الكتاب: قواطع الأدلة في الأصول المؤلف: أبو المظفر، منصور بن محمد بن عبد الجبار ابن أحمد المروزى السمعاني التميمي الحنفي ثم الشافعي (المتوفى: 489هـ) المحقق: محمد حسن محمد حسن اسماعيل الشافعي الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان الطبعة: الأولى، 1418هـ/1999م عدد الأجزاء: 2   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- قواطع الأدلة في الأصول السمعاني، أبو المظفر الكتاب: قواطع الأدلة في الأصول المؤلف: أبو المظفر، منصور بن محمد بن عبد الجبار ابن أحمد المروزى السمعاني التميمي الحنفي ثم الشافعي (المتوفى: 489هـ) المحقق: محمد حسن محمد حسن اسماعيل الشافعي الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان الطبعة: الأولى، 1418هـ/1999م عدد الأجزاء: 2   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] المجلد الأول مقدمة المؤلف ... قال الشيخ. بسم الله الرحمن الرحيم1. وهو حسبي وكفى رب يسر ولا تعسر. الحمد لولي الحمد ومستحقه وصلواته على خيرته من خليقته محمد وآله. أما بعد2 فإني رأيت الفقه أصل العلوم وأشرفها قال الله تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] أمر الله تعالى بالتفقه في الدين وجعله فرضا على فرق الناس قاطبة ليقوم طائفة من كل فرقة به وينتصبوا في قومهم منصب الانبياء في اممهم منذرين ومحذرين دعاة إلى الله تعالى قائمين بدينه ياتين سبيله موضحين للخلق نهجه فصار الفقهاء خلفاء الرسل انذارا وتحذيرا وارثى علومهم قياما به وحملا سالكى طريقتهم بثا ونشرا وهذه مرتبة لا توجد لفرقة من الفرق وناهيك بها من مرتبة ولأن علم الفقه علم على منهج الازدياد لأنه العلم بأحكام الحوادث ولا حصر ولا حد للحوادث ولا حصر ولا حد للعلم بأحكامها ومواجبها وعلم الأصول في الديانات وأن كان علما شريفا في نفسه وهو أصل الأصول وقاعدة كل العلوم ولكنه علم محصور مبناه لأنه معارف محصورة أمر الله تبارك وتعالى بها لا مزيد فيها ولا نقصان منها وأما علم الفقه فعلم.   1 الباء فيه قيل: إنها زائدة فلا تحتاج إلى ما تتعلق به أو للاستعانة أو للمصاحبة متعلقة بمحذوف اسم فاعل خبر مبتدأ محذوف أو فعل أي: أؤلف أو أبدأ أو حال من فاعل الفعل المحذوف أي أبتدئ متبركا ومستعينا بالله أو مصدر مبتدأ خبره محذوف أي ابتدئى باسم الله ثابت والله علم ذات الواجب والمستحق لجميع المحامد وأكثر أهل العلم على أنه اسم الله الأعظم. والرحمن الرحيم: اسمان بنيا للمبالغة من رحم بتنزيله منزلة اللازم أو بجعله لازما ونقله إلى فعل بالضم. انظر القاموس المحيط للفيروزآبادي 4/292 - 344 كشاف القناع للشيخ البهوتي 1/10, 11 قيد الطبع بتحقيقنا. 2 تسمى فصل الخطاب انظر السبع كتب مفيدة لعلوي السقاف ص 62. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 مستمر على ممر الدهور وعلى تقلب الاحوال والاطوار بالخلق لا انقضاء وانقطاع له وقد جعل الله تعالى اجتهاد الفقهاء في الحوادث في مدرج الوحى في زمان الرسل صلوات الله عليهم فقد كان الوحى هو المطلوب فى زمان الرسل عليهم السلام كشان أحكام الحوادث وحمل للخلق عليها فحين انقطع الوحى وانقضى زمانه وضع الله تبارك وتعالى الاجتهاد من الفقهاء فى موضع الوحى ليصدر منه بيان أحكام الله تعالى ويحمل الخلق عليها قبولا وعملا ولا مزيد على هذه المنقبة لا متجاوز عن هذه المرتبة: شاء وزاد الله جنته سؤددا ... وذلك مجد يملأ الحجر واليدا نعم وما يشبه الفقيه إلا بغواص في بحر در كلما غاص في بحر في بحر فطنته استخرج درا وغيره يستخرج بالخراز وطالب الزيادة في منهج الزيادة معان منصور مطالب الزيادة على مالايزيد عليه مبعد مخذول والله تعالى يفتح عين بصيرة من احب عباده بطوله وفضله ويعمى عين من يشاء بقهره وعدله وقد سبقت منى مصنفات في مسائل الخلاف التي هي بيننا وبين اصحاب الراي نبهت فيها على معاني الفقه واستخرجت لطالبيها قلائد1 وقرائد2 طالما كانوا في طلبها فاعتاصت عليهم إلى أن يسر الله ذلك وتمهدت له قواعدها وطابت لهم مشارعها ونسقت معاني الفقه نسوقا وتعرقت عروقا اظن أن لامزيد عليها ولامحيد للمحققين عنها وقد كان جماعة من اصحابي احسن الله تعالى لهم التولي والحياطة يطلبون مجموعا في أصول الفقه يستحكم لهم بها معانيه ويقوى افرعها ويجتمع اشدها وينسق فروعها ويرسخ أصولها فإن من لم يعرف أصول معاني الفقه لم ينج من مواقع التقليد وعد من جملة العوام وما زلت طول ايامي اطالع تصانيف الاصحاب في هذا الباب وتصانيف غيرهم فرأيت أكثرهم قد قنع بظاهر من الكلام ورائق من العبارة لم يداخل حقيقة الأصول على مايوافق معاني الفقه وقد رايت بعضهم قد اوغل وحلل وداخل غير أنه حاد عن محجة الفقهاء في كثير من المسائل3 وسلك طريق المتكلمين الذين هم أجانب عن الفقه ومعانيه بل لا.   1 ما يوضع في اليد. 2 ما يوضع في العنق. 3 جميع مسألة وهي لغة السؤال. وعرفا مطلوب خيري يبرهن عليه في العلم انظر السبع كتب مفيدة لعلوي السقاف ص 62. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 قبيل لهم فيه ولا وفير ولا نقير ولا قطمير ومن تشبع بما لم يعطه فقد لبس ثوبى زور وعادة السوء قطاع لطريق الحق وصم عن سبيل الرشد واصابة الصواب فاستخرت الله تعالى عند ذلك وعمدت إلى مجموع مختصر في أصول الفقه اسلك فيه طريقة الفقهاء من غير زيغ عنه ولا حيد ولاميل ولا أرضى بظاهر من الكلام ومتكلف من العبارة معول على السامعين ويسبى قلوب الأعتام الجاهلين لكن اقصد لباب اللب وصفو الفطنة وزيدة الفهم وأنص على المعتمد عليه في كل مسألة وأذكر من شبه المخالفين بما عولوا عليها وأخص ما ذكره القاضي أبو زيد الدبوسي في تقويم الأدلة بالايراد وأتكلم بما تزاح معه الشبهة وينحل معه الاشكال بعون الله تعالى وأشير عند وصولي إلى المسائل المشتهرة بين الفريقين إلى بعض المسائل التي تتفرع لتكون عونا للناظر وحين أصل إلى باب القياس وما يتشعب منه من وجوه الكلام ومأخذ الحجة وطريقة الأسئلة والأجوبة ووجوه الأعتراض والأخذ الخصوم وتوقيف المجادلين على سواء الصراط وطلب ملازمة حدود النظر وسلوك الجدد وترك الحيد ومجانبة الزيغ والأخذ والمبين المحكم من مخاييل الظنيات وما تعلق به الاصحاب بمحض الاشتباه في كثير من المسائل ووجه صحة ذلك وفساده فسأشرح عند ذلك وأبسط زيادة بسط وشرح على حسب ما يسمح به الخاطر ويجود به الوقت والله المعين على ذلك والميسر له بمنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 القول في مقدمات أصول الفقه . اعلم أن أول ما نبدأ في هذا الفصل هو معرفة الفقه وأصوله ثم نبنى عليه ما يتشعب منه فنقول. الفقه في اللغة من قولهم فقهت الشيء إذا ادركته وادراكك علم الشيء فقه1. قال أبو الحسن بن فارس وقيل هو في اللغة المعرفة بقصد المتكلم يقول القائل فقهت كلامك أي عرفت قصدك به2. وأما في عرف الفقهاء فهو العلم بأحكام الشريعة. وقيل جملة من العلوم بأحكام شرعية. فإن قال قائل أن في الفقه ظنيات كثيرة فكيف يسمى علما قلنا ما كان فيه من الظنيات فهى مستندة إلى العلميات ولأن الظن منى يسمى علما لأنه يؤدي إليه قال الله تعالى: {يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ} أي يعلمون. وقيل أن الفقه هو أستنباط حكم المشكل من الواضح يقال فلان يتفقه إذا أستنبط علم الأحكام وتتبعها من طريق الأستدلال قال الله تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ.   1 قال الفيروزآبادي الفقه: بالكسر العلم بالشيء والفهم له والفطنة وغلب على علم من جهة لشرفه انظر القاموس المحيط للفيروزآبادي 4/289. قال الشيخ الآمدي الأشبه أن الفهم مغاير للعلم إذ الفهم عبارة عن جودة الذهن من جهة تهيئة لاقتناص كل ما يريد عليه من المطالب وإن لم يكن المتصف به عالما كالعامي الفطن انظر أحكام الأحكام للآمدي 1/7. 2 وهذاقاله فخر الدين الرازي في المحصول والمنتخب انظر المحصول لفخر الدين الرازي 1/9. وقال الشيخ أبو إسحاق في شرح اللمع هو فهم الأشياء الدقيقة فلا يقال: فقهت أن السماء فوقنا. وقال الآمدي هو الفهم انظر أحكام الأحكام 1/7 قال الشيخ الأسنوي عن قول الآمدي وهو الصواب فقد قال الجوهري الفقه الفهم تقول فقهت كلامك بكسر القاف أفقهه بفتحها في المضارع أي فهمت أفهم قال الله تعالى: {فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} وقال تعالى: {مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ} وقال تعالى: {وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} انظر نهاية السول للأسنوي 1/8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 طَائِفَةٌ} الآية والدليل على أن التفقه أصل الاستنباط والاستدلال على الشيء بغيره حديث زياد بن لبيد قال ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا وقال ذلك أوان ذهاب العلم قلت: كيف يذهب العلم وكتاب الله عندنا نقرأه ونقرأه ابنائنا فقال: "ثكلتك أمك يا زياد أن كنت لأراك من فقهاء المدينة أو من افقه رجل بالمدينة أو ليس اليهود والنصارى يقرءون التوراة والأنجيل ولا يعلمون بشىء مما فيهما" 1 فدل قوله: "أن كنت اعدك من فقهاء المدينة" على أنه لما لم يستنبط علم ما اشكل عليه من ذهاب العلم مع بقاء الكتاب بما شاهده من زوال العلم عن اليهود والنصارى مع بقاء التوراة والأنجيل عندهم حرج عن الفقه فهذا يدل على ماذكرناه من أن الفقه هو استنباط حكم المشكل من الواضح وعلى هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "رب حامل فقه غير فقيه" 2 أي غير مستنبط ومعناه أنه يحمل الرواية من غير أن يكون له أستدلال ولا أستنباط فيها. "وأما أصول الفقه" فهي من حيث اللغة ما يتفرع عليه الفقه3 وعند الفقهاء هي طريق الفقه التي يؤدى الاستدلال بها إلى معرفة الأحكام الشرعية4 وهي تنقسم إلى قسمين إلى دلالة وإمارة فالدلالة ما أدى النظر الصحيح فيه إلى العلم5 والإمارة ما أدى النظر الصحيح فيه إلى غالب الظن6 ويقال في حد إلا صل ما ابتنى عليه غيره والفرع ما ابتنى على غيره. وقيل الأصل مايقع التوصل به إلى معرفة ما وراءه والعبارتان مدخولتان لأن من أصول الشرع ما هو عقيم لا يقبل الفرع ولا يقع به التوصل إلى ما وراءه بحال مثل.   1 أخرجه الترمذي في العلم 5/31 - 32 الحديث 2653 وابن ماجه في الفتن 2/1344 الحديث 4048 والإمام أحمد في مسنده 6/30 الحديث 24045. 2 أخرجه أبو داود في العلم 3/322 الحديث 366 والترمذي في العلم 5/33, 34 الحديث 2656 وابن مادجه في المقدمة 1/85 الحديث 231 والدارمي في المقدمة 1/86 الحديث 228 والإمام أحمد في مسنده 1/437 5/183. 3 تقدم الكلام على هذا في أول الكتاب. 4 تقدم الكلام عنه أيضا في أول الكتاب. 5 أو يتوصل به إلى معرفة المدلول انظر الكفاية في الجدل لإمام الحرمين ص 46 تحقيق دكتور فوقية حسين محمود. 6 كالغيم بالنسبة إلى المطر فإنه يلزم من العلم به الظن بوجودالمطر والفرق بين الأمارة والعلامة أن العلامة ما لا ينفك عن الشيء كوجود الألف واللام على الاسم والأمارة تنفك عن الشيء كالغيم بالنسبة للمطر التعريفات للجرجاني ص 29, 30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 ماورد به الشرع من دية الجنين والقسامة وتحمل العقل فهذه أصول ليست لها فروع فالأولى أن يقال أن الأصل كل ما يثبت دليلا في ايجاد حكم من أحكام الدين وإذا حد هذا فيتناول ما جلب فرعا أو لم بجلبه ثم اختلفوا في عدد الأصول قال عامة الفقهاء الأصول أربعة الكتاب والسنة واجماع الأمة والعبرة واختصر بعضهم فقال دلائل الشرع قسمان أصل ومعقول الأصل فالأصل الكتاب والسنة والأجماع ومعقول الأصل هو القياس وأشار الشافعي رحمه الله أن جماع الأصول نص ومعنى فالكتاب والسنة والأجماع داخل تحت النص والمعنى هو القياس وقد ضم بعضهم العقل إلى هذه الأصول وجعله قسما خامسا. وقال أبو العباس بن القاص الأصول سبعة الحس والعقل والكتاب والسنة والأجماع والعبرة واللغة والصحيح أن الأصول أربعة على ما قدمنا وأما العقل فليس بدليل يوجب شيئا وإنما يكون به درك الأمور فحسب أو هو آلة المعارف وأما الحس فلا يكون دليلا بحال والأمر فيه بين لأن الحس يقع فيه درك الأشياء الحاضرة فهي مالم يوجد كونا ولم يشاهد عينا فلا يكون للحس فيها تأثير وأما اللغة فهي مدرجة اللسان وفطنة لمعاني الكلام وأكثر ما فيها أنها عبارة عن الشيء باسمه تمييزا له عن غيره بوضعه ولاحظ لأمثال هذا في ايجاب شيء واثبات حكم وإذا عرفنا الفقه وأصوله فلا بد من معرفة العلم لأنا بينا أن الفقه هو العلم بأحكام الشريعة فنقول العلم على ضربين ضروري ومكتسب ونعنى به العلم الذي هو يحدث فأما العلم القديم الذي هو للباري عز اسمه فلا نوصفه بواحد منهما فأما علم الاضرار فضربان: أحدهما: ما كان مبدئا في النفوس كالعلم بأن المسمى لا يخلو من وجود أو عدم وأن الموجود لا يخلو من حدوث أو قدم وأن من المستحيل اجتماع الضدين وكون الجسم في محلين وزيادة الواحد على الأثنين وعلى هذا علم الأنسان بأحوال من نفسه من صحة وسقم وقوة وضعف وشجاعة وجبن ونفور وميل وغير ذلك وهذا النوع من العلم يدرك ببديهة العقل من غير أن يقوم له سبب. والضرب الثاني: ما كان واقعا عن درك الحواس كالاشخاص المدركة بالبعد والاصوات المدركة بالسمع والطعوم المدركة بالذوق والروائح المدركة بالشم والاجسام المدركة باللمس ويدخل في هذا الضرب العلم بالبلدان التي لم يحضرها والوقائع التي لم يشهدها وكذلك العلم بورود الرسل صلوات الله عليهم ودعائهم إلى الله عز وجل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 وتكذيبهم وتصديقهم وأمثال هذا تكثر وضربى هذا العلم مدرك بغير نظر ولا استدلال وحده ما لا يمكن للعالم به نفيه عن نفسه بشك أو شبهة وأما العلم المكتسب فهو الواقع عن نظر واستدلال وهو على ضربين مسموع ومعقول فالمسموع ما أخذ عن توقيف صار به أصلا والمعقول ما أخذ عن اجتهاد صار به فرعا واختلفوا في حد العلم فقال بعضهم تبين المعلوم أو معرفة المعلوم أو درك المعلوم على ما هو به والأحسن هو اللفظ الأخير والذي قاله بعضهم أنه اثبات الشيء على ما هو به فاسد لأن المعدوم معلوم وهذا الحد يقتضى أن يكون شيئا وهو ليس بشيء عند أهل السنة والذي قاله بعضهم أنه اعتقاد الشيء على ما هو عليه باطل لأن الله تعالى مما لم يعلم على مانطق به الكتاب والسنة ولا نطلق عليه الاعتقاد بحال بل هو من صفات المخلوقين وإذا لم يكن الحد جامعا لم يكن صحيحا وهذا الحد حد المعتزلة وهم ضلال في كل ما ينفردون به وأما من حيث اللغة قال ابن فارس هو من قوله علمت الشيء وعلمت به وهو عرفانه على ما هو به يقال علمته علما قال وقد يكون اشتقاقه من العلم والعلامة وذلك لأن العلامة أمارة مما يميز بها الشيء عن غيره وكذلك العلم يميز به صاحبه عن غيره وعلى هذا قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} [الزخرف: 61] أي نزول عيسى بن مريم به يعرف قرب الساعة وقراءة قوم: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} أي أمارة ودلالة. "وأما الجهل" فهو اعتقاد المعلوم على خلاف ما هو به ولابأس بلفظ الاعتقاد في حد الجهل بخلاف العلم على ما سبق. "وأما الشك" فهو الوقوف بين منزلتي الجهل والعلم وقيل تجويز أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر فإذا ظهرت المزية لأحدهما على الآخر فهو ظن ويقال غلبه احد طرفي التجويز فإذا قوى سمى غالب الظن وقد ورد الظن بمعنى اليقين وقد ورد بمعنى الشك بدليل قوله تعالى: {إِنْ هُمْ إلا يَظُنُّونَ} [الجاثية: 24] أي يشكون فاليقين منه ما كان له سبب دل عليه والشك منه ماخطر بالقلب من غير سبب يدل عليه. فإن قال قائل إنكم قلتم أن الفقه هو العلم بأحكام الشريعة فما أحكام الشريعة قلنا هي المنقسمة إلى كون الفعل واجبا ومندوبا إليه ومباحا ومحظورا ومكروها وليست الأحكام هي الأفعال بل هي مضافة إلى الأفعال يقال أحكام الأفعال والشيء لا يضاف إلى نفسه فالواجب مايثاب على فعله ويعاقب على تركه وهو في اللغة من. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 السقوط1 قال الله تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج: 36] أي سقطت فكأنه الشيء الذي سقط على المخاطب به فلزمه وأثقله كما يسقط عليه الشيء فلا يمكن دفعه عن نفسه والفرض مثل الواجب يقال فرضت عليك كذا أي اوجبته قال الله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} [البقرة: 197] أي أوجب على نفسه ومنه قيل لسهام الميراث فريضة. وأما الندب: فهو ما فيه ثناء على فعله ولا يعاقب على تركه وأصله في اللغة هو المدعو له والمرغب فيه2 يقال ندبته لكذا فانتدب له والنفل قريب من الندب إلا أنه دونه في المنزلة والنافلة من حيث اللغة الزيادة بعد الواجب وأصله من النفل وهو العطاء ومنه قول لبيد أن تقوى ربنا خير نفل. والجائز: ما لا ثواب في فعله ولا عقاب في في تركه وأصله من جزت المكان إذا عبرته كأنه الشيء إذا وقع جاز ومضى ولم يحبسه مانع. والحلال: هو الموسع في إثباته. وأما المحظور: فهو ممنوع فعله وأصل الحظرا المنع ومنه الحظيرة التي تفعل للدواب لجمعها ومنعها من التفرق وكذلك الحرام هو الممنوع من إتيانه ومنه المحروم وهو الذي منع سعة الرزق ويقال الحرام والمحظور ما يعاقب على فعله. والمكروه: ما تركه اولى من فعله. والصحيح: ما يتعلق به النفوذ ويتحصل به المقصود. والفاسد: مالا يتعلق به النفوذ ولا يحصل به المقصود. والصواب: [ما] 3 أصيب به المقصود بحكم الشرع. والخطا: نقيض الصواب في اللغة معناه مخالفة القصد والعدول عنه إلى غيره. والحق يستعمل على وجهين أحدهما بمعنى الصواب يقال حق عليك أن تفعل كذا أي واجب والطاعة4 مأخوذة من الطوع والأنقياد ومعناها تلقى الأمر بالقبول والمعصية ضد الطاعة.   1 انظر القاموس المحيط 1/136. 2 قال الشيخ الفيروزآبادي ندبه إلى الأمر كنصره دعاه وحثه انظر القاموس المحيط 1/131. 3 سقط من الأصل. 4 هذا هو المعنى الثاني للحق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 والحسن: كل فعل إذا فعله الفاعل لا يستحق الفاعل له ذما. والقبح: كل فعل إذا فعله الفاعل استحق بفعله الذم. واذا عرضنا انقسام أحكام الشرع فنقول العلم بأحكام الشريعة ضربان: أحدهما: ما وجب فرض العلم به على الأعيان وهو ما لا يخلو مكلف من التزامه والعمل به من أفعال وتروك كالصوم والصلاة ووجوب الزكاة والحج لمن يجد المال وتحريم الزنا واباحة النكاح وتحريم الربا واباحة البيع وتحريم الخمر والقتل والسرقة وكذلك كل ما يكثر مواقعته من المحظورات ويجب على كل مكلف أن يعلم وجوبها عليه لاستدامة التزامها واختلفوا في عمله بوجوبها هل يجب أن يكون عن علمه بأصولها ودلائلها فذهب بعضهم إلى وجوب علمها بأصولها ودلائلها فيكون فرض العلم بأصولها على الأعيان كما كان فرض أحكامها على الأعيان وذهب بعضهم إلى أن فرض العلم بأصولها ساقط عنهم لأن الواجب عليهم العمل وأما العلم بالدلائل فيختص بها العلماء وهذا الوجه اوسع وأسهل وهو الأولى. والضرب الثاني ما كان فرض العلم به على الكفاية وهو ما عدا النوعين من الأحكام التي تجوز أن يخلوالمكللف من التزامها ومعنى الفرض على الكفاية أنه يجب أن ينتدب لعلمه قوم في كل عصر فيرجع من يلزمه في حكمه إلى من يعلمه وإنما لم يجب على الأعيان لأن العلم بها لا يكون إلا مع الانقطاع إليها فإذا أوجبنا على كل ذلك اختل أمر المصالح التي هي مصالح الدنيا لأنهم إذا انقطعوا إلى العلم لم يتفرغوا للقيام بمصالح الدنيا فكان الواجب على الكفاية ليقوم به قوم والباقون يقومون بمصالح الدنيا فتنتظم على هذا الوجه مصالح الدين والدنيا جميعا ويجب أن يجتمع العلم بالأصول والأحكام في كل واحد من أهل الكفاية ولا يختص بكفاية العلم بالأحكام فريق وبكفاية العلم بالأصول فريق فإن تفرد بعلم الأحكام فريق وبعلم الأصول فريق لم تسقط بواحد منهما فرض الكفاية في الأحكام والأصول لأن الأحكام فروع الأصول والأصول موضوعة للفروع فلم يجز انفراد أحدهما عن الآخر. وذهب من قال أن العالم يجوز له تقليد العالم إلى أنه لا يلزم الجمع بينهما ووأنه إذا انفرد بكل واحد من الأمرين جعل كاجتماعهما في الواحد وسقط بذلك فرض الكفاية واختلفوا بعد هذا في كيفية الوجوب في الواجب على الكفاية فذهبت طائفة من الفقهاء والأشعرية من المتكلمين إلى أنه واجب على كل واحد من أهل الفريضة بعينه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 بشرط أن لم يقم به غيره1. وذهب طائفة من الفقهاء والمعتزلة من المتكلمين إلى أنه غير واجب على احد بعينه إلا بشرط أن لا يقوم به غيره2 فيكون على الوجه الأول فرضا إلا أن يقوم به الغير.   1 هذا هو مذهب جمهور الأصوليين ففعل البعض مسقطا للطلب الموجه إليهم كما هو مسقط للطلب الموجه إلى غيرهم فمن ظن أو علم أن غيره قد فعل الواجب سقط عنه الطلب. واستدلوا على ذلك: أولا: قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} وقوله تعالى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} فالله تعالى أمر بقتال الكافرين المعتدين ووجه الخطاب إلى جميع المكلفين القادرين على القتال فإن واو الجمع من صيغ العموم والعام يتوجه فيه الخطاب إلى كل فرد من أفراده ولا شك أن قتال الكافرين المعتدين من فروض الكفاية فإذا قال به البعض سقط عن الباقين فيكون الخطاب موجها إلى الجميع لا إلى بعض غير معين. وثانيا: بأن ترك الواجب الكفائي من الجميع موجب لتأثيم الجميع اتفاقا وتأثيم الجميع موجب لتكليف الجميع لأنه لا يؤاخذ الشخص على شيء لم يكلف به فيكون الخطاب موجها إلى الكل انظر نهاية السول للأسنوي 1/195, 196 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 1/116. 2 واستدلوا لذلك: أولا بأنه لو تعلق الخطاب بالكل لما سقط بفعل البعض لأن شأن الخطاب المتعلق بكل فرد أنه لا يسقط إلا بفعل من تعلق به الخطاب لكن سقوط الخطاب عن الكل بفعل البعض متفق عليه فدل ذلك على أن الخطاب متعلق بالعبض وهو ما ندعيه والجواب: بأن الخطاب لم يقصد بالفعل ذات الفاعل وإنما قصد تحقيق الفعل لحصول المصلحة المترتبة عليه من غير نظر إلى الفاعل. واستدلوا ثانيا: بقوله تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} ووجه الاستدلال أن طلب العلم الزائد عما يحتاج إليه كل واحد في عمله الواجب عليه عينا من فروض الكفاية وتوجيه الخطاب هنا لبعض غير معين من المسلمين ولولا الداخلة على الفعل الماضي تفيد اللوم والتنديم من شأنهما أن يكونا عن ترك واجب فأفاد ذلك أن هذه الطائفة قد تركت واجبا عليها وهوطلب العلم فيكون الوجوب متعلقا بها فقط فالخطاب حينئذ وهو الكفائي يكون موجها إلى بعض غير معين وهوالمطلوب. والجواب: بالتعارض مع الأدلة في الكتاب على توجيه الخطاب إلى الكل والمصير إلى التأويل منعا للتعارض وهوحمل الآية على سقوط الفعل الواجب على جميع المسلمين بفعل هذه الطائفة لأن فعلها لها كاف في سقوط الطلب عن الكل فصح أن يوجه إليها اللوم عند تركها وهذا لأنه أمكن الجمع بين الآيات انظر نهاية السول للأسنوي 1/197 أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير 1/17 - 118. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 فيسقط وعلى القول الثاني غير فرض إلا أن لا يقوم به الغير فيجب. وذهب بعضهم إلى أنه أن غلب على ظنه أن يقوم به غيره لا يجب عليه وأن غلب على ظنه أنه لا يقوم به احد وجب عليه وهذا وجه حسن والخلاف الأول محض صورة لاظهور فائدة فلا أرى له معنى1 واذ قد ذكرنا معنى العلم فلا بد أن نذكر معنى العقل وما قيل في حقيقته. وقد قيل أنه أصل لكل علم وكان بعض أهل العلم يسميه أم العلم وقد اكثر الناس الخلاف فيه قبل الشرع وبعده ومن كثرة اختلاف الناس فيه قال بعضهم. سل الناس أن كانوا لديك افاضلا ... عن العقل وانظر هل جوات2 محصل وقد جعله المتقدمون جوهرة وقالوا: أنه جوهر لطيف يفصل به بين حقائق المعلومات قالوا: وهذا فاسد لانه لو كان جوهر لصح قيامه بذاته فجاز أن يكون عقل بلا عاقل كما جاز أن يكون جسم بغير عقل فحين لم يتصور ذلك دل أنه ليس بجوهر وأما عند كافة المسلمين فهو نوعا من العلم يدخل في جملة اقسامه واختلفوا في حقيقته على أقاويل شتى وقد روى عن الشافعي رحمه الله أنه قال آلة التمييز. وقال بعضهم العقل بصر القلب وهو بمنزلة البصر من العين ندرك به المعلومات كادراك البصر المشاهدات قاله أبو الحسن عن ابن حمزة الطبري. وقال بعضهم هو قوة يفصل بها بين حقائق المعلومات وقال بعضهم معنى العقل هو العلم لا فرق بينهما لانه لا فرق عند أهل اللغة وأرباب اللسان بين قولهم علمت وعقلت فيستعملون العلم والعقل على حد ولاحد في معنى واحد ويقولون هذا أمر.   1 بل قال الشيخ أبو النور زهير: تظهر ثمرة الخلاف فيمن علم بوجود ميت مثلا وشك هل قام غيره بما يلزمه له من تغسيل وتكفين أو لم يقم بذلك فعلى رأي الجمهور يجب عليه السعي ليتبين حقيقة الأمر ولا يسقط عند الطلب بهذا الشك لأن الطلب متعلق به على سبيل التحقيق والوجوب المحقق لا يسقط بالشك أما على المذهب الثاني فإنه لا يجب عليه السعي لأن الخطاب لم يتوجه إليه والأصل عدم تعلقه به انظر أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 1/115, 116. قلت أي لا يرفع يقين بظن ضده والأصل على الثاني عدم تعلق الخطاب به والشك لا يرفع اليقين. 2 قال الفيروزآبادي جوت مثلثة الآخر مبنية دعاء الإبل إلى الماء وقد جاوتها وجايتها أو زجرلها والاسم الجوات انظر القاموس المحيط 1/145. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 معلوم ومعقول ويقولون اعلم ما تقول واعقل ماتقول وفي استعمال العلماء يقع على اسمه قدر من العلم يميز من قام به بين خير الخيرين وشر الشرين ويصح منه بحصوله به الاستشهاد بالشاهد على الغائب ويخرج به عن حد المجانين والمعتوهين ويصح معه التكليف والخطاب. ويمكن أن يقال أنه قوة ضرورية للوجود بها يصح درك الأشياء ويتوجه تكليف الشرع وهو ما يعرفه كل انسان من نفسه ولا يستدل عليه بغيره لأن الاستدلال يفتقر إلى علم ينتظر فيه وأصل يعتمد عليه ولو كان غيره دليلا عليه لكان مكتسبا لا ضروريا ثم أن العقل تختلف مراتبه. فأولها: إدراك مايدرك بديهة وعلم ما يعلم بأول الراي وأعلاها ادراك الغائبات بالوسائط واسم العقل منتفى عن الله تعالى لأن علمه احاط بالأشياء لا عن جهة الاستدلال ولا بالترقى إلى معرفتها بالاجتهاد ولأن الأصل في اسامي الرب تعالى هو التوقيف ولا توقيف في وصف الله تعالى بالعقل فلا يوصف به واعلم أن محله القلب لأن محل سائر العلوم القلب فكذلك هذا ايضا ولأن الله تعالى قال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [قّ: 37] أي عقل دل أن محله القلب حيث عبر به عنه وقال بعض اصحاب ابي حنيفة أن محله الدماغ يقال فلان خفيف الدماغ أى ليس له عقل ولأنه إذا جن الدماغ ذهب العقل والأول اصح وقد قال جماعة أن العقل عقلان عقل غريزى وهو القوة المتهيئة لقبول العلم وهو من حيث القوة موجود في كل خليقة من الادميين وجوده في الطفل كوجود النخل في النواة والسمبل في الحبة. والثاني: عقل مستفاد وهو الذي تتقوى به تلك القوة وقد يحصل باختيار من العبد ويحصل بغير اختيار منه قالوا: والعقل الغريزي بمنزلة البصر للجسد والمستفاد بمنزلة النور فكما أن المبصر لم يكن له نور من الجو لم يدرك بصره شيئا فكذلك العقل إذا لم يكن له نور من العلم المستفاد لم تعد بصيرة قال الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40] وما ذكرناه أولا من باب الفقهاء وطريقتهم هي الأولى وإذا عرفنا العلم واقسامه فنقول قد بينا أن الأصول أربعة الكتاب والسنة والاجماع والقياس وقال بعض اصحابنا ومعقول أصل واستصحاب الحال وقالوا: دخل في معقول الأصل دليل الخطاب وفحوى الخطاب ولحسن الخطاب وفى استصحاب الحال خلاف سنذكره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 "الكتاب" فأما الكتاب فهو أم الدلائل وقيم البيان لجميع الأحكام قال الله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] وقال الله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] وقال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [ابراهيم: 1] . قال الشافعي رحمه الله ليست تنزل بأحد في الدين نازلة إلا وفي كتاب الله تعالى الدليل على سبيل الهدى فيها. فإن قال قائل أن من الأحكام مايثبت لهذا بالسنة قلنا ذلك مأخوذ من كتاب الله في الحقيقة لان كتاب الله تعالى أوجب علينا اتباع الرسول صلوات الله عليه وفرض علينا الأخذ بقوله وحذرنا مخالفته قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] وقال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [التغابن: 12] وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63] . قال الشافعي فما قيل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعن الله قيل فإن قيل هيئات القبوض في البياعات وكيفية الاحراز في السرقة وغالب العقود في المعاملات ليس لها أصل في الكتاب ولا في السنة. قلنا قد قال الله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] والعرف ما يعرفه الناس ويتعارفونه فيما بينهم معاملة فصار العرف في صفة القبوض والإحراز والنفوذ معتبرا بالكتاب فعلى هذا نقول أن الكتاب أمثل الدلائل والسنة ماخوذة منه والقياس مأخوذ من الكتاب والسنة والاجماع ماخوذ من الكتاب والسنة والقياس. وكتاب الله تعالى هو المنقول إلينا بطريق التواتر على وجه يوجب العلم المقطوع الذي لا يخامره شك ولاشبهة وهو المثبت بين الدفتين فكل من عاين الرسول صلى الله عليه وسلم حصل العلم بالسماع وهو أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذا هو القران الذي انزله الله تعالى وهو كلامه ووحيه ومن لم يعاين الرسول حصل له العلم بالنقل المتواتر خلفا عن سلف وذلك العلم هو أنه ثبت عندنا أن محمدا صلى الله عليه وسلم بما اقام به الدليل وثبت أنه كان يقول: أن الكتاب الذي جاء به هو هذا القران وانه كلام الله عز وجل ووحيه ولا نقول انا علمنا أنه كلام الله بالاعجاز لانه يجوز أن يعجز الله الخلق عن الاتيان بمثل1.   1 قبيح انظر القاموس المحيط للفيروزآبادي 1/124. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 كلام لا يكون ذلك الكلام كلامه بل بالمعجزات عرفنا نبوة الرسول صلوات الله عليه ونقول عرفنا أن القرآن كلام الله عز وجل ونقول أن القران في نفسه معجز لا يجوز أن ياتي أحد بمثله في جزالته وفصاحته ونظمه وكذلك من حيث معانيه هو معجز الخلق عن الاتيان بمثله ومع تحدي الرسول صلوات الله عليه وسلم وطلبه اياهم أن ياتوا بمثله فعجزوا عنه ولا نقول كما قال بعض المبتدعة أن نفس القران ليس بمعجز فإن فصاحة بعض الفحول من شعراء الجاهلية لا تكون دون فصاحته وإنما الاعجاز في القران هو أن الله عز وجل منع الخلق عن الإتيان بمثله مع قدرتهم عليه وهذا قول باطل وزعم كاذب سمعت والدي رحمه الله يقول: أن هذا قول اخترعه الجاحظ ولم يسبقه إليه احد وقال بعده فاياه اتبع وعلى منواله نسج وهو في نفسه مستسمج مستهجر بالتامل في نظم القران وجزالته وفصاحته وعرضه على كل نظم عرف من اساليب كلام العرب وكل كلام فصيح عرف من كلامهم ثم امتيازه عن الكل بروائه وبهائه وطلاوته وحلاوته واعرافه وابتنائه واعجازه ظاهر لكل ذي لب من الناس لولا خذلان يلحق بعض القوم ونسال الله العصمة بمنه ولا يحتمل هذا الموضوع بيان وجوه الاعجاز في القران وقد كفينا مؤنة ذلك بحمد الله بمنه واعنى بذلك جماعة من علماء أهل السنة والله تعالى يشكر سعيهم ويرحمهم وإيانا بمنه. والمصحف الامام: هو هذا المصحف الذي بين المسلمين جمع في زمان ابي بكر الصديق رضي الله عنه باجماع الصحابة واخرج في زمن عثمان رضي الله عنه ونسخ منه المصاحف وفرقت في البلدان وعليه الاتفاق. وفي الباب خطب كبير واقتصرنا على هذا القدر وقد دل اتفاق المسلمين على أن ما بين الدفتين كلام الله تعالى وعلى أن التسمية من فاتحة الكتاب وكذلك هي من القران في كل موضع اثبت في المصاحف وقد اتينا على هذا الدليل في الخلافيات. " السنة " وأما السنة: فهو الأصل الثاني وهو تلو الكتاب وهي عبارة عن كل ما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم لهذه الأمة قولا وفعلا. قال أبو سليمان الخطابي هي الطريقة المسلوكة في الأمر المحمود وأصلها من قولهم سننت الشيء بالمسن إذا امررته عليه حتى يؤثر فيه تسنينا أي طرائق فإذا اطلقت السنة اريد بها الطريقة المحمودة وإذا قيدت كانت في الخير والشر لقوله صلى الله عليه وسلم: " من سن سنة حسنة فله اجرها واجر من عمل بها إلى يوم القيامة ومن سن سنة سيئة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة" 1. ويقال السنة عبارة عن السيرة قال الشاعر: فلا تجزعن من سنة انت سرتها ... فأول راضى بسنة من يسير بها معناه من سيرة انت سرتها فسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي الطريقة التي سلكها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لها مراتب ونقل بعضها يوجب العمل ونقل بعضها يوجب العلم وسيرد ذلك في باب الاخبار بعون الله تعالى. وأما الملة: فهي عبارة عن شريعة الرسول صلى الله عليه وسلم. وقيل هي عبارة عما يمله الملك على النبي صلى الله عليه وسلم من علم الوحى. "الاجماع" وأما الأصل الثالث وهو الاجماع فهو حجة خلافا لبعض الناس وسنبين ذلك والاجماع في اللغة العزم على الأمر يقال اجمعت على الشيء وازمعت عليه بمعنى واحد ومنه قوله تعالى: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} [يونس: 71] أي اعرضوه فامضوه. وقد قيل في عبارة أن الفقه استفاضة القول وانتشاره في الجماعة الذي نسب الاجماع اليهم وفي مسائل الاجماع كلام كثير وسياتي بيانه أن شاء الله. " القياس " والأصل الرابع هو القياس وأصله في اللغه التقدير ولذلك يقال للميل الذي يسد به غور الجرح2 مقياس ومسيار. قال الشماخ ودلج الليل مهاد قياس أي يصير بالطرق مقدر ليسير فيما يقضى بانتهائه إلى المقصد. ويقال أنه حمل الشيء على الشيء في بعض أحكامه لنوع من الشبه وسياتي الكلام فيه على الاشباع ونذكر معنى العله والسبب والشرط والعرف والفرق بين هذه الاشياء لغة وفي عرف الفقهاء وإذا عرفت هذه الأصول فلا بد من النظر في هذه الأصول لتعرف أحكام الشريعة.   1 أخرجه مسلم في العلم 4/2059 الحديث 15/1017 والترمذي في العلم 5/43 الحديث 2675 والنسائي في الزكاة 5/56, 57 باب التحريض على الصدقة 64 وابن ماجه في المقدمة 1/74 الحديث 203 والدارمي في المقدمة 1/140, 141 الحديث 512 والإمام أحمد في مسنده 4/357, 2 ثبت في الأصل "يسير به غوث الجرح" ولعل الصواب ما أثبتناه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 " النظر " فالنظر هو الفكر في حال المنظور إليه والتوصل بأدلته إلى المطلوب1. يقال تناظر الرجلان إذا تقابلا بنظريهما ايهما المصيب وابهما المخطىء. وقيل هو تصفح الادلة لاستخراج الأحكام وللنظر شروط. أحدها أن يكون الناظر كامل الالة على ما نذكره في باب المعنى. الثاني أن يكون نظره في دليل لا في شبهة. والثالث أن يستوفى شروط الدليل وترتيبه على حقيقته بتقديم ما يجب تقديمه وتأخير مايجب تأخيره. يجب أن يكون المطلوب هو علم الاكتساب لا علم الضرورة وفى الاجتهاد كلام كثير في بابه. "الجدل" والجدل قريب معناه من النظر إلا أن النظر يكون من الناظر وحده والجدل إنما يكون بمنازعة غيره وأصله من الجدل [وهو الفتل] 2 كانه فتل صاحبه بالحجاج عن رايه ومذهبه إلى راى غيره3. وقال بعضهم الجدل اكثره في الباطل والنظر في الحق. " الدليل " وأما الدليل هو المرشد إلى المطلوب وقالوا: ايضا هو الدال على الشيء والهادي يقال دل على كذا فهو دال ودليل كما يقال عالم وعليم وقادر وقدير4. والدلالة مصدر وقد يقال دليلي كذا أي دلالتي والمصدر يوضع موضع الأسماء5.   1 اعلم أن النظر مشترك بين معاني شتى ويقال للانتظار نظر وللرحمة والتعطف نظر وللعناية للغير فيما يحتاج إليه نظر وللمقابلة نظر ويقال للرؤية نظر وللفكر والتأمل نظر انظر الكافية في الجدل لإمام الحرمين ص 16,17. 2 كلمة غير مقروءة الأصل ولعل الصواب ما أثبتناه. 3 قال إمام الحرمين فقيل يقع بين الخصمين جدال لأن كل واحد منهما يفتل صاحبه عما يعتقده إلى ما هو صائر انظر الكافية في الجدل ص 21. 4 قال إمام الحرمين الدليل فعيل من الدال العليم من العالم والقدير من القادر وهوالهادي أو تقول: هوالكاشف عن المدلول وهو الناصب للدلالة الفاعل لها فمن وجد منه نصب الدلالة يقال له دال. ومن كثر منه نصب الدلالة وفعلها يقال له دليل انظر الكافية في الجدل لإمام الحرمين ص 46. 5 قال إمام الحرمين الدلالة ما يتوصل بصحيح النظر فيه إلى معرفة ما لم يعلم أو إلى معرفة ..... المدلول انظر الكافية في الجدل ص 46. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 وقد قال اكثر المتكلمين وبعض الفقهاء لا يستعمل الدليل إلا فيما يؤدى إلى العلم فاما فيما يؤدى إلى الظن فلا يقال دليل وإنما يقال له امارة عند عامة الفقهاء أنه لا فرق بينهما لأن العرب لا تفرق في تسمية الدليل من ما يؤدى إلى العلم ويؤدى إلى الظن وأما الدال في ذكرنا إنما الدليل واحد. وقيل هو الناصب للدليل وهو الله تعالى. والمستدل: هو الطالب للدليل ويقع على السائل لانه يطلب الدليل من المسئول ويقع على المسئول لانه يطلب الدليل من الأصول1. والمستدل عليه: هو الحكم الذي يطلب من التحليل والتحريم2. والمستدل له: يقع على الحكم لانه يطلب له الدليل ويقع على السائل لانه يطلب الدليل3. والاستدلال: طلب الدليل وقد يكون ذلك من السائل والمسئول جميعا4. فان قال قائل قد ذكرتم الحد في هذه الاشياء فما معنى الحد الحد وحده قلنا هو اللفظ الوجيز المحيط بالمعنى5. وقيل هو الجامع المانع6. وقيل معناه أنه يجمع الشيء المقصود به ويمنع دخول غيره عليه7. وقد قيل الحد هو النهاية التي إليها تمام المعنى وحدود الدار ماخوذة من هذا لانها نهايات الاملاك وكذلك حدود الله تعالى التي ضربها لفرائضه نهايات لها لئلا تتعدى.   1 قال إمام الحرمين: المستدل هو الطالب للدلالة ويطلق على من ينصب الدلالة وعلى السائل عنها انظ الكافية في الجدل ص 47. 2 قال إمام الحرمين: ويطلق على الخصم المقهور بالدلالة انظر لكافية في الجدل ص 48. 3 قال إمام الحرمين: المستدل له هو الذي أقيمت له الدلالة وقد يكون هو الحكم المطلوب بالدلالة ويكون هو الطالب والسائل عنها انظر الكافية في الجدل ص 47. 4 قال إمام الحرمين: وقد يكون ذلك بالنظر والرؤية وقد يكون بالسؤال عنها انظر الكافية في الجدل ص 47. 5 انظر الكافية في الجدل لإمام الحرمين ص 2. 6 انظر الكافية في الجدل لإمام الحرمين ص 2. 7 واختار إمام الحرمين وقال لأن الحد يرجع إلى عين المحدود وصفته الذاتية في العقليات وفي كثير من الشرعيات انظر الكافية في الجدل لإمام الحرمين ص 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 وأصل الحد المنع ومنه تسمى النوار حدادا ومنه سمى الحديد حديدا لانه يمنع لابسه ومنه قيل للمحروم محدود لانه منع سعة الرزق وسميت العقوبات حدودا لانها تمنع وتردع وحدود الدار على هذا القول هي الموانع من وقوع الاشتراك في خاص الاملاك ولم نشبع القول في الحدود لانها تاتي في مواضعها من ابواب الكتاب أن شاء الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 القول في اقسام الكلام ومعانى الحروف التي لابد من معرفتها في مسائل الفقه . علم أن جميع ما يتلفظ به في مسائل الفقه قسمان مستعمل ومهمل. والمهمل كل كلام لا يوضع لفائدة. والمستعمل كل كلام وضع لفائدة ثم الكلام من جهة اللفظ مقسوم على ثلاثة اقسام اسم وفعل وحرف جاء لمعنى. ومن جهة المعنى إلى أربعة أقسام أمر ونهى وخبر واستخبار قالوا: فالاسم ما دل على معنى منفرد وذلك المعنى يكون شخصا ويكون غير شخص فالشخص نحو رجل وفرس وحجر وغير الشخص فنحو الضرب والاكل والليل والنهار ونحو باقي الاشياء وإنما قيل ما دل على معنى منفرد ليفرقوا بينه وبين الفعل إذا كان الفعل يدل على معنى وزمان كقولك ضرب وقام ويضرب ويقوم وما اشبه ذلك يدل على زمان أما في الماضي وأما في المستقبل. واما الحرف: اداة تفيد معنى في الكلام إذا ضم إليه قالوا: واقل ما يأتلف منه الكلام اسم واسم كقولك زيد قائم وكقولك الله الهنا أو اسم وفعل كقولك قام عمرو وضرب زيد ولا ياتلف الفعل ولا الحرف مع الحرف ولا الحرف مع الفعل ولا الحرف مع الاسم وياتلف الاسم والفعل والحرف [كقولك] 1 خرج عبد الله وهل ذهب زيد ونحو ذلك. ثم الأسماء المعربة على أربعة أضرب: اسم الجنس الذي بقتضيه من جنس آخر كقولك الحيوان والانسان والدينار والدرهم والاكل والصوت وجميع ما اردت به العموم والالف واللام يدخلان في هذا النوع لعهد.   1 زيادة ليست في الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 الجنس لا التعريف. الضرب الثاني: اسم الواحد من الجنس نحو رجل وفرس وبعير وحمار ودينار ودرهم وسمى هذا النوع الأسماء الموضوعة وهي تفيد المعرفة بذات الشيء فقط. والضرب الثالث: ما اشتق لوصف من الجنس نحو ضارب مشتق من الضرب وعالم مشتق من العلم وحسن مشتق من الحسن وهذه الأسماء تسمى الأسماء المشتقة وهي تفيد المعرفة بذات الشيء وصفته وتخبر عن حقيقته وماهيته وقال الحسن بن هانىء اجمع هذا الاسم بين الأمرين: أن اسم جنس لو جمعها صفة ... ولا أرى ذا لغيرها اجتمعا وهي إذا سميت فقد وصفت ... فيجمع اللفظ المعنيين معا والضرب الرابع: مالقب به شيء بعينه ليعرف من غيره نحو زيد وعمرو وما اشبه ذلك وتسمى الأسماء الأعلام وأسماء الألقاب والأسماء المنقولة لأنها منقولة من أصولها إلى غيرها على جهة الاصطلاح وإنما تفيد التشهير وتمييز الشخص من غيره وليس بحثه إلا هذا. ثم أن الأسماء الموضوعة تنقسم إلى خمسة أقسام: الأسماء المبهمة كقولك شيء وموجود وحيوان وسميت مبهمة لأنها لا تفيد المعرفة بعين من الأعيان خاص بل يستوى فيها ما تحتها من أنواع الاشياء والحيوانات والموجودات. والقسم الثاني: في الأسماء المتضادة مثل القرء والجون1 فإن الطهر والحيض على تضادهما يتناولهما اسم القرء والبياض والسواد على تضادهما يتناولهما اسم الجون. والقسم الثالث: الأسماء المترادفة كقولك ليث واسد وحجر وفهد وخمر وعقار وسائر ما تترادف عليه الأسماء المختلفة ذات العدد مع اتفاق المعنى. والقسم الرابع الأسماء المشتركة مثل العين هي العين التي تبصر بها ولعين الماء ولعين الميزان وللمهر الكبير ومثل اللون ومثل العرض هو اسم للواحد من العروض لما هو خلاف الطول وعرض لسعة الشيء مثل قوله تعالى: {عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ   1 قال الفيروزآبادي الجون النبات يهرب إلى السواد من خضرته والأحمر والأبيض والأسود والنهار القاموس المحيط 4/211. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 وَالْأَرْضُ} [آل عمران: 133] . والقسم الخامس: الأسماء المختلفة وهي ما اختلفت اسمائها ومعانيها وهي اكثر الأسماء لانها موضوعة للدلالة على المسميات ومن شانها اختلافها في صورة بالفصل بينها وبين غيرها. كقولك حمار وفرس وجدار وبعير وغيرها من الأسماء هكذا اورده أبو سليمان الخطابي على ما نقلته وهو ثقة فيما ينقله. معاني بعض الحروف1. ونذكر الان معاني الحروف التي تقع إليها الحاجة للفقهاء ولا يكون بد من معرفتها وتشتد فيها المنازعة بين أهل العلم فمنها حروف من حروف العطف2. أولها الواو وقد ادعى جماعة من اصحابنا انها للترتيب واضافوا القول به إلى الشافعي رحمة الله عليه وقد حكى هذا المذهب عن بعض نحاة الكوفيين3. واما عامة أهل اللغة فعلى خلاف ذلك وإنما هي عندهم للجمع4 واشتراك الثاني.   1 قد جرت العادة بالبحث عن معانى بعض الحروف لاشتداد الحاجة إليها من جهة توقف شرط من مسائل الفقه عليها وكثيرا ما يسمى الجميع حروفا تغليبا أو تشبيها للظروف بالحروف في البناء وعدم الاستقلال والأول أوجه لما في الثاني من الجمع بينالحقيقة والمجاز أو إطلاق للحرف على مطلق الكلمة وتسميتها حروف المعانى بناء على أن وضعها لمعان تتميز بها عن حروف المباني التي بنيت الكلمة عليها وركبت منها فالهمزة المفتوحة إذا قصد بها الاستفهام أو النداء فهي من حروف المعاني وإلا فهي من حروف المباني شرح التلويح على التوضيح 1/99 التوضيح على التنقيح 1/349. 2 وهي عشرة: منها أربعة تشترك في جميع المعطوف عليه في حكم غير أنها تختلف في أمور أخرى وهذه هي الواو والفاء وثم وحتى الإحكام في أصول الأحكام 1/88. حروف المعاني: أي الحروف التي لها معاني وإطلاق الحروف عليها بطريق التغليب لأن بعضها أسماء مثل إذا ومتى وغيرها شرح المنار 1/131. 3 هكذا حكاه إمام الحرمين في البرهان 1/181 البيضاوي في نهاية السول 2/185. 4 قال أبو علي الفارسي أجمع نحاة البصرة والكوفة على أنها للجمع المطلق وذكر سيبويه في سبعة عشر موضعا من كتابه: أنها للجمع المطلق وقال بعضهم: إنها للترتيب انظر المحصول 1/16. ونقل الإجماع أيضا السيرافي والسهلي والفارسي ونوقش بأنه خالف ثعلب وقطرب وهشام وأبو جعفر الدنيوري وأبو عمرو الزاهد ويقول الإمام الغزالي في المستصفى 1/230. ولعل الناقل أراد إجماع الأكثر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 فيما دخل فيه الأول كقولك جاءني زيد وعمرو وليس فيهما دليل ايهما كان أولا قالوا: إنما يعرف وقوع الترتيب فيه بقرائن ودلائل. قال الماوردى أبو الحسن الواو لها ثلاث مواضع حقيقة ومجاز ومختلف في حقيقته ومجازه فالحقيقة أن يستعمل في العطف للجمع والاشتراك كقولك جائني زيد وعمرو والمجاز أن تستعمل بمعنى أو كقوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] والمختلف في حقيقته أن تستعمل في الترتيب لقوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} [المائدة: 6] فذهب جمهور أهل اللغة واكثر الفقهاء انها تكون أن استعملت في الترتيب مجازا. وذهب بعض اصحاب الشافعي إلى انها تكون حقيقة فيه فإذا استعملت في موضوع يحتمل الأمرين حملت على الترتيب دون الجمع لزيادة الفائدة1. وقال الفراء تحمل على الجمع إذا احتملت الأمرين وعلى الترتيب إذا لم تحتمل غيره2. وقد رايت بعض اصحابنا ادعى على اصحاب ابى حنيفة انهم يدعون أن الواو.   1 وذكر الإمام البيضاوي في هذه المسألة في الواو العاطفة ثلاثة مذاهب فيما تفيده واو العطف. أحدها: أنها للبرتيب: نسب إلى الشافعية والثاني أنها للمعية ونسب إلى الحنفية والثالث أنها لمطلق الجمع فلا تفيد ترتيبا ولا معية وهو المشهور عند الشافعية وهو المختار للإمام البيضاوي والآمدي انظر النهاية السول 2/185 اصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/78 قال الآمدي أما الواو فقد اتفق جماهير أهل الأدب على أنها للجمع المطلق غير مقتضية ترتيبا ولا معية ونقل عن بعضهم أنها للترتيب مطلقا ونقل عن الفارء أنها للترتيب حيث يستحيل الجمع لقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} وقيل: أنها ترد بمعنى أو كقوله تعالى: {أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} قيل: أراد مثنى أو ثلاث أو رباع وقد ترد للاستئناف كالواو في قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} تقديره والراسخون يقولون: آمنا به وقد ترد بمعنى مع في باب المفعول معه تقول: جاء البرد والطيالسة وقد ترد بمعنى إذ قال الله تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ} إلى قوله تعالى: {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} أي إذ طائفة قد أهمتهم أنفسهم ثم ذكر أدلة المذاهب والرد عليها ورد على الاعتراض ثم قال: وبالجملة فالكلام في هذه المسالة متجاذب وإن كان الأرجح هو الأول أي للجوع المطلق في النفس انظر إحكام الأحكام للآمدي 1/88 - 89. 2 وهو منسوب إلى أبي يوسف ومحمد انظر التصريح على التوضيح 9912. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 للجمع على سبيل الإقران1 وأخذ يرد عليه كما يرد على من زعم انها للترتيب والتوالى من اصحابنا وليس ما ادعاه مذهب احد من اصحاب ابي حنيفة وإنما يدعون أن الواو للجمع من غير تعرض لاقران أو ترتيب2 فلا معنى للرد وأما دعوى الترتيب على الاطلاق فضعيفة جدا لان من قال رايت زيدا وعمرا وجاءني زيد وعمرو لا يفهم منه السامع ترتيبا بحال ويجوز أن يكون راى عمرا أولا ثم يقول: رايت زيدا وعمرا ويحسن منه ذلك ويقال ايضا رأيت زيدا وعمرا معا فلو كان للترتيب لكان هذا القول مناقضة. ويدل عليه أن العرب استعملت الواو في باب الفاعل يقال تقابل زيد وعمرو ولو قال تقابل زيد ثم عمرو لم يكن صحيحا. وأما ما استدل به بعض اصحابنا من أن الواو للترتيب بمسالة الطلاق وهي أنه لو قال لغير المدخول بها أنت طالق وطالق وطالق فانه لا يقع إلا طلقة واحدة فليس هذا لانها للترتيب بل لان الطلاق الأول سبق وقوعه فيصادفها الثاني وهي بائنة فلا يقع وإنما سبق لانه تكلم به على وجه الايقاع من غير أن يربطه برابط أو يعلقه بشيء ما3 وليس الواو بدليل على الاقران على ما سبق وإنما الموجود منه ثلاث ايقاعات متوالية من غير أن يكون للبعض تعلق بالبعض والواو حقها في هذا الموقع عطف الايقاع على الايقاع فصارت قضية الكلام الأول الموقوع وحين وجد من غير انتظار ولا مهلة وكما لو افرده بالذكر وإذا وقع فلا بد أن يكون الثاني والثالث قد صادفا المراة في حال الابانة فسارت الجملة في هذه المسالة أن دعوى كونها للترتيب خطا4.   1 أي الاجتماع في زمان انظر حاشية التصريح على التوضيح 9912. 2 ونصب إلى الإمام الأعظم أنها للترتيب انظر حاشية التصريح على التوضيح 2/99. 3 أي أن قوله "وطالق" معطوف على الإنشاء فيكون إنشاء آخر والإنشاءات تقع معانيها مترتبة بترتيب ألفاظها لأن معانيها مقارنة لألفاظها فيكون قوله "وطالق" إنشاء لإيقاع طلقة أخرى في وقت لا يقبل الطلاق لأنها بانت بالأولى بخلاف قوله: "طلقتين" فإنه تفسير لطالق وليس بإنشاء انظر نهاية السول للأسنوي 2/186 - 187. 4 واستدل ايضا من قال: إنها للترتيب بما روى مسلم أن خطيبا قام بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فقال من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصيهما فقد غوى فقال النبي صلى الله عليه وسلم "بئس الخطيب أنت قال ومن يعص الله ورسوله فقد غوى" فلو كانت الواو لمطلق الجمع لم يكن بين العبارتين فرق. والجواب أن الإنكار إنما هو لأن إفراد اسم الله تعالى بالذكر أشد تعظيما له يدل عليه أن ..... = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 ونسبة ذلك للشافعي رحمه الله على الاطلاق لا تصح وإنما نهاية مانقل عنه أنه قال في الوضوء حين ذكر الاية ثم قال ومن خالف ذلك من الترتيب الذي ذكره الله تعالى لم يجز وضوؤه1. وقد شنع عليه محمد بن داود وغيره في هذا اللفظ وقالوا: أنه خالف أهل اللغة اجمع وادعوا عليه الجهل بالنحو. ووجه الجواب عن هذا أن الشافعي رحمه الله ما تعلق في اثبات الترتيب بالواو فقط وإنما دليل الترتيب من النظر في معنى الاية على ما ذكرنا في الخلاف بينه أن الوضوء عبادة على البدن وردت بلفظ لا ينفى الترتيب وراينا أن العبادات البدنية اشتملت على افعال مختلفة مترتبة في جميع المواضع مثل الصلاة والحج وراينا ورود هذه العبادات بلفظ صالح لمعنى الترتيب وأن كان غير مقتضى له بكل حال ووجدنا الفوائد مطلوبة من الالفاظ والترتيب نوع فائدة فعند اجتماع هذه الأشياء يقال اثبات الواو ظاهرها للترتيب في هذا الموضع فحمل عليه والظاهر حجة فهذا وجه الكلام لنصرة ما قاله الشافعي رحمه الله وقد اشار إليه أبو الحسن بن فارس. وأما الفاء فمقتضاها التعطيف والترتيب من غير تراخ كقولك ضربت زيدا فعمرا ففيه أن عمرا مضروب عقيب زيد بلا تراخى ولهذا دخل في الجزاء المعلق على الشرط لان من حكم الجزاء تعلقه بالشرط من غير فصل2.   = الترتيب في معصية الله ورسوله لا يتصور لكونهما متلازمين فاستعمال الواو هنا مع انتفاء الترتيب دليل عليكم ......... = فإن قيل قد قال صلى الله عليه وسلم "لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما" فقد جمع بينهما في الصغير كما جمع الخطيب فما الفرق فالجواب أن منصب الخطيب قابل للزلل فيتوهم أنه جمع بينهما لتساويهما عنده بخلاف النبي صلى الله عليه وسلم وايضا فكلام النبي صلى الله عليه وسلم جملة واحدة في إيقاع ظاهر منه موقع المضمر قليل في اللغة بخلاف كلام الخطيب فإنه جملتان انظر نهاية السول للأسنوي 2/186 إحكام الأحكام للآمدي 1/93 - 95. 1 قال الإمام الشافعي على المتوضئ في الوضوء شيئان أن يبدأ عابدا لله ورسوله عليه الصلاة والسلام به منه ويأتي على إكمال ما أمر به فمن بدأ بيده قبل وجهه أو رأسه قبل يديه أو رجليه قبل رأسه كان عليه عندي أن يعيد حتى يغسل كلا في موضعه بعد الذي قبله وقبل الذي بعده لا يجزيه عندي غير ذلك انظر الأم للإمام الشافعي 1/26. 2 ذهب بعض العلماء إلى أن الفاء للترتيب مع التراخي ويدل لذلك قوله تعالى: {لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ} فإن افتراء الكذب يكون في الدنيا والإسحات بالعذاب أي .... = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 وأما حرف ثم فللتعقيب والتراخى1 كقولهم ضربت زيدا ثم عمرا فمقتضاه وجود مهلة بين الضربين ولا دليل على مقداره من جهة اللفظ وقد تستعمل في موضع الواو مجازا اذ قال الله عز وجل: {ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} 2 [يونس: 46] وكقوله عز وجل: {فَكُّ رَقَبَةٍ، أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} [البلد: 13, 14] إلى أن قال تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البلد: 17] ومعناه فكان من الذين امنوا. واما بعد فهي اسم في معنى الحرف موضوع للترتيب ويحتمل الفور والتراخى ولا يختص [بالحرفية] 3. واما مع فهو موضوع للجمع بين الشيئين نقول رايت زيدا مع عمرو واقتضى ذلك اجتماعها في رؤيته. واما حرف أو فلها ثلاثة مواضع4 تكون لأحد الشيئين بخبر عنه عند شك المتكلم أو قصده أحدهما كقولك اتيت زيدا أو عمرا وجاءني رجل وأمراة هذا إذا شك. فاما إذا قصد أحدهما فكقولك كل السمك أو اشرب اللبن أي لا تجمع بينهما ولكن اختر ايهما شئت وكقولك أعطني دينارا أو اكسني ثوبا. والوجه الثالث أن تاتى للاباحة كقولك جالس الحسن أو ابن سيرين وائت المسجد أو السوق وهذا على الاذن فيهما جميعا. وقد ورد في القران التخيير في الأمر مثل قوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89] . وقد ورد الجمع في النهى مثل قوله تعالى: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} [الانسان: 24] .   = الاستصال به يكون في الآخرة وبينهما تراخ في الزمن فلا تعقب ............. = وأجاب البيضاوي عن ذلك بأن إفادتها للتراخي في الآية مجاز لا حقيقة لأنها لو كانت حقيقة في التراخي كما هي حقيقة في التعقيب للذم الاشتراك اللفظي وهو خلاف الأصل والمجاز خير منه كما تقدم انظر نهاية السور للأسنوي 2/187 اصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير 2/82. 1 انظر إحكام الأحكام للآمدي 1/97. 2 لاستحالة كونه شاهدا بعد أن لم يكن شاهدا انظر إحاكم الأحكام لآمدي 1/97. 3 تشتبه في الأصل "بإحداهن" ولعل الصواب ما أثبتناه. 4 انظر إحكام الأحكام للآمدي 1/97, 98. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 وأما حرف بل فمعناه الاضراب عن الأول والإثبات للثاني1 كقولك ضربت زيدا بل عمرا وجاءني عبد الله بل أخوه. واما حرف لكن فهى للاستدراك بعد النفى2 كقولك ما جاءني زيد لكن عمرو ما رأيت رجلا لكن امراة وقد يدخل النفى بعد اثبات كقولك حاءني زيد لكن عبد الله لم يات وقيل لترك قصة إلى قصة وفيه كلام كثير للنحاة. واما حرف لو فيدل على امتناع الشيء لامتناع غيره3 تقول لو جئتنى لحييتك. وأما لولا فتدل على امتناع الشىء لوقوع غيره4 نقول لولا أنك جئتنى لحييتك وقد تكون لو بمعنى أن قال الله تعالى: {وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} [البقرة: 221] أي وأن اعجبتكم وقد تفيد معنى التقليل كقوله صلى الله عليه وسلم: "اتقوا الله ولو بشق تمرة" 5. فأما الحروف اللازمة لعمل الجر وهي من وإلى وفي والباء واللام فنقول أما من فمعناها ابتداء الغاية6 يقال سرت من الكوفة إلى البصرة وهذا الكتاب من فلان إلى فلان وهذا باب من حديد يعنى ابتداء عمله من حديد قال سيبويه قد تكون للتبعيض مثل قولهم هذه الخرقة من الثوب وهذا الرجل من القوم وقال غيره من حيث وجدت كانت لابتداء الغاية وقوله أخذت من ماله فقد جعل ماله ابتداء غاية وأخذ وإنما دل على البعض من حيث أنه صار ما بقى انتهاء له فالأصل واحد وكذلك قوله أخذت منه درهما وهذا كلام النحويين فيما بينهم فاما الذي تعرفه الفقهاء فهو لابتداء الغاية والتبعيض جميعا7 وكل واحد في موضعه حقيقة وقد ورد مثله يقال ما جاءني من أحد قال الله تعالى: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} [نوح: 4] .   1 انظر إحاكم الأحكام للآمدي 1/98. 2 انظر فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت 1/237. 3 أي أنه حرف من حروف الشرط انظر الإحكام للآمدي 1/100 انظر فواتح الرحموت 1/249. 4 قال الشيخ السبكي "لولا حرف معناه في الجملة امتناع جوابه لوجود شرط انظر جمع الجوامع 1/351 وقال الشيخ الجويني هي لامتناع الشيء بسبب وجود غيره البرهان 1/190. 5 أخرجه البخاري في الزكاة 1413 ومسلم في الزكاة 1016. 6 في المكان والزمان انظر أصول الفقه محمد أبو النور زهير 2/83. 7 انظر نهاية السول للآمدي 2/188. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 وقد ورد بمعنى على قال الله تعالى: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ} [الانبياء: 77] أي على. واما عن فيكون بمعنى من1 إلا في مواضع خاصة قالوا: من تكون للانفصال والتبعيض وعن لا تقتضى الفصل يقال أخذت من مال فلان ويقال أخذت من عمل فلان وقد اختصت الاسانيد بالعنعنة ولا تستعمل كلمة من في موضعه وقالوا: من لا يكون إلا حذفا وعن تكون اسما تدخل من عليه يقال أخذت من عن الفرس جله2. واما من المفتوحة فلها ثلاثة مواضع: أحدها للخبر كقولك جاءني من أحببت وأعجبني من رايت. والثاني للشرط والجزاء كقولك من جاءني اكرمته ومن عصاني عاقبته3. والثالث للاستفهام4 كقولك من عندك فتقول زيد أو عمرو. واما إلى فلانتهاء الغاية5 يقال من كذا إلى كذا وقال سيبويه إذا قرن بمن اقتضى.   1 نحو: {يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} [التوبة: 104] أي منهم بدليل قوله تعالى: {فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا} [المائدة: 27] وتأتي عن للمجاوزة نحو قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63] أي يجاوزونه ويبعدون عنه. وتأتي عن بمعنى البدل نحو قوله تعالى: {لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً} [البقرة: 48] . وتأتي عن بمعنى التعليل نحو قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ} [التوبة: 114] أي لأجل موعدة. وتأتي عن بمعنى على نحو قوله تعالى: {فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} [محمد: 38] أي عليها. وتأتي عن بمعنى بعد نحو قوله تعالى: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [المائدة: 13] بدليل أن في أخرى: {مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} [المائدة: 41] . وترد عن اسما إذا دخل عليها من وجعل ابن هشام قوله تعالى: {لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} [الأعراف: 17] قال فتقدر معطوفة على مجرور من لا على من ومجرورها انظر الإتقان في علوم القرآن للسيوطي 2/103. 2 ذكر إمام الحرمين الجويني بنصه وتمامه انظر البرهان 1/191, 192. 3 ونحو قوله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] انظر الإتقان في علوم القرآن 2/249 وانظر جمع الجوامع 1/363. 4 ونحو قوله تعالى: {مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يّس: 52] انظر الإتقان في علوم القرآن 2/249 وانظر جمع الجوامع 1/363. 