمال المنزه عن كل صفة عيب ونقص ومثال، والخلق قسمان: أعيان وأفعال وهو ـ سبحانه ـ الخالق لأعيانه وما يصدر عنها من الأفعال"1. ويقال للمعتزلة أيضاً: إن عموم "كل" في كل مقام بحسبه ويتبين ذلك بالقرائن، وبرهان ذلك قوله ـ تعالى ـ {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ} 2 ومساكن قوم عاد شيء، ولم تدخل في عموم كل شيء دمرته الريح وذلك لأن المراد تدمر كل شيء قابل للتدمير بواسطة الريح. وقال تعالى: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} 3 والمراد من كل شيء تحتاجه الملوك، ومثل هذا يفهم من قرائن الكلام، فمراد الهدهد أنها ملكة كاملة في أمر الملك غير محتاجة إلى ما يكمل به أمر ملكها ولهذا نظائر كثيرة والمراد من قوله تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} أي كل شيء مخلوق وكل موجود سوى ـ الباري ـ فهو مخلوق فيدخل في هذا العموم أفعال العباد قطعاً ولم يدخل في هذا العموم الخالق ـ تعالى ـ وصفاته ـ تعالى ـ ليست غيره لأنه ـ سبحانه وتعالى ـ هو الموصوف بصفات الكمال، وصفاته ـ تعالى ـ ملازمة لذاته المقدسة، ولا يتصور انفصال صفاته ـ تعالى ـ عنه بحال"4. كما يقال لهم أيضاً: كيف يصح أن يتكلم الله بكلام قائم بغيره ولو جاز ذلك للزم أن يكون كل كلام أحدثه في الجمادات كلامه! وكذلك الكلام الذي خلقه في الحيوانات يكون كلامه، ولا يكون هناك فرق بين نطق وأنطق، وإنما قالت الجلود {أَنْطَقَنَا اللهُ} 5 ولم تقل: نطق الله بل يلزم أن يكون متكلماً بكل كلام خلقه في غيره زوراً، أو كذباً، أو كفراً، أو هذياناً ـ تعالى الله ـ عما يقوله المعتزلة والجهمية علواً كبيراً، وهذا ما قاله الاتحادية فقد قال ابن عربي: وكل كلام في الوجود كلامه ... سواء علينا نثره ونظامه   1- شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر ص53 بتصرف يسير. 2- سورة الأحقاف، آية: 25. 3- سورة النمل، آية: 23. 4- شرح الطحاوية ص185، وما بعدها. 5- سورة فصلت، آية: 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 ولو صح هذا لكان قول فرعون {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} 1 من كلام الله كما أن الكلام المخلوق في الشجرة على زعمهم كلام الله وهذا من باطل القول وزوره إذ الرسل عليهم الصلاة والسلام أخبروا الناس وأفهموهم أن الله نفسه هو الذي تكلم والكلام قائم به لا بغيره ولذلك عاب الله على من يعبد إلهاً لا يتكلم قال تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً} 2، ولا يحمد شيء بأنه متكلم ويذم بأنه غير متكلم إلا إذا كان الكلام قائمان به" أ. هـ3. وأما استدلالهم ـ المعتزلة ـ بقوله تعالى {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} 4 على خلق القرآن فهو استدلال ظاهر الفساد فإن الفعل "جعل" إذا كان بمعنى "خلق" فإنه يتعدى إلى مفعول واحد كقوله ـ سبحانه ـ {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} 5 وإذا كان يتعدى إلى مفعولين لم يكن بمعنى خلق قال تعالى: {وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} 6. ومثل هذا قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} 7. وللمعتزلة أدلة أخرى غير هذه الأدلة ولكن بحمد الله ـ تعالى ـ لقد بين علماء السلف عدم وجهة استدلالهم بها وأن تعلقهم بها لا يساعد على دعواهم في القول بخلق القرآن. مذهب الكلابية: لقد ذهب عبد الله بن سعيد بن كلاب وأتباعه إلى أن القرآن عبارة عن حكاية معنى قائم بنفسه لا يتعلق بقدرته ـ تعالى ـ ومشيئته وأنه لازم لذاته ـ جل وعلا ـ كلزوم الحياة   1- سورة النازعات، آية: 24. 2- سورة الأعراف، آية: 148. 3- منهاج السنة 1/222ـ223، شرح الطحاوية ص184. 4- سورة الزخرف، آية: 3. 5- سورة الأنعام، آية: 1. 6- سورة النحل، آية: 91. 7- شرح الطحاوية ص186، وانظر الاختلاف في اللفظ لابن قتيبة ص234ـ235 ضمن مجموعة عقائد السلف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 والقدرة والعلم وأنه لا يسمع على الحقيقة، وليس له حرف ولا صوت، وهو أربعة معاني في نفسه الأمر، والنهي، والخبر والاستخبار، فهي أنواع لذلك المعنى القديم الذي لا يسمع وذلك المعنى هو المتلو المقرؤ، وهو غير مخلوق والأصوات والحروف هي تلاوة العباد وهي مخلوقة، وأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ لا يتكلم بمشيئته وقدرته وأنه ليس فيما يقوم به شيء يكون بمشيئته وقدرته لامتناع قيام الأمور الاختيارية به عندهم لأنها حادثة، والله لا يقوم به حادث عندهم وقالوا: إذا لو قلنا أنه بقدرته ومشيئته لزم أن يكون حادثاً فيلزم أن يكون مخلوقاً، أو قائماً بذات ـ الرب ـ فيلزم قيام الحوادث به وذلك يستلزم تسلسل الحوادث، لأن القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده وتسلسل الحوادث ممتنع، إذ التفريع على هذا الأصل1. فمذهب الكلابية أن القرآن العربي ليس عندهم كلام الله وإنما كلامه المعنى الذي قام بذاته، والقرآن العربي خلق ليدل على ذلك المعنى، ثم إما أن يكون خلق في بعض الأجسام الهواء أو غيره، أو ألهمه جبريل فعبر عنه بالقرآن العربي، أو ألهمه ـ محمداً ـ فعبر عنه بالقرآن العربي وكما هو معلوم مذهب ظاهر البطلان. مذهب الأشاعرة: أما مذهب الأشاعرة فقد قالوا: الكلام عبارة عن معنى واحد قائم بنفسه وهو صفة أزلية قديمة، ليس بصوت ولا حرف، وهو عين الأمر، وعين النهي، وعين الخبر، وعين الاستخبار، الكل من أمر واحد ليس له أنواع ولا أجزاء فإن عبر عنه بالعبرانية كان توراة، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلاً وإن عبر عنه بالعربية فهو القرآن. وقالوا: تسمى هذه العبارات كلام الله مجازاً، وأن موسى عليه السلام لم يسمع كلام الله حقيقة بل سمع ما يدل عليه2. قال البغدادي: "كلام الله عندنا أمر ونهي وخبر ووعد ومن فوائد وجوهه العموم،   1- مقالات الإسلاميين 2/257، وما بعدها، مجموع الفتاوى 12/121، 94، وانظر مجموعة الرسائل والمسائل 3/378، ومنهاج السنة النبوية 1/221، مختصر الصواعق المرسلة 2/290ـ291، وانظر لوامع الأنوار البهية 1/164، وانظر شرح الأصول الخمسة ص527. 2- انظر تحفة المريد على جوهرة التوحيد ص71، شرح العقائد النسفية ص94، شرح الفقه الأكبر ص40ـ41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 والخصوص، والمجمل، والمفسر، وفي أحكام ناسخ ومنسوخ، ولا ينسخ كلامه، لأنه لا يجوز عدمه ورفعه وقراءة كلامه بالعربية قرآن، وقراءته بالعبرانية توراة وبالسريانية إنجيل والقراءة غير المقروء لأن المقروء كلام الله وليست القراءة كلامه"1. فالقرآن عند الأشاعرة كلام نفسي لأن الكلام ينقسم إلى قسمين: كلام نفسي وهو كلام الله فذلك قديم، وكلام لفظي وهو حادث مخلوق. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ـ تعالى ـ في رده على مذهبهم هذا: فالكلام القديم النفساني الذي أثبتموه لم تثبتوا ما هو؟. بل ولا تصورتموه وإثبات الشيء فرع عن تصوره فمن لم يتصور ما يثبته كيف يجوز أن يثبته ولهذا كان أبو سعيد بن كلاب رأس هذه الطائفة وإمامها في هذه المسألة لا يذكر في بيانها شيئاً يعقل بل يقول: هو معنى يناقض السكوت والخرس ... " أ. هـ2. وقال أيضاً ـ رحمه الله تعالى ـ: "وأما قول الأشاعرة أن الكلام عبارة عن معنى واحد فهو باطل لأنه يقال لهم: "هل سمع موسى عليه السلام جميع المعنى، أو بعضه فإن قالوا: سمعه كله فقد زعم أنه سمع جميع كلام الله، وفساد هذا ظاهر. وإن قال: بعضه فقد قال: يتبعض وكذلك كل من كلمه الله، أو أنزل إليه شيئاً من كلامه، ولما قال الله تعالى للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} 3. أو قال لهم: {اسْجُدُوا لآدَمَ} وأمثال ذلك فهل هذا جميع كلامه، أو بعضه؟ فإن قال: إنه جميعه فهذا مكابرة وإن قال: بعضه فقد اعترف بتعدده وكذلك أن معنى آية الكرسي ليس معنى {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} 4 ولا معنى {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} 5، ولا معنى {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} 6   1- أصول الدين ص107 ـ 108. 2- مجموع الفتاوى 6/295-296. 3- سورة البقرة، آية: 30. 4- سورة الصمد، آية: 1. 5- سورة الإسراء، آية: 32. 6- مجموع الرسائل والمسائل 3/154. ط. دار الكتب العلمية، وانظر شرح الطحاوية ص197. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 وبهذا المذهب الأشعري قال الماتريدية في صفة الكلام1. ثم إن مذهب الأشاعرة والماتريدية في صفة الكلام بعيد كل البعد عن مذهب السلف وقريب كل القرب من مذهب الجهمية والمعتزلة كما صرح الإيجي بذلك حيث قال: "قالت المعتزلة أصوات، وحروف يخلقها الله في غيره كاللوح المحفوظ أو جبريل، أو النبي، وهو حادث، وهذا لا ننكره، لكنا نثبت أمراً وراء ذلك وهو المعنى القائم بالنفس"2 فلقد صدق العلماء في تسميتهم أفراخ المعتزلة". مذهب الكرامية: أما الكرامية فقد قالوا: إن كلام ـ الباري سبحانه ـ حروف وأصوات وأنه متعلق بالمشيئة والقدرة قائم بذات ـ الرب تعالى ـ تكلم به بعد أن لم يكن متكلماً وأنه لا مانع أن توجد الحوادث للصانع ـ جل وعلا ـ بعد أن تكلم، فوجود الكلام عندهم في الأزل ممتنع كوجود الأفعال، وكذلك إن الكلام ممتنع أن يكون مخلوقاً في غيره والله ـ تعالى ـ متكلم بمشيئته وقدرته فيكون كلامه حادثاً كان بعد أن لم يكن"3. وذكر البزدوي مذهب الكرامية فقال: "وعند الكرامية الله ـ تعالى ـ متكلم على الحقيقة بكلام حادث قائم به، وأنهم يجوزون حدوث الأشياء بالله ـ تعالى ـ"4. وقول هؤلاء الكرامية مشتمل على حق وباطل فإثباتهم كلاماً وفعلاً حقيقة قائمين بذات المتكلم الفاعل هذا حق، وأما زعمهم أن ـ الباري جل وعلا ـ تكلم بعد أن لم يكن متكلماً فهذا عين الباطل، لأن الكلام من صفات الكمال، وهو ـ سبحانه ـ متصف بصفات الكمال أزلاً وأبداً.   1- انظر التوحيد للماتريدي ص58 ـ 59، أصول الدين للبزدوي ص55، شرح العقائد النسفية ص89. 2- المواقف ص294. 3- مجموع الرسائل والمسائل 3/455، منهاج السنة النبوية 1/221، لوامع الأنوار البهية 1/137، شرح الطحاوية ص180، أصول الدين للبزدوي ص56. 4- أصول الدين ص56. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 مذهب السالمية: أما السالمية فقد قالوا: إن صفة الكلام من الصفات القديمة القائمة بذات ـ الرب جل وعلا ـ لم يزل ولا يزال، لا يتعلق بقدرته ومشيئته، ومع ذلك يقولون: بأنه حروف وأصوات وسور وآيات، سمعه جبريل منه، وسمعه موسى بلا واسطة ويسمعه ـ سبحانه ـ من يشاء، وإسماعه نوعان بواسطة، وبغير واسطة ومع ذلك فحروفه وكلماته لا يسبق بعضها بعضاً بل هي مقترنة الباء مع السين مع الميم في آن واحد لم تكن معدومة، في وقت من الأوقات، ولا تعدم بل لم تزل قائمة بذاته ـ سبحانه ـ قيام صفة الحياة والسمع والبصر1. ثم إنهم اختلفوا في الأصوات المسموعة هل هي من القارئ أم لا؟. فذهب جمهورهم إلى أن تلك الأصوات المسموعة من القارئين. وقال قوم: بأن الصوت يسمع من القارئ ثم قد يقولون تارة أن القديم نفس الصوت المسموع من القارئ. وبعضهم يقولون: "إنه يسمع من القارئ صوت قديم، ومحدث" أ. هـ2. مذهب الاتحادية والحلولية: أما الاتحادية والحلولية فقد زعموا: بأن كل كلام في الوجود كلام الله نظمه، ونثره، حقه وباطله، سحره وكفره، خيره، وشره، فكل ذلك عين كلام الله ـ تعالى ـ القائم به، وهذا المذهب بنوه على أصلهم الذي أصلوه وهو اتحاد الخالق بالخلق وأن الله ـ سبحانه ـ هو عين الوجود، فصفاته هي صفات الله، وكلامه هو كلام الله، وأصل هذا المذهب، إنكار مباينة الله لخلقه وعلوه واستوائه على عرشه، ولما أصلوا لأنفسهم القول بأن الله في كل مكان وأنه ـ سبحانه ـ غير مباين لهذا العالم بل هو عين هذا العالم فله حينئذٍ كل اسم حسن وقبيح وكل صفة كمال ونقص، وكل كلام حق وباطل نعوذ بالله من ذلك.   1- مجموعة الرسائل والمسائل 3/33، مختصر الصواعق المرسلة 2/293، مجموع الفتاوى 12/166. 2- مجموع الفتاوى 12/166 ـ 167. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 وهذا قول ابن عربي، وابن الغارضي وابن سبعين والتلمساني ومن جرى في ركابهم1. تلك هي أقوال الناس ومذاهبهم في صفة الكلام، وهي الأقوال التي قيلت في القرآن الكريم، ومما لا شك فيه أن القول الذي يجب على المسلم أن يدين الله به هو ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة من أن القرآن جميعه كلام الله حروفه ومعانيه ليس شيء من ذلك كلاماً لغيره، ولكن أنزله على رسوله ... وأنه ـ تعالى ـ يتكلم بصوت كما وردت بذلك الأحاديث الصحاح وليس ذلك كأصوات العباد لا صوت القارئ، ولا وغيره وأن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله فكما لا يشبه علمه وقدرته، وحياته، علم المخلوق وقدرته، وحياته فكذلك لا يشبه كلامه كلام المخلوق، ولا معانيه تشبه معانيه ولا حروفه تشبه حروفه ولا صوت ـ الرب ـ يشبه صوت العبد"2. فهذا المذهب هو المذهب الحق لموافقته الوحي الإلهي الذي هو الفيصل الحاسم عند التنازع والاختلاف.   1- مجموع الفتاوى 12/174، منهاج السنة 2/221، مختصر الصواعق المرسلة 2/286ـ288، شرح الطحاوية ص184. 2- مجموع الفتاوى 12/243ـ244. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 المبحث الرابع: إثبات صفة العزة لقد أثبتت السورة صفة العزة ـ للباري سبحانه ـ في ثلاث آيات: ـ قال تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} وقال تعالى: {أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} وقال تعالى: {أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ} فاسمه ـ تعالى ـ {الْعَزِيزُ} الوارد في هذه الآيات الثلاث يشتق منه صفة "العزة"، وهي من الصفات الذاتية التي لا تنفك عن الله ـ تعالى ـ فالعزيز اسم من أسماء الله ـ تعالى ـ وقد جاء في اشتقاقه وجوه: الأول: أن يكون بمعنى لا مثيل له ولا نظير من "عز" الشيء بكسر العين في المضارع ومنه يقال: عز الطعام في البلد إذا تعذر وجوده عند الطلب، وإذا سمي الشيء الذي يعسر وجود مثله "بالعزيز" فبأن يسمى الشيء الذي يمتنع عقلاً أن يكون له نظير "بالعزيز" من باب أولى. الثاني: أن يكون بمعنى الغالب الذي لا يغلب من "عزيعز" بضم العين في المضارع أي: غلب يغلب ومنه قوله ـ تعالى ـ: {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} 1 أي غلبني وتقول العرب: "من عزيز" أي: من غلب سلب فإذا قيل: لمن غلب مع جواز أن يصير مغلوباً أنه "عزيز" فالغالب الذي يمتنع أن يصير مغلوباً، والقاهر الذي يستحيل أن يصير مقهوراً أولى أن يسمى "بالعزيز".   1- سورة ص، آية: 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 الثالث: أن يكون بمعنى الشديد "القوي" يقال: عزيعز، بفتح العين في المضارع إذا اشتد وقوي ومنه قوله تعالى: {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} 1 أي شددنا وقوينا وإذا سمي "القوي" الذي قد يضعف، والقادر الذي قد يعجز "بالعزيز" فلأن يسمى "القادر" الذي يستحيل في حقه العجز "عزيزاً" من باب أولى. الرابع: أن يكون بمعنى "المعز" على وزن "فعيل" بمعنى "مفعل" كالأليم بمعنى المؤلم وعلى كل فعلى المعنى الأول يرجع إلى التنزيه، وعلى المعنى الثاني والثالث يعود إلى صفة الذات، وهي القدرة. وعلى المعنى الرابع يرجع إلى صفو "الفعل"2. وقد ورد هذا الاسم الشريف في مواضع كثيرة من كتاب الله ـ تعالى ـ وكثرة تكراره دليل ناصع على إثبات صفة "العزة" لله تعالى ثبوتاً قطعياً يليق بجلاله ـ سبحانه ـ من غير تمثيل، ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تحريف، ولا عبرة بمن نفى الصفة وأثبت الاسم كما هو مذهب المعتزلة3 ولا قيمة لمن نفى الأسماء والصفات كما هو مذهب الجهمية4 النفاة، ومذهبهم في الحقيقة يؤدي إلى القول بالعدم المحض وهو من أفسد المذاهب. فصفة العزة ثابتة بنص كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن رغمت أنوف الجهمية والمعتزلة، وإليك بعض الآيات في ذلك: قال تعالى: {وَلِلهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} 5 فكل من له نوع بصيرة يعلم أن القوة والغلبة في الحقيقة ـ للباري سبحانه وتعالى ـ وحده ثم لمن أفاضها عليه من رسله، والصالحين من عباده ـ وعزته تعالى ـ غلبته وقهره لأعدائه، وعزة رسوله صلى الله عليه وسلم إظهار دينه على كل الأديان، وعزة عباده المؤمنين، نصره لهم على أعدائهم   1- سورة يس، آية: 14. 2- تفسير اسما الله الحسن للرازي ص194ـ195. 3- يطلق اسم المعتزلة على الذين يجمعون القول بالأصول الخمسة: التوحيد، والعدل، والوعد، والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر ويقولون بإثبات الأسماء ونفي الصفات، انظر آراءهم، وأقوالهم في "مقالات الإسلاميين" 1/235ومابعدها "الملل والنحل للشهرستاني" 1/43 وما بعدها، الفرق بين الفرق ص114 التبصير في الدين لأبي المظفر الإسفراييني ص63. 4- انظر مقالات الإسلاميين 1/338، الملل والنحل للشهرستاني 1/86 وما بعدها الفرق بين الفرق ص211ـ212، التبصير في الدين ص107ـ 108، اعتقادات فرق المسلمين والمشركين للرازي ص68. 5- سورة المنافقون، آية: 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 فالمؤمنون لهم من العزة بقدر ما معهم من الإيمان وحقائقه فإذا حصل لهم نقص من العلو والعزة فبسبب ما فاتهم من حقائق الإيمان علماً وعملاً، ونصرهم وتأييدهم موقوف على قيامهم بتكميل مراتب الإيمان وواجباته. وقال تعالى: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 1 وقوله ـ سبحانه ـ {لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 2 وقال ـ جل شأنه ـ {وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} 3 وقال ـ سبحانه ـ {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} 4 وقال: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} 5 وقد قرن ـ سبحانه ـ بين وصف العزة والحكمة بقوله: {وَكَانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً} 6. ومعنى ـ العزيز ـ الغالب كل شيء والذي ذل ـ لعزته ـ كل عزيز والممتنع فلا يغلبه شيء وهو ـ سبحانه ـ رب العزة وبيده وحده "العزة" يعز بها من يشاء، ومن يريد العزة فلا مصدر لها سوى "العزيز" ـ سبحانه ـ قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فلِلِهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً} 7 وقد توعد الله المنافقين الذين يلتمسون "العزة" عند الكافرين الذين اتخذوهم أولياء من دون المؤمنين بالعذاب الأليم فقال تعالى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} 8. ولقد جاء اسمه ـ تعالى ـ "العزيز" مقترناً بأسماء أخرى من أسمائه ـ تبارك وتعالى ـ ولاقترانه ذلك أسرار دقيقة، ومعاني بديعة فقد اقترن باسمه ـ تعالى ـ "الحكيم" في عدة مواضع ذكرنا بعضها قريباً قال تعالى: {إِنَّ اللهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً} 9 فاقترانه بهذا الاسم   1- سورة البقرة آية: 129. 2- سورة آل عمران آية: 18. 3- سورة إبراهيم آية: 47. 4- سورة هود آية: 66. 5- سورة الشعراء آية: 9. 6- سورة الفتح آية: 7. 7- سورة فاطر آية: 10. 8- سورة النساء آية: 138 ـ 139. 9- سورة النساء آية: 56. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 يفيد أنه الغالب الذي لا يعجزه شيء ـ سبحانه ـ وهو الحكيم في أقواله وأفعاله جميعاً يضع الأشياء في محالها التي تناسبها مناسبة تامة. كما اقترن باسمه ـ تعالى ـ "ذو انتقام" عدة مرات مثل قوله ـ تعالى ـ {وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} 1 واقترانه به يفيد أنه الغالب الذي يقدر على أن ينتقم ممن يستحق الانتقام منه بمنتهى العدل منه ـ سبحانه ـ. واقترن باسم القوي في أكثر من موضع في كتاب الله ـ تعالى ـ مثل قوله ـ سبحانه ـ {وَكَانَ اللهُ قَوِيّاً عَزِيزاً} 2 واقترانه بهذا الاسم يفيد أنه ـ سبحانه ـ ذو القوة التي لا تغلب فبقوته ـ سبحانه ـ وعزته يوقع بمن يشاء من عقوبته ولا معقب لما يريده ـ جل وعلا ـ وجاء مقترناً باسمه ـ تعالى ـ: "الحميد" في عدة مواضع مثل قوله ـ تعالى ـ {لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} 3. واقترانه به يفيد أنه ـ تبارك وتعالى ـ العزيز الغالب الذي لا يضام من لاذ بجنابه المنيع "المحمود في جميع أفعاله وأقواله، وشرعه وقدرة، وأمره ونهيه، الصادق في خبره"4 وهو المحمود على كل حال. واقترن باسمه ـ تعالى ـ "الرحيم" أكثر من عشر مرات واقترانه به يفيد أنه مع عزته وغلبته وقوته ـ سبحانه ـ رحيم بخلقه ومعنى ذلك أنه لا يعجل العقوبة على من عصاه بل يؤجله وينظره ثم يأخذه أخذ عزيز مقتدر. وقد جاء أيضاً مقروناً باسمه ـ تعالى ـ "العليم" واقترانه به يفيد أنه العزيز الذي لا يمانع ولا يخالف ـ العليم ـ بكل شيء فلا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء وكثير ما إذا ذكر الله الليل والنهار، والشمس، والقمر يختم الكلام بالعزة والعلم. قال تعالى: {وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} 5 فهو ـ سبحانه ـ العزيز الذي من عزته انقادت له كل هذه المخلوقات العظيمة فجرت مذللة بأمره   1- سورة آل عمران، آية: 4. 2- سورة الأحزاب، آية: 25. 3- سورة إبراهيم، آية: 1. 4- تفسير القرآن العظيم 4/108. 5- سورة فصلت، آية: 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 حيث لا تتعدى ما حده الله لها، ولا تتقدم عنه، ولا تتأخر العليم، الذي أحاط علمه بالظواهر والبواطن والأوائل والأواخر، كما أنه ـ العزيز ـ الذي قهر الخلائق فأذعنوا له، والعليم بجميع الأشياء، والعليم بأقوال المختلفين وعما ذا صدرت، وعن غاياتها وسيجازي كلاً بما علمه فيه1. وقد جاء اسمه ـ تعالى ـ "العزيز" مقترناً باسمه ـ تعالى ـ "الغفور" قال تعالى: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} 2 وباسمه ـ تعالى ـ "الغفار" قال تعالى حكاية عن كليمه موسى عليه السلام: {وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّار} 3 واقترانه بهما يفيد أنه مع عزته وغلبته لكل خلقه فإنه ـ سبحانه ـ يغفر جميع الذنوب صغيرها وكبيرها لمن تاب إليه وأقلع عن ذنوبه ويلاحظ هنا أن اسم "العزيز" اقترن باسم "الغفور" و"الغفار" وكل منهما صيغة مبالغة على وزن "فعول" و"فعال" مما يدل على كثرة غفره ـ سبحانه ـ للتائبين المنيبين إليه وورد مقروناً باسمه ـ تعالى ـ "المقتدر" مرة واحدة في كتاب الله ـ تعالى ـ وذلك في قوله ـ عز شأنه ـ {كَذَّبُوا بِآياتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِر} 4 واقترانه بهذا الاسم يفيد أنه ـ العزيز ـ الغالب الذي إذا أخذ المكذبين أخذهم أخذ غالب في انتقامه قادر على إهلاكهم لا يعجزه شيء ـ سبحانه وتعالى ـ5 وورد مقترناً باسمه ـ تعالى ـ "الوهاب" مرة واحدة في القرآن ومعناه: أنه ـ سبحانه ـ العزيز الغالب القاهر الذي لا يرام جنابه يعطي بغير حساب، ويعطي ما يريد لمن يريد عطاءً منه وتفضلاً من خزائن رحمته التي لا تنفد قال تعالى: {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ} 6 كما اقترن مرة واحدة باسمه ـ تعالى ـ "الجبار" قال تعالى: {هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ} 7. واقترانه بهذا الاسم يفيد أنه ـ سبحانه وتعالى ـ "العزيز" القاهر الغالب الذي لا   1- تيسير الكريم الرحمن: 5/287. 2- سورة الملك، آية: 2. 3- سورة غافر، آية: 42. 4- سورة القمر، آية: 42. 5- انظر فتح القدير 5/128. 6- سورة ص، آية: 9. 7- سورة الحشر، آية: 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 يوجد له نظير هو العظيم صاحب العظمة والجبروت ويجوز أن يكون من ـ جبر ـ إذا أغنى الفقير وجبر الكسير1 وقيل الجبار الذي لا تطاق سطوته. فجميع الآيات التي قدمنا ذكرها أدلة قطعية واضحة على إثبات صفة ـ العزة ـ التي هي من صفات ذاته ـ سبحانه ـ التي لا تنفك عنه. وصفة العزة لها ثلاث معان: 1 ـ عزة الدال عليها من الأسماء "القوي المتين". 2 ـ عزة الإمتناع فإنه الغني فلا يحتاج إلى أحد ولن يبلغ العباد ضره فيضروه، ولا نفعه فينفعوه. 3 ـ عزة القهر والغلبة لكل الكائنات، وقد ذكر هذه المعاني الثلاثة العلامة ابن القيم رحمة الله عليه حيث قال: ـ وهو العزيز فلن يرام جنابه ... أنى يرام جناب ذو السلطان وهو العزيز القاهر الغلاب ... لم يغلبه شيء هذه صفتان وهو العزيز بقوة هي وصفه ... فالعز حينئذ ثلاث معان2 أما من حيث إضافتها إلى الله ـ جل وعلا ـ فإنها تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: من باب إضافة الصفة إلى الموصوف كما في قوله ـ تعالى ـ حكاية عن إبليس: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} 3 فالآية أوضحت أن إبليس عرف صفة العزة وأثبتها لله ـ تعالى ـ وأنكرها أهل التعطيل من جهمية ومعتزلة مكابرة وعناداً كما أن الآية دلت على جواز الحلف بصفة ـ العزة ـ وغيرها من الصفات مثلها كما دلت على أن صفاته ـ تعالى ـ ليست مخلوقة لأن الحلف بالمخلوق شرك بالله العظيم وكذلك الاستعاذة به.   1- انظر فتح القدير 5/208. 2- انظر القصيدة النونية مع شرحها "توضيح المقاصد وتصحيح القواعد" 2/218. 3- سورة ص، آية: 82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 القسم الثاني: إضافتها إلى الله من باب إضافة المخلوق إلى خالقه وهي: العزة المخلوقة التي يعز بها أنبياءه وعباده الصالحين وهي ما يحصل لهم من النصر والتأييد وغلبة الأعداء، وقدمنا ما يدل على ذلك من القرآن1. وحيث قلنا: إن القرآن دل على إثباته صفة العزة في كثير من آياته كذلك السنة دلت على ما دل عليه القرآن فقد روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بينا أيوب يغتسل عرياناً خر عليه جراد من ذهب فجعل أيوب يحثي في ثوبه فناداه يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ قال: بلى وعزتك ولكن لا غنى لي عن بركتك"2. وروي أيضاً من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أدنى أهل الجنة منزلة رجل يخالف الله وجهه عن النار قبل الجنة، ومثل له شجرة ذات ظل فقال: أي رب قدمني إلى هذه الشجرة أكون في ظلها قال الله ـ عز وجل ـ له هل عسيت إن فعلت أن تسأل غيره؟ قال لا وعزتك فيقدمه الله ـ تعالى ـ إليها، ومثل له ذات ظل وثمر فقال: أي رب قدمني إلى هذه الشجرة أكون في ظلها وآكل من ثمرها قال الله هل عسيت إن أعطيتك ذلك أن تسألني غيره؟ قال لا وعزتك فيقدمه الله إليها فيمثل له شجرة أخرى ذات ظل وثمر وماء فيقول: أي رب قدمني إلى هذه الشجرة أكون في ظلها وآكل من ثمرها وأشرب من ماءها فيقول الله ـ عز وجل ـ هل عسيت إن فعلت أن تسألني غيره؟ فيقول: لا وعزتك لا أسألك غيره فيقدمه الله ـ تعالى ـ إليها .... " الحديث3. وروى أبو داود4 في سننه من حديث عثمان بن أبي العاص الثقفي قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبي وجع قد كاد أن يبطلني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجعل يدك اليمنى عليه   1- بدائع الفوائد لابن القيم: 2/185. 2- صحيح البخاري 1/61، وسنن النسائي 1/201، والمسند 2/243. 3- صحيح البخاري 4/284، وأحمد في المسند 1/394. 4- هو: سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير الأزدي السجستاني أبو داود إمام أهل الحديث في زمنه، وهو أحد أئمة الحديث الستة ولد سنة اثنتين ومائتين وتوفي سنة خمس وسبعين ومائتين هجرية. انظر ترجمته في: "تذكرة الحفاظ للذهبي 2/591 ـ 593، تاريخ بغداد 9/55 -59، وفيات الأعيان 1/214". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 ثم قل: بسم الله أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد سبع مرات" ففعلت فشفاني الله ـ عز وجل ـ1. وروى البخاري: بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت، وإليك أنبت وبك خاصمت أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت الحي الذي لا يموت والجن والإنس يموتون" 2. وروى البخاري أيضاً: من حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم "تقول جهنم قطٍ، قط3 وعزتك" 4. فهذا الحديث بين فيه النبي صلى الله عليه وسلم أن جهنم تحلف بعزة الله ـ جل وعلا ـ وهو دليل واضح على إثبات هذه الصفة، كما أنه دليل على جواز الحلف بعزة الله، وغيرها من الصفات مثلها، يجوز الحلف بها. والذي نخلص إليه مما تقدم من آيات قرآنية، وأحاديث نبوية صحيحة يتبين لنا أن الله ـ تعالى ـ أثبت لنفسه صفة العزة كما أثبتها له أنبياؤه ورسله وملائكته كما قال جبريل عليه السلام حين رأى الجنة وما أعد فيها لأهلها: وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها ... " الحديث5 كما أثبتها له عباده المؤمنون الموحدون ولم ينكرها إلا من أشرب قلبه بمذهب التعطيل من الجهمية والمعتزلة فصفة العزة ثابتة لله ـ تعالى ـ بالأدلة القطعية التي لا تقبل المراء ولا الجدال فلا يمكن أن يكون أحد من الخلق معتزاً إلا به ـ تبارك وتعالى ـ. ولا عزة لأحد إلا هو مالكها ـ جل وعلا ـ ومن يريد العزة فليطلبها من الله، ولا يمكن أن ينالها أحد إلا بطاعته ـ ربه وسبحانه وتعالى ـ ولذلك أثبتها الله لرسوله ولعباده وأوليائه المؤمنين الذين أخلصوا له العبادة وأطاعوه حق الطاعة طمعاً في ثوابه وفراراً من عقابه والتزموا نهج الكتاب والسنة، واتبعوا ما عليه سلف الأمة في إثبات صفات الله ـ تعالى ـ التي نطق بها الكتاب ونطقت بها السنة وأذاعها السلف في جميع الأمة، وبعد هذه الأدلة   1- 2/338، والبيهقي في الأسماء والصفات ص165. 2- صحيح البخاري مع الفتح 13/368. 3- قال في النهاية: قط، قط: بمعنى: حسب وتكرارها للتأكيد 4/78. 4- صحيح البخاري مع الفتح 13/368. 5- رواه أحمد في المسند من حديث أبي هريرة رضي الله عنه 2/333. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 القاطعة المقنعة لا يبقى أي مدخل لمن يقول: إن الله ـ عزيز ـ بلا عزة ـ قدير ـ بلا قدرة لأن هذه الأدلة الجمة تبطل زعمهم، وترد مقالتهم الباطلة كما ترد مذهب الجهمية الذين ينكرون الأسماء والصفات، كما تبين فساد قول القائلين بتأويل صفاته ـ تعالى ـ بمعان غير واردة، أو فرق بينها بأن أثبت بعضها على ما يليق بالله ـ تعالى ـ وادعى وجوب تأويل البعض الآخر كما فعل ذلك بعض الطوائف1 وهو تصرف خاطئ، ولا شك أن أدلة الكتاب والسنة وإجماع المؤمنين من هذه الأمة كل ذلك صفعة لهم على رؤوسهم وإبطال لكل انتحالاتهم فعلى كل الفرق التي ضلت في صفات الله ـ تعالى ـ تبعاً للهوى والرأي الفاسد أن ترجع إلى الصواب وتؤمن بما جاء في الكتاب والسنة وما عليه سلف الأمة، من الإيمان بالأسماء والصفات وتبتعد عن التمثيل، والتعطيل وعن التحريف، والتكييف ومن ثم لا يترتب على ذلك أي محذور يتصورونه بأفكارهم الضيقة لأنه ـ تعالى ـ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 2.   1- مثل الأشعرية الكلابية، انظر "مقالات الإسلاميين" 1/249 وما بعدها. 2- سورة الشورى، آية: 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 المبحث الخامس: إثبات صفة الحكمة لقد دلت السورة على إثبات صفة الحكمة ـ للباري جل وعلا ـ في أول آية منها: قال تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} فاسمه ـ تعالى ـ "الحكيم" دل على صفة الحكمة ـ للرب جل جلاله ـ، واسمه ـ تعالى ـ "الحكيم" مأخوذ من الحكمة وله معنيان: أحدهما: بمعنى القاضي العدل الحاكم بين خلقه بأمره الديني الشرعي وأمره الكوني القدري وله الحكم في الدنيا والآخرة. الثاني: أنه المحكم للأمر كي لا يتطرق إليه الفساد1. قال ابن القيم رحمة الله عليه: الحكمة حكمتان علمية، وعملية فالعلمية الإطلاع على بواطن الأشياء ومعرفة ارتباط الأسباب بمسبباتها خلقاً وأمراً وقدراً، أو شرعاً. والعملية: وضع الشيء في موضعه"2. قال الزجاج3: الحاكم والحكم واحد كالواسط، والوسط وأصل الحكم المنع،   1- النهاية لابن الأثير 1/418-419. 2- مدارج السالكين 2/478 ـ 479. 3- هو: أبو إسحاق إبراهيم بن السري بن سهل الزجاج النحوي كان من أهل العلم بالأدب، والدين كان يخرط الزجاج في بغداد وإليه نسبته، ولد سنة إحدى وأربعين ومائتين وتوفي سنة إحدى عشرة وثلاثمائة للهجرة. انظر ترجمته في "وفيات الأعيان 1/11، وله ترجمة في أول كتابه "أسماء الله الحسنى" تحقيق أحمد يوسف الدقاق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 ومنه الحكمة لأنها تمنع الفرس من التمرد، وكذا الحكمة تمنع الرجل عن السفاهة، ومنه الحكم لأنه يمنع الخصمين عن التعدي ومنه قولهم "في بيته يؤتى الحكم"1. فاسمه ـ تعالى ـ الحكيم من لوازمه ثبوت الغايات المحمودة المقصودة له بأفعاله ووضعه الأشياء في مواضعها وإيقاعها على أحسن الوجوه فإنكار ذلك إنكار لهذا الإسم ولوازمه، وكذلك سائر أسمائه الحسنى"2. "فأسماء ـ الرب تبارك وتعالى ـ دالة على صفات كماله فهي مشتقة من الصفات فهي أسماء وهي أوصاف وبذلك كانت حسنى إذ لو كانت ألفاظاً لا معاني فيها لم تكن حسنى ولا كانت دالة على مدحٍ ولا كمال، ولساغ وقوع أسماء الإنتقام والغضب في مقام الرحمة والإحسان وبالعكس فيقال: "اللهم إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت المنتقم واللهم أعطني فإنك أنت الضار والمانع ونحو ذلك"3. فصفة الحكمة من صفاته ـ تعالى ـ القائمة به كسائر صفاته الأخرى من السمع، والبصر والقدرة، والإرادة والعلم، والحياة والكلام وهذه الحكمة هي التي أمر لأجلها وخلق لأجلها، وقدر لأجلها ـ سبحانه وتعالى ـ. والحكمة نوعان: أحدهما: حكمة في خلقه وهي نوعان: الأول: إحكام هذا الخلق وإيجاده في غاية الإحكام والإتقان. الثاني: صدوره لأجل غاية محمودة مطلوبة له ـ جل وعلا ـ وهي التي أمر لأجلها، وخلق لأجلها. النوع الثاني: الحكمة في شرعه وهي تنقسم إلى قسمين أيضاً: الأول: كونها في غاية الإحسان والإتقان. الثاني: صدورها لغاية مطلوبة وحكمة عظيمة يستحق عليها الحمد.   1- تفسير أسماء الله الحسنى ص43. 2- مدارج السالكين 1/31. 3- المصدر السابق 1/28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 وقد أشار إلى هذه الأنواع العلامة ابن القيم حيث قال: والحكمة العليا على نوعين ... أيضاً حصلا بقواطع البرهان إحداهما في خلقه سبحانه ... نوعان أيضاً ليس يفترقان إحكام هذا الخلق إذ إيجاده ... في غاية الإحكام والإتقان وصدوره من أجل غايات له ... وله عليها حمد كل لسان والحكمة الأخرى فحكمة شرعه ... أيضاً وفيها ذلك الوصفان غاياتها اللاّتي حمدن وكونها ... في غاية الإتقان والإحسان1 وأوجد كل شيء على أدق نظام، وأحكم إتقان، خلق فسوى وقدر فهدى، وخلق الإنسان في أحسن تقويم، وخلق سبع سموات طباقاً ما ترى في خلقه من تفاوت ولا فطور زين السماء الدنيا بمصابيح وجعلها رجوماً للشياطين وأنبت من الأرض نباتاً يسقى بماء واحد، ويحيط به جو واحد، وتحتضنه تربة واحدة، ولكن منه الحلو اللذيذ السائغ والمر الكريه الذي تتقزز منه النفوس، خلق من الماء كل شيء حي. ونوع الأحياء المتفقة في أصلها أنواعاً لا يدركها حصر ولا يحصيها عد، وفي كل شيء في السماء والأرض آية بينة شاهدة على إتقانه ـ سبحانه ـ لما صنع ويكفينا آية أنه خلق هذا الإنسان الذي ألهمه اختراع الكثير من الآيات والأجهزة الدقيقة، وغير ذلك من الأمور المخترعة ـ فسبحان ربنا ـ إنه هو الحكيم العليم. وإذا نظرنا إلى تفسير اسمه ـ تعالى ـ "الحكيم" بمعنى ذي الحكمة الذي بعلمه وحكمته يضع الأشياء في مواضعها فقد وضع ـ الحكيم العليم سبحانه ـ كل شيء في الموضع الذي لا يصلح إلا له، ولا يليق إلا به، ولو اجتمع علماء الدنيا بأسرها على اختلاف تخصصهم في العلوم على أن يضعوا شيئاً مما وضعه أحكم الحاكمين في مكان خير من مكانه لضل سعيهم وباؤوا بالخسران في مسعاهم، فليفكر الإنسان في كل أعضائه فهل يجد لعضو من أعضائه مكاناً خيراً من المكان الذي وضعه فيه أحسن الخالقين؟. كما عليه أن يفكر في أن الله وضع للحيوان الذي يعيش في البحر أعضاء توائم حياته في الماء ووضع لحيوان البر ما يناسبه ولطير الهواء ما يلزمه، ولحشرات الأرض ما به تتم   1- القصيدة النووية مع شرحها توضيح المقاصد وتصحيح القواعد 2/226. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 حياتها، وليس المقصود هنا حصر مظاهر حكمة الله فيما خلق من المخلوقات، وإنما نقصد بهذا أن نلفت نظر القائلين بأن الله لم يخلق الخلق لحكمة ـ تعالى الله ـ عن ذلك علواً كبيراً، ومن أراد الإطلاع بتوسع على مظاهر حكمة الله في خلقه "فليقلب" كتاب مفتاح دار "السعادة" لابن القيم فإنه جمع فيه من مظاهر حكمة الله في خلقه ما لا يتسع له هذا المقام. وإذا نظرنا إلى تفسير اسمه ـ تعالى ـ "الحكيم" من حكم على الشيء بأنه كذا، أو ليس كذا، فإنه لا يستطيع أحد أن يحكم على الأشياء بخواصها ومميزاتها، ومنافعها، ومضارها إلا الله ـ تعالى ـ لأنه ـ وحده العليم ـ بظواهر الأشياء وبواطنها ومزاياها ومثالبها لأنه خالقها، والعليم بأسرارها، الخبير بخفاياها فحكمه ـ تعالى ـ عليها أصدق الحكم قال تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} 1. فصفة الحكمة أثبتها الله ـ تعالى ـ لنفسه في أكثر من ثمانين موضعاً في كتابه الدال عليها اسمه ـ تعالى ـ الحكيم وهي كما قدمنا قريباً قائمة به ـ سبحانه وتعالى ـ كسائر صفاته الأخرى وهذا ما يجب اعتقاده في هذه الصفة. قال تعالى: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} 2. قال العلامة ابن كثير: أي: "العليم بكل شيء الحكيم في خلقك وأمرك، وفي تعليمك ما تشاء، ومنعك ما تشاء لك الحكمة في ذلك والعدل التام"3. وقال تعالى مثبتاً لنفسه صفة الحكمة المقرونة بصفة العزة: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} 4. وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم} 5.   1- سورة الملك، آية: 14. 2- سورة البقرة، آية: 32. 3- تفسير القرآن العظيم: 1/128. 4- سورة البقرة، آية: 209. 5- سورة آل عمران، آية: 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 وقال تعالى: {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 1. ففي هذه الآية شهد ـ تعالى ـ لنفسه بالألوهية والوحدانية، ثم بين بأنه موصوف بالعزة والحكمة. وقال تعالى: {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} 2. وقال تعالى: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} 3. وفي هاتين الآيتين أخبر ـ تعالى ـ عن نفسه بأنه موصوف بصفة الحكمة والعلم. وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} 4. وفي هذه الآية الكريمة وصف الله نفسه بأنه العلي على جميع خلقه الحكيم في خلقه وتدبيره وأمره ونهيه. والآيات الواردة في إثبات صفة الحكمة كثيرة فهو ـ سبحانه ـ حكيم في خلقه وتدبيره وأمره ونهيه وشرعه، وقدره، وأهل السنة مجمعون على أنه ـ تعالى ـ موصوف بالحكمة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ: " أجمع المسلمون على أن الله ـ تعالى ـ موصوف بالحكمة، ولكن تنازعوا في تفسير ذلك فقالت طائفة: الحكمة ترجع إلى علمه بأفعال العباد وإيقاعها على الوجه الذي أراده ولم يثبتوا إلا العلم والإرادة والقدرة. وقال الجمهور من أهل السنة وغيرهم: بل هو حكيم في خلقه وأمره والحكمة ليست مطلق المشيئة إذ لو كان كذلك لكن كل مريد حكيماً، ومعلوم أن الإرادة تنقسم إلى محمودة ومذمومة بل تتضمن ما في خلقه وأمره من العواقب المحمودة، والغايات المحبوبة   1- سورة آل عمران، آية: 18. 2- سورة الأنعام، آية: 83. 3- سورة الممتحنة، آية: 10. 4- سورة الشورى، آية: 51. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 والقول بإثبات هذه الحكمة ليس هو قول المعتزلة ومن وافقهم من الشيعة1 فقط بل هو قول جماهير طوائف المسلمين من أهل التفسير والفقه والحديث والتصوف والكلام وغيرهم فأئمة الفقهاء متفقون على إثبات الحكمة والمصالح في أحكامه الشرعية وإنما تنازع في ذلك طائفة من نفاة القدر وغير نفاته، وكذلك ما في خلقه من المنافع والحكم والمصالح لعباده معلوم" أ. هـ 2. وقد أنكر ـ سبحانه ـ على من نسب إلى حكمته التسوية بين المختلفين فقال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} 3. وقال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} 4. هاتان الآيتان: دلتا على أن التسوية بين المختلفين حكم سيء ينزه ـ الباري جل وعلا ـ عنه ولم ينكره ـ تعالى ـ من جهة أنه لا يكون، وإنما أنكره من جهة قبحه في نفسه، وأنه حكم سيء يتعالى ويتنزه عنه لمنافاته لحكمته وغناه وكماله، ووقوع أفعاله كلها على السداد والصواب والحكمة، فلا يليق به أن يجعل البر كالفاجر، ولا المحسن كالمسيء، ولا المؤمن كالمفسد في الأرض فدل على أن هذا قبيح في نفسه ـ تعالى الله ـ عن فعله، ومن هذا أيضاً: إنكاره ـ سبحانه ـ على من جوز أن يترك عباده سدى فلا يأمرهم ولا ينهاهم، ولا يثيبهم، ولا يعاقبهم، وإن هذا الحسبان باطل، والله متعال عنه لمنافاته لحكمته، وكماله كما قال تعالى: {أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} 5   1- الشيعة: هم الذين شايعوا علياً رضي الله عنه على الخصوص، وقالوا بإمامته وخلافته نصاً ووصية، إما جلياً، وإما خفياً، واعتقدوا أن الإمامة لا تخرج من أولاده، وإن خرجت فبظلم يكون من غيره، أو بتقية من عندهم، وقالوا: ليست الإمامة قضية مصلحية تناط باختيار العامة وينتصب الإمام بنصبهم بل هي قضية أصولية ... وهم فرق متعددة بعضهم يميل في الأصول إلى الإعتزال، وبعضهم إلى السنة وبعضهم إلى التشبيه. انظر: "الملل والنحل" 1/146، وانظر: "مقالات الإسلاميين" 1/65 وما بعدها. 2- منهاج السنة النبوية 1/34 ـ 35، وانظر: الرسالة الثامنة "الإرادة والأمر ضمن مجموعة الرسائل الكبرى" 1/331 ـ 332. 3- سورة ص، آية: 28. 4- سورة الجاثية، آية: 21. 5- سورة القيامة، آية: 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 وقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: "أي مهملاً لا يؤمر ولا ينهى"1. وقال غيره: لا يثاب ولا يعاقب، والقولان واحد لأن الثواب والعقاب غاية الأمر والنهي فهو ـ سبحانه ـ خلقهم للأمر والنهي في الدنيا والثواب في الآخرة. فأنكر ـ سبحانه ـ على من زعم أنه يترك سدى إنكار من جعل في العقل استقباح ذلك واستهجانه وأنه لا يليق أن ينسب ذلك إلى أحكم الحاكمين، ومثله قوله ـ تعالى ـ: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} 2. فنزه نفسه ـ سبحانه ـ: "وباعدها عن هذا الحسبان، وأنه يتعالى عنه ولا يليق به لقبحه ولمنافاته لحكمته وملكه وإلهيته" أ. هـ3. فالله تعالى ـ لا يخلق شيئاً إلا لحكمة بالغة قد تغيب عن فهم الإنسان وقد يعييه إدراكها: قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوات وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} 4. وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} 5. وللناس في صفة الحكمة آراء ثلاثة: 1 ـ زعم الأشاعرة6 والفلاسفة أن الله ـ تعالى ـ لا يفعل شيئاً لغرض وليس له غاية   1- الأم للشافعي: 7/271. 2- سورة المؤمنون، آية: 115 ـ 116. 3- مفتاح دار السعادة: 2/11 ـ 12. 4- سورة الدخان، آية: 38 ـ 39. 5- سورة ص، آية: 27. 6- هم المنتسبون إلى أبي الحسن الأشعري، وأبو الحسن هذا مر بأطوار ثلاثة حيث نشأ في أول أمره على الإعتزال، وقد تتلمذ فيه على "أبي علي الجبائي" ثم أيقظ الله بصيرته، وهو في منتصف عمره تقريباً وبداية نضجه، فأعلن رجوعه عن طريقة الإعتزال، ثم سلك طريقاً وسطاً بين طريقة الجدل والتأويل، وطريقة السلف، ثم محض طريقته وأخلصها لله بالرجوع الكامل إلى طريقة السلف ومن الإنصاف أن لا ينسب إليه الأشعرية، وإنما ينسبون إليه على اعتبار طوره الثاني إذن فالأشعرية غير الأشعري. أنظر في شأن الأشعرية "الملل والنحل" 1/94 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 يقصدها تكون باعثة له على فعله بل كل ما يصدر عنه ـ تعالى ـ إما بإرادة قديمة اقتضت وقوع هذا العالم على هذا النحو دون غيره وهذا قول الأشاعرة. وإما أن يكون بتمثل النظام الكلي في علمه ـ تعالى ـ السابق مع وقته الواجب اللائق عند الفلاسفة1. والفرق بين قول الأشاعرة والفلاسفة واضح وهو أن الفلاسفة ينفون عن الله ـ تعالى ـ القصد إلى الفعل، ويقولون بأن كل فاعل بالقصد مستكمل به وله غرض في فعله. وأما الأشاعرة: فيقولون: بالقصد ولا يقولون بأنه مستلزم للغرض لأنهم يجوزون ترجيح القادر المختار لأحد مقدوريه بدون مرجح أصلاً 2. وحجة الفريقين: الفلاسفة والأشاعرة على نفي الغرض في أفعاله ـ سبحانه وتعالى ـ بأنه لو خلق الخلق لعلة لكان ناقصاً بدونها مستكملاً بها، فإنه إما أن يكون وجود تلك العلة وعدمها بالنسبة إليه سواء، أو يكون وجودها أولى به. فإن كان الأول امتنع أن يفعل لأجلها، وإن كان الثاني ثبت أن وجودها أولى به فيكون مستكملاً بها فيكون قبلها ناقصاً3. قال ابن سيناء 4: "تنبيه: اعلم أن الشيء الذي إنما يحسن به أن يكون عنه شيء آخر، ويكون ذلك أولى به، وأليق من أن لا يكون فإنه إذا لم يكن ما هو أولى وأحسن به مطلقاً وأيضاً لم يكن ما هو أولى وأحسن به مضافاً فهو مسلوب كمال ما يفتقر فيه إلى الكسب"5. وهذه الحجة التي رددها الفلاسفة والأشاعرة قام بتفنيدها شيخ الإسلام ابن تيمية وبين بطلانها ونقضها من وجوه عدة:   1- انظر الإشارات لابن سيناء 3/131. 2- غاية المرام للآمدي ص224، وانظر شرح حديث النزول ص174. 3- المحصل للرازي ص149، وانظر "مجموعة الرسائل الكبرى" الرسالة الثامنة الإرادة والأمر 1/327. 4- هو أبي علي الحسين بن عبد الله بن سيناء المتوفى في سنة 427 هـ. 5- الإشارات 3/122. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 الوجه الأول: أن قولهم لو خلق الخلق لعلة لكان ناقصاً بدونها مستكملاً بها منقوض بنفس ما يفعله من المفعولات، فإنه يمكن أن يقال: فيها أيضاً إما أن يكون وجودها وعدمه بالنسبة إليه سواء أو لا يكون، فإن كان الأول امتنع صدورها عنه، وإن كان الثاني كان مستكملاً بها فما كان جواباً في المفعولات كان جواباً عن هذا ونحن لا نعقل في الشاهد فاعلاً إلا مستكملاً بفعله. الوجه الثاني: أن مقتضى الكمال أن يكون ـ الباري ـ لا يزال قادراً على الفعل بحكمة فلو قدر كونه غير قادر على ذلك لكان نقصاً. الوجه الثالث: قول القائل إنه مستكمل بغيره باطل، فإن ذلك إنما حصل بقدرته ومشيئته لا شريك له في ذلك فلم يكن في ذلك محتاجاً إلى غيره، وإذا قيل كمل بفعله الذي لا يحتاج فيه إلى غيره كان كما قيل: كمل بذاته، أو صفاته فهو مثلاً إذا فرح بتوبة عبده التائب وأحب من تقرب إليه بالنوافل ورضي عن السابقين الأولين، ونحو ذلك لم يجز أن يقال: إنه مفتقر في ذلك إلى غيره، أو مستكمل بسواه، فإنه هو الذي خلق هؤلاء وهداهم وأقدرهم حتى فعلوا ما يحبه ويرضاه ويفرح به. الوجه الرابع: قول القائل كان قبل ذلك ناقصاً إن أراد به عدم ما تجدد، فلا نسلم أن عدمه قبل ذلك الوقت الذي اقتضت الحكمة وجوده فيه، يكون ناقصاً، وإن أراد بكونه ناقصاً معنى غير ذلك فهو ممنوع بل يقال عدم الشيء في الوقت الذي لم تقتض الحكمة وجوده فيه كمال أيضاً، فليس عدم كل شيء نقصاً، بل عدم ما لا يصلح وجوده وهو النقص كما أن وجود ما لا يصلح وجوده نقص، فتبين أن وجود هذه الأمور حين اقتضت الحكمة عدمها هو النقص لا أن عدمها هو النقص1 فهذه حجة الفلاسفة والأشعرية قد نقضها شيخ الإسلام ابن تيمية وهي حجة فلسفية بحتة سرعان ما انهارت أمام مناقشتها بما أورد عليها من الوجوه القوية التي تبين أن الله ـ تعالى ـ موصوف بالحكمة. 2 ـ المذهب الثاني: مذهب المعتزلة: وهم يثبتون لله ـ تعالى ـ الحكمة في خلقه وفي أمره غير أنهم لا يقولون إنها صفة قائمة بذاته ـ تعالى ـ بل يقولون: إنها مخلوقة منفصلة عنه، فيزعمون مثلاً أن الحكمة في وجود الخلق هو الإحسان إليهم والحكمة في   1- مجموعة الرسائل والمسائل: 5/162ـ 163. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 تكليفهم هو أنهم يعرضون للثواب ويقولون: إن الإحسان إلى الغير حسن محمود في العقل فخلق الله الخلق لهذه الحكمة من غير أن يعود عليه هو من ذلك مصلحة1 وهذا المذهب المعتزلي بين شيخ الإسلام بأنه متناقض لأن الإحسان إلى الغير إنما كان محموداً لكونه يعود منه إلى فاعله حكم يحمد لأجله إما لتكميل نفسه بذلك، وإما لرقة وألم يجده في نفسه يدفع بذلك الإحسان الألم، وإما لالتذاذه وسروره وفرحه بالإحسان فإن نفس الكريمة تفرح وتسر وتلتذ بالخير الذي يحصل منها إلى غيرها، فالإحسان إلى الغير محمود لكون المحسن يعود إليه من فعله هذه الأمور حكم يحمد لأجله. أما إذا قدر أن وجود الإحسان وعدمه بالنسبة إلى الفاعل سواء لم يعلم أن هذا الفعل يحسن منه، بل مثل هذا يعد عبثاً في عقول العقلاء وكل من فعل فعلاً ليس لنفسه لذة ولا مصلحة ولا منفعة بوجه من الوجوه لا عاجلة ولا آجلة كان عبثاً، ولم يكن محموداً على هذا. ولذلك لم يأمر الله ـ تعالى ـ ولا رسوله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من العقلاء أحداً بالإحسان إلى غيره ونفعه إلا لما في ذلك من المنفعة والمصلحة وإلا فأمر الفاعل بفعل لا يعود إليه منه لذة ولا سرور، ولا منفعة ولا فرح بوجه من الوجوه لا في العاجل ولا في الآجل لا يستحسن من الآمر 2. 3 ـ المذهب الثالث: مذهب عبد الله بن كلاب3 وأتباعه: فهذا الرجل وأتباعه يثبتون حكمة وغاية قائمة بذاته ـ تعالى ـ ولكنهم يقولون: بأنها قديمة غير ملازمة للمفعول، ويزعمون أن إرادة الله وحبه ورضاه وغضبه وسخطه ورحمته وكرمه وغير ذلك قديم فهو ـ سبحانه ـ لم يزل راضياً عمن علم أنه يموت مؤمناً، ولم يزل ساخطاً على من مات كافراً. وهذا القول باطل: لأن الله ـ تعالى ـ إذا كان راضياً في أزله ومحباً وفرحاً بما يحدثه قبل أن يحدثه، فإذا أحدثه هل حصل له بإحداثه حكمة يحبها ويرضاها ويفرح بها، أو لم   1- مجموعة الرسائل والمسائل 5/291. ط: دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ لبنان ـ المحصل للرازي ص205 ـ 206. 2- مجموعة الرسائل الكبرى" الرسالة الثامنة الإرادة والأمر" 1/332. 3- هو: عبد الله بن سعيد التميمي البصري رأس الطائفة الكلابية توفي سنة أربعين ومائتين هجرية، انظر ترجمته في: "طبقات الشافعية الكبرى" لابن السبكي 2/299. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 يحصل إلا ما كان في الأزل فإن قالوا إنه لم يحصل إلا ما كان في الأزل، قبل ذلك كان حاصلاً بدون ما أحدثه من المفعولات فامتنع أن تكون المفعولات قد فعلت لكي يحصل ذاك فقولهم: "هذا يتضمن أن المفعولات تحدث بلا سبب يحدثه الله، كذلك يتضمن أن الله يفعلها بلا حكمة يحبها ويرضاها"1. فهذه المذاهب الثلاثة كما رأينا ليس عند أصحابها أدلة قوية تثبت أقوالهم في صفة الحكمة، بل كلها انتحالات فلسفية مبنية على شفا جرف هاوٍ كلها انهارت بما أورد عليها من مناقشات صارمة فلم يبق إذن إلا المذهب الحق الصحيح وهو ما عليه أهل السنة الذي شهدت له النصوص الكثيرة من أن لله ـ تعالى ـ حكمة تتعلق به يحبها ويرضاها ويفعل لأجلها فهو ـ سبحانه ـ وتعالى يفعل ما يفعل لحكمة يعلمها وهو يعلِّم العباد أو بعضهم من حكمته ما يطلعهم عليه وقد لا يعلمون ذلك والأمور العامة التي يفعلها تكون لحكمة عامة ورحمة عامة كإرساله محمداً صلى الله عليه وسلم فإنه كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} 2 ولو قال إنسان: ما رسالة النبي صلى الله عليه وسلم تضررت منها طوائف كثيرة من الناس كالذين كذبوه من أهل الكتاب والمشركين فالرد على هذا أنهم انتفعوا بحسب الإمكان حيث أضعف شرهم الذي كانوا يعملونه ولولا الرسالة بإظهار الحجج القاطعة، والآيات البينة التي زلزلت ما في قلوبهم، وبالجهاد والجزية صاروا أذلاء صاغرين لكان شرهم أشد وأعظم والضرر الذي حصل لهم شيء يسير بجانب ما حصل لهم من النفع الكثير، ومثل ذلك كنزول المطر الذي يعم نفعه البلاد والعباد، ويحصل منه خراب بعض البيوت، أو حبس بعض المسافرين والمكتسبين فما كان نفعه ومصلحته عامة كان خيراً مقصوداً ورحمة محبوبة ولو تضرر به بعض الناس فكل ما حدث في الوجود من الضرر لا بد أن يكون فيه حكمة كما قال ـ سبحانه ـ {صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} 3، وكما قال ـ سبحانه ـ: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} 4 والضرر الذي تحصل به حكمة مطلوبة لا يكون شراً مطلقاً، وإن كان شراً بالنسبة إلى من تضرر به، ولهذا لا يأتي في كلام الله وكلام رسوله إضافة الشر وحده إلى الله وإنما يذكر على أحد وجوه ثلاثة:   1- مجموعة الرسائل والمسائل 5/164. 2- سورة الأنبياء، آية: 107. 3- سورة النمل، آية: 88. 4- سورة السجدة، آية: 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 الوجه الأول: أن يكون داخلاً في عموم المخلوقات فإذا دخل في العموم أفاد عموم القدرة والمشيئة والخلق وتضمن ما اشتمل عليه من حكمة تتعلق بالعموم وذلك مثل قول الله ـ تعالى ـ {اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} 1. الوجه الثاني: أن يكون مضافاً إلى السبب كقوله تعالى: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} 2 وقوله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} 3. الوجه الثالث: أن يحذف فاعله ومثال ذلك قول الجن {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} 4ولم ينكر صفة الحكمة بالكلية إلا الجهمية فإنهم أصروا على قولهم بأنه ـ تعالى ـ خلق المخلوقات وأمر بالمأمورات لا لعلة ولا لداع ولا لباعث بل فعل ذلك لمحض المشيئة وصرف الإرادة، قال العلامة ابن القيم مبيناً مذهبهم الفاسد. وكذلك قالوا ما له من حكمة ... هي غاية للأمر والإتقان ما ثم غير مشيئة قد رجحت ... مثلاً على مثل بلا رجحان5 والنافون للحكمة والتعليل ليس معهم دليل من كتاب أو سنة، أو إجماع فنفيهم صفة الحكمة مخالف للكتاب والسنة والإجماع والعقل الصحيح والفطرة المستقيمة. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "وجمهور الأمة يثبت حكمته ـ سبحانه ـ والغايات المحمودة في أفعاله فليس مع النفاة سمع ولا عقل ولا إجماع بل السمع والعقل والإجماع والفطرة تشهد ببطلان قولهم والله الموفق للصواب وجماع ذلك أن كمال ـ الرب ـ وجلاله وحكمته وعدله ورحمته وقدرته وإحسانه وحمده ومجده وحقائق أسمائه الحسنى تنفي ذلك وتشهد ببطلانه"6.   1- سورة الرعد، آية: 16. 2- سورة الفلق، آية: 2. 3- سورة آل عمران، آية: 165. 4- مجموعة الرسائل الكبرى 1/335 ـ 337 والآية رقم: 10 من سورة الجن. 5- القصيدة النونية مع شرحها "توضيح المقاصد وتصحيح القواعد" 1/64 ـ 65. 6- شفاء العليل ص204. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 والذي نخلص إليه مما تقدم أن الله ـ تعالى ـ موصوف بالحكمة وأن كل شيء خلقه أو أمر به فيه حكمة عظيمة، وحتى ما ينزل بالمخلوق من الشر لا يخلو من حكمة الله التي تبهر العقول وتزيد المؤمن إيماناً كما تبين صدق ما أخبر به الله ـ تعالى ـ {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} 1.   1- سورة فصلت، آية: 53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 المبحث السادس: تنزيه الله تعالى من نسبة الولد إليه إن نسبة الولد إلى الله ـ تعالى ـ "فرية مكذوبة اشترك في القول بها اليهود والنصارى ومشركو العرب، وكذلك قول الفلاسفة الصابئة في العقول العشرة والنفوس الفلكية التسعة شبيه بقول مشركي العرب وغيرهم الذين جعلوا له بنين وبنات بغير علم" 1 فاليهود عليهم لعائن الله: زعموا أن عزيراً ابن الله. والنصارى الضالون قالوا: المسيح ابن الله. والجهلة من مشركي العرب قالوا: الملائكة بنات الله تعالى الله عن قول هؤلاء جميعاً علواً كبيراً. ولقد حكى القرآن الكريم زعم اليهود والنصارى من مشركي العرب ورد عليهم رداً مفحماً وبين بطلان هذا الزعم حتى أسكتهم ولنبدأ بما ورد في السورة من إبطال تلك الفرية. قال تعالى: {لَوْ أَرَادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} . هذه الآية من السورة تبين أنه ـ سبحانه ـ لا ولد له كما تفوه بذلك الجهلة من المشركين ونطق بذلك المعاندون من اليهود والنصارى في العزير وعيسى فالله ـ تعالى ـ نزه نفسه عن أن يكون له ولد لأنه الواحد الأحد الفرد الصمد ـ سبحانه ـ الغني عن كل ما سواه قهر الأشياء كلها فدانت له وذلت وخضعت: {سُبْحَانَهُ هُوَ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} .   1- درء تعارض العقل والنقل 1/36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 وعلى الفرض الجدلي الذي يقبله العقل ـ الضعيف ـ أن الرب جل وعلا ـ لو أراد أن يتخذ ولداً لاصطفاه ـ سبحانه ـ من بين خلقه لأن إرادته مطلقة والأمر ليس بحاجة إلى إقرار أو اقتراح من البشر ولكن مشيئته ـ تعالى ـ لم تتجه إلى هذا الاصطفاء لأنه الواحد القهار فهو الذي أبدع هذا الكون من العدم فما حاجته إلى الولد؟ والولد إنما هو امتداد لمن كتب الله عليه الفناء، والمحتاج إلى المعين والنصير، وقد اقتضت حكمة القادر العليم أن التكاثر في النوع الإنساني وغيره من المخلوقات لا بد له من صاحبة من جنسه، فكيف يكون لله ولد ولم تكن له صاحبة، فقد تفرد ـ سبحانه ـ بالألوهية {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1. قال: العلامة ابن جرير رحمه الله ـ تعالى ـ: {لَوْ أَرَادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} يقول تعالى ذكره: لو شاء الله اتخاذ ولد ولا ينبغي له ذلك، لاصطفى مما يخلق ما يشاء، يقول: لاختار من خلقه ما يشاء وقوله: {سُبْحَانَهُ هُوَ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} يقول: تنزيهاً لله عن أن يكون له ولد، وعما أضاف إليه المشركون به من شركهم {هُوَ اللهُ} يقول: هو الذي يعبده كل شيء ولو كان له ولد لم يكن له عبداً يقول: فالأشياء كلها له ملك فأنَّى يكون له ولد، وهو الواحد الذي لا شريك له في ملكه وسلطانه، والقهار لخلقه بقدرته فكل شيء متذلل، ومن سطوته خاشع. أ. هـ2. وقال ابن كثير: {لَوْ أَرَادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} أي لكان الأمر على خلاف ما يزعمون وهذا شرط لا يلزم وقوعه بل هو محال وإنما قصد تجهيلهم فيما ادعوه وزعموه كما قال عز وجل: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} 3 {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} 4 كل هذا من باب الشرط ويجوز تعليق الشرط على المستحيل لمقصد المتكلم أ. هـ5. وهكذا نرى أن الآية الواردة في السورة تنفي مزاعم القائلين بأن لله ولداً، ولو أراد ـ سبحانه ـ تسمية أحد من خلقه بذلك ما جعله ـ عز وجل ـ إلى أحد من خلقه ـ تعالى الله ـ   1- سورة الشورى، آية: 11. 2- جامع البيان عن تأويل آي القرآن 23/192. 3- سورة الأنبياء، آية: 17. 4- سورة الزخرف، آية: 81. 5- تفسير القرآن العظيم: 6/79. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 عن ذلك علواً كبيراً لأنه صاحب الكمال المطلق المستغني عن الصاحبة والولد ومن هذا شأنه من حقه أن يفرد بالعبادة وحده لا شريك له. فقد نزه نفسه وبرأها عن قول السفهاء من الخلق كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية أثناء حديثه عن تنزيه الله ـ عز وجل ـ عن الشركاء "وكذلك ما استعمله ـ سبحانه ـ في تنزيهه وتقديسه عما أضافوه إليه من الولادة سواء سموها حسية، أو عقلية كما تزعمه النصارى من تولد الكلمة التي جعلوها جوهراً لابن منه، وكما تزعمه الفلاسفة الصابئون من تولد العقول العشرة، والنفوس الفلكية التسعة التي هم مضطربون فيها هل هي جواهر أو أعراض؟ وقد يجعلون العقول بمنزلة الذكور والنفوس بمنزلة الإناث ويجعلون ذلك آباءهم وأمهاتهم وآلهتهم وأربابهم القريبة وعلمهم بالنفوس أظهر لوجود الحركة الدورية الدالة على الحركة الإرادية الدالة على النفس المحركة لكن أكثرهم يجعلون النفوس الفلكية عرضاً لا جوهراً قائماً بنفسه وذلك شبيه بقول مشركي العرب وغيرهم الذين جعلوا له بنين وبنات. قال تعالى {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} 1 وكانوا يقولون الملائكة بنات الله كما يزعم هؤلاء أن العقول أو العقول والنفوس هي الملائكة وهي متولدة عن الله قال تعالى {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} " أ. هـ2. قول بعض مشركي العرب أن الملائكة بنات الله وإبطاله: "مما ينبغي التنبيه عليه أن القائلين بأن الملائكة بنات الله هم بعض قبائل العرب كجهينة وخزاعة وبني مليح وبني سلمة وعبد الدار فقد زعموا أن الملائكة بنات الله كما ذكره القرطبي"3. ونقل الواحدي4 عن المفسرين أنهم قالوا: أن قريشاً وأجناس العرب جهينة وبني   1- سورة الأنعام، آية: 100. 2- درء تعارض العقل والنقل: 1/35 ـ 36. 3- الجامع لأحكام القرآن 15/133. 4- هو: علي بن أحمد بن محمد بن علي بن متويه، أبو الحسن الواحدي مفسر عالم بالأدب توفي سنة ثمان وستين وأربعمائة هجرية، انظر ترجمته في وفيات الأعيان 1/333، الأعلام 5/95. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 سلمة وخزاعة وبني مليح قالوا: "أن قريشاً وأجناس العرب جهينة وبني سلمة وخزاعة وبني مليح قالوا: الملائكة بنات الله"1. ولقد قال هؤلاء المشركون في الملائكة الكرام ثلاثة أقوال كل واحد منها أشد كفراً وأعظم كذباً. أولاً: جعلوهم بنات الله فجعلوا لله ولداً ـ تعالى الله ـ عن ذلك علواً كبيراً. ثانياً: جعلوهم إناثاً فحطوا من مكانة الملائكة ونسبوا لله الولد الناقص ولأنفسهم الولد الأكمل. ثالثاً: أنهم بعد كل هذه الافتراءات السخيفة عبدوا الملائكة من دون الله ولقد دحض القرآن هذه الدعوى الباطلة وبين أنها افتراء وناقشهم مناقشة ضيقت عليهم منافذ الباطل وحاجهم حتى عجزوا عن الدفاع عما قالوه من الباطل وحاجهم القرآن محاجة تبين معها كذبهم حيث صور دعواهم أن الملائكة بنات الله، واستجوبهم في ذلك على هذا النحو التالي: أيكون لله البنات ولكم البنون؟ هل يتفق قولكم هذا مع منطق العقل والعدل والحق؟. إن هذا القول باطل لأنكم معشر العرب تستنكفون من البنت والشيء الذي تستنكفون منه كيف تثبتونه للخالق وهذا ما عناه الله ـ تعالى ـ بقوله: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ * وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} 2. ثم إن القرآن لم يكتف بمجادلة المشركين في موضع واحد منه بل حاجهم في مواضع عدة وألزمهم بالحجة وبين بطلان سخافاتهم الوثنية كقوله تعالى: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً إِنَّ الإنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ * أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ * وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي   1- ذكره عنه الرازي في التفسير الكبير 26/167. 2- سورة النحل، آية: 57 ـ 59. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ * وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلونَ} 1. إن الناظر في هذه الآيات يلمس الوحدة الموضوعية بينها وبين الآيات السابقة قبلها إذ كل آية منها عالجت مفتريات المشركين في ملائكة الرحمن بالأدلة العقلية وناقشت أولئك المشركين بمنطق الحجة والبيان، فلم يستطيعوا المعارضة، وهم أرباب الفصاحة وقادة البلاغة والبيان، ثم إن الآيات تحمل في طياتها الوعيد الشديد والتهديد الأكيد لأولئك المشركين لشناعة قولهم، ومخالفته للحس والعقل والفطرة وهذه الآيات ناقشت المشركين في عدة نقاط هي: 1 ـ جعلهم لله من عباده جزءاً، أي: عدلاً، أو بعضاً لأن الولد بضعة من والده وجزءاً له، فإذا كانوا جميعاً عبيد الله فهل يصح أن يكون أحد منهم شريكاً لله أو بعضاً منه. 2 ـ مناقشتهم عن السر في اختيارهم البنين لأنفسهم، وجعلهم البنات لله ـ تعالى ـ علماً بأنه قد تقرر لدى هؤلاء المشركين تفضيلهم البنين على البنات، فلو كان مرجع القسمة إلى العقل لكان الله أولى بالبنين من البنات، ولو كان مرجع ذلك إلى العدل بصرف النظر عن استحالة ذلك، أو إمكانه لكان العدل يقتضي على أسوأ تقدير التسوية في القسمة، ولكنهم تجاوزُوا في الطغيان، والبلادة حدود ما يألفه الذوق والفطرة الإنسانية. قال تعالى: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى} 2. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " أي: جائرة ... فبين ـ سبحانه ـ أن الرب الخالق أولى بأن ينزه عن الأمور الناقصة منكم فكيف تجعلون له ما تكرهون أن يكون لكم، وتستحيون من إضافته إليكم مع أن ذلك واقع لا محالة، ولا تنزهونه عن ذلك وتنفونه عنه، وهو أحق بنفي المكروهات المنقصات منكم" أ. هـ3. 3 ـ بينت الآية الرابعة من الآيات السابقة وهي قوله: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} 4 أن الأنثى محل نقص في الظاهر والباطن في الصورة والمعنى   1- سورة الزخرف، آية: 15 ـ 19. 2- سورة النجم، آية: 21 ـ 22. 3- درء تعارض العقل والنقل 1/36 ـ 37. 4- سورة الزخرف، آية: 17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 فيكمل نقص ظاهرها وصورتها بلبس الحلي وما في معناه ليجبر ما فيها من نقص فإذا كانت الأنثى محل نقص فما وجه نسبتها إلى الله ولقد بين القرآن الكريم أنهم ليس لهم دليل على صحة دعواهم حيث أنه نفى عنهم طرق العلم الثلاث التي هي: الحس، أو الخبر، أو النظر أما طريق الحس: فهي المراد من قوله تعالى: {أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ} 1. الواقع يقرر أنهم لم يشهدوا كيفية خلق الله لملائكته بل المشركون أنفسهم لم يدعوا ذلك فبطلت معرفتهم عن طريق الحس. وأما طريق الخبر: فإن الخبر إنما يفيد العلم إذا علم كونه صدقاً وقطعاً كصدوره عن المعصوم الذي قام الدليل على صدقه، فأما الذين يخبرون بأن الملائكة بنات الله إنما هم أفاكون كذابون، ولم يدل على صدقهم دليل، وقد أشار الله إلى ذلك بقوله: {أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} 2. وأما طريق النظر: فقد بين بطلان قولهم من وجهين: الوجه الأول: أن دليل العقل يقتضي فساد هذا المذهب لأن الله ـ تعالى ـ له الكمال المطلق لا يليق به اصطفاء الأخس وهو المراد من قوله تعالى: {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} 3 ومعنى ذلك أن إسناد الأفضل إلى الأفضل أقرب عند العقل من إسناد المفضول إلى الأفضل، فإن كان حكم العقل معتبراً في هذا الباب كان قولكم باطلاً. الوجه الثاني: يترك الاستدلال على فساد مذهبهم ويطالبون هم بإثبات الدليل على صحة مذهبهم، فإذا لم يجدوا ذلك الدليل ظهر ضده وهو خلو الدعوى من أي دليل يدل على صحة مذهبهم وهذا هو المقصود من قوله تعالى: {أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ * فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 4 فثبت بما ذكرناه من الآيات القرآنية إبطال قول المشركين في دعواهم أن الملائكة بنات الله لأنه لا يوجد لديهم دليل يؤيد قولهم لا من طريق الحس، ولا   1- سورة الصافات، آية: 150. 2- سورة الصافات، آية: 151 ـ 152. 3- سورة الصافات، آية: 153 ـ 154. 4- سورة الصافات، آية: 156 ـ 157. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 الخبر ولا العقل فكان المصير إليه باطلاً قطعاً"1 فبطل قول المشركين وسقطت شبهتهم وظهر أمر الله ممثلاً في عقيدة التوحيد النقية من أدران الشرك وأوحال الوثنية. رد دعوى اليهود في أن عزيراً ابن الله: قلنا فيما تقدم أن الفرق التي نسبت إلى الله الولد ثلاث فرق هم بعض مشركي العرب، واليهود، والنصارى وقد تقدم الرد على دعوى مشركي العرب بأن الملائكة بنات الله بقي أن نعرض لإبطال دعوى اليهود في أن عزيراً ابن الله، وإبطال قول النصارى في زعمهم أن المسيح ابن الله. ولقد ذكر القرآن الكريم دعوى اليهود، ورد عليها وبين فسادها وبطلانها قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ} 2 هذه الآية بينت دعوى اليهود الباطلة في "العزير" ويا ترى هل اليهود جميعهم يقولون هذه المقالة أم بعضهم؟ اختلفت الرواية عن أهل العلم في أصحاب هذه المقالة من اليهود فقيل: هو رجل من اليهود اسمه "فنحاص بن عازوراء" وهو على ما جاء في بعض الروايات القائل: {إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} 3. كما أخرجه ابن المنذر عن ابن جريج4 وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: أتى جماعة من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: وهم سلام بن مشكم، ونعمان بن أبي أوفى، وشاس بن قيس ومالك بن الصيف فقالوا: كيف نتبعك يا محمد وقد تركت قبلتنا، وأنت لا تزعم أن عزيراً ابن الله فأنزل الله في ذلك: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ الله} 5. قال الرازي: "وعلى هذين القولين فالقائلون بهذا المذهب بعض اليهود إلا أن الله نسب ذلك القول إلى اليهود بناء على عادة العرب في إيقاع اسم الجماعة على الواحد   1- انظر تفسير الفخر الرازي: 26/167 ـ 169 بتصرف. 2- سورة التوبة، آية: 30. 3- سورة آل عمران، آية: 181. 4- انظر روح المعاني للألوسي: 10/81. 5- جامع البيان: 10/110 ـ 111، وانظر التفسير الكبير للرازي 16/33 وانظر تفسير روح المعاني للألوسي 10/81. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 يقال: فلان يركب الخيول ولعله لم يركب إلا واحد منها، وفلان يجالس السلاطين ولعله لا يجالس إلا واحداً ... ثم قال "والقول الثابت: لعل هذا المذهب كان فاشياً فيهم ثم انقطع فحكى الله ذلك عنهم، ولا عبرة بإنكار اليهود ذلك فإن حكاية الله عنهم أصدق" أ. هـ1. وهناك آثار كثيرة وردت في صدور هذه المقالة عن اليهود ومنها الآتي: قال الإمام الكلبي2: " لما قتل بختنصر علماء اليهود جميعاً وكان عزير إذ ذاك صغيراً فاستصغره ولم يقتله فلما رجع بنو إسرائيل إلى بيت المقدس وليس فيهم من يقرأ التوراة بعث الله ـ تعالى ـ عزيراً ليجدد لهم التوراة ويكون آية بعد ما أماته الله مائة عام يقال: إنه أتاه بإناء فيه ماء فسقاه فمثلت في صدره فلما أتاهم فقال لهم: إني عزير كذبوه وقالوا: إن كنت كما تزعم فأمل علينا التوراة ففعل فقالوا: إن الله ـ تعالى ـ لم يقذف التوراة في قلب رجل إلا لأنه ابنه تعالى الله عن ذلك علوا كبيراً"3. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن اليهود أضاعوا التوراة، وعملوا بغير الحق فأنساهم الله ـ تعالى ـ التوراة، ونسخها من صدورهم فتضرع عزير إلى الله وابتهل فعاد حفظ التوراة إلى قلبه، فأنذر قومه بها فلما جربوه وجدوه صادقاً فيه فقالوا: ما تيسر هذا لعزير إلا أنه ابن الله"4. وقال السدي: "العمالقة قتلوهم فلم يبق منهم أحد يعرف التوراة"5. وقال الإمام البيضاوي6 وإنما قالوا: {عُزَيْرٌ ابْنُ الله} لأنه لم يبق فيهم بعد وقعة   1- التفسير الكبير 16/33. 2- هو: محمد بن السائب بن بشر بن عمر بن الحارث الكلبي أبو النضر: نسابة، راوية، عالم بالتفسير والأخبار وأيام العرب قال النسائي: حدث عنه ثقات من الناس، ورضوه في التفسير وأما في الحديث ففيه مناكير. الميزان 3/68، التهذيب 9/178، الأعلام 7/3. 3- كتاب التسهيل لعلوم التنزيل 2/64، تفسير أبي السعود 4/95، تفسير الرازي 16/34. 4- جامع البيان 10/111، وتفسير الرازي 16/33. 5- تفسير الرازي 16/34. 6- هو: عبد الله بن عمر بن محمد بن علي الشيرازي أبو سعيد ناصر الدين البيضاوي مفسر، علامة، ولد سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة، توفي سنة خمس وثمانين وستمائة هجرية. انظر البداية والنهاية 13/309، بغية الوعاة 2/50، الأعلام 4/248. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 "بختنصر" من يحفظ التوراة وهو لما أحياه الله بعد مائة عام أملى عليهم التوراة حفظاً فتعجبوا من ذلك وقالوا: "ما هذا إلا لأنه ابن الله"1. والذي يتبين من الآثار المتقدمة، وما جاء في معناها يوضح لنا أن منشأ الشبهة عند اليهود في "عزير" هو أنه اختص بحفظ التوراة في زمن من الأزمنة دون سائر اليهود بغض النظر عن صحة تفاصيل تلك الآثار التي أسلفناها نقلاً عن بعض المفسرين، ولذلك زعموا أنها ما حصلت له هذه الكرامة إلا أنه ابن الله ـ تعالى ـ عن ذلك علواً كبيراً. وهنا سؤال لا بد منه أمام مزاعم اليهود الباطلة هو: هل يلزم في كل إنسان خصه الله ـ تعالى ـ بنعمة من اصطفاء بالنبوة والرسالة أو استجابة للدعوة، أو ظهور كرامة من كرامات الأولياء على يديه هل يلزم من هذا أن يكون ذلك الإنسان ابناً لله؟. ولو كان الأمر كذلك فهذا موسى ابن عمران وأخوه هارون بن عمران عليهما السلام قد جاءا بالتوراة من عند الله ولهما من الفضل والكرامة ما ليس لعزير فلماذا لم يدعيا أنهما ابنان الله؟. ولكن الحقيقة التي لا شك فيها هي أن اليهود أضاعوا التوراة وتركوا العمل بها فضلوا عن سبيل الله القويم وصراطه المستقيم، وذهبوا يحرفون الكلم عن مواضعه، وأصدق دليل على ذلك ما حكاه الله ـ تعالى ـ عنهم في كتابه قال تعالى: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} 2، وقوله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِه ِ ... } 3. وقال تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 4 فإذا كان اليهود لا يعتبرون مصدر ثقة فيما استحفظوا عليه من كتاب الله فمن المسلم به أنه لا يوثق بأقوالهم التي تخالف العقل والنقل وتخالف الفطر المستقيمة، وقد حكى الله عنهم كثيراً من مخازيهم كقوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ   1- تفسير البيضاوي 1/412. 2- سورة النساء، آية: 46. 3- سورة المائدة، آية: 13. 4- سورة البقرة، آية: 75. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 مَغْلُولَةٌ} فرد الله عليهم بقوله: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} 1. إذاً فبعد ذلك لا يستبعد أن يفتروا على الله كذباًُ فينسبون له الأبناء بل قد ادعوا أنهم أبناء الله وأحباؤه كما قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} 2. ولقد نقض القرآن هذا الزعم بقوله: {فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} ومعنى هذا أن الحبيب لا يهين كرامة حبيبه بالتعذيب فلأي شيء يعذبكم في الدنيا بالأسر والقتل والمسخ وقد اعترفتم بأنه سيعذبكم في الآخرة أياماً بعدد أيام عبادتكم العجل، ولو كان الأمر كما زعمتم لما صدر عنكم ما صدر ولما وقع عليكم ما وقع ثم بين القرآن أنهم كسائر البشر وأنهم محاسبون ومجزيون بالإحسان إحساناً، والإساءة عقاباً، وأنهم خاضعون لمشيئة الله النافذة {بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّه مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} 3. وحسبنا أن اليهود عرفوا بنقض العهود والمواثيق وقتل الأنبياء بغير حق ولسنا بصدد تعداد مساوئهم فهي كثيرة ولكن الذي نقوله أنه ليس من المستغرب أن تصدر عنهم تلك الفرية الكبيرة وهي قولهم: {عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ} {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً} 4. إبطال دعوى النصارى في أن عيسى ابن الله: مما ينبغي أن يعلم أن قول النصارى {الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ} يرجع إلى شبهة عرضت لهم فيه وهي خلقه ـ تعالى ـ إياه من أم دون أب وهو خلاف ما جرت عليه سنة الله ـ تعالى ـ في التوالد والتناسل فقالوا عنه ابن الله كما حكى الله ذلك عنهم بقوله: {وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ الله} 5 ولهم شبهة أخرى في قوله: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ   1- سورة المائدة، آية: 64. 2- سورة المائدة، آية: 18. 3- سورة المائدة، آية: 18. 4- سورة الكهف، آية: 5. 5- سورة التوبة، آية: 30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 مِنْهُ} 1. فادعى بعض النصارى أن "من" للتبعيض فيكون عيسى بعضاً من الله تعالى وقد نقل عن محمد بن إسحاق قوله عن النصارى: "إنهم يحتجون في قولهم أنه ولد الله بأنههم يقولون: لم يكن له أب يعلم في المهد وهو شيء لم يصنعه أحد من ولد آدم قبله"2. وأصحاب هذا القول هم النسطورية ينسبون إلى نسطور، وكان "بطريريكاً" بالقسطنطينية3 فقول النصارى في المسيح أنه ابن الله بهذا الإدعاء الشنيع ينسبون إلى الله الولد والتولد. وهذا الزعم الباطل نتيجة الشبهة التي عرضت لهم وهو أن الله خلقه من أم بلا أب من البشر فلا بد أن يكون ولداً لله، وهذه الشبهة قامت الأدلة النقلية والعقلية على استحالة أن يكون لله ولد، أو صاحبة أو والد أو شريك، والله ـ تعالى ـ عظّم أمر هذه المقالة الشنيعة قال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} 4. وقد أنذر الله ـ تعالى ـ جميع الطوائف التي تنسب إليه الولد بالوعيد الشديد والتهديد الأكيد قال تعالى: {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً * مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً} 5. وقد أبطل الله ـ عز وجل ـ مزاعم اليهود والنصارى ومشركي العرب في نسبة الولد إليه بقوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 6 فنفي التولد عنه لامتناع التولد من شيء واحد، وأن التولد إنما يكون بين اثنين وهو ـ جل وعلا ـ لا صاحبة له، وأيضاً: فإنه خلق كل شيء، وخلقه لكل شيء يناقض أن يتولد عنه شيء، وهو بكل شيء عليم، وعلمه بكل شيء يستلزم أن يكون فاعلاً بإرادته فإن الشعور   1- سورة النساء، آية: 171. 2- مختصر سيرة الرسول للشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب ص369. 3- انظر الفصل لابن حزم 1/49، الملل والنحل للشهرستاني 1/224. 4- سورة مريم، آية: 88 ـ 95. 5- سورة الكهف، آية: 4 ـ 5. 6- سورة الأنعام، آية: 101. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 فارق بين الفاعل بالإرادة والفاعل بالطبع فيمتنع مع كونه عالماً أن يكون كالأمور الطبيعية التي تتولد عنها الأشياء بلا شعور كالحار والبارد فلا يجوز إضافة الولد إليه"1. وفي قوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} استدلال بخلق السموات والأرض ابتداء من غير مثال سابق وكل الطوائف التي نسبت الولد إلى الله ـ تعالى ـ مقرة بأن الله هو الذي خلق السموات والأرض ابتداء، ولكن الاستدلال بقوله تعالى {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} على النصارى أليق من غيرهم لأنهم استغربوا وجود عيسى عليه السلام من غير أب على غير مثال سابق ولهذا قالوا أنه ابن الله ولكن الغرابة تزول إذا عرفوا خلق آدم عليه السلام من غير مثال سابق كما سنذكر ذلك قريباً وإذا عرفوا خلق السموات والأرض ابتداءاً من غير مادة، فالإبداع عبارة عن تكوين الشيء من غير سبق مثال، فكأن الآية تقول للنصارى: سلمنا لكم أن عيسى حدث من غير أب ولا نطفة، بل إنما حدث ودخل في الوجود لأن الله ـ تعالى ـ أخرجه من الوجود من غير سبق الأب ولكنكم تقولون: إنه ابن الله، وعلى هذه فلا يخلو الأمر إما أن تريدوا بكونه ولداً لله ـ تعالى ـ أنه أحدثه على سبيل الإبداع من غير تقدم نطفة ووالد وإما أن تريدوا بكونه ولداً لله ـ تعالى ـ كما هو المألوف المعهود من كون الإنسان ولداً لأبيه أما الاحتمال الأول: فإن النصارى والمشركين يسلمون بأن الله ـ تعالى ـ خلق السموات والأرض إبتداءاً ويلزم على تسليمهم ذلك أن يكون خلقه للسموات والأرض إبداعاً، فلو لزم من مجرد كونه مبدعاً لإحداث عيسى عليه السلام كونه ولداً له للزم من كونه مبدعاً للسموات والأرض كونه والداً لهما، ولما فيهما من المخلوقات ومعلوم أن ذلك باطل بالاتفاق فثبت أن مجرد كونه مبدعاً لعيسى عليه السلام لا يقتضي كونه والداً له فبطل بهذا الاحتمال الأول. وأما الاحتمال الثاني وهو أن يكون مراد القوم من الولادة هو الأمر المعتاد المعروف من الولادة في الحيوانات فهذا أيضاً باطل، يدل على بطلانه الوجوه التالية: الوجه الأول: أن تلك الولادة لا تصح إلا ممن كانت له صاحبة وينفصل عنه جزء ويحتبس ذلك الجزء في باطن تلك الصاحبة وهذه الأحوال إنما تثبت في حق من يجوز عليه الأعراض المعروفة في التوالد والتناسل وكل ذلك على خالق العالم محال وهذا المراد من قوله تعالى: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} .   1- الرد على المنطقيين لشيخ الإسلام ابن تيمية ص219. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 الوجه الثاني: أن تحصيل الولد بهذا الطريق إنما يصح في حق من لا يكون قادراً على الخلق والإيجاد والتكوين دفعة واحدة فلما أراد الولد وعجز عن تكوينه دفعة واحدة عمد إلى تحصيله بالطريق المعتاد أما من كان خالقاً لكل الممكنات قادراً على كل المحدثات، فإذا أراد إحداث شيء قال له: {كُنْ فَيَكُونُ} ومن كان هذا الذي ذكرنا صفته ونعته امتنع منه إحداث شخص بطريق الولادة وهذا هو المراد من قوله تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} . الوجه الثالث: وهو أن هذا الولد إما أن يكون قديماً أو محدثاً، وليس من الجائز أن يكون قديماً لأن القديم يجب كونه واجب الوجود لذاته، وما كان واجب الوجود لذاته كان غنياً عن غيره، فامتنع كونه ولداً لغيره فبقي أنه لو كان ولداً لوجب كونه حادثاً فنقول: إنه ـ تعالى ـ عالم بجميع المعلومات فإما أن يعلم أن له في تحصيل الولد كمالاً، ونفعاً أو يعلم أنه ليس الأمر كذلك، فإن كان الأول فلا وقت يفرض أن الله ـ تعالى ـ خلق هذا الولد فيه إلا والداعي إلى إيجاد هذا الولد كان حاصلاً قبل ذلك ومتى كان الداعي إلى إيجاده حاصلاً قبله، وجب حصول الولد قبل ذلك، وهذا يوجب كون ذلك الولد أزلياً وهو محال، وإن كان الثاني فقد ثبت أنه ـ تعالى ـ عالم بأنه ليس له في تحصيل الولد كمال حال ولا ازدياد مرتبة في الألوهية وإذا كان الأمر كذلك وجب أن لا يحدث البتة في وقت من الأوقات وهذا هو المراد من قوله تعالى: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 1. ولا يفوتنا أن نقول: أنه ليس أعظم جرماً وأقبح إثماً ممن زعم أن الله متصف بصفات المحدثين من الجهلة المشركين واليهود المعاندين والنصارى الضالين، وأن مؤمني الجن لأحسن حالاً منهم وأكمل إيماناً إذ أنهم نفوا عن الله الصاحبة والولد كما قال تعالى حكاية عنهم: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَداً} 2. ومن الآيات التي ترد على شبهة النصارى أن عيسى وجد من أم بلا أب يقتضي أن يكون ابناً لله قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 3، وهذه الآية نزلت عند حضور وفد نصارى نجران على الرسول صلى الله عليه وسلم كما ذكر   1- تفسير الرازي 13/118 ـ 119 وآية: 101 من سورة الأنعام. 2- سورة الجن، آية: 3. 3- سورة آل عمران، آية: 59. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 هذا ابن جرير1 وادعى الفخر الرازي الإجماع على ذلك2 ولقد أجاب الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك الوفد بنقض شبهتهم بأنه لو لزم من وجود عيسى من أم بلا أب كونه ابناً لله للزم أن يكون آدم ابناً لله ـ تعالى ـ بطريق الأولى، فإنه وجد من غير أم ولا أب، وأنتم تعترفون بذلك، ثم إنه ذا جاز أن يخلق الله ـ تعالى ـ آدم من التراب فلم لا يجوز أن يخلق عيسى من دم مريم؟ بل هذا أقرب إلى العقل فإن تولد الحيوان من الدم الذي يجتمع في رحم الأم أقرب من تولده من التراب اليابس، وهذا دليل ملزم لهم لأنهم لم يقولوا بأن آدم إله كما زعموا ذلك في عيسى عليه السلام، وفي قوله: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ} . قال الزمخشري: "هو مثيله في أحد الطرفين فلا يمنع اختصاصه دونه بالطرف الآخر من تشبيهه به لأن المماثلة مشاركة في بعض الأوصاف ولأنه شبيه به في أنه وجد وجوداً خارجاً عن العادة المستمرة وهما في ذلك نظيران، ولأن الوجود من غير أب وأم أغرب ليكون أقطع للخصم وأحسم لمادة شبهته إذا نظر فيما هو أغرب مما استغربه" أ. هـ3. وقوله تعالى: {خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} ليس صفة لآدم ولا صلة له، وإنما هو خبر مستأنف على جهة التفسير لحال آدم كما ذكر ذلك الرازي ونقل عن الزجاج قوله: "هذا كما تقول في الكلام مثلك كمثل زيد تريد أن تشبهه به في أمر من الأمور ثم تخبر بقصة زيد فتقول: فعل كذا وكذا"4. وأما شبهتهم في قوله: {وَرُوحٌ مِنْهُ} 5 حيث قالوا إن هذا الجزء من الآية دليل على أن عيسى جزء من الله ويقولون: "من" في قوله "من" تبعيضية فيكون عيسى جزءاً من الله ـ تعالى الله ـ عن ذلك علواً كبيراً، فالروح هنا، قيل: النفخة فيكون معنى قوله: {وَرُوحٌ مِنْهُ} أي: نفخة منه لأنه حدث عن نفخة جبريل عليه السلام في درع مريم بأمر الله إياه بذلك فنسب إلى أنه روح من الله لأنه بأمره كان، وإنما سمي النفخ "روحاً" لأنها ريح تخرج من الروح واستشهدوا على ذلك بقول ذي الرمة:   1- جامع البيان 3/295. 2- التفسير الكبير 8/74. 3- الكشاف 1/433. 4- التفسير الكبير: 8/74. 5- جزء من الآية رقم: 171 من سورة النساء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 وقلت له ارفعها إليك وأحيها ... بروحك واقتته لها قيتة قدراً1 يعني بقوله: "أحيها بروحك" أي أحيها بنفخك. وقيل معناها: "الرحمة" فيكون قوله: {رُوحٌ مِنْهُ} أي رحمة منه كما قال تعالى: {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} 2 فجعل الله عيسى عليه السلام رحمة منه على من آمن به وصدقه واتبعه من بني إسرائيل لأنه هداهم إلى سبيل الرشاد كما ذكره ابن جرير الطبري، وقد أورد أقوالاً أخرى ثم قال تعقيباً عليها: "ولكل هذه الأقوال وجه ومذهب غير بعيد من الصواب"3. والأظهر في ذلك ما روي عن أبيّ بن كعب أنه قال: "عيسى روح من الأرواح التي خلقها الله ـ عز وجل ـ واستنطقها بقوله: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} 4 بعثه الله إلى مريم فدخل فيها"5. وقال أبوروق: {وَرُوحٌ مِنْهُ} أي: نفخة منه إذ هي من جبريل بأمره، وسمي روحاً لأنه حدث من نفخة جبريل عليه السلام6. قال ابن كثير: "وكلمته ألقاها إلى مريم" أي: خلقه بالكلمة التي أرسل بها جبريل ـ عليه السلام ـ إلى مريم فنفخ فيها من روحه بإذن ربه ـ عز وجل ـ فكان عيسى بإذنه ـ عز وجل ـ وكانت تلك النفخة التي نفخها في جيب درعها، فنزلت حتى ولجت فرجها بمنزلة لقاح الأب والأم والجميع مخلوق لله ـ عز وجل ـ ولهذا قيل لعيسى إنه كلمة الله وروح منه، لأنه لم يكن له أب تولد منه، وإنما هو ناشئ عن الكلمة التي قال له بها كن فكان، والروح التي أرسل بها جبريل ... : "وروح منه" كقوله: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} 7. أي: من خلقه ومن عنده وليست "من" للتبعيض كما تقوله النصارى ـ عليهم لعائن الله المتتابعة ـ بل هي لابتداء الغاية كما في الآية الأخرى، وقد قال مجاهد   1- ديوان ذي الرُّمة ص24 ط: كيمبردج سنة 1919م. 2- جزء من الآية: 22 من سورة المجادلة. 3- جامع البيان 6/36. 4- سورة الأعراف، آية: 172. 5- جامع البيان 6/36 وانظر تيسير العزيز الحميد ص63. 6- تيسير العزيز الحميد ص 63. 7- سورة الجاثية، آية: 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 في قوله: {وَرُوحٌ مِنْهُ} أي: "رسول منه"، وقال غيره ومحبة منه، والأظهر الأول وهو أنه مخلوق من روح مخلوقة، وأضيفت الروح إلى الله على وجه التشريف كما أضيفت الناقة والبيت إلى الله في قوله: {هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ} 1 وفي قوله: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} 2 أضافها إليه إضافة تشريف، وهذا كله من قبيل واحد ونمط واحد" أ. هـ3. وقد ذكر الألوسي في تفسيره "روح المعاني" قصة مضمونها أن طبيباً نصرانياً حاذقاً للرشيد ناظر عليَّ بن الحسين الواقدي المروزي ذات يوم فقال له: "إن في كتابكم ما يدل على أن عيسى عليه الصلاة والسلام جزء منه ـ تعالى ـ وتلا هذه الآية فقرأ الواقدي قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} . فقال: إذن يلزم أن يكون جميع الأشياء جزءاً منه ـ سبحانه وتعالى ـ عن ذلك علواً كبيراً فانقطع النصراني، فأسلم وفرح الرشيد فرحاً شديداً، ووصل الواقدي بصلة4 فاخرة. وجاء في قرة عيون الموحدين: قوله: {وَرُوحٌ مِنْهُ} أي: "من الأرواح التي استخرجها من صلب آدم عليه السلام، وأخذ عليها العهد على أنه ـ تعالى ـ ربهم وإلههم .... ، وروح عيسى من تلك الأرواح التي خلقها الله تعالى ... فجبريل نفخ والله خلق بقوله "كن فكان" كما قال تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} 5 فسبحان من لا يخلق غيره ولا يعبد سواه" أ. هـ6. ومن هذا نفهم أن النفخ سبب ظاهر لإيجاد الروح في كل مولود وقد روى البخاري في صحيحه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: "إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ... "7. الحديث   1- سورة الأعراف، آية: 73. 2- سورة الحج، آية: 26. 3- تفسير القرآن العظيم: 2/459 ـ 460. 4- تفسير الألوسي: 6/25. 5- سورة ص، آية: 72. 6- قرة عيون الموحدين ص18، وانظر تيسير العزيز الحميد ص63، فتح المجيد ص47 ـ 48. 7- 2/211 . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 فالنفخ يحصل من الملك بعد أمر الله ـ تعالى ـ له. ولقد نزه نفسه ـ سبحانه ـ من المقالة السيئة التي نسبها إليه اليهود والنصارى ومشركو العرب وغيرهم فقال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} 1. قال الحافظ ـ رحمه الله تعالى ـ: "واتفقوا على أن الآية نزلت فيمن زعم أن لله ولداً من يهود خيبر، ونصارى نجران، ومن قال من مشركي العرب الملائكة بنات الله فرد الله تعالى عليهم"2 وجاء في الحديث القدسي الصحيح الذي رواه البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني، ولم يكن له ذلك فأما تكذيبه إياي فزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان، وأما شتمه إياي فقوله لي ولد ـ فسبحاني ـ أن أتخذ صاحبة أو ولداً". قال الحافظ عقب هذا الحديث: "إنما سماه شتماً لما فيه من التنقيص لأن الولد إنما يكون عن والدة تحمله، ثم تضعه، ويستلزم ذلك سبق النكاح، والناكح يستدعي باعثاً له على ذلك والله ـ سبحانه ـ منزه عن جميع ذلك" أ. هـ3 ومما تقدم نعلم أن الله ـ تعالى ـ أبطل مزاعم اليهود والنصارى ومشركي العرب في نسبتهم الولد إلى الله ـ تعالى ـ فقد نفى عن نفسه الولادة ونفى اتخاذ الولد جميعا قال تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ للهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ} 4. وقال تعالى: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} 5 ومما ينبغي أن يعلم أن كل النحل التي نسبت الولد إلى الله تعالى لم يرد العقلاء منهم أنها ولادة حسية من جنس ولادة الحيوان بانفصال جزء من ذكره في أنثاه يكون منه الولد وإنما يريد من الولادة العقلية الروحانية مثل قول النصارى إن الجوهر الذي هو الله من وجه، وهو الكلمة من وجه تدرعت بإنسان مخلوق من مريم فيقولون تدرع   1- سورة البقرة، آية: 116. 2- الفتح: 8/168. 3- المصدر السابق. بنفس الصفحة. 4- سورة الإسراء، آية: 111. 5- سورة الفرقان، آية: 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 اللاهوت بالناسوت ـ فظاهره ـ وهو الدرع والقميص بشر وباطنه ـ وهو المتدرِّع ـ لاهوت هو الابن الذي هو الكلمة لتولد هذا من الأب الذي هو جوهر الوجود ومن هذا نعلم أن النبوة المزعومة مركبة من أصلين: أحدهما: أن الجوهر هو الكلمة تولد من الجوهر الذي هو الأب كتولد العلم والقول من العالم والقائل. الثاني: أن هذا الجوهر اتحد بالمسيح وتدرع به، وذلك الجوهر هو الأب من وجه وهو الابن من وجه فلهذا حكى الله عنهم، تارة أنهم يقولون: المسيح ابن الله، وتارة أنهم يقولون: إن الله هو المسيح ابن مريم1. ولم يكتف القرآن بالرد على من زعم أن لله ولداً بالنفي فحسب بل كفر من جعل له ولداً، أو والداً، أو شريكاً فقال تعالى في السورة التي تعدل ثلث القرآن كما جاء بذلك الحديث الذي رواه أبو داود في سننه عن أبي سعيد الخدري أن رجلاً يقرأ: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} يرددها فلما أصبح جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له وكأن الرجل يتقالها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن" 2: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ اللهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} . قال شيخ الإسلام: "فنفى عن نفسه الأصول والفروع والنظراء، وهي جماع ما ينسب إليه من المخلوق من الآدميين والبهائم والملائكة، والجن، بل والنبات ونحو ذلك فإنه ما من شيء من المخلوقات إلا ولا بد أن يكون له شيء يناسبه إما أصل، وإما فرع، وإما نظير. أو اثنان من ذلك، أو ثلاثة وهذا في الآدميين والجن والبهائم ظاهر. وأما الملائكة فإنهم وإن لم يتولدوا بالتناسل فلهم الأمثال والأشباه ولهذا قال ـ سبحانه ـ: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} 3. قال بعض السلف: "لعلكم تتذكرون فتعلمون أن خالق الأزواج واحد" أ. هـ4. وبعد أن سقنا الأدلة النقلية على إبطال فرية المشركين واليهود والنصارى في نسبة   1- مجموع الفتاوى: 2/443 ـ 445. 2- سنن أبي داود: 1/337، وابن ماجة: 1/1244، والنسائي: 2/171. 3- سورة الذاريات، آية: 49. 4- مجموع الفتاوى: 2/438 ـ 439. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 الولد إلى الله تعالى، هناك دليل عقلي يدل على بطلان ذلك الافتراء الباطل نذكره قبل أن نختم الكلام في هذا الموضوع، وذلك الدليل هو: 1 ـ أن يقال: يجب أن يكون الإله واجب الوجود لذاته، فولده إما أن يكون واجب الوجود لذاته، أو لا يكون فإن كان واجب الوجود لذاته كان مستقلاً بنفسه قائماً بذاته لا تعلق له في وجوده بالآخر، ومن كان كذلك لم يكن له ولد البتة، لأن الولد مشعر بالفرعية والحاجة إلى أصله. وإما أن يكون ذلك الولد ممكن الوجود لذاته فحينئذ يكون وجوده بإيجاد واجب الوجود لذاته، ومن كان كذلك فيكون عبداً لا ولداً له ومن عرف هذه الحقيقة لم يتردد في نفي الولد عن الله ـ تعالى ـ. 2 ـ إن الولد مشعر بكونه متولداً عن جزء من أجزاء الوالد وذلك إنما يعقل في من يمكن انفصال بعض أجزائه عن بعض وهو محال في حق الواجب لذاته1. وقد خص النبي صلى الله عليه وسلم عيسى عليه السلام بمزيد من التنبيه لأن عقائد أهل الكتاب كانت فيه بين الإفراط والتفريط فبيّن العقيدة الصحيحة التي يجب أن يلتزمها الناس فيه بصفة عامة، وأهل الكتاب جميعاً بصفة خاصة فقد ثبت في الصحيحين من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه والجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل" 2. فالقارئ لهذا الحديث يرى أن وجه تخصيص عيسى بالذكر مع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم دون سائر أولي العزم من الرسل إنما كان لتوضيح الحق فيه، وأنه عبد الله ورسوله. وجاء في تيسير العزيز الحميد قوله: "وأن عيسى عبد الله ورسوله" وفي رواية "وابن أمته" أي: خلافاً لما يعتقده النصارى أنه الله أو ابن الله، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ... إلى أن قال: "فيشهد بأنه عبد الله" أي: عابد مملوك لله، لا مالك، فليس من الربوبية ولا من الإلهية شيء، ورسول صادق خلافاً لقول اليهود إنه ولد بغي، بل يقال فيه   1- انظر التفسير الكبير للرازي: 13/116 ـ 117. 2- صحيح البخاري 2/254، صحيح مسلم 1/57. واللفظ للبخاري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 ما قال عن نفسه كما قال تعالى: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً} 1 ... قوله: {وَكَلِمَتُه} إنما سمي كلمة الله لصدوره بكلمة "كن" بلا أب قاله قتادة وغيره من السلف2. وقال الإمام أحمد ـ رحمه الله تعالى ـ: "الكلمة التي ألقاها إلى مريم حين قال له: "كن" فكان عيسى بكن وليس عيسى هو "كن" ولكن ب: "كن" كان، ف: "كن" من الله قول، وليس: كن مخلوقاً وكذب النصارى والجهمية على الله في أمر عيسى وذلك أن الجهمية قالت: عيسى روح الله وكلمته إلا أن الكلمة مخلوقة. وقالت النصارى عيسى روح الله من ذات الله، وكلمته من ذات الله كما قال: إن هذه الخرقة من هذا الثوب، وقلنا نحن: إن عيسى بالكلمة كان وليس عيسى هو الكلمة. أ. هـ3. وختاماً لهذا نقول: إن الله قد رفع من شأن عيسى وجعله من أولي العزم من الرسل المذكورين في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} 4.   1- سورة مريم، آية: 30. 2- تيسير العزيز الحميد ص62. 3- الرد على الجهمية والزنادقة ص124 ـ 125. 4- سورة الأحزاب، آية: 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 المبحث السابع: إثبات صفتي الوحدانية والقهر لقد دلت السورة على إثبات صفتي الوحدانية والقهر ـ للباري سبحانه وتعالى ـ في آية واحدة منها. قال تعالى: {لَوْ أَرَادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} . هذه الآية من السورة تضمنت اسمين كريمين من أسمائه ـ تعالى ـ هما "الواحد" "والقهار" وهذان الاسمان يشتق منهما صفتان ـ للباري جل شأنه ـ هما صفتا "الوحدانية" و"القهر" فاسمه ـ تعالى ـ "الواحد" دال على اتصاف ـ الباري سبحانه ـ بالوحدانية قال ابن الأثير1: في أسماء الله "الواحد" هو الفرد الذي لم يزل ولم يكن معه غيره2. وجاء في تهذيب اللغة: "الفرق بين الواحد والأحد أن الأحد بني لنفي ما يذكر معه من العدد تقول: ما جاءني أحد، والواحد اسم بني لمفتتح العدد تقول: جاءني واحد من الناس، ولا تقول جاءني أحد فالواحد منفرد بالذات، وعدم المثل والنظير والأحد المنفرد بالمعنى3.   1- هو: المبارك بن محمد بن محمد بن محمد بن عبد الكريم الشيباني الجزري، أبو السعادات مجد الدين، المحدث اللغوي الأصولي، ولد سنة أربع وأربعين وخمسمائة، وتوفي سنة ست وستمائة هجرية. انظر ترجمته في وفيات الأعيان 1/441، الكامل لابن الأثير 12/288، الأعلام 6/152. 2- النهاية 5/159. 3- 5/194 ، وتفسير أسماء الله الحسنى للزجاج ص58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 وجاء في القاموس: "التوحيد الإيمان بالله وحده أي: التصديق بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الخبر الدال على أن الله ـ تعالى ـ واحد في ألوهيته لا شريك له" أ. هـ1. ومن هذه النصوص اللغوية يتبين أن هذه المادة ـ وحدة ـ تدور حول إنفراد الشيء بذاته، أو بصفاته، أو بأفعاله، وعدم وجود نظير له فيما هو واحد فيه، وإذا عدي بالتضعيف فيقال: وحّد الشيء توحيداً ـ كان معناه إما جعله واحداً، أو اعتقده واحداً. قال تعالى حكاية عن المشركين: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} 2 فاسمه ـ تعالى ـ "الواحد" معناه: الإعتقاد الجازم بأن الله ـ تعالى ـ واحد لا شريك له، ونفي المثل والنظير عنه، والتوجه إليه وحده بالعبادة. وإذا قيل: الله واحد كان معنى ذلك إنفراده بما له من ذات وصفات وعدم مشاركة غيره فيها فهو ـ سبحانه ـ واحد في إلهيته فلا إله غيره، وواحد في ربوبيته فلا رب سواه، وواحد في كل ما ثبت له من صفات الكمال التي لا تنبغي إلا له ـ جل وعلا. وأما تفسير المتكلمين لاسمه ـ تعالى ـ "الواحد" بأنه واحد لا يتجزأ، ولا ينقسم فهذا من الألفاظ المبتدعة المخترعة التي لم ينطق بها أحد من سلف الأمة وأئمتها ولم يرد ذكر هذا التفسير في عقائد أهل السنة والجماعة، وإنما هو من جنس ما يذكره أهل البدع من قولهم ليس بجوهر ولا عرض ولا جسم، وليس له أعراض ولا أبعاض إلى غير ذلك مما خالفوا فيه أهل السنة والجماعة، ومن خلال هذه الألفاظ يتوصلون إلى نفي الكثير من صفات الله ـ عز وجل ـ. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "فإنهم إذا قالوا لا قسيم له ولا جزء له، ولا شبيه له، فهذا اللفظ وإن كان يراد به معنى صحيح فإن الله ليس كمثله شيء وهو ـ سبحانه ـ لا يجوز عليه أن يتفرق، ولا يفسد ولا يستحيل بل هو أحد صمد والصمد الذي لا جوف له، وهو السيد الذي كمل سؤدده فإنهم يدرجون في هذه نفي علوه على خلقه، ومباينته لمصنوعاته ونفى ما ينفونه ويقولون إن إثبات ذلك يقتضي أن يكون مركباً منقسماً، وأن يكون له شبيه، وأهل العلم والإيمان يعلمون أن مثل هذا يسمى في لغة العرب التي نزل بها القرآن تركيباً وانقساماً، ولا تمثيلاً وهكذا الكلام في   1- 1/356. 2- سورة ص، آية: 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 مسمى الجسم والعرض والجوهر والتحيز وحلول الحوادث وأمثال ذلك، فإن هذه الألفاظ يدخلون في مسماها الذي ينفونه أموراً مما وصف به نفسه، ووصفه بها رسوله فيدخلون فيها نفى العلم والقدرة والكلام إلى غير ذلك من الصفات بدعوى أن ذلك لا تكون إلا لمتحيز في جهة وهو جسم"1 أ. هـ. فكلام شيخ الإسلام يستفاد منه أن قول المتكلمين في اسمه ـ تعالى ـ "الواحد" أنه الذي لا ينقسم ولا يتجزأ قول مبتدع مخترع لم يقل به أحد من السلف. وأما صفة "القهر" فقد دل على ثبوتها ـ للباري جل وعلا ـ اسمه ـ تعالى ـ "القهار". قال في القاموس: "القهر" الغلبة "والقهار" من صفاته تعالى. أ. هـ2. وجاء في المفردات لغريب القرآن: "القهر الغلبة والتذليل معاً ويستعمل في كل منهما"3. وقال ابن الأثير: "القاهر الغالب على جميع الخلائق قهره يقهره فهو قاهر وقهار للمبالغة" أ. هـ4. فمن هذه النصوص اللغوية ندرك معنى اسمه ـ تعالى ـ "القهار" ومعناه الذي يغلب على كل شيء، ويبسط سلطانه على كل مخلوق، ولا يمتنع عليه ما يريده، ولا يفلت من قبضته جبار تمرد على جبروته، ولا متكبر نازعه رداء كبريائه بل هو ـ سبحانه ـ آخذ بنواصي عباده فمن تمرد عليه قصمه وأذله، ومن خالف أمره أخذه نكال الآخرة والأولى، وجعله عبرة ومثلاً لغيره، وبسط ـ سبحانه ـ سلطانه على كل الكائنات فاستجابت لأمره وخضعت لحكمته، وسارت على النهج الذي رسمه لها. فجميع الموجودات خاضعة لسلطانه ـ سبحانه ـ مذعنة لمشيئته مقهورة لإرادته. قال تعالى: {وَللهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} 5.   1- درء تعارض العقل والنقل: 1/228. 2- 2/128 . 3- ص414. 4- النهاية في غريب الحديث والأثر 4/129. 5- سورة النحل، آية: 49 ـ 50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} 1. وللقهار ـ سبحانه ـ سنن قهر بها كل عظيم، وأخضع لحكمها كل جبار عنيد، وتتجلى مظاهر اسمه ـ تعالى ـ "القهار" في مصائر الأمم مثل قوم نوح، وعاد، وثمود، ومثل قارون، وفرعون، فهؤلاء جميعاً اغتروا بقوتهم، فأمعنوا في الظلم، وأسرفوا في الطغيان فكان بغيهم، وطغيانهم وبالاً عليهم. قال تعالى: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} 2. بل قهر ـ سبحانه وتعالى ـ الأخيار والأشرار وكل ذي روح بالموت الذي يدركهم أينما يكونون، ولو كانوا في بروج مشيدة. وقهرهم جميعاً بالبعث بعد الموت ولو استطاع الأشرار سبيلاً إلى الفرار من البعث لآثروا أن يكونوا تراباً حتى لا يعودوا إلى الحياة الأخروية ليلقوا ما أعد لهم من عذاب الهون جزاء بما كانوا يعملون {يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً} 3. ثم إن الآية التي صدرنا بها هذا المبحث وهي قوله تعالى: {لَوْ أَرَادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} . قلنا: إنها دلت على إثبات صفتي الوحدانية والقهر ـ للباري سبحانه وتعالى ـ وقد بينا وجه دلالتها على ذلك. وأيضاً: مع دلالتها على ما ذكرنا فقد لفتت الأنظار إلى أنه إنما يرغب في الولد من يرغب فيه ليشد به أزره ويستكثر به من قلة، ويعتز به من ذلك، وللمسارعة للنجدة والنصرة، وهذا شأن المخلوق الضعيف.   1- سورة الحج، آية: 18. 2- سورة الحج، آية: 45. 3- سورة النبأ، آية: 40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 أما الواحد القهار ـ سبحانه ـ الذي خضع لأمره كل شيء وبسط سلطانه على جميع هذا الكون فهو الغني عن العالمين لأنه خالقهم ورازقهم ومدبر أمورهم ولو شاء أن يتخذ ولداً لأصطفى من خلقه ما يشاء ولكنه ـ سبحانه ـ لا يشاء ما يخالف حكمته وينافي كماله ـ سبحانه ـ هو الله الواحد القهار، وقد جمع الله ـ سبحانه ـ بين وحدانيته وقهره في عدة مواضع من كتابه: قال تعالى: حكاية عن يوسف عليه السلام: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} 1. فهذه الآية تبين لنا أن نبي الله يوسف عليه السلام دعا صاحبي السجن إلى الله وإلى الإسلام وقال لهما: أعبادة أرباب شتى متفرقين وآلهة لا تنفع ولا تضر خير أم عبادة المعبود الواحد الذي لا ثاني له في قدرته وسلطانه الذي قهر كل شيء فذلله وسخره فأطاعه طوعاً وكرهاً2. وقال تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لا يَمْلِكُونَ لأنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرّاً قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا للهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} 3. بدأ ـ سبحانه ـ في هذه الآية بالإشارة إلى مظاهر قهره، وطاعة سائر المخلوقات له من خلق السموات والأرض، ثم أشار ـ سبحانه ـ بأنه لا يستوي الأعمى والبصير، كما لا تستوي الظلمات والنور ليوجه أذهان العباد إلى أن الذي خلق السموات والأرض هو الجدير بأن يخصه الناس بالعبادة ثم أشار إلى ضلال المشركين الذين انصرفوا عن عبادة الله ودعوا سواه، ما الذي صرفهم عن عبادة الواحد القهار؟ أظنوا أن له شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم فاختلط الأمر في أعينهم فلم يميزوا بين خلق ـ الباري ـ وخلق عيره فعبدوا من ظنوهم خالقين مع الله، ولو تدبروا وتفكروا قليلاً لعرفوا أن الله سبحانه هو خالق كل   1- سورة يوسف، آية: 39. 2- انظر جامع البيان: 12/219. 3- سورة الرعد، آية: 16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 شيء ومليك كل شيء، وأنه لا رب غيره ولا خالق سواه إذ كل الكون ناطق بأنه الواحد القهار. وقال تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} 1. وهذه الآية أيضاً: أشار الله ـ تعالى ـ فيها إلى بعض مظاهر قهره ونفوذ مشيئته في تبديل السموات والأرض وجمعه الخلائق ليوم المعاد الذي لا ريب فيه، ولا جرم أن الذي يستطيع أن يغير السموات والأرض ويجمع الخلائق ليجزيهم بأعمالهم دون أن يعترض إرادته معترض، أو يحول دون تنفيذ مشيئته حائل لا بد أن يكون إلهاً واحداً لا معقب لحكمه ولا شريك له في ملكه فهو يفعل ما يشاء ولا بد أن يكون قهاراً غالباً على كل شيء ولا يغلبه شيء ـ سبحانه ـ هو الله الواحد القهار. وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} 2. وفي هذه الآية: أمر الله نبيه أن يبين للناس بأنه منذر، ينذر الناس بطشة الله كما أمره أن يبين لهم بأنه ليس في الوجود إلا إله واحد هو الله الواحد القهار. وقال تعالى: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} 3. يشير ـ جل وعلا ـ في هذه الآية إلى يوم القيامة حين يرث الواحد القهار الأرض ومن عليها، ويسترد الملك من كل ذي ملك، والسلطان من كل ذي سلطان، ويشهد الخلق جميعاً أن الملك لله الواحد القهار، والمتدبر لإثبات صفتي الوحدانية والقهر الثابتة لله ـ جل وعلا ـ على ما يليق به يدرك شناعة الخطأ الذي وقع فيه القبوريون الذين يلجئون إلى غير الله حيث يطلبون منهم الحاجات ويستعينون بهم على نيل المطالب، والعجب لهم كيف سول لهم الشيطان أن يتركوا الواحد القهار، ويتجهون إلى المقهورين، وينصرفون عن الغالب إلى المغلوبين4 وأسماء الله وصفاته تنادي جميع المخلوقين بتجريد التوحيد لله وحده لا شريك له، وبأنه غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.   1- سورة إبراهيم، آية: 48. 2- سورة ص، آية: 65. 3- سور غافر، آية: 16. 4- معارج الألباب ص220 ـ 221. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 المبحث الثامن: إثبات صفتي الرحمة والمغفرة معنى الرحمة: جاء في النهاية: في أسماء الله ـ تعالى ـ "الرحمن الرحيم" وهما اسمان مشتقان من الرحمة مثل ندمان ونديم، وهما من أبنية المبالغة، و"رحمن" أبلغ من "رحيم" و"الرحمن" خاص لله ـ تعالى ـ لا يسمى به غيره ولا يوصف. "والرحيم" يوصف به غير الله فيقال: رجل رحيم، ولا يقال: "رحمن" أ. هـ1. وقال صاحب القاموس2: "الرحمة": الرقة والمغفرة والتعطف ... أ. هـ3. قال العلامة ابن القيم: "وأما الرحمة فهي التعلق والسبب الذي بين الله وبين عباده فالتأليه عنهم له، والربوبية منه لهم، والرحمة سبب واصل بينه وبين عباده بها أرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، وبها هداهم، وبها أسكنهم دار ثوابه، وبها رزقهم وعافاهم، وأنعم عليهم فبينهم وبينه سبب العبودية وبينه وبينهم سبب الرحمة، واقتران ربوبيته برحمته كاقتران استوائه على عرشه فا {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 4. مطابق لقوله: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فإن شمول الربوبية وسعتها بحيث لا يخرج شيء عنها أقصى   1- 3/390. 2- هو: محمد بن يعقوب بن محمد بن إبراهيم بن عمر أبو طاهر مجد الدين الفيروزأبادي كان من أئمة اللغة والأدب، ولد سنة تسع وعشرين وسبعمائة، وتوفي سنة سبع عشرة وثمانمائة هجرية. انظر ترجمته في "البدر الطالع" 2/280، كشف الظنون 2/1657. 3- القاموس "طه" 2/106. 4- سورة طه، آية: 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 شمول الرحمة وسعتها فوسع كل شيء برحمته وربوبيته مع أن في كونه رباً للعالمين ما يدل على علوه على خلقه وكونه فوق كل شيء"1 أ. هـ. معنى المغفرة: قال الزجاج رحمه الله تعالى: "الغفور" هو فعول من قولهم غفرت الشيء إذا سترته وفعول موضوع للمبالغة وكذلك فعال2. وجاء في النهاية: "الغفار الساتر لذنوب عباده، وعيوبهم المتجاوز عن خطاياهم وذنوبهم، وأصل الغفر التغطية يقال: غفر الله لك غفراً، وغفراناً ومغفرة والمغفرة إلباس الله ـ تعالى ـ العفو للمؤمنين"3. وجاء في القاموس: "غفره ستره وغفر الله ذنبه يغفره غفراً ........ غطى عليه وعفا عنه"4. وقال العلامة ابن رجب5 رحمه الله تعالى: "المغفرة هي وقاية شر الذنوب مع سترها" أ. هـ6. والذي نستفيده من هذه الأقوال التي ذكرت حول بيان معنى اسمه ـ تعالى ـ "الرحيم" واسمه ـ تعالى ـ "الغفور". إن اسمه ـ تعالى ـ "الرحيم" يدل على كثرة من تناله الرحمة من خالقه فهي صفة فعل باعتبار تجددها على حسب أحوال المرحومين، وهي صفة ذات باعتبار أصلها لأن الله ـ تعالى ـ لم يزل ولا يزال متصفاً بهذه الصفة.   1- مدارج السالكين: 1/35. 2- تفسير أسماء الله الحسنى ص96. 3- 3/372 . 4- 2/106 . 5- هو: الإمام الحافظ: عبد الرحمن بن أحمد بن رجب السلامي البغدادي ثم الدمشقي أبو الفرج زين الدين ولد في بغداد سنة ست وثلاثين وسبعمائة وتوفي سنة خمس وتسعين وسبعمائة هجرية في دمشق. أنظر ترجمته في "شذرات الذهب" 6/339، الدرر الكامنة 2/321، طبقات الحافظ للسيوطي ص540 رقم الترجمة "1170". 6- جامع العلوم والحكم ص344. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 ويدل اسمه "الرحيم" على أنه ـ تعالى ـ يرحم خلقه برحمته ويتجاوز عن سيئاتهم مهما بلغت صغرت أم كبرت إذا أتوا بأسباب التوبة وصدقت رغبتهم في طلبها. وأما اسمه ـ تعالى ـ " الغفور" فمعناه هو الكثير المغفرة وأن المغفرة ستر الذنوب والتجاوز عنها، والعفو عن مغترفيها وصونهم من أن يمسهم العذاب بسببها وإلباسهم العفو عن خطيئاتهم، فالله ـ سبحانه وتعالى ـ "غفور" أي كثير الستر لذنوب عباده المؤمنين عظيم التجاوز عنهم. وقد دلت سورة ـ "الزُمَرْ" على إثبات صفتي الرحمة والمغفرة ـ للرب جل جلاله ـ في آيتين منها: قال تعالى: {أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} . وقال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} . فهاتان الآيتان من السورة تضمنتا إثبات صفتي الرحمة والمغفرة ـ للبارئ جل وعلا ـ وقد أمر الله نبيه في الآية الثانية من هاتين الآيتين أن يبلغ عباده المؤمنين أن لا ييأسوا من مغفرته فإنه ـ سبحانه ـ يغفر الذنوب جميعاً مهما أسرفوا على أنفسهم وأفرطوا ما عدا الإشراك بالله ـ سبحانه ـ فإنه لا يغفره إلا بالتوبة منه بالدخول في دين الله الحق فهو ـ سبحانه ـ ذو مغفرة عظيمة ورحمة واسعة للمقبلين عليه المنيبين إليه، والمنقادين له انقياداً تاماً ظاهراً وباطناً عن طواعية ورضى. قال ابن جرير رحمه الله تعالى عند قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ ... } الآية. اختلف أهل التأويل في الذين عنوا بهذه الآية. فقال بعضهم: عنى بها قوم من أهل الشرك قالوا: لما دعوا إلى الإيمان بالله كيف نؤمن، وقد أشركنا وقتلنا النفس التي حرم الله والله ـ يعد ـ فاعل ذلك النار فما ينفعنا مع ما قد سلف منا الإيمان فنزلت هذه الآية والذين قالوا: بهذا القول هم عبد الله بن عباس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 رضي الله عنهما، ومجاهد1 وعطاء2 وزيد بن أسلم وقتادة والسدي وابن زيد3 والشعبي4 رحمهم الله تعالى. وقال آخرون بل عنى بذلك أهل الإسلام وقالوا: تأويل الكلام إن الله يغفر الذنوب جميعاً لمن يشاء قالوا: وهي كذلك في مصحف عبد الله وقالوا: إنما نزلت هذه الآية في قوم صدهم المشركون عن الهجرة وفتنوهم فأشفقوا أن لا يكون لهم توبة وقال: بهذا القول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وعلي بن أبي طالب ومحمد بن كعب القرطبي وثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال آخرون: نزلت في قوم كانوا يرون أهل الكبائر من أهل النار فأعلمهم الله بذلك أنه يغفر الذنوب جميعاً لمن يشاء، وهذا قول آخر لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما. وقال ابن جرير: "وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: عنى ـ تعالى ـ ذكره بذلك جميع من أسرف على نفسه من أهل الإيمان والشرك لأن الله عم بقوله: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} جميع المسرفين فلم يخصص به مسرفاً دون مسرف. فإن قال قائل: فيغفر الله الشرك؟ قيل: نعم إذا تاب منه المشرك وإنما عنى بقوله: {إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} لمن يشاء ..... وأن الله قد استثنى منه الشرك إذا لم يتب منه صاحبه فقال: {إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 5. فأخبر أنه لا يغفر الشرك إلا بعد التوبة بقوله: {إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً} 6.   1- هو: مجاهد بن جبر أبو الحجاج المخزومي مولاهم المكي، ثقة إمام في التفسير وفي العلم مات سنة أربع ومائة هجرية. التقريب 2/229. 2- عطاء هو: ابن أبي رباح أسلم القرشي، مولاهم، المكي ثقة فقيه فاضل لكنه كثير الإرسال توفي سنة خمس عشرة ومائة هجرية انظر التهذيب 7/199 وما بعدها 3- هو: عبد الرحمن بن زيد بن أسلم العدوي، مولاهم المدني روى عن أبيه. تقريب التهذيب 1/480، طبقات المفسرين للداودي 1/271. 4- هو: عامر بن شراحيل الشعبي أبو عمرو ثقة مشهور فقيه فاضل توفي بعد المائة. انظر التقريب 1/386. 5- سورة النساء، آية: 48. 6- سورة الفرقان، آية: 70. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 فأما ما عداه فإن صاحبه في مشيئة ربه إن شاء تفضل عليه فعفا له عنه وإن شاء عدل عليه فجازاه به. وأما قوله: {لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ} فإنه يعني: لا تيأسوا من رحمة الله وقوله: {إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} يقول: إن الله يستر على الذنوب كلها بعفوه عن أهلها وتركه عقوبتهم عليها إذا تابوا منها {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} بهم أن يعاقبهم عليها بعد توبتهم منها. أ. هـ1. وأما العلامة ابن كثير رحمه الله تعالى فقد قال حول الآية: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} "هذه الآية الكريمة دعوة لجميع العصاة من الكفرة وغيرهم إلى التوبة والإنابة". وإخبار بأن الله ـ تبارك وتعالى ـ يغفر الذنوب جميعاً لمن تاب منها ورجع عنها وإن كانت مهما كانت، وإن كثرت وكانت مثل زبد البحر ولا يصح حمل هذه على غير توبة لأن الشرك لا يغفر لمن لم يتب منه2. وقد استدل ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ على أنه لا يصح حمل هذه الآية على غير توبة بما رواه البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن ناساً من أهل الشرك كانوا قد قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا فأتوا محمداً صلى الله عليه وسلم فقال: إن الذي تقول، وتدعوا إليه لحسن لو تخبرنا بأن لما عملنا كفارة فنزل {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} 3 ونزل {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ} 4. قال ابن كثير: والمراد من الآية الأولى ـ أي آية الفرقان ـ قوله تعالى: {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتَاباً} 5.   1- جامع البيان 24/14 ـ 17. 2- تفسير القرآن العظيم 6/100. وانظر مجموع الفتاوى 16/18 ـ 32. 3- سورة الفرقان، آية: 68. 4- صحيح البخاري 3/182، ورواه مسلم أيضاً: 4/2318. 5- تفسير القرآن العظيم 6/100 والآية رقم 71 من سورة الفرقان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 فابن جرير وابن كثير ـ رحمهما الله تعالى ـ اعتبرا الآية عامة في جميع المسرفين في الذنوب من بني آدم، وأنه ـ تعالى ـ يغفر جميع ذلك مع التوبة النصوح ولا يجوز لعبد أن يقنط نفسه، أو غيره من رحمة الله ـ تعالى ـ ومغفرته اللتين هما من صفات الكمال ولذلك اتصف بهما رب العالمين ـ سبحانه وتعالى ـ. وصفتا الرحمة والمغفرة وردا في كتاب الله تعالى في مواضع كثيرة: قال تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} 1. وقال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 2. قال العلامة ابن القيم: "وصفات الإحسان والجود والبر والمنة والرأفة واللطف أخص باسم "الرحمن" وكرر إيذاناً بثبوت الوصف وحصول أثره وتعلقه بمتعلقاته "فالرحمن" الذي الرحمة وصفه، والرحيم الراحم لعباده ولهذا يقول تعالى {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} 3 {إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 4. ولم يجيء رحمن بعباده، ولا رحمن بالمؤمنين مع ما في اسم "الرحمن" الذي هو على وزن "فعلان" من سعة هذا الوصف وثبوت جميع معناه الموصوف به. ألا ترى أنهم يقولون: غضبان للممتلئ غضباً وندمان وحيران، وسكران، ولهفان لمن ملئ بذلك فبناء فعلان للسعة والشمول ولهذا يقرن استواءه على العرش بهذا الإسم كثيراً {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} 5. فاستوى على عرشه باسم الرحمن لأن العرش محيط بالمخلوقات قد وسعها والرحمة محيطة بالخلق واسعة لهم كما قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْء} 6. فاستوى على أوسع المخلوقات بأوسع الصفات فلذلك وسعت رحمته كل شيء.   1- سورة البقرة، آية: 163. 2- سورة طه، آية: 5. 3- سورة الأحزاب، آية: 43. 4- سورة التوبة، آية: 117. 5- سورة الفرقان، آية: 59. 6- سورة الأعراف، آية: 156. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لما قضى الله الخلق كتب في كتاب فهو موضوع على العرش إن رحمتي تغلب غضبي" وفي لفظ فهو عنده على العرش"1. فتأمل اختصاص هذا الكتاب بذكر الرحمة ووصفه عنده على العرش وطابق بين ذلك وبين قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 2 وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} 3 ينفتح لك باب عظيم من معرفة ـ الرب تبارك وتعالى ـ إن لم يغلقه عنك التعطيل والتجهم. أ. هـ4. فرحمته ـ تعالى ـ عمت كل شيء في العالم العلوي والسفلي البر والفاجر المؤمن والكافر فلا يخلو مخلوق إلا وقد وصلت إليه رحمته وغمره فضله وإحسانه، ولكن هناك رحمة خاصة ليست لكل أحد، وهي المقصودة بقوله: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ} 5. وقال تعالى: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ للهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} 6. هذه الآية أمر الله ـ تعالى ـ نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بأن يقول للمشركين مقرراً وملزماً بالتوحيد لمن ما في السموات فإن أجابوك وإلا فقل إن الله هو الذي خلق هذا الكون، وهو مالكه ومتصرف فيه كيف يشاء ثم أخبر بأنه كتب على نفسه الرحمة ترغيباً للمتولين عن الإقبال عليه، وإخباراً منه بأنه رحيم بالعباد، قادر على أن يعاجلهم بالعقوبة ولكنه كتب على نفسه الرحمة ووعد بها فضلاً منه، وإحساناً ولم يوجبها عليه أحد، والكتابة تكون شرعية، وتكون كونية فالكتابة الشرعية الأمرية مثل قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} 7.   1- صحيح البخاري 2/208، صحيح مسلم 4/2107. 2- سورة طه، آية: 5. 3- سورة الفرقان، آية: 59. 4- مدارج السالكين 1/33 ـ 34. 5- سورة الأعراف، آية: 156. 6- سورة الأنعام، آية: 12. 7- سورة البقرة، آية: 183. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 والكونية والقدرية كقوله تعالى: {كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} 1. فالمراد بالكتابة في قوله تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} كونية قدرية، فقد كتب على نفسه الرحمة تفضلاً منه، وإحساناً من غير أن يوجبها عليه أحد. وقال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} 2. هذه الآية تضمنت إثبات الرحمة والمغفرة للذين يبادرون بالتوبة ويمشون على الصراط المستقيم ـ فسبحان ـ ربنا وسعت رحمته وعلمه كل شيء فما من مسلم ولا كافر إلا وهو يتقلب في نعم الله التي لا تحصى ولا تعد. وقال تعالى: {الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} 3. فسورة الفاتحة التي هي أول سور القرآن دلت على إثبات صفة الرحمة ـ للباري جل وعلا ـ وهي السورة التي اشتملت على أمهات المطالب العالية. قال العلامة ابن القيم حول تفسيره لهذه السورة العظيمة: "وتضمنت إثبات النبوات من جهات عديدة: أحدها: كونه رب العالمين فلا يليق به أن يترك عباده سدى هملاً لا يعرّفهم ما ينفعهم في معاشهم ومعادهم، وما يضرهم فيها فهذا هضم للربوبية، ونسبة الرب ـ تعالى ـ إلى ما لا يليق به وما قدره حق قدره من نسبه إليه. الثاني: أخذها من اسم "الله" وهو المألوه المعبود ولا سبيل للعباد إلى معرفة عبادته إلا من طريق رسله. الثالث: من اسمه "الرحمن" فإن رحمته تمنع إهمال عباده وعدم تعريفهم ما ينالون به غاية كمالهم، فمن أعطى اسم "الرحمن" حقه عرف أنه متضمن لإرسال الرسل وإنزال الكتب أعظم من تضمنه إنزال الغيث، وإنبات الكلأ وإخراج الحب فاقتضاء الرحمة لما   1- سورة المجادلة آية: 21. 2- سورة غافر آية: 7. 3- سورة الفاتحة آية: 1 ـ 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 تحصل به حياة القلوب والأرواح أعظم من اقتضائها لما تحصل به حياة الأبدان والأشباح لكن المحجوبون إنما أدركوا من هذا الاسم حظ البهائم وأدرك منه أولو الألباب أمراً وراء ذلك"1. وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله ـ تعالى ـ موصوف بالرحمة والمغفرة. فقد روى الإمام مسلم في صحيحه بإسناده إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبي فإذا امرأة من السبي تبتغي إذ وجدت صبياً في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته. فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار"؟ قلنا: لا. والله وهي تقدر على أن لا تطرحه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لله أرحم بعباده من هذه بولدها" 2. ومما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في شأن ثبوت صفة المغفرة لله ـ جل وعلا ـ الحديث القدسي الذي رواه أبو هريرة رضي الله ـ تعالى ـ عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه ـ عز وجل ـ قال: "أذنب عبدي ذنباً فقال: اللهم اغفر لي ذنبي فقال ـ تبارك وتعالى ـ أذنب عبدي عبدي ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب فقال: أي ربي أغفر لي ذنبي فقال ـ تبارك وتعالى ـ أذنب عبدي ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب إعمل ما شئت فقد غفرت لك" 3. فهذان الحديثان دلا على أنه ـ تعالى ـ موصوف حقيقة بصفتي الرحمة والمغفرة كما يليق بذاته ـ جل وعلا ـ كما يقال في سائر الصفات: فالله ـ تعالى ـ هو الذي يتطلب منه المغفرة للذنوب، والرحمة للخلق فما دام العباد منيبين إليه قارعين بابه فإنه يتوب عليهم ويرحمهم برحمته التي وسعت كل شيء، والذي يتضح من الآيات والأحاديث المتقدمة التي سقناها أدلة على أن الله ـ تعالى ـ موصوف بصفتي الرحمة والمغفرة أن الرحمة تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: رحمة عامة يشترك فيها المسلم والكافر، والبر والفاجر والبهائم وسائر الخلق دل على هذا القسم قوله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} 4.   1- مدارج السالكين 1/8، والتفسير القيم ص7 ـ 9. 2- صحيح مسلم 4/2109. 3- المصدر السابق 4/2112. 4- سورة الأعراف، آية: 156. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 وقوله تعالى: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً} 1. القسم الثاني: قسم خاص بالأنبياء والرسل وعباده المؤمنين دل على هذا القسم قوله تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} 2. وقوله تعالى: {إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 3. والرحمة المضافة إلى الله ـ تعالى ـ نوعان: النوع الأول: من إضافة المفعول إلى فاعله ومثال هذا النوع الحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "احتجت الجنة والنار ..... الحديث وفيه: "فقال للجنة إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي" 4 فهذه رحمة مخلوقة مضافة إليه إضافة المخلوق بالرحمة إلى خالقه، وسماها رحمة لأنها خلقت بالرحمة وللرحمة وخص بها أهل الرحمة، وإنما يدخلها الرحماء. النوع الثاني: مضاف إليه إضافة صفة إلى موصوف وذلك مثل قوله تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} 5 ورغم كثرة النصوص في إثبات صفتي الرحمة والمغفرة وثبوتها لله ـ عز وجل ـ حقيقة على ما يليق بجلاله وعظيم سلطانه فإنه قد وجد من أنكرها ووجد من أولها تأويلاً باطلاً بغير المراد منها، فالجهمية مذهبهم كما هو معلوم إنكار صفات الله ـ تعالى ـ وأسمائه كلية لا يثبتون له صفة ولا اسماً6. ووافقهم المعتزلة في نفي صفاته ـ تعالى ـ وأثبتوا له أسماءاً بدون صفات7. وهاتان الطائفتان متفقتان على نفي صفة الرحمة والمغفرة، فقد زعموا أن الرحمة ضعف وخور في الطبيعة وتألم على المرحوم وبناءاً على هذه الشبهة الباطلة نفوها كلية ويزعمون أن هذا من التنزيه وهو في   1- سورة غافر، آية: 7. 2- سورة الأحزاب، آية: 43. 3- سورة التوبة، آية: 117. 4- صحيح البخاري 3/182. 5- بدائع الفوائد 2/183 والآية رقم: 56 من سورة الأعراف، وانظر هادي الأرواح ص258. 6- مجموع الفتاوى 12/507، 205. 7- المصدر السابق 3/20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 الحقيقة تعطيل وجحد لصفات الله تعالى، ومن مبالغة الجهمية في إنكارهم صفة الرحمة أن قدوتهم الأول في الضلالة "الجهم بن صفوان" كان يقف على الجذامى ويشاهد ما هم فيه من البلايا ويقول: "أرحم الراحمين يفعل مثل هذا يعني أنه ليس ثم رحمة في الحقيقة، وأن الأمر راجع إلى محض المشيئة الخالية عن الحكمة والرحمة، ولا حكمة عنده ولا رحمة، فإن الرحمة لا تعقل إلا من فعل من يفعل الشيء لرحمة غيره ونفعه، والإحسان إليه، فإذا لم يفعل لغرض ولا غاية ولا حكمة لم يفعل الرحمة والإحسان" 1. فإمام الجهمية في الضلال ينكر رحمة الله وحكمته وعلى ذلك جرى أتباعه أما شبهة الجهمية وأفراخهم المعتزلة التي أدت بهم إلى إنكار صفة الرحمة وهي قولهم: أن الرحمة ضعف وخور في الطبيعة، وتألم على المرحوم فهذا زعم باطل من وجوه: الوجه الأول: أن الضعف والخور مذموم في الآدميين والرحمة ممدوحة قال تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} 2، وقد نهى الله عن الوهن والحزن فقال: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 3، وندبهم إلى الرحمة فقد قال صلى الله عليه وسلم: "لا تنزع الرحمة إلا من شقي" 4 وقال: "من لا يَرْحَم لا يُرْحَم" 5 وقال: "الرَّاحمون يرحمهم الرحمن" 6 ومحال أن يقول: لا ينزع الضعف والخور إلا من شقي، ولما كانت الرحمة تقارن في حق كثير من الناس الضعف والخور كما في رحمة النساء ونحو ذلك ظن الغالط أنها كذلك مطلقاً. الوجه الثاني: أنه لو قدر أنها في حق المخلوقين مستلزمة لذلك لم يجب أن تكون في حق الله ـ تعالى ـ مستلزمة لذلك، كما أن العلم والقدرة والسمع والبصر والكلام فينا يستلزم من النقص والحاجة ما يجب تنزيه الله عنه. الوجه الثالث: إنا نعلم بالاضطرار أنا إذا فرضنا موجوديْن أحدهما يرحم غيره   1- مجموع الفتاوى 17/177، إغاثة اللهفان 2/277، شفاء العليل ص202. 2- سورة البلد، آية: 17. 3- سورة آل عمران، آية: 139. 4- رواه أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة رضي الله عنه 2/301. 5- متفق عليه: صحيح البخاري 4/51، صحيح مسلم 4/1809 كلاهما من حديث أبي هريرة. 6- رواه أبو داود في سننه 2/582، والترمذي 3/217 كلاهما من حديث عبد الله بن عمرو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 فيجلب له المنفعة، ويدفع عنه المضرة، والآخر قد استوى عنده هذا وهذا وليس عنده ما يقتضي جلب منفعة ولا دفع مضرة كان الأول أكمل1. وأما مذهب الأشعرية: في صفتي الرحمة، والمغفرة فإنهم يؤولونهما بغير المراد منهما، فقد تأولوا صفة الرحمة بمعنى الإحسان أو إرادة الإحسان قال البيجوري2 و"الرحمن الرحيم" صفتان مأخوذتان من الرحمة بمعنى الإحسان أو إرادة الإحسان لاستحالة ذلك في حقه ـ تعالى ـ فالرحمن الرحيم "في حقه بمعنى المحسن، أو مريد الإحسان لكن الأول بمعنى المحسن بجلائل النعم أي: بالنعم الجليلة والثاني بمعنى المحسن بدقائق النعم أي: بالنعم الدقيقة" أ. هـ3. وذكر صاحب الجوهرة مذهب الأشاعرة في الصفات فقال: وكل نص أوهم التشبيه ... أوله أو فوض ورم تنزيها4 وقال الرازي بعد أن ذكر بعض الصفات الفعلية: "إن هذه المتشابهات يجب القطع بأن مراد الله منها شيء غير ظواهرها كما يجب تفويض معناها إلى الله ـ تعالى ـ، ولا يجوز الخوض في تفسيرها"5. فمذهب الأشعرية عموماً إثبات بعض الصفات وتأويل الكثير منها بغير المراد منها فتأويلهم صفة الرحمة بمعنى الإحسان، أو إرادة الإحسان مغالطة ظاهرة إذ الحق إثبات صفة الرحمة كما يليق بجلاله ـ تعالى ـ كالقول في سائر الصفات، والرحمة لا تنفك عن إرادة الإحسان فهي مستلزمة للإحسان أو إرادته استلزام الخاص للعام فكما أنه يستحيل وجود الخاص بدون العام فكذلك الرحمة بدون الإحسان أو إرادته. وبعض الأشاعرة تأول صفة الرحمة بمعنى الثواب، ويرد على هذا التأويل البعيد   1- مجموعة الرسائل والمسائل: 4/226 ـ 227. دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ لبنان. 2- هو: إبراهيم بن محمد بن أحمد الشافعي الباجوري المتوفى سنة 1277 هـ. 3- تحفة المريد على جوهرة التوحيد ص3. 4- المصدر السابق ص91. 5- أساس التقديس ص223. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 عن الحق والصواب ـ بأن البارئ سبحانه ـ قد فرق بين رحمته ورضوانه وثوابه المنفصل فقال: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ} 1. فالرحمة والرضوان صفته، والجنة ثوابه وهذا يبطل قول من جعل الرحمة والرضوان ثواباً منفصلاً مخلوقاً، وقول من قال: هي إرادته الإحسان فإن إرادته الإحسان من لوازم رحمته فإنه يلزم من الرحمة أن يريد الإحسان وكذلك لفظ اللعنة والغضب، والمقت هي أمور مستلزمة للعقوبة فإذا انتفت حقائق تلك الصفات انتفى لازمها فإن ثبوت لازم الحقيقة مع انتفائها ممتنع، فالحقيقة لا توجد منفكة عن لوازمها2. والذي نخلص إليه مما تقدم أن صفتي الرحمة، والمغفرة ثابتتان ـ للباري سبحانه ـ على ما يليق به، والذين نفوهما أو أولوهما بغير المراد منهما ليس معهم ما يؤيدهم على دعواهم أي دليل لا من الكتاب ولا من السنة، ولا من العقل، أو الفطرة، أو اللغة وإنما الذي حملهم على مزاعمهم الباطلة، إنما هو قياسهم الخالق على المخلوق واتباع الهوى الذي جرهم إلى النفي والتعطيل وتحريف الكلم عن مواضعه نعوذ بالله من شر ذلك.   1- سورة التوبة، آية: 21. 2- انظر مختصر الصواعق المرسلة 2/121. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 المبحث التاسع: إثبات صفة الغنى لله تعالى لقد دلت السورة على إثبات صفة الغنى المطلق ـ للباري جل وعلا ـ في آية واحدة منها، وهي قوله تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} . هذه الآية الكريمة من السورة أثبتت صفة الغنى التام المطلق لله ـ حل وعلا ـ من جميع الوجوه والاعتبارات لكماله، وكمال صفاته ـ سبحانه وتعالى ـ فصفة الغنى لله ـ سبحانه وتعالى ـ ثابتة بنص القرآن والسنة، وغناه ـ سبحانه ـ لازم لذاته. جاء في النهاية في أسماء الله ـ تعالى ـ "الغني" هو الذي لا يحتاج إلى أحد في شيء، وكل أحد يجتاح إليه، وهذا هو الغنى المطلق، ولا يشارك الله ـ تعالى ـ فيه غيره، ومن أسمائه ـ تعالى ـ "المغني" وهو الذي يغني من يشاء من عباده1 أ. هـ. وجاء في المفردات في غريب القرآن: "الغنى يقال على ضروب": أحدها: عدم الحاجات وليس ذلك إلا الله ـ تعالى ـ وهو المذكور في قوله: {وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} 2 وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} 3.   1- النهاية في غريب الحديث والأثر: 3/390. 2- سورة الحج آية: 64. 3- سورة فاطر آية: 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 الثاني: قلة الحاجات وهو المشار إليه بقوله: {وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} 1. الثالث: كثرة القنيات بحسب ضروب الناس ومنه قوله تعالى: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} 2 أي: لهم غنى النفس، ويحسبهم الجاهل أن لهم القنيات لما يرون فيهم من التعفف والتلطف"أ. هـ3. فالذي يستفاد من التعريف اللغوي لاسمه ـ تعالى ـ "الغني" أن الله ـ تعالى ـ متصف بصفة الغنى المطلق من جميع الوجوه فلا يتطرق إليه نقص بوجه من الوجوه، ولا يمكن أن يكون إلا غنياً لأن غناه ـ سبحانه ـ من لوازم ذاته، كما لا يكون إلا خالقاً، قادراً رازقاً، محسناً، فلا يحتاج إلى أحد بحال من الأحوال فهو ـ تعالى ـ الغني الذي بيده خزائن الأرض والسموات، وهو الذي يغني جميع خلقه غنى عاماً وهو الذي يغني خواص خلقه بما يفيض على قلوبهم من حقائق الإيمان ومعرفتهم ربهم معرفة تامة تزيدهم إيماناً ويقيناً، فجميع الخلائق مفتقرة إليه ـ سبحانه وتعالى ـ في وجودها فلا وجود لها إلا به، ومفتقرة إليه في قيامها فلا قوام لها إلا به ـ جل وعلا ـ فهو القيوم، القائم بنفسه فلا يحتاج إلى شيء القيم لغيره فلا قوام لشيء إلا به، والقائم على غيره، المدبر لأمور خلقه، فالله ـ تعالى ـ له الغنى المطلق الكامل، وكل الخلق فقراء إلى الله، وقد وردت آيات كثيرة تبين هذا المعنى وتثبته: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} 4 في هذه الآية: "يخبر ـ تعالى ـ بغنائه عما سواه، وبافتقار المخلوقات كلها إليه وتذللها بين يديه فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ} أي: هم محتاجون إليه في جميع الحركات والسكنات وهو ـ تعالى ـ الغني عنهم بالذات ولهذا قال ـ عز وجل ـ: {وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} 5 أي: هو المنفرد بالغنى وحده لا شريك له، وهو الحميد في جميع ما يفعله ويقوله ويقدره ويشرعه"6.   1- سورة الضحى آية: 8. 2- سورة البقرة آية: 273. 3- المفردات للراغب ص366، وانظر "المنهاج في شعب الإيمان للحليمي" 1/196. 4- سورة فاطر آية: 15. 5- سورة فاطر آية: 15. 6- تفسير ابن كثير 5/577. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 وقال تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى الله وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} 1. وهاتان الآيتان: أخبر الله ـ تعالى ـ بهما أن الأمم التي مضت حل بهم من النكال والوبال ما لا يقادر قدره بسبب تكذيبهم رسله، والكفر بهم وبما جاؤوا به من الحق المبين، فكأن أفكارهم السيئة أملت لهم أنهم يضرون الله بعملهم ذلك ولم يفكروا بأنه ـ تعالى ـ غني عن إيمان جميع خلقه وعبادتهم فهو ـ سبحانه ـ "غني حميد" غير محتاج إلى العالم ولا إلى عباداتهم وهو المحمود ـ سبحانه ـ من جميع الخلائق بلسان المقال والحال وهو ـ سبحانه ـ لا تضره معصية العاصين، ولا تزيده طاعة الطائعين وقال تعالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنَّ الله لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} 2 ففي هذه الآية: بيان من الله ـ تعالى ـ أن كل ما في السموات وما في الأرض من الأشياء ملك له، وهو غني عما سواه، وكل شيء فقير إليه عبد لديه ـ فسبحانه ـ من غني كريم. وقال تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ} 3. قال ابن جرير حول هذه الآية: "قل يا محمد لهؤلاء المشركين العادلين بربهم الأوثان والأصنام والمنكرين عليك إخلاص التوحيد لربك الداعين إلى عبادة الآلهة والأوثان، أشيئاً غير الله ـ تعالى ـ أتخذ ولياً أستنصره وأستعينه على النوائب والحوادث"4 أ. هـ. فالله ـ جل وعلا ـ هو الذي يحتاج إليه الخلائق ويلجئون إليه لينصرهم ويعينهم على ما يهمهم من أمر دينهم ودنياهم لأنهم عاجزون فقراء إلى الله ـ تعالى ـ لا يستطيعون تحقيق مصالحهم إلا بعونه ـ تعالى ـ لهم ونصره إياهم.   1- سورة التغابن آية: 5 ـ 6. 2- سورة الحج آية: 64. 3- سورة الأنعام آية: 14. 4- جامع البيان عن تأويل آي القرآن: 7/158. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ الله هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} 1. هذه الآية: بين الله ـ تعالى ـ فيها أنه ما خلق الجن والإنس إلا ليوحدوه ـ سبحانه ـ ويفردوه بالعبادة لأنه لخالق لهم، والموجد لهم من العدم وهو الذي حباهم بأصناف النعم ثم بين ـ تعالى ـ في الآية الثانية أنه مستغن عن عباده وأنه لا يريد منهم منفعة كما تريد السادة من مواليهم بل هو الغني على الإطلاق الرازق المعطي ـ سبحانه وتعالى ـ. وقد أنكر الله على اليهود حين نسبوا الفقر إلى الله ونسبوا الغنى إلى أنفسهم الحقيرة العاجزة التي لا تملك لنفسها ضراً ولا نفعاً وحكم بكفرهم، لأنهم نفوا صفة الغنى عن الرب ـ سبحانه وتعالى ـ الذي خزائنه لا تنفد فقال تعالى: {لَقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} 2. ـ فتعالى الله الكريم ـ عن مقالة اليهود وأشباههم علواً كبيراً، ورد الله عليهم في موضع آخر حين زعموا أن يد الله مغلولة فرد عليهم بأن يديه مبسوطتان، سحاء الليل والنهار لا تغيضها نفقة، ولعنهم على مقالتهم الجائرة {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً} 3. قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ الله مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} 4. كما أنه ـ تعالى ـ رد على المنافقين حين تآمروا فيما بينهم على أن لا ينفقوا على الصحابة الملتفين حول رسول الله صلى الله عليه وسلم كي يتفرقوا من حوله ويتركوه وحيداً ولم يدركوا أن الصحابة الذين كانوا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم مهما نزلت بهم النكبات والكوارث فإنهم لا يتزعزعون لأن إيمانهم راسخ لا يتزحزح كالجبال الرواسي، ورد الله على المنافقين بأنهم لا يملكون شيئاً وأن خزائن السموات والأرض بيده ـ سبحانه ـ.   1- سورة الذاريات آية: 56 ـ 58. 2- سورة آل عمران آية: 181. 3- سورة الكهف آية: 5. 4- سورة المائدة آية: 64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 قال تعالى: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ الله حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلله خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ} 1. وقال تعالى: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإنْفَاقِ وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُوراً} 2 فهذه الآيات التي قدمنا ذكرها فيها الإخبار منه ـ تعالى ـ بكمال غناه عن خلقه وأنه لا يزيد في غناه طاعة من أطاعه ولا ينقص من غناه معصية من عصاه. وبينت أنه ـ سبحانه ـ لم يخلق الخلق لحاجته إليهم، وأنه لو شاء لذهب بهم وأتى بغيرهم، وأخبر ـ تعالى ـ بأنهم فقراء إليه لا غنى لهم عنه في نفس من أنفاسهم وكلهم يعلم ذلك، مقرين به، وأنهم لم يكونوا موجودين حتى أوجدهم وليس لهم قدرة من أنفسهم ولا غيرها إلا بما أقدرهم الله عليه فإنه ـ سبحانه ـ الغني الفعال لما يريد، كما أن تلك الآيات تتضمن الرد على القائلين أن علة افتقار الخلائق إليه ـ سبحانه ـ إنما هو الحدوث فلا تحتاج إليه ـ سبحانه ـ إلا في حال الإحداث. قال شيخ الإسلام ـ رحمه الله تعالى ـ في صدر رده على الجهمية والمعتزلة القائلين بأن علة افتقار الخلائق إلى ربها إنما هو الحدوث فلا تحتاج إليه ـ سبحانه ـ إلا في حال الإحداث، وفي رده على ابن سيناء وطائفة الذين يقولون بأن علة افتقار الخلائق إلى ربها إنما هو الإمكان الذي يظن أنه يكون بلا حدوث، بل يكون المعلول قديماً أزلياً، ويمكن افتقارها في حال البقاء بلا حدوث. فقد بين ـ رحمه الله ـ بطلان هذين القولين: وقرر بأن الإمكان والحدوث متلازمان كما عليه جماهير العقلاء من الأولين والآخرين، وحتى القدماء من الفلاسفة كأرسطو وأتباعه فإنهم يقولون: إن كل ممكن فهو محدث، ولم يخالف في هذا إلا ابن سيناء وطائفة، ولذلك إخوانهم من الفلاسفة أنكروا عليهم رأيهم كابن رشد3 وغيره ... إلى أن قال ـ رحمه الله ـ والمخلوقات مفتقرة إلى الخالق فالفقر   1- سورة المنافقون آية: 7. 2- سورة الإسراء آية: 10. 3- هو: محمد بن أحمد بن محمد بن رشد الأندلسي أبو الوليد الفيلسوف من أهل قرطبة اشتغل بعلم الفلسفة وترجمها إلى العربية، وله مؤلفات كثيرة في فنون مختلفة. ولد سنة عشرين وخمسمائة، وتوفي سنة خمس وتسعين وخمسمائه. انظر ترجمته في: شذرات الذهب 4/320، والأعلام للزركلي 6/612. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 وصف لازم لها دائماً لا تزال مفتقرة إليه، والإمكان والحدوث دليلان على الافتقار لأن هذين الوصفين جعلا الشيء مفتقراً، بل فقر الأشياء إلى خالقها لازم لها لا يحتاج إلى علة، كما أن غنى الرب لازم لذاته لا يفتقر في اتصافه بالغنى إلى علة، وكذلك المخلوق لا يفتقر في اتصافه بالفقر إلى علة بل هو فقير لذاته لا تكون ذاته إلا فقيرة فقراً لازماً لها ولا يستغني إلا بالله. وهذا معنى "الصمد" وهو الذي يفتقر إليه كل شيء ويستغنى عن كل شيء بل الأشياء مفتقرة من جهة ربوبيته ومن جهة إلهيته فما لا يكون به لا يكون، وما لا يكون له لا يصلح ولا ينفع ولا يدوم وهذا تحقيق قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِياك نَسْتَعِينُ} 1. وقال العلامة ابن القيم رحمة الله ـ تعالى ـ عليه بعد أن ذكر قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} 2. بين ـ سبحانه ـ في هذه الآية أن فقر العباد إليه أمر ذاتي له فغناه وحمده ثابت له لذاته لا لأمر أوجبه، وفقر من سواه إليه ثابت له لذاته، لا أمر أوجبه فلا يعلل هذا الفقر بحدوث ولا إمكان، بل هو ذاتي للفقير، فحاجة العبد إلى ربه لذاته لا لعلة أوجبت تلك الحاجة كما أن غنى الرب ـ سبحانه ـ لذاته لا لأمر أوجب غناه كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والفقر لي وصف ذات لازم أبدا ... ًكما أن الغنى أبداً وصف له ذاتي فالخلق فقير محتاج إلى ربه بالذات لا بعلة وكل ما يذكر ويقرر من أسباب الفقر والحاجة فهي أدلة على الفقر والحاجة لا علل لذلك إذا ما بالذات لا يعلل فالفقير بذاته محتاج إلى الغني بذاته وما يذكر من إمكان وحدوث واحتياج فهي أدلة على الفقر لا أسباب له ولهذا كان الصواب في مسألة علة احتياج العالم إلى الرب ـ سبحانه ـ غير القولين اللذين تذكرهما الفلاسفة والمتكلمون، فإن الفلاسفة قالوا: علة الحاجة الإمكان، والمتكلمون قالوا: علة الحاجة الحدوث. والصواب أن الإمكان والحدوث متلازمان وكلاهما دليل الحاجة والافتقار وفقر العالم إلى الله ـ سبحانه ـ أمر ذاتي لا يعلل فهو فقير بذاته إلى ربه الغني بذاته ثم يستدل بإمكانه وحدوثه وغير ذلك من الأدلة على هذا الفقر، والمقصود أنه ـ سبحانه ـ أخبر عن حقيقة العباد وذواتهم بأنها فقيرة إليه ـ سبحانه ـ كما أخبر عن ذاته   1- مجموع الفتاوى 5/514 ـ 515 والآيتان رقم 4 ـ 5 من سورة الفاتحة. 2- سورة فاطر آية: 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 المقدسة، وحقيقته أنه غني حميد، فالفقر المطلق من كل وجه ثابت لذواتهم وحقائقهم من حيث هي فيستحيل أن يكون العبد إلا فقيراً، ويستحيل أن يكون الرب ـ سبحانه ـ إلا غنياً كما أنه يستحيل أن يكون العبد إلا عبداً ويستحيل أن يكون الرب إلا رباً" أ. هـ1. وأما الأحاديث الدالة على أن الله متصف بصفة الغنى فكثيرة جداً. منها: حديث أبي ذر رضي الله ـ تعالى ـ عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ـ ربه ـ قال تعالى: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على اتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، ولو أن أولكم وآخركم وحيكم وميتكم ورطبكم ويابسكم، اجتمعوا على أتقى قلب عبد من عبادي ما زاد ذلك في ملكي جناح بعوضة، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه"2.ومنها حديث: عائشة رضي الله عنها وعن أبيها قالت: شكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قحوط المطر، فأمر بمنبر فوضع له في المصلى، ووعد الناس يوماً يخرجون فيه. قالت عائشة: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بدا حاجب الشمس فقعد على المنبر فكبر صلى الله عليه وسلم وحمد الله ـ عز وجل ـ ثم قال: "إنكم شكوتم جدب دياركم واستئخار المطر عن إبان زمانه عنكم وقد أمركم الله ـ عز وجل ـ أن تدعوه ووعدكم أن يستجيب لكم" ثم قال: الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم مالك يوم الدين ... لا إله إلا الله يفعل ما يريد، اللهم أنت الله   1- طريق الهجرتين ص6 ـ 7. 2- رواه مسلم في صحيحه 4/1994 ـ 1995. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 لا إله إلا أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث واجعل ما أنزلت لنا قوة وبلاغاً إلى حين" رواه أبو داود وقال: هذا حديث غريب إسناده جيد1. والذي نخلص إليه مما تقدم من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية أن الله ـ تعالى ـ متصف بصفة الغنى المطلق، فلا يحتاج إلى شيء وأن جميع الخلائق محتاجون إليه وفقراء إليه في كل أمر من أمورهم، فلا قوام لهم إلا به ـ تعالى ـ في كل حركاتهم وسكناتهم وفي كل لحظة من لحظاتهم، وفي كل نفس من أنفاسهم فلا غنى لهم عنه طرفة عين.   1- سنن أي داود 1/267. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 المبحث العاشر: إثبات صفة الرضا لقد أثبتت السورة صفة الرضا لله ـ جل وعلا ـ على ما يليق به ـ سبحانه ـ وهي صفة فعلية يفعلها متى شاء وكيف شاء. قال تعالى: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ... } الآية. هذه الآية من السورة إخبار من الله ـ تعالى ـ بأنه لا يرضى لعباده أن يكفروا به ولا يرضى لهم أن يشركوا به غيره، وإنما الذي يرضاه لهم أن يؤمنوا به ـ سبحانه ـ ويطيعوه ويكونوا بمنآى عن الكفر وأهله، وكون الكفر لا يخرج عن المشيئة العامة فليس ذلك مبرراً لكفر الكافر، ومعصية العاصي لأنه ـ تعالى ـ يخلق ما يحب وما يكره من الأعيان والأفعال وكل ما في الكون داخل تحت مشيئته فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. قال العلامة ابن القيم حول الآية {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} الآية "فالكفر والشكر واقعان بمشيئته وقدره، وأحدهما محبوب له مرضي، والآخر مبغوض له مسخوط، وكذلك قوله عقيب ما نهى عنه {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} 1. فهو مكروه له مع وقوعه بمشيئته وقضائه وقدره" أ. هـ2. وصفة الرضا كثر ذكرها في الكتاب والسنة مما يدل على ثبوتها ثبوتاً قطعياً للباري ـ سبحانه ـ على ما يليق بجلاله وعظيم سلطانه كغيرها من الصفات الأخرى كالعلم والقدرة والإرادة وغير ذلك من الصفات الثابتة التي نطق بها الكتاب والسنة.   1- سورة الإسراء آية: 38. 2- مدارج السالكين 1/253 ـ 254. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 قال تعالى: {هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} 1. ففي هذه الآية إخبار من الله ـ تعالى ـ بأنه يرضى عن عباده المؤمنين ويرضون عنه وقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} 2. وقال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} 3. وقال تعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} 4. فأخبر ـ تعالى ـ في هذه الآية بأنه لا يرضى بما يبيتونه من القول المشتمل على شهادة الزور والبهت ورمي البريء وبراءة الجاني إذ الآية نزلت في حادثة هذا شأنها5. مع أن كل ذلك واقع بمشيئته ـ سبحانه ـ إذ أجمع المسلمون على أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولم يخالفهم في هذا إلا القدرية النفاة الذي يقولون: يشاء ما لا يكون، ويكون ما لا يشاء. فالآيات السابقة دلت دلالة صريحة على إثبات الرضا ـ لله جل وعلا ـ إثباتاً يليق بجلاله فإذا نفاها نافٍ أو تأولها متأول بغير المراد منها فمعنى ذلك أنه يدعي أنه أعلم بصفات الله من الله ـ سبحانه وتعالى ـ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً فلا يجوز نفي أي صفة من صفاته ـ تعالى ـ أو تأوليها بغير ما يدل عليه ظاهرها كأن تؤول صفة الرضا بإرادة الثواب، وصفة الغضب بإرادة العقاب إذ هذا من تحريف الكلم عن مواضعه، واعتراض على الله فيما أثبته لنفسه، كما لا يجوز أن يقال: إن رضاه ـ تعالى ـ كرضا المخلوقين كما هو مذهب الكرامية المشبهة إذ الفرق بين رضا الخالق، ورضا المخلوق كالفرق بين الذات والذات، ذات الخالق، وذات المخلوق فكما أنه لا تشابه بين ذات الخالق وذات المخلوق، فكذلك لا   1- سورة المائدة آية: 119. 2- سورة التوبة آية: 100. 3- سورة الفتح آية: 18. 4- سورة النساء آية: 108. 5- مدارج السالكين 1/253، فتح القدير 1/512؛ لباب النقول في أسباب النزول ص81. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 تشابه بين صفة الخالق، وصفة المخلوق لأن ما وصف الله به نفسه لائق بجلاله، وما وصف به المخلوق، يناسب حاله وافتقاره. وقد دلت السنة على إثبات صفة الرضا كما دل عليها القرآن الكريم فقد جاء من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله ـ عز وجل ـ يقول يا أهل الجنة فيقولون: لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون وما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك فيقول ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون يا رب: وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً"1. فالحديث دل على أن رضى الله أعظم، وأجل من كل نعيم، كما دل دلالة واضحة على إثبات صفة الرضا والسخط إثباتاً يليق بجلاله. ومن حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يرضى لكم ثلاثاً: ويكره لكم ثلاثاً فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، ويكره لكم ثلاثاً قيل وقال2 وكثرة السؤال3 وإضاعة المال" 4. فالحديث دل على أنه ـ تعالى ـ يرضى ويكره وهاتان الصفتان صفتا كمال ولو كان في إثبات هاتين الصفتين وغيرهما محذور لأشار إلى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وبينه ووضحه للأمة، فهو ـ سبحانه ـ يرضى رضاءاً يليق بجلاله، ويكره بعض الأعمال كراهة تليق به، ولا داعي لأن نتأول الحديث بتأويلات باطلة ما أنزل الله بها من سلطان. كتأويل الرضا، والسخط والكراهة من الله ـ تعالى ـ بأن المراد بها أمره ونهيه وثوابه وعقابه، أو إرادته الثواب لبعض العباد والعقاب لبعضهم5 إذ هذه التأويلات من تصرف بعض الطوائف كالأشعرية الكلابية الذين يتكلفون تأويلات لم يكلفهم الله بها، بل هي تأويلات باطلة ناتجة عن التصرف   1- متفق عليه: صحيح البخاري مع الفتح 13/487، وصحيح مسلم 4/2176. 2- قيل وقال: الخوض في أخبار الناس وحكاية ما لا يعني من أحوالهم وتصرفاتهم. 3- كثرة السؤال: هو التنطع في المسائل والإكثار من السؤال عما لم يقع، وقيل المراد به سؤال الناس أموالهم. 4- رواه مسلم في صحيحه 4/340. 5- انظر شرح النووي على صحيح مسلم 12/10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 الخاطىء إزاء صفات الله ـ تعالى ـ التي أثبتها لنفسه، وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم بدون تعطيل ولا تأويل، كما أن الحديث تضمن الرد على القدرية الجبرية الذين يزعمون أن كل ما في الكون محبوب لله حتى المعاصي ـ تعالى عن ذلك وتقدس ـ فقد بين الحديث أنه ـ سبحانه ـ يكره القيل والقال، وكثرة السؤال وإضاعة المال. ومن حديث أنس رضي الله عنه قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الذين قتلوا أصحاب بئر معونة ثلاثين صباحاً يدعو على رعل1 وذكوان2 وعصية3 عصت الله ورسوله قال أنس: "أنزل الله ـ عز وجل ـ في الذين قتلوا ببئر معونة قرآناً قرأناه حتى نسخ بعد أن بلغوا قومنا أن قد لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه" 4. ففي الحديث دلالة صريحة واضحة على إثبات صفة الرضا ـ للرب جل وعلا ـ حيث أكرم الله ـ عز وجل ـ تلك الفئة المؤمنة من شهداء بئر معونة برضاه الذي هو أعظم من كل نعيم ورضوا بما أكرمهم الله ـ تعالى ـ به من دخول الجنة التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. ومما ينبغي أن يعلم أن السلف الصالح كانوا يطلقون الصفات الخبرية على الله بدون توقف، ولكن الأمر انعكس اليوم فأصبح كثير من أتباع العقيدة الأشعرية الكلابية يتوقفون من إطلاق الكثير من الصفات الخبرية على الله ـ تعالى ـ إلا بنية تأويلها وتفسيرها بلازمها. فمذهب السلف الصالح الذي هو الطريق السوي هو التسليم بما جاء في الكتاب والسنة، ولا يتجاوزونهما فالله يرضى ويغضب ويحب ويفرح كما أخبر بذلك عن نفسه وأخبر رسوله صلى الله عليه وسلم. وأما احتجاج أبي علي الجبائي المعتزلي بالآية التي صدرنا بها هذا المبحث وهي قوله تعالى: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} على أن العبد يخلق أفعاله، وقال: لو أن الله خلق الكفر لكان قد رضي الكفر من الوجه الذي خلقه ولو كان   1- رعل: قبيلة من سليم بن منصور من العدنانية تنتسب إلى رعل بن عوف بن مالك. الفتح 7/379 2- ذكوان: قبيلة من بني سليم بن منصور من قيس بن غيلان من العدنانية. انظر تاريخ ابن خلدون 2/307. 3- عصية: بطن من بلى من قضاعة من القحطانية. انظر نهاية الأرب للنويري 2/296. 4- رواه مسلم في صحيحه 1/468. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 الكفر بقضاء الله ـ تعالى ـ لوجب على الخلق أن يرضوا بذلك لأن الرضا بقضاء الله واجب، وحيث اجتمعت الأمة على أن الرضا بالكفر كفر ثبت أنه ليس بقضاء الله، وليس أيضاً برضاء الله1. وهذا الزعم يرد عليه من وجوه ثلاثة: الوجه الأول: يقال له: اختلف أهل التفسير في هذه الآية على قولين: 1ـ ذهب حبر الأمة عبد الله بن عباس والسدي2 إلى أن معنى قوله ـ تعالى ـ {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} خاص بعباده المؤمنين الذين أخلصهم لعبادته وطاعته. 2ـ وذهب آخرون إلى أن ذلك عام لجميع الناس وعلى هذا يكون المعنى أيها الناس إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لكم أن تكفروا به3. الوجه الثاني: يقال له: إن زعمك أن الرضا بالقضاء واجب ففيه تفصيل عند العلماء حيث أن أقسام الرضا ثلاثة: الرضا بالله، والرضا عن الله، والرضا بقضاء الله. فالرضا بالله فرض، والرضا عنه وإن كان من أجل الأمور وأشرفها فلم يطالب به العموم لعجزهم عنه ومشقتهم عنه، وأوجبه بعضهم وأما الرضا بكل مقتضى فلا يجب بل المقتضى ينقسم إلى ما يجب الرضا به وهو الديني الشرعي، ومقتضى كونه قدري، فإن كان فقراً أو مرضاً ونحو ذلك استحب الرضاء به ولم يجب، وأوجبه بعضهم وإن كان كفراً، أو معصية حرم الرضاء به، فإن الرضاء به مخالفة لله ـ تعالى ـ فإنه ـ سبحان ـ لا يرضى لعباده الكفر، وأما القضاء الذي هو صفة الله وفعله فالرضا به واجب" أ. هـ4.   1- التفسير الكبير للفخر الرازي 26/246. 2- هو إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة السدي أبو محمد الكوفي صدوق يهم ورمي بالتشيع توفي سنة سبع وعشرين ومائة هجرية "تهذيب التهذيب" 1/313ـ314. 3- جامع البيان 26/246. 4- منهاج السنة 2/40 ـ41، مدارج السالكين 1/256 مع التصرف اليسير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 الوجه الثالث: يقال له: إن الإرادة في كتاب الله نوعان: 1ـ إرادة قدرية كونية. 2ـ إرادة شرعية دينية. فالشرعية المتضمنة للمحبة والرضا، والقدرية الكونية هي: الشاملة لجميع الموجودات فما شاءه ـ سبحانه ـ كان وما لم يشأه لم يكن مثال الإرادة القدرية الكونية قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} 1. وقوله تعالى حكاية عن نبيه هود عليه السلام: {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} 2. فهذه الإرادة تعلقت بالإضلال والإغواء. ومثال الإرادة الشرعية الدينية الأمرية قوله تعالى: {يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} 3. وقوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} 4. فالأمر الشرعي إنما تلازمه الإرادة الشرعية الدينية ولا تلازم بينه وبين الإرادة الكونية القدرية5. فالله تعالى أمر الكافر بالإيمان وأراده منه شرعاً وديناً، ولم يرده منه كوناً وقدراً ولو أراده كوناً لحصل ذلك، لأن الإرادة الكونية القدرية لا يتخلف عنها المراد بخلاف الإرادة الشرعية قد يتخلف المراد بها. ولو اعترض المعتزلة وقالوا: ما الفائدة من أمر الله بالشيء وهو لا يريد وقوعه؟ يجاب بأن الفائدة في ذلك ابتلاء الخلق وليتميز المطيع من غيره ولذلك أمر الله خليله إبراهيم عليه   1- سورة الأنعام آية: 125. 2- سورة هود آية: 34. 3- سورة النساء آية: 26. 4- سورة المائدة آية: 6. 5- انظر مختصر منهاج السنة ص121، شفاء العليل ص280 ـ 281، شرح الطحاوية ص116 ـ 117. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 السلام بذبح ولده مع أنه ـ تعالى ـ لم يرد وقوع ذبحه كوناً وقدراً، وقد أبان الله ـ تعالى ـ أن الحكمة في ذلك ابتلاء إبراهيم عليه السلام حيث قال تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ} 1. وبهذا يبطل قول القدرية المعتزلة أنه لا يكون أمراً إلا بإرادة وقوعه، وقولهم هذا الفاسد هو الذي جرهم إلى القول بأن معصية العاصي ليست بمشيئة الله ـ تعالى ـ لأنه أمر بتركها ولم يرد إلا التزام الذي أمر به لأن الأمر لا يكون أمراً إلا بالإرادة فيترتب على قولهم نسبة العجز إلى الله واستقلال العبد بالفعل دون الله ـ تعالى ـ والله منزه عن قولهم تنزيهاً يليق بجلاله2. قال الطحاوي رحمه الله تعالى: "ولا يفعل إلا ما يريد". قال الشارح حول هذه العبارة: "هذا رد لقول القدرية المعتزلة فإنهم زعموا أن الله أراد الإيمان من الناس كلهم والكافر أراد الكفر وقولهم فاسد مردود لمخالفته الكتاب والسنة والمعقول الصحيح .... إلى أن قال: وأما أهل السنة فيقولون: إن الله وإن كان يريد المعاصي قدراً فهو لا يحبها ولا يرضاها ولا يأمر بها بل يبغضها ويسخطها ويكرهها وينهى عنها وهذا قول السلف قاطبة فيقولون ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن" أ. هـ3. والحاصل مما تقدم في هذا المبحث أن صفة الرضا من الصفات التي أثبتها الله لنفسه في محكم كتابه، وأثبتها له رسوله (في سنته المطهرة، وأثبتها له سلف هذه الأمة حيث آمنوا بما جاء به الكتاب والسنة، ولم يتجاوزوهما إلى غيرهما إثباتاً بلا تمثيل وتنزيهاً بلا تعطيل، أما الذين يفرقون بين صفات الله ويؤولون صفة الرضا، والمحبة، والغضب، والكراهة بالإرادة فهذا من تصرفات البشر الخاطئة التي مضمونها التفريق بين ما ورد به السمع. ولو قيل لهم: لم نفيتم صفة الرضا والمحبة والغضب وأثبتم الإرادة؟ لقالوا: إن إثباتها فيه تشبيه للخالق بالمخلوق لأن الغضب غليان دم القلب لقصد الإنتقام، والرحمة رقة تلحق المخلوق والرب منزه عن ذلك.   1- سورة الصافات آية: 106. 2- انظر مذكرة أصول الفقه للشيخ محمد الأمين الشنقيطي ص190 ـ 191. 3- شرح الطحاوية ص116. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 والرد على هذا يقال لهم: وكذلك الإرادة: ميل الإنسان إلى ما ينفعه ودفع ما يضره، والله منزه عن ذلك، فيضطرون إلى القول بأن للإنسان إرادة تليق به، وللرب إرادة تليق به، ومن خلال قولهم هذا يلزمهم أن يقولوا كذلك: في بقية الصفات من الرضا والمحبة والرحمة والغضب والكراهة، وإن لم يقولوا بهذا فإنهم وقعوا في التفريق بين صفات الله ـ تعالى ـ وليس في العقل ولا في السمع ما يدل على التفريق فلا يحل أن يثبت له بعض الصفات ـ سبحانه ـ وينفي عنه البعض1 الآخر مما أثبته لنفسه.   1- الرسالة التدمرية مع شرحها التحفة المهدية: 1/46 ـ 47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 المبحث الحادي عشر: إثبات صفة العلم لقد دلت السورة على إثبات صفة العلم لله ـ عز وجل ـ في ثلاث آيات منها: قال تعالى: {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} وقال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} . وقال تعالى: {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ} . فالآية الأولى من هذه الآيات الثلاث تضمنت اسمه ـ تعالى ـ "العليم" الدال على صفة العلم لله ـ تعالى ـ التي بها يدرك جميع المعلومات على ما هي عليه، فلا يخفى عليه شيء فقد بين الله ـ تعالى ـ بقوله: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أنه لا يخفى عليه ما أضمرته صدور عباده مما لا تدركه أعينهم فكيف بما تدركه العيون وتراه الأبصار. وأما الآية الثانية: {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} ففيها الأمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يقول للناس إن الله خالق السموات والأرض، وأنه يعلم الغيب الذي لا تراه الأبصار، ولا تحسه العيون، كما يعلم الشهادة الذي تشهده أبصار الخلق وتراه عيونهم. وأما الآية الثالثة: {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ} فقد أخبر الله ـ تعالى ـ فيها أنه أعلم بما يفعله العباد في الدنيا من الطاعات أو المعاصي، ولا يعزب عنه علم شيء من ذلك وسيجازيهم على ذلك يوم القيامة فيثيب المحسن بإحسانه ويعاقب المسيء على إساءته. فالآيات الثلاث المتقدمة دلت على أنه ـ تعالى ـ عالم بعلم، وأن علمه محيط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 بكل الأشياء الشاهدة والغائبة من الكليات والجزئيات وعلمه ـ تعالى ـ من صفاته الذاتية وهو أزلي بأزليته فقد علم ـ تعالى ـ في الأزل جميع ما هو خالق، كما علم جميع أحوال خلقه وأرزاقهم وآجالهم وأعمالهم وشقاوتهم وسعادتهم ومن هو منهم من أهل الجنة ومن هو منهم من أهل النار، وعلم ـ تعالى ـ عدد أنفاسهم، ولحظاتهم وجميع حركاتهم وسكناتهم أين تقع؟ ومتى تقع؟ كل ذلك بعلمه وبمرأى منه ومسمع لا يخفى عليه منهم خافية سواء في علمه الغيب والشهادة والسر والجهر، والجليل والحقير، لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء فله ـ تعالى ـ العلم المطلق بجميع الأشياء جملة وتفصيلاً، وقد جاءت في كتاب الله ـ تعالى ـ آيات كثيرة دلت على شمول علم الله وإحاطته بما لا تبلغه علوم خلقه. قال تعالى: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} 1. فهذه الآية بينت بأنه ـ تعالى ـ يعلم ما يدخل في الأرض من الحب والبذور والمياه والحشرات والمعادن، وما يخرج منها من الزرع والأشجار والعيون الجارية والمعادن النافعة، ويعلم كذلك ما ينزل من السماء من الثلوج والأمطار والصواعق والملائكة كما يعلم ما يصعد فيها من الملائكة والأعمال والطير الصواف إلى غير ذلك مما يعلمه العليم ـ جل شأنه ـ. وقال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} 2. وهذه الآية أخبر ـ تعالى ـ فيها بأن عنده مفاتح الغيب وأنه لا يعلمها إلا هو ومفاتح الغيب: قيل: خزائنه، وقيل: "طرقه وأسبابه التي يتوصل بها إليه وهي جمع مفتح بكسر الميم، أو مفتاح بحذف ياء مفاعيل"3.   1- سورة الحديد آية: 4. 2- سورة الأنعام آية: 59. 3- فتح القدير 2/123. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 وقد فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله، ثم تلا قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} 1. فالآية الأولى: وهي قوله: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} الآية دلت على أنه ـ تعالى ـ لا يخفى عليه شيء في هذا الكون ودلت على وصول علمه إلى كل ما خفي ودق من الحسيات والمعنويات حيث بينت أنه ـ تعالى ـ يعلم سقوط الورقة من الشجرة وكم من أشجار على الأرض؟ وكم في كل شجرة من الورق؟ فما من شجرة أو ورقة إلا وهي في الكتاب المبين. كما أوضحت أنه يعلم الرطب واليابس فدلت على إحاطة علم الله ـ تعالى ـ بهذا الكون إذ الكون إما رطب أو يابس ـ فسبحان ـ من هو عالم الغيب والشهادة. وقال تعالى: {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ} 2. وقال تعالى: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} 3. وهاتان الآيتان أيضاً: فيهما الإخبار بإحاطة علم الله بحمل كل أنثى ووضعها متى تضع وكيف تضع كما أخبر بعموم قدرته وتعلقها بكل شيء وأن علمه محيط بجميع الكائنات. وقال تعالى: {لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ} 4 وقال تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} 5.   1- رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما صحيح البخاري 1/19، صحيح مسلم 1/39، والآية رقم 34 من سورة لقمان. 2- سورة فصلت آية: 47. 3- سورة الطلاق آية: 12. 4- سورة النساء آية: 166. 5- سورة غافر آية: 19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 وقال تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ} 1. والآيات الواردة في كتاب الله الدالة على أن الله ـ تعالى ـ متصف بصفة العلم مما لا يكاد أن يحصى إلا بكلفة لكثرتها، وكلها ترد مذهب المعتزلة الذين نفوا صفاته ـ سبحانه ـ كلها ومنها صفة العلم فمنهم من زعم أنه ـ تعالى ـ عالم بذاته وقادر بذاته. ومنهم: من عمد إلى تفسير أسمائه ـ سبحانه ـ بالمعاني السلسة. فقال: عليم معناه: لا يجهل، وقادر معناه: لا يعجز ......... الخ2. ولقد رد الإمام "عبد العزيز المكي"3 في كتابه "الحيدة" على4 بشر بن غياث المرِّيسي المعتزلي وهو يناظره في مسألة العلم "إن الله ـ عز وجل ـ لم يمدح في كتابه ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً ولا مؤمناً تقياً بنفي الجهل عنه ليدل على إثبات العلم له، وإنما مدحهم بإثبات العلم لهم فنفى بذلك الجهل عنهم، فمن أثبت العلم نفى الجهل، ومن نفى الجهل لم يثبت العلم" أ. هـ5. ولقد ذكر عبد الجبار بن أحمد: اختلاف إخوانه المعتزلة في صفة العلم وبين أنها ثلاثة أقوال: وأطال الكلام والمناقشة حولها ونحن نذكرها هنا باختصار. الأول: إن الله عالم بعلم هو ذاته وإليه ذهب أبو علي الجبائي. الثاني: إن الله عالم لذاته وبه قال أبو الهذيل العلاف.   1- سورة البقرة آية: 255. 2- انظر مقالات الإسلاميين 1/254 وما بعدها. 3- هو: عبد العزيز بن يحي بن عبد العزيز الكناني المكي: فقيه، مناظر كان من تلاميذ الشافعي قدم بغداد في أيام المأمون، فجرت بينه وبين بشر المريسي مناظرة القرآن توفي سنة أربعين ومائتين هجرية. انظر ترجمته في "تهذيب التهذيب" 6/363، الأعلام 4/154. 4- هو: بشر بن غياث بن أبي كريمة عبد الرحمن المريسي العدوي بالولاء أبو عبد الرحمن فقيه معتزلي زنديق اعتنق مذهب الجهمية توفي سنة ثماني عشرة ومائتين هجرية. انظر ترجمته في "وفيات الأعيان 1/91، النجوم الزاهرة 2/228، ميزان الإعتدال 1/322". 5- الحيدة ص34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 الثالث: إن الله عالم لما هو عليه في ذاته وهو مذهب أبي هاشم من المعتزلة1. وأما الفلاسفة: الذين يلقبون بالحكماء فقد أنكروا علمه تعالى بالجزئيات وزعموا أنه ـ تعالى ـ يعلم الأشياء على وجه كلي ثابت2 وحقيقة هذا القول أنه ـ تعالى ـ لا يعلم شيئاً إذ كل ما في الخارج هو جزئي والأحرى أنهم يلقبون بالجهلاء لا بالحكماء ومذهبهم ظاهر الفساد لبعده عن ما دلت عليه الآيات القرآنية والأحاديث النبوية في أنه ـ تعالى ـ قد أحاط علمه بالكليات والجزئيات ولا يخفى عليه شيء. قال السفاريني3 ـ رحمه الله تعالى ـ "يجب الجزم بأنه ـ تعالى ـ عالم بعلم واحد وجودي قديم باقٍ ذاتي تنكشف به المعلومات عند تعلقه بها، وإنما قلنا: بأن علمه ذاتي كسائر صفاته ـ تعالى ـ للرد على الحكماء القائلين بنفي الصفات وإثبات غاياتها والرد على المعتزلة القائلين بأنه يعلم بالذات لا بصفة زائدة عليها، والدليل على أن صفاته زائدة على ذاته ورود النصوص بأنه ـ تعالى ـ عال، وحي وقادر ونحوها، وكونه عالماً يعلل بقيام العلم به في الشاهد فكذلك في الغائب وقس عليه سائر الصفات"4 أ. هـ. وأما الغلاة من القدرية: "فقد أنكروا علمه ـ تعالى ـ بأفعال خلقه حتى يعملوها"5. توهماً منهم أن علمه ـ تعالى ـ بأفعال خلقه يفضي إلى الجبر وقولهم هذا معلوم البطلان بالضرورة في جميع الأديان، قال العلامة ابن القيم في ذكره لمراتب القدر: "فأما المرتبة الأولى: وهي العلم السابق فقد اتفق عليه الرسل من أولهم إلى خاتمهم، واتفق عليه جميع الصحابة ومن تبعهم من الأمة وخالفهم مجوس الأمة" أ. هـ6.   1- شرح الأصول الخمسة ص182 ـ 183، وانظر مقالات الإسلاميين 1/244 ـ 249، اعتقادات المسلمين والمشركين للرازي ص38، أصول الدين للبغدادي ص 90 ـ 91، الرد على الجهمية للدارمي ص68 ـ 69. 2- الإشارات لابن سيناء 2/84 وما بعدها، وانظر مجموعة الرسائل والمسائل 4/363، ولوامع الأنوار 1/159. 3- هو: محمد بن أحمد بن سالم السفاريني شمس الدين أبو العون: عالم بالحديث والأصول والأدب. ولد سنة أربع عشرة ومائة وألف، وتوفي سنة ثمان وثمانين ومائة وألف هجرية. انظر ترجمته في "الأعلام للزركلي 6/240". 4- لوامع الأنوار 1/145 ـ 146. 5- التبصير في الدين ص108، الرد على الجهمية للدارمي ص68 ـ 69. 6- شفاء العليل ص29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 وقد دلت السنة والعقل على أن صفة العلم من الصفات الذاتية الثابتة لله ـ عز وجل ـ. فقد روى البخاري: في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه الاستخارة في الأمور كلها كما يعلم السورة من القرآن يقول: إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب ..... الحديث1. وقال صلى الله عليه وسلم: "ما من مولود يولد إلا على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء حتى تكونوا أنتم تجدعونها" قالوا: يا رسول الله أفرأيت من يموت منهم وهو صغير قال: "الله أعلم بما كانوا عاملين"2. "ومعنى الحديث الله أعلم بما كانوا عاملين لو عاشوا" أ. هـ3. والأحاديث الواردة في إثبات صفة العلم كثيرة جداً لو تتبعت وجمعت لتكون منها مصنف كبير. وأما الدليل العقلي على علمه ـ تعالى ـ فمن وجوه: أولاً: أنه يستحيل إيجاده الأشياء بغير علم سابق قال ـ جل شأنه ـ: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} 4. ثانياً: إن المخلوقات فيها من الإحكام والإتقان وعجيب الصنعة ودقيق الخلقة ما يشهد بعلم الفاعل لها لامتناع صدور ذلك عن غير علم. ثالثاً: إن في المخلوقات من هو عالم والعلم صفة كمال، فلو لم يكن الله عالماً لكان في المخلوقات من هو أكمل منه، وكل علم في المخلوق إنما استفاده من خالقه وواهب الكمال أحق به، وفاقد الشيء لا يعطيه5.   1- 1/202. 2- صحيح البخاري مع الفتح 11/493، وصحيح مسلم 4/2084 وكلاهما من حديث أبي هريرة. 3- شفاء العليل ص30. 4- سورة الملك آية: 14. 5- شرح العقيدة الأصفهانية ص24 ـ 25، وانظر لوامع الأنوار 1/148 ـ 149. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 وما قدمناه من الآيات القرآنية وبعض الأحاديث النبوية والأدلة العقلية كلها نصوص قطعية صريحة في إثبات صفة العلم لله ـ تعالى ـ وكلها تشهد ببطلان مذاهب أهل الأهواء في صفة العلم من الفلاسفة والجهمية والمعتزلة الذين ينفون هذه الصفة وغيرها من صفات الله ـ جل وعلا ـ وهي أي: ـ تلك الأدلة ـ صفعة على رؤوس الجهمية الذين يجحدون علم الله السابق بخلقه، ويزعمون أن علمه بأفعال عباده قبل كونها يفضي إلى الجبر وهذا من علامة زيغ القلوب والعياذ بالله؛ إذ العلم صفة كاشفة تكشف الأشياء على ما هي عليه ـ فالباري سبحانه ـ يعلم أزلاً ما يكون من عبده المختار من السعادة والشقاوة وما يحصل له من الغنى والفقر، ومن ناحية تحديد عمره وانقضاء أجله ثم كتب ما يعلمه في اللوح المحفوظ فهو كتب ـ سبحانه ـ لا ليجبر أحداً من عباده على حسب ما كتب بل كتب ـ سبحانه ـ لأنه علم في الأزل ما يكون من العبد بمحض اختياره وإرادته، فعلمه ـ تعالى ـ صفة انكشاف للماضي والحاضر والمستقبل وهو معنى قول أهل العلم عَلِمَ ما كان، وعلم ما يكون، وعلم ما لم يكن أن لو كان كيف كان يكون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 المبحث الثاني عشر: بيان معنى اسمه تعالى "الوكيل" لقد دلت السورة على أن من أسمائه ـ تعالى ـ "الوكيل". قال تعالى: {اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} . جاء في النهاية: "في أسماء الله ـ تعالى ـ "الوكيل" هو القيم الكفيل بأرزاق العباد. وحقيقته أنه يستقل بأمر الموكول إليه، وقد تكرر ذكر "التوكل" في الحديث يقال: توكل بالأمر إذا ضمن القيام به، ووكلت أمري إلى فلان: أي ألجأته إليه واعتمدت فيه عليه ووكل فلان فلاناً إذا استكفأه أمره ثقة بكفايته، أو عجزاً عن القيام بأمر نفسه"1. جاء في المفردات لغريب القرآن: "وكل" التوكيل: أن تعتمد على غيرك وتجعله نائباً عنك والوكيل "فعيل" بمعنى المفعول قال تعالى {وَكَفَى بِالله وَكِيلاً} 2 أي اكتف به أن يتولى أمرك ويتوكل لك وعلى هذا {حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} 3 {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} 4 أي: بموكل وحافظ لهم كقوله تعالى: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} 5 فعلى هذا قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} 6 أي من يتوكل عنهم والتوكل يقال على وجهين:   1- 5/221. 2- سورة الأحزاب آية: 3. 3- سورة آل عمران آية: 173. 4- سورة الأنعام آية: 107. 5- سورة الغاشية آية: 22. 6- سورة الفرقان آية: 43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 يقال: توكلت لفلان بمعنى توليت له، ويقال: وكلته فتوكل لي، أو توكلت عليه بمعنى اعتمدته قال عز وجل: {وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} 1 .... إلى أن قال: وربما فسر الوكيل بالكفيل والوكيل أعم لأن كل كفيل وكيل وليس كل وكيل كفيل" أ. هـ2. وجاء في القاموس: وكل بالله يكل وأوكل واتكل استسلم إليه ووكل إليه الأمر وكلاً ووكولاً سلمه وتركه أ. هـ3. والذي نستفيد من هذه التعاريف اللغوية لاسم الله ـ تعالى ـ: "الوكيل" أنه من تُوْكَلُ إلى علمه وقدرته وحكمته أمور الخلق وشئونهم التي يعجزون عن القيام بها بأنفسهم على الرغم بما قد منحوا به من قوى محدودة الأثر، فالله ـ تعالى ـ يتوكل لهم بها ويتولاها وقد وكل ـ سبحانه ـ إلى نفسه أمر الخلق فخلق السموات والأرض ما بينهما بالحق وتكفل بذلك فأوجده على أبدع نظام وأحسن إتقان، وتكفل بما يحتاجه خلقه من المصالح التي لا طاقة لهم بالعيش إلا بوجودها وقد سبقت إرادته ـ سبحانه ـ بأنه يخلق على هذه الأرض كائنات حية لا تعيش إلا بالماء والهواء فتوكل لها من قبل أن يخلقها، بالهواء والماء كما أنه ـ سبحانه ـ توكل بجعل أجهزة محكمة للأجسام الحية وجعل كل جهاز يؤدي وظيفة خاصة ليحفظ بذلك حياة الإنسان، وتوكل ـ سبحانه ـ بالرزق للأحياء جميعاً من العاقل وغير العاقل، من المؤمن والكافر كما توكل بحفظ حياتهم ولو وكلهم إلى أنفسهم طرفة عين لهلكوا ولقد يغفل الناس عن هذه الحقيقة ويسيرون في هذه الحياة والغفلة تغشاهم حتى إذا ما نزل بهم الضر استيقظوا من غفلتهم تلك ورجعوا إلى ربهم "الوكيل" يكلون إلى قدرته ورحمته وحكمته ما عجزوا عنه من دفع البلاء عن أنفسهم. قال تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 4. وما الدعاء المذكور، والمنوه عنه في هذه الآية إلا ثمرة اليقين بأن لهم رباً قادراً رحيماً يكلون إليه كل ما عجزوا عن تدبيره بأنفسهم ويتوكلون عليه فيما أعجزهم أمره وأعيتهم الحيلة فيه، والإنسان مهما أوتي من القوة والعقل والذكاء والفطنة، فإنه عاجز عن   1- سورة التغابن آية: 13. 2- ص 531. 3- 4/67 . 4- سورة لقمان آية: 32. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 إدراك ما يخفى عليه من أمور الغيب التي استأثر الله بعلمها لا يدري كيف يقدر الله الأرزاق ولا كيف يسوق الخير ولا كيف يدفع الشر. ولقد منح الله ـ تعالى ـ الإنسان من القوى ما يستطيع به أن يدبر الأمور الظاهرة التي تبلغها مداركه وتنالها قوته. أما ما وراء ذلك مما لا تناله قوى البشر، ولا تصل إليه مداركهم فعليهم أن يكلوه إلى "الوكيل" ـ سبحانه ـ. ولذلك وجه الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بأن يتخذه وكيلاً يتوكل له بين أمور الرسالة وهداية الناس ودفع أذاهم عنه، ونشر الدعوة وإزالة العوائق من طريقها بما يعجز عنه صلى الله عليه وسلم بقوة البشرية التي منحه الله إياها. قال تعالى: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} 1. ولما أكثر المنافقون من الدس والكيد والرياء أمره الوكيل ـ سبحانه ـ أن يتوكل عليه ليكفيه أمرهم ويدفع عنه أذاهم وكل ما لا يقدر على دفعه بنفسه. قال تعالى: {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلاً} 2. ولما حاول الكافرون فتنة الرسول صلى الله عليه وسلم عن بعض ما أنزل الله إليه وساعدهم المنافقون على ذلك وأرادوا أن يخدعوه بقولهم إنه لو أجابهم إلى بعض ما يطلبون لآمنوا به واتبعوه نهاه "الوكيل" ـ سبحانه ـ وهو العليم بنياتهم الخبير ببواطن أمورهم ـ أمره باتباع الوحي الذي أنزل عليه وأن يتوكل عليه ليكفيه أمر فتنتهم ويبصره بما خفي من أمورهم العدوانية. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً. وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلاً} 3. ولقد أخبرنا الله ـ تعالى ـ في كتابه الكريم أن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين حين أخبرهم المنافقون بأن الكفار يجمعون لهم الناس ليحاربوهم ولينكلوا بهم لم يبالوا   1- سورة المزمل آية: 9. 2- سورة النساء آية: 81. 3- سورة الأحزاب آية: 1 ـ 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 ولم يكترثوا بل ازدادوا إيماناً على إيمانهم بأن الله ناصرهم ومؤيدهم على طاغوت الكفر، وأيقنوا بأنهم منتصرون على عدوهم ويفوزون عليه لأنهم قد اتخذوا الله وكيلاً يتولى شؤونهم ويدبر أمر انتصارهم على كل من ناوأهم وناوأ العقيدة الإسلامية التي هي دين الله الذي لا يرتضي ديناً سواه قال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} 1. ومعنى الآية: "أنهم لم يفشلوا لما سمعوا ذلك ولا التفتوا إليه بل أخلصوا لله وازدادوا طمأنينة ويقيناً. وفيه دليل على أن الإيمان يزيد وينقص. وقوله: {حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} حسب مصدر حسبه: أي كفاه وهو بمعنى الفاعل: أي: محسب بمعنى كافي" أ. هـ2. وقال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي: عند قوله ـ تعالى ـ: {اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} . " والشاهد من هذا أن الله ـ تعالى ـ أخبر عن نفسه الكريمة أنه خالق لجميع العالم العلوي والسفلي، وأنه على كل شيء وكيل والوكالة التامة لا بد فيها من علم الوكيل بما كان وكيلاً عليه وإحاطته بتفاصيله ومن قدرة تامة على ما هو وكيل عليه ليتمكن من التصرف فيه ومن حفظ لما هو وكيل عليه ومن حكمة ومعرفة بوجوه التصرفات ليصرفها ويدبرها على ما هو الأليق فلا تتم الوكالة إلا بذلك كله، فما نقص من ذلك فهو نقص فيها ومن المعلوم المتقرر أن الله ـ تعالى ـ منزه عن كل نقص في أي صفة من صفاته، فإخباره بأنه على كل شيء وكيل يدل على إحاطة علمه بجميع الأشياء وكمال قدرته على تدبيرها وكمال تدبيره، وكمال حكمته التي يضع بها الأشياء مواضعها" أ. هـ3. وقال تعالى: {ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} 4. ففي هذه الآية الكريمة إخبار من الله ـ جل وعلا ـ بأنه الإله الحق وحده لا شريك له وهو الذي خلق كل شيء وهو الوكيل على كل شيء والوكيل كما تقدم هو من توكل إليه   1- سورة آل عمران آية: 173. 2- فتح القدير للشوكاني 2/161. 3- تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان 7/42. 4- سورة الأنعام آية: 102. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 الأمور فنعم الموكول إليه أمرنا وهو الذي يستحق أن يعبد ويقر له بالوحدانية وأنه لا إله إلا هو وأنه لا ولد له، ولا والد ولا صاحبة له ولا نظير ولا عديل {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} بمعنى حفيظ ورقيب يدبر كل ما سواه ويرزقهم ويكلؤهم بالليل والنهار. وقد بين موسى عليه الصلاة والسلام أن الله شهيد وحفيظ فلا يستطيع أحد أن يعمل عملاً مَّا سواء كان ذلك العمل صالحاً أو سيئاً إلا والله رقيب وشهيد عليه. قال تعالى حاكياً عنه ذلك بشأن العقد الذي أبرم بينه وبين صهره على رعي غنمه ثماني حجج {قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} 1. فهو ـ سبحانه ـ الموكل بالعدل بين المتعاقدين الشهيد عليهما والعليم بعقدهما وما اتفق عليه بينهما. فهذه الآيات التي قدمنا ذكرها كلها تدل دلالة صريحة واضحة على أن الله ـ تعالى ـ هو الحفيظ لعباده يكلؤهم بحفظه آناء الليل وأطراف النهار، كما دلت على أنه رقيب وشهيد على أعمال عباده لا يخفى عليه من عملهم شيء فعلى العباد أن يتنبهوا لهذا ويفهموه علَّهم يبتعدون عما يقربهم من سخط الله ـ تعالى ـ وغضبه ويفزعون إلى ما يقربهم من رضوان الله ورحمته. وبعد أن أوردنا الكثير من الآيات القرآنية الكريمة التي أثبتت اسمه ـ تعالى ـ "الوكيل" وبينا أنها دلت على إثبات ذلك الإسم والصفة التي تضمنها صراحة لا تقبل المراء ولا الجدال لوضوح النصوص في ذلك من الكتاب والسنة، ورغم كثرة النصوص الواردة من قرآن وسنة في إثبات اسمه ـ تعالى ـ "الوكيل" فإنه قد وجد من أهل البدع من منع إطلاقه على الله ـ تعالى ـ, قال أبو الحسن الأشعري ـ رحمه الله تعالى ـ: "واختلف المعتزلة في "الباري" هل يقال إنه وكيل وإنه لطيف؟ على مقالتين: 1 ـ فمنهم من زعم أن البارئ لا يقال: إنه وكيل وأنكر قائل هذا القول أن يقول   1- سورة القصص آية: 28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 {حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} 1 من غير أن يقرأ القرآن وأنكر أيضاً: أن يقال "لطيف" دون أن يوصل ذلك فيقال: لطيف بالعباد والقائل بهذا القول "عباد بن سليمان". 2 ـ ومنهم من أطلق "وكيل" وأطلق "لطيف" وإن لم يقيد اهـ2. ونقول: للجهمية والمعتزلة إن اسمه ـ تعالى ـ "الوكيل" وما دل عليه من صفة للباري ـ جل وعلا ـ فإنه قد ثبت ذلك بالكتاب والسنة وإجماع السلف من هذه الأمة وقد أطلق الله على نفسه اسمه "الوكيل" في محكم كتابه في مواضع كثيرة من كتابه وقد قدمنا طرفاً منها، كما أطلقه عليه رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم في سنته المطهرة ولا يجوز القول بأن هذا الاسم لا يطلق على الله إلا عند قراءة القرآن فهذا الإسم يطلق على الله دون تقييد. روى البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: {حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين: {قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} 3. وروى البخاري أيضاً: عن ابن عباس قال: كان آخر قول إبراهيم حين ألقي في النار "حسبي الله ونعم الوكيل"4. فيقال للمعتزلة إن الرسول صلى الله عليه وسلم وكذلك إبراهيم الخليل أطلقا اسم "الوكيل" على الله ـ سبحانه وتعالى ـ فإبراهيم خليل الرحمن عليه الصلاة والسلام كان آخر قوله حين ألقي في النار: "حسبي الله ونعم الوكيل" والرسول صلى الله عليه وسلم قالها عندما أرسل أبو سفيان ناساً فأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم أن أبا سفيان وأصحابه يقصدونهم فقال: "حسبنا الله ونعم الوكيل" ولم يقل: لا يطلق اسم الوكيل على الله إلا في القرآن كما قال بذلك بعض المعتزلة ولكن الآراء التي تصدر عن هوى وعن العقل السقيم غالباً ما تلقي بأصحابها في الأخطاء التي تعارض النصوص الظاهرة المشهورة نسأل الله العافية من ذلك.   1- جزء من الآية رقم 173 من سورة آل عمران. 2- مقالات الإسلاميين 1/271 ـ 272. 3- صحيح البخاري 3/114. 4- المصدر السابق ورواه أحمد في مسنده 6/83، 217. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 المبحث الثالث عشر: إثبات صفة اليدين لقد دلت السورة على أن لله ـ تعالى ـ يدين حقيقتين وهما من صفات الكمال التي اتصف بها ـ سبحانه ـ وقد جاء في السورة الإشارة إلى صفة اليدين في آية واحدة منها: ـ قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} . هذه الآية من السورة بدأت بنعي حال المشركين الذين لم يعظموا الله حق التعظيم اللائق به ـ سبحانه وتعالى ـ حيث عبدوا معه غيره وأشركوه معه في العبادة ثم بينت بأن الأرض كلها قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه، ومذهب سلفنا الصالح إثبات القبضة واليمين كما وردت بلا تكييف، ولا تأويل، ولا تحريف، فيجب الإيمان بكل ما وصف الله به نفسه مع القطع بأنه وصف يليق بجلاله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1. قال العلامة ابن كثير: "يقول تبارك وتعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ} أي ما قدَّر هؤلاء المشركون الله حق قدره حين عبدوا معه غيره وهو العظيم الذي لا أعظم منه القادر على كل شيء المالك لكل شيء وكل شيء تحت قدره وقدرته ... إلى أن قال: "وقد وردت أحاديث كثيرة متعلقة بهذه الآية الكريمة، والطريق فيها وفي أمثالها مذهب السلف، وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تحريف"اهـ2. وقد روى الإمام البخاري بإسناده عند هذه الآية إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه   1- سورة الشورى آية: 11. 2- تفسير القرآن العظيم 6/106 ـ 107. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 قال: جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد إنا نجد أن الله ـ عز وجل ـ يجعل السموات على إصبع والأرضيين على إصبع والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع وسائر الخلق على إصبع فيقول: أنا الملك فضحك رسول صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 1. هذا الحديث قال فيه المعطلة نفاة الصفات: إنه من كلام اليهودي، وليس من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، واليهود الغالب عليهم التشبيه وقد نهينا عن تصديق أهل الكتاب، أو تكذيبهم وضحك الرسول صلى الله عليه وسلم على مقالة الحبر إنما هو من تشبيه اليهود للخالق بالمخلوق، وليس إقرار له بل هو استنكار اهـ2. والجواب: أما كون ذكر الأصابع في الحديث من قول الحبر لا من قول الرسول صلى الله عليه وسلم فهذا صحيح كما نطق بذلك الحديث. وأما أنه عليه الصلاة والسلام لم يتلفظ بما يؤيد قول الحبر فهذا باطل إذ الثابت عنه صلى الله عليه وسلم ما هو أبلغ من ذلك وهو أنه عليه الصلاة والسلام ظهر عليه علامة السرور بقول الحبر، ولو كان في قوله نوع تشبيه لله ـ جل وعلا ـ بخلقه لتمعر وجهه ولغضب غضباً شديداً، ولزجر اليهودي وبين للأمة أنه غير صادق فيما قال لأن ذلك طعن لعقيدة الإسلام في صميمها، ولكن ضحكه صلى الله عليه وسلم دال على إقراره له، وأن ما قاله مما يؤيده الإسلام ويقره ويقال لهؤلاء النفاة أيضاً: لستم أعرف بحال الرسول صلى الله عليه وسلم من الصحابي الراوي لهذا الحديث. قال ابن خزيمة رحمه الله تعالى: " ... وقد أجل الله قدر نبيه صلى الله عليه وسلم عن أن يوصف الخالق ـ الباري ـ بحضرته مما ليس من صفاته فيسمعه فيضحك عنده، ويجعل بدل وجوب النكير والغضب على المتكلم به ضاحكاً تبدو نواجذه تصديقاً وتعجباً لقائله لا يصف النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الصفة مؤمن مصدق برسالته"اهـ3.   1- صحيح البخاري 3/182. 2- انظر "كتاب الأسماء والصفات" للبيهقي ص425 وما بعدها، فتح الباري 8/551. 3- "كتاب التوحيد" ص76. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 وروى مسلم في صحيحه بإسناده إلى عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يطوي الله ـ عز وجل ـ السموات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الله الأرضيين بشماله، ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ " 1. وروى ابن خزيمة رحمه الله تعالى بإسناده إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما خلق الله آدم ونفخ فيه الروح عطس فقال: الحمد لله فحمد الله ـ عز وجل ـ بإذن الله ـ تبارك وتعالى ـ فقال له ربه رحمك ربك يا آدم، وقال له يا آدم اذهب إلى أولئك الملائكة إلى الملأ منهم فقل السلام عليكم، فقالوا: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، ثم رجع إلى ربه ـ عز وجل ـ فقال: هذه تحيتك وتحية بنيك بينهم فقال الله ـ تبارك وتعالى ـ له ويداه مقبوضتان إختر أيهما شئت قال: اخترت يمين ربي وكلتا يدي ربي يمين مباركة ثم بسطها فإذا فيها آدم وذريته .... الحديث2. هذا الحديث والذي قبله قد يتوهم بعض الناس أن بينهما تعارضاً حيث أن الأول ورد فيه ذكر الشمال، وهذا ينص على أن كلتا يديه ـ سبحانه ـ يمين. وقال ابن خزيمة: "باب ذكر سنة ثامنة تبين وتوضح أن لخالقنا ـ جل وعلا ـ يدين كلتاهما يمينان لا يسار لخالقنا ـ عز وجل ـ إذ اليسار من صفة المخلوقين"3. والجواب: أنه لا تعارض بين الحديثين فعندما نقول: إن كلتا يديه ـ سبحانه ـ يمينان مع ورود الحديث الصحيح لابن عمر الذي جاء فيه ذكر الشمال لا يلزم منه أن اليمين أكمل من الشمال كما هو شأن يدي المخلوق، فالله ـ جل وعلا ـ له الكمال المطلق، وليس للإنسان من الكمال إلا ما منحه إياه خالقه، وبارئه فلا يترتب على قول العلماء كلتا يدي ربنا يمينان استنقاص لشماله ـ سبحانه ـ فهو ـ تعالى ـ منزه ومقدس له المثل الأعلى في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم"4. وروى الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال   1- 4/2148. 2- كتاب التوحيد ص67. 3- المصدر السابق ص66 ـ 67. 4- انظر تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة ص148. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تصدق أحد بصدقة من طيب ولا يقبل الله إلا الطيب إلا أخذها الرحمن بيمينه وإن كانت تمرة فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل كما يربي أحدكم فلوه، أو فصيله" 1. وعلى هذا نقول: إن ورود ذكر اليمين والقبضة في الآية، وذكر اليد والكف والأصابع في الأحاديث التي سقناها بعدها زيادة لتوضيح معناها كل ذلك يدل دلالة واضحة على أن ـ للباري سبحانه ـ يدين حقيقيتين ليستا مجازاً في النعمة2 والقدرة3 كما ادعى ذلك الجهمية والمعطلة، وصفة اليدين من الصفات الذاتية التي لا تنفك عن الله ـ تعالى ـ فيجب الإيمان بها وإثباتها حقيقة على ما يليق بجلاله وعظيم سلطانه. وقد بين ـ تعالى ـ في مواضع من كتابه أن له يدين خلق بهما آدم وأنهما مبسوطتان بالإنفاق وأن يده فوق أيدي المبايعين لرسول الله صلى الله عليه وسلم. قال تعالى {يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} 4 فهذه الآية بين ـ تعالى ـ فيها أنه قرَّع إبليس ووبخه حين منعه الكبر عن أن يسجد لآدم الذي خلقه الله بيديه. وقال ـ تعالى ـ: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} 5. وهذه الآية إخبار من المولى ـ جل شأنه ـ أن اليهود وصفوه ـ تعالى ـ بالبخل حيث قالوا: {يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ} فأكذبهم الله ولعنهم على مقالتهم التي تنبئ عما هو متمكن في نفوسهم من الشح عن الإنفاق في وجوه الخير، أما يداه ـ سبحانه ـ فهما مبسوطتان بالإنفاق على عباده كيف يشاء، كما جاء في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يمين الله ملأى لا يغيضها سحاء6 الليل والنهار،   1- 4/279. 2- انظر شرح الأصول الخمسة لعبد الجبار ص 228. 3- انظر أصول الدين لعبد القاهر بن طاهر البغدادي ص111. 4- سورة ص آية: 75. 5- سورة المائدة آية: 64. 6- سحاء: أي دائمة الصب والهطل بالعطاء. النهاية 2/345. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 أرأيت ما أنفق منذ خلق السماء والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه" قال: "وعرشه على الماء، وبيده الأخرى القبض يرفع ويخفض" 1. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} 2 وهذه الآية صرحت بأن لله يداً تكون فوق أيدي المبايعين لرسول الله صلى الله عليه وسلم. قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى عند قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} 3. إن لفظ اليد جاء في القرآن على ثلاثة أنواع: مفرداً، ومثنى، ومجموعاً. فالمفرد كقوله تعالى: {بِيَدِهِ الْمُلْكُ} 4. والمثنى كقوله تعالى: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} . والمجموع كقوله تعالى: {عَمِلَتْ أَيْدِينَا} 5 فحيث ذكر اليد مثناة أضاف الفعل إلى نفسه بضمير الإفراد وعدي الفعل بالباء إليهما وقال: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} ، وحيث ذكرها مجموعة أضاف الفعل إليها ولم يعد الفعل بالباء فهذه ثلاثة فروق فلا يحتمل {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} من المجاز ما يحتمله {عَمِلَتْ أَيْدِينَا} فإن كل أحد يفهم من قوله {عَمِلَتْ أَيْدِينَا} ما يفهمه من قوله عملنا وخلقنا كما يفهم ذلك من قوله: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} 6 وأما قوله: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} فلو كان المراد منه مجرد الفعل لم يكن لذكر اليد بعد نسبة الفعل إلى الفاعل معنى فكيف وقد دخلت عليها الباء فكيف إذا ثنيت، وسر الفرق أن الفعل قد يضاف إلى يد ذي اليد والمراد الإضافة إليه كقوله: {بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} 7 و {بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} . وأما إذا أضيف إليه الفعل ثم عدي بالباء إلى اليد مفردة فهو مما باشرته يده ولهذا قال عبد الله بن عمر: "إن الله لم يخلق بيده إلا ثلاثاً خلق آدم بيده، وغرس جنة الفردوس   1- 2/691. 2- سورة الفتح آية: 10. 3- سورة ص آية: 75. 4- سورة الملك آية: 1. 5- سورة يس آية: 71. 6- سورة الشورى آية: 30. 7- سورة الحج آية: 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 بيده، وكتب التوراة بيده"1 فلو كانت اليد هي القدرة لم يكن لها اختصاص بذلك ولا كانت لآدم فضيلة بذلك على كل شيء مما خلق بالقدرة" أ. هـ2. فابن القيم رحمه الله تعالى أراد بهذا البيان الرد على النفاة الذين يقولون: إذا قلنا: إن اليد في قوله تعالى {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} 3 صفة نكون قد أثبتنا أيدي كثيرة، أو أننا نقول: بإشراك غير آدم مع آدم في الخاصية وهي أن الله خلقه بيديه كما قال تعالى {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} 4 فيرد عليهم بأن بين الآيتين فرقاً من وجهين: الوجه الأول: أنه أضاف الفعل إليه في قوله {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} وبين أنه خلق آدم بيديه، وهناك أضاف الفعل إلى الأيدي. الوجه الثاني: أن العرب يضعون اسم الجمع موضع التثنية إذا أمن اللبس كقوله تعالى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 5 أي: يديهما، وقوله تعالى {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} 6 أي قلباكما فكذلك قوله تعالى {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} 7. قال أبو الحسن الأشعري: "فإن قال قائل إذا ذكر الله الأيدي وأراد يدين فما أنكرتم أن يذكر الأيدي ويريد يداً واحدة؟ قيل له ذكر الله ـ عز وجل ـ أيدي وأراد يدين لأنهم أجمعوا على بطلان قول من قال أيدي كثيرة، وقول من قال يداً واحدة فقلنا: "يدان" لأن القرآن على ظاهره إلا أن تقوم حجة بأن يكون على خلاف الظاهر" أ. هـ 8. والذي يفهم من هذا أن الله تعالى يذكر نفسه تارة بصيغة المفرد مظهراً أو مضمراً وتارة أخرى يذكر نفسه بصيغة الجمع كقوله تعالى {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} 9 وأمثال   1- انظر جامع البيان للطبري 23/185. 2- مختصر الصواعق المرسلة 1/38. 3- سورة يس آية: 71. 4- سورة ص آية: 75. 5- سورة المائدة آية: 64. 6- سورة التحريم آية: 4. 7- مجموع الفتاوى 6/37 والآية 71 من سورة يس. 8- الإبانة عن أصول الديانة ص37. 9- سورة الفتح آية: 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 ذلك ولا يذكر نفسه بصيغة التثنية قط لأنها تدل على العدد المحصور وهو ـ سبحانه ـ منزه عن ذلك1. وبهذا تبطل شبهة المعطلين القائلين إن اليد قد أفردت في بعض الآيات وجاء بلفظ الجمع في بعضها، فلا دليل لهم في ذلك فإنما يصنع بالاثنين قد ينسب إلى المفرد تقول: رأيت بعيني، وسمعت بأذني والمقصود عيناي وأذناي وكذلك الجمع يأتي بمعنى المثنى كما قدمنا ذلك قريباً. فكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم قد دلا دلالة قاطعة على أن ـ للباري سبحانه وتعالى ـ يدين مختصتين به ذاتيتين له، كما يليق به، وأنه ـ تعالى ـ خلق آدم بيديه دون الملائكة وإبليس. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "احتج آدم وموسى عليهما السلام فقال موسى لآدم: يا آدم أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة فقال له آدم أنت موسى أصطفاك الله بكلامه وخط لك في الألواح بيده أتلومني على أمر قضاه الله علي قبل أن يخلقني بأربعين عاماً" فقال رسول الله: "فحج آدم موسى"2. قال ابن خزيمة: فكليم الله موسى خاطب آدم عليهما السلام شفاهاً أن الله خلقه بيده ونفخ فيه من روحه على ما هو مخطوط بين الدفتين من إعلام الله ـ جل وعلا ـ عباده المؤمنين أنه خلق آدم عليه السلام بيده3. وجاء في حديث الشفاعة الطويل الذي رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "يجمع المؤمنون يوم القيامة فيهتمون فيقولون: لو استشفعنا على ربنا حتى يريحنا من مكاننا هذا فيأتون آدم فيقولون: يا آدم أنت أبو الناس خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء اشفع لنا إلى ربنا حتى يريحنا من مكاننا هذا ... " الحديث4.   1- رسالة التدمرية مع شرحها التحفة المهدية 1/129. 2- صحيح البخاري 4/300، صحيح مسلم 4/2042. 3- كتاب التوحيد ص55. 4- صحيح البخاري 4/279، صحيح مسلم 1/180. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 فالحديث نص في إثبات اليدين حقيقة ولو كانتا بمعنى النعمة أو القدرة لقالوا: أنت أبو الناس الذي خلقك الله بقدرته، أو بنعمته. قال ابن القيم: وهذا التخصيص إنما فهم من قوله {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} 1 فلو كان مثل قوله {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} 2 لكان هو والأنعام في ذلك سواء فلما فهم المسلمون أن قوله {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} 3 يوجب له تخصيصاً وتفضيلاً بكون مخلوقاً باليدين على من أمر أن يسجد له وفهم ذلك أهل الموقف حين جعلوه من خصائصه كانت التسوية بينه وبين قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً} 4 خطأ محضاً اهـ5. ويجب على المسلم أن يسلك في صفات الله ـ تعالى ـ مسلك السلف الصالح رضي الله عنهم أجمعين وهو إثبات ما وصف الله به نفسه ووصفه به نبيه من غير اعتراض فيه ولا تكييف له، وأن الإيمان به واجب وترك التكييف له لازم6 قال عبد الرحمن بن القاسم: "لا ينبغي لأحد أن يصف الله إلا بما وصف به نفسه في القرآن ولا يشبه يديه بشيء ولا وجهه بشيء، ولكن يقول: له يدان كما وصف نفسه يقف عندما وصف به نفسه في الكتاب فإنه ـ تبارك وتعالى ـ لا مثيل له ولا شبيه ولكن هو الله لا إله إلا هو"اهـ7. وقال الترمذي رحمه الله تعالى في باب فضل الصدقة "قد ثبتت هذه الروايات فنؤمن بها، ولا نتوهم ولا يقال كيف؟ كذا جاء عن مالك وابن عيينة وابن المبارك أنهم أمروها بلا كيف وهذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة، وأما الجهمية، فأنكروها   1- سورة ص آية: 75. 2- سورة يس آية: 71. 3- سورة ص آية: 75. 4- سورة يس آية: 71. 5- مختصر الصواعق 1/39، التفسير القيم ص422. 6- رسالة أبي الحسن الأشعري إلى أهل الثغر "ق" 1/1. 7- رسالة الإعتقاد لمحمد بن عبد الله بن أبي زمنين "ق" 2/2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 وقالوا: هذا تشبيه، وقال إسحاق بن راهويه: إنما يكون التشبيه لو قيل يد كيد وسمع كسمع1. وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى: "فما ذكر الله تعالى في القرآن من ذكر الوجه واليد والنفس فهو له صفات بلا كيف، ولا يقال: إن يده قدرته ونعمته لأن فيه إبطال الصفة وهو قول أهل القدر والاعتزال ولكن يده صفته بلا كيف وغضبه ورضاءه صفتان من صفاته بلا كيف"2. وقال الإمام عثمان بن سعيد الدارمي: "وله الأسماء الحسنى يسبح له ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم يقبض، ويبسط ويتكلم ويرضى ويسخط ويغضب ويحب ويبغض ويكره ويضحك ويأمر وينهى ذو الوجه الكريم والسمع السميع، والبصر البصير، والكلام المبين، واليدين والقبضتين والقدرة والسلطان والعظمة والعلم الأزلي لم يزل كذلك ولا يزال ..... استوى على عرشه فبان من خلقه لا تخفى عليه منهم خافية علمه بهم محيط، وبصره فيم ناقد {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 3. وعقد البيهقي باباً في كتابه "الاعتقاد" ذكر فيه آيات وأحاديث وردت في إثبات صفة الوجه واليدين والعين ثم قال: "وهذه صفات طريق إثباتها السمع فنثبتها لورود خبر الصادق بها ولا نكيفها"4. وقال الشهرستاني: "واعلم أن جماعة كثيرة من السلف كانوا يثبتون لله ـ تعالى ـ صفات أزلية من العلم والقدرة والحياة ... ولا يفرقون بين صفات الذات وصفات الفعل بل يسوقون الكلام سوقاً واحداً، وكذلك يثبتون صفات خبرية مثل اليدين والوجه ولا يؤولون ذلك إلا أنهم يقولون: هذه الصفات قد وردت في الشرع فنسميها صفات خبرية" أ. هـ5.   1- عارضة الأحوذي شرح الترمذي لابن عربي 3/165. 2- شرح الفقه الأكبر ص56 ـ 58. 3- الرد على الجهمية ص4. 4- ص29. 5- الملل والنحل 1/92. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 وذكر أن من هؤلاء الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى وسفيان الثوري وداود بن علي الأصفهاني1. "وعلى هذا درج السلف وأئمة الخلف رضي الله عنهم كلهم متفقون على الإقرار والإمرار والإثبات لما ورد من الصفات في كتاب الله وسنة رسوله من غير تعرض لتأويله وقد أمرنا باقتفاء آثارهم والإهتداء بمنارهم، وحذرنا المحدثات وأخبرنا أنها من الضلالات"2. ومن خلال هذه الأقوال المتقدمة نعرف أن مذهب السلف إثبات يدين حقيقيتين من غير تكييف ولا تحريف، ولا تأويل ولا تعطيل، ولا يزيلون ألفاظ الشارع عما تعرفه العرب وتضعه عليه بالتأويل الباطل بل يجرون اللفظ على ظاهره، ويكلون كيفيته وكنهه إلى الله ـ تعالى ـ ويقولون: ذلك في جميع الصفات التي جاء بها القرآن ووردت بها الآثار الصحيحة. قال أبو عمر بن عبد البر: "أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة والإيمان بها وحملها على الحقيقة لا على المجاز إلا أنهم لا يكيفون شيئاً، ولا يحدون فيه صفة محصورة، وأما أهل البدع الجهمية والمعتزلة كلها والخوارج فكلهم ينكرها ولا يحمل شيئاً منها على الحقيقة ويزعمون أن من أقرّ بها مشبه، وهم عند من أثبتها نافون للمعبود والحق فيما قاله القائلون بما نطق به كتاب الله وسنة رسوله وهم أئمة الجماعة والحمد لله"3. وهذا الإجماع الذي نقله ابن عبد البر عن السلف فيه رد على من يقول: أن مذهب السلف هو التفويض في صفات الله ـ تعالى ـ وأن من نسب إليهم ذلك فهو جاهل تماماً لمذهب السلف في هذا الباب والصحيح أن مذهب السلف هو حمل صفات الله الواردة في القرآن والسنة على الحقيقة ولا يفوضون إلا في الكيفية فقط لأنه لا يعلم كنه ذلك إلا ـ هو سبحانه ـ ولأن ذلك مما استأثر الله بعلمه فعبارة السلف "أمروها كما جاءت"4 لا تدل على   1- المصدر السابق 1/93. 2- لمعة الاعتقاد: ص12. 3- التمهيد 7/145، الفتوى الحموية الكبرى ص51. 4- الفتوى الحموية الكبرى ص51. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 أن مذهبهم التفويض في المعنى، وإنما معنى هذه العبارة هو ما قررنا هنا، والعلم لله ـ تعالى ـ. ثم إن صفة اليدين ضلت فيها طوائف مختلفة كالمشبهة والمعتزلة والأشعرية. أولاً: المشبهة: أما المشبهة: أتباع محمد بن كرام السجستاني فقد زعموا: أن يدي الله ـ تعالى ـ جارحتان وعضوان فيهما كفان وأصابع ككفي الإنسان وأصابعه1. وهذا الزعم باطل شرعاً وعقلاً. أما شرعاً فقد قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُْ} 2. ومعنى الآية: أن الله ـ تعالى ـ لا يشبه شيئاً من خلقه، ولا يشبهه شيء من خلقه فصفات الباري ـ سبحانه ـ كلها خلاف صفات المخلوقين فهو ـ سبحانه ـ مباين لخلقه له يدان لا كأيدي المخلوقين، وله قدرة لا كقدرة المخلوقين، وله بصر لا كبصر المخلوقين وقال تعالى: {فَلا تَضْرِبُوا لله الأَمْثَالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} 3. قال ابن كثير: {فَلا تَضْرِبُوا لله الأَمْثَالَ} أي: لا تجعلوا له أنداداً وأشباهاً وأمثالاً4 فالمشبهة عندما يزعمون أن يدي الله كأيديهم وسمعه كسمعهم وغير ذلك فقد جعلوا لله أمثالاً وأشباهاً ـ تعالى الله ـ عما يقولون علواً كبيراً. وقال تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} 5 يعني هل تعلم ـ للرب ـ مثلاً أو شبيهاً وقال تعالى: {وَلله الْمَثَلُ الأَعْلَى} 6 وهذه الآية أثبتت الكمال المطلق لله ـ تعالى ـ من جميع الوجوه والمشبهة ساووه بالناقصات ـ تعالى ـ وتقدس عن قولهم علواً كبيراً.   1- الفرق بين الفرق ص215 وما بعدها، الملل والنحل 1/105، 108 وما بعدها وأصول الدين للبغدادي ص110 لوامع الأنوار البهية 1/91. 2- سورة الشورى آية: 11. 3- سورة النحل آية: 74. 4- تفسير القرآن العظيم: 2/212. 5- سورة مريم آية: 65. 6- سورة النحل آية: 60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 قال نعيم بن حماد: "من شبه الله بشيء من خلقه فقد كفر ومن أنكر ما وصف الله به نفسه فقد كفر وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه"1. وقال إسحاق بن راهوية: "من وصف الله بصفات أحد من خلقه فهو كافر بالله العظيم وقال: علامة جهم وأصحابه دعواهم على أهل السنة والجماعة ما أولعوا به من الكذب أنهم مشبهة بل هم المعطلة، وبهذا القول قال كثير من أئمة السلف"2 حتى قيل إن المشبه عابد صنم والمعطل عابد عدم3. وأما بطلان مذهبهم عقلاً: "فإن المثلين يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر، ويجب له ما يجب له، ويمتنع عليه ما يمتنع عليه، فلو كان المخلوق مماثلاً للخالق للزم اشتراكهما فيما يجب، وما يجوز وما يمتنع. والخالق يجب وجوده وقدمه، والمخلوق يستحيل وجوب وجوده وقدمه، بل يجب حدوثه، وإمكانه، فلو كانا متماثلين للزم اشتراكهما في ذلك، يجب وجوده وقدمه ويمتنع وجوب قدمه، ويجب حدوثه وإمكانه، فيكون كلاً منهما واجب القدم واجب الحدوث واجب الوجود، وما ليس بواجب الوجود يمتنع قدمه، لا يمتنع قدمه، وهذا جمع بين النقيضين"4. فالمشبهة وقعوا في محظور لم يسبقوا إلى مثله حيث شبهوا الخالق بالمخلوق، ومن العجيب أنه لو طلب من المشبه أن يصف روحه التي بين جنبيه كيف هي؟ لقال: إنه عاجز عن ذلك فإذا كان يعجز عن وصف مخلوق ويتجرأ على تشبيه الخالق، فإن ذلك من المحادة لله ورسوله. ولو قيل له أيضاً: "إن الله أخبر عما في الجنة من المطاعم والملابس والمناكح فهل هي كالموجودات في الدنيا؟ لسارع إلى الإجابة بأنها لا تتفق معها إلا في الاسم فقط، ولقال: وبينهما من المباينة ما لا يعلمه إلا الله".   1- شرح الفقه الأكبر ص24 ـ 25، شرح الطحاوية ص120. 2- شرح الفقه الأكبر ص24 ـ 25، شرح الطحاوية ص120 ـ 121. 3- انظر مقدمة قصيدة ابن القيم المسماة: "الكافية الشافية في الإنتصار للفرقة الناجية ص10". 4- شرح العقيدة الأصفهانية ص9 ـ 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 ومن هنا يعرف المؤمن بعظمة الله وجلاله أن المشبهة عموماً عقولهم في غطاء عن صفات الله التي تليق به ـ سبحانه ـ، ومذهبهم فاسد خارج عن نطاق الشرع والعقل مع اعترافهم وإقرارهم بذلك إذ أنهم يثبتون المباينة والفروق بين المخلوقات ولا يدركون المباينة العظمى بين الخالق والمخلوق ـ تعالى الله ـ عن ذلك علواً كبيراً1. ثانياً: مذهب المعتزلة والأشعرية: زعمت المعتزلة أن صفة اليدين مجاز في النعمة، والقوة وقال أفراخهم الأشعرية: إن صفة اليدين المراد بها القدرة قال عبد الجبار بن أحمد2 عند قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} 3. والمراد بذلك أن نعمتيه مبسوطتان على العباد وأراد به نعمة الدين والدنيا والنعمة الظاهرة والباطنة وقد يعبر باليد عن النعمة فيقال: "لفلان عندي يد" اهـ4. وقال أيضاً عند قوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} 5 قالوا: فأثبت لنفسه اليدين، وهذا يدل على كونه جسماً، والجواب عنه أن اليدين هاهنا بمعنى القوة وذلك ظاهر في اللغة يقال ما لي على هذا الأمر يد أي: "قوة"6. فعبد الجبار هذا يعد من أكابر علماء المعتزلة، وهذه التأويلات التي ذكرها لصفة اليدين من التأويلات الباطلة، وهي عين التحريف الذي ذم الله عليه أهل الكتاب الذين يحرفون الكلم عن مواضعه. وأما الأشعرية فقد أفصح عن مذهبهم "عبد القاهر بن طاهر البغدادي" حيث قال: في صفة اليدين "وتأولهما بعض أصحابنا على معنى القدرة ... وذلك صحيح على   1- انظر الرسالة التدمرية مع شرحها التحفة المهدية 1/75. 2- هو: عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار الهمذاني الأسد أبادي، أبو الحسين قاضي أصولي شيخ الإعتزال في زمنه لقبه المعتزلة بقاضي القضاة، ولا يطلقون هذا اللقب على غيره له تصانيف كثيرة توفي سنة خمس عشرة وأربعمائة هجرية. ميزان الإعتدال 2/523. 3- سورة المائدة آية: 64. 4- متشابه القرآن 1/230، وانظر المقالات للأشعري 1/271. 5- سورة ص آية: 75. 6- شرح الأصول الخمسة ص228. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 المذهب إذ أثبتنا لله القدرة، وبها خلق كل شيء ولذلك قال في آدم عليه السلام {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} ووجه تخصيصه آدم بذلك أن خلقه بقدرته لا على مثال سبق، ولا من نطفة، ولا نقل من الأصلاب إلى الأرحام كما نقل ذريته من الأصلاب إلى الأرحام" اهـ1. وقال البيجوري: فالسلف يقولون لله وجه ويد وأصابع لا نعلمها، والخلف يقولون: المراد من الوجه الذات، وباليد القدرة والمراد من قوله بين أصبعين من أصابع الرحمن "بين صفتين من صفاته وهاتان الصفتان القدرة والإرادة"2. وهذه التأويلات المتقدمة للمعتزلة والأشعرية لصفة اليدين بالنعمة والقدرة والقوة تأويلات باطلة بعيدة عن الصواب بمسافات بعيدة ويرد على الفريقين من وجوه: الوجه الأول: إن الأصل في الكلام الحقيقة، فدعوى المجاز مخالف للأصل. الوجه الثاني: أن ذلك خلاف الظاهر فقد اتفق الأصل والظاهر على بطلان هذه الدعوى. الوجه الثالث: إن اطراد لفظها في موارد الاستعمال وتنوع ذلك وتصريف استعماله يمنع المجاز. ألا ترى إلى قوله: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} 3 وقوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} 4 وقوله: {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} ، فلو كان مجازاً في القدرة أو النعمة لم يستعمل منه لفظ يمين وقوله في الحديث: "المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين" 5. فلا يقال: هذه يد النعمة، أو القدرة، وقوله "يقبض الله سماواته بيده، والأرض بيده الأخرى، ثم يهزهن ثم يقول: أنا الملك"6 فههنا هز وقبض، وذكر يدين، ولما أخبر صلى الله عليه وسلم جعل يقبض يديه ويبسطهما تحقيقاً للصفة لا تشبيهاً لها. الوجه الرابع: أن مثل هذا المجاز لا يستعمل بلفظ التثنية، ولا يستعمل إلا مفرداً،   1- أصول الدين ص111. 2- تحفة المريد شرح جوهرة التوحيد ص93. 3- جزء من الآية رقم 75 من سورة ص. 4- سورة المائدة آية: 64. 5- رواه البخاري في صحيحه 4/280 من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.. 6- متفق عليه: صحيح البخاري 4/300، صحيح مسلم 4/2147 كلاهما من حديث ابن مسعود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 أو مجموعاً، كقولك: له عندي يد يجزيه الله بها وله عندي أيادي، وأما إذا جاء بلفظ التثنية لم يعرف استعماله قط إلا في اليد الحقيقة. الوجه الخامس: أن ليس في المعهود أن يطلق الله على نفسه معنى القدرة والنعمة بلفظ التثنية، بل بلفظ الإفراد الشامل لجميع الحقيقة كقوله تعالى: {أَنَّ الْقُوَّةَ لله جَمِيعاً} 1 وكقوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوهَا} 2 وقد يجمع الله النعم كقوله {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} 3 وأما أن يقول: خلقتك بقدرتين وبنعمتين فهذا لم يقع في كلامه ولا كلام رسوله صلى الله عليه وسلم. الوجه السادس: أنه لو ثبت استعمال ذلك بلفظ التثنية لم يجز أن يكون المراد هنا القدرة فإنه يبطل تخصيص آدم فإنه وجميع المخلوقات حتى ـ إبليس ـ مخلوق بقدرة الله. الوجه السابع: أن هذا التركيب المذكور في قوله {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} يأبى حمل الكلام على القدرة لأنه نسب الخلق إلى نفسه ـ سبحانه ـ ثم عدى الفعل إلى اليد ثم ثناها، ثم أدخل عليها الباء التي تدخل على قولك كتبت بالقلم ومثل هذا نص صريح لا يحتمل المجاز بوجه4. قال ابن خزيمة في صدد رده على الجهمية المؤولين لليد بالنعمة "وزعمت الجهمية والمعطلة أن معنى قوله {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} أي: نعمتاه، وهذا تبديل لا تأويل والدليل على نقض دعواهم هذه أن نعم الله كثيرة لا يحصيها إلا الخالق البارئ ولله يدان لا أكثر منها كما قال لإبليس لعنه الله {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} 5 فأعلمنا الله ـ جل وعلا ـ أنه خلق آدم بيديه فمن زعم أنه خلق آدم بنعمته كان مبدلاً لكلام الله" اهـ6. وقال العلامة أبو الحسن الأشعري: "وقد اعتل معتل بقول الله ـ عز وجل ـ   1- سورة البقرة آية: 165. 2- سورة النحل آية: 18. 3- سورة لقمان آية: 20. 4- هذه سبعة وجوه من عشرين وجهاً ذكرها العلامة ابن القيم في مختصر الصواعق 2/153 وما بعدها. 5- سورة ص آية: 75. 6- كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب ص85 ـ 86. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} 1 الأيدي القوة أن يكون معنى قوله "بيدي" بقدرتي وقيل لهم: هذا التأويل فاسد من وجوه آخرها أن "الأيد" ليس بجمع لليد لأن جمع يد التي هي النعمة "أيادي" وإنما قال {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} فبطل بذلك أن يكون معنى قوله "بيديَّ" معنى قوله {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} وأيضاً فلو كان أراد القوة لكان معنى ذلك بقدرتي وهذا ناقض لقول مخالفنا وكاسر لمذاهبهم لأنهم لا يثبتون قدرة واحدة فيكيف يثبتون قدرتين" اهـ 2. وخلاصة القول مما تقدم في هذا المبحث أن لله ـ تعالى ـ يدين حقيقيتين تليقان بجلاله، وأن ما ورد في شأن اليد من الإمساك والطي والقبض والبسط والحثيات والخلق باليدين وكتب التوراة بيده وغرس جنة عدن بيده، وكون المقسطين عن يمينه، وتخيير آدم بين ما في يديه وأخذ الصدقة بيمينه يربيها لصاحبها وأنه مسح ظهر آدم بيده إلى غير ذلك مما ورد في شأنها يدل دلالة واضحة على أنها يد حقيقة، كما أخبر بذلك ـ جل وعلا ـ وأن تأويلها بالقدرة، أو النعمة تأويل ظاهر البطلان 3.   1- سورة الذاريات آية: 47. 2- الإبانة ص35. 3- انظر مختصر الصواعق المرسلة 2/171. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 الفصل الثاني: دلالات السورة على توحيد العبادة المبحث الأول: تعريف توحيد العبادة ... المبحث الأول: تعريف توحيد العبادة هو إفراد الله ـ تعالى ـ بأفعال عباده التي تعبدهم بها كالنحر، والنذر، والدعاء والخوف، والرجاء، والتوكل، والرغبة، والرهبة، والإنابة، والخشوع والخشية والإستعاذة، والإستعانة، والإستغاثة وغير ذلك من أنواع العبادة التي شرعها الله وأمر بها عباده1. ومعناه: بعبارة أخرى: أن يعتقد الإنسان الإعتقاد الجازم بأن الله ـ سبحانه ـ هو الإله الحق، ولا إله غيره، وإفراده ـ سبحانه ـ بالعبادة وبيان ذلك أن الإله هو المألوه2 أي المعبود. والعبادة في اللغة هي الإنقياد والتذلل، والخضوع يقال: طريق معبد أي: مذلل3 وقد عرفها بعض أهل العلم "بأنها كمال الحب مع كمال الخضوع والخوف"4. قال العلامة ابن القيم: وعبادة الرحمن غاية حبه ... مع ذل عابده هما قطبان بالأمر قال الله قال رسوله ... لا بالهوى والنفس والشيطان5 فلا بد في عبادة الله من أن يجتمع الأمران، فلا يكفي أحدهما في عبادته، بل يجب   1- انظر الحسنة والسيئة لشيخ الإسلام ابن تيمية ص126، مجموعة التوحيد لشيخ الإسلام والشيخ محمد بن عبد الوهاب وغيرهما: الرسالة الأولى ص4، تيسير العزيز الحميد ص20، كشف الشبهات ضمن مجموعة التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب وغيره ص217، تطهير الإعتقاد ص9، الدين الخالص 1/62، شرح الطحاوية ص76، لوامع الأنوار البهية 1/129. 2- القاموس المحيط: 4/282، مختار الصحاح ص22، المصباح المنير 1/19. 3- مختار الصحاح ص408، المخصص لابن سيده 13/96، لسان العرب 3/271، النهاية 3/170. 4- تفسير القرآن العظيم لابن كثير 1/76. 5- القصيدة النونية مع شرحها توضيح المقاصد وتصحيح القواعد 1/253. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 على الإنسان، أن يكون الله أحب إليه من كل شيء، وأن يكون الله أعظم عنده من كل شيء، بل لا يستحق المحبة، والذل التام إلا الله وكل ما أحب لغير الله فمحبته فاسدة، وما عظم بغير أمر الله فتعظيمه باطل1. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في تعريفه الشامل لمعنى العبادة: "العبادة اسم جامع لما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة، والظاهرة، فالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد للكفار والمنافقين والإحسان للجار اليتيم والذكر والقراءة وأمثال ذلك من العبادة وكذلك حب الله ورسوله وخشية الله، والإنابة إليه وإخلاص الدين له والصبر لحكمه والشكر لنعمه والرضاء بقضائه والتوكل عليه والرجاء لرحمته والخوف من عذابه وأمثال ذلك هي من العبادة لله" اهـ2. ومن هذا التعريف الجامع لمعنى العبادة التي هي حق الله على عباده يتبين أنه لا بد للعبادة من أمرين: الأمر الأول: هو أن يلتزم العبد بما أمر الله به ودعت إليه رسل الله الكرام عليهم الصلاة والسلام بامتثال الأوامر واجتناب النواهي، وبهذا الأمر يكون معنى العبادة الطاعة والخضوع إذ الذي لا يستسلم لأمر الله ويحرم ما حرم الله فلا يكون عبداً ولا عابداً لله ـ تعالى ـ. الأمر الثاني: أن يكون هذا الإلتزام صادراً عن قلب ممتلئ بمحبة ـ الباري سبحانه ـ إذ أنه ليس في هذا الوجود من يستحق المحبة الكاملة إلا الله ـ جل وعلا ـ لأنه ـ سبحانه ـ هو الذي خلق الإنسان ولم يكن شيئاً مذكوراً وسخر له ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه وأسبغ عليه النعم الظاهرة والباطنة وتوحيد الإلهية أساسه إخلاص العبادة لله وحده في باطنها وظاهرها بحيث لا يكون شيء منها لغيره ـ سبحانه ـ فيجب على المرء أن يخلص لله جميع أنواع العبادة من المحبة، والخوف، والرجاء، والدعاء، والتوكل، والطاعة، والتذلل، والخضوع، وأن يتوجه بها لله وحده دون سواه.   1- العبودية لشيخ الإسلام ص44. 2- المصدر السابق ص 38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 المبحث الثاني: وجوب إفراد الله تعالى بتوحيد العبادة لقد وردت آيات كثيرة في السورة كلها توجب على العباد أن يفردوا الله بتوحيد العبادة، ويخصوه بها وحده دون سواه. قال تعالى: {فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ. أَلا لله الدِّينُ الْخَالِصُ} . وقال تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ. وَأُمِرْتُ لأنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} . وقال تعالى: {قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي. فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} . وقال تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} . وقال تعالى: {بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} . هذه الآيات الكريمة من السورة تقرر أنه ـ سبحانه ـ هو الذي يستحق أن توجه له العبادة بجميع أنواعها الإعتقادية والقولية والعملية وليس لأحد سواه كائناً من كان أي شيء من أنواع العبادة، كما تقرر أن أي نوع من أنواع العبادة لم يوجه لله، أو وجه له، ولكن فيه شركة لغيره معه، فإنه باطل، وغير مقبول، لأن الله ـ تعالى ـ لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً لوجهه، وأن من عمل أي عملٍ لله، وأشرك معه فيه غيره من المخلوقين كائناً من كان فإن الله يتركه وشركه، لأنه ـ سبحانه ـ أغنى الشركاء عن الشرك. فالآيات المتقدمة عددها ثمان آيات كلها دلت على وجوب إفراد الله ـ تعالى ـ بتوحيد العبادة وتجريدها له وحده دون سواه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 فالآية الأولى: منها هي قوله تعالى: {فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} فهذه الآية أمر من الله ـ جل وعلا ـ لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بأن يخلص لله جميع دينه من العبادات الظاهرة والباطنة، وأن يفرد الله بها وحده، ويقصد بها وجهه ولا يتطلع إلى أي مقصد آخر، وأمته تبع له في ذلك، وإن كان الخطاب موجهاً له أصلاً وذاتاً فالخطاب موجه إلى كل مكلف من العباد. قال العلامة ابن جرير حول هذه الآية: {فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} : "يقول تعالى ذكره: فاخشع لله يا محمد بالطاعة، وأخلص له الألوهية وأفرده بالعبادة ولا تجعل له في عبادتك إياه شريكاً كما فعلت عبدة الأوثان" اهـ1. وقال ابن كثير: أي: "فاعبد الله ـ وحده ـ لا شريك له وادع الخلق إلى ذلك وأعلمهم أنه لا تصلح العبادة إلا له ـ وحده ـ وأنه ليس له شريك ولا عديل ولا نديد"2. وأما الآية الثانية: فهي قوله تعالى: {أَلا لله الدِّينُ الْخَالِصُ} فهي تقرير للأمر في الآية السابقة بإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، فكما أنه ـ سبحانه ـ له الكمال المطلق، وله التفضل كله على عباده من جميع الوجوه، فكذلك له الدين الخالص الذي صفي من كل شوائب الشرك صغيرها، وكبيرها، وهذا هو الدين الذي ارتضاه لنفسه وارتضاه لرسله الكرام عليهم الصلاة والسلام، وأمرهم به لأنه يتضمن التأله لله في حبه ورجائه، وخوفه، والإنابة إليه في العبودية، والرجوع إليه في تحصيل جميع المطالب لعباده، ومتى كانت العبادة خالصة لله كانت سبباً لصلاح القلوب وتزكيتها وتطهيرها أما إذا كانت ملوثة بالشرك فإن الله بريء منها، وليس له فيها شيء فهو الغني عن عبادة شابها شرك لأنه ـ سبحانه ـ أغنى الشركاء عن الشرك الذي هو مفسد للقلوب والأرواح ومشقٍ للنفوس في الآخرة والأولى. وأما الآية الثالثة: فهي قوله: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} فهذه الآية أيضاً: فيها الأمر من الله ـ تبارك وتعالى ـ لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بأن يقول للمشركين من قومه: إن الله أمره أن يعبده مفرداً له الطاعة دون كل ما يدعى من دونه من الآلهة والأنداد التي يعبدها المشركون.   1- جامع البيان 23/190. 2- تفسير ابن كثير 6/78. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 قال ابن كثير: "وقوله: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} أي: إنما أمرت بإخلاص العبادة لله ـ وحده ـ لا شريك له"1. وأما الآية الرابعة: فهي قوله تعالى: {وَأُمِرْتُ لأنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} . وهذه الآية أيضاً: فيها أمر من الله ـ جل جلاله ـ لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بأن يكون أول المسلمين من أمته. قال أبو عبد الله القرطبي2: "وكذلك كان فإنه كان أول من خالف دين آبائه وخلع الأصنام، وحطمها وأسلم لله وآمن به ودعا إليه صلى الله عليه وسلم" اهـ3. والحال كما أخبر به القرطبي فإنه عليه الصلاة والسلام كان سباقاً إلى امتثال أمر الله لأنه الداعي للخلق إلى ربهم فيقتضي أن يكون أول منفذ لأمر الله ومطبقاً له، وأول من يسلم وجهه لله، وهذا الأمر لا بد من وقوعه منه عليه الصلاة والسلام وكذلك لا بد أن يكون من ادعى أنه من أتباعه فلا بد من الإسلام في جميع الأعمال الظاهرة والإخلاص لله في جميع الأعمال الظاهرة والباطنة. وأما الآية الخامسة: فهي قوله تعالى: {قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي} . هذه الآية أيضاً: نصت على أن الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يعلن لكفار قريش أنه لا يعبد إلا لله العبادة الخالصة ويفرده وحده بالطاعة. قال ابن جرير حول هذه الآية: {قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي} "قل يا محمد لمشركي قومك: الله أعبد مخلصاً، مفرداً له طاعتي، وعبادتي لا أجعل له في ذلك شريكاً ولكني أفرده بالألوهية، وأبرأ مما سواه من الأنداد والآلهة" اهـ4. وأما الآية السادسة: فهي قوله تعالى: {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} .   1- تفسير القرآن العظيم 6/83. 2- هو: محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرج الأنصاري الخزرجي الأندلسي، أبو عبد الله القرطبي، من كبار المفسرين صالح متعبد من أهل قرطبة، توفي سنة إحدى وسبعين وستمائة هجرية. انظر ترجمته في مقدمة كتاب: "الجامع لأحكام القرآن"، طبقات المفسرين 2/69 ـ 71، الأعلام 6/217. 3- الجامع لأحكام القرآن 15/242. 4- جامع البيان 23/204. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 هذه الآية: سمتها التهديد والوعيد الشديد لمن خذل نفسه وأصر على كفره وإشراكه بالله ـ تعالى ـ بعبادته ما سواه من الأحجار وغيرها من المعبودات التي عبدت من دون الله، فلم يستجب لأوامر الله التي تقضي بإفراده ـ سبحانه ـ بالعبادة التي هي خالص حقه على عباده. كما تضمنت التبرِّي ممن حاله كذلك, وبينت الخسارة التي تلحق أهل الإشراك وتحل بهم في الآخرة وتلك الخسارة هي خسارة الأنفس والأهل يوم القيامة حيث يتفارقون فلا يلتقون سواءً ذهب أهلوهم إلى الجنة، وقد ذهبوا هم إلى النار، أو أن الجميع أمر بهم إلى النار ولكن لا اجتماع لهم ولا سرور. قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: "وليس من أحد إلا وقد خلق له زوجة في الجنة فإذا دخل النار خسر نفسه وأهله"1. وقال ابن زيد: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} قال: "هؤلاء أهل النار خسروا أنفسهم في الدنيا وخسروا الأهلين، فلم يجدوا في النار أهلاً، وقد كان لهم في الدنيا أهل". وقال مجاهد: "غبنوا أنفسهم وأهليهم قال: يخسرون أهليهم فلا يكون لهم أهل يرجعون إليهم، ويخسرون أنفسهم فيهلكون في النار فيموتون وهم أحياء فيخسرونهما"2 وهذا هو الخسران الظاهر البين الذي لا يصل في درجته أي خسران وسيحل بهم هذا الخسران عقوبة لهم على إشراكهم بالله العظيم حيث عبدوا معه من لا يستحق العبادة، وطأطئوا رؤوسهم لمخلوقين مثلهم لا يملكون لهم ضراً ولا نفعاً ولا موتاً، ولا حياة ولا نشوراً، وبذلك حل بهم خسران ليس مثله خسران، وهو خسران دائم لا ربح بعده ولا سلامة. وأما الآية السابعة: فهي قوله تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} هذه الآية تضمنت استنكاراً بليغاً صدع به الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن أمره الله ـ تعالى ـ به، وهو أن يقول للمشركين الذين طلبوا منه أن يعبد آلهتهم أو يكف عن تحقيرها: {أَفَغَيْرَ اللهِ   1- الجامع لأحكام القرآن 15/243. 2- جامع البيان 23/205. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} . قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: "إن قريشاً دعت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يعطوه مالاً فيكون أغنى رجلاً بمكة ويزوجوه ما أراد من النساء فقالوا: هذا لك يا محمد، وتكف عن شتم إلهتنا ولا تذكرها بسوء فإن لم تفعل فاعبد آلهتنا سنة. قال: حتى أنظر ما يأتيني من ربي فأنزل الله: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ. وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ. وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ. َلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُد. ُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} وأنزل {قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} 1. وهذا العرض من المشركين ينبئ عن فرط جهلهم وسخافة عقولهم حيث ظنوا أن القضية مساومة، ولم يدركوا أن أمر العبادة والعقيدة هو أمر الله وحده، وليس للرسول صلى الله عليه وسلم من ذلك شيء، وإنما الأمر في ذلك لله وحده لا شريك له، فهو ـ سبحانه ـ الآمر الذي لا راد لأمره وهو الذي يحكم فلا معقب لحكمه، فيتضح من هذا أنه لا التقاء بين التوحيد الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم وبين الشرك الذي امتلأت به قلوب المشركين، وخيم على عقولهم لأنهم ليسوا على دين وليسوا بمؤمنين وإنما هم كافرون بتوجيههم العبادة التي هي لله على عباده إلى من لا يستحقها من المخلوقات والجمادات بدعوى أنها تقربهم إلى الله زلفى وليس كذلك، وإنما تزيدهم عن الله بعداً، ومن النار قرباً. وأما الآية الثامنة: فهي قوله تعالى: {بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} . قال العلامة ابن جرير: "يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم لا تعبد ما أمرك به هؤلاء المشركون من قومك يا محمد بعبادته بل الله فاعبد دون كل ما سواه من الآلهة والأوثان والأنداد {وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} لله على نعمته عليك بما أنعم من الهداية لعبادته، والبراءة من عبادة الأصنام والأوثان" اهـ2. وقال ابن كثير: " {بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} أي أخلص العبادة لله وحده لا شريك له أنت ومن اتبعك وصدقك" اهـ3. وبهذه الآيات المتقدمة يتبين لنا أن توحيد الألوهية هو أول الدين وآخره وباطنه   1- لباب النقول في أسباب النزول للسيوطي ص236. 2- جامع البيان 24/24 ـ 25. 3- تفسير القرآن العظيم 6/106. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 وظاهره، وهو أول دعوة المرسلين وآخرها، ومن أجله خلق الله الخلق قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} 1. قال العلامة ابن القيم: "إن الله ـ سبحانه ـ إنما خلق لعبادته الجامعة لمحبته والخضوع له وطاعته وهذا هو الحق الذي خلقت به السموات والأرض، وهو غاية الخلق والأمر، ونفيه كما يقول أعداؤه: هو الباطل والعبث الذي نزه نفسه عنه أن يترك الإنسان عليه وهو ـ سبحانه ـ يحب أن يعبد ويطاع، ولا يعبأ بخلقه شيئاً لولا محبتهم له، وطاعتهم له، ودعاؤهم له، وقد أنكر على من زعم أنه خلقهم لغير ذلك، وأنهم لو خلقوا لغير عبادته وتوحيده وطاعته لكان خلقهم عبثاً وباطلاً وسدى، وذلك مما يتعالى عنه أحكم الحاكمين، والإله الحق، فإذا خرج عن أحب الأشياء إليه، وعن الغاية التي لأجلها خلقت الخليقة، وصار كأنه خلق عبثاً لغير شيء إذ لم تخرج أرضه البذر الذي وضع فيها بل قلبته شوكاً ودغلاً، فإذا راجع ما خلق له، وأوجد لأجله فقد رجع إلى الغاية التي هي أحب الأشياء إلى خالقه وفاطره، ورجع إلى مقتضى الحكمة التي خلق لأجلها وخرج عن معنى العبث والسدى والباطل فاشتدت محبة ـ الرب ـ له فإن الله يحب المتطهرين"اهـ2. ومن أجل هذا النوع من أنواع التوحيد ـ توحيد الألوهية ـ انقسم الخلق إلى مؤمنين وكافرين. قال شيخ الإسلام: "وهذا التوحيد هو الفارق يبن الموحدين والمشركين وعليه يقع الجزاء والثواب في الأولى والآخرة فمن لم يأت به كان من المشركين"3.   1- سورة الذاريات آية: 56. 2- مدارج السالكين 1/215، وانظر مجموع الفتاوى 1/23. 3- الحسنة والسيئة ص126. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 المبحث الثالث: أهمية الإخلاص في توحيد العبادة لقد دلت السورة على أهمية الإخلاص في أربع آيات: قال تعالى: {فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ. أَلا للهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} . وقال تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} . وقال تعالى: {قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي ... } . هذه الآيات الأربع من السورة فيها بيان أهمية الإخلاص في توحيد العبادة، وكما نرى أن الأمر بالإخلاص جاء مشفوعاً بالأمر بالعبادة، لأن الإخلاص هو روح العبادة وعمودها الذي تقوم عليه، فالعبادة بدون إخلاص عبادة مردودة على صاحبها لأنها لم توجه إلى الله ـ وحده ـ لا شريك له، ومتى شاب العبادة قصد غير الله ـ تعالى ـ اعتبرت لاغية لا قيمة لها، ولا فائدة منها سوى التعب لصاحبها لأن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً لوجهه. فالآيات الأربع دلت على وجوب الإخلاص في العبادة. فالآية الأولى هي قوله تعالى: {فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يعبد الله تعالى عبادة مصحوبة بالإخلاص وأمته تبع له في هذا الأمر والأمر دال على الوجوب فيجب عليهم أن يخلصوا دينهم لله ويبعدوا أنفسهم عن كل شوائب الشرك. وأما الآية الثانية من تلك الآيات هي قوله تعالى: {أَلا للهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} . قال القرطبي: "أي: الذي لا يشوبه شيء"1.   1- الجامع لأحكام القرآن 15/233. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 وروى ابن جرير عن قتادة أنه قال: {ألا للهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} قال: "شهادة أن لا إله إلا الله"1 وعلى هذا التفسير يكون معنى الآية {ألا للهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} أي: التوحيد الصافي من شوائب الشرك وهو المستحق لذلك وحده. وقال العلامة ابن كثير: " {ألا للهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} أي: لا يقبل من العمل إلا ما أخلص فيه العامل لله ـ وحده ـ لا شريك له"اهـ2. وأما الآية الثالثة: فهي قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} فهذه الآية أيضاً: أمر بعبادة الله ـ تعالى ـ العبادة الخالصة البعيدة عن كل إشراك. وأما الآية الرابعة: فهي قوله تعالى: {قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي} وهذه الآية إخبار بأنه عليه الصلاة والسلام أمر بأن يخص الله ـ تعالى ـ وحده بالعبادة مخلصاً له دينه ولا يعبد أحداً غيره فقوله {اللهَ أَعْبُدُ} يفيد الحصر أي: لا أعبد أحداً غير الله تعالى. فالسورة بينت من خلال تلك الآيات الأربع أهمية الإخلاص ودلت على أنه يجب على كل إنسان أن يحققه في عبادته ربه لتكون عبادته مقبولة عند الله ـ تعالى ـ، وطالما أن للإخلاص هذه الأهمية فإنه ينبغي للمرء معرفته كي يعينه ذلك على تحقيقه في توحيده ربه ـ جل وعلا ـ في جميع الأعمال. ونذكر تعريفه هنا تسهيلاً لفهمه، وإدراكاً لمعناه: معنى الإخلاص في اللغة: جاء في المصباح المنير: "خلص الشيء من التلف" من باب ـ قعد ـ "وخلاصاً" و"مخلصاً" سلم ونجا و"خلص" الماء من الكدر صفا، و"خلصته" بالتثقيل ميزته من غيره اهـ3. وهكذا مدار الإخلاص في كتب اللغة على الصفا والتميز عن الشوائب التي تخالط الشيء يقال: هذا الشيء خالص لك أي لا يشاركك فيه غيرك، وتطلق العرب "الإخلاص" على الزبد إذا خلص من اللبن والثفل.   1- جامع البيان 23/191. 2- تفسير القرآن العظيم 6/78. 3- 1/177 . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 و"الخلاص" في لغة العرب. ما أخلصته النار من الذهب والفضة والخالص من الألوان عندهم ما صفا ونصع، ويقولون: خالصُه في العشرة صافاه1. وهذه المعاني جاءت في القرآن الكريم قال تعالى: {نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً} 2 أي: لا يخالطه دم ولا فرث. وقال تعالى في إخوة يوسف: {خَلَصُوا نَجِيّاً} 3. أي: انفردوا وتميزوا عمن سواهم. وقال تعالى حكاية عن المشركين: {خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا} 4 أي: لا يشركهم الإناث. وأما حقيقة الإخلاص في الشرع: فقد تنوعت تعريفات العلماء له، ولكن مدارها على قصد الله بالعبادة دون سواه. جاء في المفردات لغريب القرآن: "فحقيقة الإخلاص: التبرِّي عن كل ما دون الله تعالى"5. وعرَّفه أبو القاسم القشيري6: بأنه "إفراد الحق ـ سبحانه ـ وتعالى في الطاعات بالقصد، وهو أن يريد بطاعته التقريب إلى الله تعالى دون شيء آخر من تصنع لمخلوق، واكتساب محمدة عند الناس، أو محبة مدح من الخلق، أو معنى من المعاني سوى التقرب إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ"7. وقال في موضع آخر: "يصح أن يقال: الإخلاص تصفية العمل عن ملاحظة المخلوقين"8.   1- انظر الصحاح للجوهري 3/1037، القاموس 2/312 ـ 313، لسان العرب 7/26 ـ 29. 2- سورة النحل آية: 66. 3- سورة يوسف آية: 80. 4- سورة الأنعام آية: 139. 5- ص155. 6- هو عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك النيسابوري من بني قشير بن كعب شيخ خراسان في عصره ولد سنة ست وسبعين وثلاثمائة وتوفي سنة خمس وستين وأربعمائة هجرية. انظر ترجمته في "وفيات الأعيان 1/299، تاريخ بغداد 11/83 تبيين كذب المفتري 271، الأعلام 4/180". 7- الرسالة القشيرية ص95. 8- المصدر السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 وعرفه العز بن عبد السلام قائلاً: "الإخلاص أن يفعل المكلف الطاعة خالصة لله وحده لا يريد بها تعظيماً من الناس ولا توقيراً، ولا جلب نفع ديني ولا دفع ضرر دنيوي"1. وقال سهل بن عبد الله2: "الإخلاص أن يكون سكون العبد وحركاته لله ـ تعالى ـ خالصة"3. قال الغزالي بعد ذكره لهذا التعريف: "وهذه كلمة جامعة محيطة بالغرض"4. وقد ذكر الإمام ابن القيم؛ ما يقارب ثلاثة عشر تعريفاً للإخلاص5 وكلها ترجع إلى معنى واحد: وهو أن يقصد العبد بأقواله، وأعماله وإرادته، ونيته وجه الله تعالى دون سواه من غير أن ينظر إلى مغنم، أو جاه، أو لقب، أو تقدم، أو تأخر إلى غير ذلك من أعراض الدنيا6. وقد بين ابن القيم أن للإخلاص ثلاثة أركان قال رحمه الله تعالى: "فحقيقة الإخلاص": توحيد المطلوب، وحقيقة الصدق: توحيد الطلب والإرادة ولا يثمران إلا بالإستسلام المحض للمتابعة، فهذه الأركان الثلاثة هي: أركان السير وأصول الطريق التي من لم يبن عليها سلوكه وسيره فهو مقطوع، وإن ظن أنه سائر فسيره، إما إلى عكس جهة مقصودة، وإما سير المقعد والمقيد، وإما سير صاحب الدابة الجموح كلما مشت خطوة إلى قدام رجعت عشرة إلى الخلف، وإن لم يبذل جهده ويوحد طلبه سار سير المقيد وإن اجتمعت له الثلاثة: فذاك الذي لا يجارى في مضمار سيره وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم7   1- قواعد الأحكام 1/146. 2- هو: سهل بن عبد الله التستري أحد أئمة الصوفية المتكلمين في الإخلاص والرياضة ولد سنة مائتين وتوفي سنة ثلاث وثمانين ومائتين هجرية. انظر ترجمته في "وفيات الأعيان" 1/218، حلية الأولياء 10/189، الأعلام 3/210. 3- إحياء علوم الدين 4/381. 4- المصدر السابق. 5- مدارج السالكين 2/91 ـ 92. 6- راجع "الرسالة السابعة" ضمن مجموعة التوحيد لشيخ الإسلام ابن تيمية والشيخ محمد بن عبد الوهاب وغيرهما من العلماء ص185، الجواب الكافي ص159 أضواء البيان 7/42. 7- مدارج السالكين 2/97. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 ولأهمية الإخلاص في توحيد العبادة كان أحد ركنيه، والصدق ركنه الآخر. قال العلامة ابن القيم: فلو أحدكن واحداً في واحد ... أعني سبيل الحق والإيمان هذا وثاني التوحيد ... توحيد العبادة منك للرحمن فنقوم بالإخلاص والإحسان ... في سر وفي إعلان والصدق والإخلاص ركنا ذلك ... التوحيد كالركنين للبنيان1 وقد تضافرت الأدلة من الكتاب والستة، وكثرت أقوال الأئمة في اشتراط الإخلاص للأعمال والأقوال الدينية، وأن الله لا يقبل منها إلا ما كان خالصاً وابتغي به وجهه. قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} 2. "فهذه الآية فيها توجيه من الله ـ تعالى ـ لنبيه صلى الله عليه وسلم بأن يقول للمشركين أنه لا يصلي إلا لله، ولا يذبح إلا له، وأن محياه ومماته كل ذلك لله وحده لا شريك له بخلاف المشركين، فإنهم كانوا يعبدون الأصنام ويذبحون لها فأمره الله ـ تعالى ـ بمخالفتهم، والابتعاد عما هم عليه والإقبال بالقصد والنية والعزم والإخلاص لله تعالى"3. وقال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} 4. قال الفضيل بن عياض: هو أخلصه وأصوبه، قالوا: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه؟ فقال: إن العمل إذا كان خالصاً لم يقبل حتى يكون خالصاً صواباً، والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة، ثم قرأ قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} 5، فلا يمكن أن يكون العمل خالصاً إلا إذا جرد   1- القصيدة النونية مع شرحها توضيح المقاصد وتصحيح القواعد 2/258. 2- سورة الأنعام آية: 162 ـ 163. 3- انظر تفسير ابن كثير 3/139. 4- سورة الملك آية: 2. 5- مدارج السالكين 2/89 والآية رقم 110 من سورة الكهف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 الإنسان المتابعة للكتاب والسنة في عبادته، واقتفى ما خط له فيهما فقبول الأعمال مرهون وموقوف بصدق الإخلاص. وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ} 1. فإسلام العبد وجهه لا يتحقق إلا بإخلاص قصده وعمله لله تعالى والإحسان في ذلك لا يتحقق إلا بمتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولقد أخبر الله تعالى أن الأعمال التي تكون على غير الكتاب والسنة أو قصد بها غير وجه الله تعالى فإنها تصير هباءً منثوراً ليس لها قيمة وليس فيها نفع لصاحبها. قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} 2، والآيات الواردة في الحض على إخلاص العبادة لله ـ وحده ـ لا شريك له كثيرة جداً في كتاب الله ـ تعالى ـ وكلها تدل على اهتمام الإسلام بإصلاح الفرد ظاهراً، وباطناً. والقرآن الكريم عندما يطلق اسم "الإخلاص" لا يريد به التوجه إلى الله في عمل من الأعمال بل المقصود به أن يتوجه المكلف بأعماله كلها إلى الله وحده دون سواه فلا يقصد بعبادته ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً ولا يعبد شجراً، ولا حجراً، ولا شمساً، ولا قمراً، الإخلاص يعني أن يتوجه بالأعمال القلبية لله وحده، كما يتوجه بالأعمال الظاهرة، والإخلاص هو الدين الذي بعث الله به الرسل جميعاً فكان محور دعوتهم ولبها، وهو الدين الذي طالبت به الرسل الأمم التي أرسلت إليها: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} 3. وقد أكدت السنة على أهمية الإخلاص في عبادة الله تعالى في أحاديث كثيرة منها: 1 ـ ما رواه الشيخان من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: عن الرجل يقاتل رياءً ويقاتل شجاعة ويقاتل حمية أي ذلك في سبيل الله؟ فقال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" 4. فقد بين صلى الله عليه وسلم أن القتال الذي يكون لله وفي سبيله إنما هو القتال الذي يكون الغاية منه   1- سورة النساء آية: 125. 2- سورة الفرقان آية: 23. 3- سورة البينة آية: 5. 4- صحيح البخاري 4/290، صحيح مسلم 3/1512. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 رفع راية الإسلام، أما القتال لأجل مراءات الناس، وإظهار الشجاعة، أو يقاتل حمية كل هذا في سبيل الشيطان، وليس في سبيل الرحمن. 2 ـ وروى الإمام أحمد من حديث أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم"1. قال العلامة ابن القيم: "أي لا يبقى فيه غل، ولا يحمل الغل مع هذه الثلاثة بل تنفي عنه غله وتنقيه منه، وتخرجه عنه، فإن القلب يغل على الشرك أعظم غل، وكذلك يغل على الغش، وعلى خروجه عن جماعة المسلمين بالبدعة، والضلالة فهذه الثلاثة تملؤه غلاَّ، ودغلاً، ودواء هذا الغل، واستخراج أخلاطه بتجريد الإخلاص والنصح ومتابعة الرسول"2. 3 ـ وأخبر صلى الله عليه وسلم أن الإنسان إذا قصد بعمله وجه الله ـ تعالى ـ زاده الله رفعة ودرجة في دنياه وآخرته. دل على ذلك حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه قال: جاءني رسول الله يعودني في حجة الوداع من وجع اشتد بي ... وفيه فقلت: يا رسول الله أخلَّف بعد أصحابي قال: "إنك لن تخلف فتعمل عملاً تبتغي به وجه الله إلا ازددت به درجة ورفعة ... " الحديث3. 4 ـ وأخبر عليه الصلاة والسلام أن العمل بقصد الرياء والسمعة محبط للعمل وموجب للنار كما في حديث الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار "قارئ القرآن والمجاهد، والمتصدق بماله"4. فقارئ القرآن قرأه ليقال: فلان قارئ، والمجاهد جاهد ليقال: فلان شجاع والمتصدق تصدق ليقال: فلان جواد، ولم تكن أعمالهم خالصة لله ـ تعالى ـ فكانوا من   1- المسند 4/80، 82. 2- مدارج السالكين 2/90. 3- رواه مسلم 3/1250 ـ 1251. 4- رواه مسلم 3/1513 ـ 1514 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 أصحاب النار لأنهم قصدوا بأعمالهم غير الله فوقعوا في الشرك والله تعالى أغنى الشركاء عن الشرك. كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله تعالى أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه معي تركته وشركه" 1. فعلى الإنسان أن يجتهد في تحقيق الإخلاص في أقواله وأفعاله التي يتقرب بها إلى الله ـ جل وعلا ـ وأن يحاول جاهداً أن يربي نفسه ويعودها الأخذ بالإخلاص في جميع أعماله إذ الإخلاص من أشق الأشياء عليها. قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: "أمر النية شديد". وقال سفيان الثوري: "ما عالجت شيئاً أشد علي من نيتي لأنها تنقلب عليَّ". وقال يوسف بن أسباط: "تخليص النية من فسادها أشد على العاملين من طول الاجتهاد". وقال سهل بن عبد الله التستري: "وليس على النفس شيء أشق من الإخلاص لأنه ليس لها فيه نصيب". وقال يوسف بن الحسين: "أعز شيء في الدنيا الإخلاص، وكم اجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي، وكأنه ينبت فيه على لون آخر فيجب على من نصح نفسه أن يكون اهتمامه بتصحيح نيته وتخليصها من الشوائب فوق اهتمامه بكل شيء لأن الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى"2 فالسلف كانوا يجتهدون غاية الاجتهاد في تصحيح نياتهم ويرون الإخلاص أعز الأشياء، وأشقها على النفس، وذلك لمعرفتهم بالله، وما يجب له وبعلل الأعمال، وآفاتها، ولا يهمهم العمل لسهولته عليهم، وإنما يهمهم سلامة العمل وخلوه من الشوائب المبطلة لثوابه أو المنقصة له، فقلب الإنسان هو الأساس في عبادة الله ـ تعالى ـ وهو موضع نظر الله تعالى، ومحل عنايته كما جاء من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن   1- رواه مسلم 4/2289. 2- انظر هذه الأقوال في "الرسالة السابعة" تعريف العبادة وتوحيد العبادة والإخلاص ـ للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن المعروف بأبي بطين ـ ضمن مجموعة التوحيد لشيخ الإسلام ابن تيمة والشيخ محمد بن عبد الوهاب وغيرهما ص186. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" 1. فصلاح القلب أساس قبول العمل ولا يعتبر العمل إلا إذا كان عن نية طيبة خالصة لوجه الله ـ تعالى ـ أما العمل إذا كان مقصوداً به مراءات الناس، أو السمعة فإن ذلك مبطل للعمل من أساسه بالكلية ويفضح الله سريرة صاحبه يوم القيامة بين الخلائق عامة، فعلى العبد أن يتقي الرياء ويخلص العمل لله ـ تعالى ـ فإن الرياء من الأعمال الدنيئة التي تهبط بالإنسان إلى أسفل الدرجات، أما إذا أظهر الإنسان الطاعات للناس دون قصد منه، وكانت مصحوبة بالإخلاص، فأعجبهم عمله وحمدوه على ذلك فهذا لا يحبط عمله، ولا ينافي ذلك إخلاصه. برهان ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي ذر رضي الله عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير فيحمده الناس عليه؟ قال: "تلك عاجل بشرى المؤمن" 2. ولا يفوتنا أن نذكر هنا كلمة لابن القيم وضعها رحمه الله كنبراس لتحقيق الإخلاص في القلب قال رحمه الله تعالى: " لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس إلا كما يجتمع الماء والنار، والضب والحوت فإذا حدثتك نفسك بطلب الإخلاص، فاقبل على الطمع أولاً فاذبحه بسكين اليأس، وأقبل على المدح والثناء فازهد فيهما زهد عشاق الدنيا في الآخرة، فإذا استقام لك ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح سهل عليك الإخلاص. فإن قلت: وما الذي يسهل عليّ ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح؟ قلت: أما ذبح الطمع فيسهله عليك علمك يقيناً أنه ليس من شيء يطمع فيه إلا وبيد الله ـ وحده ـ خزائنه لا يملكها غيره ولا يؤتى العبد منها شيئاً سواه. وأما الزهد في الثناء والمدح فيسهله عليك علمك أنه ليس أحد ينفع مدحه ويزين ويضر ذمة ويشين إلا الله ـ وحده ـ كما قال ذلك الأعرابي للنبي إن مدحي زين، وذمي   1- صحيح مسلم 4/1987. 2- 1/2034 . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 شين، فقال ذلك الله عز وجل 1 فازهد في مدح من لا يزينك مدحه، وفي ذم من لا يشينك ذمه، وارغب في مدح من كل الزين في مدحه وكل الشين في ذمه، ولن يقدر على ذلك إلا بالصبر واليقين، فمتى فقدت الصبر واليقين كنت كمن أراد السفر في البحر في غير مركب. قال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} 2. وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} اهـ 3. والذي نخلص إليه مما تقدم أن الإنسان مأمور بأن يصفي وينقي عمله من جميع شوائب الشرك، وأن يفعل كل الطاعات على وجه الإخلاص ولا بد. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "فكل ما يفعله المسلم من القرب الواجبة والمستحبة كالإيمان بالله، ورسوله، والعبادات البدنية، والمالية، ومحبة الله ورسوله والإحسان إلى عباد الله بالنفع، والمال هو مأمور بأن يفعله خالصاً لله رب العالمين لا يطلب من مخلوق عليه جزاء لا دعاءاً ولا غير دعاء، فهذا مما لا يسوغ أن يطلب عليه جزاء لا دعاءاً ولا غير دعاء" 4.   1- رواه أحمد في المسند 3/488 من حديث الأقرع بن حابس، الترمذي 5/63 من حديث البراء بن مالك. 2- سورة الروم آية: 60. 3- الفوائد ص147 ـ 148 والآية رقم 4 من سورة السجدة. 4- مجموع الفتاوى 1/190. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 المبحث الرابع: عبودية الدعاء قبل أن نبدأ بعرض الآيات الواردة في السورة التي تبين أن الدعاء عبادة لا يستحقها إلا الله ـ جل وعلا ـ نذكر معنى الدعاء في اللغة والشرع ليتضح مفهومه أكثر. أما الدعاء في اللغة: فقد جاء في الصحاح للجوهري1: "ودعوت فلاناً أي: صحت به واستدعيته ودعوت الله له وعليه دعاءاً، والدعوة المرة الواحدة والدعاء واحد الأدعية" اهـ2. وجاء في القاموس: الدعاء الرغبة إلى الله ـ تعالى ـ اهـ3. وقال في المصباح: "دعوت الله أدعوه دعاءاً ابتهلت إليه بالسؤال ورغبت فيما عنده من الخير، ودعوت زيداً ناديته وطلبت إقباله"4. وأما الدعاء في الشرع: فإنه يؤخذ من التعاريف اللغوية وهو: الإتجاه إلى الله ـ تعالى ـ بطلب نفع أو دفع ضر، أو رفع بلاء، أو النصر على عدو، أو نحو ذلك. فهذا الاتجاه بالسؤال المنبعث من القلب لله ـ تعالى ـ هو روح العبادة ومخها كما ورد بذلك قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: "الدعاء هو العبادة"5.   1- هو: إسماعيل بن حماد الجوهري المتوفى سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة هجرية. 2- 6/2337 . 3- 4/329 . 4- 1/194 . 5- رواه الترمذي 5/52 من حديث النعمان بن بشير رضي الله ـ تعالى ـ عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 فيتبين من تعريف الدعاء في اللغة والشرع أن الدعاء في الأصل هو الطلب ويطلق على العبادة، وقد دلت السورة على أن الدعاء عبادة وأنه لله ـ وحده ـ لا شريك له في آيتين منها: ـ قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لله أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} . وقال تعالى: {فَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ. قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ. فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} . فالآيتان الأوليان من هذه الآيات الأربع بين الله تعالى فيهما أن العبد إذا نزل به البلاء وأحاطت به المحن جأر إلى الله وفزع إليه بالدعاء لما تقرر في فطرته أنه لا يكشف ما به من البلاء والمحن إلا الله ـ تعالى ـ الذي أوجده من قبل ولم يك شيئاً، ثم إنهما توضحان ما تنطوي عليه تلك الفطرة، وما يعتريها من التغيرات والتقلبات في حالتي الشدة والرخاء. فالآية الأولى: وهي قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ} الآية يخبر الله تعالى فيها عن كرمه وإحسانه وبره بعبده وقلة شكر عبده على ذلك وأنه حين يمسه الضر من المرض، أو الفقر، أو الوقوع في الكربات يعلم أنه لا ينجيه ولا ينقذه منها إلا الله فيدعوه ملحاً متضرعاً منيباً، ويستغيث به في كشف ما نزل به ويلح في ذلك فإذا ما أنعم الله عليه بكشف ما نزل به من الضر والكرب نسي ذلك الذي دعا الله من أجله ومر كأنه لم يصبه شيء فرجع إلى الشرك بأن جعل لله الأنداد وهم الشركاء والأمثال والأشباه فضل بنفسه وأضل غيره لأن إضلاله لغيره متولد وناتج عن ضلاله. ثم أمر الله نبيه بأن يقول لمن اشتهر بهذا العتو، وهو تبديل نعمة الله كفراً {تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} فلا ينفعه ما يتمتع به في هذه الدنيا من الأموال وسائر النعم إذا كان المآل هو النار1.   1- جامع البيان عن تأويل آي القرآن 23/199 ـ 200، تفسير القرآن العظيم 6/81، الجامع لأحكام القرآن 15/237 ـ 238، فتح القدير للشوكاني 4/452. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 وأما الآية الثانية: وهي قوله تعالى: {فَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} . وهذه الآية أيضاً: كسابقتها تبين أن العبد حين يصاب بالشدة والبلاء تقوى صلته بربه في هذه الحال فيدعوه ويضرع إليه أن يزيل عنه ما حل به من الكوارث وينيب إليه إنابة صادقة ويتجلى أمام عينيه الصراط المستقيم ويعلم علم يقين أن كل ما سوى الله من الأنداد والأوثان والأصنام وغيرها من المخلوقات ليس لهم القدرة على كشف ما به، فعند ذلك يلجأ إلى الله ويفيق من ظلمات الجهل وركام الشرك وينقشع عنه كل ما يخالجه من الأوهام الباطلة فيتجه إلى الله بالدعاء الخالص واللجوء الصحيح ويكفر بكل ما سوى الله ـ تعالى ـ من الشركاء والشفعاء المزعومين. أما إذا ذهب عنه الضر وحل به الرخاء وخوله الله بشتى النعم فإن حاله ينعكس غالباً وهنا يدنس فطرته التي كانت قد استيقظت في حالة الشدة فيلبسها لباس الشرك وينسى توحيده لربه وإنابته إليه وتطلعه إليه في إزالة ما به من الفقر والمرض وسائر أنواع الكرب فيبدأ بالكفر بنعم الله وينسبها إلى نفسه وأنها إنما جاءت إليه لذكائه ودقة حيلته ويكفر بربه الذي هو مصدر كل النعم. {ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} . قال الحافظ ابن كثير: "يخبر تعالى أن الإنسان في حال الضر يضرع إلى الله وينيب إليه، ويدعوه، ثم إذا خوله نعمة منه طغى وبغى وقال: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} لعلم الله بي بأنني أستحق ذلك ولولا أني عند الله خصيص لما خولني هذا. قال قتادة: على علم عندي قال الله ـ عز وجل ـ: {بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ} أي ليس الأمر كما زعم بل إنما أنعمنا عليه بهذه النعمة لنختبره فيما أنعمنا عليه أيطيع أم يعصي؟ مع علم الله المتقدم بذلك فهي فتنة أي اختبار: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} ولهذا يدعون ما يدعون ويقولون ما يقولون" اهـ1. فيجب على الإنسان أن يعلم أن كل ما به من نعمة فهي من الله ـ تعالى ـ وأنه ليس له حول ولا قوة في جر النفع إلى نفسه أو دفع الضر عنها والإنسان عندما ينسب النعم التي حباه   1- تفسير القرآن العظيم 6/99. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 الله بها إلى نفسه وأنها إنما جاءت إليه بحيلته وذكائه وخبرته الفائقة بوجوه المكاسب لا شك أن ذلك جحد لنعم الله وهو يؤدي إلى الكفر بالمنعم الذي هو الله ـ تعالى ـ مصدر كل النعم، فيجب على العبد أن يعرف المنعم بذلك حتى يكون شاكراً لربه الرازق العليم. وأما الآيتان الأخيرتان من الآيات المتقدمة وهما قوله ـ تعالى ـ: {قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ. فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} . فهاتان الآيتان تضمنتا التهديد والوعيد لمن ينسب نعم الله إلى نفسه وأن من زعم ذلك فإنما هو مقتدٍ بقارون الذي اغتر بكثرة ماله، وما أعطاه الله من أصناف النعم فكانت عاقبته النهائية أن خسف الله به وبداره الأرض فلم يجد معيناً ولا نصيراً يمنعه من بأس الله الذي لا يرد عن القوم المجرمين فقوله تعالى {قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} الآية. أوضحت بأنه قد سبق من الأمم من زعم أنما آتاه الله المال لما يعلم الله تعالى من استحقاقه له ولولا أنه خصيص عند الله لما خوله الله تلك النعم فهذه المقالة المبغوضة عند الله ـ تعالى ـ بينت السورة أنها متداولة لدى الجبابرة من سائر الأمم يتوارثها الجاحدون لنعم الله ـ تعالى ـ كما أوضحت أن كسبهم لا يغني عنهم شيئاً من عقاب الله وأن وبال ذلك راجع عليهم كما أوضحت أن الظلمة من المخاطبين سيصيبهم ما أصاب الظالمين من الأمم قبلهم {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} قال تعالى مخبراً عن قارون أنه قال له قومه: {لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} 1. وكون العبد ينسب نعم الله إلى نفسه وأنها وافته بفضل ما عنده من الحرص والذكاء وشدة الحيلة والعلم بوجوه المكاسب هذا من علامة الخذلان والعياذ بالله، والكفر بالله إذ الكفر بالنعمة كفر بالمنعم.   1- سورة القصص آية: 76 ـ 78. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 قال العلامة ابن القيم: " وسبب الخذلان عدم صلاحية المحل وأهليته وقبوله للنعمة بحيث لو وافته النعم لقال هذا لي، وإنما أوتيته لأني أهله ومستحقه كما قال تعالى: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} أي على علم علمه الله عندي استحق به ذلك وأستوجبه واستأهله، قال الفراء: أي على فضل عندي أني كنت أهله ومستحقاً له إذ أعطيته، وقال مقاتل: يقول على خير علمه الله عندي. وذكر عبد الله بن الحارث بن نوفل سليمان بن داود عليه الصلاة والسلام فيما أوتي من الملك ثم قرأ قوله ـ تعالى ـ {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} 1. ولم يقل هذا من كرامتي، ثم ذكر قارون وقوله: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} 2 يعني: أن سليمان رأى ما أوتيه من فضل الله عليه ومنته وأنه ابتلي به فشكره، وقارون رأى ذلك من نفسه واستحقاقه. وكذلك قوله ـ سبحانه ـ {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} 3 أي أنا أهله وحقيق به فاختصاصي به كاختصاص المالك بملكه. والمؤمن يري ذلك ملكاً لربه وفضلاً منه من به على عبده من غير استحقاق منه بل صدقة تصدق بها على عبده، وله أن لا يتصدق بها. فلو منعه إياها لم يكن قد منعه شيئاً هو له يستحقه عليه، فإذا لم يشهد ذلك رأي فيه أهلاً ومستحقاً فأعجبته نفسه وطغت بالنعمة وعلت بها واستطالت على غيرها فكان حظها منها الفرح والفخر كما قال تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُوسٌ كَفُورٌ. وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} 4. فذمه باليأس والكفر عند الامتحان بالبلاء وبالفرح والفخر عند الابتلاء بالنعماء واستبدل بحمد الله وشكره والثناء عليه إذ كشف عنه البلاء قوله: {ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي} ، ولو أنه قال: أذهب الله السيئات عني برحمته ومنه لما ذم على ذلك، بل كان محموداً عليه ولكنه غفل عن المنعم بكشفها ونسب الذهاب إليها وفرح وافتخر فإذا علم الله ـ سبحانه ـ هذا من قلب عبد فذلك من أعظم أسباب خذلانه   1- سورة النمل آية: 40. 2- سورة القصص آية: 78. 3- سورة فصلت آية: 50. 4- سورة هود آية: 9 ـ10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 وتخليه عنه، فإن محله لا تناسبه النعمة المطلقة التامة كما قال تعالى: 1. فأخبر ـ سبحانه ـ أن محلهم غير ق {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} ابل لنعمته ومع عدم القبول ففيهم مانع آخر يمنع وصولها إليهم وهو توليهم وإعراضهم إذا عرفوها وتحققوها"اهـ2. ومما ينبغي أن يعلم أن توسيع الرزق على بعض العباد ليس ذلك دليلاً على أنهم محبوبون عند الله ـ تعالى ـ كما أن تضييقه على بعضهم لا يدل على بغضهم فإن الدنيا يؤتيها الله من يحب ومن لا يحب فتوسيع الرزق إنما هو ابتلاء وامتحان منه ـ سبحانه ـ وتعالى لعبيده لينظر أيشكرونه أم يكفرونه؟ وفي ذلك عبرة للمعتبرين وحجة على المعاندين. وبعد هذه اللمحة لبيان معنى الآيات الأربع المتقدمة التي جاء في بعضها التنبيه على عبودية الدعاء، نقول: إن الدعاء من أجل العبادات، بل هو أكرمها على الله ـ عز وجل ـ وقد حث الله في كتابه العزيز على إخلاص الدعاء له وحده لا شريك له وبذلك جاءت السنة التي أوحاها الله إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. الدعاء نوعان: 1 ـ دعاء عبادة. 2ـ دعاء مسألة. ولفظ الدعاء في القرآن الكريم يراد به هذا تارة، وهذا تارة ويراد به مجموعهما وهما متلازمان كما سنوضح ذلك. فأما دعاء العبادة: فهو التقرب إلى الله ـ تعالى ـ بأنواع العبادات من الصلاة، والذبح، والنذر، والصيام، والحج وغيرها خوفاً من عقاب الله وطمعاً في رحمته وإن لم يكن في ذلك صيغة سؤال وطلب، فالعابد الذي يرغب في حصول مطلوبه ويخاف على فواته هو سائل لما يطلبه بامتثال أمر الله ـ تعالى ـ.   1- سورة الأنفال آية: 22 ـ 23. 2- الفوائد ص:200 ـ 201. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 وأما دعاء المسألة: فهو طلب ما ينفع الداعي وطلب كشف ما يضره أو دفعه ومن يملك الضر والنفع هو المعبود حقاً، والمعبود لا بد أن يكون مالكاً للنفع والضر1. ولقد أنكر ـ الباري ـ سبحانه ـ على الذين يعبدون غيره ممن لا يملكون لعابديهم ضراً ولا نفعاً، وكثر أسلوب الإنكار في القرآن الكريم من أجل هذا. قال تعالى: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً} 2. فهذه الآية تضمنت الإنكار الشديد على عباد الأصنام والأنداد والأوثان وبداية الآية كما هو مشاهد أمر موجه للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول لعموم العابدين لغير الله ـ تعالى ـ من سائر بني آدم بما فيهم النصارى: {أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً} أي: لا يقدر على دفع ضر عنكم ولا إيصال نفع إليكم، أما الله ـ جل وعلا ـ فإنه يسمع أقوالكم ويعلم أحوالكم فلم تعدلون عنه إلى عبادة جماد لا يسمع ولا يبصر ولا يعلم شيئاً ولا يملك ضراً ولا نفعاً لغيره ولا لنفسه؟ 3. وقال تعالى زيادة في الإنكار على الذين يعبدون ما لا يملك لهم ضراً ولا نفعاً. {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ} 4 وقال: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ} 5 وقال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} 6 وغيرها من الآيات كثير كلها تنفي عن المعبودين من دون الله النفع والضر القاصر والمتعدي فلا يملكون لأنفسهم ولا لعابديهم ضراً ولا نفعاً فالمعبود يدعى للنفع والضر دعاء المسألة، ويدعى على طريق الخوف، والرجاء دعاء العبادة ومن هذا يعلم أن النوعين متلازمان فكل دعاء عبادة مستلزم لدعاء المسألة وكل دعاء مسألة يتضمن دعاء العبادة. ومن هذا قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} 7.   1- مجموع الفتاوى 15/10، بدائع الفوائد لابن القيم 3/2، تيسير العزيز الحميد ص180 ـ 192. 2- سورة المائدة آية: 76. 3- انظر تفسير ابن كثير: 2/617. 4- سورة يونس آية: 18. 5- سورة يونس آية: 106. 6- سورة الفرقان آية: 3. 7- سورة البقرة آية: 186. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 فهذه الآية اشتملت على نوعي الدعاء وفسرت بهما معاً. فقيل: أعطيه إذا سألني. وقيل: أثيبه إذا عبدني1. وكلا التفسيرين متلازمان "وليس هذا من استعمال اللفظ المشترك في معنييه كليهما أو استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه بل هذا استعمال له في حقيقته الواحدة المتضمنة للأمرين جميعاً فتأمله فإنه موضع عظيم النفع قل من يفطن له وأكثر ألفاظ القرآن الدالة على معنيين فصاعداً هي من هذا القبيل"2. ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ} 3. وهذه الآية فيها قولان للمفسرين: الأول: قيل لولا دعاؤكم إياه. الثاني: قيل لولا دعاؤه إياكم إلى عبادته4. فعلى القول الأول: يكون المصدر مضافاً إلى الفاعل، وعلى القول الثاني: يكون المصدر مضافاً إلى المفعول. ورجح شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله تعالى ـ الأول5 وعلى هذا فالمراد بلفظ الدعاء في الآية نوعا الدعاء وهو في دعاء العبادة أظهر والمعنى أي: ما يعبأ بكم لولا أنكم تعبدونه عبادة تستلزم طلبه وسؤاله. وقال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} 6. وهذه الآية أيضاً تضمنت نوعي الدعاء معاً إلا أنها في دعاء العبادة أظهر ولذلك جاء   1- مجموع الفتاوى 15/11، بدائع الفوائد: 3/3. 2- بدائع الفوائد 3/3. 3- سورة الفرقان آية: 77. 4- البحر المحيط لأبي حيان 6/517، انظر إملاء ما منَّ به الرحمن من وجوه الإعراب والقراءات في جميع القرآن 2/166. 5- مجموع الفتاوى 15/12، بدائع الفوائد 3/3. 6- سورة غافر آية: 60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 التعقيب بعد الأمر بالدعاء فيها بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} . وقد روى الترمذي بإسناده إلى النعمان بن بشير رضي الله ـ تعالى ـ عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: "إن الدعاء هو العبادة ثم قرأ {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} " قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح1. فهذه الآيات التي قدمنا ذكرها دلت دلالة صريحة على أن نوعي الدعاء بينهما تلازم كما قدمنا ذلك قريباً، فينبغي للإنسان أن يكون على معرفة بهذا وأن يحققه جيداً حتى يستطيع الرد على القبوريين الذين يدعون أهل القبور من دون الله ـ تعالى ـ ويحتجون على من أنكر عليهم فعلهم ذلك بأن الدعاء الذي أمر الله بأن يكون خالصاً له وحده لا شريك له إنما هو دعاء العبادة وليس المسألة ويزعمون أن قوله ـ تعالى ـ {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لله فَلا تَدْعُو مَعَ الله أَحَداً} 2. أي لا تعبدوا مع الله غيره، والرد عليهم سهل ويسير فيقال لهم: سلمنا لكم جدلاً أن المراد به دعاء العبادة لكن لا يمنع ذلك من أن يدخل فيه دعاء المسألة لأن دعاء العبادة مستلزم لدعاء المسألة ويقال لهم أيضاً: إن الله ـ تعالى ـ أمر عباده بأن يدعوه دعاء مسألة في مواضع كثيرة من كتابه. قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} 3 فهذه الآية واضحة في دعاء المسألة، ويؤيد ذلك سبب نزولها وهو أنه صلى الله عليه وسلم كان يدعو ربه فيقول مرة: "يا الله"، ومرة "يا رحمن" فظن الجاهلون من المشركين أنه يدعو إلهين فأنزل الله هذه الآية. قال ابن عبد الله عباس رضي الله عنهما: "سمع المشركون النبي صلى الله عليه وسلم يدعو في سجوده "يا رحمن يا رحيم" فقالوا: هذا يزعم أنه يدعو واحداً وهو يدعوه مثنى مثنى"، فأنزل الله هذه الآية: {قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} 4 ومعنى هذه الآية الكريمة: الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول للمشركين الذين أنكروا صفة الرحمة لله ـ عز وجل ـ المانعين من تسميته   1- سنن الترمذي 5/52. 2- سورة الجن آية: 18. 3- سورة الإسراء آية: 110. 4- مجموع الفتاوى 15/14، بدائع الفوائد 3/5، تفسير ابن كثير 4/359. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 "بالرحمن" {ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} أي لا فرق بين دعائكم له باسم "الله" أو باسم "الرحمن" فإنه ذو الأسماء الحسنى. وقال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} 1. وهذه الآية تضمنت إرشاداً من الله لعباده بأن يدعوه تضرعاً وتذللاً لأن الدعاء فيه صلاح دنياهم وأخراهم، كما أنها تتناول نوعي الدعاء لكنها ظاهرة الدلالة في دعاء المسألة المتضمن دعاء العبادة ولهذا أمر ـ سبحانه ـ بإخفائه وإسراره2. وقوله تعالى في هذه الآية {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} فسر الاعتداء بتفسيرين: 1 ـ قيل: المراد إنه لا يحب المعتدين في الدعاء كالسائل ما لا يليق به من منازل الأنبياء وغير ذلك. وقد جاء في سنن أبي داود رحمه الله تعالى عن عبد الله بن معقل أنه سمع ابنه يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها فقال: يا بني سل الله الجنة وتعوذ به من النار فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء"3. وعلى هذا فالاعتداء في الدعاء تارة يكون بسؤال الله ما لا يجوز له سؤله كسؤاله العون على المعصية، وتارة يسأل الله سؤالاً لا يفعله كطلب الخلود إلى يوم القيامة أو يدفع عنه لوازم البشرية بأن يرفع عنه الحاجة إلى الطعام والشراب أو يطلعه على الغيب أو يجعله في المعصومين، أو يطلب من الله الولد من غير زوجة وغير ذلك مما سؤاله اعتداء لا يحبه الله ولا يحب سائله. التفسير الثاني للآية: قيل الاعتداء برفع الصوت في الدعاء4. وقد قرر شيخ الإسلام ابن تيمية أن الآية تكون أعم من ذلك كله وإن كان الاعتداء في الدعاء هو المقصود بها فهو من جملة المراد: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} 5 في كل شيء دعاء   1- سورة الأعراف آية: 55. 2- مجموع الفتاوى 15/15، بدائع الفوائد لابن القيم 3/6. 3- 1/22 . 4- مجموع الفتاوى 15/22، تفسير ابن كثير 3/180. 5- سورة الأعراف آية: 55. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 كان أو غيره كما قال تعالى: {وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} 1 وعلى القول بعموم الآية فإن من أعظم الاعتداء أن يدعي غير الله تعالى من المخلوقين سواء أكان الدعاء يوجه إليه مباشرة أو يدعون الله بهم كل ذلك اعتداء لا يحبه الله تعالى، لأنه وضع للعبادة في غير موضعها ومن الاعتداء أن يدعو الإنسان ربه تبارك وتعالى وهو غير مظهر للتضرع والتذلل فيكون دعاء هذا كدعاء المستغني المدل على ربه وهذا من الاعتداء الذي لا يحبه الله لمنافاته دعاء العبد المتذلل فمن لم يسأل ربه مسألة مسكين متضرع خائف فهو من المعتدين. كذلك من الاعتداء عبادة الله بما لم يشرعه ولا أذن فيه أو يثني على الله بما لم يثن به على نفسه. فذلك من الاعتداء في دعاء الثناء والعبادة وهو شبيه الاعتداء في دعاء المسألة والطلب قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وعلى هذا فتكون الآية دالة على شيئين: أحدهما: محبوب للرب ـ سبحانه ـ وهو الدعاء تضرعاً وخفية. الثاني: مكروه له مسخوط وهو الاعتداء، فأمر بما يحبه وندب إليه وحذر مما يبغضه وزجر عنه بما هو أبلغ طرق الزجر والتحذير وهو لا يحب فاعله ومن لا يحبه الله فأي خير يناله ... إلى أن قال فقسمت الآية الناس إلى قسمين داع لله تضرعاً وخفية، ومعتد بترك ذلك. اهـ2. وقال تعالى: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} 3. والآيات كثيرة جداً في إثبات دعاء المسألة المتضمن دعاء العبادة ويكفينا منها هذا القدر الذي قدمنا ذكره وكلها فيها الرد الواضح على من ينكر عبودية دعاء المسألة ويكابر مناصرة لدعاء الموتى من أهل القبور، بزعمه أن الدعاء الوارد في القرآن إنما المراد به دعاء العبادة، ليسوغوا لأنفسهم سؤال غير الله ـ تعالى ـ ودعاء أهل القبور، وقد اعتبر القرآن دعاء غير الله ـ تعالى ـ من أبلغ الضلال. قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً   1- مجموع الفتاوى 15/23 والآية رقم 190 من سورة البقرة. 2- مجموع الفتاوى 15/23 ـ 24. 3- سورة الأعراف آية: 56. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} 1. فالآية الأولى بينت أنه لا أضل ممن يدعو أحداً من دونه كائناً من كان وأن المدعو ليس لديه استجابة لما طلب منه من ميت أو غائب أو صنم أو وثن فالداعي لغير الله حظه من ذلك الخسران والخيبة، وأما الآية الثانية فقد بينت أنه إذا كان يوم القيامة فإن المعبود من دون الله يتبرأ ممن عبده ومن عبادته بل ينقلب له عدواً. قال العلامة عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ: "فدلت أيضاً: أي الآية على أن دعاء غير الله عبادة له وأن الداعي له في غاية الضلال، وقد وقع من هذا الشرك في هذه الأمة ما طم وعم حتى أظهر الله من يبينه بعد أن كان مجهولاً عند الخاصة والعامة إلا من شاء الله ـ تعالى ـ وهو في الكتاب والسنة في غاية البيان لكن القلوب انصرفت إلى ما زين لها الشيطان" اهـ2. وهو كما قال رحمه الله ـ تعالى ـ فإن الشيطان زين لبعض المسلمين دعاء أهل القبور واللجوء إليهم عند الشدائد والإستغاثة بهم في الملمات، والناظر بعين البصيرة لما عليه القبوريون في أغلب الأقطار الإسلامية يقطع يقيناً بأنهم بدلوا قولاً غير الذي قيل لهم فبدلاً من إتيانهم القبور للدعاء لأهلها بالمغفرة والرحمة وسؤال العافية لهم تجدهم يدعونهم ويسألونهم مطالب لا يقدر عليها إلا الله ـ تعالى ـ أو يدعون الله ـ تعالى ـ بهم بقصد القربى وأنهم يشفعون لهم عند الله ـ تعالى ـ ونسوا أن المقصود من زيارة القبور أمران: الأمر الأول: تذكُّر الآخرة والإعتبار والإتعاظ وقد أشار إلى ذلك المصطفى عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره من حديث بريدة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزورها فإنها تذكر الآخرة" 3 وهذا من إحسان الحي إلى نفسه. الأمر الثاني: الإحسان إلى الميت بالدعاء له بالرحمة والمغفرة كما كان يفعله صلى الله عليه وسلم فإنه كان إذا زار أهل البقيع يقول: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين وأتاكم ما توعدون غداً مؤجلون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد" 4.   1- سورة الأحقاف آية: 5 ـ 6. 2- قرة عيون الموحدين: ص104. 3- سنن الترمذي: 2/259. 4- رواه مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها: 2/669. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 هذه هي الزيارة المشروعة التي يؤديها أهل التوحيد، وأما زيارة الذين أشربت قلوبهم بعبادة غير الله فإنهم يزعمون أن الميت المعظم الذي لروحه قرب ومنزلة عند الله ـ تعالى ـ لا يزال تأتيه الألطاف من قبل الله ـ تعالى ـ وتفيض على روحه الخيرات، فإذا علق الزائر روحه به، وقربها منه يحصل لها الفيض من روح ذلك المزور ويكتسب من تلك الألطاف بواسطتها كما ينعكس شعاع لمرآة الصافية والماء ونحوه على الجسم المقابل، وقالوا لا تتم الزيارة إلا إذا توجه الزائر بروحه وقلبه إلى الميت وعكف بهمته إليه ووجه قصده وإقباله عليه بحيث لا يبقى فيه التفات إلى غيره وكلما كان جمع همته وقلبه عليه أعظم، كان أقرب إلى انتفاعه به، والذي قرر هذه الزيارة الشركية على هذا النحو ابن سيناء والفارابي وغيرهما1 وهذا ما كان عليه عباد الكواكب وعباد الأصنام، ومن ثم تسلسل هذا الاعتقاد الباطل إلى عباد القبور فاتخذوها أعياداً، وعلقوا عليها الستور، فأوقدوا السرج عليها، وبنوا عليها المساجد والقباب وهذا ما قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم إبطاله ومحو أثره كلية وسد كل ذريعة تفضي إليه ولما عرف المشركون قصده وقفوا في طريقه وناقضوه في قصده وكان صلى الله عليه وسلم في شق وهم في شق ولذلك كان القرآن ينزل بتكفيرهم ولعنهم وإباحة دمائهم وأموالهم وسبي ذراريهم، وأوجب لهم النار، والقرآن من أوله إلى آخره مملوء بالرد عليهم وإبطال كل معتقد لهم في ذلك. قال الشيخ سليمان بن عبد الله2 بعد أن بين دعاء العبادة ودعاء المسألة: "إذا تبين ذلك فاعلم أن العلماء أجمعوا على أن من صرف شيئاً من نوعي الدعاء لغير الله فهو مشرك ولو قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله وصلى وصام، إذ شرط الإسلام مع التلفظ بالشهادتين أن لا يعبد إلا الله، فمن أتى بالشهادتين، وعبد غير الله فما أتى بهما حقيقة، وإن تلفظ بهما كاليهود الذين يقولون لا إله إلا الله وهم مشركون ومجرد التلفظ بهما لا يكفي في الإسلام بدون العمل بمعناهما واعتقاده إجماعاً"3.   1- إغاثة اللهفان 1/219. 2- هو: الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب أحد السلسلة الذهبية التي قيضها الباري ـ سبحانه ـ للدعوة إلى التوحيد الخالص ونبذ الشرك والبدع والخرافات في الجزيرة العربية. كان رحمه اله بارعاً في التفسير والحديث والفقه توفي سنة ثلاث وثلاثين ومائتين وألف هجرية. انظر ترجمته في كتاب "عنوان المجد في تاريخ نجد" 1/212، هدية العارفين 1/408، معجم المؤلفين 4/268. 3- تيسير العزيز الحميد ص: 192. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 وقد وردت أحاديث كثيرة تدل على أن الدعاء عبادة لا يجوز صرفها لغير الله ـ تعالى ـ. منها ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما: من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر ثم يقول: من يدعوني فاستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له ... " الحديث1. وروى الإمام أحمد في المسند من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس شيء أكرم على الله من الدعاء" 2. وإذا كان الدعاء من أجل العبادات وأكرمها على الله ـ عز وجل ـ فهلاً ـ يعقل أولئك القبوريون الذين ينادون أهل القبور ويستغيثون بهم ويطلبون منهم المطالب التي لا يملكها إلا الله من جلب النفع ودفع الضر؟ وهلا ينتهي أولئك الضلال الذين يدعون أنهم أولياء فيقفون في طريق العوام يزينون لهم دعاء الأموات والإستغاثة بهم فيضلونهم ويصدونهم عن سبيل الله بل وصل الحد بمن يدعي الولاية أنه يضمن لتابعيه دخول الجنة والنجاة من النار وقد قال تعالى مخاطباً سيد الأولين والآخرين: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} فأين هؤلاء الجهلة من هذه الآية؟ فإذا كان سيد الأولين والآخرين لا يقدر على إنقاذ من حقت عليه كلمة العذاب فكيف يدعي أولئك العصاة أنهم يملكون ذلك فالواجب على كل مكلف أن يعرف ما لربه من الواجب عليه وأن يخلص له الدين حتى يكون من عباده الموحدين وليعلم أن ربه أوحى إلى نبيه بأن يأمر أمته أن يسألوا الله من فضله الذي عطاؤه لا ينفد وخزائنه ملآى لا تنضب كما في حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف" قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح3. فلا يسأل إلا الله ولا يدعى إلا هو وحده لا شريك له لأن غير الله لا يقدر على الإعطاء والمنع   1- صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 3/29، صحيح مسلم 1/521. 2- 2/362 . 3- سنن الترمذي 4/76. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 ورفع الضرر وجلب النفع لأن ذلك من خصائص الرب ـ سبحانه وتعالى ـ وقد حصر الرسول صلى الله عليه وسلم العبادة في الدعاء فقال عليه الصلاة والسلام: "الدعاء هو العبادة" 1. جاء في عون المعبود أي: "هو العبادة الحقيقية التي تستأهل أن تسمى عبادة لدلالته على الإقبال على الله والإعراض عما سواه بحيث لا يرجو ولا يخاف إلا إياه قائماً بوجوب العبودية معترفاً بحق الربوبية عالماً بنعمة الإيجاد"2. فهذه الأحاديث التي قدمنا ذكرها تدل على أن دعاء غير الله من ميت وغائب وحاضر فيما لا يقدر عليه إلا الله من جلب النفع ودفع الضر أو تحويله هو الشرك بعينه بل ذلك من الشرك الأكبر إذ أن الداعي إنما يدعو الله إذ انقطع أمله مما سوى الله وذلك هو خلاصة التوحيد فمن دعا غير الله ـ تعالى ـ أو ناداه فقد سوى بينه وبين الله ـ تعالى ـ وذلك عين الشرك. والناظر لحال بعض المسلمين اليوم من الذين ينادون أهل القبور ويستغيثون بهم ويطوفون بقبورهم، ويذبحون لهم وينذرون لهم فإنه يرثي حالهم ويعلم تدهور العقيدة الصحيحة في قلوبهم، والموجب لهم ذلك أنهم عن كتاب ربهم معرضون وعن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم غافلون، وبسبب ذلك فعلوا فعل المشركين الذين كانوا يدَّعون أنهم ما يعبدون الآلهة إلا لكي تشفع لهم عند الله، وهذا ما وقع فيه جهلة المسلمين من الخضوع والتذلل عند القبور، ويطلبون من أصحابها مطالب لا يقدر عليها إلا الله تعالى. . وعندما يشاهد الإنسان الذي عرف العقيدة الصحيحة بعض المفتونين من القبوريين الذين ينادون أهلها الذين لا يملكون لغيرهم ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياة، ولا نشوراً يتساءل عن الذي جعلهم يعضون على فعلهم ذلك المنكر الشنيع الذي يجعل فاعله هو وعبدة الأصنام على حد سواء في دعوتهم غير الله ـ تعالى ـ والسبب الذي دفعهم إلى ذلك يتمثل في الأمور الآتية: 1 ـ جهلهم أولاً: بحقيقة ما أرسل الله به رسوله عليه الصلاة والسلام، بل جهلهم بما دعا إليه جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام من تحقيق التوحيد، وقطع كل صلة تؤدي إلى   1- المصدر السابق 5/25، وانظر سنن أبي داود مع شرحه عون المعبود 4/352. 2- 4/352 . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 الشرك بالله العظيم فكان حظهم من ذلك قليلاً، فدعاهم الشيطان إلى تلك الفتنة لأنه لا يوجد عندهم من العلم ما يدحضون به دعوته فاستجابوا لدعوته بقدر ما عندهم من الجهل وعصموا بحسب ما عندهم من العلم. 2 ـ ومن الأسباب التي جعلتهم يدعون أهل القبور الأحاديث المكذوبة المختلفة التي وضعها على الرسول صلى الله عليه وسلم أمثال عباد الأصنام من القبوريين لمناقضة دين الإسلام وزعزعة العقيدة المحمدية من النفوس مثل حديث: "إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور" وحديث "لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه" وأمثال هذه الأكاذيب التي تناقض قواعد الدين، وضعها المشركون، وراجت عند الجهلة من بعض المسلمين، فالرسول صلى الله عليه وسلم ما بعث إلا لقتل من حسن ظنه بالأحجار وتجنيب الأمة فتنة القبور. 3 ـ ومن الأسباب التي جعلت القبوريين يصرفون عبودية الدعاء لغير الله ـ تعالى ـ الحكايات المكذوبة لأصحاب تلك القبور مثل: أن فلاناً استغاث بالقبر الفلاني في شدة نزلت به، فخلص منها، وفلاناً دعاه، أو دعا به في حاجة فقضيت له وفلاناً نزل به ضر فرجا صاحب القبر الفلاني فكشف ضره، وعند سدنة القبور من الأكاذيب والأساطير الباطلة الشيء الكثير، وهم من أكذب الناس على الأحياء والأموات ونفوس بني آدم مفطورة بحب من يقضي حوائجها ويزيل ضروراتها، فعندما يسمعون أن القبر الفلاني ترياق مجرّب والشيطان يتلطف في دعوة المضطر المحترق القلب، فقد يجيب الله دعوتهم ابتلاء أو امتحاناً، فالجاهل عندما تحصل له إجابة الدعوة يظن أن لذلك القبر تأثيراً في إجابة الدعاء، والله ـ سبحانه ـ يجيب دعوة المضطر إذا دعاه، ولو كان كافراً ومصداق ذلك قوله تعالى: {كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} 1. "فليس كل من أجاب الله دعوته يكون راضياً عنه، ولا محباً له ولا راضياً بفعله، فإنه ـ سبحانه ـ يجيب دعوة البر والفاجر والمؤمن والكافر"2. وقد تعلق القبوريون ببعض الأحاديث، وظنوا: أنها دليل يجيز لهم ما يفعلونه عند القبور، ومن تلك الأحاديث ما رواه الإمام أحمد في مسنده والحاكم في مستدركه   1- سورة الإسراء آية: 20. 2- انظر إغاثة اللهفان: 1/214 ـ 215. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 بإسنادهما إلى عثمان بن حنيف أن رجلاً ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادع الله أن يعافيني قال: " إن شئت أخرت ذاك فهو خير" وفي رواية "وإن شئت صبرت فهو خير لك" فقال: ادعه فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه، فيصلي ركعتين ويدعو بهذا الدعاء: "اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة يا محمد إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه فتقضى لي، اللهم فشفعه فيَّ وشفعني فيه ... " الحديث. قال الحاكم: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي1. هذا الحديث ضعفه بعض العلماء بحجة أن في إسناده أبا جعفر. قال الترمذي: "لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث أبي جعفر وليس الخطمي"2 فظنوا أنه أبو جعفر الرازي، ودرجة الرازي صدوق ولكنه سيء الحفظ"3. والصواب أنه: "أنه أبو جعفر الخطمي حيث أن الإمام أحمد نسبه في إحدى روايات الحديث بأنه الخطمي، ونسبه في أخرى فقال: المدني"4. فالحديث صحيح، وإنما الكلام في الزيادة التي تنسب إلى عثمان بن حنيف مع الرجل في زمن خلافة عثمان وسيأتي الكلام عليها قريباً. فلقد تعلق القبوريون بقوله: "يا محمد إني توجهت بك إلى ربي". وقالوا: لو أن دعاء غير الله شرك لم يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم هذا الدعاء الذي فيه المناداة لغير الله. والجواب: أن يقال إن شبهتكم هذه باطلة من وجوه: الوجه الأول: أن الضرير كان مجيئه إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأجل أن يدعو له بدليل قوله في الحديث: "ادع الله أن يعافيني" فيجب أن تفهم هذه الفقرة أولاً، وقبل كل شيء حتى يعرف الفرق بين طلب الضرير من النبي صلى الله عليه وسلم، وتوجهه بدعائه مع حضوره، وبين دعاء الجهلة للأموات، والسجود لهم ولأضرحتهم، والتوكل عليهم واللجوء إليهم في الشدائد   1- المسند 4/138، والمستدرك 1/19، الترمذي 5/229، ابن ماجة 1/418. 2- سنن الترمذي 5/229. 3- انظر التقريب 2/406. 4- المسند 4/138. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 وخطابهم بالحوائج من الأمكنة القريبة والبعيدة، فالضرير طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له ويشفع له، وهذا نوع من التوسل المشروع، وهو التوسل بدعاء أهل الصلاح والتقى فأين هذا من دعاء غير الله والإستغاثة به. الوجه الثاني: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر ذلك الضرير أن يدعو الله بنفسه ويسأله قبول شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وهذا من أوضح الأدلة على أن دعاء غير الله شرك بالله العظيم، فالمخلوق لا يدعى من دون الله سواء كان ملكاً مقرباً أو نبياً مرسلاً، أو رجلاً صالحاً لأنهم لا يقدرون على النفع والضر إذ ذلك خاص برب العالمين بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقدر على شفائه إلا بعد دعاء الله له. الوجه الثالث: أن قوله في الحديث "يا محمد إني توجهت بك إلى ربي" لا يدل على جواز سؤال الغائب، ولا على جواز سؤال المخلوق فيما لا يقدر عليه إلا فاطر السموات والأرض، لا من طريق العبارة ولا من طريق الإشارة، ومن ادعى ذلك فقد افترى على الله كذباً لأنه لا يخلو الأمر من حالين: إما أن يكون ذلك الضرير سأل النبي نفسه، وهذا سؤال للمخاطب فيما يقدر عليه، وهو أن يدعو له وهذا لم ينكره أحد لأنه أمر جائز لا محذور فيه. وإما أن يكون توجه بالنبي صلى الله عليه وسلم دون سؤاله أن يدعو له فهو لم يسأل منه، وإنما سأل من الله سواء كان متوجهاً بدعائه كما هو لفظ الحديث، أو كان متوجهاً بذاته عليه الصلاة والسلام، وهو القول الضعيف، لأن التوجه بذوات المخلوقين، والإقسام بهم على الله من البدع المنكرة التي لم تؤثر عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة الكرام، ولا عن التابعين لهم بإحسان، ولا عن أحد من أئمة الدين عليهم رحمة الله أجمعين"1. ومن حججهم التي احتجوا بها على جواز التوجه إلى القبور ودعاء أهلها ما أخرجه الطبراني من قصة الرجل مع عثمان بن عفان رضي الله عنه، من طريق عبد الله بن وهب عن شبيب بن سعيد المكي عن روح بن القاسم عن أبي جعفر الخطمي المدني عن أبي أمامة سهل بن حنيف أن رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه في زمن خلافته، فكان لا يلتفت إليه، ولا ينظر في حاجته فلقي عثمان بن حنيف فشكا ذلك إليه فقال عثمان: ائت الميضأة، فتوضأ، ثم ائت المسجد فصل فيه ركعتين، ثم قل: اللهم   1- انظر تيسير العزيز الحميد ص208 ـ 209. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 إني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربك ـ عز وجل ـ فيقضي لي حاجتي ... الخ1. قال الذين تعلقت قلوبهم بدعاء غير الله من الأموات أهل القبور: هذا دليل على جواز دعاء غير الله من غائب وميت وصالح لأن عثمان بن حنيف علم الرجل أن يدعو الرسول بعد موته وناداه فقضيت حاجته. وهذه القصة باطلة متناً وسنداً. "أما من ناحية المتن فهي تدل بتركيبها، وترتيبها على أن هناك من وضعها واختلقها، وأن الصحابي الجليل عثمان بن حنيف برئ منها لأنه يعلم أن التوسل المشروع إنما يكون بدعاء الشخص المتوسل به لا بذاته كما هو المعهود عند من يجهل حقيقة التوسل المشروع. ثم إن المعروف من حياة عثمان قبل الخلافة وبعدها أنه كان ليناً رقيقاً عطوفاً كثير الاهتمام بمصالح المسلمين العامة والخاصة، ولم يثبت أنه أهمل أحداً من قضاء حاجته بل إنه كان يتتبع احتياجات المسلمين دون أن يعلموا ذلك فضلاً عن أن شخص يدخل على عثمان ويتردد عليه مراراً، ولم يسأله عن حاجته فهذا بعيد جداً، فلا يليق بمكانة الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه، ولا بمكانة من دونه من الصحابة"2. وأما من ناحية سند هذه القصة فهو ضعيف لأن فيها شبيب بن سعيد قال الذهبي في الميزان: "شبيب بن سعيد صدوق يغرب"3. وقال ابن عدي4: "كان شبيب لعله يغلط ويهم إذا حدث من حفظه، وأرجو أنه   1- القصة بتمامها في المعجم الصغير للطبراني 1/183 ـ 184، والمعجم الكبير 3/3/1ـ 2. 2- انظر التوصل إلى حقيقة التوسل ص242 ـ 243 بتصرف. 3- الميزان 2/262. 4- هو: عبد الله بن عدي بن عبد الله بن محمد بن مبارك بن القطان الجرجاني أبو أحمد علامة بالحديث ورجاله، ولد سنة سبع وسبعين ومائتين، وتوفي سنة خمس وستين وثلاثمائة هجرية. أنظر ترجمته في "سير أعلام النبلاء 16/154 ـ 157، تذكرة الحفاظ 3/940 ـ 942". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 لا يتعمد. فإذا حدث عنه ابنه أحمد بأحاديث يونس، فكأنه شبيب آخر يعني يجود" اهـ1. وهذا الكلام لابن عدي يفيد أن شبيباً هذا لا بأس بحديثه إذا كان من رواية ابنه أحمد عنه، ويكون شبيب يروي عن يونس. والسبب في ذلك ما ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل "هو أنه كان لديه كتب يونس بن يزيد فهو إذا حدث منها أجاد، وإذا حدث من حفظه وقع في الوهم"2. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: بعد أن ساق قصة ابن حنيف: "فهذه الزيادة فيها عدة علل: إنفراد هذا بها أي: شبيب ـ عن من هو أكبر منه وأحفظ، وإعراض أهل السنن عنها، واضطراب لفظها، وأن راويها عرف له عن روح هذا أحاديث منكرة، ومثل هذا يقتضي حصول الريب والشك فى كونها ثابتة فلا حجة فيها إذ الاعتبار بما رواه الصحابي لا بما فهمه إذا كان اللفظ الذي رواه لا يدل على ما فهمه بل على خلافه" اهـ3. وبهذا نعرف أن هذه القصة لا تصح لانهيارها متناً وسنداً. ومن حجج القبوريين التي يحتجون بها على دعائهم غير الله ما رواه ابن السني في عمل اليوم والليلة بإسناده إلى ابن مسعود أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا انفلتت دابة أحدكم بأرض فلاة فليناد: يا عباد الله احبسوا فإن لله ـ عز وجل ـ حاضراً سيحبسه" 4 هذا الحديث غير صحيح لأن في سنده ـ معروف ـ بن حسان أبو معاذ السمرقندي عن عمر بن ذر ـ قال ابن عدي: "منكر الحديث قد روى عن عمر بن ذر نسخة طويلة كلها غير محفوظة" اهـ5. فهذه الأخبار الثلاثة موجودة في كتب مشهورة، وكما مر معنا بأن حديث الأعمى صحيح لا غبار عليه، ولكنه ليس في محل النزاع بل بعيد عنه.   1- الكامل في ضعفاء الرجال 4/1346 ـ 1347، والميزان 2/262. 2- الجرح والتعديل 4/359. 3- مجموع الفتاوى 1/278، وانظر "التوسل أنواعه وأحكامه للألباني ص85 ـ 87. 4- ص190. 5- الكامل 6/2326، والميزان 4/134. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 وأما قصة عثمان بن حنيف، والحديث الذي عند ابن السني لم يحظيا بالصحة بل هما باطلان، وما جاء به القبوريون بعد ذلك فإنما هو من اختلاقهم أنفسهم مثل حديث "إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور: وقد تقدم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فهذا الحديث كذب مفترى على النبي صلى الله عليه وسلم بإجماع العارفين بحديثه، ولم يروه أحد من العلماء بذلك ولا يوجد في شيء من كتب الحديث المعتمدة"1. فالأخبار التي يضعها القبوريون في جواز دعاء أهل القبور والإستغاثة بهم يعرف كذبها بمجرد مرورها على السامع لأن لفظها ليس عليه رونق، وجمال الألفاظ النبوية. والذي نخلص إليه مما تقدم أن الدعاء من أوضح صور العبادة، فلا يجوز أن يصرف لغير الله ـ تعالى ـ لأنه حق من حقوقه على عباده فبالدعاء يظهر ذل العبودية ويعرف العبد عزة الربوبية، وهذا هو الغرض المقصود من جميع أنواع العبادات ذلك أن العبد حينما يقدم على الدعاء فإنه لا يقدم عليه إلا إذا عرف من نفسه أنه محتاج إلى ما يطلبه من ربه ـ تبارك وتعالى ـ ويعرف أنه عاجز عن تحصيل مقصده إلا بعون الله له على ذلك فإذا علم أن الله يسمع دعاءه، ويعلم حاجته، وأنه له القدرة على دفع تلك الحاجة فهو الإله الرحيم الذي تقتضي رحمته قضاء حاجات عباده ومن هنا كان المقصود من جميع التكاليف الشرعية معرفة ذل العبودية، وعزة الربوبية والدعاء انتظم تحته الأمران ولذلك كان الدعاء من أعظم أنواع العبادات فلا يجوز أن يدعى غيره من المخلوقين أياً من أنواع الدعاء، لا دعاء العبادة ولا دعاء المسألة، ومن فعل ذلك فهو مشرك بالله العظيم، كذلك لا يجوز الدعاء عند الأضرحة والقبور، فإن ذلك وسيلة إلى الشرك، وجعلها أنداداً من دون الله ـ تعالى ـ، ولا يجوز أن يدعى الله بأحد من خلقه، أو يقسم به عليه، فإن شأن الله أعظم من أن يقسم عليه، أو يسأل بأحد من خلقه، وقد أنكر ذلك كله أئمة الدين 2، عليهم رحمة الله أجمعين.   1- مجموع الفتاوى 1/356. 2- انظر إغاثة اللهفان 1/216 ـ 217. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 المبحث الخامس: عبودية الخوف الخوف في اللغة: الفزع. قال في القاموس: "خاف يخاف خوفاً ومخافة وخيفة بالكسر ... فزع"1 وجاء في اللسان: الخوف الفزع خافه يخافه خوفاً وخيفة ومخافة2. وأما تعريف الخوف شرعاً: فقد عرفه العلامة ابن القيم بقوله: "الخوف اضطراب القلب وحركته من تذكر الخوف" اهـ3. ومقصودنا الذي نريده هنا هو: أن الإنسان لا يخاف خوف السر إلا من الباري ـ سبحانه وتعالى ـ، ومعنى خوف السر أن يخاف العبد من غير الله ـ تعالى ـ أن يصيبه منه مكروه بمشيئته وقدرته، وإن لم يباشره، فإذا وقع الإنسان في شيء من هذا فإنه وقع في الشرك الأكبر4 لأنه اعتقد حلول الضرر به الذي لا يقدر عليه إلا الله ـ تعالى ـ من غيره الذي هو عاجز أن يفعل به ذلك. فالضار والنافع إنما هو الله ـ تعالى ـ لأنه هو الذي يملك ذلك أما غيره فليس له من ذلك شيء، وقد جاء في السورة أن الخوف عبادة لا يستحقها إلا الله ـ تعالى ـ فلا خوف ولا رهبة إلا منه ـ تعالى ـ. قال تعالى: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} .   1- 3/144، الصحاح 4/1358. 2- اللسان 9/99، وانظر المصباح المنير 1/184. 3- مدارج السالكين 1/512، التعريفات للجرجاني 334. 4- انظر تيسير العزيز الحميد ص 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 وقال تعالى: {أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} . فهاتان الآيتان من السورة فيهما بيان أن الخوف لا يكون إلا من الله ـ تعالى ـ لأنه وحده القادر على جلب النفع للعبد، ودفع الضر عنه، أما غيره فلا يملك من ذلك شيئاً فقوله تعالى: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} هذه الآية بينت أن الرسول صلى الله عليه وسلم مأمور أن يخاف عذاب يوم عظيم إن هو عصى الله ـ تعالى ـ فيما أمره به من إخلاص العبادة والطاعة له ـ وحده ـ لا شريك له وكون الرسول صلى الله عليه وسلم يخاف عذاب يوم عظيم الذي هو يوم القيامة ذلك اليوم الذي يعظم هوله ويشتد خطره لهو من أبلغ الزجر لغيره، إذ غيره صلى الله عليه وسلم يجب أن يعظم خوفه من باب أولى لأنه ـ تعالى ـ قد أخبرنا في محكم كتابه أنه قد غفر لنبيه ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّر} 1. وقد ذكر القرطبي: في تفسيره عن سعيد بن المسيب وأبي حمزة 2 الثمالي "أن هذه الآية ناسخة لقوله تعالى: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} فكان هذا الخطاب موجهاً للرسول صلى الله عليه وسلم من قبل أن يغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر"3. وأما قوله تعالى: {أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} الآية. ففيها إخبار من الله ـ جل وعلا ـ بأنه الكافي لعبده العابد له وحده لا شريك إذا صدق في التوكل عليه ـ سبحانه وتعالى ـ وفيها أيضاً: بيان أن المشركين كانوا يخوفون الرسول صلى الله عليه وسلم بما يعبدون من دون الله من الأوثان والآلهة الباطلة أن تصيبه بأذى لأنه أعلن البراءة منها وعاب عبادتهم إياها وتوجيههم العبادة لمن ليس له حق فيها وجهلوا أنه صلى الله عليه وسلم قد أوى إلى ركن شديد، وعلم بأنها لا تقدر على شيء من تلك المزاعم التي اختلقوها وهي زعمهم بأن آلهتهم ستصيبه بأذى، أو تخبِّله إلى غير ذلك من المزاعم التي نسبوها إليها، ولكنه صلى الله عليه وسلم تصدى لها وبين بطلان عبادتهم لها حتى أرسى قواعد العقيدة الصحيحة، وبين   1- سورة الفتح آية: 2. 2- اسمه ثابت بن دينار الثمالي الأزدي بالولاء المتوفى سنة خمسين ومائة هجرية. 3- الجامع لأحكام القرآن 15/242. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 لهم أن الذي يملك النفع ويدفع الضر إنما هو الله ـ وحده ـ ومن كان ذلك شأنه هو الجدير بأن يعبد وحده، وتوجه له العبادة الخالصة دون سواه. قال ابن كثير رحمه الله تعالى حول قوله تعالى: {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} يعني المشركين يخوفون الرسول صلى الله عليه وسلم، ويتوعدونه بأصنامهم وآلهتهم التي يدعونها من دون الله جهلاً وضلالاً"1. وقال الرازي: "جرت العادة أن المبطلين يخوفون المحقين بالتخويفات الكثيرة فحسم الله مادة هذه الشبهة بقوله تعالى: {أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} وذكره بلفظ الاستفهام، والمراد تقرير ذلك في النفوس والأمر كذلك ... إلى أن قال: لما ثبت أن الله كاف عبده كان التخويف عبثاً وباطلاً" اهـ2. فعلى الإنسان أن يصدق الله ـ تعالى ـ في الإلتجاء إليه ويخلص عبودية الخوف له وحده لا شريك له، ويحذر دعوة أهل الأهواء الذين يصدون عن سبيل الله فإذا صدق في ذلك مع الله، فإنه عند ذلك لا يخاف إلا الله ـ تعالى ـ ويقوي إيمانه، وثقته بالله، مهما خوفه أهل الباطل بالتخويفات الباطلة، فإنه لا يكترث بها لأنه يعلم أن الله كافيه كل الأخطار التي تحيط به، وليعلم كل عبد أن الخوف فرضه الله على جميع عباده بدون استثناء. قال تعالى: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 3. قال ابن القيم حول هذه الآية: "ومن كيد عدو الله أنه يخوف المؤمنين جنده وأولياءه لئلا يجاهدوهم، ولا يأمروهم بمعروف، ولا ينهوهم عن منكر، وأخبر تعالى أن هذا من كيد الشيطان، وتخويفه ونهانا أن نخافهم، والمعنى عند جميع المفسرين يخوفهم بأوليائه، قال قتادة: يعظمهم في صدوركم، ولهذا قال: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فكلما قوي إيمان العبد زال من قلبه خوف أولياء الشيطان، وكلما ضعف إيمان العبد قوي خوفه منهم" اهـ4. فالآية دلت على أن إخلاص الخوف من الفرائض، وأنه   1- تفسير ابن كثير 6/94. 2- التفسير الكبير 26/281. 3- سورة آل عمران آية: 75. 4- إغاثة اللهفان 1/110. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 شرط في إيمان الإنسان وأن العبد إذا فقد الخوف من الله ـ تعالى ـ فقد الإيمان الواجب نسأل الله السلامة من ذلك. وقال تعالى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} 1. وهذه الآية فيها الأمر بإخلاص الخوف لله ـ تعالى ـ وكما أنه تعالى جعل الرجاء لأهل الأعمال الصالحة حيث قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 2 جعل كذلك الخوف لأهل الأعمال الصالحة إشارة منه ـ تعالى ـ أن الرجاء والخوف النافع هو ما اقترن به العمل الصالح. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} 3. فهذه الآيات ثناء من الله ـ تعالى ـ على الخائفين منه، ومدح لهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. روى الإمام أحمد في مسنده وابن ماجة في سننه عن عائشة رضي الله عنها قالت قلت: يا رسول الله قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} أهو الذي يزني ويشرب الخمر ويسرق؟ قال: "لا يا ابنة الصديق ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه" 4. فالله ـ سبحانه ـ قد وصف أهل السعادة بالإحسان مع الخوف ووصف الأشقياء بالإساءة مع الأمن قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: "عملوا والله بالطاعات واجتهدوا فيها وخافوا أن تردَّ عليهم إن المؤمن جمع إحساناً وخشية، وإن المنافق جمع إساءة وأمناً"5.   1- سورة البقرة آية: 40. 2- سورة البقرة آية: 218. 3- سورة المؤمنون آية: 57 ـ 61. 4- المسند 6/205، سنن ابن ماجة 2/1404. 5- انظر تفسير ابن جرير 18/32، وانظر مدارج السالكين 1/512. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 وقد بين العلامة ابن القيم الفرق بين الوجل، والخوف، والخشية، والرهبة فقال: "الوجل، والخوف، والخشية، والرهبة ألفاظ متقاربة غير مترادفة". فالوجل: رجفان القلب وانصداعه لذكر من يخاف سلطانه وعقوبته أو لرؤيته. والخوف: اضطراب القلب وحركته من تذكر المخوف. والخشية: أخص من الخوف، فإن الخشية للعطاء بالله تعالى قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} 1 فهي خوف مقرون بمعرفة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له ... الحديث" 2. "وأما الرهبة: فهي الإمعان في الهرب من المكروه وهي ضد "الرغبة" التي هي: سفر القلب في طلب المرغوب فيه ... إلى أن قال رحمه الله وأما الهيبة: فخوف مقارن للتعظيم والإجلال، وأكثر ما يكون مع المحبة والمعرفة والإجلال تعظيم مقرون بالحب، فالخوف لعامة المؤمنين، والخشية للعلماء العارفين، والهيبة للمحبين والإجلال للمقربين وعلى قدر العلم والمعرفة يكون الخوف والخشية"اهـ3. ولقد مدح الله رسله بأنهم لا يخشون أحداً سواه. قال تعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللهَ} 4. وقال تعالى: {أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ} 5 "أي: أفغير الله أيها الناس تتقون: أي ترهبون وتحذرون أن يسلبكم نعمة الله عليكم بإخلاصكم العبادة لربكم، وإفرادكم الطاعة له، وما لكم نافع سواه"6. وقال تعالى في شأن الملائكة المقربين واصفاً لهم بتحقيق عبود ية الخوف: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} 7.   1- سورة فاطر آية: 28. 2- رواه البخاري في صحيحه من حديث أنس رضي الله عنه 3/237. 3- مدارج السالكين 1/512 ـ 513. 4- سورة الأحزاب آية: 9. 5- سورة النحل آية: 52. 6- جامع البيان 17/120. 7- سورة النحل آية: 50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 فالخوف عبادة جليلة تعبد الله به جميع عباده من الملائكة المقربين والأنبياء والمرسلين وسائر عباده المؤمنين. وقد بين بعض العلماء أن الخوف أربعة أنواع: أحدها: خوف السر وهو أن يخاف الإنسان من غير الله ـ تعالى ـ أن يصيبه بأي أذى من مرض، أو فقر أو قتل ونحو ذلك ويعتقد أن ما أصابه بذلك إلا بقدرته ومشيئته، وسواء زعم أن ذلك من باب الكرامة للمخوف بالشفاعة، أو على سبيل الاستقلال فهذا النوع لا يجوز أن يعلق بغير الله ـ تعالى ـ بحال من الأحوال لأن هذا من لوازم الإلهية، فمن جعل مع الله نداً يخاف منه هذا الخوف فقد أشرك بالله العظيم إذ هذا معتقد المشركين في أصنامهم وآلهتهم ولذلك فإنهم كانوا يخوفون بها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قال تعالى في شأن إمام الحنفاء إبراهيم عليه السلام عندما خوفه قومه بآلهتهم أن تصيبه بسوء: {وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} 1. هذه الآيات تبين لنا موقف إبراهيم عليه السلام تجاه تخويف قومه له بآلهتهم المزعومة فقد خوفوه أنها تصيبه بأذى فبين لهم أن آلهتهم أقل وأحقر من أن تضر من جحد عبادتها وكفر بها {وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ} ثم رد الأمر إلى مشيئة الباري ـ سبحانه تعالى ـ لأنه هو الذي يُخاف ويرجى فقال: {إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً} وهذا الاستثناء يسمى عند النحاة استثناء منقطعاً ومعنى ذلك لا أخاف من تلك الآلهة التي تخوفونني بها فإنها لا مشيئة لها ولا قدرة لكن إذا شاء الله أن ينالني بشيء لا رادّ لذلك لأن الله ـ تعالى ـ له المشيئة النافذة وقد وسع كل شيء علماً أما آلهتكم لا تشاء، ولا تعلم فيما ترى من الأولى أن يُخاف ويُعبد أهو ـ سبحانه ـ أم آلهتكم التي زعمتموها آلهة من عند أنفسكم؟ {أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} فتدركون ما أنتم عليه من الإشراك لمن لا مشيئة له ولا علم مع من له المشيئة المطلقة والعلم التام وهو الله ـ تعالى ـ ثم استرسل الخليل عليه السلام في دحض دعواهم من أن   1- سورة الأنعام آية: 80 ـ 82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 آلهتهم ستصيبه بسوء وجعل دعواهم من أعظم الأدلة على فساد قولهم وبطلان مذهبهم وبين لهم بطلان إلهيتها وأن عبادتهم لها ستكون مضرة عليهم فقال: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً} أي: كيف يتسرب الخوف إلى قلبي من أوثانكم، ولا تخافون أنكم أشركتم بالله في عبادته آلهة أخرى فأي الفريقين أحق بالأمن وأولى بأن لا يلحقه الخوف أهو فريق الموحدين أم فريق المشركين؟ فلقد صدر الحكم بين الفريقين من عند أحكم الحاكمين وأعدل العادلين الذي لا أصح من حكمه فقال ـ عز شأنه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} أي: بشرك1 {أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} فكان الحكم من قبل الله ـ تعالى ـ أن الهدى والأمن لأهل التوحيد، وحكم لفريق الشرك بالضلال والخوف بعكس ما حكم به لأهل التوحيد، وبذلك علت حجة أبينا إبراهيم على قومه كما قال تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} 2 وقال تعالى في قصة هود عليه السلام عندما خوفه قومه بالآلهة: {إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ} 3. هاتان الآيتان بين الله فيهما موقف هود عليه السلام من مقالة قومه له حينما نصح لهم في الدعوة إلى توحيد الله وتصديقه وخلع الأوثان والتبرؤ منها ولما أيقنوا أن هوداً لا يتركهم من الدعوة إلى الله وإلى عبادته وحده لا شريك له حينذاك كان قولهم ما يحملك على ذم آلهتنا إلا أنه أصابك منها خبل وجنون فكان جواب هود عليه السلام لهم جواب من وثق بربه واعتمد عليه وأصبح لا يكترث بأي تخويف كان من غير الله ـ تعالى ـ فقال لهم: إني أشهد الله على نفسي، وأشهدكم أيضاً أيها القوم أنني بريء من هذه الآلهة التي أشركتموها مع الله في العبادة من دونه {فَكِيدُونِي جَمِيعاً} يقول: اعملوا كل حيلة أنتم وآلهتكم في ضري   1- روى الشيخان في صحيحيهما من حديث ابن مسعود قال: لما نزلت قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} قالوا: يا رسول الله وأينا لم يظلم نفسه؟ فقال: "إنما هو الشرك ألم تسمعوا قول العبد الصالح {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} " صحيح البخاري 3/128، وصحيح مسلم 1/114، المسند 1/378. 2- سورة الأنعام آية: 83. 3- سورة هود آية: 54 ـ 55. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 ومكروهي {ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ} أي: لا تؤخرون ذلك، ثم انظروا ما عسى أن تنالوني به من السوء أنتم وآلهتكم، فإبراهيم وهود عليهما السلام بينا أن خوف السر لا يكون إلا من الله وهو الذي بعث الله النبيين من أجله، وهذا النوع من الخوف هو ما وقع فيه القبوريون في زمننا هذا، فإنهم يخافون الصالحين وطواغيتهم كما يخافون الله بل أشد، بل إنه وصل الحد بهم إذا وجبت اليمين على أحدهم، فإنه يحلف بالله إيماناً لا حد لها سواء كان كاذباً، أو صادقاً الأمر عنده سيان، وإذا طلب منه اليمين بصاحب القبر لم يحلف إن كان كاذباً وما ذلك إلا لأنه يعتقد أن الضرر الذي يلحقه من صاحب القبر أسرع وأقرب فالتعظيم في قلبه لذلك الولي أقوى من تعظيمه لله بكثير، وهذه الحال لم يصل إليها المشركون الأولون، بل غاية الأمر عندهم أنهم كانوا يحلفون بالله جهد أيمانهم. النوع الثاني: من أنواع الخوف أن يترك العبد ما يجب عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد لأعداء الله وليس هناك أي عذر سوى أنه يخاف غير الله من بني الإنسان ولقد نهى الله عن هذا بقوله ـ عز وجل ـ {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 1. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحقرن أحدكم نفسه إذا رأى أمر الله فيه مقال أن يقول فيه فيقال له يوم القيامة ما منعك أن تقول فيه فيقول يا رب خشيت الناس قال: فأنا أحق أن تخشى" 2. فالحديث يبين أن أحق من يخشى إنما هو الله ـ تعالى ـ. النوع الثالث: خوف الوعيد الذي توعد الله به العاصين قال تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} 3 وقال تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} 4 وقال تعالى: {قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} 5 وهذا النوع يعتبر من   1- سورة آل عمران آية: 175. 2- المسند 3/47 ـ 48. 3- سورة إبراهيم آية: 14. 4- سورة الدهر آية: 7. 5- سورة هود آية: 26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 أعلى مراتب الإيمان فالخوف الحقيقي هو الذي يكون حائلاً بين المرء وبين حرمات الله تعالى. النوع الرابع: الخوف الطبيعي كخوف العدو والحيوان المفترس وخشية الإصابة بالحرق، أو الغرق، فهذا الخوف طبيعي في الإنسان وهذا النوع لا يذم عليه العبد1 وهو المراد بقوله تعالى في قصة موسى عليه السلام: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ} 2 فإذا اتضح هذا للإنسان فإن قوله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} إنما معناه: أنه يوهم أولياء الله أن الموالين له أهل بأس وشدة وهو غير صادق في ذلك، ولذلك فإن الله تعالى أرشد عباده بقوله: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فلا يجوز الإصغاء لإيهام الشيطان وتسويله، بل الواجب على المؤمنين أن يعلموا أن الله كافيهم وناصرهم على أولياء الشيطان وأمرهم بقتالهم وبين أن كيد الشيطان ضعيف. قال تعالى: {فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} 3. فكلما قوي إيمان العبد ذهب من قلبه خوف أولياء الشيطان وإذا ضعف إيمانه فإن خوف أولياء الشيطان يقوى في قلبه فيجب على العبد أن لا يخاف إلا الله وحده وأن يخلص ذلك لوجهه ـ تعالى ـ دون سواه، بل جعل الله ذلك شرطاً من شروط الإيمان كما قال تعالى: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 4. قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: "وبعض الناس يقول يا رب إني أخافك وأخاف من لا يخافك، وهذا كلام ساقط لا يجوز، بل على العبد أن يخاف الله وحده، ولا يخاف أحداً لا من يخاف الله ولا من لا يخاف الله، فإن من لا يخاف الله أخس وأذل أن يخاف، فإنه ظالم وهو من أولياء الشيطان فالخوف منه قد نهى الله عنه" اهـ5.   1- انظر هذه الأنواع الأربعة في تيسير العزيز الحميد ص426 ـ 428 بتصرف. 2- سورة القصص آية: 21. 3- سورة النساء آية: 76. 4- سورة آل عمران آية: 175. 5- مجموع الفتاوى 14/206. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 وقال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ} 1 دلت هذه الآية على أن خشية الله وحده دون أحد من خلقه من علامة صحة إيمان العبد بربه ـ تبارك وتعالى ـ. قال ابن جرير رحمه الله تعالى: "ولم يخش إلا الله. يقول: ولم يرهب عقوبة شيء على معصية سوى الله"اهـ2. وكما دل القرآن على أن الخوف عبادة يجب إخلاصها لله ـ تعالى ـ كذلك دلت السنة على أن الخوف لا يكون إلا من الله، ولا يصرف لأحد سواه فلا خوف ولا خشية إلا منه ـ جل وعلا ـ. وروى البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه بإسناده إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: صنع النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً فرخص فيه فتنزه عنه قوم فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فخطب فحمد الله ثم قال:: "ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه فو الله إني لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية" 3. هذا الحديث بيّن ما يجب أن يكون عليه العبد المسلم وهو أن يكون على معرفة بالله أولاً: وقبل كل شيء، فإذا عرف الله، واستقرت معرفته في قلبه هنالك يكون من أشد عباد الله خشية منه ومحبة له وإنابة إليه ـ سبحانه وتعالى ـ. وروى مسلم في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي" 4. وكذلك كان صلى الله عليه وسلم أخشى عباد الله على الإطلاق وأعلمهم بما يتقي من الأمور، وقد أكرمه الله بذلك، وهذا الإخبار منه صلى الله عليه وسلم تعليماً للأمة أن تقتدي به عليه الصلاة والسلام، فالخوف من الله ـ تعالى ـ له فضل عظيم عند الله تعالى يورث العبد رحمة الله وعفوه. روى البخاري من حديث أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر   1- سورة التوبة آية: 18. 2- جامع البيان 10/94. 3- 4/66 . 4- 2/781 . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 رجلاً فيمن سلف، أو فيمن كان قبلكم قال كلمة يعني أعطاه الله مالاً وولداً فلما حضرت الوفاة قال لبنيه: أي أب كنت لكم؟ قالوا: خير أب قال: فإنه لم يبتئر، أو لم يبتئز1 عند الله خيراً وإن يقدر الله عليه يعذبه فانظروا إذا مت فأحرقوني حتى إذا صرت فحماً فاسحقوني، أو قال فاسحكوني، فإذا كان يوم ريح عاصف فأذروني فيها فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم فأخذ مواثيقهم على ذلك وربي ففعلوا ثم أذروه في يوم عاصف فقال الله ـ عز وجل ـ كن فإذا هو رجل قائم قال الله أي عبدي ما حملك على أن فعلت ما فعلت؟ قال مخافتك أو فرق منك2 قال: "فما تلافاه أن رحمه عندها وقال مرة فما تلافاه غيرها"3. فهذا الحديث دل على أن العبد إذا أخلص العبادة لله ولم يبتغ بها أحداً سواه وأخلص الخوف لله ـ جل وعلا ـ أورثه ذلك مغفرة الله ـ تعالى ـ ورحمته، فعلى الإنسان أن لا يخاف إلا ربه العلي الكبير، أما ما سواه فلا يخاف منه لأنه لا يستطيع أن يضره إلا بإذن الله ـ تعالى ـ ولا يقدر على نفعه إلا بما كتبه الله له فالفضل كله عائد إلى الله ـ تعالى ـ بداية ونهاية. وروى الشيخان في صحيحيهما من حديث عائشة رضي الله عنها في قصة خسوف الشمس على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم حيث صلى بهم صلاة الكسوف ركعتين في كل ركعة ركوعان ثم انصرف إلى الناس وقد انجلت الشمس ووعظهم موعظة بين لهم أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته وأرشدهم أنهم إذا رأوا ذلك دعوا الله تعالى وكبروه وصلوا وتصدقوا. ثم قال: "يا أمة محمد لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً"4. فقد بين لنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن أمته لو تعلم ما يعلم من عظيم قدرة الله وشدة انتقامه من العصاة الفاسقين لتركوا الضحك، ولما حصل منهم إلا في النادر لشدة غلبة الخوف والحزن الذي يعلو قلوبهم.   1- أي لم يدخر. 2- الفرق: الخوف. 3- صحيح البخاري 4/298. 4- صحيح البخاري 1/185، صحيح مسلم 2/618. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 قال صاحب تحفة الأحوذي1: "لو تعلمون ما أعلم" أي: من عقاب الله للعصاة وشدة المناقشة يوم الحساب. لضحكتم جواب لو. "ولبكيتم كثيراً" أي: بكاء كثيراً، أو زماناً كثيراً أي: من خشية الله ترجيحاً للخوف على الرجاء، وخوفاً من سوء الخاتمة" أ. هـ2. وروى الترمذي في سننه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من خاف أدلج3 ومن أدلج بلغ المنزل ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة"4. هذا الحديث من الأمثلة النبوية التي ضربها الرسول صلى الله عليه وسلم لمن يسلك طريق الآخرة إذ الشيطان واقف على طريقه والنفس تمنيه الأماني الكاذبة فإن كان متنبهاً في سيره وأخلص النية في العمل أمنه الله من الشيطان ومكره فطريق الآخرة يحتاج إلى جهد كبير لتحقيق العمل الصالح لأن الجنة ثمنها الأعمال الصالحة قال تعالى: {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ} 5. وروى الترمذي أيضاً من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال أبو بكر: يا رسول الله قد شبت قال: "شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعمَّ يتساءلون وإذا الشمس كورت" قال الترمذي هذا حديث حسن غريب6. فهذا الحديث تضمن شدة خوف النبي صلى الله عليه وسلم ـ من الله تعالى ـ فلما تضمنت السور المذكورة في الحديث كثيراً من أهوال يوم المعاد، وما نزل بالأمم التي خلت من قبل أمة محمد من النوازل أخذت تلك السور من النبي صلى الله عليه وسلم مأخذها حتى ظهر فيه الشيب قبل وقته الذي فيه فينبغي لكل مسلم أن لا يخاف إلا الله تعالى الذي بيده أزمة الأمور جميعها، ويسعى في تحقيق عبودية الخوف ويجعلها خالصة لله ـ تعالى ـ امتثالاً لأمر الباري ـ سبحانه ـ   1- اسمه محمد بن عبد الرحمن المباركفوري المتوفي سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة. 2- 6/603 . 3- الدلجة: السير أول الليل. 4- سنن الترمذي 4/51. 5- سورة التوبة آية: 111. 6- سنن الترمذي 5/76. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 واقتداءً بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ولقد حقق الصحابة عبودية الخوف على أكمل وجه وأتمه فهذا هو الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه سمع قارئاً يقرأ سورة الطور حتى بلغ {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} 1 بكى واشتد بكاؤه حتى مرض وعادوه 2. وهذا عثمان بن عفان رضي الله عنه كان إذا وقف على قبر يبكي حتى يبل لحيته فقيل له: تذكر الجنة والنار فلا تبكي وتبكي من هذا. فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن القبر أول منزل من منازل الآخرة فإن نجا منه فما بعده أيسر منه، فإن لم ينج منه فما بعده أشد منه" 3. والمأثور عن الصحابة من هذا كثير يطول تتبعه وقد ذكر العلامة ابن القيم نماذج عنهم رضي الله عنهم في تحقيقهم عبودية الخوف في كتابه "الجواب الكافي" 4 والذي نخلص إليه مما تقدم من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية أن الخوف عبادة لله ـ تعالى ـ فرضهُ الله تعالى على جميع عباده، فلا يخاف المخلوق من المخلوق خوف السر لأن ذلك لله ـ وحده لا شريك له ـ لأنه تعالى هو الذي يملك النفع والضر دون سواه وما دام الأمر كذلك فهو وحده المتعبد بذلك.   1 - سورة الطور آية: 7. 2- تفسير ابن كثير 6/430. 3- سنن الترمذي 3/379. 4 - انظر ص43. وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 المبحث السادس: عبودية الرجاء قبل أن نذكر ما يدل على عبودية الرجاء من السورة نذكر تعريفه أولاً في اللغة والاصطلاح ليفهم معنى الرجاء الذي تعبد الله به عباده والذي لا يجوز صرفه لغير الله تعالى. فأما تعريفه في اللغة: فقد جاء في الصحاح: الرجاء من الأمل ممدود يقال: رجوت فلاناً رجواً ورجاءاً ورجاوة … وقد يكون الرجو والرجاء بمعنى الخوف قال الله تعالى: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ للهِ وَقَاراً} 1 أي تخافون عظمة الله2. وجاء في القاموس: "الرجاء ضد اليأس" أ. هـ3. وجاء في النهاية لابن الأثير: "الرجاء بمعنى التوقع والأمل"4. وقال في المصباح المنير: "الرجاء بالمد ورجيته أرجيه من باب رمى لغة ويستعمل بمعنى الخوف لأن الراجي يخاف أنه لا يدرك ما يترجاه"5. وأما تعريفه في الاصطلاح: فقد قال العلامة ابن القيم: "الرجاء حادٍ يحدو القلوب إلى بلاد المحبوب وهو الله والدار الآخرة ويطيب لها السير.   1- سورة نوح آية: 13. 2- الصحاح 6/2352. 3- 4/334 . 4- 2/207 . 5- 1/221 . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 وقيل هو الاستبشار بجود وفضل الرب ـ تبارك وتعالى ـ والارتياح لمطالعة كرمه ـ سبحانه ـ. وقيل: هو الثقة بجود الرب ـ تعالى ـ1. وقال الجرجاني: "الرجاء في اللغة: الأمل وفي الاصطلاح تعلق القلب بحصول محبوب في المستقبل"أ. هـ2. والذي نستفيده من تعريف الرجاء في اللغة والاصطلاح أن الرجاء هو الأمل في الخير وترقب حصوله وانتظاره ممن يملكه ويقدر على تحقيقه لمن أمله فيه ورجاه منه، ولا يكون ذلك إلا من الله ـ جل وعلا ـ فعلى العبد أن يجعل قلبه معلقاً بالله خوفاً ورجاءاً فلا يرجو إلا الله ـ تعالى ـ وحده لا شريك له، ولا يجوز للإنسان أن يرجو سواه فيما لا يقدر عليه إلا هو ـ سبحانه وتعالى ـ كما يفعله الذين ينادون الأموات، أو غيرهم رجاء حصول مطالبهم من جهتهم لأن هذا شرك أكبر إذ الرجاء نوع من أنواع العبادات التي لا يستحقها إلا الله ـ جلا وعلا ـ فلا رجاء إلا في الله ـ تعالى ـ وقد دلت سورة "الزمر" على أن الرجاء عبادة، وأنه حق من حقوق الله ـ تعالى ـ على خلقه في آية واحدة منها قال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ} . هذه الآية من السورة فيها مقابلة بين العامل بطاعة الله وغيره وبين العالم والجاهل، وهذه الأمور متقرر في العقول تباينها وتفاوتها، فليس المعرض عن طاعة الله والذي يتبع هواه كمن هو مطيع بأفضل العبادات، وهي الصلاة في أفضل الأوقات وهو الليل فوصفه بكثرة العمل وأفضله، ثم وصفه بالخوف والرجاء وذكر ـ تعالى ـ أن متعلق الخوف عذاب الآخرة على ما سلف من الذنوب، وأن متعلق الرجاء رحمة الله، فوصفه بالعمل الظاهر والباطن، فعلى العبد أن يكون في عبادته خائفاً من عقاب الله راجياً لرحمته، ولا بد من الجمع بين الخوف والرجاء في العبادة، وفي الآية رد على من ذم العبادة خوفاً من النار أو رجاء الجنة.   1- مدارج السالكين 2/35. 2- كتاب التعريفات ص101. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 روى ابن ماجة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل: "ما تقول في الصلاة؟ " قال: أتشهد ثم أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار، أما والله ما أحسن دندنتك، ولا دندنة معاذ فقال: "حولها ندندن" 1. فبين لنا صلى الله عليه وسلم أن نعبد الله ـ تعالى ـ خوفاً من عقابه وطمعاً في رحمته، وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: "من أحب أن يهون الله عليه الوقوف يوم القيامة فليره الله في ظلمة الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه" 2. ثم إن القانت في الآية ذكر القرطبي في معناه أربعة أقوال: قيل: إن القانت هو المطيع. وقيل: هو الخاشع في صلاته. وقيل: هو القائم في صلاته. وقيل: "هو الداعي لربه، وكلها تدخل تحت القول الأول لأنه أعم وأجمع"3. والقنوت ينقسم إلى خاص، وعام، والسجود كذلك. والآية التي معنا في هذا المبحث وهي قوله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً ... } الآية المراد بالقنوت فيها القنوت الخاص، ومثل هذه الآية قوله تعالى في حق مريم: {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} 4. وأما القنوت العام: فكقوله تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} 5 أي: خاضعون أذلاء. وأما السجود الخاص فكقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} 6.   1- سنن ابن ماجة 1/295. 2- تفسير القرطبي 15/239. 3- الجامع لأحكام القرآن 15/239. 4- سورة التحريم آية: 12. 5- سورة الروم آية: 26. 6- سورة الأعراف آية: 206. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 وأما السجود العام فكقوله تعالى: {وَللهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} 1. فهذا السجود هنا سجود عام لكل مخلوق طوعاً وكرهاً وهو أعم من السجود الذي ذكره الله في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ والشَّجًرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} 2. فهذه الآية خص فيها بالسجود كثيراً من الناس وعمهم بالسجود في قوله: {وَلله يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ} 3. وهذا السجود هو سجود الذل والقهر والخضوع فكل أحد خاضع لربوبيته ـ تعالى ـ ذليل لعزته مقهور تحت سلطانه ـ تعالى ـ4. وأما قوله تعالى في تمام الآية: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ} . بين الله في هذا الجزء من الآية أنه لا يستوي عنده من وحده وأخلص له العبودية ومن جعل لله الأنداد وأشرك بالله غيره ولم يخلص له العبادة. قال ابن كثير: "أي: هل يستوي هذا والذي قبله ممن جعل لله أنداداً ليضل عن سبيله. {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ} أي: إنما يعلم الفرق بين هذا وهذا من له لب وهو العقل" أ. هـ5. فأولو الألباب أهل العقول السليمة هم الذين يدركون الفرق بين مكانة الموحد الطائع لربه آناء الليل، وآناء النهار ومكانة المشرك بالله العاصي لخالقه، فالعابد لله الذي أفرد الله بجميع أنواع العبادات كريم عند الله ـ تعالى ـ، وأما من جعل له الأشباه والنظائر فهو مهين عنده ـ سبحانه ـ قال تعالى: {وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} 6.   1- سورة الرعد آية: 15. 2- سورة الحج آية: 18. 3- سورة النحل آية: 49. 4- مدارج السالكين 1/106 ـ 107. 5- تفسير ابن كثير 6/82 ـ 83. 6- سورة الحج آية: 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 وبعد هذا الإستطراد اليسير الذي لا يخلو من الفائدة نرجع إلى عبودية الرجاء فنقول: إن مما ينبغي لكل إنسان أن تكون حياته بين الخوف والرجاء يخاف عقاب الله ويرجو رحمته. روى ابن جرير بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما في قوله {يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} قال: "يحذر عقاب الآخرة ويرجو أن يرحمه الله فيدخله الجنة" 1. واختلف العلماء في أيهما يكون الغالب على العبد؟ فقيل: إن العبد إذا كان صحيحاً يستحب أن يغلِّب عليه جانب الخوف وإن كان في حالة المرض يغلِّب جانب الرجاء. وقال قوم: يستحب الإقتصار على الرجاء عند الإشراف على الموت لما يتضمنه الرجاء من الإفتقار إلى الله تعالى ولأن المحذور من ترك الخوف قد تعذر فيتعين حسن الظن بالله برجاء عفوه ومغفرته واستدلوا بحديث: "لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله" 2. وقالت طائفة ثالثة: لا يهمل جانب الخوف أصلاً بحيث يجزم بأنه آمن، واستدلوا بحديث أنس عند الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على شاب وهو في الموت فقال له: "كيف تجدك؟ " فقال: أرجو الله وأخاف ذنوبي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يجتمعان في قلب عبد في هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وآمنه مما يخاف" قال الترمذي: هذا حديث غريب. وقد روى بعضهم هذا الحديث عن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً3 قال الحافظ بعد أن أورد هذا الحديث: "ولعل البخاري أشار إليه في الترجمة ولما لم يوافق شرطه أورد ما يؤخذ منه وإن لم يكن مساوياً له في التصريح بالمقصود"4. ولقد حث الله ـ تعالى ـ عباده في مواضع كثيرة في كتابه على أن يتعبدوه بالرجاء وحده   1- جامع البيان 23/202. 2- رواه مسلم في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله 4/2206. 3- سنن الترمذي 2/227. 4- فتح الباري 11/301، تفسير ابن كثير 6/82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 لا شريك له قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} 1 ففي هذه الآية إشارة على أن التأسي بالرسول صلى الله عليه وسلم قولاً وعملاً وحالاً مما يعين على تحقيق عبودية الرجاء وقال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} 2. وهذه الآية توضح لنا أن العبد إذا كان يرجو لقاء الله صادقاً مخلصاً في ذلك فإن عاقبة ذلك ونتيجة يؤدي به إلى إصلاح عمله. قال ابن كثير رحمه الله تعالى عند قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ} ، أي ثوابه وجزاءه الصالح اهـ3. وإضافة إلى قول ابن كثير أقول إن الآية فيها إشارة قاطعة إلى أن الرجاء لا يصح إلا مع العمل ورجاء العبد لقاء ربه الذي خلقه هو من أفضل ما يرجوه العبد المؤمن ويأمله قال العلامة ابن القيم: "وهذا الرجاء هو محض الإيمان وزبدته وإليه شخصت أبصار المشتاقين ولذلك سلاهم الله بإتيان أجل لقائه وضرب لهم أجلاً يسكن نفوسهم ويطمئنها4" اهـ. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 5 وهذه الآية بينت أن من صفات المؤمنين أنهم يرجون رحمة الله بمعنى أنهم يطمعون في رحمة الله ويرجون أن يدخلهم الجنة برحمته إياهم وفضله عليهم. قال قتادة رحمه الله تعالى: "أثنى الله على أصحاب نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أحسن الثناء فقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} هؤلاء خيار هذه الأمة ثم جعلهم الله أهل رجاء كما تسمعون وأنه من رجا طلب ومن خاف هرب" اهـ6.   1- سورة الأحزاب آية: 21. 2- سورة الكهف آية: 110. 3- تفسير القرآن العظيم 4/432. 4- مدارج السالكين 2/54. 5- سورة البقرة آية: 218. 6- انظر جامع البيان عن تأويل آي القرآن 2/356. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 وقد أخبرنا العليم الخبير بأن خواص عباده الذين كان أهل الشرك يزعمون أنهم ما كانوا يعبدونهم إلا رجاء أن يقربوهم إلى الله زلفى أنهم كانوا من أشد الناس تحقيقاً لعبودية الرجاء وعبودية الخوف قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} 1. قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: "يقول تعالى: هؤلاء الذين تدعونهم من دوني هم عبادي، يتقربون إلي بطاعتي ويرجون رحمتي ويخافون عذابي فلماذا تدعونه من دوني؟ فأثنى عليهم بأفضل أحوالهم ومقاماتهم من الحب والخوف والرجاء. اهـ2. واختلف المفسرون في هؤلاء المدعوين: فقيل: إنهم نفر من الجن كان يعبدهم نفر من الإنس فأسلم النفر من الجن وتمسك الإنسيون بعبادتهم فأنزل الله الآية. وقيل: إنهم صنف من الملائكة يقال لهم الجن، كان قبائل من العرب يعبدونهم ويقولون لهم بنات الله. وقيل: إن المراد بهؤلاء المدعوين الملائكة والمسيح وعزير كان المشركون يعبدونهم3 قال شيخ الإسلام بعد ذكره الآية السابقة: قال طائفة من السلف كان أقوام يدعون الملائكة والأنبياء كالعزير والمسيح فبين الله تعالى أن الملائكة والأنبياء عباد الله كما أن الذين يعبدونهم عباد الله وبين أنهم يرجون رحمته ويخافون عذابه ويتقربون إليه كما يفعل سائر عباده الصالحين. اهـ4. فالذي يتضح لنا من هذا أن المشركين كانوا في واد والذين يدعونهم في واد آخر حيث إن المدعوين كانوا مشتغلين بأنفسهم متجهين إلى ربهم يدعونه خوفاً من عذابه ورجاء رحمته.   1- سورة الإسراء آية: 56 ـ 57. 2- مدارج السالكين 2/42. 3- الدر المنثور للسيوطي 5/305. 4- مجموع الفتاوى 1/158. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 والمشركون زين لهم الشيطان توجيه حق الله من الدعاء والرجاء وطلب الشفاعة لأولئك الصالحين بشبهة أنهم يقربونهم إلى الله زلفى ولم يشعروا لفرط جهلهم أنهم يزدادون بعداً عن الله بعمله ذلك، وهذا المزلق الذي كان سبباً في شرك المشركين الأولين وقع فيه الكثير من جهلة المسلمين اليوم فإنهم يرجون من يسمونهم بالأولياء كما يرجون الله ويدعونهم كما يدعون الله تعالى في الشدة والرخاء بل ويخافونهم كما يخافون الله تعالى وصرفوا لهم من التعظيم الذي لا يكون إلا لله الشيء الذي يجعل العاقل حيران فإنه وصل بهم الغلو في الصالحين إلى حد أنهم عبدوهم مع الله جل وعلا، بدعوى أنهم يحبونهم ويقدرونهم، ولقد انتشرت الأضرحة في أكثر البلدان الإسلامية والذي يصل إلى هذه البلدان يرى الجم الغفير من المسلمين عاكفين حول تلك القبور والأضرحة زاعمين أنهم يلتمسون البركة من أصحابها وأحياناً يصل بهم هذا التبرك إلى أنهم يطوفون بها وبعض الجهلة يسجد على عتبة الضريح والمصيبة كل المصيبة أنه يوجد حول تلك الأضرحة بعض الأشخاص من شياطين الإنس الذين يزينون للوافدين ذلك العمل من الطواف والسجود والتبرك الذي لا يجوز صرفه لغير الله. ويقولون للوافدين هذا ليس من الشرك في شيء وإنما هو من باب محبة الصالحين أو التوسل بهم. وهذا الأمر الحاصل بين صفوف المسلمين له خطره العظيم في إيقاع العامة من عباد الله في عبادة غير الله بحيث جعلوا الأولياء أنداداً لله وشركاء له في صرف العبادة لهم باسم التبرك والمحبة وهذا بعينه بريد الشرك وإعادة الوثنية التي كانت شائعة في القوم الذي بعث الله فيهم رسله عليهم الصلاة والسلام لتطهير أنفسهم من عبادة غير الله وخلع الأوثان التي كانت تعبد من دون الله. وقد يتبادر إلى ذهن بعض البسطاء من هذا أننا نكره الأولياء والصالحين ونؤذيهم ونستخف بهم، حاشا وكلا ليس ذلك فينا بل إننا نحبهم في الله ونواليهم فيه ونطلب منهم الدعاء في حال الحياة لا بعد الممات وحال الغياب، وذلك ما يسمى بالتوسل بدعاء أهل الصلاح ويجب أن يفهم عنا أننا نفرق بين محبتهم في الله ومحبتهم مع الله، فمحبتهم في الله من الأعمال الصالحة ومحبتهم مع الله هو الشرك الذي وقع فيه كفار قريش قال تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً للهِ} 1. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "فمن أحب مخلوقاً مثل ما يحب الله فهو مشرك ويجب الفرق بين الحب في الله والحب مع الله"اهـ2. ولنعد إلى موضوع الرجاء فنقول: إن الواجب على العبد أن يكون رجاؤه في الله تعالى لا في غيره فيرجو لقاء الله بصدق وإخلاص قال تعالى: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} 3 فهذه الآية فيها حث الإنسان على أن يكون راجياً في ثواب المصير إلى الله تعالى فالرجاء سبب من الأسباب التي ينال بها العبد ما عند الله من مغفرة ذنوبه وهدايته وتوفيقه وإعانته على طاعته ودخوله الجنة ونجاته من النار فالرجاء هو قطب الرحى الذي يدور عليه صلاح العبادة. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "ولولا روح الرجاء لعطلت عبودية القلب والجوارح وهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً، بل لولا روح الرجاء لما تحركت الجوارح بالطاعة، ولولا ريحه الطيبة لما جرت سفن الأعمال في بحر الإرادات" أ. هـ4. ولا يقال أن الرجاء اعتراض من العبد على ما سبق به حكم الله فليس الأمر كذلك بل إنما هو تعلق بما سبق به الحكم فإن العبد إنما يرجو فضلاً وإحساناً ورحمة سبق بها القضاء والقدر وجعل الرجاء أسباب حصولها فليس الرجاء اعتراضاً على القدر بل هو طلب لما سبق به قدر الله5. وقد ذم الله الكافرين الذين لا يرجون لقاءه ورضوا بالحياة الزائلة واطمأنوا إليها فقد   1- سورة البقرة آية: 165. 2- مجموع الفتاوى 15/49. 3- سورة العنكبوت آية: 5. 4- مدارج السالكين 2/42. 5- مدارج السالكين 2/46. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 حكم لهم بأن مأواهم النار قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} 1. والآيات في عبودية الرجاء كثيرة ونكتفي منها بما قدمنا ذكره ولنذكر بعض ما ورد من السنة في هذا المعنى ليكتمل هذا المبحث إذ السنة دلت على عبودية الرجاء كما دل على ذلك القرآن فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم الشيء الكثير في هذا الجانب. روى البخاري في صحيحه بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم ... " الحديث2. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى قوله: "يقول الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي" أي قادر على أن أعمل به ما ظن أني عامل به، وقال الكرماني: وفي السياق إشارة إلى ترجيح جانب الرجاء على الخوف وكأنه أخذه من جهة التسوية فإن العاقل إذا سمع ذلك لا يعدل إلى ظن إيقاع الوعيد وهو جانب الخوف لأنه لا يختاره لنفسه بل يعدل إلى ظن وقوع الوعد وهو جانب الرجاء وهو كما قال أهل التحقيق مقيد بالمحتضر" ا. هـ3. وروى البخاري أيضاً في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة فأمسك عنده تسعة وتسعين رحمة. وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة فلو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنة ولو يعلم المسلم بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمن من النار" 4. فهذا الحديث دل على أنه يستحب للعبد أن يجمع بين الخوف والرجاء ولا ينبغي له أن يغلِّب أحدهما على الآخر فإنه لو غلب جانب الرجاء وانهمك في العصيان لربه فإن ذلك قد يؤدي به إلى أن يمكر الله به وإذا غلب عليه جانب الخوف ربما جره ذلك إلى اليأس. والغرض من الرجاء أن الإنسان لو وقع في تقصير فعليه أن يحسن الظن بالله تعالى ويرجو   1- سورة يونس آية: 7، 8. 2- صحيح البخاري مع الفتح 13/384، وانظر صحيح مسلم 4/2061. 3- الفتح 13/385. 4- صحيح البخاري مع الفتح 11/301، وانظر صحيح مسلم 4/2109. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 منه أن يمحو عنه الذنب وكذلك إذا وفقه الله للإتيان بالطاعة يرجو من الله أن يقبلها منه. أما أن يقع في معصية الله ويرجو عدم المؤاخذة بدون أن يندم على فعلها أو يقلع فهذا مصاب بالغرور. قال أبو عثمان الجيزي: "من علامة السعادة أن تطيع وتخاف أن لا تقبل ومن علامة الشقاء أن تعصي وترجو أن تنجو"1. ومن الأحاديث الدالة على عبودية الرجاء الحديث القدسي الذي رواه الترمذي في سننه من حديث أنس بن مالك قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول قال الله تبارك وتعالى: "يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي" 2. روى مسلم في صحيحه بإسناده إلى جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بثلاثة أيام يقول: "لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل" 3. ومما جاء في دعاء المكروب عند أبي داود من حديث عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دعوات المكروب اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت" 4. والذي نخلص إليه من الآيات والأحاديث المتقدمة أن الرجاء عبادة قلبية لا تكون إلا لله عز وجل ويحرم على الإنسان أن يرجو سوى الله تعالى أياً كان فيما هو من خصائص الألوهية لأن ذلك من حق الله على خلقه فعلى العبد أن يرجو ربه طمعاً في رحمته وخوفاً من عقابه. ولا يلتفت إلى قول بعض الصوفية كالهروي بأن الرجاء وقوع في الرعونة5 فهذا يعتبر من شطحات القوم لأنه لا رعونة فيمن يتجه إلى الله يرجوه ويطمع في بره وإحسانه وفضله ويسأل ذلك من ربه بقلبه ولسانه فإن الرجاء استشراق القلب لنيل ما يرجوه فإذا كان حال العبد على هذا فلا رعونة ههنا وإنما الرعونة في خلاف ذلك   1- الفتح 11/301. 2- 5/209 . 3- 4/2209 . 4- السنن 2/618. 5- انظر منازل السائرين مع شرحه مدارج السالكين 2/37. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 قال العلامة ابن القيم: "وهل الرعونة كل الرعونة إلا دعواه؛ أنه يحب ربه لعذابه لا لثوابه، وأنه إذا أحبه وأطاعه للثواب كان ذلك حظاً وإيثاراً لمراد النفس بخلاف ما إذا أحبه وأطاعه ليعذبه. فإنه لا حظ للنفس في ذلك، فو الله ليس في أنواع الرعونة والحماقة أقبح من هذا ولا أسمج، وماذا يلعب الشيطان بالنفوس؟ وإن نفساً وصل بها تلبيس الشيطان إلى هذه الحالة المحتاجة إلى سؤال المعافاة" اهـ1. والناظر إلى حال المتصوفة الذين غلب عليهم الهوى يجد الفرق الشاسع بين طريقتهم وطريق الأنبياء والرسل ويجد أنهم مخالفون لمنهج خاتم الأنبياء والمرسلين عليه الصلاة والسلام فالرسول صلى الله عليه وسلم كان من دعائه: "اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك" 2. وقد سأل أبو بكر الصديق رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلِّمه دعاء يدعو به في الصلاة فقال "قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت. فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم"3. وقد سألت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلِّمها دعاء تدعو به إن هي وافقت ليلة القدر فقال لها: "قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعفُ عني" قال أبو عيسى الترمذي: هذا حديث حسن صحيح4. وقد أخبرنا سبحانه وتعالى بأن أولي الألباب الذين هم أولياؤه وخاصته سألوه أن يقيهم عذاب النار فقال تعالى: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار} 5. فأين هذا من حال من يقول إنه لا يحب الله من أجل ثوابه لأنه عين حظه وإنما يحبه لعقابه. لأنه لا حظ له فيه. ويزعم أن الرجاء عين حظه فهذا يدل على فساد العقل واتباع الهوى.   1- مدارج السالكين 2/47 ـ 48. 2- الحديث رواه مسلم في صحيحه من حديث عائشة 1/352. 3- صحيح البخاري مع الفتح 2/317، صحيح مسلم 4/2078. 4- سنن الترمذي 5/195. 5- سورة آل عمران آية: 191. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 وهؤلاء الصوفية قد يخطر على بال أحدهم أن الله لو عذبه لرضي بذلك العذاب كما يرضى صاحب الثواب بثوابه. ويعزم على ذلك بقلبه ولكن هذا من أماني الشيطان الخادعة إذ عند حصول الحقيقة لا يكون لتلك الأمنية أثر ألبتة ولو امتحن الله أحدهم بأدنى محنة لصاح واستغاث وجأر إلى الله أن يعافيه من ذلك، وقد ذكر ابن القيم أن رجلاً يقال له سمنون كان يقول: وليس لي من هواك بد ... فكيف ما شئت فامتحني فامتحنه الله بعسر البول فضاعت هذه الدعوى عنه واضمحلت وجعل يطوف على الصبيان في المكاتب ويقول: ادعوا لعمك الكذاب. فالعزم على الرضى لون وحقيقته لون آخر"1. فعلى العبد المسلم أن يلح على ربه ويرجوه ويستسلم لله في ذلك ويحذر من تلاعب الشيطان به فيؤدي به ذلك إلى ترك الرجاء وإذا وقع في ذلك لم تكتمل عبوديته لربه سبحانه وتعالى وكلما قوي تعلق العبد برجائه ربِّه وخوفه منه كثر فرحه يوم القيامة بحصول مرجوه فينبغي للعبد أن يكون خائفاً راجياً لأن الخوف مستلزم للرجاء والرجاء متضمن للخوف فكل راج خائف وكل خائف راج ولذلك جاء الرجاء في موضع يصلح فيه وقوع الخوف في قوله تعالى: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ للهِ وَقَاراً} 2 قال الشوكاني3 رحمه الله تعالى: "أي: أيُّ عذر لكم في ترك الرجاء والرجاء هنا بمعنى الخوف أي ما لكم لا تخافون الله" أ. هـ4. وقبل أن نختم هذا المبحث نقول: إنه ينبغي لكل مكلف أن يمضي حياته بين الخوف والرجاء ولا يفرط في الرجاء حتى يصير مع المرجئة الذين يقولون لا يضر مع الإيمان   1- مدارج السالكين 2/49 ـ 50 بتصرف يسير. 2- سورة نوح آية: 13. 3- هو: محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني: فقيه، مجتهد من كبار علماء اليمن من أهل صنعاء، ولد بهجرة شوكان "من بلاد خولان باليمن" ونشأ بصنعاء وولي قضاءها، ومات حاكماً بها. ولد سنة ثلاث وسبعين ومائة وألف وتوفي سنة خمسين ومائتين وألف هجرية. انظر ترجمته في "كتاب البدر الطالع 2/214 ـ 225، نيل الوطر من تراجم رجال اليمن في القرن الثالث عشر 2/297، جلاء العينين ص46". 4- فتح القدير 5/498. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 شيء ولا يوغل في الخوف حتى يكون في صف الخوارج والمعتزلة الذين قالوا إن صاحب الكبيرة مخلد في النار إذا مات ولم يتب بل عليه أن يلزم الطريق الوسط بينهما كما قال ـ عز وجل ـ {يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} 1 والذي يمعن النظر في دين الإسلام يجد قواعده أصولاً وفروعاً كلها في جانب الوسط وبالله التوفيق وهو المستعان.   1 - سورة الإسراء آية: 57. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 المبحث السابع: انقسام العبودية إلى عامة وخاصة لقد جاء في السورة ذكر العبودية العامة، والخاصة في عدة آيات منها: فالعبودية العامة: هي عبودية أهل السموات والأرض جميعهم عبيده ـ تعالى ـ برهم، وفاجرهم مؤمنهم وكافرهم وهذه العبودية هي عبودية القهر والملك وهذه العبودية أشار إليها الله في السورة بقوله ـ تعالى ـ {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} . وقوله ـ تعالى ـ {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ} الآية. فلفظ "العباد" في هاتين الآيتين يتناول العبودية العامة والخاصة مثل قوله ـ تعالى ـ {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} 1. فهذه يدخل فيها كل عباده مؤمنهم وكافرهم، برهم وفاجرهم. العبودية الخاصة: وأما العبودية الخاصة فهي عبودية الطاعة والمحبة واتباع الأوامر والبعد عن النواهي وقد جاء في السورة في عدة آيات قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} الآية. وقوله تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} الآية. وقوله تعالى: {أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} فالعبودية المذكورة في هذه الآيات هي   1- سورة مريم آية: 93. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 عبودية أهل طاعته وولايته وهم عبيد إلهيته الذين أخلصوا له كل أنواع العبادة فلم يصرفوا منها شيئاً لسواه قط. ولا يجيء في القرآن إضافة العباد إليه على سبيل الإطلاق إلا لهؤلاء. وأما وصف عبيد الربوبية فلا يأتي إلا على أحد خمسة أوجه: الوجه الأول: أن يأتي منكراً مثل قوله ـ تعالى ـ: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} 1 الوجه الثاني: أن يكون معرَّفاً باللام كقوله ـ تعالى ـ: {وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ} 2. الوجه الثالث: أن يكون مقيداً بالإشارة كقوله ـ تعالى ـ: {أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ} 3. الوجه الرابع: أن يذكروا في عموم العباد فيندر جوامع أهل طاعته في الذكر كقوله ـ تعالى ـ: {أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} . الوجه الخامس: أن يذكروا موصوفين بفعلهم كقوله تعالى ـ تعالى ـ: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ} . هذه الآية من السورة قد يقال فيها: إنما سماهم الله "عباده" إذ لم يقنطوا من رحمته وأنابوا إليه بالطاعة واتبعوا أحسن ما أنزل إليهم من ربهم، فيكونون من عبيد الإلهية والطاعة والسر في انقسام العبودية إلى عامة وخاصة لأن أصل معنى اللفظة "الذل والخضوع" يقال "طريق معبَّد" إذا كان مذللاً بوطء الأقدام و"فلان عبَّده الحب" إذ ذلَّلَه لكن أولياء الله خضعوا له وذلوا طوعاً واختياراً، وانقياداً لأمره ونهيه، وأما أعداؤه فخضوعهم له إنما كان قهراً ورغماً4.   1- سورة مريم آية: 93. 2- سورة غافر آية: 32. 3- سورة الفرقان آية: 17. 4- مدارج السالكين 1/105 ـ 106، العبودية لشيخ الإسلام ص47، 51. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 وتحقيق العبودية هو الكمال ولقد كان للأنبياء عليهم الصلاة والسلام النصيب الأوفر من ذلك وكلما كان الإنسان أكثر تحقيقاً للعبودية لله تعالى كلما كان أكثر رقياً في سلم الكمال الإنساني، وكلما ابتعد عن تحقيق العبودية كلما هبط وانحدر. والرسل حازوا قصب السبق في هذا الميدان فقد كانت حياتهم انطلاقة جادة في تحقيق هذه العبودية. وهذا خاتم الرسل وسيد الأولين والآخرين يثني عليه ربه في أشرف المقامات بالعبودية فيصفه بها في مقام الوحي. قال تعالى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} 1 وأثنى عليه بها في مقام إنزال الكتاب {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} 2. وأثنى عليه بها في مقام الإسراء قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} 3. وبهذه العبودية التامة استحق عليه الصلاة والسلام التقديم على الناس في الدنيا والآخرة ولذلك يقول عيسى عليه السلام للناس إذا طلبوا منه الشفاعة بعد طلبها من الرسل من قبله يقول: "ائتوا محمداً عبداً غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر" 4 فالسعادة كل السعادة في أن يتحلى الإنسان بتحقيق العبودية الخاصة فيدين لله بالطاعة، والمحبة وامتثال الأوامر والاجتناب عن النواهي.   1- سورة النجم آية: 10. 2- سورة الفرقان آية: 1. 3- سورة الإسراء آية: 1. 4- رواه البخاري في صحيحه من حديث أنس رضي الله عنه 4/279. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 المبحث الثامن: الإسلام دين جميع الأنبياء والرسل الإسلام هو: "الإستسلام لله بالتوحيد والإنقياد له بالطاعة وإخلاص العمل من شوائب الشرك"1. ولقد جاء في سورة "الزمر" الأمر للرسول صلى الله عليه وسلم بأن يكون أول المسلمين من هذه الأمة، وجاء الأمر فيها أيضاً: لجميع عباد الله بأن يلتزموا بدين الإسلام على وجه العموم. قال تعالى في حق نبيه: {وَأُمِرْتُ لأنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} . وقال تعالى في حق عباده عموماً آمراً لهم بالإلتزام بدين الإسلام: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} ففي الآية الأولى: أمر الله ـ جل وعلا ـ نبيه بأن يكون أول المنقادين. قال العلامة ابن كثير: {وَأُمِرْتُ لأنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} قال السدي: يعني من أمته صلى الله عليه وسلم2. وقال الشوكاني حول هذه الآية: {وَأُمِرْتُ لأنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} أي: من هذه الأمة، وكذلك كان صلى الله عليه وسلم فإنه أول من خالف دين آبائه ودعا إلى التوحيد3. وأما الآية الثانية: فهي أمر لجميع العباد بأن يلتزموا بدين الإسلام، وإن لم يفعلوا ذلك فسيحل بهم العذاب على كفرهم به، ولا ينصرهم ناصر يسرع لإنقاذهم من عذاب الله النازل بهم فقوله تعالى: {وَأَسْلِمُوا لَهُ} أمر لجميع العباد بالخضوع لله ـ تعالى ـ بالطاعة   1- انظر عقيدة الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة للشيخ محمد بن عبد الوهاب ص17، الأصول الثلاثة ص10. 2- تفسير ابن كثير 6/83. 3- فتح القدير 4/454. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 والإقرار بدينه الحنيف والإلتزام بالإسلام الذي هو دين الأولين والآخرين، وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بأن يكون أول الموحدين والمنقادين لله بالوحدانية التي لا تشوبها أية شائبة من الإشراك فغيره يتوجه إليه الخطاب من باب أولى فيجب على كل مكلف أن يعرف دينه الذي لا فلاح له إلا به، ويكون داعياً إليه. اقتداءً بالرسول صلى الله عليه وسلم وبجميع الرسل قبله. فالإسلام هو دين جميع الأنبياء والمرسلين كما صرح بذلك القرآن والسنة قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإسْلام} 1. قال العلامة ابن القيم: يعني الذي جاء به محمد وهو دين الأنبياء من أولهم إلى آخرهم ليس لله دين سواه {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 2 وقد دل قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإسْلام} على أنه دين جميع أنبيائه ورسله وأتباعهم من أولهم إلى آخرهم وأنه لم يكن لله قط دين سواه. أ. هـ3. وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: "كان الأنبياء جميعهم مبعوثين بدين الإسلام فهو الدين الذي لا يقبل الله غيره لا من الأولين ولا من الآخرين"4. فمهما تدين متدين، أو تعبد متعبد على غير نهج الإسلام فعمله مردود وليس له من ذلك العمل شيء سوى العناء والتعب والشقاء وعمله ليس بمقبول كما قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} 5. فاليهود والنصارى وغيرهم من الكافرين إذا تعبدوا وتدينوا بغير دين الإسلام فعبادتهم وديانتهم مردودة عليهم لأن الله لا يقبل ديناً غير دين الإسلام. كما تقدم في الآية: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} . ويدخل في هذا العموم كل من يبتدع في عمله وعبادته بدعة لا أصل لها في الإسلام   1- سورة آل عمران آية: 19. 2- سورة آل عمران آية: 85. 3- مدارج السالكين 3/476. 4- العبودية لشيخ الإسلام ابن تيمية ص115 ـ 116 ط. المكتب الإسلامي. 5- سورة الفرقان آية: 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 لقوله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" 1 فالإسلام دين جميع الأنبياء وجميع الأمم فمن الأمم من آمن ومنهم من كفر وقد أخبرنا الله تعالى أن رسله الكرام عملوا بدين الإسلام ودعوا إليه أممهم فدين الإسلام اشتمل على العقائد والأحكام والعبادات والشيء المهم في دين الإسلام هو توحيد الله وإفراده بالعبودية، وهذا يتضمن إبطال كل عبادة لغير الله. والعبادة أنواع منها الدعاء والرجاء والتوكل والنذر والذبح فمن صرف منها شيئاً لغير الله فقد كفر وأشرك مع الله غيره. وقد بين الله ـ تعالى ـ أن جميع الأنبياء دعوا أممهم إلى الإسلام فقد قال نوح عليه الصلاة والسلام فيما حكاه الله عنه: {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} 2. وقد ذكر الله تعالى في حق إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 3. أما يوسف عليه السلام فإنه قد دعا الله تعالى أن يتوفاه مسلماً وأن يلحقه بالصالحين قال تعالى حكاية عنه: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} 4. وكليم الله موسى وجه قومه إلى الإيمان بالله والتوكل عليه وإسلام الوجه له سبحانه وتعالى قال تعالى: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} 5. وأما سليمان عليه من الله الصلاة والسلام فإنه دعا بلقيس إلى الإسلام قال تعالى:   1- رواه مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها 3/1343. 2- سورة يونس آية: 72. 3- سورة البقرة آية: 130، 131، 132. 4- سورة يوسف آية: 101. 5- سورة يونس آية: 84. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} 1 وفي العصور القديمة بعض أهل الكتاب ـ وهم اليهود والنصارى كانوا يدينون بدين الإسلام ـ. قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} 2. وقالت بلقيس: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ} 3. وحكى الله عن روح الله عيسى ابن مريم والحواريين أن دينهم الإسلام قال تعالى: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} 4. وحكى الله عن سحرة فرعون أنهم قالوا: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} 5. وقال تعالى عن سيد ولد آدم عليه من الله الصلاة والسلام أنه قال: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} 6 فهذه الآيات التي سقناها تبين أن جميع المرسلين وجميع من امتثل أمر رب العالمين دينهم هو الإسلام وهو عبادة الله وحده لا شريك له. وقد بين صلى الله عليه وسلم أن أصل دين الأنبياء واحد وهو التوحيد وإن اختلفوا في فروع الشرائع. فقد روى الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة والأنبياء إخوة لعلات 7 أمهاتهم شتى ودينهم واحد" 8.   1- سورة النمل آية: 30، 31. 2- سورة القصص آية: 52، 53. 3- سورة النمل آية: 44. 4- سورة آل عمران آية: 52. 5- سورة الأعراف آية: 126. 6- سورة غافر آية: 66. 7- العلات: بفتح المهملة: الضرائر، وأصله من تزوج امرأة ثم تزوج أخرى كأنه عل منها ... وأولاد العلات الإخوة لأب. ذكره الحافظ في الفتح 6/489. 8- صحيح البخاري مع الفتح 6/478، صحيح مسلم 4/1837. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "فالإسلام دين أهل السموات، ودين أهل التوحيد من أهل الأرض لا يقبل الله من أحد ديناً سواه، فأديان أهل الأرض ستة، واحد للرحمن وخمسة للشيطان: اليهودية والنصرانية، والمجوسية والصابئة، ودين المشركين"اهـ1. ومما تقدم يتبين أن الإسلام دين الأولين والآخرين من بني آدم، وأن أول المسلمين في جميع الشرائع الإلهية هم الرسل، لأن الرسل هم أول من يعرف الشرائع، والكتب المنزلة عليهم من عند الله تعالى. فالخير كل الخير بالأخذ بالإسلام الذي رضيه الله ديناً لعباده المؤمنين.   1- مدارج السالكين 3/476. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 المبحث التاسع: بيان الطاغوت الذي أوجب الله على عباده أن يجتنبوه لقد ورد في هذه السورة المدح والثناء الحسن لمن اجتنب عبادة الطاغوت وتوجه بالعبادة الخالصة لربه ـ جل وعلا ـ فأفرده بها وحده لا شريك له. قال تعالى: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ} . هاتان الآيتان من السورة فيهما الثناء الحسن للذين اجتنبوا عبادة الأصنام وتفانوا في عبادة الملك العلام، وكفروا بعبادة الطاغوت الذي عبده الجاهلون بالباطل زوراً وبهتاناً، والمقصود بالطاغوت هنا هو عبادة غير الله ـ تعالى ـ فمدحهم الله وأثنى عليهم باجتنابهم عبادة الطاغوت وإقبالهم بكليتهم على عبادة الله وحده وإخلاص الدين له دون غيره، وأقلعوا عن الشرك والمعاصي إلى إخلاص التوحيد والطاعات لربهم وخالقهم ـ سبحانه وتعالى ـ. وقيل المقصود بالطاغوت الشيطان ذكره ابن جرير عن السدي ومجاهد وابن زيد1 والذي يظهر أن المراد بالطاغوت في الآية كل معبود من دون الله والنصيب الأكبر من ذلك للشيطان لأنه رأس كل ضلالة كما قال ـ تعالى ـ: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} 2. وقد ذكر الله الجزاء الذي ينتظر عباد الله الموحدين وهو أن لهم البشرى في الحياة الدنيا بالثناء الحسن ويكلؤهم الله بعنايته ويوفقهم للأعمال الصالحة التي يشاهدون من   1- جامع البيان 23/206. 2- سورة يس آية: 60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 خلالها أنه ـ تعالى ـ يريد إكرامهم، كما أن لهم البشرى في الآخرة عند الموت وفي القبر، وفي القيامة وخاتمة البشارات البشارة العظمى وهي ما يحصل لهم من إحلال الله ـ تعالى ـ رضوانه عليهم، والنظر إلى وجهه الذي هو أعظم نعيم أهل الجنة وقد أمر الله نبيه أن يبشر عباده الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ـ تعالى ـ: "والمراد بالقول القرآن كما فسره بذلك سلف الأمة وأئمتها" اهـ1 فقد وصف الله عباده المبشرين بأنهم يستمعون القول فيفهمونه ويعقلونه ويتبعون أحسنه، وأحسنه على الإطلاق كلام الباري ـ سبحانه ـ وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم. قال العلامة ابن كثير: {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} أي: يفهمونه، ويعملون بما فيه كقوله ـ تعالى ـ لموسى عليه السلام حين آتاه التوراة {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ بِأَحْسَنِهَا} 2 {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ} أي: المتصفون بهذه الصفة هم الذين هداهم الله في الدنيا والآخرة {وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ} أي: ذوو العقول الصحيحة والفطر المستقيمة"3 اهـ. وقد ذكر في أسباب النزول أن الآيتين نزلتا في زيد بن عمرو بن نفيل وأبي ذر وسلمان الفارسي رضي الله ـ تعالى ـ عنهم كانوا في الجاهلية يقولون: "لا إله إلا الله" واجتنبوا عبادة الطاغوت4 والأصح أن الآيتين تشمل النفر الثلاثة المذكورين وغيرهم ممن اجتنب عبادة الأوثان وأناب إلى عبادة الرحمن وهؤلاء هم الذين لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة5. وبعد هذه اللمحة لبيان معنى الآيتين نأتي لتعريف الطاغوت الذي فرض الله علينا اجتنابه.   1- مجموع الفتاوى 16/5، دقائق التفسير 4/252. 2- سورة الأعراف آية: 145. 3- تفسير القرآن العظيم 6/84. 4- جامع البيان 23/207. 5- تفسير ابن كثير 6/84. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 معنى الطاغوت في اللغة: جاء في القاموس: "الطاغوت اللات، والعزى، والكاهن، والشيطان وكل رأس ضلال والأصنام، وكل ما عبد من دون الله ومردة أهل الكتاب للواحد والجمع "فعلوت" من طغوت، والجمع طواغيت طواغ، أو الجبت حيي بن أخطب والطاغوت كعب بن الأشراف وأطغاه جعله طاغياً والطغوة المكان المرتفع". أهـ1. وقال في المصباح المنير: "والطاغوت يذكَّر ويؤنَّث والإسم "الطغيان" وهو مجاوزة الحد وكل شيء جاوز المقدار والحد في العصيان فهو "طاغ" و"أطغيته" جعلته "طاغياً" "وطغى" السيل ارتفع حتى جاوز الحد في الكثرة "والطاغوت" الشيطان وهو في تقدير فعلوت بفتح العين لكن قدمت اللام موضع العين، واللام واو محركة مفتوح ما قبلها فقلبت ألفاً فبقي في تقدير فعلوت وهو من الطغيان"2 اهـ. وجاء في فتح المجيد: "الطاغوت مشتق من الطغيان وهو مجاوزة الحد"3 اهـ. والذي نستفيده من هذه التعاريف اللغوية أن الطاغوت كل ما تجاوز حده فصار معبوداً من دون الله سواء كان إنساناً أو صنماً أو وثناً أو كان ما كان من أي شيء وسواء عبد بطاعة من عابديه أو بقهره لهم حتى عبدوه فهو طاغوت. معنى الطاغوت اصطلاحاً: روى ابن جرير وابن كثير بإسنادهما إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: "الجبت: السحر، والطاغوت: الشيطان"4. قال ابن كثير: "ومعنى قوله "إنه الشيطان" قوي جداً فإنه يشمل كل شر كان عليه أهل الجاهلية من عبادة الأوثان والتحاكم إليها والإستنصار بها"اهـ5. وذكر ابن كثير: بإسناده إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه سئل عن الطواغيت فقال: هم كهان تنزل عليهم الشياطين.   1- 4/359، مختار الصحاح 393. 2- 1/373 ـ 374. 3- ص19. 4- جامع البيان 5/131، تفسير ابن كثير 3/315. 5- تفسير القرآن العظيم 1/553. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 وقال مجاهد: الطاغوت الشيطان في صورة إنسان يتحاكمون إليه وهو صاحب أمرهم. وقال الإمام مالك رحمه الله: "هو كل ما يعبد من دون الله عز وجل"1. وتعريف الإمام مالك يقيد بمن عبد من دون الله وهو راض ليخرج بهذا القيد من عبد وهو غير راض مثل المسيح ابن مريم عليه الصلاة والسلام، والملائكة فإنهم عبدوا من دون الله وهم غير راضين بذلك بل إنهم براء ممن عبدهم ومن عبادتهم. وقال الواحدي2: عند قوله ـ تعالى ـ {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ والطَّاغُوْتِ} 3 "كل معبود من دون الله فهو فهو جبت وطاغوت"4. وقال عبد الله بن عباس: "الجبت الأصنام والطاغوت الذين يكونون بين أيدي الأصنام يعبرون عنها الكذب ليضلوا الناس". قال ابن جرير: وزعم رجال: أن الجبت الكاهن والطاغوت رجل من اليهود يدعى كعب بن الأشرف وكان سيد اليهود"5وقال بعض السلف: عند قوله ـ تعالى ـ {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} 6 إنه كعب بن الأشرف، وقال بعضهم: حيي بن أخطب، وإنما استحقا هذا الاسم لكونهما من رؤوس الضلال ولإفراطهما في الطغيان وإغوائهما الناس ولطاعة اليهود لهما في معصية الله فكل من كان بهذه الصفة فهو طاغوت" اهـ7. وهذه التعريفات المتقدمة عن السلف الصالح من باب توضيح الشيء ببعض أفراده   1- المصدر السابق 2/316، فتح المجيد ص19 ـ 20. 2- هو: علي بن أحمد بن محمد بن علي بن متوية، أبو الحسن الواحدي مفسر عالم بالأدب وصفه الذهبي بإمام علماء التأويل توفي سنة ثمان وستين وأربعمائة هجرية. انظر ترجمته في "النجوم الزاهرة" 5/104، الوفيات 1/333، الأعلام 5/59. 3- سورة النساء آية: 51. 4- انظر مجموعة التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب ص407. 5- جامع البيان 5/131. 6- سورة النساء آية: 60. 7- مجموعة التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب ص407، والكلام للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين رحمه الله ـ تعالى ـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 وإلا فالحد الجامع المانع لمعنى الطاغوت هو ما عرفه به ابن القيم رحمه الله ـ تعالى ـ فقد قال:"الطاغوت كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله أو يتبعونه على غير بصيرة من الله أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله فهذه طواغيت العالم إذا تأملتها وتأملت أحوال الناس معها رأيت أكثرهم أعرض عن عبادة الله ـ تعالى ـ إلى عبادة الطاغوت، وعن طاعة رسول الله إلى طاعة الطاغوت ومتابعته"اهـ1. فلو تأملنا زمننا هذا واستعرضنا حالة أكثر المسلمين لوجدناها طبقاً لما قال هذا الإمام رحمة الله عليه إلا من رحم الله، وبعد أن عرفنا معنى الطاغوت في اللغة والاصطلاح نقول: إن الله فرض على جميع خلقه أن يكفروا بالطاغوت ويعتقدوا اعتقاداً جازماً أن عبادته باطلة وأن من عبده كافر بالله العظيم. قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 2 فهذه الآية فيها الإخبار بأنه ـ تعالى ـ أمر جميع خلقه باجتناب عبادة الطاغوت مطلقاً سواءاً كان إنساً أو جناً، أو شجراً، أو حجراً، أو هوى، أو شهوة، أو مالاً، أو جاهاً، أو وظيفة، وأن يعبدوه ـ سبحانه ـ وحده دون سواه. وقال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} 3. قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب4: "واعلم أن الإنسان ما يصير مؤمناً بالله إلا بالكفر بالطاغوت والدليل هذه الآية" اهـ5.   1- تيسير العزيز الحميد ص33، فتح المجيد ص20، إعلام الموقعين 1/50. 2- سورة النحل آية: 36. 3- سورة البقرة آية: 256. 4- هو: إمام الدعوة المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي النجدي زعيم النهضة الدينية الإصلاحية الحديثة في الجزيرة العربية وقد نهج رحمه الله منهج السلف داعياً إلى التوحيد الخالص ونبذ الشرك والبدع والخرافات، وتحطيم ما علق بالإسلام من أوهام. ولد رحمه الله سنة خمس عشرة ومائة وألف، وتوفي سنة ست ومائتين وألف هجرية. انظر ترجمته في "كتاب عنوان المجد في تاريخ نجد 1/6 وما بعدها، هدية العارفين 2/250 الأعلام 7/137، معجم المؤلفين10/269". 5- الدرر السنية 1/95. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن1 رحمه الله ـ تعالى ـ عند شرحه للآية: "وهذا معنى "لا إله إلا الله" فإنها العروة الوثقى" أهـ2. وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} 3. والآيات في هذا المعنى كثيرة وهي تدل على أنه يجب الكفر بالطاغوت والإيمان بالله. وضابط الكفر بالطاغوت: أن يعتقد الإنسان اعتقاداً جازماً بطلان عبادة غير الله وتركها والبغض لأهلها ومعاداتهم. وضابط الإيمان بالله: الإعتقاد الجازم بأن الرب ـ سبحانه ـ هو الإله المعبود وحده دون سواه وإخلاص جميع أنواع العبادة كلها له وحده لا شريك له ونفيها عن كل معبود سواه. وبعد أن عرفنا أن الطاغوت عام في كل ما عبد من دون الله ـ تعالى ـ إذن فالطواغيت لا تحصى لكثرتها وتنوعها إلا أن رؤوسها خمسة4 وهي: الأول: إبليس الذي لا يزال جاهداً آناء الليل وآناء النهار في الدعوة إى عبادة غير الله ـ تعالى ـ. قال ـ تعالى ـ: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} 5.   1- هو: عبد الرحمن حسن بن محمد بن عبد الوهاب، فقيه، حنبلي من علماء نجد وهو حفيد العلامة الشيخ محمد بن عبد الوهاب صاحب الدعوة إلى التوحيد والتي عرفت بإسمه ويعرف هذا البيت بآل الشيخ، توفي الشيخ عبد الرحمن بن حسن سنة خمس وثمانين ومائتين وألف هجرية. انظر ترجمته في الأعلام 4/75. 2- فتح المجيد ص20. 3- سورة النساء آية: 60. 4- انظر مجموعة التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب ص260 ـ 261. 5- سورة يس آية: 60 ـ 61. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 الثاني: الحاكم الجائر المغيِّر لأحكام الله ـ تعالى ـ وقد ذم الله من تلبس بذلك قال ـ تعالى ـ {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} 1. قال العلامة ابن كثير: بعد أن ذكر أنها نزلت فيمن طلب التحاكم إلى كعب بن الأشرف أو إلى حاكم الجاهلية وغير ذلك قال: "والآية أعم من ذلك كله فإنها ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنة وتحاكم إلى ما سواهما من الباطل وهو المراد بالطاغوت ههنا" اهـ2. وقد أقسم الباري ـ سبحانه ـ بنفسه على عدم إيمان من لم يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم قال ـ تعالى ـ: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} 3. قال العلامة ابن القيم "أقسم ـ سبحانه ـ بنفسه المقدسة قسماً مؤكداً بالنفي قبله على عدم إيمان الخلق حتى يحكموا رسوله في كل ما شجر بينهم من الأصول والفروع وأحكام الشرع وأحكام المعاد وسائر الصفات وغيرها ولم يثبت لهم الإيمان بمجرد هذا التحكيم حتى ينتفي عنهم الحرج، وهو ضيق الصدر وتنشرح صدورهم لحكمه كل الانشراح، وتنفسح له كل الانفساح وتقبله كل القبول، ولم يثبت لهم الإيمان بذلك أيضاً حتى ينضاف إليه مقابلة حكمه بالرضى والتسليم وعدم المنازعة وانتفاء المعارضة والإعتراض فهنا قد يحكِّم الرجل غيره وعنده حرج من حكمه، ولا يلزم من انتفاء الحرج والرضا والتسليم والإنقياد إذ قد يحكمه وينتفي الحرج عنه في تحكيمه ولكن لا ينقاد قلبه ولا يرضى كل الرضى بحكمه، والتسليم أخص من انتفاء الحرج، فالحرج مانع، والتسليم أمر وجودي ولا يلزم من انتفاء الحرج حصوله بمجرد انتفائه إذ قد ينتفي الحرج ويبقى القلب فارغاً منه ومن الرضى به والتسليم له، فتأمله وعند هذا يعلم أن الرب ـ   1- سورة النساء آية: 60. 2- تفسير ابن كثير 3/327. 3- سورة النساء آية: 65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 تبارك وتعالى أقسم على انتفاء إيمان أكثر الخلق وعند الإمتحان تعلم هل هذه الأمور الثلاثة موجودة في قلب أكثر من يدعي الإسلام أم لا؟ اهـ1. الثالث: الذي يحكم بغير ما أنزل الله وهذا يخرج صاحبه من ملة الإسلام إلى الكفر قال ـ تعالى ـ: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} 2. هذا النوع من أخطر الأمور وأعظمها جرماً على من يحكم بغير ما أنزل الله ويقرر شريعة للناس من عند نفسه ويحرم ما لم يأذن به الله ـ تعالى ـ وهذا من نواقض كلمة التوحيد التي هي الشهادة بأن الله هو الإله الذي تألهه القلوب بالحب والتعظيم والطاعة والإنقياد، ومن أشدها أيضاً مناقضة للشهادة بأن محمداً رسول الله فهو المطاع فيما أمر ونهى عنه وزجر، ولو فهم العباد هذا لما بقي لطاغية في الأرض وجود ولما استطاع مخلوق مهما كانت مكانته أن يضع تشريعاً مضمونه الكفر بالله ويكون سبباً في تنحية شرع الله الحكيم ويرفع من شأن القانون الأثيم. والناظر في حال المسلمين اليوم يجد أنهم اهتموا اهتماماً بالغاً بالقوانين البشرية وزهدوا في الأحكام السماوية إلا من رحم الله، ونتيجة لهذا الإنحراف نزل بهم الذل والهوان وتسليط الأعداء فسلبوا أراضيهم وقتلوا شيوخهم وأطفالهم وانتهكوا أعراضهم وذلك بسبب بعد المسلمين عن حكم الله ورسوله وتحكيم ما اخترعته العقول الضالة، أصحابها يعادون الإسلام والمسلمين بكل ما أوتوا من قوة ولنستمع إلى ما ذكره ابن كثير في شأن ما حل بالمسلمين أيام التتار وذلك عند قوله ـ تعالى ـ {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} 3. قال رحمه الله: "ينكر الله ـ تعالى ـ على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والإصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات، مما يضعونها بآرائهم، وكما يحكم به التتار من سياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم "جنكزخان" الذي وضع لهم الياسق "وهو عبارة عن كتاب مجموع   1- التبيان في أقسام القرآن ص430 ـ 431. 2- سورة المائدة آية: 44. 3- سورة المائدة آية: 50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية والنصرانية، والملة الإسلامية، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه فصارت في بنيه شرعاً متبعاً يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير"1. ولقد وضح لنا الشيخ محمد بن إبراهيم2 رحمه الله ـ تعالى ـ الصور التي إن فعلها الحاكم أخرجته من الملة فقال: الصورة الأولى: إذا جحد الحاكم بغير ما أنزل الله أحقية حكم الله ورسوله وهو معنى ما روي عن ابن عباس واختاره ابن جرير3 وجحود ما أنزل الله من الحكم الشرعي لا نزاع فيه بين أهل العلم، فإن من الأصول المتقررة المتفق عليها بينهم أن من جحد أصلاً من أصول الدين أو فرعاً مجمعاً عليه، أو أنكر حرفاً مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم قطعياً فإنه كافر كفراً ينقل عن الملة. الصورة الثانية: إن لم يجحد الحاكم بغير ما أنزل الله أن حكم الله ورسوله حي ولكنه اعتقد أن حكم غير الرسول صلى الله عليه وسلم أحسن من حكمه، وأتم وأشمل لما يحتاجه الناس وما استجد لهم من حوادث نشأت عن تطور الزمان وتغير الأحوال فهذا لا ريب في كفره لتفضيله أحكام المخلوقين التي هي زبالة الأذهان وحثالة الأفكار على حكم الحكيم الخبير، فإنه ما من قضية كائنة ما كانت إلا وحكمها في كتاب الله ـ تعالى ـ وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم نصاً أو ظاهراً أو استنباطاً أو غير ذلك علم ذلك من علمه وجهله من جهله. الصورة الثالثة: أن لا يعتقد كونه أحسن من حكم الله ورسوله ولكن اعتقد أنه مثله فهذا كالنوعين السابقين كافر كفراً ينقل عن الملة لما في ذلك من تسوية المخلوق بالخالق.   1- تفسير القرآن العظيم 2/590. 2- هو: الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي الديار السعودية، ولد سنة إحدى عشرة وثلاثمائة وألف هجرية، نشأ في بيت علم وفضل، حفظ القرآن وهو في الحادية عشرة من عمره، وكف بصره وهو في الرابعة عشرة من عمره فصبر واحتسب وتلقى العلوم على الشيخ سعد بن عتيق، وتوفي في رمضان سنة تسع وثمانين وثلاثمائة وألف عن عمر يناهز الثمانين عاماً. انظر ترجمته في كتاب علماء نجد للبسام 1/88، ولشيخنا عبد المحسن العباد ترجمته لهذا العالم الجليل في مؤلف صغير بعنوان "عالم جهبذ وملك فذ". 3- جامع البيان 6/257. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 الصورة الرابعة: من اعتقد جواز الحكم بما يخالف حكم الله ورسوله فهو كالذي قبله. الصورة الخامسة: من أعظم ذلك وأظهرها معاندة للشرع ومكابرة لأحكامه، ومشاقة لله ولرسوله: إيجاد المحاكم الوضعية التي مراجعها القانون الوضعي كالقانون الفرنسي أو الأمريكي أو البريطاني أو غيرها من مذاهب الكفار، وأي كفر فوق هذا الكفر؟ وأي مناقضة للشهادة بأن محمداً رسول الله بعد هذه المناقضة. الصورة السادسة: ما يحكم به كثير من رؤساء العشائر والقبائل من البوادي ونحوهم من حكايات آبائهم وأجدادهم وعاداتهم التي يسمونها "سلومهم" يتوارثون ذلك منهم ويحكمون به رغبة وإعراضاً عن حكم الله. أما الكفر الذي لا ينقل عن الملة: والذي ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما بأنه كفر دون كفر وقوله أيضاً: "ليس بالكفر الذي تذهبون إليه" فذلك مثل أن تحمله شهوته وهواه على الحكم في القضية بغير ما أنزل الله مع اعتقاده أن حكم الله ورسوله هو الحق واعترافه على نفسه بالخطأ ومجانبة الهدى وهذا وإن لم يخرجه كفره عن الملة فإنه معصية عظمى أكبر من الكبائر كالزنا وشرب الخمر والسرقة وغيرها فإن معصية سماها الله في كتابه كفراً أعظم من معصية لم يسمها الله كفراً" اهـ1. ولخطورة هذا النوع من رؤوس الطواغيت أسهبنا في الكلام حوله إذ الحكم بغير ما أنزل الله قد عم وطم الكثير من الكرة الأرضية إلا من رحم الله ـ تعالى ـ مثل بعض البلدان التي أراد الله لها الخير فتمسكت بكتاب ربها وسنة نبيها فحماه الله من الاضطرابات وعمها الخير والرخاء. النوع الرابع من رؤوس الطواغيت: من اصطاده الشيطان وأحكمه في شراكه فيدعي العلم بالغيب من دون الله ـ تعالى ـ وهذا مما اختص الله به دون غيره. قال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} 2.   1- تحكيم القوانين ص9 ـ 11. 2- سورة الأنعام آية: 59. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 فالعراف والكاهن والرمال والمنجم كلهم محادون لله ورسوله إذ أنهم يدعون العلم بالمغيبات وذلك تكذيب للقرآن والسنة إذ التصريح فيهما بأن علم الغيب من خصائص الألوهية، ومن ادعى علم الغيب فقد أنزل نفسه منزلة الألوهية وكل من ادعى ذلك يعد من المردة أهل الفجور ولو ادعى الصلاح والتقى فإن ذلك كذب وبهتان، لأن التقي الصالح لا يدعي علم الغيب ولا ينازع الله في ربوبيته ولو ادعى هذا لخرج من الإسلام لأن مدعي ذلك كذّب على الله ورسوله فقد قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم آمراً له بأن يقول: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} 1. وأن يقول: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} 2. إلى غير ذلك من الآيات التي تجرد علم الغيب لله وحده وتنفيه عن غيره من الأنبياء والمرسلين فضلاً عن غيرهم والذي يتأمل ما عليه القبوريون من الاعتقادات الباطلة في أن الأولياء يعلمون الغيب وأنهم النور الفائض من الله وأن فيهم من صفات الربوبية مثل العلم والقدرة والكرم ولذلك يفزعون إليهم في يسرهم وعسرهم ويحبونهم كما يحب المؤمنون ربهم ويدعونهم كدعاء المؤمنين إلههم لا قوة إلا بالله. النوع الخامس: من رؤوس الطواغيت الذي يعبد من دون الله وهو راضٍ بالعبادة قال ـ تعالى ـ: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} 3. قال ابن جرير رحمه الله ـ تعالى ـ يقول ـ تعالى ـ ذكره: {وَمَنْ يَقُلْ} من الملائكة {إني إله من دون الله فذلك} الذي يقول ذلك منهم {نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} يقول: نثيبه على قيله ذلك جهنم {كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} يقول: كما نجزي من قال: من الملائكة إني إله من دون الله جهنم كذلك نجزي ذلك كل من ظلم نفسه، فكفر بالله وعبد غيره. وقيل: عنى بهذه الآية إبليس، وقال قائلون ذلك: إنما قلنا ذلك لأنه لا أحد من   1- سورة الأعراف آية: 188. 2- سورة الأنعام آية: 50. 3- سورة الأنبياء آية: 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 الملائكة قال: إني إله من دون الله سواه. وروي عن ابن جريج وقتادة "أن الآية خاصة بإبليس لأنه دعا إلى عبادة نفسه فنزلت الآية في إبليس"1. والذي نخلص إليه مما قدمنا ذكره أن الطاغوت شامل لكل معبود دون الله وكل رأس ضلال يدعو إلى الباطل ويزينه لمتبعيه كما أنه يشمل كل من نصبه الناس للحكم بينهم فحكم بأحكام الجاهلية المنتنة المضادة لحكم رب العالمين وحكم رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم، فالحاكم بغير ما أنزل الله طاغوت لأنه نصب نفسه منصب الإله المشرع، وهنا يظهر معنى مجاوزة الحد في معنى الطاغوت، فإن الحاكم ملزم بأن يتقيد بأحكام ـ الرب سبحانه ـ التي أنزلها لعبيده وأوضحها لهم فعليه أن يطبقها في غاية من الدقة والتحري سواءاً بسواء فإذا ما عدل عنها وحكم برأيه وهواه فإنه نزل نفسه منزلة الإله المشرع لخلقه وتجاوز حده المحدود له من كونه عبداً لله ينفذ أحكامه إلى إله مشرع يحكم بما يريد فتجاوز حد العبودية إلى منزلة الألوهية فصار بذلك طاغوتاً لتجاوزه حده الذي حد له، كما أنه يدخل في معنى الطاغوت الكاهن والساحر وسدنة الأوثان الداعين إلى عبادة المقبورين لأنهم ينسجون من الحكايات المضلة للجهال والموهمة بأن المقبور ونحوه يقضي الحاجات للذين يقصدونه ويتوجهون إليه وأنه فعل كذا وكذا مما هو كذب صريح، أو هو من فعل الشياطين. وبمثل هذه الأكاذيب والأباطيل يوقعون الناس في الشرك الأكبر ولواحقه. "فكل ما صرف الناس عن عبادة ربهم وطاعته فهو طاغوت. فالأوثان والمشاهد والأشجار والقباب التي تعبد من دون الله إنما هي طواغيت لأنها صرفت الكثير من الناس عن عبادة ربهم بحيث صرفوا لها كثيراً من أنواع العبادات وألهوها. وأصل أنواع الطواغيت كلها وأعظمها إبليس فهو الطاغوت الأكبر والعدو الأعظم لأنه يصرف الناس عن عبادة خالقهم ويغويهم فيعبدون غير الله ويسفكون الدماء ويحلون الحرام ويحرمون الحلال نسأله ـ تعالى ـ أن لا يجعل للشيطان علينا سبيلاً"2.   1- جامع البيان عن تأويل آي القرآن 17/ 17. 2- انظر الرسالة الثالثة "تعريف العبادات وتوحيدها والإخلاص ... للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين" ضمن مجموعة التوحيد للشيخ محمد بن عبد لوهاب ولبعض أبنائه وأحفاده ص401. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 المبحث العاشر: عبودية الإنابة إن الإنابة نوع من أنواع العبادة لا تصح إلا لله ـ سبحانه ـ ولا يجوز صرفها إلا له وحده لا شريك له، وقبل أن نذكر الآيات الواردة في السورة التي دلت على أن الله ـ تعالى ـ تعبد بها عباده نذكر تعريفها في اللغة والشرع حتى يعرف الإنسان حقيقتها ويوجهها إلى ربه ـ جل وعلا ـ. أما تعريفها في اللغة: فقد جاء في الصحاح للجوهري: "وأناب إلى الله ـ تعالى ـ أقبل وتاب"1 وجاء في القاموس: "وناب زيد إلى الله ـ تاب ـ" اهـ2. وجاء في المصباح المنير: "وأناب زيد إلى الله ـ تعالى ـ إنابة رجع"اهـ3. وجاء في اللسان: "وناب فلان إلى الله ـ تعالى ـ وأناب إليه إنابة فهو منيب: أقبل وتاب، ورجع إلى الطاعة، وقيل: ناب لزم الطاعة وأناب تاب ورجع.. إلى أن قال: الإنابة الرجوع إلى الله بالتوبة، وفي التنزيل العزيز: {مُنِيبِينَ إِلَيْه} 4 أي: راجعين إلى ما أمر به، غير خارجين عن شيء من أمره"5 اهـ. ومن هذه التعاريف اللغوية يتبين لنا أن الإنابة هي الإقبال على الله ـ عز وجل ـ والتوبة إليه.   1- 1/229. 2- 1/140 . 3- 2/629 . 4- الآية رقم 33 من سورة الروم. 5- 1/775 . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 وأما تعريفها في الشرع: فقد ذكر لها العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى تعريفين: فقال: الإنابة هي: عكوف القلب على الله ـ عز وجل ـ كاعتكاف البدن في المسجد لا يفارقه، وحقيقة ذلك عكوف القلب على محبته وذكره بالإجلال، والتعظيم وعكوف الجوارح على طاعته بالإخلاص له، والمتابعة لرسوله، ومن لم يعكف قلبه على الله ـ وحده ـ عكف على التماثيل المتنوعة كما قال إمام الحنفاء {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} 1 فكان حظ قومه العكوف على التماثيل وكان ـ حظه ـ العكوف على الرب الجليل2. وقال رحمه الله معرفاً لها بتعريف آخر: "والإنابة الرجوع إلى الله وانصراف دواعي القلب وجواذبه إليه وهي: تتضمن المحبة، والخشية فإن المنيب محب لمن أناب إليه خاضع له خاشع ذليل"3 اهـ. ولقد دلت سورة "الزمر" على أن الإنابة عبادة لله ـ عز وجل ـ في ثلاث آيات منها: قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ للهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} . وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ} . وقال تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} . فهذه الآيات الثلاث دلت على أن الإنابة نوع من أنواع العبادة التي يجب إخلاصها ـ للباري جل وعلا ـ   1- سورة الأنبياء آية: 52. 2- الفوائد ص190. 3- طريق الهجرتين ص 173. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 فالآية الأولى: هي قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ} الآية: فقد أوضح الله ـ تعالى ـ فيها أن الإنسان الكافر بربه ـ سبحانه ـ عندما ينزل به البلاء والشدة، وتلحقه المضرة إما في نفسه أو ماله، أو ولده فإنه يلجأ إلى الله ـ عز وجل ـ منيباً إليه ومستغيثاً به ـ وحده ـ ليكشف عنه ما نزل به وأصابه فإذا ما تفضل الله عليه بالنعم، والعطاء والرخاء نسي ـ ربه ـ الذي أناب إليه وقت الشدة ونسي حالته التي كان عليها في حال الشدة فجعل لله الشركاء والأنداد فيعبدهم مع الله ـ عز وجل ـ أو يخصهم دونه بالعبادة ليضل نفسه وغيره عن دين الحق والتوحيد الذي هو الطريق الموصل إلى الله ـ سبحانه ـ. قال العلامة ابن جرير: "يقول تعالى ذكره: {وَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ} بلاء في جسده من مرض، أو عاهة، أو شدة في معيشته وجهد وضيق {دَعَا رَبَّهُ} يقول استغاث بربه الذي خلقه من شدة ذلك ورغب إليه في كشف ما نزل به من شدة ذلك، وقوله: {مُنِيباً إِلَيْهِ} يقول: تائباً إليه مما كان من قبل ذلك عليه من الكفر به، وإشراك الآلهة والأوثان في عبادته، راجعاً إلى طاعته" اهـ1. وأما الآية الثانية وهي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ} . فهذه الآية إخبار من الله ـ جل وعلا ـ أن البشرى منه إنما هي لأهل الإنابة الذين أنابوا إلى الله بعبادته وإخلاص الدين له فانصرفت دواعيهم عن عبادة الأصنام إلى عبادة الملك العلام، ومن الشرك والمعاصي إلى التوحيد والطاعات والبشرى التي ذكرها الله ـ تعالى ـ لأهل الإنابة لا يعلم وصفها إلا هو ـ سبحانه وتعالى ـ وهي شاملة للبشرى في حياتهم الدنيا بالثناء الحسن، وتكلؤهم عناية الله التي يحسون من خلالها أنهم إذا قدموا على ربهم فلهم عنده الكرامة في الدار الآخرة بحيث يحل عليهم رضوانه وبره وإحسانه وأمانه في الجنة، وما أعظمها من كرامة التي لا تساويها أي كرامة. قال العلامة عماد الدين ابن كثير: قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا} نزلت في زيد بن عمرو بن نفيل وأبي ذر وسلمان الفارسي رضي الله تعالى عنهم، والصحيح أنها شاملة لهم ولغيرهم ممن اجتنب عبادة   1- جامع البيان 23/199. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 الأوثان وأناب إلى عبادة الرحمن فهؤلاء الذين لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة" اهـ1. وأما الآية الثالثة: وهي قوله تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} . فهذه الآية تضمنت الأمر من الله ـ تعالى ـ لجميع عباده بالإنابة إليه وحده دون سواه وأن يسلموا له أنفسهم وقلوبهم وينقادوا له انقياداً تاماً ظاهراً وباطناً عن طواعية ورضا قبل أن ينزل بهم العذاب فلا يجدون من ينصرهم من دونه ويدفع عنهم عقابه لأنه لا طاقة لأحد في مواجهة عذاب الله الذي يحل بالمتمردين على أوامر الله ونواهيه. قال العلامة ابن جرير حول قوله تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} "يقول تعالى ذكره: وأقبلوا أيها الناس إلى ربكم بالتوبة وارجعوا إليه بالطاعة واستجيبوا له إلى ما دعاكم إليه من توحيده، وإفراد الألوهية له، وإخلاص العبادة له ... إلى أن قال: قال ابن زيد: الإنابة: الرجوع إلى الطاعة والنزوع عما كانوا عليه {وَأَسْلِمُوا لَهُ} يقول: واخضعوا له بالطاعة" اهـ2. فتبين من الآيات الثلاث الواردة في السورة في شأن الإنابة، أن الإنابة نوع من أنواع العبادة يجب على العبد أن يحققها ويجعلها من خالص حقه ـ تعالى ـ فلا ينيب إلا إلى ربه، ولا يتوب إلا إليه لأن مغفرة الذنوب من حقه ـ تعالى ـ وليس لأحد سواه من ذلك شيء. الإنابة نوعان: النوع الأول: إنابة لرُبوبيته ـ تعالى ـ وهي إنابة كل المخلوقات وهذا النوع مشترك بين المؤمن والكافر والبر والفاجر قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} 3 فهذا عام في حق كل داع أصابه ضر كما هو الواقع وهذه الإنابة ليس من مستلزماتها الإسلام، بل تجتمع مع الشرك والكفر كما جاء في تمام هذه الآية {ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ} 4 فهذه حالهم بعد الإنابة.   1- تفسير القرآن العظيم 6/84، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 15/244. 2- جامع البيان 24/17. 3- سورة الروم آية: 33. 4- سورة الروم آية: 34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 النوع الثاني: إنابة أولياء الله الموحدين المخلصين المنقادين وهي إنابة لإلهيته، إنابة عبودية، ومحبة وهذه تتضمن أربعة أمور: الأمر الأول: محبة الله ـ تعالى ـ. الأمر الثاني: الخضوع له ـ سبحانه ـ. الأمر الثالث: الإقبال عليه دون سواه. الأمر الرابع: الإعراض عما سواه ـ تعالى ـ. ولا يستحق اسم "المنيب" إلا من اجتمعت فيه هذه الأمور الأربعة وتفسير السلف لهذه "اللفظة يدور على ذلك، وفي اللفظة معنى الإسراع، والرجوع والتقدم و"المنيب" إلى الله المسرع إلى مرضاته الراجع إليه كل وقت، المتقدم إلى محابه"1 اهـ. وعندما نتصفح كتاب الله الذي أنزله الله موعظة للناس وشفاء لما في الصدور وهدى، ورحمة لعباده المؤمنين نجد أن الإنابة أخص وصف أثنى الله به على أنبيائه عليهم الصلاة والسلام، وجعلها ـ سبحانه ـ من أبرز صفات عباده الموحدين. قال تعالى في معرض ثنائه على خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} 2. فلقد وصف الله إبراهيم بثلاث صفات في هذه الآية آخرها الإنابة. وقال تعالى عن نبيه داود عليه الصلاة والسلام: {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} 3. وفي هذه الآية أيضاً: وصف الله نبيه داود عليه الصلاة والسلام بثلاث صفات آخرها الإنابة. وقال تعالى حكاية عن نبيه شعيب عليه الصلاة والسلام: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} 4، وأخبر ـ تعالى ـ أن آيته الدالة على ربوبيته وألوهيته إنما يتبصر بها ويتذكر أهلُ الإنابة قال تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا   1- مدارج السالكين: 1/334. 2- سورة هود آية: 75. 3- سورة ص آية: 24. 4- سورة هود آية: 88. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 مِنْ فُرُوجٍ * وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} 1. وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقاً وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ} 2. وقال تعالى مخاطباً نبيه عليه الصلاة والسلام وأمته تبع له في ذلك: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} 3. فقوله {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} في إعرابها وجهان: الوجه الأول: إما أن تكون منصوبة على الحال من الضمير المستتر في قوله {فَأَقِمْ وَجْهَكَ} إذ الخطاب له ولأمته أي أقم وجهك أنت وأمتك منيبين إليه ومثل هذا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} 4. الوجه الثاني: أن تكون حالاً من المفعول في قوله تعالى: {فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} أي فطرهم منيبين إليه فلو تركوا وفطرهم لما حادت عن الإنابة ولكنها تنحرف وتتغير كما فطرت نتيجة للمؤثرات الخارجية. قال صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه، أو يمجسانه" 5. وقوله عليه الصلاة والسلام: "قال الله تعالى خلقت عبادي حنفاء كلهم وأتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم" 6. وقال صلى الله عليه وسلم: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه فإذا أعرب عنه لسانه إما شاكراً وإما كفوراً" 7. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "فالنفس إذا تركت كانت مقرة لله   1- سورة ق آية: 6 ـ 8. 2- سورة غافر آية: 13. 3- سورة الروم آية: 30، 31. 4- سورة الطلاق آية: 1. 5- رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة ج1/240، صحيح مسلم 4/2047. 6- رواه مسلم من حديث عياض بن حمار المجاشعي: 4/2197. 7- رواه أحمد من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه: 3/353. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 بالإلهية محبة له تعبده لا تشرك به شيئاً ولكن يفسدها ما يزين لها شياطين الإنس والجن بما يوحي بعضهم إلى بعض من الباطل" اهـ1. ولقد أعلمنا ـ سبحانه ـ أن ثوابه العظيم وجنته التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت إنما هي لأهل الخشية والإنابة قال تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ} 2. ومن علامة إسعاد الله ـ تعالى ـ عبده أن يرزقه الإنابة والرجوع إليه ـ سبحانه ـ، ومن علامة الشقاوة للعبد أن يغويه الشيطان فيكون معجباً بعمله ولا ينيب إلى ربه. روى الإمام أحمد رحمه الله تعالى في مسنده من حديث جابر بن عبد الله رضي الله ـ تعالى ـ عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تمنوا الموت فإن هول المطلع شديد، وإن من السعادة أن يطول عمر العبد ويرزقه الله الإنابة"3. مراتب الناس في الإنابة: إن الناس على مراتب في إنابتهم إلى الله ـ تعالى ـ وأنهم فيها على درجات متفاوتة، فهم متنوعين في رجوعهم إلى ربهم الذي خلقهم ورزقهم من حيث الدافع لهم وهم أقسام. القسم الأول: من ينيب إلى الله ـ سبحانه ـ بالرجوع إليه من المخالفات والمعاصي، وهذه الإنابة منبعها مطالعة الوعيد الذي أعده الله للمخالفين العصاة. والباعث عليها العلم والخشية والحذر. القسم الثاني: من الناس من ينيب إلى الله ـ عز وجل ـ بالدخول في أنواع العبادات، والكربات فهذا الصنف يسعى بجد واجتهاد لأن فعل الطاعات وأنواع القربات محبب إليه، وهذه الإنابة مصدرها الرجاء ومطالعة الوعد، والثواب ومحبة الكرامة من الرب ـ سبحانه ـ وهذا الصنف من الناس هم أبسط نفوساً وأشرح من القسم الأول لأن جانب الرجاء ومطالعة   1- مجموع الفتاوى: 14/296. 2- سورة ق آية: 31 ـ 34. 3- المسند 3/332، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 15/270. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 الرحمة والمنة أغلب عليهم وإلا فكل من الفريقين منيب إلى الله بالأمرين معاً ولكن خوف هؤلاء دخل في رجائهم، فأنابوا إلى الله بالعبادات وأنواع القربات والطاعات، ورجاء الفريق الأول اندرج تحت خوفهم فكانت إنابتهم إلى الله بترك المخالفات. القسم الثالث: من الناس من ينيب إلى الله بالدعاء والتضرع والافتقار إليه والرغبة وسؤال الحاجات كلها منه. ومصدر هذه الإنابة أنهم شهدوا الفضل والمنة والغنى والقدرة والكرم فأنزلوا بالله حوائجهم وعلقوا به آمالهم فإنابتهم إلى الله من هذه الجهة مع قيامهم بالأمر والنهي، ولكن إنابتهم الخاصة إنما هي من هذه الجهة، وأما الأعمال التي يعملونها، فلم يرزقوا فيها الإنابة الخاصة وأملهم الإنابة إلى الله عند الشدائد والضراء فقط، فإنابتهم اضطرارية لا إنابة اختيار ورغبة وحالهم كحال الذين قال الله ـ تعالى ـ في شأنهم {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ} 1 وقوله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 2 وهؤلاء كلهم قد تكون نفس أرواحهم منصرفة عن الخالق ـ سبحانه ـ معرضة عنه إلى مألوف طبيعي نفساني صار حائلاً بينها وبين إنابتها بذاتها إلى معبودها الحق وإلهها الحق فهي ملتفتة إلى غيره، ولها إليه إنابة مَّا بحسب ما عندها من الإيمان بالله ومعرفتها له، فأعلى أنواع الإنابات إنابة الروح بجملتها لشدة المحبة الخالصة المغنية لهم عما سوى محبوبهم ومعبودهم، وحين أنابت إليه أرواحهم لم يتخلف منهم شيء عن الإنابة فإذا أناب العبد إلى ربه بروحه إنابة صادق المحبة فإن جميع قواه وجوارحه ستكون منيبة إلى الله نبعاً لروحه. فينيب القلب: بالمحبة والتضرع والذل والإنكسار. وينيب العقل: بانفعاله لأوامر المحبوب ونواهيه وتسليمه لها وتحكيمه إياها دون غيرها، فلم يبق فيه منازعة شبهة معترضة دونها. وتنيب النفس: بالانقياد والانخلاع عن العوائد النفسانية والأخلاق السيئة والإرادات الفاسدة، فتنقاد لأوامر الله، وتخضع له فلم يبق فيها منازعة شهوة تعترضها دون الأمر.   1- سورة الإسراء آية: 67. 2- سورة العنكبوت آية: 65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 وينيب الجسد: في الأعمال ويقوم بها فرائض وسنناً على أكمل الوجوه فلم يبق في العبد عضو ولا جارحة إلا وأناب إنابته الخاصة فعند ذلك لم يبق في العبد المنيب هذه الإنابة عرق ولا مفصل إلا وله إنابة ورجوع إلى الحبيب الحق الذي كل محبة سوى محبته عذاب على صاحبها وإن كانت عذبة في مبادئها فإنها عذاب في عواقبها"1. وخلاصة القول مما تقدم أن من المقطوع به يقيناً أنه لا يوجد في الخلق أجمعين من يعطي، أو يمنع، أو ينفع، أو يضر إلا بإذن الله ولا من يسعد أو يشقي إلا الله، فعلى هذا يكون من غير المعقول ولا المقبول أن ينيب العبد إلى غير الرب ـ سبحانه وتعالى ـ رغبة، أو رهبة، خوفاً أو طمعاً، ولو حصل ذلك كانت الإنابة إلى غير الله ـ سبحانه ـ وتعالى باطلاً وشركاً، وكان من أناب إلى ذلك الغير ابتغاء حصول خير منه، أو خائفاً من سخطه أو عقابه فقد أشرك مع الله غيره فيما هو من خالص حقه ـ سبحانه وتعالى ـ. نسأل الله السلامة من ذلك.   1- انظر طريق الهجرتين وباب السعادتين ص173 ـ 174 بتصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 المبحث الحادي عشر: عبودية التوكل قبل أن أذكر دلالة السورة على عبودية التوكل أذكر تعريفه في اللغة والاصطلاح كما هو الشأن في المباحث التي تقدمت ولكي يفهم الإنسان ـ التوكل ـ الذي فرضه الله على جميع عباده وأمرهم أن يخلصوه له وحده لا شريك له. أما تعريفه في اللغة: فقد جاء في الصحاح: "التوكل إظهار العجز والاعتماد على غيرك والاسم التكلان، واتكلت على فلان في أمري إذا اعتمدته1. وفي اللسان: المتوكل على الله: الذي يعلم أن الله كافل رزقه وأمره فيركن إليه وحده ولا يتوكل على غيره وذكر فيه عن ابن سيدة أنه قال: "وكل بالله، وتوكل عليه، واتكل استسلم إليه، وتكرر في الحديث ذكر التوكل، يقال: توكل بالأمر إذا ضمن القيام به ووكلت أمري إلى فلان أي: ألجأته إليه واعتمدت فيه عليه، ووكل فلان فلاناً إذا استكفأه أمره ثقة بكفايته، أو عجزاً عن القيام بأمر نفسه، ووكل إليه الأمر سلَّمه، ووكله إلى رأيه وكلاً ووكولاً تركه" اهـ2. وجاء في المصباح المنير: "وكلت الأمر إليه "وكلاً" ووكولاً فوضته إليه، واكتفيت به ..... وتوكل على الله اعتمد عليه ووثق به"ا. هـ3. وأما تعريفه اصطلاحاً: فمن خلال معرفة التوكل في اللغة نعرف حقيقة التوكل اصطلاحاً فالتوكل على   1- 5/1845؛ وانظر القاموس 4/67. 2- لسان العرب 11/734، وانظر "فتح الباري" 11/305، تيسير العزيز الحميد ص437. 3- 2/670 . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 الله: هو الثقة به، والاعتماد عليه وتفويض الأمر إليه، والاستعانة به في كل شأن، والإيقان بأن قضاءه نافذ والسعي فيما لا بد منه من المطعم والملبس والمسكن والاحتراس من العدو مطلوب كما هو منهج الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام. قال العلامة ابن القيم معرفاً التوكل: "هو اعتماد القلب على الله وحده، فلا يضره مباشرة الأسباب مع خلو القلب من الاعتماد عليها والركون إليها، كما لا ينفعه قوله: توكلت على الله مع اعتماده على غيره وركونه إليه، وثقته به، فتوكل اللسان شيء وتوكل القلب شيء، كما أن توبة اللسان مع إصرار القلب شيء، وتوبة القلب وإن لم ينطق اللسان شيء فقول العبد: توكلت على الله، مع اعتماد قلبه على غيره مثل قوله: "تبت إلى الله" وهو مصر على معصيته مرتكب لها" اهـ1. ولقد دلت السورة على أن التوكل عبادة تعبد الله به عباده وأمرهم بأن يعتمدوا عليه وحده دون سواه في آيتين منها: قال تعالى: {أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} . وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} . هاتان الآيتان: من السورة بينتا أن الله تعالى هو الكافي وهو الذي يتوكل عليه وحده لا شريك له. فالآية الأولى وهي قوله تعالى: {أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} الآية بين الله تعالى فيها بأنه سيكفي عبده ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم كل ما أهمه في أمر دينه ودنياه ويدفع عنه كل من أراده بسوء كائناً من كان وما دام الله هو الكافي لعبده فمن الضلال والغنيّ أن يخوفه المشركون بأصنامهم وأوثانهم أن تناله بسوء إذ أنها جمادات لا تقدر على جلب نفع أو دفع ضر بحال من الأحوال.   1- الفوائد ص86. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 قال ابن جرير: "اختلف القراء في قراءة {أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} فقرأ ذلك بعض قراء المدينة وقرأ عامة قرّاء الكوفة {أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عِبادَهُ} على الجمع بمعنى أليس الله بكاف محمداً وأنبياءه من قبله ما خوفهم أممهم من أن تنالهم آلهتهم بسوء .... وبعض قراء الكوفة {بِكَافٍ عَبْدَهُ} على التوحيد بمعنى: أليس الله بكاف عبده محمداً ... إلى أن قال: قال ابن زيد في قوله {أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} قال: بلى، والله ليكفينه الله ويعزه وينصره كما وعده" أ. هـ1. وقال ابن كثير: {أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} وقرأ بعضهم {عِِبادَهُ} يعني: أنه ـ تعالى ـ يكفي من عبده وتوكل عليه"أ. هـ2. وقال أبو عبد الله القرطبي "وقراءة العامة {عَبْدَهُ} بالتوحيد يعني محمداً صلى الله عليه وسلم يكفيه الله وعيد المشركين وكيدهم، وقرأ حمزة والكسائي: {عِِبادَهُ} وهم الأنبياء أو الأنبياء والمؤمنون بهم" أ. هـ3. وأما قوله تعالى في الآية الثانية: {قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} أمر الله نبيه بأن يقول: للمشركين بعد أن تبين بالدليل القاطع على أنه وحده المعبود وأنه الخالق لجميع المخلوقات النافع الضار وحده وأن غيره عاجز من جميع الوجوه عن الخلق والنفع والضر مستجلباً كفايته ومستدفعاً مكر المشركين وكيدهم {قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} أي: عليه يعتمد المعتمدون في جلب المصالح ودفع المضار فالله هو الذي بيده وحده الكفاية هو حسبي سيكفيني كل ما أهمني وما لا أهتم به. قال ابن جرير: "فقل حسبي الله مما سواه من الأشياء كلها إياه أعبد وإليه أفزع في أموري دون كل شيء سواه فإنه الكافي وبيده الضر والنفع لا إلى الأصنام والأوثان التي لا تضر ولا تنفع. {عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} يقول: على الله يتوكل من هو متوكل وبه فليتق لا بغيره" أ. هـ4. وقال الرازي: حول الآية: "وإذا ثبت أن هذه الأصنام لا قدرة لها على الخير والشر وإذا كان الأمر كذلك كانت عبادة لله كافية، وكان الاعتماد عليه كافياً وهو المراد من قوله:   1- جامع البيان 24/5 ـ 6. 2- تفسير القرآن العظيم 6/94. 3- الجامع لأحكام القرآن 5/257. 4- جامع البيان 24/7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 {قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} فإذا ثبت هذا الأصل لم يلتفت العاقل إلى تخويف المشركين فكان المقصود من هذه الآية هو التنبيه على الجواب فما ذكره الله تعالى قبل هذه الآية وهو قوله ـ تعالى ـ {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} أ. هـ1. ومما تقدم يتبين لنا أن المشركين لو حكموا عقولهم في شأن أصنامهم لعرفوا أن تخويفهم الرسول صلى الله عليه وسلم بها لا قيمة له ولا معنى، إذ هم يعلمون أنها لا تقدر على جلب النفع ولا تدفع الضر بحال ولذلك جاء الوحي الإلهي بأنه لا كافي إلا الله، ولا قادر على كل شيء سواه، ولا عالم بكل شيء غيره، وبذلك كان التوكل على غير الله باطلاً وشركاً فالسورة بينت بأن الكفاية لله وحده والاعتماد عليه دون سواه لأنه القادر على كل شيء، والمحيط بكل شيء علماً. ولقد فرض الله التوكل على عباده وأوجب عليهم أن يخلصوه له وحده لا شريك له لأنه من أفضل العبادات ومن أجل مقامات الدين ولا يوفق للقيام به على وجه الكمال إلا أولياء الله وحزبه المؤمنون ومما يدل على فرضيته أن الله ـ تعالى ـ أمر به في مواضع كثيرة من كتابه المنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم. قال ـ تعالى ـ {وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 2. قال ابن القيم: فجعل التوكل على الله شرطاً في الإيمان فدل على انتفاء الإيمان عند انتفائه. أ. هـ3. قال صاحب قرة عيون الموحدين4 حول شرحه للآية السابقة "وأراد المصنف بهذه الترجمة بالآية بيان أن التوكل فريضة يجب إخلاصه لله لأنه من أجمع أنواع العبادة الباطنة فإن تقديم المعمول يفيد الحصر فلا يحصل كمال التوحيد بأنواعه الثلاثة إلا بكمال التوكل على الله كما في هذه الآية" أ. هـ5. ومما دل على فرضية التوكل أن المولى ـ سبحانه ـ جعله من شروط صحة الإسلام والإيمان، والمفهوم من ذلك انتفاء الإسلام، والإيمان عند عدم التوكل قال الله تعالى فيما   1- التفسير الكبير 26/282. 2- سورة المائدة آية: 23. 3- طريق الهجرتين ص255. 4- هو عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ. 5- قرة عيون الموحدين ص204. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 حكاه عن نبيه موسى عليه السلام: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} 1. وقال تعالى: {وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 2. فهاتان الآيتان دلتا على أن صحة الإسلام والإيمان متوقفة على صحة التوكل. وقال تعالى: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} 3. وهذه الآية فيها الأمر بالتوكل على الله، وأردف هذا الأمر بما هو الموجب للتوكل والمصحح له وذلك ما تضمنه قوله تعالى: {إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} فإن العبد إذا اتبع الحق وسار عليه كان مقتضى ذلك تحقيق مقام التوكل على الله ـ عز وجل ـ والاكتفاء به، والإيواء إليه دون سواه فإنه ـ تعالى ـ هو الحق وهو ولي الحق وناصره وكافي من قام به، فعلى صاحب الحق أن يقوي توكله على الله، ولا يخاف لأنه على الحق، ويقتدي بالرسل الكرام الذين قال الله عنهم {وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا} 4 فتعجبوا من تركهم التوكل على رب العالمين وقد منَّ عليهم بالهداية، وأخبروا بأن ذلك لا يكون أبداً وهذا من أبرز الأدلة على أن الهداية والتوكل متلازمان. وقال تعالى: {وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} 5 "في هذه الآية دليل على أن التوكل على الله عبادة، وعلى أنه فرض، وإذا كان كذلك فصرفه لغير الله شرك"أ. هـ6. ولقد جمع الله في كتابه العزيز بين التوكل والعبادة، وبين التوكل والإيمان وبين التوكل والإسلام، وبين التوكل والتقوى، وبين التوكل والهداية، وما ذلك إلا لتأكيد عبودية التوكل على كل إنسان، وليعلم أن التوكل أصل لجميع مقامات الإيمان والإحسان، ولجميع أعمال الإسلام، وأن منزلته منها منزلة الجسد من الرأس فكما لا يقوم الرأس إلا على البدن فكذلك لا يقوم الإيمان ومقاماته وأعماله إلا على ساق التوكل.   1- سورة يونس آية: 84. 2- سورة المائدة آية: 23. 3- سورة النمل آية: 79. 4- سورة إبراهيم آية: 12. 5- سورة إبراهيم آية: 11. 6- تيسير العزيز الحميد ص439. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 أما الجمع بين التوكل والعبادة فقد ورد في كتاب الله ـ تعالى ـ في مواضع سبعة. أحدها: في أم القرآن قال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 1. ثانيها: ما حكاه الله من نبيه شعيب عليه السلام {وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ} 2. ثالثها: ما حكاه الله عن أوليائه وعباده المؤمنين حيث قالوا: {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} 3. رابعها: قول الباري ـ سبحانه ـ مخاطباً خاتم الأنبياء والمرسلين {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً. رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} 4. خامسها: قوله تعالى: {وَللهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} 5. سادسها: قوله ـ سبحانه وتعالى ـ {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} 6. سابعها: قوله تعالى: {قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} 7. فهذه سبعة مواضع جمع الله فيها بين الوسيلة والغاية فالوسيلة هي التوكل والغاية هي الإنابة، فإن الإنسان لا بد له من غاية يطلبها، ووسيلة توصله إلى تلك الغاية، وأشرف غاية للإنسان وأجها في هذه الحياة هي أن يعبد ربه وينيب إليه، ومن أعظم الوسائل التي لا وسيلة سواها البتة أن يتوكل العبد على الله ويستعين به، ولا سبيل له إلى تحقيق عبودية الله والإنابة إليه إلا بهذه الوسيلة.   1- سورة الفاتحة آية: 5. 2- سورة هود آية: 88. 3- سورة الممتحنة آية: 4. 4- سورة المزمل آية: 8 ـ 9. 5- سورة هود آية: 123. 6- سورة الحج آية: 78. 7- سورة الرعد آية: 30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 وأما الجمع بين التوكل والإيمان فكقوله ـ سبحانه وتعالى ـ {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} 1. وقوله: {اللهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} 2. قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: "فذكر اسم الإيمان هنا دون سائر أسمائهم دليل على استدعاء الإيمان للتوكل، وأن قوة التوكل وضعفه بحسب قوة الإيمان وضعفه، وكلما قوي إيمان العبد كان توكله أقوى، وإذا ضعف الإيمان ضعف التوكل، وإذا كان التوكل ضعيفاً فهو دليل على ضعف الإيمان ولا بد" أ. هـ3. وأما الجمع بين التوكل والإسلام: فمثل قوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} 4. ومثال الجمع بين التوكل والتقوى: ففي قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} 5. وأما اقتران التوكل بالهداية ففي قول رسل الله عليهم الصلاة والسلام لأممهم {وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا} 6. فالعبد إذا سلك طريق الحق والهدى يكون قوياً في توكله على ربه ـ تبارك تعالى ـ ومن اعتمد على ربه كفاه كلما أهمه وما لم يهمه قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} 7 "أي: الله وحده كافيك وكافي أتباعك فلا تحتاجون معه إلى أحد". وقيل: المعنى حسبك الله وحسبك المؤمنون، وهذا خطأ محض لا يجوز حمل الآية   1- سورة الملك آية: 29. 2- سورة التغابن آية: 13. 3- طريق الهجرتين ص255. 4- سورة يونس آية: 84. 5- سورة الطلاق آية: 2 ـ 3. 6- سورة إبراهيم آية: 12. 7- سورة الأنفال آية: 64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 عليه فإن الحسب والكفاية لله ـ وحده ـ كالتوكل والتقوى والعبادة قال تعالى: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} 1. ففرق بين الحسب والتأييد فجعل الحسب له وحده وجعل التأييد له بنصره وبعباده، وأثنى على أهل التوحيد من عباده حيث أفروده بالحسب فقال تعالى {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} 2. ولم يقولوا: حسبنا الله ورسوله فإذا كان هذا قولهم ومدح الرب ـ تعالى ـ لهم بذلك فكيف يقوله لرسوله: الله وأتباعك حسبك؟ وأتباعه قد أفردوه بالحسب ولم يشركوا بينه وبين رسوله صلى الله عليه وسلم هذا من أمحل المحال وأبطل الباطل، ونظير هذا قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ رَاغِبُونَ} 3. وتأمل كيف جعل الإيتاء لله ولرسوله كما قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} 4 وجعل الحسب وحده فلم يقل: وقالوا حسبنا الله ورسوله بل جعله خالص حقه كما قال تعالى: {إِنَّا إِلَى اللهِ رَاغِبُونَ} 5 ولم يقل وإلى رسوله بل جعل الرغبة إليه ـ وحده ـ كما قال تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ. وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} 6 فالرغبة، والتوكل والإنابة، والحسب لله ـ وحده ـ كما أن العبادة والتقوى والسجود لله ـ وحده ـ والنذر والحلف لا يكون إلا له ـ سبحانه وتعالى ـ"أ. هـ7. أقسام التوكل على الله ـ تعالى ـ: التوكل على الله ـ تعالى ـ نوعان: أحدهما: توكل عليه في جلب حوائج العبد وحظوظه الدنيوية أو دفع مكروهاته ومصائبه الدنيوية. وهذا النوع وإن لم تكن غايته المطلوبة عبادة لأنها محض حق العبد إلا أن التوكل على الله في حصولها عبادة لأن العبد أنشأها لمصلحة دينه ودنياه.   1- سورة الأنفال آية: 62. 2- سورة آل عمران آية: 173. 3- سورة التوبة آية: 59. 4- سورة الحشر آية: 7. 5- سورة التوبة آية: 59. 6- سورة الانشراح آية: 7 ـ 8. 7- زاد المعاد 1/16 ـ 17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 الثاني: "التوكل عليه في حصول ما يحبه هو ويرضاه من الإيمان واليقين والجهاد والدعوة إليه. فغاية هذا النوع عبادة، وهو في نفيه عبادة فإن العبد استعان بالله على ما يرضيه فصاحبه متحقق بإياك نعبد وإياك نستعين فمن تركه فقد ترك شطر دينه، وبين هذين النوعين من الفضل ما لا يحصيه إلا الله ـ تعالى ـ فمتى توكل عليه العبد في النوع الثاني حق توكله كفاه النوع الأول تمام الكفاية. ومتى توكل عليه من النوع الأول دون الثاني كفاه أيضاً، لكن لا يكون له عاقبة المتوكل فيما يحبه ويرضاه، فأعظم التوكل عليه التوكل في الهداية وتجريد التوحيد ومتابعة الرسول وجهاد أهل الباطل، فهذا توكل الرسل وخاصة أتباعهم"1. وأما التوكل على غير الله ـ تعالى ـ فهو أيضاً نوعان: أحدهما: التوكل في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله كالذين يتوكلون على الأموات والغائبين في رجاء تحقيق المطالب من الرزق والنصر والحفظ والشفاعة فهذا من الشرك الأكبر الذي لا يغفر إلا بالتوبة النصوح. الثاني: التوكل على الأحياء الحاضرين من ولاة الأمور ونحوهم فيما لهم قدرة عليه من رزق أو دفع أذى ونحو ذلك فهذا شرك حتمي في الأسباب العادية الظاهرة، وهو أيضاً نوع شرك أصغر. والوكالة الجائزة هي توكيل الإنسان أخاه في فعل ما يقدر عليه نيابة عنه ولكن ليس الإعتماد عليه في حصول ما وكل فيه بل يتوكل على الله في تيسير أمره الذي يطلبه بنفسه أو نائبه وذلك من جملة الأسباب التي يجوز فعلها ولا يعتمد عليه بل يعتمد على المسبِّب الذي أوجد السبب والمسبب"2. وللتوكل على الله ـ تعالى ـ فضل عظيم وثواب جزيل في الدنيا والآخرة وقد جاء في الكتاب والسنة الكثير من ذلك. فمن فضائله أن صاحبه موسوم بمحبة الباري ـ سبحانه وتعالى ـ وأكرم بمقام موسوم   1- الفوائد ص85 ـ 86، طريق الهجرتين ص262. 2- تيسير العزيز الحميد 439، وانظر قرة عيون الموحدين ص205، وانظر فتح المجيد ص290. ط: السلفية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 صاحبه بمحبة الله ـ عز وجل ـ قال تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} 1، ومن أحبه الله ـ تعالى ـ ناله كل خير، ومن أبغضه فأي خير يناله؟ ومن فضائله أن الله ـ تعالى ـ ضمن الكفاية لمن توكل عليه. قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} 2 ومن كان الله حسبه وكافيه ومراعيه فقد ظفر بفوز عظيم، فالله وحده هو الذي تطلب منه الكفاية ـ وحده ـ ومن طلبها من غيره له الخيبة والخسران. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "والتوكل عليه هو الإستعانة به فمن يتق الله مثال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ومن يتوكل عليه مثال {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} كما قال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} 3 وقال: {عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا} 4 ... إلى أن قال: وأما التوكل فبين أن الله حسبه أي كافيه وفي هذا بيان التوكل على الله من حيث أن الله يكفي المتوكل عليه كما قال: {أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} خلافاً لمن قال: ليس في التوكل إلا التفويض والرضا" أ. هـ5. وعلى هذا نقول: فمن كفاه الله ـ تعالى ـ ووقاه فلا يكون هناك سبيل لعدوه في أن يطمع في الإضرار به، أو التنكيل به لأنه جعل الله ملجأه ومعاذه فهو الذي يكفيه كل مهمة ويصرف عنه كل بلية. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "وأخبر: أن كفايته لهم مقرونة بتوكلهم عليه وأنه كاف من توكل عليه وحسبه وجعل لكل عمل من أعمال البر ومقام من مقاماته جزاءاً معلوماً، وجعل نفسه جزاء المتوكل عليه وكفايته فقال {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} 6. {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ} 7 {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ   1- سورة آل عمران آية: 159. 2- سورة الطلاق آية: 2، 3. 3- سورة هود آية: 3 12. 4- سورة الممتحنة آية: 4. 5- مجموع الفتاوى 16/55 ـ 56. 6- سورة الطلاق آية: 2. 7- سورة الطلاق آية: 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 يُسْراً} 1 ... ثم قال في التوكل {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} 2 فانظر إلى هذا الجزاء الذي حصل للمتوكل ولم يجعله لغيره، وهذا يدل على أن التوكل أقوى السبل عنده وأحبها إليه وليس كونه وكل الأمور إلى نفسه لأن العبد إذا علم ذلك وتحققه معرفة: صارت حالة التوكل قطعاً على من هذا شأنه لعلمه بأن الأمور كلها موكولة إليه، وأن العبد لا يملك شيئاً منها" اهـ3. ومن فضائله أنه من صفات أولياء الله وخاصته وهم المؤمنون به حقاً: وفي مقدمتهم أنبياء الله ورسله قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} 4 فهذه الآية فيها دليل على انحصار المؤمنين الكمل فيمن تلبس بهذه الصفة. قال ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية: "المنافقون لا يدخل في قلوبهم شيء من ذكر الله عند أداء فرائضه، ولا يؤمنون بشيء من آيات الله، ولا يتوكلون على الله، ولا يصلون إذا غابوا، ولا يؤدون زكاة أموالهم، فأخبر الله أنهم ليسوا بمؤمنين، ثم وصف المؤمنين فقال {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} . يقول: تصديقاً. {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} يقول: لا يرجون غيره. أ. هـ5. وقوله تعالى: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} يبين بأن المؤمنين لا يعتمدون بقلوبهم إلا على ربهم ويفوضون إليه جميع أمورهم، فلا يرجون سواه ولا يقصدون إلا إياه ولا يرغبون إلا إليه مع يقينهم بأن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وأنه صاحب التصرف في الملك وحده والمستحق للعبادة دون سواه. وقال في فتح المجيد: "وفي الآية وصف المؤمنين حقاً بثلاث مقامات من مقامات الإحسان وهي: الخوف، وزيادة الإيمان، والتوكل على الله وحده وهذه المقامات تقتضي كمال الإيمان، وحصول أعماله الباطنة والظاهرة" اهـ6.   1- سورة الطلاق آية: 4. 2- سورة الطلاق آية: 3. 3- مدارج السالكين 2/128. 4- سورة الأنفال آية: 2. 5- جامع البيان 9/178 ـ 179. 6- ص363. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 وقال تعالى في وصفه رسله وأنبياءه بالتوكل عليه: {وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا} 1 دلت هذه الآية على أن الجمع بين التوكل والهداية من تحقق الإيمان، ومصيبة الإنسان إما من عدم الهداية وإما من عدم توكله على الله، كما دلت أيضاً على أن الرسل عليهم الصلاة والسلام كان حالهم التوكل على الله وحده، والقرآن مملؤ بذكر التوكل إما أمراً به، وإما إخباراً عن خاصة الله وأوليائه وهم المؤمنون بأنهم حققوا عبودية التوكل، وقد أمر الله نبيه وخاتم رسله بالتوكل عليه في مواضع كثيرة من كتابه وسماه المتوكل كما روى ذلك البخاري من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن هذه الآية التي في القرآن {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} 2 قال في التوراة: "يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً وحرزاً للأميين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ3 ولا سخاب4 بالأسواق ... " الحديث5. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن السبعين الألف الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب بأن لهم النصيب الأوفر في تحقيق مقام التوكل. روى البخاري في صحيحه بإسناده إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً بغير حساب. هم الذين لا يسترقون، ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون" 6. قال ابن القيم رحمه الله تعالى حول هذا الحديث: "إن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الوصف الذي يستحق به هؤلاء هو دخول الجنة بغير حساب هو تحقيق التوحيد وتجريده فلا يسألون غيرهم أن يرقيهم ولا يتطيَّرون وعلى ربهم يتوكلون، والطِّيرة نوع من الشرك، ويتوكلون   1- سورة إبراهيم آية: 12. 2- سورة الأحزاب آية: 45. 3- الفظ: سيء الخلق، وفلان أفظ من فلان أي أصعب خلقاً ـ والمراد هنا: أنه صلى الله عليه وسلم رفيقاً بأمته في التبليغ غير فظ ولا غليظ. النهاية 3/459. 4- السَّخب والصخب: بمعنى الصياح. النهاية 2/349. 5- صحيح البخاري 3/189 ـ 190، المسند 2/174. 6- صحيح البخاري مع الفتح 11/305. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 على الله وحده لا على غيره وتركهم الإسترقاء والتطير هو من تمام التوكل على الله" اهـ1. وجاء في قرة عيون الموحدين عقب قوله صلى الله عليه وسلم: "هم الذين لا سيسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون" أي: لا يطلبون الرقية من أحد ولا يكتوون إذا كان فيهم ما يشتفي بالكي منه، ولا يتطيرون، والطيرة شرك فتركوا الشرك رأساً ولم يُنزلوا حوائجهم بأحد فيسألوه الرقية فما فوقها وتركوا الكي، وإن كان يراد للشفاء، والحامل لهم على ذلك قوة توكلهم على الله وتفويضهم أمورهم إليه، وأن لا تتعلق قلوبهم بشيء سواه في ضمن ما دبَّره وقضاه، فلا يرغبون إلا إلى ربهم، ولا يرهبون سواه، ويعتقدون أن ما أصابهم بقدره واختياره لهم فلا يفزعون إلا إليه وحده في كشف ضرهم قال تعالى عن يعقوب عليه السلام: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ} 2 فالحديث بيّن فيه النبي صلى الله عليه وسلم أن السبعين الألف حققوا مقام التوحيد الذي بعث الله الرسل من أجله وهو: أن يفرد ـ سبحانه ـ بالعبادة وحده لا شريك له، ومن أبرز صفاتهم الإيمانية التي اتصفوا بها أنهم لا يسألون غيرهم أن يرقيهم، ولا يكويهم، ولا يتشاءمون بالطيور كما كان يفعله أهل الجاهلية، وأنهم يتوكلون على ربهم ويعتمدون عليه في جميع أمورهم. وجاء في تيسير العزيز الحميد عند قوله: "وعلى ربهم يتوكلون" ذكر الأصل الجامع الذي تفرعت عنه هذه الأفعال وهو التوكل على الله، وصدق الإلتجاء إليه والإعتماد بالقلب عليه الذي هو خلاصة التفريد ونهاية تحقيق التوحيد الذي يثمر كل مقام شريف من المحبة والخوف والرجاء والرضى به رباً وإلهاً والرضى بقضائه بل ربما أوصل العبد إلى التلذذ بالبلاء. اهـ3. وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على إفراد الله ـ تعالى ـ بعبودية التوكل وأنه لا يعتمد العبد إلا على الله ـ وحده ـ لا شريك له. روى الشيخان بإسنادهما إلى ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "اللهم لك أسلمت وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت وبك خاصمت اللهم   1- حادي الأرواح ص89. 2- قرة عيون الموحدين ص36 والآية رقم 86 من سورة يوسف. 3- ص86. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 إني أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني أنت الحي الذي لا يموت والجن والإنس يموتون"1. وروى البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنها قال: "حسبنا الله ونعم الوكيل" قالها إبراهيم حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا له: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} 2. قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب: قوله: "وقالها محمد صلى الله عليه وسلم ... الخ" وذلك بعد ما كان من أمر أُحُد ما كان بلغ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن أبا سفيان ومن معه قد أجمعوا الكرة عليهم فخرج النبي صلى الله عليه وسلم ومعه جماعة من الصحابة حتى انتهى إلى حمراء الأسد وهي من المدينة على ثلاثة أميال، ثم ألقى الله الرعب في قلب أبي سفيان، فرجع إلى مكة ومر به ركب من عبد القيس فقال: أين تريدون؟ فقالوا: نريد المدينة قال: فهل أنتم مبلغون عني محمداً رسالة أرسلكم بها إليه؟ قالوا: نعم. قال: فإذا وافيتموه فأخبروه أنا قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم فمرَّ الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد فأخبروه بالذي قال أبو سفيان وأصحابه فقال: {حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} 3. "وروى الترمذي في جامعه عن عمر مرفوعاً: لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما ترزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً"4. ومعنى هذا أنه لا بد من الحركة والسعي في طلب الرزق فقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن الطير تصبح جائعة ضامرة البطون ليس في حواصلها شيء من الطعام وترجع آخر النهار وقد امتلأت بطونها من رزق الله ـ تعالى ـ فالذي يجلس في بيته، أو في مسجده ويظن أن رزقه سيأتيه وهو متلبس بالعجز والكسل هذا إنسان جهل ما في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في شأن التوكل.   1- صحيح البخاري مع الفتح 13/368 ـ 369، صحيح مسلم 4/2086، المسند 1/302. 2- صحيح البخاري 3/114. 3- تيسير العزيز الحميد ص444 والآية رقم 173 من سورة آل عمران. 4- سنن الترمذي 4/4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال ـ يعني إذا خرج من بيته ـ بسم الله توكلت على الله. ولا حول ولا قوة إلا بالله يقال له: هديت ووقيت وكفيت ـ فيقول الشيطان لشيطان آخر: كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي ... ؟ " 1. وبالجملة فإنه ورد الكثير من النصوص في الكتاب والسنة في بيان فضل التوكل على الله وإخلاصه لله ـ وحده لا شريك له ـ فما على العبد إلا أن يسعى جاهداً في تحقيق عبودية التوكل ويفوض أمره إلى الله ويعتمد عليه وحده ويحسن ظنه بربه، وعلى قدر حسن ظن العبد بربه ورجائه له يكون توكله عليه، وذلك لأن حسن الظن بالله يدعو العبد إلى التوكل عليه، ولا يمكن حصول التوكل على من ساء ظنه به، ولا يمكن التوكل على من لا يرجوه. ولا يتحقق التوكل إلا بأمرين: أحدهما: علم القلب ومعناه: أن يكون موقناً بكفاية الله الذي توكل عليه وكمال قيامه بما وكله إليه، وأن غير الله لا يقوم مقامه في ذلك بحال فلا بد من معرفة الرب ـ تعالى ـ ومعرفة صفاته من القدرة والكفاية والقيومية وانتهاء جميع الأمور إلى علمه ـ تعالى ـ وصدورها عن مشيئته وقدرته، فهذه المعرفة هي أول خطوة يحقق بها العبد عبودية التوكل، فلا يتصور التوكل ممن أنكر صفات الله ـ تعالى ـ كما لا يمكن أن يكون ممن يعتقد بأنه يقع في ملك الله ما لا يشاء إذن فلا يحصل التوكل إلا ممن أثبت لله ما أثبته لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم دون تكييف أو تعطيل، فالذي يقول إن الله لا يعلم جزئيات العالم سفليه وعلويه، أو يقول أن الله ليس فاعلاً باختياره، وليس له إرادة ومشيئة ولا تقوم به صفة من أين يصح توكله؟ إذن لا بد للعبد أن يكون على علم ومعرفة بالرب ـ سبحانه وتعالى ـ وما يليق به من صفات جلاله وعظيم سلطانه حتى يصح توكله، ويكون قوياً. الأمر الثاني: الذي يتحقق به التوكل. عمل القلب، ومعناه: أن يسكن إلى وكيله ويطمئن إليه ويفوضه ويسلم الأمر إليه ويرضى بتصرفه له فوق رضاه بتصرفه هو لنفسه فبالأصلين المذكورين يتحقق التوكل، وهما لبه، وإن كان التوكل داخلاً في عمل القلب من ناحية علمه بالله ـ تعالى ـ قال الإمام   1- سنن أبي داود 2/619. ورواه الترمذي 5/154. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 أحمد: "التوكل عمل القلب1 ولكن لا يتحقق إلا بالعلم: إذ العلم إما شرط فيه وإما جزء من ماهيته، والمقصود إن القلب متى كان على الحق تعظم طمأنينته ووثوقه بالله، وإذا كان منحرفاً مائلاً إلى الباطل علماً وعملاً، أو أصيب بأحدهما فإن ثقته واطمئنانه بالله معرَّضان للزوال فيكون لا ضمان له عند الله ولا عهد له عنده"2. نعوذ بالله من ذلك. التوكل والأسباب: إن التوكل على الله تعالى لا ينافي اتخاذ الأسباب بل إن التوكل لا يتم إلا إذا اتخذ الإنسان لكل عملٍ يريده الأسباب التي توصله إلى تحقيقه فالله سبحانه وتعالى قد ربط المسببات بأسبابها. بل إن الإنسان ينساق إلى الأخذ بالأسباب بمقتضى فطرته وبمقتضى التكليف الشرعي فإذا قال الإنسان أنا متوكل على الله في تحصيل رزقي ولم يتخذ الأسباب التي توصله إلى ذلك وتحقق له مطلبه فهو مخالف للفطرة ومخالف لشرع الله الذي جاء الأمر فيه باتخاذ الأسباب قال تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} 3. وقال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ} 4. وقال سبحانه وتعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} 5. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً} 6 وغيرها من الآيات كثير في الأمر بالأخذ بالأسباب مع التوكل على الله في إتمام الأمور التي يسعى العبد في تحصيلها لأن التوكل من أعظم الأسباب وأنفعها في دفع المضار وجلب المنافع، فلا بد من الأخذ بالأسباب التي توصل الإنسان إلى تحقيق حاجاته والحصول على مطالبه، ومن قال بنفي الأسباب فتوكله مشوب ومدخول.   1- طريق الهجرتين وباب السعادتين ص257. 2- طريق الهجرتين ص257 وانظر مدارج السالكين م2/117 ـ 118، ص 120 ـ 121. 3- سورة الملك آية: 15. 4- سورة الأنفال آية: 60. 5- سورة البقرة آية: 197. 6- سورة النساء آية: 71. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 قال ابن القيم: فاعلم أن نفاة الأسباب لا يستقيم لهم توكل ألبتة لأن التوكل من أقوى الأسباب في حصول المتوكل فيه فهو كالدعاء الذي جعله الله سبباً في حصول المدعو به" اهـ1. وقد اقتضت حكمة أحكم الحاكمين ربط المسببات بأسبابها، فلا يجوز للإنسان تعطيلها مهما أمكنه القيام بها، فإذا فعلها عبودية يكون قد أتى بعبودية القلب بالتوكل وعبودية الجوارح بالسبب المنوي به القربة. وتحقيق التوكل موقوف على القيام بالأسباب المأمور بها، فمن عطلها لم يصح توكله، كما أن القيام بالأسباب المفضية إلى حصول الخير يحقق رجاءه فمن لم يقم بها كان رجاؤه تمنياً، كما أن من عطلها يكون توكله عجزاً، وعجزه توكلاً لله2 فالتارك للأسباب المطلوبة منه شرعاً وعقلاً ويقول: إن كان قضي لي وسبق في الأزل حصول الولد فإنه آت لا محالة ولو لم أتزوج فهذا لا شك أنه يكون موقع إنكار الناس بل ربما يقال فيه إنه ليس من جملة العقلاء وأن البهائم أفهم منه فإن الواقع المشاهد من حال الحيوان أنه يسعى في تحصيل رزقه بالهداية العامة التي منحها الله جميع خلقه. جاء في فتح المجيد: عند قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} 3 فجعل التوكل مع التقوى الذي هو قيام الأسباب المأمور بها فالتوكل بدون القيام بالأسباب المأمور بها عجز محض وإن كان مشوباً بنوع من التوكل فلا ينبغي للعبد أن يجعل توكله عجزاً ولا عجزه توكلاً بل يجعل توكله من جملة الأسباب التي لا يتم المقصود إلا بها كلها. اهـ4. ومما تقدم نجزم بأنه لا يجوز التخلي عن الأسباب بحال لأن ذلك ممنوع عقلاً وشرعاً وحسَّاً فالرسول صلى الله عليه وسلم هو سيد المتوكلين وإمام المتقين عندما خرج من مكة استأجر دليلاً ليدله على الطريق وكان الدليل مشركاً على دين قومه5 وحضر غزوة أحد بين درعين،   1- مدارج السالكين 2/118. 2- الفوائد ص86. 3- سورة المائدة آية: 11. 4- ص 365 ط: السلفية، تيسير العزيز الحميد 443. 5- انظر صحيح البخاري 2/33 من حديث عائشة رضي الله عنها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 ولم يذكر أنه حضر الصف قط عرياناً1 وكفى به صلى الله عليه وسلم قدوةً في تحقيق عبودية التوكل وبيان كيفيته، وكان عليه الصلاة والسلام يدخر لأهله قوت سنة2 وكان إذا خرج مسافراً للجهاد أو للعمرة أو للحج حمل معه الزاد وكذلك الصحابة رضي الله عنهم، وهم أولو التوكل حقاً، ومن جاء بعد الصحابة ووفقه الله بأن وصل إلى القمة في التوكل إنما اشتم رائحة توكلهم من مسافة بعيدة، أو عثر على أثر من غبارهم، فحال النبي صلى الله عليه وسلم، وحال أصحابه هي الميزان الذي يقوم به حال من بعدهم، وعلى ضوء ذلك تعرف الأحوال الصحيحة من السقيمة، ولا يفوتنا أيضاً أن نقول: إن التوكل الذي كان في قلوب الصحابة كان سبباً في تبصير القلوب، وأن يعبد الله في جميع البلاد، وأن يوحده جميع العباد، فملئوا بتوكلهم القلوب هدى وإيماناً، وكانت هِمَمُهم عالية فكان أحدهم لا يصرف قوة توكله واعتماده على الله في أمر يحصل عليه بأقل حيلة وسعي، وإنما كانوا يتوكلون في الأمور العظيمة مثل فتح البلدان، والنصر على الأعداء، وتوطيد عقيدة التوحيد في كل مكان فرضي الله عنهم وأرضاهم3، وعلى ضوء هذا نقول: إن من يطعن في متخذي الأسباب مع التوكل فإنما يطعن بالدرجة الأولى في نبي الهدى صلى الله عليه وسلم وصحابته من بعده، ومن طعن في أولئك فليتهم نفسه بأنه على غير ملة الإسلام. قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب عند شرحه لحديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب: "واعلم أن الحديث لا يدل على أنهم لا يباشرون الأسباب أصلاً كما يظنه بعض الجهلة فإن مباشرة الأسباب في الجملة أمر فطري ضروري لا انفكاك لأحد عنه حتى الحيوان البهيم، بل نفس التوكل مباشرة لأعظم الأسباب كما قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} 4 أي كافيه وإنما المراد أنهم يتركون الأمور المكروهة مع حاجتهم إليها كالاسترقاء والاكتواء فتركهم له ليس لكونه سبباً لكن لكونه سبباً مكروهاً لا سيما المريض يتشبث بما يظنه سبباً لشفائه بخيط العنكبوت، أما نفس مباشرة الأسباب والتداوي على وجه لا كراهية فيه فغير قادح في التوكل فلا يكون تركه   1- ذكره الترمذي في سننه 3/119 من حديث الزبير بن العوام وابن ماجة 2/938. 2- رواه البخاري في صحيحه 3/287 من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. 3- انظر مدارج السالكين 2/134 ـ 135 بتصرف. 4- سورة الطلاق آية: 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 مشروعاً كما في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: "ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء" أ. هـ1 والذي نخلص إليه مما تقدم أن التوكل عبادة تعبد الله به عباده وأمرهم جميعاً بأن يخلصوه له وحده لا شريك له، وأن التوكل لا يتنافى مع الأسباب لأن الشرع أثبت الأسباب والمسببات وحكم على قول من أنكرها بالبطلان والفساد فالشرع جاء بالأمر بالتداوي2، ولا ينافي ذلك توكل الإنسان على ربه لأن التداوي من الأسباب المشروعة التي أباحها الله ـ تعالى ـ بل لا يكمل للعبد توحيده إلا بمباشرة الأسباب التي جعلها الله مقتضية لمسبباتها كوناً وشرعاً، وتعطيل الأسباب يقدح في التوكل، كما يقدح في أمر الله وحكمته البالغة، فالإنسان يتوكل على الله في كل أموره مع مباشرة الأسباب ولا يعتمد عليها بل يجعل قلبه متعلقاً بربه الذي له الفضل في إيجاد السبب والمسبب.   1- تيسير العزيز الحميد ص86/ والحديث في صحيح البخاري 4/8. 2- انظر سنن ابن ماجة 2/1137، المسند 4/278. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 المبحث الثاني عشر: الشفاعة نوعان: منفية ومثبتة لقد جاء في السورة أن الأمر الوحيد الذي أوقع المشركين في الإشراك بالله ـ تعالى ـ إنما كان نتيجة تعلقهم بأن معبوداتهم التي يوجهون لها العبادة من دون الله تشفع لهم عند الله وتقربهم إليه زلفى، كما أوضحت أن الشفاعة نوعان شفاعة منفية، وشفاعة مثبتة، وقبل إيراد الآيات التي وردت في السورة لبيان ذلك نبين حقيقة الشفاعة في اللغة، والاصطلاح. أما الشفاعة في اللغة: فقد جاء في الصحاح للجوهري: "الشفع خلاف الوتر وهو خلاف الوتر تقول: كان وتراً فشفعته شفعاً .... واستشفعته إلى فلان، أي سألته أن يشفع لي إليه، وتشفَّعت إليه في فلان فشفعني فيه تشفيعاً"1. وفي القاموس: "الشفع خلاف الوتر وهو الزوج وقد شفعه كمنعه ... إلى أن قال: وعين شافعة تنظر نظرين، وشفعت لي الأشباح بالضم أي أرى الشخص شخصين لضعف بصري وانتشاره" أ. هـ2. وجاء في اللسان: "الشفع خلاف الوتر وهو الزوج تقول: كان وتراً فشفعته شفعاً وشفع الوتر من العدد شفعاً صيَّره زوجاً"3.   1- 3/1238. 2- 3/47 . 3- 8/183 ، وانظر المعجم الوسيط 1/487، الجامع لأحكام القرآن 1/378. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 وجاء في النهاية لابن الأثير: "ومنه الشُّفعة ـ بالضم ـ وهي مشتقة من الزيادة لأن الشفيع يضم المبيع إلى ملكه فيشفعه به كأنه كان واحداً وتراً فصار زوجاً شفعاً"1. وقال الراغب: "ويطلق لفظ الشفيع والشافع على من طلب شيئاً لغيره لينفعه به أو يضره قال تعالى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا} 2 أي: من انضم إلى غيره وعاونه صار شفعاً له، أو شفيعاً في فعل الخير والشر فعاونه وقواه وشاركه في نفعه وضره"3. ومن هذه التعاريف اللغوية السابقة يتبين أن المعنى اللغوي للشفاعة يدخل فيه كل ما دلت عليه مادة ـ الشفع ـ وهو: الازدواج والانضمام إلى الغير في الحصول على أمر ما. قال في اللسان: "والشافع: الطالب لغيره يتشفع به إلى المطلوب يقال: تشفعت بفلان إلى فلان فشفعني فيه واسم الطالب شفيع"4. وقال الراغب: "الشفع: ضم الشيء إلى مثله والشفاعة الانضمام إلى آخر ناصراً له وسائلاً عنه، وأكثر ما يستعمل في انضمام من هو أعلى مرتبة إلى من هو أدنى ومنه الشفاعة في القيامة"5. وقال الحافظ: "الاستشفاع طلب الشفاعة، وهي: انضمام الأدنى إلى الأعلى ليستعين به على ما يرونه"6. وأما تعريف الشفاعة في الاصطلاح: فإنه لا يكاد يخرج عن المعنى اللغوي، إذ المعنى الاصطلاحي للشفاعة هو: ضم الشافع طلبه إلى طلب المشفوع له، فيصبح بذلك شفعاً وهو ضد الوتر. وعرَّفها بعضهم بأنها: "سؤال الخير للغير"7.   1- 2/485. 2- سورة النساء آية: 85. 3- المفردات في غريب القرآن ص263 وانظر "الإيمان لشيخ الإسلام ابن تيمية ص61. 4- اللسان 8/184، وانظر تاج العروس 5/400. 5- المفردات في غريب القرآن ص263. 6- الفتح 11/433. 7- لوامع الأنوار البهية 2/ 204. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 وقيل: "هي السؤال في التجاوز عن الذنوب والجرائم"1. وبهذا نعلم موافقة المعنى الشرعي للشفاعة لمعانيها اللغوية. وبعد تعريف الشفاعة لغة وشرعاً نقول: إن "سورة الزمر" قد تناولت نوعي الشفاعة المنفية، والمثبتة، كما أوضحت أن المشركين ما أوقعهم في الشرك بالله ـ العظيم ـ إلا تعلقهم بأن الآلهة التي يعبدونها من دون الله تشفع لهم عنده وتقربهم إلى الله زلفى. قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} . وقال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ * قُلْ لله الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} هذه ثلاث آيات من السورة الآية الأولى: منها أوضحت أن المشركين كانوا يعبدون الأصنام، والأوثان لكي تشفع لهم عند الله وتقربهم إليه زلفى. قال قتادة: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى} أي "قالوا ما نعبد هؤلاء إلا ليقربونا، إلا ليشفعوا لنا عند الله". قال ابن زيد: قالوا هم شفعاؤنا عند الله، وهم الذين يقربوننا إلى الله زلفى يوم القيامة"2 فهذه حال من يتخذ الأولياء والشفعاء من دون الله يزعم أن ذلك يقربه إلى الله زلفى، والحال أن عمله هذا مشاهد عليه بالكفر والكذب محروم من هداية الله تعالى، وأما الآيتان الأخيرتان وهما قوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ * قُلْ لله الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} هاتان الآيتان من السورة بينتا بأن الشفاعة تنقسم إلى قسمين: أـ شفاعة منفية وهي التي ادعاها المشركون وأثبتوها لآلهتهم. ب ـ شفاعة مثبتة، وهي التي أثبتها الله لأهل الإخلاص فيأذن هو ـ سبحانه ـ لمن يشاء أن يشفع فيه فصارت الشفاعة في الحقيقة إنما هي له، والذي يشفع عنده إنما يشفع بإذنه له، وأمره وهذا ضد الشفاعة الشركية التي أثبتها هؤلاء المشركون ومن وافقهم، وهي   1-النهاية لابن الأثير 2/485، لسان العرب 8/184. 2- قول قتادة وابن زيد في جامع البيان للطبري 23/191، 192. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 التي أبطلها الله في أماكن كثيرة من كتابه سنذكر طرفاً منها فيما يأتي إن شاء الله ـ تعالى ـ بعد بيان دلالة الآيتين من السورة التي تقدم ذكرها. فالآية الأولى منهما: وهي قوله ـ تعالى ـ: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ} . فهذه الآية تضمنت الإنكار لاتخاذ المشركين الشفعاء من دون الله ـ سبحانه ـ حيث زعموا أنها تشفع لهم عند الله من دون أن يأذن أو يأمرهم بذلك والحال أنه لا يمكن أن يشفع أحد عنده ـ تعالى ـ إلا بإذنه وأن يرضى عن المشفوع له فهذان الشرطان الثقيلان لا بد منهما في الشفاعة المقبولة عنده ـ جل وعلا ـ وهذان الشرطان مفقودان فيمن زعمهم المشركون أنهم شفعاؤهم عند الله ـ تعالى ـ وهو ـ سبحانه ـ لم يجعل اتخاذ الشفعاء ودعاءهم من دونه سبباً لإذنه ورضاه بل ذلك من أعظم الأسباب المانعة لرضاه، ومن أعظم الأسباب الجالبة لغضبه ثم أنكر عليهم ثانياً في نفس الآية: {قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ} أي: يشفعون لكم ولو كانوا على هذه الصفة كما ترونهم جمادات ليس لها قدرة ولا علم بحالكم، أو أموات كذلك لا يملكون الشفاعة وليسوا أهلاً لها. وأما الآية الثانية: وهي قوله ـ تعالى ـ: {قُلْ لله الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} . فهذه الآية أمر من الله ـ جل وعلا ـ لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: بأن يعلن لجميع العالمين بأن الشفاعة كلها لله فهو المالك لها وليس لمن زعمهم المشركون منها شيء. قال العلامة ابن جرير حول الآيتين السابقتين: "يقول ـ تعالى ذكره ـ: أم اتخذ هؤلاء المشركون بالله من دونه آلهتهم التي يعبدونها شفعاء تشفع لهم عند الله في حاجاتهم وقوله: {قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ} يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم قل يا محمد لهم: أتتخذون هذه الآلهة شفعاء كما تزعمون ولو كانوا لا يملكون لكم نفعاً ولا ضراً، ولا يعقلون شيئاً، قل لهم: إن تكونوا تعبدونها لذلك وتشفع لكم عند الله فأخلصوا عبادتكم لله وأفردوه بالألوهية فإن الشفاعة جميعاً له، لا يشفع عنده إلا من أذن له ورضي له قولاً وأنتم متى أخلصتم له العبادة فدعوتموه وشفعكم {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} يقول: له سلطان السموات والأرض وملكها، وما تعبدون أيها المشركون من دونه ملك له. يقول: فاعبدوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 الملك لا المملوك الذي لا يملك شيئاً {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} يقول: ثم إلى الله مصيركم وهو معاقبكم على إشراككم به إن متم على شرككم"أ. هـ1. وقال البيضاوي: عند قوله تعالى: {قُلْ لله الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} الآية، لعلَّه رد لما عسى يجيبون به، وهو أن الشفعاء أشخاص مقربون وهي تماثيلهم، والمعنى أنه مالك الشفاعة كلها لا يستطيع أحد شفاعة إلا بإذنه ولا يستقل بها2 وقوله: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} تقرير لبطلان اتخاذ الشفعاء من دونه بأنه مالك الملك كله لا يملك أحد أن يتكلم في أمره دون إذنه ورضاه فيدخل في ذلك ملك الشفاعة فإذا كان هو مالكها بطل اتخاذ الشفعاء من دونه كائناً من كان وسيعلمون حقيقة ذلك إذ وقفوا بين يدي الله يتبين لهم أنهم لا يشفعون ويخيب سعيهم في عبادتهم. قال العلامة ابن القيم حول الآية السابقة: "فأخبر أن حال ملكه للسموات والأرض يوجب أن تكون الشفاعة كلها له وحده وأن أحداً لا يشفع عنده إلا بإذنه فإنه ليس بشريك بل مملوك محض بخلاف شفاعة أهل الدنيا بعضهم عند بعض. أ. هـ3. والشفاعة التي أثبتها المشركون لأصنامهم صرح القرآن ببطلانها ونفيها في مواضع كثيرة. قال تعالى: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} 4. قال في تيسير العزيز الحميد: في هذه الآية رد على المشركين الذين اتخذوا الشفعاء من دون الله من الملائكة والأنبياء والأصنام المصورة على صور الصالحين وغيرهم وظنوا أنهم يشفعون عنده بغير إذنه فأنكر ذلك عليهم" أ. هـ5   1- جامع البيان: 24/9 ـ 10. 2- أنوار التنزيل 2/324. 3- إغاثة اللهفان 1/222. 4- سورة البقرة آية: 255. 5- ص240. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 وقال تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} 1. فأخبر أنه ليس للعباد شفيع من دونه، بل إذا أراد الله ـ سبحانه ـ رحمة عبده أذن هو لمن يشفع فيه كما قال تعالى: {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} 2 فالشفاعة بإذنه ليست شفاعة من دونه ولا الشافع شفيع من دونه، بل شفيع بإذنه والفرق بين الشفيعين كالفرق بين الشريك والعبد المأمور فالشفاعة التي أبطلها الله شفاعة الشريك فإنه لا شريك له، والتي أثبتها: شفاعة العبد المأمور الذي لا يشفع ولا يتقدم بين يدي مالكه حتى يأذن له، ويقول: اشفع في فلان ولهذا كان أسعد الناس بشفاعة سيد الشفعاء يوم القيامة أهل التوحيد الذين جردوا التوحيد وخلَّصوه من تعلقات الشرك وشوائبه وهم الذين ارتضى الله ـ سبحانه ـ قال تعالى: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} 3. وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} 4 وهنا أخبر سبحانه أنه لا يحصل يومئذ شفاعة تنفع إلا بعد رضاء قول المشفوع له، وإذنه للشافع فيه، فأما المشرك فإنه لا يرتضيه ولا يرضى قوله فلا يأذن للشفعاء أن يشفعوا فيه فإنه ـ سبحانه ـ علقها بأمرين رضاه عن المشفوع له وإذنه للشافع فما لم يوجد مجموع الأمرين لم توجد الشفاعة5. "والسر في ذلك أن الأمر كله لله تعالى وليس لأحد معه من الأمر شيء وأكرم خلقه سبحانه وأفضلهم عنده ملائكته المقربون ورسله الكرام وهم مع ذلك عبيد محض لا يسبقونه بقول، ولا يتقدمون بين يديه، ولا يفعلون شيئاً إلا بعد إذنه، وأمره لهم، ولا سيما يوم القيامة، فالملائكة والأنبياء مملوكون مربوبون أفعالهم مقيدة بأمر الله وإذنه فمن عبدهم واتخذهم شفعاء، وأولياء ظناً منه أنه إذا فعل ذلك تقدموا وشفعوا له عند الله فهو من أجهل الناس بحق الرب ـ سبحانه ـ وما يجب له ويمتنع عليه.   1- سورة الأنعام آية: 51. 2- سورة يونس آية: 3. 3- سورة الأنبياء آية: 28. 4- سورة طه آية: 109. 5- إغاثة اللهفان 1/221. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 والذي أوقع عباد الأصنام، وعباد القبور في طلب الشفاعة من غير الله ـ تعالى ـ هو قياسهم الخالق على المخلوق حيث قاسوه ـ تعالى ـ على الملوك والعظماء في هذه الدنيا حيث يتخذ الشخص من المقربين لديهم من يشفع له عندهم في قضاء الحوائج فهذا هو القياس الفاسد الذي بنى عليه المشركون عبادتهم للأصنام، واتخذوا من دونه الشفعاء والأولياء وهذا من جهلهم بالفارق بين الخالق والمخلوق"1. الذي يجب على كل مسلم معرفته. فهناك فرق بين الشفاعة عند المخلوقين والشفاعة عنده ـ تعالى ـ ذلك أن الوسائط التي تكون بين الملوك وبين الناس تكون على أحد الوجوه التالية: الوجه الأول: أن العظماء من أهل الدنيا بحاجة إلى من يخبرهم بأحوال الناس ما لا يعرفونه، ومن زعم أن الله لا يعلم أحوال الناس حتى يخبره بذلك بعض الأنبياء، أو غيرهم من الملائكة والأولياء والصالحين فهو كافر به ـ سبحانه ـ لأنه ـ جل وعلا ـ يعلم السر وأخفى ولا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء. الوجه الثاني: إن العظماء من أهل الدنيا عاجزون عن تدبير رعيتهم ودفع أعدائهم إلا بأعوان يعاونونهم، وأنصار يكونون مستنداً لهم عند الذلة والعجز، أما الله ـ جل وعلا ـ ليس له ظهير، ولا ولي من الذل، وكل ما في الوجود من الأسباب فهو ـ سبحانه ـ ربه وخالقه وهو الغني عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه بخلاف الملوك المحتاجين إلى ظهرائهم وهم في الحقيقة شركاؤهم والله ـ سبحانه ـ لا شريك له في الملك، بل لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، ولهذا لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، فضلاً عن غيرهما، فإن من شفع عنده بغير إذنه فهو شريك له في حصول المطلوب أثَّر فيه بشفاعته حتى يفعل ما يطلب منه، والله تعالى لا شريك له بوجه من الوجوه.   1- انظر إغاثة اللهفان 1/221 بتصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 الوجه الثالث: إن العظماء من أهل الدنيا قد يكونون غير مريدين نفع رعيتهم والإحسان إليهم إلا بمحرك يحركهم من الخارج، فإذا خاطبهم من ينصحهم ويعظهم أو من يدلهم ممن يرجونهم ويخافونهم تحركت إرادتهم وهمتهم في قضاء حوائج رعيتهم. فلحاجتهم إليهم يقبلون شفاعتهم وإن لم يأذنوا فيها لأنهم يخافون أن يردوا شفاعتهم فتنتقض طاعتهم، ولذا يقبلون شفاعتهم على الكره والرضي. أما الباري سبحانه وتعالى فهو رب كل شيء ومليكه وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها وكل الأسباب إنما تكون بمشيئته، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وهو ـ سبحانه ـ إذا أراد إجراء نفع العباد بعضهم على يد بعض جعل هذا يحسن إلى هذا وهو الذي خلق في قلب هذا المحسن والداعي إرادة الإحسان والدعاء والشفاعة"1. ولا يجوز أن يكون في الوجود من يكرهه على خلاف مراده أو يعلمه ما لم يكن يعلمه، والشفعاء الذين يشفعون عنده لا يشفعون إلا بإذنه كما قدمنا ذلك بخلاف العظماء من أهل الدنيا فإنهم محتاجون والشافع عندهم يكون شريكاً لهم في الملك، وقد يكون مظاهراً لهم على ملكهم ولذا فإنهم يشفعون عند ملوكهم بغير إذنهم، والملوك يقبلون شفاعتهم تارة لحاجتهم إليهم وتارة لجزاء إحسانهم ومكافأتهم، حتى أنهم يقبلون شفاعة أولادهم وأزواجهم، بل إن أحدهم لو أعرض عنه ولده وزوجته لتضرر بذلك، بل يقبل حتى شفاعة مملوكه فإنه إذا لم يقبل شفاعته يخاف أن لا يطيعه، ويقبل شفاعة أخيه مخافة أن يسعى في ضرره. فشفاعة العباد بعضهم عند بعض كلها من هذا القبيل فلا يقبل أحد شفاعة أحد إلا لرغبة أو لرهبة، والله ـ جل وعلا ـ لا يرجو أحداً، ولا يخافه ولا يحتاج إلى أحد هو الغني ـ سبحانه ـ عما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، والمشركون قديماً وحديثاً إنما يتخذون الشفعاء، والأولياء على غرار ما يعهدونه عند المخلوق"2 وفيما ذكرنا من الفروق كفاية بين الشفاعة الشركية، والشفاعة الشرعية لمن أراد الله تنوير بصيرته، فابتعد عما يدين به المشركون والقبوريون   1- الواسطة بين الحق والخلق لابن تيمية ص17 ـ 19 بتصرف، وانظر إغاثة اللهفان 1/223، وانظر الهدية السنية لابن سحمان ص51. 2- إغاثة اللهفان 1/223. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 في الشفعاء والأولياء، وأما من أراد الله فتنته فلا حيلة فيه {مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً} 1. ولقد حكم الله في كتابه على اتخاذ المشركين الشفعاء والأولياء بالكفر وأنهم كاذبون فيما يزعمون من أن معبوداتهم تشفع لهم عند الله وتقربهم إليه زلفى. قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} . وهذه الآية من السورة بينت أن غاية المشركين من عبادتهم الأولياء أنهم يقربونهم إلى الله زلفى، وذلك بتحصيل شفاعتهم وهذا من افتراء المشركين الباطل وقد تقدم الكلام على هذه الآية قريباً. وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 2. هذه الآية فيها الإخبار بذم المشركين الذين يعبدون الأصنام التي ليس لديها جلب نفع ولا دفع ضر وأبانت بأن مقصودهم من عبادتها هو الشفاعة عند الله كما أوضحت بأن ذلك شرك بالله العظيم نزه تعالى نفسه عنه. قال الصنعاني3 رحمه الله تعالى: "فجعل الله تعالى اتخاذهم للشفعاء شركاً ونزه نفسه عنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، فكيف يثبتون شفعاء لهم لم يأذن الله لهم في شفاعة ولا هم أهل لها، ولا يغنون عنهم من الله شيئاً" اهـ4. وقال تعالى مبطلاً للشفاعة الشركية وقاطعاً منافذ الشرك فيها بالكلية {قُلِ ادْعُوا   1- سورة الكهف آية: 17. 2- سورة يونس آية: 18. 3- هو: محمد بن إسماعيل بن صلاح بن الحسين الكحلاني ثم الصنعاني أبو إبراهيم عز الدين المعروف بالأمير، وهو مجتهد له مؤلفات كثيرة أصيب بمحن كثيرة من الجهلاء والعوام ولد سنة تسع وتسعين وألف وتوفي سنة اثنتين ومائة وألف هجرية. انظر ترجمته في "البدر الطالع للشوكاني 2/133 ـ 139". 