5 قال إمام الحرمين الجويني: وأما إلى فحرف جار وهو للغاية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 للتحديد ولا يدخل الحد في المحدود تقول بعتك من هذه الشجرة إلى هذه الشجرة فلا يدخلان في البيع وإذا لم تقرن بمن يجوز أن تكون تحديدا ويجوز أن تكون بمعنى مع قال الله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2] اى مع أموالكم وقال تعالى من أنصاري إلى الله اى مع الله وقال الله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] اى مع المرافق1 وتقول العرب الذود إلى الذود ابل أي مع الذود فالأصل أنه لانتهاء الغاية على مقابلة من فانها لابتداء الغاية يقال من كذا إلى كذا قال سيبويه ويقول الرجل إنما اليك اى انت غايتي ويقول للرجل قم إلى فلان فتجعله منتهاك من مكانك هذا هو الحقيقة في اللغة وما سواه مجاز. وأما حتى فهي للغاية2 ايضا قال الله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] وقال تعالى: {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 230] ولأهل النحو في قوله اكلت السمكة حتى رأسها وتصريف ذلك ومعناه كلام كثير تركت ذكره وقد تذكر بمعنى إلى نقول لا أفارقك حتى تقضينى حقي3 يعنى إلى أن تقضينى حقي وبما في معناه الظرف تقول زيد في البيت يعنى أن البيت قد حواه وكذلك قوله أن المال في الكيس فإذا قلت: فلان عيب فانه على وجه المجاز والاتساع حيث جعلت فلانا مكانا للعيب وهو قولك اتيت فلانا وهو في عنفوان شبابه وأتيته وهو في أمره ونهيه يعنى اتيته وهذه الامور قد أحاطت به وهو طريق التشبيه والتمثيل. وأما الباء فاللالصاق ويجوز أن يكون معه استعانة4 ويجوز أن لا يكون فاما الذي معه استعانة فكقولك كتبت بالقلم وكقولك عمل الصانع بالقدوم - فأما الذي.   1 ذكره إمام الحرمين الجويني بنصه انظر البرهان 1/192. 2 انظر البرهان 1/193. 3 ذكره إمام الحرمين الجويني بنصه انظر البرهان 1/194. 4 قال الشيخ الآمدي وأما الباء فللإلصاق كقولك: به داء وقد تكون للإستعانة كقولك: كتبت بالقلم والمصاحبة كقولك: اشتريت الفرس بسرجه وقد ترد بمعنى على قال تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} أي على قنطار وعلى دينار وقد ترد بمعنى من أجل قال الله تعالى: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً} أي لأجل دعائك وقيل بمعنى في دعائك وقد تكون زائدة كقوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} انظر الإحكام للآمدي 1/86. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 لا استعانة معه فكقولك مررت بزيد ونزلت بعبد الله وقد تزاد الباء في خبر النفى توكيدا كقولك ليس زيد بقائم وجاءت زائدة كقول الله تعالى: {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} [النساء: 166] وكقول الشاعر تضرب بالسيف وتزخر بالفرح وقد قال بعضهم أن الباء للتبعيض في قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة: 6] وقالوا: غلط1 والباء هاهنا صلة لتعدية الفعل قاله الخطابي. وقال الماوردى الباء موضوعة لالصاق الفعل بالمفعول كقولك مسحت يدى بالمنديل وكتبت بالقلم وقد تستعمل في التبعيض إذا امكن حذفها كقوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} اى بعض رءوسكم قال وهو حقيقة في بعض اصحاب الشافعى مجاز في قول الأكثرين. وأما لام الاضافة قال سيبويه معناه الملك واستحقاق الشيء تقول الغلام لي والثوب لفلان. وقالوا: أن اللام لها ثلاثة مواضع:. للتمليك2 من قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60] . والثاني للتعليل3 قال الله تعالى لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل والثالث للعاقبة قال الله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} . واعتذارا4 أن هذا على طريق التوسع والمجاز فإن هذا مثال لما زعمه المعتزلة من تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ} 5 [الأعراف: 179] وقد أنكر.   1 قال إمام الحرمين الجويني وقد اشتد نكير ابن جني في سر الصناعة على من قال ذلك فلا فرق بين أن يقول مسحت رأسي وبين أن يقول: مسحت برأسي والتبعيض يتلقى من غير الباء كما ذكرته في الأساليب انظر البرهان 1/18. 2 انظر الإتقان في علوم القرآن للسيوطي 2/224. 3 ونحو قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات:8] أي وإنه من أجل حب المال لبخيل انظر الإتقان في علوم القرآن 2/224. 4 أي الشيخ الماوردي وإمام اللغة سيبويه. 5 قال الشيخ الألوسي وفي الكشاف أنهم جعلوا لإغراقهم في الكفر وشدة شكائمهم فيه وأنه لا يتأتى منهم إلا أفعال أهل النار مخلوقين للنار دلالة على توغلهم في الموجبات وتمكنهم فيها يؤهلهم لدخولها وأشار إلى أن ذلك تذييل لقصة اليهود بعد ما عد من قبائحهم بتسلية ....... = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 بعض النحويين قولهم اللام للملك وقالوا: إذا قال قائل هذا أخ لعبد الله فهذا الكلام لمجرد المقارنة وليس أحدهما في ملك الآخر وفي قولهم هذا الغلام لعبد الله فإنما هو في الملك بدليل آخر وزعم قائل هذا أن لام الاضافة تجعل الأول لاصقا بالثاني فحسب والذي ذكرناه هو الذي يعرفه الفقهاء. وأما "على" قال المبرد يكون اسما وفعلا وحرفا وجميع ذلك مأخوذ من الاستعلاء وكذلك قال سيبويه يقال عليه دين يعنى اعتلاه ويقال فلان أمين علينا أي أعتلانا. وأما حرف ما فلها ثلاثة مواضع: أحدها: للنفى1 والجحود كقولك ما لزيد عندى حق وما قام عمرو. والثاني: التعجب2 كقولك ما أحسن زيدا وما أشجع عمرا. والثالث: الاستفهام3 كقولك ما فعل زيد وما عندك وهي تختص بما لا يعقل. ويخالف قوله من فإنه يختص بمن يعقل فإذا قيل من عندك تقول زيد أو عمرو ولا تقول فرس أو حمار فإذا قيل ما عندك قلت: ثور أو جمل ولا يحسن أن تقول زيد أو عمرو وقد جوز بعضهم ذلك في الموضعين والصحيح هو الأول. واما أن وأن فإن مفتوح لما مضى وأن بالكسر لما يستقبل كقولك أن دخلت الدار فأنت طالق وأن دخلت الدار فانت طالق فالأول ايقاع والثاني شرط وقد تختلف معاني الكلام باختلاف الاعراب فلو قال قائل هذا قاتل اخي بالتنوين وقال آخر هذا قاتل اخي بالاضافة يدل التنوين على أنه لم يقتله ودل حذف التنوين على أنه قتله.   = لرسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه قيل: إنهم من الذين لا ينجع فيهم الإنذار فدعهم واشتغل بأمر نفسك ومن هو على دينك في لزوم التوحيد والآية على ما قال من باب الكناية الإيمائية عند القطب قدس سره ويفهم كلامه أن الذي دعا الزمخشري إلى ذلك لزوم كون الكفر مراد الله تعالى إذا أريد الظاهر وهو خلاف مذهبه وأنت تعلم أن الكثير من أهل السنة تأولوا الآية بحمل اللام على ما علمت ...... لقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذريات:56] فإن تعليل الخلق بالعبادة يأتي تعليله بجهنم ودخولها انظر روح المعاني للآلوسي 9/118. 1 انظر البرهان لإمام الحرمين 1/185. 2 نحو قوله تعالى: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} [البقرة: 175] انظر الإتقان في علوم القرآن 2/243 والبرهان 1/185. 3 انظر البرهان 1/185. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 ومذهب الفقهاء أنه إذا قال لإمراته أن فعلت كذا فأنت طالق أنه على مرة واحدة وكذلك إذا قال إذا فعلت كذا فأما إذا قال كلما فعلت كذا فانه على التكرار وإذا قال متى ما فعلت كذا فحقه في اللغة التكرار1 واصطلح اكثر الفقهاء على أنه للمرة الواحدة كقوله إذا فعلت كذا. وأما "إنماء" أصله أن دخلت عليه ما وهو مركب من حرفين أحدهما أن الاثبات والآخر من ما الذي هو للنفي فلذلك صار مثبتا من وجه نافيا من وجه2 قال الله تعالى: {إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الأنعام: 19] فيه اثبات الالهية لله تعالى ونفيها عن غيره. وقيل التحقيق المتصل وتحقيق المنفصل وتكون أن المشددة للتوكيد كقولك أن زيدا عاقلا. وأما إلا للاستثناء3 مثل قول القائل خرج القوم إلا زيدا ورايت القوم إلا زيدا ولفلان على الف إلا مائة قال الله تعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً} [العنكبوت: 14] وقال تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ، إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ} [الحجر: 31] . وقال الفراء وقد تقع إلا لمعنى سوى وذلك في استثناء زائد من ناقص قال الله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود: 107] بمعنى سوى ما شاء ربك من زيادة المضاعفة لا إلى غاية فعلى هذا لو قال لفلان على الف إلا الفين فقد أقر بثلاثة الاف وهذا لا تعرفه الفقهاء. قال الفراء وقد تكون إلا بمعنى لكن قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً} [النساء: 92] بمعنى لكن أن كان خطأ وهو باب كبير وستاتى المسائل فيها. وأما "ليس" فلها ثلاثة مواضع قد تقع جحدا كقولك ليس لك على شيء وتكون استثناء تقول ذهب القوم ليس زيدا اى ماعدا زيدا وتكون بمعنى لا التي ينتفى بها كقول لبيد: واذا جوزتك فرضا فأجزه ... انما يجزى الفتى ليس الجمل معناه إلا الابل. وأما "لا" فمقتضاه النفي ويقع في جواب القسم تقول والله لا أدخل الدار.   1 انظر المغني لموفق الدين 8/354, 355. 2 قال الشيخ فخر الدين الرازي: فإما أن نقول: كلمة إن تقتضي ثبوت المذكور وكلمة تقتضي نفي المذكور فهو باطل بالإجماع انظر المحصول 1/168. 3 انظر الإتقان في علوم القرآن 2/159. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 وقد تكون زائدة يستقل الكلام دونها والغرض منه تقرير نفى اشتمل الكلام عليه. قال الله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ} [صّ: 75] معناه أن لا تسجد لكن لما اشتمل الكلام على المنع ومقتضاه النفى كان لا لتاكيد النفى الذي اشتمل الكلام عليه وأما قوله تعالى: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [القيامة:1] فقد قيل أنه صلة زائدة والأولى أنه رد لقول الكفار ودعائهم وقوله: {أُقْسِمُ} افتتاح قسم في المعنى ذكره عقيبه. واما الالف واللام قال ابن كيسان أن الالف واللام يدخلان في الأسماء الثلاثة معانى للتعريف1 كقولك رايت رجلا وضربت دابة ثم تقول رايت الرجل وضربت الدابة فتعرفهما بالالف واللام. ويدخلان للتجنيس2 كقولك الابل خير من الشاة والذهب خير من الفضة يريد الجنس. ويدخلان للتعظيم كقولك الحسن بن علي والعباس بن عبد المطلب والالف واللام لم يفيدا ها هنا تعريفا لانهما كانا معرفين بالاضافة إلى غيرهما والشيء الواحد لا يعرف من جهتين وإنما الالف واللام افادا هاهنا التفخيم والتعظيم. واما بلى ونعم فمعناهما قريب إلا أن بلى لا تستعمل إلا في جواب كلام مشتمل على النفي كقوله تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172] قال سيبويه لو قالوا: نعم لكان نفيا للربوبيه3 وأما نعم فللاثبات فإذا قال القائل أرأيت زيدا فليكن جوابك إذا رايته نعم4 وقال الله تعالى: {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُوا نَعَمْ} [الأعراف: 44] . واما أم فتستعمل للاستفهام5 كقولك اسكت أم نطقت وقد تستعمل بمعنى الواو العاطفة في بعض المواضع وقد تستعمل بمعنى أو في كثير من المواضع. واما اين فهو اسم موضوع للسؤال عن الكلام ويكون جوابه بذكر المكان6.   1 انظر الإتقان في علوم القرآن 2/156. 2 انظر الإتقان في علوم القرآن 2/157. 3 ذكره إمام الحرمين بنصه انظر البرهان 1/194. 4 ذكره إمام الحرمين وعزاه لسيبويه انظر البرهان 1/194. 5 انظر البرهان 1/186. 6 قال الشيخ السيوطي أين اسم استفهام عن المكان نحو قوله تعالى: {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} [التكوير:26] وترد شرطا عاما في الأمكنة وأينما أعم منها نحو قوله تعالى: {أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ} [النحل: 76] انظر الإتقان في علوم القرآن 2/183. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 كقولك اين زيد فتقول في الدار. واما متى فهو اسم ظرف للسؤال عن الزمان1 ويجاب عنه بذكر الزمان فإذا قلت: متى الخروج فالجواب أن تقول غدا أو اليوم وإذا قلت: متى جاء زيد والجواب أن تقول أمس أو تقول أول من أمس. وأما اذ وإذا فهما ظرفا زمانا غير أن اذ لما مضى2 وإذا لما يستقبل3 كقولك قمت اذ قام زيد واقوم إذا قام عمر. واما حيث فظرف مكان4 قال الله تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 149] واعلم أن الكلام في معاني الأسماء والحروف كثيرة وذكرنا منها قدر ما تمس إليه الحاجة ويتصل بهذا الباب الاسامى الشرعية واللغوية وجواز النقل فيما تكلم فيه أهل اللغة وسياتي من بعد وكذلك الكلام في افعال المكلفين ومراتبها وأحكامها وافعال غير المكلفين وقد ذكر بعضهم هذا الفصل في هذا الموضع ونحن اخرناه إلى أن نصل إليه في موضعه واقتصرنا في هذا الموضع على هذا القدر ونشرع الان في باب الأوامر ونذكر أحكامها وقضاياها ونورد المسائل التي اختلف فيها العلماء فيما بينهم وننص على القول الصحيح من ذلك ونحل شبه المخالفين على حسب ما يأذن الله تعالى في ذلك ومنه المعونة والتوفيق والتيسير.   1 قال السيوطي ترد استفهاما عن الزمان نحو قوله تعالى: {مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} [البقرة: 214] انظر الإتقان 2/246. 2 انظر الإتقان 2/144. 3 انظر الإتقان 2/148. 4 قال الأخفش وترد للزمان مبنية على الضم تشبيها بالغايات انظر الإتقان 2/194. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 باب القول في الأوامر مدخل ... باب الأوامر. القول بالوقف في الأوامر والنواهى: وللأمر صيغة مقيدة بنفسها في كلام العرب من غير قرينة تنضم إليها وكذلك النهى وهذا قول عامة أهل العلم وذهب أبو الحسن الاشعري ومن تبعه إلى أنه لاصيغة للأمر والنهى وقالوا: لفظ افعل لا يفيد بنفسه شيئا إلا بقرينة تنضم إليه ودليل يتصل به. وعندي أن هذا قول لم يسبقهم إليه احد من العلماء وقد ذكر بعض اصحابنا شيئا من ذلك عن ابن سريج ولا يصح وإذا قالوا: أن حقيقة الكلام معنى قائم في نفس المتكلم والأمر والنهى كلام فيكون قوله افعل ولا تفعل عبارة عن الأمر والنهى ولا يكون حقيقة الأمر والنهى وهذا ايضا لا يعرفه الفقهاء وإنما يعرفوا قوله افعل حقيقة في الأمر وقوله لا تفعل حقيقة في النهي. واما الواقفية فتعلقوا بما ذهبوا إليه وقالوا: أن صيغة قوله افعل تحتمل وجوها من المعنى فانه قد ورد بمعنى الايجاب مثل قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] وورد بمعنى التهديد بدليل قوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] وورد بمعنى التكوين قال الله تعالى: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65] وورد بمعنى التعجيز قال الله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23] وورد بمعنى السؤال وذلك في قول العبد رب اغفر لى وارحمنى وورد بمعنى الاباحة وهو قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] وورد بمعنى الندب في قوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً} وإذا احتملت هذه الصيغة هذه الوجوه لم يكن البعض أولى من بعض فوجب التوقف حتى نعلم المراد بقرينة واشبه هذا سائر الأسماء المشتركة وهذا لازم احتمل وجوها شتى من المعنى لا يتعين أحد وجوهه إلا بدليل وشبهة القوم أن قوله افعل ليس يختص بمحمل احد من مسالك العقول فإن العقول لا مجال لها في تفصيل العبارات فلئن اختص بمحمل فإنما يختص من جهة النقل عن العرب أو من جهة الشرع. قالوا: فإن ادعيتم نقلا صريحا من جهة أهل اللسان وهم العرب فهذه مباهته ولانعلم في هذا نقل صريح من العرب ولأن النقل ينقسم إلى المتواتر والآحاد وأن ادعيتم النقل من جهة الاحاد فلا احتمال به لانه لا يوجب العلم والمطلوب في هذه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 المسألة هو العلم. وان ادعيتم النقل بالتواتر كان ذلك محالا لان النقل من جهة التواتر يوجب العلم الضروري وذلك يوجب استواء طبقات الناس فيه قالوا: ونحن معاشر الواقفية مصرون على أنه لم يقع لنا العلم بذلك وقد مرت علينا الدهور والازمان ونحن مقيمون على هذا الخلاف واين العلم الذي تدعونه وتزعمونه. قالوا: وأن نسبتم قولكم إلى الشرع فالكلام على النقل الشرعى مثل ما قلناه على من ادعى النقل من جهة العرب وقد بينا التقسيم فيه وبطلان وجهى ذلك فهذا مثله هذا حجة القاضي ابى بكر محمد بن ابى الطيب ونهاية ما قالوا:. واما حجتنا فنقول اجمع أهل اللغة على أن اقسام كلام العرب أربعة اقسام أمر ونهى وخبر واستخبار وقالوا: الأمر قوله افعل والنهى قوله لا تفعل والخبر قوله زيد في الدار والاستخبار قوله أزيد في الدار ومعلوم انهم إنما ذكروا الاقسام المعنوية في كلامهم دون ما ليس له معنى فإذا قلنا أن قوله افعل ولاتفعل ليس له معنى مقيد بنفسه بطل هذا التقسيم ببينه أن الخبر والأستخبار كلام مقيد بنفسه من غير قرينة تتصل به فكذلك الأمر والنهى وهذا الحقيقة وهى أن وضع الكلام في الأصل إنما هو للبيان والافهام وعلم المراد من الخطاب ولو كان بخلاف ذلك لجرى مجرى اللغو والأخبار التى يقع القصد منها إلى المغايرة وتعمية المراد وذهبت فائدة الكلام أصلا وهذا ظاهر الفساد وإذا ثبت أن القصد من الكلام هو البيان واعلام مراد المخاطب فنقول المعلومات متغايرة في ذواتها مختلفة في معانيها ولا بد لها من أسماء متغايرة ليقع التمييز بتغايرها بين المعلومات فيحصل البيان عن المراد ولا نعرف فيها الاشكال ومن جملة المعلومات التي لابد من البيان عنها الأمر والنهى والعموم والخصوص والتفريق والتخيير إلى ما سوى ذلك من المعلومات والعرب قد جعلت للأمر اسما وللنهى اسما وكذلك للتخيير والعموم والخصوص وغير ذلك وهو مثل ما وضعوا الاسامى المنفردة لمعانى معلومة ووضعوا الحروف التى هي ادوات لمعانى معلومة ايضا وإذا ثبت هذا فالواجب أن يكون كل شيء منها محمولا في الأصل على ما جعل سمة له ودلاله عليه وأن يكون معقولا من ظاهره ما اقتضته صورته إلا أن يرد دليل ينقله عنه إلى غيره ليصير الغرض من الكلام واللبس مرتفعا فالبيان حأصلا والاشكال زائلا ومن حاد عن هذه الطريقة فقد جهل لغة العرب ولم يعرف فائدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 موضوعها وقد أنزل الله تعالى القران بلسان العرب وعلى اوضاع بيانها فقال تعالى: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:195] فعرفنا قطعا أن اوضاعهم مبينة وأن منصوباتهم معتبرة يدل عليه أنه لا خلاف أن المفردات من الأسماء والاحاد من الاجناس التي تتركب منها الجموع والمصادر التي تصدر عنها الافعال مستعملة على ظواهرها غير متوقف فيها وكان حتى ما يبتنى منها وتتركب عليها من الالفاظ الموضوعة للأمر والنهى والعموم والخصوص من أن تكون كذلك إذا كان بعضها متركبا من بعض ومشتقا منه والبيان بكل منها من نوعه واقع به متعلق فإذا توقفنا مع وجود اسمه وحصول الدلاله من جهة الظاهر فقد عطلنا البيان وابدلنا فائدته. فان قالوا: ما ذكرتم من أصل لكلام وتقسيم انواعه إنما هو منقول عن جماعة من أهل اللغة مثل الخليل وسيبويه واقرانهما والعلم لا يحصل بتعلم بحال وإنما يكون ذلك لكم حجة أن لو نقلتم عن العرب وهم لا يعرفون هذا التقسيم وأما الذي قلتم أن الكلام في الأصل موضوع للبيان مسلم ولكن البيان ليس مقصور على لفظ دون لفظ وعلى حالة دون حالة وأن لم يقع بيان الأمر والنهى بصيغة قوله افعل ولاتفعل فيقع عند اتصال القرائن به ويقع ايضا بغير هذه الالفاظ وعلى أنا ادعينا أن هذه اللفظة من جملة الأسماء المشتركة والأسماء المشتركة باب عظيم منقول عن العرب والبيان يقع بها في محتملاتها عند ارادة بعض وجوهها فكذلك ها هنا. والجواب أن الذي حكيناه من اقسام كلام العرب وحكى عن جميع أهل اللغة وهم الذين عنوا بمعرفة لسان العرب واخلطوا علما محدود اوضاعه فلما ارادوا أن يحصروا علمه لمن بعدهم ولمن غاب داره عنهم من أهل عصرهم صنفوا كلام العرب اصنافا وقسموا كلام العرب اقساما وقد عدوا الأمر من اقسامه كما عدوا الخبر من اقسامه فلما كان ظاهر الخبر والاستخبار معمولا به فكذلك ظاهر الأمر والنهى وهذا لان طريق العلم في كل واحد والنقل الذي في الجميع كان بجهة واحدة لغرض واحد وهو العلم بكلام العرب فلا يجوز أن نعلم البعض ونجهل البعض هذا محال. واما قولهم أن البيان يقع ولا يختل مع التوقف الذي صرنا إليه. قلنا إذا وضعوا للأمر قوله افعل وللنهى قوله لا تفعل ولم يفد بنفسه شيئا اختل البيان. بيانه أن اللغة وضعت لحاجات الناس فكل ما احتاجوا إليه وضعوا له اسما يدل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 عليه ومعلوم أن الأمر والنهى من اشد ما تقع الحاجة إليه وهما داخلان في عامة المخاطبات التي تدور بين الناس ونقل ذلك اكثر من الخبر والاستخبار فيستحيل أن يخلو كلام العرب مع سعته وكثرة وجوهه من صيغة الأمر والنهى ولفظة مفردة تدل عليهما بأنفسهما. وأما الذي قالوا: أن هذا اسم مشترك مثل سائر الأسماء المشتركة ويقع البيان بهما عند ارادة احد وجوههما. قلنا نحن لاننكر وجود الأسماء المشتركة في اللغة ولكن ليس هذا من جملتها لانه لو كان يقول القائل لغيره افعل حقيقة في أن يفعل وحقيقة في التهديد الذي يقتضى في أن لا يفعل أو غير ذلك مما ذكروه لكن اقتضاؤه لكل واحد من هذين على سواء لا ترجيح لأحدهما على الآخر ولو كان كذلك لما سبق إلى افهامنا عند سماعها من دون قرينة أن المتكلم بها يطلب الفعل ويدعو إليه كما أنه لما كان اسم اللون مشتركا بين البياض والسواد لم يسبق عند هذه اللفظة من دون قرينة السواد دون البياض ومعلوم أنا إذا سمعنا قائلا يقول لغيره افعل وعلمنا تجرد هذا القول عن كل قرينة فإن الاسبق إلى افهامنا أنه طلب للفعل كما انا إذا سمعناه يقول: رأيت حمارا فإن الاسبق إلى أفهامنا الدابة المعروفة دون الابله الذي يشبه بها وقد بطل بهذا الكلام دعواهم أن الاسم المشترك وإذا بطل الاشتراك لم يبق إلا ما بينا من تعيين وجه واحد له وهو طلب الفعل. وأما الجواب عن كلامهم أما الأول قولهم أنه قد ورد لكذا وورد لكذا قلنا هذه الصيغة موضوعة بنفسها لطلب الفعل وإنما حملنا على ما سواه في المواضع التي ذكرها بقرائن دلت عليها. وأما الأسماء المشتركة فقدمنا الجواب عنها وهذا لأن اللون والعين واشباه ذلك لم توضع لشيء معين وإنما قوله افعل وضع لمعنى معين. ألا ترى أن من أمر عبده أن يضع الثوب يكون لم يستحق له الذم باي صيغ من صيغه فلو قال لعبده اسقنى استحق الذم بتركه السقى ولو كان قوله اسقنى مشتركا بين الفعل والترك واشتراك اللون بين السواد والبياض لم يجز أن يستحق الذم والتوبيخ بترك السقى وهذا لأن أهل اللغة لم يضعوا اسم اللون بعينه وقد وضعوا قوله افعل لمعنى تعينه وهو طلب الفعل على ما سبق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 وأما كلامهم الثاني قلنا قد بينا بطريق النقل عن العرب الذين هم أهل اللسان. وقولهم أنه لم يقع لنا العلم بذلك قلنا هذه مكابرة ومباهتة. بيانه أن العرب صاغوا قوله افعل ولاشك انهم صاغوا هذه اللفظة لمعنى مثل ما صاغوا سائر الالفاظ لمعان وليس ذلك إلا لطلب الفعل الذي يعرفه كل احد من معناه. يدل عليه أنه إذا وجب الوقف بالأمر وجب الوقف بالنهى ايضا ثم حينئذ يصير الأمر والنهى واحدا وهذا محال وعلى أن من مذهب الواقفية أن قوله افعل من الأسماء المشتركة وإذا كان عندهم هكذا فجميع ما قالوه من التقسيم في ثبوت الصيغة للأمر وانها تثبت بالعقل أو بالنقل ودعواهم أن العلم لم يقع لنا بنقل ذلك من العرب ينقلب عليهم فيما ادعوه أنه من الأسماء المشتركة ولا مخرج لهم عن هذا بحال وكل كلام امكن قلبه على قائله ويغير على ما جعله حجة فانه يبطل من أصله والله الهادى إلى الصواب وهو المعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 فصل: صيغة الأمر ... فصل: وإذا ثبت أن للأمر صيغة فنقول. حد الأمر: أنه استدعاء الفعل بالقول ممن هو دونه1 ثم هو أمر بصيغته وليس أمر بالارادة وعند المعتزلة هو أمر بارادة الأمر المامور2. وقد حد بعضهم الأمر فقال حد الأمر أنه ارادة الفعل بالقول ممن هو دونه وهذه المسألة أصولية فإن عندنا يجوز أن يأمر بالشيء وأن كان لا يريده وقد أمر الله تعالى ابليس بالسجود لادم عليه السلام ولم يرد أن يسجد ونهى ادم عن اكل الشجرة واراد أن ياكل وأمر إبراهيم عليه السلام بذبح ابنه ولم يرد أن يذبح وهذا لأن ما أراد الله تعالى أن يكون لا بد أن يكون ولأن السيد إذا قال لعبده افعل كذا يقال امره بكذا وأن لم يعلم مراده فدل أن الأمر أمر بصيغته فحسب ثم إذا عرفنا هذا فنذكر بعد حكم الأمر موجبه.   1 وهذا هو قول المعتزلة وتابعهم فيه الشيخ أبو إسحاق الشيرازي ونقله القاضي عبد الوهاب في الملخص عن أهل اللغة أهل العلم واختاره والعلو هو أن يكون الطالب أعلى مرتبة فإن كان متساويا فهو التماس فإن كان دونه فهو سؤال انظر نهاية السول للآمدي 1/235 المعتمد للقاضي أبو الحسين البصري 1/46. 2 انظر المعتمد لأبي حسين البصري 1/46, 47 إحكام الأحكام للآمدي 2/198. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 مسالة موجب الأمر الوجوب عندنا. وهو قول اكثر أهل العلم1 هذا في الصيغة المتجردة عن القرائن والجملة أن الأمر عندنا حقيقة في الوجوب وعند جماعة من المعتزلة أنه حقيقة في الندب قال أبو هاشم أنه يقتضي الارادة فحسب فإذا قال القائل لعبده افعل افاد ذلك أنه يريد منه الفعل فإن كان الفاعل حكيما وجب كون الفعل على صفة زائدة على حسنه تستحق لاجلها المدح فإذا كان القول في دار التكليف وأجاز أن يكون واجبا وجاز أن لا يكون واجبا ويكون ندبا فإذا لم تدل دلالة على وجوب الفعل وجب نفيه والاقتصار على المتحقق وهو كون الفعل ندبا يستحق فاعله المدح. وقد ذهب بعض الفقهاء إلى أن الأمر لا يقتضي إلا الندب2. وعند جماعة أنه يقتضى الإباحة3 لا غير4 وذهب من قال أنه للندب إلى أن.   1 انظر نهاية السول 2/251 والبرهان 1/216 وأصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير 2/136. 2 قال الشيخ الأسنوي والثاني أنه حقيقة في الندب ونقله الغزالي في المستصفى والآمدي في كتابيه قولا للشافعي ونقله المصنف عن أبي هاشم وليس مخالفا لما نقله عنه صاحب المعتمد كما ظنه بعض الشارحين فافهمه انظر نهاية السول 2/252 والمستصفى 1/411. 3 قال الشيخ الأسنوي الثالث أنه حقيقة في الإباحة لأن الجواز محقق والأصل عدم الطلب انظر نهاية السول 2/252 انظر أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير 2/147. 4 اعلم أنه هناك مذاهب غير التي ذكرها المصنف ولقد ذكرها الأسنوي فقال: الرابع أنه مشترك بين الوجوب والندب وجزم به الإمام في المنتخب وكذلك صاحب التحصيل كلاهما في أثناء الاشتراك وهذا المذهب نقله الآمدي في منتهى السول عن الشيعة ونقل في الإحكام عنهم أنه مشترك بينهما وبين الإرشاد. والخامس أنه حقيقة في القدر المشترك بينهما وهو الطلب وفي المستوعب للقيرواني والمستصفى للغزالي أن الشافعي نص على أن الأمر متردد بين الوجوب والندب وهذا محتمل لهذا المذهب ولما قبله. السادس أنه حقيقة في أحدهما أي الوجوب والندب لكنه لا يعرف هل هو حقيقة في الوجوب مجاز في الندب أو بالعكس ونقله المصنف عن حجة الإسلام الغزالي تبعا لصاحب الحاصل وليس كذلك فإن الغزالي نقل في المستصفى عن قوم أنه حقيقة في الوجوب فقط وعن قوم أنه حقيقة في الندب فقط وعن قوم أنه مشترك بينهما كلفظ العين ثم نقل عن قوم التوفيق بين هذه المذاهب الثلاث قال وهو المختار ونقله في المحصول عنه على الصواب وقال في المنخول وظاهر الأمر الوجوب وما عداه فالصيغة مستعارة فيه هذا لفظه وهو مخالفا لكلامه في المستصفى. السابع أنه مشترك بين الثلاثة وهي الوجوب والندب والإباحة وقيل إنه مشترك بينهما ..... ولكن بالاشتراك المعنوي وهو الإذن حكاه ابن الحاجب. الثامن أنه مشترك بين الخمسة انظر نهاية السول 2/252. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 الأمر طلب الفعل فلا يجوز أن يكون موجبه الإباحة لأن الاباحة لا ترجح جهة الفعل فيها على جهة الترك فلا يكون الأمر طلبا للفعل إذا حمل على الاباحة فاما إذا حملناه على الندب فقد رجح جهة الفعل على جهة الترك لانا جعلنا الفعل أولى من الترك فتحقق طلب الفعل في الأمر فظهرت حقيقته وإذا تحقق الأمر في الندب فلا معنى لاثبات صفة زائدة عليه وهذا لان صفة الوجوب لا دليل عليها لانه لما تحقق معنى الأمر في الندب لم يبق دليل على الوجوب. قالوا: ولأن صفة الأمر لا تفيد إلا الارادة ولا فرق بين قول القائل افعل كذا وبين قوله اريد أن تفعل كذا وأهل اللغة يفهمون من أحدهما ما يفهمون من الآخر ويستعملون أحدهما مكان الآخر ثم قوله اريد منك أن تفعل كذا لا يفيد الوجوب فكذلك قوله افعل وجب أن لا يفيد الوجوب ايضا ولأن أهل اللغة قالوا: أن قوله افعل إنما يكون امرا إذا كان القائل فوق المقول له في الرتبة فإذا كان دونه في الرتبة يكون سؤالا وطلبا ولا يكون امرا فلم يفرقوا بين السؤال والأمر إلا بالرتبة ومعلوم أن هذه الصيغة في السؤال لا تقتضى ايجاب الفعل على المسئول وإنما تقتضى الارادة فقط فكذلك في الأمر لانه لو اقتضى الوجوب لا يفصل من السؤال شيء زائد على الرتبة وهذا لان الرتبة لا تقتضى الوجوب بحال لأن عالي الرتبة قد يأمر بالندب كما يأمر بالواجب فلم يكن في الرتبة ما يدل على الوجوب. قالوا: ولأن الأمر ضد النهى ولا معنى لكونه ضدا إلا أن فائدته ضد فائدته وفائدة النهى كراهة الناهى للمنهى عنه لاغير فكان فائدة الأمر ايضا ارادة للأمر المامور به لاغير. قالوا: ولانا امرنا بالنوافل وسائر الطاعات ونحن مطيعون لربنا بامتثالنا لها ولا صفة لها سوى الندبية فدل أن الأمر يكون حقيقة في الندب وإذا ثبت أنه حقيقة في الندب سقط الوجوب لانها زيادة لا معنى لها وأما حجتنا نستدل أولا بما ورد في قصة ادم عليه السلام وابليس فإن الله تعالى ذكر امره ونهيه في هذه القصة أما الأمر فإن الله تعالى قال: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ} [الكهف: 50] فإن الله امره بالسجود لادم فخرج عن أمر ربه بقوله تعالى: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 رَبِّهِ} [الكهف: 50] ومعناه خرج فلعنه واخرجه من رحمته ونهى ادم عن اكل الشجرة فاكله واخرجه من الجنة ووسمه بالعصيان ولم يحك لنا في القصة سببا يقدم به اليهما غير مطلق الأمر. والدليل عليه أنه قال تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 12] وقال تعالى في حق ادم: {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأعراف: 19] فدل هذا القول انهما يصيران ظالمين بمجرد ارتكاب النهى فإن قيل إنما كفر ابليس لا بمخالفة الأمر لكن بالاستكبار وانكار فضيلة ادم عليه السلام التي اكرمه الله بها والدليل عليه قوله تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 34] معناه صار من الكافرين باستكباره وأما انكاره فضيلة آدم لأنه قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} . الجواب انا لاننكر استكباره وانكاره لفضيلة ادم التى وصفها الله تعالى له لكن استدلالنا - بقوله: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50] وسمه بالفسق لخروجه عن أمر ربه وايضا قال تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 12] ووبخه بمجرد ترك الأمر لانه افاد الوجوب ولولا ذلك لم يستقم توبيخه وذمه بنسبة ذلك إلى مجرد ترك الأمر ويدل عليه أن الله تعالى قال: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63] فقد حذر الله تعالى خلاف الأمر واوعد عليه وبين تعالى أن امره لنا ليس كأمر بعضنا لبعض في أنه لا يجب فإن لنا فيه الخيرة وقد قال تعالى فى موضع آخر: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] فقد نفى الله تعالى ثبوت الخيرة فى امره وانتفاء الخيرة نص في التحتيم والايجاب ويروى أنه عليه السلام دعا ابى بن كعب أو رجلا آخر من اصحابه وهو يصلى فلم يجبه فلما قضى صلاته جاء فقال لم يمنعنى من اجابتك إلا انى كنت في الصلاة فقال النبى صلى الله عليه وسلم الم تسمع قول الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} 1 فأخبر أن الاجابة واجبة.   1 أخرجه البخاري التفسير 8/158 ح 4647 وأبو داود الصلاة 2/72 ح 1458 وأحمد المسند 3/549 ح 15736 الحديث عن أبي سعيد بن المعلى ولم يذكر أبي ابن كعب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 عليه لهذا الخطاب وعنه عليه السلام أنه قال: "لولا أن اشق على امتى لامرتهم بالسواك عند كل صلاة" 1 دل أنه إذا أمر وجب وأن لحقت المشقة. واذا قلنا أن الأمر لا يوجب فلا مشقة وايضا فإن المتعارف من أمر الصحابة رضى الله عنهم انهم عقلوا عن مجرد أوامر الرسول صلوات الله عليه الوجوب وسارعوا إلى تنفيذها ولم يراجعوه فيها ولم ينتظروا لها قران الوعيد وارادته اياها بالتوكيد ولوكان كذلك لحكى عنهم ولنقل القرائن المضافة إلى الأوامر كما نقلت أصولها فلما نقلت اوامره ونقل امتثال الصحابة لها من غير تلبث وانتظار ونقل ايضا احترازهم عن مخالفتها بكل وجه عرفنا انهم اعتقدوا فيها الوجوب وهذا كله من الشرع وأما من حيث اللسان فلان العرب تستجيز نسبة المخالف للأمر إلى العصيان احالة له إلى نفس المخالفة يقول القائل منهم لغيره امرتك فعصيتنى وهذا شيء متدأول بينهم لا يمتنع أحد منهم عن إطلاقه عند مخالفة الأمر قال شاعرهم: امرتك امرا جازما فعصيتنى ... وكان من التوفيق قتل ابن هاشم وقال دريد بن الصمة: امرتهم امرى بمتعرج اللوى ... فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد فلما عصونى كنت منهم وقد ... ارى غوايتهم واننى غير مهتد ببينه أن العرب تقول امرتك فعصيتنى فعقب الأمر بالعصيان موصولا بحرف الفاء فدل أنه كان ذلك مما سيق من الأمر ومخالفته كما تقول زرتك فاكرمتنى أو زرتنى فاكرمتك يدلان أن المؤثر في اكرامه كان زيارته كذلك المؤثر في معصيته خلافه لامره وإذا كان هو المؤثر دل أنه موجب فإن قالوا: قد يقول القائل لغيره اشرت عليك فعصيتنى ولاتدل على أن الاشارة عليه موجبة. قلنا إنما يقال في الاشارة فلم يقبل منى ولا يقال فعصيتنى إلا نادرا ولئن قيل فهو على طريق التوسع لا على أنه حقيقة ودليل آخر معتمد وهو من اقوى الادلة وهو.   1 أخرجه البخاري الجمعة 2/425 ح 887 ومسلم الطهارة 1/220 ح 42/252 وأبو داود الطهارة 1/12 ح 46, 47 والترمذي الطهارة 1/34 ح 22 والنسائي الطهارة 1/36 باب الرخصة في السواك بالعشى للصائم وابن ماجه الطهارة 1/105 ح 287 ومالك في الموطأ الطهارة 1/66 ح 114 والدارمي في الطهارة 1/184 ح 683 وأحمد المسند 2/328 ح 7358. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 دليل معقول ووجه ذلك أن قوله افعل طلب الفعل لا محالة وطلب الفعل لا محالة ايجاب وإنما قلنا أنه طلب الفعل لا محالة لان قوله افعل قضية الفعل بلا اشكال من غير أن يكون للترك فيه مشاع لان الترك نقيض الفعل والشيء لانقيض يقتضيه وكذلك لا تخيير فيه لان التخيير يأخذ طرفا من الترك فانه يخبر ليفعل أو يترك والأمر يقتضى الفعل بكل حال من غير أن يكون للترك فيه مشاع فلا يكون للتخيير فيه ايضا مشاع وإذا ثبت بطلان التخيير فيه والمندوب إليه على التخيير لانه وأن كان الفعل منه أولى فالترك فيه جائز من غير أن يكون فيه عيب على تاركه فبطل اقتضاء الندب ايضا على هذا الوجه وبقى ما قلنا أن الأمر لا يقتضى طلب الفعل لا محال إنما يقتضي مجرد إرادة المأمور وارادة المامور لا توجب الفعل قالوا: وهذا لانه لا فرق بين قول القائل لغيره افعل وبين قول القائل اريد منك أن تفعل وهذا ليس بصحيح بل الأمر يقتضى الفعل بكل حال على ما سبق وليس قوله افعل مثل قوله اريد أن تفعل لان قوله اريد منك أن تفعل اخبار بالارادة فحسب وليس بطلب الفعل منه وأما قوله افعل طلب الفعل صريحا فكيف يستويان وقد قال بعضهم في تقرير ما ذكرناه أن الأمر في اللغة لما كان موضوعا لطلب الفعل والفعل لا يحصل إلا بالوجوب لان الفعل إذا لم يكن واجبا لا يحصل لانه ترك فاقتضى الوجوب حتى يحصل فصار وجوبا بايجابه فأوجبناه ليوجد. يدل عليه أن الائتمار من حكم الأمر كما أن الانكسار من حكم الكسر كما يقال كسر القنديل فانكسر وهدم الجدار فانهدم وأمر بكذا فائتمر وإذا كان الائتمار من حكم الأمر اقتضى حصول الائتمار كالكسر اقتضى حصول الانكسار إلا أن حصول الائتمار لما كان بفعل مختار اقتضى وجوب الفعل ليحصل الائتمار إلا ترى أنه لما لم يكن الائتمار بفعل مختار حصل الائتمار عقيب الأمر بلا واسطة كالانكسار عقيب الكسر قال الله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40] وقال تعالى: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} والجواب في هذا الدليل أن الائتمار لما كان حكم الأمر فاقتضى الأمر ثبوت الائتمار ضرورة ولا ائتمار إلا بالأيجاب ليوجد لا محالة فيثبت الوجوب ضرورة هذا الطريق وهذا دليل اورده أبو زيد وفيه تكليف شديد والذي ذكرناه من قبل احسن وقد استدل المتقدمون في هذه المسالة بأمر السيد عبده بفعل من الافعال ثم إذا خالف يجوز تاديبه وحسن منه ذلك عند العقلاء كافة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 ولولا أنه أفاد الوجوب لم يحسن تاديبه إلا بقرينة يصلها بامره ليدل على الوجوب وحين جاز تاديبه ويقول له: اؤدبك لانك خالفت امري وعصيتنى ولاتهجن في ذلك احد يسمع منه هذا المقال عرفنا أنه يفيد الوجوب بصيغته والاعتماد على ماذكرنا وإذا عرفنا هذه الدلائل سهل الجواب عن شبههم. أما الأول فقولهم أن الأمر طلب للفعل وقد ترجح الفعل على الترك بالندبية. قلنا وأن ترجح جانب الفعل لكن الترك مدخل في الفعل. فان قلنا أنه مندوب إليه لانه بتركه فيجوز له ذلك وقد بينا أن قوله افعل يقتضى الفعل لا محالة وذلك هو الوجوب. واما قولهم أن قوله افعل لا يقتضى إلا ارادة الفعل قد اجبنا عن هذا في اثناء كلامنا وذكرنا الفرق بين قوله افعل وبين قوله اريد منك أن تفعل وعلى انا بينا فيما تقدم أن الأمر لا يدل على الارادة ويجوز أن تأمر الأمر بما لا تريده من المأمور. واما قولهم أن الأمر إنما يكون أمر بالرتبة. قلنا ليس فيما قلناه اكثر من أن السؤال لا يقتضى الوجوب وهذا كلام باطل لان السؤال ليس بأمر والكلام في موجب الأمر. وقولهم انهم فرقوا بمجرد الرتبة قلنا واى مانع من التفريق بالرتبة واللغة منقولة عن أهل اللسان فإذا سمعوا عن هذا امرا وهذا سؤالا وفرقوا بالرتبة لا بالصيغة وقع الفرقان ولم يدل عدم الوجوب في السؤال على عدم الوجوب في الأمر. بيانه أن القائل لغيره افعل على طريق السؤال نعتقد أن فعله لذلك على طريق التطول والتفضل لا على طريق الخروج عن الأمر حتى أنه إذا لم يفعل لا ينسب إلى العصيان والخلاف وإنما ينسب إلى طريق التفضل والتكرم وهاهنا نعتقد الأمر أن فعله كالمامور على جهة الخروج عن الأمر وينسب إلى العصيان والخلاف عند ترك المامور فإن قالوا: أن الإنسان إذا قال لمن هو فوقه افعل كذا يطلب منه الفعل لا محالة من غير أن يدع له في تركه مساغا مثل ما إذا قال لمن هو دونه افعل. قلنا ليس كما قلتم لانه سؤال على طريق التذلل والخضوع فيطلب منه الفعل مع اعتقاده أنه على تخييره وأن فعله تفضل منه بخلاف مسالتنا فانه يطلب منه الفعل على طريق الاستعلاء عليه ويعتقد أنه لاخيرة له فيه بحال فكان مقتضيا للإيجاب على. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 ما سبق فهذا وجه الجواب عن هذا الفصل وهو معتمدهم وأما قولهم بان النهى يفيد الكراهة فيفيد الأمر والإرادة. قلنا عندنا أن النهى للتحريم فيكون الأمر للايجاب وسياتى هذا من بعده. واما قولهم أن النوافل مامور بها. قلنا بلى ولكن على طريق المجاز لا على طريق الحقيقة فإن قلنا على طريق الحقيقة سيتبين من بعد وقد قال بعض المخالفين لو كان مطلق الأمر ظاهر يدل على الوجوب لم يكن لورود التاكيد عليه معنى فحين دخل عليه التأكيد من ذكر الالزام والايجاب وذكر الوعيد وما يجرى مجراه علمنا أن الوجوب كان بذلك وايضا فانه يحسن الاستفسار من المخاطب ولو كان صيغته الوجوب لم يحسن الاستفسار وليس واحد من هذين الكلام بشيء أما الأول فإن اللفظ قد يؤكد فإن كان له ظاهر معمول به مثل قولهم ثلاثة وسبعة فتلك عشرة والتاكيد واسع في كلام العرب. قال أبو المكارم الاعرابى هو شيء شد به كلامنا وأما الاستفسار فلا نسلم حسنه بعد أن يكون الكلام معلوما في نفسه وعلى أنه أن قيل فهو نوع استظهار وطلب زيادة شرح وتبيين وهو ايضا داخل في كلام العرب مع كون الكلام صحيحا في نفسه معمولا به والله اعلم بالصواب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 فصل: صيغة الامر إذا وردت إبتداء أوبعد حظر فإنها تقتضي الوجوب ... فصل ثم اعلم أن هذه الصيغة سواء وردت ابتداء أو وردت بعد الحظر فانها تقتضى الوجوب1 2.   1 محل الخلاف في هذه المسألة في أن الأمر المطلق ابتداء يفيد الوجوب وهو قول الجمهور أو يفيد الإباحة وهما القولان اللذان انبنت عليهما هذه المسألة وأما القائلون بأن للصيغة حقيقة في الإباحة إبتداء فقد اتفقوا على أنها للإباحة كذلك إذا وردت بعد الحظر والتحريم انظر أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير 2/152. 2 وقد استدل البيضاوي لهذا القول بأن الصيغة حقيقة في الوجوب لما سبق من الأدلة على ذلك فإذا استعملت بعد الحظر في الوجوب فقد استعملت في مقتضياها لغة ووروردها بعد الحظر لا يصلح أن يكون مانعا من إفادتها الوجوب لأن الصيغة قد طلبت الفعل وطلب الفعل بعد منعه يرفع الحرج الذي كان مقررا فيه ولا شك أن رفع الحرج يتحقق في الإباحة كما يتحقق في الوجوب لأن كلا منهما يحقق المنافاة للتحريم. وحيث كان الانتقال من التحريم إلى الإباحة معقولا كان الانتقال من التحريم إلى الوجوب معقولا كذلك وتكون الصيغة مفيدة للوجوب عملا بالمقتضى السالم عن المعارض. انظر إحكام الأحكام للآمدي 2/261 نهاية السول للأسنوي 2/272 أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير 2/152, 153. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 وقال بعض اصحابنا إذا وردت بعض الحظر اقتضت الاباحة1 وعليه دل ظاهر قول الشافعى2 رحمه الله في أحكام القران3. وتعلق من قال بالقول الثانى بان الأمر المطلق المتجرد عن القرائن هو الدليل على الوجوب وتقدم الحظر قرينة دالة على الاباحة مثل قوله: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] ولأن عرف الشرع وعرف العادة معتبر والمعروف في الأمر الوارد بعد الحظر في الشرع أنه يفيد الاباحة بدليل قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] وبدليل قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا} [الجمعة: 10] وكذلك عرف العادة فإن من قال لعبده لا تدخل الدار ثم قال ادخل كان المعقول منه رفع النهى المتقدم لا ايجاب الدخول. واما الدليل على القول الأول وهو الاصح أن صيغة الأمر الوارد بعد الحظر مثل صيغة الأمر الوارد بعد الحظر مثل صيغة الأمر الوارد ابتداء فإذا كانت صيغة الأمر ابتداء فإذا كانت صيغة لمر ابتداء مفيدة للوجوب كذلك الوارد بعد الحظر وهذا لان الموجب هو الصيغة والصيغة لا تختلف بتقدم الحظر وعدم تقدمه ولأن النهى الوارد بعد الاباحة يفيد ما يفيده النهى ابتداء كذلك الأمر الوارد بعد الحظر يفيد ما يفيده في الابتداء وربما يمنعون هذا. واما قولهم أن تقدم الحظر قرينة لا نسلم وهذا لان الحظر ليس له اتصال بالأمر المتآخر فكيف نجعل قرينة فيه وهذا لان المنع فى الشريعة فى الالفاظ لا الاعراض اذ الاعراض لا يمكن الوقوف عليها فوجب ترك التفتيش عنها ولزم الرجوع إلى حقائق.   1 هذا قول أكثر الفقهاء والمتكلمين واختاره ابن الحاجب ونقله عن الشافعي انظر نهاية السول 2/272 إحكام الأحكام للآمدي 2/261 أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير 2/153. 2 انظر نهاية السول 2/272 إحكام الأحكام للآمدي 2/261 وأصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير 2/153. 3 اعلم أنه يترع على هذه المسألة فروع مهمة ذكرها ابن اللحام في كتابه القواعد فانظرها انظر القواعد 223, 224. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 الالفاظ فى الشريعة. واما قولهم أن الكلام يحمل على عرف الشرع وعلى عرف العادة. قلنا أما ما ذكروا من الايات فإنما حمل الأمر على الاباحة في هذا الموضوع بدليل. واما الذي ذكروه من عرف العادة فلا نسلم ذلك والعادة فى ذلك مختلفة فلا يمكن الرجوع إليها فنرجع إلى نفس اللفظ على ماسبق. ألا ترى أن لفظ الايجاب وهو قول القائل اوجبت كذا والزمت كذا لافرق فيه بين أن يرد به قبل الحظر أو يرد ابتداء كذلك لفظ الأمر الذي يقتضي الإيجاب يكون كذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 فصل: اختلاف الاصحاب فى الأمر إذا قام الدليل فيه على انتفاء الوجوب ... فصل ثم اختلف اصحابنا فى الأمر إذا قام الدليل فيه على انتفاء الوجوب وحمل على الندب هل هو مأمور به أولا فمن اصحابنا من قال ليس بمأمور به ولئن سمى مامورا به فهو على المجاز. ومنهم من قال هو مامور به حقيقة. اما الذين قالوا: بالأول يذهبون إلى أن الأمر حقيقة في الايجاب فإذا استعمل في غير الايجاب يكون مجازا كما لو استعمل فى الاباحة وكسائر الالفاظ التى تستعمل فى غير موضعها أما الذين قالوا: بالثانى ذهبوا إلى أن الواجب ما يثاب على فعله ويعاقب على تركه والندب ما يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه فإذا حمل الأمر على الندب فقد حمل على بعض ما اشتمل عليه الواجب فكان حقيقة فيه كما لو حمل العموم على بعض مدلوله فإنه يكون حقيقة فيه كذلك هاهنا. والأول احسن لان المندوب إليه غير الواجب قطعا وبان كان يثاب على فعله المندوب إليه لا يذهب هذه الغيرية لأن الشيئين يجوز أن يستويا فى بعض الأشياء وأن كانا مختلفين لعدم التشابه فى باقى الاوصاف وإذا ثبت الاختلاف فإذا حمل الامرعليه عرفنا قطعا أنه استعمل فى غير حقيقته فلا بد أن يكون مجازا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 فصل: أذا ورد الدليل على انه لم يرد بالأمر الوجوب ... فصل اذا دل الدليل على أنه لم يرد بالأمر الوجوب لم يجز الاحتجاج به على الجواز ومن اصحابنا من قال يجوز لان الوجوب وأن انتفى فانتفاؤه لا يدل على انتفاء الجواز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 والأول اظهر لان اللفظ لم يوضع للجواز أما وضع للايجاب والجواز يدخل فيه على طريق التبع فإذا سقط الأصل سقط ما دخل فيه على سبيل التبع1.   1 وهذه المسألة فريدة لم يذكرها المؤلف وهي المعنون عنها في كتب الأصول إذا نسخ الوجوب بقى الجواز واعلم أن الجواز يطلق بإطلاقات ثلاثة الإطلاق الأول: الإذن في الفعل وهو بهذا الإطلاق يشمل أحكاما أربعة هي: الوجوب الندب الإباحة الكراهة الإطلاق الثاني: الإذن في الفعل والترك وهذا الإطلاق يشمل أحكاما ثلاثة هي: الندب الإباحة الكراهة الإطلاق الثالث: التخيير بين الفعل والترك على السواء وهذا الإطلاق لا يشمل إلا الإباحة. والوجوب هو: طلب الفعل مع المنع من الترك على ولا شك أن الفعل متى كان مطلوبا صح أن يحكم عليه بأنه ما نحن فيه كما يصح أن يقال: إنه لا حرج فيه ومن هنا صح تعريف الوجوب بأنه الإذن في الفعل مع المنع من الترك كما صح تعريفه بأنه عدم الحرج في الفعل مع الحرج في الترك ويكون الوجوب له تعريفات ثلاثة كلها مقبولة. فالوجوب حقيقة مركبة من جزءين مما في التعريف الأخير: عدم الحرج في الفعل والحرج في الترك ولا شك أن المركب يرفع بارتفاع أحد جزءين كما يرفع بارتفاع كل الأجزاء. ومن هنا صح أنه يقال: إن نسخ الوجوب يتحقق بارتفاع الحرج في الترك كما يتحقق بارتفاع الجزءين معا وهما عدم الحرج في الفعل والحرج في الترك ولا شك أن الحرج في الترك نقيض لعدم الحرج في الترك والنقيضان لا يرتفعان كما لا يجتمعان فإذا نسخ الوجوب بارتفاع الحرج في الترك حل محله عدم الحرج في الترك لأنه نقيض له والنقيضان لا يرتفاعان. وتكون الحقيقة الباقية بعد رفع الحرج في الترك هي عدم الحرج في الفعل مع عدم الحرج في الترك وهذه الحقيقة هي الجواز بالإطلاق الثاني فهي شاملة لأحكام ثلاثة هي الندب والإباحة والكراهة. وقد اختلف الأصوليون فيما إذا نسخ الشارع وجوب الفعل بدليل لم يتعرض لحكم المنسوخ بعد نسخه بأن قال: الشارع نسخت وجوب الفعل أو قال رفعت الحرج في الفعل عنكم فهل يبقى الجواز بالإطلاق الثاني وهو عدم الحرج في الفعل مع عدم الحرج في الترك ويكون عدم الحرج في الفعل مستفادا من دليل الوجوب لأنه كان يدل عليه والناسخ لم يرفعه وإنما رفع الحرج في الترك ويكون عدم الحرج في الترك مستفادا من الدليل الناسخ لأنه لما رفع الحرج في الترك اقتضى ذلك أن يحل محله عدم الحرج في الترك لأنه نقيضه - والنقيضان لا يرتفعان - وبذلك يكون الفعل بعد نسخه صالحا لأن يكون مندوبا أويكون مباحا أو أن يكون مكروها - ويكون المعين لأحدهما بخصوصه هو دليل آخر أو إذا نسخ الوجوب فلا يبقى الجواز بالإطلاق الثاني وإنما يبقى الجواز بالإطلاق الثالث - وهو التخيير بين الفعل والترك على السواء وهو المعروف بالإباحة. أو إذا نسخ الوجوب فلا يبقى الجواز وإنما يبقى الندب أو إذا نسخ الوجوب فلا يبقى الجواز بل يعود الفعل بعد نسخ وجوبه إلى ما كان عليه قبل الوجوب فإن كان قبل الوجوب مندوبا ........ = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 ............................................................................   = فهو مندوب وإن كان قبل الوجوب مباحا فهو مباح وإن كان قبل الوجوب محرما فهو محرم وإن كان قبل الوجوب مكروها فهو مكروه. اختلف الأصوليون في ذلك على أربعة مذاهب: المذهب الأول: مذهب جمهور الأصوليين وهو إذا نسخ الوجوب بقي الجواز بمعنى عدم الحرج في الفعل وعدم الحرج في الترك ويكون الفعل بعد نسخ وجوبه صالحا لأن يكون مندوبا أو مباحا وخصوص أحدهما يعرف بالدليل. ووجهتهم في ذلك أن الدليل الذي دل على وجوب الفعل قد دل على شيئين أحدهما: عدم الحرج في الفعل وثانيهما: الحرج في الترك والدليل الذي نسخ الوجوب لم يتعرض لعدم الحرج في الفعل وإنما تعرض لنسخ الوجوب فقط ونسخ الوجوب يتحقق برفع الحرج في الترك - فلا يزال الوجوب بعد النسخ دالا على الحرج في الفعل والناسخ لما رفع الحرج في الترك اقتضى ثبوت نقيضه وهو عدم الحرج في الترك لأن النقيضين لا يرتفعان وبذلك يكون عدم الحرج في الفعل مستفادا من دليل الوجوب وعدم الحرج في الترك مستفادا من الناسخ وتكون الحقيقة الباقية بعد النسخ هي عدم الحرج في الفعل مع عدم الحرج في الترك ويكون الفعل صالحا للأحكام الثلاثة وهو ما ندعيه. المذهب الثاني: أن الوجوب إذا نسخ بقي الجواز بمعنى التخيير بين الفعل والترك على السواء وهو المعروف بالإباحة ووجهة أصحاب هذا المذهب أن الوجوب هو طلب الفعل مع المنع من الترك وما دام الوجوب قد نسخ فقد ارتفع المنع من تركه وأصبح دليل الوجوب غير دال على واحد منهما فيكون المكلف مخيرا بين الفعل والترك وهذا هو الإباحة. المذهب الثالث: إذا نسخ الوجوب بقي الندب فيترجح الفعل على الترك ووجهة أصحاب هذا المذهب أن الإيجاب هو طلب الفعل مع المنع من الترك فلا يزال الدليل دالا على طلب الفعل والذي يطلب فعله بعد الواجب هو المندوب فقط لأن المباح لا طلب فيه والمكروه إنما يطلب تركه لا فعله وبذلك يكون الحكم الباقي بعد نسخ الوجوب هو الندب فقط وهو ما ندعيه. المذهب الرابع: وهو لحجة الإسلام الغزالي أن الوجوب إذا نسخ لم يبق الجواز بل يعود الفعل إلى ما كان عليه قبل الوجوب فإن كان قبل الوجوب محرما كان محرما وإن كان قبل الوجوب مندوبا أو مباحا أو مكروها أخذ الحكم الذي كان عليه قبل الوجوب. وحجته في ذلك: أن الوجوب حقيقة مركبة من جنس هو عدم الحرج في الفعل ومن فصل هو الحرج في الترك وقد نص ابن سينا على أن الجنس يتقوم بالفصل ويوجد بوجوده بمعنى أن الفصل يكون علة للحصة المعنية من الجنس المتحققة في النوع ومما لا شك فيه أن ذهاب العلة يقضى بذهاب المعلول فيكون دفع الفصل رفعا للجنس فإذا ارتفع الوجوب بارتفاع فصله وهو ............. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 مسألة: الأمر لا يفيد التكرار على قول اكثر اصحابنا. وقال بعضهم يفيد التكرار وهو اختيار الاستاذ ابى اسحاق الاسفرائينى. وقد قال بعض اصحابنا أنه لا يفيد التكرار ولا يحتمله فالأولى أن تقول أنه يحتمله لكن لا يفيده بمطلقه1.   = الحرج في الترك فقد ارتفع الجنس وهو عدم الحرج في الفعل وبذلك فلا يكون الخطاب الدال على الوجوب دالا على عدم الحرج في الفعل لعدم بقائه بعد النسخ. ومتى ارتفع الوجوب ولم يوجد دليل يدل على حكم معين في الفعل رجع الفعل إلى ما كان عليه قبل الوجوب وهو ما ندعيه انظر نهاية السول 1/236, 237 والمستصفى للغزالي 1/73, 74. وأصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 1/136, 139. 1 هذه المسألة هي المسألة المعنون عنها في كتب الأصول بأن مطلق الأمر يقتضي التكرار فنبين أولا محل النزاع ثم نذكر المذاهب وأدلتها وهو ما أخذناه لى يد شيخنا حفظه الله الحسيني الشيخ في محاضرته في كلية الشريعة جامعة الأزهر قسم الدراسات العليا. أولا محل النزاع أن الأمر المقيد بالمرة يحمل على المرة عملا بهذا القيد كإقراء الكتاب مرة والأمر المقيد بالتكرار يدل على التكرار عملا بالقيد كاقرأ الكتاب ثلاث مرات. والأمر المقيد بشرط أو صفة لا يحمل على التكرار لفظا ولكن يحمل عليه قياسا مثل: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} فالصفة في الزنى والسرقة والجنابة. وقوله قياسا أي عقلا لا أن اللفظ بوصفه يدل عليه إما أنه لا يدل لفظا فلأن لو قال رجل لوكيله: طلق زوجتي ولا تطلقها إلا إذا دخلت الدار لم يتكر الطلاق في هذه الصورة بتكرر الدخول ولو دل عليه لفظا لتكرر كما لو قال: كلما دخلت زوجتي الدار فطلقها دل على التكرار لفظا بقوله كلما. وضابط الوكالة كل بما يجوز أن يباشر الشخص بنفسه يجوز التوكيل فيه. وإما أنه يدل قياسا فلأن ترتيب الحكم على الشرط أو الصفة يفيد عليه ذلك الشرط عقلا لا لفظا العلة تدور مع المعلول وجودا وعدما وتلك الصفة لذلك الحكم ولا شك أن المعلول "الحكم" يتكرر بتكرر علته "إذا عدم الشرط ينعدم الحكم". فإن قيل: إن هذا التعليل منقوض بقوله لوكيله إن دخلت زوجتي الدار فطلقها فإنه أمر معلق على شرط يقتضي أن دخول الطلاق علة فيه ومع ذلك لم يتكرر الطلاق بتكرر الدخول كقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} فلم كرر أمر الطهارة في الجنابة ولم يكرر أمر الطلاق بتكرر الدخول. أجيب بأن الذي جعل الطلاق معلولا هنا هو الزوج ولا عبرة بجعله لأنه ليس له سلطة التشريع في الأحكام مدة لو صرح بالتعليل كأن قال: طلقتك لأجل دخولك الدار وكانت له زوجة أخرى لا تطلق هذه الأخرى بدخولها هذه الدار فالمولى سبحانه وتعالى يملك سلطة ......... = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 ...................................................................   = التشريع ولذلك يتكرر الأمر المعلق عقلا بتكرر الشرط أو الصفة الزوج لا يملك حق التعليل المطلق ولذلك فلا تطلق إلا من عيبها فالمعتبر إنما هو تعليل الشارع أما الأمر المطلق العاري من هذه القيود المتقدمة فقد اختلف العلماء في دلالته على المرة أو التكرار أو غيرهما على خمسة مذاهب. المذهب الأول: أنه لا يدل بذاته على المرة أو التكرار ذاته مادته وحروفه بل بالالتزام فدلالته التزامية فلا يدل بذاته أي دلالة مطابقة فيدل على طلب إيجاد وتحقيق المعدوم فاضرب لا ضرب موجود بل يوجد في الخارج ولما كان وجود المعدوم لا يتحقق إلا بالوجود فيتحقق بالمرة فدل على المرة التزاما فهذا الإيجاد يتحقق بمرة. وإنما يقيد طلب الماهية من غير إشعار بوجدة أو كثرة غير أنه لما لم يمكن إدخال هذه الماهية في الوجود بأقل من مرة كانت المرة واجبة لهذا للضرورة أثبت الدلالة بالضرورة ونفى الدلالة بنفسه أي لعدم إمكان ماهية الوجود بأقل من مرة فالضرورة اقتضت ذلك لا لأن الأمر يدل عليها بذاته ليس ذلك من دلالته على المرة بل لعدم إمكان التحقق في الوجود بأقل من مرة فكان للضوروة ودلالة الشيء على الشيء للشرورة تكون دلالة التزامية وإلى هذا ذهب الإماموأتباعه واختاره الآمدي وابن الحاجب والبيضاوي واستدلوا على ذلك بما يأتي: أولا: أن المقصود من صيغة الأمر هو إدخال حقيقة الفعل المطلوب في الوجود كأسقني ماء المقصود إيجاد السقي سواء المرة أو التكرار والأكثر من مرة خارج عن المطلوب والوحدة والتكرار بالنسبة إلى الحقيقة أمر خارجي فيجب أن يحصل الامتثال بالحقيقة والموحدة من ضروريات الحقيقة لأنها المطلوبة مع أيها حصل ولا يتقيد بأحدهما دون الآخر ولذلك يبرأ بالمرة الواحدة لا لأنها تدل على المرة بخصوصها. ثانيا: أن الأمر ورد في الشرع تارة مع التكرار كآيات الصلاة والزكاة والصوم فلو كان يدل على الوحدة لكان التكرار باطلا وورد عرفا مع التكرار نحو: افظ دابتي أي المداومة إلى أن آتي فدل عليه بمادته وأحسن إلى الناس كما أنه ورد في الشرع وفي العرف مع المرة كآية الحج وكفول القائل لغيره: ادخل الدار واشتر اللحم ويلزم من هذا أي من أن الشرع جاء دالا على التكرار والوحدة وكذا العرف كونه حقيقة في القول المشترك بين التكرار والمرة وإلا للزم الاشتراك اللفظي أو المجاز والأصل عدم المجاز وعدم الاشتراك اللفظي فهو مشترك بينهما. ثالثا: لو كان الأمر المطلق للتكرار لعم الأوقات كلها "وإذا لضي واجبات أخرى وما أدى إلى إبطال الواجبات الأخرى فباطل" لكن التالي باطل فبطل المقدم "إذا فلا يدل على التكرار" وثبت نقيضه "وهو عدم الدلالة" وهو عدم كون الأمر المطلق مفيدا للتكرار وهو المطلوب. أما الملازمة فلأن الأوقات كلها بالنسبة للأمر المطلق سواء لعدم دلالته على معين فيهما ........ = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 ....................................................................   = بخلاف أوقات الصلاة لأن الشارع بين الأفضلية وامتناع الترجيح بلا مرجح. وأما الاستثنائية فلأنه يلزم أن ينسخه كل تكليف يرد لا يمكن الجمع بينهما فلا يمكن الإتيان بلا صلاة مع الأمر بالقراءة فعلى هذا القراءة تستغرق الوقت فالأمر بالصلاة ينسخ الأمر بالقراءة لأنه متأخر لأن الأمر المطلق يقتضي الفعل في جميع الأوقات والتكليف بما لا يجامعه الوارد بعده يقتضي دفعه "بتركه" في بعضها "ليؤدي الفيضة" وذلك هو النسخ بعينه "ولا قائئل بعد بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم. المذهب الثاني: أنه يدل على التكرار المستوعب لزمان العمل شرط الإمكان أي الوقت الممكن له وبه قال الأستاذ أيو إسحاق وأبو هاشم القزويلي وطائفة من العلماء واستدلوا لذلك بما يلي: أولا أن الخليفة الأول رضي الله عنه تمسك في حق أهل البغي على وجوب تكرار الزكاة بعد أن أدوها مرة بمجرد الأمر "متعلق الجار والمجرور قوله تمسك" في قوله تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} وكان ذلك بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليه أحد فكان إجماعا وما ذاك إلا لفهم التكرار من الصيغة. وأجيب بأنه يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد بين للصحابة وجوب تكرار إيجاب الزكاة قولا أو عملا بأن أرسل العمال كل حول إلى الملاك لأخذ الزكاة فلم ينكره لذلك "والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال. ثالثا: الأمر كالنهي في أن كلا منهما موضوع للطلب والنهي يقتضي التكرار فكذلك الأمر. "الانتهاء عن الزنا لا يتعارض مع أي تكليف والفعل يتعارض لأن التلبيسمع الفعل مع آخر لا يمكن لعدم اتساع الزمن لهما فالزمان يتسع لنواهي وأمر لا أمران أو أكثر". لأن فيه بقاء على العدم وهو يجامع كل فعل ومقتضى الأمر بالشيء الاتيان به في جميع الأوقات وهو غير ممكن لأنه يؤدي إلى تفويت المأمورات الأخرى التي لا تجامعه فكان قياسا مع الفارق وهو باطل. ثالثا: الأمر بالشيء نهي عن ضده والنهي يقتضي انتفاء المنهي عنه دائما "فلو تلبس به لما انتهى" وذلك يلزمه وجود المأمور به دائما ولا معنى للتكرار إلا هذا "قم نهى عن القعود والامتناع عن القعود لا يتصور إلا بالقيام وما دام القعود منهي عنه فلا بد أن يستمر في القيام فهو قد لاحظ دلالة النهي على التكرار وهو عدم وجود المنهي عنه دائما والمعنى: أن الأمر بالشيء نهي عن ضده والنهي يتكرر ولا يمكن أن يحقق المنهي عنه إلا بالاستمرار في تحقق المأمور به. وأجيب بأنا لا نسلم أن الأمر بالشيء نهي عن ضده سلمنا "هذا مزيد ترقي في الرد" لكن لا ......... = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 ...........................................................................   = نسلم أن النهي الذي يدل عليه الأمر يمنع من المنهي عنه دائما في جميع أحواله بل هو تابع للأمر الذي دل عليه فإن كان الأمر دائما كان النهي المستفاد منه مقيدا به كذلك فالأمر بالحركة دائما منع من السكون دائما والأمر الحركة ساعة منه من السكون دائما ومن هنا نأخذ أن كون النهي الضمني للتكرار فرع كون الأمر للتكرار فإثباته به دور وهو باطل "الأمر هنا أصل والنهي فرع فإذا كان الأمر مفيدا فالنهي كذلك وإذا كان الأمر مطلق فالنهي مطلق فدلالة النهي الذي تضمنه الأمريتبع دلالة الأمر والدور هنا صورته هو توقف دلالة الأمر على النهي في دلالته أي الأمر على التكرار من النهي وتوقف دلالة النهي على الأمر في دلالته أي النهي على التكرار من الأمر بأن الأمر بالشيء نهي عن ضده واعلم أن الدور هنا اسمه الدور المصرح نوع من الدور السبقي". المذهب الثالث: أنه يدل على المرة ويحمل على التكرار وبقرينة وبه قال كثير من الأصحاب واستدلوا على ذلك بأنه لو قال السيد لعبده ادخل الدار فدخلها مرة واحدة عد ممتثلا عرفا ولو كان للتكرار لما عد ممتثلا. وأجيب بأنه عد ممتثلا لأن المأمور به وهو الحقيقة حصل في ضمن المرة لا بخصوصهما بل لكونهما مما تحصل به الحقيقة مع عدم احتياج صرفه الامتثال إلى أزيد منها. المذهب الرابع: أنه مشترك لفظي بين التكرار والمرة فيتوقف إعماله في أحدهما على وجود القرينة. واستدل له بأنه لم يكن مشتركا بين المرة والمرات لما حسن الاستفسار عند سماع صيغة الأمر بأن المراد ايهما لكن التالي باطل فبطل المقدم وهو عدم الاشتراك ونبت نقيضه وهو أنه مشترك بينهما "لو لم يكن مشتركا لما اسفسر عنه فحسن الاستفسار دليل على اشتراك" أما الملازمة فلأن سراقة هو من أهل اللسان قال في حجة الوداع: ألعامنا هذا أم للأبد فحسن السؤال مستلزم الاشتراك البتة. وأجيب عن ذلك بأنا لا نسلم الملازمة لجواز أن يكون متواطئا "أي معنويا ومشترك للقدر المشترك وهو إيجاد المعدوم في الخارج" ومع ذلك يحسن الاستفسار ألا ترى "زيادة توضيح" أنه قد يستفسر عن أفراد المتوطئ كما لو قيل مثلا أعتق رقبة يحسن أن يقال: أمؤمنة أم كافرة سليمة أم معيبة فقد حصل الاستفسار ولن يلزم منه كون اللفظ مشتركا لفظيا كما رأيت. المذهب الخامس: التوقف على القول بالمرة أو التكرار على معنى أنه مشترك بينهما أو لأحدهما ولا تفرقة فلا يحمل على أحدهما إلا بقرينة واستدلوا: بأنه لو ثبت مدلول صيغة الأمر لثبت بدليل أي لو ثبت أنه للمرة أو التكرار أو مجرد الوجود لثبت بدليل وهو إما النقل أو العقل ولم يوجد النقل والعقل لا مدخل له أي ثبت في إثبات اللغة والآحاد لا تعتبر أي لأن اللغة لا تثبت فوجب التوقف .......... = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 أما الذين قالوا: أنه يفيد التكرار تعلقوا بحديث الاقرع بن حابس أنه قال يا رسول الله احجتنا هذه لعامنا أم للابد فقال: "للابد ولو قلت: لعامنا لوجب وما استطعتم" 1. فقد اشكل عليه أنه على التكرار أو لا على التكرار ولو كان لا يفيد لما اشكل عليه ولم يكن لهذا السؤال معنى ولأن الأمر ضد النهى وهو في طلب الفعل مثل النهى في طلب الكف عن العمل ثم النهى يفيد التكرار وكذلك الأمر حتى لو ترك الفعل مرة ثم فعله يكون مرتكبا للنهى كذلك هاهنا إذا فعل المامور مرة ثم لم يفعله يكون تاركا للأمر ولانه يفيد الفعل ويفيد اعتقاد الوجوب ثم هو يفيد اعتقاد الوجوب على الدوام فيفيد الفعل على الدوام والدوام فيه أن يفعله على وصف التكرار ولو اقتضى الفعل مرة وجب أن لا يجوز عليه النسخ لانه يكون بدءا والبداء على الله تعالى لا يجوز ولأن الأمر لا يتخصص بوقت دون وقت فليس بأن يقال يجب فى بعض الاوقات بأولى من قول القائل يجب فى البعض فوجب فى كل الاوقات وهذا لان القول بالاستيعاب واجب فى الخطاب لطلب كثرة الفوائد والتكرار من الاستيعاب وقد اتفقنا على أن الأمر لا يتناول ما ينطلق عليه الاسم حتى لو قال لغلامه كل فأكل لقمة واحدة لا يكون ممتثلا للأمر وإذا لم يحمل على ادنى ما ينطلق عليه الاسم وجب أن يحمل على جنس ما ينطلق عليه الاسم لأن مالا يحمل على الخصوص يحمل على العموم لأن القول بالعموم فى كل ما يمكن فيه القول واجب. وأما حجتنا فنقول قوله صل أمر بما قوله صلى خبر عنه كذلك قوله صل لا يقتضى فعل مرة واحدة ليكون قوله صلى خبرا عنه كذلك قوله صل لا يقتضي الفعل.   = وأجيب بما مر من الاستقراء وأن الظن كاف في مدلولات الالفاظ مدلولات الألفاظ تثبت بالآحاد. ومن هذا العرض يتبين رجحان القول بأن صيغة الأمر لطلب الماهية والمرة من لوازم تحقق الماهية في الوجود وليس للمرة ولا للتكرار وليس مشتركا ولا مجملا وهو المذهب الأول. انظر البرهان لإمام الحرمين 1/224 - 231 نهاية السول للآمدي 2/274 - 282 اصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير 2/156 - 163. ومما ذكره شيخس - الحسيني الشيخ - امد الله في عمره ونفع به - ذلك في محاضرته في كلية الشريعة بجامعة الأزهر المحروسة- قسم الدراسات العليا. 1 أخرجه أبو داود 1/379 المناسك 2/143 ح 1721 وابن ماجه المناسك 2/963 ح 2886 وأحمد المسند 1/379 ح 2646 ولفظ الحديث عند أحمد والحاكم المستدرك 1/441 انظر نصب الراية للزيلعي 3/2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 إلا مرة ليكون قول صل امرا به وهذا لأنه قوله صل أحد تصارف الفعل فصار كما لو قال صلى وهذا لأن تصاريف الفعل لا تختلف عن الفعل لأن الفعل واحد فى الكل وإنما اختلفت تصاريفه فإذا كان واحدا فى تصريف الخبر وتصريف المستقبل. مثل قوله ضرب يضرب كذلك فى تصريف الأمر وهم يوردون على هذا تصريف النهى وسنجيب عنه. ويمكن أن يقال مثال مأخوذ من المصدر كالخبر. ألاترى أن ضرب مأخوذ من الضرب فكذلك اضرب مثال مأخوذ من الضرب فثبت استواؤهما من هذا الوجه وهكذا الحقيقة وهو أن الأمر يقتضى الامتثال فلا يتناول إلا قدر ما يصير به ممتثلا للأمر وبالفعل مرة يصير ممتثلا للأمر دل أن الأمر تناوله بلا زيادة فإن قالوا: إنما يصير ممتثلا بعض الأمر دون الكل. قلنا لا يصير ممتثلا كل الأمر فإن من قال لغلامه اسقنى فسقاه مرة يصير ممتثلا كل ماأمره به وكذلك إذا قال اشتر لحما وخبزا ففعل مرة صار ممتثلا على الإطلاق. ألاترى أنه لو كرر فى هذه الصورة يجوز أن يعاقبه السيد فيقول: أمرتك مرة فلم زدت عليه وأيضا فإن الغلام يعد نفسه ممتثلا للأمر وكذلك العقلاء يعدونه ممتثلا للأمر ولا يستحسنون عتابه فى ترك الأمر وهذا لأن قوله صل معناه صل صلاة وكذلك قوله صم وكل واشرب وادخل واشتر وقوله صلاة وصوما نكرة فى اثبات وأجمع أهل اللغة أن النكرة فى الاثبات تخص ولا تعم فاقتضى وجود ما سمى صلاة وصوما أو دخولا وخروجا أو شربا أو أكلا وخرج على هذا فصل النهى الذى تعلقوا به لأنه على الصورة التى قلنا بها يكون نكرة فى النفى تعم ولا تخص بالإجماع ونظير النكرة فى النفى قوله ما رأيت رجلا ونظير النكرة فى الإثبات رأيت رجلا. فإن قالوا: إنما تجعل كأنه قال افعل الصلاة وافعل الصوم أوافعل الدخول وإدخال الألف واللام يقتضى استيعاب الجنس. قلنا إنما نقدر من المصدر ما يستقبل به الكلام وقد استقل متعد وصلاة منكرة وصوم منكر فلا حاجة إلى تقديره بالألف واللام وقد قال الأصحاب أن الطاعة والمعصية فى الأوامر على مثال البر والحنث فى الأيمان ثم البر والحنث في الأيمان يحصل فى الفعل مرة والأمثلة معلومة كذلك الطاعة والمعصية فى الأوامر وعلى هذا أوامر العباد فى قولهم طلق وأعتق وبع واشتر وتزوج ولا تتزوج فإن فى هذه الصورة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 يحصل الامتثال بفعل المأمور مرة واحدة. فإن قالوا: أن الخلاف فى قضية الأمر فلا يجوز أن نلتمس ذلك من قضايا الشرع خصوصا فى الشرعيات التى تثبت على العادات. قلنا بل هو على ما قلتم فى البر والحنث من قضايا الشرع لكن هذه القضايا جاءت على ما يوافق اللغة وهذا لأنه يجب أن نعرف مقتضى الأفعال ثم نبنى الشرع عليه فيستدل بإجماعهم فى هذه المسائل على أن الأوامر ما اقتضت الفعل إلا مرة واحدة على أنهم علموا أن الأمر لا يقتضى الفعل إلا مرة واحدة حتى بنوا الأحكام على هذا الأصل. أما الجواب عما تعلقوا به قلنا أما تعلقهم بحديث الأقرع يقال لهم أولا لو كان الأمر يقتضى التكرار لم يقل أم للأبد بل كان ينبغى أن لا يشتبه عليه ذلك ثم نقول إنما سأله لأنه وجد أوامر فى القران مقتضية للتكرار لكن مثال لذلك لأنه ظن من هذا الأمر مثل تلك الأوامر. فإن قالوا: نحن نتعلق بالأوامر التى وردت فى القران واقتضت التكرار. قلنا نحن لا ننكر احتمال الأمر للتكرار لكن إنما أنكرنا أن يكون موضوعا لذلك فأما إذا وردت فأريد بها التكرار بدليل يقوم على ذلك فنحن لا ننكره وعلى أنه ورد فى القران من الأوامر ما لا يقتضى التكرار مثل قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] ومثل قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] وأما تعلقهم بالنهى واعتبارهم الأمر بذلك فغير صحيح فإنه يمكن أن يقال أولا لا نسلم أن النهى يقتضى التكرار لأن معنى التكرار أن يفعل فعلا وبعد فراغه منه يعود إليه وهذا لا يوجد فى النهى لأن الكف فعل واحد مستدام وليس بأفعال مكررة بخلاف الأمر فإنه يوجد فيه أفعال متكررة على ماذكرنا والأمر فيه دليل على الفعل وليس فيه دليل على إعادة الفعل بعد الفراغ منه وعلى أنه أن بينت الفرق الذى قالوه. فيقال لا فرق بينهما لغة فإن واحدا منهما لا يفيد التكرار لغة وإنما افترقا من حيث العرف فإن من قال لغلامه افعل كذا واخرج إلى السوق فإن هذا الأمر يقتضى أن يفعل مرة فقط وإذا قال لا تخرج أو لا تفعل يقتضى هذا النهى أن لا تفعل أبدا فالفرق كان من حيث العرف لا من حيث اللغة وقد قال بعض أصحابنا فى الفرق بين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 الأمر والنهى إن فى حمل الأمر على التكرار ضيقا وحرجا يلحق الناس لأنه إذا كان الأمر يقتضى الدوام عليه لم يتفرغ لسائر أموره وتعطل عليه جميع مصالحه وأما النهى لا يقتضى إلا الكف والأمتناع ولا ضيق ولا حرج فى الكف والامتناع وهذا لأن الوقت لا يضيق عن أنواع الكف ويضيق عن أنواع الفعل وهذا الفصل يضعف لأن الكلام فى مقتضى اللفظ فى نفسه وأما التضايق وعدم التضايق معنى يوجد من بعد وربما يوجد وربما لا يوجد فلا يجوز أن يعرف مقتضى اللفظ وعلى أنه يلزم على هذا الفصل أن يقتضى الأمر الفعل على الدوام إلا القدر الذي يعتذر عليه ويمنعه من قضاء حاجته وهذا لا يقوله أحد وقد بينا الفرق بين الأمر والنهى فى قولنا أن الأمر لا يقتضى فعلا على وجه التنكير وهو ما يخص فى الأمر ويعم فى النهى وهو جواب معتمد وأيضا فإنه يمكن أن نفرق بينهما بالمسائل التى ذكرناها فى البر والحنث وكذلك مسائل الوكالات. وأما قولهم أن اعتقاد الوجوب يجب على الدوام. قلنا لا يجب عليه إلا أن يعتقد وجوب الفعل مرة إلا أنه لا يجوز أن يترك هذا الاعتقاد لأنه يؤدى إلى أن يعتقد الشيء على خلاف ما هو به وهو مثل ما إذا قيل بمرة واحدة فإنه يلزمه إعتقاد وجوبه على ما يلزمه فى الأمر المطلق ومع ذلك هو غير مقيد للتكرار. وأما قولهم أنه لوأفاد العمل مرة لم يجز عليه النسخ. قلنا عندنا يجوز نسخ المأمور قبل وجود وقت فعله ولا يكون أداء فكيف يكون هذا أداء وسنبين ذلك من بعد. وقد قال بعض أصحابنا إنا إذا قلنا أن الأمر على الفور ويقتضى الفعل مرة لا يجوز عليه النسخ وإنما يجوز النسخ عليه إذا دل الدليل على إفادته التكرار وأن قلنا أنه دليل على التراخى والأمر وأن اقتضى الفعل مرة ولكن الأوقات تتناوب فيه فجاز النسخ بعد ما مضى وقت واحد ولا يدل ذلك على الأداء وأما الذي قالوا: أنه ينبغى أن يحمل على العموم فى الجنس. قلنا قد بينا أن التقدير فى اللفظ صل صلاة أو صم صوما وعلى هذا لا يجوز حمله على الإستيعاب فى الجنس وحين وصلنا إلى هذا الموضع فقد إنتهت المسألة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 ومما يتفرع على هذه المسألة الأمر المعلق بشرط أو صفة هل يتكرر بتكرارها1. والمذهب الصحيح أنه لا يتكرر بتكرارها وقضيته عند وجود الشرط والصفة مثل قضيته عند إطلاق الأمر. وزعم بعض أصحابنا أنه يتكرر بتكرارها2 وأن كان لا يفيد التكرار عند.   1 استدل أصحاب هذا القول على أنه لا يفيده من اللفظ بأن الأمر المعلق بشرط أو صفة يقتضي توقف الأمر على هذا الشرط أو تلك الصفة - وذلك التوقف محتمل لأن يكون بالنسبة للمرة الواحدة وبالنسبة لجميع المرات - والدال على الأعم من حيث هو أعم لا دلالة له على الأخص من حيث خصوصه وبذلك لا يكون الأمر المعلق بشرط أوصفة دالا على تكرار الأمر بتكرار الشرط والصفة واستدلوا على أنه لا يفد التكرار من جهة القياس بأن تعليق الأمر على الشرط أقوى من تعليقه على العلة لأن العلة تتعدد والشرط لا يتعدد وتعليق الأمر على الشرط لا يدل على تكرار المشروط بتكرار الشرط فإن من قال لوكيله: طلق زوجتي إن دخلت الدار لا يقتضي هذا القول الإذن للوكيل يتعدد الطلاق تبعا لتعدد الشرط وهو الدخول فتعليق الأمر على العلة لا يدل على تكرار المعلول بتكرار العلة بطريق الأولى وإذا ثبت ذلك ثبت أن تعليق الأمر على الشرط أو الصفة لا يدل على التكرار لأن أقصى ما يفيده التعليق عليهما العلية وقد قلنا: إن تعليق الأمر على العلة لا يفيد تكرا المعلول بتكرار علته. نوقش هذا: أن العلة أقوى من الشرط لأنها تؤثر بطرفي الوجود والشرط إنما يؤثر بطرف العدم فقط ولذلك قالوا: يلزم من وجود العلة وجود المعلول ومن عدم المعلول - ويلزم من عدم الشرط عدم المشروط ولا يلزم من وجوده وجود المشروط وإذن يكون تعليق الحكم على العلة أقوى من تعليقه على الشرط وإذا ثبت أن ترتيب الأمر على الوصف أو الشرط يفيد أن كلا منهما علة للأمر فقد ثبت أن تعليق الأمر بكل منهما يفيد التكرار من جهة القياس لأن العلة كلما وجدت يوجد المعلول انظر نهاية السول 2/282 المستقصى للغزالي 712 إحكام الأحكام للآمدي 2/236, 237 أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير 2/164, 165. 2 أي أنه يفيد لفظا واستدل أصحاب هذا القول بما يأتي: لو لم يكن الأمر المعلق بشرط أو صفة مفيدا للتكرار المأمور به بتكرار الشرط أو الصفة لكن المأمور به يتكرر وبتكرار الشرط أو الصفة فكان الأمر المعلق بكل منهما مفيدا للتكرار لفظا لأن الأصل في الإفادة أن تكون بواسطة اللفظ. دليل الملازمة: أن تكرر المامور به تابع للتكليف به والتكليف إنما يستفاد من الخطاب وإذا لم يكن الخطاب مفيدا للتكرار لم يكن المكلف مكلفا بالتكرار. دليل الاستثنائية قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} وقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} فإن الغسل يتكرر بتكرار الجنابة والقطع يتكرر بتكرار السرقة ........ = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 الإطلاق1 وتعلقوا بالأوامر المعلقة بالشروط فى القرآن فإنها تتكرر بتكرار الشروط كذلك ما جاء فى غير القران يكون كذلك ولأن الشروط كالعلة. ألا ترى أنه إذا وجد الشرط وجد المشروط مثل ما إذا وجدت العلة وجد المعلول ولا خلاف أن المعلول يتكرر بتكرار العلة كذلك وجب أن يتكرر المشروط بتكرار الشرط ولأنه لا خلاف أن النهى المتعلق بالشرط يتكرر بتكرر الشرط فكذلك الأمر يكون كذلك.   = نوقش هذا الدليل بأن تكرر الحكم فيما ذكرتم جاء من جهة أن كلا من الشروط والوصف قد قام الدليل على أنه علة للحكم والمعلول يتكرر بتكرار علته اتفاقا ولذلك إذا لم يثبت أن الشرط على للحكم - لا يتكرر الحكم بتكرر الشرط كالأمر بالحج فإنه معلق بشرط هو الاستطاعة ومن المتفق عليه أن الحجلا يتكرر بتكررها ومن هنا يعلم أن اللفظ بمقتضاه لم يفد التكرار ولكن التكرار قد يستفاد من شيء آخر ككون الشرط أو الوصف علة للحكم - وهذا لا يضرنا انظر نهاية السول 2/282 انظر أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير 2/165. 1 واعلم أن هناك مذهبا ثالثا وهو أنه لا يفيد التكرار من جهة اللفظ ولكنه يفيده من جهة القياس قد استدل البيضاوي على أن الأمر المعلق بشرط أو صفة لا يفيد تكرار من جهة اللفظ بأمرين: الأول: الأمر المعلق بشرط أو صفة يقتضي ثبوت الحكم عند وجود الشرط أو الصفة وثبوت الحكم عند وجود كل منهما محتمل لثبوت عند كل منهما مرة واحدة وثبوته عند كل منهما مرات فاللفظ صالح لكل منهما والصالح للأعم من حيث عمومه لا يصلح للأخص من حيث خصوصه وبذلك لا يكون اللفظ دالا على التكرار بخصوصه. الثاني لو قال الشخص لوكيله: إن دخلت زوجتي الدار فطلقها لا يقتضي هذا القول الإذن للوكيل في طلاق الزوجة كلما دخلت الدار بل الوكيل لا يملك إلا إيقاع الطلاق عليها مرة واحدة عند حصول الشرط ولو كان الأمر مقتضيا للتكرار لفظا لكان الوكيل مأذونا بإيقاع الطلاق أكثر من مرة. واستدل على أن الأمر المعلق بالشرط أو الصفة يفيد التكرار قياسا بأن ترتب الحكم على الشرط أو الصفة يدل على أن كلا منهما علة للحكم ولا شك أن المعلول يتكرر بتكرر علته والقياس مأمور به فيكون الأمر المعلق بالشرط أو الصفة مفيدا للتكرار بالقياس. نوقش هذا الدليل بأنه منقوض بقول القائل لوكيله: إن دخلت زوجتي الدار فطلقها فإن هذا أمر معلق على شرط وهو يقتضي أن الشرط علة في الطلاق كما تقول ومع ذلك لم يتكرر الطلاق بتكرر الشرط. أجيب عن ذلك: بأن هذا التعليق وإن أفاد أن الشرط على للظلاق إلا أن هذه العلة لا تعتبر لأن الشارع لم يجعل الدخول علة للطلاق وإنما الذي جعله هو المطلق ولا عبرة بجعله هذا لأنه ليس له سلطة التشريع في الأحكام وهذا هو السر في أن الطلاق لم يتكرر بتكرر الدخول انظر نهاية السول 2/282, 283 أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير 2/166, 167. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 لأنه ضده ولأن عمل أحدهما فى الفعل مثل عمل الآخر فى الكف عن الفعل وأما الدليل لنا أن الأمر المطلق لا يفيد التكرار وكذلك المعلق بالشرط لأن الشرط لا يقتضى إلا تآخر الأمر إلى وجود الشرط ثم إذا وجد الشرط تعين الأمر منزلة الإبتداء فى هذه الحالة فلا يفيد إلا ما يفيده عند ابتدائه ولأنه إذا قال لغلامه إذا دخلت السوق فاشتر كذا فإنه لا يفيد أنه كلما دخل السوق يجب عليه أن يشترى اللحم وهذا معلوم قطعا ومن ادعى خلافه فهو مكابر. وأما تعلقهم بالأوامر الواردة قبل الشرع على التعليق بالشرط. فقلنا لم يكن ذلك قضيته الأمر بل كان ذلك بدلا دلت عليه قرائن اقترنت بالأمر فأفادت ذلك. وأما التعلق بالعلة قلنا العلة موجبة للحكم والموجب لا ينفك عن الموجب أو هي دلالة على الحكم والدليل لا ينفك عن المدلول وأما الشرط فليس بموجب للحكم ولا هو دلاله عليه إنما هو علامة على الحكم فحسب ويجوز أن يوجد الشرط ولا مشروط وسنبين بعد هذا الفرق بين العلة والشرط وعلى الإيجاز نقول هاهنا أن الحكم يقتصر ثبوته على العلة ولا يحتاج إلى أمر آخر وثبوت المشروط لا يقتصر على الشرط بل يحتاج إلى موجب يوجبه وهو العله. مثال هذا أن كون الواحد منا حيا شرط لكونه قادرا وكونه قادرا لا يثبت كونه حيا بمعنى آخر وراء الحياة. وأما تعلقهم بالنهي فقد أجبنا عنه في المسألة الأولى والله أعلم. مسألة: إذا ثبت أن الواجب بالأمر الفعل الواحد فهو على الفور أو على التراخى. اختلف أصحابنا فيه. فقال ابوعلى بن خيران وأبو على بن أبى هريرة وأبو بكر القفال وأبو على صاحب الإفصاح أنه على التراخى وهو الأصح وهو قول أكثر المتكلمين ونصره أبو بكر محمد بن الطيب وقاله أبو على وأبو هاشم. وزعم أبو بكر الصيرفى من أصحابنا والقاضى أبو حامد وأبو بكر الدقاق أنه على الفور وهو قول أكثر أصحاب أبى حنيفة وذهب إليه طائفة من المتكلمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 وقال بعضهم أنه على الوقف ولا يحمل على الفور ولا على التراخى إلا بدليل1.   1 اعلم أن الأمر المقيد بزمن يقع فيه الفعل يدل على وجوب ذلك الفعل في ذلك الزمن سواء تساوى الزمن كله كرمضان أم كان الزمن أكثر من الفعل كوقت الظهر أن الأمر الذي لم يقيد بزمن يقع فيه الفعل فالقائلون بإنه يدل على التكرار يقولون أنه "الأمر" يدل على الفور ضرورة أنالتكرار يستلزم الفور لأن التكرار مطلوب في جميع ما يمكن "التكرار هو شغل جميع الأزممنة الممكنة بهذا الفعل ومن ضمن الأزمنة الوقت الأول" من أزمنة العمر ومن جملتها الزمان الأول فوجب "يستلزم بالتكرار القول بالفور" أن يكون الأمر للفور. أما غير القائلين بالتكرار فقد اختلفوا في دلالته على الفور أو غيره على أربعة مذاهب: الأول: وهو المختار عند جمهور الحنفية والشافعية وغيرهم لا يدل على الفور ولا على التراخي وإنما يفيد طلب الفعل فقط وايهما حصل كان مجزيا. واستدلوا على ذلك بما يأتي: أن الأمر المطلق ورد استعماله في الفور كما في قوله تعالى: {وآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} وورد استعماله في التراخي كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم "إن الله كتب عليكم الحج فحجوا" ويلزم من هذا أن يكون حقيقة في القدر المشترك بينهما وهو طلب الفعل من غير تعرض لوقت من فور أو تراخي والإلزام الاشتراك اللفظي إن قلنا أنه موضوع لكل منهما أو المجاز وإن قلنا أنه موضوع لأحدهما وهو حقيقة فيه مجاز في الآخر وهما خلاف الأصل "العدول من الأصل إلى خلافه ممنوع". الثاني: أنه يعمل على الفور فلو أخر المكلف عصى بالتأخير وإليه ذهب الحنفية واستدلوا لذلك لما يأتي: أولا: إن الله تعالى ذم إبليس عليه اللعنة على ترك السجود لآدم عليه الصلاة والسلام بقوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} فلو لم يكن الأم رللفور لما استحق الذم ولكان لإبليس أن يقول إنك ما أوجبته على الفور "أي على التأخير ولكن كونه ذم دل على الفور" ففيم الذم. وأجيب بأن ذلك الأمر الوارد وهو قوله تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} وفيه قرينتان تدلان على الفور إحداهما: الفاء وهي في اللغة للتعقيب والثانية وهو فعل الأمر وهو قوله تعالى: {فَقَعُوا لَهُ} حيث وقع جوابا لإذا وهي طرف والعامل فيهما جوابهما على رأي البصريين فيكون التقدير حينئذ "فقعوا له ساجدين وقت تسويتي إياه" "الدلالة على الفور ليس من ذات صيغة الأمر بل من القرائن". ثالثا: قوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} وجه الدلالة: أن الله تعالى أمر بالمسارعة إلى المغفرة والمراد أسبابها اتفاقا والمسارعة هي التعجيل بفعل المأمورات فيكون التعجيل مأمورا به وقت ثبت أن الأمر للوجوب فتكون المسارعة واجبة ولا معنى للفور إلا هذا "أسباب المغفرة ........ = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 ......................................................................   = إطاعة الأوامر" ويجاب: بأنا لا نسلم أن حصول الفورية مستفاد من صيغة الأمر بل هو مستفاد من جوهر اللفظ لأن لفظ المسارعة دل عليه كيفما تصرف على ذها الدليل يدل عليه عدم الفورية فهي عليكم وليس لكم لأن المسارعة مباشرة الفعل في وقته مع جواز الإتيان به في غيره إذ الإتيان بالفعل في الوقت الذي لا يجوز تأخيره عنه لا يسمى مسارعة "فالمسارعة الفعل في الوقت لو قال السيد لعبده: اسقني وأخره لغير عذر عد عاصيا ولولا أنه للفور ما عد عاصيا. وأجيب عن هذا الكلام في أن كلا منهما طلب والنهي يفيد الفور فالأمر مثله يفيد الفور قياسا على النهي. ويجاب: بأن لا نسلم أن النهي يفيد الفور إذ في إفادته الفورية خلاف سلمنا أنه يفيد الفور "ترقى في الرد" لكنه قياس مع الفارق لأنه "توضيح الفرق" لما كان النهي مفيدا للتكرار في جميع الأوقات ومن جملتها وقت الحال "أي المباشر" لزم ضرورة أن يفيد "دلل عليه باللازم" وإنما فهم هذا من القرينة وهي أنه من المعلوم عادة وطلب السقي لا يكون إلا عند الحاجة إليه عاجلا والكلام يكون مفيدا للفورية بالقرينة وليس محل النزاع بل في المطلق فكان قياسا مع الفارق. المذهب الثالث: أنه يدل على وجوب إيقاع الفعل في الحال أو العزم على الفعل في ثاني الحال. وهو رأي القاضي ومن وافقه واحتجوا له بأنه ثبت في الفعل والعزم حكم خصال الكفارة وهو أنه لو أتى بأحدهما أجزأه ولو أخل بهما عفى وهذا معنى وجوب أحدهما فيثبت. وأجيب عن ذلك بأنا نقطع أن فاعل المأمور به مطيع لكونه أتى بخصوص "نفس الشيء" ما أمر به لا لكونه أحد الأمرين منهما "الفعل أو العزم أي أنه لم يؤمر بالعزم" وأن ترك العزم على فعل كل واجب إجمالا وتفصيلا من أحكام الإيمان يثبت مع ثبوته سواء دخل الوقت أو لم يخله فإن جوز ترك الواجب بعد مرة أثم وإن لم يدخل الوقت ولم يحن لا انه ترك مخيرا بينه وبين ما أمر به حتى يكون كخصال الكفارة. المذهب الرابع: التوقف "أي ليس أيا مما سبق" إما لأنه مشترك بينهما "أي مشترك لفظي" أو لأحدهما "حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر" ولا نعرفه هو رأي الإمام ومن وافقه واحتجوا لذلك بأن طلب الفعل محقق وجواز التأخير مشكوك فيه "أي بالمنع في جواز التأخير بالجواز في آخره" لاحتمال أن يكون للفور فيعطى للتأخير فوجب الفورية ليخرج عن العهدة بيقين. والجواب: لا نسلم أن جواز التأخير مشكوك فيه بل التأخير جائز حتما بما ذكرنا من الأدلة وبهذا رجح رأي الجمهور وهو أن الأمر المجرد عن القرائن لا يدل على الفور ولا على التراخي وإنما يفيد طلب الفعل فقط اهـ مما ذكر الشيخ الحسيني الشيخ في محاضراته في كلية الشريعة جامعة الأزهر قسم الدراسات العليا وانظر نهاية السول 2/286 - 291 إحكام الأحكام .......... = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 واعلم أن قولنا أنه على التراخى ليس معناه على أنه يؤخر عن أول أوقات الفعل لكن معناه أنه ليس على التعجيل. والجملة أن قوله افعل ليس فيه عندنا دليل إلا على طلب الفعل فحسب من غير أن يكون له تعرض للوقت بحال. وعند الآخرين أن قوله افعل يقتضى الفعل في أوقات الإمكان فمنهم من قال أن لفظ الأمر يقتضى كذلك ومنهم من قال أن الواجب المستفاد بالأمر يقتضيه. أما من قال منهم أن لفظ الأمر يقتضى ذلك فاستدلوا بأمر السيد عبده وصورته أن السيد إذا أمر عبده أن يسقيه الماء فهم منه أن يعجل سقيه الماء ولو لم يفعل استحسن العقلاء ذمة على تأخير سقيه. قالوا: فإن قلتم أنه اقتضى ذلك بقرينة نقول أن السيد يعلل ذمه لعبده فيقول: أمرته بشيء فأخره فلا يحل الذم إلا على مجرد تأخير الأمر هذا دليل. واستدل أيضا من قال أن لفظ الأمر يقتضي العجل بأن الوقت وأن لم يكن مذكورا في لفظ الأمر فإن الفعل لما كان إنما يقع في وقت وجب أن يفيد إيقاعه في أقرب الأوقات إليه كما أن ألفاظ البيع والنكاح والطلاق والعتاق يفيد وقوعهما فى أقرب الأوقات إليها. ببينة أن هذه الأشياء إيقاعات من غير أن يكون فيها تعرض للوقت فإذا كان موضوعها على التعجيل لأن الوقت الأول أقرب الأوقات إلى الإيقاع كذلك الأمر الذي هوطلب الفعل. وأما دليلهم من حيث النظر في فكرة الأمر فمن وجوه:. منها أن الأمر قد اقتضى وجوب الفعل في أول الفعل والدليل عليه أنه لو أوقعه المكلف فيه أسقط بذلك الفرض عن نفسه فجواز تأخيره نقض لوجوبه لأن حد الواجب ما لا يسع تركه ولاشك أن تأخيره ترك لفعله في وقت وجوبه فثبت أن في التأخير نقض الوجوب وإلحاقه بالنافلة وهذا باطل وهذا دليل معتمد. قالوا: فإن قلتم أن التأخير لا ينقض الوجوب ولا يلحقه بالنافلة لأن النافلة يجوز الإخلال بها أصلا وهذا لا يجوز الإخلال به لأنه وأن أخره فلا بد أن يفعله في   = للآمدي 2/242 - 250 وروضة الناظر وجنة المناظر 178 - 179 المعتمد 1/11 أصول الفقه للسرخسي 1/26 أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير 2/167 - 173. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 زمان غيره وهذا غير صحيح لأن الإلزم هو وجوبه في أول أوقات الإمكان ثم جواز تركه فقد يلحق بالنافلة في هذا الوقت وليس الإلزام أنه التحق بالنافلة على الإطلاق حتى يفصلوا بينه وين النوافل المطلقة إنما الإلزام الحاقه بالنافلة في وقت وجوبه. قالوا: وقول بعض أصحابكم أن التأخير إنما جاز ببدل يقيمه مقام فعله وهو العزم على فعله في الوقت الثاني فهذا كلام باطل لأنه أولا إثبات بدل العبادة لادليل عليها. فإن قلتم وجوب العزم بالإجماع على أداء الفعل في الثاني دليل نقول لكم ومن بسلم بهذا الإجماع بل لو قيل أن الإجماع على سقوط وجوب العزم كان صحيحا فإن من دخل عليه وقت الصلاة فأخرها عن أول وقتها من أن يخطر بباله عزما أو ترك عزم فإنه لا يعلم بين الأمة خلاف أنه يجوز له ذلك وإذا فعل الصلاة من بعد في وقتها لم يكن عليه وزر ولا وبال وقالوا: اللهم إلا أن يكون المعنى من الوجوب العزم الذي هو أصل ما يجب على كل مؤمن من التزام الفعل وكونه على أدائه وترك الإخلال به وهذا أمر لا يختص بالأوقات فإنه يجب على كل إنسان في العبادات قبل دخول أوقاتها بعد دخولها في قضية الأوامر الواجبة بعد وجود أوقاتها قالوا: ولأن العزم لو كان بدلا عن العبادة لوجب أن يقوم مقام العبادة بحال لأن البدل ما يقوم مقام الأصل فى وجوه مصالحها وأجمعنا على أنه لا يقوم مقام العبادة بحال فإن أصل الفعل لا يسقط بالعزم على الفعل بوجه ما. قالوا: فإن قلتم أنه يقوم مقامه في الوقت الأول دون الوقت الثاني. نقول إذا قام مقامه في الوقت الأول وقضية الفعل في الوقت الأول سقوط الفرض عن المكلف فينبغي أن يقوم مقامه في هذا الغرض قالوا: ولأنكم اعتقدتم هذا الأمر فرضا آخر معجلا وهو العزم على الفعل من غير أن يكون لصيغة الأمر تعرض له واعتقدتم تأخير الفعل مع اقتضاء الأمر الفعل ولا دليل على التأخير وهذا خطأ فاحش فبطل قول من قال أن العزم يدل وصح الدليل الذي تعلقنا به. دليل آخر للقائلين بموجب الأمر على الفور وهو أن الأمر بالفعل يقتضي الفعل ويقتضي اعتقاد وجوبه ويقتضى العزم على فعله ثم كان اقتضاؤه اعتقاد الوجوب واقتضاؤه العزم على فعله على الفور والتعجيل فكذلك اقتضاؤه الفعل يكون على هذا الوصف أيضا وتعلقوا بالنهى أيضا فإنه يقتضي الإنتهاء عن الفعل على الفور فكذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 الأمر يكون اقتضاؤه بالفعل على الفور ولأن كل واحد نظير صاحبه ومما يعتمدون عليه وهو شبه المسألة وإشكالها أن القول بالتأخير يؤدى إلى أقسام كلها باطلة فيكون باطلا فى نفسه لأن ما يؤدى إلى الباطل باطل وإنما قلنا ذلك لأنه إذا جاز التأخير فلا يخلو أما أن يجوز إلى غاية أو لا إلى غاية فإن جاز لا إلى غاية فإما أن يجوز إلى بدل أو لا إلى بدل فإن قلتم لا إلى بدل فهذا نقض لوجوبه وإلحاق له بالنوافل وهو لا يجوز وأن قلتم يجوز إلى بدل فإما أن يكون البدل هو العزم على فعله فى الوقت الثانى أو الوصية به فأما العزم فقد أبطلنا كونه بدلا والمعتمد فى إبطاله أنه لا دليل على كونه بدلا فلا يجوز تأخير العبادة إلى بدل لا دليل عليه. فان قلتم أن الإجماع ثابت على وجوب العزم فقد بينا أن لا إجماع وعلى أنه وأن وجب العزم فوجوب الشيء لا يدل على أنه يكون بدلا من غيره بل الأصح أن الأمر يوجب الفعل أصلا ويوجب العزم عليه أصلا إلا أن وجوب أحدهما بالصريح ووجوب الآخر بالدلالة وأما القول بجواز التأخير إلى بدل الوصية فباطل أيضا لأنه ليس كل العبادات مما يجوز الوصاية بفعلها وعلى أنه أن كان أمر الله تعالى لنا أن نفعل العبادة لا يمنع من أن يعزم على الإخلال أو يوصى غيرنا بها لم يمنع أيضا أمرنا الوصى أن يوصى بما وصيناه به ويحل بفعله بنفسه وكذلك القول فى الوصى الثانى والثالث إلى ما لا يتناهى. قالوا: وأن قلتم يجوز التأخير إلى غاية فلا يخلوا لنا أن تكون الغاية معينة أو موصوفة فالمعينة أن يقال يجوز له التأخير إلى اليوم الثانى أو الثالث أو وقت كذا أو سنة كذا فلا يجوز تأخيره بعده وهذا لم يقل به أحد ولا دليل عليه فهو باطل. وأما الموصوفة فهو أن يقال يجوز له تأخيره إلى الوقت الذي يغلب على ظنه أنه لو آخر عنه فات وهذا لا يخلوا أما أن يغلب على ظنه لا بأمارة أو يغلب على ظنه بأمارة من شدة مرض وعلو سن وغير ذلك وهذا باطل ايضا أما غلبة الظن لا عن إمارة فليس بشيء لأن الظن لا عن أمارة لا يجوز تعليق حكم الشرع به ولأنه قد يغلب الظن على السوء اى فى الموت وغيره ولا يجوز أن نعتبر مثل هذا الظن فى شيء وأما الظن عن أمارة فهو باطل أيضا لأن كثيرا من الناس يموتون فجأة وبغتة ولا يوجد لهم غلبة الظن فيموتون فما قلتم يقتضى أنه لم تجب عليهم العبادة لأنه قد جاء عندكم التأخير إلى غاية ولا غاية فى حقهم وكان التأخير لهم جائزا على الإطلاق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 فانتقض الوجوب فى حقهم أصلا. ببينة وهو الإشكال أن الأمر بالفعل يقتضى الفعل لا محالة هذا الطريق صار موجبا للفعل على ما سبق بيانه وعلى ما قلتم لا يكون موجبا للفعل لأنه لا يكون مقتضيا للفعل لا محالة لأنه إذا جاز التأخير ولم يتضيق عليه فى وقت ما فلا وجوب وأن تضيق عليه فى وقت ما فلا يكون ذلك التضييق على العموم فى حق المكلفين فإنه أن يضيق فى حق من يغلب على ظنه لا يتضيق فى حق من لا يغلب على ظنه ويموت بغتة فلا يكون الأمر مقتضيا للفعل لا محالة فينتقض الوجوب. والحرف أن الأمر إذا أوجب الفعل على العموم فلا يجوز أن يكون علامة الوجوب إلا على الأمر وأما حجة القائلين بالتراخى وهو الأصح فدل أولا أنه ليس فى لفظ قوله افعل دليل على صفة الفور والتعجيل فنقول قوله افعل صيغة موضوعة لطلب الفعل ولا تقتضى إلا مجرد طلب الفعل من غير زيادة كسائر الصيغ الموضوعة للأشياء فإنها لا تفيد إلا ما وضع لها ولا يفيد زيادة عليها وأقرب ما يعتد صيغة طلب الفعل فى المستعمل بصيغة الخبر عن الفعل الماضى ثم لو أخبر عن فعل فى الماضى لم يدل الخبر عن الفعل إلا على مجرد الفعل ويكون خبر الفاعل عن الفعل بعد فعله بمدة قرينة على وجه واحد كذلك هاهنا وهذا لأن قوله لغيره افعل ليس فيه تعرض للوقت بوجه ما وإنما هو مجرد طلب الفعل وليس فيه دليل على وقت متقدم وعلى وقت متآخر ولا يجوز أن يدل اللفظ على ما لا يتعرض له اللفظ وهو دليل على التقييد وهذا لا يجوز كيف وقد جعلوا تقييد المطلق نسخا له فى كثير من المسائل على ما عرف من مذهبهم إيقاع الفعل فحسب إلا أن الزمان من ضرورته لأن الفعل من العباد لا يصير موقعا إلا فى زمان فصارت الحاجة ماسة إلى الزمان ليحصل الفعل موقعا والزمان الأول والثانى والثالث فى هذا المعنى وهو حصول وقوع الفعل واحد وإذا استوت الأزمنة فى هذا المعنى بطل التخصيص والتقييد بزمان دون زمان وصار كما لو قال افعل كذا فى أي زمان شئت فهذه الدلائل من حيث بيان أن الأمر لا يقتضى التعجيل بلفظه ثم يدل على أنه لا يقتضى التعجيل بفائدة فنقول لو كان يقتضى التعجيل بفائدته لكان يقتضيه من حيث أن الأمر يفيد الوجوب ولا يتم الوجوب مع القول بجواز التراخى وهذا لا يصح لأن الفعل يجوز أن يكون واجبا على المكلف وأن كان مخيرا بين فعله فى أول الوقت وفعله فيما بعده فيجوز له التأخير ما لم يغلب على ظنه فواته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 إن لم يفعله فمتى غلب على ظنه فواته أن لم يفعله حرم التأخير فيكون هذا الأمر مقتضيا طلب الفعل منه فى مدة غيره بشرط أن لا يخلوا زمان العلم منه فيصير واجبا عليه بوصف التوسع لا بوصف التضييق والتكليف على هذا الوجه لا يمنع منه معقول ولا مشروع. أما المعقول فإنه لو صرح بمثل هذا الأمر لم يكن مستنكرا عند أحد العقلاء ولو قال السيد لغلامه افعل كذا غدا أو قال افعل فى شهر كذا أو سنة كذا ومراده أن يأتى به فى أي وقت يختاره من هذه المدة بشرط إلا يخلى المدة منه فإنه يكون صحيحا غير مستبعد ولا مستنكر وأما المشروع فقد ورد الشرع بمثاله وذلك فى الصلوات المفروضات فى الأزمنة المعلومة لها وكذلك القضاء الواجب عند ترك الصوم بعد زوال الكفارات الواجبات والزكوات على أصولهم وبهذا المعنى أجمع أهل العلم على أنه فى أي زمان فعله يكون مؤديا ويحسن أن يوصف بالإمتثال لأمره ولهذا المعنى أجمع أهل العلم أيضا أن الإيمان على الأفعال يحصل البر فيها سواء اتى بالأفعال على الفور أو على التراخى فيثبت أنه لا دليل على صفة الفورية لا من جهة لفظ الأمر ولا من جهة فائدته والقول بالشيء بلا دليل عليه باطل. فإن قالوا: ليس مع هذا كله أجبتم المسارعة والمبادرة فى الأوامر فكذلك جاز أن وجب ذلك. قلنا إنما أوجبنا المسارعة والمبادرة بلا دليل من جهة اللفظ ولا من جهة معناه لكن بدليل أجنبى جاء من جهة الشرع استجلب المبادرة إلى كل الطاعات والكلام فى هذا الاقتضاء من حيث اللفظ وقد يدل على ما ذكرناه أيضا قصة عمر رضى الله عنه أنه قال لأبى بكر رضى الله عنه فى زمان الحديبية من صد النبى صلى الله عليه وسلم عن البيت ووقوع الصلح على الرجوع فى ذلك العام أليس أن الله تعالى وعدنا أن ندخل المسجد الحرام فقال له أبو بكر أقال العام قال لا قال فسندخل فسكت عمر وعلم الحق من قوله وكذلك سائر الصحابة رضى الله عنهم علموا ذلك واعتقدوا صدق الوعد بهذا الطريق مع وجوه تراخى الدخول فثبت أنهم علموا ذلك بالطريق الذي قدمناه فكذلك الأمر يكون بمثابته ومنوالهم على ما ذكرناه بما أوردناه فى شبههم وسنفصل عنها ونزيل الإشكال منها بعون الله تعالى. الجواب أما كلامهم الأول وهو تعلقهم بالسيد إذا أمر غلامه بسقيه الماء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 قلنا إنما عقل التعجيل فى ذلك الأمر بقرينة دلت عليه وهى علم العبد أن السيد لا يستدعى الماء إلا وهو محتاج إلى شربه هذا هو الأغلب ولو لم يوجد إلا فى الأمر فإنه لا يعقل ذلك. وأما قولهم أن السيد يقول: أمرته بكذا فأخره. قلنا وقد يعتذر العبد فيقول: أمرنى بكذا ولم يأمرنى بتعجيله ولا علمت أن عليه فى تأخيره مضرة. وأما كلامهم الثانى قلنا هذه الأحكام التي تعلقوا بها عامة صيغها صيغ أخبار وقد بينا أن صيغة الخبر لا تدل على قرب من المخبر عنه ولا يعد إلا بدليل يقترن به أيضا فإن هذه العقود فى الشرع إيقاعات تقتضى أحكاما على التأبيد فلا بد أن تتصل أحكامها بالعقود ليصح القول بإتيانها على التأبيد فهو مثل النهى فى مسألتنا فإنه لما اقتضى الانتهاء والكف على التأبيد اقتضى الانتهاء على الفور ليصبح القول بثبوتها على التأبيد. فإن قيل كون الحكم إذا وقع دام لا يمنع من النظر فى ابتداء وقوعه أنه يقع معجلا أو على التراخى وهو كالملك فى الثمن المؤجل فإنه يقع الملك فيه فى المستقبل ثم إذا وقع دام وهو لا يمنع ذلك من النظر فى ابتداء وقوعه أنه على التعجيل أو على التراخى ويكون ذلك بحسب قيام الدليل عليه. قلنا إذا كان قضية الشيء أن يكون حكم على الدوام فاعتقاد التراخى فيه يفضى إلى اعتقاد الجزم فى صفة الدوامية لأنه يتراخى ويتراخى إلى زمان يوجد حكم اكتسب فى ذلك الزمان ولا يتصور معنى الدوام فيه فلهذا قلنا أنه يكون على الفور على ثبت صفة الدوام ثم نقول فى هذه المسائل التى قاسوا عليها لم تثبت صفة التعجيل بصيغ هذه الألفاظ وإنما ثبتت بإثبات الشرع لها ذلك وكلامنا وقع فى مقتضى صيغة اللفظ فسقط تعلقهم بها من هذا الوجه وهذا جواب معتمد. وأما دليلهم الذى قالوه من جهة فائدة اللفظ قولهم أن الأمر قد أفاد الوجوب فى أول أوقات الإمكان. قلنا أي شيء يعنون بهذا أن عنيتم أنه أفاد الوجوب فى أول الوقت على وجه لا يجوز تأخيره عنه فلا نسلم ذلك وأن عنيتم أنه أفاد الوجوب فى أول الوقت على معنى أنه إذا أوقعه فيه يقع من الواجب قلنا لم قلتم إذا كان على هذا الوصف وجب إلا يجوز التأخير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 فإن قلتم لأنه كان واجبا فى أول الوقت وجاز التأخير أدى إلى نقض وجوبه وإلحاقه بالنوافل. قلنا لا يؤدى إلى ذلك لأنه إنما يؤخر لا لأنه غير واجب بل يؤخر لأنه واجب موسع عليه فى وقته والواجب على وجهين واجب موسع على المكلف فى وقته وواجب مضيق على المكلف فى وقته فالمضيق عليه فى وقته لا يجوز تأخيره فأما الموسع عليه فى وقته يجوز تأخيره وهذا التأخير لا يخل بصفة الواجبية لأنه جوز لنا التأخير عن أول أوقات الإمكان إلى وقت مثله فى الإمكان وشرط عليه أن لا يخلى كل الوقت عن الفعل ولما أخلا عصى وأثم فعلى هذا أفاد صفة الواجبية ولم يلتحق بالنافلة فهذا وجه الجواب عن هذا الدليل وقد سلك بعض أصحابنا طريقا آخر فى الجواب وقال إنما جاز التأخير إلى بدل وهو العزم وزعم أن الإنسان إنما يجوز له التأخير بشرط أن يكون عازما على فعله الثانى. وذكر القاضى أبو الطيب وجهين للأصحاب فى وجوب العزم وهذه الطريقة صعب تمشيتها شاق مسلكها للمسائل التى ذكرناها وما ذكرناه من الجواب معتمد وهو كاف ويقال أيضا لهم إنكم تعلقتم بسقوط الأمر عنه بفعله فى أول الوقت بمعنى يستوى فى ذلك الوقت الأول والثانى وذلك لأن الأمر اقتضى إيقاع الفعل فقط من غير تعرض للوقت فإذا فعله فى الوقت الأول فقد أوقع الفعل وإذا فعله فى الوقت الثانى أو الثالث فقد أوقع الفعل فكان سقوط الفرض عنه بفعل المأمور فى أول الوقت لا لمعنى يرجع إلى الوقت بل كان لوجود حصول الفعل على ما اقتضاه الأمر وقد استوى فى هذا المعنى كل الأوقات فصار جميع الأوقات فى هذا الوقت واحدا وصح الفعل فى الوقت الثانى والثالث من حيث صحته فى الوقت الأول ولم يؤد هذا التوسع عليه إلى إلحاقه بالنوافل لما بينا من قبل. وأما ما تعلقوا به من وجوب الإعتقاد على التعجيل. قلنا ولم قلتم إذا وجب تعجيل إعتقاد وجوب المأمور به وجب تعجيل المأمور به وما أنكرتم أن تعجيل الاعتقاد وجب لدليل يخصه لا للأمر وإنما كان يلزم ذلك أن لو وجب لقضية الأمر. فإن قالوا: أن الاعتقاد تابع للمعتقد فإذا تعجل الاعتقاد وجب أن يتعجل المعتقد قلنا والمطالبة مع هذا ولم إذا وجب تعجيل الاعتقاد مع هذا وجب تعجيل المعتقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 ويتصور انفصال أحدهما عن الآخر. ثم يقال لهم إنما وجب تعجيل اعتقاد الوجوب لأنه إذا كان قام الدليل للمكلف فى أن الأمر يفيد الوجوب وقد وجد الأمر فكيف يتصور أن لا يعتقد وجوب الأمر والأمر على هذا الوجه فأما تعجيل الفعل فيجوز أن يعتقد الوجوب فى المأمور ومع هذا لا يجب عليه تعجيله لما بينا من قبل وعلى أنا نقول يلزمه اعتقاد وجوبه على التوسع كما يلزمه فعله على التوسع وإذا وجب الفعل على حسب ما يعتقده من الوجوب ووجب الاعتقاد على حسب ما يلزمه من الفعل لم يقع الفرقان بوجه ما وأما تعلقهم بفصل النهى فقد أجبنا عنه من قبل وهو أنه يقتضى الانتهاء على الدوام فإنما كان على الفور والتعجيل لأنا إذا لم نعجله على هذا الوقت أدى إلى بطلان صفة الدوامية فيه على ما سبق بيانه ويمكن أن يجاب عن فصل اعتقاد الوجوب بهذا أيضا وأما الذى ذكروه من بعد هذا وهو أن القول بجواز التأخير يؤدى إلى أقسام كلها باطلة قلنا لا يؤدى لأنا نقول يجوز له التأخير إلى أن يغلب على ظنه أنه إذا آخر يفوت المأمور ونقول أن الظن المعتبر هو الظن عن إمارة وهذا قسم صحيح جائز اعتقاده لأن الظن عن أمارة دليل من دلائل الشرع. فيجوز بناء الأحكام عليه بدليل الاجتهاد فى الأحكام فكذلك هذا الحكم يجوز بناؤه عليه ولأن الله تعالى قد كان أوجب الوصية للأقارب فى ابتداء الاسلام عند حضور الموت على ما قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة: 180] ولا يعرف حضور الموت إلا بغلبة الظن عن إمارة وقد بين الشرع إيجاب الوصية عليه كذلك هاهنا يجوز أيضا مثله وأما قولهم أنه ربما يموت بغتة أو فجأة. قلنا هذا الذى قلتم نادر والظاهر الأغلب فى حق الناس موافقة علامات حضور الموت واحتباس الإنسان بضعفه وحضور أجله ومعرفته بظهور علاماته فيه والنادر لا يدخل فيما بنى أمره على الأعم الأغلب بدليل ما قلناه فى الوصية. فإن قالوا: ما قولكم إذا مات بغتة يموت عاصيا أو لا يموت عاصيا. فإن قلتم يموت عاصيا فمحال لأنا أطلقنا له التأخير فاخترمته المنية من غير أن يحس بحضورها لم يتصور إطلاق وصف العصيان عليه لأن وصف العصيان بالتأخير مع إطلاق التأخير محال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 وإن قلتم يموت لا عاصيا فلم يبق للوجوب فائدة. الجواب أنا نقول يموت لا عاصيا ولا يدل هذا على بطلان فائدة الوجوب وذلك لأنا بينا أن الوجوب على التوسع جائز وردوه مشروعا ومعقولا وبينا أن التأخير لا يدل على أن المأمور غير واجب لأنه يجوز له التأخير عن الوقت الأول فى الفعل إلى وقت مثله فى الفعل فلا يكون محرما عليه لأن المحظور عليه فى الواجبات تركها على الإطلاق والترك على الإطلاق هو الترك على وجه يفوت المأمور والتأخير على هذا الوجه الذي أطلقناه ليس فيه تفويت المأمور ثم إذا أحس بالفوات وهو إذا ظهرت عليه أمارات حضور الموت ضيقنا عليه الأمر ومنعناه من التأخير وأما إذا مات بغتة وفجأة فهو غير مفوت للمأمور لأنه إنما آخر من وقت إلى وقت مثله وقد بينا أن مثل هذا لا يعد تفويتا وإذا صار حيث يؤدى إلى التفويت منعناه من التأخير فصار الفوات عند موته بغتة محالا به على الله تعالى لا على العبد لأنه قد فعل ما كان مطاقا له ذلك فعنذ ذلك الفعل منه لم يجز وصفه بالتفويت على ما سبق بيانه إلا أنه صار فائتا بمعنى من قبل الله تعالى فلم يجز أن يوصف بالعصيان وهو كالأمر المضيق إذا لم تساعده الحياة فى وقته وكان من هذا الوجه على العبد لم يجز أن يوصف بالعصيان وجعل الفوات لمعنى من قبل الله تعالى كذلك هاهنا وعدم وصفه بالعصيان لم يدل على ذهاب فائدة الوجوب لأنا حققنا صفة الواجبية مما يعود إلى فعل العبد من منعه وتفويته فبوجود الفوات من قبل الله تعالى لا نبطل فائدة الوجوب فهذا وجه الجواب عن هذا الفصل ولم نبق على ما قررناه إشكال بوجه ما وهذا الفصل قد أعيى الفحول من الأصحاب حتى رأيت بعضهم يقول فى أصوله لا يستقيم مع قولنا أنه غير عاص إلا أن يحكم أنه لا وجوب وكذلك زعم أن الصلاة فى أول الوقت لا تجب والمفعول فى أول الوقت ينبغى أن يكون نافلة وهذا ترك لمذهب الشافعى رحمه الله ومساعدة للمخالفين وليس سبيل من ينصب للتقدم فى مذهبه ويعتقد أنه الفحل المدافع عن حريمه أنه إذا جاء إشكال فى المسألة يترك مذهب صاحبه ويوافق الخصوم بل ينبغى أن يبذل له جهده ويجعل فكره يحل الإشكال فإن أمكنه ذلك وإلا تركه إلى من يوفقه الله تعالى له ويهديه إليه وبمثل قول عمرو بن معدى كرب إذا لم تستطع شيئا فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع فأما أن يترك مذهبه ويوافق خصومه فمحال والله العاصم بمنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 وإذا عرفنا هذه المسألة يخرج عليها مسألة الحج أنه يجوز تأخيره عن أول أوقات الإمكان وقد ذكرنا وجه الكلام فيها وأما أبو زيد الدبوسي زعم أن الأمر بصيغته لا يدل على صفة الفورية إلا أن فى الحج وجب فعله على الفور لأن تأخيره يؤدى إلى تفويته حقيقة والإدراك فى السنة الثانية على الوهم والشك فلا يجوز القول بتأخير يؤدى إلى الفوات قطعا بإدراك موهوم وهذا فصل قد ذكرناه فى الخلافيات وذكرنا الكلام عليه فى كتاب الاصطلام فتركنا الكلام عليه فى هذا الباب واقتصرنا على ما ذكرناه والله أعلم. مسألة. وإذ بينا الكلام فى الأمر المطلق وقضيته فنبين حكم الأمر المؤقت بوقت فنقول اعلم أن الأمر الوارد على التوقيت على وجهين أمر مؤقت بوقت لا يفصل الوقت عنه بل هو وارد بقدر الوقت مثل صوم رمضان فإنه واجب بأول دخول الوقت بلا خلاف ومعنى الوجوب بأول الوقت أنه يجب مباشرته مقترنا بدخول وقته مقترنا من غير تقديم ولا تأخير1 وأما الوجه الآخر فهو الأمر المؤقت بوقت يفصل الوقت عنه وأن شئت قلت: يسع له ولغيره مثل الصلوات الخمس التى هى مؤقتة بالأوقات المعلومة ونعلم قطعا أن أوقاتها تسع لها ولغيرها فعندنا تجب هذه العبادات فى أول أوقاتها وجوبا متوسعا ومعنى الوجوب المتوسع أنه يطلق له التأخير عن أول أوقاتها إلى أوقات مثلها إلى أن يصل إلى وقت يعلم أنه أن آخر فات فحينئذ يضيق عليه ويحرم عليه التأخير وهذا قول أبى شجاع السلمى من أصحاب أبى حنيفة وهو اختيار كثير منهم وإليه ذهب جمهور المتكلمين2.   1 انظر نهاية السول للأسنوي 1/166 أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير 1/104. 2 ودليلهم في ذلك: أن الله تعالى لما فرض الصلاة أرسل جبريل عليه السلام ليعلم النبي صلى الله عليه وسلم أوقاتها وأفعالها فأم جبريل النبي صلى الله عليه وسلم وصلى به أول يوم الصلاة في أو وقتها ثم صلى به في اليوم الثاني في آخر وقتها ثم أعلم النبي صلى الله عليه وسلم الأمة بهذه الأوقات بقوله: الوقت ما بين هذين - ووجه الاستدلال من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأن الوقت كله من أوله إلى آخره وقت للصلاة وهذا الخبر محتمل لأمور أربعة: أحدها: أن المكلف يحرم بالصلاة من أول الوقت لا ينتهي منها حتى ينتهي الوقت. الثاني: أن المكلف يوقعها مرة واحدة في جزء معين من الوقت .......... = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 وذهب الكرخى وأبو بكر الرازى وأكثر أصحابهم من العراقيين إلى أنه يجب تأخير الوقت والمفعول فى أول الوقت نفل وفعله يمنع الوجوب فى أخره مثل الزكاة المعجلة فى الحول قبل انقضائه1. ومنهم من قال أنه موقوف أن أدركه آخر الوقت وهو أهل الوجوب كان المفعول واجبا وأن أدركه آخر الوقت وهو ليس من أهل الوجوب كان المفعول تطوعا. ومنهم من قال المفعول يكون واجبا فكان الوجوب متعلق بأحد شيئين أما آخر الوقت وأما اختيار الفعل2 3.   = الثالث: أن المكلف يوقع الصلاة مرارا حتى ينتهي وقت الصلاة. الرابع: أن يوقعها المكلف مرة واحدة في أي جزء يختاره من أجزاء الوقت أما الاحتمالان الأول والثاني فباطلان بالإجماع وأما الاحتمال الثالث فباطل لأنه لا دليل على تعيين بعض أجزاء الوقت بأداء الفعل فيه دون البعض الآخر فيكون تخصيص هذا الجزء بالأداء تخصيصا بلا مخصص وهو باطل. وحيث بطلت الاحتمالات الثلاثة تعين أن يكون الاحتمال الرابع هو المراد من الحديث وبذلك يكون الخطاب المتعلق بالصلاة مقتضيا لإيقاعها في أي جزء من أجزاء الوقت من غير بدل وهو ما ندعيه انظر نهاية السول 1/172 المحصول 1/282 أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير 1/105, 106. 1 وقد استدل أصحاب هذا المذهب بأنه لو وجب الفعل فيما عدا الجزء الأخير من الوقت لما جاز تركه فيه لأن شأن الواجب أنه لا يجوز تركه لكن ترك الفعل فيما عدا الجزء الأخير من الوقت جائز اتفاقا فبطل أن يكون الفعل واجبا فيما عدا الجزء الأخير وثبت أنه واجب في الجزء الأخير وهو ما ندعيه انظر المحصول لفخر الدين الرازي 1/281 نهاية السول 1/172, 173 أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير 1/110. 2 قال الشيخ محمد أبو النور زهير رحمه الله ولم أعثر لهذا المذهب على دليل ولعل وجهة الكرخي فيما ذهب إليه أن آخر الوقت معتبر في سقوط التكليف عن المكلف كما هو معتبر في إيجابه عليه ابتداء انظر أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 1/111. 3 اعلم أن هذه المسألة مذهبان آخران لم يذكرهما المصنف: أحدهما: مذهب القاضي أبي بكر الباقلاني وجماعة متكلمي الأشاعرة والمعتزلة أن الإيجاب يقتضيس إيقاع الفعل في أي جزء من أجزاء الوقت ولكن المكلف إذا لم يفعل في أي جزء من الأجزاء يجب عليه أن يعزم على الفعل في الجزء الذي لم يفعل فيه حتى يأتي الجزء الأخير من الوقت فيتعين عليه الفعل فيه وأما دليلهم على وجوب العزم فقد قالوا فيه: لو لم يكن العزم واجبا عند عدم الإتيان بالفعل للزم ترك الواجب بلا بدل وترك الواجب بلا بدل باطل لأنه يجعل الواجب غير واجب وضرورة أن الواجب هو ما لا يجوز تركه بلا بدل وغير ........... = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 وتعلق من قال إنها لا تجب بأول الوقت بأن حد الواجب ما لا يسع تركه والصلاة فى أول الوقت واسع تركها من غير حرج فدل أنها غير واجبة قالوا: ولا يجوز أن يقال أن تركها إلى بدل وهو العزم على فعلها فى الثانى لأنا قد أبطلنا طريقة العزم فى المسألة الأولى. قالوا: ولا يجوز أن يقال أن هذا تأخير وليس بترك لأنا بينا أن الترك فى أول الوقت قد وجد فإن الترك فى أول الوقت هو التأخير الذي قلتم والتأخير هو الترك فى أول الوقت فعلى أي الاسمين ذكر نحوه فالمعنى واحد لا يختلف وربما يقولون الواجب ما يتعين الإقدام عليه فى الزمان الأول لم يكن واجبا فيه وقد قال بعض أصحابنا المتأخرين حين سمع هذه الشبهة للمخالفين قد اتفق أهل التحقيق من الفقهاء أن من آخر الصلاة عن أول وقتها ومات فى أثناء الوقت لم يلق الله تعالى عاصيا فإذا كان كذلك فلا معنى لوصف الصلاة بالوجوب فى أول الوقت إلا على تأويل وهو أن الصلاة لو أقيمت لوقعت فى مرتبة الواجبات إذا أجزأت وهى على القطع كالزكاة تعجل قبل حولان الحول هذا كلامه.   = الواجب ما جاز تركه بلا بدل انظر المحصول 1/282 إحكام الأحكام للآمدي 1/149 نهاية السول 1/166 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 1/106, 107. والثاني: أن الإيجاب يقتضي إيقاع الفعل في الجزء الأول من أجزاء الوقت فإذا مضى من الوقت ما يسع الفعل ولم يفعل المكلف الفعل فيه وإنما فعله في غيره من الأجزاء كان هذا الفعل قضاء وهل يأثم بهذا التأخير أو لا يأثم - اختلف النقل عن أصحاب هذا المذهب وهذا المذهب فيه إنكار للواجب الموسع وهو مذهب لم يعرف قائله ولكنه نقل عن بعض المتكلمين ونسبه بعض الأصوليين إلى الشافعي وهي نسبة غير صحيحة لأن الشافعية لم تقل بذلك وقد استدل أصحاب هذا المذهب على مدعاهم بقوله صلى الله عليه وسلم "الصلاة في أول الوقت رضوان الله وفي آخره عفو الله" ووجه الاستدلال من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأن الصلاة في أول الوقت سبب لرضاء الله ورحمته وثوابه وأن إيقاعها في آخر الوقت موجب للعفو من الله تعالى وذلك يقضي بأن إيقاعها في آخر الوقت فيه معصية تتطلب من الله العفو عنها فإن العفو إنما يكون عن ذنب أو معصية. فلو كان الوقت كله وقتا للأداء والمكلف خير في إيقاع الفعل في أي جزء من أجزاء لما كان إيقاعها في الجزء الأخير منه موجبا للذنب لأن المكلف قد فعل ما هو مأذون فيه بذلكك يكون الحديث دالا على أن وقت الفعل هو الجزء الأول منه وما بعده بوقت لقضائه وهو المطلوب انظر نهاية السول 1/171 المحصول لفخر الدين الرازي 1/281 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 1/108, 109. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 وأما دليلنا فنقول الأمر يفيد الوجوب قد تناول أول الوقت قطعا فأفاد الوجوب قطعا يدل على أن الأمر تناول جميع الوقت على وجه واحد فإن كان لا يفيد الوجوب فى أوله فلا يفيد فى أخره فإذا أفاد الوجوب فى أخره فلا بد أن يفيد فى أوله ولأنا أجمعنا أنه يجب عليه نية الواجب إذا فعل الصلاة فى أول الوقت ولو نوى النفل بطلت صلاته والنية مصححة للفعل ومفسدة له فلو كان المفعول فى أول الوقت يقع نفلا لم يبطل النفل بل كان ينبغى أن يكون نية النفل مصححة لها. ببينة أنه لما وجبت نية الفرض علمنا قطعا أن المفعول لا يقع نفلا لأنه لا يتصور أن يقع عن النفل مع وجوب نية الفرض وإذا وقع عن الفرض ثبت أنه فرض فإن قالوا: ليس فيما قلناه أكثر من وقوع الفعل عن الواجب قبل الوجوب وأنتم قد فعلتم مثل هذا فى صلاة العصر للمسافر فى وقت الظهر وصلاة العشاء الاخرة له فى وقت المغرب وكذلك الوضوء يجب عند دخول وقت الصلاة وقد صح بالإجماع قبله. قلنا واحد منهما لا يلزم أما الأول فوقت الظهر وقت وجوب العصر فى حق المسافر إلا أنه واجب موسع وكذا نقول فى العشاء الأخرة أن وقت المغرب وقت وجوبها فى حق المسافر وهذا ثابت عندنا بالنصوص الواردة فى الباب على ما عرف فلم نقل بجواز تقديم الواجب على وقته. وأما فصل الطهارة قلنا دخول الوقت إنما يوجب الوضوء على المحدث لإزالة الحدث فأما إذا كان تطهر قبل دخول الوقت وجاز على طريق النفل فقد زال الحدث ودخل وقت الصلاة وهو متطهر غير محدث ولم يجب عليه الوضوء أصلا وهذا لأن الوضوء لا يجب لعينه بحال وإنما وجب شرطا للصلاة ليؤديها على طهر من حدث وإذا كان متطهرا عن الحدث عند دخول الوقت فقد وجد شرط الصلاة فلم يتصور وجوب الطهارة عليه. وأما الجواب عن قولهم أن حد الواجب ما لا يجوز تركه. قلنا لا ترك هاهنا على وجه يخل بالواجبية فلم قلتم أن الترك الذى لا يخل بالواجبية لا يسع فى الواجب والدليل على أنه لا يخل بالواجبية أن هذا واجب واسع وقته على معنى أن وقته يشتمل على أزمان غيره لهذا الفعل على الترادف والتعاقب فلا بد أن يكون لتوسع الوقت أى فى هذا الواجب وليس ذلك إلا أنه يجوز تأخيره عن أول زمانه إلى زمانه الثانى والثالث والرابع إلى أن يضيق فى أخره فيوجد وقت لا يتلوه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 وقت أخر. وجواز التأخير على هذا الوجه لا يخل بالواجبية لأنه أخره عن وقته أو تركه فى وقت إلى وقت مثله فى الوجوب فيفيد فائدة الأمر فى الإيجاب لأن الوقت الثانى فى الحقيقة صار مثل الوقت الأول فكأنه الوقت الأول فكذلك الثالث والرابع ولا يخص ترك وهذا لأن المحظور ترك يؤدى إلى تفويت الواجب وإذا تعددت أوقات الفعل بحكم اتساعه لم يوجد تفويت وإذا قرر على هذا الوجه وقع التفريق بينه وبين النفل ولم يلحق به بحال فقد وقع الانفصال عن هذه الشبهة بأبين وجه وبقى الدليل الذى قدمناه من غير أن يكون لهم غلبة كلام بوجه ما وأما إذا مات فى خلال الوقت فقد بينا أنه غير عاص بقول من قال من أصحابنا أن على هذا لا يصح إلا أن يقال أنه غير واجب فى أول الوقت خطأ وقد بينا الكلام عليه فى المسألة الأولى وحققنا وجود الوجوب مع القول بترك معصيته عند اخترام المنية إياه ولا مزيد على ما قلناه. وأما الزكاة فعندنا الأمر اقتضى الإيجاب من وقت ما تناوله الأمر وقد تناوله الأمر وقد تناول الأمر ما بعد الحول فلا يجب قبله فكذلك الأمر هاهنا قد يتناول أول الوقت فلا يتآخر عنه الوجوب. وأما جواز إخراج الزكاة قبل الحول رخصة من الشرع ثبت ذلك بالنص الوارد فيه والرخص لا يجوز إلزامها على الواجبات التى هى عرفيه ولو وردت هاهنا رخصة بجواز فعل الصلاة قبل الوقت لقلنا بذلك. فإن قال قائل الوقت سبب الوجوب فكيف يتصور أن يجب من أول الوقت إلى أخره وهو يؤدى إلى أن يكون الزمان الأول سببا للوجوب وكذلك الزمان الثانى والثالث فيكون ذلك إيجاب ما هو واجب وهذا لا يجوز الجواب أن عندنا الوقت ليس بسبب الوجوب أما سبب الوجوب خطاب الشرع إلا أنه يجب مرة فى زمان متضيق ويجب مرة فى زمان واسع وكل واحد جائز معقولا ومشروعا على ما سبق بيانه فعلى هذا لم يرد إلى ترادف الإيجاب فى فعل واحد بل الإيجاب حصل مرة واحدة إلا أنه واجب متوسع وقته فصار الترادف فى الوقت لا فى نفس الإيجاب فسقط ما قالوه من هذا الوجه وقد دل ما ذكرناه أن الوجوب لا يستقر بأول الوقت واستقرار الفريضة معتبرة بإمكان الأداة بعد دخول الوقت وهو الظاهر من مذهب الشافعى وإذا استقر بإمكان الاداء كان التأخير جائزا بحكم توسع الوقت بشرط أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 لا يؤخذ تأخيرا يؤدى إلى التفويت على ما سبق وبعض أصحابنا ضم إلى هذا شرطا آخر وهو العزم على أداء المأمور قبل انقضاء الوقت وعندى أن الشرط الأول كاف وقد سبق الكلام فى ذلك والله أعلم. مسألة المأمور إذا ترك الإمتثال فى الوقت المضروب للأمر حتى انقضى فلا يجب عليه القضاء بصيغة الأمر فإن وجب يجب بأمر جديد. وقال بعض الفقهاء يجب القضاء بالأمر الأول1 واحتج فى ذلك بما روى عنه   1 قال الشيخ فخر الدين الرازي هذه المسألة لها صورتان: الصورة الأولى الأمر المقيد كما إذا قال: افعل هذا الوقت فلم يفعل حتى مضى ذلك القت فالأمر الأول هل يقتضي إيقاع ذلك الفعل فيما بعد ذلك الوقت؟ الحق لا لوجهين: الأول: أن قول القائل لغيره: افعل هذا الفعل يوم الجمعة لا يتناول ما عداه وما لا يتناوله الأمر وجب أن لا يدل عليه بإثبات ولا ينفي بل لو كان قوله: افعل هذا الفعل يوم الجمعة موضوعا في اللغة لطلب الفعل في يوم الجمعة وإلا ففيما بعدها فها هنا إذا تركه يوم الجمعة لزمه الفعل فيما بعده ولكن على هذا التقدير يكون الدال على لزوم الفعل فيما بعد يوم الجمعة ليس مجرد طلب الفعل يوم الجمعة بل كون الصيغة موضوعة لطلب يوم الجمعة وسائر الأيام. قال ولا نزاع في هذه الصورة وإنما النزاع في أن مجرد طلب الفعل يوم الجمعة لا يقتضي إيقاعه بعد ذلك. الثاني أن أوامر الشرع تارة لم تستعقب وجوب القضاء كما في صلاة الجمعة وتارة استعقبته ووجود الدليل مع عدم المدلول خلاف الأصل فوجب أن يقال إن إيجاب الشيء لا إشعار له بوجوب القضاء وعدموجوبه. فإن قلت إنك لما جعلته غير موجب للقضاء فحيث وجب القضاء لزمك خلاف الظاهر. قلت عدم إيجاب القضاء غير وإيجاب عدم القضاء غير ومخالفة الظاهر إنما تلزم من الثاني وأنا لا أقول به أما على التقدير الأول فغايته أنه دل منفصل على أمر لم يتعرض له الظاهر بنفي ولا إثبات وذلك لا يقتضي خلاف الظاهر. الصورة الثانية: الأمر المطلق وهو أن يقول: افعل ولا يقيده بزمان معين فإذا لم يفعل المكلف ذلك في أول أوقات الإمكان فهل يجب فعله فيما بعده أو يحتاج إلى دليل؟ أما نفاة الفور فإنهم يقولون: الأمر يقتضي الفعل مطلقا فلا يخرج عن العهدة إلا بفعله وأما مثبتوه فمنهم من قال إنه يقتضي الفعل بعد ذلك وهو قول أبي بكر الرازي ومنهم من قال: لا يقتضيه بل لا بد في ذلك من دليل زائد. ومنشأ الخلاف أن قول القائل لغيره: افعل كذا هل معناه: افعل في الزمان الثاني فإن عصيت ففي الثالث فإن عصيت ففي الرابع على هذا أبدا أو معناه: افعل في الثاني من غير بيان حال ............... = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها" 1 وقوله فليصلها دليل على أن الأمر الأول باق عليه وأن الواجب بعد خروج الوقت هذا الذى كان واجبا فى الوقت ولأن الواجب عليه بعد الوقت واجب باسم القضاء والقضاء من ضرورته وجوب فقضى عليه فدل أن الأمر الأول باق عليه حتى سمى المفعول قضاء. ببينة: أنه إذا وجب بأمر لم يتصور أن يكون قضاء. قالوا: ولأن الأوامر مصالح والمصلحة فى نفس الفعل لا فى وقت الفعل فإذا لم يفعل كان عليه فعله وأن انقضى الوقت المضروب للفعل. وأما دليلنا هو أن الوجوب بالأمر والأمر يتناول الفعل فى وقت معلوم فلا يكون الفعل فى غير ذلك الوقت مأمورا وإذا لم يكن أمرا بعد الوقت لم يكن وجوب والحق أن المأمور يفوته بفوات الأمر وقد فات الأمر بفوات الوقت فيفوت الوجوب. ببينة: أن فى الشاهد من قال لغلامه زر فلانا فى الغد لا يكون أمرا بالزيارة بعد الغد حتى إذا ترك الزيارة فى الغد وزار بعد الغد يسمى مخالفا لسيده وأيضا يقال القاضى ليس يمتثل الأمر فإن الممتثل للأمر هو الموافق لصيغة الأمر والموافقة لصيغة الأمر وهى بالفعل فى الوقت المسمى فى الأمر وإذا لم يكن الفعل بعد الأمر امتثالا لم يكن الأمر مقتضيا له فصار فعل المأمور بعد خروج الوقت كفعله قبل دخول الوقت.   = الزمان الثالث والرابع فإن قلنا بالأول اقتضى الأمر الفعل في سائر الأزمان وإن قلنا بالثاني لم يقتضيه فصارت هذه المسألة لغوية. واحتج من قال أنه لا بد من دليل منفصل بأن قوله: افعل قائم مقام قوله: افعل في الزمان الثاني. وقد بينا أنه إذا قيل له في ذلك وترك الفعل في الزمان الثاني لم يكن ذلك القول سببا لوجوب الفعل في الزمان الثالث فكذا ها هنا ضرورة أنه لا تفاوت بين اللفظتين واحتج أبو بكر الرازي على قوله: بأن لفظ افعل يقتضي كون المأمور فاعلا على الإطلاق وهذا يوجب بقاء الأمر ما لم يصر المأمور فاعلا انظر المحصول 1/224, 225, 226 إحكام الأحكام 2/262 روضة الناظر وجنة المناظر 180 التمهيد تخريج الفروع على الأصول ص 68. 1 أخرجه البخاري المواقيت 2/84 ح 597 ولم يذكر "من نام" ومسلم المساجد 1/477 ح 315, 684 وأبو داود الصلاة 1/118 ح 442 والترمذي الصلاة 1/335 ح 178 ولفظهما لفظ البخاري والنسائي المواقيت 1/236 باب فيمن نسي صلاة وابن ماجه الصلاة 1/227 ح 696 ولفظ الحديث عند مسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 ثم لا يصح ذلك فى الأمر وكذلك بعد خروج الوقت يكون كذلك أيضا. وأما الجواب عما تعلقوا به أما الخبر قوله ص فليصلها نقول أولا هذا دليل عليهم لأن قوله فليصلها أمر جديد فلو كان الأمر الأول باقيا عليه لم نحتج إلى هذا الأمر الثانى فلما ذكره دل على وجوبه بهذا الأمر لا بالأمر الأول ثم قوله فليصلها يعنى فليصل مثلها لأن الواجب عليه هذا الأمر المحدد صلاة مثل صلاة الأولى فلأجل هذه المشابهة صحت هذه الكتابة وأما الذى تعلقوا به من تسمية المفعول قضاء. قلنا هذا دليل عليكم لأن الأمر الأول لو تناول الفعل قبل خروج الوقت كان المفعول أداء ولم يكن قضاء مثل المفعول فى الوقت ثم نقول تسميته قضاء هو على طريق المجاز لا على طريق الحقيقة ومعنى المجاز أنه فعل على مثاله الأول قائم مقامه فى إسقاط تبعة الأمر الأول عنه وهذا لأن عندنا وأن وجب القضاء بأمر جديد يعمله قيامه مقام الأول فيسقط عنه تبعة الخلاف فى الأمر الأول فهذا الوجه سمى قضاء وهو على طريق المجاز لأنه لا يقضى عليه فى الحقيقة. وأما كلامهم الأخير فقوله أن الأوامر مصالح. قلنا تأجيل المصالح فى الأوامر عندنا باطل والله تعالى لا يجب عليه شيء بوجه ما وقد يفعل الأصلح بالعبد وقد يفعل غير الأصلح وهذه قاعدة تعرف فى غير هذا الموضع وعلى أنه يجوز أن تكون مصلحة العبد فى فعل الشيء في وقت معين ولا يكون فعله فى غير ذلك الوقت مصلحة. ألا ترى أن فعله فى الوقت مصلحة له وقبل الوقت لا يكون مصلحة والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 فصل: هل يتوجه الوجوب حال العذر ... فصل وذكر أصحابنا فى أصحاب الأعذار الذين لا يحتم عليهم الصوم فى الحال مثل المريض والمسافر ومن لا يجوز له صوم فى الحال مثل الحائض والنفساء أن الصوم واجب عليهم فى حال العذر. وقال أصحاب أبى حنيفة لا يجوز القول بإيجاب الصوم على الحائض والمريض فى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 حال العذر1. وأما المسافر فالصوم واجب عليه وله الفطر بترخيص الشرع وحكوا عن بعض من ينسب إلى الكلام أن الصوم لا يجب على المريض والحائض وأما المسافر فعليه صوم أحد الشهرين أما شهر الاداء وأما شهر القضاء وأيهما صام كان أصلا مثل الأنواع الثلاثة فى كفارة اليمين. واحتج الأصحاب فيما صاروا إليه بأن الله تعالى علق قضاء الصوم بفطر مضمر فى الأية إجماعا وهو قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] ومعناه فانظروا عدة من أيام آخر فدل أن وجوب القضاء معلق بالفطر ولو لم يكن الوجوب ثابتا عند الفطر لما تعلق به القضاء ولأن المفعول لما كان يسمى قضاء لا أداء فالقضاء اسم لواجب قام مقام واجب آخر فأما أداء الواجب فى وقته فلا يسمى قضاء بحال ولأن هذه العبادة مفروضة فى هذا الوقت فلو لم يجب على هؤلاء فى الوقت لم يجب شيء بعد فوات الوقت كالحائض لما لم يجب عليها الصلاة فى.   1 قال الشيخ الآمدي اختلفوا في تكليف الحائض بالصوم فنفاه أصحابنا وأثبته آخرون انظر إحاكم الأحكام 1/221 وفي شرح المنار لابن مالك الحنفي والحيض والنفاس وهما لا يعدمان الأهلية لا أهلية الوجوب ولا أهلية الأداء فكان ينبغي أن لا يسقط بهما الصلاة كما لا يسقط الصوم انظر المنار لابن مالك 350. وهذا يدل على أن الذي ذكره المصنف هو عكس ما قلناه فعند الأحناف يجوز أن يجب الصوم على المعذور وأما عندنا نحن الشافعية فالحيض مانع من أهلية الوجوب وقت الحيض اهـ. ثم سطر الشيخ الآمدي قوله فقال: والحق في ذلك إن أريد بكونها مكلفة به بتقدير زوال الحيض المانع فهو حق وإن أريد بكونها مكلفة به بتقدير نزول الحيض المانع فهو حق وإن أريد به أنها مكلفة بالإتيان بالصوم حال الحيض فهو ممتنع وذلك لأن فعلها للصوم في حالة الحيض حرام ومنهي عنه فيمتنع أن يكون واجبا ومأمورا به لما بينهما من التضاد الممتنع دالا على القول بجواز التكليف بما لا يطاق. فإن قيل فلو لم يكن الصوم واجبا عليها فلم وجب عليها قضاؤه؟ قلنا: القضاء عندنا إنما يجب بأمر مجدد فلا يستدعي أمرا سابقا وإنما سمي قضاء لما فيه من استدراك مصلحة ما انعقد سبب وجوبه في الصوم ولم يجب لمانع الحيض انظر إحاكم الأحكام 1/221, 222 التلويح على التوضيح 2/176, 177. تنبيه: اعلم وفقك الله أنه من الممكن أن يكون هناك خطأ في عبارة المصنف والصحيح "أن الصوم غير واجب عليهم في حال العذر وقال أصحاب أبي حنيفة يجوز القول بإيجاب الصوم على الحائض في حال العذر والله أعلم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 الوقت لم يجب بعد الوقت. قال من يخالف هذا كيف يتصور وجوب الصوم على الحائض ولا سبيل لها إلى الأداء ولا إلى إزالة المانع إلى الأداء بل هي منتهية عن فعل الصوم لا إيجاب فعل لا سبيل للمأمور إلى التوصل إليه بحال. ببينة أنه لو جاز إيجاب الصوم على المرأة فهى منتهية عنه لجاز إيجاب سائر المنهيات عليها هذا فى الحائض وكذلك قالوا: للمريض الذى يستضر بالصوم لا يجوز له فعل الصوم فلا يجوز أن يقال بوجوبه عليه وأما المسافر فالصوم له جائز إلا أنه رخص له تركه والقضاء من بعد. وأجاب الأصحاب عن هذا وقالوا: المحدث إذا ضاق به وقت الصلاة لا يتأنى له الأداء والوجوب ملاق إياه وكذلك من لا يجد ماء ولا ترابا نظيفا لا يتصور منه الأداء ولا التسبب إليه ومع ذلك صح الوجوب عليه والسكران لأنه خطاب وجوب الصلاة وهو ممنوع من أدائها وهذا لأن الحيض نوع حدث والمرض والسفر نوع عذر والحدث والعذر إنما يؤثران فى الأداء ولا يؤثران فى أصل الوجوب مثل سائر الأحداث والأعذار إلا من الأحداث ما يكون العبد بسبيل إلى إزالته ومنها لا سبيل له إلى إزالته ومن الأعذار ما يكون الأداء جائزا معه وربما يكون الأداء هو الأولى ومنها ما يكون ترك الأداء أولى وذلك فى المريض الذى يستضر بالصوم. واعلم أن القول بإيجاب الصوم على الحائض مشكل جدا والحرف الذى يمكن الاعتماد عليه أن الخطاب بالإيجاب عام فى حق كل من هو من أهل الخطاب إلا أن هؤلاء أصحاب أعذار وموانع فيعمل العذر والمانع بقدره ولا يفوت الخطاب أصلا والحيض حدث دائم وعمل الأحداث فى المنع من الأداء والمرض عذر مضر بصاحبه والضرر فى الأداء فى الإيجاب والسفر جعل عذرا لأنه سبب المشقة فالمشقة فى الأداء لا غير فهذا الطريق كان عمل هذه الأشياء فى الأداء لا فى الوجوب فيبقى أصل الوجوب وظهرت فائدته من بعد وهو عند زوال هذه الأعذار وهذا غاية ما يمكن ذكره فى هذا الفصل وللقاضى أبى زيد فى كل هذه الأعذار كلام مفرد ذكره فى أحد أصوله الذى صنفه وسنحكى ذلك من بعد ونتكلم عليه مع أخواته التى ضم إليها ونتكلم فيها ونبين الصواب من ذلك والله المعين بمنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 مسألة: الأمر الوارد على التخيير بين شيئين أو أشياء. مثل الأمر الوارد فى كفارة اليمين وما يشبه ذلك فالذى عليه جمهور الفقهاء أن الواجب أحد ذلك لا بعينه فأيها فعل يعين واجبا بفعله فيكون مبهما قبل الفعل متعينا بعد الفعل بفعله1. وقال كثير من المعتزلة وشرذمة من فقهاء العراقيين أن جميعها واجب دون أحدها فإذا فعل أحدها سقط به وجوب باقيها2. وقد قال بعض أصحابنا أن من عليه الكفارة إذا فعل جميعها كان الواجب أحدها وهو أعلاها ثمنا لأنه مثاب على جميعها وثواب الواجب أكثر من ثواب الندب فانصرف الواجب إلى أعلاها دون أدناها ليكثر ثوابه وأن ترك جميعها كان معاقبا على أحدها. وهو أدناها ليقل وباله ووزره ولأن الواجب يسقط بفعل الأدنى فينظر فى إلحاق الوزر إلى ذلك القدر ولا وزر فيما زاد عليه3 احتج عبد الجبار الهمدانى لمن قال إن.   1 انظر نهاية السول للأسنوي 1/132 إحكام الأحكام 1/142 المحصول لفخر الدين الرازي 1/273 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 1/93. 2 انظر المعتمد في أصول الفقه للقاضي حسين 1/79 المحصول لفخر الدين الرازي 1/273. 3 هذا المذهب لم اجده ولكن ما وجدته في كتب الأصول هو مذهب لبعض المعتزلة - أن الخطاب يقتضي إيجاب واحد معين عند الله تعالى غير معين للناس وأصحاب هذا المذهب ثلاث طوائف: الطائفة الأولى: ترى أن المعين عند الله الذي تعلق به الإيجاب هو ما يختاره المكلف من الخصال التي ورد فيها للتخيير - فتعيين الواجب عند الله تابع لاختيار المكلف - ومن هنا كان الواجب مختلفا لاختلاف المكلفين فيما يختارون والواجب على كل مكلف هو ما يختاره. الطائفة الثانية: ترى أن المعين عند الله تعالى الذي تعلق به الإيجاب شيء واحد بالنسبة لجميع المكلفين هو الإطعام مثلا أو الإعتاق - فإن اختاره المكلف وفعله فقد فعل الواجب وإن لم يختره بل اختار غيره وفعله فقد سقط عنه الواجب لأنه فعل ما يقوم مقامه. الطائفة الثالثة: ترى أن المعين عند الله تعالى متعد فليس شيئا واحدا لجميع المكلفين كما تقول الطائفة الثانية وليس التعيين تابعا لاختيار المكلفين كما تقول الطائفة الأولى وإنما التعيين راجع إلى والله تعالى والله تعالى قد عين لكل طائفة من المكلفين ما يناسبهم فعين لطائفة منهم الإطعام وعين لطائفة أخرى الإعتاق وعين لطائفة ثالثة الإكساء وعند الحنث يلهم الله كل طائفة أن تفعل ما عينه لها انظر أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 93. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 جميعها واجب وقال أن الكفارات الثلاث كل واحدة منها قد أرادها الله عز وجل كما أراد الأخرى وأمر بها كما أمر بالأخرى والصلاح فى إحداها كالصلاح فى الأخرى كان الأمر والصلاح والإرادة اتصل بكل الثلاث على وجه واحد وجب أن يكون وجوب الجميع على وجه واحد وربما يقول: ليس إيجاب البعض بأولى من إيجاب البعض فوجب أن يجب الكل وأيضا فإن كل واحد منها إذا فعله جاز ويكون مؤديا للواجب وهذا صفة بالواجب وحكمه وقالوا: لوكان الواجب أحدها لا بعينه وجب أن يبينه الله تعالى. لأنه إذا لم يتبين أدى إلى أن يكلف أحد شيئا من غير أن يسأله وهذا لا يجوز. يدل عليه أنه لو أوجب أحدها لنصب عليه دليلا وميزه من غيره حتى لا يؤدى إلى التخيير بين الواجب وبين ما ليس بواجب فلما لم يميزه ولم ينصب عليه دليلا دل أنه أوجب الكل. قالوا: أيضا أن الكفارات إنما أمرنا الله تعالى بها لأنها مصالح لنا ولا يجوز أن تكون المصالح موقوفة على اختيارنا لأن العبد لا يهتدى إلى مصالح نفسه لأن رأيه عن عقل مشوب برأيه عن هوى ولا يحصل بمثل هذا الرأي الاهتداء إلى المصالح. وأما حجتنا هى أنا أجمعنا أنه لو عين أحد الأنواع بالفعل وأداه سقط الواجب عنه ولا يلزم الإتيان بعده وهذا الواجب ما لا يسع تركه إلى غير بدل ولا شك أن المؤدى واحدا من الأنواع تارك غيره بلا بدل فدل أن عليه الذى أداه ليس بواجب وأن شئت قلت: انعقد إجماع المسلمين أنه لو ترك جميع الأنواع لا يستحق العقاب على جميعها وإنما يستحق العقاب على أحدها ولو كان الجميع واجب استحق العقاب على الكل. قالوا: عندنا يجب الكل على طريق الجمع لكن على طريق التخيير فإذا إدى المكلف إحدها يخرج الباقى عن صفة الوجوب. قلنا هذا هو الدليل عليكم لأن الجميع لو كان واجبا لم يسقط بفعل أحدهما كالصناعات والصلوات والزكوات المجتمعة عليه لا تسقط بأداء الواحد منها وإذا تركها عوقب على جميعها وقولهم أن الكل واجب على طريق التخيير. قلنا لو وجب الكل وجب أن لا يثبت التخيير فيها على وجه إذا فعل الواحد منها سقط الكل كسائر الواجبات التى تجتمع عليه فى الوجوب. قالوا: يجوز مثل هذا كفرض الكفاية فإنه واجب على الكل ومع ذلك إذا فعله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 البعض سقط عن الكل. قلنا فرض الكفاية دليل عليكم لأنه لما وجب على الكل من وجه ظهر لذلك أثر بوجه ما فإنه العقاب كما إذا كان واجبا على الكل لا على طريق التخيير وأما هاهنا لو ترك الكل لم يكن عقاب وإثم إلا بترك أحدها فلم يكن لوجوب الكل ظهور أثر بوجه ما وإذا كان كذلك لم يكن فيما قالوه إلا مجرد تسمية الواجب أن غير معنى ولا عبرة للأسامى إذا كانت خالية عن المعانى وقد دل على ما قلنا قوله تبارك وتعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89] . وأجمع أهل اللغة أن أو للتخيير والواو للجمع فلو قلنا أن جميع الكفارات الثلاث واجبة لم يبق فرق بين أو وبين الواو مع إجماع أهل اللغة على التفريق بينهما أما الجواب عن كلماتهم. أما قولهم أن الإرادة تعلقت بكل الثلاث. قلنا الأمر ليس بأمر بالإرادة حتى يقال أن الإرادة إذا اتصلت بالكل صار الكل واجبا إنما الأمر بصيغة قوله افعل أو بما يقتضى الفعل لا محالة وصيغة طلب الفعل إنما اتصلت بإحدى الكفارات الثلاث لا بعينها بدليل أنه إذا فعل إحداها سقط عنه الطلب وأيضا يقال لهم الأمر أمر بالإرادة والله تعالى إنما أراد من المكلف فعل إحدى الكفارات لا فعل جميعها بدليل أنه لا يلزمه فعل جميعها ولو أريد منه فعل كل الكفارات لزمه فعل كل الكفارات. ويقال أيضا أن الإرادة اتصلت بمبهم غير معين فى حق المكفر وأن تعين ما يكفر به فى سابق علم الله تعالى. وأما قولهم أن إيجاب البعض ليس بأولى من إيجاب البعض. قلنا لم وقد قام الدليل على إيجاب بعضها على إيجاب كلها والعبرة بما قام الدليل عليه. وأما قولهم أنه لو كفر بكل واحدة يكون مؤديا ما هو الواجب عليه. قلنا هذا لا يدل على أن الكل واجب وإنما هو دليل على أن الواجب مفوض إلى اختيار العبد هذا كما نقول فى الرقبة والإطعام فإن من ملك مائة رقبة فإنه إذا أعتق يقع عن الكفارة أو ملك ألف مد أي عشرة أمداد أعطى وقع عن الواجب ولا يدل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 على أن الكل واجب وكذلك لوباع قفيزا من صبرة فإنه اى قفيز سلم يكون مبيعا ولا يدل على أن الكل مبيع كذلك هاهنا. وأما قولهم أنه لو كان الواجب واحد ما لميزه ونصب عليه دليلا قلنا هذا إنما يجب إذا كان الواجب معينا قبل الفعل فيجب أن يكون عليه دليل ليتوصل المأمور إلى معرفته وأداء فرضه بفعله فأما إذا لم يكن معينا وإنما يتعين بفعله فلا حاجة إلى غيره لأن ما يتأدى به فرضه هو ما يختاره منها. جواب آخر أن ما يستحق الثواب بفعله والعقاب بتركه واحد بالإجماع ولم يجب تمييزه عن غيره ونصب الدليل لكل جواب للمخالف على هذا فهو جوابنا فى وجوب الواحد. وأما قولهم أن الكفارات كلها مصالح. قلنا قد تكلمنا على فصل المصلحة من قبل فلأن المصلحة فى كونها واجبا تعلقت بإحداها لا بالكل بدليل أنه لو فعل الكل لا يكون مؤديا للواجب ولو كانت مصلحة الواجبية تعلقت بالكل لوجب أن يجعل هو مؤديا للكل عن صفة الوجوب واعلم أنه لا يتحصل خلاف معنى فى هذه المسألة وإنما الخلاف خلاف عبارة ونحن نمنعهم من إطلاق عبارة الواجب على الكل لأنه يؤدى إلى ما بيناه من قبل ولأن العبارات التى ليس لها معنى لا يجوز التمسك بها لا إجماعا ولا اختلافا فثبت أن الصحيح ما قدمناه والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 فصل: الأمر بالشيء لا يكون أمرا بأسبابه ... فصل ذكر الأصحاب أن الأمر بالشيء لا يكون أمرا بأسبابه بصيغته1 مثل قوله صل.   1 هذه المسألة هي المعنون عنها بمسألة مقدمة الواجب وهو أن إيجاب الشيء يقتضي إيجاب ما يتوقف عليه. واعلم أن الواجب يتوقف على شرطه وسببه كما يتوقف على جزئه ويتضح ذلك مما يأتي: الشرط: هو ما يلزم من عدمه عدم المشروط ولا يلزم من وجوده وجود المشروط ولا عدمه لذاته وأقسامه ثلاثة لأن عدم المشروط عند عدم الشرط إن كان منشأه الشرع فهو شرط شرعي وإن كان منشأه العقل فهو شرط عقلي وإن كان منشأه العادة فهو شرط عادي مثال الشرط الشرعي الطهارة بالنسبة للصلاة فإن عدم الطهارة تستلزم عدم صحة الصلاة ومنشأه الاشتراط ..... = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 .........................................................................   = هو الشرع والعقل لا دخل له في ذلك ومثال العقلي: ترك ضد من الأضداد التي لا يمكن فعل الصلاة معه فترك هذا الضد شرط لصحة الإتييان بالصلاة والعقل يوجب هذا الاشتراط من حيث إنه يمنع الجمع بين المتنافيان. ومثال الشرط العادي: نصب السلم بالنسبة لصعود السطح فإن الصعود لا يتحقق عادة إلا بالسلم فإن لم يوجد الصعود عادة وكذلك غسل جزء من الرأس فإنه شرط في تحقيق غسل الوجه والذي قضى بذلك هو العادة فإن غسل الوجه لا ينفك عادة عن غسل جزء من الرأس. السبب: هو ما يلزم من وجوده وجود المسبب ومن عدمه عدم السبب فالمسبب يؤثر بطرفي الوجود والعدم بخلاف الشرط فإنه يؤثر من جهة العدم فقط وأقسام السبب ثلاثة لأن تأثيره في المسبب إن كان من جهة الشرع فهو سبب شرعي وإن كان من جهة العقل فهو سبب عقلي وإن كان من جهة العادة فهو سبب عادي. مثال السبب الشرعي: دخول الوقت بالنسبة لوجوب الصلاة وملك النصاب بالنسبة لوجوب الزكاة. ومثال السبب العقلي: ترك كل ما ينافي الصلاة فهو سبب من جهة أن ترك كل مناف للصلاة يقضي بوجود الصلاة وإن عدم الترك وذلك يكون بإتيان ما ينافي الصلاة يقضي بعدم الصلاة والعقل هو الذي يحكم بذلك فهو سبب عقلي. ومثال السبب العادي حز الرقبة بالنسبة للقتل الواجب. وأما الركن هو ما يلزم من عدمه العدم ومن وجوده الوجود مع كونه داخلا في الماهية "فهو يخالف السبب من حيث إن السبب خارج عن الماهية أما الركن فهو داخل فيها - ويتفق الركن مع السبب من حيث إن كلا منهما يؤثر بطرفي الوجود والعدم. واعلم أن الأصوليين قد اتفقوا على أن وجوب الشيء إذا كان مقيدا بشرط أو بسبب فإن المكلف لا يجب عليه تحصيل الشرط ولا تحصيل السبب لكي يكون مكلفا بذلك الشيء فلو قال الشارع مثلا: إن توضأت فقد أوجبت عليك الصلاة أو قال: إن ملكت النصاب فقد أوجبت عليك الزكاة فلا يجب على المكلف بتحصيل الوضوء ولا تحصيل ملك النصاب ليكون ذلك محققا لإيجاب الصلاة والزكاة عليه. واعلم أنه إذا كان وجوب الشيء مطلقا غير مقيد بشرط ولا سبب ولكن وجود هذا الشيء في الخارج يتوقف على شرط أو سبب مثل الصلاة فإن وجودها في الخارج صحيحة يتوقف على شروط صحتها من طهارة حدث وخبث واستقبال القبلة وستر العورة - ومثل الصوم فإن وجوده في الخارج يتوقف على شروط صحته كترك الأكل نهارا مثلا ومثل الزكاة فإن وجود ما يتوقف على فرز المال وغير ذلك فهل يكون الخطاب الذي دل على وجوب الشيء دالا ايضا على وجوب ما يتوقف عليه ذلك الشيء من حيث الوجود وهو ما يعرف بمقدمة الوجود أو لا يكون الخطاب دالا على وجوبه وإنما يكون وجوبه مستفادا من الدليل الذي دل عليه استقلالا - ومن هنا يعلم أن وجوب الشرط أو السبب متفق عليه لوجود ما يدل عليه استقلالا وإنما الخلاف ......... = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 ...................................................................   = في أن الدليل الذي دل على إيجاب الشيء يدل أيضا على إيجاب ذلك الشرط والسبب أو لا يدل عليه - اختلف الأصوليون في ذلك على أربعة مذاهب: المذهب الأول: ذهب جمهور الأصولين ومنهم البيضاوي وهو أن الخطاب الدال على وجوب الشيء يدل أيضا على وجوب ما يتوقف وجوده عليه مطلقا - أي سواء كان سببا أو كان شرطا وسواء كان كل منهما شرعيا أو عقليا أو عاديا - وبذلك يكون الخطاب دالا على شئين - أحدهما بطريق المطابقة - وهو وجوب الشيء - وثانيهما بطريق الالتزام - وهو وجوب ما يتوقف ذلك الشيء عليه من حيث الوجود واشترطوا لذلك شرطا هو أن يكون ما يتوقف وجود الشيء عليه مقدورا للمكلف بحيث يستطيع فعله كما سبق في الأمثلة. فإن لم يكن مقدورا له مثل إرادة الله تعالى لحصول الفعل من المكلف ووجوب الداعية على الفعل وهي العزم المصمم من المكلف عليه فلا خلاف في أن الخطاب لا يدل على وجوبه لأن الوجوب إنما يتعلق بفعل المكلف وكل من هذين الأمرين ليس فعلا له - أما إرادة الله تعالى لحصول الفعل من المكلف فواضح أنها ليست من فعل المكلف ولكن وجود الفعل منه يتوقف عليها لأنه لا يقع من المكلف إلا ما أراده الله تعالى - وأما الداعية - وهي العزم المصمم على الفعل - فليس مخلوقة للمكلف ولا من فعله بل هي مخلوقة لله تعالى إذ لو كانت ........ = = مخلوقة للعبد لانتقل الكلام إليها من حيث إنها تقع في وقت دون وقت فلا بد لها من داعية وداعيتها كذلك تحتاج إلى داعية وهلم جرا فيلزم التسلسل - وهو باطل - فكانت مخلوقة لله تعالى منعا من التسلسل. ومع كون الداعية مخلوقة لله تعالى وليست من فعل المكلف فإن الفعل يتوقف وجوده عليها لتكون مرجحة لحصول الفعل في وقت دون وقت آخر وإلا لزم أن يكون حصول الفعل في بعض الأوقات دون حصوله في البعض الآخر ترجيحا بلا مرجح وهو باطل. المذهب الثاني: أن الخطاب الدال على إيجاب الشيء يدل على إيجاب السبب فقط سواء كان شرعيا أو عقليا أو عاديا ولا بد على إيجاب الشرط مطلقا. المذهب الثالث: أن الخطاب الدال على إيجاب الشيء لا يدل على إيجاب ما يتوقف الشيء الدال عليه سواء كان شرطا أو سببا وسواء كان كل منهما شرطا أو سببا وسواء كان كل منهما شرعيا أو عقليا أو عاديا. المذهب الرابع: أن الخطاب الدال على إيجاب الشيء يدل على إيجاب ما يتوقف عليه إذا كان شرطا شرعيا ولا يدل على إيجاب غيره من السبب مطلقا أو الشرط العقلي والعادي وهو لإمام الحرمين انظر إحاكم الأحكام 1/157 المحصول 1/289 نهاية السول 1/289 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 1/119 - 124. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 هذا اللفظ بصيغته لا يكون أمرا بالطهارة وستر العورة لأن هذه الشرائط لها صيغ موضوعة واختلاف الصيغ يدل على اختلاف المسوغ له. ألا ترى أن صيغة غير الصلاة لا تجعل صيغة لها وصيغة الصلاة لا تجعل صيغة لغيرها واعلم أن لا ننكر أن الصلاة مقتضية للطهارة بالدلالة وإنما ننكر أن تكون من حيث الصيغة مقتضية وهذا لأن المأمور كما لا يستغنى عن الشرائط التى يقف صحة الأداء عليها لا تستغنى عن وقت الأداء ثم الأمر بالشيء لا يدل على الوقت بصيغته وإنما يدل عليه من حيث الضرورة كذلك الشرائط. فإن قال قائل لما صارت الأسباب من ضرورة فعل الصلاة حتى لا يسمى الفعل صلاة إلا بها كان التنصيص على الصلاة تنصيصا على أسبابها كما كان تنصيصا على أفعالها وأبعاضها. قلنا أبعاض الصلاة كلها صلاة فيجوز أن نطلق عليها اسم الصلاة والطهارة ليست بصلاة. ألا ترى أن المصلى لا يجوز له استعمال الطهارة فدل أنها غيرها وأما أفعال الصلاة نفس الصلاة والشيء الواحد يتوقف أوله على أخره ولا ننكر اشتمال الإسم الواحد على جميعه وإنما أنكرنا ذلك فى شيئين مختلفين وقد قال أصحابنا أن الصلاة بصيغتها تدل على الدعاء فقط وما زاد على الدعاء ثبت بالدلائل الشرعية لا من طريق الصيغة واعلم أن ما لا يمكن امتثال المأمور إلا به يلزمه من حكم الدلالة حكم الدلالة إذا كان من كسبه نحو الطهارة وغيرها من شرائط الصلاة وكالسعى إلى الجمعة وقطع المسافة فى الحج وهما أمران لا أمر واحد وأن كان أداء أحدهما لا يتم إلا بأداء الآخر إلا ترى أنه قد يلزمه الحج بلا قطع مسافة ولا ملك زاد وصورة الخطاب فى الموضعين واحدة وأما ما لا يتم إلا بكسب غيره نحو حضور غير الجمعة حتى يصح غير جمعة فلا يكون هو مخاطبا به وإنما يخاطب بفعل نفسه وهو الحضور وأن كان حضور غيره شرطا فى الأداء إلا أنه قد يخاطب بإحداث فعل غيره بقدر ما يتأنى منه كالإمام يلزمه الحضور وإحضار الناس للجمعة ويلزمه الخروج وإخراج الناس للجهاد ويلزمه أيضا تحصيل الماء لإجراء الطهارة وستر العورة لأدائها واعلم أن هذه الأشياء وأن لزم الإنسان بحضوره العبادات وأنه لا يلزمه تحصيل المال لأداء الزكاة وقد كان يجوز ورود الشرع به إلا أن الله تعالى وضع ذلك عن العباد رحمة وأما إذا لم يمكن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 أداء الواجب إلا بأداء ما ليس بواجب هل يصير ذلك واجبا أم لا مثل إمساك جميع النهار لا يمكن إلا بإمساك جزء من الليل وكذلك ستر العورة لا يمكن إلا بستر ما ليس بعورة وغسل جميع العضو لا يمكن إلا بغسل ما ليس من ذلك العضو وكذلك ممن وجب عليه الطهارة ولا يمكنه فعلها إلا بشراء الرشاء واستقاء الماء فالواجب فى هذه المواضع كلها ما علق بها الوجوب فى الشرع. إلا إنما لا يتأتى أداء الواجب إلا به صار واجبا للتوصل إلى أداء الواجب لا لأنه واجب مقصود بنفسه. وأما اكتساب المال لاستطاعة الحج واكتساب المال لأداء الزكاة لا يجب لأن ذلك شرط الوجوب دون الفعل ولا يجب عليه أن يفعل ما تجب به العبادة عليه. وأما فى سائر المواضع فالعبادات واجبة إلا أن لفعلها شرطا لا يمكنه ذلك الفعل إلا به فيجب عليه ذلك ليتوصل به إلى الفعل ومن هذا الفصل إذا زاد على مقدار الواجب زيادة يتأدى الواجب بدونها مثل أن يطيل الركوع أو القراءة. فالأولى على هذا المذهب أن الزيادة على ما يتناوله الاسم من مقدار الواجب نفل. وحكى عن بعضهم أن الكل فرض وإنما قلنا أن الزيادة نفل لأنه قضى حق الاسم لما أتى من المأمور بما انطلق عليه بالاسم فكان بالزيادة مستقلا كما لو أدى الفرض مرة ثم أعاد فإن الثانى يكون نفلا. يدل عليه أنه لو ترك الزيادة لا إلى بدل فإنه لا يأثم وهذا من حد النفل ولا ينظر إلى أن اسم الصلاة يتناول أول الفعل وآخره لأن اسم الصلاة يتناول فرضها ونفلها ثم يختلفان فى الصفة ولا نقول أن من قال لغيره تصدق من مالى أنه لا يتقدر بل يتقدر بأقل ما ينطلق عليه اسم الصدقة واعلم أن الذى قلناه فى المأمورات وهو أنه إذا كان لا يتأتى أداء الواجب إلا بأداء ما ليس بواجب قد يكون مثله فى الكف عن المحضور وهو إذا لم يكن الكف عن المحظور إلا بالكف عما ليس بمحظور وذلك إذا اختلط النجس بالطاهر نحو الدم أو البول يقع فى الماء القليل فيجب الكف عن استعماله ثم اختلفوا فى كيفية التحريم فمنهم من قال يصير كله نجسا وهو اللائق بمذهبنا1 ومنهم من قال إنما حرم الكل لتعذر الإقدام على تناول المباح لاختلاط المحرم به فإنه لا يكاد يستعمل جزءا من الطاهر إلا وقد استعمل جزءا من النجس وهذا.   1وهو مذهب ابن عمر وسعيد بن جبير ومجاهد وأحمد وأبي عبيد وإسحاق بن راهويه انظر شرح المهذب 1/112. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 يليق بمذهب أبى حنيفة وأصحابه1 فإن عندهم إذا وقعت النجاسة فى الماء الكثير وكان الماء بحيث إذ وقعت النجاسة فى جانب منه لم يخلص إلى الجانب الآخر فيمكن استعمال الماء من الطرف الآخر على وجه لا يكون مستعملا لجزء من النجاسة قالوا: يجوز ذلك2 والأول أحسن لما بينا. وقد قال أصحابنا أن البول أو الدم إذا وقع فى الماء الكثير ولم يتغير أحد أوصافه3 فإن الكل طاهر ويجوز استعمال جميع الماء وأن تيقنا أنه باستعمال كل الماء يصير مستعملا لذلك القدر من الدم أو البول4 وإذا قلنا يجوز استعمال جميع الماء فنقول أن ما وقع فيه قد حكم بطهارته وهذا ينبغى أن يكون هو المذهب. وقد قال بعض أصحابنا إذا استعمل الماء الذى وقع فيه مثل هذه النجاسة فإنه ينبغى أن يترك بقدر النجاسة وليس بمذهب5 وأما إذا لم يكن الاختلاط بدخول أجزاء.   1 وعندهم ضابط القليل والكثير بأنه إذا كان بحال يخلص بعضه إلى بعض فهو قليل وإلا فكثير انظر بدائع الصنائع للكساني 1/71. 2 قال ملك العلماء الشيخ الكاساني - رحمه الله - اتفقت الروايات عن أصحابنا أنه يعتبر الخلوص بالتحريك وهو أنه إن كان بحال لو حول ظرف منه يتحرك الطرف الآخر فهو مما يخلص وإن كان لا يتحرك فهو مما لا يخلص وإنما اختلفوا في جهة التحريك فروى أبو يوسف عن أبي حنيفة أنه يعتبر التحريك بالاغتسال من غير عنف وروى محمد عنه: أنه يعتبر التحريك بالوضوء وفي رواية: باليد من غير اغتسال ولا وضوء واختلف المشايخ: فالشيخ أبو حفص الكبير البخاري: اعتبر الخلوص بالصبغ وأبو نصر محمد بن محمد بن سلام عتبره بالتكدير وأبو سليمان الجوزجاني اعتبره بالمساحة انظر بدائع الصنائع للكاساني 1/72. 3 وأما إن تغير أحد أوصاف فنجس بالإجماع انظر شرح المهذب 1/110. 4 وذلك لأن الحكم بجواز الطهارة منه بناء على طهوريته عام في جميع أجزائه انظر المهذب 1/112 والصحيح باتفاق أصحابنا الشافعية جواز استعمال جميعه انظر شرح المهذب 1/142. 5 نعم هو كما قال الشيخ السمعاني قال الشيخ النووي قال أصحابنا هذا الوجه غلط لأنا نقطع بأن الباقي ليس عين النجاسة فلا فائدة في تركه بل إن وجب ترك شيء وجب ترك الجميع فلما اتفقوا على أنه لا يجب ترك الجميع وجب أن يقال يستعمل الجميع لأن النجاسة استهلكت قال الشيخ النووي: وصورة المسألة أن تكون النجاسة الذائبة قليلة لم تغير الماء صح مخالفتها له في صفاته أو كانت موافقة له في صفاته وكانت بحيث لو قدرت مخالفة لم تغيره انظر شرح المهذب 1/142. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 البعض فى البعض لكن كان اختلاط التباس واشتباه ففى قسم منها يجب الكف عن الكل1 كالمرأة التى هى حلال تختلط بالنساء المحرمات والمطلقة بغير المطلقات أو المذكات بالميتات فالكف عن الكل واجب احتياطا وفى قسم تسقط حكم المحرم باختلاطه بالمباح نحو امرأة محرمة تختلط بنساء بلدة عظيمة ولا يحصى عددهن فيسقط تحريم الواحدة وتجعل كالعدم ويباح له نكاح أى امرأة أراد منهن وفى قسم الثالث ثبت التحرى وذلك فى الثوب النجس يختلط بالثياب الطاهرة أو الآنية من الماء النجس اختلط بالأوانى الطاهرة فجعل الشرع لما علم طهارته بالاجتهاد حكم الطهارة وأن كان نجسا فى الحقيقة وأسقط به الفرض عنه إلا أن يزول ذلك العلم الظاهر بيقين يحصل من بعد على ما عرف فى المذهب والله المستعان. مسألة: نذكر بعد هذا من يتناوله خطاب الأمر ونبتدئ بالكفار فنقول إنهم داخلون فى الخطاب بالشرعيات2 كما أنهم داخلون فى الخطاب بالتوحيد3 والإقرار بالنبوات ومن فوت على نفسه فعلها بترك الإسلام استحق العقاب وهذا قول أكثر أصحابنا وكثير من أصحاب أبى حنيفة4 وقالت طائفة منهم إنهم لا يلحقهم خطاب الشرعيات بحال وهو اختيار الشيخ أبى حامد الإسفراينى5 وأما المتكلمون فأكثرهم معنا فى هذه المسألة وتعلق من قال إنهم لا يدخلون فى الخطاب بكلمات معنوية منها وهو شبهتهم قالوا: تكليف من لا يصل إلى امتثال المأمور على ما ورد به الشرع بحال محال وهذا صفة خطاب الكافر بالشرعيات لأنه لا يتصور من الكافر أداء العبادات فى حال كفره وإذا أسلم سقط وزال التكليف عنه ولا وصول إلى أداء المأمور بحال. قالوا   1 لأنه مقدمة لترك المحظور. 2 أي بالفروع. 3 وهذا مما لا خلاف فيه. 4 وهو مختار جمهور العلماء ومنهم الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد وهو المعروف عن علماء الحنفية العراقيين انظر نهاية السول للأسنوي 1/369 المحصول 1/316 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 1/185. 5 هذا المذهب هو لعلماء الحنفية السمرقنديين كأبي زيد الدبوسي وشمس الأئمة السرخسي وفخر الإسلام واختاره أبو حامد الإسفرايني انظر نهاية السول 1/370 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 1/75 - 76 المحصول 1/316 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 1/185. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 وبهذا فارق الإيمان لأنه يصلح من الكافر متى قصد إليه ويفارق المحدث أيضا لأنه بعد الطهارة أمكنه أداء الصلاة بذلك الخطاب فطهارته لا تنافى ما خوطب به وأما إسلام الكافر ينافى ما خوطب به من حيث أنه لا يبقى عليه بعد الإسلام ولهذه الشبهة اختار الشيخ أبو حامد هذا المذهب وربما يقولون هذا أمر لا يفيد فائدة ولا يقتضى قضيته لأنه طلب الفعل فإذا لم يصل إلى الفعل سقطت فائدته والأمر لا يكون إلا لفائدة فإذا سقطت فائدته بطل الأمر بل خطاب الكافر بالشرعيات يؤدى إلى تكليفه ما ليس فى وسعه وأمره بما لا يطيقه وإنما قلنا ذلك لأنه يستحيل أن يفعل الشرعيات مع كفره. قالوا: ولا يجوز أن يقال أن فائدة الأمر استحقاق العقاب عند تركه لأن الأمر لا يرد من الأمر لفائدة العقاب عند الترك بل الأمر ليس إلا لفائدة الفعل وهو المقصود من الأمر وإنما أوعد عليه عند تركه لتحقيق طلب الفعل منه وترك العقاب عند الترك بمنزلة التبع من المقصود فكما أن العقد مصحح لمقصوده لا لما ليس لمقصوده فكذلك الأمر يصحح لمقصوده لما ليس لمقصوده. يدل عليه أن الأوامر بالعبادات لنفع العباد ونفع العباد فى فعلهم العبادات فإذا لم يصح منهم فعلها بطل نفعهم منها فإذا كان الأمر لنفعهم بطل نفعهم [وبطل] 1 أمرهم. وأما حجة أبى زيد أن الكافر ليس بأهل لأداء العبادات لأن أداء العبادة لاستحقاق الثواب فى الآخرة بحكم الله تعالى. والكافر ليس بأهل الثواب فى الآخرة لأن ثواب الآخرة هى الجنة وهو ليس من أهل الجنة فتبين أنه ليس بأهل للعبادة وإذا لم يكن من أهل هذا العمل لم يكن من أهل الخطاب بالعمل لأن الخطاب بالعمل للعمل وهذا كالعبد لا يخاطب بالعبادات المالية من الكفارات والزكوات وغيرها لأنه ليس من أهل ملك المال فلا يخاطب بواجب المال. ببينة أن العبادات ثمن الجنة والكافر لا يتصور أن يكون له حظ فى الجنة فأشبه الكافر فى هذا من لا ذمة له في استحقاق حق أصلا وهو [كالبهائم] 2 قال وليس.   1 ثبت في الأصل "بطل" بدون واو. 2 ما بين المعكوفين كلمة غير مقروءة لعلها ما أثبتناه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 كالإيمان لأنه ثبت له الحق فى الجنة فصار الإيمان فى الحقيقة اكتسابا للجنة وهو من أهل اكتسابها. قالوا: ولا يجوز أن يقال أنه من أهل العبادة إذا أسلم فيصح الأمر ليسلم ويفعل بمنزلة المحدث مخاطب بالصلاة ليتطهر ويصلى. وهذا لا يصح لأن الكافر فى الحال ليس بأهل للعمل ليثاب عليه والخطاب يتناول العمل فى الحال لأن الخطاب هو قوله صل وصم وهذا تناول الحال وفى الحال ليس هو من أهل هذا العمل ولا الكافر أعد للإسلام ما له حتى يعطى له حكم ما له فى الإعداد له كالمنى فى الرحم وبيض الطير فالكافر ماله مال الإسلام لا حيلة له من الله تعالى ولا عادة لهم بل العادة فى الكافر التمسك بالكفر كالمسلم عادته التمسك بالإسلام وإنما يختار الإسلام كالمسلم يختار الكفر نادما. قالوا: وليس كالجنب لأنه بنفسه أهل لعمل يثاب عليه غير أنه لا يصح منه الصلاة لفقد شرطه وهو الطهارة فهى شرط لصحة الأداء لا ليصير أهلا لعمل يثاب عليه فى الآخرة فيصح الخطاب له على أن يفعله بشرطه وأما الكافر فليس بأهل لعمل يثاب عليه فى الآخرة أصلا فلا يصح الخطاب معه أصلا وسبيل هذا سبيل المولى يقول لعبده أعتق عن نفسك عبدا أو كفر عن يمنيك بالمال يكون لغوا لأن ملك المال شرط التصرف بهذا الخطاب والعبد ليس من أهل ملك المال وبمثله لو قال لحر أعتق عبدك على ألف فأعتق صح عنه بصحة الأمر لأنه أهل الإعتاق إلا أنه فقد فى الحال شرط الأداء وهو الملك وصح الأمر به على أن يؤدى المأمورية بشرطه قال ولا يجوز أن يقال أن الكفر معصية فلا يجوز أن يجعل شىء لسقوط الخطاب لأنه تخفيف والكفر لا يصلح سببا للتخفيف قال لأنا لا نسقط الخطاب برحمة ليكون سبب العذر بل أسقطنا الخطاب نقمة لأنه سقط لخروجه عن صلاحية الجنة وهذا نقمة ببنية أن الكافر سقط عنه خطاب الله تعالى بالعبادات ليأسه عن الجنة وبخطاب المؤمن بالعبادات لاستحقاقه الجنة وشدة النار فوق ثقل الخطاب وراحة الجنة فوق راحة سقوط الخطاب وهذا كالبهائم لا يخاطبون وليس ذلك لإرادة التخفيف عليها بل لأنها ليست بأهل الخطاب فكان سقوط الخطاب للإزراء بها كذلك سقوط العبادات عن الكفار ليس للتخفيف عليهم بل لإخراجهم عن أهلية الخطاب فيكون على وجه العقوبة والإزراء بهم وإلحاقهم بالبهائم التى لها خطاب عليهم قال وأما المناهى ثابتة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 في حقهم لأنه أن لم يكن من أهل العبادة لأنها ثمن الجنة فهو من أهل المعصية التى هى سبب العقوبة فيستقيم إثبات خطاب المناهي فى حقه وأن لم يستقم إثبات خطاب العبادات قال وهذا يحثهم على المعاصي في الدنيا لأن الحدود عقوبات على إنكار المناهي وخطاب المناهي قد لحقهم ولأن هذه الأعمال للفكاك عن قيد الاستعباد كما أن مال الكتابة يؤديه العبد للفكاك عن قيد الرق وقبل الإيمان بالله عز وجل لا يتصور منه أعمال تتعلق بهذا الفكاك عن القيد وأما الإيمان فيتعلق بنفسه للفكاك أو يثبت عقد الفكاك فاستقام الخطاب بالإيمان دون الأعمال ألا ترى أن المولى يستقيم منه خطاب العبد بأداء المال بعد عقد الكتابة ولا يستقيم قبل عقد الكتابة هذا طريقا إلى هذا الموضع وتعلقوا بالخبر المعروف أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذا إلى اليمن قال له ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله فإن أجابوك فأعلمهم أن عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة وفي رواية فأعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد فى فقرائهم1 فقد أخبر أن هذه الواجبات تلزم بعد الإيمان بالله تعالى ولو لزمت مع لزوم الإيمان لم يكن لتأخير ذكر الإيجاب معنى. وأما حجتنا في هذه المسألة تتعلق أولا بما ورد من السمعيات في الباب والتعلق للأصحاب بما ورد في القرآن والسنة كثيرة غير أن المختار من ذلك قوله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ، قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ، وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ، وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} [المدثر: 42, 45] فقد ذمهم ووبخهم بترك الصلاة وكذلك بترك الزكاة لأن إطعام الطعام الذى يتعلق بتركه التوبيخ هو الزكاة فلولا أن ذلك توجه عليهم ولحقهم خطابه لم يستقم التوبيخ والذم فإن قيل معناه لم نك من جملة المصلين أي المسلمين قلنا لا يستقيم ذلك لأن قوله: {مِنَ الْمُصَلِّينَ} يفيد أنهم استحقوا الذم لأنهم لم يصلوا كقول القائل عاقبت فلانا لأنه لم يك من المطيعين يدل أنه عاقبه لأنه لم يطعه. فإن قيل قوله: {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} يجوز أن يكون إخبارا لأنهم كانوا ارتدوا.   1 أخرجه البخاري الزكاة 3/307 ح 1395 ومسلم الإيمان 1/50 ح 29/19 وأبو داود الزكاة 2/107 ح 1584 والترمذي الزكاة 3/12 والنسائ الزكاة 5/3 باب وجوب الزكاة وابن ماجه الزكاة 1/568 ح 1783 وأحمد المسند 1/306 ح 2076. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 بعد إسلامهم ولم يكونوا صلوا في حال إسلامهم قلنا قوله: {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} لا يقتضي ترك الصلاة في زمان معين بل يقتضي ظاهره أنهم لم يكونوا من المصلين فى جميع زمانهم مثل قول القائل فلان [صرورة] 1 لأنه لم يحج يقتضي أنه لم يحج فى وقت ما وإذا حملت الآية على ما قالوا: كان حملا على ترك الصلاة في زمان معين وهذا خلاف ظاهر الآية وعلى أن الآية عامة فى المرتدين وغير المرتدين وقد أيد هذه الآية قوله تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ، الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت: 6, 7] أوجب لهم الويل بكفرهم وإخلالهم بالزكاة وهو مثل قول القائل ويل للسراقة الذين لا يصلون فهذا ذم لهم على السرقة وترك الصلاة جميعا كذلك هاهنا ذم وتوبيخ على الشرك وترك الصلاة جميعا ونعتمد على قوله سبحانه وتعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97] وهذا يتناول المسلم والكافر لأن اسم الناس يتناول كليهما على وجه واحد ولا مانع من كون الكافر من أهل الآية لا من جهة ولا من جهة السمع العقل. أما الدليل السمعي فلأنه لو وجد مانع من هذه الجهة لظفرنا به عند الطلب. وأما من جهة العقل فلأنه لو كان لكان لفقد التمكن والكافر متمكن من الحج بأن يقدم عليه الإسلام وكل من تمكن من الفعل على بعض الوجوه فهو له مستطيع كما أن المحدث متمكن من أداء الصلاة بأن يقدم عليه الوضوء والخراسانى متمكن من الحج بأن يقدم عليه قطع المسافة وهذا الذى قلناه فى الحج موجود فى كل عبادة فيلزمه كل العبادات بالخطاب العام الذى يتناول المسلمين والكفار وهذا لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى جميع الناس أحمرهم وأسودهم وقد جاء بالقرآن المشتمل على إيجاب الإيمان وإيجاب الشرائع من الأوامر والنواهي فإن كان بعث بما أنزل معه إلى جميع الناس وجب كل ما أنزل معه على جميع الناس لأنه بعث بهذه الشرائع فكل ما بعث به يجب على من بعث إليه. فإن قالوا: هذا على ما قلتم إذا أمكن الإيجاب وهاهنا لا يمكن الإيجاب. قلنا يمكن على ما بينا من قبل ولأنه لما لزمهم النواهي لزمهم الأوامر لأن الأوامر أحد قسمى الشرع فصار كالقسم الآخر والدليل على لزومهم النواهي إجماع الأمة في أن الكافر يحد إذا زنا ويقطع إذا سرق ولو لم يكن مكلفا بترك الزنا.   1 ثبت في الأصل "مؤقت" هكذا ولعل الصواب ما أثبتناه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 والسرقة لم يكن الزنا والسرقة معصية ولو لم تكن معصية لم يعاقب على فعله وهذا دليل معتمد. فإن قالوا: إنما وجب ذلك عليهم التزامهم أحكام الإسلام. قلنا هذا ليس بشىء لأن لزوم الأحكام بالتزام العبيد ذلك. ألا ترى أن الخطاب متوجه على جميع الكفرة بالإيمان بالله عز وجل وأن كانوا لم يلتزموا شيئا من ذلك. ثم نقول من أحكامنا أن لا يحد الإنسان على المباح فلو كان الزنا غير محظور عليه كان مباحا والحد لا يجب بارتكاب المباح. قالوا: أن الكافر مع كفره قد كلف ترك الزنا لأنه مع كفره لا يمكنه فعلها فلم يخاطب بفعلها. قلنا لا يجوز أن يكلف ترك الزنا إلا وقد كلف العلم بقبحه ولا سبيل إلى العلم بقبحه إلا بشريعة الإسلام لأن ما عداه من الشرائع فقد منع المكلفون من الرجوع إليها ولا يمكن مع جحد الإسلام أن يعلم قبح شىء كما لا يمكنه فعل الصلاة فى هذه الحالة فلا فرق بينهما. ولكن كان وجه التكليف بالعلم بقبح الزنا بأن يسلم قبحه ليتركه فحقق عليه تحريم الزنا بهذا الوجه وكذلك فى الصلاة مثله يتحقق عليه إلزام الصلاة بالوجه الذى حقق عليه تحريم الزنا غير أن ترك إقامة الحد عليهم كان بدليل شرعى قام عليه ونحن لا ننكر سقوط إقامة الحد مع تحقق التحريم بدليل شرعى يقوم عليه وذلك الدليل هو العهد المعقود معهم بترك التعرض لهم فى شرب الخمور وأكل الخنازير إذا لم يظهروا ذلك فيما بيننا وإقامة الحد من التعرض فيكون ذلك إحقار للعهد فلهذا لم نقمه عليهم وقد أجبنا بغير هذا فى المسائل الفقهية. أما الجواب عن كلماتهم. أما الأول قلنا لا نسلم أن هذا تكليف بما لا وصول إليه بل الوصول من الكفار إلى فعل هذه العبادات ممكن وذلك بأن يسلم ثم يباشر العبادات ونظير ذلك الجنب مكلف فعل الصلاة بأن يزيل الجنابة ثم يصلي. وقولهم أنه إذا أسلم سقط عنه الصلاة فلا وصول إليها لا قبل الإسلام ولا بعد الإسلام. قلنا الوصول ممكن بأن يسلم في الوقت أو يسلم قبل الوقت فإذا دخل الوقت صلى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 فإن قالوا: إذا أسلم صلى بأمر جديد. قلنا لا كذلك قيل بفعل الصلاة بالأمر الذي كان عليه من قبل. فإن قالوا: هل كلف الكافر الصلاة قبل الإسلام. فإن قلتم نعم فهو مستحيل لأنه إذا لم يصح منه فعل الصلاة كيف يكلف فعل الصلاة. قلنا هذا قد قلتم وقد أجبنا. ونقول هل كلف الجنب بأن يصلى فى حال الجنابة. فإن قالوا: أن الطهارة تصلح شرطا للصلاة والإسلام لا يصلح شرطا لأن الشروط اتباع. قلنا ولم لا يصلح شرطا وليس معنى الشرط إلا ما يقف الشىء على وجوده. وعلى أن هذا ليس بخروج عن الإلزام فإن وجه الإلزام أن الجنب يكلف فعل الصلاة فى حال الجنابة ثم إذا أداها يكون بشرطها وهو تقديم الإسلام وأيضا فإن الأمة اجتمعت على أن الكافر يخاطب بالإيمان بالرسل وإذا وصل إلى الآخرة ولم يكن أسلم يعاقب على ترك الإيمان بالرسل كما يعاقب بترك الإيمان بالله ومعلوم أنه لا يصح الأيمان بالرسل إلا بشرط تقديم الإيمان بالله مثلما لا تصح الصلاة إلا بعد تقديم الإيمان. ولكن قيل كلفوا ذلك بشرط تقديم معرفة الله عليه كذلك جاز أن يكون مكلفا بالعبادات بهذه الشريطة أيضا وهذا إلزام عظيم هدم عليهم هذه القاعدة. وقولهم أنه لا فائدة فى هذا الأمر. قلنا إذا بينا وجه التمكن من الفعل على بعض الوجوه اتصلت الفائدة بالأمر. قالوا: بطلت فائدة الأمر فى حال كفر الكافر لأنه عندكم مخاطب بالعبادات فى حال كفره. قلنا هذا الذى قلتم ليس بشرط لصحة الأمر بدليل الجنب الذي قلناه وعلى أن فائدة الأمر في الحال أنه إذا ترك الإتيان استحق العقاب على ترك الصلاة فى الآخرة ويجوز تصحيح الأمر بهذه الفائدة في الحال بدليل الجنب الذي قدمناه وكذلك من علم الله تعالى منهم أنه لا يؤمن يحسن خطابه بالإيمان وليس يحسن خطابه بالإيمان إلا لفائدة استحقاق العقاب بترك الإيمان لأن الفعل منه غير متصور لأنه يؤدي إلى تجهيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 الله تعالى وقد تقدس البارى عن ذلك وتعالى عنه علوا كبيرا. وقولهم أن المقصود من الأمر طلب الفعل فإنا قد ذكرنا وجها للفعل وذكرنا أيضا أن فائدة استحقاق العقاب كان فى تصحيح الأمر فسقط هذا السؤال. وقد قال الأصحاب على قولهم أن الكافر إذا أسلم يسقط الأمر بالصلاة لأنه إنما سقط بعفو الشرع وذلك بقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] ولأجل أنا إذا أوجبنا عليه قضاء ما سبق من الصلوات والصيامات الفائتة والزكوات [والخراج] 1 [المسير الماء فيه] 2 أدى ذلك إلى تنفيرهم عن الإسلام وقد ذكرنا هذا فى المسائل الفقهية وما ذكرنا أولا كاف. وأما طريقة أبي زيد فنقول قوله أن الكافر ليس من أهل العبادة. قلنا ليس معنى هذا إلا أنه إذا فعل العبادة لا يصح وهو باطل بالجنب الذي قدمناه لأن الجنب ليس من أهل فعل الصلاة مثل الكافر ليس من أهل فعل الصلاة. ولكن قيل هو من أهل الصلاة عند تقديم الطهارة فصح الأمر عن فى حقه وأن لم يكن على طهارة كذلك الكافر من أهل الصلاة عند تقديم الإسلام فصح الأمر فى حقه وأن لم يكن فى الحال مسلما. وأما قوله أن العبادة لاستحقاق الثواب وهو ثمن الجنة على ما زعم. قيل له ليس صحة الأمر بالعبادة بكونه من أهل الجنة لأنه ليس لصحة العبادة من المسلم باستحقاق الجنة فإنه قد قام الدليل لنا أن الثواب الموعود محقق بفضل من الله تعالى وأنه لا يجب على الله تعالى حق لأحد وإنما صحة العبادة بورود السمع بها وانضمام شرطها إليها والإيمان بالله تعالى أحد شرائطها غير أن صحة الأمر لا تقف على وجود الشرط بل يكفى فى صحة التمكن من إيجاد الشرط على ما سبق كذلك هاهنا وعلى أنه أن لم يكن تصحيح الأمر ليفعل المأمور فيثاب عليه يمكن تصحيحه حتى إذا ترك يعاقب عليها. فإن قالوا: لا يصح الأمر لهذا. قلنا ولم وقد سبق الجواب عن هذا والجواب الأول أولى وأحسن ويبطل هذه الطريقة بالإيمان بالرسل فإنه يخاطب به وكما أنه خوطب بالصلاة ليثاب عليها.   1 أثبتناه من الهامش. 2 ما بين المعكوفين غير مقروء في الأصل ولعله ما أثبتناه والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 فكذلك خوطب بالإيمان بالرسول ليثاب عليه فلا فرق بينهما بحال وإذا ثبت لنا هذه المسألة فقد ثبت على هذه المسألة كثير من المسائل من مسألة وجوب القضاء للصلوات المتروكة على المرتد إذا أسلم وجواز إيتاء الحج منه بعد الردة ومسألة الذمى إذا أتلفه المسلم ومسألة استيلاء الكفال وغير ذلك على ما عرف والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 مسائل قصار وفصول من المذهب يليق بهذا الموضع . مسألة: يدخل العبيد فى المطلق من الأوامر والنواهي1 مثل ما يدخل الأحرار وذهبت شرذمة إلى أنهم لا يدخلون إلا بدليل يدل على ذلك2 قالوا: وذلك لأن العبد نفسه مملوكة لغيره ومنافعه مستحقة له والأمر تصريف من مالكه فإذا كان هو في تصريف [مالكه] 3 لم يدخل في تصريف غيره إلا بدليل يدل عليه. وأما الدليل على أنهم يدخلون مع الأحرار بصيغة قوله افعل يتناول فعل الحر والعبد على وجه واحد وكل واحد منهما يجوز أن يكون مأمورا بهذا الأمر. ألا ترى أنه لو أراده صح فاشتمل الأمر على الأحرار والعبيد على وجه واحد أيضا ويقال أيضا أنه لما جاز أن يكون العبيد معينين لهذا الأمر دخلوا فى هذا الخطاب إلا أن يوجد مانع سمعى أو نقلى ولم يوجد مانع فإن قالوا: أن المانع قد وجد وهو ما وجد من وجوب خدمته لسيده في أوقات العبادة. قلنا إنما يكون من خدمة سيده إذا فرغ من العبادات فصارت أوقات العبادات مستثناة من أوقات خدمة السيد كأوقات الأكل والشرب وسعيه بنفسه فيما لا بد به. قولهم أنه في تصريف سيده فلا يكون في تصريف آخر لنفس الشيء لأنه يجوز.   1 قال الآمدي اختلفوا في دخول العبد تحت خطاب التكاليف بالألفاظ العامة المطلقة كلفظ الناس والمؤمنين فأثبته الأكثرون وعزاه إمام الحرمين الجويني إلى المحققين انظر إحاكم الأحكام 2/393 التلويح على التوضيح 2/170 البرهان 1/356 المستصفى 2/77, 78 المعتمد 1/278 القواعد لابن اللحام 275. 2 قال الآمدي ونفاه القلون إلا بقرينة ودليل يخصه ومنهم من قال بدخوله في العمومات المثبتة لحقوق الله تعالى دون حقوق الآدميين وهو منسوب إلى أبي بكر الرازي من أصحاب أبي حنيفة انظر إحاكم الأحكام 2/393 البرهان 1/356 المعتمد 1/278. 3 بياض في الأصل ولعله ما أثبتناه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 أن يكون في تصريف سيده فى وقت وفى تصريف خالقه في وقت. ألا ترى أنه لو عنى العبد صح فإذا جاز أن يكونوا معينين بهذا الأمر وحق السيد عليه قائم كذلك يجوز أن يكون الخطاب المطلق متناولا للعبيد أيضا وحق للسيد عليه قائم والله أعلم مسألة: مذهب الشافعى أن النساء لا يدخلن1 في خطاب الرجال وذهب أصحاب أبى حنيفة إلى أنهن يدخلن وقالوا: قد دخلن فى أكثر الأوامر المطلقة فى الشرع مثل الأمر بالصلاة والزكاة وبالحج وغير ذلك فدل أن حقهن الدخول بصيغة الأمر ولأن أهل اللغة قالوا: أن الرجال والنساء إذا اجتمعوا أى علامة التذكير على علامة التأنيث فصار الخطاب فى حق الجنسين على وجه واحد. وأما دليلنا هو أن أهل اللغة فرقوا بين الجنسين فى خطاب الجمع كما فرقوا فى خطاب الفرد فإنهم قالوا: فى خطاب الجمع للرجال افعلوا وللنساء افعلن وفى خطاب الفرد للرجل افعل وللمرأة افعلى وإذا اختلفت الصيغة فى الجنسين دل أن أحدهما لا يدخل فى خطاب الآخر كما لا يدخل الرجال فى خطاب النساء وكما أن فى خطاب الفرد لا تدخل المرأة فى صيغة خطاب الرجل ونستدل بحديث أم سلمة2 أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ماترى الله تعالى لا يذكر إلا الرجال فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} [الأحزاب: 35] الآية إلى آخرها فإن قالوا: أرادت الإفراد بالذكر. قلنا هذا الطلب إنما يصح أن لو وجد إفراد الرجال بالذكر وإذا كان عندكم الخطاب يتناول الجنسين من حيث وضع اللغة فيكون دخول النساء فيه مثل دخول الرجال فلا يستقيم طلبنا بالإفراد بالخطاب لأنه تعالى لم يفرد الرجال بالذكر فى محل ما فى خطاب الجمع فمن أى وجه يطلب النساء أن يفردن بالذكر.   1 ذهب الجمهور من الشافعية والحنفية إلى أنه خاص بالمذكور ولا يتناول الإناث وقال الحنابلة وبعض الظاهرية إنه يتناول الإناث كما يتناول الذكورانظر نهاية السول 2/360 انظر إحاكم الأحكام 2/392 انظر المستصفى 2/79 انظر البرهان 1/358 انظر المعتمد 1/233 انظر أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/226. 2 أخرجه الترمذي في تفسير القرآن 5/354 الحديث 3211 وقال حديث حسن غريب انظر تفسير القرطبي 8/5267. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 ببينة أنا إذا قلنا يكون الخطاب للرجال والنساء في صيغة الجمع على وجه واحد لا يبقى لخطاب الرجال على الانفراد صيغة وهذا محال. وأما الذي قالوا: أن النساء قد دخلن مع الرجال في أكثر خطاب الشرع. قلنا إنما دخلن بدلالة وقرينة. وأما كلامهم الثاني وهو قولهم أن الرجال والنساء أن اجتمعوا علمت علامة التذكير على علامة التأنيث. قلنا هذا لا يعرف لغة إنما هذا قول الفقهاء وعلى أننا لا ننكر دخول النساء فى خطاب الرجال إذا أردن بذلك ويكون ذلك على وجه المجاز كالحمار إذا أريد به البليد تناوله على وجه المجاز والكلام فى الحقيقة وقد بينا أنه لا يجوز أن يدخلن من حيث الحقيقة والله أعلم. فصل: وأفعال السكران وأقواله داخلة تحت التكليف فى قول عامة الفقهاء. وقال أهل الكلام لا تكليف عليه وتابعهم بعض الفقهاء1 وقال من يمنع دخوله تحت التكليف أن توجيه التكليف مع عدم علم المكلف بما كلف به محال لأنه لا يدخل هذا فى تكليف االإنسان ما ليس فى وسعه وهذا لا يجوز فى الشرع ولا فى العقل. قالوا: ولأنه لوجاز تكليف السكران جاز تكليف المجنون والصبي بل جواز تكليف الصبي أقوى من تكليف السكران لأن الصبي له عقل وتمييز وأن لم يكمل مثل ما كمل للبالغين فإذا لم يكلف الصبي فلأن لا يكلف السكران أولى. قالوا: وأما الصلاة إذا فاتته في حال السكر فإنما القضاء بأمر جديد بعد الصحو. ويقولون أيضا أن الأمر فيما قلتم متقدم على زوال العقل فإنه يقال له إذا سكرت فى وقت الصلاة أو نسيت أو نمت عنها أو أتلفت شيئا فى حال السكر أو فى حال النوم لزمك ضمانه. وأما دليل ما صار إليه الفقهاء قوله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا   1 انظر البرهان 1/105, 106 نهاية السول 1/315, 317 المحصول 217 التلويح على التوضيح 2/185 القواعد لابن اللحام 70. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] فقد خاطب السكران بها حال السكر بالكف عن الصلاة حتى يعلم ما يقول: فدل أن السكر لا ينافى الخطاب ولأن الأمة أجتمعت على صحة ردته فى حال السكر وأجمعوا على وجوب الحد عليه بالزنا والقذف وكذلك يلزمه ضمان ما يتلفه من الأموال فدلت هذه الأحكام أن التكليف قائم فى حقه وأن زال عقله بالسكر. وقد قال بعض الأصحاب فى حين أقدم على الشرب كان عاقلا وقد تكلف شيئا محظورا أجرى الله العادة إلى زوال العقل به فجعل الزوال بالسبب المحظور بمنزلة القائم ولهذا المعنى إذا قتل الإنسان مورثه جعل المقتول كالحى حتى لم يورث منه وكذلك نقول أن التكليف متوجه على النائم وجعل كاليقظان بدليل شرعي قام عليه وهو إيجاب الصلاة عليه وأن استوعب النوم جميع وقت الصلاة وكذلك إذا انقلب على شيء أو أتلفه يجب عليه الضمان هكذا قال بعض الأصحاب. والأصح عندى أن السكران متوجه عليه الخطاب ويجعل عقله بمنزلة القائم بالدلائل التى قامت عليه من جهة الشرع وإذا جعلنا عقله بمنزلة القائم شرعا استقام خطابه وتكليفه. وأما النائم فالأولى أن يقال لا تكليف عليه فى حال النوم1 لأن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "رفع القلم عن ثلاثة" 2 وذكر فيهم النائم ولأن النوم مباح فلا يجعل النائم بمنزلة اليقظان ويعتبر ما وجد من زوال الحس بالنوم ولا يجوز تكليف من لا حس له ولا علم وإنما وجوب القضاء بعد اليقظة للصلاة التي فاتته في حال النوم ووجوب غرامات المتلفات فإنما ذلك بالأمر بعد الانتباه. قال الأصحاب ولا تكليف على الساهي فيما سها عنه وذلك لعدم علمه بما سها عنه لأنه لو كان عالما لم يكن ساهيا وأما المكره ففعله داخل تحت التكليف لأنه يقدر على تركه بأن يستسلم بما خوف به وهذا بخلاف حركة المرتعش لا يوصف بأنه.   1 انظر روضة الناظر 49. 2 ذكره البخاري الطلاق 9/300 باب الطلاق في الإغلاق معلقا وأبو داود الحدود 4/139 ح 4403 والترمذي الحدود 4/32 ح 1433 والنسائي الطلاق 6/127 باب من لا يقع طلاقه من الأزواج وابن ماجه الطلاق 1/658 ح 2041 وأحمد المسند 1/147 ح 96. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 مكره عليها لأنه لا يقدر على تركها فالإكراه لا ينافي العلم والقصد فلا ينافي دخول فعله تحت اقتداره واختياره فلم يسقط التكليف. وقال بعض المتكلمين أن فعل المكره لا يدخل تحت التكليف وليس لأهل هذه الطائفة تعلق إلا ادعاؤهم فقد الاختيار. قالوا: ولا تكليف مع عدم الاختيار1 وربما يقولون أنه غير مريد لما أكره عليه.   1 اعلم أن الإكراه هو: حمل الشخص غيره على ما لا يرضاه من قول أو فعل وهو نوعان أحدهما الإكراه الملجئ وهو الذي لا يبقى للشخص معه قدرة ولا اختيار كإلقاء الشخص من أعلى الجبل. الثاني الإكراه غير الملجئ وهو الذي لا يبقى معه اختيار وإن بقيت معه القدرة "مثل أن يكره شخص غيره على قتل آخر فبقول له: اقتل فلانا وإلا قتلتك ويعلم المكره أنه إن لم يقتل ذلك الشخص قتل هو" ويتحقق الإكراه بقتل النفس أو بذهاب عضو من الأعضاء أو بغير ذلك مما هو معروف في كتب الفروع. وقد اتفق الأصوليون على أن الإكراه الملجئ يمنع التكليف بالمكره عليه كما يمنع التكليف بضده لأن من شروط التكليف أن يكون الفعل مقدورا للمكلف بمعنى أن يتأتى له فعله كما يتأتى له تركه والإكراه الملجئ لا تبقى معه قدرة للمكلف لا على المكره عليه لأنه أصبح واجب الصدور عقلا ولا على ضده لأنه ممتنع الوقوع عقلا وكل من الواجب العقلي والممتنع العقلي لا يدخل تحت قدرة المكلف فلا يكلف بواجد منهما اللهم إلا إذا قلنا يجوز التكليف بما لا يطاق وأما الإكراه غير الملجئ فللأصوليين كلام فيه يتلخص فيما يأتي به قال جمهور الأشاعرة أن الإكراه غير الملجئ لا يمنع التكليف بضده المكره عليه بل إن المكره قد يكون مكلفا بعين المكره عليه وقد يكون مكلفا بضده فإذا أكره مثلا على شرب الخمر بحيث لو لم يشرب قتل وجب عليه أن يشرب لأن الشرب في هذه الحالة يكون مباحا لأنه مضطر إليه والله تعالى يقول: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} وفعل المباح متى ترتب عليه ترك الحرام كان واجبا ففي هذه الحالة يكون مكلفا بعين المكره عليه. وإذا أكره على قتل المسلم بحيث لو لم يقتله قتل هو كان مكلفا بضد المكره عليه وهو عدم القتل لأن قتل المسلم بغير حق منهي عنه ولا يجوز الإبقاء على نفسه بذهاب حياة غيره. وقالت المعتزلة: إن كان المكره عليه مأمورا به كان الإكراه عليه مانعا من التكليف به بمعنى أن فعل المكره له لا يسقط عنه التكليف به لأن فعل المأمور به في هذه الحالة لا يوجب ثوابا عليه لكونه أتى به لداعي الإكراه ولم يأت به لداعي الطاعة وحيث كان الإتيان بالمأمور به لم يحقق الفائدة المقصود منه امتنع التكليف به لما فيه من العبث. أما إن كان المكره عليه معصية كالقتل أو السرقة أو الغصب كان المكره مكلفا بضد المكره عليه لأن ترك المكره عليه في هذه الحالة أبلغ في إجابة داعي الشرع والثواب عليه أعظم فالإكراه ........... = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 ولا قصد له فصار فعله كفعل النائم وليس هذا بشيء لأنا قد بينا أن اختياره فيما أكره عليه قائم. ألا ترى أنه يصبر على ما خوف به فدل أنه إذا لم يصبر وفعل ما اكره عليه فإنه يفعله عن قصد واختيار والدليل على بقاء التكليف فى حقه أنه تنقسم عليه الأحكام فيما أكره عليه ففي بعضها يجب عليه فعله وفي بعضها يحرم وفي بعضها يباح وفي بعضها يرخص فالأول مثل أكل الميتة والثاني مثل القتل والثالث مثل إتلاف مال الغير والرابع مثل إجراء كلمة الكفر على لسانه مع طمأنينة قلبه على الإيمان وانقسام الأحكام عليه دليل قاطع على بقاء التكليف وقد أجتمعت الأمة على أنه لو أكره إنسانا على قتل إنسان لا يجوز أن يقتله ولو قتل أثم إثم القتل ولولا الحظرية عليه قائمة لم يأثم ولما أثم ثبت أن التكليف قائم مستمر عليه وأما الصبيان فلا تكليف عليهم في فعل شيء ما لأن التكليف من قبل الله تعالى والله تعالى وضع عنهم ظلمة الأفعال ولم يوقعهم فى هذه الكلفة رحمة من قبل الله تعالى ونظرا لهم فأما الحقوق المالية التى تجب عليهم فليست فيها إلزام فعل ولا إيقاع لهم فى كلفة ومشقة إنما الإيجاب عليهم يلاقيب ذممهم ولهم ذمم صحيحة وأما فعل الأداء الذى هو كلفة ومشقة فهو متوجه على الأولياء لا على الصبيان والجملة أن إزالة التكليف على الصبيان نظر من الله تعالى ورحمة وذلك فى إسقاط الفعل الذى يتضمن التعب والمشقة وأما أمرهم بالعبادات عند بلوغ السبع فنوع امتران واعتياد وليس على جهة التكليف وكذلك ضربهم على سائر الآداب للرياضة كضرب الدابة. وأما الذى قاله الشافعى رحمه الله من سقوط الظهر عنه إذا كان فى أول الوقت وهو غير بالغ ثم بلغ فى آخر الوقت1 فإنما كان كذلك لأنه فعل وظيفة الوقت فى.   = في هذه الحالة لا يمنع من التكليف بضد المكره عليه انظر نهاية السول 1/322, 323 البرهان 1/106 إحكام الأحكام 1/220 روضة الناظر ص/ 50 التلويح على التوضيح 3/197 القواعد لابن اللحام 73 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 1/170- 171. 1 أي بعد أن فعل الصلاة فما يجزئه عن الفرض لأنه صلى صلاة الوقت بشروطها فلا ....... = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 أول الوقت فمنع فعلها من وجوبها عليه فى آخر الوقت إذا بلغ لئلا يؤدى إلى التثنية فى الوظيفة وقد قررنا هذا المعنى فى خلافيات الفروع مسألة: لا يدخل الأمر فى الأمر عند عامة الفقهاء: وذهب طائفة قليلة من أصحابنا أنه يدخل والمسألة مصورة فى النبى صلى الله عليه وسلم إذا كان آمرا فإن الأمر الوارد من قبل الله تعالى بذكر الناس وأمرهم بشيء بفعله فقد اتفقوا أن الرسول يدخل فى ذلك1 وتعلق من قال بدخوله فى الأمر قال لأن الرسول صلى الله عليه وسلم مبلغ عن الله عز وجل فإذا قال للأمة افعلوا كذا فيصير كأن الله تعالى قال افعلوا كذا فيدخل النبى صلى الله عليه وسلم فيه مثل ما يدخل غيره وربما يقولون أن الأمر يدل على الإيجاب فيصير كأن النبى صلى الله عليه وسلم قال هذه العبادة واجبة فتكون واجبة على الكل وأما دليلنا أنه لا يجوز أن أمرا لنفسه بلفظ يخصه فلا يجوز أن يكون أمرا لنفسه يعمه ويعم غيره وهذا لأنه أمر فلا يكون مأمورا كالمأمور لا يكون أمرا ولأن الأمر قول القائل لمن دونه افعل فصارت الرتبة شرط صحة الأمر ولا يتصور رتبة مع.   = يلزمه الإعادة وحكى عن أبي العباس بن سريج يستحب له أن يعيد وحكى عنه وجوب الإعادة وقال الإصطخري إن بقي من الوقت ما يسع تلك الصلاة بعد بلوغه وجبت وإلا فلا انظر شرح المهذب 3/12 وأما إن لم يفعل الصلاة وليس هذا في كلام المؤلف ففيه تفصيل أولا: إما أن يكون الباقي من الوقت قدر رحعة فتلزمه الصلاة بلا خلاف وثانيا أن يكون الباقي قدر تكبيرة فما فوقها مما لم يبلغ ركعة فقولان: أصحهما باتفاق الأصحاب تلزمه تلك الصلاة لأنه أدرك جزء منه كإدراك الجماعة والثاني لا انظر شرح المهذب 1/65. 1 اعلم أن الأصوليين اختلفوا في هذه المسألة على ثلاثة أقوال: القول الأول: وهو قول الشافعية وأكثر العلماء أن الخطاب يتناول الرسول صلى الله عليه وسلم كما يتناول الأمة سواء صدر بلفظ "قل" أو لم يصدر. القول الثاني وهو لبعض الفقهاء والمتكلمين الخطاب خاص بالأمة فلا يدخل فيه الرسول صلى الله عليه وسلم مطلقا سواء صدر الخطاب بلفظ "قل" أو لم يصدر به. القول الثالث: إن صدر الخطاب بلفظ "قل" كان خاصا بالأمة إن لم يصدر بلفظ "قل" كان عاما يشمل الرسول والأمة وإلى هذا ذهب الحليمي وأبو بكر الصيرفي من الشافعية انظر نهاية السول 2/372 انظر البرهان 1/365 انظر نهاية السول 3/371 إحكام الأحكام 2/397 المستصفى للغزالي 2/80 - 81 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/233. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 نفسه لأنه لا يتصور أن يكون الإنسان أعلا رتبة أو أدنى رتبة من نفسه ولهذا لم يصح أمر الإنسان لنفسه على التخصيص وأيضا فإن الأمر قول موضوع لاستدعاء الفعل وطلبه وهذا وضع لطلبه من الغير لأن هذه الصيغ إنما تكلمت بها العرب لحاجتهم إليها وليفهم البعض من البعض مراده وخطابه ولا يتصور منه قول لاستدعاء الفعل من نفسه لأن طبيعته داعية إليه طالبة منه فعل كل ما يسره والكف عن كل ما يضره فلا حاجة إلى قول موسع له من نفسه لطلب فعل منه أو قول وضع لمنعه عن فعل وهذه كلمات قطعية والذى قاله الخصم أنه يصير كأن الله تعالى قال افعلوا قلنا إذا قال تعالى افعلوا فالنبى صلى الله عليه وسلم يكون مأمورا وإذا قال النبى صلى الله عليه وسلم فيكون أمرا والكلام فى دخول الأمر فى الأمر فلا يرد عليه الموضع الذي لا يكون فيه أمرا وهذا كالسيد يقول لغلامه اسقنى فإنه لا يدخل العبيد فى هذا الأمر وأن كان يجوز أن يدخل فى أمر غيره وأما قولهم أن أمره يصير كأنه قال هذه العبادة واجبة قلنا ولم يصير هكذا وهذا خبر وذاك أمر والخبر خبر فى حق كل أحد وأما الأمر يتناول الأمر على الخصوص بحكمه وأما الأمر الوارد من قبل الله عز وجل بخطاب النبى صلى الله عليه وسلم الرسول فإنه يتناوله على الخصوص ولا يتناول غيره إلا أن يقوم عليه الدليل وأما الوارد بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} أو: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} أو: {يَا عِبَادِيَ} فإنه يتناول النبى صلى الله عليه وسلم وغيره لأجل عموم اللفظ والله أعلم. واعلم أن الأصحاب قد ذكروا أن الخطاب الوارد من الله عز وجل ومن رسوله صلى الله عليه وسلم إنما يتناول المكلفين الصالحين لهذا التكليف الوارد الموجودين عند الخطاب وأما الذين يوجدون من بعد ذلك فإنما يدخلون فى الخطاب بالإجماع وهذا لأن خطاب المعدوم لا يتصور إفادته الإيجاب فدخولهم فى الخطاب لا يكون بنفس الخطاب وإنما يكون بدليل آخر وليس ذلك إلا الإجماع فكذلك نقول فى كل خطاب معلق بصفة إنما يتناول أهل تلك الصفة عند مورد الخطاب فأما من يصير بتلك الصفة فى حالة أخرى1.   1 اعلم أن في هذه المسألة قولان: الأول: هو قول عامة الأصوليين من الشافعية والحنفية لا يتناول الأمة. الثاني: أن خطاب الرسول خطاب لأمة وهذا القول منقول عن أبي حنيفة وأحمد بن حنبل رضي الله عنهما وأصحابهما انظر نهاية السول 12/358 إحكام الأحكام 2/379 انظر روضة الناظر 183 البرهان 1/367 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/224. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 فإنما يتناوله الخطاب بدليل آخر1 وإذا ثبت هذا فخطاب الله تعالى وخطاب رسوله صلى الله عليه وسلم باسم الجمع إنما صار شاملا جميع أهل الإيجاب مع عدمهم عند ورود الخطاب بدليل إجماع الأمة والإجماع فى نفسه دليل قاطع لا شك أنهم عقلوا ذلك حين أجمعوا عليه وقالوا: ما قالوه عن دليل فثبت ما أجمعوا عليه وأن لم ينقل الذى أجمعوا عليه. مسألة: الأمر بالشيء يدل على أجزائه وهذا قول جميع الفقهاء2 وذهبت طائفة من المتكلمين أنه لا يدل على أجزائه ولا بد فيه من دليل آخر3 وقال هؤلاء الطائفة لا بد أن نبين المراد من قولنا مجزىء ليصح أن نتكلم عليه قالوا: وعلى أنا لا نريد بقولنا مجزىء أنه يثاب عليه وأنه حلال لأنا نقول أن المأمور لابد أن يكون مثابا عليه ولا بد أن يكون حلا لا لأنه أما أن يكون واجبا أو مندوبا إليه وأيهما كان فلا بد أنه حلال وإنما نريد بقولنا أنه مجزىء أنا إذا قلنا هذه اللفظة فى الصلاة فالمراد بذلك أن القضاء غير لازم فيها فإذا قلناه فى البيع فالمراد أن الملك الصحيح يقع به وإذا قلناه فى الشهادات فالمراد من ذلك أنه يجب على القاضى أن يقضى بها فهذا هو المراد بقولنا مجزىء وإذا عرف هذا نقول أن الأمر لا يقتضى إلا كون المأمور واجبا أو ندبا على خلاف وكونه كذلك لا يمنع كونه مجزئا بل لا متنع أن يكون واجبا أو ندبا ومع ذلك لا يكون مجزئا على المعنى الذى قلناه وهذا كما يقول فيمن ظن أنه على الطهارة وليس على الطهارة وتجب عليه الصلاة وأن كانت الصلاة غير مجزئة وعليه قضاؤها.   1 اعلم أن في هذه المسألة اختلاف فذهب جمهور العلماء إلى أن الخطاب خاص بالحاضرين في زمن الخطاب فلا يتناول غيرهم ممن لم يكن موجودا في زمنه ويكون ثبوت الحكم لمن بعدهم بدليل آخر وذهب الحنابلة وبعض الفقهاء إلى أن الخطاب يعم الجميع من وجد في زمن الخطاب ومن لم يوجد في زمنه انظر نهاية السول 2/364 إحكام الأحكام 2/400 روضة الناظر 186 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/228. 2 انظر البهان 1/255 نهاية السول 1/383 روضة الناظر 181 المستصفى 2/12 المعتمد 1/90. 3 انظر البهان 1/255 نهاية السول 1/383 المستصفى 2/12 المعتمد 1/90 روضة الناظر 181. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 إذا علم أنه محدث وكذلك من أفسد على نفسه الحج يجب عليه المضي وأن كان غير مجزيء عنه فهذا كلام ذكره عبد الجبار بن أحمد في العمد. وأما دليلنا نقول أن معنى الإجراء هو الخروج عن عهده الأمر أو إنهاء ذلك الأمر في حقه فنقول على هذا امتثل الأمر كما أمر فوجب أن يخرج عن عهده الأمر. كالمولى إذا قال لغلامه اسقني فسقاه يخرج عن عهدته وهذا لأن الأمر لا يقتضي الفعل إلا مرة واحدة فإذا فعل المأمور ما اقتضاه هذا الأمر وجب أن لا يبقي عليه واجب آخر من جهة هذا الأمر وإذا لم يبق عليه شيء من جهة الأمر لا بد أنه حكم بكون المفعول مجزئا وهو يعني خروجه عن عهدته وهو كما لو نهى عن شئ فانتهى خرج عن عهدة النهى. وأما كلامهم ففي غاية الضعف لأن القضاء يجب بأمر جديد فكيف يستقيم تفسير الإجراء بسقوط القصد ولهذا المعنى صح وورد أمر من الشارع لاقضاء له عن فواته مثل الجمعة وما يشبهها وإنما معنى الإجراء ما بيناه. ببينه أن المأمور بامتثال الأمر يصير مطيعا لأمر آمره ومتى جعل مطيعا لا بد أن يكون طاعة وأما الذي قالوا: أنه ظن أنه على الطهارة يجب عليه الصلاة ثم يلزمه قضاؤه. قلنا إنما وجب بناء على طهارة فإذا تبين أنه لم يكن على طهارة ظهر أنه لم يمتثل للمأمور كما أمر فبنى الحكم على ما تبين حقيقته وأعرض عن الحكم الذي كان مبتنيا على ظن منه وكان الأمر بخلافه وكذلك في مسألة الحج الفاسد إذا مضى عليه بها وجب عليه القضاء لآنه ممتثل المأمور كما مر لأنه أمر بالحج الخالي عن الإصابة وقد حج لا على هذا الوجه فلم يخرج عن عهدة الأمر وأما في مسألتنا فقد فعل المأمور كما أمر فلا بد أن يقع المفعول مجزئا عنه على أي وجه فسر الإجزاء والله أعلم. مسألة: الأمر بالشئ نهى عن ضده من طريق المعنى وهذا مذهب عامة الفقهاء وذهبت المعتزلة إلى أنه يكون نهيا عن ضده1 وتعلقوا.   1 قال الشيخ الحسيني الشيخ: أـ لا خلاف بين العلماء في أن مفهوم الأمر سواء كان لفظيا أو نفسيا مخالف لمفهوم النهي كذلك "أي حقيقة الأمر غير حقيقة النهي" ....... = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 .......................................................................   = فقد عرفوا الأمر النفسي بأنه طلب فعل غير كف مدلول عليه بغير لفظ كف ونحوه وعرفوا اللفظي بأنه اللفظ الدال بالوضع على طلب فعل غير كف مدلول عليه بغير كف مدلول عليه بغير كف وعلى هذا فالأمر نوعان: طلب فعل غير كف وطلب كف عن فعل مدلول عليه بكف كدع وذر فالطلب إما إيجابي كافعل أو سلبي ككف ونحوه. وكما عرفوا الأمر بنوعيه بما سبق عرفوا النهي النفسي بأنه طلب الكف عن الفعل بغير كف ونحوه "أي صيغة لا تفعل" وعرفوا النهي اللفظي بأنه القول الدال على طلب الكف عن الفعل بغير لفظ كف ونحوه. وكما لا خلا بينهم فيما مضى من أن صيغة الأمر بخالف صيغة النهي وإنما الخلاف بينهم في أن الشيء المعين إذا طلب بصيغة الأمر المعلومة "افعل" فهل يكون ذلك الأمر نهيا عن ضده أو مستلزما له معنى أن ما يصدق عليه أنه أمر نفسي هل يصدق عليه أنه نهي عن ضده أو مستلزما له "كاضرب زيدا" هل هي نهي عن ضد الضرب وهو عدم الضرب أم تستلزم عدم الضرب أي هل تكون أمرا بالضرب ونهيا عن عدم الضرب ولم يجتمع الضدان لأن المحلان مختلفان. فاضرب دلت على وجوب الضرب واضرب دلت على على عدم الضرب فهذه دلالة وضعية مطابقية لأنها جمعت الأمر والنهي والثانية: التزامية لأنه لتحقق المأمور به لا بد من ترك أضداد المأمور به فدلت التزاما وقبل ذكر المذاهب يجب أن نبين أن عبارة القوم قد اختلفت في التعبير عنها كالآتي: فمنهم من عبر عنها بقوله "الأمر بالشيء نهي عن ضده أو يستلزم النهي عن ضده" ومنهم من عبر "وجوب الشيء يستلزم حرمة نقيضه" والمؤذنة بين هاتين العبارتين تتطلب القرق بين الضد والنقيض لورودهما فيهما وبيانه: أن كل واجب كالقعود مثلا المطلوب بقولنا: اقعد له منافيان أحدهما ضدا والآخر يسمى نقيضا فالضد القيام - الحركة - والنقيض واحد وهو عدم القيام فالضد منافي وجودي والنقيض منافي عدمي وكل منهما يغاير الآخر "من الضد والنقيض لأن عدم القيام أعم من الخاص" لأن النقيض ينافي الواجب بذاته "فعدم القعود ينافي القعود بالذات والقيام ينافي القعود بواسطة عدم القعود فالقيام يحقق عدم القعود فنافى اقعد بواسطة عدم القعود" وهو عدم القعود إذ النقيضان هما الأمران "الوجوديان" الذي أحدهما وجوديا والآخر عدميا لا يجتمعان ولا يرتفعان "فكونهما لا يجتمعان ولا يرتفعان فهما متنافيان بذاتهما". كالقعود وعدمه في مثالنا: بخلاف الضد كالقيام فإنه ينافيه بالعرض أي باعتبار أنه يحقق المنافي بذاته وهو النقيض أي: يحقق عدم القعود لأن الضدان هما الأمران الوجوديان اللذان لا يجتمعان وقد يرتفعان كالقعود والقيام فإنهما لا يجتمعان في شخص واحد في وقت واحد وقد يرتفعان ويأتي بدلهما الاضطجاع مثلا "فلتحقق النقيض لا بد من ترك أضداد المأمور به فتأمل إلا أن كل واحد من أضداد القعود يحقق النقيض لأنه فرد من أفراده فلم يكن التنافي بين الواجب وضده ذاتيا بل لأن أحدهما يحقق نقيض الآخر الذي ينافيه بالذات هذا إذا كان ......... = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 .....................................................................   = النقيض له أفراد هي أضداد الواجب يحققه كل واحد منها أما إذا لم يكن له إلا فرد واحد هو ضد الواجب لا يتحقق النقيض إلا به اعتبر ذلك الضد مساويا للنقيض كالحركة والسكون "نقيض الحركة عدم الحركة ولا يوجد لعدم الحركة أفراد إلا السكون لأن الشيء لا يكون إلا ساكنا أو متحركا ولم يكن السكون نقيض لأن السكون وجودي والشيء ونقيضه يكون عدميا فتأمل". فإن السكون يساوي عدم الحركة لأن عدم الحركة لا يتحقق إلا بالسكون وأخذ مع ضده حكم النقيض فلا يجتمعان ولا يرتفعان إذ لا تجتمع حركة وسكون في وقت واحد لشيء واحد لا يرتفعان كذلك بل لا بد أن يكون الشيء متصفا بأحدهما ضرورة أن الشيء الواحد لا يخلو عن حركة أو سكون. والناظر في هاتين العبارتين يجد بينهما فروقا ثلاثة: أ - أن التعبير بقولهم وجوب الشيء يستلزم حرمة نقيضه لا يفيد إلا حكم النقيض في الوجوب "أي فإن ندب الشيء يستلزم حرمة نقيضه فهذه العبارة قاصرة لا تشمل ما ذكرنا" أما حكمه في الندب فلا "فهي غيرجامعة" بخلاف التعبير بقولهم الأمر بالشيء نهي عن ضده أو يستلزم النهي عن ضده فإنه يفيد حكم الضد فيهما "الوجوب والندب" لأن الأمر بالشيء بصفته عند عدم القرينة الصارفة يدل على الوجوب ومعها يدل على الندب والتعبير بالأمر يتناول الوجوب والندب والتعبير بالنهي يتناول التحريم والكراهة لأن النهي وهو طلب الكف عن الفعل إن كان جازما فهو للتحريم وإلا للكراهة وعلى هذا يكون الأمر بالشيء دالا على التحريم للضد إن كان الأمر للوجوب ودالا على كراهته إن كان الأمر للندب فيكون التعبير بقولهم: الأمر بالشيء نهي عن ضده مفيدا لحكم الضد إيجابا وندبا. ب - أن التعبير بقولهم: الأمر بالشيء..الخ فإنه يفيد أن محل النزاع في هذه المسألة هو ضد المأمور به وليس نقيضه. جـ - أما قولهم "وجوب الشيء الخ" فإنه يفيد الواجب محل النزاع بينهما وأن من العلماء من يقول: إن الأمر بالشيء ليس دالا على النهي عن نقيضه وهو باطل لأن الإجماع منعقد على أن نقيض الواجب منهي عنه لأن إيجاب الشيء هو طلبه مع المنع من تركه والمنع من الترك هو النهي عن الترك والترك هو النقيض فيكون النقيض منهيا عنه فالدال على الإيجاب وهو الأمر دال على على النهي عن النقيض لأنه جزؤه ضرورة أن الدال على الكل يكون دالا على الجزء بطريق التضمن. "أي فالنقيض ليس محل النزاع بل الضد لأن الواجب ما يذم شرعا تاركه إلخ فالواجب طلب الشيء مع المنع من تركه فالمنع من الترك مدلول للوجوب فهو جزء من الوجوب لأن الوجوب دل عليه تضمنا فالنقيض هو الترك" وإن كان الأمر كذلك تعين أن يكون الخلاف في الضد فقط ووجب أن يكون التعبير عن ذلك النزاع بما يدل صراحة عن محله والذي يفيد ذلك قولهم: "الأمر بالشيء..الخ" لا الثانية فتأمل. ورجعت الأولى بالرغم من أنها قاصرة بأن ما يستفاد من غير النص محمول على ما أفيد بالنص بالقياس .............. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 .........................................................................   = أ - دلت على محل النزاع ب - متناولة لحكم ضد الأمر إيجابا وندبا. جـ - وما ورد عليه من أنها غير متناولة إلا الإيجاب من النص فيجاب: .... = = بأن ما ورود من غير النص محمول على ما فهم من النص بالقياس فتأمل. وبعد أن حددنا محل النزاع والعبارة المصرحة في الدلالة عليه نذكر المذاهب: أ - ذهب أبو الحسن الأشعري والقاضي أبو بكر الباقلاني في أول أقواله أن الأمر بالشيء المعين إيجابا أو ندبا نهي عن ضده الوجودي تحريما أو كراهة سواء أكان الضد واحدا كالتحرك بالنسبة للسكون المأمور به في قوله اسكن أو أكثر كالقيام وغيره بالنسبة إلى القعود المطلوب للآمر بقوله: اقعد ومعنى كونه نهيا أن الطلب واحد ولكنه بالنسبة إلى السكون أمر في المثال وبالنسبة للتحرك نهي كما يكون الشيء الواحد بالنسبة للآخر قريبا والثاني بعيدا "اسكن بالنسبة للسكون أمر وبالنسبة لعدم السكون نهي فالجهة منفكة فلا تنافي". ومثل الشيء المعين في ذلك الواحد المبهم من أشياء معينة بالنظر إلى مفهومه وهو الأحد الدائر بينهما فإن الأمر به نهي عن ضده الذي هو ما عداها بخلافه بالنطر إلى فرده المعين فليس الأمر به نهي عن ضده منها "ضد المعين المأمور به منهي عنه وأما المطلوب الغير المعين نهي عن ضده في غير أفراده فليس الأمر بالكسوة نهي عن ضده في أفراده وهو الإطعام مثلا فاختيار واحد ليس نهي عن ضده منها بل من غيرها وأما المعين فالأمر به نهي عن ضده بلا خلاف". ب - وذهب القاضي أبو بكر في آخر أقواله والإمام والآمدي وعبد الجبار وأبو الحسين إلى أن الأمر بالشيء المعين مطلقا يدل على النهي عن ضده استلزاما فالأمر بالسكون يستلزم النهي عن التحرك أي طلب الكف عنه. جـ - ذهب إمام الحرمين والغزالي إلى أن الأمر بشيء معين مطلقا لا يدل على النهي عن ضده لا مطالقة ولا التزاما استدل أصحاب المذهب الأول: بأن الشيء المأمور به لما توقف وجوده وتحققه في الخارج على الإقلاع عن جميع أضداده الوجودية وأنه يستحيل وجوده مع التلبس بأي ضد منها لأنها لا يجتمعان كأن طلب طلبا لترك جميع أضداده فالطلب واحد ولكنه بالنسبة إلى أي ضد يكون نهيا تحريما أو كراهة كما يكون الشيء الواحد قريب بالنسبة إلى شيء آخر "لدفع توهم اجتماع الوجوب والتحريم ويقال بأن اعتبارهما مختلف". فيكون الأمر بالشيء نهيا عن ضده وهو المطلوب يجاب عن ذلك: بأن ترك جميع الأضداد "لوجود المأمور به" شرط عقلي لتحقيق الواجب ووجوده والشرط غير المشروط شرورة "إذا كان شرط الشيء في نفسه فيكون باطلا أي الشرط" فلا يكون طلب الواجب طلبا لشرطه لثبوت المغايرة بينهما وإنما يكون مستلزما له حيث قالوا وجوب الشيء يقتضي وجود ما لا يتم إلا به والشرط مما لا يتم الواجب إلا به فيكون وجوبه لازما بوجوب مشروطه "فاقعد لا تدل على الشرط بالوضع بل بالالتزام فالأمر بالشيء ليس نهي عن ضده بل يستلزم النهي عن ضده فتأمل" ............ = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 ..........................................................................   = واستدل اصحاب المذهب الثاني: بأن المأمور به لما لم يتصور وجوده إلا بترك أضداده كان طلبه مستلزما لطلب تركها لما سبق ذكره في الإجابة عن دليل المذهب الأول فيكون تركها واجبا إن كان الأمر للإيجاب ومندوبا إن كان الأمر للندب وهو معنى كونها منهيا عنها غير أن النهي عن أضداد الواجب يكون نهي تحريم وعن أضداد المندوب يكون نهي كراهة أو تنزيه واستدل أصحاب المذهب الثالث بدليلين: الأول: لو كان الأمر نهيا عن ضده أو متضمنا له لكان الأمر بذلك الشيء متصورا الضد ومتعلقا به لكن التالي باطل فبطل المقدم وثبت نقيضه. "فكيف يطلب الترك عن مجهول". أماالملازمة: "الدليل اقتراني أو دليل استثنائي" فلأن الكف عن الضد هو مطلوب النهي فيكون الضد محكوما عليه بالحرمة أو بالكراهة والحكم على الشيء فرع عن تصوره وأما الاستثنائية فلأنا نقطع أن الأمر بالفعل قد يأمر به وهو غافل عن أضداده والكف عنها. الثاني: لو كان الأمر بالشيء نهيا عن ضده أو مستلزما له لكان الأمر بالعبادة مخرجا للمباح عن كونه مباحا وللواجبات الأخرى عن كونها واجبة لكن التالي باطل فبطل المقدم وثبت نقيضه وهو المطلوب "أي سيترتب عليه قلب حقائق فيخرج المباح عن المباح ويقلب الواجب والمباح إلى الحرام وما أدى إلى باطل فهو باطل كاقرأ القرآن فينهى عن ضده من المباحات كالأكل والواجبات كالصلاة فلم يكن نهيا أو مستلزما للنهي عن ضده فيكون المباح والواجب حراما وهو باطل وما أدى إلى باطل فهو باطل" أما الملازمة فلأنه مما لا شك فيه أن أداء العبادة المطلوب بالأمر يتوقف على ترك جميع المباحات والواجبات المضادة لها "ليخرج ما لا يضاده كالصيام مع الصلاة وقراءة القرآن فالعبادة إما: أ - تتضاد مع بعضها. ب - توجد مع بعضها. فتكون هذه المباحات والواجبات منهيا عنها ومحرمة إن كان النهي للتحريم أو مكروهة إن كان النهي للتنزيه ويلزم ذلك خروج المباح والواجب عن أصله من الإباحة والوجوب إلى الحرمة والكراهة أما الاستثنائية فلما فيه من مخالفة الأصل والخروج بالشيء عن وضفه الشرعي الذي وضع فيه. ويجاب عن الدليل الأول بجوابين: الأول: لا نسلم غفلة الآمر بالشيء حال أمره عن طلب ترك ما يمنع فعل المأمور به من جهة الجملة "الاستحضار التفصيلي مسلم ولكن الأمر غير مسلم" "الاستحضار الإجمالي أن يترك جميع الأضداد". وإن كان غافلا عن تفصيله وهذا هو المراد من قولنا: الأمر يستلزم النهي عن ضده لأن الآمر لا يطلب الفعل المأمور به إلا إذا علم أن المامور متلبس بضده لا به "أي لا بالمأمور به لئلا يكون تحصيل حاصل فالضد يكون في العقل" وإلا لزم تحصيل حاصل وهو باطل وإذا ....... = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 .........................................................................   = كان الحال كذلك لزم أن يكون الآمر متعقلا الضد وليس غافلا عنه وعلاوة على ذلك فإنا لو أخذنا في اعتبارنا أن الآمر هو الله تعالى الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ما تصورنا غفلة الآمر عن ضد المأمور به لا جملة ولا تفصيلا "هذه زيادة في الرد". الثاني أن هذا الدليل منقوض بوجوب المقدمة "الآمر بالشيء يكون آمرا بالمقدمة قد يأمر به وليس في ذهنه هذه المقدمة وأنتم قلتم بذلك" حيث قالوا إن الخطاب الدال على إيجاب الشيء ويدل على إيجاب ما يتوقف عليه مع أن الآخر بالشيء قد يأمر به وهو غافل عما يتوقف عليه وحينئذ يكون قد حكم على المقدمة بالوجوب وهو غير متصور لها فما هو جوابكم هناك يكون جوابنا هنا "فهناك حكم على المقدمة بالوجوب وهنا حكم على الضد بوجوب الترك". وعن الدليل الثاني: بأنه لا مانع "حرمناها وقت التلبس بالمأمور به والتحريم المؤقت جائز كالصلاة في الأوقات المكروهة وصوم يوم الشك حرام مع أن الصيام واجب" من خروج المباحات بل الواجبات المضادة للمأمور به عن كونها مباحة أو واجبة من حيث إنها مانعة بأنها في هذه الحالة ....... = = منهيا عنها من جهة توقف وجود الواجب على تكرها وهذا لا يستلزم كونها منهية عنها من حيث ذاتها حتى يلزم خروج الواجبات والمباحات من أصلها من الوجوب والإباحة إلى الحرمة والكراهة على الإطلاق إذ من المعلوم المقرر أن الصلاة وهي واجبة تكون حراما في الأرض المغصوبة فإنها في ذاتها غير منهي عنها من هذه الجهة لم يستلزم خروجها عن أصلها من وجوبها في ذاتها وعدم النهي عنها. واستدل أصحاب المذهب الرابع: بأن الفعل الذي هو ضد المأمور به أمر ندب لا يخرج بفعله والتلبس به الذي يكون به ترك المندوب حال طلبه عن الجواز الذي هو أصله "أمر الندب نهى عن ضده نهي تنزيه فلم يخرجه عن الجواز فليس داخلا معنا ولكن أمر الإيجاب يقلب حقيقة الضد صل ركعتين قبل الظهر ضده الأكل فلا يخرج بفعل الأكل الخروج عن الجواز لأنه مخير في فعله وعدم فعله أي المندوب". إذ لزم على ترك المندوب "ترك المندوب جائز ففعل الضد أي التلبس به جائز لأن التلبس بالضد ترك للمندوب" "بخلاف الفصل الذي هو ضد المأمور به أمر إيجاب فإنه يخرج بفعله الذي به يكون ترك الواجب من الجواز الذي هو أصله إلى الحرمة وهو المطلوب". ويجاب بأنا لا نسلم بقاء ضد المندوب على أصله من الجواز حين يكون فعله محققا لترك المندوب "في تلك الحالة لأن الندب ما يثاب. الخ قترى فيه عدم ثواب حيث توقف عليه فعل ما يحقق الثواب ففعل الضد يجلب عدم الثواب فالأمر بالشيء نهى عن ضده ولكن لما توقف على ترك الضد ما يحقق ثواب كان منهيا عنه" بل يكون حينئذ مكروها لأن كل مفوت للمندوب يكون مكروها ولا شك أن الكراهة غير الجواز لأن الكراهة فيها ترجيح جانب الطرفين لا استوائهما فيكون الفعل مكروها والنهي عنه مستفاد من الأمر بضده نهى كراهة ........ = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 في ذلك بوجوه فيها أن القائل به لا يخلوا أما أن يقول: أن الأمر بالشيء نهى عن ضده من حيث اللفظ ومن حيث المعنى فإن قلتم من حيث اللفظ فهذا مدفوع من حيث المشاهدة والمحسوس. وهذا لأنا سمعنا الأمر من قوله لغيره افعل فكيف تسمع النهى من هذا اللفظ وهو ضده. فإن قلتم من حيث المعنى فليس المعنى إلا أن الحكيم إذا أراد شيئا فقد كره ضده وإذا حسن شيئا فقد قبح ضده وهذا لا يوجب أن يكون الأمر بالشيء نهيا عن ضده لأن الله تعالى قد أمرنا بالشيء من غير أن يكره ضده كالنوافل فإنه تعالى أمر بها ولم يكره ضدها لأنه لو كره ضدها لم تكن النوافل نوافل بل كانت واجبات فمنها أن الأمر بالشيء لو كان نهيا عن ضده وجب أن يكون العلم بالشيء جهلا عن ضده والقدرة على الشيء عجزا عن ضده كما قلتم أن أرادة الشيء تكون كراهية لضده. فيؤدي ما قلتم إلى أن يكون الشيء نصفه ضده لأن الكراهة ضد الأرادة فلو كانت الإرادة كراهة لضده لكان الشيء نصفه ضده وهو باطل. ومنها أن الشيء إذا كان له ضدان مثل السواد فإن البياض والحمرة ضدان له فيجب إذا أراد السواد أن يكون كارها للحمرة والبياض والحمرة ضد البياض كما أنها ضد السواد فكان المحب إذا كره البياض لإرادته السواد أن يكون مريدا للحمرة لأن كراهية البياض إرادة للحمرة لأنها ضده ثم إذا كان مريدا للحمرة وجب أن يكون كارها للسواد والبياض جميعا لأنهما ضدان له فيجب على هذا أن يكون كل واحد من هذه الأضداد مرادا مكروها وهذا باطل وما أدى إليه يكون باطلا. وأما حجتنا قلنا أن الأمر بالشيء أمر بما لا وصول إليه إلا به ولا يتم إلا بفعله مثل الأمر بالحج أمر بالسعى إلى مكان الحج قبله. والأمر بالاستقاء أمر بإدلاء الدلو في.   = وتنزيه لأن الأمر كان للندب. ومن هذا العرض يتبين أن المذهب القائل: إن الأمر بالشيء إيجابا أو ندبا يستلزم النهي عن ضده تحريما أو كراهة هو المذهب الراجح انظر المحصول لفخر الدين الرازي 1/293 - 294 المستصفى للغزالي 1/81 المعتمد لأبي الحسين البصري 1/97 نهاية السول للأسنوي 1/222 شرح المنار لابن مالك ص 192 - 193 القواعد لابن اللحام ص 244 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 1/131. مما ذكر شيخي: الحسيني الشيخ في محاضرته في كلية الشريعة جامعة الأزهر - قسم الأصول - الدراسات العليا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 البير ونزعه والأمر بصعود السطح أمر بنصب السلم وقد بينا هذا من قبل وإذا كان الأمر بالشىء أمرا بما لا يتم المأمور إلا به فنقول أن فعل الشىء لا يحصل إلا بترك ضده مثل الحركة لا تحصل إلا بتركها السكون وكذلك السكون لا يحصل إلا بترك الحركة فصار الأمر بالشىء نهيا عن ضده معنى هذا الطريق ولهذا يكون الأمر بالإيمان نهيا عن الكفر لأنه ضده وكذلك الأمر باللبث فى المكان نهى عن ضده وهو الخروج والأمر بالقيام نهى عن القعود وأشباه هذا كثير وهذا هو المراد من قولنا أن الأمر بالشىء يكون نهيا عن ضده فإن أعجبهم عن استعمال لفظ النهى وهو الوفاق وأن لم يعجبهم هذا اللفظ وقالوا: إنما قلناه معنى تعينت المخالفة فى نفس التسمية ولا مبالاة بها بعد الموافقة فى المعنى وأن خالفوا فى اللفظ والمعنى جميعا كان خروجا عن المعقول فيكون باطلا. والأولى أن نقول أن المسألة مصورة فيما إذا وجد الأمر وقضينا أنه على الفور فلا بد من ترك ضده عقيب الأمر كما لا بد من فعل المأمور عقيب الأمر وأما أن قلنا أن الأمر على التراخى فلا تظهر المسألة هذا الظهور فالأولى تصويرها فى الجانب. وأما الجواب عما ذكروه فأما الأول فتعلقهم بالنوافل باطل لأن النوافل عندنا غير مأمور بها فإن عندنا ما ليس بواجب لا يكون مأمورا به ولئن تناوله الأمر يكون على طريق المجاز ثم نقول الأمر الذى يفيد الوجوب يكون نهيا عن ضده وأما الأمر الذى يفيد الاستحباب إنما يفيد النهى عن ضده بما يناسب الاستحباب والاستحباب أن يكون فعل الشىء أولى من تركه فالحكم فى ضده أن يكون تركه أولى من فعله. وأما كلامهم الثانى ففى نهاية الضعف لأنه يجوز أن يجتمع العلم بالشىء والعلم بضده وكذلك القدرة على الشىء وضده فأما فعل الشىء وفعل ضده لا يتصور اجتماعهما والأمر يقتضى الفعل فهذا الوجه عمل في ضده بالنهى عنه. وأما كلامهم الثالث الذى ذكروه فليس بشىء أيضا لأنا نجعل الأمر بالشىء نهيا عن ضده لا من حيث اللفظ ولكن من حيث المعنى وهو أنه لا يتوصل إلى فعل الشىء إلا بترك ضده وهذا المعنى فيما له ضد واحد وفيما له أضداد واحد فسواء كان له ضد واحد وأضداد فلا بد من ترك الكل حتى يفعل المأمور وأما النهى عن الشىء هل يقتضى الأمر بضده فإن كان الشىء له ضد واحد مثل الحركة والسكون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 فكذلك نقول أنه إذا نهاه عن السكون يكون الأمر بالحركة إذ ليس بينهما واسطة فأما إذا كان له أضداد فلا يكون النهى عن الشىء أمرا بها كلها لأنه يتوصل إلى ترك الشىء من غير أن يفعل جميع أضداده ولا يتوصل إلى فعل الشىء إلا بعد أن يترك جميع أضداده فافترقا لهذا المعنى ثم نقول أن هذا الأمر بالشىء نهى عن ضده صيغة حتى يصير في النهى الثابت معنى أن يكون أمرا بضده فإن الذى ادعيناه إنما ادعيناه في صيغة الأمر والنهى ولم ندع ذلك فيما ثبت معنى فسقط ما قالوه. وادعى أبو زيد في هذه المسألة قولا ثالثا وقال أن الأمر بالشىء يقتضى النهى عن ضده على وجه الكراهة لا على وجه التحريم وهذا ليس بشىء لأن الأمر إذا كان بعد الوجوب فلا بد أن يقتضى الكف عن ضده على وجه التحريم حتى يستقيم حمله على الإيجاب. وقد أجمع الفقهاء على أن الأمر يفيد الإيجاب ومع هذا لا يكون لما قاله وجه. والله أعلم. مسألة الفرض والواجب واحد عندنا وزعم أصحاب أبي حنيفة أن الفرض ما ثبت وجوبه بدليل مقطوع به والواجب ما ثبت وجوبه بدليل مظنون1 وقالوا: لأن الواجب ليس على مرتبة واحدة ألا ترى أن الثابت بدليل مقطوع لا يكون في مرتبة ما ثبت بدليل مظنون بل يكون فوقه فى الرتبة وإذا كان اختلفا في الرتبة اختص كل واحد منهما باسم غير اسم صاحبه. قالوا: ولأن الفرض في اللغة يدل على ما لا يدل عليه الوجوب لأن الوجوب يدل على اللزوم فإنه مأخوذ من السقوط على ما سبق ولا تأثير للساقط فى المحل ولأن الفرض مأخوذ من الجز والشق ومنه فرض القوس وفرضة الوادى فدل هذا الاسم على التأثير فى المحل وإذا أثر فى المحل أفاد زيادة لا يفيدها اسم الوجوب. ونحن نقول أن حد الواجب والفرض واحد لأن حدهما جميعا ما لا يسع تركه أو ما لا يستحق الثواب بفعله والعقاب بتركه وإذا اتفقنا فى المعنى اتفقنا فى الاسم ولأنكم فرقتم بين الواجب والفرض بفرق ولا يدل عليه دليل والدليل على.   1 انظر نهاية السول 1/76 جمع الجوامع 1/88 إحكام الأحكام 1/139 شرح المنار لابن مالك ص 195 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 1/55. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 أنه لا دليل عليه أنه لو قلت: [قلمكم قال] 1 هذا الفرق وقال الواجب ما ثبت بدليل مقطوع به والفرض ما ثبت بدليل مظنون لم يكن عنه خلاص وأما الذى تعلقوا به من قولهم أن ما ثبت بهذا الدليل مخالف فى الرتبة ما ثبت بذلك الدليل فوجه الجواب المعتمد عنه أن الكلام فى الواجب العملى وهو الذى تتكلم فيه الفقهاء فيما بينهم وأما العلم ليس له تعرض أصلا والواجب عملا تستوى مراتبه سواء كان ثبوت الشىء بدليل قطعى يوجب العلم أو بدليل اجتهادى يوجب الظن والعقاب فى كل واحد عند تركه عملا مثل العقاب في صاحبه وكذلك واحد لا يسع تركه صاحبه إذا استويا من هذا الوجه استغنى عن التفريق الذى ذكروه. وأما كلامهم الثانى قلنا إذا تراجعنا اللغة فلفظ الوجوب أدل على اللزوم من لفظ الفرض لأن الفرض اسم مشترك يكون بمعنى الإنزال مثل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} [القصص: 85] أى أنزل ويكون بمعنى البيان مثل قوله تعالى: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} [النور: 1] ويكون بمعنى التقدير يقال فرض القاضى النفقة أى قدر ويكون بمعنى الإيجاب كقوله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} [البقرة: 197] أى أوجب فالإلزام أحد معانى الفرض وأما الوجوب له معنى واحد وهو السقوط وقد اقتضى الإلزام من حيث هذا المعنى الواحد فكان هذا الاسم أخص فى الإلزام من لفظ الفرض فلا أقل أن يستويا وأما التأثير فى المحل فلا معنى له لأن الإلزام على الإنسان لا يظهر له تأثير فى المحل حسا بوجه ما فلا معنى لاعتباره. مسألة الفعل بوصف الكراهة لا يتناوله الأمر المطلق وذهب أصحاب أبى حنيفة إلى أنه يتناوله والخلاف تظهر فائدته فى قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] فعندنا هذا لا يتناول الطواف بغير طهارة ولا الطواف منكوسا وعلى مذهبهم يتناوله فإنهم وأن اعتقدوا كراهية هذا الطواف ذهبوا إلى أنه دخل فى الأمر حتى يتصل به الإجزاء الشرعى وعندنا يدخل ولا جواز لمثل ذلك الطواف واعلم أن هذا المثال على أصلهم يتصور وأما عندنا أن ذلك طواف مكروه بل لا طواف أصلا لأنه قام الدليل عندنا أن الطهارة شرط فى.   1 هذا ما استطعنا إثباته والذي في الأصل رسم هكذا "فلم لم قالب" ولعل الصحيح ما أثبتناه أو "فلم لو قال". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 الطواف. مثل كونها شرطا فى الصلاة وكذلك قام الدليل أن الطواف الشرعى هو الطواف على هيئة مخصوصة لا يوجد إذا طاف منكوسا وأما هم زعموا أن الطواف حقيقة دوران حول البيت وذلك موجود سواء طاف بطهارة أو بغير طهارة وسواء طاف مستويا أو منكوسا قالوا: وأما وجود الكراهية الشرعية لا يدل على عدم دخول المفعول فى الأمر بدليل الصلاة فى الأرض المغصوبة والبيع وقت النداء فإن الأول داخل فى الأمر. والثانى فى الإطلاق. وأما حجة ما صرنا إليه أن الأمر يفيد الوجوب حقيقة والندب والإباحة مجازا فما ليس بواجب ولا مندوب إليه ولا مباح لا يتصور أن يتناوله الأمر وأما الصلاة فى الأرض المغصوبة فنتكلم فى هذه المسألة ابتداء حتى يظهر الواجب فنقول مذهبنا ومذهب أكثر أهل العلم أن الصلاة فى الأرض المغصوبة جائزة1 وذهبت المعتزلة غير النظام إلى أنها لا تجزىء2 وهو قول داود وأهل الظاهر وقيل أنه مذهب أحمد بن حنبل3 رضى الله عنه. واحتج من قال أنها لا تجزىء بأن الصلاة طاعة بإجماع المسلمين والصلاة فى الدار المغصوبة معصية لأن الصلاة تشتمل على القيام والركوع والسجود والقعود وهذه الأشياء تصرف فى الدار المغصوبة وشغل لأماكنها وأهويتها ومنع لرب الدار لو حضر من التصرف فيها منزل منزلة وضع ساج فيها وربما يعبرون عما قلنا فيقولون الكون فى هذه البقعة محرم معصية والأكوان التى تقع فى الصلاة لا بد أن تقع طاعة ونقول الكون فى هذه البقعة محرم منهى عنه والأكوان التى تقع فى الصلاة لا بد أن تكون مأمورا بها ويستحيل وقوع الشىء الواحد مأمورا به منهيا عنه وأيضا فإنهم أجمعوا أن من شرائط الصلوات الخمس أن ينوى بها المصلى أداء الواجب وما يدخل فيه أداء الواجب نحو أن ينوى كونها ظهرا أو عصرا والصلاة فى الدار المغصوبة لا يتأتى فيها ذلك لأنه لا يصح أن ينوى الإنسان أداء الواجب بما يعلم أنه ليس بواجب.   1 ذكره الشيخ موفق الدين بن قدامة رواية ثانية عن أحمد وقال وهو قول أبي حنيفة ومالك والقول الثاني للشافعي انظر المغني 1/722 المجموع 3/164. 2 انظر المجموع للنووي 3/164. 3 ذكره الإمام موفق الدين بن قدامة رواية ثانية ونصرها انظر المغني لموفق الدين بن قدامة 1/722. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 قالوا: وعلى هذا نقول أيضا لا تجوز صلاة من ستر عورته بثوب مغصوب واختلفوا فيمن ستر عورته بثوب مملوك ثم لبس عليه ثوبا مغصوبا فمنهم من أجازها لأن [فى] 1 الثوب الثانى [زيادة] 2 وفى الثوب الأول كفاية لستر العورة وهو مملوك وقال آخرون لا تجوز لأن قيامه وقعوده وتصرفه فى كلا الثوبين وزعموا أيضا أن المودع أو الغاصب إذا طولب برد الوديعة أو المغصوب فتشاغل بالصلاة مع اتساع الوقت لم تجز صلاته. وإن كان الوقت ضيقا ويخشى أن تشاغل بالرد أن تفوته الصلاة لم تبطل صلاته أن لم يستضر صاحبها بالتأخير ضررا شديدا وتبطل أن استضر بالتأخير ضررا شديدا وقالوا: لمن صلى وهو يرى من يغرق أو يهلك وهو يرجو أن يخلصه فسدت صلاته والوجه فى ذلك أجمع أن صلاته فى جميع هذه المواضع قبيحة قالوا: ولا يلزم إذا آمن فى الدار المغصوبة حيث يصير مؤمنا لأن ذلك ليس بتصرف فيها فيكون غصبا لها فلم يلزم أن يكون قبيحا غير طاعة قالوا: وليس يلزم إذا صلى فى أرض إنسان غير أن يقصد غصبها ولا زرع فى الأرض لأن العادة جارية أن مالك الأرض لا يكره أن يصلى المارة فى أرضه وكذلك العادة جارية بأن من أذن لغيره فى الدخول فى داره أنه لا يكره أن يصلى فيها فنزل ذلك منزلة صريح الإذن. قال أبو الحسين البصرى صاحب المعتمد مستدلا فى هذه المسألة أن صحة الصلاة فى الدار المغصوبة إما أن يراد بها أنها داخلة تحت التعبد أو يراد بها أنها تقوم مقام ما دخل تحت التعبد والأول باطل لأن التعبد لا يتناول القبيح المكروه والثانى يكفى فى نفيه أنه لم يدل دليل على أنها تقوم مقام ما دخل تحت التعبد وإذا لم يدل الدليل على ذلك لم يسقط به التعبد الواجب عليه3. وأما حجتنا [فقد] 4 ذكر بعض أصحابنا أن بعض ما يحتج به فى هذه المسألة إجماع الأمة فإنا نعلم أن المكلفين الذين خوطبوا بالصلاة من شرق الأرض ومغربها ما كان يخلو عصر من الأعصار من فعل بعضهم الصلاة فى الأرض المغصوبة ولو كان.   1 زيادة يستقيم بها المعنى. 2 زيادة ليست في الأصل يستقيم به المعنى. 3 انظر المعتمد 1/172. 4 زيادة ليست في الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 من أهل الاجتهاد من لا يجوز ذلك لم يجز فى مستقر العبادات أن لا يظهر خلافه مع كثرة وقوع ذلك وعموم البلوى به ولجرى بينهم تناظر وتشاجر فى ذلك كيف وأهل القدوة الذين هم أهل القدوة فى الشريعة والأعلام فى معرفة الأحكام أطبقوا على القول بجواز ذلك فلا يعتد بخلاف من خالف فى ذلك لأنه خالف محدث ولم ينقل عن أحد من السلف ذلك وعندى أن هذه الحجة ضعيفة لأنهم يقولون بالإجماع وقد بينا خلاف ذلك. وقولهم أنه لم ينقل عن أحد من السلف ذلك قالوا: كما لم ينقل الفساد لم ينقل الجواز ولعلهم أن سئلوا عن ذلك أفتوا ببطلان صلاته قالوا: والظاهر ذلك لأن الدليل مضى فى هذه المسألة فما كنا نظن بسلفنا الصالح أنهم يتركون مثل الذى قدمناه وأقمناه إلى ما دليل عليه بل هو مجرد دعوى ونستدل بوجه آخر يعتمد عليه فنقول الصلاة غير منهى عنها لأن النهى وأن ورد ولكنه ينصرف إلى فعل الغضب لا إلى فعل الصلاة. ألا ترى أن بعد الخروج عن الصلاة هو فاعل للغصب غير فاعل للصلاة. ألا ترى أنه لو صلى فى مكان من الدار لا يخرج من أن يكون غاصبا لغير ذلك المكان من بقاع الدار. قالوا: على هذا أن المعقول من الغضب هو الاستيلاء على مال الغير على وجه العدوان وهو بالصلاة شاغل ملك غيره بالعدوان فيصير بغير الصلاة غاصبا فكيف لا يكون النهى منصرفا إليها وصلاته عن الغصب. الجواب يقال لهم هل يجوز بين أن يكون الإنسان فى فعل واحد مأمورا من وجه منهيا من وجه مطيعا من وجه عاصيا من وجه فإن قالوا: لا قلنا الدليل على جوازه المشروع والمعقول. أما المشروع فإن المريض الذى يستضر بالصوم فإذا صام فإنه لم يختلف أحد أن صومه يقع وهو مأمور بالصوم من وجه منهى من وجه ولولا أنه مأمور به من وجه لم يتصور وقوعه موقع الصوم المعروض عليه وهو منهى عنه من وجه وهو لتضمنه إضرارا بنفسه. وأما المعقول فإن السيد إذا قال لعبده احمل هذه الخشبة إلى موضع كذا واسلك بها طريق كذا فحمل الخشبة وسلك طريقا غير الطريق الذى قال فإنه يكون مطيعا من. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 وجه عاصيا من وجه. ألا ترى أنه يحسن أن يقول العبد أن كنت عصيتك فى سلوك هذا الطريق فقد أطعتك فى حمل هذه الخشبة إلى موضع كذا ويقول لهم أيضا هل يجوز أن يشتمل الفعل الواحد على معنيين مختلفين فى حكم الشارع فإن قالوا: لا. قلنا الدليل على جواز ذلك أن من وقف على جبل مغصوب بعرفات فقد اشتمل وقوفه على ما هو طاعة وهو الوقوف بعرفة وعلى ما هو معصية وهو استعمال جبل الغير وكذلك إذا توضأ بماء مغصوب فإن حركاته فى الوضوء اشتملت على شيئين مختلفين على استعمال ماء الغير وهو معصية وعلى فعل الوضوء وهو طاعة وكذلك إذا ذبح بسكين مغصوب فإن فعله اشتمل على استعمال سكين الغير وهو معصية وعلى ذبح الشاة وهو مباح جائز وإذا نوى الإنسان الصوم ونام فى نهاره فإنه فى حال نومه فاعل للصوم وفاعل للنوم وهذه المسائل كلها مسلمة ولم ينقل عن المخالفين منع شىء منها وأقواها مسألة صوم الشيخ والمريض اللذين يستضران بالصوم ومسألة الوضوء بالماء المغصوب والوقوف على جبل مغصوب فإذا ثبت ما قلناه فنقول إذا صلى فى أرض مغصوبة فنقول النهى فى شغل أرض الغير والأمر بالصلاة فهو مأمور بهذا الفعل من حيث أنه صلاة منهى عنه من حيث أنه شغل ملك الغير والجواز من حيث أنه صلاة لا من حيث أنه شغل ملك الغير وإن شئت عبرت عن هذا بالطاعة والمعصية فقلت: أنه مطيع من حيث الصلاة عاص من حيث شغل ملك الغير وهو مثل مسألة المريض إذا صام والوضوء بالماء المغصوب والوقوف على جبل مغصوب وهو مأمور مطيع من حيث فعل الصوم وفعل الوقوف وفعل الوضوء عاص منهى عنه من حيث الإضرار بنفسه واستعمال مال الغير وجبل الغير وهو لأن شغل ملك الغير ينفصل عن الصلاة والصلاة تنفصل عن شغل ملك الغير فإذا انفصلا حسا فيجوز أن نجعل فعله فيهما كفعلين منفصلين فيكون مطيعا بأحدهما عاصيا بالآخر والدليل عليه المسائل التى قلناها والحرف فى هذه المسألة أنا وجدنا فعلا من حقه أن يكون طاعة وقد وقع قبيحا ومعصية ومع ذلك أجزأ عن الطاعة وكان طريق جوازها ما ذكرنا كذلك هاهنا وأما فصل النية التى قالوا: بها فنحن إذا فصلنا الطاعة عن المعصية استقام فيه النية وقد نقل بعض المتأخرين من أصحابنا عن القاضى أبى بكر الباقلانى كلاما غير مفهوم فى هذه المسألة وهو أن صلاة الإنسان فى الأرض المغصوبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 لا بد أن تقع مأمورا بها ولكن يسقط الأمر بالصلاة عندنا كما يسقط الأمر بأعذار نظرا من الجنون وغيره وهذا هذيان فأعرضنا عنه والله أعلم. مسألة إذا قال الصحابى أمرنا بكذا فإنه ينزل منزلة القول المقول فى الأمر1. وقال داود وأصحابه لا ينزل منزلة ما لم يقل اللفظ2 وقال لأنه يجوز أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر لفظا فى الندب والرواى ظن منه معنى الوجوب فيقبل على ما ظن ونحن نقول قول الصحابى أمرنا بكذا مثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم أمرتكم بكذا ومثل قوله أمركم الله بكذا والذى قالوه باطل لأن الأمر عندنا لا يكون أمرا إلا إذا أفاد الوجوب فأما إذا أفاد الندب فإنه لا يكون أمرا فليس ما قالوه بشىء والله أعلم.   1 قال الآمدي والظاهر مذهب الشافعي وذلك لأن من كان مقدما على جماعة وهو بصدد امتثال أوامره ونواهيه فإذا قال الواحد منهم: أمرنا بكذا أو نهينا عن كذا فالظاهر أنه يريد أمر ذلك المقدم ونهيه والصحابة بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم على هذا النحو فإذا قال الصحابي منهم: أمرنا أو نهينا كان الظاهر منه أمر النبي صلى الله عليه وسلم ونهيه انظر إحكام الأحكام 2/138. 2 عزاه الآمدي إلى جماعة من الأصوليين والكرخي من أصحاب أبي حنيفة واستدلوا بأن ذلك متردد بين كون مضافا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبين كونه مضافا إلى أمر الكتاب أو الأمة أو بعض الأئمة وبين أن يكون قد قال ذلك عن الاستنباط والقياس وأضافه إلى صاحب الشرع بناء على أن موجب القياس مأمور باتباعه من الشارع انظر إحاكم الأحكام 2/137, 138. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 باب القول في النواهي باب القول فى النواهى ... باب القول فى النواهى. اعلم أن النهى يقارب الأمر فى أكثر ما ذكرناه ونشير إلى ذلك على وجه الاختصار ونبين ما يخالف الأمر فيه. فأما حقيقة النهى1 فهو استدعاء ترك الفعل بالقول ممن هو دونه وقيل هو قول القائل لغيره لا تفعل على جهة الاستعلاء. فصل وله صيغة تدل عليه فى اللغة. وقال أبو الحسن الأشعرى ومن تبعه ليس له صيغة وقد دللنا عليه وأبطلنا قوله من قبل. فصل وصيغة النهى مقتضية للتحريم 2. وقال أبو الحسن ومن تبعه لا يدل عليه ولا على غيره إلا بدليل. والدليل على أنه يقتضى التحريم أن قوله لغيره لا تفعل يقتضى طلب ترك الفعل لا محالة مثلما أن قوله لغيره افعل يقتضى طلب الفعل لا محالة وطلب الفعل لا محالة يقتضى الإيجاب كما ذكرنا فى مسألة الأمر فطلب ترك الفعل لا محالة يقتضى التحريم التحريم وقد سبق وجه الدليل فى هذا ويمكن أن يقال أن النهى لما كان لطلب الامتناع من الفعل والفعل لا يمتنع وجوده بكل إلا بالتحريم فكان مقتضيا للتحريم أى امتناع وجوده بكل حال من حيث الشرع يكون بالتحريم لأن السيد إذا قال.   1 عرفه الأسنوي بأنه هو القول الطالب للترك دلالة أولية انظر نهاية السول 2/293. 2 هذا هو قول الجمهور واختاره البيضاوي. والقول الثاني: حقيقة في الكراهة مجاز فيما عداها. القول الثالث: مشترك معنوي بين التحريم والكراهة فهي موضوعة للقدر المشترك بينهما وهو طلب الترك. القول الرابع: مشترك لفظي بين التحريم والكراهة فهي موضوعة لكل منهما بوضع مستقل. القول الخامس: التوقف وعدم الجزم برأي معين. انظر إحاكم الأحكام 2/275, 276 المحصول 1/338 نهاية السول 2/293 المستصفى 2/418 القواعد لابن اللحام 251 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/181, 182. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 لغلامه لا تفعل كذا ففعل استحق الذم والتوبيخ ولولا أنه اقتضى التحريم لم يستحق الذم والتوبيخ. فصل والنهى يقتضى الترك على الدوام وعلى الفور1 بخلاف الأمر يقتضى فعل المأمور مرة واحدة ولا يقتضى الفور إلا بدليل. وذكرنا الفرق من قبل ببينة أن من قال لغلامه افعل كذا ففعل مرة واحدة يعد ممتثلا آتيا للمأمور وإذا قال لا تفعل كذا لا يعد منتهيا إلا بعد الانتهاء على الدوام وهذا ظاهر للمتأمل. فصل: قد ذكرنا أن الأمر بالشىء نهى عن ضده فأما النهى عن الشىء هل يكون أمرا بضده2 فإن كان له ضد واحد فهو أمر بذلك الضد كالصوم فى العيدين وأن كان له أضداد كثيرة فهو أمر بضد واحد من أضداده لأنه لا يتوصل إلى ترك المنهى عنه إلا به فأما إثبات الأمر بسائر الأضداد فلا معنى له وقد سبق هذا. فصل إذا نهى الشارع عن أحد الشيئين كان ذلك نهيا عن الجمع بينهما. ويجوز له فعل واحد منهما أيهما شاء3 وعند المعتزلة يكون منهيا عنهما4 فلا يجوز له فعل واحد منهما وزعموا أن النهى لا يرد إلا عن قبيح فإذا نهى عنهما ثبت قبحهما فيكونان جميعا منهيين وأن ورد بلفظ التخيير اللهم إلا أن تدل الدلالة على أن أحدهما إنما كان منهيا عنه إذا كان الآخر موجودا وذلك الآخر منهى عنه إذا كان هذا موجودا فيكون للتخيير هاهنا فائدتان يقال لا تأكل ولا تشرب وتدل الدلالة أنه إنما نهى عن الأكل بعد وجود الشرب وكذا إنما نهى عن الشرب بعد وجود الأكل فيكونان منهيين على طريق التخيير على هذا الوجه هذا مذهبهم فى هذا وأما عندنا فالأمر على ما ذكرناه والدليل على أن الأمر أمر بالفعل والنهى أمر بالترك ثم الأمر.   1 انظر نهاية السول 2/294 إحكام الأحكام 2/284, 285 المحصول 1/338 فواتح الرحموت مسلم الثبوت 1/406 القواعد لابن اللحام 252 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/185. 2 انظر نهاية السول 2/310, 311 انظر المحصول 1/350 انظر روضة الناظر 47 انظر أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/192. 3 انظر المحصول 1/352 نهاية السول 2/311, 312 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/193. 4 انظر المعتمد 1/170. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 بالفعل فى أحد شيئين لا يقتضى وجوبهما كذا الأمر بالترك فى أحد شيئين لا يقتضي وجوب تركهما وقد سبق هذا أيضا. مسألة: النهى يدل على فساد المنهى عنه. وهو الظاهر من مذهب الشافعى وعليه أكثر الأصحاب إلا أنهم اختلفوا فمنهم من قال يقتضى الفساد من جهة الوضع فى اللغة ومنهم من قال يقتضى الفساد من جهة الشرع ويمكن أن يقال يقتضى الفساد من حيث المعنى لا من حيث اللغة وقد ذهب إلى هذا المذهب أيضا جماعة من أصحاب أبى حنيفة ومن أصحابنا من قال أن النهى لا يدل على فساد المنهى عنه وحكى عن الشافعى رحمه الله ما يدل عليه وهذا اختيار أبى بكر القفال الشاشى وهو قول الكرخى ومن معه من أصحاب أبى حنيفة وهو أيضا قول أكثر المتكلمين ومنهم أبو على وأبو هاشم وأبو عبد الله البصرى1 الملقب.   1 قال الشيخ الحسيني الشيخ: مطلق النهي عن الشيء سواء كان ذلك الشيء عبادة أو غيرها "كالنحاح" "مطلق النهي يشمل نهي تحريم ونهي تنزيه" لا يخلو عن حالة من اثنين: الأولى: أن يكون النهي لأمر خارج عن المنهي عنه غير لازم له كالنهي عن الوضوء بماء مغصوب فإن إتلاف الماء المغصوب قد يحصل بغير الوضوء كالإراقة مثلا وأن الوضوء قد يحصل بماء غير مغصوب ومثله الصلاة في المكان المغصوب أو المكروه وكالنهي عن البيع وقت النداء للجمعة فإن النهي عنه لوصف خارج يمكن انكاكه عن البيع لأن البيع قد يوجد بدون الإخلال بالشيء بأن "الباء بيانية" يتبايعان في الطريق ذاهبين للصلاة والإخلال بالشيء قد يوجد بدون البيع بأن تكون في الطريق بغير بيع. والنهي في هذه الحالة لا يؤثر شيئا في المنهي عنه فلا يفيد فساده ولا بطلانه إذا خالف المكلف وفعل المنهي عنه عند الأكثرين لأن المنهي عنه في الحقيقة الأمر الخارج فالصلاة لم يتعلق بها نهي وكذا الوضوء وإنما تعلق بالغصب ولا ملازمة بين غصب وصلاة ولا وضوء حتى يكون النهي عن الغصب نهيا عن الصلاة والوضوء والنهي عن البيع وقت النداء في الواقع ليس راجعا لذات البيع وإنما هو نهي عن تفويت الجمعة ولا ملازمة بين التفويت في الجمعة والبيع. وذهب الإمام أحمد إلى أن النهي في هذه الحالة يدل على الفساد لأن ذلك مقتضاه فلا يعدل عنه "مطلق النهي يدل على الفساد". ورد: بأن الأمر مراجعة من طلقت في حيضها دليل على صحته وعدم فساده فلو كان دالا على الفساد لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم المطلق في الحيض بالمراجعة لأن الأمر به لا يكون إلا بعد وقوع الطلاق: الثانية: أ - أن يكون النهي راجعا إلى ذات المنهي عنه أو لأمر خارج عنه لازم له أو داخلا فيه عبادة ....... = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 ..........................................................................   = أو معاملة والمراد بذات العبادة والمعاملة ما يشمل جزءها وشرط صحتها فالنهي عن الصلاة بدون قراءة أو ركوع نهي عن ذات العبادة ونهي الحائض عن الصلاة وقت الحيض راجع إلى ذات العبادة والنهي عن بيع الحصاة وهو جعل الإصابة بالحصاة بيعا قائما مقام الصيغة وهو أحد التأويلين في الحديث راجعا إلى ذات العقد "فلا إيجاب ولا قبول فيه" "ويعلل رجوعه لذات العقد" لفقدان صيغته والنهي عن بيع الملاقيح وهو ما في بطون الأمهات من الأجنة راجع إلى نفس المبيع الذي هو ركن من أركان البيع وعلة النهي عدم تيقن وجود المبيع "وشروط المبيع العلم به عينا وقدرا وصفة". ب - وأما النهي لأمر خارج لازم للعبادة أو المعاملة فكالنهي عن الصلاة في الأوقات المكروهة "لا توجد صلاة مكروهة إلا في الوقت المكروه ولا يوجد الوقت المكروه إلا بالصلاة في هذا الوقت فالجهة مرتبطة من كل محل" كلما "تعبير عن التلازم" وجدت الصلاة في الأوقات المكروهة "أي الأوقات الموصوفة بالكراهة لا الوقت فقط" وكلما وجدت الأوقات المكروهة وجدب الصلاة المكروهة "أي لتكون الصلاة مكروهة فيه لا بد من التلازم وهذا دليل يتضمن دعوى التلازم" لأن الأوقات المكروهة لا شيء كذلك إلا الصلاة فيها والانشغال" إذ معنى كون الوقت مكروها أن الصلاة فيه مكروهة "لا الوقت مكروه فتأمل" وكالنهي عن الربا مثل النهي عن بيع درهم بدرهمين "الربا لا يوجد إلا بالزيادة ولا يكون ربا ومنهي عنه إلا بالزيادة" لاشتمال هذا العقد على الزيادة اللازمة بالعقد عليها لأن الزيادة أمر خارج عن ذات العقد "أي الصيغة لأنه داخل في المعقود عليه" إذ المعقود عليه من حيث ذاته قابل للبيع "للدرهم والدرهمين" "فالنهي للزيادة" وكونه زائدا أو ناقصا وصف خارج لازم لعقد بالفضل والنهي في هذه الحالة اختلف العلماء في دلالته على الفساد وعدمها على مذاهب كالآتي: أ - قال بعض العلماء إن النهي لا يدل على الفساد مطلقا عبدة أو معاملة. ب - وقال بعض آخر إنه يدل على الفساد مطلقا عبادة أو معاملة وهؤلاء اختلفوا في جهة الدلالة. 1- فقيل: 2 - وقيل يدل شرعا. جـ - وقال أبو الحسين البصري إنه يدل على الفساد في العبادات دون المعاملات. د - وذهب الحنفية إلى أنه لا يدل على الفساد بل على الصحة مطلقا سواء كان عن الفعل لعينه أو لصفة خلافا "مفعول مطلق لمحذوف" لأبي حنيفة في القسم الأول حيث يرى أن المنهي عنه لعينه غير مشروع الأصل فيه أن ينفي لا أن ينهى عنه فالنهي عنه مجاز عن نفيه "النهي لذات الشيء عند أبي حنيفة في الواقع نفي لأنه ينفي أن يوجد ذلك البيع فهو حقيقة في النهي مجاز في النفي فهو إنشائي لفظا "خبري معنى" كلا تبيعوا الكلب والخنزير إنشائية لفظا "خبرية معنى" فهو إنشاء مستعمل في الإخبار" "ما دام المنهي عنه لعينه غير مشروع لا ينهى عنه بل ينفي". الأدلة: استدل الأولون: وهو المستدلون على عدم فساد المنهي عنه لغة وشرعا بما يأتي وإن كان لا ..... = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 ........................................................................   = يلزم إقامة دليل على دعواهم لأنهم نافون والنافي لا يلزم بإقامة الدليل فإن أقامه كان متبرعا بخلاف المثبت فإنه يلزمه الدليل لإثبات دعواه فالنافي لم يدع فلم يطالب بدليل". لو دل النهي على الفساد لكان ناقصا بالتصريح بالمنهي عنه بكن الثاني منتف فانتفى الأول وهو الدلالة على الفساد وثبت نقيضه وهو عدم الدلالة وهو المطلوب "أتى بدعوى الخصم ورتب عليها وأبطل المرتب فتبطل دعوى الخصم وتثبت دعواه وهذا دليل الخلف" قوله "لكان ناقصا..الخ" رأى لو دل على الفساد لتناقض مع لا تكتب وإن كتبت صح "ما دام لم يدل على الفساد يثبت أنه ممكن أن: أ - يدل على الصحة ب - لا دلالة له أي مجرد الكف عن الفعل ولذلك قال: عدم الدلالة ولم يقل الصحة" أما الملازمة فظاهرة "فإن أقام عليها الدليل فهو متبرع ما دامت ظاهرة" لأن الدلالة على الفساد تناقض التصريح بالصحة من غير شك ولا مراء "قوله من غير شك..