4- تطهير الإعتقاد ص11، وانظر "شذرات البلاتين" 1/281 ـ 283. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} 1. هذه الآية قال فيها بعض العلماء: "إنها تقطع عروق شجرة الشرك من القلب لمن عقلها"2 يوضح ذلك ما قاله العلامة ابن القيم حولها: قال رحمه الله تعالى: "فتأمل كيف أخذت هذه الآية على المشركين مجامع الطرق التي دخلوا منها إلى الشرك وسدت بها عليهم الباب أبلغ سد وأحكمه؟ فإن العابد إنما تعلق بالمعبود لما يرجو من نفعه، وإلا فلو كان لا يرجو منفعة منه فلا يتعلق قلبه به أحداً وحينئذ فلا بد أن يكون المعبود إما مالكاً للأسباب التي ينتفع بها عابداه أو شريكاً لمالكها، أو ظهيراً أو وزيراً أو معاوناً له، أو وجيهاً ذا حرمة وقدر، يشفع عنده فإذا انتفت هذه الأمور الأربعة من كل وجه انتفت أسباب الشرك وانقطعت موارده فنفى ـ سبحانه ـ عن آلهتهم أن تملك مثقال ذرة في السموات والأرض فقد يقول المشرك: هي شريكه للمالك الحق فنفى شركها له. فيقول المشرك: قد تكون ظهيراً أو وزيراً أو معاوناً فقال: {وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} 3. ولم يبق إلا الشفاعة فنفاها عن آلهتهم وأخبر أنه لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه فإن لم يأذن للشافع لم يتقدم بالشفاعة بين يديه، كما يكون في حق المخلوقين، فإن المشفوع عنده يحتاج إلى الشافع وإلى معاونته له فيقبل شفاعته وإن لم يأذن له بها. وأما من كل ما سواه فقير إليه بذاته فهو الغني بذاته عن كل ما سواه فكيف يشفع عنده أحد بغير إذنه؟ 4. فتبين مما تقدم أن الشفاعة المنفية التي نفاها الله ـ سبحانه ـ هي الشفاعة الشركية التي زعمها المشركون في آلهتهم أنها تشفع لهم عند الله وتقربهم إليه زلفى ولذلك يطلق القرآن نفيها تارة بناء على أنها هي المعروفة عند الناس ويقيدها تارة بأنها لا تنفع إلا بعد أن   1- سورة سبأ آية: 23. 2- تيسير العزيز الحميد ص245. 3- سورة سبأ آية: 23. 4- مختصر الصواعق المرسلة 1/94، مدارج السالكين 1/343. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 يأذن الله لمن يشاء، وهذه الشفاعة في الحقيقة هي منه ـ سبحانه وتعالى ـ لأنه هو الذي أذن وهو الذي رضي عن المشفوع وهو الذي وفقه للعمل الذي استحق به الشفاعة، أما متخذ الشفيع فهو مشرك لا تنفعه شفاعته ولا يشفع فيه. النوع الثاني: الشفاعة المثبتة: ذكرنا فيما تقدم أن السورة دلت على نوعي الشفاعة، المنفية، والمثبتة وتقدم الكلام على الشفاعة المنفية وهي التي أثبتها المشركون لآلهتهم الباطلة وذكرنا أن قوله تعالى: {قُلْ لله الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} . هذه الآية من السورة دلت على الشفاعة المثبتة. فالآية كما قدمنا قريباً دلت على أن الشفاعة كلها لله تعالى لأن الأمر كله له وبيده ـ سبحانه ـ وكل شفيع يخافه ولا يقدر أي مخلوق كائناً من كان أن يشفع عنده بدون إذنه مهما كانت مكانته، فإذا أراد ـ سبحانه ـ رحمة عبد من عبيده أذن للشفيع أن يشفع عنده رحمة بالاثنين فله ـ سبحانه ـ ملك السموات والأرض من الذوات والأفعال والصفات فالواجب على جميع العباد أن يطلبوا الشفاعة من مالكها ويخلصوا في الطلب علَّهم يحصلون على نصيب من ذلك. وسنبين هنا حقيقة الشفاعة المثبتة وحكمها ثم نختم ذلك بذكر أنواعها: حقيقة الشفاعة المثبتة: لقد قيد القرآن الكريم الشفاعة المثبتة بشرطين: الشرط الأول: إذن الله تعالى للشافع بالشفاعة قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإذْنِهِ} 1. الشرط الثاني: رضاه عن المشفوع له قال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} 2 وعلى هذين الشرطين فليس في مكانة الملائكة، أو أي مخلوق مَّا سوغ المشركون عبادته من دون الله ممن لا يملك النفع والضر. أن يشفع عند الله إلا بإذنه، ولا   1- سورة البقرة آية: 255. 2- سورة الأنبياء آية: 28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 يأذن الله بالشفاعة إلا عند رضاه عن المشفوع له، والله لا يرضى عن المشركين الذين قامت عليهم الحجة بدعوة التوحيد، فلم يستجيبوا {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} 1. حكمها: قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: "مذهب أهل السنة جواز الشفاعة عقلاً ووجودها سمعاً بصريح قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} 2. وقوله: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} 3 وأمثالهما ويخبر الصادق صلى الله عليه وسلم وقد جاءت الآثار والتي بلغت بمجموعها التواتر بصحة الشفاعة في الآخرة لمذنبي المؤمنين، وأجمع السلف والخلف ومن بعدهم من أهل السنة عليها، ومنعت الخوارج والمعتزلة، وتعلقوا بمذاهبهم في تخليد المذنبين في النار، واحتجوا بقوله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} 4 وبقوله تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} 5 وهذه الآيات في الكفار، وأما تأويلهم أحاديث الشفاعة بكونها في زيادة الدرجات فباطل وألفاظ الأحاديث في الكتاب وغيره صريحة في بطلان مذهبهم وإخراج من استوجب النار" اهـ6. قال القاضي عبد الجبار عند قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} 7. يدل على أن من استحق العقاب لا يشفع النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ينصره لأن الآية وردت في صفة اليوم ولا تخصيص فيها فلا يمكن صرفها إلى الكفار دون أهل الثواب وهي واردة فيمن يستحق العذاب في ذلك اليوم لأن هذا الخطاب لا يليق إلا بهم فليس لأحد أن يطعن على ما قلناه بأن يمنع   1- سورة المائدة آية: 72. 2- سورة طه آية: 109. 3- سورة الأنبياء آية: 28. 4- سورة المدثر آية: 48. 5- سورة غافر آية: 18. 6- نقلاً عن شرح النووي على صحيح مسلم 3/55. 7- سورة البقرة آية: 48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 الشفاعة للمؤمنين أيضاً ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم يشفع لهم لكان قد أغنى عنهم وأجزى فكان لا يصح أن يقول تعالى: {لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً} ولما صح أن قول {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} وقد قبلت شفاعته صلى الله عليه وسلم فيهم، ولما صح أن يقول: {وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} لأن قبول الشفاعة وإسقاط العقاب إلى المغفرة أعظم من كل فداء لهم عما قد استحقوه من المضرة، بل كان يجب أن تكون الشفاعة فداء لهم عما قد استحقوه من حيث تزول بها ولمكانها، ولما صح أن يقول: {وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} وأعظم النصرة تخليصهم من العذاب الدائم بالشفاعة فالآية دالة على ما نقوله من جميع هذه الوجوه" أ. هـ1. ونحن نقول له إن ذلك غير صحيح وأن مذهبك هذا ومذهب أتباعك من المعتزلة ظاهر الفساد والبطلان لمخالفته الكتاب والسنة وإجماع الأمة في ثبوت الشفاعة لأهل الكبائر. قال البيضاوي حول الآية السابقة التي استدل بها عبد الجبار بن أحمد على نفي الشفاعة "وقد تمسكت المعتزلة بهذه الآية على نفي الشفاعة لأهل الكبائر وأجيب بأنها مخصوصة بالكفار للآيات والأحاديث الواردة في الشفاعة، ويؤيده أن الخطاب معهم والآية نزلت رداً لما كانت اليهود تزعم أن آباءهم تشفع لهم" اهـ2. ويرد على المعتزلة والخوارج الذين نفوا الشفاعة من وجوه: 1 ـ إن الشفاعة ثابتة بالقرآن والأخبار المتواترة. 2 ـ الإجماع: من السلف على تلقي هذه الأخبار بالقبول، ولم يبد من أحد منهم في عصر من الأعصار نكير فظهور الأخبار الواردة فيها وإطباقهم على صحتها، وقبولها لها دليل قاطع على صحة عقيدة أهل السنة وفساد مذهب المعتزلة والخوارج3. 3 ـ إن أهل العلم قد جمعوا بين الآيات الواردة في نفي الشفاعة وبين الآيات الدالة على إثبات الشفاعة، بأن الآيات الواردة في نفي الشفاعة والشفيع المراد بها الشفاعة للكفار4   1- متشابه القرآن القسم الأول: 90 ـ 91. 2- أنوار التنزيل 1/55. 3- تفسير القرطبي 1/378 ـ 379. 4- شرح النووي على صحيح مسلم 3/35، فتح الباري 11/426، تفسير ابن جرير الطبري 1/267، تفسير الرازي 3/56 وما بعدها، الجامع لأحكام القرآن 1/378 وما بعدها، تفسير النسفي 1/47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 والشفاعة المنفية هي التي تطلب من الأصنام والأموات الذين لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم نفعاً ولا ضراَ. أنواع الشفاعة المثبتة: اختلف العلماء في شفاعاته صلى الله عليه وسلم يوم القيامة كم هي؟ فذكر النقاش1 في تفسيره أن للنبي صلى الله عليه وسلم ثلاث شفاعات: الشفاعة العامة، وشفاعته في السبق إلى الجنة، وشفاعة في أهل الكبائر. وقال ابن عطية2: في تفسيره، والمشهور أنهما شفاعتان فقط العامة وشفاعة في إخراج المذنبين وهذه الشفاعة الثانية لا يتدافعها الأنبياء بل يشفعون ويشفع العلماء، وذكر القاضي عياض3 إن للنبي صلى الله عليه وسلم خمس شفاعات4. وذكر القرطبي أن للنبي صلى الله عليه وسلم ست شفاعات5 وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في "العقيدة الواسطية" أن للنبي صلى الله عليه وسلم ثلاث شفاعات وقد ذكر شارح الطحاوية أن أنواع الشفاعة في الآخرة ثمانية أنواع منها ما هو خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم وهذه الأنواع هي6: النوع الأول: الشفاعة العامة: وهي التي يتدافعها الأنبياء أصحاب الشرائع آدم إلى نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام وهي المقام المحمود الذي يحمده عليه الأولون والآخرون.   1- هو محمد بن الحسن بن محمد بن زياد بن هارون، أبو بكر النقاش، عالم بالقرآن وتفسيره أصله من الموصل ومنشأه ببغداد وكان في بدء حياته يزاول نقش السقوف والحيطان ولد سنة ست وستين ومائتين هجرية وتوفي سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة. انظر ترجمته في وفيات الأعيان 1/489، ميزان الإعتدال 3/45، اللباب 3/321. 2- هو عبد الحق بن غالب بن عطية المحاربي من محارب قيس، الغرناطي أبو محمد مفسر، فقيه، أندلسي من أهل غرناطة ولد سنة إحدى وثمانين وأربعمائة وتوفي سنة إثنتين وخمسمائة هجرية انظر ترجمته في بغية الوعاة 2/93، كشف الظنون 2/1613. 3- هو: عياض بن موسى بن عياض بن عمرو اليحصبي السبتي أبو الفضل عالم بالمغرب وإمام أهل الحديث في زمنه، ولد سنة ست وسبعين وأربعمائة وتوفي سنة أربع وأربعين وخمسمائة هجرية. انظر ترجمته في وفيات الأعيان 1/392، الفهرس التمهيدي 1/368، والأعلام 5/282. 4- انظر التذكرة للقرطبي ص249، شرح النووي على صحيح مسلم 3/35 ـ 36 فتح الباري 11/428. 5- التذكرة ص249. 6- ص127 ـ 128 بشرح محمد خليل هراس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 قال تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} 1. روى البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "إن الناس يصيرون يوم القيامة جيشاً كل أمة تتبع نبيها تقول: يا فلان اشفع يا فلان اشفع حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود"2. وروى الترمذي في سننه وحسنه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} . قال: هي الشفاعة3. فالمقام المحمود هو الشفاعة العظمى لتفسير النبي صلى الله عليه وسلم الآية الواردة فيه بذلك. جاء في لوامع الأنوار ما نصه: شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم نوع من السمعيات وردت بها الآثار حتى بلغت مبلغ التواتر المعنوي وانعقد عليها إجماع أهل الحق من السلف الصالح قبل ظهور المبتدعة لكن هذه الشفاعة العظمى مجمع عليها لم ينكرها أحد ممن يقول بالحشر إذ هي للإراحة من طول الوقوف حتى يتمنون الإنصراف من موقفهم ذلك ولو إلى النار ... وقد التمس بعض العلماء الحكمة في إلهام الناس التردد إلى غير النبي صلى الله عليه وسلم قبله ولم يلهموا المجيء إليه لأول وهلة أن ذلك إظهار لفضله عليه الصلاة والسلام وشرفه على رؤوس الخلائق فصلوات الله وسلامه عليه"4. النوع الثاني: شفاعته صلى الله عليه وسلم في أقوام قد تساوت حسناتهم وسيئاتهم فيشفع ليدخلوا الجنة. النوع الثالث: شفاعته صلى الله عليه وسلم في أقوام أمر بهم إلى النار فيشفع فيهم أن لا يدخلوها.   1- سورة الإسراء آية: 79. 2- 3/151 . 3- 4/365 . 4- 2/208 وانظر شرح النووي على مسلم 3/56. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 ومما يستدل به لهذين النوعين قوله صلى الله عليه وسلم: "يجمع الله تبارك وتعالى الناس فيقوم المؤمنون حتى تزلف لهم الجنة فيأتون آدم فيقولون: يا أبانا استفتح لنا الجنة فيقول: وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم آدم لست بصاحب ذلك. اذهبوا إلى ابني إبراهيم خليل الله قال فيقول: إبراهيم لست بصاحب ذلك إنما كنت خليلاً من وراء وراء اعمدوا موسى صلى الله عليه وسلم الذي كلمه الله تكليماً. فيأتون موسى صلى الله عليه وسلم فيقول: لست بصاحب ذلك اذهبوا إلى عيسى كلمة الله وروحه فيقول عيسى صلى الله عليه وسلم لست بصاحب ذلك فيأتون محمداً صلى الله عليه وسلم. فيقوم فيؤذن له. وترسل الأمانة والرحم فتقومان جنبتي الصراط يمناً وشمالاً فيمر أولكم كالبرق" قال قلت: بأبي أنت وأمي! أي شيء كمر البرق؟ قال: "ألم تروا إلى البرق كيف يمر ويرجع في طرفة عين؟ ثم كمر الريح ثم كمر الطير وشد الرحال تجري بهم أعمالهم ونبيكم قائم على الصراط يقول: رب! سلم سلم حتى تعجز أعمال العباد حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلا زحفاً" قال: "وفي حافتي الصراط كلاليب معلقة مأمورة بأخذ من أمرت به فمخدوش ناج ومكدوس1 في النار" 2. قال الحافظ بعد أن ذكر النوع الثالث من أنواع الشفاعة: "ودليل الثالثة حديث حذيفة عند مسلم: ونبيكم على الصراط يقول: "رب سلم سلم"3. النوع الرابع: شفاعته صلى الله عليه وسلم في رفع درجات من يدخل الجنة فيها فوق ما كان يقتضيه ثواب أعمالهم وقد وافقت المعتزلة على هذه الشفاعة. قال القاضي عياض: "وهذه الشفاعة لا تنكرها المعتزلة ولا تنكر شفاعة الحشر الأول"4. ودليل هذا النوع: ما رواه الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه لما أصيب عمه أبو عامر في غزوة أوطاس فلما أخبر أبو موسى   1- قال في النهاية: أي مدفوع وتكدس الإنسان إذا دفع من ورائه فسقط. 2- رواه مسلم من حديث حذيفة 1/187. 3- فتح الباري 11/428. 4- ذكره عنه القرطبي في التذكرة ص249. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع يديه وقال: "اللهم اغفر لعبيد أبي عامر واجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك" 1. وحديث أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لأبي سلمة بعدما توفي فقال: "اللهم اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المهديين واخلفه في عقبه في الغابرين واغفر لنا وله يا رب العالمين وافسح له في قبره ونور له فيه" 2. النوع الخامس: شفاعته صلى الله عليه وسلم في أقوام أن يدخلوا الجنة بغير حساب. ويستدل لهذا النوع بما رواه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ويدخل من أمتي الجنة سبعون ألفاً بغير حساب" فقال رجل: يا رسول الله! أدع الله أن يجعلني منهم قال: "اللهم اجعله منهم" ثم قام آخر فقال: يا رسول الله! أدع الله أن يجعلني منهم قال: "سبقك بها عكاشة" 3. ووجه الدلالة منه دعاؤه لعكاشة بن محصن أن يجعله من أولئك السبعين ألفاً فدعاؤه صلى الله عليه وسلم شفاعة له. النوع السادس: الشفاعة في تخفيف العذاب عمن يستحقه كشفاعته صلى الله عليه وسلم في عمه أبي طالب أن يخفف عنه عذابه، ودليل هذا النوع ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر عنده عمه أبو طالب فقال: "لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من نار، يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه"4. قال القرطبي: بعد أن ذكر هذا النوع فإن قيل: فقد قال ـ تعالى ـ {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} 5 قيل له لا تنفعه في الخروج من النار كما تنفع عصاة   1- صحيح البخاري 4/103، صحيح مسلم 4/1943. 2- صحيح مسلم 2/643، وسنن أبي داود 2/170 والمسند 6/297. 3- صحيح البخاري مع الفتح 11/406، صحيح مسلم 1/197. 4- 4/195 . 5- سورة المدثر آية: 48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 الموحدين الذين يخرجون ويدخلون الجنة" أ. هـ1. وقال الحافظ: "لعله تنفعه شفاعتي" ظهر من حديث العباس وقوع هذا الترجي واستشكل قوله صلى الله عليه وسلم: "تنفعه شفاعتي" بقوله ـ تعالى ـ {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} وأجيب بأنه خص ولذلك عدوه في خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: معنى المنفعة في الآية يخالف معنى المنفعة في الحديث والمراد بها في الآية الإخراج من النار وفي الحديث "المنفعة بالتخفيف"أهـ2. النوع السابع: شفاعته صلى الله عليه وسلم في أن يؤذن لأهل الجنة في دخولها ومن أدلة هذا النوع ما جاء في صحيح مسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أول الناس يشفع في الجنة وأنا أكثر الأنبياء تبعاً" 3. وفي حديث آخر عنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "آتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح فيقول الخازن من أنت؟ فأقول: محمد فيقول: بك أمرت لا أفتح لأحد قبلك" 4. النوع الثامن: الشفاعة في أهل الكبائر من هذه الأمة ممن دخل النار فيخرجون منها وقد تواترت بهذا النوع الأحاديث الكثيرة5. ورغم تواترها فقد خالف في ثبوتها الخوارج والمعتزلة ممن قل علمه منهم ينكرها لجهله بكثرة الأحاديث الواردة فيها.   1- التذكرة ص249. 2- فتح الباري 11/431. 3- صحيح مسلم 1/188. 4- المصدر السابق ورواه أيضاً أحمد في مسنده 3/247. 5- ذكر هذه الأنواع العلامة ابن القيم في شرحه على سنن أبي داود، انظر عون المعبود 13/77 ـ 78 وابن كثير في النهاية 2/179 ـ 282، كما ذكرها شارح الطحاوية ص253 ـ 258، فتح الباري 11/428، شرح النووي على صحيح مسلم 3/35، تحفة الأحوذي 7/127، لوامع الأنوار البهية 2/204 ـ 217، الدين الخالص 2/309 ـ 310. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 وأما من علم تلك الأحاديث منهم فإنكاره لها إنما هو عناد واستكبار عن الحق واسترواح لهذه البدعة المنكرة، واتباع للهوى. وهذه الشفاعة يشارك فيها النبي صلى الله عليه وسلم الملائكة والنبيون والمؤمنون وأدلة هذا النوع كثيرة جداً. فمنها ما رواه الشيخان في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة فهي نائلة إن شاء الله، من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً" 1 ومنها ما رواه مسلم في صحيحه عن معبد بن هلال العنزي قال: اجتمعنا ناس من أهل البصرة فذهبنا إلى أنس بن مالك، وذهبنا معنا بثابت البناني إليه يسأله لنا عن حديث الشفاعة فإذا هو في قصره فوافقناه يصلي الضحى، فاستأذنا، فأذن لنا وهو قاعد على فراشه فقلنا لثابت لا تسأله عن شيء أول من حديث الشفاعة فقال: يا أبا حمزة هؤلاء إخوانك من أهل البصرة جاؤوك يسألونك عن حديث الشفاعة فقال: حدثنا محمد صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم في بعض ..... " الحديث وفيه أنهم يأتون آدم فيطلبون منه أن يشفع لهم. فيحيلهم على إبراهيم وإبراهيم يحيلهم على موسى وموسى يحيلهم على عيسى، وعيسى يحيلهم على الرسول صلى الله عليه وسلم فيأتونه فيقول: "أنا لها فأستأذن على ربي فيؤذن لي، ويلهمني محامد أحمده بها، لا تحضرني الآن، فأحمده بتلك المحامد، وأخر له ساجداً، فيقال: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وأشفع تشفع، وسل تعط، فأقول: يا رب أمتي أمتي، فيقال انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان فانطلق فأفعل ثم أعود فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجداً، فيقال: يا محمد، أرفع رأسك، وقل يسمع لك، واشفع تشفع، وسل تعط، فأقول: يا رب أمتي أمتي فيقال: انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرة أو خردلة من إيمان فأنطلق فأفعل، ثم أعود بتلك المحامد، ثم أخر له ساجداً فيقال: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع، فأقول: يا رب أمتي أمتي فيقول: انطلق فأخرج من كان في قلبه أدنى مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه من النار، فأنطلق فأفعل". قال:   1- صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 13/447، صحيح مسلم 1/189. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 فلما خرجنا من عند أنس وقلت لبعض أصحابنا لو مررنا بالحسن، وهو متوارٍ في منزل أبي خليفة فحدثناه بما حدثنا به أنس بن مالك فأتيناه فسلمنا عليه، فأذن لنا، فقلنا له: يا أبا سعيد جئناك من عند أخيك أنس بن مالك فلم نر مثل ما حدثنا في الشفاعة، فقال: هيه؟ فحدثنا بالحديث، فانتهى إلى هذا الموضع، فقال: هيه؟ فقلنا له لم يزد لنا على هذا، فقال: لقد حدثني وهو يومئذ جميع، منذ عشرين سنة فما أدري، أنسي، أم كره أن تتكلوا؟ فقلنا: يا أبا سعيد، فحدثنا، فضحك وقال: خلق الإنسان عجولاً ما ذكرته إلا وأنا أريد أن أحدثكم، حدثني كما حدثكم به، قال: "ثم أعود الرابعة، فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجداً فيقال: يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعطه واشفع تشفع، فأقول: يا رب ائذن لي فيمن قال: لا إله إلا الله". فيقول: وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي وجبريائي لأخرجن منها من قال لا إله إلا الله"1. فهذا الحديث: وأمثاله من الأحاديث الواردة في شفاعته صلى الله عليه وسلم لأهل الكبائر من أمته بلغت مبلغ التواتر ورغم ذلك فقد خفي علم ذلك على الخوارج والمعتزلة، فخالفوا في ذلك، لجهلهم بصحة الأحاديث، وعناداً ممن علم ذلك واستمر على بدعته، وهذه الشفاعة، تشاركه فيها الملائكة والنبيون والمؤمنون2 أيضاً. للحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعاً قال: "فيقول الله ـ تعالى ـ شفعت الملائكة، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط" 3. قال شارح الطحاوية: "ثم إن الناس في الشفاعة على ثلاثة أقوال: فالمشركون والنصارى والمبتدعون من الغلاة في المشايخ وغيرهم: يجعلون شفاعة من يعظمونه عند الله كالشفاعة المعروفة في الدنيا. والمعتزلة والخوارج أنكروا شفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر.   1- 1/182 ـ 184. 2- انظر النهاية لابن كثير 2/180. 3- 1/170 ، صحيح البخاري 4/286. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 وأما أهل السنة والجماعة، فيقرون بشفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر وشفاعة غيره لكن لا يشفع أحد حتى يأذن الله له ويحد له حداً كما في الحديث الصحيح حديث "الشفاعة" "إنهم يأتون آدم ثم نوحاً، ثم إبراهيم ثم موسى، ثم عيسى، فيقول لهم عيسى عليه السلام: "اذهبوا إلى محمد، فإنه عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيأتوني، فأذهب فإذا رأيت ربي خررت له ساجداً فأحمد ربي بمحامد يفتحها علي لا أحسنها الآن، فيقول: أي محمد ارفع رأسك وقل يسمع، واشفع تشفع، فأقول: ربي: أمتي، فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة، ثم انطلق فأسجد، فيحد لي حداً"1 ذكرها ثلاث مرات" أ. هـ2. والذي نخلص إليه مما تقدم أن الشفاعة التي نفاها القرآن هي الشفاعة التي تعلق بها المشركون الذين اتخذوا من دون الله، الشفعاء، والأولياء، فعاملهم الله بنقيض قصدهم من شفعائهم. وأما الشفاعة المثبتة التي أثبتها القرآن فهي التي يفوز بها الموحدون والتي أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله لأبي هريرة رضي الله عنه حين سأله عنها: من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: "أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه"3. فتأمل كيف جعل أعظم الأسباب التي تنال بها شفاعته تجريد التوحيد وتخليصه من شوائب الشرك، وذلك عكس ما عند المشركين: حيث زعموا أن الشفاعة تنال باتخاذهم أولياءهم شفعاء، وعبادتهم وموالاتهم من دون الله، وقد أبطل الله هذا الزعم في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بأنه لا تطلب الشفاعة إلا منه ـ تبارك وتعالى ـ ولا يعبد إلا هو ـ سبحانه ـ ولا ولاء إلا له ـ جل وعلا ـ والمتأمل لحديث أبي هريرة السابق يرى أنه قلب المفهوم الذي يتصوره المشركون، وأبان للناس أجمعين مسلمهم وكافرهم أن سبب الشفاعة الوحيد هو تجريد التوحيد، وحينئذ يأذن الله للشافع أن يشفع وبالله التوفيق، وهو المستعان.   1- صحيح البخاري 4/286 ـ 287، صحيح مسلم 1/180 ـ 182. 2- شرح الطحاوية ص360. 3- صحيح البخاري مع الفتح 11/418، وأحمد في المسند 2/373. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 المبحث الثالث عشر: الرسل بعثوا للدعوة إلى توحيد الله بتوحيد العبادة من أجل توحيد الألوهية أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب فما من رسول أرسله الله إلى العباد إلا كان هذا التوحيد أساس دعوته وجوهرها. قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 1 وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} 2 وأخبرنا ـ سبحانه ـ في محكم كتابه عن رسله نوح وهود وصالح وشعيب أنهم جميعاً دعوا أقوامهم إلى توحيد العبادة. فقال نوح عليه الصلاة والسلام لقومه: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} 3 فهذه دعوة أول رسول بعد حدوث الشرك. وقال هود عليه الصلاة والسلام لقومه: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 4 وقال شعيب عليه الصلاة والسلام لقومه {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 5 وقال صالح عليه السلام لقومه: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 6 وقال إمام الحنفاء وأبو الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ   1- سورة النحل آية: (36) . 2- سورة الأنبياء آية: (25) . 3- سورة الأعراف آية: (65) . 4- سورة الأعراف آية: (59) . 5- سورة هود آية: (84) . 6- سورة الأعراف آية: 73. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} 1. وقال تعالى عن يوسف عليه الصلاة والسلام: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لله أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 2. وأما المسيح الذي زعم النصارى أنه ابن الله أو هو الله، أو ثالث ثلاثة فقد كان من أشد الناس عبودية لله تعالى، ولم يستنكف أن يكون عبداً لله فإنه قال: {إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} 3. وأما كليم الله موسى عليه الصلاة والسلام فإنه واجه بني إسرائيل بإنكار بليغ ومؤثر في النفس حين طلب منه بنو إسرائيل أن يجعل لهم إلهاً فأنكر عليهم ذلك أشد الإنكار قال تعالى حكاية عنهم: {يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * قَالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} 4. وقد حكى الله في كتابه عن يعقوب عليه الصلاة والسلام أنه اختبر بنيه عن الإله الذي يعبدونه من بعده قال تعالى: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} 5. وأما مسك الختام وبدر التمام محمد بن عبد الله عليه من الله أزكى الصلاة والسلام فإنه صارح اليهود والنصارى بما أمره الله به قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى   1- سورة الأنبياء آية: (66 ـ 67) . 2- سورة يوسف آية: (39 ـ 40) . 3- سورة آل عمران آية: (51) . 4- سورة الأعراف آية: (138 ـ 140) . 5- سورة البقرة آية: (133) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} 1. فالله ـ عز وجل ـ أرسل الرسل وأنزل عليهم الكتب، وخلق السموات والأرض ليعرفه العباد ويعبدوه ويوحدوه ويكون الدين كله لله والطاعة كلها له ـ وحده لا شريك له ـ، ويفردوه بتوحيد الألوهية. فتوحيد الألوهية هو حقيقة دين الإسلام فقد كانت الشهادتان أول ركن من أركانه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً" متفق عليه2. وقال صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: " إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ... " الحديث3 فتوحيد العبادة هو أول واجب على المكلف لا النظر ولا القصد إلى النظر ولا الشك كما هي أقوال لمن لم يعرف ما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من معاني القرآن والسنة فهو أول واجب كما قال صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا" 4 وهو آخر ما يخرج به من الدنيا كما قال صلى الله عليه وسلم: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة" 5 بل إن أول وصية في القرآن وأول أمر فيه هو الدعوة إلى عبادة الله وحده ونبذ عبادة كل ما سواه، ومن سواه من الآلهة المزعومة سواءً كان من الجن أو أي مخلوق آخر فروح الإسلام وقطب رحاه الذي يدور عليه هو توحيد الله ـ تعالى ـ بتوحيد العبادة. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} 6.   1- سورة آل عمران آية: (64) . 2- صحيح البخاري: 1/11، صحيح مسلم ج1/45، سنن الترمذي: 4/119 النسائي 8/107 ـ 108. 3- صحيح مسلم 1/80، النسائي 5/2. 4- رواه أحمد في مسنده من حديث ربيعة بن عباد الديلمي 3/492. 5- المستدرك للحاكم وصححه 1/351 من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه. 6- سورة المدثر آية: (1 ـ 5) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 وقال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 1. وقال عز شأنه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 2. ومن هذه الآيات والأحاديث المتقدمة يتبين بطلان زعم بعض المتكلمين بأن غاية التوحيد هو: أن الله واحد في ذاته لا قسيم له وواحد في صفاته لا شبيه له، وواحد في أفعاله لا شريك له3 لأن التوحيد الذي أنزل الله به كتبه وأرسل به رسله ليس هو هذه الأمور الثلاث التي ذكروها، وإن كان فيها ما هو داخل في التوحيد الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ليس توحيدهم التوحيد الذي ذكر الله ورسوله، وهو عبادة الله وحده، فمن عبد الله، لم يشرك به شيئاً فقد وحده، ومن عبد دونه شيئاً من الأشياء فهو مشرك ليس بموحد مخلص له الدين، وإن كان مع ذلك قائلاً بهذه المقالات التي زعموا أنها التوحيد حتى لو أقر بأن الله وحده خالق كل شيء وهو "التوحيد في الأفعال" لكان مشركاً، وهذه حال مشركي العرب الذي بعث الرسول إليهم ابتداء وأنزل القرآن ببيان شركهم ودعاهم إلى توحيد الله وإخلاص الدين له"4.   1- سورة الفاتحة آية: (4، 5) . 2- سورة البقرة آية: (21) . 3- الملل والنحل 1/42. 4- تلبيس الجهمية 1/478، وانظر درء تعارض العقل والنقل 1/225 ـ 226. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 الفصل الثالث: دلالة السورة على توحيد الربوبية المبحث الأول: تعريف توحيد الربوبية ... المبحث الأول: تعريف توحيد الربوبية معنى الرب في اللغة: الرب في اللغة: يطلق على المالك، والسيد، والمدبر، والمربي، والقيم، والمنعم، والمتمم، ولا يطلق غير مضاف إلا على الله ـ تعالى ـ وإذا أطلق على غيره أضيف فيقال: رب كذا ... ومنه حديث أبي هريرة "لا يقل المملوك لسيده ربي"1 كره أن يجعل مالكه رباً له لمشاركة الله تعالى في الربوبية فأما قوله تعالى {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} 2 فإنه خاطبه على المتعارف عندهم، وعلى ما كانوا يسمونهم به ومثله قول موسى عليه السلام للسامري: {وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ} 3 أي: الذي اتخذته إلهاً. وأما الحديث في ضالة الإبل "حتى يلقاها ربها"4 فإن البهائم غير متعبدة ولا مخاطبة فهي بمنزلة الأموال التي يجوز إضافة مالكيها إليها وجعلهم أرباباً لها ومنه حديث عمر رضي الله عنه"رب الصريمة ورب الغنيمة"5 وقد كثر ذلك في الحديث6. وجاء في الصحاح للجوهري: "رب كل شيء: مالكه"، والرب اسم من أسماء الله ـ عز وجل ـ ولا يقال: في غيره إلا بالإضافة، وقد قالوه في الجاهلية للملك قال الحارث بن حلِّزة: وهو الرب والشهيد على يوم الحيارين والبلاء بلاء   1- رواه أبو داود في سننه 2/591. 2- سورة يوسف آية: 42. 3- سورة طه آية: 97. 4- رواه ابن ماجة من حديث زيد بن خالد الجهني 2/837. 5- رواه البخاري في صحيحه وانظر "فتح الباري" 6/175. 6- النهاية في غريب الحديث والأثر 2/179 ـ 180. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 والرباني: المتأله العارف بالله ـ تعالى ـ وقد قال ـ سبحانه ـ: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} 1 ورببت القوم سستهم أي: كنت فوقهم. قال أبو نصر: وهو من الربوبية، ومنه قول صفوان: لأن يربني رجل من قريش أحب إليّ من أن يربني رجل من هوازن. ورب الضيعة: أي أصلحها وأتمها. ورب فلان رباً ورببه، وترببه بمعنى أي: رباه. اهـ2. وجاء في المفردات في غريب القرآن: "الرب: في الأصل من التربية وهو إنشاء الشيء حالاً فحالاً إلى حد التمام يقال: ربه ورباه ورببه .... فالرب مصدر مستعار للفاعل ولا يقال: الرب مطلقاً إلا على الله ـ تعالى ـ المتكفل بمصلحة الموجودات نحو قوله تعالى: {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} 3 ... وبالإضافة يقال: له ولغيره نحو قوله: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} 4 ويقال: رب الدار ورب الفرس لصاحبها" اهـ5. المعنى الإصطلاحي لتوحيد الربوبية: هو إفراد الله بأفعاله: كالخلق والرزق، فلا بد من الاعتقاد الجازم بأنه ـ تعالى ـ الخالق الرازق المحيي المميت المدبر، المعطي المانع، الضار النافع، القادر المقتدر، مالك الملك الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. قال العلامة ابن القيم: فاسم الرب له الجمع الجامع لجميع المخلوقات فهو رب كل شيء وخالقه، والقادر عليه لا يخرج شيء عن ربوبيته وكل من في السموات والأرض عبد له في قبضته وتحت قهره، فاجتمعوا بصفة الربوبية، وافترفوا بصفة الإلهية فألهه وحده السعداء، وأقروا له طوعاً بأنه الله الذي لا إله إلا هو، الذي لا تنبغي العبادة، والتوكيل، والرجاء، والخوف والحب، والإنابة والإخبات، والخشية، والتذلل، والخضوع إلا له،   1- سورة آل عمران آية: 79. 2- الصحاح 1/130 وانظر القاموس 1/72 ـ 73، اللسان 1/399 وما بعدها. 3- سورة سبأ آية: 15. 4- سورة الفاتحة آية: 1. 5- المفردات للراغب ص184، وانظر أحكام القرآن لابن العربي 1/279. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 وههنا افترق الناس وصاروا فريقين فريقاً مشركين في السعير، وفريقاً موحدين في الجنة، فالإلهية هي التي فرقتهم، كما أن الربوبية هي التي جمعتهم" اهـ1. وقال في تيسير العزيز الحميد معرفاً توحيد الربوبية: "هو الإقرار بأن الله ـ تعالى ـ رب كل شيء ومالكه، وخالقه ورازقه، وأنه المحيي المميت النافع الضار المتفرد بإجابة الدعاء عند الاضطرار، الذي له الأمر كله، وبيده الخير كله القادر على ما يشاء، ليس له في ذلك شريك، ويدخل في ذلك الإيمان بالقدر وهذا التوحيد لا يكفي العبد في حصول الإسلام بل لا بد أن يأتي مع ذلك بلازمه من توحيد الإلهية، لأن الله حكى عن المشركين أنهم مقرون بهذا التوحيد له وحده"2. وجاء في لوامع الأنوار: "توحيد الربوبية أن لا خالق ولا رازق ولا محيي ولا مميت ولا موجد ولا معدم إلا الله تعالى"3. وقال محمد صديق حسن خان في كتابه "الدين الخالص" مبيناً معنى "توحيد الربوبية" ومعناه: "أن الله وحده هو الخالق للعالم وهو الرب لهم، والرازق لهم، وهذا لا ينكره المشركون ولا يجعلون لله فيه شريكاً بل هم مقرون به" اهـ4. والذي نخلص إليه من تعريفات أهل العلم لتوحيد الربوبية أنه لا بد من الاعتقاد الجازم بأن الله ـ تعالى ـ هو الرب المتفرد بالخلق والرزق والتدبير الذي ربى جميع الخلق بأصناف نعمه، وربى خواص خلقه وهم الأنبياء وأتباعهم الذين آمنوا بهم وصدقوا بما جاؤوا به من عند ربهم بالعقائد الصحيحة، والأخلاق الجميلة والعلوم النافعة، والأعمال الصالحة.   1- مدارج السالكين 1/34. 2- ص 17. 3- 1/128 ـ 129. 4- 1/61 . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 المبحث الثاني: دلائل توحيد الربوبية من السورة لقد ذكر الله في سورة "الزمر" الكثير من دلائل توحيد الربوبية فقد بين أنه تعالى الخالق للسموات والأرض وما بينهما، وأنه ـ سبحانه ـ هو الذي جعل الليل والنهار يتعاقبان بحيث إذا ذهب هذا خلفه الآخر، وهو الذي سخر الشمس والقمر لتهيئة مصالح العباد ومنافعهم، وهو الذي خلق بني آدم من نفس واحدة وهو آدم عليه السلام، وهو الذي خلق لهم الأزواج الثمانية من الأنعام التي تعتبر أكثر الحيوانات نفعاً لبني الإنسان، وهو الذي يرعاهم بلطفه وعنايته وهم في الأرحام في ظلمات ثلاث وهو الذي ينزل المطر من السماء وينبت النبات، وهو ـ سبحانه ـ المتصرف في شؤون خلقه بالإحياء والإماتة واليقظة والنوم، وبسطه ـ تعالى ـ الرزق لمن يشاء وتضييقه على من يشاء، ثم بينت السورة في ختام تلك الدلائل أن مقاليد السموات والأرض بيده ـ سبحانه ـ تلك هي دلائل توحيد الربوبية في السورة وسأتحدث عن كل واحد منها بحديث خاص حتى يتبين وجه دلالتها على ربوبية الخالق وأنه ـ سبحانه ـ المستحق للعبادة وحده لا شريك له. وإلى بيان تلك الأدلة مرتبة: 1 ـ خلق السموات والأرض: لقد دلت السورة على أن خلق السموات والأرض من أعظم الآيات الدالة على ربوبيته ـ تعالى ـ والتعرف عليه ـ سبحانه ـ في آيتين منها: قال تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِ ... } الآية. وقال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُون} . إن خلق السموات والأرض وإبداعهما على هذه الصورة من أعظم الآيات الدالة على ربوبية الله، والتعرف عليه ـ سبحانه ـ فقد أوضح الحق ـ سبحانه ـ بقوله: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 وَالأَرْضَ بِالْحَقِ} أنه خالقهما بالحق المتجرد عن اللهو والعبث، وبث فيهما من الحكم العظيمة التي يتجلى بعضها لعباده المتفكرين المتدبرين في خلقهما. وأما قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُون} فهذه الآية فيها أمر للنبي صلى الله عليه وسلم: بأن يدعو الله وحده لا شريك له الذي خلق السموات والأرض وفطرها على غير مثال سابق قال ابن جرير الطبري عند قوله تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِ} يقول تعالى ذكره معرفاً خلقه حجته عليهم في توحيده، وأنه لا تصلح الألوهية إلا له: "خلق ربكم أيها الناس السموات والأرض بالعدل ـ وهو الحق ـ منفرداً بخلقها لم يشركه في إنشائها وإحداثها شريك ولم يعنه عليها معين"1. فالإله الحق الذي يستحق أن يعبد هو من يخلق وينشئ السموات والأرض، وليس ذلك في مقدور أحد سوى رب العالمين الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده دون سواه، فالسموات جعلها الله سقفاً محفوظاً تتألف من سبع طبقات وفيها من مخلوقات الله العجيبة ما الله بها عليم يحكمها نظام متقن تسير على وفقه، وذلك النظام هو النظام الإلهي الرباني الذي يحافظ على سيرها العام دون أن يحصل فيها خلل أو فطور قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُور * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} 2 وقد تحدث العلامة ابن القيم في كتابه "مفتاح دار السعادة" عن آيات الله الدالة على وجوده وقدرته وحكمته في خلقه السموات وإبداع صنعها وما هي عليه من حيث السعة والعظم، وحسن خلقها وبنائها كما أوضح بأنها أشمل للعجائب التي دلت على وجود الخالق ـ سبحانه ـ وأن دلالتها على وجود الله ـ تعالى ـ أوضح من دلالة المخلوقات الأخرى، ثم قرر أنه لا نسبة لجميع ما في الأرض إلى عجائب السموات. قال رحمه الله تعالى: "فالأرض والبحار والهواء وكل ما تحت السموات بالإضافة إلى السموات كقطرة في بحر ولهذا قل أن تجيء سورة في القرآن إلا وفيها ذكرها إما إخباراً عن عظمها وسعتها، وإما إقساماً بها، وإما دعاء إلى النظر فيها، وإما إرشاداً للعباد أن يستدلوا بها على عظمة بانيها ورافعها، وإما استدلالاً منه ـ سبحانه ـ بخلقها على ما أخبر به   1- جامع البيان 14/78. 2- سورة الملك آية: 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 من المعاد والقيامة، وإما استدلالاً منه بربوبيته لها على وحدانيته، وأنه الله الذي لا إله إلا هو، وإما استدلالاً منه بحسنها واستوائها والتئام أجزائها وعدم الفطور فيها على تمام حكمته وقدرته، وكذلك ما فيها من الكواكب والشمس والقمر والعجائب التي تتقاصر عقول البشر عن قليلها فكم من قسم في القرآن بها؟ كقوله: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} ، {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} ، {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} ، {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ} ، {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} ، {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} ، و {النَّجْمُ الثَّاقِبُ} ، {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ} ، وهي الكواكب التي تكون خنساً عند طلوعها جوار في مجراها وسيرها عند غروبها فأقسم بها في أحوالها الثلاثة، ولم يقسم في كتابه بشيء من مخلوقاته أكثر من السماء والنجوم والشمس والقمر وهو ـ سبحانه ـ يقسم بما يقسم به من مخلوقاته لتضمنه الآيات والعجائب الدالة عليه وكلما كان أعظم آية وأبلغ في الدلالة كان إقسامه به أكثر من غيره ولهذا يعظم هذا القسم كقوله: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} " اهـ1. وقال في موضع آخر: " فتأمل خلق السماء وارجع البصر فيها كرة بعد كرة كيف تراها؟ من أعظم الآيات في علوها وارتفاعها وسعتها وقرارها بحيث لا تصعد علواً كالنار ولا تهبط نازلة كالأجسام الثقيلة ولا عمد تحتها ولا علاقة فوقها بل هي ممسوكة بقدرة الله الذي يمسك السموات والأرض أن تزولا ثم تأمل استواءها واعتدالها فلا صدع فيها ولا فطر ولا شق ولا أمت ولا عوج ثم تأمل ما وضعت عليه من هذا اللون الذي هو أحسن الألوان وأشدها موافقة للبصر وتقوية له"اهـ2. فلقد أوضح ابن القيم دلالة خلق السموات على أن للعالم خالقاً حكيماً عليماً قدره أحسن تقدير ونظمه أحسن نظام ولقد حث القرآن الكريم في غير ما آية على التفكر في خلق السموات والأرض وبين أن الذي أقامها وأمسكها إنما هو الخالق القادر على كل شيء المستحق للعبادة وحده دون سواه. قال تعالى: {اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} 3 وقال {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} 4 وقال تعالى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ} 5 أفلا ينظرون من رفع السماء بلا عمد يرونها وهي بعيدة المدى لا علاقة من فوقها ولا عمد   1- مفتاح دار السعادة 1/196 ـ 197 والآيتان رقم 75 ـ 76 من سورة الواقعة. 2- مفتاح دار السعادة 1/207. 3- سورة الرعد آية: 2. 4- سورة لقمان آية: 10. 5- سورة الغاشية آية: 17 ـ 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 تحتها تسندها ولا يدخل في حساب الخلق نجومها؟ وقال تعالى: {إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} 1. فهو سبحانه قيوم السموات والأرضيين فلا قيام لهما ولا استقرار إلا به سبحانه وتعالى. وأما خلق الأرض وما فيها من الجبال والهضاب والسهل والوعر والرمل والبحار والأنهار وما في باطنها من المعادن وغيرها من المنافع الظاهرة والباطنة التي تساعد الإنسان على بناء حياته لأدلة واضحة على إبداع الخلاق الحكيم ـ سبحانه وتعالى ـ وقد نبه الله عباده في غير ما آية إلى النظر والتفكر في الأرض. قال تعالى: {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} 2. فالأرض مليئة بالعبر والعظات لأهل اليقين. قال تعالى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} 3 أفلا ينظرون؟ من بسط الأرض ودحاها وجعلها بساطاً ممتداً في الطول والعرض {لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً} 4 تثبت عليها الأقدام ويتقلب عليها الحيوان ويتمتع بخيراتها الإنسان؟ إنه الله ... فلا شيء يخلق نفسه. وقد أثنى الله ـ تعالى ـ على عباده الذين يتفكرون في خلق السموات والأرض، وبين الثمرة التي تحصل لهم نتيجة تفكرهم وتدبرهم في خلق السموات والأرض فقال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ ِلأُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} 5. فتأمل أولي الألباب في خلق ربهم للسموات والأرض وما احتويا عليه من الآيات الدالة على قدرة الباري ـ سبحانه وتعالى ـ أكسبهم الثمرة المطلوبة وتلك الثمرة هي أنهم   1- سورة فاطر آية: 41. 2- سورة الذاريات آية: 20. 3- سورة الغاشية آية: 17 ـ 20. 4- سورة نوح آية: 20. 5- سورة آل عمران آية: 190 ـ 191. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 يذكرونه ـ سبحانه ـ في جميع حالاتهم قياماً، وقعوداً وعلى جنوبهم، ثم أيقنوا وآمنوا بأن الرب ـ سبحانه وتعالى ـ لم يخلق هذه المخلوقات عبثاً ولذلك نزهوه عن العبث فقالوا: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً} . فتفكرهم في هذا الكون الفسيح علويه وسفليه نقلهم إلى الإيمان بما وراء هذا الكون وهو الدار الآخرة ولذلك تضرعوا إلى الله أن يقيهم عذاب النار الذي يوجب لصاحبه الخزي والعار فقالوا: {سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} . وقد ذم الله المعرضين عن التفكر فيما خلق الله من المخلوقات في السموات والأرض فقال ـ سبحانه ـ: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} 1. قال ابن كثير: "أي لا يتفكرون فيما خلق الله فيها من الاتساع العظيم والارتفاع الباهر، وما زينت به من الكواكب الثوابت والسيارات في ليلها ونهارها من هذه الشمس التي تقطع الفلك بكماله في يوم وليلة، فتسير غاية لا يعلم قدرها إلا الله الذي قدرها وسخرها وسيرها" أ. هـ2. وقال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} 3. يخبر تعالى عن غفلة أكثر الناس عن التفكر في آيات الله، ودلائل توحيده بما خلقه الله في السموات والأرض من كواكب زاهرات ثوابت، وسيارات وأفلاك دائرات، والجميع مسخرات، وكم في الأرض من قطع متجاورات، وحدائق وجنات، وجبال راسيات، وبحار زاخرات وأمواج متلاطمات، وقفار شاسعات، وكم من أحياء وأموات وحيوان ونبات، وثمرات متشابهة ومختلفات في الطعوم والروائح والألوان والصفات، ـ فسبحان الواحد الأحد ـ خالق أنواع المخلوقات، المتفرد بالدوام والبقاء والصمدية للأسماء والصفات وغير ذلك"4.   1- سورة الأنبياء آية: 32. 2- تفسير القرآن العظيم 4/561. 3- سورة يوسف آية: 105. 4- تفسير ابن كثير 4/55. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 فالسموات والأرض مليئة بالآيات البينات والحجج الواضحات التي تهدي الإنسان وتدله على أن وراء هذا الكون خالقاً حكيماً مدبراً، هو المستحق أن يعبد وحده دون سواه. 2 ـ تعاقب الليل والنهار: إن تعاقب الليل والنهار المشار إليه في السورة بقوله تعالى: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} بإدخال أحدهما على الآخر وتداخلهما من أعجب آيات الله، وبدائع صنعه، ولذلك يعيد الباري ـ سبحانه ـ ذكرهما في القرآن ويبديه. قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ} 1 وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} 2 وقوله سبحانه {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً} 3. "فالله تعالى هو الذي يحول ضياء النهار إلى ظلام الليل ليتمكن الإنسان من الحصول على الهدوء والسكينة حتى يرتاح من إرهاق العمل ومشقة السعي، وحتى يستجمع قواه ويجدد نشاطه ليواصل سعيه من جديد إذا ما جاء النهار وولي الظلام"4. وفي ذلك عبر ودلالات واضحة على ربوبية الله ـ تعالى ـ وتصرفه في الكون كيف يشاء. وعند التأمل في مقادير الليل والنهار نجدها على غاية المصلحة والحكمة وأن مقدار الليل والنهار على لو زاد على ما قدر له أو نقص لفاتت المصلحة واختلفت الحكمة بذلك بل جعل الله لهما مقداراً معيناً وهو أربعة وعشرون ساعة ويتقارضان الزيادة بينهما فما يزيد في أحدهما من الآخر يعود الآخر فيسترده منه وفي ذلك قال تعالى: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} 5 وفي الآية قولان: أحدهما: أن المعنى يدخل ظلمة هذا في مكان ضياء ذلك وضياء هذا في مكان   1- سورة فصلت آية: 37. 2- سورة الفرقان آية: 62. 3- سورة الفرقان آية: 47. 4- انظر مفتاح دار السعادة لابن القيم 1/203 بتصرف. 5- سورة الحديد آية: 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 ظلمة الآخر فيدخل كل واحد منهما في موضع الآخر وعلى هذا القول تكون الآية عامة في كل ليل ونهار. الثاني: أنه يزيد في أحدهما ما ينقصه من الآخر فما ينقص منه يلج في الآخر لا يذهب جملة وعلى هذا القول فالآية تكون خاصة ببعض ساعات كل من الليل والنهار في غير زمن الاعتدال فهي خاصة في الزمان وفي مقدار ما يلج في أحدهما من الآخر1. ولا تنافي بين القولين فكلاهما حق. وعلى كل فاختلاف الليل والنهار وزيادة أحدهما ونقصان الآخر من أظهر الأدلة على تصرفه سبحانه في هذا الكون وذلك وذلك لأن النور والظلمة عسكران مهيبان عظيمان وفي كل يوم يغلب هذا ذاك تارة وذاك هذا أخرى، وذلك يدل على أن كل واحد منهما مغلوب مقهور ولا بد من غالب قاهر لهما يكونان تحت تدبيره وقهره، وهو الله سبحانه وتعالى2. 3 ـ تسخير الشمس والقمر لتهيئة مصالح العباد ومنافعهم: إذا تأمل الإنسان بفكر عميق وعقل متدبر في بعض جزئيات هذا الكون المسخر لمصالحه والتي عليها استقرار حياته كفاه ذلك دليلاً واضحاً وحجة بينة على أن هذا الكون مخلوق لخالق حكيم قدير ومن جزئيات هذا العالم تسخير الشمس والقمر المشار إليه في السورة بقوله تعالى: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمّىً أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} . إن الشمس والقمر عليهما يترتب قوام حياة البشرية وحياة جميع المخلوقات من حيوان ونبات. قال الرازي: والثابت اعتبار أحوال الكواكب لا سيما الشمس والقمر فإن الشمس سلطان النهار والقمر سلطان الليل وأكثر مصالح هذا العالم مربوطة بهما وقوله: {كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمّىً} الأجل المسمى يوم القيامة لا يزالان يجريان إلى هذا اليوم فإذا كان يوم القيامة ذهبا ونظيره قوله تعالى: {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَر} 3 والمراد من هذا التسخير   1- مفتاح دار السعادة 1/209 ـ 210. 2- تفسير الرازي 26/244. 3- سورة القيامة آية: 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 أن هذه الأفلاك تدور كدورات المنجنون1 على حد واحد إلى يوم القيامة وعنده تطوى السماء كطي السجل للكتب. أ. هـ2. وقال العلامة ابن القيم: ثم تأمل هذا الفلك الدوّار بشمسه وقمره ونجومه وبروجه وكيف يدور على هذا العالم هذا الدوران الدائم إلى آخر الأجل على هذا الترتيب والنظام وما في طي ذلك من اختلاف الليل والنهار والفصول والحر والبرد وما في ضمن ذلك من مصالح ما على الأرض من أصناف الحيوان والنبات وهل يخفى على ذي بصيرة أن هذا إبداع المبدع الحكيم وتقدير العزيز العليم ولهذا خاطب الرسل أممهم مخاطبة من لا شك عنده في الله وإنما دعوهم إلى عبادته وحده لا إلى الإقرار به. أ. هـ3. فتعاقب الليل والنهار ناتج عن طلوع الشمس وغروبها فلولا تسخيره سبحانه الشمس والقمر والليل والنهار بصورة منظمة محكمة بلغت النهاية في التنظيم والإبداع لتعطل أمر العالم بأسره فلقد ذلل الله الشمس والقمر وسيرهما في أفلاكهما سيراً سريعاً متوازناً بحيث لا يؤدي ذلك إلى ارتطام أو اصطدام بينهما، وقد عد الله ذلك من آياته قال تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} 4. فالليل والنهار يتعاقبان على حد معلوم وقدر مقسوم كل منهما يتعقب الآخر مسرعاً في طلبه ويتغلب على المكان الذي كان فيه والشمس والقمر يدوران والنجوم الثابتة والسيارة كل في فلك يسبحون بسير مقدر ونور مقرر، وانتظام دقيق، وحركة محسوبة وترابط عجيب تبعاً لسنن إلهية مقررة، فلو قدر للشمس أن لا تغيب لحميت الأرض بدوام شروقها ولهلك كل من عليها من حيوان ونبات فكان طلوعها بمنزلة السراج يرفع لأهل البيت ليقضوا حوائجهم ثم تغيب عنهم مثل ذلك ليقروا ويهدءوا. وصار ضياء النهار مع ظلام الليل وحر هذا مع برد هذا مع تضادهما متعاونين متظاهرين بهما تمام مصالح العالم. وقد   1- المنجنون: الدولاب التي يستقي عليها. انظر مختار الصحاح ص635. 2- التفسير الكبير 26/244. 3- مفتاح دار السعادة 1/212. 4- سورة يس آية: 37 ـ 40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 أشار تعالى إلى هذا المعنى في قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ} 1. فخص سبحانه النهار بذكر البصر لأنه محله وفيه سلطانه وتصرفه وخص الليل بذكر السمع لأن سلطان السمع يكون بالليل وتسمع فيه الحيوانات ما لا تسمع في النهار لأنه وقت هدوء الأصوات وخمود الحركات2. وهناك فوائد أخرى مترتبة على حركة الشمس والقمر أشار إليها سبحانه بقوله: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} 3. "فالخلق بأسرهم بحاجة ماسة إلى معرفة الحساب الذي لا غناء لهم في مصالحهم عنه فعليه تتوقف معرفة أعمارهم والآجال المضروبة للديون والإجارات والمعاملات والعدد وغير ذلك فلولا حلوك الشمس والقمر في المنازل وتنقلهما فيها منزلة بعد منزلة لم يعلم شيء من ذلك"4. فالحركة الدائبة للشمس والقمر قائمة على النظام والإتقان والتقدير الإلهي الذي شمل كل مخلوقات الله تعالى ذلك الكون منظم منسق وانتظامه مرتبط بإرادة الله وقدرته كما أن استمراره على هذه الحالة منوط باختيار الله تعالى ومشيئته قال تعالى: {صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} 5 وقال تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} 6 وقال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} 7. فليس هناك فوضى أو عبث وإنما هو إتقان وتقدير إلهي والنظام المتمثل في هذا   1- سورة القصص آية: 71 ـ 72. 2- مفتاح دار السعادة 1/207 ـ 208، التفسير القيم ص402. 3- سورة يونس آية: 5. 4- مفتاح دار السعادة 1/209. 5- سورة النمل آية: 88. 6- سورة الفرقان آية: 2. 7- سورة القمر آية: 49. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 الكون يدركه عقل الإنسان بسهولة ويسر لأنه لا يحتاج إلى كد ذهن أو إعمال فكر لأنه خطاب موجه من العليم بنفوس البشر جميعاً فاقتضت الحكمة الإلهية مخاطبة الناس كافة بآيات هذا الكون الفسيح وما فيه من عجائب المخلوقات ولقد أحسن من قال: تأمل سطور الكائنات فإنها ... من الملأ الأعلى إليك رسائل وقد خط فيها لو تأملت خطها ... ألا كل شيء ما خلا الله باطل تشير بإثبات الصفات لربها ... فصامتها يهدي ومن هو قائل1 فدلائل ربوبية الخالق ماثلة في كل ما يحيط ببني الإنسان على مختلف حواسهم، نشرها الباري بينهم لكي يقرؤوها فيعبدوه ويوحدوه دون سواه. 4 ـ خلقه تعالى بني آدم من نفس واحدة: قال تعالى: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} هذه الآية من السورة بين الله تعالى فيها أنه خلق بني آدم الذين لا يحصي عددهم إلا هو ـ سبحانه ـ من أب واحد وهو آدم عليه السلام حيث كان خلقه في المرحلة الأولى منفرداً، ثم خلق له الباري ـ سبحانه ـ زوجة من نفسه وجسمه وهي حواء في سورة نادرة ليس لها مثيل بين المخلوقات2، فخلقه تعالى البشرية على هذا النحو من أعظم الأدلة الدالة على إبداع المبدع الحكيم والمدبر العليم، وخلقه ـ تعالى ـ بني آدم من نفس واحدة فيه لفت أنظارهم إلى مبدأ خلقهم وأن البشرية على اختلاف تنوعها بين الذكورة والأنوثة، وعلى اختلافها في العرق والعنصر وتباينها في اللغة واللون، فإن مرجعها إلى مصدر واحد وإلى منشأ واحد كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً} 3. قال ابن جرير حول قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} "يعني بقوله تعالى ذكره: احذروا أيها الناس ربكم في أن تخالفوه فيما أمركم، وفيما نهاكم فيحل بكم من عقوبته ما لا قبل لكم به   1- مدارج السالكين 3/356. 2- انظر جامع البيان 23/193، تفسير القرآن العظيم لابن كثير 6/80، التفسير الكبير للرازي 26/244 ـ 245، تفسير النسفي 4/50. 3- سورة النساء آية: 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 ثم وصف تعالى ذكره نفسه: بأنه المتوحد بخلق جميع الأنام من شخص واحد وعرف عباده كيف كان مبدأ إنشائه ذلك من النفس الواحدة ومنبههم بذلك على أن جميعهم بنو رجل واحد وأم واحدة وأن بعضهم من بعض" أ. هـ1. فإنشاء جميع البشر على كثرتهم الهائلة من نفس واحدة آية بينة على قدرة الله وعلمه وحكمته ووحدانيته وذلك من نعم الله على عباده فيجب عليهم أن يشكروا تلك النعمة وهي خروجهم من العدم إلى الوجود ويفردوه ـ سبحانه ـ بالعبادة وحده لا شريك له. 5 ـ تذكير العباد بمرحلة التكوين في الأرحام: لقد جاء التذكير في السورة لبني آدم بأطوار خلقهم التي يمرون بها وتمر بها الحيوانات عند خلقها مع التفاوت في تلك الأطوار وقد أحيطت بظلمات متعددة في البطون، والأرحام، والمشايم، والسلي تحت العناية الربانية كما أبانت بأن الذي يفعل بهم ذلك إنما هو الله الذي له السلطان المطلق على جميع خلقه، والذي له الملك الحقيقي ظاهراً وباطناً فلا معبود بحق إلا هو ـ سبحانه وتعالى ـ فلا ينبغي لأي إنسان أن ينصرف عن عبادته وعن إخلاص العبودية له ـ وحده لا شريك له ـ إذ هو الذي خلقهم من العدم وحباهم بأصناف النعم الظاهرة والباطنة وليس في مقدور أي أحد أن يفعل لهم من ذلك شيئاً مهما كانت منزلته وعلت مكانته. قال تعالى مذكراً عباده بمرحلة تكوينهم في بطون أمهاتهم في الظلمات الثلاث: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} . قال قتادة والسدي: " {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظماً ثم لحماً"2. وقال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: يبتدئ خلقكم أيها الناس في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق وذلك أنه يحدث فيها نطفة، ثم يجعلها علقة، ثم مضغة ثم عظاماً، ثم يكسو العظام لحماً، ثم ينشئه خلقاً آخر فتبارك الله وتعالى فذلك خلقه إياكم خلقاً من بعد خلق"3.   1- جامع البيان عن تأويل آي القرآن 4/223 ـ 224. 2- الجامع لأحكام القرآن 15/236، وانظر مجموع الفتاوى 16/262. 3- جامع البيان 23/195. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 وقال ابن كثير: "يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق أي: قدركم في بطون أمهاتكم يكون أحدكم أولاً نطفة ثم يكون علقة ثم يكون مضغة ثم يخلق فيكون لحماً وعظماً وعصباً وعروقاً وينفخ فيه الروح فيصير خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين"1. قال أبو الحسن الأشعري رحمه الله تعالى: "إن الإنسان إذا فكر في خلقه من أي شيء ابتدأ وكيف دار في أطوار الخلقة طوراً بعد طور حتى وصل إلى كمال الخلقة وعرف يقيناً أنه بذاته لم يكن ليدبر خلقته، وينقله من درجة إلى درجة وينقيه من نقص إلى كمال علم بالضرورة أن له صانعاً قادراً عالماً مريداً إذ لا يتصور حدوث الأفعال المحكمة من طبع، لظهر آثار الاختيار في الفطرة وتبين آثار الأحكام والإتقان في الخلقة فله تعالى صفات دلت أفعاله عليها لا يمكن جحدها" أ. هـ2. وقد أكد شيخ الإسلام ابن تيمية "أن أحسن ما يستدل به على ربوبية الخالق هو الاستدلال بخلق الإنسان نفسه كما كرر ذلك كتاب الله إذ هو الدليل وهو المستدل {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُون} 3. ثم بما يحدثه في هذا الوجود من آثار" أ. هـ4. والحال كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إذ أن خلق الإنسان من أعظم الآيات الدالة على وجدود ـ الخالق سبحانه ـ ومن أعظم الآيات الدالة على عموم قدرته وعلمه، وكمال حكمته وإحسانه ورحمته، ولما كان خلق الإنسان من أوضح الأدلة على وجود ـ الباري جل وعلا ـ ومن أقرب الأدلة وضوحاً للإنسان نفسه أن نجد أن الله ـ تعالى ـ دعا جميع عباده إلى أن يتفكروا وينظروا بعين البصيرة في مبدأ خلقهم، وفي أطوار هذا الخلق والمراحل التي مروا بها حتى صاروا بشراً ينتشرون على هذه الأرض. قال تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الإنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ} 5 وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا   1- تفسير القرآن الكريم 6/80. 2- الملل والنحل للشهرستاني 1/94. 3- سورة الذاريات آية: 21. 4- مجموع الفتاوى 16/262. 5- سورة الطارق آية: 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً} 1. وقال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} 2 فهاتان الآيتان فيهما شرح لكيفية خلق الإنسان فقد بين الله فيهما أن أصل خلق الإنسان الأول وهو آدم عليه السلام كان من طين. ثم بين ـ تعالى ـ أنه خلق نسل آدم من تلك النطفة، التي مرت بأطوار مختلفة ففي البداية كانت نطفة ثم صارت علقة، ثم صارت مضغة، ثم صارت عظاماً، فكسيت تلك العظام لحماً إلى أن صار بشراً سوياً، وذلك من أعظم الأدلة الدالة على قدرة الله المهيمنة على كل شيء، ومن رحمته تعالى أنه هيأ لتلك النطفة الأسباب التي أوصلتها إلى مستقرها وقرارها المكين الذي يناسبها. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: " فانظر الآن إلى النطفة بعين البصيرة، وهي قطرة من ماء مهين، ضعيف لو مرت بها ساعة ـ أي لحظة ـ من الزمان فسدت وأنتنت، كيف استخرجها رب الأرباب العليم القدير من بين الصلب والترائب، منقادة لقدرته مطيعة لمشيئته مذللة الانقياد على ضيق طرقها، واختلاف مجاريها إلى أن ساقها إلى مستقرها ومجمعها ... وكيف قدر اجتماع ذينك المائين مع بعد كل منهما عن صاحبه، وساقهما من أعماق العروق والأعضاء، وجمعهما في موضع واحد جعل لهما قراراً مكيناً لا يناله هواء يفسده ولا برد يجمده، ولا عارض يصل إليه، ولا آفة تتسلط عليه، ثم قلب تلك النطفة إلى علقة حمراء مباينة للنطفة، ثم جعلها مضغة لحم، مباينة للعلقة في شكلها ولونها وحقيقتها، ثم تحويل تلك المضغة عظاماً مجردة لا كسوة عليها مباينة للمضغة كل المباينة في الشكل والهيئة والقدر والملمس، ثم كيف قسمت تلك النطفة الحمراء إلى تلك الأجزاء المتشابهة، وبالمقدار المناسب لكل عضو، ثم اتجاه كل جزء أو خلية إلى مكانها المناسب في وقتها وأوانها وعلى حسب الحاجة إليها فمنها ما يتجه إلى إنشاء العظام.   1- سورة الحج آية: 5. 2- سورة المؤمنون آية: 12 ـ 14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 كل في محله، وعلى قدره الذي قدر أن يكون عليه فمنها الصغير، والكبير، والطويل، والقصير، والمنحني، والمستدير، والعريض، والمصمت، والمجوف، فهي مختلفة الأشكال والأحجام، وذلك حسب اختلاف المنافع المنوطة بها ثم شد تلك العظام وربط بعضها ببعض برباط قوي محكم بحيث لا يسقط عضو من آخر"1. {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} 2. "ثم أن هذا الخلق الذي يبتدئ بخلق النطفة إلى أن يصير بشراً سوياً يتم في ظلمات ثلاث كما أشارت إليه السورة في قوله تعالى: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} والمراد بالظلمات الثلاث هي: ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة"3. ففي تلك الظلمات الثلاث يتم ذلك الخلق العجيب فعلى الإنسان أن يتصور نفسه وهو في تلك الظلمات الثلاث: لا عين تراه، ولا يد تلمسه، ولا حيلة له في التماس الغذاء. قال ابن القيم: "فأعد الآن النظر فيك وفي نفسك مرة ثانية من الذي دبرك بألطف تدبير، وأنت جنين في بطن أمك في موضع لا يد تنالك ولا بصر يدركك ولا حيلة لك في التماس الغذاء ولا في دفع الضرر فمن الذي أجرى إليك من دم الأم ما يغذوك كما يغذوا الماء النبات، وقلب ذلك الدم لبناً ولم يزل يغذيك به في أضيق المواضع وأبعدها من حيلة التكسب والطلب حتى إذا كمل خلقك واستحكم وقوي أديمك على مباشرة الهواء وبصرك على ملاقاة الضياء وصلبت عظامك على مباشرة الأيدي، والتغلب على الغبراء هاج الطلق من أمك فأزعجك إلى الخروج أيما إزعاج إلى عالم الابتلاء"4. فابن القيم رحمة الله عليه وضح لنا وجه الدلالة من التدرج في خلق الإنسان على أن هناك مدبراً حكيماً قادراً عليماً وراء هذا الكون وما فيه من المخلوقات دبره فأحسن تدبيره ـ فسبحانه ـ من إله حكيم أحكم خلقه وقدره تقديراً. وبعض هذا العرض لمرحلة تكوين العباد في الأرحام تقول: إنا إذا اعتبرنا أن تلك المراحل إنما سيقت لتبين لنا كيف خلق الإنسان وكيف نما؟ وكيف تحول بحكم المراحل   1- مفتاح دار السعادة 1/187 ـ 189، وانظر "إيثار الحق على الخلق لابن الوزير ص44 ـ 45". 2- سورة الإنسان آية: 28. 3- الجامع لأحكام القرآن 15/236، تفسير ابن كثير 6/80. 4- مفتاح دار السعادة 1/255 ـ 256. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 المتعاقبة إلى كائن حيواني، ثم كيف انتقل إلى ذلك الإنسان العاقل المدرك الواعي عنده من المؤهلات والاستعدادات ما يجعله يتبوأ عمارة هذه الأرض ومسؤولية بنائها. ولتبين: أن ذاك التعريف بخلق الإنسان إنما جاء دليلاً على قدرة الله وعلمه وحكمته وعندئذ يكون التعريف بتلك المراحل إنما هو تعريف بالله وبصفاته اعتماداً على التعريف بأحد مخلوقاته المعتبرة اعتباراً أولياً. فليتأمل الإنسان خلقه، أليس مخلوقاً من قطرة ماء؟ من كونها لحوماً منضدة وعظاماً مركبة وأوصالاً متعددة مشدودة بالعروق والأعصاب مجمعة بجلد متين مشتمل على ثلاثمائة وستين مفصلاً ما بين كبير وصغير؟ من جعل فيها تسعة أبواب فبابان للسمع وبابان للبصر وبابان للشم وباب للكلام والطعام والشراب والتنفس وبابان لخروج الفضلات التي يؤذيه احتباسها؟ من جعل داخل بابي البصر ملحاً لئلا تذيب الحرارة الشحم الذي فيه؟ ومن جعل داخل باب الطعام والشراب حلواً ليسيغ ما يأكله ويشربه فلا يتنغص به لو كان مراً أو ملحاً؟ من جعل له مصباحين كالسراج المضيء في أعلى مكان في أشرف عضو طليعة له؟ 1. فخلق الإنسان من الآيات العظيمة الدالة على ربوبية الله تعالى لهذا الكون وما فيه من ألوان المخلوقات وقد حث الله عباده على أن يتفكروا في أنفسهم ليستدلوا بذلك على معرفة الله وأنه المعبود بحق دون سواه. قال تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الإنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ * إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} 2. وقال تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} 3   1- التبيان في أقسام القرآن ص304. 2- سورة الطارق آية: 5 ـ 8. 3- سورة الذاريات آية: 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 قال قتادة: "من تفكر في خلق نفسه عرف أنه إنما خلق ولينت مفاصله للعبادة"1. وقال ابن جرير الطبري: "وفي أنفسكم أيضاً: أيها الناس آيات وعبر تدلكم على وحدانية صانعكم، وأنه لا إله لكم سواه إذ كان لا شيء يقدر على أن يخلق مثل خلقه إياكم"2. 6ـ الاستدلال بخلق الأزواج الثمانية من الأنعام على ربوبيته تعالى: من الأدلة التي أشارت إليها السورة على ربوبية الخالق ـ سبحانه ـ خلقه تعالى الأزواج الثمانية من الأنعام وهي الإبل، والبقر، والضأن والمعز3 فهذه الأصناف تعتبر أكثر الحيوانات نفعاً لبني الإنسان فقد خلقها ـ تعالى ـ لهم فضلاً منه وكرماً، وقد جاءت الإشارة إليها في السورة بقوله تعالى: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} وقد يقال هنا: كيف عبر عن الأنعام بالإنزال مع أنها مخلوقة على الأرض، فيجاب عليه بأن الإنزال في كل شيء بحسبه. قال شارح الطحاوية: أثناء رده على القائلين بأن إنزال القرآن إنما هو نظير إنزال المطر أو إنزاله الحديد، وإنزال ثمانية أزواج من الأنعام. قال رحمه الله: "وإنزال الحديد والأنعام مطلق، فكيف يشبه هذا الإنزال بهذا الإنزال؟ فالحديد إنما يكون من المعادن التي في الجبال، وهي عالية على الأرض، وقد قيل إنه كلما كان معدنه أعلى كان حديده أجود، والأنعام تخلق بالتوالد المستلزم إنزال الذكور الماء من أصلابها إلى أرحام الإناث، ولهذا يقال: أنزل ولم يقل نزّل، ثم الأجنة تنزل من بطون الأمهات إلى وجه الأرض، ومن المعلوم أن الأنعام تعلو فحولها إناثها عند الوطء، وينزل ماء الفحل من علو إلى رحم الأنثى، وتلقي ولدها عند الولادة من علو إلى أسفل. وعلى هذا فيحتمل قوله {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ} وجهين: أحدهما: أن تكون "من" لبيان الجنس. الثاني: أن تكون "من" لابتداء الغاية". أ. هـ4   1- تفسير القرآن العظيم 6/419. 2- جامع البيان 26/205. 3- جامع البيان 23/194، الجامع لأحكام القرآن 15/235. 4- شرح الطحاوية ص196. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 وقال ابن كثير {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} أي: وخلق لكم من ظهور الأنعام ثمانية أزواج وهي المذكورة في سورة الأنعام {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الإبل اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ} أ. هـ1. أما القرطبي: فقد ذكر ثلاثة أقوال لمعنى إنزال الثمانية الأزواج: أحدها: أنه أخبر عن الأنعام بالنزول لأنها تكونت بالنبات، والنبات بالماء المنزل وهذا يسمى التدريج. الثاني: أنه جعل الخلق إنزالاً لأن الخلق إنما يكون بأمر ينزل من السماء والمعنى خلق لكم كذا بأمره النازل. الثالث: أن "أنزل" بمعنى أنشأ ـ وجعل ـ وقال سعيد بن جبير2 "خلق" أ. هـ3. وقد بين تعالى أن في خلقه الأنعام عبرة لأولي النهى من عباده. قال تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً سَائِغاً لِلشَّارِبِينَ} 4. والعبرة في الأصل: تمثيل الشيء بالشيء ليعرف حقيقته بطريق المشاكلة ومنه قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} 5. وقال أبو بكر الوراق: العبرة في الأنعام تسخيرها لأربابها وطاعتها لهم. والظاهر أن العبرة هي قوله {نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ} الآية6 فخلق الأنعام التي هي الإبل والبقر والغنم والمعز آية من آيات الله الدالة على حكمة خالقها وقدرته ورحمته ولطفه سبحانه وتعالى وعلى أنه المعبود بحق دون سواه.   1- تفسير ابن كثير 6/80. 2- هو: سعيد بن جبير الأسدي، بالولاء الكوفي أبو عبد الله: تابعي، كان أعلمهم على الإطلاق وهو حبشي الأصل من موالي بني والبة بن الحارث من بني أسد أخذ العلم عن عبد الله بن عباس. انظر ترجمته في "وفيات الأعيان 1/204 تهذيب التهذيب 4/11، حلية الأولياء 4/272". 3- الجامع لأحكام القرآن 15/235. 4- سورة النحل آية: 66. 5- سورة الحشر آية: 2. 6- فتح القدير ج3 ص174. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 كما بين لنا تعالى أن خلقه الأنعام من نعمه التي توجب أنه المتفرد بالخلق والوحدانية ولا يشرك به غيره في العبادة. قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ * وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ} 1. قال العلامة ابن كثير: يذكر تعالى ما أنعم به على خلقه من هذه الأنعام التي سخرها لهم {فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} قال قتادة: مطيقون أي جعلهم يقهرونها وهي ذليلة لهم لا تمتنع منهم بل لو جاء صغير إلى بعير لأناخه ولو شاء لأقامه وساقه وذاك ذليل منقاد معه وكذا لو كان القطار مائة بعير أو أكثر لسار الجميع بسير الصغير وقوله تعالى: {فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ} أي منها ما يركبون في الأسفار ويحملون عليه الأثقال إلى سائر الجهات والأقطار {وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} إذا شاؤوا نحروا واجتزروا {وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} أي من أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين {وَمَشَارِبُ} أي من ألبانها وأبوالها لمن يتداوى ونحو ذلك {أَفَلا يَشْكُرُونَ} أي أفلا يوحدون خالق ذلك ومسخره ولا يشركون به غيره. أ. هـ2. وقال تعالى: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} 3. وفي هذه الآية يمتن الله على عباده بخلقه لهم الأنعام وما فيها من المنافع الكثيرة وذلك من حججه على الناس حيث خلقها لهم وسخرها لهم وجعل لهم من أصوافها وأوبارها وأشعارها ملابس يستدفئون بها من البرد ويشربون من ألبانها وجعل لهم ظهور بعضها مركباً وصنف منها يأكلون لحومها كالإبل والبقر والغنم وسائر ما يؤكل لحمه من غيرها4. وقد أمر الله عباده بالنظر في مخلوقاته الدالة على قدرته وعظمته ومن بين تلك المخلوقات التي أمر بالنظر إليها الإبل. قال تعالى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} 5.   1- سورة يس آية: 71 ـ 73. 2- تفسير القرآن العظيم 5/630. 3- سورة النحل آية: 5. 4- جامع البيان في تأويل آي القرآن 24/78. 5- سورة الغاشية آية: 17 ـ 20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 فأول ما أرشد تعالى في هذه الآيات إلى النظر في الإبل فإنها خلق عجيب وتركيب غريب، فإنها في غاية القوة والشدة وهي مع ذلك تلين للحمل الثقيل وتنقاد للقائد الضعيف ويؤكل لحمها وينتفع بوبرها ويشرب لبنها ونبه الله خلقه إلى ذلك لأن العرب كان غالب دوابهم الإبل وكان القاضي شريح1 يقول: أخرجوا بنا حتى ننظر إلى الإبل كيف خلقت؟ وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت ... ؟ فنبه البدوي على الاستدلال بما يشاهده من بعيره الذي هو راكب عليه والسماء التي فوق رأسه والجبل الذي تجاهه والأرض التي تحته على قدرة خالق ذلك وصانعه وأنه الرب العظيم الخالق الملك المتصرف وأنه الإله الذي لا يستحق العبادة سواه2. فلذلك كله يوجه الله عباده من خلال كتابه بأن يتدبروا ويعتبروا في خلقه للأنعام ويأخذوا العبرة منها التي ترشدهم إلى عجيب صنع الباري ويدل هذا الصنع على ألوهيته سبحانه وتعالى فاللبن الذي تدره لهم ضروع الأنعام الذي هو مستخلص من بين الفرث والدم والفرث هو ما يبقى في كرشها بعض الهضم وبعض أن تمتص الأمعاء العصارة المتحولة إلى دم، هذا الدم هو الذي يذهب إلى كل خلية في الجسم فإذا ما وصل إلى غدد اللبن الموجودة في الضرع تحول إلى ذلك اللبن الخالص السائغ للشاربين ببديع صنع الله الذي أتقن كل شيء. {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً سَائِغاً لِلشَّارِبِينَ} 3.   1- هو: شريح بن الحارث بن قيس بن الجهم الكندي أبو أمية، من أشهر القضاة الفقهاء في صدر الإسلام، أصله من اليمن ولي قضاء الكوفة في زمن عمر وعثمان وعلي ومعاوية واستعفى في أيام الحجاج فأعفاه سنة سبع وسبعين هجرية، وكان ثقة في الحديث مأمون في القضاء، توفي سنة ثمان وسبعين هجرية. انظر ترجمته في تقريب التهذيب 1/349، وطبقات الحفاظ للسيوطي ص27 رقم الترجمة 42 وانظر تذكرة الحفاظ 1/59 والأعلام للزركلي 3/236. 2- تفسير القرآن العظيم 7/277. 3- سورة النحل آية: 66. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 7 ـ إنزال المطر وإنبات النبات: من دلائل الربوبية التي وردت في السورة إنزال المطر من السماء وإنبات النبات قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأُولِي الأَلْبَابِ} . في هذه الآية من السورة أشار ـ سبحانه ـ إلى دليل حسي ملموس متكرر ومشاهد على قدرته ولطفه وعلى أنه الرب الذي يشمل إحسانه وإنعامه ورحمته جميع مخلوقاته حيث ينزل لهم المطر من السماء فيدخله جل وعلا في ينابيع1 في الأرض، ثم يخرج به من الأرض الزروع المختلفة في ألوانها من الخضرة والصفرة والحمرة والبياض، والمتنوعة في أجناسها من البر والشعير والتمر والعنب ثم لفت الأنظار إلى ما يصيب ذلك الزرع من الاصفرار بعد نضرته وبهجته حيث تتغير وتذهب بهجته وخضرته فيصيره حطاماً متفتتاً متكسراً ... ثم بين بأن في هذه الأحوال المتقدمة العبرة والإتعاظ والتذكير لأهل العقول السليمة2 الذين يتذكرون بذلك فيوقنون بأن من فعل كل ذلك "لا يتعذر عليه إحداث ما شاء من الأشياء وإن شاء ما أراد من الأجسام والأعراض وإحياء من هلك من خلقه من بعد مماته وإعادته من بعد فنائه كهيئته التي كان عليها قبل فنائه كما فعل بالأرض الميتة التي أنزل عليها الماء فأنبتت الزرع المختلف الألوان بقدرته"3. فإنزال المطر من السماء، ومشاهدة الأرض مخضرة بألوان من النباتات المختلفة لوناً وجنساً بين عشية وضحاها آية متكررة بين العباد تدل دلالة واضحة على أنه لا بد من صانع حكيم وأن ذلك كائن عن تقدير وتدبير لا عن إهمال وتعطيل ولا دخل للطبيعة والصدفة التي يلهج بها الجاحدون للصانع الحكيم الذي دلت جميع المخلوقات على وحدانيته وألوهيته الحقة. وقال شيخ الإسلام حول الآية السابقة: فأخبر سبحانه أنه يسلك الماء النازل من السماء ينابيع والينابيع جمع ينبوع وهو منبع الماء كالعين والبئر فدل القرآن على أن ماء   1- الينابيع جمع ينبوع وهو عين الماء. "انظر الجامع لأحكام القرآن 15/246". 2- جامع البيان 23/208، تفسير القرطبي 15/246، تفسير ابن كثير 6/86 ـ 87، تفسير النسفي 4/54. 3- جامع البيان عن تأويل آي القرآن 23/208 ـ 209. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 السماء تنبع منه الأرض والإعتبار يدل على ذلك فإنه إذا كثر ماء السماء كثرت الينابيع وإذا قل قلت. وماء السماء ينزل من السحاب والله ينشئه من الهواء الذي في الجو وما يتصاعد من الأبخرة. وليس في القرآن أن جميع ما ينبع يكون من ماء السماء ولا هذا أيضاً معلوماً بالاعتبار فإن الماء قد ينبع من بطون الجبال ويكون فيها أبخرة يخلق منها الماء، والأبخرة وغيرها من الأهوية قد تستحيل ماءاً كما إذا أخذ إناء فوضع فيه ثلج فإنه يبقى ما أحاط به ماء، وهو هواء استحال ماء، وليس ذلك من ماء السماء فعلم أنه ممكن أن يكون في الأرض ماء ليس من السماء فلا يجزم بأن جميع المياه من ماء السماء وإن كان غالبها من ماء السماء. أ. هـ1. وعلى كل حال فالماء آية دالة على قدرة الله ولطفه سواءاً كان الماء النازل من السماء أو الماء النابع من الأرض فهو من الآيات الكونية التي نصبها الله للدلالة على الصانع الحكيم وقدرته التي تتسع لكل شيء. وإن فيما أنزله الله من جهة السماء من ماء مبارك عمرت به الأرض بعد خرابها لدليل ساطع على قدرة الله ووحدانيته وفي إنزاله أيضاً من السماء حكم عظيمة مترتب عليه الكثير من مصالح العباد. قال العلامة ابن القيم: "ثم تأمل الحكمة البالغة في نزول المطر على الأرض من علو ليعم بسقيه وهادها وتلولها وظرابها وأكمامها ومنخفضها ومرتفعها ولو كان ربها تعالى إنما يسقيها من ناحية من نواحيها لما أتى الماء على الناحية المرتفعة إلا إذا اجتمع في السفلي وكثر وفي ذلك فساد فاقتضت حكمته أن سقاها من فوقها فينشئ سبحانه السحاب وهي روايا الأرض ثم يرسل الرياح فتحمل الماء من البحر وتلقحها به كما يلقح الفحل الأنثى ولهذا تجد البلاد القريبة من البحر كثيرة الأمطار وإذا بعدت من البحر قل مطرها وفي هذا المعنى يقول الشاعر يصف السحاب: شربنا بماء البحر ثم ترفعت ... متى لجج خضر لهن نشيج   1- مجموع الفتاوى 16/ 16 ـ 17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 وفي الموطأ مرفوعاً وهو أحد الأحاديث الأربعة المقطوعة "إذا نشأت سحابة بحرية فتلك عين غديقة"1. فالله سبحانه ينشئ الماء في السحاب إنشاء تارة بقلب الهواء ماء وتارة يحمله الهواء من البحر فيلقح به السحاب ثم ينزل منه على الأرض للحكم التي ذكرناها ولو أنه ساقه من البحر إلى الأرض جارياً على ظهرها لم يحصل عموم السقي إلا بتخريب كثير من الأرض ولم يحصل عموم السقي لأجزائها فصاعده ـ سبحانه ـ إلى الجو بلطفه وقدرته ثم أنزله على الأرض بغاية من اللطف والحكمة التي لا اقتراح لجميع عقول الحكماء فوقها فأنزله ومعه رحمته على الأرض" أ. هـ2. وقد لفت القرآن أنظار العباد إلى النظر في إنزال المطر من السماء في مواضع كثيرة من كتابه قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} 3. ففي هذه الآية نبه الله عباده إلى أن يستعملوا عقولهم في التفكير في سوقه تعالى السحاب وجمعه بعد تفرقه بتأليف بعضه إلى بعض ثم ينزل المطر من خلاله ثم ينشئ الله على أثره نعماً كثيرة فيها الخير الكثير للإنسان والحيوان وكل ذلك يدل على وجود إله قادر بيده الخلق والأمر وهو على كل شيء قدير وقال تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} 4. وفي هذه الآية يخبر تعالى أنه يرسل الرياح لواقح ولقحها حمل الماء وإلقاحها السحاب والشجر عملها فيه. قال الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: يرسل الله الرياح فتحمل الماء فتجري السحاب فتدر كما تدر اللقحة ثم تمطر. وقال أيضاً رضي الله عنه: يبعث الله الريح فتلقح السحاب ثم تمر به فتدر كما تدر اللقحة ثم تمطر5.   1- الموطأ ص95. 2- مفتاح دار السعادة 1/223 ـ 224. 3- سورة النور آية: 43. 4- سورة الحجر آية: 22. 5- جامع البيان عن تأويل آي القرآن 24/20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 ومن حكمته ورحمته جل وعلا بعباده أنه ينزل المطر بقدر حاجة الأرض حتى إذا أخذت حاجتها منه وكانت تتابعه عليها يضر بها أمسكه عنها وأتبعه بالصحو فجعل تعالى الصحو والغيم متعاقبين لما فيهما من المصالح الكثيرة لهذا العالم. قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} 1 قال أبو جعفر بن جرير يقول تعالى ذكره: "وما من شيء من الأمطار إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر لكل أرض معلوم عندنا حده ومبلغه. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "ما من أرض أمطر من أرض ولكن الله يقدره في الأرض"2. فلو قدر الله بأن توالت الأمطار لأهلكت كل ما على الأرض ولو زاد نزول المطر على قدر حاجتها لفسدت الحبوب والثمار وتعفنت الزروع والخضروات فترخي الأبدان ويحشر الهواء وتحصل ضروب من الأمراض وفسدت أكثر المآكل وتقطعت المسالك والسبل. ولو قدَّر الله دوام الصحو لجفت الأبدان وغيض الماء وانقطع ماء العيون والآبار والأنهار والأودية وعظم الضرر واشتد الهواء فييبس ما على الأرض فيحدث عن ذلك ضروب من الأمراض عسرة الزوال ولكن حكمة اللطيف الخبير اقتضت بأن عاقب بين الصحو والمطر على هذا العالم فاعتدل الأمر وصح الهواء ودفع كل واحد منهما عادية الآخر واستقام أمر العالم وصلح3. والذي نخلص إليه مما تقدم أن إنزال الباري ـ سبحانه وتعالى ـ المطر من السماء ليعم بسقيه كل أجزاء الأرض ثم تنبت الأرض على أثره الزروع المختلفة لوناً وجنساً وطعماً ورائحة لدليل واضح على أن وراء هذا الكون إلهاً قادراً حكيماً يتصرف فيه كيف يشاء بيده الخلق والأمر سبحانه وتعالى. 8 ـ تصرفه ـ تعالى ـ في شؤون خلقه: لقد دلت السورة أنه تعالى المتصرف في شؤون خلقه كلها من الحياة والموت،   1- سورة الحجر آية: 21. 2- جامع البيان عن تأويل آي القرآن 24/18. 3- مفتاح دار السعادة 1/224 بتصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 ومن بسطه الرزق لمن يشاء، وتضييقه عمن يشاء وأن بيده خزائن السموات والأرض يفتح منها على من يشاء ويمسكها عمن يشاء من خلقه فله ـ سبحانه ـ التصرف المطلق في كل شيء في هذا الوجود وأن سواه لا يملك شيئاً كائناً من كان. قال تعالى: {اللهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} . هذه الآية من السورة أقام الله فيها الدليل القاطع على قدرته الكاملة، وعلى ربوبيته الشاملة لكل مخلوق، فأخبر أنه يتوفى الأنفس، ويمسك الأرواح ويحول بينها وبين أبدانها حيلولة نهائية عندما يجيئها أجلها الذي قدره لها، كما بين ـ تعالى ـ أنه يقبضها نوعاً آخر من أنواع القبض حتى يكون إتصالها بالبدن إتصالاً غير تام بحيث يذهب عنها تمييزها وينقطع تفكيرها وتعلقها وذلك في حالة نومها. فأما النفس الأولى: التي قضى الله عليها الموت فإنها تقبض عن البدن قبضاً نهائياً. وأما النفس الثانية: التي توفيت الوفاة الصغرى بأن كانت نائمة فيطلقها ربها ويرسلها للعودة إلى جسدها إلى حين يأتيها أجلها عند انقضاء المدة التي بقيت لها من عمرها ثم يتوفاها إليه. ثم أوضحت الآية أن ذلك القبض، والإرسال، والإمساك والإطلاق فيه العبر والآيات والدلائل الواضحة لمن تفكر وتدبر بهدف الوصول إلى الحقيقة التي يدرك من خلالها الإدراك الصحيح أن الإله القادر على هذه الأمور المذكورة هو الذي يجب أن توجه له العبادة وأنه يخلص له الدين كله. قال ابن جرير رحمه الله تعالى حول الآية: {اللهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} الآية يقول تعالى ذكره: ومن الدلالة على أن الألوهة لله الواحد القهار خالصة دون كل ما سواه أنه يميت ويحيى ويفعل ما يشاء ولا يقدر على ذلك شيء سواه فجعل ذلك خبراً نبههم به على عظيم قدرته" أ. هـ1. وقال ابن كثير رحمه الله تعالى حول هذه الآية: "قال تعالى مخبراً عن نفسه الكريمة   1- جامع البيان 24/9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 بأنه المتصرف في الوجود بما يشاء، وأنه يتوفى الأنفس الوفاة الكبرى بما يرسل من الحفظة الذين يقبضونها من الأبدان، والوفاة الصغرى عند المنام كما تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمّىً ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} 1. فذكر الوفاتين الصغرى ثم الكبرى وفي هذه الآية ذكر الكبرى ثم الصغرى ولهذا قال ـ تبارك وتعالى ـ {اللهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّى} ... إلى أن قال: "وقال بعض السلف يقبض أرواح الأموات إذا ماتوا وأرواح الأحياء إذا ناموا فتتعارف ما شاء الله ـ تعالى ـ أن تتعارف {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} التي قد ماتت {وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّى} قال السدي: إلى بقية أجلها، وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: يمسك أنفس الأموات ويرسل أنفس الأحياء ولا يغلط"2. وروي عن ابن عباس أيضاً في هذه الآية أنه قال: "بلغني أن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام فيتساءلون بينهم فيمسك الله أرواح الموتى ويرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها". وقال سعيد بن جبير "إن الله يقبض أرواح الأموات إذا ماتوا وأرواح الأحياء إذا ناموا فتتعارف ما شاء الله أن تتعارف {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى} 3 أي: يعيدها. وقال السدي في قوله تعالى: {وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} قال: "يتوفاها في منامها فيلتقي روح الحي، وروح الميت فيتذاكران ويتعارفان قال: فترجع روح الحي إلى جسدها في الدنيا إلى بقية أجلها وتريد روح الميت أن ترجع إلى جسده فتحبس"4. وهذا البيان من هؤلاء الأئمة لمعنى الآية إنما هو أحد القولين في هذه الآية وهو: أن الممسكة من توفيت وفاة الموت أولاً، والمرسلة من توفيت وفاة النوم، فيكون المعنى   1- سورة الأنعام آية: 60 ـ 61. 2- تفسير القرآن العظيم 6/95 ـ 96. 3- جامع البيان 24/9، الروح لابن القيم ص30 ـ 31. 4- جامع البيان 24/9، كتاب الروح لابن القيم ص31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 على هذا التفسير أنه يتوفى نفس الميت فيمسكها ولا يرسلها إلى جسدها قبل يوم القيامة، ويتوفى نفس النائم ثم يرسلها إلى جسدها إلى بقية أجلها فيتوفاها الوفاة الكبرى، وأما التفسير الثاني في هذه الآية: هو أن الممسكة والمرسلة في الآية كلاهما توفيتا وفاة نوم فمن استكملت أجلها الذي قدر لها أمسكها عنده فلا ترجع إلى جسدها، ومن لم تستكمل الأجل المحدود لها ردها إلى جسدها لتستكمله، وقد اختار هذا الوجه شيخ الإسلام ابن تيمية وقال: "وعلى هذا يدل الكتاب والسنة فإن الله ذكر إمساك التي قضى عليها الموت من هذه الأنفس التي توفاها بالنوم، وأما التي توفاها حين موتها فتلك لم يصفها بإمساك ولا إرسال فتلك قسم ثالث" أ. هـ1. أما تلميذه ابن القيم فقد جنح إلى ترجيح القول الأول وقال: لأنه ـ سبحانه ـ أخبر بوفاتين وفاة كبرى وهي وفاة الموت، ووفاة صغرى وهي وفاة النوم، وقسم الأرواح قسمين: قسماً: قضى عليها بالموت فأمسكها عنده وهي التي توفاها الموت. وقسماً: لها بقية أجل فردها إلى جسدها إلى استكمال أجلها، وجعل ـ سبحانه ـ الإمساك والإرسال حكمين للوفاتين المذكورتين أولاً فهذه ممسكة وهذه مرسلة، وأخبر أن التي لم تمت هي التي توفاها في منامها فلو كان قد قسم وفاة النوم إلى قسمين، وفاة موت، ووفاة نوم لم يقل "والتي لم تمت في منامها" فإنها من حين قبضت ماتت وهو ـ سبحانه ـ قد أخبر أنها لم تمت فكيف يقول بعد ذلك: "فيمسك التي قضى عليها الموت" بعد أن توفاها وفاة النوم فهو ـ سبحانه ـ توفاها أولاً وفاة نوم ثم قضى عليها الموت بعد ذلك. والتحقيق أن الآية تتناول النوعين فإنه ـ سبحانه ـ ذكر وفاتين وفاة نوم ووفاة موت وذكر إمساك المتوفاة وإرسال الأخرى ومعلوم أنه ـ سبحانه ـ يمسك كل نفس ميت سواءاً مات في النوم أم في اليقظة، ويرسل نفس من لم يمت فقوله: {يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} يتناول من مات في اليقظة ومن مات في المنام"2. والذي يبدو أن القول الراجح هو ما قرره ابن القيم رحمه الله تعالى ولا ننسى أن نذكر   1- مجموع الفتاوى 5/452 ـ 454، شرح حديث النزول ص94. 2- كتاب الروح لابن القيم ص31 ـ 32. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 أن الآية المتقدمة وهي قوله تعالى: {اللهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} دلت على أن الروح محدثة لأنها وصفت بالوفاة، والقبض والإمساك، والإرسال وهذه الصفات من شأن المخلوق المحدث المربوب والمراد بالأنفس في الآية هي الأرواح قطعاً لما رواه البخاري في صحيحه من حديث بلال: "إن الله قبض أرواحكم حين شاء وردها حين شاء"1 فهذه الأرواح المقبوضة هي الأنفس التي يتوفاها الله حين موتها وفي منامها التي يتوفاها ملك الموت، وهي التي تتوفاها رسل الرب ـ سبحانه ـ بإذنه وقضائه وحكمه وأمره"2. وفي الآية أيضاً: "تنبيه على عظيم قدرته وانفراده بالألوهية، وأنه يفعل ما يشاء ويحيي ويميت، لا يقدر على ذلك سواه"3. 9 ـ بسطه تعالى الرزق لمن يشاء وتضييقه على من يشاء: قال تعالى: {أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} . أقام الله تعالى في هذه الآية دليلاً محسوساً وملموساً على ربوبيته يحسه العباد بحواسهم، ويلمسونه بين ظهرانيهم، ويشاهدون ذلك بأبصارهم فيوحدوه ـ سبحانه ـ ويفردوه بالعبادة، وهذا الدليل هو أنه ـ سبحانه ـ الفعال لما يشاء بتوسيعه الرزق على من يشاء من عباده سواء كان صالحاً أو غير صالح، ويضيقه على من يريد من عباده سواء كان صالحاً، أو طالحاً فرزقه ـ سبحانه ـ مشترك بين الخلق أجمعين، أما الإيمان والعمل الصالح فيحض به أصلح البرية وهذا أمر ملحوظ في الدنيا، كما أوضحت الآية أن فعله ـ تعالى ـ ذلك وتصرفه في العطاء، والسعة، والمنع والتضييق على من يشاء يحمل في طياته العبر، والعظات والحكم البالغات للمؤمنين المنتفعين بالمواعظ والعبر لأنهم يعلمون أن مرد ذلك راجع إلى حكمته ورحمته ـ تعالى ـ وأنه العليم بحال عباده فقد يضيق عليهم   1- صحيح البخاري 1/112، سنن النسائي 2/106، الموطأ مع شرحه تنوير الحوالك 1/35. 2- الروح لابن القيم ص119 ـ 200. 3- الجامع لأحكام القرآن 15/263. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 الرزق لطفاً بهم لأن بسطه عليهم قد يحملهم ذلك على الفساد والبغي في الأرض ففعله ـ سبحانه ـ ذلك مراعاة لإصلاح دينهم الذي هو مصدر سعادتهم وفلاحهم. قال أبو جعفر بن جرير رحمه الله تعالى حول هذه الآية: "يقول تعالى ذكره: أو لم يعلم يا محمد هؤلاء الذين كشفنا عنهم ضرهم فقالوا: إنما أوتيناه على علم منا أن الشدة والرخاء، والسعة، والضيق، والبلاء بيد الله دون كل ما سواه يبسط الرزق لمن يشاء فيوسعه عليه، ويقدر ذلك على من يشاء من عباده فيضيقه، وأن ذلك من حجج الله على عباده، ليعتبروا به، ويتذكروا، ويعلموا أن الرغبة إليه، والرهبة دون الآلهة، والأنداد {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ} يقول: إن في بسط الله الرزق لمن يشاء، وتقتيره على من أراد لآيات: يعنى دلالات، وعلامات {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} يعني يصدقون بالحق فيقرون إذا تبينوه وعلموا حقيقته أن الذي يفعل ذلك هو الله دون كل ما سواه"1. وقال أبو عبد الله القرطبي حول قوله تعالى في الآية السابقة: " {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} خص المؤمن بالذكر لأنه هو الذي يتدبر الآيات وينتفع بها ويعلم أن سعة الرزق قد يكون مكراً واستدراجاً، وتقتيره رفعة وإعظاماً" اهـ2. وهذه الآية الآنفة الذكر من السورة لها نظائر في كتاب الله وردت بمعناها منها قوله تعالى {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 3. فهذه الآية: بيَّن الله تعالى فيها أنه الذي بيده قبض أرزاق العباد وبسطها دون غيره ممن ادعى أهل الشرك أنهم آلهة واتخذوه رباً دونه يعبدونه، وقد بين صلى الله عليه وسلم أن بسط الرزق وتضييقه عائد إلى فعل الرب ـ سبحانه ـ المتصرف في كل شيء قال أنس بن مالك رضي الله عنه: غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله غلا السعر فأسعر لنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله الباسط القابض الرازق وإني لأرجو أن ألقى الله ليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال"4 فبين صلى الله عليه وسلم بقوله هذا أن الغلاء   1- جامع البيان عن تأويل أي القرآن 24/13. 2- الجامع لأحكام القرآن 15/267، فتح القدير للشوكاني 4/469. 3- سورة البقرة آية: 245. 4- رواه أبو داود في سننه 2/388 وابن ماجة 2/741 ـ 742، والترمذي في سننه وحسنه 2/388. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 والرخص، والسعة والضيق بيد الله دون غيره، فما أنصع هذه الحجة وما أوضح هذا البرهان، ولو أن الذين يحاولون أن يستدلوا على وحدانية الله ـ تعالى ـ بالأدلة التي كتبها علماء الكلام لجئوا إلى القرآن الكريم واقتبسوا من أدلته وأفادوا من حججه لوضح لهم السبيل ووصلوا إلى الحق من أقرب طريق. وقال تعالى: {اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} 1. وفي هذه الآية بين الله ـ تعالى ـ أنه هو الذي يوسع الرزق، ويبسطه على من يشاء ويقدر، ويضيقه على من يشاء فله ـ سبحانه ـ التصرف المطلق كيف يشاء وعلى ما يريده ـ جل وعلا ـ في جميع شؤون خلقه. وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} 2. وهذه الآية أيضاً أبانت بأن سعة الرزق وتضييقه كله فعل الله ـ تعالى ـ ومرده إليه لا إلى غيره. وقال تعالى: {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 3. قال العلامة ابن جرير: يقول تعالى ذكره: "يوسع رزقه وفضله على من يشاء من خلقه، ويبسط له، ويكثر ماله ويغنيه، {وَيَقْدِرُ} يقول: ويقتر على من يشاء منهم فيضيقه، ويفقره {إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} يقول: إن الله تبارك وتعالى بكل ما يفعل من توسيعه على من يوسع، وتقتيره على من يقتر، ومن الذي يصلحه البسط عليه في الرزق، ويفسده من خلقه، والذي يصلحه التقتير عليه، ويفسده، وغير ذلك من الأمور، ذو علم لا يخفى عليه موضع البسط والتقتير وغيره، من صلاح تدبير خلقه"4. فلو تدبر أولئك القبوريون الذين يلتمسون الرزق من أصحاب القبور هذه الآيات وأمثالها لألزموا أنفسهم بالحياء، وأنابوا إلى ربهم وأسلموا له وعلموا أن الرزق بيده وحده، فابتغوه عنده مخلصين له الدين وأقلعوا عن الشرك الذي امتلأت به قلوبهم وذلَّت به أنفسهم   1- سورة الرعد آية: 26. 2- سورة الروم آية: 37. 3- سورة الشورى آية: 12. 4- جامع البيان عن تأويل آي القرآن 25/14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 ولكن الشيطان سوَّل لهم وأملى لهم وفعل بهم كما فعل بأشياعهم من قبل لا قوة إلا بالله. 10 ـ مقاليد السموات والأرض بيده ـ سبحانه ـ: قال تعالى: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} . هذه الآية من السورة أوضحت أن من الدلائل على ربوبيته تعالى كون خزائن العالم كله علويه وسفليه بيده وحده دون غيره فمن خزائن السموات المطر، ومن خزائن الأرض النبات وما يخرج منها من المعادن، والمياه من آبار وعيون وغير ذلك من الأشياء مما اكتشف حالياً من مصادر الرزق والنعم التي لا تحصى كل ذلك بيد الله وتحت تصرفه، وقدرته الشاملة لكل شيء فهو ـ سبحانه ـ المسيطر على جميع الكائنات ملكاً وحفظاً وتصرفاً، ومن هذه صفته فهو الجدير وحده بالعبادة دون سواه، كما أوضحت الآية أن الكافرين بآيات الله التي تدل على الحق واليقين، وعلى طريقه المستقيم هم الذين خسروا ما فيه صلاح قلوبهم من التعبد لله، والإخلاص له، وما به تصلح ألسنتهم من ذكره، وما فيه صلاح الجوارح من الطاعة، واستبدلوا بذلك الكفر بالله الذي هو مفسد لقلوبهم، وأبدانهم كما خسروا جنات النعيم وتعوضوا عنها بالعذاب المقيم. قال العلامة ابن جرير حول الآية: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} الآية "يقول تعالى ذكره: له مفاتيح خزائن السموات والأرض، يفتح منها على من يشاء ويمسكها عمن أحب من خلقه. قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: مقاليد السموات والأرض مفاتيحها. وبه قال قتادة، وقال السدي: "له مقاليد السموات والأرض" خزائن السموات والأرض"1 قال ابن كثير: "والمعنى على كلا القولين أن أزمة الأمور بيده ـ تبارك وتعالى ـ له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير" اهـ2. وقد وردت آية أخرى مماثلة لهذه الآية التي معنا في السورة وهي قوله تعالى: {لَهُ   1- جامع البيان 24/23، تفسير ابن كثير 6/105. 2- تفسير ابن كثير 6/105 ـ 106. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 1. فهذه الآية إرشاد من الله تعالى لعباده بأن يفزعوا إلى من له مقاليد السموات والأرض الذي هذه صفته، ويتوجهون إليه بالعبادة وإفراده بالطاعة فكأن الآية تقول: إلى الله أيها الناس فارغبوا وإياه فاعبدوا مخلصين له الدين واتركوا الأوثان والأولياء والآلهة والأصنام التي اتخذتموها آلهة من قبل أنفسكم دون حجة ولا برهان ولا تملك لكم ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً. وما دلت عليه آية الزمر من أنه ـ تعالى ـ مالك خزائن السموات والأرض أفصحت عن هذا المعنى آيات أخر مثل قوله تعالى: {ولله خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ} 2. ومثل قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} 3 قال العلامة ابن القيم بعد أن ذكر قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ} متضمن لكنز من الكنوز وهو أن كل شيء لا يطلب إلا من خزائنه، ومن مفاتيح تلك الخزائن بيده، وإن طلبه من غيره طلب ممن ليس عنده ولا يقدر عليه، وقوله تعالى: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} 4 متضمن لكنز عظيم، وهو أن كل مراد إن لم يرد لأجله ويتصل به، وإلا فهو مضمحل منقطع، فإنه ليس إليه المنتهى، وليس المنتهى إلا إلى الذي انتهت إليه الأمور كلها، فانتهت إلى خلقه ومشيئته وحكمته وعلمه، فهو غاية كل مطلوب، وكل محبوب لا يحب لأجله فمحبته عناء وعذاب، وكل عمل لا يراد لأجله، فهو ضائع وباطل، وكل قلب لا يصل إليه فهو شقي محجوب عن سعادته وفلاحه فاجتمع ما يراد له كله في قوله {وأن إلى ربك المنتهى} فليس وراءه ـ سبحانه ـ غاية تطلب وليس دونه غاية إليها المنتهى"5. وكل ما قدمنا من الآيات التي أسلفناها من السورة وغيرها للإستدلال بها على توحيد الربوبية كلها على اختلاف أساليبها، واختلاف موضوعاتها تلفت الأنظار إلى أن هذا الكون   1- سورة الشورى آية: 12. 2- سورة المنافقون آية: 7. 3- سورة الحجر آية: 21. 4- سورة النجم آية: 42. 5- الفوائد ص196. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 وما يحتويه لم يكن وليد المصادفة والإتفاق وإنما هو مخلوق عن علم عليم، وقدرة قادر وهو الله ـ تبارك وتعالى ـ وفي كل ذلك آية على وجود الخالق الحكيم. قال الشاعر: ولله في كل تحريكة ... وتسكينة في الورى شاهد وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه الواحد1   1- البيتان لأبي العتاهية انظر ديوانه ص222. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 المبحث الثالث: إقرار المشركين الذين بعث فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم بوجود الله لقد دلت سورة "الزمر" على أن مشركي العرب كانوا يعترفون بوجوده ـ سبحانه ـ وربوبيته لخلقه، كما يؤمنون بأنه هو الذي أوجد العالم العلوي والسفلي، وليس لآلهتهم من ذلك شيء. قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} . هذه الآية من السورة تضمنت اعتراف المشركين الذين بعث فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم بأن الله هو الخالق لهذا العالم علويه وسفليه، فقد بدأ الله هذه الآية بالقسم مخاطباً بذلك نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بأنه لو سأل هؤلاء المشركين العابدين لغير الله تعالى من الأوثان، والأصنام عمن خلق السموات والأرض؟ لكان جوابهم جواباً حقيقياً صادقاً نابعاً من الفطرة التي فطر الله الناس عليها فيقولون: إن الخالق لهذا الكون هو الله ـ جل وعلا ـ كما تضمنت بيان عجز الآلهة التي يعبدونها عن أن تجلب لهم نفعاً، أو أن تدفع عنهم شراً، وما دام الحال هكذا من أنه لا خالق لهذا الكون إلا الله ـ تعالى ـ وأن الآلهة التي يزعمونها من دون الله عاجزة عن جلب الخير، أو دفع الشر، فعبادتهم لها باطلة ويلزمهم أن يتوجهوا بالعبادة إلى الإله الحق الذي له القدرة على الخلق وجلب الخير ودفع الضرر ومن هذه صفته فهو المعبود بحق دون سواه. قال ابن جرير: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ولئن سألت يا محمد هؤلاء المشركين العادلين بالله الأوثان والأصنام من خلق السموات والأرض ليقولن خلقهن الله1. قال ابن كثير: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ   1- جامع البيان 24/7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ} يعني المشركين كانوا يعترفون بأن الله ـ عز وجل ـ هو الخالق للأشياء كلها ومع هذا يعبدون معه غيره مما لا يملك لهم ضراً ولا نفعاً. اهـ1. فوجود الرب ـ سبحانه ـ وتعالى من الأمور البدهية الظاهرة للعقول والفطر ولو وجد بعض الملاحدة الذين يجاهرون بإنكار وجود ـ الرب سبحانه ـ بألسنتهم فذلك نتيجة العناد، وإلا فإنه متقرر في فطرهم وعقولهم ما يكذب قولهم ذلك. قال العلامة ابن القيم: "وسمعت شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية ـ قدس الله روحه ـ يقول: كيف يطالب الدليل على من هو دليل على كل شيء وكان كثيراً مَّا يتمثل بهذا البيت: وليس يصح في الأذهان شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل ثم قال: "ومعلوم أن وجود الرب تعالى أظهر للعقول والفطر من وجود النهار، ومن لم ير ذلك في عقله وفطرته فليتهمهما" اهـ2. وأما قوله تعالى في الآية: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} فهذا الشطر من الآية أمر الله فيه النبي صلى الله عليه وسلم بأن يسأل هؤلاء المشركين عن معبوداتهم المتنوعة من الأوثان والأصنام التي يتوجهون إليها بالعبادة دون الله تعالى هل لديها القدرة في الحيلولة دون مراد الله تعالى؟ وهل في استطاعتها أن تدفع عنه البلاء إن أراد الله إنزاله؟ وهل في إمكانها أن تمنع عنه رحمة الله تعالى التي يريد أن يتفضل بها عليه فيمنحه إياها؟ ولو أنصفوا من أنفسهم وتجردوا لقول الحق لكان ردهم كلا لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع ولا راد لما يريده ـ سبحانه ـ وقد أجاب البعض منهم بأن آلهتهم المزعومة لا تستطيع شيئاً من ذلك وإنما يعبدونها لتقربهم إليه زلفى. قال مقاتل: فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم فسكتوا.   1- تفسير ابن كثير 6/94. 2- مدارج السالكين 1/60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 وقال غيره: قالوا: "لا تدفع شيئاً قدَّره الله ولكنها تشفع"1. وهذه حجة واهية آلت إليهم عن طريق الإلف والعادة المتوارثة عن أسلافهم. قال أبو جعفر بن جرير عند قوله تعالى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} "فقل: أفرأيتم أيها القوم هذا الذي تعبدون من دون الله من الأصنام والآلهة {إِنْ أَرَادَنِيَ بِضُرٍّ} يقول: بشدة في معيشتي وكثرة مالي، ورخاء وعافية في بدني هل هن ممسكات عني ما أراد أن يصيبني به من تلك الرحمة؟ وترك الجواب لاستغناء السامع بمعرفة ذلك، ودلالة ما ظهر من الكلام عليه، والمعنى: فإنهم سيقولون لا، فقل حسبي الله مما سواه من الأشياء كلها إياه أعبد، وإليه أفزع في أموري دون كل شيء سواه فإنه الكافي وبيده الضر والنفع لا إلى الأصنام والأوثان التي لا تضر، ولا تنفع" أ. هـ2. فالآية تضمنت اعتراف المشركين الذين بعث فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم بأن الله ـ تعالى ـ هو الخالق للكون وحده دون سواه، كما تضمنت بيان عجز الآلهة التي يعبدونها عن أن تجلب لهم نفعاً، أو أن تدفع عنهم شراً، وورد هذا كثير في القرآن الكريم، فقد كانوا أيضاً يعترفون بأن الله تعالى هو الرازق النافع، الضار، ومع ذلك يعبدون غيره معه. قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} 3. هذه الآية استجوبت المشركين عن أمور أربعة: الأمر الأول: عن مسبب الأرزاق في السموات والأرض لأنها إنما تحصل الأرزاق من السماء والأرض، أما السماء فبإنزال الأمطار، كما قال تعالى: {وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 4.   1- الجامع لأحكام القرآن 15/259. 2- جامع البيان 24/7. 3- سورة يونس آية: 31. 4- سورة الجاثية آية: 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 وأما الرزق من الأرض ففيما أودع الله فيها من منافع مادية وأبرزها الغذاء سواءً أكان نابتاً منها أو ما أوجد الله على ظهرها من الحيوان. الأمر الثاني: أحوال الحواس ومن أشرفها وأظهرها وأشدها ضرورة وأعجبها خلقاً السمع والبصر ولهذا خصت بالذكر. الأمر الثالث: أحوال الموت والحياة من إخراج الحي من الميت وإخراج الميت من الحي ومعنى إخراج {الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} إخراج الإنسان من النطفة والطائر من البيضة وإخراج {الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} إخراج النطفة من الإنسان والبيضة من الطائر. وقد ذكر أبو عبد الله القرطبي في تفسيره أعم من هذا، إذ قال عند قوله تعالى: {وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} قال: "أي النبات من الأرض، والإنسان من النطفة والسنبلة من الحبة، والطير من البيضة، والمؤمن من الكافر"1 وهذا التعميم أولى لشموله الحياة النباتية، والحياة الحيوانية، وقد نبه القرآن إلى هذا بقوله تعالى: {إِنَّ اللهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} 2. "ويمكن أن يلحق بهذا المعنى معنى آخر قريب منه لم أر من ذكره من المفسرين في كتب التفسير التي اطلعت عليها وقد يكون ذكره بعضهم ولم أطلع عليه، وهو أن الجنين قد يخرج من بطن أمه التي تصحبها الحياة، وقد يخرج الجنين حياً من بطن أمه بعد موتها بواسطة عملية جراحية، فإنه داخل في عموم الآية. الأمر الرابع: قوله تعالى في نهاية الآية: {وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ} هذه الجملة من الآية من باب عطف العام على الخاص لأن أنواع التدبير في هذا العالم لا نهاية لها فهناك تدبير في العالم العلوي، وتدبير في العام السفلي ولهذا جاءت الجملة بلفظ كلي عام يشمل تدبير الكون بما فيه. فلقد استجوب القرآن الكريم أولئك المشركين عن الأمور الأربعة المتقدمة، والهدف منها إلزامهم بما يستلزم اعترافهم، وبما فطرت عليه النفوس البشرية جمعاء من   1- الجامع لأحكام القرآن 8/335. 2- سورة الأنعام آية: 95. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 الإيمان بربوبية الله تعالى وذلك مسلم عندهم فطرة وعقلاً وضرورة فيلزمهم أن يفردوه بالعبادة دون سواه. وقد بين الله تعالى في مواضع كثيرة من كتابه ضعف معبودات المشركين وعجزها، وأنها لا تملك شيئاً من النفع، والضر. وقد ضرب الله الأمثال لبيان حالها الحقيرة قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} 1. ففي هذا المثل بين ـ تبارك وتعالى ـ لعباده أن هذه الآلهة المزعومة المدعوة من دونه عاجزة وضعيفة فلو اجتمعت كلها لإيجاد مخلوق حقير مثل الذباب لا تستطيع ذلك، بل إن الذباب الحقير، لو أخذ من آلهتهم شيئاً من حقير المطاعم وطار به لما استطاعت تلك الآلهة إنقاذه من ذلك الذباب، وهذا فيه تأكيد قوي يبين عجز هذه الآلهة وضعفها أمام مخلوق من أضعف مخلوقاته تعالى. ومن كانت هذه صفته فهل يصلح أن يكون معبوداً توجه له العبادة إنه لا يعبده إلا من كان سخيف العقل سفيهاً لم يقدر الله حق قدره وهو القوي العزيز. قال ابن القيم رحمه الله تعالى حول هذا المثل: "حقيق على كل عبد أن يستمع لهذا المثل ويتدبره حق تدبره فإنه يقطع موارد الشرك من قلبه وذلك أن المعبود أقل درجاته أن يقدر على إيجاد ما ينفع عابده وإعدام ما يضره والآلهة التي يعبدها المشركون من دون الله لن تقدر على خلق ذباب ولو اجتمعوا كلهم لخلقه فكيف ما هو أكبر منه، ولا يقدرون على الإنتصار من الذباب، وإذا سلبهم الذباب شيئاً مما عليهم من طيب ونحوه فيستنقذونه منه فلا هم قادرون على خلق الذباب الذي هو من أضعف الحيوان، ولا على الإنتصار منه، واسترجاع ما يسلبهم إياه فلا أعجز من هذه الآلهة، ولا أضعف منها فكيف يستحسن عاقل عبادتها من دون الله تعالى، وهذا المثل من أبلغ ما أنزله الله ـ سبحانه ـ في بطلان الشرك وتجهيل أهله وتقبيح عقولهم"أ. هـ2 فهذا المثل كان بحق دليلاً في منتهى القوة حيث أثبت بطريقة حسية بطلان الوثنية وأقام الحجة على إظهار الوحدانية. ومن الأمثال التي ضربها الله ـ تعالى ـ لبيان ضعف آلهتهم وبطلان عبادتها قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ   1- سورة الحج آية: 73. 2- أعلام الموقعين 1/181 ـ 182، الأمثال في القرآن الكريم ص247 ـ 248. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} 1 بين الله تعالى أنهم ضعفاء وإن الذين اتخذوهم أولياء أضعف منهم فهم في ضعفهم وما قصدوه من اتخاذ الأولياء كالعنكبوت اتخذت بيتاً وهو أوهن البيوت وأضعفها وتحت هذا المثل أن هؤلاء المشركين أضعف ما كانوا حين اتخذوا من دون الله أولياء فلم يستفيدوا ممن اتخذوهم أولياء إلا ضعفاً كما قال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً * كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّا} 2 وقال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ * لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} 3 وقال ـ سبحانه ـ بعد أن ذكر هلاك الأمم الماضية من المشركين {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} 4 فهذه أربع آيات من آيات القرآن الكثيرة الدالة على أن من اتخذ من دون الله ولياً يتعزز به ويتكثر لم يحصل له إلا ضد مقصوده ولو علم المشركون ضعف آلهتهم، كما يعلمون ضعف بيت العنكبوت لما اتخذوهم أولياء فالذي كانوا يلتمسونه منها من قوة وعزة ونصر يكون بعكس ما يظنون"5، ومما جاء في تأكيد اعترافهم بضعف آلهتهم حديث عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحصين: "كم إلهاً تعبد؟ " قال سبعة ستة في الأرض وواحد في السماء قال: "من لرغبتك ورهبتك" قال الذي في السماء قال: "فاترك الستة واعبد الذي في السماء وأنا أعلمك دعوتين"، فأسلم وعلمه النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: "اللهم رشدني وقني شر نفسي" 6. ومن ذلك أيضاً ما ورد في تلبية بعض مشركي العرب إذا أهلوا "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك"7. وقد جاء في أشعارهم ما يدل على أن عبادتهم للأصنام لم تكن عميقة في قرارات   1- سورة العنكبوت آية: 41. 2- سورة مريم آية: 81 ـ 82. 3- سورة يس آية: 74 ـ 75. 4- سورة هود آية: 101. 5- علام الموقعين 1/154 ـ 155. 6- سنن الترمذي 5/182. 7- صحيح مسلم 2/843. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 أنفسهم لأنهم كانوا يدركون عدم جدواها ونفعها. وقد ذكر ابن كثير في كتابه "البداية" أن صنماً يقال له سعد، وكان صخرة طويلة فأقبل عليه رجل من كنانه بإبل له لقصد التبرك به فلما أدناها منه نفرت وكان يهراق عليه الدماء فذهبت في كل وجه وتفرقت عليه، فأسف عليها فأخذ حجراً ورماه به وقال: لا بارك الله فيك إلهاً أنفرت علي إبلي، ثم سار في طلبها فجمعها وانصرف عنه وهو يقول: أتينا إلى سعد ليجمع شملنا ... فشتتنا سعد فلا نحن من سعد وهل سعد إلا صخرة بتنوفه ... من الأرض لا يدعي لغيٍ ولا رشد 1 وقال بعض المشركين حين وجد الثعلبان يبول على رأس صنمه: أرب يبول الثعلبان برأسه ... لقد ذل من بالت عليه الثعالب2 وكذلك قصة عمرو بن الجموح فقد كان له صنم وكان بعض الفتيان ممن أسلم وشهد العقبة كانوا يأتونه ليلاً فيلقونه في حفر بني سلمة وفيها عذرة الناس منكساً على رأسه فيطلبه فيغسله ويطيبه ثم يقول له: أما والله لو أعلم من فعل هذا بك لأخزينه فإذا نام وأمسى عمرو عدوا عليه ففعلوا به مثل ذلك فيغدو فيجده في مثل ما كان فيه من الأذى. فلما أكثروا عليه استخرجه من حيث ألقوه فغسله وطهره وطيبه ثم جاء بسيفه فعلقه عليه، ثم قال: إني والله ما أعلم من يصنع بك ما ترى؟ فإن كان فيك خير فامتنع فهذا السيف معك، فلما أمسى ونام عمرو عدوا عليه، فأخذوا السيف من عنقه، ثم أخذوا كلباً ميتاً فقرنوه به بحبل، ثم ألقوه في بئر من آبار بني سلمة فيها عذر من عذر الناس، ثم غدا عمرو بن الجموح فلم يجده في مكانه الذي كان به، فخرج يتبعه حتى وجده في تلك البئر منكساً مقروناً بكلب ميت، فلما رآه وأبصر شأنه، وكلمه من أسلم من رجال قومه، فأسلم وحسن إسلامه. فقال بعد إسلامه ومعرفته لله متذكراً صنمه شاكراً لله تعالى الذي أنقذه مما كان فيه من العمى والضلالة: والله لو كنت إلهاً لم تكن أنت وكلب وسط بئر في قرن أنّى لملقاك إلهاً مستدن الآن فتشناك عن سوء الغبن   1- البداية والنهاية 2/209. 2- انظر القاموس 1/42، لسان العرب 1/337، الأصنام لابن الكلبي ص47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 الحمد لله العلي ذي المنن الواهب الرزاق ديان الدين هو الذي أنقذني من قبل أن أكون في ظلمة قبر مرتهن بأحمد المهدي النبي المؤتمن1 وهناك قصص أخرى كثيرة تدل على عدم إيمان بعض عباد الأوثان الإيمان الكامل بأوثانهم ويعلمون قطعاً أنها لا تنفع ولا تضر، ولذلك عندما نزل القرآن شنَّع عليهم عبادتهم لها وكان من أساليب القرآن معهم أنه كان يقررهم بما لا مجال لإنكاره لأن إلزام الخصم بما يسلِّم به من أبلغ الطرق الجدلية، لأنه إذا سلِّم بالمقدمة فقد ألزم بالنتيجة سواءاً التزم بذلك أو لم يلتزم، ولذلك كان القرآن يحتج عليهم بحجة لا بد للعقول من الإقرار بها، ولا يجوز للعقل السليم رفضها، قال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ} 2. فالآية تقول لهم أنتم موجودون وهذه حقيقة لا تنكرونها وكذلك السموات والأرض موجودتان ولا شك، والذي تقرر عقلاً أن الموجود لا بد له من سبب لوجوده لأن العدم لا يوجد شيئاً هذا أمر مقرر في بدائة العقول، ولأن الشيء لا بوجد نفسه. فقوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} دليل قاطع يرغم العقلاء على التسليم بأن هناك خالقاً معبوداً، إلا أن الآية صاغته بأسلوب مؤثر فلا تكاد الآية تلمس السمع حتى تزلزل النفس وتهزها. وقد روى البخاري في صحيحه من حديث محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم "يقرأ ـ في المغرب ـ بالطور، فلما بلغ هذه الآية {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ} كاد قلبي يطير" 3 قال شيخ الإسلام تعقيباً على هذا الحديث: "وذلك أن هذا تقسيم حاصر ذكره الله بصيغة استفهام الإنكار ليبين أن هذه المقدمات معلومة بالضرورة لا يمكن جحدها يقول: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ؟!} أي من غير خالق خلقهم أم هم خلقوا أنفسهم؟! وهم يعلمون أن كلا النقيضين باطل. فتعين أن لهم خالقاً خلقهم ـ سبحانه وتعالى ـ4.   1- سيرة ابن هشام 1/452 ـ 453، الإصابة 2/522 ـ 523. والشطر الأخير في هذين المصدرين "بأحمد المهدي النبي المرتهن" ولعل ذلك تحريف. 2- سورة الطور آية: 35 ـ 36. 3- 2/193 . 4- مجموع الفتاوى 5/359، وانظر شرح حديث النزول ص28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 وقال أبو سليمان1 الخطابي معلّقاً على قصة جبير بن مطعم: "إنما كان إنزعاجه عند سماع هذه الآية لحسن تلقيه معنى الآية ومعرفته بما تضمنته من بليغ الحجة فاستدركها بلطف طبعه واستنشق معناه بزكي فهمه ... واختار الخطابي في معنى {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} فوجدوا بلا خالق، وذلك ما لا يجوز أن يكون لأن تعلق الخلق بالخالق من ضرورة الأمر فلا بد له من خالق، فإذ قد أنكروا الإله الخالق، ولم يجز أن يوجدوا بلا خالق خلقهم، أفهم الخالقون لأنفسهم؟ وذلك في الفساد أكثر وفي الباطل أشد، لأن ما لا وجود له كيف يجوز أن يكون موصوفاً بالقدرة؟ وكيف يخلق؟ وكيف يتأتى منه الفعل؟ وإذا بطل الوجهان معاً قامت الحجة عليهم بأن لهم خالقاً، فليؤمنوا به. ثم قال سبحانه {أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ} وذلك شيء لا يمكنهم أن يدعوه بوجه فهم منقطعون، والحجة قائمة عليهم" أ. هـ2. وهذا الذي قرره الله في هذه الآيات لا يمكن الكفار أن يدعوه، والفائدة من ذكره والسؤال عنه قطع الحجاج والخصام، إذ قد يوجد جاحد مكابر يقول: "أنا خلقت نفسي" كما زعم مثيل له من قبل أنه يحيي ويميت {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} . وكان الجواب عليه سؤالاً آخر أبان عجزه وكذبه في زعمه الأول {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} فكانت النتيجة {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} 3. فإذا كان العدم لا يوجد سماءاً ولا أرضاَ، وإذا كانت السماء والأرض لم توجدا نفسيهما، وإذا كان الملاحدة لا يستطيعون ادعاء ذلك كله فإنه لا بد لهذا كله من موجد وهذا الموجد ليس إلا الله تعالى. قال تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ، وَأَنْزَلَ لَكُمْ   1- هو: حمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي البستي أبو سليمان فقيه، محدث من أهل "بست" من بلاد "كابل" من نسل زيد بن الخطاب ولد سنة تسع عشرة وثلاثمائة، وتوفي سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة هجرية. انظر ترجمته في "وفيات الأعيان 1/166 خزانة الأدب 1/282 الأعلام للزركلي 2/304". 2- ذكره عنه البيهقي في كتابه "الأسماء والصفات" ص495 ـ 496. 3- سورة البقرة آية: 258. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} 1. هذه الآية وجهت سؤالاً مستمداً من واقع هذا الكون الذي من حول الناس والذي يشاهدونه، ويلمسونه، ويتمتعون بخيراته فإطلاق السمع، والبصر، والفؤاد في السموات التي ترى وفي الأرض التي يعيش عليها الإنسان، وما فيها من الحدائق الغنية بالأشجار، والأزهار والثمار والغرض منها بائن وواضح لأن هذا التناسق البديع لا يعقل أن يكون فلتة أو طرفة، أو صدفة، ولا يعقل أن يكون رمية بدون رام، وخاصة لم تدَّعِ الصدفة، ولا الأصنام، ولا أية جدلية أنها خلقته وأبدعته. ومما قدمنا من الآيات وبعض الأحاديث وما ذكرنا أيضاً من بعض أقوال مشركي العرب يتبين أن الإقرار بالصانع أمر فطري مركوز في كل نفس ولهذا كانت دعوة الرسل إنما كانت إلى عبادة الله وحده لا شريك له وللتذكير بالربوبية لأن عامة الناس مقرون بالصانع، حتى الكفار يقرون بأن الله تعالى هو المالك الخالق الرازق، النافع الضار، المحيي المميت، ولكن هذا الإقرار لم يجدهم شيئاً، ولم ينقذهم من النار. فهذا فرعون الذي بلغ الغاية في الكفر حيث ادعى أنه الرب الأعلى ومع ذلك يقر بربوبية الخالق ـ سبحانه ـ قال الله تعالى في حقه حاكياً عن موسى عليه السلام {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً} 2 وهذا إبليس اللعين والعدو المبين لبني آدم أجمعين يعترف بربوبية الباري ـ سبحانه ـ فيقول {رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} 3 ويقول {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} 4 ويقول {إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} 5. فالكفار والمشركون أقروا بأن الله خالقهم، وخالق السموات والأرض وربهن ورب ما فيهما ورازقهم لهذا احتج عليهم بقوله {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ؟ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} 6.   1- سورة النمل آية: 60. 2- سورة الإسراء آية: 102. 3- سورة الحجر آية: 36. 4- سورة الحجر آية: 39. 5- سورة الحشر آية: 16. 6- سورة النحل آية: 17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: وأما توحيد الربوبية: الذي أقر به المسلم والكافر وقرَّره أهل الكلام فلا يكفي وحده، بل هو الحجة عليهم كما بين ذلك ـ سبحانه ـ في كتابه الكريم في عدة مواضع ولهذا كان حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً اهـ1. وقال شارح الطحاوية: بعد أن ذكر تعريف توحيد الربوبية: "وهذا التوحيد حق لا ريب فيه وهو الغاية عند كثير من أهل النظر والكلام وطائفة من الصوفية، وهذا التوحيد لم يذهب إلى نقيضه طائفة معروفة من بني آدم بل القلوب مفطورة على الإقرار به أعظم من كونها مفطورة على الإقرار بغيره من الموجودات كما قالت الرسل فيما حكى الله عنهم {أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} 2؟   1- إغاثة اللهفان 1/30. 2- شرح الطحاوية ص 77 والآية رقم 10 من سورة إبراهيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 المبحث الرابع: الإقرار بتوحيد الربوبية يستلزم الإقرار بتوحيد الألوهية تظهر أهمية الإقرار بتوحيد الربوبية في أنه مقدمة لنتيجة، فإذا أقر العبد أن الله سبحانه وتعالى هو الرب المتفرد بالربوبية وخصائصها، استلزم ذلك حتماً أن ينتج عن إقراره هذا إقرار آخر بتفرد الرب جل وعلا في ألوهيته فيجرد له العبادات كلها، ولا يصرف منها شيئاً لغير الله تعالى إذ أنه لا يصلح أن يعبد إلا من كان رباً، سيداً، خالقاً، بارئاً، مصوراً، مالكاً، رازقاً، معطياً، مانعاً، محيياً، مميتاً، مدبراً لأمر الكون كله، وذلك كله لا يثبت إلا لله وحده لا شريك له، فوجب أن يكون هو المعبود وحده، الذي لا يصح أن يكون لأحد من خلقه شركة معه في أي شيء من العبادات على اختلاف صورها. ولهذا جرت الطريقة في كتاب الله الكريم على سوق آيات الربوبية، ثم الخلوص منها إلى الدعوة إلى توحيد الألوهية فيجعل توحيد الربوبية مدخلاً لتوحيد العبادة للإله الذي لا يستحقها بأنواعها جميعاً سواه"1. وأما توحيد الألوهية: فهو متضمن لتوحيد الربوبية، بمعنى أن توحيد الربوبية داخل في ضمن توحيد الألوهية فإن من عبد الله وحده لم يشرك به شيئاً لا بد أن يكون قد اعتقد أن الله هو ربه ومالكه الذي لا رب له غيره ولا مالك له سواه فهو يعبده لاعتقاده أن أمره كله بيده، وأنه هو الذي يملك ضره ونفعه وأن كل ما يدعى من دونه فهو لا يملك لعابديه ضراً، ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً. ولا ينفع توحيد الربوبية بدون توحيد الألوهية، كما لا ينفع توحيد الألوهية بدون توحيد الربوبية فإن من عبد الله وحده ولم يشرك به شيئاً في عبادته، ولكنه اعتقد مع ذلك أن   1- انظر "كتاب" صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان ص437 ـ 451. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 لغير الله تأثيراً في شيء، أو قدرة على ما لا يقدر عليه إلا الله، أو أنه يملك ضر العباد، أو نفعهم، ونحو ذلك فهذا لا تصح له عبادة لأن أساس العبادة التي تبنى عليه هو الإيمان بالله رباً متفرداً بخصائص الربوبية جميعاً. وأما توحيد الأسماء والصفات فإنه شامل للنوعين فهو يقوم على إفراد الله ـ تعالى ـ بكل ما له من الأسماء الحسنى والصفات العلى التي لا تنبغي إلا له، ومن جملتها كونه رباً واحداً لا شريك له في ربوبيته وقد كان المشركون الأولون مقرين بتوحيد الربوبية ولكن إقرارهم هذا لم ينفعهم شيئاً، ولم يخرجهم من كفرهم وشركهم ولم يصبحوا بهذا الإقرار موحدين لله ـ جل وعلا ـ1. وقد كانوا أيضاً: مع إقرارهم ذلك يعبدون الله ويخلصون له ذلك أنواعاً من العبادات كالحج والصدقة والذبح والنذر والدعاء وقت الإضطرار. قال تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} 2. وكانوا يدعون أنهم على ملة إبراهيم عليه السلام. فأنزل الله تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 3 وكان البعض منهم يؤمن بالبعث والحساب وبعضهم يؤمن بالقدر. قال زهير بن أبي سلمى: يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر ... ليوم الحساب أو يعجل فينقم 4 وقال عنترة: يا عبل أين من منية مهربي ... إن كان ربي في السماء قضاها5 ومع هذا الإيمان، فإن دماءهم وأموالهم قد أبيحت لإشراكهم في توحيد العبادة   1- شرح الطحاوية ص49 ـ 84 بتصرف. وراجع "تيسير العزيز الحميد" ص17 ـ 20، وانظر "كتاب صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان" ص437 ـ 451. 2- سورة لقمان آية: 32. 3- سورة آل عمران آية: 67. 4- المعلقات السبع مع شرحها ص75. 5- ديوان عنترة ص74. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 الذي هو معنى "لا إله إلا الله" ولم ينفعهم إقرارهم بتوحيد الربوبية وحده دون توحيد الله تعالى في عبادته. ولذلك لم يعترضوا على توحيد الربوبية حين ذكرهم الرسول صلى الله عليه وسلم به، وإنما كان اعتراضهم وإنكارهم وتعجبهم على دعوته لهم إلى إفراد الله بالعبادة كما أخبر الله تعالى عنهم بقوله عز وجل: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاقٌ} 1. لكن ماذا كانت النتيجة لاقتصارهم على هذا الإقرار بالربوبية؟ إن النتيجة كانت أنه أبيح قتالهم وعدم رفع السيف عنهم حتى يقروا بشهادة أن لا إله إلا الله تلفظاً، وفهم معنى وتنفيذ مقتضى، والكفر بما يعبد من دون الله إذ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله".2 ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفر من كفر من العرب قال عمر بن الخطاب لأبي بكر رضي الله عنهما لما قاتل مانعي الزكاة: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال: لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله" فقال أبو بكر رضي الله عنه "والله لأقاتلن من فرَّق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال. والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه". فقال عمر رضي الله عنه. "فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحق"3. فأبو بكر رضي الله عنه فهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد مجرد اللفظ بقول "لا إله إلا الله" باللسان فحسب دون التزام بمعناها وأحكامها.   1- سورة ص آية: 4 ـ 7. 2- صحيح مسلم 1/52 ورواه البخاري من حديث ابن عمر 1/13. 3- صحيح مسلم 1/51 ـ 52. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 وعلى هذا أجمع علماء المسلمين على أن من قال: "لا إله إلا الله" ولم يعتقد معناها ولم يعمل بمقتضاها، يقاتل حتى يعمل بما دلت عليه من النفي والإثبات. وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن قتال التتار مع التمسك بالشهادتين ولما زعموا من إتباع أصل الإسلام فقال: "كل طائفة ممتنعة من التزام شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة من هؤلاء القوم أو غيرهم فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه، وإن كانوا ناطقين بالشهادتين وملتزمين بعض شرائعه كما قاتل أبو بكر والصحابة رضي الله عنهم مانعي الزكاة وعلى ذلك اتفق الفقهاء بعدهم ... فأيما طائفة امتنعت من بعض الصلوات المفروضات، أو الصيام، أو الحج، أو عن التزام تحريم الدماء، والأموال والخمر، والزنا، والميسر، أو عن نكاح ذوات المحارم، أو عن التزام جهاد الكفار، أو ضرب الجزية على أهل الكتاب، وغير ذلك من واجبات الدين ومحرماته ـ التي لا عذر لأحد في جحودها وتركها التي يكفر الجاحد لوجوبها. فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها وإن كانت مقرة بها وهذا مما لا أعلم فيه خلافاً بين العلماء" اهـ1. أما قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه "وحسابهم على الله"2 أي أن الله تبارك وتعالى هو الذي يتولى حساب الذي يقول كلمة التوحيد بلسانه فقط فإن كان صادقاً في قوله جازاه بجنات النعيم وإن كان يقولها نفاقاً فله من الله العذاب الأليم. وأما في الدنيا فيحكم له بالظاهر فمن أتى بالتوحيد ولم يأت بما يناقضه ظاهراً والتزم بشرائع الإسلام وجب الكف عنه. والذي نخلص إليه مما تقدم أن الاقتصار على الإقرار بتوحيد الربوبية لا أثر له في عصمة المال والدم.   1- مجموع الفتاوى 28/502 ـ 503. 2- تقدم تخريجه قريباً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 الفصل الرابع: ما جاء في السورة بشأن الشرك المبحث الأول: تعريف الشرك في اللغة والإصطلاح ... المبحث الأول: تعريف الشرك في اللغة والإصطلاح تبين مما تقدم في الفصول السابقة أن سورة "الزمر" تناولت أنواع التوحيد الثلاثة، وقد تقدم الحديث عنها في الفصول الثلاثة المتقدمة ثم تعرضت للشرك الذي هو أعظم ذنب عصي الله به في الأرض ولقد دار الحديث في السورة حول الشرك عن بيان أصل الشرك في بني الإنسان ثم عرضت لذم الإنسان على جعله أنداداً لله تعالى، ثم جاء البيان فيها للفرق بين المشرك والموحد، ثم ختم الحديث فيها عن الشرك بالتحذير منه، وبيان أنه محبط للعمل، وسنتحدث عن هذه الأمور بطريقة مفصلة في المباحث التي ستأتي بعد تعريف الشرك في اللغة، والإصطلاح، وبيان أنواعه فنقول: الشرك في اللغة: جاء في مقاييس اللغة: أن مادة "الشرك" المكونة من حرف "الشين والراء والكاف" لها أصلان: أحدهما: يدل على مقارنة وخلاف انفراد، والآخر يدل على امتداد واستقامة فالأول: الشركة وهو أن يكون الشيء بين اثنين لا ينفرد به أحدهما ويقال: شاركت فلاناً في الشيء بين اثنين لا ينفرد به أحدهما ويقال: شاركت فلاناً في الشيء إذا صرت شريكه، وأشركت فلاناً إذا جعلته شريكاً لك قال تعالى: {وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} 1 ويقال في الدعاء: اللهم أشركنا في دعاء المؤمنين أي: اجعلنا لهم شركاء في ذلك.   1- سورة طه آية: 32. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 وأما الثاني: فالشرك: لقم الطريق، وهو شراكه أيضاً، وشرك النعل مشبه بهذا، ومنه شراك الصائد سمي بذلك لامتداده1. وقال في اللسان: "الشركة والشركة سواء" مخالطة الشريكين يقال: اشتركنا بمعنى: تشاركنا، وقد اشترك الرجلان وتشاركا، وشارك أحدهما الآخر والشريك المشارك، والشرك كالشريك، والجمع أشراك وشركاء2 وجاء في تهذيب اللغة: "الشرك بمعنى الشريك وهو بمعنى النصيب وجمعه أشراك كشبر وأشبار" اهـ3. وفي اللسان: "وطريق مشترك: يستوي فيه الناس، واسم مشترك تستوي فيه معان كثيرة"4. وقال في الصحاح: "والشرك أيضاً: الكفر، وقد أشرك فلان بالله فهو مشرك ومشركي" اهـ5. وجاء في تاج العروس: مبيناً قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} 6 ومعناه: الذين صاروا مشركين بطاعتهم للشيطان، وليس المعنى أنهم آمنوا بالله وأشركوا بالشيطان، ولكن عبدوا الله وعبدوا معه الشيطان فصاروا بذلك مشركين فهو مشرك ومشركي"7. وزاد في اللسان "مثل الشرك في الجاهلية وهو تلبيتهم حول الكعبة لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك "يعنون بالشريك الصنم" اهـ8، وفي تهذيب اللغة: قال الليث: "شرك الصائد: حبائل الصيد، وكذلك ما ينصب للطير" وفي الحديث أعوذ   1- مقاييس اللغة: 3/265. 2- لسان العرب 10/448. 3- 10/17 تاج العروس 7/148، لسان العرب 10/449. 4- 10/449 . 5- 4/1593 . 6- سورة النحل آية: 100. 7- 7/148 . 8- 10/450 . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 بك من شر الشيطان وشركه"1 أي حبائله ومصائده يعني ما يدعو إليه، ويوسوس به من الإشراك بالله تعالى2. ومما تقدم يتبين أن مدلول كلمة "الشرك" تطلق على النصب والتسوية، والمخالطة والمصاحبة، والكفر، وحبائك الصيد والشبكة، والقاعدة المتبعة في اللغة العربية أن الكلمات ذات المادة الواحدة، يكون فيما بينها ترابط وثيق وإذا تأملنا المدلولات السابقة لكلمة "الشرك" نلمس الترابط الواضح فيما بينها. فالشرك أن يجعل غير الله مشاركاً له فيما هو من خالص حقه على عباده، ومن فعل هذا فقد سوى بين الله وبين من أشركه معه في العبادة بمعنى أنه اتخذ إلهاً آخر مع الله لأنه قصد غير الله بشيء من العبادة فجعله شريكاً لله في عبادته بقدر كبير، أو صغير في ذات، أو وصف. وأما تعريف الشرك في الإصطلاح: فقد تنوعت عبارات العلماء في تحديده، وعلى الرغم من تنوعها فإن كل عبارة منها تكمل الأخرى. فبعض أئمة اللغة جعله بمعنى الكفر. قال صاحب القاموس: "وأشرك بالله كفر" أ. هـ3. وجاء في تهذيب اللغة "الشرك أن تجعل لله شريكاً في ربوبيته تعالى الله عن الشركاء والأنداد" أ. هـ4. وقال الراغب: "وشرك الإنسان نوعان": أحدهما: الشرك العظيم، وهو إثبات شريك لله تعالى يقال: أشرك فلان بالله وذلك أعظم كفر قال تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً} 5 وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا   1- رواه الترمذي في سننه من حديث أبي هريرة 5/134، والدارمي في سننه 2/292. 2- تهذيب اللغة 10/18 تاج العروس 7/149، لسان العرب 10/450. 3- 3/318 . 4- 10/16 . 5- سورة النساء آية: 116. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 1. والثاني: الشرك الأصغر وهو: مراعاة غير الله في بعض الأمور وهو الرياء قال تعالى {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ} 2. فتعريف الشرك في الإصطلاح: "هو ضد التوحيد كالكفر ضد الإيمان وهو أن يجعل الإنسان لله شريكاً فيما هو من خالص حقه ـ سبحانه ـ مثل أن يتخذ إلهاً، أو آلهة يعبدها أو يطيعها، أو يستعين بها، أو يحبها، أو نحو ذلك مما لا يستحقه إلا ـ الرب جل وعلا ـ فمن صدر منه هذا الاعتقاد فقد أشرك بالله العظيم وحبط عمله، ولا يصلح مع الشرك أي عمل إذ من شروط قبول العمل عند الله تعالى أن يكون خالصاً لوجهه الكريم ليس لغيره فيه حظ ولا نصيب"3.   1- سورة النساء آية: 48. 2- المفردات في غريب القرآن ص259 ـ 260 والآية رقم 106 من سورة يوسف. 3- انظر تجريد التوحيد للمقريزي ص27 ـ 28، تيسير العزيز الحميد ص27، "توضيح المقاصد وتصحيح القواعد" 2/266. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 المبحث الثاني: أنواع الشرك والشرك الذي هو أعظم ذنب عصي الله به على هذه الأرض ذكر العلماء أنه ثلاثة أنواع. النوع الأول: الشرك الأكبر. النوع الثاني: الشرك الأصغر. النوع الثالث: شرك خفي1. ولخطورة الشرك على عمل الإنسان المسلم: يتحتم عليه أن يعرف حقيقة هذه الأنواع الثلاثة حتى لا يقع فيها من حيث لا يشعر، وسأتحدث في هذا المبحث عن بيان حقيقة هذه الأنواع باختصار. تعريف الشرك الأكبر: لقد اختلفت تعريفات العلماء للشرك الأكبر لفظاً، واتحدت معنى ومدلولاً. قال العلامة ابن القيم مبيناً حقيقة الشرك الأكبر: "هو أن يتخذ من دون الله ندَّاً يحبه كما يحب الله وهو الشرك الذي تضمن تسوية آلهة المشركين برب العالمين"2. وقال رحمه الله في تعريف آخر: "هو تشبيه المخلوق بالله وتشبيهه بغيره"3.   1- انظر الرسالة الأولى ضمن مجموعة التوحيد لشيخ الإسلام ابن تيمية والشيخ محمد بن عبد الوهاب وغيرهما من العلماء ص 5. 2- مدارج السالكين 1/339. 3- الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي ص159 إغاثة اللهفان 2/226. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 وقال المقريزي1رحمه الله تعالى "اعلم أن حقيقة الشرك تشبيه الخالق بالمخلوق وتشبيه المخلوق بالخالق أما الخالق فإن المشرك شبه المخلوق بالخالق في خصائص الإلهية وهي التفرد بملك الضر، والنفع والعطاء، والمنع فمن علَّق ذلك بمخلوق فقد شبهه بالخالق تعالى وسوى بين التراب، ورب الأرباب فأي فجور وذنب أعظم من هذا ... هذا في جانب التشبيه وأما في جانب التشبه فمن تعاظم، وتكبر ودعا الناس إلى إطرائه ورجائه ومخافته فقد تشبه بالله ونازعه في ربوبيته وهو حقيق بأن يهينه الله غاية الهوان ويجعله كالذر تحت أقدام خلقه. وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يقول الله ـ عز وجل ـ العظمة والكبرياء ردائي فمن نازعني في واحد منهما عذبته" أ. هـ2 وقال الإمام الذهبي معرفاً للشرك الأكبر: "هو أن يجعل لله نداً ويعبد معه غيره من حجر، أو شجر، أو شمس، أو قمر، أو نبي، أو شيخ، أو نجم، أو ملك، أو غير ذلك وهذا هو الشرك الأكبر" أ. هـ3. وجاء في تيسير العزيز الحميد: "هو أن يجعل لله ندّاً يدعوه كما يدعو الله ويسأله الشفاعة كما يسأل الله، ويرجوه كما يرجو الله ويحبه كما يحب الله ويخشاه كما يخشى الله، وبالجملة فهو أن يجعل لله نداً يعبده كما يعبد الله"أ. هـ4 والذي يتبين من هذه التعاريف المتقدمة للشرك الأكبر أن معنى الشرك الأكبر هو جعل الإنسان لربه ـ تعالى ـ مثيلاً، أو كفوءاً، أو نظيراً، أو عديلاً، يتوجه إليه بالعبادة كما كان عليه أهل الجاهلية من المشركين مع أصنامهم، وأوثانهم التي اتخذوها من الأحجار والأشجار فصرفوا لها العبادة التي لا يستحقها إلا الله ـ تعالى ـ من دعاء، ونذر وذبح وغير ذلك من أنواع العبادات. وهذا ما عليه القبوريون حالياً فإنهم يتوجهون إلى الموتى من أهل القبور وينادونهم ويهتفون بهم ويستعينون بهم ويستغيثون، ويقربون لهم القرابين والنذور بصنوف الأموال،   1- هو الإمام بقي الدين أحمد بن علي المقريزي المتوفى سنة أربع وخمسين وثمانمائة هجرية. 2- تجريد التوحيد ص27 ـ 28 والحديث رواه مسلم بلفظ "العز إزاره والكبرياء رداؤه فمن ينازعني عذبته" 4/2023. 3- الكبائر ص 8 4- تيسير العزيز الحميد ص 27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 ويطلبون منهم الشفاعة، وشفاء المرضى وغير ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله ـ تعالى ـ وتجدهم يشدون إليهم الرحال ويحملون الزاد من البلدان والأقطار البعيدة. وكما تبين مما تقدم أن من الشرك بالله تشبيهه بخلقه كقولهم: يد الله كيد المخلوق، وعينه كعينه إلى غير ذلك من أباطيل أهل الزيغ الذين يحاولون إخضاع النصوص لأهوائهم، ولا يخضعون أهواءهم لها. وكذلك تشبيه المخلوق بالخالق كما زعم فرعون لقومه أنه ربهم الأعلى وكما فعلت السبئية1 مع علي رضي الله عنه وكما شبه بعض الزائغين من الناس الحاكم العبيدي بأنه إله، وأنه مشرع وأن حكمه خير من حكم الله تعالى2. أنواع الشرك الأكبر: لقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية أن الشرك الأكبر نوعان: النوع الأول: شرك في الإلهية. النوع الثاني: شرك في الربوبية. قال ـ رحمه الله تعالى ـ "إن كان شركاً يكفر به صاحبه وهو نوعان": شرك في الإلهية، وشرك في الربوبية. فأما الشرك في الإلهية: فهو أن يجعل لله نداً ـ أي ـ مثلاً في عبادته أو محبته، أو خوفه، أو رجائه، أو إنابته، فهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة منه قال ـ تعالى ـ: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَف} 3.   1- هم أتباع عبد الله بن سبأ الضال المضل الذي رام إفساد دين الإسلام بمكره وكيده الأثيم حيث دعا الناس إلى القول بنبوة علي ثم انتقل إلى ما هو أعظم من ذلك فزعم أنه إله وقد وجد بعضهم في زمن علي وقالوا فيه هذا القول فأمر بإحراقهم. انظر في شأن هذه الفرقة المارقة "الفرق بين الفرق" ص333، التبصير في الدين ص71، الملل والنحل 1/174، مقالات الإسلاميين 1/86. 2- كما يعتقد ذلك طائفة الدروز في الحاكم العبيدي منصور بن العزيز بالله نزار بن المعز بالله العبيدي الثالث من الخلفاء العبديين المغاربة الذين تغلبوا على مصر فقد ادعى هذا العبيدي الألوهية تأسياً بفرعون، وقتل من العلماء ما لا يحصى وكتب على المساجد والجوامع سب الصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان وعائشة وغيرهم من الصحابة، وهذا العبيدي يعظمه الدروز في لبنان والإسماعيلية في الهند. أنظر ترجمته في النجوم الزاهرة 4/176 ـ 206، خطط المقريزي 2/285 ـ 289، وفيات الأعيان 2/126. 3- سورة الأنفال آية: 38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 وهذا هو الذي قاتل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم مشركي العرب لأنهم أشركوا في الإلهية قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لله} 1 وقال تعالى: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} 2 ... وأما النوع الثاني: فالشرك في الربوبية فإن الرب ـ سبحانه وتعالى ـ هو المالك المدبر المعطي المانع الضار النافع الخافض الرافع المعز المذل فمن شهد أن المعطي أو المانع أو الضار أو المعز، أو المذل غيره فقد أشرك بربوبيته3. وقال العلامة ابن القيم: مبيناً نوعي الشرك الأكبر: الشرك شركان: النوع الأول: شرك يتعلق بذات المعبود، وأسمائه وصفاته وأفعاله. النوع الثاني: شرك في عبادته ومعاملته، وإن كان صاحبه يعتقد أنه ـ سبحانه ـ لا شريك له في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله ثم إن القسم الأول نوعان: أحدهما: شرك التعطيل وهو أقبح أنواع الشرك كشرك فرعون إذ قال: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} 4 وقال تعالى مخبراً عنه أنه قال لهامان: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبَاً} 5 والشرك والتعطيل متلازمان فكل مشرك معطل، وكل معطل مشرك، لكن الشرك لا يستلزم أصل التعطيل، بل قد يكون المشرك مقراً بالخالق ـ سبحانه ـ وصفاته ولكنه عطل حق التوحيد وأصل الشرك وقاعدته التي يرجع إليها هو التعطيل وهو ثلاثة أقسام: الأول: تعطيل المصنوع عن صانعه وخالقه. الثاني: تعطيل الصانع ـ سبحانه ـ عن كماله المقدس بتعطيل أسمائه وأوصافه وأفعاله.   1- سورة البقرة آية: 165. 2- سورة ص آية: 5. 3- مجموع الفتاوى 1/91 ـ 92. 4- سورة الشعراء آية: 23. 5- سورة غافر آية: 36 ـ 37. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 الثالث: تعطيل معاملته عما يجب على العبد من حقيقة التوحيد، ومن هذا شرك طائفة أهل وحدة الوجود الذين يقولون: ما ثم خالق ومخلوق ولا هاهنا شيئان، بل الحق المنزه هو عين الخلق المشبه. ومنه شرك الملاحدة القائلين بقدم العالم وأبديته، وأنه لم يكن معدوماً أصلاً، بل لم يزل ولا يزال والحوادث بأسرها مستندة عندهم إلى أسباب ووسائط اقتضت إيجادها يسمونها بالعقول والنفوس. ومن هذا شرك من عطل أسماء الرب تعالى وأوصافه، وأفعاله من غلاة الجهمية والقرامطة فلم يثبتوا له اسماً ولا صفة بل جعلوا المخلوق أكمل منه، إذ كمال الذات بأسمائها وصفتها. النوع الثاني: شرك من جعل مع الله إلهاً آخر ولم يعطل أسماءه وصفاته وربوبيته كشرك النصارى الذين جعلوه ثالث ثلاثة، فجعلوا المسيح إلهاً وأمه إلهاً. ومن هذا شرك المجوس القائلين بإسناد حوادث الخير إلى النور وحوادث الشر إلى الظلمة. ومن هذا شرك القدرية القائلين بأن الحيوان هو الذي يخلق أفعال نفسه وأنها تحدث بدون مشيئة الله وقدرته ولهذا كانوا أشباه المجوس. ومن هذا شرك الذي حاج إبراهيم في ربه: {إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} 1. فهذا جعل نفسه نداً لله يحيي ويميت بزعمه كما يحيي الله ويميت فألزمه إبراهيم أن طرد قولك أن تقدر على الإتيان بالشمس من غير الجهة التي يأتي بها الله منها، وليس هذا انتقالاً كما زعم بعض أهل الجدل، بل إلزاماً على طرد الدليل إن كان حقاً. ومن هذا شرك كثير ممن يشرك بالكواكب العلويات ويجعلها أرباباً مدبرة لأمر هذا العالم كما هو مذهب مشركي الصابئة وغيرهم. ومن هذا شرك عباد الشمس أ. هـ2.   1- سورة البقرة آية: 258. 2- الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي ص152 ـ 154. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 وأما القسم الثاني: وهو ما يتعلق بمعاملته ـ سبحانه ـ فهو أربعة أنواع1. النوع الأول: شرك الدعوة وقد أشار إليه ـ سبحانه ـ بقوله: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} 2. قال العلامة ابن جرير يقول تعالى ذكره: "فإذا ركب هؤلاء المشركون السفينة في البحر، فخافوا الغرق والهلاك فيه {دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} يقول: أخلصوا لله عند الشدة التي نزلت بهم التوحيد وأفردوا له الطاعة، وأذعنوا له بالعبودية، ولم يستغيثوا بآلهتهم وأندادهم ولكن بالله الذي خلقهم {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ} يقول: فلما خلصهم مما كانوا فيه وسلمهم، فصاروا إلى البر إذا هم يجعلون مع الله شريكاً في عبادتهم ويدعون الإلهة والأوثان معه أرباباً. قال قتادة {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} فالخلق كلهم يقرون لله أنه ربهم، ثم يشركون بعد ذلك أ. هـ3. ومن تفسير ابن جرير للآية السابقة يتبين لنا أن شرك المشركين السابقين كان أخف من شرك المتأخرين إذا أولئك كان شركهم مقصوراً في حالة الرخاء أما في الشدة فكانوا يخلصون الدعاء لله وحده لا شريك له أما مشركو زماننا فإنهم ينادون ويستغيثون بغير الله في الشدة والرخاء على حد سواء قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ـ تعالى ـ "فاعلم أن شرك الأولين أخف من شرك أهل زماننا بأمرين: أحدهما: أن الأولين لا يشركون ولا يدعون الملائكة والأولياء مع الله إلا في الرخاء، وأما في الشدة، فيخلصون لله الدعاء كما قال ـ تعالى ـ {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإنْسَانُ كَفُوراً} 4 ...   1- انظر الرسالة الأولى من "مجموعة التوحيد لشيخ الإسلام ابن تيمية والشيخ محمد بن عبد الوهاب وغيرهما ص6 ـ 7". 2- سورة العنكبوت آية: 65. 3- جامع البيان 21/13. 4- سورة الإسراء آية: 67. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 إلى أن قال: فمن هذه المسألة التي وضحها الله في كتابه وهي أن المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعون الله ـ تعالى ـ ويدعون غيره في الرخاء وأما في الضراء والشدة فلا يدعون إلا الله وحده لا شريك له، وينسون ساداتهم، تبين له الفرق بين شرك أهل زماننا وشرك الأولين ولكن أين من يفهم قلبه هذه المسألة فهماً جيداً راسخاً؟ والله المستعان. الأمر الثاني: أن الأولين يدعون مع الله أناساً مقربين عند الله إما أنبياء وإما أولياء وإما ملائكة، أو يدعون أحجاراً أو أشجاراً مطيعة لله ليست عاصية وأهل زماننا يدعون مع الله أناساً من أفسق الناس، والذين يدعونهم هم الذين يحكون عنهم الفجور من الزنا والسرقة وترك الصلاة وغير ذلك والذي يعتقد في الصالح، أو الذي لا يعصي ـ مثل الخشب والحجر ـ أهون ممن يعتقد فيمن يشاهد فسقه وفساده ويشهد به" أ. هـ1. النوع الثاني: شرك المحبة كما ذكر الله عن بعض الناس بقوله {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً للهِ} 2. قال العلامة ابن القيم: "فأخبر أن من أحب من دون الله شيئاً كما يحب الله ـ تعالى ـ فهو ممن اتخذ من دون الله أنداداً فهذا نداً في المحبة لا في الخلق والربوبية، فإن أحداً من أهل الأرض لم يثبت هذا الند في الربوبية بخلاف ند المحبة فإن أكثر أهل الأرض قد اتخذوا من دون الله أنداداً في الحب والتعظيم ثم قال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً للهِ} وفي تقدير الآية قولان: أحدهما: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً للهِ} من أصحاب الأنداد لأندادهم وآلهتهم التي يحبونها ويعظمونها من دون الله. الثاني: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً للهِ} من محبة المشركين بالأنداد لله فإن محبة المؤمنين خالصة، ومحبة أصحاب الأنداد قد ذهبت أندادهم بقسط منها، والمحبة الخالصة أشد من المشتركة، والقولان على القولين في قوله ـ تعالى ـ: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ} 3 فإن فيها قولين:   1- كشف الشبهات ص227 ضمن مجموعة التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب. 2- سورة البقرة آية: 165. 3- سورة آية: 165. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 أحدهما: يحبونهم كما يحبون الله فيكون قد أثبت لهم محبة الله ولكنها محبة يشركون فيها مع الله أنداداً. والثاني: أن المعنى يحبون أندادهم كما يحب المؤمنون الله، ثم بين أن محبة المؤمنين لله أشد من محبة أصحاب الأنداد لأندادهم، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ يرجح القول الأول، ويقول: "إنما ذموا بأن أشركوا بين الله وبين أندادهم في المحبة ولم يخلصوها لله كمحبة المؤمنين له" أ. هـ1. النوع الثالث: شرك الطاعة المذكور في قوله ـ تعالى ـ {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ الله} 2. وفي الحديث عن عدي بن حاتم حين سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ الله} قال: فقلت: إنهم لم يعبدوهم؟ فقال: "بلى إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم" 3. قال حذيفة بن اليمان وعبد الله بن عباس وغيرهما في تفسيرها: إنهم اتبعوهم فيما حللوا وحرموا. قال ابن القيم: "وهذا من أعظم تلاعب الشيطان بالإنسان: أن يقتل أو يقاتل من هداه على يديه، ويتخذ من لم تضمن له عصمته نداً لله يحرم عليه ويحلل له" أ. هـ4. النوع الرابع: شرك النية والإرادة والقصد المشار إليه بقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 5. وقال العلامة ابن القيم: وأما الشرك في الإرادات والنيات فذلك البحر الذي لا ساحل له، وقل من ينجو منه فمن أراد بعمله غير وجه الله ونوى شيئاً غير التقرب إليه، وطلب   1- مدارج السالكين 3/20 ـ 21. 2- سورة التوبة آية: 31. 3- رواه ابن جرير في تفسيره جامع البيان 10/114، سنن الترمذي 4/342، وانظر تفسير ابن كثير 3/385. 4- إغاثة اللهفان 2/319. 5- سورة هود آية: 15 ـ 16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 الجزاء منه، فقد أشرك في نيته وإرادته والإخلاص: أن يخلص لله في أقواله وأفعاله وإرادته ونيته، وهذه هي الحنفية ملة إبراهيم التي أمر الله بها عباده كلهم ولا يقبل من أحد غيرها وهي حقيقة الإسلام {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 1. وهي ملة إبراهيم ومن رغب عنها فهو من أسفه السفهاء. أ. هـ2. تعريف الشرك الأصغر: الشرك الأصغر هو النوع الثاني من أنواع الشرك وقد أوضح تعريفه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء" 3. وعند الحاكم من حديث أوس عن أبيه قال: "كنا نعد على عهد رسول الله أن الرياء الشرك الأصغر"4. والرياء الذي يعتبر شركاً إنما هو يسيره وليس بكثيره إذ الكثير منه قد يصل بصاحبه إلى الشرك الأكبر وهذا لا يصدر إلا من المنافقين الذين توعدهم الله بالدرك الأسفل من النار أو ممن لم تخالط بشاشة الإيمان قلبه. قال ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ في حده للشرك الأصغر "وأما الشرك الأصغر فكيسير الرياء والتصنع للخلق والحلف بغير الله ـ تعالى ـ وقول الر جل ما شاء الله وشئت، وهذا من الله ومنك وأنا بالله وبك ومالي إلا الله وأنت وأنا متوكل على الله وعليك ولولا أنت لم يكن كذا، وقد يكون شركاً أكبر بحسب قائله ومقصده"5. قال في تيسير العزيز الحميد ففسر الشرك الأصغر باليسير من الرياء فدل على أن   1- سورة آل عمران آية: 85. 2- الجواب الكافي ص159. 3- مجمع الزوائد 10/22 من حديث رافع بن خديج رضي الله عنه قال الهيثمي: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير شبيب وهو ثقة. 4- المستدرك 4/329 وصححه وأقره على ذلك الذهبي. 5- مدارج السالكين 1/344. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 كثيره أكبر، وضد الشرك الأكبر والأصغر التوحيد والإخلاص وهو إفراد الله ـ تعالى ـ بالعبادة باطناً وظاهراً. أ. هـ1. الفرق بين الشرك الأكبر والأصغر: أما الفرق بين الشرك الأكبر والأصغر فمن وجوه: أولاً: أن الشرك الأكبر لا يغفر الله لصاحبه، وأما الأصغر فتحت المشيئة. الثاني: أن الشرك الأكبر محبط لجميع الأعمال، وأما الأصغر فلا يحبط إلا العمل الذي قارنه. الثالث: أن الشرك الأكبر مخرج لصاحبه من ملة الإسلام، وأما الأصغر فلا يخرجه منها. الرابع: أن الشرك الأكبر صاحبه خالد في النار، وأما الأصغر فكغيره من الذنوب، وقيل: "إنه لا يغفر لصاحبه إلا بالتوبة كالأكبر وهذا هو الصواب"2. تعريف الشرك الخفي: الشرك الخفي هو النوع الثالث من أنواع الشرك وقد بين حقيقته المصطفى صلى الله عليه وسلم حيث قال: "ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ قالوا: بلى قال: الشرك الخفي يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل" 3. قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب قوله: "فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل" فسر الشرك الخفي بهذا أن يعمل الرجل العمل لله، لكن يزيد فيه صفة كتحسينه وتطويله ونحو ذلك لما يرى من نظر رجل فهذا هو الشرك الخفي، وهو الرياء، والحامل له على ذلك هو حب الرياسة والجاه عند الناس" أ. هـ4. وقال صلى الله عليه وسلم: "الشرك الخفي أن يعمل الرجل لمكان الرجل"5.   1- تيسير العزيز الحميد ص472. 2- الكواشف الجلية ص267. 3- رواه أحمد في المسند 3/30 وابن ماجة في السنن 2/1406. 4- تيسير العزيز الحميد ص472. 5- رواه الحاكم في المستدرك وصححه وأقره على ذلك الذهبي من حديث أبي سعيد الخدري 4/329. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في تفسيره لقوله ـ تعالى ـ {فَلا تَجْعَلُوا للهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} الأنداد هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن يقول: والله وحياتك يا فلان وحياتي ويقول لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص البارحة ولولا البط في الدار لأتى اللصوص وقول الرجل لصاحبه لولا الله وفلان لا تجعل فيها فلاناً هذا كله به شرك"1. قال: شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ـ تعالى ـ. وأما الشرك الخفي فهو الذي لا يكاد أحد يسلم منه مثل أن يحب الرجل مع الله غيره فإن كانت محبته لله مثل حب النبيين والصالحين والأعمال الصالحة فليست من هذا الباب لأن هذه تدل على حقيقة المحبة لأن حقيقة المحبة أن يحب المحبوب وما أحبه، ويكره ما يكرهه، ومن صحت محبته. امتنعت مخالفته لأن المخالفة إنما تقع لنقص المتابعة ويدل على نقص المحبة قول الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} 2 الآية فليس الكلام في هذا إنما الكلام في محبة تتعلق بالنفوس بغير الله ـ تعالى ـ فهذا لا شك أنه نقص في توحيد المحبة لله وهو دليل على نقض محبة الله ـ تعالى ـ إذ لو كملت محبته لم يحب سواه .... وكذا الخوف والرجاء، وما أشبه ذلك فإن كمل خوف العبد من ربه لم يخف شيئاً سواه ... وإذا نقص خوفه خاف من المخلوق وعلى قدر نقص الخوف وزيادته يكون الخوف ... وكذا الرجاء وغيره فهذا هو الشرك الخفي الذي لا يكاد أحد أن يسلم منه إلا من عصمه الله ـ تعالى ـ3. فشيخ الإسلام ـ رحمه الله تعالى ـ يبين خطورة الشرك الخفي الذي لا ينجو منه إلا من عصمه الله ـ تعالى ـ ولذلك خافه صلى الله عليه وسلم على الصحابة الذين هم أبر الأمة أعمالاً وأقواها إيماناً وأصحها إسلاماً، وأحسنها أخلاقاً وأصدقها أقوالاً كما تقدم من حديث أبي   1- تفسير ابن كثير 1/101. 2- سورة آل عمران آية: 31. 3- مجموع الفتاوى 1/93 ـ 94. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 سعيد الخدري رضي الله عنه قال صاحب تيسير العزيز الحميد1 قال الطيبي2 مبيناً ضرر الشرك الخفي على الإنسان: "وهو من أضر غوائل النفس، وبواطن مكائدها، يبتلى به العلماء والعباد والمشمرون عن ساق الجد لسلوك طريق الآخرة فإنهم مهما قهروا أنفسهم وفطموها عن الشهوات، وصانوها عن الشبهات، عجزت نفوسهم عن الطمع في المعاصي الظاهرة، الواقعة على الجوارح، فطلبت الاستراحة إلى الظاهر بالخير، وإظهار العلم والعمل فوجدت مخلصاً من مشقة المجاهدة إلى لذة القبول عند الخلق ولم تقتنع باطلاع الخالق تبارك وتعالى: وفرحت بحمد الناس، ولم تقنع بحمد الله وحده فأحببت مدحهم وتبركهم بمشاهدته وخدمته وإكرامه وتقديمه في المحافل فأصابت النفس في ذلك أعظم اللذات، وأعظم الشهوات وهو يظن أن حياته بالله ـ تعالى ـ وبعبادته، وإنما حياته هذه الشهوة الخفية التي تعمى عن دركها العقول النافذة، قد أثبت اسمه عند الله من المنافقين وهو يظن أنه عند الله من عباده المقربين وهذه مكيدة للنفس لا يسلم منها إلا الصديقون، ولذلك قيل آخر ما يخرج من رؤوس الصديقين حب الرياسة"أ. هـ3. وباستطاعة الإنسان أن يتخلص من هذا الشرك الخفي بأمرين اثنين: الأول: الإخلاص بأن يكون عمله خالصاً لوجه الله ـ تعالى ـ. الثاني: أن يكون العمل موافقاً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. كفارة الشرك الخفي: على الرغم من خطورة الشرك الخفي كما عرفنا ذلك مما تقدم وأنه صلى الله عليه وسلم خافه على سادة هذه الأمة وهم الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، وأن لا يسلم منه إلا من عصمه الله ـ تعالى ـ.   1- هو الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله ـ تعالى ـ. 2- هو الحسين بن محمد بن عبد الله شرف الدين الطيبي. من علماء الحديث والتفسير والبيان كان ذا ثروة طائلة من الإرث والتجارة فأنفقها في وجوه الخير حتى افتقر في آخر عمره، كان شديد الرد على أهل البدع، وكان ملازماً لتعليم طلبة العلم له مؤلفات في البلاغة والتفسير، والحديث. أنظر ترجمته في الدرر الكامنة 2/68 ـ 69، كشف الظنون 1/720، شذرات الذهب 6/137 ـ 138، بغية الوعاة 1/522، البدر الطالع للشوكاني 1/229. 3- انظر تيسير العزيز الحميد ص473. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 إلا أنه صلى الله عليه وسلم علمنا دعاءاً ندعو الله به يكون كفارة لما يحصل للإنسان من هذا الداء العضال. روى الإمام أحمد بإسناده إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه خطب الناس يوماً ـ فقال: يا أيها الناس اتقوا هذا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل فقام إليه عبد الله بن حزن وقيس بن المضارب فقالا: والله لتخرجن مما قلت أو لنأتين عمر مأذون لنا أو غير مأذون قال: بل أخرج مما قلت خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: أيها الناس اتقوا هذه الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل" فقال له من شاء الله أن يقول: وكيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله؟ قال قولوا: "اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئاً نعلمه ونستغفرك لما لا نعلم" 1. فهذا الحديث بين لنا فيه صلى الله عليه وسلم كفارة الشرك الخفي، نسأل الله أن يجنبنا الوقوع في الأمور التي تغضبه ـ سبحانه ـ وقد اختار أكثر العلماء الذين ألفوا في التوحيد أن الشرك ينقسم إلى نوعين أكبر وأصغر، فيكون الشرك الخفي من أنواع الشرك الأصغر على قول من قال: إن الشرك على نوعين وهذا الخلاف في التقسيم إلى نوعين وإلى ثلاثة إنما هو خلاف لفظي لأن ما يفسر به الشرك الخفي هو ما يفسر به الشرك الأصغر وحيث ذكرنا أنواع الشرك فإنه من المستحسن أن نردف ذلك بذكر أنواع الكفر وأنواع النفاق لأنها كلها من الأمور المهلكة لم شرح صدره بها. أنواع الكفر: قال العلامة ابن القيم: "فأما الكفر فنوعان: كفر أكبر وكفر أصغر، فالكفر الأكبر هو الموجب للخلود في النار والأصغر موجب لاستحقاق الوعيد دون الخلود"2. أنواع الكفر الأكبر: الكفر الأكبر خمسة أنواع: النوع الأول: كفر التكذيب وهو اعتقاد كذب الرسل وهذا القسم قليل في الكفار فإن   1- 4/403. 2- مدارج السالكين 1/335. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 الله ـ تعالى ـ أيد رسله، وأعطاهم من البراهين والآيات على صدقهم ما أقام به الحجة وأزال به المعذرة. قال تعالى في شأن فرعون وقومه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} 1 وقال ـ تعالى ـ مخاطباً رسوله صلى الله عليه وسلم: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ} 2. النوع الثاني: كفر إباء واستكبار مثل كفر إبليس اللعين ومنه كفر من عرف الرسول صلى الله عليه وسلم ولم ينقد له إباءاً واستكباراً وهو الغالب على كفر أعداء الرسل كما قال ـ تعالى ـ عن فرعون وقومه {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} 3. ومنه كفر أبي طالب فإنه صدق الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يشك في صدقه ولكن أخذته الحمية، وكره أن يرغب عن ملة آبائه، أو أن يحكم بتكفيرهم. النوع الثالث: كفر الإعراض: مثل أن يعرض عن الرسول صلى الله عليه وسلم بحيث لا يسمعه ولا يصدقه ولا يكذبه، ولا يصغي إلى ما جاء به البتة كما قال أحد بني عبد ياليل للنبي صلى الله عليه وسلم: "والله أقول لك كلمة: إن كنت صادقاً فأنت أجل في عيني من أن أرد عليك وإن كنت كاذباً فأنت أحقر من أن أكلمك" 4. النوع الرابع: كفر الشك: حيث لا يجزم بصدق النبي صلى الله عليه وسلم ولا يكذبه بل يشك في أمره، وهذا لا   1- سورة النمل آية: 14. 2- سورة الأنعام آية: 33. 3- سورة المؤمنون آية: 47. 4- علق على هذا النوع الشيخ محمد حامد الفقي فقال "وهو كفر الملحدين اليوم من المتسمين بأسماء إسلامية المقلدين للإفرنج من اليهود والنصارى المنحلين عن كل خلق وفضيلة زاعمين بجاهليتهم وسفهم أن هذا هو سبيل الرقي والمدنيَّة" مدارج السالكين 1/338 "الهامش". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 يستمر شكه إلا إذا ألزم نفسه الإعراض عن النظر في آيات صدق الرسول صلى الله عليه وسلم جملة، وأما مع التفاته إليها ونظره فيها فإنه لا يبقى معه شك لأنها مستلزمة للصدق. النوع الخامس: كفر النفاق وهو أن يظهر الإيمان بلسانه وينطوي قلبه على تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا هو النفاق الأكبر1. الكفر الأصغر: النوع الثاني من أنواع الكفر الكفر الأصغر، وهو لا يخرج من ملة الإسلام وذلك مثل كفر النعمة وقد ذكره الله ـ تعالى ـ في قوله: {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} 2. ومنه الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اثنتان في الناس هما بهم كفر الطعن في النسب، والنياحة" 3. فمثل هذا كفر دون كفر لا يخرج من ملة الإسلام. أنواع النفاق: جاء في الصحاح: "النافقاء إحدى حجرة اليربوع يكتمها ويظهر غيرها وهو موضع يرققه، فإذا أتي من قبل القاصعاء ضرب النافقاء برأسه فانتفق أي: خرج والنفقة أيضاً: مثال الهمزة النافقاء تقول منه: نفق اليربوع تنفيقاً ونافق أي أخذ في نافقائه، ومنه اشتقاق المنافق في الدين" 4. وجاء في المصباح المنير: "نافق اليربوع إذا أتى النافقاء ومنه قيل: نافق الرجل إذا   1- ذكر هذه الأنواع العلامة ابن القيم في مدارج السالكين 1/335 ـ 336 وانظر "مجموعة التوحيد لشيخ الإسلام ابن تيمية، والشيخ محمد بن عبد الوهاب وغيرهما ص7 ـ 8". 2- سورة النحل آية: 112. 3- صحيح مسلم 1/82. 4- 4/1560 ، القاموس المحيط 3/296. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 أظهر الإسلام لأهله وأضمر غير الإسلام وأتاه مع أهله فقد خرج منه بذلك ومحل النفاق القلب"1. وفي اللسان عن أبي عبيد قال "سمي المنافق منافقاً للنفق وهو السرب في الأرض وقيل: إنما سمي منافقاً لأنه نافق كاليربوع وهو دخوله نافقاءه يقال: قد نفق به، ونافق وله جحر آخر يقال له القاصعاء، فإذا طلب قصع فخرج من القاصعاء، فهو يدخل في النافقاء ويخرج من القاصعاء أو يدخل في القاصعاء ويخرج من النافقاء، فيقال هكذا يفعل المنافق يدخل في الإسلام ثم يخرج منه من غير الوجه الذي دخل فيه"2. ومن هذا يتبين أن النفاق في اللغة: "إظهار الخير وإبطال الشر وأما حقيقته في الشرع: فهو إظهار الإيمان وإبطان الكفر وإخفاؤه"3. والمتصفون بذلك موجودون في كل زمان ومكان. والنفاق على ضربين: الضرب الأول: النفاق الإعتقادي. الضرب الثاني: نفاق عملي. أما الضرب الأول: وهو النفاق الإعتقادي فإنه مخرج لصاحبه من الملة وفيه يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "والنفاق منه ما هو أكبر يكون صاحبه في الدرك الأسفل من النار كنفاق عبد الله بن أبي وغيره بأن يظهر تكذيب الرسول أو جحود بعض ما جاء به، أو بغضه، أو عدم اعتقاد وجوب إتباعه أو المسرة بانخفاض دينه، أو المساءة بظهور دينه ونحو ذلك مما لا يمكن صاحبه إلا أن يكون عدواً لله ورسوله"4 وجاء في مجموعة التوحيد: "فأما الاعتقادي فهو ستة أنواع: تكذيب الرسول، أو تكذيب بعض ما جاء به أو بغض الرسول، أو بغض ما جاء به الرسول، أو المسرة بانخفاض دين الرسول أو الكراهية بانتصار دين الرسول"5.   1- 2/618. 2- 10/359 . 3- انظر النهاية في غريب الحديث والأثر 5/98. 4- مجموع الفتاوى 28/434. 5- الرسالة الأولى من مجموعة التوحيد لشيخ الإسلام ابن تيمية والشيخ محمد بن عبد الوهاب وغيرهما ص9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 وأما الضرب الثاني: وهو النفاق العملي فهو جريمة كبرى، وإثم عظيم وكبيرة من كبائر الذنوب، ولكنه لا يخرج صاحبه من ملة الإسلام. وأنواعه كثيرة1. قال صلى الله عليه وسلم: "أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا ائتمن خان وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر". وفي رواية أخرى: وإذا وعد أخلف" 2. ذلك هو حقيقة الشرك وأنواعه وأنواع الكفر والنفاق وكل هذه الأمور تكسب صاحبها الانحطاط والهبوط متى ما شرح بها صدره واطمأنت بها نفسه أعاذنا الله من ذلك ....   1- انظر أنواع النفاق في مدارج السالكين لابن القيم 1/347، وانظر الرسالة الأولى من مجموعة التوحيد لشيخ الإسلام، والشيخ محمد بن عبد الوهاب وغيرهما ص9. 2- رواه البخاري ومسلم. صحيح البخاري 1/15 صحيح مسلم 1/106. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 المبحث الثالث: أصل الشرك في بني الإنسان قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} . هذه الآية من السورة فيها بيان لأصل الشرك والدافع إليه عند المشركين قديماً وحديثاً، وفيها توضيح لحال المتخذين من دون الله ـ تعالى ـ الأولياء والشركاء، وأن الذي تقرر في قلوب المشركين المتقدمين والمتأخرين أن آلهتهم تشفع لهم عند الله ـ تعالى ـ ويزعمون أنها تقربهم إلى الله ـ تعالى ـ برفع حوائجهم إليه والشفاعة عنده وإلا فهم يعتقدون أنها لا تخلق ولا ترزق ولا تملك من الأمر شيئاً وهذا كما هو معلوم من أقبح الأعذار لإقدامهم على أشد المحرمات وارتكاب أعظم المنكرات وهو الشرك بالله العظيم، ولذلك جاءت الآية مذيَّلة بالحكم عليهم بأنهم كاذبون، وكفار وأنه ـ تعالى ـ لا يهديهم فهذه حال من اتخذ من دون الله ولياً أو شريكاً. قال ابن جرير ـ رحمه الله تعالى ـ حول هذه الآية. يقول تعالى ذكره: "والذين اتخذوا من دون الله أولياء يتولونهم ويعبدونهم من دون الله يقولون لهم ما نعبدكم أيها الآلهة إلا لتقربونا إلى الله زلفى، قربة ومنزلة وتشفعوا لنا عنده في حاجاتنا. قال مجاهد: قريش تقوله للأوثان ومن قبلهم يقوله للملائكة ولعيسى بن مريم ولعزير1. وقال العلامة ابن كثير حول قوله تعالى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى} ثم   1- جامع البيان عن تأويل آي القرآن 33/19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 أخبر عز وجل عن عباد الأصنام من المشركين أنهم يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى} أي إنما يحملهم على عبادتهم لها أنهم عمدوا إلى أصنام اتخذوها على صور الملائكة المقربين في زعمهم فعبدوا تلك الصور تنزيلاً لذلك منزلة عبادتهم الملائكة ليشفعوا لهم عند الله تعالى في نصرهم ورزقهم وما ينوبهم من أمور الدنيا فأما المعاد فكانوا جاحدين له كافرين به قال قتادة والسدي ومالك عن زيد بن أسلم وابن زيد: إلا ليقربونا إلى الله زلفى أي ليشفعوا لنا ويقربونا عنده منزلة ولهذا كانوا يقولون في تلبيتهم إذا حجوا في جاهليتهم لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك وهذه الشبهة هي التي اعتمدها المشركون في قديم الدهر وحديثه وجاءتهم الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين بردها والنهي عنها والدعوة إلى إفراد العبادة لله وحده لا شريك له وأن هذا شيء اخترعه المشركون من عند أنفسهم لم يأذن الله فيه ولا رضي به بل أبغضه ونهى عنه {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 1. {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} 2 وأخبر أن الملائكة التي في السموات من الملائكة المقربين وغيرهم كلهم عبيد خاضعون لله لا يشفعون عنده إلا بإذنه لمن ارتضى وليسوا عنده كالأمراء عند ملوكهم يشفعون عندهم بغير إذنهم فيما أحبه الملوك وأبوه {فَلا تَضْرِبُوا للهِ الأَمْثَالَ} 3 تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً"أ. هـ4. وقال الشوكاني: والضمير في "نعبدهم" راجع إلى الأشياء التي كانوا يعبدونها من الملائكة وعيسى والأصنام وهم المرادون بالأولياء والمراد بقولهم {إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى} الشفاعة كما حكاه الواحدي عن المفسرين. اهـ5. قال صاحب محاسن التأويل6:   1- سورة النحل آية: 36. 2- سورة الأنبياء آية: 25. 3- سورة النحل آية: 74. 4- تفسير ابن كثير 6/78. 5- فتح القدير 4/449. 6- هو جمال الدين محمد سعيد بن قاسم القاسمي الحَلاق عالم مشارك في أنواع العلوم، ولد بدمشق ونشأ وتعلم بها ولد سنة ثلاث وثمانين ومائتين وألف وتوفي سنة إثنتين وثلاثين وثلاثمائة وألف هجرية. الأعلام 2/131. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} أي بالمحبة للتقرب والتوسل بهم إلى الله ـ تعالى ـ {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى} أي يقولون ذلك احتجاجاً على ضلالهم {إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} أي عند حشر معبوداتهم معهم فيقرن كلاَّ منهم مع من يتولاه من عابد ومعبود ويدخل المبطل النار مع المبطلين كما يدخل المحق الجنة مع المحقين ا. هـ1. فالآية بينت أن أصل الشرك في المشركين من بني آدم إنما كان نتيجة الغلو في المخلوق ورفعه فوق منزلته ويشهد لهذا ما رواه البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد، أما ودَّ فكانت لكلب بدومة الجندل وأما سواع فكانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد ثم لبني غطيف بالجوف عند سبأ، وأما يعوق فكانت لهمدان، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصاباً وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت2. قال شيخ الإسلام ابن تيمية "وأصل الشرك في بني آدم كان من الشرك بالبشر الصالحين المعظمين، فإنهم لما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم ثم عبدوهم، فهذا أول شرك كان في بني آدم، وكان في قوم نوح فإنه أول رسول بعث إلى أهل الأرض يدعوهم إلى التوحيد، وينهاهم عن الشرك كما قال ـ تعالى ـ {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً} 3 وهذه أسماء قوم صالحين في قوم نوح فلما ماتوا جعلوا الأصنام على صورهم ثم ذهبت هذه الأصنام لما أغرق الله أهل الأرض ثم صارت إلى العرب كما ذكر ابن عباس وغيره إن لم يكن أعيانها فهي نظائرها"ا. هـ4.   1- محاسن التأويل 14/195. 2- 3/208 . 3- سورة نوح آية: 23 ـ 24. 4- الحسنة والسيئة 113 ـ 114. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 وقال ابن جرير الطبري: عند قوله ـ تعالى ـ {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} الآية قال: كانوا قوماً صالحين من بني آدم لهم أتباع يقتدون بهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوروهم فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال: "إنما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر فعبدوهم"1 هذا من أعظم كيد إبليس وهو جعله الإنسان يشرك بالله غيره فإنه يأتي للإنسان بأخبث الحيل، وأعظم المكر فإنهم عن طريق العاطفة الدينية، وبما يؤملون من جلب النفع حتى جعلهم مشركين يعبدون غير الله ـ تعالى ـ ويطلبون المطالب التي لا يقدر عليها إلا الله ـ تعالى ـ ممن لا يملك ذلك من المخلوقين فتماثيل الصالحين من أكبر الطرق وأسرعها وقوعاً في قلوب الناس للوقوع في أصل الشرك ولذلك اعتبر الشرع أن من يفعل هذا العمل إنما هو شرار الخلق عند الله ـ تعالى ـ روى البخاري في صحيحه من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: "لما اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم ذكرت بعض نسائه كنيسة رأينها بأرض الحبشة يقال لها: مارية وكانت أم سلمة وأم حبيبة رضي الله عنهما أتتا أرض الحبشة فذكرتا من حسنها وتصاوير فيها فرفع رأسه فقال: أولئك إذا مات منهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً ثم صوروا فيه تلك الصورة أولئك شرار الخلق عند الله"2. وما أكثر شرار الخلق في زمننا هذا فإن الكثير من المسلمين تجاهلوا هذا التحذير البليغ والتهديد الشديد فبنوا المساجد والقباب على القبور وتجد الجهلة من المسمين يتحرون الصلاة فيها وعندها ويتوسلون بها ويدعونها من دون الله وينذرون لها ويذبحون لها ويوقدون الشموع والسرج عندها ويطلبون منها شفاء مرضاهم ورد غائبهم ويعكفون عندها ويطوفون حولها ويطلبون منها الغوث والمدد وتجد أحدهم يجري على لسانه ذكر صاحب القبر كلما قام أو قعد أو سقط وهذه الأمور هي بعينها التي كان يفعلها مشركو الجاهلية بل هؤلاء أشد منهم عبادة وتعظيماً وهذا أصل الشرك وعينه الذي حذر الله عنه عباده ونهاهم عن الوقوع فيه. وحرم على من مات عليه الجنة. قال صاحب تيسير العزيز الحميد: بعد أن ذكر قصة أصنام قوم نوح: فتبين أن مبدأ   1- جامع البيان 29/99. 2- صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 3/208. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 الشرك بالصالحين هو الغلو فيهم كما أن سبب الشرك بالنجوم هو الغلو فيها واعتقاد النحوس فيها والسعود، ونحو ذلك وهذا هو الغالب على الفلاسفة ونحوهم كما أن ذلك هو الغالب على عباد القبور ونحوهم وهو أصل عبادة الأصنام فإنهم عظموا الأموات تعظيماً مبتدعاً، فصوروا صورهم وتبركوا بها فآل الأمر إلى أن عبدت الصور ومن "هي" صورته وهذا أول شرك حدث في الأرض وهو الذي أوحاه الشيطان إلى عباد القبور في هذه الأزمان فإنه ألقى إليهم أن البناء على القبور والعكوف عليها من محبة الصالحين وتعظيمهم وأن الدعاء عندها أرجى في الإجابة من الدعاء في المسجد الحرام والمساجد فاعتادوها ولذلك فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى الدعاء به والإقسام على الله به"ا. هـ 1.   1- ص 269ـ 270. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 المبحث الرابع: ذم الإنسان على جعله أنداداً لله تعالى لقد جاء في السورة الذم والعتاب للإنسان الذي يجعل لله تعالى الأنداد، وأوضحت أن من فعل ذلك فإن مصيره إلى النار. قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ للهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} . هذه الآية من السورة تضمنت ذماً وعتاباً من الله تعالى لمن جعل لله الأنداد والأشباه من المخلوقين فيحبها كما يحب الله ويرجوها كما يرجو الله وهذا من فعل الضالين المشركين بالله ـ عز وجل ـ. فقد أوضح الله في هذه الآية أن الإنسان إذا نزل به الضر واشتد به الكرب يضرع إلى الله ويخلص له الدعاء والإنابة لا يشرك به غيره، فإذا ما أزيح عنه ذلك وخوله الله بشتى النعم ينسى ربه الذي كان يدعوه عند الشدة والكرب وعند الفقر والمرض، فيشرع في اتخاذ الشركاء من الأصنام التي هي عبارة عن أحجار وأخشاب فيتوجه إليها بالعبادة والدعاء والاستغاثة ويصرف لها الكثير من أنواع العبادات التي لا يستحقها إلا الله تعالى، أو يجعل لله أنداداً من طواغيت البشر فيطيعهم في معصية الله ـ تعالى ـ كما قال السدي رحمه الله تعالى: الأنداد من الرجال يطيعونهم في معاصي الله وقال غيره: "عنى بذلك أنه عبد الأوثان فجعلها لله أنداداً في عبادتهم إياها" وقال ابن جرير: "وأولى القولين بالصواب قول من قال عني به أنه أطاع الشيطان في عبادة الأوثان فجعل له الأوثان أنداداً لأن ذلك في سياق عتاب الله إياهم على عبادتها"اهـ1.   1- جامع البيان "23/200". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب حول قوله تعالى في الآية: {وَجَعَلَ للهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} أي من مات وهو يدعو لله نداً، أي: يجعل لله نداً فيما يختص به ـ تعالى ـ ويستحقه من الربوبية والإلهية دخل النار، لأنه مشرك، فإن الله تعالى هو المستحق للعبادة لذاته لأنه المألوه المعبود الذي تألهه القلوب وترغب إليه وتفزع إليه عند الشدائد وما سواه فهو مفتقر إليه مقهور بالعبودية له تجري عليه أقداره وأحكامه طوعاً وكرهاً فكيف يصلح أن يكون نداً1. وقد نهى الله تعالى عباده عن أن يجعلوا له الأنداد وذمهم على ذلك قال تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا للهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 2. قال البغوي3: {فَلا تَجْعَلُوا للهِ أَنْدَاداً} أي أمثالاً تعبدونهم كعبادة الله وقال أبو عبيدة4: الند: الضد وهو من الأضداد والله تعالى بريء من المثل والضد {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أنه واحد خالق هذه الأشياء اهـ5. وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "الأنداد: الأكفاء من الرجال تطيعونهم في معصية الله" وقال ابن زيد: "الأنداد: الآلهة التي جعلوها معه وجعلوا لها مثل ما جعلوا له" وقال ابن عباس: "الأنداد: الأشباه"6. وقال تعالى في ذم بعض الناس الذين اتخذوا من دونه أنداداً: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ} 7.   1- تيسير العزيز الحميد ص95. 2- سورة البقرة آية: 22. 3- هو الإمام محي السنة أبو محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي الشافعي فقيه، محدث مفسر نسبته إلى "بغا" من قرى خراسان بين هراة ومرو ولد سنة ست وثلاثين وأربعمائة، وتوفي سنة عشر وخمسمائة هجرية انظر ترجمته في "وفيات الأعيان 1/145 تهذيب ابن عساكر 4/348". 4- هو: معمر بن المثنى التيمي بالولاء البصري أبو عبيدة النحوي من أئمة العلم بالأدب واللغة ولد سنة عشر ومائة وتوفي سنة تسع ومائتين هجرية انظر ترجمته في "تهذيب التهذيب 10/246، الميزان 3/189 وفيات الأعيان 2/105 تاريخ بغداد 13/252". 5- تفسير البغوي المسمى "معالم التنزيل" على حاشية الخازن 1/33 مجاز القرآن 1/34. 6- تفسير ابن جرير الطبري 1/163، إغاثة اللهفان 2/229. 7- سورة البقرة آية: 165. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 قال ابن القيم: "فهؤلاء جعلوا المخلوق مثلاً للخالق فالند: الشبه يقال: فلان ند فلان وند يده أي مثله وشبهه ... فالذي أنكره الله ـ سبحانه ـ عليهم هو تشبيه المخلوق به حتى جعلوه نداً لله ـ تعالى ـ يعبدونه كما يعبدون الله"اهـ1. وأما اتخاذ العدلاء، بمعنى: جعلهم شركاء لله في العبادة فقد بين ـ تعالى ـ بأن ذلك فعل المشركين. قال تعالى: {الْحَمْدُ للهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} 2 وقال مجاهد "يعدلون" يشركون وقال محمد بن جرير الطبري: "يجعلون شريكاً في عبادتهم إياه فيعبدون معه الآلهة والأنداد، والأصنام، والأوثان وليس منها شيء شاركه في خلق شيء من ذلك ولا في إنعامه عليهم بما أنعم عليهم، بل هو المفرد بذلك كله وهم يشركون في عبادتهم إياه غيره"3. ولقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن اتخاذ الند من أعظم الذنوب والآثام لما روي من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال: "أن تجعل لله نداً وهو خلقك ... "الحديث 4. قال ابن الأثير: "الأنداد جمع ند بالكسر وهو مثل الشيء الذي يضاده في أموره ويناده: أي يخالفه ويريد بها ما كانوا يتخذونه آلهة من دون الله" اهـ5. ولقد بعث الله نبي الهدى صلى الله عليه وسلم لخلع جميع الأنداد التي كانت تعبد من دون الله ـ تعالى ـ وقد كان المشركين يتنافسون فيها وكانت تمثل كثرة هائلة حتى أنه أصبح لكل مشرك في الجاهلية معبود وحتى أنه كان إذا سافر أحدهم يصطحب صنمه معه وكانت حالتهم سيئة كما سنبين ذلك فنقول: لقد بين الله ـ تعالى ـ في كتابه أن المعبودات سواه كثرت وتنوعت من عبادة الأشخاص، إلى عبادة الأحجار والأخشاب، إلى عبادة الهوى إلى عبادة الأجرام السماوية إلى عبادة الملائكة وسنأتي بنبذة حول كل من هذه المذكورات.   1- إغاثة اللهفان 2/229. 2- سورة الأنعام آية: 1. 3- جامع البيان 7/144. 4- متفق عليه صحيح البخاري 3/98، صحيح مسلم 1/90. 5- النهاية في غريب الحديث والأثر 5/35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 1ـ عبادة الأشخاص من بني الإنسان: لقد أخبرنا الباري ـ سبحانه ـ أن بعض عبيده ادعوا الألوهية واستعبدوا أتباعهم عن طريق القهر والعنف كما استغلوا جهلهم ونشروا في صفوفهم الضلال عن طريق الكذب والتدجيل وهذا كما حصل من فرعون الذي أخبرنا الله عنه أنه قال لقومه منادياً لهم: {يَا أَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} 1 وقال ـ تعالى ـ حاكياً توعده لمن آمن بنبي الله موسى عليه الصلاة والسلام: {قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} 2 ومثل فرعون علماء الضلال الذين يشرعون للخلق ما لم يأذن به الله ولا يرضاه وقد ذم الله أهل الكتاب على هذا الصنيع قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللهِ} 3 فقد أطاعوهم في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله فأنزلوهم منزلة الرب ـ سبحانه ـ إذ أنه لا حق لأحد في التحليل والتحريم إذ ذلك من خصائص الباري ـ سبحانه ـ دون سواه، والسبب الذي جعل أتباع فرعون، وأتباع الأحبار والرهبان من أهل الكتاب يعبدونهم ويطيعونهم عدم تحقيقهم عبودية الخوف لله ـ جل وعلا ـ ومن عبادة الإنسان غلو اليهود في العزير والنصارى في عيسى عليه الصلاة والسلام وقد بينا بطلان دعواهم تحت عنوان "تنزيه الله تعالى من نسبة الولد إليه" وقد تقدم هذا فليرجع إليه. 2ـ عبادة الأصنام والأوثان: قال ابن جرير رحمه الله ـ تعالى ـ "والأصنام جمع صنم" والصنم: التمثال من حجر أو خشب أو غير ذلك، في صورة إنسان، وهو الوثن وقد يقال للصورة المصورة على صورة الإنسان في الحائط غيره: صنم ووثن اهـ4. أما الراغب الأصبهاني فقد فرق بين الصنم والوثن فقال: الصنم جثة متخذة من فضة   1- سورة القصص آية: 38. 2- سورة الأعراف آية: 123 ـ 124. 3- سورة التوبة آية: 31. 4- جامع البيان 7/244. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 أو نحاس أو خشب كانوا يعبدونه متقربين به إلى الله ـ تعالى ـ وجمعه "أصنام" قال الله ـ تعالى ـ {أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} 1. قال بعض الحكماء: كل ما عبد من دون الله بل كل ما يشغل عن الله ـ تعالى ـ يقال له "صنم". وأما الوثن: فإنه قال فيه "الوثن واحد الأوثان وهو حجارة كانت تعبد، قال تعالى: {إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثَاناً} 2. وممن فرق بين الصنم والوثن الشيخ عبد الرحمن بن حسن فقال: "الصنم ما كان منحوتاً على صورة، والوثن ما كان موضوعاً على غير ذلك.." إلى أن قال: "وقد يسمى الصنم وثناً كما قال الخليل عليه السلام: {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثَاناً} 3 ويقال: إن الوثن أعم وهو قوي، فالأصنام أوثان كما أن القبور أوثان"اهـ4. ونقول: مهما وجدت من فروق بين الأصنام والأوثان في المادة والهيئة، فغرض الوثنين منها واحد وهو عبادتها من دون الله ـ تعالى ـ على أي كيفية كانت وعلى أي صورة وجدت، ولقد انتشرت عبادة الأصنام والأوثان بين العرب الجاهليين انتشاراً هائلاً ولقد صوَّر لنا ابن إسحاق5 رحمه الله ـ تعالى ـ بدء الانحراف عند العرب من نسل إسماعيل عليه السلام في عبادتهم، فقد كان أول انحرافهم أنهم كانوا يعظمون الحرم فلا يرتحلون منه حتى كثروا وضاقت بهم مكة فأخذوا يرتحلون عنه طالبين السعة والفسح في البلاد فكان لا يظعن ظاعن منهم عن الحرم إلى غيره إلا حمل معه حجراً من حجارة الحرم تعظيماً له.   1- سورة الأنعام آية: 74. 2- المفردات للراغب ص287، 512 والآية رقم 25 من سورة العنكبوت. 3- سورة العنكبوت آية: 17. 4- فتح المجيد ص79. 5- محمد بن إسحاق بن يسار المطلبي بالولاء المدني من أقدم مؤرخي العرب من أهل المدينة وكان من أحسن الناس سياقاً للأخبار مات سنة إحدى وخمسين ومائة وقيل سنة اثنتين وخمسين ومائه انظر ترجمته في "تذكرة الحفاظ 1/172، تهذيب التهذيب 9/38 ـ 46 الأعلام للزركلي 6/252. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 فحيثما نزلوا وضعوه فطافوا به كطوافهم بالكعبة، ثم أدى بهم حالهم ذلك إلى عبادة تلك الأحجار ثم كانوا يعبدون من الأحجار ما استحسنته عقولهم"اهـ1. واسمع ما صار إليه حالهم قال أبو رجاء العطاردي: "كنا نعبد الحجر في الجاهلية، فإذا وجدنا حجراً أحسن منه نلقي ذلك ونأخذه فإذا لم نجد حجراً جمعنا حثية من تراب ثم جئنا بغنم فحلبنا عليه ثم طفنا به"2. ومن عجائب أمر الجاهلية أن أحدهم إذا كان مسافراً أخذ معه أربعة أحجار ثلاثة لقدره والرابع يعبده3. ولقد بالغ العرب الجاهليون في إكثارهم من الأصنام حتى أنه كان لأهل كل دار بمكة صنم يعبدونه وكان أحدهم إذا أراد السفر تمسح بصنمه وإذا رجع من سفره فعل كذلك قبل أن يدخل منزله4. وكان من أقدم أصنامهم "مناة" وكان منصوباً على ساحل البحر الأحمر من ناحية "المشلل" بقديد بين مكة والمدينة وكانت العرب جميعاً تعظمه، وكانت الأوس والخزرج ومن ينزل المدينة ومكة وما قارب من المواضع يعظمونه ويذبحون له ويهدون له وكانت الأوس والخزرج من أشد الناس تعظيماً له حتى أنه بلغ من تعظيمهم أنهم كانوا يحجون ويقفون المواقف كلها ولا يحلقون رؤوسهم فإذا نفروا أتوه فحلقوا رؤوسهم ولا يرون حجهم صحيحاً إلا إذا فعلوا ذلك وكانت "مناة" لهذيل وخزاعة وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً عام الفتح فهدمها5. ثم اتخذت العرب بعد "مناة" "اللات" بالطائف وهي أحدث من "مناة" وكانت صخرة مربعة وكانت سدنتها من ثقيف، وكانوا قد بنوا عليها وكانت قريش وجميع العرب يعظمونها وبها كانت تسمى "زيد اللات" "تيم اللات" وكانت في موضع منارة مسجد الطائف اليسرى فلم تزل كذلك حتى بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المغيرة بن شعبة لما أسلمت   1- ذكره عنه ابن هشام السيرة النبوية "1/77". 2- صحيح البخاري مع الفتح 8/90. 3- إغاثة اللهفان 2/220. 4- البداية والنهاية لابن كثير 2/210. 5- الأصنام لابن الكلبي ص13 ـ 15 إغاثة اللهفان 2/211 ـ 212. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 ثقيف فهدمها وحرقها بالنار1 غير أن ابن جرير روى في تفسيره عن مجاهد في قوله تعالى {أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى} 2 قال كان يلت السويق فمات فعكفوا على قبره3 وقد روى البخاري في صحيحه موقوفاً على ابن عباس قاتل: كان اللات رجلاً يلت سويق الحاج4. ثم اتخذت العرب بعد اللات "العزى" فهي تعتبر أحدث من "اللات" اتخذها رجل يقال له: ظالم بن أسعد بوادي نخلة فوق ذات عرق وبنوا عليها بيتاً فكانوا يسمعون منها الصوت وذكر ابن عباس أنه كانت للعزى شيطانه تأتي ثلاث سمرات ببطن نخلة فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة بعث خالد بن الوليد فقال: ائت بطن نخلة فإنك ستجد ثلاث سمرات فاعضد الأولى فأتاها فعضدها فلما جاء إليه قال هل رأيت شيئاً؟ قال: لا. قال: فاعضد الثانية فعضدها ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم قال: هل رأيت شيئاً: قال: لا. قال: فاعضد الثالثة فأتاها فإذا هو بحبشية نافشة شعرها واضعة يديها على عاتقها تضرب بأنيابها وخلفها سادنها فقال خالد: كفرانك لا سبحانك ... إني رأيت الله قد أهانك ثم ضربها ففلق رأسها فإذا هي حممة وقتل السادن ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره فقال: تلك العزى ولا عزى بعدها للعرب وكانت العزى لأهل مكة في موضع قريب من عرفات وكانت شجرة يذبحون عندها ويدعون. اهـ5. قال الكلبي6 في كتابه الأصنام: "وكانت لقريش أصنام في جوف الكعبة وحولها وأعظمها "هبل" وكان فيما بلغني من عقيق أحمر على صورة الإنسان وكانوا إذا اختصموا في أمر أو أرادوا سفراً أتوه فاستقسموا   1- الأصنام ص16 ـ 17، إغاثة اللهفان 2/212. 2- سورة النجم آية: 19. 3- جامع البيان 27/58. 4- صحيح البخاري مع الفتح 8/611. 5- الأصنام لابن الكلبي ص17 ـ 18، 25 ـ 26. 6- هو أبو المنذر هشام بن محمد أبي النضير بن السائب بن بشر الكلبي مؤرخ عالم كثير التصانيف توفي سنة أربع ومائتين هجرية انظر الأعلام للزركلي 9/78. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 عنده بالقداح وهو الذي قال أبو سفيان يوم أحد أعل هبل فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "قولوا الله أعلى وأجل" 1. وهناك أصنام قوم نوح التي ذكرها الله في كتابه فإنها آلت إلى العرب وعبدوها وهي المذكورة في قوله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} 2 وقد قدمنا قول ابن عباس كان هؤلاء قوماً صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم فلما طال عليهم الأمد عبدوهم. فكان "ود" لبني كلب بن مرة بن تغلب بن حلوان عن عمران بن الحاف بن قضاعة وكان منصوباً بدومة الجندل3. وكان "سواع" لبني هذيل بن إلياس بن مدركة بن مضر، وكان منصوباً بمكان يقال له "رهاط"4. وأما يغوث: فكان لبني أنعم من طيئ ولأهل جرش5 من مذحج وكان منصوباً بجرش، وأما يعوق، فكان بأرض همدان من اليمن لبني خيوان بطن من همدان. وأما "نسر" فقد كان بأرض حمير لقبيلة يقال لهم: "ذو الكلاع"6 وكان أول من غير دين إبراهيم الخليل بالبدع المحدثة ونشر الأصنام في الجزيرة العربية رجل يقال له: عمرو بن عامر الخزاعي وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: "رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار كان أول من سيب السوائب"7 وقد اختلفت الروايات في الكيفية التي نشر بها عمرو الأصنام في الجزيرة العربية فإحدى الروايات تقول: أنه كان له رئي من الجن وهو الذي دله على الأصنام التي كانت عند قوم نوح وكانت قد دفنت منذ عهد نوح حيث قذفها الطوفان إلى ساحل جدة فوارتها الرمال على كر الأيام فجاء رئيه من الجن فأخبره بذلك فنبشها عمرو ووزعها على عرب الجزيرة، ودعاهم إلى عبادتها8.   1- كتاب الأصنام ص28 والحديث رواه البخاري انظر الفتح 6/162 ـ 163 من حديث البراء بن عازب. 2- سورة نوح آية: 23. 3- دومة الجندل: بلدة في وادي القرى في الشمال الشرقي من المدينة المنورة منها. انظر معجم البلدان 2/487. 4- رهاط كغراب موضع على ثلاث ليال من مكة. انظر معجم البلدان 1/107. 5- جرش: كزفر مخلاف باليمن انظر معجم البلدان 2/126. 6- انظر الأصنام لابن الكلبي ص55، 57، إغاثة اللهفان 2/207 ـ 208 البداية لابن كثير 2/208 مطبعة الفجالة الجديدة بدون تاريخ. 7- صحيح البخاري مع الفتح 8/283. 8- إغاثة اللهفان 2/207. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 ورواية أخرى تقول: "إنه جاء بالأصنام من بلاد الشام عندما رآهم يعبدونها طلب منهم صنماً فأعطوه واحداً نصبه بمكة وأمر الناس بعبادته وتعظيمه" 1. وعلى كل فإن عمرو هذا استطاع التأثير على العرب واستخفهم فأطاعوه حتى غير عليهم دين إبراهيم لما كان له من مكانة فيهم، فأطاعوه في معصية الله تعالى فيما ابتدعه من الأمور التي لم يأذن بها الله. قال ابن كثير رحمه الله تعالى: "والمقصود أن عمرو بن لحي لعنه الله كان قد ابتدع لهم أشياء في الدين غير بها دين الخليل فاتبعه العرب في ذلك فضلوا بذلك ضلالاً بعيداً بيناً قطعياً شنيعاً" اهـ2. هذه لمحة عن بعض الأصنام التي كانت شائعة عند العرب، وهناك أصنام ومعبودات أخرى يضيق المقام بذكرها، وذكرنا هذا الطرف منها للتمثيل لمعرفة ما كانت عليه حالة العرب في الجاهلية من توجيههم العبادة لتلك الجمادات التي لا تسمع ولا تبصر، ولا تغني عنهم من الله شيئاً، فقد كانوا لفرط جهلهم يدعونها من دون الله ويفزعون إليها في النائبات ويزعمون أنها تقربهم إلى الله زلفى، وهذا نتيجة الجهل والغلو في المخلوق وإعطائه منزلة فوق منزلته، قال العلامة ابن القيم مبيناً سبب إقبال العرب على عبادة الأصنام: "ومن أسباب عبادة الأصنام الغلو في المخلوق، وإعطاؤه فوق منزلته حتى جعل فيه حظ من الإلهية وشبهوه بالله ـ سبحانه ـ وهذا هو التشبيه الواقع في الأمم الذي أبطله الله ـ سبحانه ـ وبعث رسله، وأنزل كتبه بإنكاره والرد على أهله، فهو ـ سبحانه ـ ينفي وينهي أن يجعل غيره مثلاً له، ونداً له وشبهاً له لا أن يشبه هو بغيره إذ ليس في الأمم المعروفة أمة جعلته ـ سبحانه ـ مثلاً لشيء من مخلوقاته فجعلت المخلوق أصلاً وشبهت به الخالق، فهذا لا يعرف في طائفة من طوائف بني آدم، وإنما الأول هو المعروف في طوائف أهل الشرك غلواً فيمن يعظمونه، ويحبونه حتى شبهوه بالخالق، وأعطوه خصائص الإلهية بل صرحوا أنه إله، وأنكروا جعل الآلهة إلهاً واحداً وقالوا: {وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ} 3 وصرحوا بأنه إله معبود يرجى ويخاف ويعظم ويسجد له ويحلف باسمه،   1- السيرة النبوية لابن هشام 1/77. 2- البداية 2/207 مطبعة الفجالة ـ القاهرة. 3- سورة ص آية: 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 وتقرب له القرابين إلى غير ذلك من خصائص العبادة التي لا تنبغي إلا لله، فكل مشرك فهو مشبه لإلهه ومعبوده بالله ـ سبحانه ـ وإن لم يشبهه به من كل وجه"اهـ1. 3ـ عبادة الهوى: من أنواع المعبودات التي عبدت من دون الله "الهوى" وقد ورد الإنكار الشديد في كتاب الله تعالى لمن جعل إلهه هواه فيتبعه في كل ما يملئ عليه. قال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} 2. وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ} 3. فالذي يترك أوامر الله ويعرض عنها ويرفض الحق إذا جاءه، فإنه يعد من عبدة الهوى ويصر هواه معبوداً له من دون الله تعالى. قال عبد الله بن عباس: "ذلك الكافر اتخذ دينه بغير هدى من الله ولا برهان". وقال قتادة: "هو الكافر لا يهوى شيئاً إلا ركبه لا يخاف الله"4. وقال ابن كثير: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} . أي إنما يأتمر بهواه فمهما رآه حسناً فعله ومهما رآه قبيحاً تركه5. ومتى خضع الإنسان لهواه واستسلم له كان بمنزلة الأنعام بل أضل منها كما قال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} 6. قال ابن القيم: "فشبه أكثر الناس بالأنعام والجامع بين النوعين التساوي في عدم قبول الهدى والإنقياد له، وجعل الأكثرين أضل سبيلاً من الأنعام لأن البهيمة يهديها سائقها فتهتدي ويتبع الطريق، فلا تحيد عنها يميناً ولا شمالاً، والأكثرون يدعوهم الرسل   1- إغاثة اللهفان 2/226 ـ 227. 2- سورة الفرقان آية: 43. 3- سورة الجاثية آية: 23. 4- جامع البيان 25/150. 5- تفسير القرآن العظيم 6/269. 6- سورة الفرقان آية: 44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 ويهدونهم السبي فلا يستجيبون ولا يهتدون ولا يفرقون بين ما يضرهم وبين ما ينفعهم والأنعام تفرق بين ما يضرها من النبات والطريق فتجتنبه وما ينفعها فتؤثره، والله ـ تعالى ـ لم يخلق للأنعام قلوباً تعقل بها، ولا ألسنة تنطق بها وأعطى ذلك لهؤلاء ثم لم ينتفعوا بما جعل لهم من العقول والقلوب والألسنة والأسماع والأبصار فهم أضل من البهائم فإن من لا يهتدي إلى الرشد وإلى الطريق ـ مع الدليل ـ إليه أضل وأسوأ حالاً ممن لا يهتدي حيث لا دليل معه"1. والناظر في زمننا الحاضر يرى بأم عينيه أن عبادة الهوى غلبت على الكثير من الأمة الإسلامية فتراهم يستحسنون ما تمليه عليهم أهواؤهم فيستحسنون ويستقبحون بعقولهم ولم يلتفتوا إلى الهدى الذي جاءهم من ربهم جل وعلا بل إننا نرى الكثير ينصر ما توحيه الشياطين إلى أوليائهم من الإنس من المبادئ والمذاهب والتسميات والحزبيات التي كانت سبباً في تفرقهم واختلافهم وكان من أهم الأسباب التي جعلت عدوهم يطمع فيهم وذلك نتيجة لاتباع الهوى، والبعد عما فيه الرشاد والهدى، لا قوة إلا بالله. 4ـ عبادة الأجرام السماوية: ومن المعبودات التي عبدت من دون الله ـ تعالى ـ بعض الآيات الكونية مثل الشمس والقمر والكواكب والماء والنار وغير ذلك من المخلوقات. قال العلامة ابن القيم: "وأصل هذا المذهب من مشركي الصابئة، وهم قوم إبراهيم عليه السلام الذين ناظرهم في بطلان الشرك وكسر حجتهم بعلمه وآلهتهم بيده فطلبوا تحريقه، وهو مذهب قديم في العالم، وأهله طوائف شتى فمنهم عباد الشمس زعموا أنها ملك من الملائكة لها نفس وعقل وهي أصل نور القمر والكواكب وتكون الموجودات السفلية كلها عندهم منها، وهي عندهم ملك الفلك فيستحق التعظيم، والسجود والدعاء"2. وقد ذكر الجصاص3 أن الصابئة اتخذوا الأجرام السماوية معبودات لهم من دون   1- أعلام الموقعين 1/159. 2- إغاثة اللهفان 2/223. 3- هو أحمد بن علي الرازي الحنفي المعروف بالجصاص "أبو بكر" فقيه، مجتهد ورد بغداد في شبيبته، ودرس، وجمع ودرس عليه كثير من الفقهاء توفي ببغداد سنة سبعين وثلاثمائة هجرية انظر ترجمته في الفهرس لابن النديم ص293 المنتظم لابن الجوزي 7/105، 106 الفوائد البهية 27، 28 النجوم الزاهرة 4/138. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 الله حيث قال: "وكانوا قوماً صابئين يعبدون الكواكب السبعة ويسمونها آلهة ... وهم الذين بعث الله ـ تعالى ـ إليهم إبراهيم خليله صلوات الله عليه فدعاهم إلى الله وحاجهم بالحجاج الذي بهرهم به وأقام عليهم به الحجة من حيث لم يمكنهم دفعة"اهـ1. فالإنسان حين يسعى في تعطيل عقله عما خلق له فإنه يوقع نفسه في السخافات والمهانات والتذلل للمخلوقات مثله وبذلك يفقد تكريمه الذي نوه الله به في كتابه كما يفقد تفضيله على كثير من المخلوقات فيتدنى حتى يضل عن سواء السبيل فهذه المخلوقات العجيبة المبثوثة في أرجاء هذا الكون علويه وسفليه لم تخلق لتعبد من دون الله وإنما جعلها الله دلائل واضحات وآيات بينات على وحدانيته وتفرده بالعبادة، وجميع المخلوقات التي يشاهدها الإنسان والتي لم يشاهدها كلها خاضعة لله طوعاً وكرهاً قال ـ تعالى ـ ناهياً عباده عن أن يسجدوا للشمس والقمر وآمراً لهم بالسجود له وحده: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا للهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} 2 قال ابن جرير الطبري: لا تسجدوا أيها الناس للشمس ولا للقمر فإنهما وإن جرياً في الفلك بمنافعكم فإنما يجريان بها لكم بإجراء الله إياهما لكم طائعين له في جريهما ومسيرهما بأنهما يقدران بأنفسهما على سير وجري دون إجراء الله إياهما وتسييرهما أو يستطيعان لكم نفعاً أو ضراً وإنما الله مسخرهما لكم لمنافعكم ومصالحكم فله فاسجدوا وإياه فاعبدوا دونهما فإنه إن شاء طمس ضوءهما فترككم حيارى في ظلمة لا تهتدون سبيلاً ولا تبصرون شيئاً3. وكما أن الآية بينت أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله التي يستدل بهما على عبادته وحده دون سواه كذلك دلت على بطلان عبادتهما من دون الله وقد بين الله ـ تعالى ـ بطلان عبادة جميع المخلوقات سوى الله ـ تعالى ـ قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ   1- أحكام القرآن 1/43. 2- سورة فصلت آية: 37. 3- جامع البيان عن تأويل آي القرآن 24/121. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} 1. فأخبرنا تعالى بأن جميع المخلوقات التي يحويها هذا الكون من شمس وقمر ونجوم وجبال وشجر ودواب وكثير من الناس خاضعة لله مطيعة له كلها عبد لديه مفتقرة إليه فلا يصح عبادة شيء منها ألبتة. قال العلامة ابن كثير: "يخبر ـ تعالى ـ أنه المستحق للعبادة وحده لا شريك له فإنه يسجد له لعظمته كل شيء طوعاً وكرهاً"2. 5ـ عبادة الملائكة: لقد افترى عبدة الشياطين أنهم يعبدون الملائكة على حسب زعمهم لكن من المقطوع به والمعلوم بالضرورة من الأدلة القرآنية أن هؤلاء عبدوا المردة من الشياطين. قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: ومن تلاعبه ـ أي الشيطان ـ بهم أن زين لقوم عبادة الملائكة فعبدوهم بزعمهم ولم تكن عبادتهم في الحقيقة لهم ولكن كانت للشياطين فعبدوا أقبح خلق الله وأحقهم باللعن والذم قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} 3. وقال تعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَرِيداً} 4 قال ابن عباس رضي الله عنهما {وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَرِيداً} قال: هو شيطان في الصنم، في كل صنم شيطان يتراءى لسدنته فيكلمهم. وقال أبي بن كعب5: مع كل صنم جنية.   1- سورة الحج آية: 18. 2- تفسير ابن كثير 4/622. 3- سورة سبأ آية: 40 ـ 41. 4- سورة النساء آية: 117. 5- هو أبي بن كعب بن قيس أبو المنذر الأنصاري الخزرجي أقرأ الصحابة وسيد القراء توفي بالمدينة في سنة تسع عشرة هجرية الإصابة 1/31، تذكرة الحفاظ 1/16 شذرات الذهب 1/31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 وقال مقاتل1: "أنه إبليس: وعبادته طاعته فيما سول لهم"2. ومما تقدم يتبين أن المعبودات من دون الله تعالى تنقسم إلى قسمين: 1ـ قسم عاقل وهذا كالآدمي والملائكة والجن. 2ـ وقسم غير عاقل وهذا كالأحجار والأشجار وغيرهما مما لا يعقل3. والقسم الأول: ينقسم إلى قسمين: قسم راض بأن يعبد من دون الله تعالى. وقسم غير راض بأن يعبد من دون الله، ومثال الأول: فرعون وإبليس وغيرهما من الطواغيت وهؤلاء جميعهم في النار هم وعابدوهم. قال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} 4. وقال تعالى في شأن إبليس وأتباعه: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} 5.. وقال تعالى في شأن فرعون: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} 6. وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلانَا مِنَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ} 7 إلى غير ذلك من الآيات وأما القسم الثاني: الذي لم   1- هو مقاتل بن سليمان بن كثير الأزدي الخراساني أبو الحسن البلخي المفسر روى عن الضحاك ومجاهد وله كتاب "نظائر القرآن والتفسير الكبير" مات سنة خمسين ومائة هجرية انظر ترجمته في "طبقات المفسرين 2/330، تهذيب التهذيب 10/279 ميزان الإعتدال 3/196. 2- زاد المسير في علم التفسير 2/203. 3- انظر معارج القبول للشيخ حافظ بن أحمد حكمي 1/447. 4- سورة البقرة آية: 166 ـ 167. 5- سورة ص آية: 85. 6- سورة هود آية: 98. 7- سورة فصلت آية: 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 يرض بالعبادة فكالمسيح وعزير والملائكة وغيرهم وهؤلاء كلهم برآء ممن عبدهم في الدنيا والآخرة كما أخبر ـ سبحانه ـ عن عيسى عليه السلام بقوله: {وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} 1. وقال تعالى في شأن الملائكة: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} 2. وقال تعالى في شأن كل من عبد من دونه من ملك أو نبي، أو ولي صالح: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْماً بُوراً * فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً} 3. وأما ما عبد من دونه ـ تعالى ـ مما لا يعقل من جماد شجر أو حجر وغير ذلك فإنه يدخل في عموم قوله ـ تعالى ـ {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} 4. وبما أن الأشجار والأحجار لا أرواح لها إلا أنه يعذب بها من عبدها من دون الله تعالى كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} 5 وقال ابن كثير: وقودها أي حطبها الذي يلقى فيها جثث بني آدم والحجارة قيل: المراد بها   1- سورة المائدة آية: 116 ـ 117. 2- سورة سبأ آية: 40 ـ 41. 3- سورة الفرقان آية: 17 ـ 19. 4- سورة الأنبياء آية: 98 ـ 99. 5- سورة التحريم آية: 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 الأصنام التي تعبد لقوله ـ تعالى ـ {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} 1 وقد جاء في حديث الشفاعة الطويل الذي رواه مسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان يوم القيامة أذن مؤذن ليتبع كل أمة ما كانت تعبد فلا يبقى أحد كان يعبد غير الله ـ سبحانه ـ من الأصنام والأنصاب إلا يتساقطون في النار حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر وغبر أهل الكتاب2 فيدعى اليهود فيقال لهم ما كنتم تعبدون قالوا: كنا نعبد عزير ابن الله فيقال: كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد فماذا تبغون؟ قالوا: عطشنا يا ربنا فاسقنا فيشار إليهم ألا تردون فيحشرون إلى النار كأنها سراب3 يحطم بعضها بعضاً فيتساقطون في النار ثم فيدعى النصارى فيقال لهم ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد المسيح ابن الله فيقال لهم كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد فيقال لهم ماذا تبغون؟ فيقولون عطشنا يا ربنا فاسقنا قال فيشار إليهم ألا تردون؟ فيحشرون إلى جهنم كأنها سراب يحطم بعضها بعضاً فيتساقطون في النار حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله تعالى من بر وفاجر أتاهم رب العلمين سبحانه وتعالى في أدنى صورة من التي رأوه فيها قال فما تنتظرون؟ تتبع كل أمة ما كانت تعبد قالوا: يا ربنا فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم ولم نصاحبهم فيقول: أنا ربكم فيقولون: نعوذ بالله منك لا نشرك بالله شيئاً "مرتين أو ثلاثاً " حتى إن بعضهم ليكاد أن ينقلب فيقول: هل بينكم وبينه آية فتعرفونه بها؟ فيقولون: نعم فيكشف عن ساقه فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود ولا يبقى من كان يسجد اتقاء أو رياءً إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة كلما أراد أن يسجد خر على قفاه ثم يرفعون رؤوسهم وقد تحول في صورته التي رأوه فيها أول مرة فقال: أنا ربكم فيقولون: أنت ربنا ... " الحديث4. هذا الحديث يبين النهاية في الآخرة لأهل الشرك وكيف يكون لهم ذلك المصير السيئ الذي تجف منه القلوب وتقشعر له الجلود نعوذ بالله من الشرك وأهله.   1- تفسير القرآن العظيم 6/59 آية: من سورة الأنبياء آية: 98. 2- غبر أهل الكتاب: معناه بقاياهم جمع غابر. 3- السراب ما يتراءى للناس في الأرض القفر والقاع المستوى وسط النهار في الحر الشديد لامعاً مثل الماء. 4- صحيح مسلم 1/167 ـ 171. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 تلك بعض معبودات المشركين التي استطعنا جمعها تحت هذا المبحث والذي نخلص إليه مما تقدم أن السورة أوضحت لنا أصل الشرك الذي دفع المشركين لعبادة غير الله ـ تعالى ـ من المعبودات التي ذكرناها والتي لم نذكرها وأن السبب الوحيد في حدوث الشرك هو قياس الخالق سبحانه على المخلوق فإن المشركين زعموا بعقولهم الفاسدة أن ملوك الدنيا لا يتوصل إليهم إلا بالوجهاء والشفعاء والوزراء الذين يرفعون إليهم حوائج رعاياهم ويطلبون لهم عطفهم فيكون ذلك تمهيداً للأمر المطلوب منهم. فظن المشركون أن الله ـ تعالى ـ كذلك، وهذا ظن سوء بالله ـ تعالى ـ وهذا القياس من أفسد الأقيسة إذ أنه يتضمن تسوية الخالق بالمخلوق مع ثبوت الفرق العظيم عقلاً، ونقلاً وفطرة إذ ملوك الدنيا إنما يحتاجون إلى الوساطة بينهم وبين رعاياهم لعدم علمهم بأحوال من استرعاهم الله فهم في أشد الحاجة إلى من يعلمهم بذلك، ولأنه ربما لا يكون في قلوبهم رحمة أو شفقة لصاحب الحاجة، فيحتاجون إلى من يعطفهم عليهم ويسترحمهم له، ولذلك يحتاجون إلى الشفعاء والوزراء فيقضون حوائج العباد مراعاة لوزرائهم ومداراة لخواطرهم وقد يمتنعون من ذلك خشية الفقر لأنهم فقراء. أما الباري ـ سبحانه ـ فإنه أحاط بكل شيء علماً يعلم ظواهر الأمور وبواطنها فلا يحتاج إلى من يخبره بأحوال عباده، ولا من يشفع لهم عنده، لأنه رحيم بعبادة جواد بالعطاء، ولا يحتاج إلى أحد منهم بل هو أرحم بهم من أنفسهم ومن والديهم وهو الكريم الذي يحثهم ويدعوهم إلى الأخذ بالأسباب التي ينالون بها رحمته وهو يريد من مصالحهم ما لا يريدونه لأنفسهم. وهو الغني الذي له الغنى التام المطلق الذي لو اجتمع الخلق كلهم من أولهم إلى آخرهم في صعيد واحد فسألوه جميعهم فأعطى كلاً مسألته لم ينقصوا مما عنده إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر. وجميع الشفعاء يخافون منه ـ سبحانه ـ ولا شفاعة لأحد عنده إلا بعد إذنه له الشفاعة كلها. ومن هذه الأمور يدرك المؤمن جهل المشركين ويعرف سفاهتهم وشدة جرأتهم على الله ـ تعالى ـ كما يعلم الحكمة في كون الشرك أعظم الذنوب وأنه لا يغفره الله لأنه يتضمن القدح في الله تعالى ـ نسأل الله أن يجنبنا ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 المبحث الخامس: الفرق بين المشرك والموحد لقد دلت السورة على الفرق الشاسع بين الموحد والمشرك وصورت ذلك تصويراً دقيقاً جعلته كأنه محسوس، ملموس مما دل ذلك على فبح الشرك في النفوس والعقول السليمة، والفطر المستقيمة قال تعالى: ـ {ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} . قال ابن جرير رحمه الله ـ تعالى ـ "يقول تعالى ذكره: مثل الله مثلاً للكافر بالله الذي يعبد آلهة شتى ويطيع جماعة من الشياطين، والمؤمن الذي لا يعبد إلا الله الواحد". يقول تعالى ذكره: {ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً} لهذا الكافر {رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ} يقول هو بين جماعة مالكين متشاكسين يعني مختلفين متنازعين سيئة أخلاقهم من قولهم رجل شكس: إذا كان سيئ الخلق وكل واحد منهم يستخدمه بقدر نصيبه وملكه فيه {وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ} يقول ورجلاً خلوصاً لرجل يعني المؤمن الموحد الذي أخلص عبادته لله لا يعبد غيره ولا يدين لشيء سواه بالربوبية. قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: {ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ} الآية قال: الشركاء المتشاكسون الرجل لذي يعبد آلهة شتى كل قوم يعبدون إلهاً يرضونه ويكفرون بما سواه من الآلهة فضرب الله هذا المثل لهم وضرب لنفسه مثلاً يقول: {رَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ} يقول: يعبدون إلهاً واحداً لا يختلفون فيه. وقال قتادة: {ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ} قال: هذا المشرك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 تتنازعه الشياطين لا يقربه بعضهم لبعض {رَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ} قال: هو المؤمن أخلص الدعوة والعبادة وقال مجاهد: {رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ} قال: هذا مثل إله الباطل، وإله الحق. وقال السدي: {ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ} قال: مثل لأوثانهم التي كانوا يعبدون ... وقوله: {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً} يعني هل يستوي مثل هذا الذي يخدم جماعة شركاء سيئة أخلاقهم مختلفة فيه لخدمته مع منازعته شركاءه فيه والذي يخدم واحداً لا ينازعه فيه منازع إذا أطاعه عرف له موضع طاعته وأكرمه، وإذا أخطأ صفح له عن خطئه يقول: "فأي هذين أحسن حالاً وأروح جسماً وأقل تعباً ونصباً"اهـ1. قال العلامة ابن القيم حول هذه الآية: "هذا مثل ضربه الله ـ سبحانه ـ للمشرك والموحد، فالمشرك بمنزلة عبد يملكه جماعة متنازعون مختلفون متشاحنون، والرجل الشكس الضيق الخلق فالمشرك كما كان يعبد آلهة شتى شبه بعبد يملكه جماعة متنافسون في خدمته لا يمكنه أن يبلغ رضاهم أجمعين، والموحد لما كان يعبد الله وحده فمثله كمثل عبد لرجل واحد قد سلم له، وعلم مقاصده وعرف الطريق إلى رضاه فهو في راحة من تشاحن الخلطاء فيه، بل هو سالم لمالكه من غير تنازع فيه مع رأفة مالكه به ورحمته له وشفقته عليه، وإحسانه إليه توليه لمصالحه فهل يستوي هذان العبدان، وهذا من أبلغ الأمثال فإن الخالص لمالك واحد يستحق من معونته وإحسانه والتفاته إليه وقيامه بمصالحه ما لا يستحق صاحب الشركاء المتشاكسين {الْحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} اهـ.2. وقال رحمه الله في موضع آخر: "احتج ـ سبحانه ـ على قبح الشرك بما تعرفه العقول من الفرق بين حال مملوك يملكه أرباب متعاسرون سيئو الملكة وحال عبد يملكه سيد واحد قد سلم كله له فهل يصح في العقول استواء حال العبدين؟ فكذلك حال المشرك والموحد قد سلمت عبوديته لإلهه الحق لا يستويان" اهـ3.   1- جامع البيان عن تأويل آي القرآن 23/213 ـ 214. 2- أعلام الموقعين 1/187. 3- مدارج السالكين 1/240. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 وأما العلامة ابن كثير فقد قال حول الآية: {ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ} أي يتنازعون في ذلك العبد المشترك بينهم {وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ} أي سالماً "لرجل" أي خالصاً لا يملكه أحد غيره {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً} أي لا يستوي هذا وهذا، كذلك لا يستوي المشرك الذي يعبد آلهة مع الله والمؤمن المخلص الذي لا يعبد إلا الله وحده لا شريك له فأين هذا من هذا؟ قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وغير واحد هذه الآية ضربت مثلاً للمشرك والمخلص، ولما كان هذا المثل ظاهراً بيناً جلياً قال: {الْحَمْدُ للهِ} أي على إقامة الحجة عليهم {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أي فلهذا يشركون بالله. اهـ1. ومما تقدم يتبين لنا أن المؤمن الذي يعبد الله وحده لا شريك له، لا شك أنه أحسن حالاً وأهدأ بالاً وأقل تعباً ونصباً من ذلك المشرك الذي خالف عقله وفطرته وأمر ربه، واتجه بالعبادة إلى الأولياء والشركاء الذين لم يأذن الله بعبادتهم بل جعل ذلك من أقبح القبيح وأظلم الظلم وأن الكافر لا يمكن أن يستقر له قرار ولا يطمئن له قلب ولا تهدأ له نفس بعكس المؤمن الذي أخلص لله في عبادته فهو في أتم راحة وأكمل طمأنينة لأنه لم يعمل ما فيه مضادة لأمر الله أو ما فيه مخالفة للعقل والفطرة، فلقد أنكر الله ـ سبحانه ـ قبح الشرك به في الإلهية وعبادة غيره معه بما ضربه لعباده من الأمثال وأقام على بطلانه الكثير من الأدلة العقلية والسمعية التي يتذكر بها أولو الألباب. ولقد جاءت آيات كثيرة في معنى الآية التي معنا من السورة من ذلك قوله تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 2. هذه الآية احتج الله فيها على عباده بما هو مستقر في عقولهم من قبح كون مملوك أحدهم شريكاً له فكأنه يقول لهم: إذا كان أحدكم يستنكف أن يكون مملوكه شريكاً له، ولا يرضى بذلك، فكيف تجعلون لله من عباده شركاء تعبدونهم كعبادته؟ فالآية توضح لنا أن قبح عبادة غير الله ـ تعالى ـ مستقر في العقول والفطر، والشرع نبَّه العقول وأرشدها بما هو مودع وكامن فيها من قبح ذلك. قال العلامة ابن القيم: حول هذه الآية "وهذا دليل قياس احتج الله ـ سبحانه ـ به على المشركين حيث جعلوا له من عبيده وملكه شركاء فأقام عليهم   1- تفسير القرآن العظيم 6/90. 2- سورة الروم آية: 28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 حجة يعرفون صحتها من نفوسهم، لا يحتاجون فيها إلى غيرهم، ومن أبلغ الحجاج أن يأخذ الإنسان من نفسه ويحتج عليه بما هو في نفسه مقرر عندها معلوم لها فقال {هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} من عبيدكم وإمائكم شركاء في المال والأهل؟ أي هل يشارككم عبيدكم في أموالكم وأهليكم فأنتم وهم في ذلك سواء تخافونهم أن يقاسموكم أموالكم ويشاطروكم إياها ويستأثرون ببعضها عليكم كما يخاف الشريك شريكه". قال ابن عباس رضي الله عنهما: "تخافونهم أن يرثوكم كما يرث بعضكم بعضاً والمعنى هل يرضى أحد منكم أن كون عبده شريكه في ماله وأهله حتى يساويه في التصرف في ذلك فهو يخاف أن ينفرد في ماله بأمر يتصرف فيه كما يخاف غيره من الشركاء الأحرار؟ فإذا لم ترضوا ذلك لأنفسكم فلم عدلتم بي من خلقي من هو مملوك لي؟ فإن كان هذا الحكم باطلاً في فطركم وعقولكم مع أنه جائز عليكم ممكن في حقكم إذ ليس عبيدكم ملكاً لكم حقيقة وإنما هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم وأنتم وهم عبيد لي فكيف تستجيزون مثل هذا الحكم في حقي مع أن من جعلتموهم لي شركاء عبيدي وملكي وخلقي؟ فهكذا يكون تفصيل الآيات لأولي العقول. اهـ1. ومن الأمثال التي ضربها الله ـ تعالى ـ لقبح الإشراك به قوله ـ تعالى ـ {ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} 2. هذه الآية تضمنت مثلاً لقبح الشرك والتنفير منه فقد ضرب الله ـ سبحانه ـ فيها مثلاً لنفسه وللأوثان فالله ـ سبحانه ـ هو الذي يملك كل شيء، وهو الذي ينفق على عباده كيف يشاء ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً يمينه ملآى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار. أما الأوثان فهي عاجزة مملوكة ليس لها القدرة على أي شيء وما دام حالها على هذا كيف تجعلونها شركاء لله وتعبدونها من دونه مع هذا التفاوت المبين والفرق العظيم، وهذا هو معنى تفسير مجاهد وغيره لهذه الآية الكريمة3   1- أعلام الموقعين 1/159. 2- سورة النحل آية: 75. 3- جامع البيان عن تأويل آي القرآن 14/149. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 وأما عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فإنه قال: إن هذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر، ومثل المؤمن في الخير الذي عنده ثم رزقه منه رزقاً حسناً فهو ينفق منه على نفسه وعلى غيره سراً وجهراً، والكافر بمنزلة عبد مملوك عاجز لا يقدر على شيء لأنه لا خير عنده فلا مساواة بين الرجلين عند أحد من ذوي الألباب1. قال العلامة ابن القيم "والقول الأول أشبه بالمراد فإنه أظهر في بطلان الشرك وأوضح عند المخاطب، وأعظم في إقامة الحجة، وأقرب نسباً بقوله: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ * فَلا تَضْرِبُوا للهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} ثم قال: {ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} 2 ومن لوازم هذا المثل وأحكامه أن يكون المؤمن الموحد كمن رزقه منه رزقاً حسناً، والكافر المشرك كالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء، فهذا مما نبه عليه المثل وأرشد إليه، فذكره ابن عباس منبهاً على إرادته لا أن الآية اختصت به فتأمله" اهـ3. ومن الأمثال التي ضربها الله لقبح الإشراك به ـ سبحانه ـ وتعالى {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 4 وفي هذه الآية ضرب الله ـ سبحانه ـ فيها لنفسه وللأصنام المعبودة من دونه مثلاً، فالصنم الذي يعبد من دونه إنما هو بمثابة رجل أبكم لا يعقل، ولا ينطق بل هو أبكم القلب واللسان قد عدم النطق القلبي واللساني، إضافة إلى ذلك أنه عاجز لا يقدر على شيء ألبتة، ومع هذا فأينما وجه لا يأتي بخير ولا يقضي حاجة لمن أرسله. أما الله ـ تعالى ـ فإنه الحي القادر المتكلم الآمر بالعدل وهو على الصراط المستقيم وهذا وصف له بغاية الكمال والحمد فإنه ـ سبحانه ـ الآمر بالعدل ـ وهو الحق ـ "وذلك يتضمن أنه سبحانه ـ عالم به، معلم له راض به آمر لعباده به محب لأهله لا يأمر بسواه بل هو ـ سبحانه ـ منزه عن ضده الذي هو الجور والظلم والسفه، والباطل، بل أمره وشرعه   1- جامع البيان 14/149، تفسير ابن كثير 4/211. 2- سورة النحل آية: 73 ـ 74. 3- أعلام الموقعين 1/161. 4- سورة النحل آية: 76. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 عدل كله وأهل العدل هم أولياؤه وأحباؤه وهم المجاورون له عن يمينه على منابر من نور، وأمره بالعدل يتناول الأمر الشرعي الديني، والأمر القدري الكوني، وكلاهما عدل لا جور فيه بوجه ما"1 ومن كانت هذه صفاته هو الجدير بأن يعبد وحده لا شريك له، ويخلص له الدين كله ـ ومما تقدم يتبين لنا من المثل الذي ضربه الله في السورة وغيرها من الآيات التي ذكرناها في معناها قبح الشرك سمعاً وعقلاً وفطرة كما يتبين لنا الآتي: 1 ـ إن الموحد لا يكون عنده ضيق نظر بخلاف المشرك الذي يعبد آلهة شتى أو يجحدها بالكلية. 2 ـ إن الموحد تنشأ في نفسه العزة والقوة التي لا يقف أمامها شيء لأنه أيقن في نفسه بأنه لا نافع ولا ضار إلا الله وأنه سبحانه ـ المحي المميت، وأنه صاحب القهر والحكم والسلطان في هذا الكون وهنا ينزع من قلبه كل خوف من غير الله ـ تعالى ـ فتجده لا يطأطئ رأسه لأحد من الخلق، ولا يتضرع إليه ولا يسأله ولا يخاف من كبريائه وعظمته لأنه استقر في نفسه عظمة القادر ـ سبحانه ـ وهذا بخلاف المشرك، والكافر ومن تربى على الإلحاد. 3 ـ أن الموحد لربه ـ جل وعلا ـ يتولد في نفسه مع العزة والقوة: تواضع دون ذل وترفع من غير كبر حتى أن الشيطان لا يلقى إليه سبيلاً لأن يلقي في نفسه الأخلاق الذميمة إذ أنه يعلم بيقين أن الله ـ تعالى ـ هو الذي وهبه كل ما عنده من النعم وهو القادر على سلبه إياها في أي لحظة شاء، أما المشرك فإنه يوجد لديه من الأخلاق الذميمة التي هي كفيلة بإهلاكه مثل الكبر وبطر الحق بمجرد حصوله على نعمة سريعة الزوال بين حين وآخر. 4 ـ إن الموحد موقن تمام اليقين بأنه لا سبيل إلى النجاة والفلاح إلا بتطهير نفسه من كل معصية لله ـ عز وجل ـ بالعمل الصالح أما المشرك والكافر فإنه يمضي حياته كلها في الأماني الكاذبة كما يزعم النصارى بأن المسيح عليه الصلاة والسلام أصبح كفارة لذنوبهم وكما يزعم اليهود أنهم أبناء الله وأحباؤه فلا يعذبهم بذنوبهم وكما يعتقد بعض جهلة المسلمين أن الكبراء والأتقياء من أهل الصلاح سيشفعون لهم عند الله ـ تعالى ـ فيقدمون   1- أعلام الموقعين 1/162. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 لهم النذور والقرابين في المواسم، ثم يستمرون في مخالفة الأوامر والنواهي، إتباعاً للهوى والشهوات الشيطانية. 5 ـ إن الذي أقر لله بالوحدانية وأفرده بالعبادة والطاعة لا يتسرب إليه يأس ولا يحل به القنوط لأنه يؤمن بأن خزائن السموات والأرض بيد الله وحده دون سواه، ومن هنا يكون مطمئناً تغمره السكينة والأمل حتى ولو نزل به ألوان من الهوان، والطرد من قبل أعداء الله فإنه لا تضيق به طرق العيش إذ أنه يوقن بأن الله يكلؤه ولا يسلمه إلى نفسه مع بذله جهده في التوكل على خالقه وبارئه ـ سبحانه ـ أما الكافر أو المشرك فإنه يعتمد على طاقاته المحدودة فإذا ما نزل به أمر فسرعان ما يحل به اليأس والقنوط في الشدائد بل ربما يؤدي به حاله إلى الإنتحار. 6 ـ إن المؤمن بالله يتربى على الشجاعة والعزم والتوكل والثبات عندما يقدم على أمور يريد بها وجه الله ـ تعالى ـ كالجهاد في سبيل الله والمرابطة في ثغور الإسلام إذ أنه يشعر في قرارة نفسه بأنه يستمد قوته ونصره من مالك السموات والأرض وما بينهما فلا يكون هناك مثيل لموقفه وثباته وأنى للمشرك والكافر مثل الموقف وتلك القوة والثبات التي يؤيد الله بها أولياءه. 7 ـ إن الذي يؤمن بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً يكون قوي الجانب فلا مكانة للجبن والوهن لديه إذ الجبن وضعف العزم يتولد من أمرين: حب الإنسان نفسه وماله وأهله، واعتقاده أن غير الله له القدرة على سلب الحياة لكن المؤمن بالله حق الإيمان ينحي امن قلبه كلا الأمرين السابقين فهو موقن بأن الله هو المالك الحقيقي للإنسان ونفسه وماله وأهله فهو يضحي في سبيل الله بكل غال ورخيص في الحصول على مرضاة الله ـ تعالى ـ وقدكما أنه موقن بأنه ليس في مقدور الخلق أجمعين سلب الحياة إلا بقضاء الله وقدره، ونتيجة الإيمان الصادق فإن المؤمن حينما يلتقي بجيش الكفر لا يهاب كثرته ولا يخاف قعقعة السيوف فهو يواجه أعداء الله مقبلاً غير مدبر لأنه يؤمن أن إطالة العمر وانقضاء الأجل إنما هو بيد الله وحده. 8 ـ إن الإيمان بأنه لا معبود بحق إلا الله ـ تعالى ـ يرفع من قدر العبد فلا توجد فيه الخصال الذميمة مثل الدناءة واللؤم والشره والحسد وغيرها من الصفات القبيحة شرعاً وعقلاً وفطرة ـ لأن الإسلام يبغض هذه الخلال وحذر منها أشد تحذير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 9 ـ إن التوحيد الخالص والإقرار الصحيح ب"لا إله إلا الله" قولاً وعملاً، واقتضاء معنى يجعل المرء ملتزماً بشرع الله، ومحافظاً عليه إذ المرء عندما يؤمن بأن ربه بكل شيء عليم وأن معه من الملائكة من هو رقيب وعتيد وأنه إذا كان لديه حيلة في التفلت من بطش البشر فإنه ليس له قدرة على التخلص من الله ـ عز وجل ـ وعلى قدر قوة الإيمان وضعفه يكون التزام العبد بأحكام الله واقفاً عند حدوده فلا تكون عنده جرأة على اقتراف الآثام وانتهاك المحارم بل يكون مسارعاً إلى فعل الخيرات بعكس المشرك والكافر والملحد فإن حياته كلها في الوقوع فيما يغضب الله ـ تعالى ـ1 أعاذنا الله من شر ذلك وجعلنا ممن يعبدونه وحده دون سواه.   1- أنظر مبادي الإسلام للمودودي ص 80 ـ 86. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 المبحث السادس: التحذير من الشرك وبيان أنه محبط للعمل لقد ورد التحذير عن الشرك، وأنه يحبط العمل في آية واحدة، من هذه السورة قال ـ تعالى ـ {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِين} . هذه الآية من السورة بين الله ـ تعالى ـ فيها أنه قد أوحي إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وإلى كل إخوانه من الأنبياء ممن سبقوه بأنه لو صدر من أحدهم إشراك بالله وحاشا أن يصدر منهم ذلك لأن الله عصمهم من الوقوع في الإشراك به جل وعلا ـ ولكن هذا من باب فرض المستحيل غير الواقع ـ ولو حصل ذلك لكان سبباً في إحباط العمل وضياع الثواب ويصير صاحبه في ضمن الأشقياء الذين حرموا الجنة التي عرضها كعرض السماء والأرض. وإذا كان هذا الخطاب موجهاً إلى أكرم الخلق وأحبهم إلى الله ـ تعالى ـ وهم الرسل الكرام وفي طليعتهم سيد الأولين والآخرين عليهم الصلاة والسلام فما البال بصدوره من غيرهم من بني الإنسان. قال البغوي رحمه الله ـ تعالى ـ حول قوله عز وجل: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} يعني الذي عملته قبل الشرك وهذا خطاب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والمراد منه غيره، وقيل هذا أدب من الله ـ عز وجل ـ لنبيه وتهديد لغيره لأن الله ـ تعالى ـ عصمه من الشرك اهـ1. وقال ابن جرير رحمة الله عليه، حول الآية نفسها:   1- تفسير البغوي المسمى معالم التنزيل أنظر حاشية تفسير الخازن 6/70. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 يقول ـ تعالى ـ ذكره " {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ} يا محمد ربك، {وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ} من الرسل {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} يقول لئن أشركت بالله شيئاً يا محمد ليبطلن عملك، ولا تنال به ثواباً ولا تدرك جزاء إلا جزاء من أشرك بالله وهذا من المؤخر الذي معناه التقديم، ومعنى الكلام: ولقد أوحي إليك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين وإلى الذين من قبلك، بمعنى وإلى الذين من قبلك من الرسل من ذلك، مثل الذي أوحي إليك منه فاحذر أن تشرك بالله شيئاً فتهلك، ومعنى قوله {وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِين} ولتكونن من الهالكين بالإشراك بالله إن أشركت به شيئاً اهـ1. ومثل هذه الآية في السورة {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ} الآية. قوله ـ تعالى ـ {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 2. وهذا تشديد لأمر الشرك وتغليظ لشأنه وتعظيم لملابسته3. ولقد حذر الله من الشرك وبين عاقبته السيئة في مواضع كثيرة من كتابه. قال تعالى: {إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 4. قال ابن كثير: "أخبر ـ تعالى ـ أنه لا يغفر أن يشرك به، أي: لا يغفر لعبد لقيه وهو مشرك به ويغفر ما دون ذلك أي: من الذنوب لمن يشاء من عباده" اهـ5 "فتبين بهذا أن الشرك أعظم الذنوب لأن الله ـ تعالى ـ أخبر أنه لا يغفره أي إلا بالتوبة منه، وما عداه فهو داخل تحت مشيئة الله إن شاء غفره بلا توبة، وإن شاء عذب به وهذا يوجب للعبد شدة الخوف من "هذا الذنب الذي هذا شأنه عند الله"6 وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} 7.   1- جامع البيان 24/24. 2- سورة الأنعام آية: 88. 3- تفسير ابن كثير 3/63. 4- سورة النساء آية: 48. 5- تفسير القرآن العظيم 2/308. 6- تيسير العزيز الحميد ص90 ـ 91. 7- سورة المائدة آية: 72. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 وفي مسند الإمام أحمد من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدواوين عند الله ثلاثة: ديوان لا يعبأ الله به وديوان لا يترك الله منه شيئاً، وديوان لا يغفره الله فأما الديوان الذي لا يغفره الله فالشرك قال الله عز وجل {مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} ، وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئاً فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه من صوم يوم تركه أو صلاة تركها فإن الله عز وجل يغفر ذلك ويتجاوز إن شاء وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئاً فظلم العباد بعضهم بعضاً القصاص لا محالة"1. قال العلامة ابن القيم: "ولما كان الشرك أعظم الدواوين الثلاثة عند الله ـ عز وجل ـ حرم الجنة على أهله فلا تدخل الجنة نفس مشركة وإنما يدخلها أهل التوحيد فإن التوحيد هو مفتاح بابها فمن لم يكن معه مفتاح لم يفتح له بابها، وكذلك إن أتى بمفتاح لا أسنان له لم يكن الفتح، وأسنان هذا المفتاح هي الصلاة والزكاة والحج والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وبر الوالدين" اهـ2. وقال تعالى آمراً عباده باجتناب عبادة غيره من الأوثان والأصنام: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ للهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} 3. هذه الآية توجيه للبشرية جمعاء بالابتعاد عن ملابسة كل طاغوت يعبد من دون الله ـ تعالى ـ وفيها تصوير للأوثان بأنها رجس لوخامة ما ينتج عنه من الاعتقاد والفساد وقد قرن الله الأوثان بقول الزور لأنه الشرك من باب الزور فإن المشرك يزعم أن الوثن تحق له العبادة وهذا أعظم أبواب الزور والافتراء. ولنستمع إلى ابن القيم وهو يصور لنا الإهتزازات التي تعتري الذين ارتكسوا في أوحال الوثنية وعبدوا غير الله ـ تعالى ـ ممن هم عبيد أمثالهم فقال رحمة الله في كلامه لبيان هذا المشهد في هذه الآية. فتأمل هذا المثل ومطابقته لحال من أشرك بالله وتعلق بغيره ويجوز لك في التشبيه أمران: أحدهما: أن تجعله تشبيهاً مركباً ويكون قد شبه من أشرك بالله يرجى معه نجاة   1- المسند 6/240. 2- الوابل الصيب ص18. 3- سورة الحج آية: 30 ـ 31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 فصور حاله بصورة حال من خر من السماء فاختطفته الطير في الهواء فتمزق مزقاً في حواصلها أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المطارح البعيدة وعلى هذا لا تنظر إلى كل فرد من أفراد المشبه، ومقابله من المشبه به. الثاني: أن يكون من التشبيه المفرق فيقابل كل واحد من أجزاء الممثل والممثل به وعلى هذا فيكون قد شبه الإيمان والتوحيد في علوه وسعته وشرفه بالسماء التي هي مصعده ومهبطه، فمنها هبط إلى الأرض، وإليها يصعد منها وشبه تارك الإيمان والتوحيد بالساقط من السماء إلى أسفل سافلين من حيث التضييق الشديد والآلام المتراكمة والطير التي تخطف أعضاءه وتمزقه كل ممزق بالشياطين التي يرسلها الله ـ سبحانه وتعالى ـ عليه وتؤزه أزاً وتزعجه وتقلقه إلى مظان هلاكه، فكل شيطان له مزعة من دينه وقلبه كما أن لكل طير مزعة من لحمه وأعضائه والريح التي تهوي به في مكان سحيق هو هواه الذي يحمله على إلقاء نفسه في أسفل مكان وأبعده من السماء. اهـ1. فكل ما تقدم من الآيات القرآنية وأقوال العلماء من التحذير من الشرك يوجب للإنسان أن يخاف على نفسه فإنه أعظم ذنب عصي الله ـ تعالى ـ به. وقد ذكر الله عن خليله إبراهيم أبي الأنبياء عليه الصلاة والسلام أنه خاف على نفسه وبنيه من عبادة الأصنام مع أنه عليه الصلاة والسلام قد أكرمه الله بالعصمة من الشرك وغيره. وقال تعالى مخبراً عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه قال: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} 2. قال في تيسير العزيز الحميد {وَاجْنُبْنِي} أي اجعلني وبني في جانب عن عبادة الأصنام وباعد بيني وبينها قيل: وأراد بذلك بنيه وبناته من صلبه ولم يذكر البنات لدخولهم تبعاً في البنين، وقد استجاب الله دعاءه وجعل بنيه أنبياء وجنبهم عبادة الأصنام وإنما دعا إبراهيم عليه السلام بذلك لأن كثيراً من الناس افتتنوا بها كما قال {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً   1- أعلام الموقعين 1/180. 2- سورة إبراهيم آية: 35 ـ 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 مِنَ النَّاسِ} فخاف من ذلك ودعا الله أن يعافيه وبنيه من عبادتها، فإذا كان إبراهيم عليه السلام يسأل الله أن يجنبه ويجنب بنيه عبادة الأصنام فما ظنك بغيره؟ اهـ1. فإبراهيم عليه السلام هو الذي امتثل أمر ربه حين أمره بذبح ولده وهو الذي أخذ الفأس وحطم به الأصنام، وهو الذي اشتد نكيره على عبدة الأصنام والأوثان ومع ذلك يخاف على نفسه وبنيه الوقوع في الشرك الذي هو عبادة الأصنام لأنه يعلم أنه لا يصرف عن ذلك إلا بهداية الله ـ جل وعلا ـ وتوفيقه. جاء في قرة عيون الموحدين: "فالذي خافه الخليل عليه السلام على نفسه وبنيه وقع فيه أكثر الأمة بعد القرون المفضلة فبنيت المساجد والمشاهد على القبور وصرفت لها العبادات بأنواعها. واتخذ ذلك ديناً وهي أوثان وأصنام كأصنام قوم نوح واللات والعزى ومناة أصنام العرب وغيرهم، فما أشبه ما وقع في آخر هذه الأمة بحال أهل الجاهلية من مشركي العرب وغيرهم بل وقع ما هو أعظم من الشرك في الربوبية بما يطول عده"2. وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الشرك وبين العاقبة السيئة التي تلحق المشرك إذا رجع إلى الله ـ تعالى ـ. قال صلى الله عليه وسلم: "من مات وهو يدعو من دون الله نداً دخل النار" 3. وقال عليه الصلاة والسلام: "من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار" 4. فقد بين صلى الله عليه وسلم في هذين الحديثين: أن من مات على الشرك لا يدخل الجنة ولا تناله رحمة الله ويكون من الخالدين في النار. كما بين أن من مات على التوحيد دخل الجنة قال النووي: "أما دخول المشرك إلى النار فهو على عمومه، فيدخلها ويخلد فيها، ولا فرق بين الكتابي واليهودي والنصراني، وبين عبدة الأوثان وسائر الكفرة من المرتدين والمعطلين، ولا فرق عند أهل الحق بين   1- ص92 ـ 93. 2- ص40. 3- رواه البخاري أنظر الفتح 8/76 من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. 4- رواه مسلم من حديث جابر رضي الله عنه 1/94. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 الكافر عناداً وغيره، ولا بين من خالف ملة الإسلام وبين من انتسب إليها ثم حكم بكفره يجحده وغير ذلك، وأما دخول من مات غير مشرك الجنة فهو مقطوع له به، لكن إن لم يكن صاحب كبيرة مات مصراً عليها دخل الجنة أولاً، وإن كان صاحب كبيرة مات مصراً عليها فهو تحت المشيئة، فإن عفا عنه دخل الجنة أولاً وإلا عذب في النار ثم أخرج فيدخل الجنة" اهـ1. ومن هذا يتبين لنا أن الشرك أشد الأعمال جرماً وأقبحها ظلماً كما قال تعالى حكاية عن لقمان وهو يوصي ابنه {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} 2. وقد بين تعالى في موضع آخر بأنه لا أمن ولا اهتداء إلا لمن لم يخلطوا عبادتهم بمعصية الشرك. قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} 3. وقد روى الشيخان في صحيحيهما من حديث ابن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية شق ذلك على المسلمين فقالوا يا رسول الله وأينا ذلك؟ قال: "إنما هو الشرك ألم تسمعوا ما قال لقمان لابنه إن الشرك لظلم عظيم"4 قال النووي عند شرحه لهذا الحديث: لما شق عليهم أنزل الله ـ تعالى ـ {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} . وأعلم النبي صلى الله عليه وسلم أن الظلم المطلق هناك هو المراد به هذا المقيد وهو الشرك كما قال لقمان لابنه فالصحابة رضي الله عنهم حملوا الظلام على عمومه والمتبادر إلى الأفهام منه وهو وضع الشيء في غير موضعه وهو مخالفة الشرع فشق عليهم إلى أن أعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم بالمراد بهذا الظلم اهـ5. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله موضحاً لذلك "والذي شق عليهم أنهم ظنوا أن الظلم المشروط عدمه وهو ظلم العبد نفسه وأنه لا أمن ولا اهتداء إلا لمن لم يظلم نفسه،   1- شرح النووي على مسلم 2/97. 2- سورة لقمان آية: 13. 3- سورة الأنعام آية: 82. 4- صحيح البخاري 3/173 صحيح مسلم 1/114 ـ 115. 5- شرح النووي على مسلم 3/143. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 فبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم ما دلهم على أن الشرك ظلم في كتاب الله فلا يحصل الأمن والإهتداء إلا لمن لم يلبس إيمانه بهذا الظلم فإن من لم يلبس إيمانه بهذا الظلم كان من أهل الأمن والإهتداء ... فمن سلم من أجناس الظلم الثلاثة: الشرك، وظلم العباد، وظلمه لنفسه دون الشرك، كان له الأمن التام والإهتداء التام، ومن لم يسلم من ظلمه لنفسه كان له الأمن والإهتداء المطلق بمعنى: أنه لا بد من أن يدخل الجنة كما وعد الله بذلك وقد هداه الله إلى الصراط المستقيم الذي تكون عاقبته فيه إلى الجنة، ويحصل له من نقص الأمن والإهتداء بحسب ما نقص من إيمانه بظلمه لنفسه، وليس مراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "إنما هو الشرك" أن من لم يشرك الشرك الأكبر يكون له الأمن التام والإهتداء التام فإن أحاديثه الكثيرة مع نصوص القرآن تبين أن أهل الكبائر معرضون للخوف لم يحصل لهم الأمن التام والإهتداء التام الذي يكونون بهما مهتدين إلى الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من غير عذاب يحصل لهم، بل معهم أصل الإهتداء إلى الصراط ومعهم أصل نعمة الله عليهم. ولا بد لهم من دخول الجنة، وقوله "إنما هو الشرك" إن أراد به الأكبر فمقصوده: أن من لم يكن من أهله فهو آمن مما وعد به المشركون من عذاب الدنيا والآخرة، وإن كان مراده جنس الشرك يقال: ظلم العبد نفسه كبخله لحب المال ببعض الواجب، هو شرك أصغر، وحبه ما يغضب الله ـ تعالى ـ حتى يقدم هواه على محبة الله شرك أصغر ونحو ذلك فهذا فاته من الأمن والإهتداء بحسبه ولهذا كان السلف يدخلون الذنوب في هذا الشرك بهذا الاعتبار"اهـ1. ومن هذا يعلم أن الشرك بالله أظلم الظلم وأشد ذنب عصيي الله به ولذلك رتب الله عليه من العقوبات الدنيوية والأخروية ما لم يرتبه على ذنب سواه من إباحة دماء أهله، وأموالهم وسبي نسائهم "وأولدهم وعدم مغفرته من بين الذنوب إلا بالتوبة منه"2. قال في تيسير العزيز الحميد "وإنما كان كذلك لأنه أقبح القبيح وأظلم الظلم إذ مضمونه تنقيص رب العالمين، وصرف خالص حقه لغيره، وعدل غيره به كما قال تعالى   1- مجموع الفتاوى 7/80 ـ 81. 2- تيسير العزيز الحميد ص89 بتصرف يسير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} 1 ولأنه مناقض للمقصود بالخلق والأمر مناف له من كل وجه وذلك غاية المعاندة لرب العالمين، والاستكبار عن طاعته والذل له والانقياد لأوامره الذي لا صلاح للعالم إلا بذلك فمتى خلا منه خرب وقامت القيامة كما قال صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله" 2. ولأن الشرك تشبيه للمخلوق بالخالق ـ تعالى ـ وتقدس في خصائص الإلهية من ملك الضر والنفع، والعطاء، والمنع الذي يوجب تعلق الدعاء والخوف والرجاء والتوكل وأنواع العبادة كلها بالله، فمن علق ذلك لمخلوق فقد شبهه بالخالق وجعل من لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً فضلاً عن غيره شبيهاً بمن له الخلق كله وله الملك كله وبيده الخير كله وإليه يرجع الأمر كله. فأزمة الأمور كلها بيده ـ سبحانه ـ ومرجعها إليه فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن اهـ3 كما يفهم من هذا أن المشرك لم يقدر الله حق قدره، ولم يأت بالأمر الذي خلق من أجله فهو ظالم من جهة أنه صرف الحق الذي لا يستحقه إلا الله ـ تعالى ـ للمخلوق الذي لا يستحق من ذلك شيئاً لأنه ليس أهلاً لذلك. كما أن المشرك ظالم لنفسه حيث يشقيها بإشراكه بالله ـ تعالى ـ ويحرمها رحمة الله ويجعلها تتذلل لمخلوق من مخلوقات الله فقير إلى الله الذي له الغنى المطلق من جميع الوجوه والإعتبارات. أعاذنا الله من الشرك كبيره وصغيره جليه وخفيه وبالله التوفيق.   1- سورة الأنعام آية: 1. 2- رواه مسلم من حديث أنس رضي الله عنه 1/131. 3- ص:91. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 الباب الثاني: دلالة السورة على وجوب الإيمان بالملائكة والكتب، والرسل والقدر وفيه الفصل الأول: دلالة السورة على وجوب الإيمان بالملائكة المبحث الأول: تعريف الملائكة، ومن أي شيء خلقوا؟ ... المبحث الأول: تعريف الملائكة، ومن أي شيء خلقوا؟ 1ـ تعريف الملائكة: "الملائكة جمع ملاك" نقلت حركة الهمزة فيه إلى الساكن قبله، ثم حذفت الهمزة تخفيفاً فصارت "ملكاً" وهو مشتق من كلمة "الألوكة" التي هي الرسالة والجمع "ملائك" و"ملائكة"1. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "والملك في اللغة: حامل الألوكة وهي الرسالة"اهـ2. والذي نستفيده من التعريف اللغوي: أن الملائكة هم سفراء الله إلى أنبيائه ورسله في تبليغ الوحي والشرائع. أما التعريف الاصطلاحي: فالملائكة: "أجسام نورانية ـ لطيفة أعطيت قدرة على التشكل بأشكال مختلفة ومسكنها السموات، وأبطل من قال: أنها الكواكب أو أنها الأنفس الخيرة التي فارقت أجسادها وغير ذلك من الأقوال التي لا يوجد في الأدلة السمعية شيء منها"اهـ3.   1- القاموس المحيط 3/327 لسان العرب 10/496 المصباح المنير 1/18 بصائر ذوي التمييز 4/524 الفتح 6/306. 2- النبوات ص257. 3- فتح الباري 6/306 وانظر "كتاب التعريفات للجرجاني ص229". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 2ـ من أي شيء خلقوا؟: لقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ـ المادة ـ التي خلق الله منها الملائكة وهي النور، فقد روى مسلم في صحيحه من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم" 1. فبين صلى الله عليه وسلم أن الملائكة خلقوا من نور، ولم يبين النبي صلى الله عليه وسلم أي نور هذا؟ الذي خلقهم الله منه. فلا يجوز الخوض لأي أحد في نوع هذا النور لزيادة تحديده لأنه غيب لم يأت فيه ما يوضحه أكثر من هذا الحديث النبوي الشريف وأما تحديد الزمن الذي خلقوا فيه فلم يرد في الكتاب والسنة ما يفيد ذلك إلا أن الله ـ تعالى ـ أخبر بأن خلقهم كان قبل خلق آدم ـ عليه السلام ـ فقد أخبر ـ سبحانه ـ أنه أعلم الملائكة بأنه سيجعل في الأرض خليفة قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} 2. والمراد بالخليفة آدم ـ عليه السلام ـ وأمرهم بالسجود له حين خلقه {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} 3. فالملائكة نوع من مخلوقات الله ـ تعالى ـ خلقهم الله من نور وأقدرهم الله على التشكل بأشكال مختلفة فقد أرسل الله جبريل إلى مريم في صورة بشر قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً} 4. وإبراهيم عليه السلام جاءته الملائكة في صورة بشر، ولم يعرف أنهم ملائكة حتى كشفوا له عن حقيقة أمرهم. قال تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً   1- صحيح مسلم 4/2294 ومسند الإمام أحمد 6/168. 2- سورة البقرة آية: 30. 3- سورة الحجر آية: 29. 4- سورة مريم آية: 16 ـ 19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ * فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} 1. وفي آية أخرى قال: {فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} 2. وجاؤوا إلى لوط في صورة شباب حسان الوجوه، وضاق لوط بهم وخشي عليهم من قومه فقد كانوا قوم سوء يفعلون السيئات ويأتون الذكران من العالمين قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} 3. قال ابن كثير رحمه الله ـ تعالى ـ: "تبدي لهم الملائكة في صورة شباب حسان امتحاناً واختباراً حتى قامت على قوم لوط الحجة وأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر"4. وقد كان جبريل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في صورة دحية بن خليفة الكلبي5 وتارة يأتيه في صورة أعرابي وقد شاهده كثير من الصحابة كما في حديث عمر قال: "بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد فجلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه وقال يا محمد أخبرني عن الإسلام"؟ وفي الحديث أنه سأله عن الإيمان والإحسان والساعة وأمارتها ثم أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم فيما بعد أن السائل جبريل جاء يعلم الصحابة دينهم6 إلى غير ذلك من الأحاديث الواردة في هذا المعنى والملائكة كثيرون لا يحيط بهم عد ولا يحصيهم من دون الله أحد وهم مجبولون على أعمال الخير فلا يعملون الشر ولا يأمرون به، فلذلك هم لربهم مطيعون، وبعبادته مشتغلون، يسبحون الليل والنهار لا يفترون، وقد كلف الله جميع عباده الإيمان   1- سورة الذاريات آية: 24 ـ 28. 2- سورة هود آية: 70. 3- سورة هود آية: 77. 4- البداية والنهاية 1/43. 5- هذا الصحابي الجليل كان يضرب به المثل في الحسن انظر الإصابة 1/463 رقم 2390. 6- صحيح مسلم 1/37. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 بهم، والتصديق بوجودهم لأن ذلك من جملة عقائد الإيمان التي أمرهم الله بها وفرضها عليهم في محكم كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} 1. وقال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} 2. وقال تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيداً} 3. وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أركان الإيمان الستة وذكر من بينها الإيمان بالملائكة كما في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه المشهور بحديث جبريل الطويل حيث سأله عن الإسلام والإيمان والإحسان وأشراط الساعة وجاء في هذا الحديث أن جبريل عليه السلام قال للرسول صلى الله عليه وسلم: أخبرني عن الإيمان؟ قال: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره" 4. فأجاب النبي صلى الله عليه وسلم على سؤال جبريل عن الإيمان ببيان أركانه الستة وأخبر بأن الإيمان بالملائكة ركن من أركان الإيمان فمن هنا كان وجود الملائكة ثابت بالدليل القطعي الذي لا يمكن أن يتطرق إليه شك ومن هنا كان إنكار وجود الملائكة كفراً بإجماع المسلمين بل بنص كتاب الله الكريم وسنة رسوله الأمين فمن كفر بهم أو حاول التشكيك في وجودهم فهو كاذب كافر لا حظ له في الإسلام لتكذيبه لله ـ تعالى ـ ولرسوله وللمؤمنين. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: بعد أن ذكر جملة من الأحاديث الواردة في شأن الملائكة وصفاتهم "وفي هذا وما ورد من القرآن رد على من أنكر وجود الملائكة من الملاحدة"5 ومن هذا يفهم بأن من أنكر وجود الملائكة فهو ملحد زنديق كافر بالله   1- سورة البقرة آية: 177. 2- سورة البقرة آية: 285. 3- سورة النساء آية: 136. 4- صحيح مسلم 1/37. 5- الفتح: 6/306. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 العظيم، فيجب الإيمان بالملائكة على سبيل الإجمال، ويجب الإيمان على سبيل التفصيل، بمن اشتهر باسمه الخاص كهاروت وماروت أو من أضيف إليه عمل معين بأدلة الكتاب والسنة، كجبريل، وميكائيل واسرافيل ورضوان ومالك، فمثل هؤلاء الملائكة لا يكفي الإيمان بهم إجمالاً بل لا بد من الإيمان بهم تفصيلاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 المبحث الثاني: ذكر بعض أعمال الملائكة التي أنيطت بهم لقد دلت سورة "الزمر" على أن لله ملائكة أسند إليهم القيام بمهام الجنة والنار كما ورد فيها أن بعض الملائكة محدقون بعرش الرحمن ـ جل وعلا ـ. قال تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ * قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ * وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} . وقال تعالى: {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . فهذه الآيات الأربع من السورة دلت على وجود الملائكة وأن منهم من أوكل الله إليه القيام على أمور الجنة والنار فمن المهام التي أسندت إليهم تجاه جهنم أن الكفار عندما يحشرون تسوقهم الملائكة إليها أفواجاً متفرقة فوجاً بعد فوج فعند ذلك تفتح لهم أبواب جهنم فتتلقاهم الملائكة خزنة النار يوبخونهم ويبكتونهم ويسألونهم أما جاءكم في الدنيا رسل من جنسكم؟ يقرؤون عليكم ما أنزل من الآيات البينات والحجج الواضحات ويخوفونكم هول هذا اليوم الذي ترديتم فيه؟ فيعترفون بأن الرسل بلغوهم آيات ربهم فكذبوهم فلم يصدقوهم فحقت عليهم كلمة العذاب التي توعد الله بها الكافرين فإذا سمع الملائكة منهم هذه الإجابة سارعوا في الرد عليهم بقولهم {ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 إنكم فيها إلى الأبد لا تخرجون منها ولا تنفصلون عنها فبئس المقام الذي تبوأتموه جزاء تكبركم وتكذيبكم برسل الله وآياته ولقائه وأما مهامهم في الجنة فإنه عندما يحشر الذين اتقوا ربهم بأداء الفرائض واجتناب المعاصي فأخلصوا الدين لله وحده لا شريك له فإن الملائكة الموكلين بالجنة يحتفون بهم ويرحبون بلقائهم ويحيونهم بأطيب تحية ويذكرونهم بأطيب صفاتهم {سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} . وأما الآية الأخيرة من الآيات الأربع السابقة وهي آخر آية من السورة فهي تبين مشهداً عظيماً لعباد الله المكرمين الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون وهذا المشهد هو أنهم محدقون بعرش الرحمن ينزهونه عما نسبه إليه المشركون وعما لم ينسبوه من صفات النقص، وليست هذه أعمالهم فحسب بل لهم أعمال أخرى كثيرة جداً أنيطت بهم ونذكر هنا طرفاً منها إذ يتعذر علينا حصرها هنا. فجبريل عليه السلام: أوكل الله إليه النزول بالوحي وقد أخبرنا الله تعالى أن جبريل يكاد يختص بهذه المهمة الجليلة قال تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} 1. وجبريل هو الروح الأمين كما قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} 2 وقد ينزل بالوحي غير جبريل إلا أن هذا ـ قليل جداً ـ. لما رواه مسلم في صحيحه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: بينما جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم سمع نقيضاً من فوقه فرفع رأسه فقال: هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم، فنزل منه ملك فقال: "أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته" 3. ومنهم من أوكل الله إليه القطر والنبات والأرزاق. قال ابن كثير: "وميكائيل موكل بالقطر والنبات اللذين يخلق منهما الأرزاق في هذه الدار، وله أعوان يفعلون ما يأمرهم به بأمر ربه، يصرّفون الرياح والسحاب كما يشاء الرب   1- سورة البقرة آية: 97. 2- سورة الشعراء آية: 193 ـ 194. 3- 1/554 . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 ـ جل جلاله ـ وقد روينا أنه ما من قطرة تنزل من السماء إلا ومعها ملك يقررها في موضعها من الأرض1 ومنهم من هو موكل بالسحاب ففي سنن الترمذي عن ابن عباس أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "الرعد ملك من ملائكة الله موكل بالسحاب معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث شاء الله". قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب2. ومنهم من أوكل الله إليه مهمة النفخ في الصور وهو إسرافيل، ومنهم من اختصه الله بقبض أرواح بني آدم عندما تنتهي آجالهم التي قدرها الله لهم قال تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} 3 ولملك الموت أعوان يكونون معه عند قبض أرواح بني آدم. قال تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ * ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} 4 وتنزع الملائكة أرواح الكفرة والمجرمين نزعاً شديداً عنيفاً بلا رفق ولا هوادة. قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} 5. أما المؤمنون فإن الملائكة تنزع أرواحهم نزعاً رفيقاً وتبشرهم عند النزع. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} 6.   1- البداية والنهاية 1/50 مطبعة الفجالة الجديدة. 2- سنن الترمذي 4/257، وأحمد في مسنده 1/274 وانظر صحيح الجامع الصغير للألباني 3/188. 3- سورة السجدة آية: 11. 4- سورة الأنعام آية: 61 ـ 62. 5- سورة الأنفال آية: 50. 6- سورة فصلت آية: 30 ـ 31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 ومنهم من أوكل الله إليه حفظ أعمال بني آدم من خير وشر وهم الكرام الكاتبون. قال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} 1. ومنهم من أوكل الله إليه الجنة ونعيمها وهم رضوان ومن معه، قال ابن كثير "وخازن الجنة ملك يقال له: رضوان جاء مصرحاً به في بعض الأحاديث" أ. هـ2. ومنهم من أسند إليه القيام على النار وعذاب أهلها وهم مالك ومن معه فقد أخبر الله ـ تعالى ـ أن أهل النار ينادون مالكاً وهو كبير خزنة أهل النار بقوله تعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ * لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} 3. ومنهم من أوكل الله إليه فتنة القبر وهما منكر ونكير4. ومنهم حملة العرش قال تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} 5. ومنهم الموكل بالنطف في الأرحام وكتابة ما يراد بها. روى الشيخان في صحيحيهما من حديث أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وكل الله ـ تعالى ـ بالرحم ملكاً: فيقول: أي رب نطفة أي رب علقة أي رب مضغة، فإذا أراد أن يقضي خلقها قال: أي رب ذكر أم أنثى أشقي أم سعيد؟ فما الرزق؟ فما الأجل فيكتب كذلك في بطن أمه6. ومنهم ملائكة يدخلون البيت المعمور ويدخله كل يوم سبعون ألفاً ثم لا يعودون إليه آخر ما عليهم7. ومنهم ملائكة سياحون يتتبعون مجالس الذكر روى الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن لله تبارك ـ وتعالى ـ ملائكة يطوفون   1- سورة الانفطار آية: 10 ـ 12. 2- البداية والنهاية 1/53. 3- سورة الزخرف آية: 77 ـ 78. 4- انظر موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان حديث رقم 780 ص197. 5- سورة الحاقة آية: 17. 6- صحيح البخاري 4/143 صحيح مسلم 4/2038. 7- صحيح البخاري 3/211 صحيح مسلم 1/150 كلاهما من حديث أنس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 في الطريق يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قوماً يذكرون الله ـ تعالى ـ تنادوا هلموا إلى حاجتكم قال: فيحفوهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا1. ومنهم الموكل بالجبال فقد أرسل الله ـ تعالى ـ ملك الجبال إلى عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم يستأمره في إهلاك أهل مكة فقد جاء في الحديث المتفق على صحته المروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال: "لقد لقيت ما لقيت وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن كلاب فلم يجبني إلى ما أردت". فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب ـ مكان قرب مكة ـ فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا به عليك وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم فناداني ملك الجبال فسلم علي ثم قال يا محمد فقال ذلك فيما شئت إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين2 فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً"3. ومنهم الموكل بكتابة الناس يوم الجمعة يكتب الأول فالأول، فقد روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الأول فالأول، فإذا جلس الإمام طووا الصحف وجاءوا يستمعون الذكر" 4. "ومنهم المعقبات وهم الذين أوكل الله إليهم حفظ العبد فيحفظونه من بين يديه ومن خلفه من أمر الله". وقد بين حبر الأمة عبد الله بن عباس أن المعقبات من الله هم الملائكة جعلهم الله   1- صحيح البخاري 4/114 صحيح مسلم 4/2069 ـ 2070. 2- الأخشبان: هما الجبلان المطيفان بمكة أبو قبيس والأحمر وهو جبل مشرف وجهه على قعيقعان. النهاية 2/32. 3- صحيح البخاري 2/212 صحيح مسلم 3/1420. 4- صحيح البخاري مع الفتح 2/407. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 ليحفظوا الإنسان من أمامه، ومن ورائه، فإذا جاء قدر الله الذي قدر أن يصل إليه خلوا عنه1. وقال مجاهد: "ما من عبد إلا له ملك موكل بحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوام فما منها شيء يأتيه إلا قال له الملك وراءك إلا شيء أذن الله فيه فيصيبه". وقال رجل لعلي بن أبي طالب: "إن نفراً من مراد يريدون قتلك فقال ـ أي علي ـ إن مع كل رجل ملكين يحفظانه مما لم يقدر، فإذا جاء القدر خليا بينه وبينه، إن الأجل جنة حصينة"2. والمعقبات المذكورة في آية ـ سورة الرعد ـ هي المقصودة بالآية الأخرى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} 3. فالحفظة الذين يرسلهم الله يحفظون العبد حتى يأتي أجله المقدر له. وورد أن الملائكة يؤمنون على قراءة المصلي، قال عليه الصلاة والسلام: "إذا أمن الإمام فأمنوا فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه" 4. وورد أنهم يدعون لمنتظر الصلاة كما جاء في الصحيحين "أن الملائكة تصلي على الذي يأتي المسجد للصلاة فتقول: اللهم صل عليه اللهم ارحمه ما لم يؤذ فيه، ما لم يحدث فيه" 5. وورد أنهم يلعنون من هجرت فراش زوجها لما رواه البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت، فبات غضبان لعنتها الملائكة حتى تصبح" 6 وأعمال الملائكة كثيرة جداً فإنهم يقومون على مختلف شؤون هذا الكون مما نشاهده وما لا نشاهده، وإذا تأمل الإنسان   1- جامع البيان عن تأويل آي القرآن 13/117، البداية والنهاية 1/54. 2- جامع البيان 13/119 وانظر البداية والنهاية 1/54. 3- سورة الأنعام آية: 61. 4- صحيح البخاري 3/97، صحيح مسلم 1/307. 5- صحيح البخاري 2/214، صحيح مسلم 1/459 كلاهما من حديث أبي هريرة. 6- 2/215 . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة في أعمال الملائكة مثل قوله ـ تعالى ـ: {وَالصَّافَّاتِ صَفّا * فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً * فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً} 1. ومثل قوله تعالى: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً * وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً * فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً * فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً} 2. جزم في يقين بأن هذا الكون كله علويه وسفليه، قد أنيط أمر تدبيره إلى الملائكة، وذلك بإذن ربهم ـ تبارك وتعالى ـ قال صلى الله عليه وسلم "أطت السماء وحق لها أن تئط ما من موضع أربع أصابع إلا عليه ملك واضع جبهته ساجداً لله تعالى" 3. ومما تقدم يتبين بطلان قول الزائغين من الفلاسفة الزنادقة بأن الملائكة قوى معنوية ليس لها حقيقة في الخارج4 بل هم كما أخبر صلى الله عليه وسلم أنهم مخلوقون من نور وأنهم كما وصفوا في الكتاب والسنة أولوا أجنحة مثنى وثلاث ورباع، ومن زعم غير ذلك فقد كذب الله ورسوله والمؤمنين   1- سورة الصافات آية: 1 ـ 3. 2- سورة النازعات آية: 1 ـ 5. 3- رواه ابن ماجة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه 2/1302 سنن الترمذي 3/381 من حديث أبي ذر رضي الله عنه. 4- انظر كتاب النبوات لشيح الإسلام ص172، إغاثة اللهفان 2/216 شرح الطحاوية 333. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 الفصل الثاني: دلالة السورة على وجوب الإيمان بالكتب المبحث الأول: كيفية الإيمان بالكتب السابقة ... المبحث الأول: كيفية الإيمان بالكتب السابقة قبل أن نبين كيفية الإيمان بالكتب السماوية السابقة نذكر الآيات الدالة على وجوب الإيمان بالكتب من سورة "الزمر" ونبين وجه دلالتها على ذلك. فنقول: إن الإيمان بالكتب التي أنزلها الله على أنبيائه ورسله ركن من أركان العقيدة الإسلامية الستة، ودعامة من دعائمها الأساسية التي لا تقوم العقيدة إلا بالإيمان بها كلها. فكما أن الله ـ تعالى ـ أنزل القرآن الكريم على محمد صلى الله عليه وسلم فقد أنزل من قبله كتباً. والإيمان بالكتب: هو التصديق الجازم بأن لله كتباً أنزلها على أنبيائه ورسله وهي من كلامه ـ تعالى ـ حقيقة اشتملت على النور والهدى وكل ما احتوته حق وصدق ولا يعلم عددها إلا الله ـ تعالى ـ الذي أنزلها، ولقد دلت السورة على أن الله ـ تعالى ـ أنزل القرآن على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كما أشارت إلى إنزال الكتب السابقة قبله على من سبقه من الأنبياء والمرسلين، فيجب الإيمان بالكتب وتصديقها كلها وأن من كذب بها كان من أهل النار. قال تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} . وقال تعالى: {اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} . وقال تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} . وقال تعالى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} . وقال تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى ... } الآية. هذه المجموعة الكثيرة من الآيات كلها وردت في السورة، وكلها واضحة الدلالة في وجوب الإيمان بالكتب السماوية المنزلة من عند الله ـ عز وجل ـ ووجوب التصديق بها والعمل بمقتضاها. إذا الإيمان بالكتب معناه "التصديق بأنها كلام الله وأن ما تضمنته حق"1. فالآيات السبع الأولى: من هذه الآيات كلها توجب الإيمان بالقرآن وقد قدمنا الكلام عليها تحت عنوان "القرآن كلام الله منزل غير مخلوق" في "الفصل الأول"من "الباب الأول" فليرجع إليه. وأما قوله تعالى: {بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} فالمراد بالآيات المذكورة في هذه الآية هي الآيات التنزيلية، القرآن وغيره من الكتب السماوية قبله التي نزلت على الرسل لتبليغها إلى سائر الأمم فقوله ـ عز وجل ـ {بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} رد من قبل الله تعالى على الكافر الذي يظهر الحسرة والندامة يوم القيامة بحيث أنه فرط في طاعة الله، ومع ذلك كان من المستهزئين بدين الله في الدنيا، وبكتابه وبرسوله وبالمؤمنين وحينما يشاهد العذاب يتعلل بما لا طائل تحته فيتمنى لو أن الله أرشده وهداه إلى دينه ليتقي الشرك والمعاصي، ويتمنى الرجعة إلى الدنيا ليكون من الموحدين لله تعالى المحسنين أعمالهم وهذه من الأماني الواهية التي يتعلق بها المشركون يوم القيامة فيكون الجواب من قبل الله   1- الفتح: 1/117 ـ 118. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 ـ عز وجل ـ على كل مشرك متمن على الله الأماني الباطلة {بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا} بحيث قلت إنها ليست من عند الله، واستكبرت عن الإيمان بها وبذلك كنت في عداد الكافرين. قال ابن جرير الطبري: {بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي} يقول: "قد جاءتك حججي من بين رسول أرسلته إليك وكتاب أنزلته يتلى عليك ما فيه من الوعد والوعيد والتذكير {فَكَذَّبْتَ} بآياتي {وَاسْتَكْبَرْتَ} عن قبولها واتباعها" اهـ1. فالآية دلت على وجوب الإيمان بالكتب المنزلة من عند الله ـ عز وجل ـ وحرمة الكفر بها والإعراض عن قبولها. وأما قوله ـ تعالى ـ {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ ... } الآية ففيها تأنيب وتقريع لجميع أصناف الكفار الداخلين جهنم من خزنة جهنم بقولهم: ألم تأتكم رسل منكم ومن جنسكم تفهمون عنهم وتعرفون أمرهم ويتلون عليكم آيات ربكم وهي الكتب المنزلة على رسله وحججه التي بعث بها رسله إلى أممهم؟ فيقول الكافرون مجيبين لخزنة جهنم: إن الرسل جاؤوهم وبلغوهم وحي الله، ولكنهم كذبوهم وقالوا ما نزل الله من شيء فحقت عليهم كلمة العذاب وهي حكم الله عليهم بالشقاوة وأنهم من أهل جهنم بسوء اختيارهم وشنيع فعلهم الذي فعلوه مع أنبيائهم فالسورة دلت دلالة قاطعة على وجوب الإيمان بكتب الله وتحريم تكذيبها ولا شك أن من كذب بكتب الله المنزلة على رسله وأنبيائه فإنه كافر بالله العظيم لأنه ـ تعالى ـ ربط الإيمان بالكتب بالإيمان به ـ سبحانه وتعالى ـ قال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ} 2. قال ابن كثير: "والكتاب" وهو اسم جنس يشمل الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء حتى ختمت بأشرفها وهو القرآن المهيمن على ما قبله من الكتب الذي انتهى إليه كل خير واشتمل على كل سعادة في الدنيا والآخرة، ونسخ به كل ما سواه من الكتب قبله. اهـ3.   1- جامع البيان عن تأويل آي القرآن 24/21. 2- سورة البقرة آية: 177. 3- تفسير القرآن العظيم 1/365. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 فمن كذب بكتب الله المنزلة على رسله كان من الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة بإرادته واختياره أعاذنا الله من ذلك. وأما كيفية الإيمان بالكتب السماوية السابقة: فالإيمان بها يكون إجمالاً، وتفصيلاً فيجب الإيمان على التفصيل بما سماه الله منها في القرآن الكريم، والذي سمي لنا منها في القرآن هي: 1 ـ التوراة وهي الكتاب الذي أنزله الله على كليمه موسى عليه الصلاة والسلام. قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} 1. 2 ـ الإنجيل الذي أنزله الله على عيسى عليه الصلاة والسلام. قال تعالى: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} 2. 3 ـ الزبور الذي أنزله الله على داود عليه الصلاة والسلام. قال تعالى: {وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً} 3. 4 ـ الصحف التي أنزلها الله على إبراهيم وموسى عليهما الصلاة والسلام والتي أخبر عنها بقوله ـ جل شأنه ـ {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} 4. وقال تعالى: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} 5. فهذه الكتب يجب الإيمان بها على التفصيل. وأما الكتب الأخرى التي نزلت على سائر الرسل، ولم يخبرنا الله ـ تعالى ـ بأسمائها وإنما جاء الخبر في كتاب الله أن لكل نبي أرسله الله رسالة بلغها إلى قومه. قال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ   1- سورة المائدة آية: 44. 2- سورة المائدة آية: 46. 3- سورة الإسراء آية: 55. 4- سورة النجم آية: 36 ـ 37. 5- سورة الأعلى آية: 18 ـ 19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} 1. فالواجب الإيمان بهذه الكتب التي لم تسم إجمالاً، ولا يجوز نسبة كتاب إلى الله ـ جل وعلا ـ لم ينسبه إلى نفسه بالإخبار عنه في القرآن العظيم والسنة المطهرة، كما يجب الإيمان بأن هذه الكتب نزلت من عند الله بالحق والنور والهدى، وتوحيد الله ـ سبحانه ـ في ربوبيته وألوهيته، وأسمائه وصفاته، وما ألصق بها مما يخالف ذلك إنما هو من تحريف البشر الذين يحرفون الكلم عن مواضعه بسب ما علق بقلوبهم من مرض الإلحاد. قال شارح الطحاوية مبيناً كيفية الإيمان بالكتب السابقة "وأما الإيمان بالكتب المنزلة على المرسلين فنؤمن بما سمى الله تعالى منها في كتابه، من التوراة والإنجيل والزبور، ونؤمن بأن لله ـ تعالى ـ سوى ذلك كتباً أنزلها على أنبيائه لا يعرف أسماءها وعددها إلا الله تعالى" اهـ2. وبالجملة فقد بين الكتاب والسنة أن الإيمان بالكتب أحد أركان الإيمان الستة. قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} 3 "فالمؤمنون يؤمنون بأن الله واحد أحد فرد صمد لا إله غيره ولا رب سواه. ويصدقون بجميع الأنبياء والرسل والكتب المنزلة من السماء على عباد الله المرسلين والأنبياء، لا يفرقون بين أحد منهم، فيؤمنون ببعض، ويكفرون ببعض بل الجميع عندهم صادقون بارُّون راشدون مهديون هادون إلى سبيل الخير، وإن كان بعضهم ينسخ شريعة بعض بإذن الله حتى نسخ الجميع بشرع محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين الذي تقوم الساعة على شريعته" اهـ4. وقال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} 5. فجعل الله ـ سبحانه وتعالى ـ الإيمان   1- سورة البقرة آية: 213. 2- شرح الطحاوية ص350. 3- سورة البقرة آية: 285. 4- تفسير ابن كثير 1/608. 5- سورة البقرة آية: 177. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 هو الإيمان بهذه الجملة وسمى من آمن بهذه الجملة مؤمنين1، ومن بينها الإيمان بالكتب. ولقد أوجب الحق ـ سبحانه ـ في كتابه الإيمان بجميع الكتب السماوية قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيداً} 2. إن هذه الآية وحدها كافية في الدلالة على وجوب الإيمان بكتب الله ـ تعالى ـ على وجه العموم وبالقرآن الكريم كتاب رب العالمين على وجه الخصوص وإنها أيضاً لكافية في الدلالة على تحريم التكذيب بها وعدم التصديق بكل ما ورد فيها مما هو وحي الله وكلامه ـ سبحانه وتعالى ـ. وأما دلالة السنة على وجوب الإيمان بالكتب فقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته وهو حديث جبريل وسؤاله للنبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، فقال "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره" 3. "فهذه أصول اتفقت عليها الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم وسلامه ولم يؤمن بها حقيقة الإيمان إلا إتباع الرسل"4 قال الحافظ: عند قوله صلى الله عليه وسلم "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله" ودل الإجمال في الملائكة والكتب والرسل على الإكتفاء بذلك في الإيمان بهم من غير تفصيل، إلا من ثبتت تسميته فيجب الإيمان به على التعيين وهذا الترتيب مطابق للآية {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ ... } الآية5. ومناسبة الترتيب المذكور، وإن كانت الواو لا ترتب بل المراد من التقديم أن الخير والرحمة من الله، ومن أعظم رحمته أن أنزل كتبه إلى عباده والمتلقي لذلك منهم الأنبياء والواسطة بين الله وبينهم الملائكة"اهـ6.   1- شرح الطحاوية ص332. 2- سورة النساء آية: 136. 3- صحيح البخاري 1/18، صحيح مسلم 1/36 ـ 37. 4- شرح الطحاوية ص333. 5- سورة البقرة آية: 285. 6- الفتح 1/118. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 ولا يفوتنا أن نقول هنا: "إنه وإن كان الإيمان بالكتب المنزلة على الأنبياء السابقين قبل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم واجباً إلا أنه لا يجوز الأخذ بما في أيدي اليهود والنصارى لأنهم قد حرفوا كتب الله المنزلة على أنبيائهم وذمهم الله على ذلك وتوعدهم وزجرهم"1. ومما تقدم يتبين أن الإنسان مطالب بالإيمان بالكتب السماوية السابقة من حيث إنها نزلت من عند الله تعالى، وأن الانقياد لها والحكم بها كان فرضاً على الأمم التي نزلت إليها تلك الكتب، كما يجب الإيمان بأن تلك الكتب السماوية يصدق بعضها بعضاً كما قال تعالى في شأن الإنجيل: {وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ} 2 كما يجب على الإنسان أن يؤمن بأن من الشرائع اللاحقة ما هو ناسخ للشرائع السابقة إما جزئياً أو كلياً. قال تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام بأنه كان من المؤمنين بالتوراة وناسخاً لبعضها: {وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} 3. قال ابن كثير حول هذه الآية: "فيه دلالة على أن عيسى عليه السلام نسخ بعض شريعة التوراة وهو الصحيح من القولين"4. وقد بين تعالى أن القرآن نسخ ما في التوراة والإنجيل، قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} 5.   1- انظر المنهاج في شعب الإيمان للحليمي 1/322 ـ 323. 2- سورة المائدة آية: 46. 3- سورة آل عمران آية: 50. 4- تفسير القرآن العظيم 2/40. 5- سورة الأعراف آية: 157. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 المبحث الثاني: كيفية الإيمان بالقرآن تقد معنا فيما سبق أنه يجب على المرء أن يؤمن بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود، وأن الله تكلم به حقيقة، وأن هذا القرآن الذي أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم كلامه تعالى حقيقة لا كلام غيره. إلا أنه يجب مع هذا الإيمان الإيمان بأنه آخر الكتب السماوية، وأنه مهيمن عليها وقد خصه الله بمزية الحفظ من التغيير والتبديل والتحريف، ويجب على كل شخص أن يقر بما فيه، ويتبعه ويتمسك به ظاهراً وباطناً، وأن يقوم بحقه. قال شارح الطحاوية: "وأما الإيمان بالقرآن، فالإقرار به، واتباع ما فيه وذلك أمر زائد على الإيمان بغيره من الكتب"1 وقد تميز القرآن الكريم عما سبقه من الكتب المنزلة بمزايا من أهمها: 1ـ "أنه جمع التعاليم الربانية، وجاء مؤيداً لما جاء في تلك الكتب السابقة من توحيد الله ـ عز وجل ـ وعبادته، ووجوب طاعته وجمع كل ما كان مفرقاً في تلك الكتب من المحاسن والفضائل وجاء مهيمناً عليها ورقيباً يقر ما فيها من حق، ويبين ما دخل فيها من التحريف والتغيير. قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} 2 فقد جاء بشريعة عامة لبني الإنسان فيها كل ما يحتاجون إليه، وما يلزمهم لسعادتهم في الدنيا والآخرة، ونسخ الله به جميع الشرائع العملية الخاصة بالأمم السابقة، وأثبت الأحكام النهائية الخالدة التي تصلح لكل زمان ومكان.   1- شرح الطحاوية ص350. 2- سورة المائدة آية: 48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 فمعنى قوله تعالى في الآية السابقة {وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} أي: مؤتمناً وشاهداً على ما قبله من الكتب، ومصدقاً لها يعني: يصدق ما فيها من الصحيح وينفي ما فيها من التحريف، والتبديل والتغيير ويحكم عليها بالنسخ أو التقرير"1. 2ـ أن القرآن الكريم هو الكتاب الإلهي الوحيد الذي ضمن الله حفظه وصانه من عبث البشر. قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 2 وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} 3 قال ابن كثير عند قوله تعالى {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} "ثم قرر تعالى أنه هو الذي أنزل عليه الذكر وهو القرآن وهو الحافظ له من التغيير والتبديل"اهـ4. "فمن أجاز أن يتمكن أحد من زيادة شيء في القرآن، أو نقصانه منه، أو تحريفه، أو تبديله، فقد كذب على الله تعالى في خبره، وأجاز وقوع الخلف فيه وذلك كفر ... فصح أن من تمام الإيمان الإعتراف بأن جميعه هذا، المتوارث خلفاً عن سلف لا زيادة فيه ولا نقصان"5. ومزية الحفظ هذه للقرآن الكريم متفرعة عن مزية أخرى وهي أن هذا الكتاب العظيم أنزله الله للبشرية جمعاء وليس خاصاً بأمة معينة، أو قوم معينين كما كان الحال في الكتب السابقة وكان حفظه من التحريف والتغيير والتبديل الذي يحصل من البشر العابثين لكي يبقى ما تضمنه حجة قائمة على الناس إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. أما الكتب السماوية الأخرى، فكانت تنزل ويوجه الكلام الذي تتضمنه إلى أمم مخصوصة دون سائر الأمم وإن اتفقت في أصل الدين إلا أن أحكامها وشرائعها خصت بأزمنة معينة، وأقوام معينين قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} 6. قال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قوله: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} يقول: سبيلاً وسنة، والسنن مختلفة، هي في التوراة شريعة، وفي الإنجيل شريعة، وفي الفرقان   1- انظر جامع البيان 6/266 وما بعدها، تفسير القرآن العظيم 2/586 ـ 587، فتح القدير 2/47 ـ 48. 2- سورة الحجر آية: 9. 3- سورة فصلت آية: 41 ـ 42. 4- تفسير القرآن العظيم 4/154. 5- كتاب المنهاج في شعب الإيمان للحليمي 1/320. 6- سورة المائدة آية: 48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 شريعة يحل الله فيها ما يشاء ويحرم ما يشاء ليعلم من يطيعه ممن يعصيه والدين الذي لا يقبل الله غيره التوحيد والإخلاص لله الذي جاءت به جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام1. وتلك الشرائع التي سبقت القرآن لم يضمن الله حفظها على مدى الأزمان كما هو الشأن في القرآن، بل أخبرنا ـ سبحانه ـ بما طرأ على تلك الكتب من التحريف. فعن تحريف اليهود وتغييرهم الذي أدخلوه في التوراة. قال تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 2 وقال تعالى: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} 3. وأما عن تحريف النصارى الذي أدخلوه على الإنجيل فقد قال تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ * يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} 4. ومن التحريفات الباطلة التي أحدثها اليهود والنصارى في دينهم ما زعمه اليهود في العزير من أنه ابن الله وما زعمه النصارى في المسيح أنه ابن الله تعالى الله عن قولهم جميعاً علواً كبيراً. ولقد ذكر الله في القرآن هذا الانحراف وأكذبهم فيه ولعنهم عليه. قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} 5. وقد بين الله تعالى فساد هذا المعتقد ونزه نفسه عنه فقال تعالى: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ * اللهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} 6.   1- تفسير ابن كثير 2/586. 2- سورة البقرة آية: 75. 3- سورة النساء آية: 46. 4- سورة المائدة آية: 14 ـ 15. 5- سورة التوبة آية: 30. 6- سورة الإخلاص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 وأخبر ـ سبحانه ـ بأن الرسل جميعهم بشر اختصهم الله بالوحي ومنحهم من الكمال ما يجعلهم أهلاً لتلقي الوحي وتبليغه لغيرهم من الخلق قال تعالى مخاطباً رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} 1. ومن تحريف النصارى الذين جنوه على دينهم زعم بعضهم بأن عيسى إله قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} 2 وقول بعضهم بالتثليث. قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ} 3. فقد بين القرآن الكريم أن هذا تحريف منهم للعقيدة الصحيحة كما بين الاعتقاد الصحيح في عيسى عليه السلام وأمه. قال تعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ. انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} 4. والحق الذي لا يقبل الجدال ولا النزاع أنه لا يوجد على وجه الدنيا بأسرها كتاب تصح نسبته إلى الخالق ـ جل وعلا ـ سوى القرآن الكريم وهذه حقيقة لا يماري فيها عاقل يدل على صحة هذه الحقيقة أدلة حسية إضافة إلى ما أخبر به القرآن الكريم من التحريف والواقع في الكتب التي يدعي اليهود والنصارى نسبتها إلى موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام ومن هذه الأدلة: 1ـ أن الكتب التي أنزلها الله قبل القرآن قد فقدت نسخها الأصلية، ولم يبق في أيدي الناس إلا تراجمها. أما القرآن فإنه ما زال محفوظاً، سوره وآياته وكلماته وحركاته كما ألقاه جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم، وكما بلغه المصطفى صلى الله عليه وسلم لصحابته الراشدين رضوان الله عليهم أجمعين. 2ـ أن تلك الكتب قد اختلط فيها كلام الله تعالى بكلام البشر من سير الأنبياء   1- سورة الكهف آية: 110. 2- سورة المائدة آية: 72. 3- سورة المائدة آية: 73. 4- سورة المائدة آية: 75. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 وتاريخهم وذكر تلاميذهم، واستنباطات علمائهم حتى أصبح كلام الله فيها لا يميز من كلام الأحبار والرهبان أما القرآن الكريم فإنه جميعه كلام الباري ـ سبحانه ـ ولم يختلط غيره من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أقوال الصحابة أو غيرهم1. جاء في كتاب "الوفاء بأحوال المصطفى" قال أبو الوفاء علي بن عقيل: "إذا أردت أن تعلم أن القرآن ليس من قول رسول صلى الله عليه وسلم وإنما هو ملقى عليه، فانظر إلى كلامه كيف يمتاز عن القرآن، وتلمح ما بين الكلامين والأسلوبين ومعلوم أن كلام الإنسان يتشابه، وما للنبي صلى الله عليه وسلم كلمة تشاكل القرآن" وقال أيضاً: "ومن إعجاز القرآن أنه لا يمكن أحد أن يستخرج منه آية قد أخذ معناها من كلام قد سبق فإنه ما زال الناس يكشف بعضهم عن بعض، فيقال مثلاً: المتنبي أخذ من البحتري"2. 3 ـ "إن تلك الكتب المنزلة على الأنبياء السابقين ليس فيها كتاب تصح نسبته إلى الرسول الذي ينسب إليه فليس لأي كتاب منها سند صحيح متصل إلى ذلك النبي حتى يوثق بنسبته إليه فالأسفار الموجودة التي تسمى بالعهد القديم، ويطلقون عليها اسم "التوراة" إنما كان تدوينها بعد موسى عليه الصلاة والسلام وأما القرآن الكريم فهو الكتاب الوحيد الذي ثبتت نسبته بصورة قطعية إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقد نقل إلينا هذا القرآن بسوره وآياته وطريقة ترتيبها، وكيفية تلاوته، إلى كل عصر جاء بعد عصر نزوله بالتواتر بحيث لا يشك في أن القرآن الذي نتلوه هو الذي نزله الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم"3. 4 ـ "من الأدلة على وقوع التحريف في تلك الكتب كثرة نسخها وتعددها واختلافها فيما اشتملت عليه من أقوال وآراء"4.   1- انظر مبادئ الإسلام للمودودي ص91. 2- الوفاة بأحوال المصطفى لابن الجوزي 1/270. 3- انظر مبادئ الإسلام للمودودي ص91 ـ 92. 4- قال السيد سابق: "ويكفي لصحة التدليل على التحريف في الأناجيل المتداولة بأيدي النصارى الآن ـ أنها أربعة اختيرت من نحو سبعين إنجيلاً وهذه الأناجيل تناولت الكتابة عن سيرة عيسى عليه السلام ومؤلفوها معروفون وأسماؤهم مكتوبة عليها وقد قرر نقاد المسيحيين أنفسهم أن عقائد الأناجيل هي رأي بولس دون سائر الحواريين، ودون أقرب الأقربين إلى عيسى وقد وجد في مكتبة أمير من الأمراء في باريس نسخة من إنجيل "برنابا" وقد طبعته "مطبعة المنار" بعد ترجمته إلى العربية وهو يخالف الأناجيل الأربعة، مخالفة كبيرة" اهـ. انظر "العقائد الإسلامية" ص168. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 5 ـ ومن القرائن القوية القاطعة على وقوع التحريف في هذه الكتب ما تضمنته من العقائد الباطلة، والتصورات الفاسدة عن ـ الباري جل وعلا ـ وعن رسله وأنبيائه عليهم الصلاة والسلام فإنه يوجد فيها تشبيه الخالق بالمخلوق، والطعن في الأنبياء بما يمس كرامتهم ويتنافى مع عصمتهم1 وذلك من أعظم الأدلة وأقواها على أن ذلك من وضع البشر الذين اتبعوا أهواءهم وعبدوا شياطينهم. والذي نخلص إليه مما تقدم أن الإيمان بالكتب السماوية الإلهية أحد أركان الإيمان التي بنيت عليها العقيدة الإسلامية، فلا إسلام صحيح ولا إيمان ثابت لأحد حتى يؤمن الإيمان الجازم بأنها نزلت من عند الله، وأنها كلامه تكلم بها حقيقة على ما يليق بجلاله، ويزاد في القرآن الكريم على ذلك أنه خاتمة الكتب والمهيمن عليها، والمعجزة الخالدة، وأن كل لفظ فيه محفوظ، ويجب الإقرار بما فيه، وإتباع أمره، واجتناب نهيه، وتصديق خبره، ورفض كل ما يخالفه، ويخالف سنة النبي صلى الله عليه وسلم كما قال عليه الصلاة والسلام: "والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار" 2.   1- من ذلك ما جاء في التوراة المتداولة عندهم فإنه قد جاء في سفر التكوين "وقال الرب الإله هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفاً بالخير والشر" وفيه أيضاً: "فحزن الرب أنه عمل الإنسان وتأسف في قلبه" ومما جاء فيه "مما يمس شرف الأنبياء وينافى مع عصمتهم ما قالوه عن إبراهيم عليه السلام إنه كذاب وأن لوطاً زنى بابنتيه" وفي سفر الخروج: "زعموا أن هارون دعا الإسرائيليين إلى عبادة العجل" وفي سفر صموئيل الثاني: زعموا أن داود زنا" وفي سفر الملوك الأول: "زعموا أن سليمان عبد الأصنام إرضاء لبعض نسائه" انظر هذه التحريفات الفاسدة في "العهد القديم" من "الكتاب المقدس" ص7 وص10 وص29 وص140 وص498 وص553 ـ 554. وهذه المفتريات من أقوى الأدلة وأظهرها على التحريف الذي غيروا به كتب الله المنزلة على أنبيائهم. 2- رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه 1/134. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 الفصل الثالث: دلالة السورة على وجوب الإيمان بالأنبياء والرسل المبحث الأول: تعريف النبي والرسول والفرق بينهما ... المبحث الأول: تعريف النبي والرسول والفرق بينهما أولاً ـ تعريف النبي والرسول: النبي في اللغة: مشتق النبأ وهو الخبر قال تعالى: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ} 1 وإنما سمي النبي نبياً لأنه مخبر، فهو مخبر بمعنى أن الله أخبره وأوحى إليه قال تعالى: {قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} 2 وبمعنى كونه مخبراً فهو يخبر عن الله تعالى بأمره ووحيه قال تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} 3. وقيل: "إن النبوة مشتقة من "النبوة" وهي المكان المرتفع من الأرض، وتطلق العرب لفظ النبي على علم من أعلام الأرض التي يهتدي بها، والرابط بين لفظ النبي والمعنى اللغوي واضح ذلك أن النبي ذو رفعة وقدر عظيم في الدنيا والآخرة، فالأنبياء كما هو معلوم أشرف خلق الله وهم الأعلام التي يهتدي بها العباد فيما يكون فيه صلاح دينهم ودنياهم"4. تعريف النبي في الإصطلاح النبي في الإصطلاح: هو الذي ينبئه الله بأن يعمل بشريعة من قبله ولم يرسل إلى كفار خالفوا أمر الله ليبلغهم رسالة من الله إليهم وقد يوحى إليه وحي خاص في قصة معينة فالأنبياء يأتيهم وحي من الله بما يفعلونه ويأمرون به المؤمنين بهم"5.   1- سورة النبأ آية: 1 ـ 2. 2- سورة التحريم آية: 3. 3- سورة الحجر آية: 49. 4- الصحاح للجوهري 6/2500، لسان العرب 15/302، المصباح المنير 2/591. 5- كتاب النبوات لشيخ الإسلام ابن تيمية ص255، 256 طبع دار القلم بيروت ـ لبنان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 وأما تعريف الرسول في اللغة: فالإرسال في اللغة: هو التوجيه1 فإذا بعثت شخصاً في القيام بمهمة ما فهو رسولك قال تعالى حكاية عن ملكة سبأ {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} 2. فالرسل: إنما سموا بذلك لأنهم وجهوا من قبل ـ الباري جل وعلا ـ قال تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَاً} 3 قال ابن عباس: "يتبع بعضهم بعضاً" اهـ4. فالله تعالى بعث رسله برسالة معينة وكلفهم بحملها وأمرهم بتبليغها إلى الناس. تعريف الرسول في الإصطلاح: الرسول في الإصطلاح: "هو الذي ينبئه الله، ثم يأمره بأن يبلغ رسالته من خالف أمره كنوح فقد ثبت في الصحيح أنه أول رسول بعث إلى أهل الأرض وقد كان قبله أنبياء كشيث وإدريس وقبلهما آدم كان نبياً مكلماً"5. ثانياً ـ الفرق بين النبي والرسول: لا يصحُ قول من يقول أنه لا فرق بين النبي والرسول، إذ القرآن شاهد بعدم صحة هذا القول حيث ورد في كتاب الله العزيز عطف النبي على الرسول قال ـ تعالى ـ {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} 6. وأيضاً وصف الله ـ تعالى ـ بعض الرسل بالنبوة والرسالة وهذا يدل على أن الرسالة أمر زائد على النبوة كقوله ـ تعالى ـ في شأن موسى عليه الصلاة والسلام: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً} 7. والذي شاع عند أهل العلم أن الرسول أعم من النبي: قال شارح الطحاوية بعد أن   1- لسان العرب 11/283، وانظر الصحاح للجوهري 4/1709، المصباح المنير 1/226. 2- سورة النمل آية: 35. 3- سورة المؤمنون آية: 44. 4- تفسير ابن كثير 5/20. 5- النبوات لشيخ الإسلام ابن تيمية ص255. 6- سورة الحج آية: 52. 7- سورة مريم آية: 51. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 ذكر الفرق بين النبي والرسول: "ولكن الرسالة أعم من جهة نفسها فالنبوة جزء من الرسالة إذ الرسالة تتناول النبوة وغيرها بخلاف الرسل، فإنهم لا يتناولون الأنبياء وغيرهم بل الأمر بالعكس، فالرسالة أعم من جهة نفسها، وأخص من جهة أهلها" أ. هـ1. وجاء في لوامع الأنوار البهية في تعريفه للنبي قال: "وهو إنسان أوحي إليه بشرع وإن لم يؤمر بتبليغه فإن أمر بتبليغه فهو رسول أيضاً على المشهور فبين النبي والرسول عموم وخصوص مطلق، فكل رسول نبي، وليس كل نبي رسولاً، والرسول أفضل من النبي إجماعاً لتميزه بالرسالة التي هي أفضل من النبوة على الأصح" أ. هـ2. وما ذكره شارح الطحاوية وصاحب لوامع الأنوار فيه بعد لأمرين: الأمر الأول: أن الله ـ تعالى ـ أخبر بأنه أرسل الأنبياء كما أرسل الرسل قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ} 3. ولو كان الفرق بينهما إنما هو الأمر بالبلاغ فالإرسال يقتضي من النبي أن يبلغ ما أنزل الله إليه من الوحي. الأمر الثاني: روى مسلم في صحيحه من حديث ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عرضت علي الأمم فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد ... " الحديث4 فهذا الحديث دل على أن الأنبياء أمرهم الله بتبليغ ما أوحاه إليهم وأنه حصل بينهم تفاوت في الإستجابة لهم من قبل أممهم. والتعريف الراجح هو ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، حيث قال: "فالنبي هو الذي ينبئه الله وهو ينبئ بما أنبأ الله به فإن أرسل مع ذلك إلى من خالف أمر الله ليبلغه رسالة من الله إليه فهو رسول. "وأما إذا كان إنما يعمل بالشريعة قبله، ولم يرسل هو إلى أحد يبلغه عن الله رسالة فهو نبي وليس برسول" أ. هـ5.   1- شرح الطحاوية ص167. 2- 1/49 ـ 50. 3- سورة الحج آية: 52. 4- 1/199 . 5- النبوات ص255 وانظر تفسير الألوسي 17/173. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 ومما يؤكد هذا أن بني إسرائيل كانت تسوسهم الأنبياء كلما توفي نبي بعث الله بعده نبياً آخر بذلك كما أخبر بذلك الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام1. وأنبياء بني إسرائيل من بعد موسى كانوا يحكمون بالتوراة قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} 2. وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُوا ... } الآية3. فالآيتان دلتا على أن النبي يوحى إليه شيء من السماء ويوجب على قومه أمراً، وهذا لا يحصل إلا بعد أن يجب عليه التبليغ.   1- انظر صحيح البخاري مع الفتح 6/495. 2- سورة المائدة آية: 44. 3- سورة البقرة آية: 246. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 المبحث الثاني: كيفية الإيمان بالأنبياء السابقين قبل أن نبين كيفية الإيمان بالأنبياء والمرسلين السابقين الذين بعثهم الله إلى أممهم قبل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم نذكر الآيات التي جاءت في سورة "الزمر" التي دلت على وجوب الإيمان بالأنبياء والمرسلين مع بيان وجه دلالتها على ذلك. قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} . وقال تعالى: {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ} . وقال تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} . فهذه الآيات الثلاث من السورة دلت على أن الله تعالى أرسل رسلاً وأنبياء إلى جميع خلقه ليبلغوهم عن ربهم ما أوحاه إليهم من النور والهدى الذي يسعدهم في دنياهم وأخراهم فيجب الإيمان بهم ووجه دلالة الآيات الثلاث على وجوب الإيمان بهم تتضح بما يلي: فالآية الأولى: هي قوله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} فيها الإخبار المؤكد من الله ـ تعالى ـ بأنه أوحى إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وإلى من سبقه من إخوانه الأنبياء والمرسلين بخطورة الشرك وأنه محبط، ومبطل لكل أعمال العبد متى تلبس به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 وأما الآية الثانية: وهي قوله تعالى: {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ ... } الآية. ففيها الإخبار من الله ـ تعالى ـ بأن أرض المحشر ستضيء بنوره إذا تجلى لفصل القضاء بين الخلائق ويوضع كتاب الأعمال ويؤتى بالنبيين ليشهدوا على أممهم بأنهم بلغوهم رسالات الله ـ تعالى ـ لإقامة الحجة على المنكرين والمكذبين من الأمم. قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ} قال: "يشهدون على الأمم بأنهم بلغوهم رسالات الله"1. وأما الآية الثالثة: وهي قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ} الآية ففيها إخبار من المولى ـ جل وعلا ـ بأن خزنة جهنم من ضمن توبيخهم لأصناف الكفار الداخلين جهنم توبيخهم لهم بقولهم: ألم تجئكم رسل من جنسكم يمكنكم مخاطبتهم والأخذ عنهم وأقاموا عليكم الحجج والبراهين على صحة ما دعوكم إليه وحذروكم شر هذا اليوم؟ فيكون الجواب منهم بأن الرسل جاؤوهم وأنذروهم وأقاموا عليهم الحجج والبراهين ولكنهم كذبوهم كما قال تعالى: {قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ} 2 فهذه الآيات الثلاث المتقدمة من السورة دلت على وجوب الإيمان بالأنبياء والرسل ومعنى الإيمان بالأنبياء والرسل الإعتقاد الجازم بأن الله ـ جل وعلا ـ أرسل رسلاً من البشر ليرشدوا الخلق إلى ما يهمهم في معاشهم ومعادهم فقد اقتضت حكمة الحكيم العليم أن لا يترك خلقه سدى، بل أرسل إليهم رسلاً مبشرين بثوابه ومنذرين عقابه، وقد قاموا بتبليغ ما أمرهم الله بتبليغه من تنزيه لذاته وتبيين لأحكامه من أوامر ونواهي فيجب على كل مسلم ومسلمة أن يعتقد وجوب تصديقهم في أنهم يبلغون ذلك عن الله ـ تعالى ـ. ويعتقد وجوب اقتداء أممهم بهم في سيرهم، وأن يأتمروا بما أمروا به ويكفوا عما نهوا عنه. وأن يعتقد بأنهم مؤيدون بالمعجزات الإلهية الدالة على صدق دعواهم أنهم أنبياء الله ورسله.   1- جامع البيان 24/33، تفسير ابن كثير 6/11. 2- سورة الملك آية: 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 أما كيفية الإيمان بالأنبياء والمرسلين: فيجب الإيمان على التفصيل بمن سمى الله ـ تعالى ـ في كتابه من رسله وأنبيائه ويجب الإيمان إجمالاً بمن لم يسم الله ـ تعالى ـ منهم فإن لله رسلاً وأنبياء لا يعلم عددهم وأسماءهم إلا هو ـ تعالى ـ. قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} 1 وقال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} 2 وقال ـ عز شأنه ـ {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ} 3 والذين ورد ذكرهم في القرآن الكريم من الأنبياء والمرسلين خمسة وعشرون هم: آدم، ونوح، وإدريس، وصالح، وإبراهيم، وهود، ولوط، ويونس، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، ويوسف، وأيوب، وشعيب، وموسى، وهارون، واليسع، وذو الكفل، وداود، وزكريا، وسليمان، وإلياس، ويحيى، وعيسى، ومحمد صلوات الله عليهم أجمعين. وقد ورد ثمانية عشر منهم في قوله تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} 4. وورد ذكر الباقين في مواضع متفرقة من القرآن الكريم قال تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً} 5 وقال تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً} 6 وقال تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً} 7 وقال تعالى: {إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً} 8 وقال تعالى:   1- سورة غافر آية: 78. 2- سورة فاطر آية: 24. 3- سورة يونس آية: 47. 4- سورة الأنعام آية: 83 ـ86. 5- سورة الأعراف آية: 65. 6- سورة الأعراف آية: 73. 7- سورة الأعراف آية: 85. 8- سورة آل عمران آية: 33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ} 1 وقال ـ عز وجل ـ {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} 2 فهؤلاء الأنبياء والرسل يجب الإيمان بهم إيماناً تفصيلياً بحيث لو عرض على إنسان واحد منهم لم ينكر نبوته ولا رسالته إذ من أنكر نبوة واحد منهم أو رسالته فهو كافر بالله العظيم، أما الأنبياء الذين لم يقصصهم الله علينا فالواجب علينا الإيمان بهم إجمالاً. وليس لأحد أن يقول بنبوة أحد أو رسالته طالما أن القرآن لم يذكره في عداد من ورد ذكرهم من الأنبياء والمرسلين ولم يأتنا الإخبار بنبوته عن طريق الرسول صلى الله عليه وسلم. أولو العزم من الرسل: ذكر كثير من العلماء أن أولي العزم من الرسل عددهم خمسة 3 وهم: محمد صلى الله عليه وسلم وإبراهيم، وموسى، ونوح وعيسى عليهم أفضل الصلاة والسلام وهؤلاء الرسل جمعهم الله في آيتين من كتابه، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} 4. وقال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} 5.   1 - سورة الأنبياء آية: 85. 2- سورة الفتح آية: 29. 3- جامع البيان 26/37، تفسير ابن كثير 6/307. 4 - سورة الأحزاب آية: 7. 5 - سورة الشورى آية: 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 المبحث الثالث: كيفية الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم قال شارح الطحاوية رحمه الله تعالى: "وأما الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم فتصديقه واتباع ما جاء به من الشرائع إجمالاً وتفصيلاً" أ. هـ1. فيجب علينا أن نؤمن بأن محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم نبي الله ورسوله وعبده وصفيه فلم يعبد صنماً ولم يشرك بالله طرفة عين2. وقال ابن قدامة رحمه الله تعالى: "ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وسيد المرسلين لا يصح إيمان عبد حتى يؤمن برسالته ويشهد بنبوته ولا يقضي بين الناس في يوم القيامة إلا بشفاعته، ولا تدخل الجنة أمة إلا بعد دخول أمته، صاحب لواء الحمد والمقام المحمود والحوض المورود وهو إمام النبيين وخطيبهم وصاحب شفاعتهم، أمته خير الأمم"3. فيجب على الإنسان أن يؤمن بأنه خاتم الأنبياء لقوله ـ تعالى ـ {وَلَكِنْ رَسُولَ الله وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} 4 فالآية نصت على أنه لا نبوة بعده صلى الله عليه وسلم وكل من ادعاها بعده فهو كذاب لقوله صلى الله عليه وسلم: "وأنه سيكون في أمتي ثلاثون كذابون كلهم يزعم أنه نبي وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي" 5.   1- ص349. 2- الفقه الأكبر مع شرحه لملا على القاري ص96. 3- لمعة الاعتقاد ص25. 4- سورة الأحزاب آية: 40. 5- صحيح مسلم 4/2240، سنن أبي داود 2/414، سنن الترمذي 3/338، المسند 5/41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 كذلك يجب الإعتقاد الجازم بأنه عليه الصلاة والسلام إمام المتقين الذي يقتدى به في الخير كله وأنه وحده الجدير بأن يقتدى ويتأسى به دون سواه. قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ} 1. ويجب الإيمان بأنه خليل الرحمن، وأن له أعلى مراتب محبة الله ـ عز وجل ـ فقد قال عليه الصلاة والسلام "لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكنه أخي وصاحبي وقد اتخذ الله عز وجل صاحبكم خليلاً"2. ويجب الاعتقاد الجازم بأنه عليه الصلاة السلام مبعوث إلى عامة الورى بالحق والهدى قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} 3 وقد حكى الله عن الجن أنهم قالوا: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} 4 قال شارح الطحاوية: "وكونه صلى الله عليه وسلم مبعوثاً إلى الناس كافة معلوم من دين الإسلام بالضرورة"أ. هـ5. ويجب على كل مسلم أن يقدم محبته عليه الصلاة والسلام على الوالد والولد والنفس لقوله صلى الله عليه وسلم "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين" 6. ويجب الإيمان بأن الله ـ تعالى ـ أجرى على يديه صلى الله عليه وسلم معجزات باهرات، وآيات بينات إذا تأملها من يريد الحق دلته على أنها شهادة صادقة من قبل الله ـ عز وجل ـ لرسوله صلى الله عليه وسلم بأنه رسول الله حقاً. ومعجزاته صلى الله عليه وسلم كثيرة جداً ألفت فيها مؤلفات مستقلة، وتناولها علماء التوحيد والتفسير، والحديث والتاريخ، بالشرح والبيان، ومن تلك المعجزات التي دلت على صدقه صلى الله عليه وسلم ما يأتي: 1ـ المعجزة العظمى: من أعظم المعجزات التي أعطيها رسولنا صلى الله عليه وسلم ـ القرآن الكريم ـ الذي يخاطب النفوس والعقول، وهو الآية الباقية الدائمة إلى يوم الدين لا يعتريه التغيير والتبديل {وَإِنَّهُ   1- سورة آل عمران آية:31. 2- صحيح مسلم بشرح النووي 15/152 من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. 3- سورة سبأ آية:28. 4- سورة الأحقاف آية:31. 5- شرح الطحاوية ص178. 6- صحيح البخاري 1/12، صحيح مسلم 1/67 من حديث أنس رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} 1. وقد تحدى الله بهذا الكتاب أرباب الفصاحة، وقادة البلاغة من العرب، فقد كانت البلاغة والفصاحة وجودة القول هي بضاعتهم وقد تصدوا لمعاداة دعوة الإسلام ورسول الإسلام صلى الله عليه وسلم ولكن رغم فصاحتهم وبلاغتهم تحداهم الله عن أن يأتوا بشيء من مثله، ولكنهم عجزوا عن ذلك قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} 2. 2ـ انشقاق القمر: ومن المعجزات التي أيد الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم انشقاق القمر فقد سأل أهل مكة الرسول عليه الصلاة والسلام آية فانشق القمر شقين حتى رأوا حراء بينهما، وقد كان القمر حين انشقاقه بدراً، وقد ذكر الله هذه الآية العظيمة في كتابه فقال عز وجل: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} 3. وقد نقل العلامة ابن كثير: "إجماع المسلمين على وقوع هذه الآية، كما ذكر أنه قد وردت أحاديث متواترة من طرق متعددة في انشقاق القمر"4. وقد شاهد هذه المعجزة الناس في أرجاء الجزيرة العربية، فإن أهل مكة لم يصدقوا وقالوا: سحرنا محمد، ولكنهم استدركوا قائلين: انظروا ما يأتيكم به المسافرون فإن محمداً لا يستطيع أن يسحر الناس جميعهم وفي اليوم الثاني سألوا من وفد إليهم، من خارج مكة، فأخبروهم أنهم قد رأوه. وقد شاهد الناس انشقاق القمر في خارج جزيرة العرب. قال ابن كثير: "وشوهد انشقاقه في كثير من بقاع الأرض، ويقال إنه أرخ ذلك في بعض بلاد الهند، وبني بناء في تلك الليلة وأرخ بليلة انشقاق القمر"5.   