الخ" وجه كونها ظاهرة فكأنه قال فاسد صحيح وهو تناقض". وأما الاستثنائية: فلأنه يصح لغة وشرعا أن يقول: نهيتك عن الربا لعينه ولو فعلت لعاقبتك لكنه يحصل به الملك "فصح مع النهي التصريح بالصحة". ويجاب بمنع الملازمة "الجملة الشرطية" لأن قيام الدليل الظاهر وهو النهي على معنى وهو الدلالة على الفساد لا يمنع التصريح بخلافه بل التصريح يكون قرينة صارفة عن الحمل على الظاهر الذي يجب الحمل عليه عند التجرد عن القرينة "التصريح بالصحة مع النهي قرينة صارفة للنهي من الفساد إلى غير فلا تناقض" "أي من الدلالة على الفساد إلى غيره" "لولا القرينة لوجب حمل دلالته على الفساد". واستدل قسم من أصحاب المذهب الثاني وهو القائل على دلالته على الفساد شرعا أما أنه لا يدل على الفساد لغة فلأن فساد الشيء عبارة عن سلب أحكامه أي عدم ترتب ثمرته وآثاره عليه وليس في لفظ النهي ما يدل عليه لغة قطعا إذ لو دل عليه لغة لكان في قول القائل لا تبع هذا ولو فعلت لعاقبتك "ولكن يترتب على الفعل أحكامه" تناقض وليس بتناقض اتفاقا "في اللغة" وأما أنه يدل على الفساد شرعا فلما يأتي: أولا: لو لم تكن العبادة المنهي عنها فاسدة لكانت مأمورا بها "يقابل الفساد الصحة" "واجتماع النقيضين باطل" لأن الصحيح ما وافق الأمر لكنها وقت النهي ليست مأمورا بها وإلا لزم أن تكون مأمورة الفعل بالأمر ومطلوبة النهي بالترك وهو جمع بين الضدين "وقت النهي تكون مأمورا بها للصحة ومنهي عنها للفساد وهو باطل". ثانيا: إن علماء الأمصار في جميع الأزمنة تمسكوا في استدلالهم على فساد الربا بمجرد النهي عنه من غير نكير عليهم من أحد فكان ذلك إجماعا وإذا ثبت دليل الفساد في النهي عن الربا وهو لأمر خارج لازم للعقد ثبت في غيره مما كان فيه النهي لذات العقد أو لأمر داخل فيه من باب أولى. ثالثا: لو لم يفسد الفعل المنهي عنه لزم من نفيه حكمة يدل عليها النهي ومن ثبوته يدل عليها ............ = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 [بمصلح المتكلمين] 1 [واختلف هؤلاء] 2 فيما بينهم فقال بعضهم أن كان فى فعل المنهى إخلال بشرط فى صحته أن كان عبادة أو فى نفوذه أن كان عقدا وجب القضاء بفساده وأن لم يكن فيه إخلال بما ذكرناه لم يجب القضاء بفساده. وقال بعضهم أن كان النهى يختص بالفعل المنهى عنه كالصلاة فى المكان النجس اقتضى الفساد وأن لم يختص بالمنهى عنه كالصلاة فى الدار المغصوبة لم يقتض الفساد. وقال بعضهم أن كان النهى عن الشىء المعنى فى عينه أوجب الفساد وأن كان المعنى فى غيره لا يوجب الفساد. وأما المعروف عن طريقة أبى زيد فى هذه المسألة. قالوا: النهى المطلق نوعان نهى عن الأفعال الحسية مثل الزنا والقتل وشرب الخمر ونهى عن التصرفات الشرعية مثل الصوم والصلاة والبيع. والنهى عن الأفعال الحسية دليل على كونها قبيحة فى نفسها لمعنى فى أعيانها إلا أن يقوم دليل على ذلك. وأما النهى المطلق من التصرفات الشرعية فيقتضى قبحا لمعنى فى غير المنهى عنه. لكن متصلا.   = الصحة "للمنهي عنه" "يترتب أمران: أ - النهي إن لم يدل على الفساد يكون لحكمة. ب- وما دام لم يدل على الفساد يكون صحيحا وحكمة الصحة غير حكمة النهي" واللازم باطل لأن الحكمتين إن كانتا متساويتين تعارضا "حكمة من الصحة وحكمة من النهي" وتساقطتا وكان فعله كلا فعل "فانقلب إلى كونه مباحا" فامتنع النهي عنه لخلوه عن الحكمة وإن كانت حكمة النهي مرجوحة فأولى "أي بعدم النهي" لفوات الزائل من مصلحة الصحة وهي مصلحة خالصة وإن كانت راجحة امتنعت الصحة لخلوها عن المصلحة ايضا بل لفوات الرجحان من مصلحة النهي وأنها مصلحة خالصة فيدل على الفسادهنا "إن تساوت الحكمتان تساقطتا ولم يدل على الفساد لأنه امتنع النهي لخلوه عن الحكمة لمعارضتها لحكمة الصحة فلم يصح النهي لخلوه عن الحكمة" "وهي أي الصحة مصلحة خالصة لم يتعارض مع حكمة النهي عند رجحان الصحة والفساد مصلحة خالصة أي لم يتعارض مع حكمة الصحة "عند رجحان الفساد" انظر نهاية السول 2/295 انظر المحصول 1/349 انظر إحاكم الأحكام 2/275 انظر المعتمد 1/170 انظر القواعد لابن اللحام 253 انظر أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/185 ومما أملاه الشيخ الحسيني الشيخ في محاضرته في كلية الشريعة جامعة الأزهر قسم الدراسات العليا. 1 غير مقروءة في الأصل فلعل الصواب ما أثبتناه. 2 زيادة يقتضيها السياق ليست في الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 بالمنهى عنه فيتبقى صفة المشروعية عن المنهى من وجه مع تصوره فى نفسه وبقاء حقيقته وربما يعبرون عن هذا فيقولون يخرج عن المشروعية بوصفه ويبقى مشروعا بأصله وبيان هذا قد ذكروه فى مسائل الخلاف. وأما حجة من يقولون أن النهى لا يقتضى فساد المنهى عنه قالوا: الحال لا يخلوا أما أن يكون النهى مقتضيا فساد المنهى عنه من حيث لفظ النهى ووضعه لغة ومن حيث الشرع أو من حيث النظر إلى معناه. فأما الأول فباطل لأن النهى طلب ترك الفعل والأمر طلب الفعل لغة وهذا لايدل على فساد ولا على صحة لأن الفساد والصحة أمران شرعيان لا يعرفان من حيث اللغة بحال ولا يدل عليهما من جهة اللفظ بوجه ما. وأما الثانى فهو باطل أيضا لأن الفساد من حيث الشرع لا يعرف إلا بنقل ولا نقل عن السماع فى فساد المنهى عنه بالنهى شرعا ولو كان لعثرنا عليه بالبحث وقد بحثنا فلم نجده يدل عليه أنا رأينا مناهى وردت فى الشرع ولم تقتض فساد المنهى عنه والدليل عليه الصلاة فى الأرض المغصوبة فإنها منهى عنها وليست بفاسدة وكذلك البيع وقت النداء وكذلك الطلاق فى حال الحيض منهى عنه ومع ذلك هو واقع محكوم بصحته ووقوعه وكذلك البيع فى آخر وقت الصلاة منهى عنه وهو جائز وكذلك الإحرام محكوم بالنهى عنه وهو منعقد وقد قال بعض من نصر هذا القول أنه لابد من معرفة معنى الفاسد والصحيح فإن فى معرفة معناه زوال معظم الشغل فى المسألة. قالوا: ومعنى الفاسد أنه لايقع موقع الصحيح فى الحكم بحال حتى استعمل فى الصلاة والصيام أفاد أن القضاء واجب وإذا استعمل فى العقود أفاد أن التمليك لايقع بها وإذا استعمل فى الإيقاعات من الطلاق والعتاق أفاد أن لاعضل وإذا استعمل فى الشهادة أفاد أن الحاكم لا يحكم بها وأما معنى الجواز فعلى الضد من هذا فيفيد استعماله فى الصلاة والصيام سقوط القضاء وفى العقود وقوع الملك وفى الإيقاعات حصولها وفى الشهادة يفيد أن القاضى بها إذا عرفنا معنى الفساد والجواز ليس فى المنهى دليل على أنه إذا فعل المنهى لا يقع موقع الصحيح فى الحكم لأنه من حيث صيغته ليس إلا طلب ترك الفعل ومن حيث المعنى يدل على كراهة الناهى لفعل المنهى عنه أو يدل على القبح لأن الناهى إذا كان حكيما فلا بد أن يكون المنهى قبيحا وإلا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 لم يحسن النهى بقبح المنهى وكراهة الناهى له لا يدل على فساده من حيث الحكم بدليل المسائل التى قدمنا. ويدل عليه أن الذبح بالسكين المغصوب منهى عنه وكذلك التوضؤ بالماء المغصوب وقد وقعا مواقع الصحيح فثبت أن النهى لا يدل على الفساد لا من حيث الصيغة ولا من حيث الشرع ولا من حيث المعنى. قالوا: ولأن النهى إذا أفاد الفساد لكان ما لا يفسد من الأفعال القبيحة لا يكون منهيا عنه على التحقيق لأن اللفظ المستعمل فى غير ما وضع له يكون مجازا ولا يكون حقيقة. وقد قال بعضهم أن لفظ النهى لغوى والفساد معنى شرعى ولا يجوز أن يكون اللفظ اللغوى موضوعا له لأن أهل اللسان قد تكلموا بهذا ولم يعرفوا شرعا ما يدل أنه لا يجوز أن يقتضيه لفظ النهى قال ولا يجوز أن يكون الفساد من حيث القبح لأن قبح الشيء لا ينافى ثبوت الحكم لا محالة لأن الحكم قد نهى عن الشيء لنوع مفسدة معلق به وأن وقع موقع الصحيح فى الحكم وذلك أن يتشاغل به عن واجب مثل البيع مع تعين السعى إلى الجمعة أو مع تعين التحريم عليه أو تعين إنقاذ غريق أو حريق وإذا أكن هذا لم يأمن أن يكون النهى عن البيع أو الطلاق وغيرهما كان لغرض سوى أن أحكامها لا تثبت وإذا جاز ذلك لم يقتض صحة الفساد وأما أبو زيد فالذى يحضرنى من كلامه فى هذه المسألة هو أن النهى لا يصح عن غير المتكون لأن النهى يرد والمراد به انعدام الفعل مضافا إلى اختيار العباد وكسبهم فلا بد من أن يكون المنهى عنه ليكون العبد مبتلى بين أن يكف عنه باختياره فيثاب عليه وبين أن يفعله باختياره فيعاقب عليه فثبت أن النهى لا يتصور إلا من متكون من العبد قالوا: ولهذا لا يصح أن يقال للأعمى لا تبصر وللأدمى لا تنظر لأنه لا يكون منه ويجوز أن يقال للبصير لا تبصر كذا وكذلك للسميع لا تسمع كذا لأنه يتكون منه وربما يعبرون عما قلنا فيقولون أن النهى لطلب الامتناع من المنهى عنه فلا بد من تصور المنهى عنه حتى يتحقق النهى عنه فعلى هذا المنهى عنه الصوم فى يومى العيد وأيام التشريق والبيع أيضا هو المنهى عنه مع الشرط الفاسد وكذلك الصلاة عند غروب الشمس والصوم اسم لفعل مخصوص وكذلك الصلاة والبيع اسم لقول مخصوص وهو الذى جعل سببا للملك شرعا فوجب تصور الصوم والصلاة والبيع بعد النهى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 ليتحقق النهى عنه شرعا قالوا: ولا يجوز أن يقال أنه تصور صورة الإمساك وصورة أفعال الصلاة وصورة الإيجاب والقبول لأن الصوم إنما صار صوما بصورته ومعناه وكذلك الصلاة وكذلك البيع والمعنى فى الصلاة والصوم كونه صلاة وصوما فى حكم الله تعالى والمعنى فى البيع كونه مفيدا للملك فإذا لم يوجد هذا المعنى فى هذه الأشياء لم توجد هذه الأشياء أصلا وقد بينا أنه لا بد من تصور المنهى عنه ليصبح النهى. والحرف أن الذى يحقق موجودا ليس بصلاة ولا صوم ولا بيع قالوا: والفسخ ينزل من النهى فى طرف مناقض له لأن النهى إعدام الشيء بفعل العبد فأما الفسخ فهو إعدام الشىء مشروعا لينعدم فعل العبد لا نعدامه مشروعا والنهى لا لا نعدام المشروعية بل لينعدم الشىء بفعل العبد مع بقاء المشروعية. قالوا: أما كون المنهى عنه محظورا فلا ينافى المشروعية لأنه يجوز أن يكون الشيء مشروعا من وجه محظورا من وجه فصار المفعول مشتملا على حظرية ومشروعية وإنما أثبتنا المشروعية مع الحظر لأجل الضرورة على ما سبق فإن قلتم أن نص الشارع على هذا لا يجوز مثل أن نقول حظرت عليك هذا الشىء وشرعته لك فلا يجوز وعلى أنه يجوز أن ثبت بطريق ما لا يثبت بطريق التنصيص وهذا كالأمر بالشىء نهى عن ضده وكذلك النهى عن الشىء أمر بضده إذا كان له ضد واحد فصار الشرع من مقتضيات النهى ضرورة والحظر من مقتضيات الأمر ضرورة وأن كان لا يجوز ذلك بطريق التنصيص وعلى أن الشىء الواحد يجوز أن يكون مشروعا من وجه محظورا من وجه بدليل المسائل التى قلناها وكذلك وطء الأب جارية ابنه ووطء أحد الشريكين الجارية المشتركة. وقال بعضهم القبح صفة قائمة بالمنهى فكان تابعا فلا يجوز إثباته على وجه يبطل به ما أوجبه واقتضاه. وبيان هذا أن النهى أوجب القبح فإذا أثبتناه على وجه يفسد به المنهى عنه وفى فساد المنهى عنه فساد النهى على ما سبق. كما أثبتناه على وجه يبطل به ما اقتضاه وأوجبه فعملنا بالأصل وهو النهى على ما يتصور معه المنهى وعملنا بالمقتضى وهو الفسخ بقدر الإمكان وهو أن نجعل المنهى عنه غير مشروع بوصفه لأن القبح وصف يبطل المشروعية من حيث الوصف فأبقينا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 المشروعية فى أصله لئلا نبطل أصل النهى فهذا غاية الإمكان فى إظهار العمل بالدليلين. فإن قلتم كيف يحتمل المشروع وصف الصلاة. قلنا قد يحتمل بدليل المسائل التى قدمناها ولأن العبرة بالدليل لا بالاستبعاد وخرجوا على هذا الأصل مسائل مثل مسألة البيع الفاسد ومسألة صوم يومى العيد وأيام التشريق وكذلك الصلاة فى الأوقات المنهى عنها وقد ذكرنا وجه كلامهم فى ذلك فى مسائل الفروع ولا معنى لذكرها هنا. وأما حجتنا فى المسألة قوله صلى الله عليه وسلم: "من أدخل فى ديننا ما ليس فيه فهو رد" 1 روته عائشة رضى الله عنها وغيرها والخبر فى الصحيحين والمنهى عنه ليس بداخل فى الدين فيكون مردودا باطلا وسؤالهم على هذا هو أن معنى قوله صلى الله عليه وسلم فهو رد أى غير مقبول ولا يثاب عليه. والجواب أن الظاهر من قوله رد هو بمعنى الإبطال والإعدام كما يقال رد فلان على فلان ماله أى أعدم يده وقوته أو ثبت يد المردود عليه وأوجده وإذا كان الظاهر هذا لم يجز أن يحمل عليه إلا بدليل ولأنا أجمعنا على أن النهى يقتضى حرمة المنهى عنه وحظره ولهذا المعنى إذا ارتكبه يأثم وإذا صار محظورا لا يبقى مشروعا لأن المشروع هو المطلق فعله فى الشرع وهذا أدنى درجات المشروعية والمحظور هو الممنوع عنه فى الشرع فيستحيل أن يكون الشىء الواحد محظورا ومشروعا ببينة أن الله تعالى قد نص على التحريم فى الربا بقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة: 275] والمحرم ما يجب الامتناع عنه وإذا وجب الامتناع عنه لم يجز أن يكون مشروعا لما بينا أن أقل درجات المشروع هو الندب أو الإباحة إذا لم يكن عقد الربا مشروعا لم يثبت الملك المشروع لأن الملك المشروع لا يثبت إلا بالعقد المشروع وتحقيق ما ذكرنا فإن البياعات والأنكحة وسائر العقود ما عرفناها إلا بالشرع فإنه لولا الشرع لم يعرف شىء من هذه العقود وقد شرع الله تعالى هذه العقود على شرط مخصوص فى محل مخصوص من فاعل مخصوص فما وراء ذلك غير مشروع أصلا وهذا لأن الأصل لما كان هو عدم المشروعية فإذا شرع عقدا على وجه فما كان على.   1 أخرجه البخاري في الصلح 5/355 الحديث 2697 ومسلم في الأقضية 3/1343 الحديث 17/1718. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 غير ذلك الوجه بقى على العدم وإذا بقى على العدم لا يصلح لثبوت حكم شرعى. فإذا قالوا: أن قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة: 275] يتناول كل ما يسمى بيعا فيجب أن لايوجد بيع ما إلا وهو داخل تحت الأية فإذا وردت السنة بزيادة شرط أو تسمية محل فلا يخرج العقد من كونه بيعا لظاهر الأية فإذا كان بيعا دخل تحت المشروعية. قالوا: وعلى أن صحة البيع تعرف بالفعل ولو لم يرد شرع بالبيع لكنا نعرف بالعقل أن من كان له ملك فى شيء فجعله لغيره يصير لذلك الغير وإذا عرف بالعقل لم يكن عدم ورود المشروع دليلا على انعدامه. والجواب أما الأية قلنا معنى الأية: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} على ما ورد به بيان السنة. والدليل عليه أنه لايحل إلا على ذلك الوجه الذى وردت به السنة ولأنه تعالى قد قال عقبه: {وَحَرَّمَ الرِّبا} وعندهم الربا عقد منعقد مقيد للملك على ما ينعقل غير الربا ويفيده. وأما قولهم أن صحة البيع تعرف بالعقل. قلنا هذا محال لأن البياعات عقود شرعية بإجماع الأمة والعقود الشرعية لا تعرف إلا بالشرع ثم نقول أن سلم لكل مسلم أن البيع وإفادته الملك كان يعرف بالعقل لكنا لم نترك العقل بل رددنا إلى الشرع وقد صارت البياعات شرعية بإجماع الأمة. ألا ترى أن جواز الإقدام على البيع وغيره كان يعرف بالعقل والأن قد ارتفع ذلك حتى لا يجوز الإقدام على عقد ما إلا إذا كان على مايوافق الشرع وإذا صارت شرعية ظهر ما قلنا أن ما لم يرد به الشرع بقى على عدم المشروعية ولا يجوز أن يفيد حكما شرعيا بحال. واعلم أن هذا الذى قلناه ظاهر فى البياعات والأنكحة وسائر العقود وهو فى العبادات أظهر وذلك لأن المفعول عبادة فإذا كان منهيا عنه لم يكن عبادة ولأن العبادة ما يتناوله المتعبد من المعبود والمنهى عنه لا يتناوله المتعبد فلا يكون عبادة. ويمكن أن يقال ما لا يتناوله المتعبد لا يسقط التعبد وإنما قلنا أن المنهى عنه لا يتناوله المتعبد لأن التعبد ما يتناول ماله صفة زائدة على حسنه والمنهى عنه لا يكون حسنا فكيف تثبت له صفة زائدة على الحسن وجميع ما ذكرناه فى كلامهم يمكن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 إخراجه على طريق السؤال على هذه الطريقة وسنجيب عن الكل. واحتج بعض أصحابنا بأن النهى ضد الأمر ويقتضيه والأمر يدل على إجزاء المأمور به فيجب أن يدل المنهى على عدم اجزائه وإلا لم يكن ضده ولا يقتضيه وقد قالوا: على هذا أن الأمر لما دل على أجزاء المأمور به فالنهى الذى هو ضده لا يدل على إجزاء المنهى عنه فقد ثبتت المخالفة والمضادة من هذا الوجه ونحن وأن قلنا أن المنهى عنه يجزىء فلا نحكم لإجزائه لمكان النهى وقالوا: على قولنا أن المنهى عنه لو كان مجزئا لكان طريق الشرع والشرع أما إيجاب أو ندب أو إباحة والنهى نفى جميع هذا. قالوا: لا يمتنع أن يثبت الإجزاء مع انتفاء هذه الوجوه. ألا ترى أنه يجوز أن تقول إذا فعلتم ما نهيتكم أجزأكم عن الغرض أو نقول إذا بعتم ما نهيتكم عنه وقع به الملك فإذا جاز هذا تصريحا جاز وأن لم يصرح به. ونحن نجيب عن هذا فنقول ما قلتم من التصريح على ما قلتم لا يجوز وأن ورد على ذلك فيكون النهى [مجازا] 1 ولا يكون له حقيقة وإذا ثبت هذا الأصل الذى قلناه خرجت عليه المسائل من مسألة البيع الفاسد ومسألة صوم يومى العيد وأيام التشريق وقد ذكرنا وجه ذلك فى الفروع. وأما الجواب عن كلماتهم أما الأول فقد قسموا وقالوا: النهى يدل على فساد المنهى عنه بصيغة النهى وبمعناه أو شرعا هذا تقسيم باطل لأنا بينا وجه فساد المنهى عنه فينبغى أن يكون الكلام على ذلك ويمكن أن يقال بصيغته لأن صيغته تدل على عموم المشروعية لأن المشروعية [بأمر وإباحة] 2 والنهى نفى ذلك ويمكن أن يقابل بمعناه لأنه قد دل النهى على قبح المنهى عنه وحظره وهذا مضاد للمشروعية. وقولهم يجوز أن يكون الشىء مشروعا من وجه ومحظورا من وجه. قلنا قد ورد النهى عن نفس الشىء مطلقا فصار محظورا مطلقا وإذا صار محظورا مطلقا لم يبق مشروعا بوجه ما. وقولهم أن النهى ليس إلا طلب الكف عن الفعل قلنا بلى ولكن قد دل على الفساد بالوجه الذى قلنا.   1 ثبت في الأصل [مجاز] بالرفع. 2 ما بين المعكوفين غير مقروء في الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 والأولى أن لا ندعى الفساد بصيغة النهى لكن نقول إنما جاء الفساد من حيث معنى النهى وذلك المعنى على ما سبق. وأما قولهم أن معنى الفاسد كذا ومعنى الجائز كذا. قلنا قد قام الدليل أن القضاء يجب بأمر جديد فكيف يكون معنى الفاسد مع أنه يجب قضاؤه والقضاء لا يجب بالأمر الأول بحال وليس هذا بشيء. وقولهم أنه يجوز أن النهى عن الشىء لنوع مفسدة تتصل بالمفعول وأن كان هو فى نفسه جائز. قلنا النهى عن نفس الشىء لا يكون إلا لمفسدة فى عينه فلا يتصور أن يكون جائزا وهذا لأنه إذا ورد النهى عن نفس الشىء فإن كان عبادة انتفى منه التعبد وأن كان من عقود المعاملات انتفى منها الإطلاق والإباحة وما لا يكون مباحا لا يكون مشروعا وإذا لم يكن مشروعا لم يبن عليه حكم الشرع. وأما قولهم أن النهى صيغة لغوية والجواز والفساد شرعيان. قلنا وأن كان النهى لغة لكن عرفنا أن أهل اللسان عقلوا أن ذلك لما لا يتصل به المطلوب بالفعل والأمر لما يتصل به المطلوب بالفعل ثم قد ذكرنا أن النهى إنما نفى الشرع بالوجه الذى سبق ذكره. وأما المسائل التى تعلقوا بها فنقول أولا أن الأصول الممهدة من الشرع لا تنتقض لأنه ما من أصل من أصول الشرع إلا وقد وجدنا له موضعا فى الشرع مخالفا له غير أن ذلك لا يعد نقضا لذلك الأصل المشروع الموضوع وإنما عدل فى ذلك الموضع عن ذلك الأصل بدليل يقوم عليه من إجماع ونص أو غير ذلك. ببينة: أن النهى فى اقتضاء الفساد كهو فى اقتضاء التحريم وقد يعدل به من التحريم إلى التنزيه ولا يخرج النهى من أن يكون دالا على التحريم فكذا تصور النهى فى بعض المواضع عن الفساد لوجود القرائن المانعة من الفساد لا يدل على أن النهى فى وضعه لا يدل على الفساد وأمثال هذا يكثر ثم نقول أن النهى إذا ورد عن نفس الشىء حقيقة فلا بد أن يوجب فساد المنهى عنه. فأما إذا كان النهى واردا عن نفس الشىء لكن عن معنى آخر غيره وأضيف إلى الشىء مجازا عن ذلك المعنى فإنه لا يوجب فساد المنهى عنه وعلى هذا تخرج المسائل أما الصلاة فى الأرض المغصوبة فالنهى ليس عن الصلاة لكن عن شغل أرض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 الغير وهذا يوجب النهى عن التعدى فى أرض الغير بلا صلاة وقد بينا هذا فيما سبق فلا نعيد وكذلك الطلاق فى حال الحيض فإن النهى ليس لنفس الطلاق لكن لإلحاق الضرر بالمرأة ولهذا يوجد الطلاق فى حال الحيض ولا يكره إذا لم يؤد إلى الضرر وهو أن يطلق فى حال الحيض قبل الدخول وكذلك الوطء فى حال الحيض إنما نهى عنه لا لنفس الوطء [بل] 1 لمباشرة الأذى وقد ورد النص بهذا المعنى وعلى هذا البيع وقت النداء إنما نهى عنه للاشتغال به عن السعى إلا ترى [أنه] 2 لو اشتغل بشىء آخر غير البيع كان النهى متناولا إياه وأما فى سائر ماورد به النهى فقد تناول نفس الشىء فإن النهى عن البيع بالخمر نهى عن نفس البيع وكذلك بيع الدرهم بالدرهمين وكذلك النكاح بغير شهوة وعلى هذا النهى عن صوم يومى العيد وأيام التشريق بدليل أنه لا يتصور وجود النهى إلا عند نقل هذه العقود. والحرف أنه لا يتصور ارتكاب البيع بالخمر إلا عند مباشرة بيع الخمر ولا يتصور ارتكاب الربا إلا عند بيع الدرهم بالدرهمين وكذلك فى البيع بشرط فاسد لا يوجد ارتكاب ذلك النهى إلا عند وجود البيع وكذلك فى صوم يومى العيد لا يوجد ارتكاب النهى إلا عند فعل الصوم بالنية مع الإمساك حتى لو أمسك ولم ينو الصوم فإنه لا يكون مرتكبا للنهى وفى المسائل التى أوردها يتصور ارتكاب النهى من غير وجود تلك العقود أصلا وهذا جواب معتمد فى غاية الظهور وفيه غنى عن خبط كثير من الأصحاب فيها وأما الإحرام مجامعا فينعقد لا على ما ينعقد إذا أحرم من غير مجامع لأنه ينعقد فاسدا ولأنه لا يفيد المقصود من الخروج عن المفروض عليه والنقص عن عهدته فليكن سائر العقود الفاسدة كذلك النهى لا يفيد المطلوب من الملك فى البيع والحل فى النكاح والخروج عن عهدة النذر فى صوم يومى العيد وأيام التشريق خلاف ما يقوله الخصم فإنهم قالوا: إذا نذر صوم هذه الأيام وفعلها خرج من عهدة النذر فإن قالوا: أليس قد انعقد الإحرام مع هذا كله فهلا قلتم أنه لا ينعقد أصلا قلنا انعقاده على الفساد وإلزامه أفعاله يجرى مجرى نوع معاقبة من الشرع والمؤأخذات من الشرع على أنواع فيجوز أن يقال يكون هذا الأصل وإيقاع المرء فى عهدة أفعال الحج ليفعلها ولا يسقط بها الحج عن ذمة ولا يثاب على فعلها نوع معاقبة من الله تعالى له.   1 زيادة يستقيم بها المعنى. 2 ريادة ليست في الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 لارتكابه النهى وفعله الحج على وجه المعصية فلم تدخل هذه المسألة على الأصل الذى قلناه. وأما طريقة أبى زيد فاعلم أن معتمده فى طريقته هو أن النهى لا يتحقق إلا مع تصور المنهى عنه فقد قال الأصحاب أنه متصور لولا النهى فلتصوره لولا النهى صح النهى والنهى يعمل عمله على ما قدمناه ويمكن أن يعبر عن هذا فيقال أن النهى لإعدام الشىء شرعا لا لإعدامه حسا فلما أنه متصور حسا صح النهى عنه ولما أن النهى قضيته نفى المشروعية عن المنهى عنه على ما سبق انعدم شرعا. وقولهم أن المنهى عنه هو الصوم المعلوم والبيع المعلوم فى الشرع وأما مجرد الإمساك فليس بصوم ولو كان صوما فهو صوم لغة لا شرعا فوجب الحكم بتصور الصوم حقيقة والبيع حقيقة حتى يصح النهى وجوز الأصحاب من هذا ما قلناه أنه قد يتصور لولا النهى فهذا لا يدفع الإشكال فليس مما يقنع به الخصم ويمكن أن يجاب فيقال الصوم الذى هو فعل العبد ليس إلا النية مع الإمساك وهذا متصور من العبد وقد صح النهى لتصوره منه وأما خروجه عن كونه صوما شرعا ليس لمعنى من قبله لكن لعدم إطلاق الشرع ذلك أو يقال لعدم قبول الشرع إياه لنهيه عنه والصوم لا يكون صوما إلا بفعل العبد واتصال أمر الشرع به فصار المفعول صوما من حيث النظر إلى فعل العبد وصح النهى لذلك ولم يكن صوما من حيث النظر إلى إطلاق الشرع كذلك أوامره به وليس غرض الحكيم من كلامه إلا تحصيل النهى فإذا تحقق النهى بما قلناه حتى إذا ارتكبه كان عاصيا لارتكابه النهى فاعلا ما منع منه وحظر عليه والمنهى عنه ما يعاقب على فعله وقد وجد بما فعله العبد على وسعه وطاقته وليس فى وسعه الصوم إلا بهذا الذى وجد منه وإذا ثبت تحقق النهى يسقط ما قالوه جملة وهذا لأن الصحة والفساد معنيان متلقيان من الشرع وليس إلى العبد ذلك وإنما العبد ذلك إيقاع الفعل باختياره فإن وقع فعله على وفق أمر الشرع صح شرعا وانبنت عليه الأحكام الشرعية وإذا وقع على خلاف أمر الشرع كان الأمر باطلا ولم يبتن عليه الأحكام الشرعية ولهذا أبطلنا صوم الليل مع تحقق الإمساك الحسى فيه عن المفطرات وكذلك إمساك المرأة عن المفطرات فى حال حيضها متحقق حسا وصورة ولكن لما لم يوافق أمر الشرع لم يثبت له الحقيقة الشرعية. ونقول أيضا ذكر الصوم والبيع وغير ذلك فى النهى ليس لتحقيق هذه العقود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 ولكن ذكرها لتعريف مايعمل فيه النهى من الإبطال الشرعى وهذا كالنهى عن بيع الحر وعن بيع الخمر وعن بيع الملاقيح والمضامين [و] 1 ليس ذلك لتحقيق البيع ولكن لتعريف ما وقع القصد إلى إفساده وإبطاله. وإن قالوا: فالصوم والبيع لا يكون منهيا عنه إذا قلنا هو منهى عنه لأن عمل النهى ظهر فيه من فساده وإبطاله ولكن ذكره لم يدل على تحقيقه فى نفسه لأنه لتعريف ما يبطل ويفسد على ما ذكرنا وأما كلامهم على فصل القبح والحظرية فضعيف جدا ومتى سلم أن المفعول محظور لا بد أن يخرج عن كونه مشروعا وقولهم محظور من وجه مشروع من وجه. قلنا هذا محال لأن الحظرية بالنهى والمشروعية بإطلاق الشرع وإذا لم يتصور اجتماع المنع والإطلاق فى شىء واحد لم يتصور أيضا اجتماع حكمهما فيه. وأما وطء أحد الشريكين الجارية المشتركة. فنقول أنه محظور من كل وجه إلا أنه سقط الحد وثبت النسب لوجود الملك فى بعض الجارية لوجود حق الملك للأب فثبت ما ثبت من سقوط الحد وثبوت النسب لوجود نفس الملك أو لوجود نفس حق الملك لا لأجل أن الوطء صار مشروعا من وجه وكذلك الوطء فى النكاح الفاسد لا نقول أنه مشروع بوجه إذا سقط الحد وثبت النسب لاختلاف العلماء. وفى مسألة ما إذا زفت إليه غير امرأته لأجل الاشتباه الذى وجد فيه وهذا لأنه لما أقدم على الوطء على قصد أنه حلال له وهو موضع يشتبه فيه الأمر فلم يستحق عليه الحد الذى هو عقوبة وثبت النسب احتياطا فهذا وجه الكلام فى هذه المسألة وقد بسطنا الكلام فيها زيادة بسط لوقوع الحاجة إليه فى كثير من المسائل والله المرشد للحق والهادى إلى الإصابة بمنه وعونه تم باب الأوامر والنواهى. وقد قال بعض أصحابنا أن النهى يكون بمعنى النفى فى كثير من المواضع وضرب لذلك أمثلة غير أن ذلك غير مرضى فى هذه المسألة لأنه يؤدى إلى الحكم بكون المنهى مجازا فى نفسه إذ النهى والنفى بابان مختلفان وإنما ينبغى أن نتكلم فى هذه المسألة مع تبقية النهى على حقيقته وقد ذكرنا بغاية المجهود بعون الله وتوفيقه.   1 سقط من الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 القول في العموم والخصوص مدخل ... القول في العموم والخصوص. اعلم أن الكلام العام هو كلام مستغرق لجميع ما يصلح له هذا هو المعقول من كون الكلام عاما. ألا ترى أن قولنا الرجال مستغرق لجميع ما يصلح له لأنه يستغرق الرجال دون غيرهم إذا كان لا يصلح لغيرهم وكذلك لفظة من فى الاستفهام نحو قول القائل لغيره من عندك فلأنها تستغرق كل عاقل عنده ولا يتعرض لغير العقلاء ولا لعقلاء ليسوا عنده لأنها لا تصلح فى هذه المواضع لهم وكذلك قولنا كل تستغرق كل جنس يدخل عليه ولا يتناول من لا يدخل عليه لأنه لا يصلح له. وقد قال بعض أصحابنا العموم كل لفظ عم شيئين فصاعدا وقيل ما استقل لفظه بنفسه ولا يشتمل على مسميات بجنسه وقد يستعمل فى شيئين ويستعمل فى جميع الجنس. أما الأول فكقولك عممت زيدا وعمرا بالعطاء. وأما الثاني فكقولك عممت الناس بالعطاء وإذا عرف حد العموم فتبين أولا إثبات الصيغة للعموم فى اللغة والشريعة ثم نذكر عقبه ما يتلوه من الفصول المذهبية والمسائل الخلافية أن شاء الله تعالى. مسألة للعموم صيغة مقتضية استيعاب الجنس لغة وشرعا. وهذا قول جملة الفقهاء وكثير من المتكلمين. وقال أبو الحسن الأشعري ومن تبعه أنه ليس للعموم صيغة موضوعة في اللغة والألفاظ التى ترد فى الباب تحتمل العموم والخصوص فإذا وردت وجب التوقف فيها حتى يدل الدليل على ما أريد بها1.   1 اعلم أن هذه المسألة هي المعنون عنها في كتب الأصول بأنه هل صيغ العموم حقيقة في العموم؟ فالعلماء الذين يعتد برأيهم اتفقوا على أن صيغ السابقة تستعمل في العموم واختلفوا هل استعمال هذه الصيغ في العموم حقيقة أو مجاز على خمسة أقوال: أحدها: الصيغ حقيقة في العموم مجاز في الخصوص - وإلى ذلك ذهب الشافعي وجمهور المعتزلة وكثير من الفقهاء واختاره ابن الحاجب والبيضاوي ...... = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 وتعلق من ذهب إلى ذلك بوجوه من الكلام أقواها فى الجدال قولهم أنه لو كان للعموم صيغة موضوعة لكان ذلك معلوما إما بالبديهة أو بإخبار الواضعين كذلك لنا أما بمشافهة أو بنقل عنهم أما بالتواتر أو بالآحاد أو أن يكون طريق ذلك الشرع. قالوا: وليس الخلاف معكم فى أن ذلك معلوم شرعا لأنكم تدعون العلم بالاستغراق من جهة اللغة قبل الشرع ومعلوم أن العلم فى ذلك ليس من حيث البديهة وما شاهدنا الواضعين ليشافهونا بذلك ولو تواتر النقل عنهم باستغراق ألفاظ العموم كعلمنا من ذلك كما علمتم وأخبار الآحاد ليست بطريق العلم فبان أنه لا طريق إلى العلم باستغراق ألفاظ العموم. وقالوا: أيضا هذه الألفاظ التى يدعون فيها الاستغراق تستعمل فى الاستيعاب وفيما دونه على وجه واحد فإنها ترد والمراد منها البعض وترد والمراد منها الكل وليس حملها على أحدهما بأولى من حملها على الآخر فوجب التوقف كما تقول فى الأسماء المشتركة من اللون والعين وغير ذلك بل هذه الألفاظ تستعمل فى أكثر هذه المواضع إلا فى البعض دون الكل. ألا ترى أنه يقال أغلق الناس أبوابهم وفتح الناس حوانيتهم وافتقر الناس وجاع الناس وجمع السلطان التجار وغير هذا والمراد من كل ذلك البعض دون الجميع ولو كان اللفظ حقيقة فى العموم لكان أكثر كلام الناس مجازا ببينة أنه إذا ثبت استعمال الناس لهذه الألفاظ فى الخصوص فالظاهر من استعمال الاسم فى الشىء أن يكون حقيقة فيه إلا أن يمنع مانع من كونه حقيقة فيه وإذا كان حقيقة فى البعض وحقيقة فى الاستيعاب كان الاسم من الأسماء المشتركة وقالوا: أيضا لو كان لفظ العموم للاستيعاب والاستغراق لكان الاستثناء منه نقصا ورجوعا.   = والثاني: الصيغ حقيقة في الخصوص مجاز في العموم. والثالث: صيغ العموم مشترك لفظي بين العموم والخصوص - وهو أحد قولين للأشعري. والرابع: الوقف وعدم الجزم لشيء مما سبق من الحقيقة أو المجاز وهو القول الثاني للأشعري ومختار القاضي أبي بكر الباقلاني. والخامس: صيغ العموم حقيقية في العموم في الأوامر والنواهي ولا يدرى أهي حقيقة في العموم أو مجاز فيه إذا كانت في الأخبار انظر نهاية السول 2/395 البرهان 1/32 المستصفى 2/35 إحكام الأحكام 2/293 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/209, 210. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 فإن قلتم لم يكن نقصا وقبيحا نقول لو لم يكن قول القائل ضربت كل من فى البلد إلا بنى تميم نقصا وقبيحا لكان قوله ضربت كل من فى الدار لم أضرب كل من فى الدار غير قبيح ولا مناقصة وحين كان نقصا وقبيحا كان الأول نقصا وقبيحا وربما تعلقوا بالاستثناء من وجه آخر فقالوا: لو كان لفظ العموم يستغرق لجرى للاستثناء منه مجرى أن يعدد الإنسان أشخاص الجنس ثم يستثنى منه شخصا نحو أن يقول: رأيت زيدا رأيت عمرا رأيت خالدا هكذا إلى آخره ثم نقول إلا زيدا فإذا قبح هذا وجب أن يقبح الأول لأنهما فى المعنى واحد على زعمكم ولما حسن الاستثناء علمنا أن لفظ العموم غير مفيد للشمول. وقالوا: أيضا لو كان لفظ العموم مستغرقا لكل الجنس لما حسن أن يستقيم المتكلم به لأن الاستفهام طلب الفهم وطلب فهم ما قد فهم بالخطاب عبث ومعلوم أن الإنسان إذا سمع رجلا يقول: ضربت كل من فى الدار فإنه يحسن منه أن يقول: ضربتهم كلهم أجمعين وأن يقول: ضربت زيدا فيهم وفى حسن ذلك دليل على ما قلناه كما سبق وكذلك يحسن التأكد وإذا أفاد الشمول لما حسن لأن التأكيد يفيد ما أفاده المؤكد وذكروا شبهة فى لفظ من قالوا: لو كان لفظ من يفيد الاستغراق لاستحال جمعه لأن الجمع يفيد أكثر مما يفيده المجموع وإذا كان لفظ من قد أفاد الاستيعاب عندكم فلا يتصور أن يفيد جمعه شيئا زائدا فينبغى أن لا يصح جمعه وحين صح جمعه دل أن لفظ من لا يفيد الاستيعاب بنفسه والدليل على وجود الجمع فى كلمة من قول الشاعر: أتوا [بابى] 1 فقلت: [من] 2 أنتم ... فقالوا: الجن قلت: عموا ظلاما قالوا: ولأن اللفظ الذى يقولون لو كان يفيد العموم وجب إذا حمل على الخصوص أن يكون مجازا لأنه يكون مستعملا فى غير ما وضع له واللفظ إذا استعمل فى غير ما وضع له يكون مجازا كسائر الألفاظ التى استعملت فى غير ما وضع لها وربما يقولون ينبغى أن لا يجوز تخصيص العموم الوارد فى الكتاب بالسنة لأنه إسقاط بعض ما يثبت بالكتاب والسنة أو القياس فينبغى أن لا يجوز كما لا يجوز النسخ وحين جاز دل على ما قلناه.   1 ثبت في الأصل "باري". 2 ثبت في الأصل "منون". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 وأما حجة القائلين بالصيغة للعموم قوله تعالى فى قصة نوح عليه السلام: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} [هود: 45] فأخبر الله تعالى عن نوح أنه تعلق بعموم اللفظ ولم يعقب ذلك بنكير بل ذكر جوابه له أنه ليس من أهلك أنه عمل غير صالح فدل أن مقتضى اللفظ العموم وأن له صيغة يتعلق بها فى الحجة وأيضا فإنه روى أنه لما نزل قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الانبياء:98] قال عبد الله بن الزبعرى خصمت محمدا ورب الكعبة فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال قد عبدت الملائكة وعبد المسيح فإن دخلوا النار فنحن ندخل كما دخلوا فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} 1 [الانبياء:101] فاحتج على النبي صلى الله عليه وسلم بعموم اللفظ إلى أن أخبر الله تعالى أن الملائكة والمسيح غير داخلان فى عموم اللفظ ولو كان اللفظ لا يقتضى العموم لما احتج به ولكان إذا احتج به أنكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ولأن الله تعالى أخبر أنه أمر الملائكة بالسجود لآدم عليه السلام فقال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ} [الأعراف: 11] ثم أخبر ما قال لإبليس بترك السجود ورد الأمر وهو قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ} [صّ: 75] وقال: {فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} [الأعراف: 13] فلما أخبر تعالى عن مبادرة الملائكة إلى السجود دل أنهم عقلوا من مطلق اللفظ الشمول إذ لولاه لتوقفوا ولم يبادروا ولأن إبليس لما امتنع عن السجود واستكبر وعاقبه الله تعالى وطرده لم يقل معتذرا إنى لم أعرف دخولى فى اللفظ فإن الكلام للعموم والشمول بل عدل إلى شىء آخر فقال: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12] فهذه القصة من أولها إلى آخرها تدل أن للأمر والنهى والعموم والخصوص صيغة معلومة وقضية مفهومة لا يجوز خلافها بمطلق اللفظ وبمحض الصيغة. ويدل عليه أن إبراهيم عليه السلام لما سمع من الملائكة قولهم: {إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} [العنكبوت: 31] عقل منه العموم ولذلك خاف الهلاك على لوط فقال: {إِنَّ فِيهَا لُوطاً} [العنكبوت: 32] ولم يسكن قلبه حتى أخرج الملائكة لوطا وأهله من المهلكين بضرب تخصيص واستثناء فقالوا: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ} [العنكبوت: 32] .   1 عزاه الحافظ السيوطي إلى أبي داود في ناسخه وابن المنذر وابن مردويه انظر الدر المنثور 4/338. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 الآية فهذه الآيات دلائل معتمدة وبراهين ظاهرة ونهاية ما يقولون على هذه الألفاظ هو أن هذه الألفاظ محتملة للعموم عندنا وأن لم يكن للعموم صيغة ولأجل الاحتمال حسن موردها وصح السؤال والجواب عن ما ذكرتم فيها ونحن نقول على هذا لو كان فى هذه الألفاظ مجرد الصلاحية للعموم لأنها صيغة فيها لكان السؤال بطريق الاستفهام وهو أن يقول القائل فى هذه القصص الواردة فى الكتاب كلها هل دخل فلان فى الخطاب أو لا ثم إذا عرف الدخول يبنى عليه ما يقوله. فإن قالوا: أن هذه الألفاظ حملت على العموم لا بصيغتها لكن لقرائن اقترنت بها. قلنا لا قرينة تعرف وإنما وجد مجرد اللفظ عريا عن الدلائل فمن زاد على القرائن فعليه البيان وقد استدل الأصحاب أيضا بما نقل عن الصحابة من الاحتجاج بالعمومات فى مسائل كثيرة غير أن فيما ذكرناه من الاحتجاج بالآيات غنية وكفاية. ونستدل فى إثبات ألفاظ العموم فى اللغة فنقول. الاستغراق معنى ظاهر لكل أحد والحاجة تمس إلى العبارة عنه ليفهم السامع أن المتكلم أراده فجرى هذا مجرى السماء والأرض والفرس والحمار وما أشبه ذلك فى ظهوره بين الناس ومسة الحاجة إلى العبارة عنها فكما لم يجر مع هذا الداعى الذى هو داعى الحاجة أن تتوالى الأعصار بأهل اللغة ولا يضعوا لهذه الأشياء أسماء تختص لكل واحد منها مع أنهم قد وضعوا الأسماء للمعانى ووضعوا للمعنى الواحد أسماء كثيرة كذلك لا يجوز أن لا يضعوا للاستغراق أسماء مختصة وليس يجوز من أمة عظيمة فى أعصار مترادفة أن يضعوا الأسماء الكثيرة للمعنى الواحد ولا يضعون لمعنى ظاهر تشتد إليه حاجة الناس أسماء تخصه. فإن قيل ليس بممتنع أن يتفق ذلك من الأمم العظيمة أليس العرب مع كثرتهم لم يضعوا للفعل الحال عبارة تخصه دون الفعل المستقبل ولا وضعوا للاعتماد سفلا ولا للاعتماد علوا ولا للكون الذى هو يمنة أو يسرة عبارة ولا وضعوا لرائحة الكافور أو رائحة العنبر أسماء تخصها والحاجة إلى ذلك شديدة والأمر فى ذلك ظاهر ثم قالوا: لا حاجة بالمتكلم إلى وضع لفظ الاستغراق لأنه يمكن للمتكلم أن يعدد الأشخاص الذين يريد أن يعلمهم بالذكر واحدا واحدا. قالوا: ولأنهم يمكنهم أن يعبروا عن الاستغراق ويذكروه بلفظه مع قرينة وشاهد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 حال أو يدلوا على الاستغراق بالتعليل بأن يقول: كل من دخل دارى ضربته لأنه دخل دارى فيعرف بالتعليل أنه يريد أن يعم كل من دخل الدار. والجواب أما الأول فلا يصح لأن الأشياء التى ذكروها غير ظاهرة فيجوز أن لا يضعوا لها عبارات تخصها بخلاف معنى العموم والشمول والمعتمد من الجواب أن تلك الأشياء أن لم تكن لها أسامى مفردة فلها أسامى مركبة. وبيانه أنه يقال اعتمد سفلا واعتمد علوا أو يقال قال يمنة أو يسرة ويقال رائحة الكافور ورائحة العنبر إلى سائر الروائح ويقال فى الماضى ضرب زيدا وفى المستقبل يضرب زيدا وهذا بخلاف ما تنازعنا فيه لأنه ليس عند خصومنا فى اللغة كلام موضوع ولا مركب منبىء عن الاستغراق من غير قرينة ولا دلالة. وأما قولهم أنه يعد الأشخاص واحدا واحدا. قلنا هذا يطول وسبق فلا يجوز المصير إلى مثل هذا. وقولهم أنه يفيد العموم والشمول بقرينة أو أمارة أو دلالة. قلنا يبعد أن تضع العرب للشىء الواحد عددا من الأسامى ثم يكتفون فى معنى الشمول والعموم بقرينة أو بإشارة مع اتساع العبارات وضيق القرائن والأشارات وعلى أن العلم من حيث الدلالة أو الإشارة ليس مما يصلح لجميع الناس بل هو شىء خاص يقع للبعض دون البعض فلا يجوز أن يقع الاقتناع به فى مثل هذا المعنى الظاهر وكذلك الجواب عن التعليل الذى ذكروه وعلى أنه ليس كل معنى يعرف علته حتى يعلل بها. ألا ترى أن الإنسان إذا أراد أن يخبر بأن كل من فى الدار نائم أو ضارب أو آكل وغير ذلك مما لا يحصى كثرة لم يعرف لذلك علة حتى يعلل بها. قالوا: إنما يصح هذا الدليل الذى ذكرتم أن لو كانت الأسماء مواضعة من أهل اللسان وأما الأسماء توقيف فليس يوجد فيها هذا الدليل. قلنا ومن يسلم لكم أن الأسماء توقيف وعلى أنا نقول الأسماء بعضها على التوقيف وبعضها على الوضع وهذا هو الأولى فينبغى إذا لم يوجد فى شىء توقيف واشتدت حاجتهم إلى وضع اسم له أن يضعوا كلاما يكون أسماء له كما أن من أحدث آلة جديدة يجوز أن يضع اسما لها ومن ولد له ولد يجوز أن يضع اسما له فالشخص الواحد إذا جاز له ذلك فالأمم الكبيرة بذلك أولى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 دليل آخر أن اللغة فائدتها إفهام المراد بالخطاب لأن المتكلم يعلم ما فى نفسه وأن لم ينطق لسانه وإنما يريد بكلامه إفهام غيره والإبانة له عن المراد الذى فى نفسه فما كان كذلك وجدنا أهل اللغة وأرباب اللسان استعملوا فى أبياتهم ألفاظا تعارفونها ووضعوا لكل شىء أرادوا الإبانة عنه سمة ورسموا لكل معنى منه رسما يعلم به المراد ويقع به التمييز بين الشىء وضده فلا يجوز إبطال ما أصلوه منها وإزالته عما وضعوه عليه وحمل ألفاظهم على ما يؤدى إلى التعرى عن الفائدة كما لم يجز ذلك فيما وجد فى أوائل كلامهم من مفرد إلى الأسماء والحروف التى هى أدوات الكلام فهذه الأسماء المفردة والحروف التى هى أدوات كلها مقيدة والأسماء المركبة وكذلك الأفعال مبنية من الأسماء المفردة ومردودة إليها وخالفوا بين السمات وزادوا ونقصوا من الحروف وفاوتوا بين جهات الإعراب لاختلاف ما يوجد تحتها من المراد وقد قالوا: فى باب الأسماء رجل وفى التثنية رجلان وفى الجمع رجال وقالوا: فى المشتق مشرك ومشركان وقالوا: فى أبنية الأفعال للواحد فى باب الأمر افعل وللاثنين افعلا وللجمع افعلوا وكما قيل فى الإخبار عن الفعل الماضى فعل وفى المستقبل يفعل وفيما يدخله التراخى سيفعل وقالوا: فيما يستدعيه من فعل غيره استفعل وقالوا: فيما تكلفه من الفعل من غير مطاوعة تفعل فلكما خالفوا بين الشىء والشىء فى القصد خالفوا بين المصارف فى الشكل والهيئة لنعلم أنهم لم يضعوا قسمة الألفاظ إلا على قسمة المعانى ولم يرتبوا هذه الأسماء إلا على مراتب المسميات وإذا تقرر ما ذكرناه فكان الأمر فى هذا مشهورا عند أهل المعرفة باللغة وبأن من قال للفظ الجمع الذى ذكروه فى الأسامى والأفعال معنى. وقالوا: تناوله للعدد الشامل للجنس وللبعض من ذلك أو للواحد والاثنين على وجه واحدا فقد رام الجمع بين ما فرقوا والتفريق بين ما جمعوا وحمل بعضها على البعض مع التفريق من أهل اللسان ومن رام هذا فقد رام قلب اللغة وإبطال البيان وإيقاع العلم فى اللبس والتشكيك وهذا فاسد قطعا بلا إشكال ولا مرية. قالوا: إذا لم يدع قلب اللغة ولا زعمنا أنه لا بيان فى حملها لكن قلنا أن هذه الألفاظ التى ادعيتم لها العموم محتملة فى وضعها معرضة أن يكون المراد بها الشىء وغيره فإنها توجد والمراد بها العموم والاستغراق وتوجد أخرى والمراد بها الخصوص والإفراد فإذا كان كذلك لم يجر القضاء عليها بأحد وجهى الاحتمال إلى أن يقوم عليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 دليل المراد وهذا كسائر الأسماء المشتركة. قلنا قد بينا أن العرب لم تقسم الألفاظ إلا على قسمة المعانى ووجدنا صيغة للعموم صيغة امتاز بها عن صيغة الخصوص ومراتب الأسماء مبنية على مراتب المسميات فلا بد لها من معنى يمتاز بها عن غيرها وقد وجدنا لها ظاهرا يهيأ العلم به فلم وجب التوقف فيه مع وجود سمة امتازت بها عن غيرها من السمات ووضوح دلالة منها يصلح اللفظ لها فهل هذا إلا ضرب الأسماء فى بعضها ببعض وتعكيس اللغة ودفع البيان منها وأما الأسامى المشتركة فهى ألفاظ معدودة وكلمات يسيرة كقولهم حيوان ولون وعين وأمثال ذلك وليس إذا لم يوجد فى اللغة إلا أشياء يسيرة ظاهرة تصار إليه ومعان متعينة لها ما يجب أن تتوقف عن سائر الأشياء التى لها ظواهر معلومة ودلائل معروفة ولهذا إذا ذكر الحيوان واللون والعين لم يتبادر إلى الفهم شىء من معانيها المشتركة دون شىء بل يكون فى موقف واحد من التسابق إلى الفهم والبدار إلى المراد وأما لفظ العموم فيتبادر منه إلى الفهم الشمول والاستغراق وهذا شىء تبين لا خفاء به أصلا. دليل آخر أن القائل إذا قال من دخل دارى ضربته حسن أن يستثنى منه كل عاقل شاب والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله تحته فإذا لولا الاستثناء لوجب دخول كل عاقل تحت لفظة من فلو كانت لفظة من غير مقتضية للشمول والاستغراق لما وجب دخول كل عاقل تحتها ولما صح الاستثناء منها هذا دليل معتمد قالوا: ما أنكرتم أن يكون الاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لصلح دخوله تحته فعلى هذا صح استثناء كل عاقل لأنه يصلح دخوله كل عاقل تحته لأنه دخل تحته حقيقة. والجواب أنه لو جاز الاستثناء بهذا الوجه لحسن أن نقول اضرب رجلا إلا زيدا أو رأيت رجلا إلا زيدا لأن كل رجل يصلح دخوله تحت قوله ضربت رجلا فقد صلح دخول زيد فى اللفظ ولم يصح استثناؤه فدل أن الاستثناء إنما يصح فى مسائلنا لدخول المستثنى منه تحته حقيقة نبين ما قلناه أن الاستثناء يحسن دخوله فى العشرة مثل أن يقول القائل لفلان على عشرة إلا واحدا واثنين وإنما حسن دخوله على العشرة لأنه أخرج منها ما لولاه لدخل فيها. ألا ترى أنه لا يحسن استثناء كلها ولا استثناء ما لم يدخل تحتها فكذلك هاهنا لما حسن الاستثناء بأن نقول أعط من دخل دارى إلا الطوال منهم وكان هذا الاستثناء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 حقيقة عرفنا قطعا أن المستثنى كان داخلا تحت الفظ المذكور وأما تعلقهم فى حجتهم بفصل الاستثناء. وقولهم أنه لو كان اللفظ الوارد فى العموم للاستيعاب والاستغراق لكان الاستثناء نقضا ورجوعا. قلنا لا يكون نقضا ولا رجوعا لأن ظاهر العموم عنده الاستغراق إذا تجرد عن الاستثناء أو ما يجري مجراه وإذا استثنى فلم تجرد. ونقول أيضا أن لفظ العموم يقتضى استغراق ما دخل عليه وإذا كان معه استثناء فهو داخل على ما عدا المستثنى ولا جرم هو مستغرق له. وأما قولهم أنه إذا عدد أشخاصا ثم استثنى شخصا واحدا منهم لا يجوز فيجب أن يكون اللفظ العام كذلك. قلنا هذا كما يلزمنا يلزمكم لأنكم تقولون أن لفظ العموم حقيقة فى الاستغراق وحقيقة فى البعض لأنه اسم مشترك يتناول الكل ويتناول البعض فيكون حقيقة فيها مثل اللون والحيوان ثم قلتم إذا أراد الاستيعاب واستثنى يصح ولو أنه عدد الأشخاص ثم أنه استثنى لا يصح وهذا لأن الاستثناء إنما يحسن فى لفظ واحد يشمل أشخاصا ثم يستثنى بعض الأشخاص فأما إذا تعدد الألفاظ فيصير كل لفظ كالمنفرد عن صاحبه فإذا استثنى فيكون كأنه استثنى الكل من الكل وهذا لا يجوز لأن الاستثناء حقيقة هو استثناء البعض من الكل. دليل آخر وهو أن أهل اللغة فرقوا بين العموم والخصوص وجعلوا أحدهما فى مقابلة الآخر فقالوا: مخرج هذا اللفظ العموم ومخرج هذا الخصوص كما فصلوا بين الأمر والنهى وكما وجب أن يكون لكل واحد منهما لفظ يخصه فكذلك العموم والخصوص يدل عليه أنهم خالفوا بين تأكيد العموم والخصوص وجعلو تأكيد أحدهما مخالفا لتأكيد الآخر فقالوا: رأيت زيدا نفسه ولم يقولوا رأيت زيدا أجمعين وقالوا: رأيت القوم أجمعين ولم يقولوا رأيت القوم نفسه وكما أن تأكيدهما مختلفان فكذلك وجب أن يختلفا لأن من حق التأكيد أن يطابق المؤكد. واعلم أن الفقهاء والمتكلمين قد استكثروا من الدلائل فى هذه المسألة غير أنا اقتصرنا على أعداد منها معتمدة وأصح الدلائل الدليل الأول من الآيات والدليل الثانى من حيث اللغة والدليل الثالث من حيث صحة الاستثناء وقد حرر بعضهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 فقال استيعاب الجنس حد هو أحسن التعبير فيكون له صيغة يراد بصيغته من غير قرينة كالفرد والتثنية. أما الجواب عن كلماتهم أما الأول قلنا قد أجبنا عن هذه الشبهة فى ابتداء باب الأوامر فلا معنى للإعادة. والحرف أنهم يقولون أن لفظ العموم للاستيعاب ولما دونهم فيدخل عليهم هذه الشبهة كما دخلت علينا وأن ارتكب منهم ما ارتكب وقال إنها غير موضوعة للاستيعاب بحال فهذا محال لأنا نعلم بالضرورة وبالنقل عنهم وفى مستعمل كلامهم أن لفظ كل والجميع إذا استعملت فى الاستغراق لم يكن مجازا ولو لم نعلم ضرورة يمكن أن ينقل بالتواتر أنهم أضافوا إلى هذه الألفاظ أحكامها لا يصح إلا إذا كانت الألفاظ عامة نحو الاستثناء والاستفهام وغير ذلك وذكرنا أيضا أن هذا الكلام يدخل على من ادعى التوقف والاشتراك وقد سبق تقرير هذا. وأما دليلهم الثانى قولهم أن هذه الألفاظ تستعمل فى الاستيعاب وفيما دونه على وجه واحد قلنا أن عنيتم أن هذا اللفظ يستعمل فى الاستيعاب وما دونه على الحقيقة فلا نسلم ذلك وكذلك أن قالوا: أنه يستعمل فى كل واحد منهما من غير قرينة لا نسلمه أيضا. ونقول ليس استعمال لفظ العموم فيما دون العموم كاستعماله فى الاستغراق فإن استعماله فى الاستيعاب بصيغة وفيما دونه بقرينة تنضم إليه وهو من استعمال اسم الحمار فى البهيمة والبليد واسم الأسد فى الحيوان المخصوص والشجاع وليس كثرة الاستعمال دليل على الحقيقة ولا قلة الاستعمال بدليل على المجاز إنما الحقيقة والمجاز يعرفان بوجوه آخر. ويقال لهم أليس قولنا أمر يستعمل فى الشأن والفعل وليس بحقيقة فيهما وقد كثر استعمال لفظ الأمر فى الشأن والفعل كثرة استعمال لفظ العموم فيما دون الاستيعاب فإن قالوا: إنا عرفنا كون استعمال الأسد فى الشجاع والحمار فى البليد مجازا بطريق الضرورة فهل تعرفون استعمال لفظ العموم حقيقة فى الاستيعاب فإذا استعمل فيما دونه فلا بد أن يكون مجازا وليس كل مجاز يعرف ضرورة ولكن يعرف دليل يقوم عليه فإن قالوا: أنتم لا تقولوا أن العموم إذا طبق يكون مجازا قلنا قد ذهب جماعة من الأصوليين أنه يصير مجازا ووافقهم على ذلك بعض أصحابنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 وإن قلنا لا تصير مجازا فلأن المجاز ما استعمل فى غير ما وضع له والعموم والخصوص قد استعمل فى بعض ما وضع له فلهذا لا يوصف بالمجاز عند أكثر الفقهاء واعلم أن الخلاف فى هذه المسألة مع المتكلمين فينبغى إذا تكلمنا معهم أن نقول أنه يصير مجازا وقد قال الأصحاب على قولهم أن أكثر ألفاظ العموم تستعمل فى البعض قال يجوز أن يكون اللفظ حقيقة فى معنى ثم يستعمل فى غيره أكثر. ألا ترى أن الغائط حقيقة فى الموضع المطمئن ثم أكثر ما يستعمل فى الخارج من الإنسان وكذلك الشجاع عن حقيقة فى الحية ثم أكثر ما يستعمل فى الرجل البطل وكذلك العذرة والمفازة إلى ما يشبه ذلك. وأما تعلقهم بفصل الاستثناء فقد أجبنا عنه. وأما قولهم أنه يحسن الاستفهام والتأكيد. قلنا الاستفهام قد يكون طلبا لمطلق الفهم وإزالة الالتباس وقد يكون طلبا لزيادة الفهم وزيادة الفهم فهم وهذا لأن السامع قد يظن أن المتكلم غير متحفظ فى كلامه ويظن به السهو فيستفهمه ويستبينه بمعنى أن كان ساهيا أزال سهوه. ألا ترى أنه يحسن أن يقول الرجل ضربت فلانا فنقول أضربت فلانا أو يقول: ضربت كل من فى الدار فنقول أضربتهم كلهم فيقول: نعم ضربتهم كلهم فنجيبه باللفظ الأول فدل أن المراد من الاستفهام هو الاستثبات لظن الغلط. وأما التأكيد الذى تعلقوا به فيبطل تأكيد الخصوص مثل قول القائل جاءنى زيد نفسه وكذلك تأكيد ألفاظ الفرد وذلك مثل قوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196] وكذلك قولهم ألف تام فقولهم ألف قد أنبأ عن التام. فإن طلبوا فائدة التأكيد. قلنا فائدته زيادة العلم وهذا لأن بالتأكيد يزداد الأمر جلاء وبيانا فيزداد علمنا وقد يكون فى ذلك مصلحة لنا وأن لم نقف عليها. ألا ترى أن الله تعالى قد أكثر الأدلة على المدلول الواحد وأن كان المقصود قد حصل بالدليل الواحد وأيضا يجوز أن يكون التأكيد لإزالة مجاز أو احتمال مستعمل وعلى الجملة إذا جاز وجود فائدة للتأكيد لا يوجد فى المؤكد بطل تعلقهم بهذا الفصل. وأما دليلهم الذى ذكروه فى كلمة من قولهم أنه يجمع بمنون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 قلنا قولهم منون وأن كان لفظه لفظ الجمع فليس بجمع على الحقيقة لأنه يستفاد منه ما يستفاد من قوله من عندنا وعند المخالف ألا ترى أنه لو قال القائل من أنتم كان استفهاما عن جماعتهم كما أن قوله منون استفهام عن جماعتهم وعند المخالف أن ألفاظ العموم كلها مشتركة وليس فى اللغة لفظ يختص بالاستغراق ولفظ منون عندهم مشترك بين الاستغراق والبعض كلفظ من فلم تفد أكثر ما تفيده لفظ من فيثبت أن هذا الكلام يلزمنا ويلزمهم فلم يكن فيه دليل علينا. وأما الدليل الأخير الذى قالوه فقد أجبنا [عنه] 1 واعلم أن من المتكلمين من حمل لفظ الجمع على أقل الجمع وهو ثلاثة وتوقف فيما زاد. وقيل أنه قول أبى هاشم وذهب إليه من الفقهاء محمد بن شجاع البلخى والدلائل التى أقمناها فى إثبات الاستيعاب واستغراق اللفظ لكل ما يصلح له يبطل هذا القول وهذا لأنه إذا كان لاستيعاب كل ما يصلح له فالثلاث وما زاد عليه فى الصلاحية واحد فليتناول الكل تناولا واحدا فلم يجز أن يحمل على بعض ما ينتظمه اللفظ دون البعض. وتعلق من قال بالقول الثانى بأن دخول الثلاثة فى اللفظ يقين وما زاد يحتمل فلا يثبت دخوله بالشك. والجواب أن دعوى الشك محال فيما زاد على الثلاث لأن اللفظ الموضوع للاستيعاب والاستغراق جميع ما يصلح له اللفظ ويستحيل أن يقال أن بعض ما يصلح له اللفظ يقين وبعض ما يصلح له مشكوك فيه وهذا لأنه لما يتناول كل الأعداد على وجه واحد فلم يجز هذا التفريق بوجه ما. فإن قالوا: أليس إذا قال لفلان على دراهم يقبل تفسيرها بثلاثة ولا يقبل فيما دون الثلاثة. قلنا هذا لا يقتضى الاستيعاب. قالوا: ما قولكم إذا قال لفلان على الدراهم. قلنا كذلك نقول ولكن إنما لم يحمل على الجميع لأنه لا يتصور حمله على جميع الدراهم لأنه لا يتصور أن يكون أتلف عليه كل درهم فى الأرض أو استقرض كل درهم فى الأرض فعدل عن العموم لأنه لم يكن حمله على العموم.   1 زيادة في الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 ومن فروع هذه المسألة: أن أبا بكر الصيرفى قال إذا ورد لفظ العموم يجب أن يعتقد العموم بنفس الورود. وقال ابن سريج يتوقف الاعتقاد إلى أن يعرضه على دلائل الشرع فإذا لم يجد الخصوص اعتقد العموم واحتج من ذهب إلى القول الأول بأن لفظ العموم موضوع للاستغراق فإذا ورد وجب أن تعتقد ما وضع له اللفظ كلفظ الخصوص وكلفظ الأمر والنهى قال ولأن النظر لا يتناهى فيجوز أن لا يجد مخصصا فى النظر ثم نجد فى النظر الثانى وما لا يتناهى لا يصار إليه قال فلأن الذى صار إليه ابن سريج قول بالوقف وقد ذكرنا بطلانه. وأما الدليل لما ذهب إليه ابن سريج هو أن اللفظ الموضوع للاستغراق هو اللفظ المتجرد عن القرائن المخصصة ولا بد من طلب التجرد ليحمل على المعنى الموضوع له اللفظ وهذا الطلب يعرض للخطاب الوارد على دلائل الشرع لتعرف هل وجد هناك دليل يخص اللفظ أو لا ثم إذا لم نجد فقد أصاب اللفظ المجرد عن قرينة مخصصة فيحمل حينئذ على الموضوع له وهو الاستيعاب ونعتقد ذلك وهذا مثل البحث عن عدالة الشهود ووجوب الحكم هناك مثل اعتقاد العموم هاهنا. وأما قولهم أنه وضع للاستيعاب. قلنا بلى ولكن إذا تجرد عن قرينة والمقصود من العرض التوقف إلى أن بعرض طلب هذا التجرد. وأما قولهم أن العرض لا يتناهى. قلنا ما لا يتناهى يقطع فى بدايته. ألا ترى فى البحث عن عدالة الشهود لا يؤمن أن يطلع على جرح عند إعادة البحث ولكن لا يعتبر ذلك لأنه لا يتناهى وكذلك المجتهد إذا رفعت إليه حادثة يعرض الحادثة على الكتاب والسنة لطلب النص ويبحث مرة واحدة وأن كان يجوز أن يجد النص عند إعادة العرض ولكن لا يعتبر ذلك لما بينا وأما الذى قالوا: أن هذا قول بالوقف فليس كذلك لأن الواقفية لا يجعلون العموم صيغة يخصها أصلا وأما ابن سريج فيجعل العموم صيغة إذا تجردت عن قرينة ويطلب التجرد وإذا وجدها لأن تحقق صيغة العموم بها اعتقد العموم والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 فصل: في ألفاظ العموم ... فصل ونذكر الآن ألفاظ العموم فنقول. أولها ألفاظ الجموع وسواء فيها جمع السلامة وجميع التكسير1 كقوله اقتلوا المشركين واعمروا المساجد وهذا النوع أبين وجوه العموم ثم بعد هذه الأسماء التى يدخلها الألف واللام للجنس2 كقولك الحيوان والنبات والجماد يراد بها تعميم هذه الأجناس ومن هذا الباب قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] : {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور: 2] فلا سارق إلا وعليه القطع بالآية ولا زانى إلا وعليه الجلد بالآية وقد قال بعضهم مثل هذا اللفظ لا يكون للعموم وإنما يكون للعهد قال أبو هاشم يفيد الجنس دون الاستغراق وأما عندنا هو العموم لأن نفس اللفظ وأن كان لفظا مفردا ولا يدل على العموم ولكن دخل عليه ما يوجب عمومه وهو لام الجنس وهذا لأنه لو لم يستغرق قولنا الإنسان جميع الجنس لأفاد واحدا غيره يقينا وإذا قلتم بهذا فقد كان هذا مستفادا بالاسم قبل دخول الألف واللام عليه فلا يبقى لدخول الألف واللام فائدة فدل أن فائدتهما الاستغراق. قالوا: أنه لو استغرق الجنس لجاز مع أنه لفظة واحدة أن يؤكد كل وجميع كلفظ من نحو قوله كل من دحل دارى أكرمته ولا يستقيم أن يقول الرجل رأيت الإنسان كلهم ولا أن يقول: جاءنى الرجل أجمعون وأيضا فإنه يقبح الاستثناء. ألا ترى أنه لا يحسن أن يقول: رأيت الإنسان إلا المؤمنين ولو كان للعموم فحسن ذلك. قالوا: وأما قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} هو على طريق المجاز ويحتمل أيضا أن الخسارة لما لزمت جميع الناس إلا المؤمنين جاز هذا الاستثناء. والجواب أن أصحابنا اختلفوا أن العموم من حيث اللفظ فى هذه الصورة أو من حيث المعنى فالأولى أن نقول أن العموم من حيث المعنى وذلك لأن الألف واللام لا بد أن تفيد التعريف وليس التعريف إلا تعريف الجنس وإذا قلنا أن اللفظ يفيد.   1 انظر البرهان لإمام الحرمين 1/322 إحكام الأحكام 2/290 انظر نهاية السول 2/322. 2 المحصول 1/378 إحكام الأحكام 2/301 روضة الناظر 195 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/207. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 واحدا من الجنس خرج الألف واللام من كونهما للجنس ولم يبق لهما فائدة وإذا ثبت أنهما للجنس ثبت الاستغراق ولأنه إذا قال الإنسان يفيد دخول كل من كان من جنس الإنسان فى اللفظ ولهذا المعنى صح قولهم أهلك الناس الدينار والدرهم البيض فيعنون كل واحد منهما بالجمع فدل أنهما يفيدان الاستغراق ويقال هلكت الشاة وهلك البعير وهلك الحيوان ويراد به العموم دل أنه مفيد له على الوجه الذى قدمنا وأما الألف واللام إذا دخلا على الجمع فلا بد من كونه مفيدا للاستغراق والدليل عليه حسن الاستثناء فإنه إذا قال اعط المسلمين فإنه يجوز أن يستثنى كل من شاء منهم وكذلك إذا قال رأيت الناس يجوز أن يستثنى أى إنسان أراد من الناس والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله فيه يدل عليه أنه إذا قال رأيت ناسا يفيد أنه رأى من هذا الجنس ولا يفيد الاستغراق فلا بد أن يفيد دخول الألف واللام فائدة ولا فائدة إلا الاستغراق. ومن ألفاظ العموم الأسماء المبهمة نحو من وما والفرق بين من وما أن كلمة من عامة فيمن يعقل لأنك إذا قلت: من فى الدار استقام الجواب بكل من يعقل ولا يستقيم الجواب عنه بالشاة والثوب وإذا قلت: ما فى الدار ولا يستقيم الجواب عنه بالعاقل1 لكن لا يعقل فنقول حمار أو شاة أو ثوب وما أشبه ذلك ومن أسماء العموم الأسماء المبهمة نحو من وما وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه" 2 "ومن أحيا أرضا ميتة فهى له" 3 "وما أكلت العافية فهى له صدقة" 4.   1 انظر إحاكم الأحكام للآمدي 2/290 نهاية السول 2/322 المحصول 1/356 روضة الناظر 195 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/207. 2 أخرجه البخاري الجهاد 6/173 ح 3017 وأبو داود الحدود 4/124 ح 4351 والترمذي الحدود الحدود 4/59 ح 1458 والنسائي تحريم الدم 7/95 باب الحكم في المرتد وابن ماجه الحدود 2/848 ح 2535 وأحمد المسند 1/368 ح 2555. 3 ذكره البخاري الحرث 5/23 باب من أحيا أرضا مواتا معلقا وأبو داود الخراج 3/174 ح 3073 والترمذي الأحكام 3/653 ح 1378 وقال حسن غريب ومالك في الموطأ الأقضية 2/743 ح 26, 27 وأحمد المسند 3/414 ح 14648. 