1- سورة فصلت آية:41 ـ 42. 2- سورة البقرة آية:23 ـ 24. 3- سورة القمر آية:1 ـ 2. 4- البداية والنهاية /130. 5- البداية والنهاية 3/132. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 3ـ تسليم الحجر: ومن المعجزات التي أيد الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم أنه كان حجر بمكة يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعثته. فقد روى مسلم بإسناده إلى جابر بن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن" 1. 4ـ حنين الجذع: جاء في صحيح البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إلى جذع فلما اتخذ المنبر تحول إليه فحن الجذع فأتاه فمسح يده عليه. وفي رواية أخرى عنه: فلما صنع له المنبر فكان عليه فسمعنا لذلك الجذع صوتاً كصوت العشار2. 5ـ نبع الماء من بين أصابعه: وفي صحيح البخاري من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: عطش الناس يوم الحديبية والنبي صلى الله عليه وسلم بين يديه ركوة ـ ظرف للماء ـ فتوضأ فجهش الناس3 نحوه فقال: "مالكم؟ " قالوا: ليس عندنا ما نتوضأ ولا نشرب إلا ما بين يديك فوضع يده في الركوة فجعل الماء يثور بين أصابعه كأمثال العيون وتوضأنا قلت: كم كنتم؟ قال: لو كنا مائة ألف لكفانا كنا خمس عشرة مائة" 4. 6ـ تكثير القليل من الطعام: من ذلك ما رواه أنس بن مال قال: قال أبو طلحة لأم سليم: لقد سمعت صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفاً أعرف فيه الجوع، فهل عندك من شيء؟ قالت: نعم فأخرجت أقراصاً من شعير، ثم أخرجت خماراً لها فلفت الخبز ببعضه ثم دسته تحت يدي ولاثتني5   1- صحيح مسلم 4/1782. 2- صحيح البخاري مع "الفتح" 6/601 ـ 602. 3- فجهش الناس: أي: أسرعوا لأخذ الماء. 4- صحيح البخاري مع الفتح 6/581. 5- المراد أنها لفت بعضه على رأسه، وبعضه على إبطه "الفتح" 6/589. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 ببعضه، ثم أرسلتني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فذهبت به فوجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ومعه الناس فقمت عليهم فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "آرسلك أبو طلحة؟ " فقلت: نعم. قال: "بطعام؟ " قلت: نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن معه: "قوموا" فانطلق وانطلقت بين أيديهم حتى جئت أبا طلحة فأخبرته فقال أبو طلحة: يا أم سليم قد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس وليس عندنا ما نطعمهم فقالت: الله ورسوله أعلم، فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو طلحة معه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هلمي يا أم سليم ما عندك؟ فأتت بذلك الخبز فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ففت وعصرت أم سليم عكة1 فأدمته ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ما شاء أن يقول: ثم قال: "إئذن لعشرة" فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا، ثم قال: "إئذن لعشرة" فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا، ثم قال: "إئذن لعشرة" فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا، ثم قال: "إئذن لعشرة" فأكل القوم كلهم حتى شبعوا والقوم سبعون رجلاً، أو ثمانون رجلاً2. 7ـ نطق ذراع الشاة الذي قدم له ليأكله بأنه مسموم: روى أبو داود بإسناده إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه كان يحدث أن يهودية من أهل خيبر سمت شاة مصلية3 ثم أهدتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الذراع فأكل منها، وأكل رهط من أصحابه معه، ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ارفعوا أيديكم" وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المرأة فدعاها فقال لها: "أسممت هذه الشاة؟ " قالت اليهودية: من أخبرك؟ قال: "أخبرتني هذه التي في يدي" وهي الذراع قالت نعم قال: "فما أردت بذلك؟ " قالت: إن كنت نبياً فلن تضرك، وإن لم تكن نبياً استرحنا منك فعفا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعاقبها ... الحديث. وفي رواية أخرى: عن أبي سلمة: "فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلت" 4. 8ـ كف الأعداء عنه: من ذلك أن أبا جهل حلف باللات والعزى أنه لو رأى الرسول صلى الله عليه وسلم يصلي في   1- العكة: إناء من جلد مستدير يجعل فيه السمن غالباً والعسل. انظر الفتح 6/590. 2- صحيح البخاري مع الفتح 6/586 ـ 587. 3- أي: مشوية. 4- سنن أبي داود 2/ 482، وانظر صحيح البخاري مع الفتح 5/230. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 المسجد حيث مجامع قريش أن يطأ على رقبته، أو ليعفرن وجهه في التراب فلما رأى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ساجداً أراد أن يفعل ما أقسم عليه، فلما اقترب منه ما فاجأهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه، ويتقي بيديه، فقيل له: ما لك؟ فقال: إن بيني وبينه لخندقاً من نار وهولاً وأجنحة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضواً عضواً" 1. وفي معركة حنين انهزم المسلمون وثبت الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة وأحاط الأعداء وأتوه من كل جانب فلما رأى ذلك عليه الصلاة والسلام نزل عن بغلته، ثم قبض قبضة من تراب من الأرض، ثم استقبل به وجوههم فقال "شاهت الوجوه" قال سلمة بن الأكوع: فما خلق الله منهم إنساناً إلا ملأ الله عينيه تراباً بتلك القبضة فولوا مدبرين،. فهزمهم الله ـ عز وجل ـ وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائمهم بين المسلمين2. 9ـ ما كان من شأن شاة أم معبد حين مسح بيده المباركة على ضرعها: ومضمون هذه القصة أنه عليه الصلاة والسلام عندما خرج مهاجراً إلى المدينة هو وأبو بكر وعامر بن فهيرة ودليلهم عبد الله بن أريقط الليثي فمروا بخيمتي أم معبد3 الخزاعية، وكانت أم معبد امرأة برزة جلدة تحتبي وتجلس بفناء الخيمة فتطعم وتسقي فسألوها هل عندها لحم، أو لبن يشترونه منها؟ فلم يجدوا عندها شيئاً من ذلك، وقالت: لو كان عندي شيء ما أعوزكم القرى، وإذا القوم مرملون مسنتون، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا شاة في كسر خيمتها فقال: "ما هذه الشاة يا أم معبد؟ " فقالت: شاة خلفها الجهد عن الغنم قال: "فهل بها من لبن؟ " قالت: هي أجهد من ذلك، قال: "تأذنين لي أن أحلبها؟ " قالت: إن كان بها حلب فاحلبها، فدعا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالشاة فمسحها وذكر اسم الله ومسح ضرعها، وذكر اسم الله، ودعا بإناء لها يربض الرهط4 فتفاجت5 واجترت، فحلب فيه ثجاً حتى ملأه وأرسله إليها فسقاها وسقى أصحابه فشربوا عللاً بعد نهل حتى إذا رووا شرب   1- صحيح مسلم 4/2154 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. 2- صحيح مسلم 3/1402 من حديث إياس بن سلمة عن أبيه. 3- اسمها: عاتكة بنت خلف بن معبد بن ربيعة بن أصرم "البداية والنهاية 3/209". 4- أي: يشبع الجماعة حتى يربضوا. 5- أي: فرجت بين رجليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 آخرهم وقال: "ساقي القوم آخرهم" ثم حلب فيه ثانياً عوداً على بدء فغادره عندهم ثم ارتحلوا1. 10ـ استجابة الله ـ سبحانه ـ لدعائه عليه الصلاة والسلام: من ذلك ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنت أدعو أمي إلى الإسلام وهي مشركة فدعوتها يوماً فأسمعتني في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكره، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي قلت: يا رسول الله إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام فتأبى علي فدعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله أن يهدي أم أبي هريرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اللهم أهد أم أبي هريرة" فخرجت مستبشراً بدعوة نبي الله صلى الله عليه وسلم، فلما جئت فصرت إلى الباب فإذا هو مجاف2 فسمعت أمي خشف3 قدمي فقالت: مكانك يا أبا هريرة، وسمعت خضخضة4 الماء قال فاغتسلت ولبست درعها وعجلت عن خمارها ففتحت الباب، ثم قالت: يا أبا هريرة أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله قال فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته وأنا أبكي من الفرح قال قلت: يا رسول الله أبشر قد استجاب الله دعوتك وهدى أم أبي هريرة فحمد الله وأثنى عليه وقال خيراً ... الحديث5. ومن معجزاته عليه الصلاة والسلام إخباره بالمغيبات التي وقعت كما أخبر بها صلى الله عليه وسلم، وكذلك عصمته من القتل فقد عصمه الله من أعدائه وهم الجمع الغفير، والعدد الكثير وهم على أتم حنق عليه، وأشد طلب لنفسه، وهو بينهم مسترسل ولهم مخالط ومكاثر، ترمقه أبصارهم شذراً وترتعد عنه أيديهم ذعراً، وقد هاجر عنه أصحابه حذراً حتى استكمل مدته فيهم ثلاث عشرة سنة، ثم خرج عنهم سليماً لم يكلم في نفس ولا جسد، وما كان ذاك بعصمة إلهية وعده الله تعالى بها فحققها حيث يقول: {وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} 6 فعصمه منهم7 "ومعجزاته عليه الصلاة والسلام كثيرة   1- انظر دلائل النبوة للبيهقي 1/278، والوفاء بأحوال المصطفى 1/242، البداية والنهاية 3/211. 2- أي: مغلق. 3- أي: صوتهما في الأرض. 4- خضخضة الماء صوت تحريكه. 5- رواه مسلم في صحيحه 4/1938. 6- سورة المائدة آية:67. 7- أعلام النبوة للماوردي ص76. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 جداً لا نستطيع إحصاءها هاهنا وإنما ذكرنا ما تقدم منها كنماذج فقط، وإلا فمعجزاته صلى الله عليه وسلم الحسية جاءت بها أخبار كثيرة بعضها متواتر، وكثير منها مشهور وهي في جملتها تفيد العلم اليقيني بوقوع تلك المعجزات أولاً: وبصدقه صلى الله عليه وسلم ثانياً"1. وللعلماء في معجزاته صلى الله عليه وسلم تصانيف مستقلات2.   1- انظر الوفاء بأحوال المصطفى 1/339. 2- مثل "دلائل النبوة للبيهقي"، "دلائل النبوة لأبي نعيم الأصبهاني"، "أعلام النبوة للماوردي"، "شمائل الرسول" لابن كثير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 المبحث الرابع: ما يجب للرسل، وما يجوز عليهم أولاً ـ ما يجب للرسل: لقد دلت السورة على وجوب تصديق الأنبياء والرسل وحذرت أشد تحذير من تكذيبهم فيما جاؤوا به عن الله ـ تعالى ـ وجعلت تكذيبهم أبلغ النهاية في الظلم وبينت أن جزاء من يفعل ذلك أن النار مسكنه ومأواه إذ هو من عداد الكافرين. قال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ * وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} . هاتان الآيتان من السورة دلتا على واجب واحد من الواجبات التي تجب للرسل على المبعوثين إليهم وهو وجوب تصديقهم فيما أخبروا به. فالآية الأولى دلت على أنه لا أحد أظلم ولا أعظم فرية ممن كذب على الله بادعاء أن له ولداً وصاحبة أو أنه حرم ما لم يحرمه من المطاعم، ولا أحد أظلم ممن كذب بالقرآن الذي نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم وابتعثه الله به رسولاً فعارض ما جاء به منكراً قول "لا إله إلا الله"، ومن كذب بالقرآن وأنكر "لا إله إلا الله" فقد كذب الرسول صلى الله عليه وسلم ومن كذب الرسول صلى الله عليه وسلم فقد كذب سائر الأنبياء والمرسلين إذ المرسِل لهم واحد وهو الله ـ تعالى ـ لغاية واحدة وهي عبادة الله وحده لا شريك له. ومن اعتقد تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم وامتنع عن متابعته فيما يدعو إليه مما أتى به من عند الله من التوحيد وحكم القرآن فالنار مقامه ومستقره لأنه آثر الكفر على الإيمان بتكذيبه رسول ربه ـ جل وعلا ـ وعلى هذا دلت الآية على أن من حق المرسلين على من سواهم ممن بعثوا إليهم اعتقاد صدقهم فيما جاؤوا به من الوحي الإلهي الرباني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 وأما الآية الثانية: وهي قوله تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} فهي شهادة قاطعة من الله ـ تعالى ـ لرسله بأنهم صادقون فيما قالوه عن الله ـ تعالى ـ كما اشتملت على الثناء والمدح للذين صدقوهم وآمنوا بهم ـ بأنهم متقون ـ بقوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} الذين اتقوا الله بتوحيده، والبراءة من الأوثان والأنداد فأدوا الفرائض واجتنبوا المعاصي فخافوا عقابه. وقد وردت آيات كثيرة على غرار قوله ـ تعالى ـ {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} وكلها تدل على صدق رسل الله وأنبيائه ووجوب تصديقهم قال تعالى: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} 1. وقال تعالى في شأن خليله إبراهيم عليه السلام: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً} 2 وقال تعالى في شأن إسماعيل عليه السلام {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً} 3 إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن رسل الله وأنبياءه هم أكمل البشرية صدقاً على الإطلاق، فيجب على كل مؤمن ومؤمنة اعتقاد صدق جميع أنبياء الله ورسله، ويجب الإعتقاد الجازم أنهم أدوا الأمانة وبلغوا الرسالة على الوجه الأكمل وبينوا بياناً واضحاً شافياً كافياً. لا حاجة إلى بيان سواه، ويجب على العباد طاعتهم وعدم مخالفتهم لأن ذلك من طاعة الله، وأنهم أكمل البرية خلقاً وعملاً وأنهم مختصون بفضائل لا يصل إليها أحد سواهم، وأنهم معصومون من الكذب والخيانة والكتمان والتقصير في التبليغ وعن الكبائر كلها دون الصغائر. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ـ تعالى ـ "القول بأن الأنبياء معصومون من الكبائر دون الصغائر هو قول أكثر علماء الإسلام وجميع الطوائف حتى إنه قول أكثر أهل الكلام كما ذكر أبو الحسن الآمدي أن هذا القول قول أكثر الأشعرية وهو أيضاً قول أهل التفسير والحديث والفقهاء بل لم ينقل عن السلف والأئمة والصحابة والتابعين وتابعيهم إلا ما يوافق هذا القول ... " أ. هـ4. ويجب الإيمان بأن جميع الأنبياء والمرسلين كانوا رجالاً من بني آدم وليسوا من   1- سورة يس آية: 52. 2- سورة مريم آية: 41. 3- سورة مريم آية: 54. 4- مجموع الفتاوى 4/319. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 الملائكة ولم يبعث الله أنثى قط. قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ} 1 وقد دعا القرآن الكريم إلى الإيمان بالرسل وحذر من الكفر بهم، أو التفريق بينهم. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيداً} 2 وقال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} 3 وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً} 4. فهذه الآية فيها الوعيد الشديد للكافرين بالله ورسله من اليهود والنصارى حيث فرقوا بين الله ورسله في الإيمان فآمنوا ببعض الأنبياء وكفروا ببعض بمجرد التشهي والعادة وما ألفوا عليه آباءهم لا عن دليل قادهم إلى ذلك بل بمجرد الهوى والعصبية فاليهود عليهم لعائن الله آمنوا بالأنبياء إلا عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، والنصارى آمنوا بالأنبياء وكفروا بخاتمهم وأشرفهم محمد صلى الله عليه وسلم .... والمقصود أن من كفر بنبي من الأنبياء فقد كفر بسائر الأنبياء فإن الإيمان واجب بكل نبي بعثه الله إلى أهل الأرض فمن رد نبوته للحسد أو العصبية أو التشهي تبين أن إيمانه بمن آمن به من الأنبياء ليس إيماناً شرعياً، وإنما هو عن غرض وهوى وعصبية"5 فمن آمن ببعض الرسل وكفر ببعضهم أو كلهم لا غبار على وضوح كفره لأن كفره بالرسل كفر بالله تعالى. ثانياً ـ ما يجوز عليهم: قال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} . هذه الآية إخبار مؤكد من الله ـ تعالى ـ لنبيه صلى الله عليه وسلم بأنه سيموت عن قريب وأن   1- سورة الأنبياء آية: 7. 2- سورة النساء آية: 136. 3- سورة البقرة آية: 285. 4- سورة النساء آية: 150 ـ 151. 5- تفسير ابن كثير 2/425. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 المكذبين به من قومه المؤمنين منهم ميتون كذلك، وإذا كان أشرف الخلق وأحبهم إلى الله ـ تعالى ـ قد ذاق الموت فكذلك غيره من إخوانه الأنبياء والرسل قد ذاقوه من قبله. قال عماد الدين ابن كثير رحمه الله ـ تعالى ـ"هذه الآية من الآيات التي استشهد بها الصديق رضي الله عنه عند موت الرسول صلى الله عليه وسلم حتى تحقق الناس موته مع قوله ـ عز وجل ـ {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ} ومعنى هذه الآية أنكم ستنقلون من هذه الدار لا محالة وستجتمعون عند الله ـ تعالى ـ في الدار الآخرة وتختصمون فيما أنتم فيه في الدنيا من التوحيد والشرك بين يدي الله عز وجل فيفصل بينكم"1. وهذه الآية دلت على أن الرسل يموتون ويقتلون كما يموت غيرهم من الخلق ويقتلون. قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} 2 قال ابن جرير رحمه الله ـ تعالى ـ "يقول تعالى ذكره: لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وما خلدنا أحداً من بني آدم يا محمد قبلك في الدنيا فنخلدك فيها ولا بد لك من أن تموت كما مات من قبلك من رسلنا" أ. هـ3. "وكونه صلى الله عليه وسلم قد ذاق الموتة الأولى التي هي موتة الدنيا لا ينافي حياته البرزخية حيث أخبرنا الله ـ تعالى ـ في كتابه بأن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون ولم ينالوا ذلك إلا بمتابعتهم وإيمانهم بهم الإيمان الصادق، وحياة الأنبياء البرزخية تفوق حياة الشهداء إذ هم أفضل الخلق على الإطلاق"4. وروى أبو داود في سننه بسند صحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: "وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم "5.   1- تفسير القرآن العظيم 6/90، والآية رقم 144 من سورة آل عمران. 2- سورة الأنبياء آية: 34. 3- جامع البيان 17/24. 4- فتح الباري 6/488. 5- 2/471 . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 فالسورة ذكرت أمراً واحداً مما يجوز على الرسل وهو أنهم يموتون كما يموت غيرهم من المخلوقات وهناك أمور أخرى تجوز على الرسل ذكرت في غير هذه السورة وبعضها دلت عليها السنة المطهرة فيجب على الإنسان أن يؤمن الإيمان الجازم بأن الله ـ تعالى ـ لم يخص أنبياءه ورسله بطبائع غير طبائع البشر، وإنما كان اختيارهم من الرجال الذين يأكلون ويشربون ويمشون في الأسواق وينامون ويجلسون ويضحكون ولهم أزواج وذرية وتمتد إليهم أيدي الظلمة، وينالهم الاضطهاد ويقتلون بغير حق ويتألمون ويصيبهم المرض وسائر الأعراض البشرية التي لا تؤدي إلى نقص في مراتبهم العلية بين الخلق وكل هذه الأمور منصوص عليها في القرآن الكريم وبعضها نصت عليه السنة المطهرة. ومن هنا يجب على المرء أن يعتقد بأن الرسل لا يملكون شيئاً من خصائص الألوهية فليس لهم التصرف في الكون ولا يملكون لأحد نفعاً ولا ضراً وليس لهم تأثير على إرادة الباري ـ سبحانه وتعالى ـ ولا يعلمون الغيب إلا ما أطلعهم الله عليه، وقد خصهم ـ الباري سبحانه ـ بمؤهلات من المزايا والفضائل والأخلاق التي أهلتهم لأن يتلقوا الوحي عن الله ـ تعالى ـ وليقوموا بأعباء الرسالة ليكونوا الأسوة المثلى والقدوة الحسنة للناس يقتدون بهم في أمور الدنيا والدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 المبحث الخامس: موضوع الرسالات السماوية لقد دلت السورة على أن موضوع رسالة الأنبياء والمرسلين هو التبشير والإنذار وتبليغ أممهم ما أمرهم الله بتبليغه من الأوامر والنواهي التي فيها سعادة الأمم إن هم صدقوا المرسلين وآمنوا بهم، ولهم الشقاء المستمر إن هم كذبوهم وخالفوهم فيما يدعونهم إليه من توحيد العبادة وإخلاص الدين لله وحده لا شريك له. قال تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ} . وقال تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} . فهاتان الآيتان من السورة دلتا على أن الله تعالى بعث أنبياءه ورسله مبشرين ومنذرين ومبلغين وحي الله إلى العباد وهم الواسطة بين الله وعباده وهي الواسطة الشرعية الحقة التي العباد بأمس الحاجة إليها وهي واسطة تبليغ الوحي إلى العباد، وما سواها من الوسائط باطلة. قال البيضاوي: {لَهُمُ الْبُشْرَى} بالثواب على ألسنة الرسل أو الملائكة عند حضور الموت" أ. هـ1. وقال ابن جرير رحمه الله ـ تعالى ـ: " {فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} يقول: جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم فبشر يا محمد عبادي الذين يستمعون القول من   1- تفسير البيضاوي ص609. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 القائلين فيتبعون أرشده وأهداه وأدلهُ على توحيد الله والعمل بطاعته ويتركون ما سوى ذلك من القول الذي لا يدل على رشاد ولا يهدي إلى سداد" أ. هـ1. وقال العلامة الشوكاني رحمه الله ـ تعالى ـ عند قوله تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ} قال: {لَهُمُ الْبُشْرَى} بالثواب الجزيل وهو الجنة وهذه البشرى إما على ألسنة الرسل أو عند حضور الموت أو عند البعث {فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} المراد بالعباد هنا العموم فيدخل الموصوفون بالإجتناب والإنابة إليه دخولاً أولياً، والمعنى: يستمعون القول الحق من كتاب الله وسنة رسوله فيتبعون أحسنه أي محكمه ويعملون به. قال السدي: "يتبعون أحسن ما يؤمرون به فيعملون بما فيه، وقيل هو الرجل يسمع الحسن والقبيح فيتحدث بالحسن ويكف عن القبيح فلا يتحدث به، وقيل: يستمعون القرآن وغيره فيتبعون القرآن، وقيل يستمعون الرخص والعزائم فيتبعون العزائم ويتركون الرخص، وقيل يأخذون بالعفو ويتركون العقوبة، ثم أثنى ـ سبحانه ـ على هؤلاء المذكورين فقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ} أي: هم الذين أوصلهم الله إلى الحق وهم أصحاب العقول الصحيحة لأنهم الذين انتفعوا بعقولهم ولم ينتفع من عداهم بعقولهم" أ. هـ2. ودعوة الرسل إلى الله ـ جل وعلا ـ دائماً تقترن بالتبشير والإنذار، لأن ارتباط دعوتهم بالتبشير والإنذار وثيق جداً، فقد قصر ـ القرآن الكريم ـ مهمة الرسل عليهما في بعض آياته: قال تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} 3 وقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم لنفسه مثلاً في هذا فقال: "مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قوماً فقال: يا قوم إني رأيت الجيش بعيني، وإني أنا النذير العريان فالنجاء النجاء، فأطاعه طائفة من قومه، فأدلجوا، وانطلقوا على مهلهم فنجوا، وكذبته طائفة منهم، فأصبحوا مكانهم، فصبحهم   1- جامع البيان 23/206. 2- فتح القدير 4/256. 3- سورة الكهف آية: 56. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 الجيش، فأهلكهم واجتاحهم، فذلك مثل من أطاعني، فاتبع ما جئت به، ومثل من عصاني وكذب بما جئت به من الحق"1. وتبشير الرسل عليهم الصلاة والسلام وإنذارهم دنيوي وأخروي، فهم في الدنيا يبشرون الطائعين بالحياة الطيبة: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} 2 {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} 3. ويعدونهم بالتمكين في الأرض وتبديل خوفهم أمناً {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} 4. أما العصاة من الخلق فإن الرسل يخوفونهم بالشقاء الدنيوي قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} 5 كما يحذرونهم العذاب والهلاك الدنيوي. قال تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} 6. أما بالنسبة للآخرة فإنهم يبشرون الطائعين بالجنة ونعيمها قال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} 7. وأما المجرمون والعصاة فإنهم يخوفونهم عذاب الله في الآخرة قال تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} 8. وعندما يتأمل الإنسان دعوة الرسل يجد أنها قد اصطبغت بالتبشير والإنذار، والذي يظهر أن التبشير والإنذار على النحو الذي جاءت به الرسل من أعظم الأسباب لفتح النفس الإنسانية، وإقبالها على الخير، لأن النفوس مطبوعة على طالب الخير لذاتها، ودفع الشر   1- صحيح البخاري مع الفتح 13/250 من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. 2- سورة النحل آية: 97. 3- سورة طه آية: 123. 4- سورة النور آية: 55. 5- سورة طه آية: 124. 6- سورة فصلت آية: 13. 7- سورة النساء آية: 13. 8- سورة النساء آية: 14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 عنها، فقد أرسل الله الرسل ليبصروا النفوس بالخير العظيم الذي يحصلونه من وراء الإيمان والأعمال الصالحة فإن النفوس تشتاق إلى تحصيل الخير، وعندما تبين الرسل عليهم الصلاة والسلام الأضرار العظيمة التي تلحق النفوس من وراء الكفر والضلال فإنها تهرب من هذه الأعمال المشقية. ومما تقدم يتضح أن موضوع الرسالات الرسالات السماوية التي أرسل الله بها الرسل عليهم الصلاة والسلام هو التبشير والإنذار يبشرون المدعوين برضوان الله وثوابه وجنته إن هم آمنوا بالله وصدقوا رسله. والإنذار للمعاندين الكافرين بالله ورسله بغضب الله وسخطه قال تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} 1. أما دعوة الرسل فإنها كانت إلى غرض أساسي واحد، وهو عبادة الله وحده لا شريك له كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 2.   1- سورة النساء آية: 165. 2- سورة النحل آية: 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 الفصل الرابع: دلالة السورة على وجوب الإيمان بالقدر المبحث الأول: تعريف القضاء والقدر ومعنى الإيمان به ... المبحث الأول: تعريف القضاء والقدر ومعنى الإيمان به القضاء في اللغة: جاء في لسان العرب: "تكرر في الحديث ذكر القضاء، وأصله القطع والفصل. يقال: قضى يقضي قضاءاً فهو قاض إذا حكم وفصل، وقضاء الشيء إحكامه وإمضاؤه والفراغ منه فيكون بمعنى الخلق. وقال الأزهري: "القضاء في اللغة: على وجوه مرجعها إلى انقطاع الشيء وتمامه، وكل ما أحكم عمله أو أتم، أو ختم، أو أدى أداء، أو أوجب، أو علم، أو أنقذ، أو أمضى فقد قضى. قال: وقد جاءت هذه الوجوه كلها في الحديث، ومنه القضاء المقرون بالقدر، والمراد بالقدر التقدير وبالقضاء الخلق كقوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} 1 أي: خلقهن، فالقضاء والقدر أمران متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر لأن أحدهما بمنزلة الأساس، وهو القدر والآخر بمنزلة البناء وهو القضاء فمن رام الفصل بينهما فقد رام هدم البناء ونقضه"2. وأما تعريف القضاء شرعاً: "فهو إرادة الله الأزلية المتعلقة بالأشياء على ما هي عليه فيما لا يزال"3.   1- سورة فصلت آية: 12. 2- اللسان 15/186. 3- لوامع الأنوار البهية 1/345. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 وأما تعريف القدر في اللغة: "فهو بتحريك الدال وتسكن "مصدر" بفتح الدال ـ مخففة ـ إذا أحطت بمقداره و"أل" فيه وفي "القضاء" عوض عن مضاف إليه أي: بتقدير الله ـ تعالى ـ لذلك"1. وأما تعريف القدر اصطلاحاً: فقد عرفه بعضهم: بأنه "تحديده ـ تعالى ـ أزلاً كل مخلوق بحده الذي يوجد به من حسن وقبح، ونفع وضر وما يحويه من زمان ومكان، وما يترتب عليه من طاعة وعصيان وثواب وعقاب وغفران. وحده بعضهم "بأنه إيجاد لله ـ تعالى ـ الأشياء على قدر مخصوص، وتقدير معين في ذواتها وأحوالها طبق ما سبق به العلم وجرى به القلم"2 ثم من العلماء من فرق بين القضاء والقدر ومنهم من اعتبرها شيئاً واحداً. قال ابن بطال: عند شرحه لتعوذ النبي صلى الله عليه وسلم: "من جهد البلاء ودرك الشقاء وشماتة الأعداء" 3 "والمراد بالقضاء هنا المقضي لأن حكم الله كله حسن لا سوء فيه" ثم قال الحافظ وقال غيره: "القضاء: الحكم بالكليات على سبيل الإجمال في الأزل. والقدر: الحكم بوقوع الجزئيات التي لتلك الكليات على سبيل التفصيل"4. وقال الخطابي: "قد يحسب كثير من الناس أن معنى القدر من الله تعالى والقضاء معنى الإجبار، والقهر للعبد على ما قضاه وقدره، ويتوهم أن قوله صلى الله عليه وسلم: "فحج آدم موسى" 5 من هذا الوجه، وليس كذلك، وإنما معناه الإخبار عن تقدم علم الله تعالى بما يكون من أفعال العباد واكتسابهم وصدورها عن تقدير منه تعالى وخلق لها خيرها وشرها قال: والقدر: اسم لما صدر مقدراً عن فعل القادر كالهدم والنشر والقبض أسماء لما صدر عن فعل الهادم، والناشر، والقابض يقال: قدرت الشيء، وقدرت خفيفه وثقيله بمعنى واحد،   1- المصدر السابق. 2- لوامع الأنوار البهية 1/345. 3- رواه البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة. انظر فتح الباري 11/147. 4- "فتح الباري" 11/148. 5- رواه البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة. انظر فتح الباري 11/505. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 قال: والقضاء: معناه في هذا الخلق كقوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} 1 أي خلقهن، وإذا كان الأمر كذلك فقد بقي عليهم من وراء علم الله فيهم أفعالهم واكتسابهم، ومباشرتهم تلك الأمور، وملابستهم إياها عن قصد وتعمد وتقديم إرادة واختيار والحجة إنما تلزمهم بها واللائمة تلحقهم عليها قال: وجماع القول في هذا أنهما أمران لا ينفك أحدهما عن الآخر لأن أحدهما بمنزلة الأساس، والآخر بمنزلة البناء فمن رام الفصل بينهما فقد رام هدم البناء ونقضه" اهـ2. فمن جعل للقضاء والقدر تعريفاً واحداً كابن بطال والخطابي فمعناه: "هو النظام المتقن الذي وضعه الله لهذا الكون علويه وسفليه والقوانين العامة، والسنن التي ربط بها الأسباب بمسبابتها وهذا المعنى: هو الذي وردت به الكثير من الآيات القرآنية كقوله تعالى {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَار} 3 وقوله ـ جل شأنه ـ {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} 4. وقوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} 5 قال قتادة: سألت سعيد بن المسيب عن القدر فقال: "ما قدر الله فهو قدر"6. وقد أجاب الإمام أحمد حين سئل عن القدر فقال: "القدر قدرة الله تعالى" قال ابن القيم معلقاً على تعريف الإمام أحمد: "واستحسن ابن عقيل هذا الكلام جداً وقال هذا يدل على دقة علم أحمد وتبحره في معرفة أصول الدين وهو كما قال أبو الوفاء فإن إنكار القدر إنكار لقدرة الله على خلق أعمال العباد وكتابتها وتقديرها وسلف القدرية كانوا ينكرون علمه بها وهم الذين انفق سلف الأمة على تكفيرهم"7 وفي الحقيقة أن تعريف الإمام أحمد السابق جامع مانع لمدلول القدر فالإمام أحمد رحمه الله تعالى يقصد أن القدر هو ما قرره ـ سبحانه ـ في قوله تعالى {قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ للهِ} 8 وقوله: {بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} 9 وقوله: {يُدَبِّرُ الأمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِه} 10 وغير ذلك من الآيات التي   1- سورة فصلت آية: 12. 2- معالم السنن شرح سنن أبي داود 5/76 ـ 77 وانظر لوامع الأنوار 1/347 ـ 348. 3- سورة الرعد آية: 8. 4- سورة الحجر آية: 21. 5- سورة القمر آية: 49. 6- ذكره عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة ص116. 7- شفاء العليل ص28 وانظر توضيح المقاصد وتصحيح القواعد 1/257. 8- سورة آل عمران آية: 154. 9- سورة يس آية: 13. 10- سورة يونس آية: 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 تدل على أنه لا يحدث شيء في هذا الكون إلا بإرادته تعالى ومشيئته. قال الطحاوي: "وكل شيء يجري بتقديره ومشيئته، ومشيئته تنفذ لا مشيئة العباد، إلا ما شاء الله فما شاء لهم كان وما لم يشأ لم يكن لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه، ولا غالب لأمره" اهـ1. ومما تقدم يفهم معنى الإيمان بالقدر. فالإيمان بالقدر هو أن يصدق الإنسان تصديقاً جازماً بأن كل خير وشر فهو بقضاء الله وقدره وأنه ـ سبحانه ـ الفعّال لما يريد لا يكون الشيء إلا بإذنه وإرادته، ولا يخرج شيء عن مشيئته وليس في الوجود شيء خارج عن تقديره ولا محيد لأحد عما قدره الله، ولا يتجاوز ما خط في اللوح المحفوظ وأنه ـ تعالى ـ هو الخالق لأفعال عباده كلها من طاعات ومعاصي ومع ذلك فقد أمرهم ـ سبحانه ـ ونهاهم وجعلهم مختارين لجميع أفعالهم وليسوا مجبورين عليها بل تحصل منهم بقدرتهم وإرادتهم يهدي من يشاء برحمته، ويضل من يشاء بحكمته لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الإيمان بالقدر على درجتين كل درجة تتضمن شيئين: فالدرجة الأولى: الإيمان بأن الله تعالى علم ما الخلق عاملون بعلمه القديم الذي هو موصوف به أزلاً وأبداً وعلم جميع أحوالهم من الطاعات والمعاصي والأرزاق والآجال ثم كتب الله في اللوح المحفوظ مقادير الخلق فأول ما خلق الله القلم قال له اكتب قال ما أكتب؟ قال اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه، وما أخطئه لم يكن ليصيبه جفت الأقلام وطويت الصحف كما قال تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ} 2. وقال: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ} 3. وهذا التقدير التابع لعلمه ـ سبحانه ـ يكون في مواضع جملة وتفصيلاً فقد كتب في   1- شرح الطحاوية ص153. 2- سورة الحج آية: 70. 3- سورة الحديد آية: 22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 اللوح المحفوظ ما شاء، وإذا خلق جسد الجنين قبل نفخ الروح فيه بعث إليه ملكاً فيؤمر بأربع كلمات فيقال له اكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد ونحو ذلك، فهذا التقدير قد ينكره غلاة القدرية قديماً ومنكروه اليوم قليل. وأما الدرجة الثانية: فهي مشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة وهو الإيمان بأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وأنه ما في السموات وما في الأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله ـ سبحانه ـ لا يكون في ملكه ما لا يريد، وأنه ـ سبحانه ـ على كل شيء قدير من الموجودات والمعدومات فما من مخلوق في الأرض ولا في السماء إلا الله خالقه لا خالق غيره ولا رب سواه ومع ذلك فقد أمر العباد بطاعته وطاعة رسله ونهاهم عن معصيته، وهو ـ سبحانه ـ يحب المتقين والمحسنين والمقسطين ويرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا يحب الكافرين ولا يرضى عن القوم الفاسقين، ولا يأمر بالفحشاء ولا يرضى لعباده الكفر ولا يحب الفساد، والعباد فاعلون حقيقة، والله خالق أفعالهم والعبد هو المؤمن، والكافر والبر والفاجر والمصلي والصائم وللعباد قدرة على أعمالهم ولهم إرادة والله خالقهم وقدرتهم وإرادتهم" اهـ1. فشيخ الإسلام رحمه الله ـ تعالى ـ أبان لنا الكيفية المطلوبة في الإيمان بالقدر بل إنه أوجز لنا القدر كله بمراتبه الأربع في هذه العبارات القليلة وهذه الكيفية التي ذكرها هي الواجب المطلوب من الإنسان من حيث إيمانه بالقدر وكيفيته.   1- العقيدة الواسطية مع شرحها لمحمد خليل هراس ص 130 ـ 136. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 المبحث الثاني: بيان المبتدعة الذين نازعوا في القدر والرد عليهم إن إنكار القدر الذي هو أحد أركان الإيمان الستة التي لا يصح لأحد إيمان حتى يؤمن بها كلها اشتهرت بإنكاره إحدى الفرق الزائغة وتسمى فرقة القدرية1. والكلام في القدر وتعلق أفعال العباد بمشيئته ـ سبحانه ـ من المسائل التي كان لها وجود قبل ظهور الإسلام كما أخبرنا الله بذلك في كتابه المبين عن كفار قريش ومن سبقهم من مشركي الأمم أنهم ينسبون شركهم وما هم عليه من المعاصي إلى مشيئته ـ جل وعلا ـ. قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} 2. قال ابن كثير رحمه الله ـ تعالى ـ حول هذه الآية "يخبر تعالى عن اغترار المشركين بما هم فيه من الإشراك واعتذارهم محتجين بالقدر بقولهم {لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} أي من البحائر والسوائب والوصائل وغير ذلك مما كانوا ابتدعوه واخترعوه من تلقاء أنفسهم ما لم ينزل به سلطاناً ومضمون كلامهم أنه لو كان ـ تعالى ـ كارهاً لما فعلنا لأنكره علينا بالعقوبة ولما مكننا منه، قال ـ تعالى ـ راداً عليهم شبهتهم {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} أي ليس الأمر كما تزعمون أنه لم ينكره عليكم بل قد أنكره عليكم أشد الإنكار ونهاكم عنه أشد النهي، وبعث في كل أمة أي في كل قرن وطائفة من الناس رسولاً، وكلهم يدعون إلى عبادة الله، وينهون عن عبادة ما سواه،   1- القدرية: اسم أطلقه أهل السنة والجماعة على الزاعمين بأنهم الفاعلون لأعمالهم دون الباري ـ سبحانه ـ وقد وردت آثار كثيرة تصفهم بأنهم مجوس هذه الأمة. انظر سنن أبي داود 2/524، الاحتجاج بالقدر ص86 ـ 87، شفاء العليل ص49، لوامع الأنوار 1/305. 2- سورة النحل آية: 35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 {أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 1 فلم يزل ـ تعالى ـ يرسل إلى الناس الرسل بذلك منذ حدث الشرك في بني آدم في قوم نوح الذين أرسل إليهم نوح وكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض إلى أن ختمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي طبقت دعوته الإنس والجن في المشارق والمغارب وكلهم كما قال الله ـ تعالى ـ {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} 2. وقوله تعالى {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} 3. وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} . فكيف يسوغ لأحد من المشركين بعد هذا أن يقول {لَوْ شَاءَ اللهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْء} 4 فمشيئته ـ تعالى ـ الشرعية عنهم منتفية5 لأنه نهاهم عن ذلك على ألسنة رسله، وأما مشيئته الكونية وهي تمكينهم من ذلك قدراً فلا حجة لهم فيها، لأنه ـ تعالى ـ خلق النار وأهلها من الشياطين والكفرة وهو لا يرضى لعباده الكفر وله في ذلك حجة بالغة، وحكمة قاطعة" اهـ6. وبهذا يتبين بطلان احتجاج المشركين بالقدر على ما هم واقعون فيه من الكفر والمعاصي والإشراك بالله ـ تعالى ـ وأنه لا حجة لهم فيه لانتفاء الإرادة الشرعية عنهم ولذلك نهاهم الله ـ تعالى ـ عن طريق الرسل. وروى مسلم في صحيحه بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله ـ تعالى ـ عنه قال: جاء مشركو قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخاصمونه في القدر فنزلت {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} 7 وعلى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حصل بعض الخصام في القدر بين الصحابة رضي الله عنهم فصادف مجيء النبي صلى الله عليه وسلم وهم   1- سورة النحل آية: 36. 2- سورة الأنبياء آية: 25. 3- سورة الزخرف آية: 45. 4- سورة النحل آية: 35. 5- التعبير بالمشيئة عن الإرادة الدينية الشرعية لم يرد في الكتاب والسنة، بل المشيئة لم تأت إلا كونية قدرية بخلاف لفظ الإرادة فإنه جاء للمعنى الشرعي والمعنى القدري. 6- تفسير ابن كثير 4/193/194. 7- انظر صحيح مسلم بشرح النووي 16/205 والآيات من سورة القمر 48 ـ 49. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 يختصمون فاحمر وجهه غضباً لذلك فقال: "بهذا أمرتم أو لهذا خلقتم تضربون القرآن بعضه ببعض بهذا هلكت الأمم قبلكم" 1. فانتهى الصحابة عن ذلك فلم يعودوا لمثل ذلك قط. ولم يظهر القول في القدر إلا بعد مضي نصف القرن الأول على وجه التقريب. فأثار القول فيه رجل يدعى "معبد الجهني". وقد تلقى هذا القول الباطل المخالف للكتاب والسنة وإجماع الأمة في إثبات القدر عن أحد النصارى كان قد أسلم، ثم ارتد إلى النصرانية. فقام تلميذه "معبد الجهني" بنشر قوله بين الناس. روى مسلم في صحيحه بإسناده إلى يحيى بن يعمر أنه قال: "كان أول من قال في القدر بالبصرة "معبد الجهني" فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر فوفق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب داخلاً المسجد فاكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي فقلت: أبا عبد الرحمن إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرؤون القرآن ويتقفرون العلم وذكر من شأنهم، وأنهم يزعمون أن لا قدر وأن الأمر "أنف" قال: فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر"2. ومما يؤكد أيضاً أن معبداً تلقى القول في القدر عن أحد النصارى قول الأوزاعي "أول من نطق في القدر: رجل من أهل العراق يقال له "سوسن" كان نصرانياً فأسلم ثم تنصر فأخذ عنه معبد الجهني وأخذ غيلان3 عن معبد4 5   1- سنن ابن ماجة 1/33. 2- صحيح مسلم 1/36 ـ 37 وانظر مجموع الفتاوى 8/450. 3- هو غيلان بن مسلم الدمشقي أبو مروان وهو الذي تنسب إليه فرقة "الغيلانية" وهو ثاني من تكلم في القدر ودعا إليه، ولم يسبقه في ذلك سوى معبد الجهني قال الذهبي: "ضال مسكين" انظر ميزان الاعتدال 3/338، الأعلام 5/320. 4- هو معبد بن عبد الله بن عويم الجهني البصري أول من قال بالقدر في البصرة سمع الحديث من ابن عباس وعمران بن حصين وغيرهما وحضر يوم "التحكيم" وانتقل من البصرة إلى المدينة فنشر فيها مذهبه وعنه أخذ "غيلان" المتقدمة ترجمته قيل: قتله الحجاج صبراً بعد أن عذبه، وقيل صلبه عبد الملك بن مروان بدمشق على القول في القدر ثم قتله. انظر ترجمته في "تهذيب التهذيب" 10/225، ميزان الاعتدال 4/141، شذرات الذهب 1/88، البداية والنهاية 9/34. 5- انظر "كتاب الشريعة" للآجري ص234، واللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة برقم 1397. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 قال ابن عون: "أدركت الناس وما يتكلمون إلا في علي وعثمان حتى نشأ هاهنا حقير يقال له: "سنسويه البقال"، قال: فكان أول من تكلم بالقدر1 وذكر ابن سعد في الطبقات أن اسمه "سنهويه"2 ومذهب القدرية عند ظهوره كان هو "إن الأمر أنف" كما تقدم عند مسلم عن يحيى بن يعمر ومعنى "إن الأمر أنف" أي: لم يسبق به قدر ولا علم من الله ـ تعالى ـ وإنما يعلمه بعد وقوعه"3 فكان مذهب القدرية مبنياً على أمرين: الأمر الأول: إنكارهم علم الله السابق بالحوادث. الأمر الثاني: أن العبد هو الذي يوجد أفعاله. والقائلون بهذا القول قد انقرضوا وهلكوا ولم يبق لهم وجود. قال الحافظ: قال القرطبي وغيره: "قد انقرض هذا المذهب ولا نعرف أحداً ينسب إليه من المتأخرين قال: والقدرية اليوم مطبقون على أن الله عالم بأفعال العباد قبل وقوعها وإنما خالفوا السلف في زعمهم بأن أفعال العباد مقدورة لهم وواقعة منهم على جهة الإستقلال، وهو مع كونه مذهباً باطلاً أخف من المذهب الأول" اهـ4. وهذا المذهب الأخف الذي ذكره الحافظ تبنته المعتزلة وحملة راية سلفهم من بعدهم وقد تشعبت فرقها القائلة به وتنوعت مذاهبها حوله. قال الحافظ: وأما المتأخرون منهم فأنكروا تعلق الإرادة بأفعال العباد فراراً من تعلق القديم بالمحدث، وهم مخصومون بما قال الشافعي: "إن سلم القدري العلم خصم يعني: يقال له: أيجوز أن يقع في الوجود خلاف ما تضمنه العلم؟ فإن منع وافق قول أهل السنة وإن أجازه لزمه نسبة الجهل إلى الله تعالى الله عن ذلك"5. وحقيقة اعتقاد القدرية في نفي القدر إنما هو مضادة لنصوص الكتاب والسنة ومخالف لإجماع الأمة وقد وردت في السنة نصوص كثيرة فيها الوعيد الشديد لمن كذب   1- شرح اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي برقم 1396. 2- الطبقات لابن سعد 7/264. 3- هكذا فسره النووي في شرحه على صحيح مسلم 1/156. 4- فتح الباري 1/119. 5- الفتح 1/119. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 501 بالقدر ولم يؤمن به من ذلك ما رواه الإمام أحمد وأبو داود عن عبادة بن الوليد بن عبادة: حدثني أبي قال: "دخلت على عبادة وهو مريض أتخايل فيه الموت فقلت: يا أبتاه أوصني واجتهد لي فقال: أجلسوني فقال: يا بني إنك لن تجد طعم الإيمان، ولن تبلغ حقيقة العلم بالله حتى تؤمن بالقدر خيره وشره. قلت: يا أبتاه كيف أعلم ما خير القدر وشره؟ قال أن تعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك وما أصابك لم يكن ليخطئك، يا بني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة" يا بني إن مت ولست على ذلك دخلت النار"1 وغيره من الأحاديث التي ورد فيها الوعيد الشديد والتهديد الأكيد لمن كذب بالقدر كثيرة جداً. وقال الشيخ أحمد بن إبراهيم بن عيسى صاحب كتاب "توضيح المقاصد وتصحيح القواعد" بعد أن ساق جملة من الأحاديث التي تتضمن الوعيد لنفاة القدر: "وكل هذه الأحاديث وما في معناها، فيها الوعيد الشديد على عدم الإيمان بالقدر، وهي الحجة على نفاة القدر من المعتزلة وغيرهم ومن مذهبهم تخليد أهل المعاصي في النار، وهذا الذي اعتقدوه من أكبر الكبائر، وأعظم المعاصي، وفي الحقيقة إذا اعتبرنا إقامة الحجة عليهم بما تواترت به نصوص الكتاب والسنة من إثبات القدر فقد حكموا على أنفسهم بالخلود في النار إن لم يتوبوا، وهذا لازم لهم على مذهبهم هذا، وقد خالفوا ما تواترت به أدلة الكتاب والسنة من إثبات القدر، وعدم تخليد أهل الكبائر الموحدين في النار"2. وتلك الفرقة النافية للقدر قابلتها فرقة مضادة لها وهي فرقة غلاة القدرية وهم الجبرية الذي أخذ رايتهم الجهم بن صفوان السمرقندي، فقد زعم هو وأتباعه أنه لا اختيار لشيء من الحيوانات في شيء مما يجري عليهم كلهم مضطرون لا استطاعة لهم بحال وأن كل من نسب فعلاً إلى أحد غير الله فسبيله سبيل المجاز، وهو بمنزلة قول القائل: سقط الجدار، ودارت الرحى، وجرى الماء، وانخسفت الشمس. وهذا القول خلاف ما تجده العقلاء في أنفسهم لأن كل من رجع إلى نفسه يفرق في نفسه بين ما يرد عليه من أمر ضروري لا اختيار له فيه وبين ما يختاره ويضيفه إلى نفسه، كما أن كل عاقل يفرق بين كل حركة ضرورية كحركة المرتعش، وحركة المختار، يجد العاقل في نفسه   1- المسند 5/317، سنن أبي داود 2/538. 2- توضيح المقاصد وتصحيح القواعد شرح قصيدة الإمام ابن القيم 1/258 ـ 259. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 502 فرقاً بينهما، ومن أنكر هذه التفرقة لم يعد من العقلاء، وكل ما ورد في القرآن من قوله يعملون، ويعقلون، ويكسبون، ويصنعون حجة عليهم وكذلك قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} ولو لم يكن للعبد اختيار كان الخطاب معه محالاً، والثواب والعقاب عنه ساقطين كالجمادات" وقد رد الله تعالى على الجبرية والقدرية في آية واحدة قال تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى} . قال العلامة ابن القيم حول هذه الآية: "اعتقد جماعة أن المراد بالآية سلب فعل الرسول عنه وإضافته إلى الرب تعالى، وجعلوا ذلك أصلاً في الجبر وإبطال نسبة الأفعال إلى العباد، وتحقيق نسبتها إلى الرب وحده، وهذا غلط منهم في فهم القرآن، فلو صح ذلك لوجب طرده في جميع الأعمال، فيقال ما صليت إذ صليت، وما صمت إذ صمت، وما ضحيت إذ ضحيت، ولا فعلت كل فعل إذ فعلته، ولكن الله فعل فإن طردوا ذلك لزمهم في جميع أفعال العباد طاعتهم ومعاصيهم إذ لا فرق، فإن خصوه بالرسول وحده وأفعاله جميعها، أو رميه وحده، تناقضوا فهؤلاء لم يوفقوا لفهم ما أريد بالآية وبعد فهذه الآية نزلت في شأن رميه صلى الله عليه وسلم المشركين يوم بدر بقبضة من الحصباء، فلم تدع وجه أحد منهم إلا أصابته، ومعلوم أن تلك الرمية من البشر لا تبلغ هذا المبلغ فكان منه صلى الله عليه وسلم مبدأ الرمي وهو الحذف، ومن الله ـ سبحانه وتعالى ـ نهايته، وهو الإيصال فأضاف إليه رمي الحذف الذي هو مبدؤه ونفى عنه رمي الإيصال الذي هو نهايته، ونظير هذا قوله في الآية نفسها {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ} ثم قال {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى} فأخبر أنه وحده هو الذي تفرد بقتلهم ولم يكن ذلك بكم أنتم، كما تفرد بإيصال الحصباء إلى أعينهم من رسوله، ولكن وجه الإشارة بالآية: أنه سبحانه أقام أسباباً ظاهرة لدفع المشركين وتولى دفعهم وإهلاكهم بأسباب باطنة غير الأسباب التي تظهر للناس فكان ما حصل من الهزيمة والقتل والنصرة مضافاً إليه به وهو خير الناصرين" اهـ.   1 - سورة المدثر آية: 38. 2- التبصير في الدين ص107 ـ 108 وانظر الفرق بين الفرق ص211، والملل والنحل 1/87. 3- سورة الأنفال آية: 17. 4- مدارج السالكين 3/426 ـ 427، وانظر التفسير القيم ص287 ـ 288. وانظر شرح الطحاوية ص494 ـ 495. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 المبحث الثالث: مراتب القدر ... المبحث الرابع: مراتب القدر لقد دلت سورة "الزمر" على مراتب القدر الأربع التي من لم يؤمن بها لم يتحقق له الإيمان بالقضاء والقدر، وتلك المراتب هي: علم ـ الرب سبحانه ـ بالأشياء قبل كونها، وكتابته لها قبل كونها، ومشيئته لها، وخلقه ـ سبحانه ـ الأعمال وتكوينه وإيجاده لها، كما تحدثت عن الهداية والضلال اللذين هما لب القدر وسنبين تلك المراتب كلاً منها على حدة، كما سنتحدث عن بيان الهداية والضلال وبذلك نختم الكلام على القدر. 1 ـ مرتبة العلم: لقد دلت سورة "الزمر" على إثبات علم الرب ـ سبحانه ـ بالأشياء قبل كونها وأنه علم ما الخلق عاملون به بعلمه القديم الموصوف به أزلاً وأبداً، وعلم جميع أحوالهم من الطاعات والمعاصي والأرزاق والآجال كل ذلك سبق به علم الله ـ جل وعلا ـ قال تعالى: {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور} . وقال تعالى: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} . وقال تعالى: {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ} . وقال تعالى: {وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} . هذه الآيات الأربع من السورة دلت على أن الله ـ تعالى ـ عالم بما يعمله العباد بعلمه القديم الذي اتصف به أزلاً وأبداً فلا يخفى عليه من أعمالهم شيء، وأنه قد علم منهم الشقي والسعيد، ومن هو منهم من أهل الجنة، ومن هو من أهل النار، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 504 فالآيتان الأوليان من هذه الآيات الأربع قد تقدم الكلام عليهما عند الحديث على إثبات صفة العلم بما أغنى عن إعادته هنا. وأما الآية الثالثة فهي قوله تعالى: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} . فقد قال الإمام البغوي رحمه الله تعالى حول هذه الآية قال ابن عباس رضي الله عنهما: "من سبق في علم الله أنه من أهل النار. وقيل: كلمة العذاب قوله: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ} 1 وقيل: كلمة العذاب قوله: "هؤلاء في النار ولا أبالي"2. {أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} أي لا تقدر عليه قال ابن عباس: يريد أبا لهب وولده" اهـ3. وقال ابن جرير رحمه الله ـ تعالى ـ: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: أفأنت تنقذ يا محمد من هو في النار من حق عليه كلمة العذاب، فأنت تنقذه فاستغنى بقوله {تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} عن هذا ... إلى أن قال: وإنما معنى الكلمة أفأنت تهدي يا محمد من قد سبق له في علم الله أنه من أهل النار إلى الإيمان فتنقذه من النار بالإيمان لست على ذلك بقادر اهـ4. وقال العلامة ابن كثير: " {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} يقول تعالى: أفمن كتب الله عليه أنه شقي تقدر تنقذه مما هو فيه من الضلال والهلاك؟ أي لا يهديه أحد من بعد الله لأنه من يضلل الله فلا هادي له ومن يهده فلا مضل له" اهـ5. وأما الآية الرابعة: وهي قوله ـ تعالى ـ: {وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} . فقد أوضحت أن كلمة العذاب وجبت على الكافرين، وكلمة العذاب هي   1- سورة هود آية: 119. 2- رواه أحمد في مسنده من حديث معاذ رضي الله عنه 5/239. 3- تفسير البغوي على حاشية تفسير الخازن 6/59 ـ 60. 4- جامع البيان 23/207 ـ 208. 5- تفسير ابن كثير 6/85. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 505 قوله: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} 1 فقد وجبت كلمته ـ تعالى ـ أن عذابه لأهل الكفر به بسبب كفرهم وعدم قبولهم هدى الله الذي جاءهم عن طريق الرسل، قال قتادة: {وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} بأعمالهم2 وقال ابن كثير حول الآية: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} أي ولكن كذبناهم وخالفناهم لما سبق من الشقوة التي كنا نستحقها حيث عدلنا عن الحق إلى الباطل" اهـ3. وقال العلامة ابن القيم: "وكلمته ـ سبحانه ـ إنما حقت عليهم بالعذاب بسبب كفرهم فحقت عليهم حجته، وكلمة عدله بعقوبته". وحاصل هذا كله: أن الله ـ سبحانه ـ أمر العباد أن يكونوا مع مراده الديني منهم لا مع مراد أنفسهم فأهل طاعته آثروا الله ومراده على مرادهم فاستحقوا كرامته وأهل معصيته آثروا مرادهم على مراده. وعلم ـ سبحانه ـ منهم أنهم لا يؤثرون مراده ألبتة، وإنما يؤثرون أهواءهم ومرادهم فأمرهم، ونهاهم فظهر بأمره ونهيه من القدر الذي عليهم من إيثارهم هوى أنفسهم، ومرادهم على مرضاة ربهم ومراده، فقامت عليهم بالمعصية حجة عدله فعاقبهم بظلمهم" اهـ4. فالآيات الأربع السابقة من السورة دلت دلالة واضحة على المرتبة الأولى من مراتب القدر وهي مرتبة العلم، فيجب على الإنسان أن يؤمن بأن الله تعالى علم الأشياء كلها قبل كونها، وهذه المرتبة إتفق عليها الصحابة ومن تبعهم من الأمة، وخالفهم مجوس الأمة، وكتابته ـ تعالى ـ السابقة تدل على علمه بها قبل كونها5. وقد كفر السلف من الصحابة ومن بعدهم من أنكر علم الله وتقدم قول ابن عمر   1- سورة هود آية: 119. 2- جامع البيان 24/34. 3- تفسير ابن كثير 6/112. 4- مدارج السالكين 1/219. 5- شفاء العليل ص29 بتصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 506 رضي الله عنهما، والذي يحلف به عبد الله بن عمر "لو كان لأحدهم مثل أحد ذهباً، ثم أنفقه في سبيل الله ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر خيره وشره" 1. قال النووي: "هذا الذي قاله ابن عمر رضي الله عنهما ظاهر في تكفيره القدرية. قال القاضي عياض رحمه الله: هذا في القدرية الأول الذين نفوا تقدم علم الله بالكائنات قال: والقائل بهذا: كافر بلا خلاف، وهؤلاء الذين ينكرون القدر هم الفلاسفة" اهـ2. فالله تعالى علم أرزاق عباده وآجالهم وأحوالهم وأعمالهم، وجميع حركاتهم وسكناتهم، وشقاوتهم وسعادتهم، من قبل أن يخلقهم وهذا هو مقتضى اسمه العليم الخبير عالم الغيب والشهادة علام الغيوب، كما قال ـ عز وجل ـ {هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} 3. وقوله ـ تعالى ـ: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} 4 وقوله ـ عز شأنه ـ: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى} 5 وقال تعالى: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} 6. والآيات في إثبات علم الله ـ تعالى ـ كثيرة جداً، وأما الأحاديث فمنها ما رواه البخاري رحمه الله تعالى بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذراري المشركين فقال: "الله أعلم بما كانوا عاملين"7. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه كما تنتج البهيمة هل تجدون فيها من جدعاء   1- صحيح مسلم 1/37. 2- شرح النووي على صحيح مسلم 1/156. 3- سورة الحشر آية:22. 4- سورة الطلاق آية:12. 5- سورة النجم آية:30. 6- سورة النجم آية:32. 7- صحيح البخاري مع الفتح 11/493. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 507 حتى تكونوا أنتم تجدعونها". قالوا: يا رسول الله فرأيت من يموت وهو صغير قال: "الله أعلم بما كانوا عاملين"1. قال نووي: "وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "الله أعلم بما كانوا عاملين" بيان لمذهب أهل الحق، أن الله علم ما كان وما يكون وما لا يكون لو كان كيف كان يكون" اهـ2. وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رجل يا رسول الله أيعرف أهل الجنة من أهل النار؟ قال: "نعم" قال: فلم يعمل العاملون؟ قال: "كل يعمل لما خلق له، أو لما ييسر له"3. وروى مسلم في صحيحه من حديث علي رضي الله عنه قال: كنا في جنازة في بقيع الغرقد فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله ومعه مخصرة فنكس رأسه فجعل ينكت بمخصرته ثم قال: "ما منكم من أحد ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة والنار، وإلا قد كتبت شقية أو سعيدة" قال؛ فقال رجل يا رسول الله أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل؟ فقال: "من كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى عما أهل الشقاوة، فقال: اعملوا فكل ميسر أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة ثم قرأ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى، وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} "4. وعند البخاري "فقال رجل من القوم: ألا نتكل يا رسول الله؟ قال: لا. إعملوا فكل ميسر ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى} الآية"5. فهذه الأحاديث فيها النهي عن ترك العمل والتوكل على القدر السابق بل يجب على الإنسان أن يعمل ويأخذ بالأسباب ويحرص على ما ينفعه. قال ابن القيم رحمه الله ـ تعالى ـ: "فاتفقت هذه الأحاديث ونظائرها على أن   1- صحيح مسلم بشرح النووي 16/211. 2- شرح النووي على صحيح مسلم 16/211. 3- رواه البخاري انظر الفتح 11/491. 4- انظر صحيح مسلم بشرح النووي 16/ 197. 5- انظر فتح الباري 11/494. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 508 القدر السابق لا يمنع العمل ولا يوجب الإتكال عليه بل يوجب الجد والاجتهاد ولهذا لما سمع بعض الصحابة ذلك قال: ما كنت أشد اجتهاداً مني الآن، وهذا مما يدل على جلالة فقه الصحابة ودقة أفهامهم، وصحة علومهم فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم بالقدر السابق وجريانه على الخليقة بالأسباب فإن العبد ينال ما قدر له بالسبب الذي أقدر عليه ومكن منه وهيئ له فإذا أتى بالسبب أوصله إلى القدر الذي سبق له في أم الكتاب وكلما زاد اجتهاداً في تحصيل السبب كان حصول المقدور أدنى إليه وهذا كما إذا قدر له أن يكون من أعلم أهل وزمانه فإنه لا ينال ذلك إلا بالاجتهاد والحرص على التعلم وأسبابه ... فإذا علم العبد أن مصالح آخرته مرتبطة بالأسباب الموصلة إليها كان أشد اجتهاداً في فعلها من القيام بها منه في أسباب معاشه ومصالح دنياه وقد فقه هذا كل الفقه من قال: ما كنت أشد اجتهاداً مني الآن ... فالقدر السابق معين على الأعمال وما يحث عليها ومقتض لها لا أنه مناف لها وصاد عنها وهذا موضع مزلة قدم من ثبتت قدمه فاز بالنعيم المقيم، ومن زلت قدمه عنه هوى إلى قرار الجحيم فالنبي صلى الله عليه وسلم أرشد الأمة في القدر إلى أمرين هما سببا السعادة: 1ـ الإيمان بالأقدار فإنه نظام التوحيد. 2ـ والإتيان بالأسباب التي توصل إلى خيره وتحجزه عن شره وذلك نظام الشرع فأرشدهم إلى نظام التوحيد والأمر" اهـ1. والآيات والأحاديث الدالة على إتيان القدر واتصاف الله ـ تعالى ـ بصفة العلم أزلاً وأبداً كثيرة جداً. 2ـ مرتبة الكتابة: لقد دلت آيات الكتاب، وأحاديث السنة على أن مراتب الإيمان بالقضاء والقدر، الإيمان بأن كل كائن إلى يوم القيامة قد كتبه الله تعالى في أم الكتاب وهو اللوح المحفوظ وقد جاء في سورة "الزمر" في شأن هذه المرتبة قوله تعالى: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} وقوله {وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} . قال ابن كثير: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} "أفمن كتب   1- شفاء العليل ص25 ـ 26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 الله عليه شقي تقدر تنقذه مما هو فيه من الضلال والهلاك؟ أي لا يهديه أحد من بعد الله لأنه من يضلل الله فلا هادي له ومن يهده فلا مضل له" اهـ1. والآيات التي دلت على مرتبة الكتابة كثيرة جداً. قال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} 2. قال ابن القيم رحمه الله ـ تعالى ـ "فالزبور هنا جميع الكتب المنزلة من السماء لا تختص بزبور داود والذكر أم الكتاب الذي عند الله والأرض الدنيا وعباده الصالحون أمة محمد صلى الله عليه وسلم هذا أصح الأقوال في هذه الآية وهي علم من أعلام نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه أخبر بذلك بمكة وأهل الأرض كلهم كفار أعداء له ولأصحابه والمشركون قد أخرجوهم من ديارهم ومساكنهم وشتتوهم في أطراف الأرض فأخبرهم ربهم تبارك وتعالى أنه كتب في الذكر الأول إنهم يرثون الأرض من الكفار ثم كتب ذلك في الكتب التي أنزلها على رسله والكتاب قد أطلق عليه الذكر في قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته "كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء"3 فهذا هو الذكر الذي كتب أن الدنيا تصير لأمة محمد صلى الله عليه وسلم"اهـ4. وقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} 5. فهذه الآية جمع الله فيها بين الكتابين الكتاب السابق لأعمال العباد قبل أن يوجدوا، والكتاب المقارن لأعمالهم، فأخبر ـ تعالى ـ أنه يحييهم بعد موتهم للبعث، ويجازيهم على أعمالهم، ونبههم بكتابته لها على ذلك والمقصود من الآية قوله {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} وهو اللوح المحفوظ وهو أم الكتاب وهو الذكر الذي كتب الله فيه كل شيء   1- تفسير القرآن العظيم 6/85. 2- سورة الأنبياء آية:105 ـ 106. 3- فتح الباري 13/403. 4- شفاء العليل ص39. 5- سورة يس آية:12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 510 بما في ذلك أعمال العباد قبل أن يعملوها، وإحصاؤه ـ تعالى ـ لها يتضمن علمه بها وحفظه لها وإحاطته بعددها وإثباتها في اللوح المحفوظ1. وقال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} 2. وقال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} 3. وقال تعالى عن موسى حين قال له فرعون: {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} 4. وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ} 5. قال ابن كثير: يخبر ـ تعالى ـ عن قدره السابق في خلقه قبل أن يبرأ البرية فقال: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ} أي في الآفاق وفي نفوسكم {إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} أي: من قبل أن نخلق الخليقة ونبرأ النسمة. وقال بعضهم: من قبل أن نبرأها عائد على النفوس. وقيل: عائد على المصيبة، والأحسن عوده على الخليقة والبرية لدلالة الكلام عليها اهـ6. قال ابن جرير حول هذه الآية حدثني يعقوب، حدثنا ابن علية عن منصور بن عبد الرحمن قال: كنت جالساً مع الحسن فقال رجل سله عن قوله ـ تعالى ـ {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ ... } الآية فسألته عنها فقال: ـ سبحان الله ـ ومن يشك في هذا؟ كل مصيبة بين السماء والأرض ففي كتاب الله من قبل أن يبرأ النسمة.   1- شفاء العليل ص40. 2- سورة هود آية:6. 3- سورة الأنعام آية:38. 4- سورة طه آية:51، 52. 5- سورة الحديد آية:22. 6- تفسير ابن كثير 6/564. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 511 وقال قتادة {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ} قال: هي السنون يعني الجدب {وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ} يقول: الأوجاع والأمراض. قال: "وبلغنا أنه ليس أحد يصيبه خدش عود ولا نكبة قدم ولا خلجان عرق إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر" اهـ1. قال ابن كثير: وهذه الآية الكريمة العظيمة من أدل دليل على القدرية نفاة ـ العلم السابق ـ قبحهم الله اهـ2. وأما قوله تعالى: {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ} 3 فهو إخبار منه ـ تعالى ـ بأن علمه بكل الأشياء قبل أن تكون وكتابته لها على وفق وجودها في حينها سهل عليه ـ جل وعلا ـ لأنه يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون. وقد دلت السنة على مرتبة الكتابة في أحاديث كثيرة. روى مسلم صحيحه بإسناده إلى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة. قال: وعرشه على الماء" 4. وروى البخاري في صحيحه من حديث عمران بن حصين قال: إني عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه قوم من بني تميم فقال: "اقبلوا البشرى يا بني تميم" قالوا: بشرتنا فأعطنا، فدخل ناس من أهل اليمن فقال: "اقبلوا البشرى يا أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم" قالوا: قبلنا جئناك لنتفقه في الدين، ولنسألك عن أول هذه الأمر ما كان؟ قال: كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، ثم خلق السماوات والأرض، وكتب في الذكر كل شيء" ثم أتاني رجل فقال: يا عمران أدرك ناقتك فقد ذهبت فانطلقت أطلبها فإذا السراب ينقطع دونها، وأيم الله لوددت أنها ذهبت ولم أقم5.   1- جامع البيان 27/434. 2- تفسير القرآن العظيم 6/565. 3- سورة الحديد آية: 22. 4- صحيح مسلم 4/2044. 5- فتح الباري 13/403. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 فهذا الحديث دل على أن ـ الباري سبحانه ـ قد كتب ما يقوله وما يفعله وما يكون بقوله وفعله وكتب مقتضى أسمائه وصفاته وآثارها1 كما جاء في الحديث الذي رواه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله لما قضى الخلق كتب عنده فوق عرشه إن رحمتي سبقت غضبي"2. وقال عبادة بن الصامت رضي الله عنه لابنه: يا بني إنك لن تجد طعم الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أول ما خلق الله القلم فقال: اكتب قال رب وما أكتب قال اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة"، يا بني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من مات على غير هذا فليس مني"3 وفي لفظ لأحمد: "يا بني إن مت على غير هذا دخلت النار"4. وقال أبو هريرة رضي الله ـ تعالى ـ عنه قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: "جف القلم بما أنت لاق" 5. قال الحافظ ابن حجر: "جف القلم" أي فرغت الكتابة إشارة أن الذي كتب في اللوح المحفوظ لا يتغير حكمه، فهو كناية عن الفراغ من الكتابة لأن الصحيفة حال كتابتها تكون رطبة أو بعضها وكذلك القلم فإذا انتهت الكتابة جفت الكتابة والقلم" اهـ6. ومن الأحاديث التي دلت على مرتبة الكتابة حديث علي المتقدم "ما منكم من أحد إلا قد كتب مقعده من الجنة أو النار"7. ومما تقدم يتبين أن مرتبة الكتابة ثابتة بالكتاب والسنة وإجماع الأمة قال ابن القيم: وأجمع الصحابة والتابعون وجميع أهل السنة والحديث أن كل كائن إلى يوم القيامة فهو مكتوب في أم الكتاب وقد دل القرآن على أن الرب ـ تعالى ـ كتب في أم الكتاب ما يفعله   1- شفاء العليل ص43. 2- فتح الباري 13/404، صحيح مسلم 4/2107. 3- رواه أبو داود في سننه 2/528. 4- المسند 5/183 من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه. 5- صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 11/491. 6- المصدر السابق. 7- صحيح مسلم بشرح النووي 16/197. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 513 وما يقوله فكتب في اللوح أفعاله وكلامه، فتبت يدا أبي لهب في اللوح المحفوظ قبل وجود أبي لهب" اهـ1. 3ـ مرتبة المشيئة: لقد دلت سورة "الزمر" على إثبات مرتبة المشيئة في ثلاث آيات من آياتها. قال تعالى: {ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ ... } . وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} . وقال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللهُ ... } . هذه الآيات الثلاث من السورة بين الله تعالى فيها أن له مشيئة مطلقة لا يخرج عنها شيء في هذا الوجود. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى مبيناً مرتبة المشيئة "وهي الإيمان بأن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأن ما في السموات وما في الأرض من حركة، ولا سكون إلا بمشيئة الله ـ سبحانه ـ ولا يكون في ملكه إلا ما يريد" اهـ2. وقال العلامة ابن القيم: "وهذه المرتبة قد دل عليها إجماع الرسل من أولهم إلى آخرهم وجميع الكتب المنزلة من عند الله، والفطرة التي فطر الله عليها خلقه، وأدلة العقول والعيان، وليس في الوجود موجب ومقتض إلا مشيئة الله وحده فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن هذا عمود التوحيد الذي لا يقوم إلا به والمسلمون من أولهم إلى آخرهم مجمعون على أنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. وخالفهم في ذلك من ليس منهم في هذا الموضع وإن كان منهم في موضع آخر فجوزوا أن يكون في الوجود ما لا يشاء الله، وأن يشاء ما لا يكون، وخالف الرسل كلهم وأتباعهم من نفي مشيئة الله، ولم يثبت له ـ سبحانه ـ مشيئة واختياراً أوجد بها الخلق كما يقوله طوائف من أعداء الرسل من الفلاسفة وأتباعهم" اهـ3.   1- شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر ص 41. 2- العقيدة الواسطية مع شرحها "لمحمد خليل هراس" ص133 ـ 134. 3- شفاء العليل ص43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 514 وما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم في بيان معنى المشيئة هو طبق ما جاء في الكتاب والسنة وأجمع عليه سلف الأمة وذلك أن لله مشيئة لا يخرج عنها حادث صغير ولا كبير ولا عين ولا فعل، ولا وصف إلا بمشيئته ـ تعالى ـ فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وقد أكثر القرآن في هذا الشأن. قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} 1. وقال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} 2. وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} 3. وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} 4. وقال تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} 5. وقال تعالى: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ} 6. إلى غير ذلك من الآيات الدالة على إثبات المشيئة، كما تدل على تكذيب نفاتها. قال ابن القيم بعد أن ساق الكثير من الآيات الدالة على إثبات مشيئة الرب ـ جل وعلا ـ: "وهذه الآيات ونحوها تتضمن الرد على طائفتي الضلال نفاة المشيئة بالكلية، ونفاة مشيئة أفعال العباد وحركاتهم وهداهم وضلالهم وهو ـ سبحانه ـ تارة يخبر أن كل ما في الكون بمشيئته، وتارة أن ما لم يشأ لم يكن، وتارة أنه لو شاء لكان خلاف الواقع، وأنه لو شاء لكان خلاف القدر الذي قدره وكتبه، وأنه لو شاء ما عصي وأنه لو شاء لجمع خلقه على الهدى وجعلهم أمة واحدة، فتضمن ذلك أن الواقع بمشيئته، وأن ما لم يقع فهو لعدم مشيئته وهذا حقيقة الربوبية، وهو معنى كونه رب العالمين وكونه القيوم القائم بتدبير عباده فلا خلق ولا رزق ولا عطاء ولا منع، ولا قبض ولا بسط ولا موت ولا حياة ولا إضلال، ولا هدى، ولا سعادة، ولا شقاوة إلا بعد إذنه، وكل ذلك بمشيئته وتكوينه إذ لا مالك غيره ولا   1- سورة البقرة آية: 253. 2- سورة السجدة آية: 13. 3- سورة هود آية: 118. 4- سورة الأنعام آية: 35. 5- سورة فاطر آية: 16. 6- سورة النساء آية: 133. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 مدبر سواه، ولا رب غيره. قال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} 1 وقال: {وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ} 2 وقال: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} 3 وقال: {للهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً} 4 وقال: {يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} اهـ5. وقد دلت السنة على إثبات مشيئة الرب ـ سبحانه ـ في أحاديث كثيرة فمن ذلك ما رواه البخاري بإسناده من حديث أبي موسى قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه وربما قال جاءه السائل أو صاحب الحاجة قال: "اشفعوا فلتؤجروا ويقضي الله على لسان رسوله ما شاء"6. وفيه من حديث علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم طرقه وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فقال: "ألا تصلون؟ قال علي: فقلت يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا ... الحديث7 وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه كيف يشاء"8. وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: "مثل المؤمن كمثل خامة الزرع يفيء ورقه من حيث أتتها الريح تكفئها فإذا سكنت اعتدلت، وكذلك المؤمن يكفأ بالبلاء، ومثل الكافر كمثل الأرزة صماء معتدلة حتى يقصمها الله إذا شاء" 9.   1- سورة القصص آية: 68. 2- سورة الحج آية: 5. 3- سورة الانفطار آية: 8. 4- سورة الشورى آية: 49 ـ 50. 5- شفاء العليل صفحة 44 والآية رقم 24 من سورة النور. 6- فتح الباري 13/448. 7- المصدر السابق ص446. 8- صحيح مسلم 4/2045. 9- فتح الباري 13/446. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 516 وفيه أيضاً من حديث أبي قتادة رضي الله عنه حين ناموا عن الصلاة قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله قبض أرواحكم حين شاء، وردها حين شاء ... " الحديث1. وفيه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لكل نبي دعوة فأريد إن شاء الله أن أختبئ دعوتي لأمتي يوم القيامة" 2. فالآيات القرآنية والأحاديث النبوية السابقة دلت على أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. وقبل أن نختم الكلام على مرتبة المشيئة هناك أمر يجب أن يتنبه له وبمعرفته تزول إشكالات كثيرة تعرض لمن قصر علمه به وهو أن الله ـ جل وعلا ـ له الخلق والأمر، وأمره ـ سبحانه ـ نوعان: أـ أمر كوني قدري. ب ـ وأمر ديني شرعي. فمشيئة الرب ـ سبحانه ـ متعلقة بخلقه وأمره الكوني، وكذلك تتعلق بما يحب وبما يكرهه كله داخل تحت مشيئته كما خلق إبليس وهو يبغضه، وخلق الشياطين والكفار والأعيان، والأفعال المسخوطة وهو يبغضها فمشيئته ـ سبحانه ـ شاملة لذلك كله، وأما محبته ورضاه فمتعلقة بأمره الديني وشرعه الذي شرعه على ألسنة رسله فما وجد منه تعلقت به المحبة والمشيئة جميعاً فهو محبوب للرب واقع بمشيئته كطاعات الملائكة والأنبياء والمؤمنين، وما لم يوجد منه تعلقت به محبته وأمره الديني ولم تتعلق به مشيئته وما وجد من الكفر والفسوق والمعاصي تعلقت به مشيئته ولم تتعلق به محبته ولا رضاه ولا أمره الديني، وما لم يوجد منها لم تتعلق به مشيئته ولا محبته فلفظ المشيئة كوني ولفظ المحبة ديني شرعي، ولفظ الإرادة ينقسم إلى إرادة كونية فتكون بمعنى المشيئة، وإرادة دينية فتكون بمعنى المحبة، إذا عرف هذا فقوله ـ تعالى ـ {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} وقوله: {وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} 3 وقوله: {وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} 4 لا يناقض نصوص القدر والمشيئة   1- المصدر السابق صفحة 447. 2- المصدر السابق ص447. 3- سورة البقرة آية: 205. 4- سورة البقرة آية: 185. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 517 العامة الدالة على وقوع ذلك بمشيئته وقضائه وقدره فإن المحبة غير المشيئة والأمر غير الخلق ونظير هذا لفظ الأمر فإنه نوعان: أمر تكوين، وأمر تشريع والثاني قد يعصى وبخلاف أمر التكوين فقوله ـ تعالى ـ {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} 1 لا يناقض قوله: {إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} 2 وليس هناك حاجة إلى تكلف تقدير أمرنا مترفيها بالطاعة فعصونا وفسقوا فيها بل الأمر هنا أمر تكوين وتقدير لا أمر تشريع" أ. هـ3. والحاصل مما تقدم من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة إثبات مشيئة الرب ـ جل وعلا ـ وأنها الموجبة لكل موجود في هذا الكون كما أن عدم مشيئته ـ سبحانه ـ يوجب عدم الشيء فهما الموجبتان، فما شاء الله تحتم وجوده وما لم يشأ تحتم عدمه وامتناعه وهذا أمر شامل لكل مقدور من أعيان وأفعال، وحركات وسكنات ـ فسبحانه ـ أن يكون في ملكه ما لا يشاء، أو أن يشاء شيئاً فلا يكون، وإن كان في الأشياء ما لا يرضاه ولا يحبه، وإن كان يحب الشيء فلا يحصل لعدم مشيئته ـ سبحانه ـ له ولو شاء ذلك لوجد. له الحكم النافذ، والمشيئة المطلقة، والقدرة التامة على كل شيء. 4 ـ مرتبة خلق الله ـ سبحانه ـ الأعمال وتكوينه وإيجاده لها: لقد دلت سورة "الزمر" على أن الله تعالى هو الخالق لكل شيء ومن ذلك أعمال العباد، فهو المكون لها والموجد لها ـ وحده لا شريك له ـ قال تعالى: {اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} . هذه الآية الكريمة من السورة تدل على أن جميع الأشياء مخلوقة فقد أخبر ـ تعالى ـ أنه خالق لجميع العالم علويه، وسفليه، ومن ضمن ذلك أفعال عباده فإنها شيء من الأشياء، ففيها رد على القدرية القائلين بأن العبد هو الخالق لأفعاله، كما أن فيها رداً على الفلاسفة القائلين بقدم العالم، وهي أيضاً: ترد على القائلين بقدم الأرواح، وهذه الأقوال صادرة عن أهل الباطل، وهي تتضمن تعطيل ـ الباري سبحانه ـ عن خلقه.   1- سورة الإسراء آية: 16. 2- سورة الأعراف آية: 28. 3- شفاء العليل ص47 ـ 48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 518 قال العلامة ابن القيم: حول قوله تعالى: {اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} الآية "وهذا عام محفوظ لا يخرج عنه شيء من العالم أعيانه وأفعاله وحركاته وسكناته، وليس مخصوصاً بذاته، وصفاته، فإنه الخالق بذاته وصفاته وما سواه مخلوق له واللفظ قد فرق بين الخالق والمخلوق، وصفاته ـ سبحانه ـ داخلة في مسمى اسمه فإن الله ـ سبحانه ـ اسم للإله الموصوف بكل صفة كمال المنزه عن كل صفة نقص ومثال، والعالم قسمان: أعيان وأفعال وهو الخالق لأعيانه وما يصدر عنها من الأفعال، كما أنه العالم بتفاصيل ذلك، فلا يخرج شيء منه عن علمه، ولا عن قدرته، ولا عن خلقه ومشيئته" أ. هـ1. وقال شارح الطحاوية: {اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} أي: الله خالق كل شيء مخلوق فدخلت أفعال العباد في عموم "كل" وما أفسد قولهم ـ يعني المعتزلة ـ في إدخال كلام الله تعالى في عموم "كل" الذي هو صفة من صفاته يستحيل عليه أن يكون مخلوقاً، وأخرجوا أفعالهم التي هي مخلوقة من عموم كل!! وهل يدخل في عموم كل إلا ما هو مخلوق؟ فذاته المقدسة وصفاته غير داخلة في هذا العموم، ودخل سائر المخلوقات في عمومها" أ. هـ2. وقال البغوي: " {اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} أي: مما هو كائن، أو يكون في الدنيا والآخرة" أ. هـ3. وقال ابن كثير: {اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} يخبر تعالى أنه خالق الأشياء كلها وربها ومليكها والمتصرف فيها، وكل تحت تدبيره وقهره وكلاءته" أ. هـ4. ومن هذه التفاسير للآية من مفسري أهل السنة يتبين أن أفعال العباد جميعها مخلوقة ومقدرة للمولى ـ جل وعلا ـ إذ هو ـ سبحانه ـ الخالق وما سواه كله مخلوق. وأما قول القدرية: في الآية {اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} مما لا يقدر عليه غيره وأما أفعال العباد التي يقدر عليها العباد فإضافتها إليهم ينفي أضافتها إليه، وإلا لزم وقوع مفعولين بين فاعلين وهو محال" أ. هـ5.   1- شفاء العليل ص53. 2- شرح الطحاوية ص496. 3- تفسير البغوي على حاشية الخازن 6/96. 4- تفسير القرآن العظيم 6/105. 5- شفاء العليل ص54. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 519 فهذا زعم باطل لأن إضافة أفعال العباد إليهم فعلاً وكسباً لا ينفي إضافتها إليه ـ سبحانه ـ خلقاً ومشيئة فهو ـ سبحانه ـ الذي شاءها وخلقها حقيقة وهم الذين فعلوها وكسبوها حقيقة فلو لم تكن مضافة إلى مشيئته وقدرته وخلقه لاستحال وقوعها منهم إذ العباد أعجز وأضعف من أن يفعلوا ما لم يشأه الله ولم يقدر عليه ولا خلقه" أ. هـ1. وهناك آيات كثيرة وردت في كتاب الله ـ تعالى ـ وهي تدل على ما دلت عليه هذه الآية من السورة مثل قوله ـ تعالى ـ {ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْء} 2 فيدخل في هذا العموم الأعيان والأفعال من الخير والشر. وقوله ـ تعالى ـ: {أَمْ جَعَلُوا للهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْء} 3. قال البيهقي: عقب هذه الآية: "فنفى أن يكون خالق غيره، ونفى أن يكون شيء سواه غير مخلوق، فلو كانت الأفعال غير مخلوقة لكان الله ـ سبحانه ـ خالق بعض الأشياء دون جميعها وهذا خلاف الآية، ومعلوم أن الأفعال أكثر من الأعيان، فلو كان الله خالق الأعيان والناس خالقي الأفعال لكان خلق الناس أكثر من خلقه ولكانوا أتم قوة منه وأولى بصفة المدح من ربهم ـ سبحانه ـ ولأن الله ـ تعالى ـ قال: {وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} 4 فأخبر أن أعمالهم مخلوقة لله ـ عز وجل ـ أ. هـ5. ولا يقال إن "ما" مصدرية ـ أي خلقكم وعملكم ـ لأن سياق الآية يأباه لأن الخليل عليه الصلاة والسلام إنما أنكر عليهم عبادة المنحوت لا النحت والآية تدل على أن المنحوت مخلوق لله ـ تعالى ـ، وهو ما صار منحوتاً إلا بفعلهم فيكون ما هو من آثار فعلهم مخلوقاً لله ـ تعالى ـ ولو لم يكن النحت مخلوقاً لله ـ تعالى ـ لم يكن المنحوت مخلوقاً له، بل الخشب أو الحجر لا غير"6.   1- المصدر السابق. 2- سورة غافر آية: 62. 3- سورة الرعد آية: 16. 4- سورة الصافات آية: 96. 5- الاعتقاد ص59 ـ 60. 6- شرح الطحاوية ص496، وانظر مجموع الفتاوى 8/79. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 520 ومما يدل على أن العباد فاعلون حقيقة قوله ـ تعالى ـ {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ} 1 وقوله تعالى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 2. وقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا فَعَلُوهُ} 3 وقوله: {فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} 4. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ـ تعالى ـ: "والعباد فاعلون حقيقة والله خالق أفعالهم والعبد هو المؤمن والكافر والبر والفاجر والمصلي والصائم، وللعباد القدرة على أعمالهم ولهم إرادة والله خالقهم وقدرتهم وإرادتهم كما قال ـ تعالى ـ {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 5 وهذه الدرجة من القدر يكذب بها عامة القدرية الذين سماهم النبي صلى الله عليه وسلم مجوس هذه الأمة، ويغلو فيها قوم من أهل الإثبات حتى سلبوا العبد قدرته واختياره ويخرجون عن أفعال الله وأحكامه حكمها ومصالحها" أ. هـ6. وقال العلامة ابن القيم: "ومن الدليل على خلق أعمال العباد قوله تعالى {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} 7 فأخبر أنه هو الذي جعل السرابيل وهي الدروع والثياب المصنوعة ومادتها لا تسمى سرابيل إلا بعد أن تحيلها صنعة الآدميين وعملهم، فإذا كانت مجعولة لله فهي مخلوقة له بجملتها صورتها ومادتها وهيئاتها، ونظير هذا قوله {وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ} 8 فأخبر ـ سبحانه ـ أن البيوت المصنوعة المستقرة والمتنقلة مجعولة له، وهي إنما صارت بيوتاً بالصنعة الآدمية"9.   1- سورة البقرة آية: 197. 2- سورة الحج آية: 77. 3- سورة الأنعام آية: 137. 4- سورة هود آية: 36. 5- سورة التكوير آية: 28 ـ 29. 6- العقيدة الواسطية مع شرحها لمحمد خليل هراس ص135 ـ 137. 7- سورة النحل آية: 81. 8- سورة النحل آية: 80. 9- شفاء العليل ص54 ـ 55. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 521 ومن الآيات الدالة على خلق أفعال العباد قوله تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور} 1. قال البيهقي: "فأخبر أن قولهم وسرهم وجهرهم خلقه وهو بجميع ذلك عليم" أ. هـ2. فهذه الآيات التي قدمنا ذكرها دلت على أن الله خالق كل شيء فهو خالق كل عامل وعمله، وكل متحرك وحركته وكل ساكن وسكونه، وما من ذرة في السموات ولا في الأرض إلا والله ـ سبحانه وتعالى ـ خالقها وخالق حركتها وسكونها ـ سبحانه ـ لا خالق غيره ولا رب سواه. كما دلت على أن للعباد قدرة على أعمالهم، ولهم مشيئة والله تعالى خالقهم وخالق قدرتهم ومشيئتهم، وأقوالهم وأعمالهم وهو الذي منحهم إياها وأقدرهم عليها وجعلها قائمة بهم مضافة إليهم حقيقة، وبحسبها كلفوا وعليها يثابون ويعاقبون، كما قال تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} 3 وقال تعالى: {وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} 4 ولم يكلفهم الله تعالى إلا وسعهم ولم يحملهم إلا طاقتهم كما قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} 5. وروى البخاري في صحيحه بإسناده إلى البراء بن عازب رضي الله عنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق ينقل معنا التراب وهو يقول: والله لولا الله ما اهتدينا ... ولا صمنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إذ لا قينا والمشركون قد بغوا علينا ... إذا أرادوا فتنة أبينا6   1- سورة الملك آية: 13. 2- الاعتقاد ص60. 3- سورة الزخرف آية: 72. 4- سورة السجدة آية: 14. 5- سورة البقرة آية: 286. 6- صحيح البخاري مع الفتح 11/515 ـ 516. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 522 وقال صلى الله عليه وسلم في شأن الحمر: "ما أنزل الله علي فيها شيئاً إلا هذه الآية الجامعة الفاذة" {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} 1. وكما أن العباد لم يوجدوا أنفسهم فكذلك لم يوجدوا أفعالهم، فقدرتهم وإرادتهم ومشيئتهم وأفعالهم، تبع لقدرة الله ـ سبحانه ـ وإرادته ومشيئته وأفعاله، إذ هو ـ تعالى ـ خالقهم وخالق قدرتهم ومشيئتهم وإرادتهم وأفعالهم وليست مشيئتهم وإرادتهم وقدرتهم وأفعالهم هي عين مشيئة الله ـ تعالى ـ وإرادته، وقدرته، وفعله، كما ليسوا هم إياه ـ تعالى ـ عن ذلك علواً كبيراً بل إن أفعالهم المخلوقة قائمة بهم لائقة بهم مضافة إليهم حقيقة، وهي من آثار أفعاله ـ تعالى ـ القائمة به اللائقة المضافة إليه حقيقة. فالله ـ تعالى ـ هاد حقيقة، والعبد مهتد حقيقة ولهذا أضاف ـ تعالى ـ كلاً من الفعلين إلى من قام به. فقال ـ عز وجل ـ {مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَد} 2 فإضافة الهداية إلى الله ـ تعالى ـ حقيقة، وإضافة الاهتداء إلى العبد حقيقة، وكما أن الهادي ـ تعالى ـ ليس هو عين المهتدي فكذلك ليست الهداية هي عين الإهتداء، وكذلك يضلل الله ـ تعالى ـ من يشاء حقيقة، وذلك العبد يكون ضالاً حقيقة وهو ـ سبحانه ـ وتعالى خالق المؤمن وإيمانه والكافر وكفره كما قال ـ جل وعلا ـ {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} 3. فالله ـ تعالى ـ هو الخالق لعباده على هذه الصفة وأراد منهم ذلك كوناً لا شرعاً، فلا بد من وجود المؤمن والكافر، وهو ـ سبحانه ـ البصير بمن يستحق الهداية ممن يستحق الضلال وهو شهيد على أعمالهم وسيجزيهم عليها جزاءاً وفاقاً ولذلك قال تعالى: {وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} 4 فأضاف ـ سبحانه ـ الخلق الذي هو فعله القائم به إليه حقيقة وأضاف الإيمان والكفر الذي هو عملهم القائم بهم إليهم حقيقة والله ـ تبارك وتعالى ـ هو الذي جعلهم كذلك، وهم فعلوه فاختيارهم وقدرتهم ومشيئتهم التي منحهم الله إياها وخلقها فيهم وأمرهم ونهاهم بحسبها.   1- متفق عليه من حديث أبي هريرة، صحيح البخاري 3/220، مسلم 2/682. 2- سورة الأعراف آية: 178. 3- سورة التغابن آية: 2. 4- جزء من الآية رقم 2 من سورة التغابن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 523 والأدلة من الكتاب والسنة على هذا كثيرة جداً. قال ابن القيم: "وبالجملة فكل دليل في القرآن على التوحيد فهو دليل على القدر وخلق أفعال العباد ولهذا كان إثبات القدر أساس التوحيد. قال ابن عباس: الإيمان بالقدر نظام التوحيد فمن كذب بالقدر نقض تكذيبه توحيده" ا. هـ1. أقوال الناس في أفعال العباد الإختيارية: هذه المسألة فيها أراء ثلاثة: القول الأول: للجبرية: فقد زعمت الجبرية ورئيسهم الجهم بن صفوان السمرقندي: أن التدبير في أفعال الخلق كلها لله ـ تعالى ـ، وهي كلها اضطرارية كحركات المرتعش، والعروق النابضة، وحركات الأشجار وإضافتها إلى الخلق مجاز وهي على حسب ما يضاف الشيء إلى محله دون ما يضاف إلى محصله2. القول الثاني ـ للمعتزلة: ورأي المعتزلة مقابل لرأي الجبرية: فقد قالوا: إن جميع الأفعال الإختيارية من جميع الحيوانات بخلقها لا تعلق لها بخلق الله ـ تعالى ـ واختلفوا فيما بينهم هل الله ـ تعالى ـ يقدر على أفعال العباد أم لا" أ. هـ3. القول الثالث ـ قول أهل الحق: وهو أن أفعال العباد بها صاروا مطيعين وعصاة، وهي مخلوقة لله ـ تعالى ـ والحق ـ سبحانه وتعالى ـ منفرد بخلق المخلوقات لا خالق لها سواه" أ. هـ4.   1- شفاء العليل ص65. 2- شرح الطحاوية ص493، الملل والنحل للشهرستاني 1/85، التبصير في الدين ص107. 3- شرح الطحاوية ص493، مقالات الإسلاميين 1/298، الفرق بين الفرق ص114، الملل والنحل للشهرستاني 1/45. 4- شرح الطحاوية ص493. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 524 فالقول الأول وهو قول الجبرية من أفسد المذاهب إذ أنهم غلوا في إثبات القدر حتى نفوا فعل العبد بالكلية وجعلوه كريشة في مهب الريح تصفقها كيف تشاء. وأما القدرية نفاة القدر فقد جعلوا العباد خالقين مع الله ـ تعالى ـ ولهذا كانوا "مجوس هذه الأمة"1 بل أخبث من المجوس حيث أن المجوس أثبتوا خالقين اثنين وهم أثبتوا خالقين كثيرين. وللجبرية والقدرية أدلة يستدلون بها على دعاويهم الباطلة ومذاهبهم الفاسدة وهي في الحقيقة حجج عليهم في بطلان ما يدَّعون. فما استدل به الجبرية: قوله ـ تعالى ـ {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى} 2 قالوا: إن الله نفى عن نبيه الرمي وأثبته لنفسه ـ سبحانه ـ فدل على أنه لا فعل للعبد. وقالوا أيضاً: إن الجزاء غير مرتب على الأعمال بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل أحداً الجنة عمله" قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بمغفرة ورحمة" 3. ومما استدل به القدرية قوله ـ تعالى ـ {فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} 4 قالوا: والجزاء مرتب على الأعمال ترتب العوض كما قال ـ تعالى ـ {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 5 {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} 6 وحجج الفريقين عليهم لا لهم. فأما ما استدل به الجبرية من قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى} 7 فهو دليل عليهم لا لهم لأنه ـ تعالى ـ أثبت لرسوله صلى الله عليه وسلم رمياً بقوله: {إِذْ رَمَيْتَ} ومن هنا يعلم أن المثبت غير المنفي وذلك أن "الرمي" له ابتداء وانتهاء فابتداؤه الحذف، وانتهاؤه الإصابة، وكلاهما يسمى رمياً فيكون المعنى حينئذ والعلم لله تعالى: "وما أصبت إذ حذفت ولكن الله أصاب" وإلا فيطرد على قولهم: "وما صليت إذ صليت ولكن الله صلى! وما صمت إذ صمت وما سرقت إذ سرقت! وبطلان هذا بين واضح"8.   1- انظر سن أبي داود 2/525 من حديث ابن عمر. 2- سورة الأنفال آية: 17. 3- رواه البخاري من حديث عائشة الفتح 11/294، صحيح مسلم 4/2171. 4- سورة المؤمنون آية: 14. 5- سورة السجدة آية: 17. 6- سورة الزخرف آية: 72. 7- سورة الأنفال آية: 17. 8- شرح الطحاوية ص495 وانظر مجموع الفتاوى 8/18، التبصير في الدين ص107. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 525 ويشبه قول الجبرية في البطلان الكسب عند الأشاعرة فإنهم يقولون: إن قدرة العبد لا تأثير لها في فعله. جاء في "غاية المرام" "وذهب من عدا هؤلاء من أهل الحق إلى أن أفعال العباد مضافة إليهم بالإكتساب وإلى الله تعالى بالخلق والإختراع وأنه لا أثر للقدرة الحادثة فيها أصلاً"1. "وهذا المذهب مماثل لمذهب الجبرية إن لم يكن عينه، وليس أهله أهل الحق كما زعم إذ كيف يثبتون قدرة لا أثر لها، وهذا في الحقيقة نفي للقدرة كلياً ولهذا يقال: كسب الأشعري من محالات الكلام"2. وأما ترتب الجزاء على الأعمال فقد ضلت فيه طائفتا الجبرية والقدرية وهدى الله أهل السنة والجماعة وذلك بفضله ومنته عليهم بسلوك الصراط السوي. فهم يقولون: إن الباء التي في النفي غير الباء التي في الإثبات فالمنفي في قوله عليه الصلاة والسلام "لن يدخل أحد الجنة بعمله" 3 باء العوض وهو أن تكون العمل كالثمن لدخول الرجل إلى الجنة كما تزعم ذلك المعتزلة أن العامل مستحق دخول الجنة على ربه بعمله. بل ذلك برحمة الله وفضله والباء التي في قوله ـ تعالى ـ {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 4 وغيرها باء السبب أي بسبب عملكم والله ـ تعالى ـ هو خالق الأسباب والمسببات فرجع الكل إلى محض فضل الله ورحمته"5. وأما استدلال المعتزلة بقوله ـ تعالى ـ {فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} 6 فمعنى هذه الآية: أحسن المصورين المقدرين و"الخلق" يذكر ويراد به التقدير وهو المراد هنا بدليل قوله ـ تعالى ـ {اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْء} 7. والناظر في مذهب الجبرية والقدرية يجد أن كل طائفة منهما معها حق وباطل وأدلة   1- غاية المرام ص207، الاعتقاد للبيهقي ص60، المواقف في علم الكلام ص312 وما بعدها. 2- شفاء العليل ص50. 3- تقدم تخريجه قريباً وهو في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها وعن أبيها. 4- سورة السجدة آية: 17. 5- مجموع الفتاوى 8/70، وشرح الطحاوية 495. 6- سورة المؤمنون آية: 14. 7- سورة الرعد آية: 16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 526 كل منهما إنما تنهض على بطلان خطأ الطائفة الأخرى لا على إبطال ما أصابوا فيه، فكل دليل صحيح للجبرية إنما يدل على إثبات قدرة الرب ـ تعالى ـ ومشيئته وأنه لا خالق غيره وأنه على كل شيء قدير لا يستثنى من هذا العموم فرد واحد من أفراد الممكنات وهذا حق، ولكن ليس معهم دليل صحيح ينفي أن يكون العبد قادراً مريداً فاعلاً بمشيئته وقدرته وأنه فاعل حقيقة وأفعاله قائمة به، وأنها فعل له، وأنها قائمة به. وكل دليل صحيح يقيمه القدرية فإنما يدل على أن أفعال العباد فعل لهم قائمة بهم واقعة بقدرتهم، ومشيئتهم وإرادتهم وأنهم مختارون لها غير مضطرين ولا مجبورين، وليس معهم دليل صحيح ينفي أن يكون الله ـ سبحانه ـ قادراً على أفعالهم وهو الذي جعلهم فاعلين. فأدلة الجبرية صحيحة متضافرة على من نفى قدرة الرب ـ سبحانه ـ على كل شيء من الأعيان والأفعال ونفى عموم مشيئته وخلقه لكل موجود، وأثبت في الوجود شيئاً بدون مشيئته وخلقه. "وأدلة القدرية صحيحة متضافرة على من نفى فعل العبد وقدرته ومشيئته واختياره وقال إنه ليس بفاعل شيئاً والله يعاقبه على ما لم يفعله ولا له قدرة عليه بل هو مضطر إليه مجبور عليه"1. "فإذا ضممنا ما عند كل طائفة منهما من الحق إلى حق الأخرى فإنما يدل ذلك على ما دل عليه كتاب الله، وسائر كتب الله المنزلة قبله من عموم قدرة الله ومشيئته لجميع ما في هذا الكون من الأعيان والأفعال وأن العباد فاعلون لأفعالهم حقيقة، وأنهم يستوجبون عليها المدح والذم"2. وعند التأمل للأدلة التي أسلفناها التي دلت على أن العباد فاعلون حقيقة، والله ـ تعالى ـ خالقهم وخالق أفعالهم وأنهم مختارون، لهم إرادة ومشيئة تابعة لإرادة الله ومشيئته. نعلم أن أهل الكلام الباطل، وأهل الأهواء والبدع من جميع الطوائف هم أبخس الناس حظاً، وأقلهم نصيباً، وأخسرهم عملاً. وأن أهل السنة والجماعة هم أهل الحق في   1- شفاء العليل ص51. 2- شرح الطحاوية ص494. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 527 هذه المسألة وغيرها "فإنهم يثبتون قدرة الله على جميع الموجودات من الأعيان والأفعال ومشيئته العامة، وينزهونه أن يكون في ملكه ما لا يقدر عليه ولا هو واقع تحت مشيئته، ويثبتون القدر السابق وأن العباد يعملون على ما قدره الله وقضاه وفرغ منه وأنهم لا يشاؤون إلا أن يشاء الله، ولا يفعلون إلا من بعد مشيئته وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ولا تخصيص عندهم في هاتين القضيتين بوجه من الوجوه، والقدر عندهم قدرة الله ـ تعالى ـ وعلمه، ومشيئته وخلقه فلا تتحرك ذرة فما فوقها إلا بمشيئته وعلمه، وقدرته فهم المؤمنون "بلا حول ولا قوة إلا بالله" على الحقيقة إذا قالها غيرهم على المجاز إذ العالم علويه، وسفليه، وكل حي يفعل فعلاً فإن فعله بقوة فيه على الفعل وهو في حول من ترك إلى فعل ومن فعل إلى ترك، ومن فعل إلى فعل، وذلك كله بالله ـ تعالى ـ ويؤمنون بأن من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له وأنه هو الذي يجعل المسلم مسلماً والكافر كافراً والمصلي مصلياً والمتحرك متحركاً وهو الذي يسير عبده في البر والبحر وهو المسير والعبد السائر ... ويثبتون مع ذلك قدرة العبد وإرادته، واختياره وفعله حقيقة لا مجازاً وهم متفقون على أن الفعل غير المفعول ... فحركات العباد واعتقاداتهم أفعال لهم حقيقة وهي مفعولة لله ـ سبحانه ـ مخلوقة له حقيقة والذي قام بالرب ـ عز وجل ـ علمه وقدرته ومشيئته وتكوينه والذي قام بهم هو فعلهم وكسبهم وحركاتهم وسكناتهم فهم المسلمون المصلون القائمون القاعدون حقيقة، وهو ـ سبحانه ـ هو المقدر لهم على ذلك القادر عليه الذي شاءه منهم وخلقه لهم ومشيئتهم وفعلهم بعد مشيئته فما يشاؤون إلا أن يشاء الله، وما يفعلون إلا أن يشاء الله، وإذا قارن الإنسان بينه وبين المذاهب الأخرى وجد أنه المذهب الوسط السوي ووجد غيره من المذاهب خطوطاً عن يمينه وعن شماله فقريب منه، وبعيد"1.   1- شفاء العليل ص52. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 528 المبحث الرابع: ما يتعلق بالهداية والضلال قبل أن نشرع في عرض الآيات المتعلقة بالهدى والضلال من سورة "الزمر: نذكر تعريف الهدى والضلال أولاً: أما الهدى: فهو في الأصل مصدر كالسرى ومعناه: "الرشاد والدلالة ولو غير موصلة"1. وجاء في النهاية لابن الأثير: "ومن أسمائه ـ تعالى ـ الهادي وهو الذي بصَّر عباده وعرَّفهم طرق معرفته حتى أقروا بربوبيته وهدي كل مخلوق إلى ما لا بد منه في بقائه ودوام وجوده وفي الحديث "الهدي الصالح والسمت الصالح جزء من خمسة وعشرين جزءاً من النبوة"2 والمراد بالهدي هنا السيرة، والهيئة والطريقة، ومعنى الحديث: أن هذه الخلال من شمائل الأنبياء وخصالهم الحميدة وأنها معلوم من أجزاء أفعالهم لا أن المعنى أن النبوة تتجزأ. ولا أن من جمع هذه الخلال كان فيه جزءاً من النبوة، فإن النبوة غير مكتسبة ولا مجتلبة بالأسباب وإنما هي كرامة من الله تعالى" أ. هـ3. وأما تعريف الضلال: "فقد جاء في القاموس: الضلال والضلالة ... ضد الهدى"4. وفي اللسان: قال أبو منصور: "والإضلال في كلام العرب ضد الهداية والإرشاد يقال: أضللت فلاناً إذا وجهته للضلال عن الطريق وإياه أراد لبيد:   1- لوامع الأنوار البهية 1/50. 2- رواه أبو داود في سننه 2/548 من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. 3- النهاية 5/253، لوامع الأنوار 1/50. 4- القاموس 4/5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 529 من هداه سبل الخير اهتدى ... ناعم البال ومن شاء أضل قال لبيد هذا في جاهليته فوافق قوله التنزيل العزيز {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} " أ. هـ1. وبعد تعريف الهدى والضلال نقول: إن الهدى والضلال هما لب أبواب القدر، وما يتعلق به من المسائل، فإن أعظم نعمه يقدرها الله تعالى للعبد هي نعمة الهداية وأعظم مصيبة يصاب بها الإنسان هي مصيبة الضلال وكل ما بالإنسان من نعمة هي دون نعمة الهداية، وكل مصيبة مهما كبرت وعظمت فهي دون مصيبة الضلال وقد أجمع الرسل عليهم الصلاة والسلام من أولهم إلى خاتمهم والكتب المنزلة عليهم ـ أن الباري سبحانه ـ يضل من يشاء ويهدي من يشاء، وأن من هداه الله فلا مضل له ومن أضله الله فلا هادي له، فالهداية والإضلال بيده ـ سبحانه ـ وأن العبد لا يملك من ذلك شيئاً2 ونصوص الكتاب والسنة تقرر أن العبد هو الضال أو المهتدي، وقد دلت سورة "الزمر" في عدد من آياتها على أن الهداية والإضلال فعل الله والإهتداء والضلال فعل العبد وكسبه. قال تعالى: {إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} . وقال تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} . وقال تعالى: {أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} . وقال تعالى: {وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ} . وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} . وقال تعالى: {أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} .   1- اللسان 11/391، والآية رقم 8 من سورة فاطر. 2- انظر شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر لابن القيم ص65 بتصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 530 هذه سبع آيات من السورة دلت على أن الهداية والإضلال بيد الله، وأن الله تعالى هو الهادي والعبد هو المهتدي. فالآية الأولى: وهي قوله: {إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} ففيها الإخبار من الله ـ جل وعلا ـ بأنه لا يوفق للهداية إلى صراطه المستقيم من صفته الكذب والكفر بحيث تصل إليه المواعظ والآيات البينات ولا يزول عنه ما اتصف به من الصفات التي تحول بينه وبين الهداية حيث يرى الآيات فيجحدها ويكفر بها ويكذب فمثل هذا أنى له الهدى وقد أغلق على نفسه الباب فعاقبه الله بالطبع على قلبه فصار ليس أهلاً للهداية. قال ابن جرير رحمه الله ـ تعالى ـ "يقول تعالى ذكره {إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي} إلى الحق ودينه الإسلام والإقرار بوحدانيته فيوفقه له {مَنْ هُوَ كَاذِبٌ} مفتر على الله يتقول عليه الباطل، ويضيف إليه ما ليس من صفته يزعم أن له ولداً افتراءاً عليه كفار لنعمه جحود لربوبيته" أ. هـ1. وقال الرازي: {إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} والمراد أن من أصر على الكذب والكفر بقي محروماً عن الهداية" أ. هـ2. وأما الآية الثانية: وهي قوله: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} هذه الآية بينت بأن من فسح الله قلبه لمعرفته والإقرار بوحدانيته والإذعان لربوبيته، والخضوع لطاعته، فهو على بصيرة مما هو عليه ويقين بتنوير الحق في قلبه، فهو لذلك لأمر الله متبع، وعما نهاه عنه منته فيما يرضيه، ومن كان كذلك لا يستوي هو ومن أقسى الله قلبه وأخلاه من ذكره وضيقه عن استماع الحق، واتباع الهدى، والعمل بالصواب فبين هذا والذي قبله فرق عظيم، وتفاوت كبير إذ الذين قست قلوبهم عن ذكر الله في ضلال واضح بين عن الحق. قال مجاهد: "ليس المنشرح صدره مثل القاسي قلبه"3. وأما الآية الثالثة: وهي قوله: {اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً} الآية. فهذه   1- جامع البيان 23/192. 2- التفسير الكبير 26/192. 3- جامع البيان 23/209. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 531 الآية بين الله ـ تعالى ـ فيها أن التأثير الحاصل لعباده المؤمنين عند سماعهم القرآن من اقشعرار جلودهم ولين قلوبهم إنما هو هدى من يهدي به من يشاء من عباده وهو من جملة فضل الله وإحسانه عليهم. فالقرآن طريق موصل إلى الله ـ تعالى ـ يهدي به من يشاء من عباده وهم الذين صلحت أعمالهم وحسنت مقاصدهم كما قال ـ عز وجل ـ {يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ} 1، فلا سبيل إلى الله إلاَّ بتوفيقه، والتوفيق للإقبال على كتابه فإذا لم يحصل للعباد ذلك فلا وصول إلى الهدى، وما هو إلا الضلال المبين والشقاء الأليم. قال ابن جرير رحمه الله ـ تعالى ـ {ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ} يقول تعالى ذكره "هذا الذي يصيب هؤلاء القوم الذين وصفت صفتهم عند سماعهم القرآن من اقشعرار جلودهم، ثم لينها ولين قلوبهم إلى ذكر الله من بعد ذلك وهدى الله يعني: توفيق الله إياهم ووفقهم له {يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ} يقول: يهدي تبارك وتعالى بالقرآن من يشاء من عباده، إلى أن قال وقوله: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} يقول تعالى ذكره: ومن يخذله الله عن الإيمان بهذا القرآن والتصديق بما فيه، فيضله عنه {فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} يقول: فما له من موفق له ومسدد يسدده في اتباعه" أ. هـ2. وأما الآية الرابعة: وهي قوله تعالى: { ..... وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} ففيها توضيح أن من أضله الله لم يكن لأحد سبيل إلى هدايته ورده من الكفر إلى الإيمان. قال القرطبي: " {وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} أي من خذله الله فلا مرشد له وهو يرد على القدرية"3. وأما الآية الخامسة: وهي قوله: {وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ ... } الآية. بين الله ـ تعالى ـ فيها أن من هداه ووفقه للرشاد فليس لأحد طريق إلى إضلاله. قال الطبري: {وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ ... } يقول: "ومن يوفقه الله   1- سورة المائدة آية:16. 2- جامع البيان 23/211. 3- الجامع لأحكام القرآن 15/250. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 532 للإيمان به والعمل بكتابه {فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ} يقول: فما له من مزيغ يزيغه عن الحق الذي هو عليه إلى الإرتداد إلى الكفر" أ. هـ1. وقال الشوكاني: {وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ ... } "يخرجه من الهداية ويوقعه في الضلال" أ. هـ2. وأما الآية السادسة: وهي قوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ... } الآية. هذه الآية فيها إخبار من الله تعالى بأن من اهتدى بالقرآن وعمل بما فيه واتبعه فإن نفع ذلك عائد إلى نفسه ومن ضل بعد أن اتضح له الهدى فإن ضرر ذلك عائد عليه ولا يضر الله شيئاً. وأما الآية السابعة: وهي قوله: حكاية عن الكافر الذي يتأسف على نفسه يوم القيامة حيث جانب طريق الهدى بعدم أخذه بأسباب الهداية والإيمان بالرسل. {أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} ففي هذه الآية مشهد لحال النفس التي فرطت في جنب الله أي في جانب حقه فلم تمتثل أمر الله، ولم تكن أطاعته حق الطاعة أنها تتمنى لو أن الله هداها ووفقها للرشاد فتكون مع عباد الله المتقين فتسلم من العقاب، وتظفر بالثواب، ولكن هيهات لعدم نفع هذا التمني الكاذب حيث أضاعت الفرصة في المكان الذي كان لها القدرة في الأخذ بأسباب الهدى فتكون من المهتدين، ومع عباد الله المتقين ولكن هذا التمني والتأسف وقع بعد فوات الأوان. وكما نرى أن هذه الآيات السبع المتقدمة كلها وردت في هداية التوفيق والإلهام وخلق المشيئة المستلزمة للفعل. كما أوضحت أن الهداية والإضلال فعل الله والإهتداء والضلال فعل العبد وكسبه. وقد وردت آيات كثيرة في معنى الآيات السابقة في سور أخرى من القرآن، قال تعالى: {مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} 3. دلت هذه الآية على أنه لا سبيل إلى وجود الهداية للعبد إلا بعد هداية الله له فإذا وفقه   1- جامع البيان 24/6. 2- فتح القدير 4/265. 3- سورة الأعراف آية:78. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 533 الله للهدى كان من المهتدين. قال العلامة ابن القيم: "ولا سبيل إلى وجود الأثر إلا بمؤثره التام فإن لم يحصل فعله لم يحصل فعل العبد ولهذا قال تعالى: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} 1 وهذا صريح في أن هذا الهدى ليس له صلى الله عليه وسلم ولو حرص عليه ولا إلى أحد غير الله وأن الله ـ سبحانه ـ إذا أضل عبداً لم يكن لأحد سبيل إلى هدايته" أ. هـ2. وقال تعالى: {مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 3. وقال تعالى: {مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هَادِيَ لَهُ} 4. وقال تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} 5 وقال تعالى عن أهل الجنة {الْحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللهُ} 6 ولم يقصدوا أن بعض الهدى من الله وبعضه منهم بل نسبوا الهدى كله لله ولولا أنه هداهم لما اهتدوا. وقال تعالى: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} 7 ففي هذه الآية التصريح بأن مشيئة الله تعالى في الهداية والضلال مطلقة لا يسأل عما يفعل ولكنه تعالى عدل فحاشاه أن يضل من يستحق الهداية، وحاشاه أن يهدي من يستحق الضلال فقد نزه نفسه عن ذلك فقال: {إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} 8 وقال ـ جل ثناؤه ـ {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} 9 بقي أن نعرف من هم الذين يشاء الله هدايتهم؟ ومن هم الذين يشاء الله ضلالهم؟ الذين يشاء الله هدايتهم هم الذين فتحوا قلوبهم للهدى وعقولهم للحق وأقبلوا على كتابه صادقين وانقادوا لأوامره طائعين فهؤلاء لهم العون من الله على الهداية ويوفقهم لطلبها والإقبال عليها، ويزيدهم إيماناً وهدى، وعن هذه الفئة قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} 10 وقال تعالى   1- سورة النحل آية:37. 2- شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر ص81. 3- سورة الأنعام آية:39. 4- سورة الأعراف آية:186. 5- سورة فاطر آية:8. 6- سورة الأعراف آية:43. 7- سورة المدثر آية:31. 8- سورة النساء آية:40. 9- سورة فصلت آية:46. 10- سورة محمد آية:17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 534 في شأن أهل الكهف {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً} 1 وأما الذين يشاء الله ضلالهم فهم الذين حادوا عن الحق وأعرضوا عن الهدى وسدوا عن أنفسهم جميع المنافذ التي توصلهم إلى الإيمان بالله والتزام دين الإسلام فلم يكن عندهم أي استعداد لأن يتقبلوا هدى الله الذي أنزله على رسله فهم كما قال تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} 2 وقد أخبر تعالى بأن من جحده أو كفر بدينه فإنه لا يهديه. قال تعالى: {وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} 3. وأخبر بأن من فسق في حياته وخرج عن طاعة ربه فإنه لا يهديه قال تعالى: {وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} 4 وأخبر بأنه لا يهدي القوم الظالمين قال تعالى: {وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} 5 وقال تعالى عن الفريقين معاً فريق الهداية، وفريق الضلالة {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ} 6. ومما يجب أن يعلم أن الله تعالى إنما يضل من يضل من خلقه إنما يكون ذلك بعد العذر إليهم بتبيين طرق الهدى ويمنحهم القدرة الكفاية التي تمكنهم من السير عليها فإذا قدم العبد ـ بعد العلم ـ الضلال على الهدى ولاه الله ما تولى وكان ذلك بمحض عدله سبحانه لا ظلم فيه قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} 7 والذي يؤثر طلب الهداية والرغبة فيها ويأخذ بالأسباب التي توصله إليها فإنه سيجد من الله عوناً على تحصيلها وتحقيقها وذلك من رحمة الله لعباده وفضله عليهم، ومن يؤثر الضلالة ويرغب فيها ويسعى جاهداً في طلبها ويعمل بالأسباب التي توصله إليها تمت له فلم يجد من الله تعالى صارفاً عنها وهذا من عدل الله في عباده وحسن تدبيره لهم. وإذا عرفنا ذلك فليس لعبد من عباد الله أن يعترض على الله ويقول إذا كان الله يضل ويهدي فليس للعبد حرية الإختيار. فالواقع أن الهداية والإضلال نتائج لمقدمات ومسببات   1- سورة الكهف آية:13. 2- سورة البقرة آية:171. 3- سورة البقرة آية:264. 4- سورة المائدة آية:108. 5- سورة آل عمران آية:86. 6- سورة البقرة آية:26. 7- سورة التوبة آية:115. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 535 لأسباب كما تقدم ذلك في الآيات التي قدمنا ذكرها حيث تبين لنا أن الهداية إنما هي ثمرة العمل الصالح والإقبال على منهج الله تعالى، والضلال إنما هو نتائج العمل القبيح السيئ وإذا رجعنا إلى الآيات القرآنية نجد هذا المعنى بيناً واضحاً لا التباس فيه ولا إشكال. قال تعالى: {وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} 1 وقال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} 2 فالهداية الحاصلة للمؤمنين إنما هي ثمرة مجاهدتهم لأنفسهم وإنابتهم إلى الله واستمساكهم بإرشاده ووحيه. قال تعالى في شأن الإضلال {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} 3 وقال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} 4 وقال تعالى: {بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} 5. فالذي نشاهده من خلال هذه الآيات أن سبب الإضلال هو الزيغ والخروج عن طاعة الله والكبر، والجبروت، والكفر، واقتراف الآثام، فالذي يؤثر العمى على الهدى ويستحب الظلام على النور يعاقب من الله بعمى البصيرة بمقتضى السنة الجارية وهي ارتباط الأسباب بمسبباتها. والمقدمات بنتائجها. مراتب الهداية: إن للهداية التي هي أعظم نعمة ينالها العبد أربع مراتب: المرتبة الأولى: الهداية العامة المشتركة بين الخلق أجمعين وقد ذكرها الله تعالى في قوله: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} 6 أي: أعطى كل شيء صورته التي لا يشتبه فيها بغيره، وأعطى كل عضو شكله وهيأته، وأعطى كل موجود خلقه المختص به، ثم هداه إلى ما خلقه له من الأعمال، وهذه الهداية تعم هداية الحيوان المتحرك بإرادته إلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره وهداية الجماد المسخر لما خلقه الله، فله هداية تليق به. كما أن لكل نوع من الحيوان هداية تليق به، وإن اختلفت أنواعها وضروبها، وكذلك لكل   1- سورة الرعد آية:27. 2- سورة العنكبوت آية:69. 3- سورة غافر آية:35. 4- سورة الصف آية:5. 5- سورة النساء آية:155. 6- سورة طه آية:50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 536 عضو هداية تليق به، فالرجلان للمشي، واليدان للبطش والعمل، واللسان للكلام، والأذن للاستماع، والعين لكشف المرئيات، وكل عضو لما خلق له، وهدى الزوجين من كل حيوان للإزدواج والتناسل، وتربية الولد، وهدى الولد إلى التقام الثدي عند وضعه وطلبه، وجزئيات هذه الهداية لمخلوقات الله تعالى لا يحصيها إلا هو ـ سبحانه ـ. المرتبة الثانية: هداية البيان والدلالة والتعريف لنجديْ الخير والشر وطريقي الهلاك والنجاة وهذه لا تستلزم الهدى التام فإنها سبب وشرط، وذلك لا يستلزم حصول المشروط والمسبب بل قد يتخلف عنه المقتضي، إما لعدم كمال السبب، أو لوجود مانع، قال تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} 1 قال قتادة: في قوله ـ عز وجل ـ " {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} أي: بينا لهم طريق الهدى وطريق الضلالة فاستحبوا أي: آثروا الضلالة على الهدى"2. وقال تعالى: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} 3 فهداهم هدي الدلالة والبيان فلم يهتدوا فأضلهم عقوبة لهم على ترك الإهتداء أولاً بعد أن عرفوا الهدى فأعرضوا عنه فأعماهم عنه بعد أن أراهموه وهذا شأنه ـ سبحانه ـ في كل من أنعم عليه بنعمة، فكفرها فإنه يسلبه إياها بعد أن كانت نصيبه وحظه كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} 4 وقال تعالى عن قوم فرعون {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} 5 أي: جحدوا بآياتنا بعد أن تيقنوا صحتها. وقال تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} 6. وهذه الهداية هي التي أثبتها الله لرسوله صلى الله عليه وسلم حيث قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 7 ونفى عنه ملك الهداية الموجبة وهي هداية التوفيق والإلهام بقوله   1- سورة فصلت آية:50. 2- جامع البيان 24/104، زاد المسير 7/248 ـ 249، لسان العرب 15/354. 3- سورة التوبة آية:115. 4- سورة الأنفال آية:53. 5- سورة النمل آية:14. 6- سورة آل عمران آية:86. 7- سورة الشورى آية:52. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 537 تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} 1 فالرسول صلى الله عليه وسلم بعثه الله داعياً ومبلغاً ولا يملك من الهداية شيئاً سوى هداية الدلالة والبيان وخلق الله إبليس مزيناً ومغوياً، وليس له القدرة على إضلال أحد من البشر إذ الهدى والضلال بيده ـ سبحانه ـ وقال تعالى: {وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 2 فجمع ـ سبحانه ـ بين الهدايتين العامة والخاصة، فعم بالدعوة حجة مشيئة وعدلاً، وخص بالهداية نعمة مشيئة وفضلاً، وهذه المرتبة أخص من التي قبلها فإنها هداية تخص المكلفين وهي حجة الله على خلقه التي لا يعذب أحداً إلا بعد إقامتها عليه قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} 3 وقد يقول قائل: كيف تقوم حجة الله عليهم وقد منعهم من الهدى وحال بينهم وبينه؟ ويجاب على هذا أن حجة الله قائمة عليهم بتخليته بينهم وبين الهدى، وبيان الرسل لهم وإراءتهم الصراط المستقيم حتى كأنهم يشاهدونه عياناً، ونصب لهم أسباب الهداية ظاهراً وباطناً، ولم يحل بينهم وبين تلك الأسباب، ومن حال بينه وبينها منهم بزوال عقل، أو صغر لا تمييز معه، أو كونه في ناحية من الأرض لم تبلغه دعوة الرسل فإنه ـ سبحانه ـ لا يعذبه حتى يقيم عليه حجته فهو ـ سبحانه ـ لم يمنعهم من هذا الهدى، ولم يحل بينهم وبينه، ولكنه ـ سبحانه ـ قطع عنهم توفيقه ولم يرد من نفسه إعانتهم، والإقبال بقلوبهم إليه فلم يحل بينهم، وبين ما هو مقدور لهم، وإن حال بينهم وبين ما لا يقدرون عليه، وهو فعله ومشيئته وتوفيقه فهذا غير مقدور لهم وهو الذي منعوه وحيل بينهم وبينه فليتنبه لهذا ليزول الإشكال. المرتبة الثالثة من مراتب الهداية: هداية التوفيق والإلهام وخلق المشيئة المستلزمة للفعل وهذه المرتبة أخص من التي قبلها وهي التي ضل فيها جهال القدرية بالتأويل الفاسد فقد زعموا: أن المراد من الضلال والهدى هو تسمية الله العبد مهتدياً وضالاً فجعلوا هداه، وإضلاله مجرد تسمية العبد بذلك4 وسنبين بطلان هذا قريباً بعد ذكر الآيات الدالة على هذه المرتبة. وأما الجبرية: فقد ظلموا القدرية، ولم ينصفوهم بل ظلموا أنفسهم بإنكار   1- سورة القصص آية:56. 2- سورة يونس آية:25. 3- سورة الإسراء آية:15. 4- انظر مقالات الإسلاميين 1/324 ـ 325، شفاء العليل ص82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 538 الأسباب والقوى وإنكارهم فعل العبد وقدرته، وأن يكون له تأثير في الفعل البتة فلم يهتدوا لقول القدرية، بل ازدادوا ضلالاً على ضلالهم وجموداً على ما هم عليه من الباطل1. وهداية التوفيق والإلهام وخلق المشيئة المستلزمة للفعل تتضمن أمرين: أحدها ـ فعل ـ الرب تعالى ـ وهو الهدى: الثاني: فعل العبد وهو الاهتداء وهو أثر فعل الباري ـ سبحانه ـ فهو الهادي والعبد هو المهتدي. قال تعالى: {مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} 2 وقد أمر ـ سبحانه ـ عباده جميعهم بأن يسألوه هدايتهم الصراط المستقيم في كل يوم وليلة في الصلوات الخمس المفروضة، وذلك يتضمن الهداية إلى الصراط والهداية فيه، كما أن الضلال نوعان: ضلال عن الصراط فلا يهتدي إليه، وضلال فيه، فالأول ضلال عن معرفته، والثاني ضلال عن تفاصيله، أو بعضها3 قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "والعبد مضطر دائماً إلى أن يهديه الله الصراط المستقيم فهو مضطر إلى مقصود هذا الدعاء فإنه لا نجاة من العذاب ولا وصول إلى السعادة إلا بهذه الهداية فمن فاته فهو إما من المغضوب عليهم، وإما من الضالين وهذا الهدى لا يحصل إلا بهدي الله، وهذه الآية4 مما يبين فساد مذهب القدرية"5. وهذه المرتبة دل عليها الكثير من آيات القرآن كقوله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} 6 وقوله تعالى: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} 7 فالآيتان دلتا على أن هداية الإلهام والتوفيق وخلق الهداية في القلب ليس إليه صلى الله عليه وسلم ولا إلى أحد غيره، وإنما ذلك لله وحده.   1- الملل والنحل 1/85 ـ 86 شفاء العليل ص80، لوامع الأنوار 1/90 ـ 91. 2- سورة الأعراف آية:178. 3- شفاء العليل ص81. 4- يشير إلى قوله تعالى في سورة الفاتحة {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} . 5- مجموع الفتاوى 14/37، وانظر دقائق التفسير 1/209، شفاء العليل ص81. 6- سورة القصص آية:56. 7- سورة النحل آية:37. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 539 وأما تأويل القدرية: بأن المراد من الهدى والضلال هو: "تسمية الله العبد مهتدياً وضالاً" فهذا تأويل فاسد أنكره عليهم سلف الأمة وأئمتها في كل مكان، وفي كل عصر، وبينوا أن قولهم هذا ليس له أساس، وإنما بنوه على تُرَّهاتهم الفاسدة وتأويلاتهم الباطلة. لا يصح حمل آيات الهدى والضلال على هذا المعنى وتأويلهم ذلك باطل من وجوه: الوجه الأول: أننا إذا تأملنا آيات الهدى والضلال وجدناها لا تحتمل تأويلهم ذلك إذ أنه ليس في أي لغة من اللغات فضلاً عن اللغة الفصحى التي نزل بها القرآن أن هداه بمعنى سماه مهتدياً وأضله سماه ضالاً، ولا يصح أن يقال: علَّمه إذا سماه عالماً، وفهمه إذا سماه فهماً، وكيف يصح هذا في مثل قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} 1؟ فهل فهم أحد غير القدرية المحرفة للقرآن من هذا "ليس عليك تسميتهم ولكن الله يسمي من يشاء مهتدياً"؟ وهل فهم أحد غيرهم {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} إنك لا تهدي من أحببت لا تسميه مهتدياً ولكن الله يسميه بهذا الإسم ـ سبحانك ـ هذا بهتان عظيم وقوله على الشارع بغير علم. الوجه الثاني: عليهم أن يبينوا صلاحية اللفظ للمعنى الذي ذكروه أولاً: واستعمال المتكلم له في ذلك المعنى، في أكثر المواضع حتى إذا استعمله فيما يحتمل غيره حمل على ما عهد منه استعماله فيه. الوجه الثالث: "عليهم أن يقيموا دليلاً سالماً عن المعارض على الموجب لصرف اللفظ عن ظاهره وحقيقته إلى مجازه واستعارته وإلا كان ذلك منهم مجرد دعوى لا تقبل منهم"2. وتأول بعضهم نصوص الهداية على أن المراد بها هداية البيان والتعريف لا خلق الهدى في القلب، فإنه ـ سبحانه ـ لا يقدر على ذلك عند هذه الطائفة الزائفة"3. قال محمد بن أحمد السفاريني: "تنبيه المشهور عند المعتزلة ومن مذهبهم أن   1- سورة البقرة آية:272. 2- شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر ص82 ـ 83. 3- المصدر السابق ص83. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 540 الهداية هي الدلالة الموصلة إلى المطلوب فإن لم تكن موصلة إلى المطلوب فليست بهداية عندهم"1. ويرد عليهم في هذا التأويل: أن الله تعالى قد أخبر أنه قسم الهداية إلى قسمين: قسم: لا يقدر عليه إلا هو ـ سبحانه وتعالى ـ. وقسم: مقدور للعبد قال تعالى في القسم المقدور لعبده {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 2 وقال تعالى في القسم غير المقدور للعبد {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} 3. وقال تعالى: {فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} 4 فحمل هذا على هداية الدعوة والبيان لا يصح وغير سائغ فإن هذا يهدي وإن أضله الله بالدعوة والبيان وكذا قوله تعالى: {وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ} 5 فهل يجوز حمله على معنى فمن يدعوه إلى الهدى ويبين له ما تقوم به حجة الله عليه، وكيف يصنع هؤلاء القدرية بالنصوص التي فيها أنه ـ سبحانه ـ هو الذي أضلهم؟ أيجوز لهم حملها على أنه دعاهم إلى الضلال؟ لا شك أنهم يقولون ليس هذا معناه ولكنهم لما وجدوا أنفسهم لا يستقيم لهم دليل على دعواهم جنحوا إلى تحريفات أخرى. فقالوا: إنما معناها ألفاهم، ووجدهم، كذلك، أو أعلم ملائكته ورسله بضلالهم، أو جعله على قلوبهم علامة يعرف الملائكة بها أنهم ضلال" ويرد على هذه التحريفات من وجوه: الوجه الأول: أن اللغة لا تحتمل ذلك، وأن النصوص إذا تأملها المتأمل وجدها أبعد شيء من هذا المعنى. الوجه الثاني: أما قولهم إنه علمهم بعلامة يعرفهم بها الملائكة فهذا من جنايتهم على كتاب الله تعالى ففي أي لغة وفي أي لسان يدل قوله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} على معنى إنك لا تعلمه بعلامة ولكن الله هو الذي يعلمه بها؟   1- لوامع الأنوار 1/335. 2- سورة الشورى آية:52. 3- سورة القصص آية:56. 4- سورة النحل آية:37. 5- سورة الجاثية آية:23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 541 وفي أي لغة يفهم من قول الداعي {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} 1 علِّمنا بعلامة يعرف الملائكة بها أننا مهتدون؟ وفي أي لغة يكون معنى قوله: {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} 2 علمناها بعلامة أو وجدناها كذلك؟ الوجه الثالث: يقال لهم في أي لسان وفي أي لغة؟ وجدتم هديت الرجل إذا وجدته مهتدياً وختم الله على قلبه وسمعه وجعل على بصره غشاوة وجده كذلك، فهل هذا إلا من الإفتراء المحض ومن الجناية على القرآن واللغة لم يجنها غيركم، ولما يدركوا أن تأويلاتهم الفاسدة لم تساعدهم على ما يريدون وتضمحل أمام مناقشة أهل الحق لها يجنحون إلى مراوغة أخرى فيقولون: نحن لم نقل هذا إلا في نحو أضله الله أي: وجده ضالاً كما يقال: أحمدت الرجل، وأبخلته وأجننته إذا وجدته كذلك، أو نسبته إليه. ويرد على تحريفهم هذا بأنه لم يرد إلا في ألفاظ معدودة نادرة وإلا فوضع هذا البناء على أنك فعلت ذلك به ولا سيما إذا كانت الهمزة للتعدية من الثلاثي كقام وأقمته .... لم نجد فيها لفظاً واحداً معناه أنه وجده كذلك تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً ... ثم إذا نظرنا لم نجد أحداً من الأولين والآخرين من أهل اللغة يقول: إن العرب وضعت أضله الله وهداه وختم على سمعه وقلبه، وأزاغ قلبه، وصرفه عن طاعته ونحو ذلك لمعنى وجده كذلك ولكن الله ـ سبحانه ـ لما أراد الإبانة عن هذا المعنى قال: {وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} 3 ولم يقل وأضلك. الوجه الرابع: يقال لهم أي مدح؟ وأي توحيد؟ وتعريف للخلق بأن الأمر كله لله وبيده، وأنه ليس لأحد من أمره شيء في مجرد التسمية والعلامة ومصادفة ـ الرب تعالى ـ عباده كذلك، ووجوده لهم على هذه الصفات من غير أن يكون له فيها صنع، أو خلق، أو مشيئة، إذ البشر كلهم لا يعجزون عن التسمية والمصادفة والوجود فيا عجباً لهذا الهراء الذي لا مدح فيه ولا ثناء لرب العالمين"4 ففي الحقيقة أن القدرية والجبرية لم يقدروا الله حق قدره بل هم هلكى فيما يجب لله من التعظيم والتنزيه، ولذلك أبغضهم أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينوا ما هم عليه من المنكر الواضح ومن الاعتقاد الفاسد.   1- سورة الفاتحة آية: 6. 2- سورة المائدة آية: 13. 3- سورة الضحى آية: 7. 4- شفاء العليل ص83 ـ 84 بتصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 542 روى أبو بكر محمد بن الحسين الآجري بإسناده إلى عبد الله بن الحارث قال: "خطب عمر بن الخطاب بالجابية1 فحمد الله وأثنى عليه وعنده جاثليق2 يترجم له ما يقول عمر فقال: من يهدي الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، فنفض جبينه كالمنكر لما يقول: قال عمر ما يقول؟ قالوا: يا أمير المؤمنين يزعم أن الله لا يضل أحداً قال عمر: كذبت أي عدو الله بل الله خلقك، وقد أضلك، ثم يدخلك الله النار أما والله لولا عهد لك لضربت عنقك إن الله ـ عز وجل ـ خلق أهل الجنة وما هم عاملون وخلق أهل النار وما هم عاملون فقال هؤلاء لهذه وهؤلاء لهذه قال فتفرق الناس وما يختلفون في القدر"3. المرتبة الرابعة: من مراتب الهداية: غاية هذه الهداية وهي الهداية إلى الجنة والنار إذا سيق أهلهما إليهما. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} 4. وقال تعالى عن أهل النار {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} 5. والذي نخلص إليه مما تقدم أن الهدى والإضلال بيد الله تعالى وأن العباد لا يملكون من ذلك شيئاً، وأن الله تعالى يمنحها من طلبها بإخلاص، وأخذ بالأسباب التي توصله إليها، وأسباب الهداية في مقدور كل امرئ أن يأخذ بها حتى يكون من المهتدين، أما من أعرض عنها وأبى إلا أن ينحرف عن طريق الهدى فهذا يكون نصيبه الغواية والضلال وهذا من فعل العبد وكسبه، فالهداية والإضلال فعل الله، والإهتداء والضلال فعل العبد وكسبه.   1- الجابية: مدينة بالشام انظر معجم البلدان 2/91، وانظر مختار الصحاح ص92. 2- الجاثليق: جمعه جثالقة وهو متقدم الأساقفة انظر المنجد في اللغة والأعلام ص79. 3- الشريعة للآجري ص200 ـ 201. 4- سورة يونس آية: 9. 5- انظر أنواع الهداية في "شفاء العليل" ص65 ـ 84، بدائع الفوائد 2/35 ـ 37، فتح الباري 11/515، لوامع الأنوار البهية /334 ـ 335، والآيتان رقم 22، 23 من سورة الصافات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 543 الباب الثالث: دلالة السورة على وجوب الإيمان باليوم الآخر الفصل الأول: مباحث في اليوم الآخر قبل دخول الجنة والنار المبحث الأول: النفخ في الصور ... تمهيد: إن الله تعالى فطر الإنسان على الإحساس بوجود عالم آخر بعد الموت، وهذا من أقوى الأدلة على وجود اليوم الآخر لأن الله ـ جل وعلا ـ إذا أراد أن يقنع بني الإنسان بأمر ما فإنه يغرس فكرة الاقتناع به في فطرهم، ولذا فإن الإنسان يشتاق إلى حياة خالدة ولو في عالم غير هذا العالم وهذا الإحساس شائع في نفوس البشر بحيث لا يمكن النظر إليه باستخفاف ولذلك جاءت الأديان السماوية مبشرة بحياة أخرى بعد الموت وجعلت مصير كل إنسان مرتهناً بما قدمت يداه في الحياة الدنيا وهذا مما يكسب الإنسان زيادة إيمان بربه، وما جاءت به رسله فيقدم الأعمال الصالحة استعداداً بها ليوم المعاد ولما كان القرآن الكريم خاتماً لجميع الرسالات السماوية، وليس بعده أي رسالة تبين للناس ما يختلفون فيه، وما يستجد في حياتهم فإنه جاء وافياً بمطالب الروح والجسد في تعاليمه وتوجيهاته ولما كان مرتكز الجدل في بني الإنسان جبلة وطبعاً كما قال تعالى: {وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} 1 ولما كان الإقتناع أيضاً: بحياة أخرى بعد الموت من الأمور التي شغلت فكر الإنسان، فإن القرآن الكريم جاء وافياً بالأدلة والبراهين القاطعة على البعث والجزاء، وعرض ذلك في نماذج حية، وضمنها شبه المنكرين، ولم يتركها تمر دون مناقشة لها، بل أبطل شبههم بالمنطق الصحيح والبراهين العقلية التي تزيل فكرة الفناء الأبدي التي علقت ببعض الأفكار السقيمة، وتطمئن الإنسان وتدفعه للعمل الصالح وتحيي عنده آمال التسابق إلى الدرجات العلى في حياة أفضل وقد ذكرت بعضاً من تلك البراهين في "المبحث الثالث" من هذا الفصل، ولقد دعا القرآن إلى الإيمان باليوم الآخر بأساليب متنوعة لا يقفل قلبه عنها إلا دهري جحود فيجب على المسلم التصديق الجازم بجميع ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت من فتنة القبر وعذابه. ونعيمه، والبعث   1- سورة الكهف آية: 54. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 549 والحشر، والنشر، والصحف، والميزان، والحساب، والجزاء، والصراط، والحوض والشفاعة1، والجنة والنار وأحوالهما، وما أعد الله لأهلهما إجمالاً وتفصيلاً والإيمان بالبعث بعد الموت هو أحد أركان الإيمان الستة وقد دل على وقوعه النقل، والعقل، والفطرة كما صرحت به جميع الكتب السماوية، ونادى به جميع الأنبياء والمرسلون2، وقد تعرضت سورة الزمر لمباحث كثيرة تتعلق باليوم الآخر وهي ما سنتحدث عنها فيما يأتي.   1- تقدم الكلام على الشفاعة عند الكلام على توحيد العبادة وقد أفردناها بمبحث خاص. 2- انظر إرشاد الثقات إلى اتفاق الشرائع على التوحيد والمعاد والنبوات للشوكاني ص14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 550 المبحث الأول: النفخ في الصور قبل أن نذكر الآية التي دلت على النفخ في الصور من سورة "الزمر" نذكر معنى النفخ في اللغة والإصطلاح ومعنى الصور. أما النفخ في اللغة: فقد قال الراغب: "النفخ: نفخ الريح في الشيء: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} 1 {وَنُفِخَ فِي الصُّور} 2 ... ومنه نفخ الروح في النشأة الأولى" أ. هـ3. وجاء في أساس البلاغة: "نفخ في النار، ونفخ النار بالنفاخ وهو الكير ونصبوا على النار المنافيخ، ونفخت في الزق، فتنفخ وهو يجد نفخة في بطنه ونفخة انتفاخاً من طعام وغيره" أ. هـ4. وفي القاموس: نفخ بفمه أخرج منه الريح ... والنفيخ الموكل بنفخ النار والمنفاخ آلته. أ. هـ5. والذي نستفيده من هذه التعاريف اللغوية أن النفخ هو: دفع الهواء كما يعرف كل إنسان.   1- سورة طه آية: 102. 2- سورة يس آية: 51. 3- المفردات في غريب القرآن "ص500". 4- ص446. 5- "1/281" انظر النهاية في غريب الحديث 5/90. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 551 وأما معناه في الإصطلاح: فهو نفخ مخصوص في وقت مخصوص من ملك مخصوص لما يريده الله ـ تعالى ـ كما جاء التصريح بذلك في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من أن نافخاً ينفخ في الصور بأمر الله تعالى لما يريده الله من التغيير في خلقه لأمر القيامة. وأما معنى الصور: فقد جاء في صحيح البخاري عن مجاهد أنه قال: " الصور كهيئة البوق" 1 وذكر الحافظ عن الجوهري أنه قال: "البوق الذي يزمر به وهو معروف ... " والصور إنما هو قرن كما جاء في الأحاديث المرفوعة، وقد وقع في قصة بدء الأذان بلفظ البوق، والقرن: الآلة التي يستعملها اليهود للأذان ويقال: إن الصور اسم القرن بلغة أهل اليمن وشاهده قول الشاعر: نحن نفخناهم غداة النقعين ... نطحاً شديداً لا كنطح الصورين2 قال ابن جرير: واختلف في معنى الصور ... فقال بعضهم هو قرن ينفخ فيه نفختان ... إحداهما: لفناء من كان حياً على الأرض. والثانية: لنشر كل ميت واعتلوا لقولهم ذلك بقوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} وبالخبر الذي روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذ سئل عن الصور "هو قرن ينفخ فيه" 3 وقال آخرون: الصور: جمع صورة ينفخ فيها روحها فتحيا لقولهم: سور لسور المدينة وهو جمع سورة كما قال جرير: لما أتى خبر الزبير تواضعت ... سور المدينة والجبال الخشع إلى أن قال: والصواب من القول في ذلك عندنا ما تظاهرت به الأخبار عن   1- 1/131. 2- النفخ 11/68، وانظر الصحاح 4/1452، 2/716، تحفة الأحوذي 7/117. 3- ديوان جرير ص345. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 552 رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن إسرافيل قد التقم الصور وحنى جبهته ينتظر متى يؤمر فينفخ" 1 وأنه قال: "الصور قرن ينفخ فيه" اهـ2. وقال ابن كثير بعد أن ذكر القولين المتقدمين في معنى الصور: "والصحيح أن المراد بالصور القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام" أ. هـ3، وقد ورد أنه ينفخ في الصور مع إسرافيل ملك آخر، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "النافخان في السماء الثانية ... فينظران متى يؤمران أن ينفخا في الصور فينفخا" 4. قال الحافظ بعد إيراده لهذا الحديث: "ورجاله ثقات وأخرجه الحاكم في حديث عبد الله بن عمرو" أ. هـ5. وقال الهيثمي: "رواه أحمد ورجاله ثقات" أ. هـ6. ولا تعارض بين هذا الحديث وبين ما ورد في بعض الأحاديث أن إسرافيل هو صاحب الصور ومن ذلك ما روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعاً قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحب الصور فقال: "عن يمينه جبرائيل وعن يساره ميكائيل"7. قال الحافظ: "تنبيه: اشتهر أن صاحب الصور إسرافيل عليه السلام، ونقل فيه الحليمي الإجماع"8. وهذا يحمل على أن إسرافيل رئيسهم كما قيل في شأن ملك الموت وأعوانه والعلم عند الله ـ تعالى ـ.   1- رواه أحمد والترمذي من حديث أبي سعيد المسند 3/7، سنن الترمذي 4/42. 2- جامع البيان 7/ 239، والحديث رواه الترمذي من حديث عبد الله بن عمرو وقال: حسن صحيح 4/41. 3- تفسير القرآن العظيم 3/46، وانظر تفسير روح المعاني للألوسي 7/191. 4- 2/192 من حديث أبي مرية، أو عن عبد الله بن عمرو كذلك المسند. 5- الفتح 11/369. 6- مجمع الزوائد 10/330. 7- سنن أبي داود 2/360. 8- الفتح 11/368. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 553 وقد جاء في حديث صحيح أن اليوم الذي تكون فيه النفخة والصعقة هو يوم الجمعة وهو حديث أوس بن أوس الثقفي مرفوعاً: إن أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه الصعقة وفيه النفخة"1 وقد دلت السورة على أن من الإيمان باليوم الآخر الإيمان بالصور والنفخ فيه، الذي جعله الله سبب الفزع، والضعف والقيام من القبور. قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} هذه الآية الكريمة من السورة ذكر الله فيها نفختين نفخة الصعق ونفخة البعث. والنفخات ثلاث. قال ابن كثير رحمه الله ـ تعالى ـ: "وأما النفخات في الصور فثلاث نفخات: "نفخة الفزع، ثم نفخة الصعق، ثم نفخة البعث" أ. هـ2. وقال أبو بكر بن العربي3: الصور هو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل ... ينفخ فيه بأمر ربه ثلاث نفخات: "أولاها نفخة الفزع، والثانية نفخة الصعق، والثالثة البعث" أ. هـ4. فعدد النفخات ثلاث وقد وردت كلها صريحة في القرآن. الأولى نفخة الفزع: وهي المذكورة في قوله ـ جل وعلا ـ: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللهُ} 5. قال ابن كثير: "يخبر ـ تعالى ـ عن هول يوم نفخة الفزع في الصور ... وذلك في   1- سنن النسائي 3/91 وابن خزيمة في صحيحه 3/118. 2- النهاية: 1/180. 3- هو: محمد بن عبد الله بن محمد المعافري الإشبيلي المالكي أبو بكر بن العربي قاض من حفاظ الحديث ولد في إشبيلية سنة ثمان وأربعين وتوفي سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة. انظر ترجمته في "طبقات الحفاظ للسيوطي 468، وفيات الأعيان 1/489 الديباج المذهب لابن فرحون ص281، تذكرة الحفاظ 4/1294 وما بعدها. 4- عارضة الأحوذي 9/267 ـ 268. 5- سورة النمل آية: 87. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 554 آخر عمر الدنيا حين تقوم الساعة على شرار الناس من الأحياء فيفزع من في السموات ومن في الأرض" أ. هـ1. وروى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو وجاءه رجل فقال: ما هذا الحديث الذي تحدث به؟ تقول: إن الساعة تقوم إلى كذا وكذا فقال: ـ سبحان الله ـ أو لا إله إلا الله. أو كلمة نحوها، لقد هممت أن لا أحدث أحداً شيئاً أبداً إنما قلت إنكم سترون بعد قليل أمراً عظيماً يحرق البيت ويكون، ويكون. ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يخرج الدجال في أمتي فيمكث أربعين. لا أدري: أربعين يوماً أو أربعين شهراً، أو أربعين عاماً فيبعث الله عيسى بن مريم كأنه عروة بن مسعود فيطلبه فيهلكه. ثم يمكث الناس سبع سنين ليس بين اثنين عداوة ثم يرسل الله ريحاً باردة من قبل الشام فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير أو إيمان إلا قبضته. حتى لو أن أحدكم دخل في كبد جبل2 لدخلته حتى تقبضه" قال: سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فيبقى شرار الناس في خفة الطير وأحلام السباع3 لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً، فيتمثل لهم الشيطان فيقول: ألا تستجيبون؟ فيقولون فما تأمرنا؟ فيأمرهم بعبادة الأوثان وهم في ذلك دار رزقهم، حسن عيشهم ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتاً ورفع ليتاً4 قال وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله" 5 ... الحديث6. فهذه النفخة المذكورة في الحديث هي نفخة الفزع ثم تأتي بعدها نفخة الصعق. قال ابن كثير: "فلا بد من مدة بين نفختي الفزع والصعق وقد ذكر في حديث الصور أنه يكون فيها أمور عظام من ذلك زلزلة الأرض وارتجاجها، وميدانها بأهلها وتكفيها يميناً وشمالاً قال الله ـ تعالى ـ: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنْسَانُ مَا لَهَاَ * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} 7.   1- تفسير القرآن العظيم 5/259. 2- "في كبد جبل" أي وسطه وداخله، وكبد كل شيء وسطه. 3- "في خفة الطير وأحلام السباع" أي في سرعتهم إلى الشرور وقضاء الشهوات والفساد كطيران الطير، وفي العدوان وظلم بعضهم بعضاً في أخلاق السباع العادية. 4- الليت هو صفحة العنق، أي أمال عنقه ليستمعه من السماء جيداً. 5- "يلوط حوض إبله" أي يطينه ويصلحه. 6- صحيح مسلم 4/2258 ـ 2259. 7- سورة الزلزلة آية: 1 ـ 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 555 وقال تعالى: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ * إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجّاً * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثّاً * وَكُنْتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاثَةً} 1. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ} 2. ولما كانت هذه النفخة أعني نفخة الفزع أول مبادئ القيامة كان اسم يوم القيامة صادقاً على ذلك كله. كما ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما فلا يتبايعانه، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه، ولتقومن الساعة، وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه، ولتقومن الساعة، وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها"3 وهذا إنما يتجه على ما قيل في نفخة الفزع أنها الساعة لما كانت أول مبادئها. أ. هـ4. وقد ثبت في الحديث في وصف أهل آخر الزمان بأنهم شرار الناس وعليهم تقوم الساعة5. النفخة الثانية نفخة الصعق: وهي نفخة الموت، وهذه هي التي فيها الهلاك لجميع الموجودين من أهل السموات ومن في الأرض من الإنس والجن والملائكة إلا من شاء الله. وقد قدمنا أن نفختي الصعق، والبعث دلت عليهما السورة. قال ـ تعالى ـ {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللهُ ... } .   1- سورة الواقعة آية: 1 ـ 7. 2- سورة الحج آية: 1 ـ 2. 3- صحيح البخاري مع الفتح 11/352. 4- النهاية 1/181. 5- انظر صحيح مسلم 3/1525، وسنن ابن ماجة 2/1341، المسند للإمام أحمد رحمه الله 1/405. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 556 قال ابن جرير: "يقول تعالى ذكره: ونفخ إسرافيل في القرن ... وقوله {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ} يقول: مات. وقال السدي {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ} مات1. قال ابن كثير: يقول ـ تبارك وتعالى ـ مخبراً عن هول يوم القيامة وما يكون فيه من الآيات العظيمة والزلازل الهائلة فقوله ـ تعالى ـ {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللهُ} . "هذه النفخة هي الثانية وهي نفخة الصعق وهي التي يموت بها الأحياء من أهل السموات والأرض إلا من شاء الله" أ. هـ2. وقد اختلف أهل العلم في الذين عنى الله بالإستثناء في هذه الآية: قال القرطبي: واختلف العلماء في المستثنى من هو؟ فقيل: الملائكة. وقيل: الأنبياء. وقيل: الشهداء واختاره الحليمي قال: "وهو مروي عن ابن عباس أن الإستثناء لأجل الشهداء فإن الله ـ تعالى ـ يقول: {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} 3 وضعف غيره من الأقوال ... وقال شيخنا أبو العباس4 والصحيح أنه لم يرد في تعيينهم خبر صحيح والكل محتمل" أ. هـ5. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ـ تعالى ـ: "وأما الإستثناء فهو متناول لمن   1- جامع البيان 23/29. 2- تفسير القرآن العظيم 6/109. 3- سورة آل عمران آية: 169. 4- هو أبو العباس القرطبي: أحمد بن عمر بن إبراهيم، أبو العباس الأنصاري من فقهاء المالكية ولد سنة ثمان وسبعين وخمسمائة وتوفي سنة ست وخمسين وستمائه. انظر ترجمته في البداية والنهاية 13/213، النجوم الزاهرة 7/371. 5- التذكرة 1/167، وانظر جامع البيان للطبري 24/29 ـ 31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 557 في الجنة من الحور العين، فإن الجنة ليس فيها موت ومتناول لغيرهم ولا يمكن الجزم بكل من استثناه الله فإن الله أطلق في كتابه"أ. هـ1. وقال العلامة ابن القيم: عند قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللهُ} فقد استثنى الله ـ سبحانه ـ بعض من في السموات ومن في الأرض من هذا الصعق. فقيل: هم الشهداء. وهذا قول أبي هريرة وابن عباس وسعيد بن جبير. وقيل: هم جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت وهذا قول مقاتل وغيره. وقيل: هم الذين في الجنة من الحور العين وغيرهم ومن في النار من أهل العذاب وخزنتها. قاله أبو إسحاق بن شاقلا2 من أصحابنا. وقد نص الإمام أحمد على أن الحور العين والولدان لا يمتن عند النفخ في الصور. وقد أخبر ـ سبحانه ـ أن أهل الجنة {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى} 3 وهذا نص على أنهم لا يموتون غير تلك الموتة الأولى، فلو ماتوا مرة ثانية لكانت موتتان، وأما قول أهل النار {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} 4. فتفسير هذه الآية التي في البقرة وهو قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} 5. فكانوا أمواتاً وهم نطف في أصلاب آبائهم، وفي أرحام أمهاتهم ثم أحياهم بعد ذلك ثم أماتهم، ثم يحييهم يوم النشور وليس في ذلك إماتة أرواحهم قبل يوم القيامة وإلا كانت ثلاث موتات، وصعق الأرواح عند النفخ في الصور لا يلزم منه موتها ففي الحديث   1- مجموع الفتاوى 16/36. 2- هو: أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن عمر بن حمدان بن شاقلا البزار الحنبلي، جليل القدر، كثير الرواية حسن الكلام في الأصول والفروع، توفي سنة تسع وستين وثلاثمائة هجرية. شذرات الذهب 3/68. 3- سورة الدخان آية: 56. 4- سورة غافر آية: 11. 5- سورة البقرة آية: 28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 558 الصحيح: "أن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق فإذا موسى آخذ بقائمة العرش فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة يوم الطور"1. فهذا الصعق في موقف القيامة إذا جاء الله لفصل القضاء، وأشرقت الأرض بنوره، فحينئذ تصعق الخلائق كلهم قال تعالى: {فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ} 2. ولو كان هذا الصعق موتاً لكانت موتة أخرى3 "وقد تفطن لهذا بعض أهل العلم فقد قال أبو عبد الله القرطبي ظاهر هذا الحديث أن هذه صعقة غشي تكون يوم القيامة لا الصعقة الحادثة عن نفخ الصور قال: وقد قال شيخنا أحمد بن عمرو: ظاهر حديث النبي صلى الله عليه وسلم يدل على أن هذه الصعقة إنما هي بعد النفخة الثانية، نفخة البعث ونص القرآن يقتضي أن ذلك الإستثناء إنما هو بعد نفخة الصعق، ولما كان هذا قال بعض العلماء: يحتمل أن يكون موسى ممن لم يمت من الأنبياء وهذا باطل. وقال القاضي عياض: يحتمل أن يكون المراد بهذه صعقة فزع بعد النشور حين تنشق السموات والأرض. قال: فتستقل الأحاديث والآثار، وردَّ عليه أبو العباس القرطبي فقال: يرد هذا قوله في الحديث الصحيح: أنه حين يخرج من قبره يلقى موسى آخذاً بقائمة العرش، وهذا إنما يكون عند نفخة الفزع. وقال أبو عبد الله: وقال شيخنا أحمد بن عمرو: الذي يزيح هذا الإشكال إن شاء الله تعالى أن الموت ليس بعدم محض وإنما هو انتقال من حال إلى حال، ويدل على ذلك أن الشهداء بعد قتلهم وموتهم أحياء عند ربهم يرزقون فرحين مستبشرين، وهذه صفة الأحياء في الدنيا وإذا كان هذا في الشهداء كان الأنبياء بذلك أحق وأولى مع أنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء وأنه صلى الله عليه وسلم اجتمع بالأنبياء ليلة الإسراء في بيت المقدس وفي السماء وخصوصاً بموسى وقد أخبر بأنه ما من مسلم يسلم عليه إلا رد الله روحه حتى يرد عليه ... وإذا تقرر أنهم أحياء فإذا نفخ في الصور نفخة الصعق صعق كل من السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله، فأما صعق غير الأنبياء فموت، وأما صعق   1- صحيح البخاري مع الفتح 6/430 من حديث أبي سعيد رضي الله عنه، المسند 3/33. 2- سورة الطور آية: 45. 3- الروح ص50 ـ 51. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 559 الأنبياء فالأظهر أنه غشية، فإذا نفخ في الصور نفخة البعث فمن مات حيي ومن غشي عليه أفاق، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته: فأكون أول من يصعق فنبينا أول من يخرج من قبره قبل جميع الناس إلا موسى فإنه حصل له فيه تردد: هل بعث قبله من غشيته أو بقي على الحالة التي كان عليها قبل نفخة الصعق مفيقاً لأنه حوسب بصعقة يوم الطور؟ وهذه فضيلة عظيمة في حق موسى عليه السلام ولا يلزم من فضيلة أحد الأمرين المشكوك فيهما فضيلة موسى على محمد صلى الله عليه وسلم مطلقاً لأن الشيء الجزئي لا يوجب أمراً كلياً" أ. هـ1. وقال أبو عبد الله القرطبي: إن حمل الحديث على صعقة الخلق يوم القيامة فلا إشكال، وإن حمل على صعقة الموت عند نفخ الصور وصرف ذكر يوم القيامة إلى أنه أراد أوائله، فيكون المعنى: "إذا نفخ في الصور نفخة البعث كنت أول من يرفع رأسه فإذا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور"2. وقد رد هذا العلامة ابن القيم فقال: "وحمل الحديث على هذا لا يصح لأنه صلى الله عليه وسلم تردد هل أفاق موسى قبله أم لم يصعق بل جوزي بصعقة الطور، فالمعنى لا أدري أصعق أم لم يصعق، وقد قال في الحديث: فأكون أول من يفيق، وهذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم يصعق فيمن يصعق، وأن التردد حصل في موسى هل صعق وأفاق قبله من صعقته أم لم يصعق ولو كان المراد به الصعقة الأولى وهي صعقة الموت لكان صلى الله عليه وسلم قد جزم بموته وتردد هل مات موسى أم لم يمت، وهذا باطل لوجوه كثيرة، فعلم أنها صعقة فزع لا صعقة موت وحينئذ فلا تدل الآية على أن الأرواح كلها تموت عند النفخة الأولى نعم تدل على أن موت الخلائق عند النفخة الأولى وكل من لم يذق الموت قبلها فإنه يذوقه حينئذ وأما من ذاق الموت أو من لم يكتب عليه الموت فلا تدل الآية على أنه يموت موتة ثانية، والله أعلم ـ ثم قال رحمه الله ـ: فإن قيل: فكيف تصنعون بقوله في الحديث: إن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من تنشق عنه الأرض فأجد موسى باطشاً بقائمة العرش3، قيل لا ريب أن هذا قد ورد   1- التذكرة ص169 بتصرف. 2- المصدر السابق ص168. 3- صحيح البخاري مع الفتح 11/367، صحيح مسلم 4/1844 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 560 هكذا ومنه نشأ الإشكال ولكنه دخل على الراوي حديث في حديث فركب اللفظين فجاء هذا والحديث هكذا. أحدهما: أن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق. والثاني: هكذا: أنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة ففي الترمذي وغيره من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، ولا فخر، وبيدي لواء الحمد، ولا فخر، وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر" 1. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح2. فدخل على الراوي هذا الحديث في الحديث الآخر وكان شيخنا أبو الحجاج الحافظ يقول ذلك. فإن قيل: فما تصنعون بقوله: "فلا أدري أفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله ـ عز وجل ـ"3. والذين استثناهم الله إنما هم مستثنون من صعقة النفخة لا من صعقة يوم القيامة كما قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللهُ} ولم يقع الاستثناء من صعقة الخلائق يوم القيامة. قيل: هذا والله أعلم غير محفوظ وهو وهم من بعض الرواة والمحفوظ ما تواطأت الروايات الصحيحة من قوله: "فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور" 4، فظن بعض الرواة أن هذه الصعقة هي صعقة النفخ، وأن موسى داخل فيمن استثنى منها، وهذا لا يلتئم على مساق الحديث قطعاً، فإن الإفاقة حينئذ هي إفاقة البعث فكيف يقول: "لا أدري أبعث قبلي أم جوزي بصعقة الطور؟ " فتأمله، وهذا بخلاف الصعقة التي يصعقها   1- سنن الترمذي 4/270، سنن ابن ماجة 2/1440 وأحمد في المسند 1/281. 2- اسمه: يوسف بن عبد الرحمن بن يوسف أبو الحجاج، محدث الديار الشامية، مهر في اللغة، ثم في الحديث ومعرفة رجاله وصنف كتباً منها: "تهذيب الكمال في أسماء الرجال" ولد سنة أربع وخمسين وستمائة، وتوفي سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة، انظر ترجمته في "الدرر الكامنة" 4/457، النجوم الزاهرة 10/76، الأعلام 9/313. 3- صحيح البخاري مع الفتح 11/367، صحيح مسلم 4/1844. 4- صحيح البخاري مع الفتح 6/430 المسند 3/33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 561 الخلائق يوم القيامة إذا جاء الله ـ سبحانه ـ لفصل القضاء بين العباد وتجلى لهم فإنهم يصعقون جميعاً، وأما موسى صلى الله عليه وسلم فإن كان لم يصعق معهم فيكون قد حوسب بصعقته يوم تجلى ربه للجبل فجعله دكاً، فجعلت صعقة هذا التجلي عوضاً من صعقة الخلائق لتجلي الرب يوم القيامة" أ. هـ1. وما ذكره ابن القيم من اعتبار الصعق لتجلي الله يوم القيامة محتمل وهناك احتمال آخر وهو أن هذا الصعق يكون النفخة الثانية، والصعق عندها صعقان صعق موت لمن كان حينئذ على قيد الحياة في الدنيا وصعق غشي فيمن تكون حياته حياة برزخية، وعلى هذا يكون الرسول صلى الله عليه وسلم وغيره حصل له هذا الصعق، وموسى يحتمل أن يكون حصل له هذا الصعق ويحتمل أنه لم يحصل له فيكون جوزي بصعقة الطور أو يكون ممن استثنى الله. والذي يبدو أن الراجح في الاستثناء المذكور في الآية: "أنه متناول لمن في الجنة من الحور العين إذ الجنة لا موت فيها وإنما هي دار خلود وبقاء كما أنه يتناول غيرهم وليس في إمكان أحد أن يقطع بكل من استثناه الله فلا يمكننا أن نجزم بذلك فيصير هذا مثل العلم بقرب الساعة وأعيان الأنبياء وغير ذلك مما لم يرد فيه خبر عن الشارع إذ هذا الأمر لا تتم معرفته إلا عن طريق خبر الشارع وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ـ تعالى ـ"2. وقد دلت السنة على أن هناك مدة بين نفختي الصعق والبعث. روى الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بين النفختين أربعون" قالوا: أربعون شهراً؟ قال: "أبيت" 3 قالوا: أربعون سنة؟ قال: "أبيت. ثم ينزل الله من السماء ماءاً فينبتون كما ينبت البقل" قال "وليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظماً واحداً وهو عجب4 الذنب". 5   1- الروح لابن القيم ص52 ـ 54، شرح الطحاوية ص467 ـ 468. 2- انظر مجموع الفتاوى 16/36. 3- معناه: أبيت أن أجزم بأن المراد أربعون يوماً، أو سنة، أو شهراً بل الذي أجزم به أنها أربعون على سبيل الإجمال. 4- عجب الذنب: عظم الطيف في أصل الصلب، وهو رأس العصعص، وهو مكان رأس الذنب من ذوات الأربع ذكره الحافظ في "هدي الساري في مقدمة فتح الباري" ص153. 5- صحيح البخاري 3/182، صحيح مسلم 4/2270 ـ 2271 واللفظ له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 562 فالمراد بالنفختين هنا نفخة الصعق ونفخة القيام للبعث والنشور، ويؤيد ذلك إنزال الماء بينهما وذكر عجب الذنب الذي منه يخلق الإنسان وفيه يركب خلقه عند بعثه يوم القيامة1. النفخة الثالثة: نفخة البعث: وهذه النفخة هي نفخة البعث والنشور والقيام لرب العالمين دل عليها من السورة قوله تعالى: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} . قال السدي: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى} قال: في الصور وهي نفخة البعث. وقال قتادة: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} . قال نبي الله: بين النفختين أربعون قال: قال أصحابه فما سألناه عن ذلك ولا زادنا على ذلك غير أنهم كانوا يرون من رأيهم أنها أربعون سنة. وذكر لنا أنه يبعث في تلك الأربعين مطر يقال له: مطر الحياة حتى تطيب الأرض وتهتز وتنبت أجساد الناس نبات البقل2. قال ابن كثير: "ثم يحيي أول من يحيي إسرافيل ويأمره أن ينفخ في الصور أخرى وهي النفخة الثالثة نفخة البعث قال الله ـ عز وجل ـ: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} أي: أحيا بعد ما كانوا عظاماً ورفاتاً صاروا أحياء ينظرون إلى أهوال يوم القيامة" أ. هـ3. وهذه النفخة التي هي نفخة البعث جاءت فيها آيات كثيرة. قال تعالى: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً} 4. وقال تعالى: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ} 5. وقال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ * قَالُوا يَا   1- النهاية لابن كثير 1/181. 2- جامع البيان 24/31. 3- تفسير ابن كثير 6/110. 4- سورة النبأ آية: 18. 5- سورة النازعات آية: 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 563 وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ * إِنْ كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} 1. وقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} 2. وقال تعالى: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ} 3. وقال تعالى: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} 4. وقد اختلف العلماء في عدد النفخات في الصور هل هي ثلاث نفخات أم نفختان فقط؟ فمنهم من قال: إنها ثلاث نفخات كما قدمنا ذكرها. ومنهم من قال: إنها نفختان فقط، واعتبروا نفخة الفزع هي نفخة الصعق لأن الأمرين لازمان لها أي: فزعوا فزعاً ماتوا منه وهذا اختيار القرطبي وغيره من بعض المفسرين5 والراجح أنها ثلاث نفخات كما قدمنا ذكرها وقد تقدم قول ابن كثير وأبي بكر بن العربي أنها ثلاث نفخات، وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى فإنه قال: والقرآن قد أخبر بثلاث نفخات نفخة الفزع، ذكرها في سورة النمل في قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ الله} 6. ونفخة الصعق والقيام ذكرهما في قوله: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} 7.   1- سورة يس آية: 51 ـ 53. 2- سورة الروم آية: 25. 3- سورة المدثر آية: 8 ـ 9. 4- سورة ق آية: 41 ـ 42. 5- الجامع لأحكام القرآن 15/281 تفسير البغوي على حاشية تفسير الخازن 5/131، تفسير الألوسي المسمى "روح المعاني" 20/31. 6- الآية رقم 87. 7- مجموع الفتاوى 16/35 ـ 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 564 وقال السفاريني: "واعلم أن النفخ في الصور ثلاث نفخات: نفخة الفزع وهي التي يتغير بها هذا العالم، ويفسد نظامه وهي المشار إليها في قوله تعالى: {وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ} 1 أي رجوع ومرد. النفخة الثانية: نفخة الصعق وفيها هلاك كل شيء. النفخة الثالثة: نفخة البعث والنشور" أ. هـ2. فالنفخات الثلاث كلها نص عليها القرآن وعينها، ومن هنا يتعين أن القول الراجح في عدد النفخات أنها ثلاث نفخات.   1- سورة ص آية: 15. 2- لوامع الأنوار 2/161 ـ 164. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 565 المحبث الثاني: بعث الموتى من قبورهم ... المبحث الثاني: بعث الموتى من قبورهم قبل أن نذكر ما جاء في سورة "الزمر" من الدلالة على بعث الموتى من قبورهم، وأن البعث يكون لهذا الجسد بعينه نذكر تعريف البعث في اللغة والشرع. أما تعريف البعث في اللغة: فإنه يختلف بحسب ما علق به فالبعث يطلق ويراد به المعاني الآتية: 1 ـ الإرسال: يقال بعثت فلاناً، أو ابتعثه أي: أرسله. 2 ـ البعث من النوم: يقال بعثه من منامه إذا أيقظه. 3 ـ الإثارة: وهو أصل البعث ومنه قيل للناقة بعثتها إذا ... أثرتها وكانت قبل باركة"1. وجاء في القاموس: "بعثه كمنعه أرسله كابتعثه فانبعث والناقة أثارها، وفلاناً من منامه أهبه ... وتبعث مني الشعر انبعث كأنه سال"2. وجاء في تهذيب اللغة: "قال الليث: بعثت البعير إذا فانبعث إذا حللت عقاله وأرسلته لو كان باركاً فأثرته، والبعث في كلام العرب على وجهين: أحدهما: الإرسال كقوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى} 3 معناه: أرسلناه.   1- الصحاح للجوهري 1/273، لسان العرب 2/116 ـ 118. 2- القاموس 1/168. 3- سورة الأعراف آية: 103. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 566 الثاني: والبعث أيضاً: الإحياء من الله للموتى ومنه قوله ـ جل وعلا ـ {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} 1 أي: أحييناكم2. وأما تعريف البعث في الشرع: فيراد به إحياء الله ـ تعالى ـ الأموات وإخراجهم من قبورهم، وهم أحياء للحساب وللجزاء كما ذكر الله ـ تعالى ـ: {خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ} 3 وقال تعالى: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} 4. وقال العلامة ابن كثير: "البعث وهو المعاد وقيام الأرواح والأجساد يوم القيامة"5. وقال أبو هلال6 العسكري: "بعث الخلق اسم لإخراجهم من قبورهم إلى الموقف ومنه قوله ـ تعالى ـ: {مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} 7. وجاء في لوامع الأنوار: "أما البعث فالمراد به المعاد الجسماني فإنه المتبادر عند الإطلاق إذ هو الذي يجب اعتقاده يكفر منكره"8. والحاصل أن البعث: هو أن يعيد الله ـ تعالى ـ الإنسان بروحه وجسده كما كان في الحياة الدنيا، وهذا كائن عندما تتعلق إرادة ـ الرب جل وعلا ـ بذلك فيخرج الخلق جميعهم من قبورهم، وهم حفاة عراة غرل بُهم. ويساقون إلى أرض الموقف لينال كل إنسان ما يستحقه من الجزاء العادل وفق ما عمل في حياته الدنيا.   1- سورة البقرة آية: 56. 2- تهذيب اللغة 2/334 ـ 335، المفردات في غريب القرآن ص52 ـ 53. 3- سورة القمر آية: 7. 4- سورة المعارج آية: 43. 5- تفسير ابن كثير 4/614. 6- هو: الحسن بن عبد الله بن سهل بن سعيد بن يحيى بن مهران العسكري أبو هلال من علماء الأدب، توفي سنة خمس وتسعين وثلاثمائة هجرية، انظر ترجمته في "خزانة الأدب" للبغدادي 1/112، معجم البلدان 5/124 الأعلام 2/211 ـ 212. 7- كتاب الفروق ص284 والآية رقم 52 من سورة يس. 8- 2/157 . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 567 وعند المقارنة بين المعنى الشرعي لكلمة "البعث" والمعنى اللغوي نجد ترابطاً وثيقاً إذ من معاني "البعث" في اللغة التحريك والإثارة لما كان ساكناً قبل ذلك، وكذلك الإرسال كما في قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ} 1. فالمعنى الشرعي: هو أن يرسل الله ـ تعالى ـ الحياة إلى الأموات ويثيرها من جديد لتتمكن من المراد منها وهو الإسراع من الأجداث إلى موقف الحساب. وقد دلت سورة "الزمر" على من أن الإيمان باليوم الآخر: الإيمان ببعث هذه الأجساد الدنيوية وإعادتها بعينها روحاً وجسداً قال تعالى: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} . قال القرطبي: {فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} أي فإذا الأموات من أهل الأرض والسماء أحياء بعثوا من قبورهم، وأعيدت إليهم أبدانهم وأرواحهم فقاموا ينظرون ماذا يؤمرون. وقيل: قيامٌ على أرجلهم ينظرون إلى البعث الذي وعدوا به، وقيل النظر بمعنى الإنتظار أي: ينتظرون ما يفعل بهم أ. هـ2. وقال العلامة ابن جرير: {فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} يقول: فإذا من صعق عند النفخة التي قبلها وغيرهم من جميع خلق الله الذين كانوا أمواتاً قبل ذلك قيام من قبورهم وأماكنهم من الأرض أحياء كهيئتهم قبل مماتهم ينظرون أمر الله فيهم. أ. هـ3. وقال الشوكاني رحمه الله تعالى: {فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} يعني: الخلق كلهم قيام على أرجلهم ينظرون ما يقال لهم، أو ينتظرون ذلك أ. هـ4. وقال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي: عند قوله تعالى: {فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} أي: قد قاموا من قبورهم لبعثهم وحسابهم قد تمت منهم الخلقة الجسدية والأرواح، وشخصت أبصارهم" أ. هـ5. ومن كلام أهل العلم الذي تقدم لبيان معنى قوله تعالى: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} .   1- سورة النحل آية: 36. 2- الجامع لأحكام القرآن 15/281، روح المعاني 14/28 ـ 29. 3- جامع البيان 24/32. 4- فتح القدير 4/475 ـ 476. 5- تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان 8/44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 568 من سورة الزمر يتبين وجه دلالتها على أن المبعوث هو الأجساد الدنيوية وليست أجساداً أخرى. وقد اختلف الناس هل المبعوث هو الجسد الأول بعينه أو غيره؟ ذكر شارح المواقف عن الحليمي والغزالي1 والراغب ومعمر من المعتزلة وبعض الإمامية والصوفية أنهم قالوا: "الإنسان بالحقيقة هو النفس الناطقة وهي المكلف والمطيع والعاصي والمثاب والمعاقب والبدن يجري منها مجرى الآلة والنفس الباقية بعد فساد البدن فإذا أراد الله تعالى حشر أجساد الخلائق خلق لكل واحد من الأرواح بدناً تتعلق به الروح وتتصرف فيه كما كان في الدنيا2" وهذا مذهب فاسد كما سنبين قريباً فساده من حيث أنه مخالف للكتاب والسنة في بيانهما صفة الإعادة بعد الموت. ثانياً: مذهب السلف في صفة الإعادة: قال شارح الطحاوية: "والقول الذي عليه السلف وجمهور العقلاء أن الأجسام تنقلب من حال إلى حال، فتستحيل تراباً، ثم ينشئها الله نشأة أخرى، كما إستحال في النشأة الأولى، فإنه كان نطفة، ثم صار علقة، ثم صار مضغة، ثم صار عظاماً ولحماً، ثم أنشأه خلقاً سوياً، كذلك الإعادة يعيده الله بعد أن يبلى كله إلا عجب الذنب كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب منه خلق ابن آدم ومنه يركب 3 ". فالنشأتان نوعان تحت جنس يتفقان ويتماثلان من وجه، ويفترقان ويتنوعان من وجه، والمعاد هو الأول بعينه، وإن كان بين لوازم البداءة فرق، فعجب الذنب هو الذي يبقى، وأما سائره فيستحيل فيعاد من المادة التي استحال إليها، ومعلوم أن من رأى شخصاً وهو صغير، ثم رآه وقد صار شيخاً علم أن هذا هو ذاك مع أنه دائماً في تحلل وإستحالة، وكذلك سائر الحيوان والنبات فمن رأى شجرة وهي صغيرة ثم رآها كبيرة قال هذه تلك. ثم   1- الغزالي له قول آخر. وهو القول بإعادة الجسد الأول بعينه. "انظر كتابه الاقتصاد في فن الاعتقاد ص180 ـ 182. 2- المواقف بشرح الجرجاني 8/289 وانظر: "كتاب محمد عبده" بين الفلاسفة والمتكلمين 2/607 وما بعدها تحقيق سليمان ديبا. 3- صحيح البخاري 3/182، صحيح مسلم 4/2270 ـ 2271. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 569 قال: "وليست صفة تلك النشأة الثانية مماثلة لصفة هذه النشأة حتى يقال: إن الصفات هي المغيرة لا سيما أهل الجنة إذا دخلوها فإنهم يدخلونها على صورة آدم طوله ستون ذراعاً كما ثبت في الصحيحين وغيرهما وروي أن عرضه سبعة أذرع، وتلك نشأة باقية غير معرضة للآفات وهذه نشأة فانية معرضة للآفات"1. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "لقد إضطرب علماء الكلام في المعاد، ومعرفة المعاد مبنية على المبدأ، والمبعث مبني على الخلق فقال بعضهم هو تفريق تلك الأجزاء، ثم جمعها وهي باقية بأعيانها". وقال بعضهم: بل يعيدها ويعدم الأعراض القائمة بها، ثم يعيدها، وإذا أعادهما فإنه يعيد تلك الجواهر التي كانت باقية إلى أن فصلت في هذا الإنسان. ولهذا اضطربوا لما قيل لهم فالإنسان إذا أكله حيوان آخر فإن أعيدت تلك الجواهر من الأول نقصت من الثاني وبالعكس، أما على قول من يقول: إنها تفرق، ثم تجمع فقيل له: تلك الجواهر إن جمعت للآكل نقصت من المأكول، وإن أعيدت للمأكول نقصت من الآكل. وأما الذي يقول: تعدم ثم تعاد بأعيانها فقيل له أتعدم لما أكلها أم قبل أن يأكلها؟. فإن كان بعد أن أكلها فإنها تعاد في الآكل فينقص المأكول، وإن كان قبل الأكل، فالآكل لم يأكل جواهر فهذه مكابرة. وبعد أن أورد هذه الشبهة التي أبطلت كلا الرأيين لعلماء الكلام قرر ما هو الحق في المسألة فقال: "والمشهور أن الإنسان يبلى ويصير تراباً كما خلق من تراب، وبذلك أخبر الله، فإن قيل: إنه إذا صار تراباً عدمت الجواهر، فهو لما خلق من تراب عدمت أيضاً تلك الجواهر، فجعل الجواهر باقية في جميع الإستحالات إلا إذا صار تراباً تناقض بين ويلزمهم عليه الحيوان المأكول وغير ذلك". أ. هـ2. وقال العلامة ابن القيم "وأما خلقه ـ سبحانه ـ فإنه أوجده لحكمة في إيجاده فإذا اقتضت حكمته إعدامه جملة أعدمه، وأحدث بدله، وإذا اقتضت حكمته تبديله وتغييره وتحويله من صورة إلى صورة بدله وغيره ولم يعدمه جملة.   1- شرح الطحاوية ص 463 ـ 464، وانظر مجموع الفتاوى لابن تيمية 17/248. 2- النبوات ص82 ـ 83، وانظر مجموع الفتاوى 17/246 ـ 247. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 570 ومن فهم هذا فهم مسألة المعاد، وما جاءت به الرسل فيه فإن القرآن والسنة إنما دلا على تغيير العالم وتحويله وتبديله لا جعله عدماً محضاً، وإعدامه بالكلية، فدل على تبديل الأرض غير الأرض والسماوات وعلى تشقق السماء وإنفطارها وتكوير الشمس وإنتشار الكواكب وسجر البحار وإنزال المطر على أجزاء بني آدم المختلطة بالتراب فينبتون كما تنبت النبات وترد تلك الأرواح بعينها إلى تلك الأجساد التي أحيلت ثم أنشئت نشأة أخرى ... إلى أن قال: "وقد أخبر الله ـ سبحانه ـ أنه يحي العظام بعد ما صارت رميماً، وأنه قد علم ما تنقص الأرض من لحوم بني آدم وعظامهم فيرد ذلك إليهم عند النشأة الثانية وأنه ينشىء تلك الأجساد بعينها بعد ما بليت نشأه أخري ويرد إليها تلك الأرواح"1. وإذا نظرنا إلى آيات القرآن الكريم وأحاديث السنة نجد أنها تبين بطلان مذهب علماء الكلام في صفة الإعادة وتؤيد مذهب السلف في أن المبعوث هو الجسد الأول بعينه لا غيره للأدلة الآتية: أولاً: إن الآيات القرآنية التي جاءت لمناقشة المنكرين للبعث جاءت نصاً في بيان أن أجساد بني آدم الدنيوية هي التي تعاد بأعيانها، ولذلك كان المنكرون للبعث يستبعدون إعادة أجسادهم بعد أن أصبحت عظاماً بالية، وأشلاء متفرقة في التراب، ومتصورة بصورته كما قال تعالى حكاية عنهم {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ * هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} 2. وقال تعالى: {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ} 3. وقال تعالى: {وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} 4. وقد أنكر الله عليهم هذا الإستبعاد، ورد على جميع شبههم وبين إمكان البعث وثبوت وقوعه بمثل قوله تعالى: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً * أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي   1- مفتاح دار السعادة 2/34 ـ 35. 2- سورة المؤمنون آية: 35 ـ 36. 3- سورة الصافات آية: 51 ـ 53. 4- سورة السجدة آية: 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 571 صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً} 1. ومثل قوله تعالى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} 2. وقوله عز وجل: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} 3. فقد بين تعالى دليل الإمكان بخلقهم الأول، وبين ثبوت وقوعه بدليل كمال قدرته وسعة علمه وذلك مما يؤيد القول ببعث الجسد الأول بعينه. ثانياً: مما يؤكد أن المعاد هو عين الجسد الأول لا غيره قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ} 4. فهذه الآيات بين الله تعالى فيها أن جوارح الإنسان التي اقترفت الذنوب والآثام هي التي تشهد على صاحبها يوم القيامة بأنه فعل كذا وكذا ولو لم تكن هذه الجوارح هي عين جوارح الإنسان التي كانت في الدنيا لما قبلت شهادتها ولا اعتذرت من الله حين استنطقها وقالت يا الله أنت الحكم العدل لا تظلم أحداً من خلقك فلا تظلمنا بما لم نعمله، أو نشاهده أو لا نعلم عنه شيئاً. ولكن لم يحصل شيء من الإعتذار، وإنما نطقت وأخبرت بما فعل صاحبها، فعلم يقيناً أنها عين الجسد الأول. وفي صحيح مسلم من حديث أنس بن مالك قال كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك فقال: "هل تدرون مم أضحك؟ " قلنا: الله ورسوله أعلم قال: "من مخاطبة العبد ربه بقول: يا رب ألم تجرني من الظلم قال: بلى قال فيقول فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهداً مني قال:   1- سورة الإسراء آية: 50 ـ 51. 2- سورة يس آية: 79. 3- سورة ق آية: 4. 4- سورة فصلت آية: 19 ـ 22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 572 يقول كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً وبالكرام الكاتبين شهوداً قال: فيختم على فيه فيقال لأركانه إنطقي. قال فتنطق بأعماله قال: ثم يخلى بينه وبين الكلام قال: فيقول بعداً لكن وسحقاً فعنكن كنت أناضل". وفي رواية أخرى عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثم يقال: الآن نبعث شاهداً عليك ويتفكر في نفسه من ذا الذي يشهد علي فيختم على فيه ويقال لفخذه ولحمه وعظامه أنطقي فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله وذلك ليعذر من نفسه وذلك المنافق وذلك الذي سيسخط الله عليه" 1. وإذا كانت أركان الإنسان وسمعه وبصره وجلده ولحمه وعظمه هي التي تتكلم فهل يبقى شك في أن المعاد هو عين الجسد الأول، لا شك أنه لا يبقى أي ريب في قلب المسلم الذي يؤمن بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وقد أفصح القرآن جد الإفصاح عن معاد الأبدان الدنيوية قال تعالى: {ومنها خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} 2. وقال تعالى: {وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتاً ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً} 3. وقال تعالى: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} 4. فهذه الآيات القرآنية تنص على أن الخلق يعودون من التراب الذي منه خلقوا، وتشير إلى أدلة الإمكان على ذلك المتمثلة في كمال قدرته ـ سبحانه ـ وسعة علمه ـ جل وعلا.   1- صحيح مسلم بشرح النووي 18/104 ـ 105. 2- سورة طه آية: 55. 3- سورة نوح آية: 17 ـ 18. 4- سورة ق آية: 1 ـ 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 573 وقال تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} 1. وقوله ـ سبحانه ـ {أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَه بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} 2 وقوله سبحانه {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} 3 وغيرها من الآيات التي تعرض شبه المنكرين للبعث المتمثلة في استبعادهم لإعادة أبدانهم التي مزقها البلى وأكلتها الأرض وأصبحت رميماً. كلها دلت على أن الإعادة أمر سهل وميسور على الله الذي خلق الإنسان ولم يك شيئاً، والذي يعلم ما أكلته الأرض وما أبقته لكمال علمه وسعة إحاطته بكل شيء، وأنه تعالى قادر على أن يجمع العظام ويسوي البنان التي هي أدق عضو ومفصل في الإنسان. وقد أخبرنا تعالى أنه كما خلقنا يعيدنا قال تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} 4. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "قال الحسن البصري ومجاهد: كما بدأكم فخلقكم في الدنيا ولم تكونوا شيئاً كذلك تعودون يوم القيامة. وقال قتادة: "بدأهم من التراب وإلى التراب يعودون كما قال تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} 5 وقال {فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} 6". وما الأحاديث النبوية: فمثل حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ما بين النفختين أربعون قالوا يا أبا هريرة أربعون يوماً؟ قال أبيت. قالوا أربعون شهراً؟ قال أبيت. قالوا أربعون سنة؟ قال أبيت، ثم ينزل الله من السماء ماءاً فينبتون كما ينبت البقل قال: وليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظماً واحداً وهو عجب الذنب ومنه يركب الخلق يوم القيامة. وفي رواية أخرى: "كل ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذنب منه خلق وفيه يركب"،   1- سورة يس آية: 78 ـ 79. 2- سورة القيامة آية: 3، 4. 3- سورة سبأ آية: 7. 4- سورة الأعراف آية: 29. 5- سورة طه آية: 55. 6- انظر مجوع الفتاوى 17/249 ـ 250 والآية رقم 25 من سورة الأعراف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 574 وفي رواية أخرى: إن في الإنسان عظماً واحداً لا تأكله الأرض أبداً فيه يركب الخلق يوم القيامة قالوا: أي عظم هو يا رسول الله؟ قال: "عجب الذنب"1. فإذا نظرنا إلى هذه الأحاديث النبوية نراها تقرر في وضوح إعادة الجسد الأول من التراب الذي استحال إليه وأن الأرض تأكل ابن آدم إلا عجب الذنب، وأما بقية الجسد فإنه يفنى ويضل فيها والله ـ سبحانه ـ وتعالى بقدرته يتولى خلقه الثاني فيحيي تلك الأجساد الميتة فيؤلف خلقها ويكمل صورتها بما ينزله على الأرض من الماء الذي ينزل عليها كأنه الطل2 حتى إذا اكتملت الصورة وتم الخلق أذن لهم بالخروج بنفخة البعث فخرج الناس من قبورهم ومكامنهم أحياء كأنهم إلى نصب يوفضون وتلك ساعة الحشر إلى الله التي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله من حديث عائشة رضي الله عنها: يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً"3 4. وقد أخبر تعالى في كتابه أنه هو الذي يتولى النشأة الآخرة. قال تعالى: {وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأُخْرَى} 5. وقال تعالى: {ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ} 6. وقال تعالى: {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ} 7. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: قال الحسن بن الفضل البجلي الذي عندي في هذه الآية يعني قوله تعالى {وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ} أي أخلقكم للبعث بعد الموت من حيث لا تعلمون كيف شئت، وذلك أنكم علمتم النشأة الأولى كيف كانت في بطون الأمهات وليست الأخرى كذلك. قال شيخ الإسلام: "ومعلوم أن النشأة الأولى كان الإنسان نطفة من مني الرجل ثم   1- صحيح مسلم بشرح النووي 18/91 ـ 92. 2- انظر صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو 4/2258 ـ 2259. 3- أي: غير مختونين. 4- صحيح مسلم بشرح النووي 17/192 ـ 193. 5- سورة النجم آية: 47. 6- سورة العنكبوت آية: 20. 7- سورة الواقعة آية: 60 ـ 61. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 575 علقة، ثم مضغة، ثم ينفخ فيه الروح، وتلك النطفة من مني الرجل والمرأة وهو يغذيه بدم الطمث الذي يربي الله به الجنين في ظلمات ثلاث: ظلمة المشيمة، وظلمة الرحم، وظلمة البطن، والنشأة الثانية: لا يكونون في بطن امرأة ولا يغذون بدم ولا يكون أحدهم نطفة رجل وامرأة، ثم يصيرون علقة، بل ينشئون نشأة أخرى وتكون المادة من التراب"1. والذي نخلص إليه مما تقدم أن صفة الإعادة هي كما قررها السلف من أن الأجساد تتقلب من حال إلى حال، فتستحيل تراباً، ثم يعيدها الله مما استحالت إليه، فينشئ لحمها وعظامها ويبعث فيها الحياة مرة ثانية، بحيث يكون المعاد هو الجسد الأول بعينه بعد رجوع روحه إليه وذلك أمر ممكن عقلاً وواقع شرعاً إذ هو الذي نشاهده في خلق الله تعالى، فإنه ـ سبحانه ـ يخلق الجسم من الجسم، كما يخلق الإنسان من الماء المهين ويخلق من الماء المهين علقة، ثم يخلق من العلقة مضغة، ثم يخلق من المضغة عظاماً، ثم يكسو العظام لحماً، ثم يسويه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين، وكذلك خلق الثمر فإنه ـ سبحانه ـ يقلب المادة التي يخرجها من الشجرة من الرطوبة، والهواء، والماء الذي ينزل عليها وكذلك الحب يفلقه، ويقلب المواد التي يخلقها منه إلى سنبلة، ثم إلى ثمرة جديدة، وكذلك الإعادة، فالأجساد تبلى، وتستحيل إلى التراب والله يعيدها مما استحالت إليه كما قال تعالى {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} 2 قال القرطبي مبيناً مذهب أهل السنة في صفة الإعادة: "ومذهب أهل السنة والجماعة أن أجساد بني آدم الدنيوية تعاد بأعيانها وأعراضها بلا خلاف بينهم حتى أن بعضهم قال: "بأوصافها فيعاد الوصف أيضاً: كما يعاد الجسم واللون" اهـ3.   1- مجموع الفتاوى 17/252 ـ 253. 2- سورة طه آية: 55. 3- التذكرة ص182. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 576 المبحث الثالث: عناية القرآن بإثبات البعث لقد سلك القرآن الكريم في استدلاله على إمكان البعث بعد الموت وتحقق وقوعه مسلكاً قويماً جمع بين ما فطرت عليه النفوس من الإيمان بما تشاهد وتحس، وبين ما تقرره العقول السليمة، ولا يتنافى مع الفطر المستقيمة، وتلك طريقة تفرد بها القرآن الكريم. وكان منهج القرآن الكريم في استدلاله على البعث كما يلي: أولاً: الاستدلال على البعث بمن أماتهم الله ثم أحياهم. كما أخبر تعالى عن ذلك ومنهم: 1 ـ قوم موسى. قال تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} 1. وقيل: إن الذين أخذتهم الصاعقة هم السبعون الذين اختارهم موسى ذلك أنهم لما أسمعهم كلام الله ـ تعالى ـ قالوا له بعد ذلك {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ} والإيمان بالأنبياء واجب بعد ظهور معجزاتهم. فأرسل الله إليهم ناراً من السماء فأحرقتهم ثم دعا موسى ربه فأحياهم كما قال تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} 2. 2 ـ المضروب بعضو من أعضاء البقرة كما قال تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} 3. قيل: أن المقتول ضرب بعضو من أعضاء تلك البقرة التي أمرهم الله   1- سورة البقرة آية: 55 ـ 56. 2- الجامع لأحكام القرآن 1/403. 3- سورة البقرة آية: 72 ـ 73. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 577 أن يذبحوها كما قال موسى لهم {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} 1 فلما ضرب به حيي وأخبر بقاتله ثم عاد ميتاً كما كان"2. 3 ـ الذين أخبر الله عنهم بقوله ـ تعالى ـ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} 3 وهؤلاء قوم من بني إسرائيل وقع فيهم الوباء ففروا هاربين. قال ابن عباس: "كانوا أربعة آلاف خرجوا فراراً من الطاعون وقالوا نأتي أرضاً ليس بها موت فأماتهم الله ـ تعالى ـ فمر بهم نبي فدعا الله فأحياهم"4. 4 ـ {الَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 5. والذي مر على القرية هو "عزير" عليه السلام. قال ابن كثير في تفسيره: "وهذا هو القول المشهور والقرية المشهورة هي بيت المقدس مر عليها عزيز بعد تخريب بختنصر لها وقتل أهلها"6. 5 ـ سؤال إبراهيم عليه السلام عن كيفية إحياء الموتى قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} 7. وقد ذكر المفسرون لسؤال إبراهيم عليه السلام هذا أسباباً منها: أنه لما قال لنمرود {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} أحب أن يترقى من علم اليقين بذلك إلى عين اليقين، وأن يرى   1- سورة البقرة آية: 67. 2- تفسير القرطبي 1/457. 3- سورة البقرة آية: 243. 4- تفسير القرطبي 3/230. 5- سورة البقرة آية: 259. 6- تفسير ابن كثير 1/558. 7- سورة البقرة آية: 260. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 578 ذلك مشاهدة"1 ولم يكن إبراهيم عليه السلام بسؤاله ذلك شاكاً في قدرة الله ـ تعالى ـ قطعاً. 6 ـ ما أخبر الله به عن عيسى عليه السلام من أنه كان يحيي الموتى بإذن الله كما قال تعالى: {وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ} 2. 7 ـ ما أخبر الله به من قصة أهل الكهف من أنهم لبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعاً ثم بعثهم الله بعد هذه المدة الطويلة. وهذه الأدلة التي قدمناها أدلة مادية حسية وقعت كلها لتدل على إحياء الموتى بعد مماتهم، وهذا برهان قطعي على القدرة الإلهية، وقد أخبر الله ورسله عن وقوع البعث والحشر فوجب القطع بذلك لأنه أخبر به من ثبت صدقه عمن ثبتت قدرته فالآيات المتقدمة فيها دلالات واضحات على قدرة الله ـ تعالى ـ في إحياء الموتى. ثانياً: الإستدلال بالنشأة الأولى على النشأة الثانية: 1 ـ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} 3. هذه الآيات الثلاث تضمنت دليلين على إمكان البعث: أحدهما: دليل في الأنفس وهو ما اشتمل عليه صدر الآية وهو متعلق بالنشأة الأولى.   1- تفسير ابن كثير 1/559. 2- سورة آل عمران آية: 49. 3- سورة الحج آية: 5 ـ 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 579 الثاني: دليل آفاقي وهو ما اشتمل عليه قوله تعالى {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} وهو الإستدلال بخلق النبات على إمكان البعث وسيأتي. قال العلامة ابن القيم: شارحاً قوله ـ تعالى ـ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ} الآية1. "يقول ـ سبحانه ـ إن كنتم في ريب من البعث فلستم ترتابون في مبدأ خلقكم من حال إلى حال إلى حين الموت، والبعث الذي وعدتم به نظير النشأة الأولى فهما نظيران في الإمكان والوقوع فإعادتكم بعد الموت خلقاً جديداً كالنشأة الأولى التي لا ترتابون فيها فكيف تنكرون إحدى النشأتين مع مشاهدتكم لنظيرها" اهـ2. 2 ـ قال تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} 3. قال شيخ الإسلام: فإن قول الله تعالى {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} قياس حذفت إحدى مقدمتيه لظهورها، والأخرى سالبة كلية قرن معها دليلها وهو المثل المضروب الذي ذكره بقوله {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} وهذا استفهام إنكار متضمن للنفي أي لا أحد يحيي العظام وهى رميم، فإن كونها رميماً يضع عنده إحياءها لمصيرها إلى حال اليبس والبرودة المنافية للحياة التي مبناها على الحرارة والرطوبة، ولتفرق أجزائها واختلاطها بغيرها ولنحو ذلك من الشبهات، والتقدير هذه العظام رميم ولا أحد يحيي العظام وهى رميم فلا أحد يحييها، ولكن هذه السالبة كاذبة ومضمونها امتناع الإحياء، فبين ـ سبحانه ـ إمكانه من وجوه ببيان إمكان ما هو أبعد من ذلك وقدرته عليه فقال {يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} وقد أنشأها من التراب ثم قال: {وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} . ليبين علمه بما تفرق من الأجزاء أو استحال اهـ4. 3 ـ قال تعالى: {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً * قُلْ كُونُوا   1- سورة الحج آية: 5. 2- أعلام الموقعين 1/142. 3- سورة يس آية: 78 ـ 79. 4- درء تعارض العقل والنقل 1/33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 580 حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً * أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً} 1. هذه الآيات تقرر بأن شبهات المنكرين للبعث تكاد تكون متجانسة لأنها تدور حول استبعاد جمع الأجزاء بعد تفرقها وإعادة الحياة إليها بعد فنائها وهذه الشبهة لا تكون إلا بالقدح في كمال علم الله ـ جل وعلا ـ المحيط بكل شيء، وكمال قدرته على كل شيء، وقد قام البرهان على كمال العلم والقدرة لله ـ تعالى ـ فلا وجه للإستبعاد والإستغراب بعد ذلك وفي قوله تعالى: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} يعني به أنكم مهما تفرقتم وعلى أية حالة كنتم فالله قادر على بعثكم وإعادتكم حتى لو تحولتم إلى حجارة أو حديد فالله قادر على إعادة الحياة إليكم مرة أخرى مع أن المنافاة بين الحجرية والحديدية وبين قبول الحياة أشد من المنافاة بين العظمة وبين القبول الحياة وذلك أن العظم قد كان جزءاً من بدن الحي أما الحجارة والحديد فما كانا ألبتة موصوفين بالحياة. قال شارح الطحاوية: " فتأمل ما أجيبوا به عن كل سؤال على التفصيل فإنهم قالوا أولاً {أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً} 2. فقيل لهم في جواب هذا السؤال: إن كنتم تزعمون أنه لا خالق لكم ولا رب لكم فهلا كنتم خلقاً لا يفنيه الموت كالحجارة والحديد وما هو أكبر في صدوركم من ذلك؟ فإن قلتم: كنا خلقاً على هذه الصفة التي لا تقبل البقاء فما الذي يحول بين خالقكم ومنشئكم وبين إعادتكم خلقاً جديداً؟ وللحجة تقدير آخر وهو: لو كنتم من حجارة أو حديد أو خلق أكيد منهما فإنه قادر على أن يفنيكم ويحيل ذواتكم، وينقلها من حال إلى حال ومن يقدر على التصرف في هذه الأجسام مع شدتها وصلابتها بالإفناء والإحالة فما الذي يعجزه فيما دونها؟ ثم أخبر أنهم يسألون آخر بقولهم: من يعيدنا إذا استحالت جسومنا وفنيت؟ فأجابهم بقوله: {قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} 3 فلما أخذتهم الحجة، ولزمهم حكمها، انتقلوا إلى سؤال آخر يتعللون به بعلل المنقطع، وهو قولهم: {مَتَى هُوَ} ؟ فأجيبوا بقوله: {عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً} 4.   1- سورة الإسراء آية: 49 ـ 51. 2- سورة الإسراء آية: 49. 3- سورة الإسراء آية: 51. 4- شرح الطحاوية ص 459 ـ 460. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 581 ثالثاً: الإستدلال على إمكان البعث بخلق ما هو أعظم منه مثل السموات والأرض والجبال والأنهار والبحار فإن خلقها أعظم من خلق الإنسان ومن الآيات الدالة على ذلك ما يلي: 1 ـ قال تعالى: {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ} 1. 2 ـ وقال تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} 2. 3 ـ وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 3. فهذه الآيات جميعها أكبر برهان على قدرة الله المطلقة التي لا تقيد بقيود، ولا تنتهي عند حدود فإن تلك الآيات الكونية مما هو معروف ببداهة العقول أن خلقها أعظم من إعادة خلق الإنسان. قال تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} 4. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ـ تعالى ـ "فإنه من المعلوم ببداهة العقول أن خلق السموات والأرض أعظم من خلق أمثال بني آدم والقدرة عليه أبلغ وأن هذا الأيسر أولى بالإمكان والقدرة من ذلك" اهـ5. فالآيات المتقدمة فيها التنبيه على إمكان البعث بأمر مشاهد أمام الأنظار وهو خلق السموات والأرض ألم ير أولئك المكذبون أن الله الذي خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهن قادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير فالذي يصنع الأمر العظيم   1- سورة الإسراء آية: 98 ـ 99. 2- سورة يس آية: 81. 3- سورة الأحقاف آية: 33. 4- سورة غافر آية: 57. 5- درء تعارض العقل والنقل 1/32. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 582 لا يعسر عليه أن يصنع الأمر اليسير، وما نسبة خلق الإنسان مرة أخرى بالنسبة لخلق السموات والأرض، فالله ـ تعالى ـ له القدرة المطلقة على كل شيء، وإذا أراد شيئاً إنما يقول له كن فيكون. رابعاً: الإستدلال على إمكان البعث بخلق النباتات المختلفة وتحول الأرض من هيأة إلى هيئة ومن الآيات الدالة على ذلك ما يلي: 1 ـ قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} 1. 2 ـ وقال تعالى: {وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ} 2. 3 ـ وقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 3. ففي هذه الآيات السابقة استدلال واضح بتبدل أحوال النباتات من حياة إلى موت، فحياة وسلب خاصّيّة النشوء والنماء في بعض النباتات فتمهد وتتفتت، ثم تسقى بالماء فتعود إليها تلك الخاصية فلو كان مستحيلاً إعادة الحياة إلى الإنسان مرة أخرى لما عادت الحياة إلى النباتات المختلفة بعد موتها لأن المشابهة واضحة في القدرة الإلهية في إعادة الحياتين سيرتهما الأولى، ولهذا لفت القرآن الكريم أنظار المنكرين للبعث إلى التبصر في الموجودات الحسية واستنتاج العظات والعبر منها ليعود للنفس إيمانها فتسعد بالطمأنينة والإستقرار. وإحياء الأرض بعد موتها بالنبات من الأمور الحسية المشاهدة أرض أصابها الجدب فإذا بأشجارها تيبس بعد نضارتها وإذا بتلك الأرض هامدة خاشعة مستكينة قد مات منها كل شيء فيريد الله إحياءها فتنزل عليها الأمطار فإذا بها تظهر بمظهر آخر مخضرة بالزهور على   1- سورة الأعراف آية: 57. 2- سورة فاطر آية: 9. 3- سورة فصلت آية: 39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 583 أشكال شتى أفيعجز من أعاد الحياة إلى هذه الأرض الميتة والأشجار اليابسة أن يعيد إلى الإنسان حياته مرة أخرى لمجازاته على ما عمل في هذه الحياة الدنيا؟ بلى إنه على كل شيء قدير. قال ابن كثير عند قوله تعالى: {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً} 1 "هذا دليل آخر على قدرته ـ تعالى ـ على إحياء الموتى كما يحيي الأرض الميتة الهامدة وهي المقحلة التي لا ينبت فيها شيء ... {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} أي: فإذا أنزل الله عليها الماء اهتزت أي: تحركت بالنبات وحييت بعد موتها وربت أي: ارتفعت ثم أنبتت ما فيها من الألوان والفنون ومن ثمار وزروع وأشتات النباتات في اختلاف ألوانها وطعومها ورائحتها وأشكالها ومنافعها ولهذا قال تعالى: {وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} أي: حسن المنظر طيب الريح" اهـ2. خامساً: الإستدلال على البعث والإعادة بإخراج النار من الشجر الأخضر، والآيات الدالة على ذلك ما يلي: 1 ـ قال تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} 3. 2 ـ قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ} 4. إن الذي قدر على إحداث النار من الشجر الأخضر مع ما فيه من الماء قادر على إعادة الحياة إلى ما كان غضَّاً طريَّاً ثم تحول إلى يابس"5. تلك هي بعض الدلائل الواضحة، والبراهين الساطعة التي استعملها القرآن لإثبات الإيمان باليوم الآخر والمسالك التي استعملها القرآن لإثبات ذلك اليوم كثيرة جداً، ويكفينا منها في مقامنا هذا تلك الإستدلالات الخمسة المتقدمة.   1- سورة الحج آية: 5. 2- تفسير ابن كثير 4/617. 3- سورة يس آية: 80. 4- سورة الواقعة آية: 71 ـ 72. 5- هذه الطرق التي استعملها القرآن لإثبات البعث بعد الموت أشار إليها بإيجاز شيخ الإسلام ابن تيمية. انظر "مجموع الفتاوى" 9/224 ـ 225. وانظر النهاية لابن كثير 1/165 ـ 168. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 584 المبحث الرابع: أرض المحشر لقد دلت السورة على أن هناك أرضاً أخرى يحشر الخلائق عليها، وتلك الأرض هي أرض المحشر. قال تعالى: {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} الآية. فالمراد بالأرض المذكورة في هذه الآية هي أرض المحشر فقد أخبر ـ تعالى ـ في هذه الآية الكريمة بأن أرض المحشر ستضيء بنوره ـ سبحانه ـ وهو نور غير نور الشمس والقمر، وهو نور حقيقي صفة لذاته المقدسة يليق بجلاله ـ تعالى ـ، ويمكن أن تشمل هذه الآية مع النور الحقيقي النور المعنوي وهو عدل ـ الرب سبحانه ـ الذي لا جور فيه ولا ظلم لأنه ـ تعالى ـ الحكم العدل. قال الإمام البغوي: {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ} أضاءت {بِنُورِ رَبِّهَا} بنور خالقها، وذلك حين يتجلى ـ الرب ـ لفصل القضاء بين خلقه فما يتضادُّون في نوره، كما لا يتضادُّون في الشمس في اليوم الصحو. وقال الحسن والسدي: "بعدل ربها وأراد بالأرض عرصات القيامة" اهـ1. وقال العلامة ابن جرير: {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} . يقول تعالى ذكره: فأضاءت الأرض بنور ربها يقال: أشرقت الشمس: إذا صفت وأضاءت. قال قتادة: فما يتضادُّون في نوره إلا كما يتضادُّون في الشمس في اليوم الصحو الذي لا دخن فيه.   1- تفسير البغوي على حاشية الخازن 6/71. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 585 وقال السدي: {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} أضاءت أ. هـ1. وقال ابن كثير: {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} أي: "أضاءت يوم القيامة إذا تجلى ـ الحق جل وعلا ـ للخلائق لفصل القضاء" أ. هـ2. وقال الشوكاني: {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} . الإشراق: الإضاءة، يقال أشرقت الشمس: إذا إضاءت وشرقت: إذا طلعت، ومعنى {بِنُورِ رَبِّهَا} بعدل ربها قاله الحسن وغيره. وقال الضحاك: بحكم ربها، والمعنى: أن الأرض أضاءت وأنارت بما أقامه الله من العدل بين أهلها، وما قضى به من الحق فيهم، فالعدل نور والظلم ظلمات. وقيل: "إن الله يخلق نوراً يوم القيامة يلبسه وجه الأرض فتشرق به غير نور الشمس، والقمر، ولا مانع من الحمل على المعنى الحقيقي، فإن الله ـ سبحانه ـ هو نور السموات والأرض" أ. هـ3. وحمله على الحقيقة هو الصواب لأن النور صفة كمال وضده نقص ولقد وصف الله ـ تعالى ـ نفسه بصفة النور حيث قال جل ثناؤه: {اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} 4 الآية. فلا ينكر صفة النور التي اتصف الله بها ـ إلا من أشرب قلبه بمرض التعطيل أعاذنا الله منه. قال العلامة ابن القيم: عند قوله ـ تعالى ـ: {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} "فأخبر أن الأرض يوم القيامة تشرق بنوره وهو نوره الذي هو نوره فإنه ـ سبحانه ـ يأتي لفصل القضاء بين عباده وينصب كرسيه بالأرض فإذا جاء الله ـ تعالى ـ أشرقت الأرض وحق لها أن تشرق بنوره وعند المعطلة لا يأتي ولا يجيء ولا له نور تشرق به الأرض" أ. هـ5.   1- جامع البيان 24/32. 2- تفسير القرآن العظيم 6/111. 3- فتح القدير 4/476، وانظر الجامع لأحكام القرآن 15/282. 4- سورة النور آية: 35. 5- مختصر الصواعق المرسلة 2/193. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 586 صفة هذه الأرض: لقد بين النبي صلى الله عليه وسلم صفة أرض المحشر التي يقف عليها الخلائق للحساب وللجزاء العادل وكيف هي: فقد جاء عن سهل بن سعد رضي الله ـ تعالى ـ عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي" قال سهل ـ أو غيره ـ ليس فيها معلم لأحد1. فمن هذه الصفات الواردة في هذا الحديث يتبين أن تلك الأرض التي يقف عليها العباد يوم القيامة بين يدي ربّهم ـ تبارك وتعالى ـ هي أرض مغايرة لأرض الدنيا، وليس بينهما أي تشابه فأرض الموقف لها صفات أخرى، وأرض الدنيا لها صفات أخرى، وأن أرض الدنيا التي يعرفها الخالق ستنتهي وتضمحل وتحل محلها أرض أخرى هي أكبر منها وأطهر. وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث "عفراء" للعلماء في هذه الكلمة عدة تفاسير نقلها عنهم الحافظ ابن حجر رحمه الله ـ تعالى ـ فقال: "قال الخطابي: العفر بياض ليس بالناصع". وقال عياض: "العفر بياض يضرب إلى حمرة قليلاً ومنه سمي عفر الأرض وهو وجهها". وقال ابن فارس2: معنى عفراء: خالصة البياض. وقال الداودي: شديدة البياض. قال ابن حجر: "كذا قال والأول هو المعتمد" أ. هـ3. فالحافظ رحمه الله رجح من هذه الأقوال قول الخطابي وهو أن معنى كلمة "عفراء"   1- صحيح البخاري مع الفتح 11/372، صحيح مسلم بشرح النووي 17/134. 2- هو أحمد بن فارس بن زكريا القزويني الرازي أبو الحسين من أئمة اللغة والأدب أصله من قزوين ولد سنة سبع وعشرين وثلاثمائة وتوفي سنة خمس وتسعين وثلاثمائة. انظر ترجمته في: "وفيات الأعيان"1/35، والأعلام 1/184. 3- الفتح 11/375. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 587 هو البياض غير الناصع ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث: "كقرصة النقي" بفتح النون وكسر القاف أي: الدقيق النقي من الغش والنخالة قاله الخطابي. ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس فيها معلم لأحد، أو علم كما في رواية مسلم هما بمعنى واحد". قال الخطابي: يريد أنها مستوية والمعلم ـ بفتح الميم واللام ـ بينهما مهملة ساكنة: هو الشيء الذي يستدل به على الطريق. وقال عياض: المراد أنها ليس فيها علامة سكن ولا بناء ولا أثر ولا شيء من العلامات التي يهتدى بها في الطرقات كالجبل والصخرة البارزة. قال الحافظ: "وفيه تعريض بأرض الدنيا وأنها ذهبت وانقطعت العلاقة منها". وقال الداودي: "المراد أنه لا يحوز أحد منها شيئاً إلا ما أدرك منها". وقال ابن أبي جمرة1: "وفيه دليل على عظيم القدرة، والإعلام بجزئيات يوم القيامة ليكون السامع على بصيرة فيخلص نفسه من ذلك الهول لأن في معرفة جزئيات الشيء قبل وقوعه رياضة النفس وحملها على ما فيه خلاصها بخلاف مجيء الأمر بغتة وفيه إشارة إلى أن أرض الموقف أكبر من هذه الأرض الموجودة جداً، والحكمة في الصفة المذكورة أن ذلك اليوم يوم عدل وظهور حق فاقتضت الحكمة أن يكون المحل الذي يقع فيه ذلك طاهراً عن عمل المعصية والظلم، وليكون تجليه ـ سبحانه ـ على عباده المؤمنين على أرض تليق بعظمته ولأن الحكم فيه إنما يكون لله ـ وحده ـ فناسب أن يكون المحل خالصاً له وحده" أ. هـ2. وقال عليه الصلاة والسلام: "يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد فيسمعهم الداعي وينفذهم البصر"3.   1- هو محمد بن أحمد بن عبد الملك بن أبي جمرة الأموي بالولاة أبو بكر: فقيه مالكي من أعيان الأندلس، ولد بمرسية سنة ثماني عشرة وخمسمائة وتوفي سنة تسع وتسعين وخمسمائة. انظر ترجمته في: "شذرات الذهب" 4/342، والأعلام 6/213. 2- الفتح 11/375. 3- رواه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. انظر الفتح 8/395. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 588 "ومعناه يبلغ أولهم وآخرهم لاستواء الأرض فلا يكون فيها ما يستتر به أحد من الرائي"1. والذي يريده عليه الصلاة والسلام أرضاً مستوية لا جبل فيها ولا أكمة ولا ربوة ولا وهدة أرض بيضاء نقية لم يسفك عليها دم ولا عمل عليها خطيئة ولا ارتكب فيها محرم"2. بيان خلاف العلماء في أرض المحشر: إن تبديل هذه الأرض بأرض أخرى جديدة مما وقع الخلاف فيه بين السلف قال الحافظ ابن حجر: "وقد وقع للسلف في ذلك خلاف في المراد بقوله ـ تعالى ـ {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ ... } الآية3. "هل معنى تبديلها تغيير ذاتها وصفاتها، أو تغيير صفاتها فقط" أ. هـ4 فقد بين الحافظ: بقوله هذا أن للعلماء في ذلك قولين: القول الأول: أن التبديل يكون في ذاتها وصفاتها. القول الثاني: أن التغيير إنما يحصل في صفاتها فقط. ثم أخذ رحمه الله ـ تعالى ـ في ذكر أدلة الفريقين، فمما ذكره من أدلة الفريق الأول ما يأتي: 1 ـ حديث سعد المتقدم في بيان صفة أرض المحشر. 2 ـ ما أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد والطبري في تفاسيرهم والبيهقي في الشعب من طريق عمرو بن ميمون عن عبد الله بن مسعود في قوله ـ تعالى ـ {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ ... } الآية قال: تبد الأرض أرضاً كأنها فضة لم يسفك فيها دم حرام ولم يعمل عليها خطيئة. ورجاله رجال الصحيح وهو موقوف، وأخرجه البيهقي من وجه آخر مرفوعاً وقال: الموقوف أصح، وأخرجه الطبري والحاكم من طريق عاصم عن زر بن حبيش عن ابن مسعود بلفظ "أرض بيضاء كأنها سبيكة فضة" ورجاله موثقون أيضاً.   1- الفتح 8/396. 2- انظر شرح الطحاوية ص252، وانظر تكملة شرح الصدور ص18 "مخطوط". 3- سورة إبراهيم آية: 48. 4- فتح الباري 11/375. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 589 ولأحمد من حديث أبي أيوب "أرض كالفضة البيضاء فأين الخلق يومئذ؟ قال: هم أضياف الله لن يعجزهم ما لديه". وللطبري من طريق سنان بن سعد عن أنس مرفوعاً "يبدلها الله بأرض من فضة لم يعمل عليها الخطايا" وعن علي موقوفاً نحوه من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد: "أرض كأنها فضة والسموات كذلك" وعن علي: "السموات من ذهب". وعن عبد من طريق الحكم بن أبان عن عكرمة قال: "بلغنا أن هذه الأرض يعني أرض الدنيا وإلى جنبها أخرى يحشر الناس منها إليها". وفي حديث الصور الطويل "تبدل الأرض غير الأرض والسموات فيبسطها ويسطحها ويمدها مد الأديم العكاظي لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً، ثم يزجر الله الخلق زجرة واحدة فإذا هم في الأرض المبدلة في مثل مواضعهم من الأولى ما كان في بطنها كان في بطنها وما كان في ظهرها كان عليها". قال الحافظ: "وهذا يؤخذ منه أن ذلك يقع عقب نفخة الصعق بعد الحشر الأول ويؤيده قوله ـ تعالى ـ {وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} 1". وبعد أن فرغ الحافظ من نقله حجج القول الأول وهو قول من قال: "بأن التغيير يحصل في ذات أرض الدنيا وصفاتها" شرع في ذكر أدلة الفريق الثاني القائل بأن التغيير يحصل في صفات الأرض وليس في ذاتها فقال: "وأما من ذهب إلى أن التغيير إنما يقع في صفات الأرض دون ذاتها فمستنده ما أخرجه الحاكم عن عبد الله بن عمرو قال: "إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مد الأديم وحشر الخلائق". ومن حديث جابر رفعه: "تمد الأرض مد الأديم ثم لا يكون لابن آدم منها إلا موضع قدميه" ورجاله ثقات. إلا أنه اختلف على الزهري في صحابيه. ووقع في تفسير الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله ـ تعالى ـ {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} 2 قال: "يزاد فيها وينقص منها ويذهب آكامها وجبالها وأوديتها وشجرها وتمد مد الأديم   1- سورة الانشقاق آية: 3 ـ 4. 2- سورة إبراهيم آية: 48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 590 العكاظي" وعزاه الثعلبي في تفسيره لرواية أبي هريرة وحكاه البيهقي عن أبي منصور الأزهري وبعد عرضه لأدلة الفريق الثاني قال: "وهذا وإن كان ظاهره يخالف القول الأول فيمكن الجمع بأن ذلك كله يقع لأرض الدنيا لكن أرض الموقف غيرها" أ. هـ1. أما العلامة ابن جرير فقد أجمل الأقوال في أرض المحشر في خمسة أقوال ونسب كل قول إلى قائله من السلف عند قوله ـ تعالى ـ {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} 2 حيث قال رحمه الله: "واختلف في معنى قوله {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} ". فقال بعضهم: معنى ذلك يوم تبدل الأرض التي عليها الناس اليوم في دار الدنيا غير هذه الأرض فتصير أرضاً بيضاء كالفضة. وقد عزا هذا القول إلى عبد الله بن مسعود وعمرو بن ميمون ومجاهد. وقال آخرون: تبدل ناراً وقد أسند هذا القول إلى ابن مسعود أيضاً وذكر له روايتين ليستا مرفوعتين. وقال آخرون: بل تبدل الأرض أرضاً من فضة، وقد عزا هذا القول إلى أنس بن مالك وابن عباس وعلي بن أبي طالب إلا أنه لم يبين من سمعها عن علي رضي الله عنه. وقال آخرون: يبدلها خبزة وقد بين بأن القائل بهذا القول هو سعيد بن جبير ومحمد بن كعب القرظي، أو عن محمد بن قيس. وقال آخرون: تبدل الأرض غير الأرض وقد عزا هذا القول إلى كعب ورواية عن أبي هريرة مرفوعة ولم يسم الراوي عنه وإلى عمرو بن ميمون الأودي3. وبعد أن انتهى من عرض الأقوال ونسبتها إلى أصحابها اختار قولاً منها ورجحه. فقال: "وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معناه: يوم تبدل الأرض التي نحن عليها اليوم يوم القيامة غيرها وكذلك السموات ـ اليوم تبدل غيرها كما قال جل ثناؤه، وجائز أن تكون ناراً، وجائز أن تكون خبزاً، وجائز أن تكون غير ذلك، ولا خبر في ذلك   1- انظر فتح الباري 11/375 ـ 376. 2- سورة إبراهيم آية: 48. 3- جامع البيان 13/249 ـ 252، التذكرة للقرطبي ص191 ـ 192. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 591 عندنا من الوجه الذي يجب التسليم له أي ذلك يكون فلا قول في ذلك يصح إلا ما دل عليه ظاهر التنزيل" أ. هـ1. وهذا القول الذي رجحه ابن جرير هو الذي دل عليه ظاهر القرآن والسنة. فأما القرآن فقد تقدم قوله ـ تعالى ـ {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لله الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} 2. وأما السنة فقد روى مسلم رحمه الله ـ تعالى ـ من حديث ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كنت قائماً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء حبر من أحبار اليهود فقال: السلام عليك يا محمد وذكر الحديث وفيه فقال اليهودي: أين يكون الناس {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هم في الظلمة دون الجسر ... " الحديث3. وروي أيضاً: من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله ـ تعالى ـ {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} فأين يكون الناس يومئذ؟ قال: "على الصراط"4. وروى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله {وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} فأين يكون الناس؟ قال: "على الصراط يا عائشة" قال هذا حديث حسن صحيح5. وخرّج عن مجاهد قال: قال ابن عباس أتدري ما سعة جهنم؟ قلت: لا، قال أجل والله ما تدري حدثتني عائشة أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله: {وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} قالت: قلت: فأين الناس يومئذ يا رسول الله؟ قال: "على جسر جهنم" ـ قال ـ وهذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه6.   1- جامع البيان 13/254. 2- سورة إبراهيم آية: 48. 3- صحيح مسلم 1/252. 4- صحيح مسلم 4/2150. 5- سنن الترمذي 4/359. 6- المصدر السابق 5/51 ـ 52. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 592 فهذه الأحاديث المتقدمة نص في أن الأرض والسموات تبدل وتزال ويخلق الله أرضاً أخرى يكون عليها الناس بعد كونهم على الجسر وهو الصراط لا كما قال كثير من الناس: أن تبديل الأرض عبارة عن تغيير صفاتها وتسوية آكامها ونسف جبالها ومد أرضها إذ هذا هو ما يحصل لأرض الدنيا أما أرض الموقف فهي غيرها والله أعلم.   1- التذكرة للقرطبي ص:191. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 593 المبحث الخامس: كتاب الأعمال لقد دلت السورة على أن من الإيمان باليوم الآخر الإيمان بكتاب الأعمال الذي يسجل فيه كل ما يعمله العبد في هذه الحياة الدنيا من خير أو شر. قال تعالى: {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} . ووجه دلالة هذه الآية على الإيمان بكتاب الأعمال بقوله: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ} أي: ووضعت صحف الأعمال لكل فرد من العباد فمنهم الآخذ كتابه بيمينه، ومنهم الآخذ كتابه بشماله، أو من وراء ظهره. قال ابن جرير رحمه الله ـ تعالى ـ: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ} يعني: كتاب أعمالهم لمحاسبتهم ومجازاتهم. وروى بإسناده إلى قتادة أنه قال: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ} قال: "كتاب أعمالهم" أ. هـ1. وقال البغوي رحمه الله ـ تعالى ـ: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ} أي: كتاب الأعمال2 ومن هذا يتبين وجه دلالة السورة على أن من الإيمان باليوم الآخر الإيمان بكتاب الأعمال الذي يحصى فيه على ابن آدم كل ما عمله من خير، أو شر، وأن هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.   1- جامع البيان 24/32، تفسير ابن كثير 6/111، الجامع لأحكام القرآن 15/282، فتح القدير 4/476. 2- تفسير البغوي على حاشية الخازن 6/71. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 594 وقد ثبت في كثير من آيات الكتاب العزيز والسنة المطهرة وإجماع علماء الإسلام أن ـ الباري سبحانه ـ سيؤتي كل عبد من عباده يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً ويقال له: اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً فيقرأ في كتابه ذلك كلما قدمه في الدنيا من الخير والشر ويجد أن الملائكة قد سجلت كلما عمله فلم يتركوا منه صغيرة ولا كبيرة إلا دوّنوها في ذلك الكتاب ويكون الإنسان حسيب نفسه يوم القيامة، كما أخبرنا ـ الرب جل وعلا ـ بذلك في كتابه الكريم {كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} 1. وقد جعل الله مع كل إنسان ملكين يراقبانه ويحصيان عليه أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره، فالذي عن يمينه مهمته كتابة الحسنات، والذي عن يساره مهمته كتابة السيئات، يراقبانه في كل صغيرة وكبيرة ويجازى على كل صغيرة وكبيرة عملها يوم القيامة ولأهمية كتاب الأعمال أكثر القرآن من ذكره ونوه بشأنه ليتنبه العباد له، وليتحرزوا من أن يكتب عليهم فيه ما لا يرضى ـ الرب جل شأنه ـ وعندما نمعن النظر في آيات القرآن الكريم التي وردت في شأن كتابة أعمال العبد وإحصائها نجد أنها جاءت في أساليب متعددة. فتارة يسند ـ الرب تبارك وتعالى ـ الكتابة إلى نفسه مع العلم بأن الذي يقوم بكتابة الأعمال هم الملائكة ولكنه ـ تبارك وتعالى ـ أسندها إلى نفسه للإهتمام البالغ بذلك. قال تعالى: {لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} 2. وفي هذه الآية من التهديد والوعيد ما لا يقادر قدره. ومعنى قوله ـ تعالى ـ في الآية {سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا} أي: "سنكتبه في صحف الملائكة، أو سنحفظه، والمراد الوعيد لهم وأن ذلك لا يفوت على الله بل هو معد لهم ليوم الجزاء"3. وقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} 4.   1- سورة الإسراء آية: 14. 2- سورة آل عمران آية: 181. 3- فتح القدير للشوكاني 1/406. 4- سورة يس آية: 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 595 وتارة يخبر تعالى عن مراقبة الملائكة الشديدة للعبد في تسجيل ما يلفظه من الأقوال قال ـ تعالى ـ في شأن ذلك: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} 1. وتارة: يسند الله ـ تعالى ـ كتابة أعمال العبد إلى الكرام الكاتبين من الملائكة. قال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} 2. وقال تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} 3. وتارة: يسند ـ الباري سبحانه ـ كتابة أعمال العباد للمجهول للعلم به وهم الملائكة. قال تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلونَ} 4. وقال تعالى: {مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 5. وقال تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} 6. فهذه الآيات المتقدمة دلت بوضوح على أنه يجب على كل إنسان أن يؤمن بصحف   1- سورة ق آية: 17 ـ 18. 2- سورة الانفطار آية: 10 ـ 12. 3- سورة الزخرف آية: 80. 4- سورة الزخرف آية: 19. 5- سورة التوبة آية: 120 ـ 121. 6- سورة الكهف آية: 49. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 596 الأعمال التي يقرؤها العباد، وهي الكتب التي كتبت فيها الملائكة ما فعله العباد في حياتهم الدنيا، فيجب الإيمان بأن الله ـ عز وجل ـ وكَّل بنا من ملائكته من يحفظنا، ويكتب أعمالنا وأقوالنا وهم الحافظون الكرام الكاتبون فكل ما يكتبه هؤلاء الملائكة يقرؤه العباد يوم القيامة، طبقاً لما عملوه، أو قالوه دون زيادة، أو نقصان. وقد دلت السنة المطهرة في أحاديث متعددة على كتابة الملائكة لأعمال بني آدم فمن ذلك: ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان يوم الجمعة وقفت الملائكة على باب المسجد يكتبون الأول فالأول، ومثل المهجر1 كمثل الذي يهدي بدنة، ثم كالذي يهدي بقرة، ثم كبشاً، ثم دجاجة، ثم بيضة، فإذا خرج الإمام طووا صحفهم يستمعون الذكر" 2. وروى البخاري بإسناده إلى رفاعة بن رافع الزرقي قال: كنا يوماً نصلي وراء النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رفع رأسه من الركعة قال: "سمع الله لمن حمده" قال رجل وراءه: ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، فلما انصرف قال: "من المتكلم؟ " قال: أنا قال: "رأيت بضعة وثلاثين ملكاً يبتدرونها أيهم يكتبها أولاً" 3. وروى البخاري ومسلم أيضاً: بإسنادهما إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه ـ عز وجل ـ قال قال: "إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك، فمن همَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة فإن هو همَّ بها فعملها كتبها الله له عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ومن همَّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو همَّ بها فعملها كتبها الله له عنده سيئة واحدة" 4. وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى بعض الأعمال إن هم عملوها كتب الله لهم الأجر العظيم، والثواب الجزيل.   1- مثل المهجر: المبكر كما في النهاية 5/246. 2- صحيح البخاري مع الفتح 2/407، صحيح مسلم 2/587. 3- صحيح البخاري مع الفتح 2/284. 4- صحيح البخاري مع الفتح 11/323، صحيح مسلم 1/118. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 597 قال صلى الله عليه وسلم: "من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك ومن قال: سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر" 1. وعن مصعب بن سعد قال: حدثني أبي قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أيعجز أحدكم أن يكسب كل يوم ألف حسنة؟ " فسأله سائل من جلسائه كيف يكسب أحدنا ألف حسنة قال: "يسبح مائة تسبيحة فيكتب له ألف حسنة، أو يحط عنه ألف خطيئة" 2. والأحاديث الواردة في هذا المعنى كثيرة جداً فنكتفي بهذا القدر الذي قدمنا ذكره منها. كيفية أخذ الكتاب: لقد بين الله ـ تعالى ـ في كتابه الكريم الكيفية التي بها يأخذ العباد كتبهم يوم القيامة، وأنهم يأخذونها على هيئات مختلفة. 1 ـ فمنهم من يأخذ كتابه بيمينه. 2 ـ ومنهم من يأخذ كتابه بشماله. 3 ـ ومنهم من يعطى كتابه وراء ظهره. فهذه الحالات الثلاث نص عليها القرآن الكريم. قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَة * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} 3.   1- صحيح البخاري مع الفتح 6/338 ـ 339، صحيح مسلم 4/2071. 2- صحيح مسلم 4/2073. 3- سورة الحاقة آية: 19 ـ 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 598 فهذه الآيات صورت لنا مشهد من يأخذ كتابه بيمينه، ومن يأخذه بشماله وأما عن القسم الثالث فقال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً * وَيَصْلَى سَعِيراً * إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً * إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ * بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً} 1. فالقرآن الكريم حصر الكيفية في أخذ الكتب على ثلاث حالات فقط هذا على حسب ظاهر الآيات، ولكنها في واقع الأمر ترجع إلى حالتين إما أن يكون الأخذ باليمين وهذه للسعداء من أهل التوحيد والإيمان، وإما أن يكون الأخذ بالشمال وهذه حالة أهل الشقاوة والخسران ولذلك حصل الخلاف بين العلماء في الحالة الثالثة وهي حالة إيتاء الكافر كتابه من وراء ظهره ولكن نتيجة الخلاف يرجع إلى أن الكافر يتناول كتابه بشماله، وإليك بعض أقوال العلماء في ذلك: قال سعيد بن المسيب: الذي يأخذ كتابه بشماله تلوى يده خلف ظهره، ثم يعطى كتابه، وقيل تنزع من صدره إلى خلف ظهر. وقال مجاهد: في قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ} قال: تجعل شماله وراء ظهره فيأخذ بها كتابه2. وقال القرطبي: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ} تخلع كتفه اليسرى، فتجعل يده خلفه فيأخذ بها كتابه. وقال مجاهد: "يحول وجهه في موضع قفاه فيقرأ كتابه"3. وقراءة تلك الكتب تكون من القارئ وغير القارئ. قال قتادة: "سيقرأ من لم يكن قارئاً في الدنيا"4. وقال الحسن: "يقرأ الإنسان كتابه أمياً، أو غير أمي" 5. وبقراءة الإنسان كتابه تظهر له نتيجة أعماله، وأقواله حسنة كانت أم قبيحة.   1- سورة الانشقاق آية: 10 ـ 15. 2- انظر لوامع الأنوار: 2/182. 3- التذكرة ص258، الجامع لأحكام القرآن 19/272، وانظر تكملة شرح الصدور ص15، دفع إيهام الاضطراب ص312. 4- جامع البيان 15/53. 5- التذكرة للقرطبي: ص255. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 599 والحاصل: مما تقدم من الآيات والأحاديث أنه يجب على كل إنسان أن يؤمن بصحف الأعمال وقراءتها يوم القيامة كما يجب الإيمان بأن الكرام الكاتبين يسجلون أعمال الإنسان الفعلية، والقولية، وكذلك النية لأنها فعل القلب يشملها عموم قوله تعالى: {يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} 1 ويشهد لهذا قوله صلى الله عليه وسلم: "قال الله ـ عز وجل ـ إذا همَّ عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه، فإن عملها فاكتبوها عليه سيئة، وإذا همَّ عبدي بحسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة فإن عملها فاكتبوها عشراً" 2. وقال صلى الله عليه وسلم: "قالت الملائكة: ذاك عبد يريد أن يعمل سيئة وهو أبصر به فقال: ارقبوه فإن عملها فاكتبوها بمثلها، وإن تركها فاكتبوها له حسنة إنما تركها من جراي"3. فلا مجال لمن ينكر صحف4 الأعمال وهو يتلو تلك الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تلقاها سلف الأمة وأئمتها بالقبول ولا خلاف بينهم في ثبوت صحف الأعمال وأخذها باليمين، أو بالشمال، فيجب الإذعان لتلك النصوص وقبولها، والتسليم بما ترمي إليه ومن أنكر ذلك كفر بدين الإسلام. قال محمد بن أحمد السفاريني: "والحاصل أن نشر الصحف وأخذها باليمين والشمال مما يجب الإيمان به وعقد القلب بأنه حق لثبوته بالكتاب والسنة والإجماع"5.   1- سورة الانفطار آية: 12. 2- صحيح مسلم 1/117 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. 3- المصدر السابق ص118. 4- انظر "التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع" ص111 فإنه بين بأن الجهم بن صفوان ينكر صحف الأعمال. 5- لوامع الأنوار البهية 2/181. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 600 المبحث السادس: جزاء الأعمال يوم القيامة لقد دلت السورة على أن من الإيمان باليوم الآخر الإيمان بجزاء الأعمال وأن كل إنسان لا بد أن يوفى جزاء عمله إن خيراً فخير وإن شراً فشر. قال تعالى: {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} . وقال تعالى: {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} . وقال تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ * لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} . وقال تعالى: {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ} . هذه ست آيات من السورة دلت على إثبات الجزاء على الأعمال يوم القيامة، وأن ذلك الجزاء سيكون طبقاً لأعمال الإنسان التي قدمتها يداه في هذه الحياة الدنيا. فالآية الأولى: وهي قوله ـ تعالى ـ: {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} بين الله فيها أن مرجع العباد إليه يوم القيامة وسيخبرهم بأعمالهم التي أحاط بها علمه، وجرى بها قلمه، وكتبتها عليهم الحفظة، وشهدت بها جوارحهم، فيجازي كلاً منهم بما يستحق، وهو ـ سبحانه ـ العليم بنفس الصدور، وما تنطوي عليه من وصف بر، أو فجور والغرض من هذا إخباره ـ تعالى ـ بالجزاء بالعدل التام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 601 قال ابن جرير: عند قوله ـ تعالى ـ {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} . يقول تعالى ذكره: ثم بعد اجتراحكم في الدنيا ما اجترحتم من صالح وسيئ وإيمان وكفر أيها الناس، إلى ربكم مصيركم من بعد وفاتكم فينبئكم يقول: فيخبركم بما كنتم في الدنيا تعملونه من خير وشر، فيجازيكم على كل ذلك جزاءكم، المحسن بإحسانه، والمسيء بما يستحقه. يقول ـ عز وجل ـ: "فاتقوا أن تلقوا ربكم وقد عملتم في الدنيا بما لا يرضاه منكم فتهلكوا، فإنه لا يخفى عليه عمل عامل منكم" أ. هـ1. وأما الآية الثانية: وهي قوله ـ تعالى ـ {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} . بين الله ـ تعالى ـ فيها أنه لا مساواة ولا التقاء بين من هداه الله ووفقه لسلوك الطريق الذي يوصله إلى طريق الجنة التي هي دار الكرامة وبين من كان في الضلال واستمر على عناده حتى قدم على الله يوم القيامة فجاءه عذاب الله الذي لا يقادر قدره، فجعل يتقيه بوجهه الذي هو أشرف الأعضاء، وأقل شيء من العذاب يؤثر فيه فهو يتقي به سوء العذاب لأن يديه ورجليه قد غلت وألقي في نار جهنم وفاقاً لكسبه الذي كسبته يداه في دنياه، فآثر الكفر على الإيمان والشرك على التوحيد فكان من أصحاب النار. قال البغوي رحمه الله ـ تعالى ـ {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ} أي: شدته يوم القيامة. قال مجاهد: يجر وجهه في النار. وقال عطاء: يرمى به في النار منكوساً فأول شيء تمسه النار وجهه. قال مقاتل: هو أن الكافر يرمى به في النار مغلولة يداه إلى عنقه وفي عنقه صخرة مثل جبل عظيم من الكبريت فتشتعل النار وهو معلق في عنقه فحرها ووهجها على وجهه لا يطيق دفعها عن وجهه للأغلال التي في عنقه ويده، ومجاز الآية {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ}   1- جامع البيان 23/198. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 602 كمن هو آمن من العذاب. وقيل: يعني تقول الخزنة {لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} أي: وباله أ. هـ1. وقال العلامة ابن جرير: حول هذه الآية: "اختلف أهل التأويل في صفة اتقاء هذا الضال بوجهه سوء العذاب". فقال بعضهم: "هو أن يرمى به في جهنم مكبوباً على وجهه فذلك اتقاؤه إياه وقد أسند هذا القول إلى مجاهد رحمه الله ـ تعالى ـ. وقال آخرون: هو أن ينطلق به إلى النار مكتوفاً ثم يرمى به فيها، فأول ما تمس النار وجهه، وهذا قول يذكر عن ابن عباس من وجه كرهت أن أذكره لضعف سنده، وهذا أيضاً مما ترك جوابه استغناء بدلالة ما ذكر من الكلام عليه عنه، ومعنى الكلام: أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة خيراً أم من ينعم في الجنان؟ وقوله: {وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} يقول: "ويقال يومئذ للظالمين أنفسهم بإكسابهم إياها سخط الله، وذوقوا اليوم أيها القوم وبال ما كنتم في الدنيا تكسبون من معاصي الله" أ. هـ2. وأما الآية الثالثة والرابعة ـ والخامسة ـ من الآيات الست السابقة: وهي قوله ـ تعالى ـ {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ * لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} . فقد أخبر الله ـ تعالى ـ فيها بأن الذي جاء بالصدق في قوله وعمله ويدخل في ذلك الأنبياء ومن قام مقامهم فصدق فيما قاله من الأخبار عن الله وأحكامه، وفيما فعله من خصال الصدق، وصدّق بذلك إذ الإنسان قد يأتي بالصدق ولكنه لا يصدق به بسبب ما حل بقلبه من الكبر والعناد والإحتقار لمن قاله، وجاء به، فلا بد من الصدق والتصديق، فالذين وفقوا للجمع بين الأمرين فإن الجزاء الذي ينتظرهم عند الله هو ما لا عين رأت ولا أذن   1- معالم التنزيل للبغوي على حاشية تفسير الخازن 6/62. 2- جامع البيان 23/211 ـ 212، وانظر تفسير ابن كثير 6/89. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 603 سمعت ولا خطر على قلب بشر، فكل ما تعلقت به مشيئتهم، وإرادتهم من أنواع اللذات والمشتهيات فإن ذلك حاصل ومهيئ ومعد لهم عند الله ـ تعالى ـ في الجنات. {ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} وهم الذين يعبدون ربهم كأنهم يرونه فإن لم يكونوا يروه فإنه يراهم، وإضافة إلى ذلك أنهم يحسنون إلى عباد الله. ومن إكرام الله لهؤلاء المتقين المحسنين أنه ـ تعالى ـ يكفر عنهم أسوأ الذي عملوا ويثيبهم بأحسن الذي كانوا يعملون {لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} . ومن هذه الآية أيضاً: يتبين أن عمل الإنسان له حالات ثلاث: الحالة الأولى: إما أن يكون عملاً أسوأ. الحالة الثانية: أن يكون عملاً أحسن. الحالة الثالثة: أن يكون عملاً لا أسوأ ولا أحسن وهذه الحالة الأخيرة هي العمل المباح الذي لا يتعلق به ثواب ولا عقاب وهذه الحالة الأخيرة لم تذكر في الآية كالحالتين قبلها. والعمل الأسوأ هي المعاصي كلها، والعمل الأحسن هي الطاعات كلها، وبمعرفة هذه الحالات الثلاث يتضح معنى الآية {لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا} فيكون المراد بها صغائر الذنوب بسبب إحسانهم وتقواهم. {وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي: بحسناتهم كلها {إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} 1. قال مقاتل: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ * لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} . قال: "يجزيهم بالمحاسن من أعمالهم ولا يجزيهم بالمساوئ"2. وقال العلامة ابن جرير: وقوله: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ}   1- سورة النساء آية: 40. 2- تفسير البغوي المسمى "معالم التنزيل على حاشية تفسير الخازن 6/64". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 604 يقول تعالى ذكره: لهم عند ربهم يوم القيامة ما تشتهيه أنفسهم وتلذه أعينهم ذلك جزاء المحسنين. يقول تعالى ذكره: هذا الذي لهم عند ربهم جزاء من أحسن في الدنيا فأطاع الله فيها وائتمر لأمره، وانتهى عما نهاه فيها عنه. وقال أيضاً: رحمه الله ـ تعالى ـ عند قوله تعالى: {لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} . يقول تعالى ذكره: وجزى هؤلاء المحسنين ربهم بإحسانهم، كي يكفر عنهم أسوأ الذي عملوا في الدنيا من الأعمال، فيما بينهم وبين ربهم، بما كان منهم فيها من توبة، وإنابة، مما اجترحوا من السيئات فيها. {وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ} يقول: "ويثيبهم ثوابهم {بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا} في الدنيا {يَعْمَلُونَ} مما يرضي الله عنهم دون أسوئها" أ. هـ1. وأما الآية السادسة: وهي قوله ـ تعالى ـ {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ} . بينت أنه ـ تعالى ـ سيوفي كل نفس يوم القيامة جزاء عملها بالعدل التام، والقسط العظيم لأنه جزاء صادر ممن لا يظلم مثقال ذرة، وممن هو محيط بكل شيء، وكتابه الذي هو اللوح المحفوظ محيط بكل ما عملوه والحفظة الكرام الذين لا يعصون ربهم طرفة عين قد كتبوا كل ما عمله بنو آم، وسيجازي ـ سبحانه ـ العباد على أعمالهم بما يستحقون من الثواب والعقاب ولذلك قال ـ جل شأنه ـ {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ} . قال عطاء: "يريد أني عالم بأفعالهم لا أحتاج إلى كاتب ولا إلى شاهد"2. وقال ابن جرير حول هذه الآية: "يقول تعالى ذكره ووفى الله حينئذ كل نفس جزاء عملها من خير وشر وهو أعلم بما يفعلون في الدنيا من طاعة، أو معصية ولا يعزب عنه علم   1- جامع البيان 24/5. 2- معالم التنزيل للبغوي على تفسير الخازن 6/71. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 605 شيء من ذلك وهو مجازيهم عليه يوم القيامة فمثيب المحسن بإحسانه، والمسيء بما أساء" أ. هـ1. ومما قدمنا يتبين وجه دلالة السورة على وجوب الإيمان بجزاء الأعمال وأنه ـ تعالى ـ سيجزي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته. ولقد جاء ذكر الجزاء، والحث على الإيمان به في كثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ذلك لأن يوم القيامة هو اليوم الفاصل بين هذه الحياة الدنيا، وبين الحياة الآخرة، ولأن من مقاصد البعث بعد الموت هو أن يجازي كل عامل وفق عمله في دنياه، ولأن أعمال الخلائق تختلف اختلافاً كثيراً من إنسان لآخر ومن أمة لأخرى ولذلك قال ـ جل جلاله ـ {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} 2. فالله ـ جل وعلا ـ سيظهر أعمال كل إنسان نصب عينيه فاقتضى الحال أنه لا بد أن يكون جزاء كل إنسان من جنس عمله. قال تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 3. وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} 4. "والدين هو الجزاء، فيقال كما تدين تدان أي: كما تجازي تجازى"5. وقال تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} 6. وقال تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ * وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} 7.   1- جامع البيان 24/33. 2- سورة الليل آية: 4. 3- سورة القصص آية: 84. 4- سورة النور آية: 25. 5- شرح الطحاوية ص 465. 6- سورة الأنعام آية: 160. 7- سورة النمل آية: 89 ـ 90. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 606 وقال تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 1. وقال تعالى: {جَزَاءاً وِفَاقَاً} 2 أي: "موافقاً لأعمالهم" 3. والآيات في إثبات الجزاء على الأعمال يوم القيامة كثيرة جداً ويكفينا منها هنا هذا القدر المتقدم. وقد وردت أحاديث صحيحة في السنة المطهرة دلت على إثبات جزاء الأعمال يوم القيامة. ومن تلك الأحاديث: قوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه ـ عز وجل ـ أنه قال " ...... يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه" 4. ومن الأحاديث التي دلت على ثبوت جزاء الأعمال يوم القيامة الحديث الطويل الذي بين فيه النبي صلى الله عليه وسلم عقوبة مانعي الزكاة في الذهب والفضة والإبل، والبقر والغنم، وبين فيه أن الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، وفي هذا الحديث أنه قيل يا رسول الله فالحمر5 قال: "ما أنزل علي في الحمر6 شيء إلا هذه الآية الفاذة الجامعة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} 7. وقوله صلى الله عليه وسلم: "ما أنزل الله علي في الحمر شيء إلا هذه الآية الفاذة الجامعة" معنى الفاذة القليلة النظير والجامعة أي: العامة المتناولة لكل خير ومعروف وفيه إشارة إلى التمسك بالعموم8.   1- سورة السجدة آية: 17. 2- سورة النبأ آية: 26. 3- تفسير النسفي 4/327، وانظر جامع البيان 30/15. 4- رواه مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه 4/1993 ـ 1995. 5- "جمع حمار" أي: فما حكمها. 6- أي: لم ينزل علي فيها نص بعينها. 7- رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه 2/682 ـ 683 والآيتان من سورة الزلزلة آية: 7 ـ 8. 8- شرح النووي على صحيح مسلم 7/67. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 607 وفي الحديث دلالة على أن كل إنسان سيرى جزاء عمله ويوفى به إن خيراً فخير وإن شراً فشر. ومنها ما رواه الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله ـ تعالى ـ عنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ فذكر الغلول ـ فعظمه وعظم أمره قال: "لا ألفين أحدكم يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة 1. يقول: يا رسول الله أغثني فأقول: لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك، أو على رقبته بعير له رغاء2 يقول: يا رسول الله أغثني فأقول: لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك، أو على رقبته رقاع3 تخفق فيقول: يا رسول الله أغثني فأقول: لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك"4. وقال البخاري رحمه الله ـ تعالى ـ: حدثنا أبو اليمان أخبرنا شبيب عن الزهري قال أخبرني عروة عن أبي حميد الساعدي أنه أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ استعمل عاملاً فجاء العامل حيث فرغ من عمله فقال يا رسول الله هذا لكم وهذا أهدي إلي فقال له: "أفلا قعدت في بيت أبيك وأمك فنظرت أيهدى لك أم لا؟ " ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم عشيّة بعد الصلاة فتشهد وأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: "أما بعد فما بال العامل نستعمله فيأتينا فيقول هذا من عملكم وهذا أهدي لي؟ أفلا قعد في بيت أبيه وأمه فنظر هل يهدى له أم لا؟ فوالذي نفس محمد بيده لا يغل أحدكم منها شيئاً إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه إن كان بعيراً جاء به له رغاء، وإن كان بقرة جاء بها لها خوار5 وإن كانت شاة جاء بها تيعر6 فقد بلغت" فقال أبو حميد، ثم رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده حتى إنا لننظر إلى عفرة إبطيه، قال أبو حميد: وقد سمع ذلك معي زيد بن ثابت من النبي صلى الله عليه وسلم7. هذان الحديثان فيهما بيان لخطورة الغلول، وفيهما دلالة واضحة على أن الجزاء من جنس العمل.   1- جاء في النهاية لابن الأثير: الحمحمة: صوت الفرس دون الصهيل 1/436. 2- جاء في النهاية: الرغاء: صوت الإبل 2/240. 3- قال ابن الأثير: أراد بالرقاع ما عليه من الحقوق المكتوبة في الرقاع. النهاية 2253. 4- صحيح البخاري مع الفتح 6/185، صحيح مسلم 3/1461 ـ 1462. 5- الخوار: صوت البقرة. النهاية 2/87. 6- هو صوت الشاة الشديد، ذكره الحافظ في الفتح 13/166. 7- صحيح البخاري 4/149، وانظر سنن أبي داود 2/121 ـ 122. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 608 وهذه العقوبة التي ذكرت في الحديثين السابقين للغال تحصل له على وجه الحقيقة كما ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم. قال القرطبي: "قال علماؤنا رحمهم الله في قوله تعالى: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} 1 أن ذلك على الحقيقة كما بينه صلى الله عليه وسلم أي: يأت به حاملاً له على ظهره ورقبته معذباً بحمله وثقله ومرعوباً بصوته، وموبخاً بإظهار خيانته على رؤوس الأشهاد"2. والذي نخلص إليه مما تقدم من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الصحيحة أنه يجب على كل مسلم أن يعتقد اعتقاداً جازماً بأن الله ـ تعالى ـ سيجازي المكلفين من عباده بحسب كسبهم الإرادي الإختياري الذي كسبوه في هذه الحياة الدنيا لأن الدنيا دار عمل، والآخرة دار جزاء كما قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} 3. فالعباد يعيشون في هذه الدنيا متفاوتين تفاوتاً عظيماً في الأرزاق، والآجال، والأعمال، وفي السعادة والشقاوة، فمنهم الظالم العنيد، ومنهم المظلوم المغلوب، ومنهم الذليل، ومنهم الصحيح السليم، ومنهم المريض، ومنهم الغني الثري، ومنهم الفقير، ومنهم العزيز ومنهم الذليل، ومنهم المحسن، ومنهم المسيء، فاقتضت حكمة الله وعدله أنه لا بد من أن يجازى المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته ولو أنهم يموتون عند انقضاء الآجال ولا يبعثون لكان ذلك منافياً للحكمة، مجانباً للعدل والرحمة، ولذلك قضى الله ـ عز وجل ـ بالبعث والجزاء وحكم بهما فهما كائنان لا محالة، ولذلك أمر الله ـ تبارك وتعالى ـ رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقسم على وقوعهما، قال تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ} 4. وقال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ * إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 5.   1- سورة آل عمران آية: 161. 2- التذكرة للقرطبي ص296، وانظر "فتح الباري" 6/186. 3- سورة آل عمران آية:185. 4- سورة التغابن آية: 7. 5- سورة النحل آية: 38 ـ 40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 609 الفصل الثاني: النار دار الكافرين المبحث الأول: كيفية دخول أهل النار النار ... تمهيد إن جهنم هي دار الذل والهوان والعذاب والخذلان، دار الشهيق والزفير، والأنين والعبرات، دار أهل البؤس والشقاء، والندامة والبكاء الأغلال تجمع بين أيديهم وأعناقهم، والنار تضطرم من تحتهم ومن فوقهم، دار شرب أهلها الحميم يصهر به ما في بطونهم والجلود، ومأكلهم من شجر الزقوم كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم، يدعون على أنفسهم بالموت فلا يجابون، ويسألون ربهم الخروج منها فيقال لهم: إخسأوا فيها ولا تكلمون، يسحبون فيها على وجوههم وهم لا يبصرون، صراخهم عال، وعويلهم مرتفع، أهلها من المشركين والكافرين، يلقون فيها أمة بعد أمة جنهم وإنسهم كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اجتمعوا فيها اشتكت آخر أمة إلى الله تعالى أول أمة لأنهم هم الذين أضلوهم عن سواء السبيل، وتردّ أول أمة على آخر أمة لقد ضللتم كما ضللنا على الرغم من الحجج الكثيرة التي قامت علينا وعليكم في الدنيا على ألسنة الرسل ولو هدانا الله لهديناكم، سواء علينا وعليكم أصبرنا أم جزعنا ما لنا من خلاص، وقد تناولت سورة "الزمر" عدة أمور متعلقة بالنار التي هي دار الكافرين وهي ما سنتحدث عنها في المباحث الآتية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 614 المبحث الأول: كيفية دخول أهل النار النار لقد جاء في السورة بيان الكيفية التي يدخل بها فريق الكفار دار البوار وذلك أنهم يساقون إليها سوقاً عنيفاً بواسطة الزبانية الغلاظ الشداد، يسوقونهم إلى شر محبس، وأفظع مكان وهي جهنم التي قد اجتمع فيها كل عذاب وحضرها كل شقاء وزال عنها كل سرور. قال تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} . هذه الآية من السورة بينت أن الكافرين يساقون إلى جهنم على شكل جماعات متفرقة كل زمرة مع الزمرة التي تناسب عملها وتشاكل سعيها، والسوق هو الدفع إلى الأمام، وقد يكون دفعاً عنيفاً مصحوباً بالإهانة والتحقير حتى إذا ما وصلوا إلى دار العذاب يجدون أبوابها مغلقة، فتفتح لهم، ويدفعون إليها تعجيلاً لهم بالعذاب المعد لهم فيها. قال ابن جرير: "وقوله: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ} يقول: وحشر الذين كفروا بالله إلى ناره التي أعدها لهم يوم القيامة جماعات، جماعة جماعة، وحزباً حزباً". قال قتادة: في قوله: {زُمَراً} قال: "جماعات" اهـ1. وقال البغوي: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ} سوقاً عنيفاً {زُمَراً} أفواجاً بعضها على أثر بعض كل أمة على حدة.   1- جامع البيان 24/34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 615 قال أبو عبيدة والأخفش: زمراً أي: جماعات في تفرقة واحدتها زمرة {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} السبعة وكانت مغلقة قبل ذلك" اهـ.1. وقال ابن كثير عند قوله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً} "يخبر ـ تعالى ـ عن حال الأشقياء الكفار كيف يساقون إلى النار وإنما يساقون سوقاً عنيفاً بزجر وتهديد ووعيد" اهـ2. وجاء في "تفسير روح المعاني" والسوق يقتضي الحث على المسير بعنف وإزعاج وهو الغالب ويشعر بالإهانة وهو المراد هنا أي سيقوا إليها بالعنف والإهانة أفوجاً متفرقة بعضها في أثر بعض مترتبة حسب ترتب طبقاتهم في الضلالة والشرارة" اهـ3. "وقد بين ـ تعالى ـ أن سوق الكافرين إلى جهنم مصحوب بالعنف وعدم التكريم بقوله تعالى: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً} 4 أي: يدفعون دفعاً عنيفاً شديداً بأن تغل أيديهم إلى أعناقهم، وتجمع نواصيهم إلى أقدامهم فيدفعون إلى النار ويطرحون فيها"5. كما أخبر ـ تعالى ـ بأنهم يساقون إليها وهم عطاش ظماء. قال تعالى: {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً} 6. قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: "ونسوق الكافرين بالله الذين أجرموا إلى جهنم عطاشاً" ... وساق بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في قوله {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً} يقول: عطاشاً. وقال قتادة في قوله {إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً} قال: "ظلماء إلى النار"7. وقال البغوي رحمه الله تعالى: {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ} الكافرين الكاذبين {إِلَى   1- "معالم التنزيل" على حاشية تفسير الخازن 6/71، وانظر زاد المسير 7/199. 2- تفسير القرآن العظيم 6/112. 3- 24/31 ـ 32. 4- سورة الطور آية: 13. 5- روح العاني 27/30، وانظر تفسير ابن كثير 6/431. 6- سورة مريم آية: 86. 7- جامع البيان 26/127. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 616 جَهَنَّمَ وِرْداً} يعني: مشاة وقيل: "عطاشاً قد تقطعت أعناقهم من العطش، والورد جماعة يردون الماء ولا يرد أحد الماء إلا بعد عطش" اهـ.1. وقد بين ـ تعالى ـ أن الأمم الداخلة في جهنم يلعن بعضها بعضاً وأن الأتباع يلقون باللائمة على المتبوعين وقد صوّر هذا المشهد قوله تعالى: {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ * وَقَالَتْ أُولاهُمْ لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} 2. فقد بين تعالى في هاتين الآيتين: أنه كلما دخلت أمة من الأمم تابعة، أو متبوعة في النار فإنها تلعن أختها بمعنى: تدعو على نظيرتها في الدين، فتلعن التابعة المتبوعة التي أضلتها، وتلعن المتبوعة التابعة التي زادت في ضلالها. قال أبو مسلم: يلعن الأتباع القادة يقولون: أنتم أوردتمونا هذه الموارد فلعنكم الله ـ تعالى ـ. وقوله: {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً} غاية لما قبله أي: يدخلون فوجاً فوجاً لاعناً بعضهم بعضاً إلى انتهاء تلاحقهم باجتماعهم في النار وعند ذلك تقول: أخراهم منزلة وهم الأتباع والسفلة لأولاهم منزلة وهم القادة والرؤساء، أو تقول: أخراهم دخولاً لأولاهم كذلك {رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا} أي: دعونا إلى الضلال وأمرونا به حيث سنوه فاقتدينا بهم {فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً} أي: مضاعفاً. قال تعالى راداً عليهم "لكل" منكم ومنهم عذاب "ضعف" من النار. أما القادة فلضلالهم وإضلالهم، وذلك بسبب الدعاء السابق. وأما كونهم مضلين فلأن اتخاذهم إياهم رؤساء يصدرون عن أمرهم يزيد في طغيانهم كما قال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} 3.   1- "معالم التنزيل" على حاشية تفسير الخازن 4/211. 2- سورة الأعراف آية: 38 ـ 39. 3- روح المعاني للألوسي 8/116 والآية رقم (6) من سورة الجن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 617 وقد أخبر تعالى أن أهل النار يلقون فيها أفواجاً: كما قال تعالى: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ * وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لأَصْحَابِ السَّعِيرِ} 1. فقد بين ـ تعالى ـ أنه كلما ألقي في جهنم جماعة سألهم خزنتها: ألم يأتكم نذير يعني: سأل الفوج خزنة جهنم فقالوا لهم ألم يأتكم في الدنيا نذير ينذركم هذا العذاب الذي أنتم فيه؟ فيجيبونهم بأن النذير جاءهم وأنذرهم هذا العذاب ولكنهم كذبوه وزعموا بأنه في ذهاب عن الحق بعيد2. وأخبر ـ تعالى ـ أن الكافرين يحشرون إلى جهنم صماً وبكماً وعمياً ومنهم من يمشي على وجهه. وقال تعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً} 3. وقال تعالى: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً} 4. روى البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا نبي الله يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة قال: "أليس الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا قادراً على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة". قال قتادة: بلى وعزة ربنا5. وروى الترمذي بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف: صنفاً مشاة وصنفاً ركباناً وصنفاً على وجوههم" قيل: يا رسول الله؟ كيف يمشون على وجوههم؟ قال: "إن الذي أمشاهم على أقدامهم   1- سورة الملك آية: 8 ـ 11. 2- جامع البيان 29/5. 3- سورة الإسراء آية: 97. 4- سورة الفرقان آية: 34. 5- صحيح البخاري 3/169، صحيح مسلم 4/2161. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 618 قادر على أن يمشيهم على وجوههم، أما إنهم يتقون بوجوههم كل جدب وشوكة". قال الترمذي: هذا حديث حسن1. فتبين مما تقدم كيفية دخول أهل النار النار، وأنها حالة مؤلمة تقشعر منها الجلود, وتضطرب منها القلوب وأنها صورة مخيفة حيث يساقون إليها سوقاً عنيفاً مقروناً بالإهانة والإذلال والتحقير، تكاد حلوقهم تتقطع من العطش والظمأ، يلعن بعضهم بعضاً، ويحشرون إليها صماً، وبكماً، وعمياً، وبعضهم يمشون إليها على وجوههم وأولئك شر مكاناً وأضل سبيلاً.   1- السنن 4/367، ورواه أحمد في المسند 2/354 وفي لفظه "أما إنهم يتقون بوجوههم كل حدب وشوك". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 619 المبحث الثاني: أبواب جهنم لقد جاء في السورة ذكر أبواب جهنم مجملة، دون تحديد لعددها كما دلت على أن أبوابها تكون مغلقة، وأنها لا تفتح إلا عند مجيء أهلها إليها يوم القيامة. قال تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} . فالمراد بالأبواب المذكورة في هذه الآية هي أبواب جهنم السبعة. قال تعالى: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ * لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} 1. قال ابن جرير: "يقول تعالى ذكره لإبليس: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ} لموعد من تبعك أجمعين {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} يقول: لجهنم سبعة أطباق، لكل طبق منهم يعني من أتباع إبليس جزء، يعني قسماً ونصيباً مقسوماً" اهـ2. وقال ابن كثير: "وقوله {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ} أي: جهنم موعد جميع من اتبع إبليس، كما قال عن القرآن {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} 3 ثم أخبر أن لجهنم سبعة أبواب {لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} أي: قد كتب لكل باب منها جزء من أتباع إبليس يدخلونه لا محيد لهم عنه، أجارنا الله منها، وكل يدخل من باب بحسب عمله، ويستقر في درك بقدر عمله" اهـ4. وقال أبو عبد الله القرطبي: "قوله تعالى: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ} يعني   1- سورة الحجر آية: 43 ـ 44. 2- جامع البيان 14/35. 3- سورة هود آية: 17. 4- تفسير القرآن العظيم 4/162 ـ 163. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 620 إبليس ومن اتبعه {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} أي: أطباق، طبق فوق طبق {لِكُلِّ بَابٍ} أي: لكل طبقة {مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} أي: حظ معلوم"اهـ1. وكما جاء في الكتاب العزيز أن لجهنم سبعة أبواب، كذلك ورد في السنة المطهرة أن أبوابها سبعة كذلك روى الترمذي بإسناده إلى ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لجهنم سبعة أبواب، باب منها لمن سل السيف على أمتي ـ أو قال على أمة محمد ـ" ثم قال الترمذي رحمه الله تعالى: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث مالك بن مغول2. وقد فسر السلف الصالح قوله تعالى: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} 3 بأن أبواب جهنم طبقات بعضها فوق بعض. فقد أخرج ابن جرير بإسناده إلى علي رضي الله عنه أنه قال: هل تدرون كيف أبواب النار؟ قالوا: كنحو هذه الأبواب قال: لا ولكن هكذا ووصف بعضها فوق بعض. وقال أيضاً رضي الله عنه: "أبواب جهنم سبعة بعضها فوق بعض فيمتلئ الأول، ثم الثاني، ثم الثالث، ثم تمتلئ كلها". وقال عكرمة: في قوله: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} قال: لها سبعة أطباق. وقال ابن جريج: في قوله {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} قال: أولها جهنم، ثم الحطمة، ثم السعير، ثم سقر، ثم الجحيم، ثم الهاوية، والجحيم فيها أبو جهل. وقال قتادة: في قوله {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} هي: والله منازل بأعمالهم4. وقد جاء في بعض الآيات القرآنية أن أبواب جهنم تكون مغلقة على أهل النار. قال تعالى: {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ} 5 أي: مطبقة مغلقة.   1- الجامع لأحكام القرآن 10/30. 2- سنن الترمذي 4/359 ـ 360. 3- سورة الحجر آية: 44. 4- جامع البيان 14/35 ـ 36، وانظر تفسير ابن كثير 43/163. 5- سورة الهمزة آية: 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 621 وقال تعالى: {عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ} 1. قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: مغلقة الأبواب. وقال مجاهد: أصد الباب بلغة قريش أي: أغلقه2. وقال قتادة: {عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ} أي: مطبقة، أطبقها الله عليهم فلا ضوء فيها ولا فرج، ولا خروج منها آخر الأبد. وقال الضحاك: {مُؤْصَدَةٌ} مغلقة عليهم3. وقال مقاتل: في قوله تعالى {مُؤْصَدَةٌ} يعني: أبوابها مطبقة عليهم لا يفتح لها باب ولا يخرج منها غم ولا يدخل فيها روح آخر الأبد4. وقد بين ابن رجب رحمه الله ـ تعالى ـ أن هذه الأطباق نوعان: أحدهما: إطباق خاص وهو لمن يدخل في النار، أو من يريد الله التضييق عليه أجارنا الله من ذلك. الثاني: إطباق عام وهو إطباق النار على أهلها المخلدين فيها وقد قال سفيان وغيره في قوله تعالى: {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ} 5 قالوا: "هو إطباق النار على أهلها"اهـ6. وقد قلنا فيما تقدم أن الآية التي صدرنا بها هذا المبحث وهي قوله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} فيها دلالة على أن أبواب جهنم لا تفتح إلا عند مجيء أهلها إليها يوم القيامة، وذلك ليفجأهم عذابها، وليكون ذلك أعظم في نكايتهم، وزيادة في حسرتهم وندامتهم.   1- سورة البلد آية: 20. 2- تفسير ابن كثير 7/ 298، وانظر الجامع لأحكام القرآن 20/185. 3- جامع البيان عن تأويل آي القرآن 30/207. 4- ذكره ابن رجب في كتابه "التخويف من النار" ص60. 5- سورة الأنبياء آية: 103. 6- "التخويف من النار" ص61. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 622 وقد ورد حديث صحيح دل على أن أبواب جهنم مفتوحة وأنها تغلق في رمضان. روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين ومردة الجن" 1. قال القاضي عياض حول هذا الحديث: "يحتمل أنه على ظاهره وحقيقته، وأن تفتيح أبواب الجنة وتغليق أبواب جهنم وتصفيد الشياطين علامة لدخول الشهر وتعظيم لحرمته ويكون التصفيد ليمتنعوا من إيذاء المؤمنين والتهويش عليهم. قال: ويحتمل أن يكون المراد المجاز ويكون إشارة إلى كثرة الثواب والعفو وأن الشياطين يقل إغواؤهم وإيذاؤهم حتى يصيروا كالمصفدين ويكون تصفيدهم عن أشياء دون أشياء ولناس دون ناس. قال: ويحتمل أن يكون فتح أبواب الجنة عبارة: عما يفتحه الله ـ تعالى ـ لعباده من الطاعات في هذا الشهر التي لا تقع في غيره عموماً كالصيام والقيام وفعل الخيرات والإنكفاف عن كثير من المخالفات، وهذه أسباب لدخول الجنة، وأبواب لها وكذلك تغليق أبواب النار وتصفيد الشياطين عبارة عما ينكفون عنه من المخالفات" اهـ2. والأولى حمل الحديث على الحقيقة، ولا ضرورة تدعو إلى صرف الحديث عن ظاهره، ولا منافاة بين الآية والحديث، فقد تكون أبواب الجنة والنار مفتوحة في بعض الأحيان، وتكون مغلقة في أوقات أخرى، فمن هنا لا تعارض بين الآية والحديث وينبغي الإبتعاد عن تأول الحديث بالتأويلات والاحتمالات التي ليس لها أية دلالة من اللفظ النبوي الشريف تؤيدها. والذي نخلص إليه مما تقدم من الآيات وبعض الأحاديث أنه يجب على كل مسلم الإيمان بأن لجهنم سبعة أبواب كما نطق بذلك كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن تلك الأبواب سيدخل منها أهل الكفر والشرك والجحود والنفاق على حسب أعمالهم وذنوبهم التي تلبسوا بها واقترفوها في الحياة الدنيا.   1- صحيح البخاري 1/325، صحيح مسلم 2/758 واللفظ له. 2- شرح النووي على مسلم 7/188، وانظر "الفتح" 4/114. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 623 المبحث الثالث: خزنة جهنم الخزنة: جمع خازن مثل حفظة وحافظ وهو المؤتمن على الشيء الذي قد استحفظه1. ولقد بينت السورة أن لجهنم خزنة من الملائكة يقومون عليها. قال تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ * قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} . فهذه الآية من السورة بين الله ـ تعالى ـ فيها أن خزنة جهنم يوبخون أصناف الكفار الداخلين جهنم من جميع الأمم على الأعمال التي أوصلتهم إلى دار البوار بقولهم {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} يعني: من جنسكم تعرفونهم وتعرفون صدقهم، وتتمكنون من التلقي عنهم عندما يتلون عليكم آيات ربكم التي أرسلهم الله بها إليكم، والتي دلت على الحق المبين بأوضح الأدلة والبراهين {وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} وهو يوم القيامة، وهذا مما يوجب عليكم إتباعهم والحذر من عذاب هذا اليوم باستعمال تقواه، ولكن كانت حالكم بخلاف هذه الحال، وعندما يسمع الكفار كلام خزنة جهنم يجيبون مقرين بذنبهم وأن حجة الله قامت عليهم بقولهم "بلى" قد جاءتنا رسل ربنا بالبينات والآيات الواضحات وحذرونا من هذا اليوم {وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} بسبب كفرهم حقت عليهم كلمة العذاب التي هي لكل من كفر بآيات ربه وجحد ما جاءت به رسل الله، فأقروا   1- حادي الأرواح ص75، وانظر "بصائر ذوي التمييز" 2/535، "والمفردات في غريب القرآن" ص146 ـ 147. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 624 بذنبهم وقيام حجة الله عليهم، وعندما يسمع الخزنة اعترافهم وإقرارهم بذنبهم يقولون لهم: على وجه الإهانة والإذلال {ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} فيخبرونهم بأن لهم الشقاء الأبدي والعذاب السرمدي الذي لا يظعنون منه ولا يفتر عنهم ساعة ولا ينظرون لأنهم تكبروا عن الحق فجازاهم الله من جنس عملهم بالإهانة والذل والخزي والندامة"1. وهذا الحوار يجري بين خزنة جهنم، وبين الكفار عندما يساقون إليها أفواجاً وجماعات متفرقة بعضها في أثر بعض وقد بين الله ـ تعالى ـ أن عدد خزنة جهنم تسعة عشر. قال تعالى: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} 2 وقد استهان بعض المشركين بهذا العدد، فقد روى ابن جرير بسنده إلى ابن عباس لما نزل قوله تعالى: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} إلى قوله {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً} 3 أن أبا جهل لما سمع ذلك قال لقريش: ثكلتكم أمهاتكم، أسمع ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة النار تسعة عشر، وأنتم الدهم4 أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل من خزنة جهنم5 فرد الله عليه وعلى أمثاله بأن خزنة جهنم ليسوا رجالاً وإنما هم من الملائكة الغلاظ الشداد الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون بقوله ـ عز شأنه ـ {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً} . قال ابن زيد: ما جعلناهم رجالاً فيأخذ كل رجل رجلاً كما قال هذا يعني ـ أبا جهل ـ وإنما جعل الله الخبر عن عدة خزنة جهنم فتنة للذين كفروا لتكذيبهم بذلك وقول بعضهم أنا أكفيكموهم. قال مجاهد: قوله {تِسْعَةَ عَشَرَ} قال: جعلوا فتنة.   1- انظر جامع البيان 24/34، تفسير البغوي على حاشية "تفسير الخازن" 6/71 ـ 72، تفسير ابن كثير 6/112، وانظر "تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان" 7/45 ـ 46. 2- سورة المدثر آية: 26 ـ 30. 3- سورة المدثر آية: 30 ـ 31. 4- الدهم: العدد الكثير. النهاية 2/145. 5- جامع البيان 29/159. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 625 قال أبو الأشد بن الجمحي: "لا يبلغون رتوتي حتى أجهضهم عن جهنم"1. وكما جعل الله ذلك العدد فتنة للذين كفروا بالله من قريش جعله استيقاناً لأهل الكتاب وليزداد الذين آمنوا إيماناً. قال تعالى: {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً} 2 فقد أخبر ـ تعالى ـ أن عدة خزنة جهنم ليستيقن به أهل التوراة والإنجيل حقيقة ما في كتبهم من الخبر عن عدة خزنة جهنم، إذا وافق ذلك ما أنزل الله في كتابه على محمد صلى الله عليه وسلم. قال قتادة: {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} قال: يصدق القرآن الكتب التي كانت قبله فيها كلها، التوراة والإنجيل أن خزنة النار تسعة عشر. وقال الضحاك بن مزاحم: "عدة خزنة جهنم تسعة عشر في التوراة والإنجيل"3. وروى الترمذي بإسناده إلى جابر رضي الله عنه قال: "قال ناس من اليهود لأناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: هل يعلم نبيكم كم عدد خزنة جهنم؟ قالوا: لا ندري حتى نسأله، فجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد غلب أصحابك اليوم. قال: وبما غلبوا؟ قال: سألهم يهود هل يعلم نبيكم كم عدد خزنة جهنم قال: فما قالوا؟ قال: قالوا: لا ندري حتى نسأل نبينا قال: أفغلب قوم سئلوا عما لا يعلمون فقالوا لا نعلم حتى نسأل نبينا لكنهم قد سألوا نبيهم فقالوا: أرنا الله جهرة عليّ بأعداء الله إني سائلهم عن تربة الجنة وهي الدرمك فلما جاءوا قالوا: يا أبا القاسم كم عدد خزنة جهنم؟ قال: هكذا وهكذا في مرة عشرة وفي مرة تسعة قالوا: نعم" ... الحديث4. فعدد خزنة جهنم تسعة عشر كما نص الله ـ تعالى ـ على ذلك في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بل وفي الكتب السابقة التوراة والإنجيل. وقد وصف الله ـ تعالى ـ هؤلاء الخزنة بأنهم غلاظ شداد. قال تعالى: {عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا   1- المصدر السابق 29/160. 2- سورة المدثر آية: 31. 3- جامع البيان عن تأويل آي القرآن 29/161. 4- سنن الترمذي 4/102. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 626 يُؤْمَرُونَ} 1 أي: بعزمهم ونيتهم لا يريدون أن يخالفوه في شيء أبداً {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} أي: "ولهم قوة على إبراز ما أمروا به من العزم إلى الفعل فلهم عزم صادق وأفعال عظيمة وقوة بليغة وشدة باهرة"2. وقد سمى الله ـ تعالى ـ كبير هؤلاء الخزنة "مالكاً" وهو اسم مشتق من الملك وهو القوة والشدة حيث تصرفت حروفه3. قال تعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} 4 أي: مقيمون في العذاب"5. وقد أخبر ـ تعالى ـ أن أدوات التعذيب من سلاسل وأغلال بأيدي هؤلاء الخزنة يقودون بها أهل النار إلى النار قال تعالى: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ} 6. وقال تعالى: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} 7. كما أخبر ـ تعالى ـ أن هؤلاء الخزنة هم الذين يقدمون لأهل النار الشراب والطعام الجهنمي. قال تعالى: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً} 8. وقال تعالى: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالاً وَجَحِيماً9 * وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً} 10.   1- سورة التحريم آية: 6. 2- النهاية لابن كثير 2/159. 3- حادي الأرواح ص76. 4- سورة الزخرف آية: 77. 5- تفسير الخازن 6/118. 6- سورة الحاقة آية: 30 ـ 32. 7- سورة القمر آية: 48. 8- سورة الكهف آية: 29. 9- الأنكال: "قيود سوداء من نار جهنم" جامع البيان 29/135. 10- سورة المزمل آية: 12 ـ 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 627 فالذي يقدم ذلك الشراب والطعام الجهنمي هم خزنة جهنم الذين يقومون عليها، وكل ما تقدم من الآيات والأحاديث يدل على وجوب الإيمان بهؤلاء الخزنة الذين أسند الله إليهم القيام بتعذيب أهل النار، ومن أنكرهم، أو كذب بهم فقدوته في ذلك أبو جهل وأمثاله من مشركي قريش. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 628 المبحث الرابع: إحاطة النار بأهلها وشدة عذابها لقد دلت السورة على شدة عذاب جهنم وهوله، وأن عذاباً يحيط بالكافرين من كل الجهات وجميع الجوانب. قال تعالى: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} . وقال تعالى: {كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ فَأَذَاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} . وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} . هذه الآيات من السورة فيها بيان لشدة عذاب جهنم الذي أعده الله للخاسرين الذين كفروا بربهم وظلموا أنفسهم بتكذيبهم رسله، وإشراكهم مع الله غيره في العبادة ولم يخضعوا له بالعبادة، والطاعة وحسن الإنقياد، والإذعان لما أمرهم الله به، والإبتعاد عما نهاهم عنه، فآثروا المعاصي وارتكاب المآثم على طاعة الله ـ تعالى ـ فكان جزاؤهم أن يحيط بهم عذاب جهنم من جميع الجهات، كما صرحت بذلك الآيات المتقدمة. فالآية الأولى: من تلك الآيات هي قوله تعالى: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} هذه الآية فيها بيان أن عذاب جهنم يحيط بالكافرين من فوقهم، ومن تحت أرجلهم، فيكون العذاب، فوقهم، وكهيئة الظل المبنية من النار، ومن تحتهم من النار ما يعلوهم حتى يصير ما يعلوهم منها من تحتهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 629 ظللاً1. جاء في تفسير البغوي حول هذه الآية {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ} أي: "أطباق وسرادقات من النار ودخانه {وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} فراش ومهاد من نار إلى أن ينتهي إلى القعر سمي الأسفل ظللاً لأنها ظلل لمن تحتهم" أ. هـ2. وأما الآية الثانية والثالثة: من مجموعة الآيات المتقدمة وهما قوله تعالى: {كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ فَأَذَاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} . فهاتان الآيتان: فيهما بيان أن الأمم السابقة كذبت الرسل الذين أرسلهم الله إليهم كما فعل الكافرون من قريش مع النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله بهم ألواناً من العذاب في الحياة الدنيا من الخسف والمسخ والإغراق، والتدمير، وجاءهم ذلك العذاب من جهة ما كانت تخطر على بالهم، وبسبب لم يكونوا يتوقعون أن يصل بهم إلى تلك النتيجة المؤلمة"3. ثم فصل الله ذلك العذاب الذي أنزله بهم في الدنيا، وما سيحل بهم من العذاب الشديد في الأخرى. فقال تعالى: {فَأَذَاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} بما أنزله بهم من العذاب والنكال والذل والهوان وتشفي المؤمنين بهم. وفي هذا تحذير شديد لمن كذب خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام. وأما العذاب الذي سيلحقهم في الأخرى فقد بينه بقوله تعالى: {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ} أي: ولعقاب الله لهم في الدار الثانية الباقية أكبر وأشد وأنكى وآلم وأبقى. قال ابن جرير عند قوله تعالى: {فَأَذَاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} . يقول تعالى ذكره: "فعجل الله لهؤلاء الأمم الذين كذبوا رسلهم الهوان في الدنيا، والعذاب قبل الآخرة ولم ينظرهم إذا عتوا عن أمر ربهم ولعذاب الآخرة أكبر".   1- جامع البيان 23/205. 2- معالم التنزيل على حاشية "تفسير الخازن" 6/59، وانظر زاد المسير لابن الجوزي 7/169، وانظر روح المعاني للألوسي 23/251. 3- تفسير البيضاوي ص 610. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 630 قول: "ولعذاب الله إياهم في الآخرة إذا أدخلهم النار فعذبهم بها أكبر من العذاب الذي عذبهم به في الدنيا لو كانوا يعلمون: يقول لو علم هؤلاء المشركون من قريش ذلك"1. وأما الآية الرابعة والخامسة: من مجموعة الآيات المتقدمة قريباً، وهما قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} . فقد بين ـ تعالى ـ فيهما أن للمشركين والكافرين يوم القيامة ـ سوء العذاب ـ وهو أشده وأفظعه لأنهم أصروا على الكفر الذي ليس بعده ذنب وأنهم على الفرض والتقدير لو كان لهم ما في الأرض جميعاً من ذهبها وفضتها وحيواناتها وأشجارها وزروعها وجميع أوانيها وأثاثها، ومثله معه، ثم بذلوه يوم القيامة ليفتدوا به من العذاب، وينجوا منه، ما قبل منهم ولا أغنى عنهم من عذاب الله شيئاً، وحينئذ يظهر لهم من سخط الله وغضبه وانتقامه وبطشه ما لم يمر لهم على بال، أو يدور بخلد. وهناك يتضح لهم قبائح أعمالهم، وتحيط بهم خطيئآتهم ويحدق بهم العذاب الذي كانوا يسخرون من ذكره أو الإنذار به2 {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} . وببيان معاني الآيات الخمس المتقدمة من السورة تبين وجه دلالة السورة على شدة عذاب جهنم وهوله وأن عذابها لا يقادر قدره، ولا يخطر على بال. وقد وردت آيات كثيرة في معنى تلك الآيات التي تقدم ذكرها وكلها تبين شدة عذاب جهنم وإحاطته بالكافرين من جميع الجهات والجوانب. قال تعالى: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} 3.   1- جامع البيان 23/212. 2- مستفاد من "جامع البيان" 24/11 ـ 12، وتفسير القرآن العظيم 6/98 ـ 99، ومعالم التنزيل للبغوي على حاشية تفسير الخازن 6/66. 3- سورة الأعراف آية: 41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 631 قال محمد بن كعب القرظي {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ} . قال: الفراش {وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} قال: اللحف. وكذا قال الضحاك بن مزاحم والسدي". وقال ابن جرير: وأما قوله: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} فإنه يقول: "وكذلك نثبت من ظلم نفسه فأكسبها من غضب الله ما لا قبل لها به بكفره بربه وتكذيبه أنبياءه"1. وقال البغوي رحمه الله: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ} أي: فراش {وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} أي: "لحف وهي جمع غاشية يعني ما غشاهم وغطّاهم يريد إحاطة النار بهم من كل جانب" أ. هـ2. وقال تعالى: {يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ * يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} 3. وفي هاتين الآيتين: يبين الله ـ تعالى ـ أن عذاب جهنم محيط بالكافرين ويغشاهم عذابها من فوقهم ومن تحت أرجلهم، ويقول الله لهم: ذوقوا ما كنتم تعملون في الدنيا من معاصي الله وما يسخطه فيها. وقال تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} 4. ومعنى هاتين الآيتين: "لو يعلم هؤلاء الكفار المستعجلون عذاب ربهم ماذا لهم من البلاء حين تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون فلا يكفون عن وجوههم النار التي تلفحها، ولا عن ظهورهم فيدفعونها عنها بأنفسهم {وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} يقول: ولا لهم ناصر ينصرهم، فيستنقذهم حينئذ من عذاب الله لما أقاموا على ما هم عليه مقيمون من الكفر بالله، ولسارعوا إلى التوبة منه، والإيمان بالله، ولما استعجلوا لأنفسهم البلاء" أ. هـ5.   1- جامع البيان 8/182. 2- معالم التنزيل على حاشية "تفسير الخازن" 2/189. 3- سورة العنكبوت آية: 54 ـ 55. 4- سورة الأنبياء آية: 38 ـ 39. 5- جامع البيان عن تأويل آي القرآن /28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 632 وقال تعالى مبيناً شدة النار التي أعدها للظالمين {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} 1. قال ابن عباس: {أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} قال: "حائط من نار"2. وقال تعالى: {لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ وَاقٍ} 3. وقال ابن كثير حول هذه الآية "ذكر ـ تعالى ـ عقاب الكفار وثواب الأبرار فقال: بعد إخباره عن حال المشركين وما هم عليه من الكفر والشرك {لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي: بأيدي المؤمنين ـ قتلاً وأسراً ـ {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ} أي: المدخر مع هذا الخزي في الدنيا "أشق" أي: من هذا بكثير كما قال صلى الله عليه وسلم: للمتلاعنين "إن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة"4. وهو كما قال صلوات الله وسلامه عليه فإن عذاب الدنيا له انقضاء وذاك دائم أبداً في نار هي بالنسبة إلى هذه سبعون ضعفاً، ووثاق لا يتصور كثافته وشدته" أ. هـ5. وقال تعالى: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ} 6. قال ابن عباس: ظل من دخان. وقال مجاهد: ظل من دخان جهنم وهو السموم. وقال أبو مالك: اليحموم ظل من دخان جهنم. وقال الحسن وقتادة: في قوله: {لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ} 7 لا بارد المدخل ولا كريم المنظر.   1- سورة الكهف آية: 29. 2- تفسير القرآن العظيم 4/384. 3- سورة الرعد آية: 34. 4- رواه مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما 2/1131 والدارمي في سننه 2/151. 5- تفسير القرآن العظيم 4/97 ـ 98. 6- سورة الواقعة آية: 41 ـ 44. 7- سورة الواقعة آية: 44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 633 والسموم: هو الريح الحارة قاله قتادة وغيره. وهذه الآية: تضمنت ذكر ما يتبرد به في الدنيا من الكرب والحر وهو ثلاثة: الماء، والهواء، والظل. فهواء جهنم: السموم وهو الريح الحارة الشديدة الحر. وماؤها الحميم: الذي قد اشتد حره، وظلها: "اليحموم وهو قطع دخانها أجارنا الله من ذلك كله بكرمه ومنِّه"1. وقال تعالى: {وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} 2. هذه الآية بين الله ـ تعالى ـ فيها أن حرارة جهنم لا يمكن أن تقاس بالمقاييس التي يعرفها البشر بالنسبة لدرجات الحرارة لأنها نار اليوم الذي يفصل الله فيه بين الخلائق، وهي نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة. فلا يستطيع أحد أن يقيسها بنار الدنيا. وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم شدة ارتفاع حرارة جهنم بقوله: "ناركم هذه التي يوقد ابن آدم جزء من سبعين جزءاً من حر جهنم". قالوا: والله إن كانت لكافية يا رسول الله قال: "فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً كلها مثل حرها" 3. وقوله عليه الصلاة والسلام "ناركم هذه التي يوقد ابن آدم جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم" يعني أنه لو جمع كل ما في الوجود من النار التي يوقدها ابن آدم لكانت جزءاً من أجزاء جهنم المذكور، وبيانه أنه لو جمع حطب الدنيا فأوقد كله حتى صار ناراً لكان الجزء الواحد من أجزاء نار جهنم الذي هو من سبعين جزءاً أشد من حر نار الدنيا كما بينه في آخر الحديث". وقولهم: "وإن كانت لكافية" إن هنا مخففة من الثقيلة عند البصريين نظيره {وَإِنْ   1- التخويف من النار "لابن رجب" ص82. 2- سورة التوبة آية: 81. 3- رواه البخاري ومسلم صحيح البخاري 2/219، صحيح مسلم 4/2184، واللفظ له وكلاهما من حديث أبي هريرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 634 كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ} 1 أي: "إنها كانت كافية فأجابهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنها كما فضلت عليها في المقدار والعدد بتسعة وستين وفضلت عليها أيضاً: في شدة الحر بتسعة وستين ضعفاً"2. وروى البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اشتكت النار إلى ربها فقالت: رب أكل بعضي بعضاً فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء ونفس في الصيف، فأشد ما تجدون من الحر، وأشد ما تجدون من الزمهرير" 3. فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن شدة الحرارة في الصيف وشدة البرد في الشتاء إنما ذلك بسبب تنفس جهنم أعاذنا الله منها. وروى مسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة. فيصبغ في النار صبغة4 ثم يقال: يا ابن آدم هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك نعيم قط؟. فيقول: لا والله يا رب ويؤتى بأشد الناس بؤساً5 في الدنيا من أهل الجنة فيصبغ صبغة في الجنة فيقال له: يا ابن آدم هل رأيت بؤساً قط؟ هل مرّ بك شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب ما مر بي بؤس قط. ولا رأيت شدة قط 6. وروى البخاري من حديث النعمان بن بشير قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أهون أهل النار عذاباً يوم القيامة رجل على أخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل7 والقمقم" 8 9.   1- سورة البقرة آية: 143. 2- التذكرة للقرطبي ص395. 3- صحيح البخاري 2/219. 4- "فيصبغ في النار صبغة" أي: يغمس غمسة. 5- "بؤساً" البؤس: هو الشدة. 6- صحيح مسلم 4/2162. 7- المرجل: قدر من نحاس، ويقال: لكل إناء يغلي فيه الماء من أي صنف كان "الفتح" 11/431. 8- القمقم: إناء من آنية العطار، ويقال: هو إناء ضيق الرأس يسخن فيه الماء يكون من نحاس وغيره "الفتح" 11/431. 9- صحيح البخاري 4/138. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 635 وهذان الحديثان فيهما بيان لشدة عذاب جهنم، وأن عذابها أليم، لا يقادر قدره، ويجب الفرار منه بطاعة الله ـ عز وجل ـ. ثم من المتعارف عليه عند الناس في هذه الحياة الدنيا أنهم يوقدون لما يحتاجون إليه من طعام وغيره بالحطب من الأشجار، وبما استجد من الغازات في عصرنا هذا وغير ذلك مما هو صالح استعماله للوقود. أما وقود جهنم فإنه الناس والحجارة. كما قال تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} 1. قال ابن جرير: "فإن قال قائل: وكيف خصت الحجارة فقرنت بالناس حتى جعلت لنار جهنم حطباًَ؟ قيل: إنها حجارة الكبريت وهي أشد الحجارة فيما بلغنا حرّاً إذا أحميت. وروى بإسناده إلى ابن مسعود رضي الله عنه في قوله: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} قال: "هي حجارة من كبريت خلقها الله يوم خلق السموات والأرض في السماء الدنيا يعدها للكافرين". وفي رواية ثانية عنه أنه قال في قوله: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} قال: حجارة الكبريت جعلها الله كما شاء. وقال ابن عباس وغيره: في قوله {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} . أما الحجارة فهي حجارة في النار من كبريت أسود يعذبون به مع النار2. قال القرطبي في شأن هذه الحجارة: "وخصت بذلك لأنها تزيد على جميع الحجارة بخمسة أنواع من العذاب. 1ـ سرعة الإيقاد. 2ـ ونتن الرائحة. 3ـ وكثرة الدخان. 4ـ وشدة الإلتصاق بالأبدان.   1- سورة البقرة آية: 24. 2- انظر هذه الروايات في جامع البيان 1/168 ـ 169. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 636 5 ـ وقوة حرها إذا حميت. وقيل: المراد بالحجارة الأصنام لقوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} 1 أي: حطب وهو ما يلقى في النار مما تذكى به" اهـ2.   1- سورة الأنبياء آية: 98. 2- التذكرة ص407. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 637 المبحث الخامس: صفات أهل النار لقد ذكر في السورة بعض صفات أهل النار، وكما هو معلوم أنه ينبغي للمسلم أن يكون على علم ومعرفة لصفاتهم حتى يجتنبها ويبتعد عن التخلق بها حتى لا يقع فيها دون أن يدري ومن صفات أهل النار التي ذكرت في السورة: أـ شدة ظلمهم واختلاقهم الكذب على الله والإفتراء عليه بنسبة الولد إليه، أو يجعلون له الأنداد والشركاء، أو يعبدون معه غيره من المخلوقين بدعوى أنه يقربهم إلى الله زلفى. قال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ} . فهذه الآية من السورة إلى جانب أنها بينت صفات يتخلق بها أهل النار إلا أنها أيضاً: تضمنت التحذير والإخبار بأنه لا أظلم ممن كذب على ربه بنسبته إلى ما لا يليق بجلاله، أو بادعاء النبوة أو الإخبار بأنه ـ تعالى ـ قال: كذا: أو أخبر بكذا: وهو كاذب فهذا يدخل في عموم قوله ـ تعالى ـ {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} 1 إن كان جاهلاً أما إن كان عالماً فهو أشنع وأفظع. كما بينت أن من يرد الحق المؤيد بالبينات بتكذيبه فإنه ظلم عظيم لأنه رد للحق بعد تبينه، والذي يجمع بين الكذب على الله والتكذيب بالصدق كان ظلماً على ظلم، وجزاء من يتسم بذلك جهنم ولذلك ختم الله الآية بقوله: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ} فهي مقام ومستقر كل ظالم وكافر ينال جزاءه على عمله بها.   1- سورة الأعراف آية: 33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 638 وجاء في زاد المسير: قوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ} بأن ادعى له ولداً وشريكاً {وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ} وهو التوحيد والقرآن {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ} أي: مقام للجاحدين وهذا استفهام بمعنى التقرير يعني إنه كذلك اهـ1. وقال ابن كثير: حول قوله ـ تعالى ـ {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ} . يقول ـ عز وجل ـ مخاطباً للمشركين الذين افتروا على الله وجعلوا معه آلهة أخرى وادعوا أن الملائكة بنات الله وجعلوا لله ولداً ـ تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً ـ، ومع هذا كذبوا بالحق إذ جاءهم على ألسنة رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ولهذا قال ـ عز وجل ـ {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ} أي لا أحد أظلم من هذا لأنه جمع بين طرفي الباطل كذب على الله وكذّب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: الباطل وردوا الحق ولهذا قال جلت عظمته متوعداً لهم: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ} ؟ وهم الجاحدون المكذبون" اهـ2 ب ـ ومن صفات أهل النار القبيحة التي ورد ذكرها في السورة. أنهم حينما يذكر ـ الباري جل وعلا ـ تشمئز قلوبهم، وتتقزز نفوسهم وتنقبض صدورهم، وينفرون من التذكير لأنهم لا يؤمنون بالمعاد ولا يخافون سوء الحساب. قال تعالى مبيناً هذه الصفة الذميمة: {وَإِذَا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} . فهذه الآية الكريمة من السورة أوضحت أن أهل النار حينما يذكر عندهم الباطل وأهله من الأصنام والطواغيت فإنهم يبتهجون ويفرحون وتطفح وجوههم بالبشر والسرور والبهجة، وتجدهم يغضبون على من يتنقصها وينتقمون منه بأنواع الإيذ اء. قال ابن جرير رحمه الله تعالى حول هذه الآية: "يقول تعالى ذكره: وإذا أفرد الله جل ثناؤه بالذكر، فدعي وحده وقيل "لا إله إلا الله" اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالمعاد والبعث بعد الممات وعنى بقوله {اشْمَأَزَّتْ} :   1- 7/182. 2- تفسير القرآن العظيم 6/92 ـ 93. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 639 نفرت من توحيد الله {وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} يقول: وإذا ذكر الآلهة التي يدعونها من دون الله مع الله فقيل: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتها لترتجى1 إذا الذين لا يؤمنون بالآخرة يستبشرون بذلك ويفرحون" اهـ2. جـ ـ ومن صفات أهل النار التي ذكرت في السورة الإستكبار عن الإيمان بآيات الله والترفع عنها، وعدم الإذعان والإنقياد لها. قال تعالى: {بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ * وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ} . وهاتان الآيتان من السورة بين الله ـ تعالى ـ فيهما أن الإستكبار عن الحق، والتكبر على الخلق من موجبات النار. قال ابن رجب رحمه الله ـ تعالى ـ: "وأما المستكبر فهو الذي يتعاطى الكبر على الناس والتعاظم عليهم، وقد قال تعالى: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ} اهـ3. فقوله ـ تعالى ـ: {بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} تضمنت ثلاث صفات كلها بلغت النهاية في القبح، وتدل على شناعة الإستكبار، فالمستكبر يقع بين أقبح الجرائم على الإطلاق، وهما التكذيب بآيات الله وهو كفر، ثم الكفر الصريح دل على ذلك قوله تعالى {وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} . وأما قوله تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ} . فقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ} كلمة شاملة يدخل فيها من كذب على الله بادعاء الولد، أو الشريك، أو الصاحبة، أو المعبود الذي يزعمون أنه يقرب إلى الله أو يشفع عنده، أو يزعم أن الله حرم شيئاً، أو أحل شيئاً ـ خلاف ما جاء به دينه الحنيف كتحريم البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحامي التي كان يفتريها المشركون على الله بغير علم.   1- كأنه يشير إلى قصة الغرانيق وهي قصة باطلة انظر كتاب "نصب المنجانيق لنسف قصة الغرانيق" للألباني. 2- جامع البيان 24/10. 3- التخويف من النار ص198. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 640 قال أبو عبد الله القرطبي: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} أي: مما أحاط بهم من غضب الله ونقمته1. فوجوه أهل النار يوم القيامة تسود وتكون مغطاة بالسواد كما قال تعالى في موضع آخر: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} 2. وكقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 3. وقوله تعالى: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ} بين ـ سبحانه ـ أن الكبر من أقبح الصفات الذميمة التي تجعل من جهنم مثوى ومستقراً لمن تخلق به وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم معنى الكبر بقوله: "الكبر بطر الحق وغمط الناس" 4. قال النووي: "بطر الحق: دفعه ورده على قائله، وغمط الناس: احتقارهم" اهـ5. وصفات أهل النار التي تقدم ذكرها كما قلنا سابقاً إنما هي بعض صفاتهم التي وردت في السورة، وإلا فلهم صفات أخرى ذكرت في غيرها من سور القرآن وفي السنة المطهرة. مثل النفاق فإنه صفة من صفات أهل النار. قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا} 6. ومثل ترك الصلاة وعدم إطعام المساكين والتكذيب بالرجوع إلى الله ـ تعالى ـ ولقد أخبر ـ تعالى ـ أن أهل الجنة يسألون أهل النار عن السبب الذي دخلوا به النار بقوله تعالى:   1- الجامع لأحكام القرآن 15/275. 2- سورة آل عمران آية: 106. 3- سورة يونس آية: 27. 4- رواه مسلم في صحيحه 1/93 من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. 5- رياض الصالحين ص285. 6- سورة النساء آية: 145. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 641 {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} 1. ومثل الطغيان، وحب الدنيا وإيثارها على الآخرة، فإن ذلك من صفات أهل النار. قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} 2. إلى غير ذلك من الصفات الذميمة الكثيرة التي يصعب حصرها هنا، وكما بين القرآن صفات أهل النار كذلك بين النبي صلى الله عليه وسلم صفاتهم، فقد قال عليه الصلاة والسلام "وأهل النار خمسة: الضعيف الذي لا زبر له، الذين هم فيكم تبعاً لا يتبعون أهلاً ولا مالاً، والخائن الذي لا يخفى له طمع وإن دق إلا خانه، ورجل لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك" وذكر البخل أو الكذب و"الشنظير الفحاش"3. ففي هذا الحديث قسم النبي صلى الله عليه وسلم أهل النار خمسة أصناف. الصنف الأول: الضعيف الذي لا زبر له، ويعني بالزبر القوة والحرص على ما ينتفع به صاحبه في الآخرة من التقوى والعمل الصالح. الصنف الثاني: الخائن الذي لا يخفى له طمع وإن دق إلا خانه، أي يعني لا يقدر على خيانة ولو كانت حقيرة يسيرة إلا بادر إليها واغتنمها، ويدخل في ذلك التطفيف في المكيال والميزان وكذلك الخيانة في الأمانات القليلة كالودائع وأموال اليتامى وغير ذلك وهو خصلة من خصال النفاق، ويدخل في الخيانة من خان الله ورسوله في ارتكاب المحارم سراً مع إظهار اجتنابها. الصنف الثالث: المخادع الذي دأبه صباحاً ومساءاً مخادعة الناس على أهليهم وأموالهم، والخداع   1- سورة المدثر آية: 42 ـ 46. 2- سورة النازعات آية: 37 ـ 39. 3- رواه مسلم في صحيحه من حديث عياض بن حمار المجاشعي 4/2198 ـ 2199. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 642 من أوصاف المنافقين كما وصفهم الله ـ تعالى ـ بذلك، والخداع معناه إظهار الخير وإضمار الشر لفصد التوصل إلى أموال الناس وأهاليهم والانتفاع بذلك، وهو من جملة المكر والحيل المحرمة، بنص الشارع. الصنف الرابع: الكذب والبخل، ولم يحفظ الراوي ما قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا حفظاً جيداً، والكذب والبخل خصلتان. والكذب والبخل كلاهما ينشأ عن الشح، والشح هو شدة حرص الإنسان على ما ليس له من الوجوه المحرمة، وينشأ عنه البخل وهو إمساك الإنسان ما في يده والامتناع عن إخراجه في وجوهه التي أمر بها، فالمخادع الذي سبق ذكره هو الشحيح وهذا الصنف هو البخيل، فالشحيح أخذ المال بغير حقه والبخيل منعه من حقه، وينشأ عن الشح أيضاً: الكذب والمخادعة، والتحيل على ما لا يستحقه الإنسان بالطرق الباطلة المحرمة قال صلى الله عليه وسلم: "إن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار" 1. وفي مسند الإمام أحمد من حديث عبد الله بن عمرو قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم ما عمل أهل النار؟ قال: "الكذب، إذا كذب ـ العبد ـ فجر، وإذا فجر كفر، وإذا كفر دخل النار" 2. الصنف الخامس: الشنظير: وقد فسر بالسيء الخلق، والفحاش هو الفاحش المتفحش وفي حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن من شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة من تركه الناس اتقاء فحشه"3. وروى الترمذي عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم "إن الله ليبغض الفاحش البذيء" 4. والبذيء الذي يجري لسانه بالسفه ونحوه من لغو الكلام.   1- رواه البخاري في صحيحه 4/65، ورواه مسلم أيضاً في صحيحه 4/2013، كلاهما من حديث ابن مسعود. 2- 2/176 . 3- رواه البخاري في صحيحه 4/70، ومسلم 4/2002، كلاهما من حديث عائشة رضي الله عنها. 4- السنن 3/244. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 643 وروى الإمام أحمد في مسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حسب الرجل أن يكون فاحشاً بذيئاً بخيلاً جباناً" 1 فالفاحش هو الذي يفحش في منطقه ويستقبل الرجال بقبيح الكلام من السب ونحوه ويأتي في كلامه بالسخف وما يفحش ذكره"اهـ2. ومن صفات أهل النار التي وضحها النبي صلى الله عليه وسلم مخالفتهم الحق بعد معرفتهم له، وقد يأمرون به ولا يفعلونه، ويرتكبون المنكر وهم يعرفون أنه منكر، وقد ينهون عنه مراءاة للناس وتعمية لأفعالهم روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أسامة بن زيد رضي الله ـ تعالى ـ عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله: "يجاء برجل فيطرح في النار فيطحن فيها كما يطحن الحمار برحاء فيطيف به أهل النار فيقولون: أي فلان ألست كنت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: كنت آمر بالمعروف ولا أفعله، وأنهى عن المنكر وأفعله" 3. وفيهما من حديث حارثة بن وهب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أخبركم بأهل النار كل عتل جواظ مستكبر" 4. قال النووي: العتل: الغليظ الجافي، والجواظ: هو الجموع المنوع وقيل: الضخم المختال في مشيته، وقيل: القصير البطين. أ. هـ5. وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله ـ عز وجل ـ العز إزاره والكبرياء رداؤه فمن ينازعني عذبته" 6. فالمستكبر يعرض نفسه للذل والهوان فالذي يتعالى على الناس ويتعاظم عليهم فعاقبة عمله ذلك أنه يذل ويهان بسبب تعاظمه وتعاليه على الناس، ومنازعته ربّه فيما   1- 4/145 من حديث عقبة بن عامر رضي الله ـ تعالى عنه ـ. 2- التخويف من النار لابن رجب ص204. 3- صحيح البخاري مع الفتح 13/48، ومسلم 4/2290 ـ 2291. 4- صحيح البخاري مع الفتح 8/ 662، ومسلم 4/2190. 5- رياض الصالحين ص: 131. 6- 4/2023 . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 644 يختص به من الصفات كما قال تعالى: {فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} 1. هذه عقوبة المتكبر الشنيعة التي يجازى بها بعد الرجوع إلى الله ـ جل وعلا ـ. ومن صفات أهل النار التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم اتباعهم الشهوات روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حجبت الجنة بالمكاره وحجبت النار بالشهوات" 2. وعند مسلم "حفت الجنة بالمكاره وحجبت النار بالشهوات" 3. "المكاره كل ما يشق على النفس فعله ويصعب عليها عمله كالطهارة في السبرات وغيرهما من أعمال الطاعات، والصبر على المصائب وجميع المكروهات. "والشهوات كل ما يوافق النفس ويلائمها وتدعو إليه ويوافقها وأصل الحفاف الدائر بالشيء المحيط به الذي لا يتوصل إليه إلا بعد أن يتخطى فمثّل صلى الله عليه وسلم المكاره والشهوات بذلك، فالجنة لا تنال إلا بقطع مفاوز المكاره، والصبر عليها، والنار لا ينجو منها إلا بترك الشهوات وفطام النفس عنها" 4. وروى الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تحاجت الجنة والنار فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين، وقالت الجنة: فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم" 5. قال الله ـ عز وجل ـ للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي وقال للنار: أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي ولكل واحدة منكما ملؤها. وأما النار فلا تمتلئ حتى يضع عليها رجله فتقول: "قط6، قط، فهنالك تمتلئ   1- سورة الأحقاف آية: 20. 2- صحيح البخاري مع الفتح 11/320. 3- 4/2174 . 4- التذكرة للقرطبي ص359 ـ 360. 5- سقطهم: أي ضعفاؤهم والمحتقرون منهم. شرح النووي 17/181. 6- قط قط: بمعنى: حسب وتكرارها للتأكيد. النهاية لابن الأثير 4/78. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 645 ويزوي بعضها إلى بعض، ولا يظلم من خلقه أحداً، وأما الجنة فإن الله ينشىء لها خلقاً"1. وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤوسهن كأسنمة البخت2 المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها لتوجد من مسيرة كذا وكذا" 3. وأعمال أهل النار وصفاتهم كثيرة جداً وقد استوفى الكثير منها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى4.   1- صحيح البخاري مع الفتح 13/434، صحيح مسلم 4/2186، واللفظ له. 2- معناه: "أنهن يعظمن رؤوسهن بالخمر والعمائم وغيرها مما يلف على الرأس حتى تشبه أسنمة الإبل البخت" شرح النووي 17/191. 3- صحيح مسلم 4/2192. 4- مجموع الفتاوى 10/423 ـ 424. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 646 المبحث السادس: أبدية النار ودوام عذابها لقد دلت السورة على أبدية النار ودوام عذابها في قوله ـ تعالى ـ {قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ. مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} . وقال تعالى: {قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} . هذه الآيات من السورة فيها دلالة واضحة على أن عذاب جهنم دائم ومستمر لا انقطاع له، وأن أهلها خالدون مخلدون فيها. فالآية الأولى: من هذه الآيات وهي قوله ـ تعالى ـ: {قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} فيها أمر من الله ـ تعالى ـ لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يهدد المشركين ويتوعدهم بالعذاب إن هم استمروا على شركهم وكفرهم بالله تعالى. ويخبرهم بأنه ثابت ومستمر على طريقته وملته ودينه وأنه لن يحيد عن التوحيد والإيمان بالله ـ تعالى ـ وأن المستقبل سيكشف لهم عمن ينزل به عذاب الله في الدنيا فيخزيه، ثم في الآخرة يحل به العذاب الدائم الذي لا انقطاع له وهو عذاب جهنم. قال ابن جرير عند قوله تعالى: {مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} . وقوله: {مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ} يقول تعالى ذكره: من يأتيه عذاب يخزيه، ما أتاه من ذلك العذاب، يعني يذله ويهينه {وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} يقول: ينزل عليه عذاب دائم لا يفارقه" ا. هـ1.   1- جامع البيان 24/8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 647 قال العلامة ابن كثير: " {مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} أي: في الدنيا {وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} أي: دائم مستمر لا محيد له عنه وذلك يوم القيامة" اهـ1. وجاء في تفسير روح المعاني: "قوله تعالى: {مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} فإن الأول إشارة إلى العذاب الدنيوي وقد نالهم يوم بدر والثاني إشارة إلى العذاب الأخروي فإن العذاب المقيم عذاب النار" اهـ2. وجاء في فتح القدير: " {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} أي: يهينه ويذله في الدنيا فيظهر عند ذلك أنه المبطل وخصمه المحق، والمراد بهذا العذاب عذاب الدنيا وما حل بهم من القتل والأسر والقهر والذلة. ثم ذكر عذاب الآخرة فقال: " {وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} أي: دائم مستمر في الدار الآخرة وهو عذاب النار" اهـ3. وأما قوله تعالى: {قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} . فقد قال ابن جرير حول هذه الآية: "يقول تعالى ذكره: "فتقول خزنة جهنم للذين كفروا حينئذ: {ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ} السبعة على قدر منازلكم فيها {خَالِدِينَ فِيهَا} يقول: ماكثين فيها لا ينقلون إلى غيرها {فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} يقول: فبئس مسكن المتكبرين على الله في الدنيا، أن يوحدوه ويفردوا له الألوهة جهنم يوم القيامة" اهـ4. وقال ابن كثير: "وقوله تبارك وتعالى ههنا: {قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} : أي: كل من رآهم وعلم حالهم يشهد عليهم بأنهم مستحقون للعذاب ولهذا لم يسند هذا القول إلى قائل معين بل أطلقه ليدل على أن الكون شاهد عليهم بأنهم يستحقون ما هم فيه بما حكم العدل الخبير عليهم به ولهذا قال ـ جل وعلا ـ: {قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} أي: ماكثين فيها لا خروج لكم منها ولا زوا لكم عنها {فَبِئْسَ مَثْوَى   1- تفسير القرآن العظيم 6/95. 2- 24/7 . 3- 4/465 . 4- جامع البيان 24/34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 648 الْمُتَكَبِّرِينَ} أي: فبئس المصير وبئس المقيل لكم بسبب تكبركم في الدنيا وإبائكم عن اتباع الحق فهو الذي صيركم إلى ما أنتم فيه فبئس الحال وبئس المآل" اهـ1. ومن أقوال العلماء التي سقناها حول الآيات الثلاث المتقدمة من السورة يتبين وجه دلالة السورة على أبدية النار ودوامها وعدم فنائها وخلود أهلها فيها وقد وردت آيات وأحاديث كثيرة تدل على أبدية النار ودوام عذاب الكفار فيها. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً * إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً} 2. وقال تعالى: {إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} 3. وقال تعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} 4 قال عبد الله بن عمرو: أهل النار يدعون مالكاً فلا يجيبهم أربعين عاماً ثم يقول: إنكم ماكثون، ثم يدعون ربهم فيقولون: ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون فلا يجيبهم مثل الدنيا ثم يقول: إخسأوا فيها ولا تكلمون ثم ييأس القوم فما هو إلا الزفير والشهيق تشبه أصواتهم أصوات الحمير أولها شهيق وآخرها زفير"5. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 6. وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} 7. فهذه الآيات القرآنية دلت على أن عذاب جهنم لا انقطاع له، وأن أهلها من الكفار   1- تفسير القرآن العظيم 6/112. 2- سورة النساء آية: 168 ـ 169. 3- سورة الأحزاب آية: 64 ـ 65. 4- سورة الزخرف آية: 77. 5- انظر مجمع الزوائد 10/396، وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. 6- سورة الأعراف آية: 36. 7- سورة الجن آية: 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 649 والمشركين والجاحدين خالدون مخلدون فيها "أي: لا يخرجون منها ولا هي تفنى بهم، فيزولوا بزوالها، وإنما هي حياة أبدية لا نهاية لها"1. "فإذا جاء مع لفظ خلود الكفار في النار وصف بتأييده كان ذلك تأكيداً للخلود الذي لا نهاية له ولا أمد لانقضائه"2. وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن أهل النار خالدون فيها أبداً. فقد روى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا صار أهل الجنة إلى الجنة وصار أهل النار إلى النار، أتي بالموت حتى يجعل بين الجنة، والنار ثم يذبح ثم ينادي مناد: يا أهل الجنة لا موت، ويا أهل النار لا موت فيزداد أهل الجنة فرحاً إلى فرحهم، ويزداد أهل النار حزناً إلى حزنهم" 3. "فهذا الحديث نص صريح في خلود أهل النار فيها، لا إلى غاية ولا إلى أمد، مقيمين على الدوام والسرمد من غير موت ولا حياة، ولا راحة، ولا نجاة، بل كما قال تعالى في كتابه الكريم وأوضح فيه عن عذاب الكافرين: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} 4 ... فمن قال إن أهل النار يخرجون منها وأن النار تبقى خالية بجملتها خاوية على عروشها، وأنها تفنى، وتزول فهو خارج عن مقتضى المعقول، ومخالف لما جاء به الرسول، وما أجمع عليه أهل السنة، والأئمة العدول. قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} 5، وإنما تخلى جهنم وهي الطبقة العليا التي فيها العصاة من أهل التوحيد"6. والخلاصة مما تقدم أنه يجب على المسلم أن يؤمن بما دل عليه كتاب الله وسنة   1- انظر تفسير المنار 1/234. 2- انظر كتاب "الإنسان في القرآن الكريم لعبد الكريم الخطيب ص470". 3- 4/2189 . 4- سورة فاطر آية: 36. 5- سورة النساء آية: 115. 6- انظر التذكرة للقرطبي ص436 ـ 437. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 650 رسوله بأن أهل الكفر والشرك والإلحاد خالدون في النار خلوداً مؤبداً، دائماً بلا انقطاع، ولا فتور وعلى هذا أجمع علماء الإسلام، وأئمته العدول. قال أبو الحسن الأشعري: "قال أهل الإسلام جميعاً ليس للجنة والنار آخر، وأنهما لا تزالان باقيتين، وكذلك أهل الجنة لا يزالون في الجنة يتنعمون وأهل النار لا يزالون في النار يعذبون وليس لذلك آخر ولا لمعلوماته ومقدوراته غاية ولا نهاية"1. وقال ابن حزم في معرض حكايته الأمور التي أجمع عليها المسلمون: "وأن النار حق وأنها دار عذاب أبداً لا تفنى، ولا يفنى أهلها أبداً بلا نهاية وأنها أعدت لكل كافر مخالف لدين الإسلام ولمن خالف الأنبياء السالفين قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليهم الصلاة والتسليم وبلوغ خبره إليه"2. وقال العلامة السيوطي مصرحاً بعدم فنائها: ثمانية حكم البقاء يعمها ... من الخلق والباقون في حيز العدم هي العرش والكرسي ونار وجنة ... وعجب وأرواح كذا اللوح والقلم3 وقال العلامة ابن القيم رحمه الله: "وأما النار فإنها دار الخبث في الأقوال والأعمال والمآكل والمشارب ودار الخبيثين، فالله ـ تعالى ـ يجمع الخبيث بعضه إلى بعض فيركمه كما يركم الشيء لتراكب بعضه على بعض ثم يجعله في جهنم مع أهله فليس إلا خبيث، ولما كان الناس على ثلاث طبقات، طيب لا يشوبه خبث، وخبيث لا طيب فيه وآخرون فيهم خبث وطيب كانت دورهم ثلاثة: دار الطيب المحض. دار الخبث المحض. وهاتان الداران لا تفنيان.   1- انظر المقالات 1/244. 2- مراتب الإجماع ص173. 3- ذكره في توضيح المقاصد وتصحيح القواعد في شرح قصيدة الإمام ابن القيم 1/96. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 651 ودار لمن معه خبث وطيب وهي الدار التي تفنى وهي دار العصاة، فإنه لا يبقي في جهنم من عصاة الموحدين أحد، فإنهم إذا عذبوا بقدر جزائهم أخرجوا من النار فأدخلوا الجنة، ولا يبقى إلا دار الطيب المحض ودار الخبث المحض1. وقال الطحاوي: "والجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان ولا تبيدان2". وقال السفاريني: بعد أن ساق كثيراً من الأدلة الدالة على أبدية الجنة والنار "فثبت بما ذكرنا من الآيات الصريحة والأخبار الصحيحة خلود أهل الدارين خلوداً مؤبداً كل بما هو فيه من نعيم وعذاب أليم وعلى هذا إجماع أهل السنة والجماعة، فأجمعوا على أن عذاب الكفار لا ينقطع كما أن نعيم أهل الجنة لا ينقطع ودليل ذلك الكتاب والسنة، وزعمت الجهمية أن الجنة والنار يفنيان، وقال هذا إمامهم جهم بن صفوان إمام المعطلة، وليس له في ذلك سلف قط لا من الصحابة ولا من التابعين ولا أحد من أهل أئمة الدين، ولا قال به أحد من أهل السنة3". هذا ما يجب على المسلم أن يعتقده في الجنة والنار وهو أنهما مخلوقتان لا يتطرق إليهما الفناء ولا الإبادة وأن أهلهما كل خالد فيما هو فيه من نعيم، وعذاب، فأهل الجنة منعمون فيها، وأهل النار معذبون بلا فتور ولا إنقطاع وهذا هو معتقد الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة4 جعلنا الله منهم.   1- الوابل الصيب ص18. 2- العقيدة الطحاوية مع شرحها ص476. 3- لوامع الأنوار البهية 2/234. 4- وقد عد بعض العلماء الأقوال في أبدية النار إلى سبعة أقوال. انظر "حادي الأرواح" ص248 ـ 249، شرح الطحاوية ص483، فتح الباري 11/421 ـ 422، لوامع الأنوار البهية 2/234 ـ 235، يقظة أولي الاعتبار لصديق خان ص41، جلاء العينين ص420 ـ 421. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 652 الفصل الثالث: الجنة دار المتقين المبحث الأول: كيفية دخول أهل الجنة الجنة ... تمهيد: إن الجنة دار الذي أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وهي دار جنانها تجري من تحتها الأنهار قصورها لبنة من ذهب، ولبنة من فضة، وملاطها1 المسك الأذفر، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وتربتها الزعفران وخيامها اللؤلؤ المجوف، وهي نور يتلألأ، وريحانة تهتز، ونهر مطرد وفاكهة وخضرة وزوجات حسان فيها السدر المخضود، والطلح المنضود، والظل الممدود، والماء المسكوب، أهلها يأكلون فيها ويتنعمون، ولا يمتخطون، ولا يبولون بل مسك يرشح، ويحيون ولا يموتون وجوههم مسفرة ضاحكة مستبشرة فيها الجمال المبين فيها الأزواج من الحور العين، كل نعيمها دائم، وكل شيء فيها باسم، فيها يرفع الحجاب، وينظرون إلى وجه العزيز الوهاب، ومهما عبرنا عن صفاتها فإن تعبيرنا لا يحيط بما هي عليه، ولا يمكن أن يصفها أحد كما هي عليه حقيقة إلا شخص واحد ذلكم هو الرسول صلى الله عليه وسلم الذي تلقى صفاتها عن ـ الباري جل وعلا ـ وأيضاً جاءت الأحاديث الصحيحة أنه عليه الصلاة والسلام رآها مرتين، مرة في اليقظة2، ومرة مناماً3 فلنستمع إليه وهو يصفها. روى البخاري ومسلم في صحيحهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله ـ عز وجل ـ أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن   1- أي: طينها. 2- انظر الحديث الطويل الذي جاء في صلاة الكسوف وفيه أنه صلى الله عليه وسلم رأى الجنة وهمَّ أن يتناول منها عنقوداً وهذه الرؤية كانت يقظة. الحديث في صحيح البخاري 1/187، صحيح مسلم 2/619. 3- رؤيته لها مناماً جاء ذلك في صحيح البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة "بينا أنا نائم رأيتني في الجنة فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر فقلت لمن هذا القصر؟ فقالوا: لعمر ... الحديث. صحيح البخاري 2/216، صحيح مسلم 4/1863. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 655 سمعت ولا خطر على قلب بشر فاقرؤوا إن شئتم {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} "1. فهذا الحديث القدسي بين الله ـ تعالى ـ فيه أنه أعد لعباده الصالحين من النعيم في الجنة ما تقصر عقول البشر عن الإحاطة به. وقد ورد في سورة "الزمر" آيات تضمنت ذكر مباحث تتعلق بالجنة وهي ما سنتحدث عنها فيما يأتي:   1- صحيح البخاري 2/217، صحيح مسلم 4/2174، والآية رقم (17) من سورة السجدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 656 المبحث الأول: كيفية دخول أهل الجنة الجنة لقد بين الله في سورة "الزمر" الكيفية التي يدخل بها المتقون الجنة بقوله ـ تعالى ـ {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً} 1 فقد بين تعالى أن دخولهم الجنة يكون على هيئة جماعات متتابعة، وأفواج متتالية كما يفهم ذلك من قوله ـ عز وجل ـ {زُمَراً} ودخولهم الجنة على هذا النحو يجعلهم فرحين مستأنسين بعضهم ببعض. ولقد بين النبي صلى الله عليه وسلم صفة كل زمرة على حدة. جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أول زمرة تلج الجنة صورتهم على صورة القمر ليلة البدر لا يبصقون فيها ولا يمتخطون ولا يتغوطون فيها. آنيتهم وأمشاطهم من الذهب والفضة ومجامرهم من الألوة2 ورشحهم المسك، ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ ساقهما من وراء اللحم من الحسن لا اختلاف بينهم ولا تباغض قلوبهم قلب واحد يسبحون الله بكرة وعشياً" 3. وهذه الصفات في هذا الحديث هي صفات السابقين الذين كانوا في دنياهم سبّاقين إلى فعل الخيرات فكان جزاؤهم في الآخرة أن سبقوا إلى الجنات، إذ سبقهم في الآخرة كان على قدر سبقهم إلى الطاعات في هذه الحياة الدنيا.   1- جاء في اللسان: "والزمرة الفوج من الناس والجماعة من الناس وقيل: الجماعة في تفرقة، والزمر الجماعات" اهـ. 4/328. 2- الألوة: في النهاية: "هو العود الذي يتبخر به" 1/63. 3- صحيح البخاري 2/217، صحيح مسلم 4/2180. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 657 وأما صفة الزمرة التي تلي أولئك المقربين في دخول الجنة فقد جاء أن أحدهم يرى كأشد الكواكب إضاءة في السماء. روى الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي هريرة أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والذين يلونهم على أشد كوكب درّي في السماء إضاءة لا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون ولا يتفلون أمشاطهم الذهب ورشحهم المسك، ومجامرهم الألوة، وأزواجهم الحور العين أخلاقهم على خلق رجل واحد. على صورة أبيهم آدم. ستون ذراعاً في السماء" 1. وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: "أول زمرة تدخل الجنة من أمتي على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم على أشد نجم في السماء إضاءة، ثم هم بعد ذلك منازل ..... الحديث" 2. وروى الشيخان أيضاً من حديث أبي حازم عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليدخلن الجنة من أمتي سبعون ألفاً، أو سبعمائة ألف ـ لا يدري أبو حازم أيّهما قال ـ: متماسكون، آخذ بعضهم بعضاً لا يدخل أولهم حتى يدخل آخرهم وجوههم على صورة القمر ليلة البدر "3. فلله ما أعظم هذا النعيم، وما أجل هذا التكريم الذي يناله أولئك المتقون المؤمنون، ويا ذلة من حرمه ولم يظفر به وذلك هو الخسران المبين.   1- صحيح البخاري 2/217. صحيح مسلم 4/2179. 2- صحيح مسلم 4/2179. 3- صحيح البخاري مع الفتح 11/416، صحيح مسلم 1/198 ـ 199. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 658 المبحث الثاني: أبواب الجنة ورد ذكر أبواب الجنة في السورة من غير نص على عددها، أو تسميتها قال تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} . قال العلامة ابن القيم بعد أن ذكر هذه الآية مبيناً أسرارها العجيبة ومعانيها الدقيقة. قال رحمه الله: "وقال في صفة النار {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} بغير واو فقالت طائفة: هذه واو الثمانية دخلت في أبواب الجنة لكونها ثمانية وأبواب النار سبعة فلم تدخلها الواو، وهذا قول ضعيف لا دليل عليه، ولا تعرفه العرب، وإنما هو من استنباط بعض المتأخرين". وقالت طائفة أخرى: الواو زائدة والجواب الفعل الذي بعدها كما هو في الآية الثانية، وهذا أيضاً ضعيف فإن زيادة الواو غير معروف في كلامهم ولا يليق بأفصح الكلام أن يكون فيه حرف زائد لغير معنى ولا فائدة. وقالت طائفة ثالثة: الجواب محذوف، وقوله: {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} عطف على قوله {جَاءُوهَا} وهذا اختيار أبي عبيدة والمبرد1 والزجاج وغيرهم. قال المبرد: وحذف   1- هو: محمد بن يزيد بن عبد الأكبر الثمالي الأزدي أبو العباس المعروف بالمبرد إمام العربية ببغداد في زمنه. ولد سنة عشر ومائتين وتوفي سنة ست وثمانين ومائتين هجرية. بغية الوعاة 1/269، وفيات الأعيان 1/495، تاريخ بغداد 3/380. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 659 الجواب أبلغ عند أهل العلم، قال أبو الفتح ابن جني1 وأصحابنا يدفعون زيادة الواو ويرون أن الجواب محذوف للعلم به. قال ابن القيم: "بقي أن يقال: فما السر في حذف الجواب في آية أهل الجنة، وذكره في آية "أهل النار"؟ فيقال: هذا أبلغ في الموضعين فإن الملائكة تسوق أهل النار إليها وأبوابها مغلقة حتى إذا وصلوا إليها فتحت في وجوههم فيفجأهم العذاب بغتة فحين انتبهوا إليها فتحت أبوابها بلا مهلة، فإن هذا شأن الجزاء المرتب على الشرط أن يكون عقيبه فإنها دار الإهانة والخزي فلم يستأذن لهم في دخولها، ويطلب إلى خزنتها أن يمكنوهم من الدخول". وأما الجنة فإنها دار الله ودار كرامته، ومحل خواصه وأوليائه فإذا انتهوا إليها صادفوا أبوابها مغلقة فيرغبون إلى صاحبها ومالكها أن يفتحها لهم ويستشفعون إليه بأولي العزم من رسله، وكلهم يتأخر عن ذلك حتى تقع الدلالة على خاتمهم وسيدهم، وأفضلهم فيقول أنا لها فيأتي إلى تحت العرش ويخر ساجداً لربه فيدعه ما شاء الله أن يدعه ثم يأذن له في رفع رأسه وأن يسأله حاجته فيشفع إليه ـ سبحانه ـ في فتح أبوابها فيشفعه ويفتحها تعظيماً لخطرها، وإظهاراً لمنزلة رسوله وكرامته عليه، وإن مثل هذه الدار التي هي دار ملك الملوك ورب العالمين إنما يدخل إليها بعد تلك الأهوال العظيمة التي أولها من حين عقل العبد في هذه الدار إلى أن انتهى إليها، وما ركبه من الأطباق طبقاً بعد طبق وقاساه من الشدائد شدة بعد شدة حتى أذن الله ـ تعالى ـ لخاتم أنبيائه ورسله وأحب خلقه إليه أن يشفع إليه في فتحها لهم، وهذا أبلغ وأعظم في تمام النعمة وحصول الفرح والسرور مما يقدر بخلاف ذلك لئلا يتوهم الجاهل أنها بمنزلة الخان الذي يدخله من شاء، فجنة الله عالية غالية، بين الناس وبينها من العقبات والمفاوز والأخطار مالا تنال إلا به، فما لمن أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني ولهذه الدار فلبعد عنها إلى ما هو أولى به، وقد خلق له وهيئ له، وتأمل ما في سوق الفريقين إلى الدارين زمراً من فرحة هؤلاء بإخوانهم وسيرهم معهم كل زمرة على حدة كل مشتركين في عمل متصاحبين فيه على زمرتهم وجماعتهم مستبشرين أقوياء القلوب كما كانوا في الدنيا وقت اجتماعهم على الخير، كذلك يؤنس بعضهم بعضاً ويفرح بعضهم   1- هو: عثمان بن جني الموصلي أبو الفتح من أئمة الأدب والنحو. توفي سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة. انظر ترجمته في: "وفيات الأعيان 1/313، بغية الوعاة 2/132، شذرات الذهب 3/140". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 660 ببعض وكذلك أصحاب الدار الأخرى يساقون إليها زمراً يلعن بعضهم بعضاً، ويتأذى بعضهم ببعض وذلك أبلغ في الخزي والفضيحة والهتيكة من أن يساقوا واحداً واحداً فلا تهمل تدبر قوله {زُمَراً} وقال خزنة الجنة لأهلها {سَلامٌ عَلَيْكُمْ} فبدؤهم بالسلام المتضمن للسلامة من كل شر ومكروه أي: سلمتم فلا يلحقكم بعد اليوم ما تكرهون، ثم قالوا لهم {طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} أي: سلامتكم، ودخولها بطيبكم فإن الله حرمها إلا على الطيبين فبشروهم بالسلامة والطيب والدخول والخلود. وأما أهل النار فإنهم لما انتهوا إليها على تلك الحال من الهم والغم والحزن وفتحت لهم أبوابها وقفوا عليها وزيدوا على ما هم عليه توبيخ خزنتها وتكبيتهم لهم بقولهم {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} فاعترفوا وقالوا {بَلَى} فبشروهم بدخولها والخلود فيها وأنها بئس المثوى لهم، وتأمل قول خزنة الجنة لأهلها "ادخلوها" وقول خزنة النار لأهلها "ادخلوا أبواب جهنم" تجد تحته سراً لطيفاً ومعنى بديعاً لا يخفى على المتأمل وهو أنها لما كانت دار العقوبة وأبوابها أفظع شيء وأشده حراً وأعظمه عما يستقبل فيها الداخل من العذاب ما هو أشد منها ويدنوا من الغم والخزي والحزن والكرب بدخول الأبواب فقيل: ادخلوا أبوابها صغاراً لهم وإذلالاً وخزياً، ثم قيل لهم: لا يقتصر بكم على مجرد دخول الأبواب الفظيعة ولكن وراءها الخلود في النار، وأما الجنة فهي دار الكرامة والمنزل الذي أعده الله لأوليائه فبشروا من أول وهلة بالدخول إلى المقاعد والمنازل والخلود فيها، وتأمل قوله سبحانه {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأَبْوَابُ مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ} 1. كيف تجد تحته معنى بديعاً وهو أنهم إذا دخلوا الجنة لم تغلق أبوابها عليهم بل تبقى مفتحة كما هي، وأما النار فإذا دخلها أهلها أغلقت عليهم أبوابها كما قال تعالى {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ} 2 أي مطبقة مغلقة ومنه سمي الباب "وصيداً" وهي {مُؤْصَدَةٌ فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} قد جعلت العمد ممسكة للأبواب من خلفها كالحجر العظيم الذي يجعل خلف الباب. قال مقاتل: "يعني أبوابها عليهم مطبقة فلا يفتح لها باب ولا يخرج منها غم ولا يدخل فيها روح آخر الأبد".   1- سورة ص آية: 50، 51. 2- سورة الهمزة آية: 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 661 وأيضا: فإن في تفتيح الأبواب لهم إشارة إلى تصرفهم وذهابهم وإيابهم وتبوئهم في الجنة حيث شاؤوا ودخول الملائكة عليهم كل وقت بالتحف والألطاف من ربهم ودخول ما يسرهم عليهم كل وقت وأيضا إشارة إلى أنها دار أمن لا يحتاجون فيها إلى غلق الأبواب كما كانوا يحتاجون إلى ذلك في الدنيا" اهـ1. ولقد اقتبست هذا النص بطوله من كلام ابن القيم لما فيه من تجلية وبيان لمعاني الآية المتقدمة ذلك أن هذا التنقيب لإخراج تلك المعاني الدقيقة والأسرار العجيبة في تلك الآية لم أجده بهذه الصورة البديعة عند غير ابن القيم رحمة الله ـ تعالى ـ عليه ثم إني قلت قريباً إن ذكر أبواب الجنة في السورة قد ورد مطلقاً من غير نص على عددها، أو تسميتها، وكذلك غيرها من سور القرآن التي ورد فيها ذكر أبواب الجنة فإنه لم يرد فيها التنصيص على العدد أو التسمية لتلك الأبواب. قال تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ} 2. وقال عز وجل ـ: {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأَبْوَابُ} 3. أما السنة النبوية الشريفة فقد بينت أن عدد أبواب الجنة ثمانية، كما بينت أسماء بعضها، وأن أعلى تلك الأبواب هو باب الجهاد، ولها باب يقال له الريان لا يدخل منه إلا الصائمون، فإذا دخلوا أغلق، فلا يدخل منه أحد غيرهم ولكل نوع من الأعمال الصالحة باب يدخل منه أهله المبرزون فيه وقد يدعى العبد من تلك الأبواب الثمانية جميعها إذا قام بجميع شعب الإيمان، ووفى بجميع شرائع الإسلام، ومن هذا النوع صدِّيق هذه الأمة وأفضل الناس جميعاً بعد النبيّين أبو بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فرضي الله عنه وأرضاه. روى الشيخان بإسنادهما من حديث سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن في الجنة باباً يقال له الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة لا يدخل منه أحد غيرهم يقال:   1- حادي الأرواح ص38 ـ 40. 2- سورة الرعد آية: 23. 3- سورة ص آية: 50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 662 أين الصائمون؟ فيقومون لا يدخل منه أحد غيرهم فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد"1. وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أنفق زوجين في شيء من الأشياء في سبيل الله دعي من أبواب الجنة يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الصيام" فقال أبو بكر: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما على من دعي من تلك الأبواب من ضرورة؟ فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ فقال: "نعم وأرجو أن تكون منهم"2. "لما سمت همة الصديق إلى تكميل مراتب الإيمان، وطمعت نفسه أن يدعى من تلك الأبواب كلها سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم هل يحصل ذلك لأحد من الناس ليسعى في العمل الذي ينال به ذلك فخبّره بحصوله، وبشّره بأنه من أهله، وكأنه قال: هل تكمل لأحد هذه المراتب فيدعى يوم القيامة من أبوابها كلها؟ فلله ما أعلى وأكبر هذه النفس"3. وقال الحافظ ابن حجر: "في الحديث إشعار بقلة من يدعى من تلك الأبواب كلها وفيه إشارة إلى أن المراد ما يتطوع به من الأعمال المذكورة لا واجباتها لكثرة من يجتمع له العمل بالواجبات كلها بخلاف التطوعات فقلّ من يجتمع له العمل بجميع أنواعها، ثم من يجتمع له ذلك إنما يدعى من جميع الأبواب على سبيل التكريم له، وإلا فدخوله إنما يكون من باب واحد ولعله باب العمل الذي يكون أغلب عليه ... والله أعلم" اهـ4. وفي صحيح مسلم من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما منكم من أحد يتوضأ فيبالغ، أو فيسبغ الوضوء، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبد الله ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيّها شاء" 5.   1- صحيح البخاري 1/324، صحيح مسلم 2/808. 2- صحيح البخاري 1/325، صحيح مسلم 2/712. 3- حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح ص: 75 ـ 76. 4- الفتح 7/28 ـ 29. 5- 1/210 . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 663 وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث لقيط بن عامر عندما خرج وافداً إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: "وإن للجنة لثمانية أبواب ما منهما بابان إلا يسير الراكب بينهما سبعين عاماً" 1. وقال عليه الصلاة والسلام: "ما من مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا تلقوه من أبواب الجنة الثمانية من أيّها شاء دخل"2. وهكذا نرى أن السنة المطهرة أوضحت أن أبواب الجنة ثمانية كما عينت بعض أبوابها بأسمائها. وأما سعة أبوابها وهي المسافة التي تكون بين مصراعي الباب فقد وردت بشأنها أحاديث عدة منها: حديث الشفاعة الطويل المتفق على صحته وهو المروي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً بلحم فرفع إليه الذراع، وكانت تعجبه فنهس3 منه نهسة فقال: "أنا سيد الناس يوم القيامة وهل تدرون بم ذاك؟ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد فيسمعهم الداعي وينفذهم البصر .... " إلى أن قال عليه الصلاة والسلام: "فأنطلق فآتي تحت العرش فأقع ساجداً لربي، ثم يفتح الله عليّ ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه لأحد قبلي، ثم يقال: يا محمد. إرفع رأسك سل تعطه، إشفع تشفع فأرفع رأسي فأقول: يا رب. أمتي، أمتي. فيقال: يا محمد. أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب والذي نفس محمد بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة لكما بين مكة وهجر، أو كما بين مكة وبصرى". وفي لفظ آخر "والذي نفس محمد بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة إلى عضادتي الباب4 لكما بين مكة وهجر، أو هجر ومكة. هذا لفظ مسلم، ولفظ البخاري:   1- 4/14. 2- رواه ابن ماجة من حديث عتبة بن عبد السلمي رضي الله عنه. السنن 2/512. 3- النهس: أخذ اللحم بأطراف الأسنان، النهاية 5/136. 4- عضادتا الباب: هما خشبتاه من جانبيه، شرح النووي على مسلم 3/70. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 664 "إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وحمير، أو كما بين مكة وبصرى"1. وروى الإمام أحمد من حديث حكيم بن معاوية عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أنتم توفون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله، وما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين عاماً، وليأتين عليه يوم وإنه لكظيظ" 2. وأما مقدار المسافة التي تكون بين كل بابين: فقد قدرت بمسيرة سبعون عاماً. روى الطبراني3 في معجمه والإمام أحمد في مسنده من حديث لقيط بن عامر رضي الله عنه أنه خرج وافداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قلت يا رسول الله فما الجنة والنار؟ قال: لعمر إلهك أن للنار سبعة أبواب ما منهن بابان إلا يسير الراكب بينهما سبعين عاماً، وأن للجنة ثمانية أبواب ما منهن بابان إلا يسير الراكب بينهما سبعين عاماً ... الحديث4. وهذا الحديث الظاهر منه أن هذه المسافة بين الباب، والباب لأن ما بين مكة وبصرى لا يحتمل التقدير بسبعين عاماً، ولا يمكن حمله على باب معين لقوله "ما منهن بابان" والله أعلم5. وبعد أن ذكرنا أبواب الجنة وما يتعلق بهما من حيث سعتها والمسافة التي تكون بين كل بابين من أبوابها يحسن بنا أن نتبع ذلك بالمفتاح الذي تفتح به تلك الأبواب. فنقول: إن تلك الأبواب لا تفتح إلا لمن يملك مفتاحها ولا بد لهذا المفتاح من أسنان حتى يكون صالحاً للفتح، ومفتاح تلك الأبواب هي كلمة التوحيد، وشهادة   1- صحيح مسلم 1/185 ـ 186، صحيح البخاري 3/150. 2- المسند 5/3، وانظر خطبة عتبة بن غزوان في صحيح مسلم 4/2278 ـ 2279، ومسند أحمد 4/174. 3- هو: سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطير اللخمي الشامي، أبو القاسم من كبار المحدثين أصله من طبرية الشام وإليها نسبته. ولد "بعكا" سنة ستين ومائتين، وتوفي سنة ستين وثلاثمائة هجرية. انظر ترجمته في: "وفيات الأعيان" 1/215، النجوم الزاهرة 4/59، تهذيب دمشق لابن عساكر 6/240. 4- الحديث بطوله في "معجم الطبراني الكبير" 19/211 ـ 214، والمسند 4/14. 5- حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح ص96. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 665 الإخلاص التي هي "لا إله إلا الله". وأما أسنان هذا المفتاح فهي شرائع الإسلام كلها، من الصلاة والزكاة والصيام والحج والعمرة والجهاد وبر الوالدين وأداء الأمانة والإحسان إلى الجار وغير ذلك مما حض عليه دين الإسلام الحنيف والمفتاح لا يكمل إلا بأسنانه أما بدونها فلا فقد ذكر البخاري في صحيحه عن وهب1 بن منبه أنه قيل له: أليس مفتاح الجنة لا إله إلا الله؟ قال: بلى. ولكن ليس مفتاح إلا له أسنان فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح لك"2. وجاء في عمدة القارئ أن أبا نعيم الأصبهاني قال في كتابه "أحوال الموحدين": "إن أسنان هذا المفتاح هي الطاعات الواجبة من القيام بطاعة الله ـ تعالى ـ وتأديتها والمفارقة لمعاصي الله ومجانبتها" اهـ3. وفي الحقيقة أن هذا المثال الذي ضربه وهب بن منبه يجب اعتباره إذ أنه متضمن الإشارة إلى حل الإستشكال في بعض أحاديث الوعد التي علق فيها دخول الجنة على قول "لا إله إلا الله" أو الموت على التوحيد، فالواجب أن لا يفهم من تلك الأحاديث أن مجرد النطق بقول: "لا إله إلا الله" كاف في دخول الجنة والنجاة من النار، بل لا بد من القيام معها بحقوقها التي هي شرائع الإسلام والحرص قولاً وعملاً على تكميل مراتب الإيمان فكلمة لا إله إلا الله، سبب لدخول الجنة والنجاة من النار، ومقتضٍ لذلك، ولكن المقتضي لا يعمل عمله إلا باستجماع شروطه وانتفاء موانعه، فقد يتخلف عنه مقتضاه لفوات شرط من شروطه، أو لوجود مانع. قال الحسن للفرزدق4 وهو يدفن امرأته: ما أعددت لهذا اليوم؟ قال: شهادة أن   1- هو: وهب بن منبه بن كامل اليماني الصنعاني روى عن أبي هريرة وأبي سعيد وابن عباس وابن عمر وغيرهم. قال العجلي: تابعي ثقة وكان على قضاء صنعاء ووثقه أيضاً: أبو زرعة والنسائي وابن حبان كان مولده سنة أربع وثلاثين وتوفي سنة عشر ومائة هجرية. انظر ترجمته في "تهذيب التهذيب" 11/166 ـ 168". 2- 1/215 . 3- عمدة القارئ 8/3. 4- هو: همام بن غالب التميمي الدارمي أبو فارس الشهير بالفرزدق شاعر بليغ من أهل البصرة عظيم الأثر في اللغة من الطبقة الأولى في الإسلاميين كانت وفاته في بادية البصرة سنة عشر ومائة هجرية، وكلمة الحسن له تعريض بما كان الفرزدق يقوله في شعره من هجر القول. انظر ترجمته في: "خزانة الأدب للبغدادي 1/105 ـ 108، وفيات الأعيان 2/196، الأعلام 9/96 ـ 97". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 666 لا إله إلا الله منذ سبعين سنة. قال الحسن: نعم العدة لكن ل"لا إله إلا الله" شروط فإياك وقذف المحصنة، وقيل للحسن: إن ناساً يقولون من قال: "لا إله إلا الله" دخل الجنة؟ فقال: "من قال: لا إله إلا الله، فأدى حقها وفرضها دخل الجنة"1.   1- كلمة الإخلاص وتحقيق معناها لابن رجب ص13 ـ 14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 667 المبحث الثالث: خزنة الجنة قال تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} . والخزنة: جمع خازن مثل حفظة وحافظ وهو المؤتمن على الشيء الذي قد استحفظه1. ففي هذه الآية الكريمة من السورة بين ـ جل وعلا ـ بأن للجنة خزنة، وهم القائمون عليها من الملائكة، وأنهم يقولون لأهل الجنة وهم المتقون إذا انتهوا إليها: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ} . فيبدؤون الكلام معهم بالسلام الذي هو متضمن للسلامة من كل مكروه وشر، وكأنهم يقولون لهم: سلمتم فلا يلحقنكم بعد اليوم ما تكرهون، ثم يقولون لهم: إن دخولكم الجنة كان بطيبكم إذ الجنة حرمها الله على غير الطيبين، فبشروهم بالسلامة، والطيب والدخول والخلود فيها أبداً، وهذه النتيجة النهائية لأهل الإيمان. روى الإمامان البخاري ومسلم في صحيحيهما بإسنادهما من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أنفق زوجين في سبيل الله دعاه خزنة الجنة كل خزنة باب: أي فل2 هلمّ" فقال أبو بكر: يا رسول الله ذلك الذي لا توى عليه3 قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأرجو أن تكون منهم"4.   1- حادي الأرواح ص75. 2- فل: معناه: أي فلان فرخم ونقل إعراب الكلمة على إحدى اللغتين في الترخيم، وقيل: فل: لغة في فلان في غير النداء والترخيم كذا نقله النووي عن القاضي عياض شرح النووي 7/117. 3- لا توى عليه: أي: لا ضياع ولا خسارة وهو من التوى: الهلاك. النهاية 1/201، هدي الساري ص94. 4- البخاري: 2/212، صحيح مسلم 2/712. ومسند أحمد 2/366. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 668 وروى مسلم في صحيحه من حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "آتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول محمد. فيقول: بك أمرت لا أفتح لأحد قبلك"1. قال ابن القيم: "قد سمى الله ـ سبحانه وتعالى ـ كبير هذه الخزنة رضوان وهو اسم مشتق من الرضا" اهـ2.   1- 1/188. 2- حادي الأرواح ص76، وانظر: البداية: 1/53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 669 المبحث الرابع: أرض الجنة لقد بينت السورة أن المتقين هم الذين يرثون أرض الجنة، وأنهم ينزلون منها حيث يشاؤون ويسكنون منها منازل حيث يحبون ويشتهون وأنهم عندما يشاهدون الجنة وما فيها من النعيم يحمدون ربهم ويثنون عليه، وينوهون بصدق وعده لهم. قال تعالى: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لله الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} . فالمراد بالأرض في قوله {وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ} هي: أرض الجنة. قال مجاهد في قوله تعالى: {وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ} قال: أرض الجنة وبهذا قال السدي وابن زيد وقتادة وأبو العالية1 وأبو صالح2. وقال البغوي: {وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ} أي: أرض الجنة وهو قوله ـ عز وجل ـ: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} 3. "وقال ابن قتيبة4: " {وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ} أي: "أرض الجنة"5.   1- أبو العالية: رفيع بن مهران الرياحي البصري عالم بالقرآن توفي سنة إحدى عشرة ومائة هجرية. انظر ترجمته في: "طبقات الحفاظ للسيوطي ص29، تذكرة الحفاظ للذهبي 1/61، تهذيب التهذيب 3/284". 2- جامع البيان 24/37، تفسير القرآن العظيم 6/116. 3- تفسير البغوي على حاشية تفسير الخازن 6/72 والآية رقم 150 من سورة الأنبياء. 4- هو عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري أبو محمد من أئمة الأدب، ومن المصنفين المكثرين. ولد ببغداد وسكن الكوفة، ثم ولي قضاء الدينورة مدة فنسب إليها. ولد سنة ثلاث عشرة ومائتين وتوفي سنة ست وسبعين ومائتين هجرية. انظر ترجمته في: وفيات الأعيان 1/251، الميزان 2/503، الأعلام 4/280. 5- تفسير غريب القرآن ص 384. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 670 وقال القرطبي: {وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ} أي: أرض الجنة1. وبعض أهل العلم يرى أن المراد بالأرض أرض الجنة التي كانت لأهل النار لو دخلوها. وقال ابن جرير {وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ} يقول: "وجعل أرض الجنة التي كانت لأهل النار لو كانوا أطاعوا الله في الدنيا فدخلوها ميراثاً لنا"2. ولعل مستندهم في حمل الآية على هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من أحد إلا له منزلان: منزل في الجنة، ومنزل في النار فإذا مات فدخل النار ورث أهل الجنة منزله، فذلك قوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} 3. قال الحافظ بعد أن ذكر هذا الحديث: "وقال جمهور المفسرين: في قوله تعالى: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لله الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ} الآية. المراد بأرض الجنة التي كانت لأهل النار لو دخلوا الجنة وهو موافق لهذا الحديث"4. أقول: كون الحديث دل على أن لكل أحد منزلاً في الجنة ومنزلاً في النار هذا مما لا نزاع فيه بل يجب على كل امرئ الإيمان بذلك إلا أن حمل الآية عليه غير صواب لأن أهل الجنة يرثون من الجنة منازلهم المعدة لهم بسبب أعمالهم وتقواهم كما قال ـ عز وجل ـ: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُون} 5. وعلى سبيل الفرض أن أهل الجنة يرثون منازل أهل النار وأن قصر الآية على ذلك يوهم أنهم ليس لهم في الجنة إلا ما أورثوا من منازل أهل النار والواقع من خلال النصوص يخالف ذلك. قال تعالى: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيّاً} 6.   1- الجامع لأحكام القرآن 15/287. 2- جامع البيان 24/37. 3- رواه ابن ماجة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه 2/1453. 4- الفتح 11/442. 5- سورة الأعراف آية: 43. 6- سورة مريم آية: 63. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 671 وقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 1. فهذه صفات وشروط الإرث للفردوس الأعلى فمن أحرز هذه الصفات وتمثل بها كان من سكانها بعد رحمة الله تعالى. وقال تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} 2. فهذه الآيات وأشباهها بينت أن سبب إرث أهل الجنة للجنة هو تقواهم لربهم وما قدموا من الأعمال الصالحة في دنياهم ومما ينبغي أن يعلم أن العمل لا يكفي مستقلاً في دخول الجنة بل لابد من رحمة الله ـ تعالى ـ بعد ذلك. روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لن يدخل أحداً منكم عمله الجنة" قالوا: ولا أنت يا رسول الله. قال: "ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه بفضله ورحمته". وفيه أيضاً: من حديث عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سددوا وقاربوا وأبشروا فإنه لن يدخل الجنة أحداً عمله" قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه برحمة، واعلموا إن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قلّ". ومن حديث جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يدخل أحداً منكم عمله الجنة ولا يجيره من النار ولا أنا إلا برحمة من الله" 3. فهذه الأحاديث تدل على أن العمل لا يكفي وحده لدخول الجنة بل الدخول فيها يكون برحمة الله ـ تعالى ـ وفضله مع مراعاة جانب العمل.   1- سورة المؤمنون آية: 1 ـ 10. 2- سورة الزخرف آية: 72. 3- انظر هذه الأحاديث الثلاثة في "صحيح مسلم" 4/2170 ـ 2171. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 672 قال النووي: "وفي ظاهر هذه الأحاديث دلالة لأهل الحق أنه لا يستحق أحد الثواب والجنة بطاعة وأما قوله ـ تعالى ـ {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} 1 {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} 2 ونحوهما من الآيات الدالة على أن الأعمال يدخل بها الجنة فلا يعارض هذه الأحاديث بل معنى الآيات أن دخول الجنة بسبب الأعمال، ثم التوفيق للأعمال والهداية للإخلاص فيها وقبولها برحمة الله ـ تعالى ـ وفضله فيصح أنه لم يدخل بمجرد العمل وهو مراد الأحاديث، ويصح أنه دخل بالأعمال أي: بسببها وهي من الرحمة والله أعلم"3. وقال العلامة ابن القيم رحمه الله ـ تعالى ـ: "الأعمال أسباب لا أعواض وأثمان والذي نفاه النبي صلى الله عليه وسلم في الدخول بالعمل هو نفي استحقاق العوض ببذل عوضه فالمثبت باء السببية والمنفي باء المعاوضة والمقابلة وهذا فصل الخطاب في هذه المسألة" اهـ4. وهكذا جمع أهل العلم بين الآيات القرآنية التي ظاهرها أن الإنسان يدخل الجنة بعمله وبين الأحاديث التي دلت على أن الجنة لا يدخلها أهلها إلا برحمة الله وبمعرفة هذا الجمع بين الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة يتضح الرد على القدرية النفاة الذين يثبتون الأحكام بالعقل، ويوجبون على الله ثواب الأعمال، كما يوجبون أن يفعل الأصلح للعباد، ويمنعون خلاف هذا، وقولهم هذا صادر عن اختراعاتهم الباطلة التي مضمونها نبذ نصوص الشرع وراء ظهورهم وتحكيمهم عقولهم الفاسدة5. كما يتضح من الجمع السابق الرد على القدرية الجبرية الذين يلغون دور العمل في دخول الجنة، وينكرون أن يكون سبباً في النجاة من النار وكلا القولين باطلان بشهادة النقل والعقل والفطرة، وقول كل من الطائفتين مشتمل على خطأ وصواب. فالقدرية النفاة: أصابوا في إثبات السببيّة وحالفهم الخطأ في إثبات المعاوضة.   1- سورة النحل آية: 32. 2- سورة الزخرف آية: 72. 3- شرح النووي على صحيح مسلم 17/160 ـ 161. 4- مفتاح دار السعادة 2/92، وانظر حادي الأرواح ص 61. 5- انظر المغني لعبد الجبار بن أحمد 14/172 وما بعدها، وانظر: شرح النووي على صحيح مسلم 17/160، وانظر مفتاح دار السعادة لابن القيم 2/92. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 673 وأما القدرية الجبرية: فقد أصابوا في نفي المعاوضة ولازمهم الخطأ في نفي السببية والحق في هذه المسألة بين ذلك وهو أن المثبت في الآيات باء السببية والمنفي في الأحاديث باء المعاوضة والمقابلة كما تقدم في كلام ابن القيم رحمه الله ـ تعالى ـ فقد وفق الله أهل السنة لما اختلف فيه من الحق بإذنه حيث جمعوا ما مع الطائفتين من الحق والصواب فكانوا أسعد بالحق منهما وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم1. وبعد هذا الاستطراد اليسير الذي تحتم الإتيان به هنا ليتناسب مع الآيات والأحاديث التي تقدم ذكرها نعود إلى ما نحن بصدد البحث حوله من بيان صفة أرض الجنة التي يرثها عباد الله المتقون فنقول: إنه لا يستطيع أحد أن يصفها لنا كما هي عليه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولنستمع إلى ما جاء عنه في ذلك. روى الشيخان في صحيحيهما من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم ... قال في حديث الإسراء "ثم انطلق بي جبرائيل حتى أتى سدرة المنتهى فغشيها ألوان لا أدري ما هي قال: ثم أدخلت الجنة فإذا فيها جنابذ2 اللؤلؤ وإذا ترابها المسك"3. وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن ابن صياد سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن تربة الجنة؟ فقال: "درمكة بيضاء مسك خالص"4. قال النووي: "قوله في تربة الجنة "هي درمكة بيضاء مسك خالص" قال العلماء: معناه أنها في البياض درمكة وفي الطيب مسك والدرمك هو الدقيق الحواري الخالص البياض" اهـ5. وروى الإمام أحمد وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قلنا يا رسول الله حدثنا عن الجنة ما بناؤها؟ قال: "لبنة ذهب، ولبنة فضة، وملاطها6 المسك   1- مستفاد من كتاب مفتاح دار السعادة 2/92. 2- جنابذ اللؤلؤ: قباب اللؤلؤ شرح النووي 2/222، فتح الباري 1/463 ـ 364. 3- صحيح البخاري 2/232، صحيح مسلم 1/149. 4- 4/2243 . 5- شرح النووي 18/52. 6- الملاط: الطين الذي يجعل بين ساقي البناء يملط به الحائط. أي يخلط" اهـ ... النهاية لابن الأثير 4/357. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 674 الأذفر وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت وترابها الزعفران من يدخلها ينعم ولا يبأس، ويخلد ولا يموت، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه"1. وفي المصنف لابن أبي شيبة2 أن ابن عمر قال: قيل يا رسول الله كيف بناء الجنة؟ قال: "لبنة من فضة ولبنة من ذهب ملاطها مسك وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت وترابها الزعفران" 3. وفي سنن الترمذي من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لناس من اليهود: "ما تربة الجنة؟ " قال: فسكتوا هنيهة ثم قالوا: خبزة يا أبا القاسم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الخبز من الدرمك" 4. والحاصل من الأحاديث المتقدمة في صفة أرض الجنة وتربتها أن بعضها أفاد أن ترابها الزعفران، والبعض الآخر أفاد أن ترابها المسك ولا تعارض بينهما إذ يجوز أن تكون تربتها متضمنة للنوعين، ويجوز أن يكون التراب من زعفران فإذا عجن بالماء صار مسكاً، والطين يسمى تراباً ويدل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "ملاطها المسك" 5 والملاط الطين. "ويحتمل أن يكون زعفراناً باعتبار اللون ومسكاً باعتبار الرائحة وهذا من أحسن شيء يكون البهجة والإشراق لون الزعفران، والرائحة رائحة المسك، وكذلك ورد تشبيهها بالدرمكة، وهي الخبزة الصافية التي يضرب لونها إلى الصفرة مع لينها ونعومتها"6 والله أعلم.   1- المسند 2/305، سنن الترمذي 4/79 ـ 80. 2- هو: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة العبسي مولاهم، الكوفي أبو بكر حافظ للحديث له فيه كتب منها: "المصنف". انظر ترجمته في: "تذكرة الحفاظ" 2/432، تهذيب التهذيب 6/2، تاريخ بغداد 10/66. 3- المصنف 13/95 ـ 96. 4- 5/102 قال في مجمع الزوائد "رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير مجالد ووثقه غير واحد 10/399. 5- تقدم تخريجه قريباً. 6- انظر حادي الأرواح ص 94. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 675 المبحث الخامس: صفات أهل الجنة إن للمتقين الذين يدخلون دار السلام ويتبؤون منها منازل حيث يشاؤون صفات يتميزون بها عن غيرهم، وصفاتهم كثيرة جداً، وقد ذكر في سورة "الزمر" بعضها في عدد من آياتها. قال تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ} . وقال تعالى: {اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ ... } الآية. وقال تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} . وقال تعالى: {وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} . وقال تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} . هذه المجموعة من الآيات من سورة "الزمر" تضمنت صفات عدة للمتقين الذين يساقون إلى الجنة "زمراً" وتلك الصفات هي: 1 ـ أنهم يسمعون كلام الله سماع قبول وإجابة وفهم وإدراك فيعملون بأوامره، ويبتعدون عن نواهيه التي نهى عنها. 2 ـ أنهم عندما يسمعون القرآن يتلى تقشعر جلودهم خوفاً من الله ـ جل وعلا ـ لما يفهمون من الوعيد الذي توعد به الكفار والمشركين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 676 3 ـ أنهم عند سماعهم كلام الله تلين جلودهم وقلوبهم إلى العمل بما في كتاب الله والتصديق به. 4 ـ التصديق لما جاءهم من الحق. قال مجاهد: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} قال: أصحاب القرآن المؤمنون يجيئون يوم القيامة فيقولون: "هذا ما أعطيتمونا فعملنا فيه بما أمرتمونا"1. 5 ـ تقواهم لربهم ـ جل وعلا ـ بامتثال الأوامر واجتناب النواهي وفي مقدمة ذلك إخلاصهم العبادة لله وحده لا شريك له، فلم يشركوا بعبادة ربهم أحداً. 6 ـ الصفة السادسة: أنهم طيبوا أعمالهم في الدنيا فلم يدنسوها بشرك ولا معصية، فطاب مأواهم في الدار الآخرة، وهو أنهم صاروا من سكان الجنة التي عرضها السموات والأرض ونجاهم الله من جهنم، وأمنهم من عذابها. قال ابن كثير: عند قوله تعالى: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ} أي: هذه صفة الأبرار عند سماع كلام الجبار المهيمن العزيز الغفار، لما يفهمون منه من الوعد والوعيد والتخويف والتهديد تقشعر منه جلودهم من الخشية والخوف، ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله لما يرجون ويؤملون من رحمته ولطفه فهم مخالفون لغيرهم من الفجار من وجوه: أحدها: أن سماع هؤلاء هو تلاوة الآيات وسماع أولئك نغمات الأبيات من أصوات القينات. الثاني: أنهم إذا تليت عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكياً بأدب وخشية ورجاء ومحبة وفهم وعلم. كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً} 2 أي: لم يكونوا عند سماعها متشاغلين لاهين عنها بل مصغين إليها فاهمين بصيرين بمعانيها فلهذا إنما يعملون بها ويسجدون عندها عن بصيرة لا عن جهل ومتابعة لغيرهم.   1- تفسير القرآن العظيم 6/93. 2- سورة الفرقان آية: 73. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 677 الثالث: أنهم يلزمون الأدب عند سماعها كما كان الصحابة رضي الله عنهم عند سماعهم كلام الله تعالى من تلاوة رسول الله صلى الله عليه وسلم تقشعر جلودهم ثم تلين مع قلوبهم إلى ذكر الله لم يكونوا يتصارخون ولا يتكلفون ما ليس فيهم بل عندهم من الثبات والسكون والأدب والخشية ما لا يلحقهم أحد في ذلك ولهذا فازوا بالمدح من الرب الأعلى في الدنيا والآخرة. وقال قتادة: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ} قال: "هذا نعت أولياء الله، نعتهم الله ـ عز وجل ـ بأن تقشعر جلودهم وتبكي أعينهم وتطمئن قلوبهم إلى ذكر الله، ولم ينعتهم بذهاب عقولهم والغشيان عليهم إنما هذا في أهل البدع وهذا من الشيطان"1. وقال ابن جرير عند قوله تعالى: {وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} يقول تعالى ذكره: وينجي الله من جهنم وعذابها الذين اتقوه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه في الدنيا {بِمَفَازَتِهِمْ} يعني: بفوزهم. قال السدي: في قوله تعالى: {وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ} قال: بفضائلهم. وقال ابن زيد: {وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ} قال: بأعمالهم. وقوله: {لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} يقول تعالى ذكره: لا يمس المتقين من أذى جهنم شيء وهو السوء الذي أخبر ـ جل ثناؤه ـ أنه لن يمسهم، ولا هم يحزنون: يقول: ولا هم يحزنون على ما فاتهم من آراب الدنيا إذا صاروا إلى كرامة الله ونعم الجنان" اهـ2. قال البغوي: {وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ} قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر {بِمَفَازَاتِهِمْ} بالألف على الجمع أي: بالطرق التي تؤديهم إلى الفوز والنجاة.   1- تفسير القرآن العظيم 6/88 ـ 89. 2- جامع البيان 24/22 ـ 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 678 وقرأ الآخرون: {بِمَفَازَتِهِمْ} على الواحد لأن المفازة بمعنى الفوز أي: "ينجيهم بفوزهم من النار بأعمالهم الحسنة" اهـ1. وجاء في زاد المسير حول قوله ـ تعالى ـ {وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ} فيها للمفسرين ثلاثة أقوال: أحدها: بفضائلهم قاله السدي. والثاني: بأعمالهم قاله ابن السائب. والثالث: بفوزهم من النار. قال المبرد: "المفازة مفعلة من الفوز وإن جمع فحسن كقولك السعادة، والسعادات، والمعنى: ينجيهم الله بفوزهم أي: بنجاتهم من النار وفوزهم بالجنة" اهـ2. وقال ابن كثير: {وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ} أي: بما سبق لهم من السعادة، والفوز عند الله {لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ} أي: يوم القيامة، {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} أي: لا يحزنهم الفزع الأكبر بل هم آمنون من كل فزع مزحزحون عن كل شر نائلون كل خير" اهـ3. وأما قوله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} . فقد قال ابن جرير: حول هذه الآية: "يقول تعالى ذكره: وحشر الذين اتقوا ربهم بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه في الدنيا، وأخلصوا له فيها الألوهة، وأفردوا له العبادة، فلم يشركوا في عبادتهم إياه شيئاً إلى الجنة زمراً يعني: جماعات" اهـ4. وقال العلامة ابن القيم: بعد سياقه لهذه الآية: عقَّب دخولها على الطيب بحرف الفاء الذي يؤذن بأنه سبب للدخول، أي بسبب طيبكم قيل لكم: ادخلوها ـ فإنها دار الطيبين لا يدخلها إلا طيب" اهـ5.   1- معالم التنزيل على حاشية تفسير الخازن 6/69. 2- 7/194 . 3- تفسير القرآن العظيم 6/105. 4- جامع البيان عن تأويل آي القرآن 24/34. 5- الوابل الصيب ص18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 679 وقال ابن كثير: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً} "وهذا إخبار عن حال السعداء المؤمنين حين يساقون على النجائب وفداً إلى الجنة. زمراً أي: جماعة بعد جماعة. المقربون، ثم الأبرار، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم كل طائفة مع من يناسبهم: الأنبياء مع الأنبياء، والصديقون مع أشكالهم، والشهداء مع أضرابهم، والعلماء مع أقرانهم، وكل صنف مع صنف كل زمرة يناسب بعضها بعضاً {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا} أي: وصلوا إلى أبوب الجنة بعد مجاوزة الصراط حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار فاقتص لهم مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة"1. ثم إن المراد بسوق المتقين في قوله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً} سوق مصحوب بالتكريم والتشريف والإعزاز مشيعين بما يشرح الصدور ويسر النفوس كتشييع المحبوب إلى أمر محبوب2، وهو سوق يغاير سوق الإهانة والذل الذي تقدم ذكره في حق الكافرين، وصفات المتقين الطيبة في القرآن كثيرة، وخصالهم الحميدة وفيرة. قال تعالى: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ. وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ. أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 3. وقال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ. أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} 4. ففي هذه الآيات "أخبر تعالى أنه أعد الجنة للمتقين دون غيرهم، ثم ذكر أوصاف المتقين فذكر بذلهم للإحسان في حالة العسر واليسر، والشدة والرخاء، فإن من الناس من   1- تفسير القرآن العظيم 6/113. 2- انظر فتح الباري 11/381. 3- سورة البقرة آية: 1 ـ 4. 4- سورة آل عمران آية: 133 ـ 136. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 680 يبذل في حال اليسر والرخاء، ولا يبذل في حال العسر والشدة، ثم ذكر كف أذاهم عن الناس بحبس الغيظ بالكظم، وحبس الانتقام بالعفو، ثم ذكر حالهم بينهم وبين ربهم في ذنوبهم، وأنها إذا صدرت منها قابلوها بذكر الله والتوبة والإستغفار، وترك الإصرار فهذا حالهم مع الله، وذاك حالهم مع خلقه" 1. فينبغي للمسلم أن يتدبر كتاب الله، وأن يتميز عن غيره من أهل المعاصي بصفات المتقين الذين يحبون لقاء الله ويطلبون الفوز برضاه. أما صفاتهم في السنة فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم عنها الشيء الكثير. فقد روى مسلم في صحيحه من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما كان يوم خيبر أقبل نفر من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: فلان شهيد، فلان شهيد حتى مرّوا على رجل فقالوا: فلان شهيد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلا إني رأيته في النار في بردة2 غلّها3 أو عباءة" ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا ابن الخطاب. إذهب فناد في الناس إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون". قال: فخرجت فناديت ألا إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون"4. فبين عليه الصلاة والسلام أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الإيمان الذين قاموا بشرائع الإسلام كلها، وأنه لا حظ فيها لغيرهم. وروى أيضاً بإسناده في حديث طويل من حديث عياض بن حمار المجاشعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ": .... وأهل الجنة ثلاثة ذو سلطان مقسط متصدق موفق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم عفيف ذو عيال ... " الحديث5. قال القرطبي مبيناً معنى هذا الحديث: "فصل" قوله ذو سلطان مقسط وما بعده مرفوع على أنها صفات "لذو" وهي بمعنى صاحب، والمقسط العادل، والمتصدق   1- حادي الأرواح ص82. 2- البردة: الشملة المخططة، وقيل: كساء أسود مربّع فيه صفر تلبسه الأعراب، النهاية 1/116. 3- غلّها: أي سرقها خفية: الإغلال: الخيانة أو السرقة الخفية، النهاية 3/380. 4- 1/107 ـ 108. 5- 4/2198 . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 681 المعطي الصدقات والموفق: المسدد لفعل الخيرات، ورقيق القلب: ليّنه عند التذكر والموعظة ويصلح أن يكون بمعنى الشفيق"اهـ1. وفي صحيح مسلم أيضاً: من حديث حارثة بن وهب الخزاعي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره" 2. "وقوله: "ضعيف متضعف" يعني: ضعيف في أمور الدنيا قوي في أمر دينه كما قال عليه الصلاة والسلام: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير" 3 ... فإن كان ضعيفاً في أمور دينه لا يعنى بها فمذموم، وذلك من صفات أهل النار كما قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ "وأهل النار خمسة الضعيف الذي لا زبر له"4 أي لا عقل ومن لا عقل له ينفك به عن المفاسد، ولا ينزجر عنها فحسبك به ضعفاً وخسارة في الدين.5 وروى الشيخان في صحيحيهما من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: مرَّ بجنازة فأثني عليها خيراً فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "وجبت وجبت وجبت" ومرَّ بجنازة فأثني عليها شراً فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "وجبت وجبت وجبت" قال عمر: فدى لك أبي وأمي. مرّ بجنازة فأثني عليها خيراً فقلت: "وجبت وجبت وجبت"، ومرّ بجنازة فأثني عليها شراً فقالت: "وجبت وجبت وجبت" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أثنيتم عليه خيراً وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شراً وجبت له النار أنتم شهداء الله في الأرض. أنتم شهداء الله في الأرض. أنتم شهداء الله في الأرض" 6. وقال عليه الصلاة والسلام: "يوشك أن تعرفوا أهل الجنة من أهل النار" قالوا: بم   1- التذكرة ص362 ـ 363. 2- 4/2190 . 3- رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه 4/2052. 4- رواه مسلم من حديث عياض بن حماد المجاشعي 4/2198. 5- التذكرة ص 363. 6- صحيح البخاري 2/237، صحيح مسلم 2/655، واللفظ له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 682 ذاك يا رسول الله؟ قال: "بالثناء الحسن والثناء السيئ أنتم شهداء الله بعضكم على بعض" 1. وبالجملة فأهل الجنة أربعة أصناف تضمنهم قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} 2 جعلنا الله منهم بفضله ومنه وكرمه إنه أرحم الراحمين3.   1- رواه ابن ماجة في سننه 2/1411، وأحمد في مسنده 3/416، من حديث أبي زهير الثقفي. 2- سورة النساء آية: 69. 3- للزيادة في معرفة صفات أهل الجنة يراجع "مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية فإنه أوجز الكثير منها 10/422 ـ 423". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 683 المبحث السادس: غرف الجنة، وقصورها وأنهارها قال تعالى: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعَادَ} . هذه الآية الكريمة من السورة بين الله ـ تعالى ـ فيها ما أعده للمتقين من عوالي الغرف في الجنة. والمتقون الذين ينالون هذه الغرف هم الذين اتقوا سخط الله وعقابه بترك الشرك والمعاصي، وإخلاص العبادة لله باتباع ما أمر به واجتناب ما نهى عنه. فهؤلاء لهم محالّ إقامة رفيعة، مستعلية بعضها فوق بعض درجات ثابتة ثبات البناء المستقر، والأنهار تجري من تحت تلك الغرف والقصور العالية، وأنهار الجنة ليس بينها وبين أنهار الدنيا تشابه إلا في الإسم فقط، وجريان الأنهار من تحت تلك الغرف والقصور مما يزيدها بهجة وجمالاً، وهي حاصلة، ومتحققة لعباد الله المؤمنين لأن الله وعدهم بتلك الغرف المتعالية التي تجري من تحتها الأنهار وعداً صادقاً لا يتخلف لأنه من الله الذي لا يخلف وعده. قال ابن جرير: وقوله {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ} يقول تعالى ذكره: لكن الذين اتقوا ربهم بأداء فرائضه، واجتناب محارمه، لهم في الجنة غرف من فوقها غرف مبنية علالي بعضها فوق بعض {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} . يقوله تعالى ذكره: تجري من تحت أشجار جناتها الأنهار وقوله: {وَعْدَ اللهِ} يقوله جل ثناؤه: وعدنا هذه الغرف التي من فوقها غرف مبنية في الجنة هؤلاء المتقين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 684 {لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعَادَ} يقول جل ثناؤه: والله لا يخلفهم وعده ولكنه يوفي وعده اهـ1. وقال البغوي: " {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ} أي: منازل في الجنة رفيعة وفوقها منازل أرفع منها {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعَادَ} أي: وعدهم الله تلك الغرف والمنازل وعداً لا يخلفه" اهـ2. وقال العلامة ابن القيم: قال الله تعالى: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ} . فأخبر أنها غرف فوق غرف، وأنها مبنية بناءاً حقيقة لئلا تتوهم النفوس أن ذلك تمثيل، وأنه ليس هناك بناء بل تتصور النفوس غرفاً مبنية كالعلالي بعضها فوق بعض حتى أنها ينظر إليها عياناً، ومبنية صفة للغرف الأولى والثانية أي: "لهم منازل مرتفعة، وفوقها منازل أرفع منها" اهـ3. وقال العلامة ابن كثير: "أخبر ـ عز وجل ـ عن عباده السعداء أن لهم غرفاً في الجنة وهي القصور أي: الشاهقة {مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ} طباق فوق طباق مبنيات محكمات مزخرفات عاليات" اهـ4. وقد بين الله ـ تعالى ـ في كتابة وصف غرف الجنة في مواضع كثيرة. قال تعالى بعد أن بين الكثير من صفات عباد الرحمن منوهاً بجزائهم الذين ينتظرهم: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً} 5. قال ابن القيم: "والغرفة جنس كالجنة، وتأمل كيف جعل جزاءهم على هذه الأقوال المتضمنة   1- جامع البيان 23/208. 2- "معالم التنزيل" على حاشية تفسير الخازن 6/60. 3- حادي الأرواح ص 96. 4- تفسير ابن كثير 6/85. 5- سورة الفرقان آية: 75. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 685 للخضوع والذل والإستكانة لله الغرفة، والتحيّة والسلام في مقابلة صبرهم على سوء خطاب الجاهلين لهم فبدلوا بذلك سلام الله وملائكته عليهم" اهـ1. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} 2. وقال تعالى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} 3. فهاتان الآيتان بين الله ـ تعالى ـ فيهما أن غرف الجنات لا تنال إلا بالإيمان والعمل الصالح وذلك هو الذي يقرب العبد إلى الله زلفى. أما كثرة الأموال والأولاد عند الإنسان فإنها لا تدل على أن الله يحب صاحبها، لا. ليس الأمر كذلك، وليست بمقياس عند الله ـ تعالى ـ وإنما المقياس الحقيقي هو الإيمان والعمل الصالح فمن حقق الإيمان وعمل صالحاً يكون من الذين تضاعف حسناتهم ومن الذين هم في منازل الجنة العالية آمنون من كل بأس وخوف وأذى، ومن كل شيء يحذر منه. هذه أوصاف غرف الجنة في القرآن الكريم. أما ما جاء في شأن وصفها في السنة النبوية فقد وردت أحاديث توضح صفة هذه الغرف وعلوها. فقد روى الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أهل الجنة ليتراؤون أهل الغرف من فوقهم، كما تتراءون الكوكب الدرّي4 الغابر من الأفق من المشرق، أو المغرب لتفاضل ما بينهم" قالوا: يا رسول الله   1- حادي الأرواح ص 96، وقد فسرت "الغرفة" بالجنة. انظر: المصنف لابن أبي شيبة 13/126. 2- سورة العنكبوت آية: 58. 3- سورة سبأ آية: 37. 4- قيل سمي درياً لبياضه، وقيل لإضاءته، وقيل لشبهه بالدر في كونه أرفع من باقي النجوم كالدر أرفع الجواهر، شرح النووي على مسلم 17/168. أما الغابر: فهو الذاهب الماشي الذي تدلى للغروب، وبعد عن العيون شرح النووي 17/ 169. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 686 تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم قال: "بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين"1. قال أبو عبد الله القرطبي: "وقوله والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين" ولم يذكر عملاً ولا شيئاً سوى الإيمان والتصديق للمرسلين ذلك ليعلم أنه عنى الإيمان البالغ وتصديق المرسلين من غير سؤال آية ولا تلجلج، وإلا فكيف تنال الغرفات بالإيمان والتصديق الذي للعامة، ولو كان كذلك كان جميع الموحدين في أعالي الغرفات، وأرفع الدرجات وهذا محال، وقد قال الله تعالى: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} 2. والصبر بذل النفس والثبات له وقوفاً بين يديه بالقلوب عبودية وهذه صفة المقربين. وقال في آية أخرى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} 3. فذكر شأن الغرفة وأنها لا تنال بالأموال والأولاد وإنما تنال بالإيمان والعمل الصالح، ثم بين لهم جزاء الضعف وأن محلهم الغرفات، يعلمك أن هذا إيمان طمأنينة وتعلق قلب به مطمئناً به في كل ما نابه وبجميع أموره وأحكامه، فإذا عمل عملاً صالحاً فلا يخلطه بضده وهو الفاسد، فلا يكون العمل الصالح الذي لا يشوبه فساد إلا مع إيمان بالغ مطمئن صاحبه بمن آمن وبجميع أموره وأحكامه، والمخلط ليس إيمانه وعمله هكذا، فلهذا كانت منزلته دون غيره" اهـ4. وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أهل الجنة يتراؤون الغرفة في الجنة كما تراؤون الكوكب في السماء" 5. وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أهل الجنة يتراؤون في الجنة كما تراؤون الكوكب الدريّ الغارب في الأفق   1- صحيح البخاري 2/218، صحيح مسلم 4/2177. 2- سورة الفرقان آية: 75. 3- سورة سبأ آية: 37. 4- التذكرة للقرطبي ص: 461 ـ 462. 5- صحيح مسلم 4/2177، المسند 5/340. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 687 والطالع في تفاضل الدرجات قالوا: يا رسول الله أولئك النبيون؟ قال: "بلى، والذي نفسي بيده وأقوام آمنوا بالله وصدقوا المرسلين" 1. وروى أيضاً بإسناده إلى أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن المتحابين لترى غرفهم في الجنة كالكوكب الطالع الشرقي أو الغربي فيقال من هؤلاء؟ فيقال هؤلاء المتحابون في الله ـ عز وجل ـ" 2. وروى الإمام أحمد وابن أبي شيبة بإسنادهما إلى علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن في الجنة لغرفاً يرى ظهورها من بطونها، وبطونهما من ظهورها" قال: فقام أعرابي فقال: هي لمن يا رسول الله؟ فقال: "هي لمن طيّب الكلام، وأطعم الطعام، وأفشى السلام وصلى بالليل والناس نيام" 3. فهذا الحديث بين فيه النبي صلى الله عليه وسلم صفة غرف الجنة كما بين فيه بعض صفات سكان أهل تلك الغرف، وهو أنهم طيبوا الكلام، ويطعمون الطعام، ويفشون السلام، ويقومون في ليلهم يصلون لله ـ تعالى ـ والناس نيام. وما تقدم من اختلاف غرف الجنة في العلو والصفة إنما هو بحسب اختلاف أصحابها في الأعمال وتفاوتهم فيها، وكما تقدم في الأحاديث من أن بعض غرف الجنة أعلى من بعض وأرفع. وأما عن قصور الجنة فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في وصفها أحاديث كثيرة. فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله ـ تعالى ـ عنه قال: بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: "بينا أنا نائم رأيتني في الجنة فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر فقلت لمن هذا القصر؟ فقالوا لعمر بن الخطاب فذكرت غيرته فوليت مدبراً" فبكى عمر وقال: أعليك أغار يا رسول الله؟ 4. وروى الترمذي بإسناده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "دخلت   1- 2/339 قال ابن كثير: قال الضياء: "وهذا على شرط البخاري". النهاية 2/2350. 2- المسند 3/87. 3- المسند 1/156، والمصنف لابن أبي شيبة 31/101، ورواه الترمذي في سننه 4/80. 4- صحيح البخاري 2/216، صحيح مسلم 4/1863. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 688 الجنة فإذا أنا بقصر من ذهب فقلت لمن هذا القصر؟ قالوا: لشاب من قريش فظننت أني أنا هو فقلت ومن هو؟ قالوا: عمر بن الخطاب" قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح1. وروى الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله. خديجة قد أتتك معها إناء فيه إدام، أو طعام، أو شراب فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ـ عز وجل ـ ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب2. قال العلامة ابن القيم: "والقصب ههنا قصب اللؤلؤ المجوف"3. وقال الحافظ: "قوله من قصب" ... قال ابن التين: "المراد به لؤلؤة مجوفة واسعة كالقصر المنيف" ... إلى أن قال: وعند الطبراني في "الأوسط" من حديث فاطمة قالت: قلت يا رسول الله أين أمي خديجة؟ قال "في بيت من قصب" قلت: أمن هذا القصب؟ قال: "لا. من القصب المنظوم بالدر واللؤلؤ والياقوت"4. أما صفة بناء قصور الجنة: فقد جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قلنا: يا رسول الله حدثنا عن الجنة ما بناؤها؟ قال: لبنة ذهب، ولبنة فضة وملاطها المسك الأذفر وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران، من يدخلها ينعم ولا يبأس ويخلد ولا يموت لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه"5. وروى ابن أبي شيبة بإسناده إلى ابن عمر قال: قيل يا رسول الله كيف بناء الجنة؟ قال: "لبنة من فضة، ولبنة من ذهب ملاطها مسك وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت وترابها الزعفران"6.   1- سنن الترمذي 5/282. 2- صحيح البخاري 2/315 ـ 316، صحيح مسلم 4/1887. 3- حادي الأرواح ص 97. 4- فتح الباري 6/138. 5- رواه أحمد والترمذي المسند 2/305، سنن الترمذي 4/79 ـ 80، ثم قال: هذا حديث ليس إسناده بذلك القوي، وليس هو عندي بمتصل وقد روي هذا الحديث بإسناد آخر عن أبي هريرة. 6- المصنف 13/95 ـ 96. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 689 هذا وصف قصور الجنة وبناؤها التي ينبغي المسابقة المسارعة إلى الأعمال التي تكون سبباً في الحصول على ذلك بعد رحمة الله ـ تعالى ـ قال ابن كثير بعد أن ذكر كثيراً من الأحاديث الواردة في وصف قصور الجنة وغرفها. "وقد ورد في بعض الأحاديث أن القصر يكون من لؤلؤة واحدة أبوابه ومصارعه، وسقفه، وفي حديث آخر أن بعض سقوف الجنة نور يتلألأ كالبرق اللامع لولا أن الله يثبت أبصارهم لأوشك أن يخطفها" اهـ1. وأما أنهار الجنة فقد جاء وصفها في السورة بأنها تجري من تحت غرف الجنة وقصورها كما هو ظاهر الآية التي صدرنا بها هذا المبحث وهي قوله تعالى: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} فهذه الآية من السورة وصفت أنهار الجنة بأنها تجري من تحت تلك الغرف التي بعضها فوق بعض درجات. قال ابن كثير: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} أي: تسلك الأنهار بين خلال ذلك كما شاؤوا وأين أرادوا2. ولقد تكرر ذكر أنهار الجنة في القرآن الكريم في مواضع كثيرة وكلها مقترنة بحرف "من" ما عدا موضعاً واحداً من كتاب الله فإنه جاء بدون حرف "من" وهو قوله تعالى: {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ} 3. قال مسروق رحمه الله تعالى: "أنهار الجنة في غير أخدود"4. وقال ابن جرير الطبري: عند قوله تعالى: {وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ} 5 "يعني: مصبوب سائل في غير أخدود كما حدثنا ابن حميد قال حدثنا مهران عن سفيان {وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ} قال يجري في غير أخدود" اهـ6.   1- النهاية 2/240. 2- تفسير القرآن العظيم 6/86. 3- سورة التوبة آية: 100. 4- المصنف لابن أبي شيبة 13/97. 5- سورة الواقعة آية: 31. 6- جامع البيان 27/184. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 690 وقال العلامة ابن القيم؛ بعد أن ذكر آيات من القرآن الكريم التي تصف أنهار الجنة بأنها جارية: "وهذا يدل على أمور": أحدها: وجود الأنهار فيها حقيقية. الثاني: أنهار جارية لا واقفة. الثالث: أنها تحت غرفهم وقصورهم وبساتينهم كما هو المعهود في أنهار الدنيا، وقد ظن بعض المفسرين أن معنى ذلك جريانها بأمرهم وتصريفهم لها كيف شاؤوا، وكأن الذي حملهم على ذلك أنه لما سمعوا أن أنهارها تجري في غير أخدود فهي جارية على وجه الأرض حملوا قوله {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} على أنها تجري بأمرهم إذ لا يكون فوق المكان تحته وهؤلاء أوتوا من ضعف الفهم، فإن أنهار الجنة وإن جرت في غير أخدود فهي تحت القصور والمنازل والغرف وتحت الأشجار وهو ـ سبحانه ـ لم يقل من تحت أرضها. وقد أخبر ـ سبحانه ـ عن جريان الأنهار تحت الناس في الدنيا فقال: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَاراً وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ} 1. فهذا على ما هو المعهود والمتعارف وكذلك ما حكاه من قول فرعون {وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِيْ} 2. وقال تعالى مبيناً أنواع أنهار الجنة: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً} 3. قال ابن جرير: موضحاً معنى الآية "يقول تعالى ذكره: صفة الجنة التي وعدها المتقون وهم الذين اتقوا في الدنيا عقابه بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ   1- سورة الأنعام آية: 6. 2- حادي الأرواح ص121 والآية رقم 51 من سورة الزخرف. 3- سورة محمد آية 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 691 مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} يقول تعالى ذكره: في هذه الجنة التي ذكرها: أنهار من ماء غير متغير الريح، يقال منه "قد أسن ماء هذه البئر إذا تغيرت ريح مائها فأنتنت ... ". قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في قوله {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} يقول: غير متغير. وقال قتادة: في قوله: {أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} من ماء غير منتن ... وقوله {وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} . يقول تعالى ذكره: وفيها أنهار من لبن لم يتغير طعمه لأنه لم يحلب من حيوان فيتغير طعمه بالخروج من الضرع ولكنه خلقه الله ابتداء في الأنهار فهو بهيئته لم يتغير عما خلقه عليه ... وقوله {وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً} يقول: وفيها أنهار من عسل قد صفي من القذى وما يكون في عسل أهل الدنيا قبل التصفية، وإنما أعلم ـ تعالى ـ ذكره عباده بوصفه ذلك العسل بأنه مصفى أنه خلق في الأنهار ابتداء سائلاً جارياً سيل الماء واللبن المخلوقين فيها فهو من أجل ذلك مصفى، قد صفاه الله من الأقذاء التي تكون في عسل أهل الدنيا الذي لا يصفو من الأقذاء إلا بعد التصفية لأنه كان في شمع فصفي منه" اهـ1. قال العلامة ابن القيم: بعد أن ذكر الآية السابقة: "فذكر ـ سبحانه ـ هذه الأجناس الأربعة، ونفى عن كل واحد منها الآفة التي تعرض له في الدنيا فآفة الماء أن يأسن ويأجن من طول مكثه، وآفة اللبن أن يتغير طعمه إلى الحموضة، وأن يصير قارصاً، وآفة الخمر كراهة مذاقها المنافي للذة شربها، وآفة العسل عدم تصفيتة وهذا من آيات ـ الرب تعالى ـ أن تجري أنهار من أجناس لم تجر العادة في الدنيا بإجرائها ويجريها في غير أخدود وينفي عنها الآفات التي تمنع كمال اللذة بها كما ينفي عن خمر الجنة جميع آفات خمر الدنيا من الصداع والغول واللغو والإنزاف وعدم اللذة فهذه خمس آفات من آفات خمر الدنيا فتغتال العقل ويكثر اللغو على شربها بل لا يطيب لشرابها ذلك إلا باللغو وتنزف في نفسها، وتنزف المال وتصدع الرأس وهي كريهة المذاق وهي رجس من عمل الشيطان توقع العداوة والبغضاء بين الناس وتصد عن ذكر الله، وعن الصلاة وتدعو إلى الزنا، وربما دعت إلى الوقوع على البنت والأخت وذوات المحارم، وتذهب الغيرة، وتورث الخزي والندامة، والفضيحة، وتلحق شاربها بأنقص نوع الإنسان، وهم المجانين، وتسلبة أحسن الأسماء   1- جامع البيان 26/49 ـ 50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 692 والسمات وتكسوه أقبح الأسماء والصفات، وتسهل قتل النفس، وإفشاء السر الذي في إفشائه مضرته، أو هلاكه ومؤاخاة الشياطين في تبذير المال الذي جعله الله قياماً له ولم يلزمه مؤنته، وتهتك الأستار، وتظهر الأسرار، وتدل على العورات، وتهون ارتكاب القبائح والمآثم وتخرج من القلب تعظيم المحارم، ومدمنها كعابد وثن، وكم أهاجت من حرب وأفقرت من غنى، وأذلت من عزيز، ووضعت من شريف وسلبت من نعمة وجلبت من نقمة، وفسخت مودة، ونسجت عداوة، وكم فرقت بين رجل وزوجته، فذهبت بقلبه وراحت بلبه، وكم أورثت من حسرة، وأجرت من عبرة وكم أغلقت في وجه شاربها باباً من الخير، وفتحت له باباً من الشر، وكم أوقعت في بلية وعجلت من منية، وكم أورثت من خزية وجرت على شاربها من محنة وجرت عليه من سفلة فهي جماع الإثم ومفتاح الشر وسلابة النعم وجالبة النقم، ولو لم يكن من رذائلها إلا أنها لا تجتمع هي وخمر الجنة في جوف عبد كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة" 1 لكفى وآفة الخمر أضعاف أضعاف ما ذكرنا وكلها منتفية عن خمر الجنة، فإن قيل فقد وصف ـ سبحانه ـ الأنهار بأنها جارية ومعلوم أن الماء الجاري لا يأسن فما فائدة قوله {غَيْرِ آسِنٍ} 2. قيل الماء الجاري وإن كان لا يأسن فإنه إذا أخذ منه شيء وطال مكثه أسن، وماء الجنة لا يعرض له ذلك ولو طال مكثه ما طال، وتأمل اجتماع هذه الأنهار الأربعة التي هي أفضل أشربة الناس فهذا لشربهم، وطهورهم، وهذا لقوتهم وغذائهم، وهذا للذتهم وسرورهم، وهذا لشفائهم ومنفعتهم والله أعلم"اهـ3. وما تقدم من الآيات كلها تصف أنهار الجنة وهي تجري من تحت غرفها وقصورها وبساتينها وجريان الأنهار من تحت تلك الغرف والقصور والبساتين مما يزيدها بهجة وجمالاً وكل ذلك حاصل ومتحقق لعباد الله المتقين لأن ـ الباري سبحانه ـ وعدهم بذلك ووعده ـ سبحانه ـ حق لا يخلف.   1- رواه ابن ماجة من حديث ابن عمر رضي الله عنهما 2/1119، رواه أبو داود 2/293، ورواه النسائي في سننه 8/318، ورواه أحمد في المسند 2/22، كلهم من حديث ابن عمر. 2- سورة محمد آية: 15. 3- حادي الأرواح ص122 ـ 123. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 693 ولنستمع بعد وصف القرآن لأنهار الجنة، إلى بعض ما جاء في وصفها في السنة المطهرة: روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من آمن بالله وبرسوله وأقام الصلاة وصام رمضان كان حقاً على الله أن يدخله الجنة جاهد في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها" فقالوا: يا رسول الله أفلا نبشر الناس؟ قال: "إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة أراه فوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة" 1. فلقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الخبر أنهار الجنة بأنها تتفجر من أعلى درجة الجنة، ثم تنحدر نازلة إلى أقصى درجة فيها فيا له من منظر رائع، ويا له من تكريم لمن نزل تلك الدرجات العلى. وروي أيضاً من حديث أنس رضي الله عنه قال: لما عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء قال: "أتيت على نهر حافتاه قباب اللؤلؤ مجوفاً فقلت ما هذا يا جبريل؟ قال هذا الكوثر" 2. وفي لفظ آخر: "فإذا هو في السماء الدنيا بنهرين يطردان فقال: ما هذان النهران يا جبريل؟ قال: هذا النيل والفرات عنصرهما، ثم مضى به في السماء، فإذا بنهر آخر عليه قصر من لؤلؤ وزبرجد فضرب يده فإذا هو مسك أذفر قال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي خبأ لك ربّك" 3. ومن حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الكوثر نهر في الجنة حافتاه من ذهب ومجراه على الدر والياقوت تربته أطيب من المسك وماؤه أحلى من العسل وأبيض من الثلج" 4.   1- صحيح البخاري 2/136. 2- المصدر السابق 3/221. 3- صحيح البخاري مع الفتح 13/478. 4- رواه الترمذي في سننه وقال: هذا حديث حسن صحيح 5/119 ـ 120. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 694 فالكوثر هو أحد أنهار الجنة المشهورة، وهو أعظمها وأحلاها، وأحسنها وهو كرامة وهداية من الله ـ عز وجل ـ أكرم به نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم خصوصية له من بين سائر الأنبياء، وهو دليل على علوه قدره صلى الله عليه وسلم، وارتفاع منزلته عند الله ـ تعالى ـ وليس في وسعنا أن نصف هذه المنزلة غير أنه يكفينا أن نقول: إنه خير البشر وأفضلهم على الإطلاق كيف وقد قال عليه الصلاة والسلام: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة". وظاهر الأحاديث التي تقدم ذكرها في بيان صفة الكوثر تدل دلالة واضحة على أن الكوثر غير الحوض المورود الذي يكون في عرصات القيامة وقبل الصراط. ذلك هو وصف أنهار الجنة، كما هو واضح من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية المتقدمة.   1- رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه 4/1782. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 695 المبحث السابع: أبدية الجنة ودوام نعيمها لقد دلت السورة على أبدية الجنة وخلود أهلها فيها ودوام نعيمها في قوله ـ تعالى ـ: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} . فقوله ـ تعالى ـ في هذه الآية {فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} فيه دلالة واضحة على أن أهل الجنة خالدون فيها بلا انقطاع. قال ابن كثير: {فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} أي: ماكثين فيها أبداً لا يبغون عنها حولاً. اهـ1. وقد أكد ـ تعالى ـ خلود أهل الجنة وأبديتها ودوام نعيمها في مواضع أخرى كثيرة في القرآن الكريم. قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً} 2. قال ابن كثير بعد هذه الآية: "هذا إخبار عن مآل السعداء في جنات عدن التي تجري فيها الأنهار في جميع فجاجها، ومحالها وأرجائها حيث شاؤوا، وأين أرادوا وهم خالدون فيها أبداً لا يحولون ولا يزولون ولا يبغون عنها حولاً" اهـ3.   1- تفسير القرآن العظيم 6/116. 2- سورة النساء آية: 57. 3- تفسير القرآن العظيم 2/319. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 696 وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً} 1. أخبر ـ تعالى ـ في هاتين الآيتين بأنه أعد لعباده السعداء وهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات الفردوس نزلاً ـ "والنزل: هو ما يهيأ من الإكرام للضيف أو القادم ومعنى قوله ـ تعالى ـ: {خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً} أي: خالدين في جنات الفردوس لا يبتغون عنها حولاً أي: تحولاً إلى منزل آخر، لأنها لا يوجد منزل أحسن منها يرغب في التحول إليه عنها بل هم خالدون فيها دائماً من غير تحول ولا انتقال"2. قال ابن كثير: "وفي قوله: {لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً} تنبيه على رغبتهم فيها وحبهم لها، مع أنه قد يتوهم فيمن هو مقيم في المكان دائماً أنه قد يسأمه، أو يمله، فأخبر أنهم مع هذا الدوام والخلود السرمدي لا يختارون عن مقامهم ذلك متحولاً ولا انتقالاً ولا ظعناً ولا رحلة ولا بدلاً"اهـ3. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَعْدَ اللهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً} 4. هذه الآية بين الله فيها أن الذين صدقوا الله ورسوله وأقروا له بالوحدانية ولرسوله صلى الله عليه وسلم بالنبوة، وأدوا مع ذلك فرائض الله التي فرضها عليهم، فإن جزاءهم أن يدخلهم يوم القيامة إذا صاروا إلى الله جنات يعني: بساتين تجري من تحتها الأنهار {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} أي: باقين في هذه الجنات التي هذا وصفها أبداً دائماً"5. وقال تعالى: {هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} 6.   1- سورة الكهف آية: 108. 2- أضواء البيان 4/197. 3- تفسير القرآن العظيم 4/431. 4- سورة النساء آية: 122. 5- جامع البيان 5/287. 6- سورة المائدة آية: 119. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 697 وقال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} 1. بشّر الله ـ تعالى ـ "عباده المؤمنين الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيله برحمة منه لهم، وأنه قد رحمهم من أن يعذبهم، وبرضوان منه لهم، بأنه قد رضي عنهم بطاعتهم إياه، وأدائهم ما كلفهم، وجنات يعني: بساتين لهم فيها نعيم مقيم لا يزول ولا يبيد، ثابت دائم أبداً لهم لا نهاية لذلك ولا حد"2. وقال تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} 3. بين الله ـ تعالى ـ في هاتين الآيتين أنه يُخرج ما في صدور المتقين من عداوة وبغضاء وحقد من بعضهم لبعض، ويجعلهم إخواناً على سرر متقابلين، وأنه لا يمسهم في الجنة تعب، ولا يخرجون من الجنة ونعيمها وما أعطاهم الله فيها من النعيم بل ذلك دائم أبداً. وقال تعالى: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ وَظِلٍّ مَمْدُودٍ وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} 4. هذه الآيات نوه الله ـ تعالى ـ فيها بأصحاب اليمين، وأن شأنهم عظيم وحالهم جسيم، كما نوّه بما يؤولون إليه من النعيم من فواكه لذيذة، وظل ظليل، وكثير من العيون والأنهار السارحة والمياه المتدفقة، ثم بين ـ تعالى ـ أن فاكهة الآخرة ليست كفاكهة الدنيا تنقطع في وقت من الأوقات وتكون ممتنعة متعسرة على مبتغيها بل هي على الدوام موجودة وجناها قريب يتناوله العبد على أي حال كان. وقال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ   1- سورة التوبة آية: 20 ـ 22. 2- جامع البيان 10/97. 3- سورة الحجر آية: 47 ـ 48. 4- سورة الواقعة آية: 27 ـ 34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 698 وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} 1. وهذه الآيات بين الله ـ تعالى ـ فيها أن المتقين في الجنة خالدون، لا يذوقون فيها الموت أبداً، ولا يخرجون من الجنة أبداً. ويكفينا من الآيات ما تقدم في الإستدلال على أبدية الجنة ودوامها، وأما الأدلة من السنة على ذلك فكثيرة جداً. ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: "من يدخل الجنة ينعم ولا يبأس2 لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه" 3. ومنها حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ينادي مناد إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً، وإن لكم أن تنعموا فلا تبتئسوا أبداً فذلك قوله ـ عز وجل ـ {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} " 4. ومنها ما رواه الشيخان وغيرهما من حديث أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح" 5 فيوقف بين الجنة والنار فيقال: يا أهل الجنة هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم. هذا الموت قال ويقال: يا أهل النار هل تعرفون هذا؟ قال فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم. هذا الموت قال فيؤمر به فيذبح قال ثم يقال: يا أهل الجنة، خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت قال: ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} 6 وفيهما من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يدخل   1- سورة الدخان آية: 51 ـ 56. 2- البأس: هو شدة الحال والبأس، والبؤس، والبأساء، والبؤساء بمعنى واحد شرح النووي 17/174. 3- رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه 4/2181 ـ 2182. 4- صحيح مسلم 4/2182، من حديث أبي سعيد وأبي هريرة معاً والآية رقم 43 من سورة الأعراف. 5- الأملح: من الكباش الذي يكون فيه بياض وسواد والبياض أكثر، التذكرة ص438. 6- صحيح البخاري 3/157، صحيح مسلم 4/2188، واللفظ له والآية رقم 39 من سورة مريم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 699 الله أهل الجنة الجنة، ويدخل أهل النار النار، ثم يقوم مؤذن بينهم فيقول: يا أهل الجنة لا موت، ويا أهل النار لا موت كل خالد فيما هو فيه" 1. والأحاديث الواردة في أبدية الجنة ودوام نعيمها كثيرة جداً، وكلها دلت على أن نعيم الجنة لا يفنى ولا ينقطع، وأنه نعيم أبدي سرمدي، وهذا هو اعتقاد أهل السنة وعامة المسلمين. قال النووي: "مذهب أهل السنة وعامة المسلمين أن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون، يتنعمون بذلك وبغيره من ملاذ وأنواع نعيمها تنعماً دائماً لا آخر له ولا انقطاع أبداً، وأن تنعمهم بذلك على هيئة تنعم أهل الدنيا إلا ما بينهما من التفاضل في اللذة والنفاسة التي لا يشارك نعيم الدنيا إلا في التسمية وأصل الهيئة، وإلا في أنهم لا يبولون، ولا يتغوطون ولا يمتخطون ولا يبصقون، وقد دلت دلائل القرآن والسنة ... أن نعيم الجنة دائم لا انقطاع له أبداً" أهـ2. والذي نخلص إليه مما تقدم من الآيات والأحاديث التي سقناها للاستدلال على أبدية الجنة ودوام نعيمها أنه يجب على كل إنسان أن يصدق التصديق الجازم بوجود الجنة وأنها مخلوقة الآن وأنها باقية بإبقاء الله لها لا تفنى أبداً، ويدخل في ذلك كل ما اشتملت عليه من النعيم"3.   1- صحيح البخاري 4/136، صحيح مسلم 4/2189. 2- شرح النووي على صحيح مسلم 17/173 ـ 174 وانظر: مراتب الإجماع لابن حزم ص 173". 3- ولم يخالف في هذا الاعتقاد الحق إلا "الجهم بن صفوان" فإنه زعم "أن الجنة والنار تفنى وليس له سلف ألبتة في هذا الاعتقاد الباطل وتبعه على هذا الاعتقاد "أبو الهذيل العلاف" فإنه زعم: أن حركات أهل الجنة تفنى ويصيرون في سكون دائم". أنظر: مذهب الجهم في "حادي الأرواح" ص244 ـ 245، شرح الطحاوية ص 480 ـ 481، لوامع الأنوار البهية 2/234. وانظر "مقالات الإسلاميين" 1/243، وانظر الفرق بين الفرق ص211، 212، وانظر "الملل والنحل" 1/51، وانظر مذهب "محمد بن الهذيل العلاف" في "الملل والنحل" 1/51، التبصير في الدين ص108، ص 70، ولقد كفر السلف الصالح من قال بفناء الجنة لأن ذلك تكذيب للقرآن وكفر به. انظر كتاب "السنة لعبد الله بن الإمام أحمد ص20". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 700 المبحث الثامن: وجوب الإيمان بالعرش، وهو سقف الجنة لقد دلت السورة على وجوب الإيمان بالعرش، وهو من الأمور الغيبية التي يجب الإيمان بها، وهو أعظم المخلوقات، خلقه ـ الرب جل وعلا ـ قبل أن يخلق السموات والأرض، واختصه بالعلو والارتفاع، ثم استوى عليه. وقد جاء ذكر العرش في آخر آية من سورة "الزمر" وذلك في قوله تعالى: {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . فهذه الآية من السورة أوضحت لنا مشهداً رائعاً لعباد الله المكرمين وهم محدقون حول هذا المخلوق العظيم ـ العرش ـ يسبحون بحمد ربهم، ويعظمونه وينزهونه عن النقائص ويثنون عليه الثناء الطيب الذي يليق بجلاله وعظيم سلطانه، فإذا ما تم القضاء بين الخلائق بالعدل، والقول الفصل على أتم وجه وأكمله، نطق كله بالثناء والتحميد لله الحكم العدل الذي لا يضيع عمل عامل من ذكر أو أنثى {وَقِيلَ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . قال العلامة ابن القيم: "فحذف فاعل القول، لأنه غير معين بل كل أحد يحمده على ذلك الحكم الذي حكم به، فيحمده أهل السموات، وأهل الأرض، الأبرار والفجار، والإنس والجن، حتى أهل النار". قال الحسن وغيره: "لقد دخلوا النار، وإن حمده لفي قلوبهم، وما وجدوا لهم عليه سبيلاً، وهذا ـ والله أعلم ـ هو السر الذي حذف لأجله الفاعل في قوله: {قِيلَ ادْخُلُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 701 أَبْوَابَ جَهَنَّمَ} . وفي قوله: {وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} 1كأن الكون كله نطق بذلك، وقال لهم ذلك والله أعلم بالصواب"2. وقال البغوي رحمه الله تعالى: {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} أي: "محدقين محيطين بحافته وجوانبه" أ. هـ3. وقال ابن كثير حول قوله تعالى: {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} الآية: "لما ذكر تعالى حكمه في أهل الجنة والنار، وأنه نزل كلاً من المحل الذي يليق به ويصلح له، وهو العادل في ذلك الذي لا يجور، أخبر عن ملائكته أنهم محدقون حول العرش المجيد يسبحون بحمد ربهم ويمجدونه، ويعظمونه ويقدسونه، وينزهونه عن النقائص والجور، وقد فصل القضية، وقضي الأمر وحكم بالعدل {وَقِيلَ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي: نطق الكون أجمعه ناطقه وبهيمه لله ـ رب العالمين ـ بالحمد في حكمه وعدله ولهذا لم يسند القول إلى قائل بل أطلقه، فدل على أن جميع المخلوقات شهدت له بالحمد. قال قتادة: افتتح الخلق بالحمد في قوله: {الْحَمْدُ للهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} 4. واختتم بالحمد في قوله ـ تبارك وتعالى ـ {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 5. وبعد بيان معنى الآية نقول: إنها دلت على وجوب الإيمان بالعرش وهو مقصودنا الذي نريد التوصل إليه، وذكرناه هنا عقب ذكر الجنة لأمرين: 1 ـ الأمر الأول: أن هذه الآية التي نصت على وجوب الإيمان بالعرش جاءت عقب الآيات الدالة على الإيمان بالجنة. 2 ـ الأمر الثاني: ثبت في السنة الصحيحة أن العرش سقف الجنة. فقد روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن في   1- سورة التحريم آية: 10. 2- روضة المحبين ص 65. 3- تفسير البغوي على حاشية الخازن 6/72. 4- سورة الأنعام آية: 1. 5- تفسير القرآن العظيم 6/118. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 702 الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله كل درجتين ما بينهما كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة"1. ولا بد لنا هنا من بيان معنى العرش في اللغة، ومفهومه عند العرب الذين بلغتهم نزل القرآن وخاطبنا الله بها فنقول: العرش في اللغة: هو عبارة عن سرير الملك ومنه قوله تعالى: {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} 2 وعرش البيت سقفه، ومنه قوله تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} 3 أي: على سقوفها، ويأتي لمعنى الملك يقال: ثل عرشه على ما لم يسم فاعله أي: زال ملكه وذهب عزه. قال زهير: تداركتما الأحلاف قد ثل عرشها ... وذبيان إذ زلت بأحلامها النعل4 والمراد بالعرش في الآيات والأحاديث النبوية هو المعنى الأول وهو: السرير وهذا المعنى معروف عند العرب. جاء في تهذيب اللغة: "العرش في كلام العرب، سرير الملك يدلك على ذلك سرير ملكة سبأ سماه الله ـ جل وعز ـ عرشاً فقال: {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} 5. وما جاء في كلام بعض أهل اللغة من أن المراد بالعرش الملك لا يعني أن الملك يكون بدون عرش، فالملك تبع للعرش فإذا ذهب العرش ذهب الملك. وقال في القاموس: "العرش عرش الله ولا يحد"6، لعل قصد صاحب القاموس بقوله: "لا يحد" أي: لا يوصف بغير ما وصفه الله به في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.   1- 2/136. 2- سورة النمل آية: 23. 3- سورة البقرة آية: 259. 4- الصحاح 3/1010، لسان العرب 6/313، القاموس 2/288. 5- تهذيب اللغة 1/414، والآية رقم 23 من سورة النمل. 6- القاموس 2/288. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 703 وأما عرش الله تعالى: فهو سرير ذو قوائم خلقه الله واستوى عليه وأمر الملائكة بحمله وهو كالقبة على العالم وهو سقف المخلوقات ومنه قول: أمية بن أبي الصلت: مجدوا الله فهو للمجد أهل ... ربنا في السماء أمسى كبيراً بالبناء العالي الذي سبق النا ... س وسوى فوق السماء سريراً مرجعاً لا يناله بصر العين ... ترى دونه الملائكة صوراً1 وثبوت العرش من أوضح الأمور عند جميع الأمم، وفي جميع الأديان. قال الإمام عثمان بن سعيد الدارمي: "باب الإيمان بالعرش وهو أحد ما أنكرته المعطلة ثم قال: "وما ظننا أن نضطر إلى الإحتجاح على أحد ممن يدعي الإسلام في إثبات العرش والإيمان به حتى ابتلينا بهذه العصابة الملحدة في آيات الله فشغلونا بالاحتجاج لما لم تختلف فيه الأمم قبلنا"2. قال أحمد بن الحسين البيهقي في كتابه "الأسماء والصفات" بعد أن ذكر آيات العرش: "اتفقت أقاويل أهل التفسير على أن العرش هو السرير، وأنه جسم خلقه الله وأمر ملائكته بحمله وفي أكثر هذه الآيات دلالة على صحة ما ذهبوا إليه وفي الأخبار والآثار الواردة في معناه دليل على صحة ذلك"3 أ. هـ. والآيات القرآنية والأحاديث النبوية الصحيحة الدالة على إثبات العرش كثيرة جداً فقد أخبر ـ الباري جل وعلا ـ عن نفسه بأنه استوى على عرشه في مواضع سبعة من كتابه وقد تقدم ذكرها. وقال تعالى: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} 4. وقال تعالى: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ} 5.   1- الاختلاف في اللفظ لابن قتيبة ص 240 ضمن عقائد السلف. 2- الرد على الجهمية ص12. 3- ص497. 4- سورة البروج آية: 15 ـ 16. 5- سورة غافر آية: 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 704 وقال تعالى: {الَهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} 1. وقال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} 2. وةقال تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} 3. وقال تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} 4. وأما الأحاديث والآثار التي دلت على ثبوت العرش ووجوب الإيمان به فكثيرة جداً ومنها ما يلي: 1 ـ فقد روى الشيخان في صحيحيهما من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول عند الكرب لا إله إلا الله العليم الحليم لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات، ورب الأرض ورب العرش الكريم"5. 2 ـ ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض فإنه لم ينقص ما في يمينه، وعرشه على الماء، وبيده الأخرى الفيض ـ أو القبض ـ يرفع ويخفض" 6. قال الإمام الذهبي رحمه الله ـ تعالى ـ "فالقرآن مشحون بذكر العرش، وكذلك الآثار بما يمنع أن يكون المراد به الملك، فدع المكابرة والمراء فإن المراء في القرآن كفر، وما أنا قلت: بل المصطفى صلى الله عليه وسلم قاله"7.   1- سورة النمل آية: 26. 2- سورة غافر آية: 7. 3- سورة الحاقة آية: 17. 4- سورة التوبة آية: 129. 5- صحيح البخاري 4/282، صحيح مسلم 4/2092 ـ 2093. 6- صحيح البخاري 4/281. 7- كتاب العلو للذهبي ص58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 705 أما الجهمية وأفراخهم المعتزلة، وطائفة من الخوارج وبعض الأشاعرة فقد أنكروا العرش بطريقة التأويل الفاسد، فقد زعموا: أن المراد بالعرش في الآيات والأحاديث هو عبارة عن سعة الملك والسلطان، وليس العرش الذي هو سقف المخلوقات وزعم بعضهم أن عرشه سماواته وأرضه، وجميع خلقه وهذا هو عين التحريف لنصوص الكتاب والسنة"1. وقد بين محمد بن عثمان2 بن أبي شيبة مذهب الجهمية في العرش فقال: "ذكروا أن الجهمية يقولون: أن ليس بين الله ـ عز وجل ـ وبين خلقه حجاب وأنكروا العرش، وأن يكون هو فوقه وفوق السموات وقالوا: إن الله في كل مكان وأنه لا يتخلص من خلقه شيء ولا يتخلص الخلق منه إلا أن يفنيهم أجمع فلا يبقى من خلقه شيء ـ تبارك وتعالى ـ عما يقولون علواً كبيراً" اهـ3. وقد عبر عبد الجبار بن أحمد عن مذهب إخوانه المعتزلة في العرش فقال بعد أن ذكر آيات الاستواء على العرش: "إن العرش ههنا بمعنى الملك وذلك ظاهر في اللغة يقال: ثل عرش بني فلان أي إذا زال ملكهم، ثم استدل على هذا بقول الشاعر: إذا ما بنوا مروان ثُلَّتْ عروشهم ... وأودت كما أودت إياد وحمير4 وأما الأشاعرة وأفراخ المعتزلة فقد عبر عن مذهبهم في العرش أبو منصور عبد القاهر بن طاهر البغدادي حيث قال: "والصحيح عندنا تأويل العرش في هذه الآية {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 5 على معنى الملك كأنه أراد أن الملك ما استوى لأحد   1- انظر: التنبيه والرد على أهل الأهواء ص95، التوحيد للمعتزلي ص599، الاختلاف في اللفظ ص242، الرد على الجهمية للدارمي ص13، العلو للعلي الغفار ص58، مختصر الصواعق المرسلة 2/140، شرح الطحاوية ص312. 2- هو محمد بن عثمان بن محمد بن أبي شيبة العبسي من عبس غطفان أبو جعفر الكوفي مؤرخ لرجال الحديث من الحفاظ، توفي سنة سبع ومائتين هجرية. انظر ترجمته في: الميزان 3/642، تاريخ بغداد 3/42، الأعلام 7/142. 3- كتاب العرش 51 ق "مخطوط". 4- شرح الأصول الخمسة ص227. 5- سورة طه آية: 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 706 غيره، وهذا التأويل مأخوذ من قول العرب "ثل عرش بني فلان" إذا ذهب ملكهم، وقال متمم بن نويرة في هذا المعنى: عروش تفانوا بعد عز وأمة هَوَوْ بعد ما نالوا السلامة والبقاء وأراد بالعروش ملوكاً انقرضوا، وقال سعيد بن زائدة الخزاعي في النعمان بن المنذر: قد نال عرشاً لم ينله خائل جن ولا إنس ولا ديار وأراد بالعرش الملك والسلطان. وقال النابغة: بعد ابن جفنة وابن هاتك عرشه والحارثين يؤملون فلاحا "وأراد بهاتك عرش ابن جفنة سالب ملكه فصح بهذا التأويل العرش على الملك في آية الاستواء على ما بيناه والله الموفق للصواب"1. وهذه التأويلات الفاسدة التي انتحلها الجهمية والمعتزلة والأشاعرة للعرش الذي استوى عليه الرب جل جلاله استواءً يليق بجلاله يقصدون منها التوصل إلى نفي صفة العلو والفوقية ولكنهم باءوا بالفشل في مسعاهم ذلك لأن الأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة تكذبهم فيما قالوا وتثبت لله ـ تعالى ـ صفة العلو والفوقية، وأن المراد من العرش المخلوق العظيم الذي هو سقف المخلوقات وأنه ذو قوائم ويحمله ثمانية من الملائكة الكرام البررة. قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: "فمن أنكر عرشه، وأنكر استواءه أو أنكر تدبيره فقد قدح في ملكه" اهـ2. وقال شارح الطحاوية: رداً على المعطلة "وأما من حرف كلام الله وجعل العرش عبارة عن الملك كيف يصنع بقوله تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} 3 وقوله: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} 4 أيقول: "ويحمل ملكه يومئذ ثمانية؟ وكان ملكه على   1- أصول الدين ص 113 ـ 114. 2- مختصر الصواعق المرسلة 2/140. 3- سورة الحاقة آية: 17. 4- سورة هود آية 7:. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 707 الماء ويكون موسى عليه السلام آخذاً بقائمة من قوائم الملك؟ هل يقول هذا عاقل يدري ما يقول؟ " 1 اهـ. والذي نخلص إليه مما تقدم من الآيات والأحاديث النبوية السابقة أن العرش من الأمور الغيبية التي يجب الإيمان بها كما أخبر الله ورسوله بذلك، وأن العرش أعظم مخلوقات الله خلقه قبل خلقه للسموات والأرض، واختصه ـ سبحانه ـ بالعلو والارتفاع على سائر المخلوقات، ثم استوى عليه استواء يليق بجلاله ـ سبحانه ـ وتعالى وهذا ما يجب على الإنسان أن يعتقده في العرش، كما يجب عليه أن ينآى بنفسه من الاعتقادات المنحرفة المخالفة للكتاب والسنة في عرش الرحمن، وقد تقدم ذكر بعضها 2.   1 - شرح الطحاوية ص312. 2- "وهناك طائفة من الفلاسفة والمتكلمين ذهبوا إلى أن العرش فلك مستدير من جميع جوانبه محيط بالعالم من كل جهة وهو عندهم الفلك التاسع. جاء في رسائل إخوان الصفا "وأما الفلك التاسع المحيط بهذه الأفلاك الثمانية فهو العرش العظيم الذي يحمله فوقهم يومئذ ثمانية كما قال ـ عز وجل ـ. انظر: رسائل إخوان الصفا 2/26، تفسير روح المعاني 11/53، شرح الطحاوية ص310، "وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية قولهم هذا ورد عليه وبين بأنه قول لم يثبت بدليل عقلي ولا شرعي". انظر الرسالة العرشية ضمن مجموعة الرسائل الكبرى 1/261 ـ 264. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 708 "الخاتمة" وأوجز في هذه الخاتمة النتائج التي اشتمل عليها هذا البحث المتعلق بمباحث العقيدة في "سورة الزمر" وذلك فيما يلي: 1 ـ الإيمان بالله يتضمن: الاعتقاد الجازم بأنه تعالى رب كل شيء ومليكه وأنه الخالق الرازق المحيي المميت، وأنه ـ وحده ـ الذي يستحق أن يفرده العباد بالعبودية والطاعة، والذل والخضوع وغير ذلك من أنواع العبادة، وأنه ـ تعالى ـ المتصف بصفات الكمال المنزه من كل عيب ونقصان، وهذا ما يجب على كل إنسان أن يعتقده في الله ـ عز وجل ـ حتى يحقق عبوديته للخالق ـ سبحانه وتعالى ـ. 2 ـ الإيمان بأن الله ـ تعالى ـ عالٍ على جميع المخلوقات مستو على عرشه بائن من خلقه، وأنه لا يحل بشيء ولا يتحد به. 3 ـ القرآن كلام الله منزل غير مخلوق في جميع أحواله سواء كان مقروءاً، أو مسموعاً، أو مكتوباً فهو كلامه ـ تعالى ـ على كل حال لأن الكلام ينسب إلى من قاله مبتدئاً لا إلى من قاله مبلغاً، ومن ثم لا يكون مخلوقاً. 4 ـ ثبوت صفة العزة ـ للباري جل وعلا ـ بنص الكتاب والسنة فلا عزة لأحد إلا والله مالكها، ومن يريد العزة فليطلبها منه ـ جل وعلا ـ ولا سبيل إلى نيلها إلا بطاعته والخضوع له ـ وحده لا شريك له. 5 ـ إن صفة الحكمة من الصفات التي أثبتها لنفسه ـ سبحانه ـ فله حكمة تتعلق به يحبها ويرضاها، ويفعل لأجلها فهو ـ تعالى ـ يفعل ما يفعل لحكمة يعلمها، والنافون للحكمة والتعليل مخالفون للكتاب والسنة والإجماع والعقل الصحيح والفطرة المستقيمة التي فطر الله الناس عليها. 6 ـ بطلان زعم اليهود والنصارى ومشركي العرب مما ادعوه من نسبتهم الولد إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 710 الله ـ تعالى ـ فقد نفى ـ سبحانه ـ عن نفسه الولادة، ونفى اتخاذ الولد جميعاً فهو المنزه ـ جل وعلا ـ من كل نقص وعيب ـ تعالى الله ـ عما يقول الظالمون علواً كبيراً. 7 ـ اتصاف الباري ـ سبحانه وتعالى ـ بصفتي الرحمة والمغفرة حقيقة لا مجازاً، وأن صفة الرحمة تنقسم إلى قسمين رحمة عامة يشترك فيها المؤمنون والكافرون كما قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} 1 ورحمة خاصة بالأنبياء والرسل وعباده المؤمنين كما قال تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} 2 فهما صفتان حقيقيتان ثابتتان لله ـ عز وجل ـ حقيقة على ما يليق بجلاله وعظيم سلطانه. 8 ـ صفة الغنى من صفات الكمال التي أثبتها الباري ـ سبحانه ـ لنفسه فلا يحتاج إلى شيء، والخلائق جميعهم محتاجون إليه وفقراء إليه في كل أمر من أمورهم فلا قوام لهم إلا به تعالى ـ في كل حركاتهم وسكناتهم وفي كل لحظة من لحظاتهم، وفي كل نفس من أنفاسهم فلا غنى لهم عنه طرفة عين. 9 ـ إن صفة الرضا من الصفات الفعلية التي أثبتها ـ الباري سبحانه ـ لنفسه على ما يليق بجلاله يفعلها متى شاء وكيف شاء وأن الإرادة نوعان إرادة قدرية كونية، وإرادة شرعية دينية، والشرعية هي المتضمنة للمحبة والرضا والقدرية الكونية هي الشاملة لجميع الموجودات فما شاءه ـ سبحانه ـ كان وما لم يشأه لم يكن، والأمر الشرعي إنما تلازمه الإرادة الشرعية الدينية، ولا تلازم بينه وبين الإرادة الكونية القدرية، فالكافر أمره الله بالإيمان، وأراده منه شرعاً وديناً ولم يرده منه كوناً وقدراً، ولو أراده كوناً لحصل لأن الإرادة الكونية القدرية لا يتخلف عنها المراد بخلاف الإرادة الشرعية قد يتخلف المراد بها. 10 ـ صفة العلم من صفات الكمال التي أثبتها ـ الباري سبحانه ـ لنفسه فقد علم ـ جل وعلا ـ أزلاًً ما يكون من عبده المختار من سعادة وشقاوة، وما يحصل له من الغنى والفقر، ومن ناحية تحديد عمره وانقضاء أجله، ثم كتب ما يعمله في اللوح المحفوظ فهو ـ سبحانه ـ كتب لا ليجبر أحداً من عباده على حسب ما كتب في الأزل ما يكون من العبد بمحض اختياره، وإرادته فعلمه ـ تعالى صفة انكشاف للماضي والحاضر والمستقبل وهو   1- سورة الأعراف آية:156. 2- سورة الأحزاب آية: 43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 711 معنى قول أهل العلم علم ما كان وعلم ما يكون، وعلم ما لم يكن إن لو كان كيف كان يكون. 11 ـ لله تعالى يدان حقيقيتان وهما من صفات الكمال التي اتصف بها ـ سبحانه ـ وأنهما كما يليق بجلاله، وما ورد في شأنهما من الإمساك والطي، والقبض والبسط والحثيات والخلق باليدين وكتب التورراة بيده وغرس جنة عدن بيده، وكون المقسطين عن يمينه وتخيير آدم بين ما في يديه، وأخذ الصدقة بيمينه يربيها لصاحبها، وأنه مسح ظهر آدم بيده إلى غير ذلك مما ورد في شأنها مما يدل دلالة واضحة على أنها يد حقيقة كما أخبر بذلك ـ جل وعلا ـ وأن تأويلها بالقدرة أو النعمة أو القوة تأويل ظاهر البطلان. 12 ـ لا يستحق العبادة بجميع أنواعها الاعتقادية والقولية والعملية إلا الله ـ جل وعلا ـ فأنواع العبادة مثل الدعاء والخوف والرجاء والإنابة، والتوكل والخشية وغيرها من أنواع العبادة لا يستحق أي أحد كائناً من كان أي شيء منها. 13 ـ الإخلاص روح العبادة وعمودها الذي تقوم عليه، وأي عبادة بدون إخلاص عبادة مردودة على صاحبها لأنها لم توجه إلى الله ـ وحده لا شريك له ـ ومتى شاب العبادة قصد غير الله ـ تعالى ـ اعتبرت لاغية لا قيمة لها ولا فائدة منها سوى التعب لصاحبها لأن الله ـ تعالى ـ لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً لوجهه، وقد تضافرت الأدلة من كتاب وسنة، وأقوال الأئمة في إشتراط الإخلاص للأعمال والأقوال الدينية، وأن الله لا يقبل منها إلا ما كان خالصاً له وابتغي به وجهه. 14 ـ العبودية: تنقسم إلى عامة، وخاصة، والعامة هي عبودية أهل السموات والأرض جميعهم عبيده ـ تعالى ـ برهم وفاجرهم، ومؤمنهم وكافرهم، وهذه العبودية هي عبودية القهر والملك، وأما العبودية الخاصة فهي عبودية الطاعة والمحبة واتباع الأوامر والبعد عن النواهي فعلى العبد أن يتحلى بتحقيق العبودية الخاصة إذ السعادة في الدارين لا تنال إلا بها. 15 ـ الإسلام دين الأولين والآخرين من بني آدم، وأن أول المسلمين في جميع الشرائع الإلهية هم الرسل لأنهم أول من يعرف الشرائع فالخير كل الخير بالإلتزام بدين الإسلام الذي رضيه الله ديناً لعباده المؤمنين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 712 16 ـ الطاغوت اسم عام يشمل كل ما عبد من دون الله وكل رأس ضلال يدعو إلى الباطل ويزينه لمتبعيه، كما أنه يشمل كل من نصبه الناس للحكم بينهم فحكم بأحكام الجاهلية المنتنة المضادة لحكم رب العالمين وحكم رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم، فالحاكم بغير ما أنزل الله طاغوت لأنه نصب نفسه منصب الإله المشرع. وهنا يظهر معنى مجاوزة الحد في معنى الطاغوت، فإن الحاكم ملزم بأن يتقيد بأحكام الرب ـ سبحانه ـ التي أنزلها لعبيده وأوضحها لهم، بل إن معنى الطاغوت يتناول كل ما صرف الناس عن عبادة ربهم كالأوثان والأشجار والقباب التي تعبد من دون الله لأنها تصرف من يعبدها عن عبادة الإله الحق ـ سبحانه تعالى ـ. 17 ـ المطلوب من الإنسان أن يجمع في حياته بين الخوف والرجاء ولا ينبغي له أن يغلب أحدهما على الآخر، فإنه لو غلب جانب الرجاء وإنهمك في العصيان لربه ـ تبارك وتعالى ـ فإن ذلك قد يؤدي إلى أن يمكر الله به، وإذا غلب جانب الخوف ربما جرّه ذلك إلى اليأس فالغرض من الرجاء أن الإنسان لو وقع في تقصير فعليه أن يحسن الظن بالله ـ تعالى ـ ويرجو منه أن يغفر له ذنبه، وكذلك إذا وفقه الله ـ تعالى ـ للإتيان بالطاعة يرجو من الله أن يقبلها منه، ويخاف أن لا تقبل. 18 ـ التوكل على الله لا ينافي اتخاذ الأسباب، بل إن التوكل لا يتم إلا إذا اتخذ الإنسان لكل عمل يريده الأسباب التي توصله إلى تحقيقه ـ فلله تعالى ـ ربط الأسباب بمسبباتها، والتوكل من أعظم الأسباب وأنفعها في دفع المضار، وجلب المنافع، فلا بد من الأخذ بالأسباب التي توصل الإنسان إلى تحقيق حاجاته والحصول على مطالبه، ومن قال بنفي الأسباب فتوكله مشوب ومدخول. 19 ـ أرسل الله الرسل من أجل توحيد العبادة، وهو التوحيد المطلوب الذي أمر الله عباده أن يفردوه به دون سواه ولذلك كان أساس دعوة الرسل جميعاً وهو المطلوب في فاتحة دعوة كل نبي من الأنبياء من لدن نوح عليه السلام إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. 20 ـ الشفاعة نوعان منفية، ومثبتة، فالمنفية هي التي إدعاها المشركون لإلهتهم والمثبتة هي التي أثبتها الله ورسوله بشرطيها الإذن، والرضا، والشفاعة لأهل الكبائر ثابتة بنص الكتاب والسنة خلافاً لأهل البدع النافين لها، والممنوع منها إنما هو الشفاعة لأهل الكفر والشرك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 713 21 ـ الإقرار بالرب ـ جل وعلا ـ أمر فطري مركوز في كل نفس ولهذا كانت دعوة الرسل إنما كانت إلى عبادة الله ـ وحده لا شريك له ـ وللتذكير بالربوبية لأن عامة الخلق مقرون به ـ سبحانه ـ حتى الكفار يقرون بأنه ـ تعالى ـ الخالق الرازق النافع الضار المحيي المميت، ولكن هذا الإقرار لم يجد شيئاً، ولم ينقذهم من النار. 22 ـ تظهر أهمية الإقرار بتوحيد الربوبية في أنه مقدمة لنتيجة، فإذا أقر العبد بأن الله ـ تعالى ـ هو الرب المتفرد بالربوبية وخصائصها استلزم ذلك حتماً أن ينتج عن إقراره هذا إقرار بتفرد الرب ـ جل وعلا ـ بالعبادة فيفرده بها وحده لا شريك له ولا يصرف منها شيئاً لغير الله ـ تعالى ـ إذ أنه لا يصلح أن يعبد إلا من كان رباً سيداً خالقاً بارئاً مصوراً، مالكاً رازقاً، معطياً نافعاً، محيياً مميتاً مدبراً لأمر الكون كله وذلك كله لا يثبت إلا لله ـ وحده ـ لا شريك له فوجب أن يكون هو المعبود وحده دون سواه. 23 ـ أصل الشرك في بني الإنسان والدافع إليه عند جميع فرق المشركين قديماً وحديثاً إنما هو تعلقهم بأذيال الشفاعة الباطلة وزعمهم اتخاذ الأولياء والشفعاء إنما هو لأجل يقربوهم إليه زلفى، وإلا فهم يعتقدون أنها لا تخلق ولا ترزق، ولا تملك من الأمر شيئاً، وهذا من أقبح الأعذار لإقدامهم على أشد الذنوب وأقبحها حرمة عند الله تعالى. 24 ـ الشرك بالله أظلم الظلم وهو أشد ذنب عصي الله به ولذلك رتب الله عليه من العقوبات الدنيوية والأخروية ما لم يرتبه على ذنب سواه من إباحة دماء أهله وأموالهم وسبي ذراريهم ونسائهم وعدم مغفرته من بين الذنوب إلا بالتوبة منه، وإذا وقع فيه الإنسان أحبط عمله وصار من الخاسرين. 25 ـ الإيمان بالملائكة يتضمن التصديق والاعتقاد الجازم بأن لله ـ تعالى ـ ملائكه موجودون، مخلوقون من نور، وأنهم كما وصفهم الباري ـ سبحانه ـ عباد مكرمون يسبحون الله الليل والنهار لا يفترون، ولا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وأنهم قائمون بوظائفهم التي أسندها الله إليهم، ويجب الإيمان بمن ورد تعيينه باسمه الخاص به كهاروت وماروت، وجبريل وميكائيل على التفصيل، أما من لم يرد تعيينه باسمه الخاص، أو لم يشتهر بعمل معين، فيجب الإيمان بهم إجمالاً، ولا يعلم عددهم إلا الله ـ سبحانه وتعالى ـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 714 26 ـ الإيمان بالكتب يتضمن التصديق الجازم بأن للباري ـ سبحانه ـ كتباً أنزلها على أنبيائه، وهي كلامه حقيقة وأنها نور وهدى وأن ما تضمنته حق وصدق وعدل، ولا يعلم عددها إلا هو ـ سبحانه ـ، وأنه يجب الإيمان بها جملة إلا ما سمي منها وهي التوراة والإنجيل والزبور والقرآن وصحف إبراهيم وموسى فهذه يجب الإيمان بها تفصيلاً. 27 ـ الإيمان بالرسل يتضمن التصديق الجازم بأن ـ الرب جل وعلا ـ أرسل رسلاً وأنبياء ليرشدوا الخلق في معاشهم ومعادهم، وقد اقتضت حكمة اللطيف الخبير أن لا يترك خلقه سدى، ولا هملاً بل أرسل إليهم رسلاً مبشرين ومنذرين، فيجب الإيمان بمن سمى الله منهم في كتابه على التفصيل، والإيمان إجمالاً بأن له ـ تعالى ـ رسلاً غيرهم وأنبياء لا يحصيهم إلا هو ـ سبحانه وتعالى ـ ويختص آخرهم وسيدهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم باعتقاد عموم رسالته وشمولها لكل أحد دون تطرق النقص إليها وبقائها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. 28 ـ الإيمان بالقدر يتضمن التصديق الجازم بأن كل خير وشر فهو بقضاء الله تعالى وقدره، وأنه ـ جل وعلا ـ الفعال لما يريد لا يكون شيء في هذا الكون إلا بإرادته، ولا يخرج عن مشيئته وليس في العالم شيء يخرج عن تدبيره، ولا محيد لأحد عن قدره، ولا يتجاوز الإنسان ما خط له في اللوح المحفوظ، وهو الذي خلق العباد وأفعالهم من طاعات ومعاصي، ومع ذلك أمرهم ونهاهم وجعلهم مختارين لجميع أفعالهم وليسوا مجبورين عليها، بل تقع بقدرتهم وإرادتهم يهدي من يشاء برحمته، ويضل من يشاء بحكمته لا يسأل عما يفعل وهم يُسألون. 29 ـ الإيمان باليوم الآخر يتضمن التصديق الجازم بكل ما أخبر الله به عن هذا اليوم الذي توفى فيه كل نفس ما كسبت، وتصديق النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به مما يكون بعد الموت من الحشر والنشر والصحف والميزان والحساب والجزاء والصراط والحوض والشفاعة، وفتنة القبر وعذابه ونعيمه، والجنة والنار، وما أعد الله لأهلهما فيهما. 30 ـ القول الراجح أن عدد النفخات ثلاث: نفخة الفزع، ونفخة الصعق، ونفخة البعث، كما صرح بذلك القرآن، فيجب الإيمان بالنفخ في الصور الذي جعله الله سبب الفزع، والصعق والقيام من القبور، كما يجب الاعتقاد الجازم بأن الذي يعيده الله عند البعث هو هذا الجسد بعينه الذي أطاع وعصى، فينعمه ويعذبه، كما ينعم الروح التي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 715 آمنت بعينها، ويعذب التي كفرت بعينها لا أنه ـ سبحانه ـ يخلق روحاً أخرى غير هذه فينعمها ويعذبها كما قال من لم يعرف المعاد الذي أخبرت به الرسل حيث زعم أن الله ـ سبحانه ـ يخلق بدناً غير هذا البدن من كل وجه عليه يقع النعيم والعذاب، والروح عنده عرض من أعراض البدن فيخلق روحاً غير هذه الروح وبدناً غير هذا البدن وهذا غير ما اتفقت عليه الرسل، ودل عليه القرآن والسنة وسائر كتب الله تعالى" 1. 31 ـ الجنة والنار مخلوقتان أبديتان لا تفنيان ولا تبيدان ومن زعم أنهما يفنيان فقد خالف الكتاب والسنة وإجماع الأمة. تلك هي نتائج البحث والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.   1- الفوائد لابن القيم ص8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 716 مصادر ومراجع ... ثبت المصادر والمراجع "أ" القرآن الكريم: 1 ـ الإبانة عن أصول الديانة: أبو الحسن الأشعري ت "330" ط: الجامعة الإسلامية 1975 م. 2 ـ اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية. أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ـ ابن قيم الجوزية ت "751" هـ دار المعرفة ـ بلا تاريخ. 3 ـ الاحتجاج بالقدر. لشيخ الإسلام ـ أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية ـ ت "728" هـ ـ المكتب الإسلامي. 4 ـ أحكام القرآن: أبو بكر محمد بن عبد الله المعروف ـ بابن العربي ـ ت "543" هـ ـ دار المعرفة ـ بيروت لبنان. 5 ـ أحكام القرآن: أبو بكر أحمد بن علي الرازي المعروف بالجصاص ـ ت "370" هـ ـ دار الكتاب العربي ـ بيروت لبنان ـ. 6 ـ إحياء علوم الدين: أبو حامد محمد بن الغزالي ت "505" هـ ـ دار المعرفة ـ بيروت لبنان ـ 1383 هـ. 7 ـ الاختلاف في اللفظ: عبد الله بن مسلم الدينوري ـ ابن قتيبة ـ ت "276" هـ ـ منشأة المعارف بالإسكندرية 1971م. 8 ـ إرشاد الثقات إلى اتفاق الشرائع على التوحيد والمعاد والنبوات: محمد بن علي الشوكاني ت "1250" هـ ـ ط: ب ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت لبنان ـ 1404 هـ. 9 ـ أساس البلاغة: محمود بن عمر الزمخشري الخوازمي ت "358" ـ دار صادر بيروت ـ 1399 هـ. 10 ـ أساس التقديس في علم الكلام: محمد بن عمر بن الحسن الرازي ت "606" ـ القاهرة مطبعة الحلبي ـ 1354 هـ. 11 ـ أسباب النزول: علي بن أحمد الواحدي ت "468" ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ لبنان ـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 721 12 ـ الأسماء والصفات. أحمد بن الحسين البيهقي ـ ت "458" هـ ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت لبنان. 13 ـ الإشارات والتنبيهات. أبو الحسين عبد الله ـ المعروف بابن سينا ـ ت "427" هـ تحقيق سليمان دنيا القاهرة ـ دار المعارف ـ 1950م. 14 ـ الإصابة في تمييز الصحابة. احمد بن علي بن حجر العسقلاني ت "852" هـ ـ دار الكتاب العربي ـ بيروت لبنان. 15 ـ الأصنام. أبو المنذر هشام بن محمد بن السائب الكلبي ت "204" هـ تحقيق أحمد زكي ـ الدار القومية القاهرة ـ 1343 هـ. 16 ـ أصول الدين. عبد القاهر البغدادي ت "429" هـ ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت لبنان. 17 ـ أصول الدين. محمد بن عبد الكريم البزدوي ت "493" هـ تحقيق ـ هانز بيترلنس ـ دار إحياء الكتب العربية 1383 هـ. 18 ـ الأصول الثلاثة. الشيخ محمد بن عبد الوهاب "1206" هـ ـ المكتبة السلفية ـ المدينة المنورة. 19 ـ أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن. محمد الأمين بن محمد المختار ـ ط: 1 ـ مطبعة المدني ـ 1384 هـ. 20 ـ اعتقادات فرق المسلمين والمشركين. محمد بن عمر بن الحسن الرازي ت "606" هـ تحقيق علي سامي النشار ـ دار الكتب العلمية ـ. 21 ـ الاعتقاد إلى سبيل الرشاد. أحمد بن الحسين البيهقي ت "458" هـ تصحيح أحمد مرسي ـ المطبعة العربية باكستان ـ. 22 ـ أعلام الموقعين عن رب العالمين: أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية ت "751" هـ ـ مكتبة الكليات الأزهرية القاهرة ـ 1388 هـ. 23 ـ أعلام النبوة: أبو الحسن علي بن محمد الماوردي ت "450" هـ ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت لبنان. 24 ـ الأعلام. قاموس ترجم لأشهر الرجال والنساء من العرب والمستعربين والمستشرقين خير الدين الزركلي ط: 3 ـ بيروت ـ 1389 هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 722 25 ـ إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان. أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الشهير ـ بابن قيم الجوزية ـ "751" تحقيق محمد حامد الفقي ـ دار المعرفة ـ بيروت لبنان. 26 ـ الاقتصاد في الاعتقاد. أبو حامد محمد بن محمد الغزالي ت "505" هـ ـ مكتبة الجندي القاهرة ـ تحقيق محمد مصطفى أبي العلاء. 27 ـ اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم. لشيخ الإسلام ابن تيمية ـ ت "728" هـ تحقيق محمد حامد الفقي ـ ط: 2 مطبعة السنة المحمدية1369 هـ. 28 ـ الإكليل في استنباط التنزيل. عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي ت "911" هـ ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت لبنان ـ ط: 1 سنة 1401 هـ. 29 ـ الأمثال في القرآن الكريم. محمد بن أبي بكر ـ الشهير بابن قيم الجوزية ـ ت "751" هـ ط: 2 ـ دار الفكر للطباعة والنشر ـ 1403 هـ: 30 ـ إملاء ما من به الرحمن من وجوه الإعراب والقراءات في جميع القرآن. أبو البقاء عبد الله بن الحسين العكبري ت "616" هـ ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت لبنان. 31 ـ الأم للشافعي. محمد بن إدريس الشافعي ت "204" هـ ـ المطبعة الأميرية القاهرة ـ 1321 هـ. 32 ـ الإنسان في القرآن الكريم من البداية إلى النهاية. عبد الكريم الخطيب ط: 1 ـ دار الفكر العربي ـ 1979م. 33 ـ أنوار التنزيل وأسرار التأويل "المسمى تفسير البيضاوي". عبد الله بن عمر الشيرازي البيضاوي ت "685" هـ ـ دار الفكر ـ 1402 هـ. 34 ـ إيثار الحق على الخلق. أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الوزير ت "840" هـ ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت لبنان. 35 ـ الإيمان. لشيخ الإسلام ابن تيمية ت "728" هـ ط: 2 ـ المكتب الإسلامي ـ. "ب" 36 ـ البحر المحيط. محمد بن يوسف الشهير ـ بأبي حيان ـ الأندلسي الغرناطي ـ ت "754" هـ ـ دار الفكر ـ لبنان 1403 هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 723 37 ـ بدائع الفوائد. محمد بن أبي بكر ـ الشهير بابن القيم ـ ت "751" هـ ـ المطبعة المنيرية ـ. 38 ـ البدر الطالع بمحاسن القرن التاسع. محمد بن علي الشوكاني ت "1250" هـ ط: 1 ـ مطبعة السعادة مصر ـ 1348 هـ. 39 ـ البداية والنهاية. أبو الفداء ـ إسماعيل بن عمر الشهير بابن كثير ـ ت "774" هـ ط: 2 ـ مكتبة المعارف ـ بيروت 1977م. 40 ـ بذل المجهود في حل أبي داود. الشيخ خليل أحمد السهاري نفوري ت "1346" هـ شركة الطباعة العربية ـ الرياض. 41 ت بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز. مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي ت "817" هـ ـ المكتبة العلمية ـ بيروت لبنان. 42 ـ بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة. جلال الدين عبد الرحمن السيوطي ت "911" هـ ـ مطبعة البابي الحلبي ـ 1384 هـ. 43 ـ بين الفلاسفة والكلاميين. محمد عبده ـ تحقيق سليمان دنيا ـ دار إحياء الكتاب العربي ـ. "ت" 44 ـ تأويل مختلف الحديث. عبد الله بن مسلم الدينوري ـ الشهير بابن قتيبة ت "276" هـ ـ دار الكتاب العربي ـ بيروت. 45 ـ تاج العروس من جواهر القاموس. محمد مرتضى الزبيدي ت "1205" هـ ـ منشورات دار الآفاق الجديدة ـ بيروت لبنان. 46 ـ تاريخ الأمم والملوك. أبو جعفر محمد بن جرير الطبري ت "310" هـ تحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم ـ دار سويدان بيروت ـ لبنان. 47 ـ تاريخ بغداد. أبو بكر أحمد بن علي الخطيب ت "463" هـ ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ لبنان. 48 ـ تاريخ ابن خلدون. عبد الرحمن بن محمد بن خلدون الحضرمي المغربي ت "808" هـ ـ مؤسسة جمال للطباعة والنشر ـ بيروت. 49 ـ تاريخ الجهمية والمعتزلة. محمد جمال الدين القاسمي ت "1332" هـ ط؛ 1 ـ مؤسسة الرسالة ـ بيروت لبنان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 724 50 ـ التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكين. أبو المظفر الاسفراييني ت "471" هـ ط: 1 تحقيق كمال يوسف الحوت ـ عالم الكتب ـ بيروت ـ 1403 هـ. 51 ـ التبيان في أقسام القرآن. للعلامة ابن القيم ت "751" هـ ـ دار المعرفة والنشر ـ بيروت لبنان. 52 ـ تبيين كذب المفتري. علي بن الحسن بن هبة الله بن عساكر ت "571" هـ ـ دمشق مطبعة التوفيق ـ 1347 هـ. 53 ـ تجريد التوحيد المفيد. أحمد بن على المقريزي ت "854" هـ ـ المطبعة المنيرية ـ 1373 هـ. 54 ـ تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي. محمد عبد الرحيم بن عبد الرحيم المباركفوري ت "1253" هـ القاهرة ـ مطبعة الفجالة ـ. 55 ـ تحفة المريد شرح جوهرة التوحيد. إبراهيم بن محمد البيجوري ت "1277" هـ ط: 1 ـ دار الكتب العربية ـ بيروت ـ لبنان 1403 هـ. 56 ـ التحفة المهدية شرح التدمرية. الشيخ فالح بن مهدي آل مهدي ـ مطابع القصيم ـ الرياض ط: 1 سنة 1385 هـ. 57 ـ تحكيم القوانين. الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ ت "1389" هـ ـ مطابع الجامعة الإسلامية ـ 1404 هـ. 58 ـ التخويف من النار والتعريف بحال دار البوار. عبد الرحمن بن رجب الحنبلي ت "795" هـ ـ مكتبة دار البيان ـ ط: 1 سنة 1399 هـ. 59 ـ تذكرة الحفاظ. أبو عبد الله محمد بن أحمد الذهبي ت "748" هـ ـ دار إحياء التراث العربي بدون تاريخ ـ. 60 ـ التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة. أبو عبد الله محمد بن أحمد فرج الأنصاري القرطبي ت "671" هـ ـ دار الفكر بدون تاريخ ـ. 61 ـ التسهيل لعلوم التنزيل. محمد بن أحمد بن جزي الكلبي ت "741" هـ ط: 4 ـ دار الكتاب العربي ـ بيروت لبنان. 62 ـ تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد. محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني ت "1182" هـ ـ مطبعة دار نشر الثقافة بالإسكندرية ـ 1397 هـ. 63 ـ التعريفات "للجرجاني". علي بن محمد الجرجاني ت "816" هـ ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ لبنان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 725 64 ـ تفسير أبي السعود. محمد بن محمد العمادي ت "951" هـ ـ مكتبة ومطبعة عبد الرحمن محمد ـ القاهرة. 65 ـ تفسير أسماء الله الحسنى. أبو إسحاق إبراهيم بن السري الزجاج ت "311" هـ تحقيق أحمد يوسف الدقاق. 66 ـ تفسير غريب القرآن. أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة ت "276" هـ ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت لبنان ـ تحقيق أحمد صقر. 67 ـ تفسير القرآن العظيم: عماد الدين ابن كثير ت "774" هـ ط: 2 ـ دار الفكر للطباعة والنشر ـ بيروت ـ لبنان 1389هـ. 68 ـ تفسير القرآن الحكيم ـ الشهير بتفسير المنار. محمد رشيد رضا ـ دار المعرفة ـ بيروت. 69 ـ التفسير القيم. للإمام ابن القيم ـ جمعه محمد أويس الندوي ـ تحقيق محمد حامد الفقي ـ دار الكتب العلمية بيروت ـ لبنان. 70 ـ التفسير الكبير. للفخر الرازي ت "606" هـ ـ دار إحياء التراث العربي ـ. 71 ـ تفسير النسفي. عبد الله بن أحمد بم محمود النسفي ت "710" هـ ـ دار الكتاب العربي ـ بيروت لبنان. تقريب التهذيب. للحافظ ـ ابن حجر العسقلاني ـ ت "852" هـ تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف ـ مطابع دار الكتاب العربي مصرـ. 73 ـ تكملة شرح الصدور في ذكر أحوال البعث والقبور. محمد بن محمد البرديسي "مخطوط" في مكتبة ـ محمد نمر الخطيب ـ برقم "1402". 74 ـ تلبيس إبليس. عبد الرحمن بن الجوزي ت "597" هـ ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ لبنان. 75 ـ التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد. أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر ت "463" هـ تحقيق سعيد أحمد أعراب ـ الشؤون الإسلامية المغرب ـ 1401 هـ. 76 ـ التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع. محمد بن أحمد بن عبد الرحمن الملطي ت "377" هـ ط: القاهرة 1368 هـ. 77 ـ التوحيد للنيسابوري. سعيد محمد النيسابوري ـ مطبعة دار الكتب والوثائق القومية ـ 1968م. 78 ـ التوسل أنواعه وأحكامه. محمد ناصر الدين الألباني ط: 2 ـ المكتب الإسلامي ـ 1397 هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 726 79 ـ التوصل إلى حقيقة التوسل. محمد نسيب الرفاعي ط: 2 ـ دار البيان للطباعة والنشر ـ 1399 هـ. 80 ـ توضيح المقاصد وتصحيح القواعد ـ شرح قصيدة ابن القيم. أحمد بن إبراهيم بن عيسى ط: 2 ـ المكتب الإسلامي ـ 1392 هـ. 81 ـ تهذيب تاريخ دمشق. للحافظ على بن الحسن بن هبة الله ـ المعروف بابن عساكر ـ ت "571" هـ ـ دار المسيرة ـ بيروت ـ بلا تاريخ. 82 ـ تهذيب التهذيب. للحافظ ابن حجر العسقلاني ت "852" هـ ـ طبع مجلس دائرة المعارف ـ الهند حيدر آباد الدكن 1325 هـ. 83 ـ تهذيب الكمال في أسماء الرجال. للحافظ أبي الحجاج المزي ت "772" هـ تحقيق بشار عواد ـ مؤسسة الرسالة ـ ط: 2 سنة 1403 هـ. 84 ـ تهذيب اللغة. أبو منصور الأزهري محمد بن أحمد ت "370" هـ ـ الدار المصرية للتأليف والترجمة ـ. 85 ـ تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد. الشيخ سليمان بن عبد الله بن عبد الوهاب ت "1233" هـ ـ مكتبة الرياض الحديثة ـ. 86 ـ تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان. للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي ت "1376" هـ ـ مطبوعات الجامعة الإسلامية ـ. "ج" 87 ـ جامع البيان عن تأويل آي القرآن. أبو جعفر محمد بن جرير الطبري ت "310" هـ ط: 2 ـ البابي الحلبي ـ 1388هـ. 88 ـ جامع العلوم والحكم. ابن رجب الحنبلي ت "795" هـ ـ مكتبة الرياض الحديثة ـ. 89 ـ الجامع لأحكام القرآن. محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي ت "671" هـ ـ دار الكتب القاهرة ـ 1384 هـ. 90 ـ الجرح والتعديل. للحافظ أبي محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي ت "327" هـ ـ ط: 2 ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت لبنان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 727 91 ـ جلاء العينين في محاكمة الأحمدين. نعمان خير الدين الشهير بابن الألوسي ـ ت "1317" هـ ـ دار الكتب العلمية بيروت ـ لبنان. 92 ـ الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي. لعلامة ابن القيم ت "751" هـ ط: 3 ـ دار المطبعة السلفية ـ 1400 هـ. "ح" 93 ـ حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح. للعلامة ابن القيم ت "751" هـ ـ دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع ـ. 94 ـ الحسنة والسيئة. لشيخ الإسلام ابن تيمية ت "728" هـ تحقيق محمد جميل غازي ـ مكتبة المدني ومطبعتها ـ. 95 ـ حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة. جلال الدين عبد الرحمن السيوطي ت "911" هـ ـ عيسى البابي الحلبي وشركاه ـ 1967م. 96 ـ حلية الأولياء وطبقات الأصفياء: أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني ت "430" هـ ـ دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع ـ. 97 ـ الحيدة. عبد العزيز الكناني ت "240" تعليق إسماعيل الأنصاري ـ نشر إدارة البحوث العلمية بالرياض ـ. "خ" 98 ـ خلق أفعال العباد. للإمام محمد بن إسماعيل البخاري ت "256" هـ ـ مكتبة ومطبعة النهضة الحديثة بمكة ـ. "د" 99 ـ درء تعارض العقل والنقل. لشيخ الإسلام ابن تيمية "728" هـ تحقيق محمد رشاد سالم ـ ط: 1 ـ جامعة الإمام محمد بن سعود ـ 1402 هـ. 100 ـ الدرر السنية في الأجوبة النجدية. جمع الشيخ عبد الرحمن بن قاسم ط: 2 سنة 1385 هـ ـ دار الإفتاء الرياض ـ. 101 ـ دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب. الشيخ محمد الأمين بن محمد المختار ـ مطبعة المدني ـ مصر ـ وهو مطبوع مع الجزء التاسع من أضواء البيان. 102 ـ دقائق التفسير ـ لابن تيمية. جمع وتحقيق محمد السيد الحليند ط: 1 سنة 1398 هـ ـ دار الأنصار بالقاهرة ـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 728 103 ـ الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة. أحمد بن علي بن حجر العسقلاني ت "852" هـ ط: 2 مجلس ـ دائرة المعارف العثمانية الهند ـ 1373 هـ. 104 ـ الدر المنثور في التفسير بالمأثور. جلال الدين السيوطي ت "911" هـ. 105 ـ دلائل النبوة: أحمد بن الحسين البيهقي ت "458" هـ ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ لبنان. 106 ـ الديباج المذهب في معرفة علماء المذهب: إبراهيم بن علي بن محمد بن فرحون ت "799" هـ ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت لبنان. 107 ـ الدين الخالص. محمد صديق حسن القنوجي ت "1307" هـ ـ مطبعة المدني مصر ـ 1397 هـ. 108 ـ ديوان أبي العتاهية. تأليف كرم البستاني ـ دار صادر ـ. 109 ـ ديوان ذي الرمة. كارليل هيس مكارتني ـ طبع كمبردج ـ 1919م. 110 ـ ديوان جرير بن عطية الخطفي. كرم البستاني ـ دار صادر ـ. 111 ـ ديوان عنترة. تأليف كرم البستاني ـ دار بيروت للطباعة والنشر ـ 1398 هـ. "ذ" 112 ـ ذيل تذكرة الحفاظ. أبو المحاسن محمد بن علي الدمشقي البغدادي "765" هـ ـ دار إحياء التراث العربي ـ بيروت ـ لبنان. "ر" 113 ـ الرد على الجهمية. عثمان بن سعيد الدارمي ت "280" هـ ط: 3 تحقيق زهير الشاويش ـ المكتب الإسلامي ـ. 114 ـ الرد على الجهمية والزنادقة. الإمام أحمد بن حنبل ت "241" هـ تحقيق عبد الرحمن عميرة ـ دار اللواء الرياض ـ. 115 ـ الرد على المنطقيين. لشيخ الإسلام ابن تيمية ـ ت "728" هـ ـ دار المعرفة للطباعة والنشر ـ بيروت ـ لبنان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 729 116 ـ رسائل إخوان الصفا وخلان الوفاء ـ دار صادر ـ بيروت. 117 ـ رسالة أبي الحسن الأشعري إلى أهل الثغر ـ مصور الجامعة الإسلامية رقم "2018": 118 ـ رسالة في الاعتقاد. لمحمد بن عبد الله بن أبي زمنين ت "378" هـ مصور الجامعة الإسلامية رقم 938". 119 ـ الروح لابن القيم ت "751" هـ تحقيق محمد إسكندر يلدا ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ لبنان. 120 ـ روح المعاني في تفسير القرآن العظيم. محمود الألوسي البغدادي ت "1270" هـ ـ دار إحياء التراث العربي ـ بيروت ـ لبنان. 121 ـ روضة المحبين لابن القيم ت "751" هـ ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ لبنان. 122 ـ الرسالة القشيرية. أبو القاسم القشيري ت "465" هـ ـ مكتبة ومطبعة محمد علي صبيح ـ القاهرة. 123 ـ الرسالة العرشية. لشيخ الإسلام ابن تيمية ت "728" هـ ضمن مجموعة الرسائل الكبرى ـ دار إحياء التراث العربي ـ. 124 ـ الرسالة المستطرفة. محمد بن جعفر الكتاني ت "1345" هـ ـ دار الفكر ـ بيروت ـ لبنان (1400) هـ. 125 ـ رياض الصالحين. أبو زكريا يحيى بن شرف النووي "676" هـ تحقيق عبد العزيز رباح ـ دار المأمون للتراث ـ 1402 هـ. "ز" 126 ـ زاد المسير في علم التفسير: عبد الرحمن بن الجوزي ت "596" هـ ط: 1 المكتب الإسلامي للطباعة والنشر ـ 1385 هـ. 127 ـ زاد المعاد في هدي خير العباد: للإمام ابن القيم ت "751" هـ ـ مطبعة مصطفى البابي الحلبي مصر ـ 1390 هـ. "س" 128 ـ سنن أبي داود. سليمان بن الأشعث السجستاني ت "275" هـ ط: 1 سنة 1371 هـ. 129 ـ سنن الترمذي. أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي ت "279" هـ ـ مطبعة المدني ـ مصر. 130 ـ سنن الدارمي. أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي ت "255" هـ ـ دار إحياء السنة النبوية ـ. 131 ـ سنن ابن ماجة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 730 أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني ت "275" هـ تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي ـ دار إحياء التراث العربي ـ 1395 هـ. 132 ـ سنن النسائي: أحمد بن شعيب بن علي النسائي ت "303" هـ ـ دار إحياء التراث العربي ـ بيروت ـ لبنان. 133 ـ السنة ـ لعبد الله بن الإمام أحمد ت "290" هـ. تحقيق محمد السعيد بن بسيوني زغلول ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ لبنان. 134 ـ السيرة النبوية: أبو محمد عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري ت "218" هـ تحقيق جماعة من العلماء ـ دار الكتب المصرية ـ. 135 ـ سير أعلام النبلاء. محمد بن أحمد الذهبي ت "748" هـ تحقيق شعيب الأرنؤوط وحسين الأسدي ـ طبعة مؤسسة الرسالة ـ 1401 هـ. "ش" 136 ـ شجرة النور الزكية في طبقات المالكية. محمد بن محمد مخلوف ـ دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع ـ بيروت ـ لبنان. 137 ـ شذرات الذهب في أخبار من ذهب. 138 ـ شذرات البلاتين من طيبات كلمات سلفنا الصالحين. تحقيق محمد حامد الفقي ـ مطبعة السنة المحمدية ـ القاهرة 1375 هـ. 139 ـ شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة. أبو القاسم: هبة الله بن الحسن بن منصور الطبري اللالكائي ت "418" هـ ـ دار طيبة الرياض ـ. 140 شرح الأصول الخمسة. عبد الجبار بن أحمد الهمذاني ت "415" هـ ط: 1 ـ مطبعة الاستقلال الكبرى ـ القاهرة 1384 هـ. 141 ـ شرح حديث النزول. لشيخ الإسلام ابن تيمية ـ ت "728" هـ المكتب الإسلامي ط: 5 سنة 1397 هـ. 142 ـ شرح الطحاوية. للعلامة ابن أبي العز الحنفي ت "792" هـ المكتب الإسلامي ط: 4 سنة 1391 هـ. 143 ـ شرح العقيدة الأصفهانية. لشيخ الإسلام ابن تيمية "728" هـ ط: 1 القاهرة ـ دار الكتب الحديثة ـ 1385 هـ. 144 ـ شرح العقائد النسفية. سعد الدين التفتازاني ت "793" هـ ـ المطبعة الخيرية بمصر ـ بلا تاريخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 731 145 ـ شرح الفقه الأكبر. لملا علي القاري ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ لبنان ط: 1 سنة 1404 هـ. 146 ـ شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر. للعلامة ابن القيم ـ ت "751" هـ ـ دار المعرفة للطباعة والنشر ـ بيروت ـ لبنان. 147 ـ شرح المواقف: علي بن محمد الجرجاني ت " 816" هـ طبع ـ دار السعادة بجوار محافظة مصر ـ 1325 هـ. 148 ـ شرح سنن أبي داود. للعلامة ابن القيم ت "751" هـ وهو مطبوع على حاشية عون المعبود ط: 2 سنة 1388 هـ ـ الناشر عبد المحسن صاحب المكتبة السلفية. 149 ـ شرح النووي على صحيح مسلم. يحيى بن شرف النووي ت "676" هـ ـ دار الفكر ـ بيروت ـ لبنان. 150 ـ الشريعة. لأبي بكر محمد بن الحسين الآجري ت "360" هـ ط: ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت لبنان. "ص" 151 ـ صحيح البخاري. أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري "256" هـ ـ دار إحياء الكتب العربية البابي الحلبي ـ وشركاه. 152 صحيح مسلم. أبو الحسن مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري ت " 261" هـ تحقيق فؤاد عبد الباقي ـ طبع البابي الحلبي ـ 1374 هـ. 153 ـ صحيح ابن خزيمة. محمد بن إسحاق بن خزيمة السلمي ت "311" هـ تحقيق محمد مصطفى الأعظمي طبع المكتب الإسلامي ـ الطبعة الأولى ـ 1395 هـ. 154 ـ صحيح الجامع الصغير. محمد ناصر الدين الألباني ـ المكتب الإسلامي ـ 1392 هـ. 155 ـ الصحاح للجوهري. إسماعيل بن حماد الجوهري ت "393" تحقيق أحمد عبد الغفور عطار ط: 2 سنة 1399 هـ ـ طبع على نفقة حسن عباس الشربتلي ـ. 156 ـ صفة الصفوة. أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي ت "597" هـ ط: 1 تحقيق محمد فاخر ـ محمد قلعه جي ـ مطبعة النهضة الحديثة ـ القاهرة سنة 1390 هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 732 157 ـ صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان. محمد بشير الشهسواني الهندي ت "1326" هـ ط: 3 ـ المطبعة السلفية ومكتبتها ـ سنة 1378 هـ. "ض" 158 ـ الضوء اللامع لأهل القرن التاسع. محمد عبد الرحمن السخاوي ت "902" هـ ـ منشورات مكتبة الحياة ـ بيروت ـ لبنان. "ط" 159 ـ طبقات الحفاظ للسيوطي. عبد الرحمن بن أبي بكر "911" هـ ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ لبنان. 160 ـ طبقات الحنابلة. محمد بن أبي يعلى ت "526ط هـ ـ دار المعرفة للطباعة والنشر ـ بيروت ـ لبنان. 161 ـ طبقات الشافعية الكبرى. عبد الوهاب بن عبد الكافي السبكي ت "771" هـ ط: 1 تحقيق محمود محمد الطناجي وعبد الفتاح محمد الحلو ـ عيسى البابي الحلبي وشركاه ـ 1384 هـ. 162 ـ الطبقات الكبرى لابن سعد. محمد بن سعد ت "230" هـ ـ دار صادر ـ بيروت ـ لبنان بدون تاريخ. 163 ـ طريق الهجرتين وباب السعادتين. للعلامة ابن القيم ت "751" هـ ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ لبنان. "ع" 164 ـ عارضة الأحوذي بشرح الترمذي. للعلامة ابن العربي المالكي ت "543" هـ ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ لبنان. 165 ـ العبودية. لشيخ الإسلام ابن تيمية ـ ت "728" هـ ـ المكتب الإسلامي للطباعة والنشر ـ. 166 ـ العقيدة الواسطية: لشيخ الإسلام ابن تيمية مع شرحها لمحمد خليل هراس ـ طبع الجامعة الإسلامية ـ. 167 ـ عقيدة الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة: للشيخ محمد بن عبد الوهاب ت "1206" هـ ـ المكتب الإسلامي ـ ط: 2 سنة 1391 هـ. 168 ـ عقيدة السلف وأصحاب الحديث: أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني ت "449" هـ "ضمن مجموعة الرسائل المنبرية" ـ الناشر محمد أمين دمج ـ بيروت ـ لبنان ـ بدون تاريخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 733 169 ـ العقائد الإسلامية: السيد سابق ـ دار الكتاب العربي ـ بيروت ـ لبنان. 170 ـ العلو للعلي الغفار: للإمام الذهبي ت "748" هـ ـ مطبعة العاصمة بالقاهرة ـ بدون تاريخ. 171 ـ علماء نجد خلال ستة قرون. عبد الله بن عبد الرحمن البسام ط: 1 سنة 1398 هـ ـ مكتبة النهضة مكة المكرمة. 172 ـ عمدة القاري شرح صحيح البخاري: أبو محمد محمود بن أحمد بن موسى العيني ت "855" هـ ـ دار الفكر ـ سنة 1399 هـ. 173 ـ عمل اليوم والليلة: أبو بكر بن السني ت "364" هـ دار المعرفة للطباعة والنشر ـ بيروت ـ لبنان 1399 هـ. 174 ـ عنوان المجد في تاريخ نجد: تأليف عثمان بن بشر النجدي الحنبلي ت "1288" هـ ـ مكتبة الرياض الحديثة. 175 ـ عون المعبود شرح سنن أبي داود: أبو الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي ط: 2 سنة 1388 هـ ـ الناشر محمد عبد المحسن الكتبي. "غ" 176 ـ غاية المرام في علم الكلام. تأليف سيف الدين الآمدي ت "631" هـ تحقيق حسن محمد عبد اللطيف ـ مطابع الأهرام التجارية القاهرة ـ 1391 هـ. "ف" 177ـ فتح الباري بشرح صحيح البخاري. لابن حجر العسقلاني ت "582" هـ ـ المطبعة السلفية ومكتبتها ـ القاهرة 1380 هـ. 178 ـ الفتح الرباني مع شرحه بلوغ الأماني: أحمد عبد الرحمن البناء ـ دار الشهاب ـ القاهرة ـ بدون تاريخ. 179 ـ فتح القدير: محمد بن علي الشوكاني ت "1250" هـ ـ دار المعرفة ـ بيروت ـ لبنان. 180 ـ فتح المجيد شرح كتاب التوحيد: عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ ت "1285" هـ ـ طبع إدارات البحوث العلمية ـ بالرياض 1403 هـ, الجزء: 1 ¦ الصفحة: 734 181 ـ الفرق بين الفرق: عبد القاهر البغدادي ت "429" هـ تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد ـ مكتبة محمد علي صبيح ـ القاهرة. 182 ـ الفروق في اللغة: الحسن بن عبد الله بن سهل ـ المعروف بأبي هلاب العسكري ت "بعد 395" هـ ط: 1 سنة 1393 هـ منشورات دار الآفاق ـ بيروت ـ لبنان. 183 ـ الفتوى الحموية الكبرى: لشيخ الإسلام ابن تيمة ت "728" هـ ط: 3 سنة 1398 هـ ـ المطبعة السلفية ومكتبتها ـ القاهرة. 184 ـ الفصل في الملل والأهواء والنحل. أبو محمد علي بن أحمد بن حزم الظاهري ت "456" هـ ط: 2 ـ دار المعرفة ـ بيروت ـ لبنان. 185 ـ الفوائد: للعلامة ابن القيم ت "751" هـ ـ المكتبة القيمة ـ بدون تاريخ. 186 ـ الفوائد البهية في تراجم الحنفية: محمد عبد الحي اللكنوي الهندي ـ دار المعرفة ـ بيروت ـ لبنان. 187 ـ فوات الوفيات والذيل عليها. محمد بن شاكر الكتبي ت "764" تحقيق د. إحسان عباس ـ دار صادر ـ بدون تاريخ 1880 ـ. 188 ـ الفهرست: لابن النديم ت "385" هـ ـ دار المعرفة ـ بيروت ـ لبنان. "ق" 189 ـ قرة عيون الموحدين في تحقيق دعوة الأنبياء والمرسلين. الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ ت "1285" هـ ـ مكتبة الرياض الحديثة. 190 ـ القاموس المحيط. مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي ت "817" هـ ـ دار الجيل ـ بيروت لبنان. 191 ـ قواعد الأحكام في مصالح الأنام: للعلامة العز بن عبد السلام ت "660" هـ ـ مكتبة الكليات الأزهرية ـ 1388 هـ. "ك" 192 ـ الكبائر. للإمام الذهبي ت "748" هـ ـ مطبعة الاستقامة ـ القاهرة ـ 1381 هـ. 193 ـ كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل. لابن خزيمة ت "311" هـ تحقيق محمد خليل هراس ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت لبنان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 735 194 ـ كتاب الزهد: للإمام أحمد بن محمد بن حنبل ت "241" هـ ـ مكتبة وهبة ـ 1400 هـ. 195 ـ كتاب العرش وما ورد فيه: محمد بن عثمان بن أبي شيبة ت "297" هـ ـ مصور الجامعة الإسلامية ـ رقم "559" ممجموع 1. 196 ـ الكشاف عن حقائق التنزيل: محمود بن عمر الزمخشري ت "538" هـ البابي الحلبي ـ الطبعة الأخيرة ـ 1392 هـ. 197 ـ كشف الشبهات "ضمن مجموعة التوحيد": للشيخ محمد بن عبد الوهاب ت "206" هـ ـ مكتبة الرياض الحديثة. 198 ـ كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون: مصطفى عبد الله الشهير بحاجي خليفة ـ المثنى ـ بيروت. 199 ـ الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية: للعلامة ابن القيم ت "751" هـ ـ مطبعة التقدم العلمية ـ مصر ـ 1344 هـ. 200 ـ كتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار ـ المشهور بالخطط المقريزية: أحمد بن علي المقريزي ت "845" هـ ـ دار صادر ـ بيروت ـ بدون تاريخ. 201 ـ كلمة الإخلاص ـ لابن رجب ـ ت "795" هـ ط: 4 ـ المكتب الإسلامي. 202 ـ الكتاب المقدس المتضمن كتب العهد القديم والجديد. دار الكتاب المقدس ـ القاهرة. 203 ـ الكامل في ضعفاء الرجال. عبد الله بن عدي الجرجاني ت "365" هـ ـ دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع. 204 ـ الكامل في التاريخ. أبو الحسن علي بن محمد ـ الشهير بابن الأثير ـ ت "630" هـ ـ دار صادر ـ بيروت. 205 ـ الكواشف الجلية عن معاني الواسطية. عبد العزيز المحمد السلمان ط: 4 ـ بدون تاريخ. 206 ـ الكواكب السائرة بأعيان المائة العاشرة: نجم الدين الغزي ت "1061" هـ تحقيق جبرائيل سليما جبور ـ منشورات دار الآفاق الجديدة ـ ط: 2 سنة 1979م. "ل" 207 ـ اللباب في تهذيب الأنساب: أبو الحسن علي بن محمد ـ الشهير بابن الأثير ـ ت "630" هـ ـ دار صادر ـ بيروت. 208 ـ لباب التأويل في معاني التزيل ـ المشتهر بتفسير الخازن. علي بن محمد بن إبراهيم البغدادي ت "725" هـ ـ المكتبة التجارية بمصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 736 209 ـ لباب النقول في أسباب النزول. جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي ت "911" هـ ـ دار إحياء العلوم ـ بيروت. 210 ـ لسان العرب: جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور ت "711" هـ ـ دار صادر ـ بيروت. 211 ـ لسان الميزان: للعلامة ابن حجر العسقلاني ت "852" هـ ـ منشورات مؤسسة الأعلمي ـ بيروت لبنان. 212 ـ لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد: أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي "620" هـ ـ المطبعة السلفية ومكتبتها القاهرة ـ 1370 هـ. 213 ـ لوامع الأنوار البهية: محمد بن أحمد السفاريني ت "1188" هـ ـ طبع المنار ـ 1325 هـ. "م" 214 ـ مبادئ الإسلام: أبو الأعلى المودودي ـ مؤسسة الرسالة ـ 1397 هـ. 215 ـ متشابه القرآن: عبد الجبار بن أحمد ت "415" هـ تحقيق عدنان زرزور ـ القاهرة ـ دار التراث ت 1969م. 216 ـ مجاز القرآن: أبو عبيدة معمر بن المثنى التيمي ت "210" هـ ط: 2 مكتبة الخانجي ـ دار الفكر. 217 ـ مجموعة التوحيد ـ لابن تيمية والشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ المكتبة السلفية. 218 ـ مجموعة التوحيد: للشيخ محمد بن عبد الوهاب ت "1206" هـ ـ مكتبة الرياض الحديثة. 219 ـ مجموعة الرسائل الكبرى: لشيخ الإسلام ابن تيمية ت "728" هـ ـ دار إحياء التراث العربي. 220 ـ مجموعة الرسائل المنبرية: إدارة الطباعة المنبرية سنة 1343 هـ الناشر محمد أمين دمج ـ بيروت. 221 ـ مجموعة الرسائل والمسائل: لشيخ الإسلام ابن تيمية ـ مطبعة المنار ـ مصر ـ الطبعة الأولى ـ 1341 هـ. 222 ـ مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: علي بن أبي بكر الهيثمي ت "807" هـ ط: 3 دار الكتاب العربي ـ بيروت لبنان 1402 هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 737 223 ـ محاسن التأويل: محمد جمال الدين القاسمي ت "1332" هـ ـ دار الفكر ـ بيروت. 224 ـ محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين: محمد بن عمر الرازي ت "606" مكتبة الكليات الأزهرية ـ القاهرة ـ مراجعة طه عبد الرؤوف. 225 ـ مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم: عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب ط: 2 القاهرة ـ المطبعة السلفية ـ 1396 هـ. 226 ـ مختصر الصواعق المرسلة: للعلامة ابن القيم ـ ت "751" هـ ـ مكتبة الرياض الحديثة. 227 ـ مختصر منهاج السنة: أبو عبد الله محمد بن عثمان الذهبي ت "748" هـ ـ مكتبة دار البيان ـ تحقيق محب الدين الخطيب. 228 ـ مختار الصحاح: محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي ت "666" هـ ـ دار الكتاب العربي ـ بيروت لبنان. 229 ـ المخصص لابن سيدة: أبو الحسن علي بن إسماعيل النحوي ت "733" هـ ـ مطبعة دار الكتاب المصرية ـ القاهرة. 230 ـ مدارج السالكين: للعلامة ابن القيم ت "751" هـ ـ دار الفكر ـ تحقيق محمد حامد الفقي. 231 ـ مراتب الإجماع: علي بن أحمد بن سعيد بن حزم ت "456" هـ ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت لبنان. 232 ـ المستدرك على الصحيحين. أبو عبد الله الحاكم النيسابوري ت "405" هـ. 233 ـ المصباح المنير. أحمد بن محمد بن علي المقري الفيومي ت "770" هـ المكتبة العلمية ـ بيروت لبنان. 234 ـ المصنف: عبد الله بن محمد بن أبي شيبة ت "235" هـ ـ الدار السلفية بومباي ـ الهند ـ ط: 1 سنة 1403 هـ. 235 ـ معجم البلدان: شهاب الدين ـ ياقوت بن عبد الله الحموي الرومي ت "1229" هـ ـ دار صادر ـ بيروت. 236 ـ معجم الأدباء: أبو عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي الرومي ـ دار إحياء التراث العربي ـ بيروت لبنان. 237 ـ المعجم الصغير للطبراني: سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني ت "360" هـ ـ المكتبة السلفية ـ ط: 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 738 238 ـ المعجم الكبير: سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني ت "360" هـ ـ مطبعة الأمة بغداد ـ تحقيق عبد الحميد السلفي. 239 ـ المعجم الوسيط: إخراج إبراهيم أنيس وآخرين ط: 2 ـ القاهرة الهيئة العامة للكتاب ـ 1391 هـ. 240 ـ معجم مقاييس اللغة: أبو الحسين أحمد بن فارس ت "395" هـ ط: 2 ـ البابي الحلبي ـ 1390 هـ. 241 ـ معجم المؤلفين تراجم مصنفي الكتب العربية: عمر رضا كحالة ـ دار إحياء التراث العربي ـ لبنان بيروت. 242 ـ معارج الألباب في مناهج الحق والصواب: حسين بن مهدي النعمي ت "1187" هـ ـ مكتبة المعارف الرياض. 243 ـ معارج القبول: الشيخ حافظ بن أحمد حكيم ت " " ـ المطبعة السلفية ومكتبتها. 244 ـ معالم التنزيل "المسمى تفسير البغوي": أبو محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي الشافعي ت "516" ـ المكتبة التجارية الكبرى مصر. 245 ـ معالم السنن: للخطابي حمد بن محمد بن إبراهيم الخطاب ت "388" هـ ـ دار الحديث للطباعة ـ بيروت ـ لبنان 1388 هـ. 246 ـ المعلقات السبع مع شرحها: الحسين بن أحمد الزوزني ـ دار صادر ـ بيروت ـ لبنان. 247 ـ المغني في أبواب التوحيد والعدل: عبد الجبار بن أحمد ت "415" هـ ـ طبع المؤسسة المصرية للتأليف والترجمة ـ بلا تاريخ. 248 ـ المفردات في غريب القرآن: الحسين بن محمد ـ المعروف بالراغب الأصفهاني ت "502" هـ ـ مصطفى البابي الحلبي. 249 ـ مفتاح دار السعادة: للعلامة ابن القيم ت "751" هـ ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ لبنان. 250 ـ مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين: أبو الحسن الأشعري ت "330" هـ ـ مكتبة النهضة المصرية. 251 ـ المنظم في أخبار الملوك والأمم: لأبي الفرج بن الجوزي ت "597" ـ دار الثقافة بيروت ـ لبنان. 252 ـ منهاج السنة النبوية: لشيخ الإسلام ابن تيمية ت "728" هـ ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ لبنان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 739 253 ـ المنجد في اللغة والأعلام: دار المشرق بيروت ـ ط: 26 تاريخ 1973م. 254 ـ المنهاج في شعب الإيمان: أبو عبد الله الحسين بن الحسن الحليمي ت "403" هـ ط: 1 سنة 1399 هـ. 255 ـ موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان: نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ لبنان. 256 ـ الموطأ: للإمام مالك بن أنس ـ "179" هـ ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت لبنان 1405 هـ. 257 ـ المواقف في علم الكلام: عبد الرحمن الإيجي ت "756" هـ ـ عالم الكتب ـ بيروت. 258 ـ ميزان الاعتدال: محمد بن أحمد الذهبي ت "748" هـ تحقيق علي محمد البجاوي ـ دار المعرفة ـ بيروت ـ لبنان. "ن" 259 ـ النبوات: لشيخ الإسلام ابن تيمية ت "728" هـ ـ دار القلم بيروت ـ لبنان. 260 ـ النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة. جمال الدين يوسف بن تعري بردي ت "1174" هـ ـ دار الكتب ـ 1391 هـ. 261 ـ نقض تأسيس الجهمية لابن تيمية ت "728" هـ ط: 1 ـ مطبعة الحكومة بمكة ـ 1391 هـ. 262 ـ نقض المنطق لشيخ الإسلام ابن تيمية: مكتبة السنة المحمدية ـ تصحيح ـ محمد حامد الفقي. 263 ـ نهاية الأرب في فنون الأدب: أحمد بن عبد الوهاب النويري ت "733" هـ ـ دار الكتب المصرية ـ 1342 هـ. 264 ـ النهاية في غريب الحديث والأثر: لابن الأثير الجزري ت "606" هـ ـ المكتبة الإسلامية. 265 ـ النهاية لابن كثير: ت "774" هـ ط: 1 مؤسسة النور ـ الرياض ـ 1388 هـ. 266 ـ نيل الوطر من تراجم رجال اليمن في القرن الثالث عشر: محمد بن محمد زبارة ـ المطبعة السلفية ومكتبتها ـ القاهرة ـ 1342 هـ. "هـ" 267 ـ هدي الساري مقدمة فتح الباري: للحافظ ابن حجر العسقلاني ت "852" هـ ـ المطبعة السلفية ومكتبتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 740 268 ـ الهدية السنية التحفة الوهابية النجدية: جمع وترتيب "الشيخ سليمان بن سحمان النجدي" ـ مكتبة التوفيق. 269 ـ هدية العارفين: إسماعيل باشا البغدادي ـ منشورات مكتبة المثنى ـ بيروت. "و" 270 ـ الوابل الصيب من الكلم الطيب: للعلامة ابن القيم ت "751" هـ ـ ط: 4 ـ المطبعة السلفية ومكتبتها ـ 1398 هـ. 271 ت وفيات الأعيان وأنباء الزمان. أبو العباس أحمد بن محمد بن أبي بكر بن خلكان ت "681" هـ ـ البابي الحلبي ـ سنة 1310 هـ. 272 ـ الوفاء بأحوال المصطفى: عبد الرحمن بن الجوزي ت "597" هـ تحقيق مصطفى عبد الواحد ـ مطبعة السعادة مصر ـ 1386 هـ. "ي" 273 ـ يقظة أولي الاعتبار: صديق حسن خان ت "1307" هـ ـ مطبعة الامتياز ط: 1 سنة 1398 هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 741