4 أخرجه النسائي في الكبرى 3/404 ح 5756 - 5758 والدارمي البيوع 2/346 ح 2607 وأحمد المسند 3/414 ح 14648 والبيهقي في الكبرى 6/244 ح 11814 وابن حبان 1136/موارد بلفظ العوافي بدل العافية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 وأين وحيث تعمان الأمكنة ومتى تعم الأزمنة وكل تعم الفرد النكرة لقولنا كل رجل وكل زيد وكل الناس1 وكلما تعم الفعل2 لقول القائل كلما فعلت فعلا يتناول الأفعال على العموم واعلم أنه لا فرق فى ألفاظ العموم بين الأسماء المشتقة وأسماء الأجناس وأسماء الصفات كقولك اعط المسلمين اعط الناس اعط الطوال فكل ذلك يستغرق كل ما يصلح له. وأما ألفاظ النكرات نحو قولك رجل فإنه عام على البدل غير عام على الجمع. وإنما قلنا أنه عام على البدل لأنه يتناول كل رجل على البدل من صاحبه. وقد قال عامة أهل العلم أن النكرة إذا كانت نفيا استغرقت جميع الجنس كقولهم ما رأيت رجلا وما رأيت إنسانا وأما إذا خرج على الإثبات فلا يقتضى الاستغراق وأما إذا قال رأيت رجالا ولقيت ناسا فأقل ما يقتضيه ثلاثة من جماعتهم فإن قيل أليس أن الله تعالى قال: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40] وهذا على العموم لأن الله تعالى لم يرد شيئا دون شيء لأن قدرته عامة شاملة جميع الأشياء محيطة بها كلها. قلنا قد قالوا: فى تأويل الآية وتخريجها وجهين أحدهما أن فيها إضمارا والمعنى أما قولنا لكل شىء أو لشىء شىء فاكتفى بذكر أحدهما لأن فيه دلالة على الأول. والوجه الآخر أن عمومه من طريق المعنى لا من طريق اللفظ وذلك لأن الأشياء متساوية فى قدرته فإذا أخبر عن نفوذ قدرته فى بعضها فقد دل بالمعنى على نفوذ قدرته فى سائرها وأما كلمة أى فقد قيل هى بمنزلة النكرة لأنها تصحب النكرة لفظا ومعنى يقول القائل أى رجل فعل هذا وأى دار تريدها قال الله تعالى: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} [النمل: 38] وهى نكرة معنى لأن المراد بها واحد منهم. وقد ألحق بعض الأصوليين هذا الباب ما يفيد العموم من جهة المعنى وذلك يكون بأن يقترن باللفظ ما يدل على العموم وأن كان اللفظ لا يدل عليه فمن ذلك أن يكون اللفظ مفيدا للحكم ومفيدا لعلته ليقتضى شيوع الحكم فى كل ما شاعت فيه العلة. ومن ذلك أن يكون المفيد لعموم اللفظ يرجع إلى سؤال السائل.   1 انظر إحاكم الأحكام 2/290 المحصول 1/ 356 نهاية السول 2/325, 326 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير. 2 انظر نهاية السول 2/326 روضة الناظر 196. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 ومن ذلك دليل الخطاب المقتضى للعموم. فالأول مثل قوله صلى الله عليه وسلم فى الهرة إنها ليست بنجسة إنها من الطوافين عليكم والطوافات فاقتضى عموم طهارة كل ما كان من الطوافين علينا وأمثال هذا تكثر وأما المقتضى للعموم وما يرجع إلى السؤال نحو أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عمن جامع زوجته فيقول: عليه الكفارة فيعم ذلك كل من أفطر وأما العموم مفهوم الخطاب نحو قوله صلى الله عليه وسلم فى سائمة الغنم زكاة فدل هذا أن لا زكاة فى كل ما ليست بسائمة. مسألة: واختلف أصحابنا فى المجاز هل يتعلق به العموم على وجهين: فقال بعضهم لا يدخل فى العموم إلا الحقائق وقال آخرون يدخل فيه المجاز كالحقيقة لأن العرب تتخاطب به كما تتخاطب بالحقيقة واختلف الأصحاب أيضا أن لفظ العموم هل يتناول ما يمنع دليل النقل من إجراء حكمه عليه كقوله تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} وكقول القائل اضرب كل من فى الدار ونحو ذلك لأن الله تعالى شىء ويمنع العقل أن يكون خالق نفسه وكذلك يمنع العقل أن يكون المأمور يضرب كل من فى الدار مأمورا بضرب نفسه فقال بعضهم أن موضوع اللفظ يتناوله لأن الدليل يوجب إخراجه منه. وقال آخرون بل هو خارج منه لسقوطه فى نفسه بما ذكرناه وقالت هذه الطائفة أن اللفظ لم يتناوله أصلا فهذا هو الكلام فى ألفاظ العموم ويلحق هذا الموضع ما صح فيه دعوى العموم ما لا يصح وجملة ذلك أن العموم يصح دعواه فى نطق ظاهر يستغرق الجنس لفظه كالألفاظ التى ذكرناها فيما تقدم وأما الأفعال فلا يصح فيها دعوى العموم لأنها تقع على صفة واحدة فإن عرفت تلك الصفة اختص الحكم بها وأن لم تعرف صار مجملا فيما عرفت صفته مثل ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جمع بين الصلاتين فى السفر فهذا مقصور على ما ورد فيه وهو السفر ولا يحمل على العموم وما لم تعرف مثل ما يروى أنه عليه السلام جمع بين الصلاتين فى السفر فلا نعلم أنه كان فى سفر طويل أو سفر قصير إلا أنه معلوم أنه لم يكن إلا فى سفر واحد فإذا لم يعلم ذلك تعينه وجب التوقف فيه حتى تعرف ولا يدعى هو العموم وكذلك القضايا فى الأعيان لا يجوز دعوى العموم فيها وذلك مثل ما روى أنه صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة للجار وقضى فى الإفطار بالكفارة وما أشبه ذلك فلا يجوز دعوى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 العموم فيها بل يجب التوقف لأنه يجوز أن يكون قضى بالشفعة لجار بصفة تختص بها أو قضى بالكفارة بجماع أو بغيره فيما يختص به المحكوم عليه فلم يكن دعوى العموم وقال بعضهم أن روى أنه كان يقضى تعلق بعمومه لأن ذلك للدوام ألا ترى أنه يقال فلان كان يقرى الضيف ويصنع المعروف وقال الله تعالى فى إسماعيل عليه السلام وكان يأمر أهله بالصلاة والمراد به التكرار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 فصل: الخطاب الذى يفتقر إلى الإضمار لا يجوز دعوى العموم فيه ... فصل: وكذلك الخطاب الذى يفتقر إلى الإضمار لا يجوز دعوى العموم فى إضمار. مثل قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} يفتقر إلى إضمار فبعضهم يضمر وقت إحرام الحج أشهر معلومات وبعضهم يضمر وقت أفعال الحج أشهر معلومات والحمل عليها لا يجوز بل يعمل بما يدل عليه الدليل وهذا لأن العموم من صفاته النطق فلا يجوز دعواه فى المعانى وعلى هذا قالوا: لا يجوز دعوى العموم فى قوله لا صلاة لجار المسجد إلا فى المسجد يعنى نفى الجواز والفضيلة وكذلك قوله لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل ولا يجوز دعوى العموم فيه لنفى الجواز والفضيلة وكيف يجوز دعوى العموم على هذا الوجه وإذا انتفى الجواز لا يتصور انتفاء الفضيلة لأنه لا بد من وجود الجواز ليتصور انتفاء الفضيلة وعلى هذا قوله عليه السلام لا نكاح إلا بولى قوله لا أحل المسجد لجنب ولا لحائض فكذلك قوله عليه السلام رفع القلم عن ثلاثة وقد جعل بعض الفقهاء هذه الألفاظ مجملة وسيأتى من بعد الكلام فى المجمل وبعضهم جعل هذه الألفاظ عامة فى كل ما يحتمله والله أعلم. مسألة أقل ما يتناوله اسم الجمع عندنا ثلاثة. وهو أيضا قول الأكثر من أصحاب أبى حنيفة وذهب طائفة من الفريقين أن أقل الجمع اثنان وهو اختيار القاضى أبى بكر محمد بن أبى الطيب من المتأخرين وهو أيضا قول محمد بن داود من المتقدمين1 وإليه ذهب بعض من النحويين وتعلقوا بقوله.   1 قال الشيخ الآمدي اختلف العلماء في أقل الجمع هل هو اثنان أو ثلاثة وليس محل الخلاف ما هو المفهوم من لفظ الجمع لغة وهو: ضم شيء إلى شيء فإن ذلك في الاثنين والثلاثة وما زاد من غير خلاف وإنما محل النزاع في اللفظ المسمى بالجمع في اللغة. فنقول: مذهب عمر وزيد بن ثابت ومالك وداود والقاضي أبي بكر والأستاذ أبي إسحاق ...... = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 تعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الانبياء:78] ورد الكناية إلى الاثنين بلفظ الجمع وتعلقوا أيضا بقوله تعالى: {إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} [صّ: 21] الآية فاستعمل فى الاثنين لفظ الجمع وتعلقوا أيضا بقوله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] وإنما لهما قلبان وقد ذكرهما بلفظ الجمع وتعلقوا بقوله عليه السلام الاثنان فما فوقهما جماعة1 والمعتمد لهم شيئان أحدهما أن الجمع فى صيغة اللغة هو ضم الشىء إلى الشىء وهذا فى الاثنين مثله فى الثلاث وإذا وجد الجمع حقيقة فى الاثنين صح أن يتناوله اسم الجمع حقيقة. والثانى أن الاثنين يقولان فى المخاطبة فعلنا كذا ويقولان دخلنا وخرجنا وأكلنا وشربنا فإذا خاطبا خطاب الجمع دل أنهما جمع مثل الثلاث سواء وأما دليلنا ما روى أن ابن عباس احتج على عثمان رضى الله عنهم فى أن الأخوين لا يحجبان الأم من الثلث إلى السدس بقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] وقال ليس الأخوان إخوة فى لسان قومك فقال عثمان رضى الله عنه لا أستطيع أن أنقض أمرا كان قبلى وتوارثه الناس ومضى فى الأمصار فلو لم يكن ذلك مقتضى اللغة لما صح احتجاجه وما أقره عليه عثمان وهما من فصحاء العرب وأرباب اللسان. فإن قيل روى عن زيد بن ثابت أنه قال الأخوان إخوة فصار مخالفا لهما. قلنا المراد بذلك أنهما كالإخوة فى الحجب. والمعتمد هو الاستدلال من حيث اللغة فنقول الدليل على أن لفظ الجمع لا يتناوله الاثنين أنه لا ينعت بالاثنين وينعت بالثلاثة فإنه يقال رأيت رجالا ثلاثة ولا يقال رأيت رجالا اثنين ويقال أيضا رأيت جماعة رجال ولا يقال رأيت جماعة رجلين فإن كانت الجماعة لا تنعت بالاثنين بحال عرفنا أنه لا يتناولها اسم الجمع بحال.   = وجماعة من أصحاب الشافعي رضي الله عنه كالغزالي وغيره أنه اثنان ومذهب ابن عباس والشافعي وأبي حنيفة ومشايخ المعتزلة وجماعة من أصحاب الشافعي أنه ثلاثة وذهب إمام الحرمين إلى أنه لا يمتنع رد لفظ الجمع إلى الواحد انظر إحاكم الأحكام 2/324 نهاية السول 2/394 المحصول 1/351. 1 إسناده ضعيف أخرجه ابن ماجه في إقامة الصلاة 1/312 الحديث 972. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 ونقول أيضا الأسماء سمات والسمات علامات لما وسم بها من الأعيان فسمة الاثنين مخالفة لسمة الجماعة كما كانت سمة الواحد مخالفة لسمة الاثنين وعلى هذا جرت العادة بالتفضيل فى الأعداد. وقيل آحاد ومثانى وجموع فكان هذا دليلا أن الجمع بعد التثنية كما أن التثنية بعد الواحد وكذلك هذا الاختلاف فى تفصيل عدد الأجناس قالوا: رجل ورجلان فإذا بلغ العدد ثلاثة قالوا: رجال وقيل امرأة وامرأتان ثم تركوا هذا الاسم فى الجمع قالوا: أيضا فدل أن سمة الاثنين متميزة عن سمة الجماعة فى الوجوه كلها. وأما الجواب عن دليلهم وتعلقهم بالآية الأولى والثانية فما ذكرنا دليل على أن ذلك مذكور على وجه المجاز لا على وجه الحقيقة وأما قوله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] فقد قيل أن هذا الباب مخصوص لا يقاس عليه غيره وهو باب مفرد فى ذكر ما فى الإنسان من الجوارح فقوله: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] وكذلك قوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] والمراد بذلك اليمين من كل واحد منهما ولو كان لزيد خاتم ولعمرو خاتم لم يصلح أن نقول خذ خواتيمهما والمراد خاتم واحد من كل واحد بل الصحيح أن نقول خذ خاتمهما فصار هذا مخالفا لجوارح الإنسان فافهم هذا فإنه يأت جنس فى العربية وقد قالوا: يوم أعشار وثوب أخلاق ولم يدل ذلك أن الواحد اثنان. وكان الحجاج يقول: يا غلام اضربا عنقه وخليا عنه ومن هذا قوله تعالى: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} [قّ:24] وأما الخبر الذى رووه فلا نعرف صحته وعلى أن المراد به أن حكم الاثنين حكم الجماعة فى ثواب صلاة الجماعة وانعقادها وهذا لأن كلام النبي صلى الله عليه وسلم لا يحمل على تأويل الاسم اللغوى. وأما قولهم أن الجمع حقيقته الضم قلنا نعم ولكنه من ضم ثلاثة بعضها إلى بعض وكذلك ما زاد عليه واللغة على ما وردت لا على ما يدل عليه القياس. ألا ترى أن الواحد يوجد فيه ضم بعض الأشياء إلى البعض لأنه جوهر متركب من أشياء مختلفة ومع ذلك لا ينطلق عليه اسم الجمع وقد نقض الأصحاب ما يصيرون إليه من الاشتقاق فى اسم الجمع بفصل الدابة والجنين والقارورة وغير ذلك. وأما الكلام الثانى الذى اعتمدوا عليه وهو الخبر عن فعل اثنين بلفظ فقد يتفق اللفظان فى موضع الغنية عن التفريق بينهما ولا يدل ذلك على الجمع فى المعانى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 كقولك للمرأتين أنتما وهما وكذلك تقول للرجلين وكما تقول المرأتان جعلنا كما تقول الرجلان وإنما كان كذلك لأن السمات موضوعة للتمييز ورفع الاشتباه فإذا كان الكلام فى أمر معلوم عند المخاطب وكان الإخبار عن حاضرة علم بالمشاهدة استغنى عن التمييز ولفظ أنتما خطاب لحاضر وكذلك لفظ فعلنا خطاب من المشاهدة وعمن يضاف إليه ممن هو معلوم حالته فأما ما كان بخلاف ذلك مما يدخله الشبهة لا يقاس عليه غيره ولا بد من سمة التمييز والكلام الأول بدون هذا كاف والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 فصل: التخصيص ... فصل نقول فى ابتداء هذه المسألة أن التخصيص تمييز بعض الحكمة بالحكم. ولهذا يقال خص رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا أو كذا وخص فلان بكذا وأما تخصيص العموم فهو بيان ما لم يرد باللفظ العام ويجوز دخول التخصيص فى جميع ألفاظ العموم من الأمر والنهى والخبر. ومن الناس من قال لا يجوز فى الخبر كما لا يجوز فيه دخول النسخ وهذا خطأ لأنا بينا أن التخصيص بيان ما لم يرد باللفظ العام وهذا يصح فى الخبر كما يصح فى الأمر1.   1 اعلم أن في هذه المسألة قولان: أولا: وهو قول جمهور العلماء فهم متفقون على أن التخصيص جائز وواقع في الخبر وفي غيره من الأوامر والنواهي. ثانيا: رأى شذوذ من العلماء أن التخصيص غير جائز في الخبر. وقد استدل الجمهور على الجواز بالوقوع فقد وقع التخصيص في الخبر كما وقع في الأمر والنهي والوقوع أوضح دليل على الجواز. أما وقوع التخصيص في الخبر فكقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} وقوله تعالى: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وقوله تعالى في حق الريح: {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} فإن العقل يقضي بأن هذه الأخبار ليس مرادا منها العموم ضرورة أن الله لم يخلق ذاته ولا صفاته كما أن القدرة لم تتعلق بهما لأن القدرة لا تتعلق بالواجب العقلي - وقد أتت الريح على الأرض والجبال فلم تجعلها كالرميم وإذا كانت هذه الأخبار غير مرادة على العموم يكون التخصيص قد دخلها فيكون التخصيص واقعا في الخبر وأما وقوعه في الأمر فكقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} وقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} فإنه ليس كل سارق يقطع بل يقطع من سرق النصاب بشروط معلومة في الفروع - وليس كل زان يجلد بل الذي يجلد هو الزاني غير المحصن. وأما وقوعه في النهي فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الرطب بالتمر وأجاز ذلك في العرايا فكان .... = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 مسألة العموم إذا خص لم يصر مجازا فيما بقى بل هو على حقيقة فيه. والاستدلال به صحيح فيما عدا المخصوص ولا فرق عندنا بين أن يكون التخصيص بدليل متصل باللفظ أو دليل منفصل وذهب قوم من المتكلمين إلى أنه يصير مجازا متصلا كان الدليل المخصص أو منفصلا. وذهب جماعة من أصحاب أبى حنيفة إلى أنه يصير مجازا فى حال دون حال اختلفوا فى تفصيل الحال فقال بعضهم أن خص بدليل لفظى لم يصر مجازا متصلا كان الدليل أو منفصلا وأن خص بدليل غير لفظى كان مجازا. وقال آخرون يكون مجازا إلا أن يخص بدليل متصل وهذا يحكى عن عيسى بن أبان وعن أبى الحسن الكرخى ومحمد بن شجاع وأما أبو بكر الرازى فذهب إلى ما ذهبنا إليه1 وذهب من جعله مجازا إلى المنع من الاستدلال بالعموم المخصوص.   = هذا النهي مخصوصا. أما استدلال المخالفون فقد قالوا: إن تخصيص الخبر يوهم الكذب في خبر الله تعالى وإيهام الكذب محال على الله تعالى كالكذب سواء بسواء فما أدى إليه وهو تخصيص الخبر يكون محالا انظر إحكام الأحكام 2/410 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/244, 245. 1 اعلم أن في هذه المسألة ثمانية مذاهب: أحدها: العام بعد التخصيص مجاز في الباقي مطلقا سواء كان متصلا أو منفصلا كان المنفصل عقليا أو لفظيا - وهذا القول هو المختار للبيضاوي وابن الحاجب وهو المعروف عند جمهور الأشاعرة. والثاني العام حقيقة في الباقي مطلقا كان المخصص متصلا أو منفصلا وهذا القول للحنابلة وبعض الحنفية ونقله بعض العلماء عن كثير من الشافعية. الثالث: العام حقيقة في الباقي إن كان المخصص له شرطا أو صفة فإن كان المخصص له استثناء أو غاية أو كان لفظيا أو عقليا وهذا القول للقاضي أبي بكر الباقلاني. والرابع العام حقيقة في الباقي إن خص بمتصل وهو الشرط والصفة والغاية والاستثناء مجاز إن خص بمنفصل سواء كان لفظيا أو عقليا وهذا القول لأبي الحسين البصري من المعتزلة. الخامس: العام حقيقة في الباقي من حيث التناول ولكنه مجاز من حيث الاقتصار عليه والإرادة وهذا المذهب للإمام أبي بكر الرازي وبعض الحنفية. والسادس: العام حقيقة في الباقي إن كان الباقي جمعا فإن كان الباقي ليس جمعا كان العام مجازا فيه وهو لأبي بكر الجصاص من الحنفية ....... = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 وأما من ذهب إلى أنه يصير مجازا احتج فى ذلك وقال أن العموم فى وضع اللغة للاستيعاب فإذا اختص فقد استعمل اللفظ فى غير ما وضع له وإذا وجد حد المجاز لا بد أن يصير اللفظ مجازا. قالوا: لا يجوز أن يقال أن أهل اللغة وضعوا اللفظ العام للاستغراق مع فقد القرينة ووضعوه للخصوص عند وجود القرينة وذلك لأنا لو اعتبرنا هذا لم يبق مجازا فى كلام العرب لأنه يمكن أن يقال أن الألفاظ كلها وضعت مع وجود القرائن لما تدل عليه القرائن فإن هذا رفع المجاز من الكلام أصلا لأن القرائن كثيرة لا تخص فلا يمكن أن يحصروها حتى يضعوا العموم مع كل واحد منهما لما يقتضيه. ببينة أن العموم ضد الخصوص والخصوص ضد العموم فكيف يتصور مع وجود ضد العموم أن يبقى العموم على حقيقته. قالوا: وأما إذا كانت القرينة المخصصة متصلة باللفظ مثل الاستثناء والشرط والصفة فإنما لم يصر مجازا لأن هذه الأشياء الثلاثة من جملة الكلام الملفوظ الذى هو العموم. وإذا صار من جملته فلا يكون لفظ العموم بانفراده حقيقة ولا مجازا ويكون العموم مع الاستثناء أو الشرط أو الصفة بمجموعة حقيقة فيما يقتضيه وبيان هذا أن القائل إذا قال اضرب بنى تميم إلا من دخل الدار أو اضرب بنى تميم الطوال أو اضرب بنى تميم أن كانوا طوالا فإنه لم يرد بعضهم وحده لأنه لو كان كذلك ما كان قد أراد الاستثناء أو الشرط أو الصفة شيئا لأن هذه الأشياء لم توضع لشىء يستقل فى دلالتها عليه فيقال أن المتكلم قد أراد لها ذلك الشىء أو أراد بالعموم وحده البعض ولأنه إذا أراد البعض بلفظ العموم لم يبق شىء زائد بالاستثناء أو الشرط أو الصفة فثبت أنه عبر عن البعض بمجموع الأمرين وإذا ثبت أن المتكلم لم يرد بلفظه.   = والسابع العام حقيقة في الباقي إن كان المخصص له شرطا أو صفة فإن كان المخصص له استثناء أو غاية أو كان المخصص مستقلا مطلقا أو عقليا كان العام مجازا في الباقي وهذا القول للقاضي عبد الجبار من المعتزلة. الثامن العام حقيقة في الباقي إن كان له دليلا لفظيا سواء كان متصلا أو منفصلا فإن كان المخصص له عقليا كان العام مجازا في الباقي انظر نهاية السول 2/395 المحصول 1/396, 397 إحكام الأحكام 2/330 البرهان 1/410 المستصفى 2/54 المعتمد 1/262 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/255/256. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 العموم وحده الاستغراق ولا البعض ثبت أنه إذا كان مع هذه الأمور لم يكن فأراد به حقيقة ولا مجازا وله إذا عنى البعض بمجموع الأمرين وهما لا يفيدان بمجموعهما إلا ذلك البعض ثبت أن ذلك حقيقة فيهما وأما فى القرينة المنفصلة فقد أراد المتكلم بنفس لفظ العموم بعض ما يتناوله فيكون مجازا على ما بينا ثم قالوا: أنه إذا ثبت أنه صار مجازا خرج من أن يكون له ظاهر فلم يجز التعلق بظاهره ولأن العموم المخصوص يجرى مجرى أن يقول الله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] ثم يقول: لا تقتلوا بعض المشركين فكما يمنع ذلك من التعلق بظاهر اللفظ كذلك غيره من التخصيص هذا حجة عيسى بن إبان. وقال بعضهم أن العموم المخصوص يجوز أن يكون فى الأدلة ما يخصه ثانيا فامتنع التعلق به لجواز أن يدل عليه تخصيص آخر. وقال بعضهم أن العلة المخصوصة لا يجوز التعلق بها كذلك العموم المخصوص وأما حجتنا فتقول أن لفظ العموم يتناول ما عدا المخصوص بأصل وضعه فلا يكون مجازا فيه وتصور موضعها حتى يزول الإشكال فنقول قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] يتناول كل المشركين بعمومه وليس كلهم سوى آحادهم فهو إذا عبارة عن كل واحد منهم ولهذا لو تركنا فظاهره مقارنة قتل كل واحد من آحاد المشركين إلى أن يستوعبوا بالقتل وإذا خرج بعض المشركين عن الآية بدليل دل عليه فيعلم قطعا أنه تناول الباقين بأصل وضعه وإذا تناوله بأصل الوضع كان حقيقة وهو مثل العشيرة إذا أخرج بعضها بالاستثناء فإنها تكون حقيقة فى الباقى كذلك هاهنا. ببينة أنه إذا كان اللفظ متناولا ما عدا المخصوص على ما بينا فالمتكلم بالخطاب إذا كان حكيما فلا بد أن يعنى ما يتناوله اللفظ إلا أن يدلنا على أنه ما عناه وهذا لأن الحكيم إذا خاطب قوما بلغتهم فإنه يعنى بخطابه لهم ما يدل عليه ذلك الخطاب عندهم وإلا كان ملبسا عليهم ولهذا المعنى إذا أورد العموم ولم يدل دليل على تخصيصه حمل على ظاهره من العموم لما ذكرناه اللهم إلا أن يقوم دليل يوجب تخصيصه وإذا ثبت أنه قد عنانا بالخطاب ما عدا المخصوص ثبت أن الحجة قائمة بالعموم فيما عدا المخصوص وليس يدخل على هذا إذا خص العموم تخصيصا مجملا وهذا نحو قول الله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] ثم قال أنا لم أرد بعضهم ولا يدرى من المعنى بذلك البعض فإنه لا يجوز الاحتجاج بمثل هذا العموم المخصوص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 لأن كل من جعل الآية حجة فى مثله يجوز أن يكون هو من البعض مخصوصا. فأما إذا كان المخصوص معلوما فقد بينا وجه كون العموم حجة فى الباقى وقد ورد من الصحابة التعلق بالعموم المخصوص فإن عليا رضى الله عنه قال فى الجمع بين الأنثتين المملوكتين فى الوطء أحلتهما آية وحرمتهما آية وقد روى عن عثمان رضى الله عنه مثل ذلك1 وعنيا بقولهما أحلتهما آية قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} وعنيا بآية التحريم قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} ومعلوم أن قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} مخصوص منه البنت والأخت واحتج ابن عباس رضى الله عنهما فى قليل الرضاع بقوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] وقال قضاء الله تعالى أولى من قضاء ابن الزبير وأن كان وقوع التحريم بالرضاع يحتاج إلى شروط وذلك يوجب تخصيص الآية ولا يعرف لهؤلاء مخالف من الصحابة. واستدلال الصحابة بالعمومات المخصوصة كثير لأنه لا يعرف عموم يلحقه خصوص إلا فى الندب وعلى الشذوذ فإن عامة ما ينطق به الصحابة والعلماء من بعدهم من العمومات فهى عمومات مخصوصة وقد قال الأصحاب فى أصل المسألة أن إيصال التخصيص بالعموم إيصال بيان اللفظ واتصال البيان باللفظ لا يجعله مجازا ولا يخرجه من أن يكون حجة كالمجمل إذا اتصل به البيان وإنما قلنا أن التخصيص بيان لأنه يبين أن اللفظ لم يتناول المخصوص ولا شمله وهذا باق بلا إشكال والاعتماد على الدليل الأول. أما الجواب قلنا قولهم العام المخصوص لفظ مستعمل فى غير ما وضع له. قلنا لا كذلك بل هو مستعمل فيما وضع له فيما سبق وهذا لأن لفظ العموم للاستيعاب إذا لم يقترن به دليل يوجب تخصيصه فأما عند وجود قرينة مخصصة توجب تخصيصه فلا بل اللفظ عند وجود القرينة موضوع لما وراء المخصوص. وقولهم أن هذا يؤدى إلى رفع المجاز من الكلام لا يصح لأنه إذا كان اللفظ مستعملا فى أصل ما وضع له اللفظ إلا أنه فى البعض دون البعض. فإذا قيل هو حقيقة فيه كيف يؤدى إلى رفع المجاز نعم لو قلنا أن لفظ الأسد عند اتصال القرينة وضع للشجاع حقيقة كان يؤدى إلى ارتفاع الكلام من الكلام لأنه.   1 أخرجه مالك في الموطأ النكاح 2/538 ح 34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 مستعمل فى غير ما وضع له فى الأصل ويلزم على ما قالوه لفظ العشرة مع استثناء بعضها فإنه حقيقة فيما وراء المستثنى عند أصحاب أبى حنيفة وأن كان قد استعمل لفظ العشرة فى غير العشرة ومع ذلك لم يكن مجازا. قيل أن لفظ العشرة من غير قرينة موضوع لهذا العدد فأما مع قرينة الاستثناء موضوع لبعضها كذلك هاهنا والعدد الذى قالوه يقال عليه هلا قلتم فى القرينة المنفصلة مثل ما قلتم فى القرينة المتصلة وهو أن المتكلم ما أراد البعض باللفظ العام خاصة لكن أراد باللفظ والقرينة فلا يكون اللفظ العام مجازا مثل ما قلتم فى القرينة المتصلة وهذا جواب معتمد. وأما الذى قالوا: أن العموم ضد الخصوص فليس بشىء لأنه أن كان بينهما مضادة فهو فى المخصوص من اللفظ فأما فيما وراء المخصوص فلا يتصور مضاده وأما الذى تعلق به عيسى بن إبان فى منع التعلق بالعموم المخصوص فليس بشىء لأن قوله أن العموم المخصوص ليس له ظاهر يخص دعوى بل له ظاهر فيما وراء المخصوص على ما سبق. وأما كلامه الثانى فقد جمع بين التخصيص المجمل والتخصيص المفصل من غير علة وقد ذكرنا الفرق ونذكر بوجه أوضح مما سبق فنقول أن الله تعالى إذا قال: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} ثم قال لا تقتلوا بعضهم أو قال لم أرد بعضهم ولم يبين ذلك البعض فمن أردنا قتله من المشركين يتناوله قوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} إذ هو مشرك ويتناوله قوله لا تقتلوا بعضهم لأنه بعض المشركين فلم يكن بأن يدخل تحت أحد الظاهرين بأولى بأن يدخل تحت الآخر فأما إذا عين البعض وقالوا: لا تقتلوا النساء ولا تقتلوا أهل العهد أمكننا استعمال ظاهر الآية من غير ظاهر يعارضه لأن من علمناه امرأة أو علمناه من أهل العهد أدخلناه تحت التخصيص ومن علمناه رجلا لا عهد له علمنا خروجه من التخصيص فإنه مراد بالآية وهذا لأن الأشياء المعلومة إذا خرج منها أشياء معلومة كنا عالمين بما عداها وإذا خرج منها أشياء مجهولة بقى الثانى مجهولا لأنه لا يدرى الذى خرج منها مما لم يخرج ألا ترى أن العشرة معلومة فإذا علمنا أنه قد خرج منها ثلاثة علمنا أنه قد بقى سبعة وإذا علمنا أنه خرج منها عدد لا نعلمه لم ندر ما بقى منها. وأما تعلقهم بالعلة المخصوصة فسنبين الفرق بين العلة المخصوصة والعموم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 المخصوص فى مسألة تخصيص العلة. وإذا عرفنا أن العموم المخصوص لا يصير مجازا حجة فى الباقى فنقول قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة 5] عام مخصوص والاستدلال به جائز على ما سبق وكذلك قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] فإنه عام فى كل سارق سرق قليلا أو كثيرا من حرز أو من غير حرز فقيام الدلالة على اشتراط الحرز وقدر مخصوص لا يمنعنا من العلم بوجوب قطع من سرق نصابا من حرز بالآية وذهب بعض أصحاب أبى حنيفة إلى أنه لا يجوز التعلق بهذه الآية لأنه قد شرط فى القطع شرط لا ينبىء عنه لفظ الآية فلم يكن إيجاب القطع بمجرد قوله سارقا وهو الذى يتناوله لفظ الآية وفى قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} يقتل الحربى لكونه مشركا وربما يقولون بعد قيام الدلالة على اشتراط الحرز ومقدار المسروق ولا يمكن أن يستدل بالآية على قطع من وجد فيه الشرطان إلا بعد أن يضم إلى الآية ما دل على اشتراط الشرطين فثبت أنه لا يجوز التعلق بظاهر الآية. والجواب أن كلا الكلامين ليس بشىء. أما الأول فنقول أن كان اللفظ لا ينبىء عن النصاب والحرز فلفظ المشركين لا ينبىء عن عدم العهد ولا عن الذكورة أيضا لكن قيل أن قوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} عام فى أهل العهد وأهل الحرب فمنع قتل أهل العهد بتخصيص كذلك قوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} عام فى السارق من حرز وغير حرز وكذلك سارق النصاب وما دونه ومنع قطع السارق ما دون النصاب أو من غير حرز تخصيص وكلامه الثالث يدخل عليه أيضا قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} لأنه لا يمكن قتل المشرك الذى هو غير المعاهد إلا بعد أن يضم دليل الشرطين. فإن قالوا: هناك قتلناه لأنه مشرك فحسب. قلنا وهاهنا أيضا إذا سرق نصابا من حرز نقطعه لأنه سارق فحسب وهذا لأنه يحتاج إلى إثبات الشرطين بدليلهما حتى لا يقطع بعض السراق لا لتقطع من يجب قطعه مثل أنه قتل المشركين. إنما احتجنا إلى إثبات الشرطين حتى لا نقتل بعض المشركين لا لنقتل من يجب قتله إلا أن البيان لذلك قد يرد بلفظ النفي بأن يقول: لا تقطعوا من سرق من غير حرز وقد يرد بلفظ الإثبات بأن يقول: الحرز والنصاب شرط فى القطع وكلا القولين قضيته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 نفى القطع عن السارق من غير حرز ولا نصاب فأما إثبات القطع عند وجود الحرز والنصاب معلوم يتناول الآية إياه وقد جهد المخالفون أن يفصلوا بين الاثنين بوجه ما ولا يمكنهم ذلك فاعلمه فإنك تجده كذلك والله الموفق للصواب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 فصل: أقل ما يتناوله تخصيص لفظ العموم ... فصل. ذهب أبو بكر القفال إلى أن تخصيص لفظ العموم يجوز إلى الثلاثة ولا يجوز تخصيص اللفظ فيما دون الثلاثة إلا بما يجوز به النسخ. وذهب سائر أصحابنا إلى أنه يجوز تخصيص اللفظ العام إلى أن يبقى واحد. وذهب القفال إلى أن لفظ العموم دليل على الجمع بلفظه وأقل الجمع ثلاثة فلا يجوز تخصيصه فيما دونه لأنه يخرج عن كونه لفظا للجمع فينزل منزلة النسخ1.   1 اعلم أن في هذه المسألة أربع أقوال: الأول: وهو المختار للبيضاوي وأبي الحسين البصري وكثير من الفقهاء أنه يجوز تخصيص العام إلى أن يبقى من العام مقدار كثير غير محصور لا فرق بين أن يكون العام جمعا كالرجال أو غير جمع كمن وما - ولا يجوز استعمال العام في الواحد إلا إذا قصد به التعظيم كقوله تعالى: {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} القول الثاني: يجوز أن يكون الباقي أقل المراتب التي يطلق عليها اللفظ الذي دخله التخصيص فإن يكون غير جمع كالمفرد المحلى بالألف واللام ومن ما صح أن يكون الباقي واحدا لأنه أقل مراتب الفرد وإن كان الباقي أقل مراتب الجمع وقد سبق الخلاف فيها وهذا هوالمختار للقفال الشاشي من الشافعية. القول الثالث: يجوز أن يكون الباقي بعد التخصيص واحد مطلقا سواء كان اللفظ الذي دخله التخصيص جمعا أو غير جمع وهذا القول هو المعروف عن الحنفية. القول الرابع: وهو لابن الحاجب ولم يعرف عن غيره التفصيل الآتي: أولا: في التخصيص بالمتصل: إن كان التخصيص بالمتصل: إن كان التخصيص بالاستثناء أو بالبدل جاز أن يكون الباقي بعد الإخراج واحدا نحو علي عشرة إلا تسعة وأكرم الناس العالم. وإن كان التخصيص بالصفة أو بالشرط جاز أن يكون الباقي اثنين - نحو أكرم الناس العلماء - أو إن كانوا علماء - وقصد من الناس محمدا وخالدا. وثانيا: في التخصيص بالمنفصل. إن كان العام محصورا وكان قليلا جاز التخصيص إلى أن يبقى اثنان نحو: قتلت كل زنديق ولم يقتل إلا اثنين من أربعة ......... = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 وحرفه أن لفظ المشركين لا يحصل للواحد بحال ولا يجوز رد اللفظ إلى ما لا يصلح له وكذا أن المنع من ذلك أما أن يكون لأن الخطاب بهذا التخصيص يصير مجازا أو لأنه إذا استعمل فى الواحد لم يكن مستعملا فى الجمع واللفظ للجمع فيكون قد استعمل الخطاب فى غير موضوعه ولا يجوز أن نمنع الأول لأنه لو كان كذلك لم يجر التخصيص بكل حال لأنه أن صار مجازا بالتخصيص إلى أن يبقى واحدا يصير مجازا بالتخصيص أيضا وأن بقيت ثلاثة ولا يجوز أن يمنع بالثانى لأن اللفظ العام موضوع للاستغراق لا غير وأما الجمع تبع له فإن لم يجز استعماله فى غير الجمع وجب أن لا يجوز استعماله فى غير الاستغراق بل لا يكون المنع هاهنا لأنا بينا أن اللفظ للاستغراق والجمع تبع له وهذه حجة فى نهاية الجودة وقد ظهر فيها الجواب عما قالوه. وقد قال الأصحاب أن التخصيص من العام كالاستثناء من المستثنى منه والقرينة المتصلة كالقرينة المنفصلة لأن كلام الشرع وأن تفرق فى المورد وجب ضم بعضه إلى بعض وبناء بعضه على بعض ثم صح الاستثناء ما بقى من اللفظ شىء فكذلك التخصيص. وتحريره أن ما جاز تخصيص العام به إلى الثلاث جاز إلى ما دونه كالاستثناء ولأنه لفظ من ألفاظ العموم فجاز تخصيصه فيما دون الثلاث كمن وما فإن من عام فيمن يعقل وما فيما لا يعقل ثم جاز أن يلحقها الخصوص إلى أن يبقى الواحد كذلك هاهنا وقد سلم القفال ولم يسلمه من وافقه من المتكلمين وهذا وأن قيل ولكن الاعتماد على الأول وأما النسخ فهو رفع الحكم أصلا وأما التخصيص فليس رفع الحكم لكنه نوع بيان اتصل بالآية على ما سبق تقديره ولأن النسخ بمنزلة استثناء العشرة من العشرة والتخصيص بمنزلة استثناء البعض.   = وإن كان غير محصور نحو: قتلت كل من في المدينة أو كان محصورا كثيرا نحو: أكلت الرمان جاز التخصيص إلى أن يبقى من العام عدد قرب مدلوله قبل التخصيص ويعرف ذلك بكون الذي خرج عددا قليلا أو بدليل آخر انظر إحاكم الأحكام 2/412 نهاية السول 1/386 المحصول 1/399 روضة الناظر 210 المعتمد 1/236 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/252. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 فصل: فيما يخص به لفظ العموم ... فصل والكلام يقع الآن فيما يخص به العموم فنقول. الذى يخص به العموم شيئان عقل وشرع. فأما تخصيصه بالعقل فى قول جمهور العلماء والمتكلمين وقالوا: هو مثل قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: 16] فدليل العقل قد خص هذه الآية لأنه تعالى غير خالق لذاته ولا لصفات ذاته وكذلك قوله: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 23] وقوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً} [الكهف: 84] فعلم بالمعقول أنه لم يؤت من جميع الأشياء وكذلك فى الآية الثانية. ومنع قوم من تخصيص العموم بالعقل لأن دليل العقل متقدم على وجود السمع فأجازوا أن يتقدم دليل التخصيص على العموم المخصوص1 وهذا فاسد من وجهين أحدهما أنه لما جاز التخصيص بما لا يوجب العلم من أخبار الآحاد فلأن يجوز بما يوجب العلم من دلائل العقل أولى. والثانى أنه يستحيل اعتقاد الاستغراق فى قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: 16] وكذلك فى قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً} [الكهف: 84] وإذا استحال العموم ثبت الخصوص وأن تقدم العقل على بعض السمع فلا شك أنه إذا خص بما قارنه من دليل العقل لا بما يتقدمه ويقال لمن منع منه أتحمل قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: 16] وقوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً} [الكهف: 84] على الاستيعاب فى كل ما يتناوله اسم الشىء. فإن قالوا: هذا فهو جهل بالله تعالى وكذلك فى الآية هو جهل منه بالاستثناء وأن قالوا: هو مخصوص فقد قيل ما قلناه. وأما تخصيص العموم بالشرع فضربان. أحدهما يتصل به. والثانى ينفصل عنه. وأما المتصل به فسنفرد له بابا. وأما تخصيصه بالمنفصل منه2 فنقول هو على أربعة أضرب.   1 انظر البرهان 1/408 ونهاية السول 2/451 المستصفى 2/98 إحكام الأحكام 2/459 روضة الناظر 214 انظر المحصول 1/427 المعتمد 1/252. 2 المخصص المنفصل: هو ما استقل عن الكلام الذي دخله التخصيص بحيث لا يحتاج إليه في النطق انظر أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/300. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 أحدها: تخصيصه بالكتاب. والثانى: بالسنة. والثالث: بالإجماع. والرابع: بالقياس. فأما تخصيصه بالكتاب. فلا يخلو حال العموم من أن يكون ثابتا بالكتاب أو السنة فإن كان بالكتاب فتخصيصه جائز بالكتاب مثل قوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] خص بقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] ومثل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً} [البقرة: 234] خص بقوله تعالى وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن الطلاق 4 ومثل قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] خص بقوله تعالى: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} 1 [الأحزاب: 49] . وإن كان العموم ثابتا بالسنة فيجوز أن يخص بالكتاب لأنه لما جاز أن يخص الكتاب بالكتاب فأولى أن يخص السنة بالكتاب2 وأما النسخ فيستبين فى باب النسخ ونذكر الفرق بين النسخ والتخصيص واعلم أنه كما يجوز التخصيص ببعض الكتاب يجوز التخصيص بفحوى الكلام ودليل الخطاب من الكتاب أما فحوى النص3 فهو جار مجرى النص وأما دليل الخطاب فيجوز تخصيص العموم به على الظاهر من مذهب الشافعى4 لأنه مستفاد من النص فصار بمنزلة النص ومثاله من الكتاب قوله تعالى.   1 انظر نهاية السول 2/457 إحكام الأحكام 2/465 المحصول 1/428 المعتمد 1/254 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/301. 2 انظر إحكام الأحكام 2/470 روضة الناظر 216 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/305. 3 أي مفهوم الموافقة وهو لا خلاف فيه بين علماء الأصول في تخصيص للعام لأنهم متفقون على حجيته وعند تعارضه مع العام يخصص به العام انظر نهاية السول 2/467 المستصفى 2/105 انظر إحاكم الأحكام 2/478 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/316. 4 أي مفهوم المخالفة والحنفية لا يرونه حجة ولذلك لا يخصصون به العام انظر نهاية السول 2/468 إحكام الأحكام 2/68 المستصفى 2/105 انظر أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/316. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} فكان عاما فى كل مطلقة ثم قال: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة: 236] فكان دليله أن لا متعة للمدخول بها فيخص بها فى أظهر قوليه عموم المطلقات وامتنع من التخصيص فى القول الآخر وأما تخصيص عموم الكتاب والسنة بالسنة. فإن كانت السنة متواترة فيجوز تخصيص العموم بها سواء كان العموم فى الكتاب أو فى السنة وسواء كان العموم المخصوص فى السنة ووروده بالتواتر أو بالآحاد لأن السنة المتواترة كالكتاب فى إفادتها العلم فإذا جاز تخصيص الكتاب بالكتاب جاز بالسنة المتواترة1. وأما تخصيص الكتاب بالسنة أو السنة المتواترة بالآحاد. فأخبار الآحاد ضربان. أحدهما: ما اجتمعت الأمة على العمل به كقوله عليه السلام: "لا ميراث لقاتل" 2 "ولا وصية لوارث" 3 وكنهيه عن الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها وابنة أخيها فيجوز تخصيص العموم به ويجوز ذلك ويصير كتخصيص هذا للعموم بالسنة المتواترة لأن هذه الأخبار بمنزلة المتواترة لانعقاد الإجماع على حكمتها وأن لم ينعقد الإجماع على روايتها. وأما الضرب الثانى: من الآحاد وهو مما لم تجمع الأمة على العمل به فهو المسألة التى اختلف العلماء فيها. مسألة يجوز تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد عندنا وعند الكثير من المتكلمين. وقال بعض المتكلمين من المعتزلة لا يجوز وهو قول شرذمة من الفقهاء. وقال عيسى بن أبان أن كان قد خص العموم يجوز تخصيصه وأن كان لم يخص.   1 انظر نهاية السول 2/456 انظر إحكام الأحكام 2/472 المحصول 1/429. 2 أخرجه الترمذي الفرائض 4/425 ح 2109 وابن ماجه الديات 2/883 ح 2645 والدارقطني سننه 4/96 ح 86 والبيهقي في الكبرى 6/361 ح 12243. 3 أخرجه أبو داود الوصايا 3/113 ح 287 والترمذي الوصايا 4/433 ح 2120 وقال حديث حسن صحيح وابن ماجه الوصايا 2/905 ح 2713 ونصب الراية 4/403. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 لا يجوز1 وتعلق من قال بذلك بأن الكتاب موجب العلم والعمل فلا يجوز أن يخص بما يوجب العمل دون العلم ولأنه إسقاط بعض ما تضمنه الكتاب فلا يجوز بخبر الواحد دليله النسخ. وأما عيسى بن أبان فقال إذا خص العموم يصير مجازا على ما سبق من قوله وخرج أن يكون له ظاهر فى قضيته فصار تخصيصه بمنزلة بيان المجمل. وأما إذا لم يخص منه شىء فهو باق على حقيقته وهو مفيد للعلم ما يقتضيه فلا يجوز تخصيصه بخبر الواحد لأنه نوع ترك فيكون ما يفيد العلم بما يفيد الظن. وأما دليلنا فلأن خبر الواحد دليل موجب للعمل فما دل على وجوب العمل فهو الدليل على جواز التخصيص به وهذا لأن العمل بالدليلين واجب ولا يجوز ترك دليل إذا أمكن العمل به وإذا قلنا بالتخصيص الذى ذكرناه عملنا بالدليلين وإذا قلنا لا يجوز التخصيص تركنا دليل السنة. وبيان الترك أنها دلت على شىء مخصوص وقد تركوه حيث لم يخصوا بها العموم وأما إذا خصصنا العموم فلم نترك دليله لأنه بدليله باق فيما وراء المخصوص. فإن قالوا: تركتم القول بالاستيعاب فى العموم. قلنا قد بينا أن اعتقاد العموم لا يجوز بنفس الورود ما لم يعرض العموم على الأصول الثابتة بالكتاب والسنة ثم إذا عرضنا ولم نجد دليلا مخصصا حينئذ نعتقد عمومه فإذا وجد فى الأصول ما يخصه لم يكن هذا ترك القول بما يقتضيه العموم من الاستيعاب بل هو فى الحقيقة بيان اتصل بالكتاب فظهر أنه ورد مقتضيا حكمه فيما وراء المخصوص ويمكن أن يستدل فى المسألة بإجماع الصحابة على تخصيص قوله تعالى: {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 230] فإن عمومه يقتضى إباحتها قبل الدخول وبعد فخصوه بقوله عليه السلام: " لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك" 2 وكذلك خصوا قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11] بقوله.   1 انظر نهاية السول 2/459 إحكام الأحكام 2/472 المحصول 432 المستصفى 2/114 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/306. 2 أخرجه البخاري اللباس 10/276 ح 5792 ومسلم النكاح 2/1055 ح 111/1433 وأبو داود الطلاق 2/303 ح 2309 والنسائي الطلاق 6/118 باب الطلاق للتي تنكح زوجا ثم لا يدخل بها وابن ماجه النكاح 1/621 ح 1932. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 عليه السلام: "لا يتوارث أهل ملتين شتى" 1 الخبر وكذلك قوله عليه السلام: "إنا معاشر الأنبياء لا نورث" 2 وخصوا قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] بنهيه عليه السلام عن قتل النساء. وأما دليلهم فنقول استغراق العموم يقتضيه غالب الظن دون اليقين فجاز أن يعارضه من أخبار الآحاد ما يوجب غالب الظن دون اليقين وعلى أن خبر الواحد معلوم الأصل باليقين وهو إجماع الصحابة رضى الله عنهم فإنهم أجمعوا على قبوله والعمل به على ما سنبين من بعد فأجرى عليه حكم أصله كما أن جهة القبلة معلومة وأن كان الاجتهاد عند إشكالها مظنونا فأجرى عليه حكم أصلها وأجزأت الصلاة كذلك هاهنا وأما النسخ فهو يقع الحكم بعد ثبوته فلا يجوز بدليل مظنون إذا كان ثبوت المرفوع بدليل مقطوع به وأما التخصيص فليس برفع للحكم إنما هو فى الحقيقة ما بيناه من اتصال بيان بالعموم فصار بمنزلة اتصال بيان بمجمل الكتاب فيجوز بخبر الواحد. وأما الذى قاله عيسى بن أبان فقد قاله من أصل اعتقده لا يوافقه عليه فذكرنا بطلانه وضعف الدليل الذى استدل به والله أعلم.   1 أخرجه أحمد والنسائي وأبو داود وابن ماجه والدارقطني وابن السكن من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ورواه ابن حبان من حديث ابن عمر ومن حديث جابر رواه الترمذي واشتغربه وفيه ابن ليلى وانظر تلخيص الحبير 9713. 2 أخرجه البخاري الفرائض 12/8 ح 6730 ومسلم الجهاد 3/1379 ح 51/1758 بلفظ "لا نورث ما تركنا فهو صدقة" وأبو داود الإمارة 3/142 ح 2968 والترمذي السير 4/158 ح 1610 والنسائي الفئ 7/117 كتاب قسم الفئ ومالك في الموطأ الكلام 2/993 ح 27 وأحمد المسند 6/163 ح 25178. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 فصل: تخصيص السنة بالسنة ... فصل وأما تخصيص السنة بالسنة فجائز. وعن داود أنه لا يجوز3 لأن الله تعالى جعل رسوله صلى الله عليه وسلم مبينا فلا تحتاج سنته إلى بيان وهذا ليس بشىء لأنه إذا جاز تخصيص الكتاب بالكتاب جاز تخصيص السنة بالسنة.   3 انظر إحاكم الأحكام 2/469 المحصول 1/469 نهاية السول 1/429 نهاية السول 2/457 المعتمد 2/255 وأصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير 2/305. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 وقوله أن السنة بيان. قلنا والكتاب تبيان قال الله تعالى: {تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] فإذا جاز تخصيص الكتاب بالكتاب وأن كان تبيانا كذلك يجوز تخصيص السنة بالسنة موجود كما وجد تخصيص الكتاب بالكتاب فوجب القول به فى الموضعين. وبيان وجود تخصيص السنة بالسنة قوله عليه السلام: "لا تنتفعوا من الميتة بشىء" 1 قد خص بما روى أنه عليه السلام قال فى شاة ميمونة: "هلا أخذتم إهابها فدبغتموه" 2 وأما تخصيص عموم الكتاب بالسنة بأفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتخصيصه بها. ومنع أبو الحسن الكرخى من أصحاب أبى حنيفة أن يخص عموم القول بالفعل ولهذا لم يخص نهيه عن استقبال القبلة واستدبارها بالغائط والبول باستقبال رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بيت المقدس واستدباره الكعبة وقد خصت الصحابة قوله عليه السلام فى الجمع بين الجلد والرجم بفعله فى رجم ماعز والغامدية من غير جلد هكذا ذكره الأصحاب. وعندى أن هذا بالنسخ أشبه وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الوصال ثم خص عموم نهيه بفعله فى حقه دون غيره. وأما تخصيص العموم بالإجماع. فهو جائز لأن الإجماع حجة قاطعة3 وقد خص بالإجماع قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] بأن العبد لا يرث وإذا جاز أن يخص الإجماع الكتاب جاز أن يخص به عموم السنة أيضا. وأما تخصيص العموم به على ما قدمناه. وأما إذا ظهر القول فى الحادثة من أحدهم ولم يظهر من أحد منهم خلافة ولا وفاق معه فإن حصل إجماعا لانتشاره جاز تخصيص العموم به.   1 أخرجه البيهقي في الكبرى 1/40 ح 94 انظر نصب الراية 1/120. 2 أخرجه مسلم الحيض 1/276 ح 100/363 وأبو داود اللباس 4/64 ح 4120 والترمذي اللباس 4/220 ح 1727. 3 انظر المحصول 1/430 المستصفى 2/112, 113 نهاية السول 2/456 البرهان 1/442 وإحكام الأحكام 2/477 انظر أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/304, 305. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 وإن لم يحصل إجماعا لعدم انتشاره فقد كان الشافعى رحمه الله يجعله فى القديم حجة كالقياس وهو قول أبى حنيفة ومالك ثم رجع عنه فى الجديد وصح أن يكون حجة فعلى هذا القول لا يجوز تخصيص العموم به. وأما القول القديم فقد اختلف أصحابنا فى تخصيص العموم به فقال بعضهم يجوز لأنه حجة شرعية بمنزلة سائر الحجج وقال بعضهم لا يجوز لأن الصحابى محجوج بالعموم فلا يخص بقوله العموم وقد كانت الصحابة يتركون أقوالهم إذا سمعوا العموم فى خبر النبي صلى الله عليه وسلم قال ابن عمر كنا نخابر أربعين سنة حتى روى لنا رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة فتركناها بخبره1 ومثل هذا يوجد كثيرا. وأما تخصيص عموم الخبر بمذهب راويه. فإنه أجازه أبو حنيفة لأنه أعرف بمخرج ما رواه من غيره مثل ما روى عن أبو هريرة أنه أفتى بغسل الإناء من ولوغ الكلب ثلاث مرات2 وقد روى غسله سبعا عن النبي صلى الله عليه وسلم3 وخص روايته بمذهبه ببينة أن الرواى لا يترك ما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا وقد عرف من النبي صلى الله عليه وسلم تخصيص الكتاب أو نسخه وهذا فاسد عندنا لأن روايته حجة ومذهبه ليس بحجة فلا يجوز تخصيص ما هو حجة بما ليس بحجة4 ولأنه محجوج بالخبر فلا يجوز تخصيصه بقوله كغيره. ويبينه: أن مقتضى العموم معلوم وليس فى مقابلته إلا حسن الظن بالراوى ومعنى حسن الظن بالراوى أنه لولا أنه علم قصد الرسول صلى الله عليه وسلم ومراده من العموم لم يخالف وهذا وأن كان كذلك إلا أنه مظنون وكون العموم حجة فى جميع ما يسوغه العموم معلوم ولا يجوز ترك المعلوم بالمظنون وعلى أن خلافه لو كان يعلم مقصد الرسول صلى الله عليه وسلم كان ينبغى أن يتبين ذلك لكى يزيل عن نفسه الإيهام بمخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم والكلام.   1 أخرجه مسلم البيوع 3/1179 ح 106/1547 ولم يذكر أربعين سنة وأحمد المسند 2/16 ح 4585. 2 عزاه الحافظ الزيلعي لابن عدي في الكامل انظر نصب الراية 1/131. 3 أخرجه البخاري الوضوء 1/330 ح 172 ومسلم الطهارة 1/234 ح 89/279 وأبو داود الطهارة 1/18 ح 71 والترمذي الطهارة 1/151 ح 91 والنسائي الطهارة 1/46 باب سؤر الكلب وابن ماجه الطهارة 1/130 ح 363. 4 انظر المحصول 1/449 وإحكام الأحكام 2/485 نهاية السول 2/474 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/324. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 الوجيز فى هذا أن علينا أن نعتقد العموم فى قول الرسول صلى الله عليه وسلم ونجعله حجة على كل من يخالفه وليس علينا أن نتفحص عن قول من يخالفه أنه من أين قال بل يحتمل أنه عن قياس فاسد ورأى باطل وخلاف من ليس بمعصوم عن الخطأ لا يقابل قول من هو معصوم عن الخطأ وعلى هذا نقول قول ابن عباس أن المرتد لا يقتل أن ثبت عنه لا يخص به عموم قوله عليه السلام: "من بدل دينه فاقتلوه" 1 وأما تفسير الراوى لأحد محتملى الخبر يكون حجة فى تفسير الخبر كالذى رواه ابن عمر أن المتبايعين بالخيار ما لم يتفرقا وفسره بالتفريق بالأبدان لا بالأقوال فيكون أولى لأنه قد شاهد من خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم ما عرف به مقاصده وكان تفسيره بمنزلة نقله والفرق بين تفسيره وتخصيصه بمذهبه أن تفسيره موافق للظاهر غير مخالف له فأخذ به وأما مذهبه مخالف فلا يخص به على ما سبق. وأما التخصيص بالقياس. فقد اختلف فيه مثبتوا القياس فذهبت شرذمة من الفقهاء وكثير من المعتزلة إلى أن تخصيص العموم بالقياس لا يجوز لأن ظاهر العموم أقوى من القياس فلم يجز أن يخص القياس والدليل على أنه أقوى أنه دليل علمى والقياس دليل ظنى ولا شك أن العلمى أقوى من الظنى ولأنه لما لم يجز النسخ بالقياس لا يجوز التخصيص به ولأن العموم نص والقياس يستعمل مع عدم النص. وقال عيسى بن أبان وهو الظاهر من مذهب أبى حنيفة أنه يجوز أن يخص بالقياس عموم دخله التخصيص ولا يجوز أن يخص به عموم لم يدخله التخصيص وذهب أبو بكر محمد بن أبى طالب الأشعرى وجماعة من متأخريهم إلى أن العموم والقياس إذا تقابلا وجب الوقف عن استعمال أحدهما لتكافئهما من حيث أن كل واحد منهما صار حجة فعليه يتوقف حتى يقوم دليل يوجب ترجيح أحدهما وأما الشافعى ومالك وأكثر الفقهاء ذهبوا إلى جواز تخصيص العموم بالقياس لأنه دليل شرعي منصوب لمدارك الأحكام فيخص به العموم كسائر الدلائل. ببينة أن فى تخصيص العموم بالقياس استعمالا لدليلى العموم والقياس جميعا فكان أولى من استعمال أحدهما وإسقاط الآخر ولأن القياس يدل على الحكم من.   1 تقدم تخريجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 طريق المعنى والعموم يدل من طريق الاسم والمعانى والأسامى إذا التقتا كان القضاء للمعانى على الأسامى. والجواب عما ذكروه أما قولهم أن العموم أقوى من القياس لا نسلمه وقولهم أنه يفيد العلم قلنا إنما يفيد العلم بأصل وروده فأما فى محتملاته فلا نسلم ذلك بل هو مجرد ظاهر فى الاستيعاب ويحتمل خلافه وعلى أنه لا يمتنع أن يخص الأقوى بالأضعف كما يخص الكتاب بالسنة وأما تعلقهم بالنسخ فنقول النسخ رفع حكم ثابت فامتنع بالقياس لضعفه وأما التخصيص فمعرفة ما لم يرد بالعموم والقياس يجوز أن يدل على ذلك تبيين الفرق أن عموم الكتاب يجوز تخصيصه بخبر الواحد على ما قدمناه فلا يجوز نسخه به وأما قولهم أن العموم نص قلنا صيغة العموم إنما يدخل فى النص إذا لم يخصها القياس فإن خصها لم يدخل فيه. وأما الذى قاله عيسى بن أبان فقد أجبنا من قبل وإذا ثبت جواز تخصيص العموم بالقياس فيجوز بالقياس الجلى فأما بالقياس الخفى فعلى وجهين قال بعض أصحابنا لا يجوز لقوة الجلى وضعف الخفى وقال بعضهم يجوز لأن الخفى ألحق بالجلى فى ثبوت الحكم فيلحق به فى تخصيص العموم1.   1 اعلم أن الأسنوي قد نقل الانفاق على أن القياس القطعي يخصص به العام من الكتاب والسنة المتواترة وأما القياس الظني فهو محل الخلاف وقد اختلف الأصوليون في ذلك على أقوال كثيرة أهمها ما ذكره البيضاوي وهوسبعة أقوال: القول الأول: وهو المختار للبيضاوي ونقل عن الأئمة الأربعة أنه يجوز تخصيص العام من الكتاب والسنة المتواترة بالقياس. القول الثاني: لا يجوز مطلقا - وهو المختار للإمام الرازي وأبي علي الجبائي من المعتزلة. القول الثالث: إن خصص العام بمخصص قبل القياس جاز تخصيصه بالقياس وإن لم يخصص العام قبل ذلك لا يجوز تخصيصه بالقياس وهذا القول لعيسى بن أبان - غير أن الأسنوي قيد هذا القول بما قاله عيسى بن أبان في الخبر وهو أنه لا بد أن يكون مخصص العام قبل القياس قطعيا ولكن ظاهر كلام البيضاوي وصاحب جمع الجوامع أن هذا الشرط غير مطلوب في تخصيص العام بالقياس وقالوا في الفرق إن القياس أقوى من خبر الواحد فلا يشترط في الأقوى ما يشترط في الأضعف وقد استدل عيسى بن أبان بما استدل به في خبر الواحد. القول الرابع: إن خصص بمتصل أو لم يخصص أصلا لم يجز في تخصيصه بالقياس وإن خصص بمنفصل جاز تخصيصه به - وهذا لأبي الحسن الكرخي. القول الخامس: إن كان القياس جليا بأن قطع فيه نفي تأثير الفارق بين الأصل والفرع كقياس ........ = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 وأما التخصيص بدليل الخطاب. فيجوز تخصيص العموم به. قال أبو العباس بن سريج لا يجوز وهو قول أكثر أهل العراق لأن عندهم أنه ليس بدليل والكلام معهم يجىء أن شاء الله. وعندنا هو دليل كالنطق فى أحد الوجهين وكالقياس فى الوجه الآخر وأيهما كان يجوز التخصيص به. وأما فحوى الخطاب. فيجوز التخصيص به وقد بيناه. ثم اعلم أن من تخصيص العموم بالقياس قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] ثم خصت الأمة بنصف الحد نصا بقوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} ثم خص العبد بنصف الحد قياسا على الأمة فصار بعض الآية مخصوصا بالكتاب وبعضها مخصوصا بالقياس ومن ذلك قوله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ..} إلى قوله: {فَكُلُوا مِنْهَا} ثم خص منها بالإجماع تحريم الأكل من جزاء الصيد وخص عند الشافعى تحريم الأكل من هدى المتعة والقران قياسا على جزاء الصيد فصار بعض الآية مخصوصا بالإجماع وبعضها بالقياس على الإجماع. فهذا بيان ما قدمناه.   = العبد على الأمه بجامع الرق ليثبت له تنصيف الحد في الزنا كما ثبت له ذلك لأن الفارق بينهما هي الذكورة والأنوثة وهي غير مؤثرة في الحكم - جاز تخصيص العام به وإن كان القياس خفيا. بأن لم يقطع فيه بنفي تأثير الفارق كقياس النبيذ على الخمر بجامع الإسكار ليثبت له التحريم كما ثبت في الخمر حيث لم يقطع بنفي تأثير الفارق لجواز أن يكون كونه خمرا هو المؤثر - لم يجز تخصيص العام به وهذا القول لا بن سريج من الشافعية. القول السادس: لحجة الإسلام الغزالي: العام والقياس متعارضان في الفرد الذي دل عليه القياس فإن ترجح أحدهما على الآخر عمل بالراجح منهما وإن تساويا لم يعمل بواحد منهما فيه بل يتوقف عن العمل بواحد منهما فيه حتى يوجد المرجح. القول السابع: الوقف وعدم الجزم بشيء حتى يوجد المرجح فيعمل به وهو لإمام الحرمين انظر المحصول 1/436 وإحكام الأحكام 2/491 ونهاية السول 2/463 المستصفى 2/122 البرهان 1/428 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/311. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 وأما التخصيص بالعادة والعرف1. فقد قال أصحابنا لا يجوز تخصيص العموم به2 لأن الشرع لم يوضع على العادة وإنما وضع فى قول بعض أصحابنا على المصلحة وفى قولنا على ما أراد الله تعالى ولا معنى للرجوع إلى العادة فى شىء من ذلك والله أعلم. مسألة إذا ورد اللفظ العام على سبب خاص وكان مستقلا بنفسه يجرى على عمومه ولا يستقل بنفسه. وليس المعنى بالسبب السبب الموجب للحكم مثل ما نقل أن ماعزا زنى فرجمه.   1 العادة هي الأمر المتكرر وتعرف عند الحنفية بالعرف. والعرف نوعان: قولي وعملي. العرف القولي: هو ما ثبت باستعمال اللفظ في معنى خلاف المعنى الذي وضع له لغة مثل لفظ الدابة. العرف العملي وهو ما ثبت بالعمل والعفل لا بالاستعمال اللفظي انظر أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/317, 318. 2 اعلم أن المقصود بالعرف هنا هو العرف العملي حيث إن العرف القولي لا خلاف أنه يخصص به العام. والعرف العملي قد اختلف فيه الحنفية والشافعية فذهب الحنفية إلى أنه كالعرف القولي يخصص به العام والجامع بينهما أن كلا منهما يتبادر من اللفظ عند الإطلاق - غاية الأمر أن منشأ التبادر في العرف القولي هو استعمال اللفظ وذلك يعتبر فرقا مؤثرا في الحكم. وأما الشافعية فقالوا: إن مجرد العرف العملي الذي لا يستند إلى قرار من الرسول عليه الصلاة والسلام لا يكون مخصصا للعام الوارد على لسان الشرع لأن أفعال الناس لا تكون حجة على الشرع فإن استند إلى قرار منه عليه السلام يكون المخصص هو الإقرار وسيأتي الكلام عليه. مثال ذلك أن ينهى الشارع عن بيع الطعام بجنسه متفاضلا - ويتعارف الناس على طعام خاص فيما بينهم كالبر أو الذرة مثلا - فالطعام إذا أطلق في عرفهم يتبادر منه هذا النوع بخصوصه فهل يكون العام مخصصا بهذا العرف أو لا يكون مخصصا به في ذلك الخلاف. انظر نهاية السول 2/469 انظر المحصول 451 انظر البرهان 1/445 إحكام الأحكام 2/486 انظر أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/417, 418. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 رسول الله صلى الله عليه وسلم1 أو سها النبي صلى الله عليه وسلم فسجد2 وإنما المعنى بالسبب مثل ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن التوضؤ بماء البحر فقال: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" 3 فاقتضى الجواب أن يكون الماء طهورا فى جميع وجوه الانتفاع وكذلك روى أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عمن ابتاع عبدا فاستعمله ثم وجد به عيبا فقال: "الخراج بالضمان" 4 فكان قوله الخراج بالضمان عاما فى هذا الموضوع وفى غيره وكذلك الرخصة فى العرية إنما وقعت بسبب فقراء لم يكن لهم ما يشترون به الرطب فأجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرخصة فى العرية فكان الجواب عاما فى الفقراء والأغنياء واعلم أن من أشرط إجرائه على عمومه هو أن يكون اللفظ المذكور يمكن أن يحمل على عمومه فيكون مفيدا من غير أن يعلق بذلك السبب فأما إذا لم يفد ما لم يصر عن السبب فإنه يكون مقصورا عليه وهذا كما روى أنه عليه السلام قال فى جواب السائل حين سأله عن بيع الرطب بالتمر فقال أينقص إذا جف قالوا: نعم قال فلا إذا5 [ ... ] 6لا يمكن أن يحمل على ظاهره بدون السبب لأنه لا يستقل بنفسه فى الإفادة [ ... ] 7 على سببه. وقال مالك يقصر على سبببه وهو اختيار المزنى والقفال وأبى بكر الدقاق وقد.   1 مسلم الحدود 3/1319 ح 17/1592 وأبو داود الحدود 4/144 ح 4422 وأحمد المسند 3/466 ح 15098. 2 أخرجه البخاري السهو 3/111 ح 1224 ومسلم المساجد 1/399 ح 85/570 وأبو داود الصلاة 1/270 ح 1034 والنسائي السهو 3/17 باب ما يفعل من قام من اثنتين ناسيا ولم يتشهد؟ 3 أخرجه أبو داود الطهارة 1/21 ح 83 والترمذي الطهارة 1/100 ح 69 وقال حسن صحيح والنسائي المياه 1/143 باب الوضوء بماء البحر وابن ماجه الطهارة 1/136 ح 386 ومالك في الموطأ الطهارة 1/22 ح 12 والدارمي الطهارة 1/201 ح 728 وأحمد المسند 2/318 ح 7252. 4 أخرجه أبو داود البيوع 3/283 ح 3510 والترمذي البيوع 3/572 ح 1285 - 1286 والنسائي البيوع 7/223 باب الخراج بالضمان وابن ماجه التجارات 2/754 ح 2243 وأحمد المسند 6/233 ح 25800. 5 أخرجه أبو داود البيوع 3/248 ح 3359 والترمذي البيوع 3/519 ح 1225 وقال حديث حسن صحيح والنسائي البيوع 7/236 باب اشتراء التمر بالرطب وابن ماجه التجارات 2/761 ح 2264 ومالك في الموطأ البيوع 2/624 ح 22. 6 كشط بالأصل بمقدار كلمتين. 7 كشط بالأصل بمقدار كلمتين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 أورد بعض أصحابنا أن الشافعى أشار إلى هذا فى الخبر المروى فى بئر بضاعة وقال قوله صلى الله عليه وسلم: "الماء طهور لا ينجسه شىء" 1 مقصور على سبببه وقال فى قوله: "لا قطع فى ثمر وكثر" 2 أنه خرج على عادة أهل المدينة فى ثمارهم وأنها لم تكن فى مواضع محفوظة وسائر الأصحاب قالوا: إنما قال الشافعى هذه الأدلة دلت عليها فأما إذا لم يكن هناك دليل يدل على التخصيص فمذهبه إجراء اللفظ على عمومه. واحتج من قال بذلك بأن السؤال مع الجواب كالجملة الواحدة بدليل أن السؤال هو المعتضى للجواب والمميز له وبدليل أن الجواب إذا كان مبهما أحيل به فى بيانه على السؤال وإذا ثبت أنها كالجملة الواحدة فيجب أن يصير السؤال مقدرا فى الجواب فيخصص الحكم به. ببينة: أن السبب لما كان هو الذى أثار الحكم تعلق به تعلق المعلول بالعلة. قالوا: ولأن من حق الجواب أن يكون مطابقا للسؤال وإنما يكون مطابقا بالمساواة وإذا أجرينا اللفظ على عمومه لم يكن مطابقا. يدل عليه أن الخطاب جواب وليس بابتداء كلام وإذا جرينا على ما قلتم كان ابتداء الكلام ولم يكن جوابا ألا ترى أن من قال لغيره تغد معى فقال والله لا أتغدى يكون اليمين مقصورا على التغدى معه حتى لو تغدى لا معه لم يحنث وإنما كان كذلك لما بيناه قالوا: ولأن الراوى لما نقل السبب مع لفظ الجواب فلا بد له من فائدة وليس فائدة النقل إلا اقتصار الخطاب عليه فهذه كلماتهم فى المسألة. وأما حجتنا نقول أولا كل لفظ وجب إجراؤه على العموم عند تعريه عن سؤال خاص وجب إجراؤه على العموم وأن خرج على سؤال خاص كما لو قالت امرأة لزوجها طلقنى فقال نساؤه طوالق أو كل امرأة له طالق وهذا لأن الطلاق يقع بلفظ الزوج لا بسؤال الزوجة فاعتبر عموم لفظ الزوج وخصوصه فكذا حكم الشريعة يثبت بقول الشارع لا بسؤال السائل فاعتبر عموم لفظ الشارع وخصوصه وهذا كلام.   1 أخرجه أبو داود الطهارة 1/17 ح 66 والترمذي الطهارة 1/95 ح 66 وقال حديث حسن والنسائي المياه 1/141 باب ذكر بئر بضاعة وأحمد المسند 3/38 ح 11263. 2 أخرجه أبو داود في الحدود 4/134 - 135 الحديث 4388 والترمذي في الحدود 4/52 - 53 الحديث 1449 والنسائي 8/86 وابن ماجه 2593 والدارمي 2/174 والإمام أحمد في مسنده 3/463. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 لا بأس به إلا أن التعلق بمسألة الطلاق ضعيف لأن الكلام فى عمومه يقبل التخصيص فى الطلاق لو قال نساؤه طوالق وكل امرأة له طالق وقال عنيت بعض نسائى لم يصدق بخلاف خطاب الشارع لو قام الدليل أنه عنى البعض يكون محمولا عليه على الخصوص وصح ذلك والحجة المعتمدة أن الكلام فى جواب له صيغة صالحة للسبب وغيره حتى يوجد الاستيعاب وقد قام الدليل لنا على أن صيغة العموم لاستيعاب كل ما يصلح له فنقول اللفظ العام الصادر عن الشارع أو عن حكم يجب إجراؤه على عمومه إلا أن يمنع مانع ولا مانع من إجرائه على عمومه فيجرى وهذا لأنه ليس من شرط الجواب أن لا يزيد على السبب نعم من شرطه أن لا يقصر عن السبب أما أن يكون من شرطه ترك الزيادة على السبب فلا ببينة أنه لا يلزم المجيب أن لا يجيب إلا بقدر السؤال لا من حيث العادة ولا من حيث الشريعة ألا ترى أن الله تعالى سأل موسى عليه السلام عما فى يمينه فقال {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} طه 17 فأجاب موسى {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} طه 18 فأجاب وزاد فثبت أن السؤال عن شىء خاص لا يوجب قصر اللفظ عليه. يدل عليه أن تخصيص العموم يكون بالمنافى ولا منافاة بين السبب والخطاب فى شىء ما ولم يجريه التخصيص وهذه كلمات معتمدة فليكن التعويل عليها لا على الأول. وأما الجواب عن كلماتهم قولهم أن السؤال والجواب كالشىء الواحد. قلنا أن كان كذلك فهو فى قدر ما يكون جوابا عن السؤال وأما فيما يزيد عليه فلا ثم يدخل عليه مسألة الطلاق ولو جعل الجميع كالشىء الواحد لم يقع إلا على هذه المرأة على الخصوص. وأما قولهم أن السبب مشير للحكم فصار كالمعلول مع العلة. قلنا ليس الكلام فى مثل هذا السبب وقد بينا هذا فى أول المسألة حتى لو كان السبب المنقول هو المؤثر كان الحكم متعلقا به. وأما قولهم أن من حق السؤال أن يكون مطابقا للجواب. قلنا أن أردتم بالمطابقة مساواة الجواب للسؤال فغير مسلم أنه من شرط الجواب وقد بيناه وإن أردتم بالمطابقة انتظام الجواب لجميع السؤال فذلك يحصل بالمساواة من. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 غير مجاورة وبالمساواة مع المجاورة كما فى سؤال موسى عليه السلام عن عصاه وسؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن التوضؤ بماء البحر. وأما قولهم أن هذا الخطاب جواب وليس بابتداء كلام. قلنا بل هو جواب وابتداء كلام على معنى جواب عما سئل عنه وبيان أيضا لحكم ما لم يسأل عنه وهو صحيح غير ممتنع لم بينا أن السؤال يقتضى جواب ما سئل عنه. فأما أن يمنع الزيادة عليه فلا وقد ذكرنا وجه صحة هذا مثالا ومعنى وأما إذا قال تغد معى فقال والله لا أتغدى قلنا لا نعرف أن المسألة على مذهب الشافعى فعلى ما قالوه وعلى أن الأيمان محمولة على العادة فى الفتاوى لا على حقائق الألفاظ. وأما قولهم أن الراوى نقل السبب ولا بد له من فائدة. قلنا فائدته أن لا يجوز تخصيص ما وقع السؤال عنه من العموم. وقد قال بعضهم فى أصوله أن مذهب أبى حنيفة أنه يجوز وهذا لا يعرف من مذهبه1.   1 انظر نهاية السول 2/476 المحصول 1/448 وإحكام الأحكام 2/488 روضة الناظر 205 القواعد لابن اللحام 363 أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير 2/321. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 فصل: تعارض اللفظان من صاحب الشرع ... فصل: إذا تعارض اللفظان من صاحب الشرع فلا يخلو أما أن يكونا خاصين أو عامين أو أحدهما خاصا والآخر عاما أو يكون كل واحد منهما عاما من وجه خاصا من وجه. فأما إذا كانا خاصين مثل أن يقول: اقتلوا المرتدة ولا تقتلوا المرتدة أو صلوا ما لا سبب له عند طلوع الشمس ولا تصلوا ما لا سبب له عند طلوع الشمس فهذا لا يجوز أن يرد إلا فى وقتين فيكون أحدهما ناسخا للآخر فإن عرف التاريخ يكون الثانى ناسخا للأول وأن لم يعرف التاريخ وجب التوقف2 وأن كانا عامين مثل أن يقول: من بدل دينه فاقتلوه ومن بدل دينه فلا تقتلوه وصلوا عند طلوع الشمس ولا تصلوا عند طلوع الشمس فإن لم يمكن استعمالها وجب التوقف كالقسم الذى.   2 لاحتمال أن يكون كل منهما منسوخا من غير ترجيح انظر المحصول 2/451 نهاية السول 4/449 المستصفى 2/140 أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير 4/203. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 قدمنا وإن أمكن استعمالهما فى حالتين استعملا1 ومثال هذا ما قال صلى الله عليه وسلم فى خبر الشهود: "من شهد قبل أن يستشهد" 2 وقال: "شر الشهود من شهد قبل أن يستشهد" 3 وقالوا: الأول محمول على ما إذا شهد ولم يعلم صاحب الحق أن له شاهدا فإن الأول أن شهد وأن لم يستشهد ليصل المشهود له إلى حقه والثانى محمول على ما إذا علم له الحق بشهادة فلا يجوز للشاهد أن يبدأ بالشهادة قبل أن يستشهد. وأما إذا كان أحدهما خاصا والآخر عاما مثل قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3] مع قوله صلى الله عليه وسلم: "حلت لكم ميتتان ودمان" 4 ومع قوله صلى الله عليه وسلم: "أيما إهاب دبغ فقد طهر" 5 ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: "فيما سقت السماء العشر" 6 مع قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" 7 قالوا: يجب فى هذا وأمثاله أن يقضى بالخاص على العام ولا فرق عندنا بين أن يتآخر العام ويتقدم الخاص ويتآخر الخاص ويتقدم العام أو يرد ولا نعرف التاريخ بينهما8.   1 انظر المحصول 2/451 نهاية السول 4/455, 451 المستصفى 2/151 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 4/202. 2 أخرجه مسلم الأقضية 3/1344 ح 19/1719 وأبو داود الأقضية 3/303 ح 3596 والترمذي الشهادات 4/544 ح 2295 وابن ماجه الأحكام 2/792 ح 2364. 3 النهي عن الشهادة قبل الاستشهاد أي طلبها أخرجه مسلم والبيهقي في الكبرى 10/269 الحديث 599 202600. 4 أخرجه ابن ماجه الأطعمة 2/1101 ح 3314 وأحمد المسند 2/133 ح 5725 انظر نصب الراية 4/201 - 202. 5 أخرجه مسلم الحيض 7/277 ح 105/366 وأبو داود اللباس 4/65 ح 4123 والنسائي الفرع 7/151 باب جلود الميتة ومالك في الموطأ الصيد 2/498 ح 17 والدارمي الأضاحي 2/117 ح 1985 وأحمد المسند 1/288 ح 1900. 6 أخرجه البخاري الزكاة 3/407 ح 1483 ومسلم الزكاة 3/675 ح 7/981 ولفظ الحديث عند البخاري وأبو داود الزكاة 2/111 ح 1596 والترمذي الزكاة 3/23 ح 640. 7 أخرجه البخاري الزكاة 3/318 ح 1405 ومسلم الزكاة 2/673 ح 1/979 وأبو داود الزكاة 2/96 ح 1558 والترمذي الزكاة 3/13 ح 626 والنسائي الزكاة 5/12 باب زكاة الإبل. 8 انظر نهاية السول 4/463. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 وقال بعض أهل الظاهر يتعارض الخاص والعام بكل وجه وهو قول القاضى أبى بكر الباقلانى. وقال كثير من المعتزلة إذا كان الخاص متقدما والعام متأخرا فإنه ينسخ العام1 وإليه ذهب عامة أصحاب أبى حنيفة وقالوا: فيما إذا كان الخاص متأخرا والعام متقدما فإن كان ورد الخاص قبل أن يحضر وقت العمل بالعام فإنه يكون الخاص مقضيا به على العام وأن ورد الخاص بعدما حضر وقت العمل بالعام فإنه يكون نسخا وبيانا لمراد المتكلم فيما بعد دون ما قبل لأن البيان لا يتآخر عن وقت الحاجة هذا مذهب المعتزلة ويجوز أن يكون مذهب أصحاب أبى حنيفة على خلاف هذا ويذهبون إلى مثل ما ذهب إليه الشافعى رحمه الله. ورأيت عن أبى الحسن الكرخى أن المتآخر ينسخ المتقدم وسواء فى ذلك كان المتآخر خاصا أو عاما. وقد ذكر عيسى بن أبان فى الخبرين إذا تعارضا وأن كان أحدهما عاما والآخر خاصا ولم يعرف تاريخ ما بينهما وجوها من الترجيح. منها أن يكون أحدهما متفقا على استعماله كخبر العشر فإنهم قالوا: أن قوله فيما سقت السماء العشر متفق على استعماله وخبر الأوساق متفق على استعماله. ومنها أن يعمل معظم الأمة بأحدهما ونعيب على ترك العمل به مثل الخبر فى ربا الفضل والخبر الآخر وهو قوله عليه السلام: "لا ربا إلا فى النسيئة"2 فإن الصحابة عابوا على ابن عباس فى ترك العمل بخبر أبى سعيد وهو الخبر الذى روى فى تحريم ربا الفضل. ومنها أن يكون الرواة لأحدهما أشهر. واعلم أنا إذا بينا أن الخاص يقضى به على العام بكل حال سقطت هذه الوجوه التى ذهب إليها فى الترجيح ويقال أن قوله فى خبر الأوساق أن الأمة لم يتفقوا على استعماله فليس ذلك أكثر من أنا تركنا العمل به وهذا لا يضعف الخبر وعلى.   1 انظر المعتمد 2/176. 2 أخرجه البخاري البيوع 4/445 ح 2178, 2179 ومسلم المساقاة 3/1217 ح 101/1596 والنسائي البيوع 7/247 باب بيع الفضة بالذهب وبيع الذهب بالفضة وابن ماجه التجارات 2/758 ح 2257. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 أن قوله عليه السلام: "فيما سقت السماء العشر" 1 متفق على استعماله فى الأوساق الخمسة فما زاد فأما فيما دون الأوساق الخمسة فلا واستعمال الأمة الخبر فيما وراء الأوسق الخمسة لا يوجب ترجيحا وأيضا يقال لهم لم قلتم أن استعمال الخبر من الأمة على الجملة يوجب ترجيحا للخبر وكلا الخبرين ورد مورد الصحة ولا عذر لأحد فى ترك العمل بواحد منهما لأن الدليل الذى دل على وجوب العمل بأحد الخبرين هو الدليل الذى دل على وجوب العمل بالخبر الآخر ومتى طولبوا بمثل هذه لم يمكنهم القيام بحجة فيما زعموه ويخص الفصل الذى ذكرناه وهو إذا كان الخاص متقدما والعام متأخرا ونبين أن القول بالنسخ للخاص المتقدم بالعام المتآخر باطل ونقيم الدليل على مذهبنا فى بناء العام على الخاص والقول بقضاء الخاص على العام. مسألة العام المتقدم لا ينسخ الخاص المتقدم بل الخاص يقضى عليه ويكون الحكم له فيما تناوله المتآخر 2. وعندهم الخاص المتقدم يصير منسوخا بالعام المتآخر وتعلقوا فى هذا بأشياء منها: أن اللفظ العام فى تناوله لآحاد ما دخل تحته يجرى مجرى ألفاظ خاصة كل واحد منها يتناول واحدا فقط من تلك الآحاد لأن قوله {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] يجرى مجرى قوله اقتلوا زيد المشرك أو اقتلوا عمرا واقتلوا خالدا ولو قال ذلك ثم قال لا تقتلوا زيدا لكان ذلك ناسخا فكذلك ما ذكرنا ومنها أن الخاص المتقدم يتأتى نسخه والعام يمكن أن يكون ناسخا له فكان ناسخا والدليل على أنه يمكن أن يكون ناسخا لأنه يتناول ما تناوله الخاص مع الثانى وهو متآخر فينسخه. واستدل من قال بوقوع التعارض بين الخاص والعام أن العام قد تناول ما تناوله الخاص وزيادة فتناوله لتلك الزيادة لا يؤثر فى تناوله لما تناوله الخاص وإذا كان كل واحد منهما متناولا لما تناوله صاحبه وجب أن يكونا متعارضين كالخاص والخاص والعام والعام وهذا لأن تناول العام لزيادة تجرى مجرى خبر آخر تناول تلك الزيادة ولو كان كذلك لم يؤثر فى تعارض هذين فى هذا الشىء الواحد فثبت أنهما متعارضان كالخبرين جميعا وفى ترك بناء العام على الخاص استعملا للخبر العام وتركا للخاص.   1 تقدم تخريجه. 2 انظر المحصول 2/452, 453. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 لأن فى القول ببناء العام على الخاص ترك العام لأن العام لاستيعاب كل ما يتناوله فإذا بنى على الخاص ومعنى بناء الخاص على العام أنه يجعل كأنه لم يتناول ما ورد به الخاص فقد تركتم العام لأن فى ترك القول بالاستيعاب ترك القول بالعموم فاستوى الجانبان من هذا الوجه وأما حجتنا فتقدم الدليل فى أن القول ببناء العام على الخاص واجب على الجملة. فنقول كل واحد من العام والخاص دليل يجب العمل به فلا يجوز إطراحهما إذا أمكن استعمالهما والقول ببناء العام على الخاص استعمال لهما جميعا وهو استعمال الخاص فيما يتناوله بصريحه واستعمال له فيما وراء ما تناوله الخاص وعلى هذا بطل القول بالتعارض لأن فى القول بالتعارض إنما ترك العمل بهما أو ترك العمل بالخاص فثبت أن القول ببناء العام على الخاص متعين. فإن قالوا: لم لا تقولون بأن أحدهما ينسخ الآخر. قلنا لا يمكن القول بالنسخ إلا بعد معرفة التاريخ وهذا الدليل فى بناء العام على الخاص فى الجملة وهو إذا لم نعرف تاريخ ما بين الخطابين أو كان العام متقدما والخاص متأخرا فأما إذا كان الخاص متقدما والعام متأخرا فسنبين القول فيه ببينة أنه لو كان بدل الخاص قياس لبنى العموم عليه والخبر الخاص آكد من القياس وأقوى فلأن بنى عليه العام أولى وأيضا فإن العام والخاص لو وردا معا يبنى العام على الخاص فكذلك إذا وردا ولم يعلم تاريخ ما بينهما لأن الأصل أن كان شيئين وجدا معا ولم نعلم تاريخ ما بينهما يجعل كأنهما وجدا معا كمسألة الغرقى والهدمى إذا لم يعلم وقت موت واحد منهم يجعل كأنهم ماتوا معا حتى لا يحكم بالميراث لواحد منهم من صاحبه وأن كان بينهما سبب يوجب الإرث وهم ربما يعترضون على هذا فيقولون لما اشتبه حال الميتين لم يورث أحدهما من الآخر فكذلك إذا اشتبه حال الخبرين وجب أن لا يعترض بأحدهما على الآخر وأن يرجع إلى أمر آخر والاستدلال فيما قصد بالاستدلال به قائم وهذا لا يوجب مغمزا فيه وأما الدليل فى أن العام المتآخر لا ينسخ الخاص المتقدم هو أن الخاص معلوم دخول ما تناوله تحته ودخول ذلك تحت اللفظ العام مشكوك فيه والعلم لا يترك بالشك وهم يقولون على قولكم هذا أن دخوله تحت اللفظ العام مشكوك فيه ليس بذلك بل تناوله إياه ولما سواه حتى يتم الاستيعاب معلوم أيضا لأنه صيغة موضوعة للاستيعاب لغة وشرعا فكيف يقع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 الشك فى تناوله لما ينسحب عليه الاستيعاب. ونحن نقول المعنى بما ذكرناه من الشك هو أنه يحتمل أنه لا يتناوله والخاص لا يحتمل أن لا يتناوله وهذا مسلم ونقرر هذا الدليل بوجه آخر وهو المعتمد فنقول الخبر العام يتناول ما تناوله الخاص على ما زعموا ولكن لا تعارض فى هذا التناول لأن الخاص يتناوله بصريح لفظه من غير أن يكون فيه احتمال أن لا يتناوله وأما العام فيتناوله لا بصريح لفظه بل بظاهر عمومه ويحتمل إلا يتناوله وإذا لم يستويا فى التناول لم يقع التعارض فوجب القضاء بما له الترجيح. وإذا رجحنا سقط النسخ وتصور صورة ليكون الكلام أوضح فنقول قول القائل لا تقتلوا اليهود يمنع من قتلهم أبدا وقوله من بعد اقتلوا الكفار يوجب قتلهم فى حالة من الحالات. والقول الأول يمنع من قتلهم فى تلك الحالة وإذا تمانعا على هذا الوجه والخاص أخص باليهود وأقل احتمالا وجب القضاء به والكلام الوجيز فى هذا الدليل أن القول بالنسخ من غير دليل على النسخ باطل والقول بترجيح الخاص على العام فيما تناولاه مانع من قيام دليل النسخ. وأما الجواب عن كلامهم. وأما الأول قلنا لو جعلنا الجملة كالآحاد المذكورة واحدا واحدا لا متنع تخصيص كل عموم فى العالم كما ذكروا واحدا واحدا لم يجز تخصيص واحد منهم من الأعداد المذكورة ثم نقول اللفظ العام يجرى مجرى الآحاد المذكورة واحدا واحدا فى أصل التناول ولا يجرى مجراها فى امتناع دخول التخصيص عليه ألا ترى أن اللفظ الذى يذكر فيه الأعداد واحدا واحدا لا يجوز أن يخرج شىء منه بالتخصيص بخلاف اللفظ العام. وأما دليلهم الثانى قلنا مجرد احتمال النسخ لا يدل على النسخ وكذلك المتآخر وعلى أنه كما أن الخاص المتقدم يحتمل أن ينسخ فالعام المتآخر يحتمل أن يخص فلم يكن أحدهما أولى من الآخر وعلى أنا بينا الدليل المانع من النسخ. وقولهم أن المتآخر دليل النسخ قلنا وهل نوزعتم فى هذا الموضع إلا فى هذا. وأما اعتراضهم على دليلنا بقولهم أن فى بناء العام على الخاص بترك القول بالعموم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 قلنا لا فإنا عملنا بالعموم وراء المخصوص. وقولهم أن الصيغة للاستيعاب. قلنا إذا لم يقم دليل على التخصيص وها هنا قد قام وهذا لأن التخصيص بيان يتصل بالخطاب فيظهر أن الخطاب بالعموم صدر متناولا لما وراء المحل المخصوص فإن قالوا: كيف ثبت اتصال البيان بشىء متقدم على الخطاب ولو جاز هذا لجاز الاستثناء متقدما على المستثنى منه. قلنا وأى شىء يمنع من أن يكو بيان الخطاب وتخصيصه بسبب متقدم ألا ترى أن دليل العقل يجوز به تخصيص العموم وأن كان متقدما على العموم وقد سبق ذكر ذلك وبيان مثاله أما الاستثناء فكلام تكلم به أهل اللغة وهم لم يتكلموا بالاستثناء المتقدم على المستثنى منه وعلى أن عندنا يجوز ذلك وقد ذهب إليه كثير من الأصحاب وسنبين وروده. أما الكلام الأخير الذى ذكره ففيما قلنا جواب عنه وقد بينا ترجيح التناول فى هذا الجانب والمرجوح لا يعارض الراجح ولم يستعمل فى هذه المسألة بإيراد الأمثلة فى المواضع التى أجمع الفقهاء فيها ببناء العام على الخاص لأنهم يقولون قد ورد أيضا بناء الخاص على العام وهو قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة: 180] فهذا خاص فى الوالدين والأقربين ومع ذلك بنى على عموم قوله لا وصية لوارث"1 والجواب عن هذا سهل والاعتماد على ما سبق والله أعلم. وأما إذا تعارض خطابان أحدهما خاص من وجه عام من وجه والآخر عام من وجه خاص من وجه وتنافيا فى الحكم الذى ابتنى عليهما فلا بد من التوقف حتى يظهر المرجح2. وأمثال هذا كثيرة وتوجد فى قوله صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه" 3 وقد ورد فى.   1 تقدم تخريجه. 2 انظر نهاية السول 4/466 المحصول 2/453 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 4/203. 3 تقدم تخريجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 معارضة نهيه عليه السلام عن قتل النساء وأحدهما خاص فى النساء عام فى الحربيات والمرتدين والآخر خاص فى المرتدين عام فى النساء والرجال فينبغى أن يطلب فى هذا الموضع الترجيح لأحدهما على الآخر وقد ذكر الأصحاب وجوها من الترجيح سترد من بعد بمشيئة الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 فصل: إذا ورد عقيب العموم تقييد بالشرط أو باستثناء أو صفة أو حكم وكان ذلك لا [يتأتى إلا فى] 1 بعض ما تناوله العموم فالمذهب أنه لا يجب أن يكون المراد بالعموم تلك الأشياء فقط. وذهب بعض الأصوليين إلى التوقف وهو اختيار أبى الحسين البصرى صاحب المعتمد2. ومثال التقييد بالاستثناء قوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة: 237] وقوله: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} يتناول الكبيرة العاقلة وأول الآية عام فى الصغيرة والكبيرة والعاقلة والمجنونة. ومثال التقييد بالصفة قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} إلى أن قال: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} [الطلاق: 1] تعنى الرغبة فى مراجعتهن وهذا خاص فى الرجعة وأول الآية عام فى الرجعية والبائنة. ومثال التقييد بحكم قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} ثم قال: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً} [البقرة: 228] وهذا لا يكون إلا فى الرجعية أيضا وأول الآية عام فى البائنة والرجعية. ومثال الشرط قوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] فقوله تعالى: {إِنِ ارْتَبْتُمْ} خاص وقوله: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ} عام والتقدير واللائى يئسن من المحيض من نسائكم فعدتهن ثلاثة أشهر وأن ارتبتم فالأول على عمومه وأن عقبه بشرط يخص البعض دون البعض.   1 ثبت في الأصل "ينافي" ولعل الصواب ما أثبتناه. 2 وهو مذهب قاضي القضاة وقال صاحب المعتمد والأولى عندنا التوقف في ذلك انظر المعتمد 1/283. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 ووجه ما ذكرنا أن اللفظ العام يجب إجراره على عمومه إلا أن يضطرنا شىء إلى تخصيصه وكون آخر الكلام مخصوصا لا يضطر إلى تخصيص أوله فإن ادعى المخالف لهذا ضرورة وقال أن الكناية ترجع إلى جميع ما تقدم لأن قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} معناه إلا أن يعفوا النساء اللوائى طلقتموهن ولو أن الله تعالى صرح بذلك دل ذلك أن النساء المذكورات فى أول الكلام هن اللوائى يصح منهن العفو. ألا ترى أن من قال من دخل الدار من عندى ضربته إلا أن يتوبوا انصرف ذلك إلى جميع العبيد وجرى مجرى أن نقول إلا أن يتوب عبيدى الداخلون الدار والجواب أن هذا كله لا يوجب ضرورة لأن الضرورة المخصصة هى وجود التنافى بين ظاهر العموم وبين الدليل المخصص ومعلوم قطعا أنه لا ضرورة فى مثل هذا فى مسألتنا لجواز أن يريد المخاطب الاستيعاب من أول الآية ثم يعقبه باستثناء أو صفة تخص تعيين من أريد بالاستيعاب وهذا غير ممتنع بوجه ما فلم تثبت المنافاة وإذا لم تثبت المنافاة يظل التخصيص وأجرى الكلام الأول على عمومه وقد قال من يقول: بالوقف أن هذا العموم المقدم يقتضى الاستغراق فظاهر الكناية يقتضى الرجوع إلى كل ما تقدم فليس التمسك بظاهر العموم والعدول عن ظاهر الكناية بأولى من التمسك بظاهر الكناية والعدول عن ظاهر العموم وإذا لم يكن أحدهما بأولى من الآخر وجب التوقف والجواب عن هذا بالطريق الذى سبق وهذا لأن اللفظ الأول ظاهر فى العموم وما نرى لما ذكروا من الكناية ظاهرا يمكن التوقف فى الظاهر الأول. مسألة المعطوف لا يجب أن يضمر فيه جميع ما يمكن إضماره مما فى المعطوف عليه بل إنما يضمر مما فى المعطوف عليه بقدر ما يفيد ويستقل به. وعند أصحاب أبى حنيفة يضمر فيه جميع ما سبق مما يمكن إضماره ومثال هذا الاستدلال بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد فى عهده" 1 فعندنا يضمر ولا يقتل ذو عهده على معنى المنع من القتل وعندهم يضمر ولا يقتل ذو عهد فى عهده بكافر2 فعلى هذا قالوا: أن الكافر الذى لا يقتل به ذو العهد هو الحربى فيكون قوله.   1 أخرجه أبو داود الديات 4/179 ح 4530 والنسائي القسامة 8/18 باب القود بين الأحرار والمماليك في النفس وابن ماجه الديات 2/887 ح 266. 2 انظر المعتمد 1/285. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 لا يقتل مؤمن بكافر المراد به الحربى. واستدل من ذهب إلى هذا فقال أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يقتل مؤمن بكافر وعطف على ذلك قوله ولا ذو عهد فى عهده بكافر ومعلوم أن ذا العهد يقتل بالذمى ولا يقتل بالكافر الحربى فكان قوله لا يقتل مؤمن بكافر معناه بكافر حربى لأن المضمر فى المعطوف هى المظهر فى المعطوف عليه فإذا كان المضمر فى المعطوف مخصوص فى الحربى فيجب أيضا تخصيص المعطوف عليه بالحربى قالوا: ولا يجوز أن يقال أن الكلام يفيد ويستقل بإضمارنا قوله ولا يقتل فلا يزاد عليه لأن الإضمار لا يقف على ما يستقل عليه الكلام بل يضمر فيه جميع ما سبق. ألا ترى أن الإنسان لو قال لا يقتل اليهود بالحديد ولا النصارى كان معناه ولا يقتل النصارى بالحديد ولا يقتصر فيه على إضمار القتل فقط وإن كان يستقل به. وكذلك لو قال رجل لغيره لا تشتر اللحم بالدراهم الصحاح ولا الخبز كان معناه ولا تشتر الخبز بالدراهم الصحاح وإنما كان كذلك لأن العطف يفيد اشتراك المعطوف والمعطوف عليه فى حكم المعطوف عليه وحكم المعطوف عليه فى المثال الأول المنع من القتل بالحديد لا المنع من القتل أصلا وفى المثال الثانى حكم المعطوف عليه هو المنع من شراء الخبز بالدراهم الصحاح لا المنع من الشراء بالدراهم على الإطلاق لأن المنع من الشراء على الإطلاق غير مذكور فلا يتصور فيه مشاركة كذلك هاهنا المنع من القتل ابتداء غير مذكور فلا يتصور المشاركة فيه. ودليلنا فى أن المعطوف إنما يضمر فيه من المعطوف عليه ما يستقل به ويفيده وهذا لأن فقد استقلاله وعدم فائدته أوجب الإضمار فلا يجب من الإضمار إلا قدر ما يستقل به ويفيده ومعلوم أن قوله ولا ذو عهد فى عهده يستقل ويفيد بإضمارنا قوله ولا يقتل فلا يراد لأنه تكون الزيادة إضمارا من غير حاجة إلى الإضمار يدل عليه أنا إذا أضمرنا الكافر فى قوله ولا ذو عهد فى عهده حتى يكون معناه وال يقتل ذو عهد فى عهده بكافر ثم وجب بدليل أن يكون ذلك مخصوصا فى الحربى ولم يجب أن يكون قوله لا يقتل مؤمن بكافر مخصوص فى الحربى. ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم لو صرح وقال: "لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد فى عهده بكافر" ثم علمنا بدلالة أن ذلك مخصوص فى الحربى لم يجب أن يكون أول الكلام مخصوصا فى الحربى فإذا قام مثل هذه الدلالة يكون معنى الأول لا يقتل مؤمن بكافر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 بحال ومعنى الثانى ولا يقتل ذو عهد فى عهده بكافر ثم قام الدليل أن المراد من الكافر فى قوله ولا ذو عهد فى عهده كافر حربى وهذا غير مستنكر ولا مستبدع فجاز الحمل عليه كما يجوز إذا ظهر وقام الدليل. قالوا: أن العطف يفيد اشتراك المعطوف والمعطوف عليه فى حكمه وحكمه هو الذى عناه المتكلم بلفظه وإذا زاده دون ما لم يعنه فلو كان الكافر المذكور فى المعطوف عليه عاما وفى المعطوف خاصا لم يجعل العطف مفيدا اشتراكهما فيما قصده المتكلم لأنه قصد بأول الكلام العموم وبآخره الخصوص. قالوا: وليس كما لو أظهر وقام الدليل لأن الثانى يصير بمنزلة كلام مبتدأ وهاهنا لا يمكن أن يجعل بمنزلة كلام مبتدأ لأنه غير مستقل بنفسه واعترضوا على الكلام الأول بما ذكرنا فى دليلهم. والجواب أن الواو يوجب العطف فى اللفظ وجعلنا المعطوف والمعطوف عليه مشتركين فى قوله لا يقتل وإذا اشتركا فى هذا اللفظ أفاد العطف فائدته من الاشتراك ثم بعد ذلك يكون الحكم بحسب ما يقوم عليه الدليل صار هذا كما لو أظهر قوله ولا يقتل ذو عهد فى عهد بكافر ثم قام الدليل أن المراد بالكافر فى قوله ولا ذو عهد فى عهده هو الحربى فلا يوجب ذلك أن يكون المراد لا يقتل مؤمن بكافر هو الحربى فقد جاز هذا الاختلاف مع وجود الواو العاطفة وكان العطف مفيدا للاشتراك فى قوله ولا يقتل وأن اختلف الاختلاف الذى ذكرناه وقوله أن ذلك مبتدأ قلنا إنما جعله مبتدأ لأنه يستقل بنفسه وهاهنا إذا أضمرنا مما سبق قوله لا يقتل قد استقل فلا معنى لإضمار الزيادة. فإن قيل المتكلم إنما يقصد بالعطف اشتراكهما فى الحكم الذى قصده دون العطف قلنا ولم فهل الخلاف إلا فى هذا فعندنا يجوز أن يكون قصده اشتركهما فى اللفظ المذكور دون حكم المقصود. فإن قيل كيف يقصد لفظا بلا معنى قلنا صح القصد إلى الاشتراط فى اللفظ وصار بمنزلة المصرح به ثم كل يفيد فائدته وهذا لأن كلا الكلامين لم يخل عن فائدته. ويمكن أن يجاب عن كلامهم الأول فيقال أن الكلام كان يكون صحيحا على ما ذكروا أن لو كان قال ولا ذو عهد واقتصر عليه فلما قال فى عهده وجب أن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 يفيد هذه الزيادة فائدة محدودة وليس ذلك إلا المنع من قتله ابتداء لعهده ونظير هذا أن لو قال القائل لا تقتلوا اليهود بالحديد ولا النصارى فى الأشهر الحرم كان معناه لا تقتلوا اليهود بالحديد ولا النصارى فى الأشهر الحرم أصلا ولا يكون ولا تقتلوا النصارى فى الأشهر الحرم بالحديد. ببينة: أنه لو قال بدل قوله ولا ذو عهد فى عهده ولا رجل فى عهده لا قتضى أن لا يقتل رجل فى عهده بحال ليكون قوله فى عهده يفيد فائدة محدودة كذلك فى قوله ولا ذو عهد فى عهده يكون المعنى هذا أيضا. واعلم أن الكلام للخصم ظاهر جدا وهذا الذى قلناه غاية الوضع وتمشيته ممكنة والكلام الذى ذكرناه من قبل أحسن فى التمشية وقد ذكرنا فى الخلافيات أن الخبر قد صح وروده مطلقا برواية على رضى الله عنه من غير هذه الزيادة واحتجاجى فى مسألة قتل المسلم بالذمى وعند ذلك لا نحتاج إلى الخوض فيما قلنا والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 فصل: إذا خرج الخطاب فى العموم مخرج المدح أو الذم كقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1, 2] إلى قوله: {لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 5, 6] فعموم هذا يقتضى مدح كل من حفظ فرجه إلا على زوجته أو ما ملكت يمينه ويدل أن من وطىء زوجته أو ما ملكت يمينه لم يكن مذموما فهل يصح دعوى العموم فى هذا. أولا اعلم أنه لا خلاف على المذهب أنه إذا عارض هذا اللفظ خطاب عام لم يقصد به المدح أو الذم فإنه يخصه ويقصره على المدح والذم ولا يحمل على عمومه بل يقضى بعموم ذلك الخطاب عليه ومثل هذا ما قلناه فى قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23] فهذه الآية قصد بها بيان الأعيان المحرمات ذوى العدد وقوله: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] قصد بها بيان العدد وظاهرها يقتضى إباحة العدد المذكور سواء كان من الأعيان المحرمات أو من غيرهن إلا أنا قضينا بتلك الآية التى قصد بها بيان الأعيان المحرمات على الآية الأخرى التى لم يقصد بها بيان الأعيان المحرمات وإنما قصد بها بيان العدد كذلك هذا مثله. وأما إذا تجرد اللفظ الواحد على سبيل المدح أو الذم ولم يعارضه لفظ الخبر فهل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 يصح ادعاء العموم فيه أم لا اختلف أصحابنا فى ذلك فمنهم من قال لا يصح ادعاء العموم بل يقتصر على بيان المدح والذم فحسب لأنه إنما قصد به مدح من حفظ فرجه وذمه إذا لم يحفظه لا أنه قصد به بيان الحكم حتى يدعى عمومه1 والمذهب الصحيح أنه يصح ادعاء العموم فى ذلك2 فعلى هذا يصح ادعاء العموم فى هذه الآية التى ذكرناها ويصح أيضا ادعاء العموم فى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34] وأن كان قصد بالآية الذم لمن كنز المال. والدليل على دعوى صحة العموم فى ذلك ما روى عن عثمان رضى الله عنه أنه قال فى الأختين المملوكتين أحلتهما آية وحرمتهما آية وعنى بآية التحليل قوله تعالى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 6] فقد حمل الآية على العموم مع أن القصد كان هو المدح لمن حفظ فرجه عن الحرام لأن اللفظ إذا ورد عاما فإنه يحمل على عمومه ولا يخص إلا بما يعارضه وينافيه فأما الذى يماثله ولا ينافيه فلا يخصص.   1 وهذا منقول عن الإمام الشافعي حتى أنه منع من التمسك بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} في وجوب زكاة الحلي نصيرا منه إلى أن العموم لم يقع مقصودا في الكلام وإنما سبق لقصد الذم والمدح مبالغة في الحث على الفعل أو الزجر عنه انظر إحاكم الأحكام للآمدي 2/406/407 وقال الشيخ أبي الحسين البصري رحمه الله إنه مذهب بعض الشافعية انظر المعتمد لأبي الحسين البصري 1/279 ونقله أيضا ابن برهان عن الإمام الشافعي انظر نهاية السول للأسنوي 2/372, 373. 2 وصححه الآمدي وابن الحاجب ونصره الشيخ أبي الحسين في المعتمد وأجاب عما نقل عن الإمام الشافعي بقوله والجواب: أن الذم إنما كان مقصودا بالآية لأنه مذكور فيها وهذه العلة قائمة في العموم لأن اللفظ عام فوجب كونه مقصودا وليس يمنع القصد إلى ذم من كنز الذهب والفضة من القصد إلى عموم ذم كل من كنزهما انظر المعتمد 1/179. وقال الآمدي وهو الحق من حيث إن قصد الذم أو المدح وإن كان مطلوبا للمتكلم فلا يمنع ذلك من قصد العموم معه إذ لا منافاة بين الأمرين وقد أتى بالصيغة الدالة على العموم فكان الجمع بين المقصودين أولى من العمل بأحدهما وتعطيل الآخر انظر إحاكم الأحكام للآمدي 2/407. وهو مذهب الأحناف حيث قال مفتي الديار المصرية الشيخ بخيت المطيعي رحمه الله وفي كتب الحنفية كالتحرير ومسلم الثبوت أن العام في معرض المدح والذم كـ: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} يعم استعمالا كما هو عام وضعا للشافعي انظر حاشية الشيخ بخيت المطيعي على نهاية السول 2/373. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 الآية به وليس بين الخطاب العام وبين قصد المدح أو الذم بذلك منافاة فبطل تخصيصه به ووجب حمل اللفظ على عمومه. ببينة أن المدح إنما كان مقصودا بالآية أو الذم لا مذكور فيها وهذه العلة قائمة فى العموم لأن اللفظ عام والعموم مذكور فوجب كونه مقصودا وليس يمنع القصد إلى ذم من كنز الذهب والفضة من القصد إلى عموم ذم كل من كنزهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 فصل: تخصيص العموم بالدليل المتصل ... فصل: هذا الذى ذكرناه هو بيان تخصيص العموم بالدليل المنفصل. فأما تخصيص العموم بالدليل المتصل فنقول. الدليل المتصل أربعة: استثناء وغاية وشرط وتقييد. فأما تخصيص العموم بالاستثناء. فاعلم أن الاستثناء هو لفظ على صيغة إذا اتصل بالكلام أخرج منه بعض ما كان داخلا فيه وقد حده بعض المتكلمين بأنه إخراج جزء من كل1 والأول أحسن وهو مأخوذ من قولهم ثنيت زيدا عن رأيه إذا أرددته عنه وتقول اثنيت عما كنت عليه إذا رددت نفسك عن شىء كنت عليه وثنيت العود إذا رددته عن عوجه وثنى الثوب ما عطف وكف من أطرافه. ولا يصلح الاستثناء إلا إذا كان بالمستثنى منه فإذا انفصل منه بطل حكمه. وهو قول كافة أهل اللغة وجمهور أهل العلم وليس يعرف فيه خلاف إلا ما حكى على جهة الشذوذ عن ابن عباس أنه جوزه منفصلا وأجراه مجرى بيان المجمل وتخصيص العموم وقيد زمان الجواز ببينة فإن استثنى بعدها بطل. وعن بعض التابعين أنه جوز فى المجلس ولم يجوز إذا فارق المجلس2.   1 عرفه البيضاوي بأنه: هو الإخراج بإلا غير الصفة ونحوها المحترزات الإخراج جنس شامل للمخصصات كلها وقوله: بإلا مخرج لما عدا الاستثناء وقوله: غير الصفة احتراز عن إلا إذا كانت للصفة بمعنى غير وهي التي تكون تابعة لجمع منكور غير محصور وقوله: ونحوها أي كحاشا وخلا وعدا وسوى انظر نهاية السول 2/407 وعرفه الشيخ محمد بخيت المطيعي بأن الاستثناء موضوع لأن يتقيد به المستثنى منه ويفاد بالمجموع المركب مفهوم فيتعلق حكمه بما يصدق عليه انظر حاشية الشيخ المطيعي على نهاية السول 2/412. 2 انظر البرهان 1/385 نهاية السول 2/410 انظر التلويح على التوضيح 2/28 روضة الناظر 223 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/275 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 وقيل أنه قول الحسن وطاوس وعطاء وحسبك فى الدليل اتفاق أهل اللغة أن المنفصل لا يكون استثناء. وأيضا فإنه غير مفهوم لأن من قال رأيت بنى تميم ثم قال بعد شهر أو سنة إلا زيدا لم نفهم منه الاستثناء. وهذا لأن قوله إلا زيدا أو إلا كذا كلام مبتور وتعلقه بالمستثنى منه كتعلق الخبر بالمبتدأ وكتعلق الإجزاء بالشرط فإنما يفهم عند اتصاله بالأول ويستقبح مع انفصاله. ولأنا لو جوزناه منفصلا لم يوثق بيمين ولم يقع طلاق ولا عتاق على وجه الثبات وكذلك لم ينعقد عقد على هذا الوجه وهذه طامة كبيرة ومخرقة عظيمة. وأما قول ابن عباس فلا يكون حجة مع مخالفة أهل اللغة ولعل الآفة من الراوى والخطأ من الناقل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 فصل: ويجوز إذا اتصل بالكلام سواء تقدم عليه أو تآخر عن أو تخلله . فنقول إذا تقدم رأيت إلا زيدا جميع بنى تميم كما يقول: إذا تآخر رأيت بنى تميم إلا زيدا. ومنه قول حسان بن ثابت رضى الله عنه: الناس ألب علينا فيك ليس لنا ... إلا السيوف وأطراف القنا وزر1 فقد استثنى السيوف والقنا من الوزر وتقديره ليس لنا وزر إلا السيوف وأطراف القنا. ونظير هذا قول الكميت: وما لى إلا آل أحمد شيعة ... وما لى إلا مشعب الحق مشعب2 وتقديره ما لى شيعة إلا آل أحمد وما لى مشعب إلا مشعب الحق. فصل ويجوز أن يخرج بالاستثناء أكثر الجملة وأقلها. وقد شذ بعض أهل اللغة فمنع من استثناء أكثرها واختاره الأشعرى وقيل أنه قول أحمد بن حنبل3.   1 ذكره الشيخ محمد محيي الدين رحمه الله في حاشيته على الألفية 2/235. 2 انظر شرح هاشميات الكميت ص 50 ص 117. 3 اعلم وفقك الله أن في هذه المسألة ثلاثة مذاهب: الأول: وهو لجمهور العلماء من الفقهاء والمتكلمين وهو المختار للبيضاوي أن ذلك لا يحد ........ = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 وقيل من ذهب إلى هذا أنه يستقبح أن يقول الرجل لفلان على ألف إلا تسع مائة وتسعة وتسعين. والاستقباح يمنع من الاستعمال والمتروك استعماله متروك. ببينة أن الاستثناء لاختصار الكلام أو الاستدراك ويبعد كلاهما فى هذه الصورة ولأنه لو جاز استثناء الأكثر لجاز استثناء الكل ولأن المستثنى فرع المستثنى منه ولا يجوز أن يزيد الفرع على أصله وهذا القول مدفوع بالكتاب واللسان والمعنى. أما الكتاب قوله تعالى: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً، نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} [المزمل: 2, 4] وفى الزيادة على النصف استثناء الأكثر وبقاء الأقل ولأن الله تعالى قال فى موضع: {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر:40] وقال فى موضع: {إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42] فمرة استثنى المخلصين ومرة استثنى الغاوين ولا بد أن أحد العددين يكون أكثر. وأما اللسان فقول الشاعر. أدوا التى نقصت تسعين عن مائة ... ثم ابعثوا حكما بالعقل حكاما وأما المعنى فهو أن حد الاستثناء ما قلناه وذلك الحد موجود فى استثناء الأكثر والأقل على وجه واحد كالتخصيص فإذا جاز جريان التخصيص فى أكثر ما دخل تحت العموم فكذلك الاستثناء. وأما دعوى الاستقباح فغير مسلم وإنما هو استثناء وليس باستقباح. وأما استثناء الجميع فإنما لم يجز لأنه تخصيص والتخصيص يجرى فى البعض لا فى الكل ولأن استثناء الكل من كلامه نقص لكلامه وإسقاط لفائدته بخلاف استثناء.   = بحد فلو بقي بعد الاستثناء واحد فقط كان الاستثناء صحيحا. الثاني: وهو للحنابلة يشترط أن يكون الباقي بعد الاستثناء النصف أو أكثر من النصف فيجوز استثناء المساوي والأقل ولا يجوز استثناء الأكثر من النصف كالثلثين. القول الثالث: وهو أحد قولين للقاضي أبي بكر الباقلاني ونقله الآمدي عن الحنابلة يشترط أن يكون الباقي بعد الاستثناء أكثر من النصف فيجوز استثناء الأقل من النصف ولا يجوز استثناء النصف كما لا يجوز استثناء أكثر من النصف والقول الثاني ما نقل عن الحنابلة أولا انظر نهاية السول 2/411 إحكام الأحكام للآمدي 2/433 التلويح على التوضيح 2/29 المحصول 1/410 روضة الناظر 224 والمعتمد 1/244 البرهان 1/396 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/277. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 الأكثر فافترقا. والذى قالوا: من الفرع والأصل فليس بشىء لأنهم أن عنوا بالفرع أنه لا صحة له إلا به فيبطل بالتخصيص وعلى أن الفرع قد يزيد على الأصل بدليل الحسيات والأمثال تكثر. فصل وأما ألفاظ الاستثناء فالمستولى على الكل استعمالا هو كلمة إلا ثم تليها ما يقل استعماله وهو سوى وعدا وحاشا وخلا وجميعها فى حكم الاستثناء سواء. مسألة اختلف أهل اللغة وأهل الفقه فى الاستثناء من غير الجنس. فمنعت منهم طائفة من طريق اللفظ والمعنى جميعا وهو قول كثير من أصحاب الشافعى. وهؤلاء جعلوه لغوا. وقالت طائفة يجوز الاستثناء من غير الجنس لفظا ومعنى. وقال بعضهم يصح من طريق المعنى دون اللفظ1 إذا كان معنى الجنس يتفقان من وجه فيكون الاستثناء على هذا عائدا إلى المعنى المتجانس لا إلى اللفظ المختلف فيقول لفلان على ألف درهم إلا دينار فيستثنى من الألف بقيمة الدينار. وهذا القول هو الأولى بمذهب الشافعى رحمه الله وهو قول المحققين من الأصحاب. واحتج من جوزه على الإطلاق بقوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ*إِلَّا إِبْلِيسَ} [الحجر: 30, 31] قال وإبليس لم يكن من الملائكة بدليل قوله تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ} [الكهف: 50] وتعلق أيضا بقوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:77] وبقوله تعالى: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً، إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً} [الواقعة: 25, 26] وبقوله تعالى: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} [النساء: 157] . وتعلقوا بقول النابغة فى القصيدة المشهورة: وقفت فيها أصيلانا أسائلها ... عيت جوابا وما بالريع من أحد2 إلا أوارى لأياما أثبتها ... والنوى كالحوض بالمطلومة الجلد   1 انظر إحاكم الأحكام للآمدي 2/424/425 البرهان 1/398 المعتمد 1/243 روضة الناظر 224. 2 ديوان النابغة الذبياني ص 30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 وقال غيره: وبلدة ليس بها أنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس فاستثنى الأوارى فى الأول من قوله وما بالريع من أحد وفى الثانى استثنى اليعافير وهى الظبا والعيس وهى الإبل من الأنيس. وحكى سيبويه عن العرب ما رأيت اليوم أحدا إلا حمارا أو ثورا. وأما حجة من لم يجوزه على الإطلاق فظاهر وقالوا: الدليل عليه أن الاستثناء إخراج بعض ما دخل فى الجملة وغير الجنس غير داخل فى الجملة فلا يصح استثناؤه منها لأن غير الداخل لا يتخيل استخراجه كما أن غير الخارج لا يتخيل إدخاله ولأنه أحد ما يخص به العام فلم يصح فيما لم يدخل فى العموم كالتخصيص بغير الاستثناء ولأنه يقبح أن تقول جاءنى الناس اليوم إلا الكلاب أو رأيت الحمير إلا الناس ومن قال هذا من أهل اللغة كان ملغزا فى الخطاب عادلا عن تبيين الصواب وهذا لأن الاستثناء مع المستثنى منه يكون صحتها وارتفاع أحدهما بالآخر بنوع من التمانع والتدافع ولهذا يقال أن الاستثناء من المنفي إثبات ومن الإثبات نفى وإنما يتصور التمانع والتدافع والتنافى فى الجنس الواحد لأن اللفظ الأول يدخله والثانى يخرجه فيقع التنافى وأما في غير الجنس فلا يتصور هذا فإن اللفظ الأول إذا لم يتناوله بالإدخال فلا يكون الثانى مخرجا ولا يقع التنافى والتمانع فثبت أن الاستثناء حقيقة لا يكون إلا من الجنس. وأما الذى تعلقوا به أما الآية الأولى فالصحيح أن إبليس كان من الملائكة ولهذا تناوله الأمر بالسجود ولو لم يكن من الملائكة لم يتناوله الأمر بالسجود. وأما قوله تعالى: {كَانَ مِنَ الْجِنِّ} [الكهف: 50] فقد قيل كان من قبيلة من الملائكة يسمون الجن وعلى أن جميع ما نقلوه هو على طريق المجاز والكلام فى الحقيقة. وأما المذهب الثالث وهو صحة الاستثناء من طريق المعنى فهو المختار على مذهب الشافعى رحمه الله تعالى وليس فيه نفى ما قلناه أن الاستثناء من غير جنس المستثنى منه لا يكون حقيقة لأن هذا الذى ادعيناه راجع إلى اللفظ وهو على ما ذكرناه وإنما جوزنا الاستثناء حين جوزناه من طريق المعنى وسبب جوازه اتفاق معنى الجنسين من وجه فيصير الاستثناء له إلى المعنى المتجانس لأن اللفظ مختلف. ولهذا قال الشافعى لو قال لفلان على ألف درهم إلا دينارا أو مائة دينار إلا ثوبا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 فيكون مستثنى بقيمة الدينار أو الثوب1 ولا يصح هذا المذهب إلا إذا صححنا الاستثناء على الوجه الذى قلناه وأما أبو حنيفة فقد ناقض وقال إذا قال لفلان على ألف درهم إلا دينارا يجوز وكذلك إذا استثنى الحنطة أو الشعير قال ولو استثنى الثوب لا يجوز2 وهذا تفريق لا يعرف. وقد ذكروا فرقا ذكرناه فى مسائل الخلاف وأبطلناه عليهم. وأما إذا استثنى من زيد وجهه ومن الدار بابها فاختلف الأصحاب أنه استثناء الشىء من جنسه أو من غير جنسه والصحيح أنه من جنسه لأن وجه زيد جزء من زيد مثل الواحد جزء من العشرة وكذلك وجه الدار جزء منها فصار كما ذكرنا والله أعلم. مسألة إذا تعقب الاستثناء جملا قد عطف بعضها على بعض يرجع إلى الجميع. وقال أصحاب أبى حنيفة يرجع إلى ما يليه من الجمل. وقالت الأشعرية هو موقوف على الدليل وقد خبط بعض أصحابنا فى هذه المسألة حتى أداه خبطه إلى العدول عن مذهب الشافعى إلى مذهب الخصم وقال إنما ينعطف الاستثناء على كلام يجتمع فى غرض واحد فأما إذا [اختلفت] 3 المقاصد فى الجمل وكل جملة منها مستقلة بمعناها لا تعلق لها بما بعد فالاستثناء يرجع إلى ما يليه من الجمل4 وزعم أن الواو فى مثل هذا الموضع لاسترسال الكلام وحسن بظنه ولا يكون.   1 انظر المهذب 2/349. 2 انظر الاختيار لتعليل المختار 2/178. 3 في الأصل اختلف ولعل الصواب ما أثبتناه. 4 في هذه المسألة خمسة أقوال: الأول: وهو لجمهور الشافعية واختاره البيضاوي يرجع إلى الجمل كلها ولا يختص بالأخير وإلى ذلك ذهب مالك من النحاة. الثاني: وهو للحنفية يختص بالأخير ولا يرجع إلى غيره من الجمل وهو قول أبي علي الفارسي من النحويين. الثالث: وهو للمرتضى من الشيعة - يتوقف على تقوم القرينة المعينة لأحد الأمرين لأن الاستثناء الواقع بعد الجمل مشترك لفظي بين رجوعه للكل ورجوعه إلى الجمل الأخيرة والمشترك لا يعمل به في أي فرد من أفراد بقرينة. الرابع: وهو للقاضي أبي بكر الباقلاني والغزالي من الشافعية - يتوقف لعدم العلم بمدلوله فإنه لا يدري أهو موضوع لرجوعه إلى الكل أو لرجوعه للجملة الأخيرة فقط ............. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 للعطف1 ثم زعم إذا قال وقفت على بنى فلان دارى وحبست على بنى فلان ضيعتى وجعلت على خدمى وموالى بهيمتى إلا أن يفسق منهم فاسق ولا يظهر اختصاص الاستثناء فى هذه الصورة بالجملة الأخيرة ولا يظهر أيضا انعطافه على الجمل أيضا فيكون الأمر موقوفا على المراجعة والبيان منه قال والسبب فى هذا أن ميثاق الخطاب فى الجمل كلها واحد ولكن الجمل منفصلة فى الذكر على معنى أن كل جملة مستقلة بنفسها فيجوز أن يعود الاستثناء إلى ما يليه ويجوز أن يرجع إلى جميع الجمل فوجب التوقف إلى أن يأتى البيان ويقوم الدليل على واحد من الأمرين. وعندى أن الأولى أن يقال أنه إذا ذكر جملا وعطف بعضها على بعض ولم يكن فى المذكور إجراما يوجب إضرابا عن الأول وصلح رجوع الاستثناء إلى الكل فإنه يرجع إلى الكل. وممكن أن يعبر عن هذا فيقال إذا لم يكن الثانى خروجا من قصة إلى قصة أخرى لا يليق بالأول ونظير هذا أن نقول اضرب بنى تميم والأشراف هم قريش إلا أهل البلد الفلانى وهذا لأنه لما عدل عن الأول إلى مثل هذا وأحدهما لا يليق بالآخر أو أحدهما قصة والآخر قصة أخرى هل أنه استوفى غرضه من الأول لأنه لا شىء أدل على استيفاء الغرض بالكلام من العدول عنه إلى نوع آخر من الكلام وعلى هذا إذا قال من استقامت طريقته فأكرمه ومن عصاك فاضربه إلا أن يتوب والاستثناء ينصرف إلى ما يليه وعلى هذا قيل أيضا إذا قال أكرم ربيعة واضرب بنى تميم إلا الطوال منهم ينصرف إلى ما يليه أيضا. وقد ورد القرآن بانصراف الاستثناء إلى جميع المذكور وورد بانصرافه إلى ما يليه.   = الخامس وهو لأبي الحسين البصري من المعتزلة إن كان بين الجمل تعلق وارتباط في الحكم أو في الاسم بأن يكون حكم الأولى مضمرافي الثانية أو يكون ضمير المحكوم عليه في الأولى موجودا في الثانية مثل: أكرم الفقهاء والزهاد إلا المبتدعة وأكرم الفقهاء وأنفق عليهم إلا المبتدعة فإن الاستثناء يرجع إلى الجميع وإن لم يكن بينهما تعلق وارتباط اختص بالأخيرة فقط انظر نهاية السول 2/431 إحكام الأحكام للآمدي 2/438 المحصول 1/412 انظر البرهان 1/388 المعتمد 1/245 التلويح على التوضيح 2/30 روضة الناظر 226, 227 المستصفى للغزالي 2/174 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/286, 287. 1 غير مقروءة في الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 وورد فيه الخلاف فالأول قوله تعالى إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله إلى قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34] فهذا الاستثناء ينصرف إلى جميع المذكور بالإجماع. وقال تعالى فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة إلى قوله: {إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء: 92] فهذا يرجع إلى أقرب ما يليه وهو الدية ولا ينصرف إلى التحرير وإنما قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} إلى قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 4 , 5] فهذا موضع الخلاف وعندنا ينصرف إلى جميع ما تقدم وعندهم ينصرف إلى ما يليه وهو قوله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] فأما من قال أن الاستثناء ينصرف إلى ما يليه من الجمل المذكورة فاحتج بوجوه من الكلام. أحدها أن أول الكلام مطلق فله حكم إطلاقه وآخر الكلام مقيدا بالاستثناء فله حكم تقييده وهذا كقوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] فقد انصرف هذا التقييد إلى الربائب وبقى الأول على إطلاقه وهذا معنى ما روى عن الصحابة فى هذا أبهموا ما أبهم الله. ببنية: أن أول الكلام لما كان عاما والاستثناء المذكور فى آخر الكلام يحتمل أن ينصرف إلى جميع ما تقدم ويحتمل أن ينصرف إلى ما يليه فلم يجز إبطال صفة العموم عن أول الكلام بالشك وربما يقول: أن أول الكلام عام فمن ادعى تخصيصه فعليه الدليل كسائر العمومات. وحجة أخرى بأن الاستثناء إنما يرد إلى ما تقدم إذا كان لا يستقل بنفسه لأنه إذا لم يستقل بنفسه لم يقدر فوجب تعليقه بما تقدم ليستقل ويفيد. ألا ترى أنه إذا استقل بنفسه لم يعلق بما تقدم. قالوا: وإذا علقناه بالذى يليه فقد استقل وأفاد فلا يعلق بما زاد عليه لأن تعليقه بما زاد على ذلك يجرى مجرى تعليق المستقل بنفسه بغيره لا من ضرورة. دليل آخر لهم قالوا: الاستثناء من الجمل كالاستثناء من الاستثناء وإذا كان الاستثناء من الاستثناء يرجع إلى ما يليه ولا يفتقر فى إثبات استقلاله إلى أكثر من ذلك فكذلك الاستثناء من الجمل يكون كذلك. قالوا: وليس هذا كما لو عقب الجمل بشرط حيث يرجع إلى جميع ما تقدم لأن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 الشرط وأن تقدم فهو فى معنى التقدم لوجوب تقدم الشرط على الجزاء والإنسان إذا قال اضرب ربيعة وبنى تميم أن قاموا معناه أن قام بنو تميم وربيعة فاضربهم وليس كذلك الاستثناء الذى اختلفنا فيه لأنه ليس من حقه وجوب تقديمه فلهذا لم ينصرف إلى جميع ما تقدم. قالوا: وكذلك الاستثناء بمشيئة الله تعالى لأن لفظه لفظ الشرط ولأن من حق الاستثناء بمشيئة أن يوقف جميع الجملة. وأما الاستثناء بإلا فيدخل على بعض دون البعض. ألا ترى أنه لو قال لامرأته أنت طالق ثلاثا أن شاء الله لم يقع شىء1 ولو قال لامرأته أنت طالق إلا ثلاثا لم يصح2 وإنما يصح إذا قال أنت طالق ثلاثا إلا واحدة أو اثنين3 وقد استدلوا بمسألة وهى أنه لو قال لفلان على عشرة دراهم وعشرة دنانير إلا دينارا ينصرف الاستثناء إلى ما يليه وأن كان يجوز الاستثناء للجنس من غير الجنس على قول بعض. وقد قلتم أن الأصح جواز استثناء الجنس من غير الجنس من حيث المعنى ومع ذلك فى هذه الصورة لم ترد فالاستثناء إلى جميع ما تقدم. وذكروا كلاما يختص بآية الرمى وقالوا: أن الاستثناء لم ينصرف إلى جميع المذكور بالإجماع إلا أنه لم ينصرف إلى الجلد ولو كان من حقه أن ينصرف إلى جميع ما تقدم لانصراف إلى الجلد أيضا. ببينة: أنه إذا لم ينصرف إلى جميع ما تقدم فمن حقه أن ينصرف إلى ما يليه لأنه لا قائل يقول: أنه لا ينصرف إلى ما يليه ولا ينصرف إلى جميع ما تقدم. وأما أبو زيد فقد سلك فى آية القذف مسلكا آخر وزعم أن رد الشهادة حد وقال هو عقوبة مؤلمة مثل الجلد عقوبة مؤلمة وهو معطوف على الجلد ومفوض ذلك إلى الإمام الذى يلى إقامة العقوبات فيكون فى حكمه وإذا كان عقوبة لم يسقط بالتوبة وزعم أن الواو هاهنا للنظم وليس للعطف والتشريك.   1 ذكره موفق الدين بن قدامة رواية عن أحمد وقول طاوس والحكم وأبي حنيفة والشافعي انظر المغني 8/382. 2 وذكر الموفق أنه لا يصح في اللغة اتفاقا انظر المغني 8/307, 312. 3 ذكره ابن قدامة عن ابن المنذر إجماعا انظر المغني 8/311. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 وأما دليلنا قال الأصحاب وربما نسبوا إلى الشافعى أن الجملة التى عطف بعضها على بعض بواو العطف تجرى مجرى الجملة الواحدة لأن واو العطف فى الأسماء المختلفة يقوم مقام واو الجمع فى الأسماء المتماثلة ولا فرق عند أهل اللغة بين قولهم أكرم العرب إلا الطوال منهم وبين قولهم أكرم مضر وربيعة وقحطان إلا الطوال منهم وكذلك لا فرق عندهم بين قوله اضرب بنى ربيعة وتميما إلا الطوال وبين قولهم بنو تميم وربيعة اضربوهم إلا الطوال منهم وإذا صار الجميع كالجملة الواحدة انصرف الاستثناء إلى الكل. قالوا: على هذا أن واو العطف تجرى مجرى واو الجمع فى اشتراك الاسمين فى الحكم مثل قول القائل اضرب فلانا وفلانا أو أكرم فلانا وفلانا. أما من أين قلتم أنه يجرى مجرى واو الجمع فى انصراف الاستثناء إليها هذا مجرد الدعوى ثم نقضوا ذلك بالجملتين المتباينتين وهو قوله أكرم ربيعة واضرب بنى تميم إلا الطوال وإنما ينصرف الاستثناء إلى بنى تميم خاصة ثم قالوا: فى قوله ربيعة وبنو تميم اضربوهم إلا الطوال منهم إنما انصرف الاستثناء إليها لأن الاستثناء ينفصل بقوله اضربوهم وفيه اسم الفريقين فينصرف الاستثناء إليهما. وأما إذا قال اضرب بنى تميم وربيعة إلا الطوال فلم يتصل الاستثناء باسم فيشمل الفريقين وقالوا: أيضا أن الواو قد تكون للعطف وقد تكون للنظم على ما بينا. ومعلوم أنه إذا قال الرجل أكرموا من يزورنا وقد حبست على أقاربى دارى هذه واشتريت عقارى الذى تعرفونه من بيت فلان وإذا مت فأعتقوا عبيدى إلا الفاسق منهم فإن الواو فى هذه المواضع يفيد أن يكون للعطف وجعل الجملة بمنزلة الجملة الواحدة فدل أنها للنظم. وقوله إلا الفاسق ينصرف إلى ما يليه. الجواب أنا نقول أن الجمل المعطوف بعضها على بعض تصير بمنزلة الجملة الواحدة إذا لم تكن فى الآخر ما يدل على الإضراب عن الأول لأنه إذا لم يكن إضرابا عن الأول فالإتيان بحرف العطف بين الجملتين والتعقيب بالاستثناء الذى أصل رده إلى الكل يدل على أنه لم يتم غرضه من الكلام الأول. والدليل على أنه لم يضرب عن الأول بالثانى أنه فى الخطاب أضاف إلى الحكم الأول حكما آخر مبتنيا على السبب الأول وهذا فى آية القذف ظاهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 ونظيره من الكلام قول القائل ادخل البلد الفلانى وسلم على بنى هاشم واستأمرهم وكذلك يقول: سلم على بنى تميم وربيعة. وبيان أنه لم يتم غرضه من الكلام الأول إضافته إلى الاسم الأول لمعنى آخر فصار الكلامان من هذا الوجه مع حرف العطف كالجملة الواحدة فينصرف الاستثناء إليها كما ينصرف إلى الجملة. وقولهم أن الواو للنظم قلنا الأصل أن الواو للعطف والتشريك فإذا أمكن استعماله فى هذا لم يستعمل فى غيره. يدل عليه أن صرف الاستثناء إلى بعض المذكور ليس بأولى من البعض بحق الصيغة ألا ترى أن كل واحد من الجملة المتقدمة يصح ذكرها موصولا بالاستثناء فإذا جمع بين الكل فى الذكر وأتبعها بالاستثناء كان ابتدار الاستثناء إلى الكل ابتدارا واحدا يوجب أن ينصرف إلى جميعها انصرافا واحدا وهذا كاللفظ العام إذا ورد وجب إجراؤه على عمومه وسحبه على كل ما يصلح له نظمه لأن بعض المسميات ليس بأولى من البعض إذ الكل يبتدر إلى اللفظ ابتدارا واحدا وهو الذى قلناه هو المعتمد. ومعنى دليل آخر أن الاستثناء فى مسألتنا كالشرط والاستثناء بمشيئة الله فى أنه لا يستقل بنفسه فلما وجب رجوع الشرط والاستثناء بمشيئة الله إلى جميع ما تقدم فكذلك لفظ الاستثناء فى مسألتنا وهذا إلزام عظيم على الخصم والعذر الذى قالوه فى نهاية الضعف لأنه يقال قولكم أن حق الشرط هو التقدم هلا خصصتم الشرط بما يليه وقدرتموه تقدير المتقدم عليه على الخصوص حتى يكون التقدير فى قوله اضرب بنى تميم وربيعة أن دخلوا الدار اضرب بنى تميم وأن دخل الدار ربيعة فاضربهم. والحرف أنه ينبغى أن يتقدم الشرط والاستثناء بمشيئة الله تعالى على الجملة الأخيرة فثبت ما ذكروه من حق التقدم ولا ينصرف إلى جميع الجملة المتقدمة. وأما الجواب عن كلماتهم أما قولهم أن المطلق على إطلاقه والمقيد على تقييده قلنا ومن يسلم أن الجملة الأولى مطلقة والثانية مقيدة وهذا لأنه ليس واحدة منهما تخالف صاحبتها فى الإطلاق والتقييد بل الجمل كلها فى الصورة مطلقة وفى المعنى مخصوصة بدليل قام عليه. وقوله أن الاستثناء يحتمل أن ينصرف إلى الجميع ويحتمل أن ينصرف إلى الواحد الذى يليه فلا يثبت تخصيص ما يستيقن من الألفاظ المطلقة العامة بالشك قلنا لا عام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 هاهنا لأنا قد بينا أن الجميع قد صار بمنزلة الجملة الواحدة فلأنه أن كان فى انصرافه إلى الجملة الأولى شك فكذلك فى انصرافه إلى الجملة التى تليه شك أيضا لأنه يحتمل أن ينصرف الاستثناء إلى ما تقدم ذكره ولا ينصرف إلى ما يليه ألا ترى إلى ما روى فى بعض الأخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس على المسلم فى عبده ولا فى فرسه صدقة إلا صدقة الفطر" 1 وقوله إلا صدقة الفطر ينصرف إلى الأول. وقال عامة أهل التفسير فى قوله تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء: 83] أنه استثناء من قوله عز وجل: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] فهذا موضع الاستثناء بقوله إلا قليلا. والجواب المعنوى أنه لاشك فى واحد من الردين سواء رد إلى ما يليه أو إلى ما تقدم بل الموجود فى الكل احتمال الرد إليه وصلاحية الرجوع عليه وهذا القدر كاف فى رد الاستثناء إلى المذكور. فإن قيل كيف تستوى الجملة الأولى والجملة الثانية وفى الجملة الثانية لم يقع فصل بينهما وبين الاستثناء وأما فى الجملة الأولى قد وقع الفصل بينهما وبين الاستثناء بالجملة الثانية ووقوع الفصل مانع من رد الاستثناء إليها. قلنا قد أجبنا عن هذا بقولنا أن الجميع قد صار بمنزلة الجملة الواحدة ثم نقول بجواز أن يقع فصل بين الكلامين بواو النسق ثم يرد الآخر منهما على الأول دون ما يليه ويعطف عليه بإعرابه ما عداه كقوله تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] فمن قرأ بفتح اللام تسبق الأرجل على الوجه وقد قطع بينهما ذكر مسح الرأس وقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر:87] فقد فتح النون ورده بعد واو النسق على أول الكلام ثم ينتقض هذا الذى ذكروه بالشرط والاستثناء بمشيئة الله. وأما قولهم أنه إنما يرد الاستثناء إلى ما سبق ليفيد. قلنا ينتقض هذا بالشرط والاستثناء بمشيئة الله تعالى فإنه غير مقيد ولا مستقل بنفسه.   1 أخرجه البخاري الزكاة 3/383 ح 1464 ومسلم الزكاة 2/676 ح 9/982 10/982 وأبو داود الزكاة 2/110 ح 1595 والنسائي الزكاة 5/25 باب زكاة الخيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 وإنما يفيد إذا علق بما تقدم وقد أفاد بتعليقه بما يليه دفع ذلك رجع إلى جميع ما سبق. وعلى أنا نقول أن هذا الذى قلتم يمنع أن يكون الرجوع إلى الجملة الأولى بحق الإفادة ولا يمنع أن يرجع بدليل آخر يقوم عليه ونحن لا نرده إلى الجملة الأولى للإفادة بل إنما رجع لدليل آخر قام عليه وأما تعلقهم بالاستثناء من الاستثناء قلنا إنما يرجع إليهما لأن العشرة إثبات والاستثناء منها يكون نفيا والاستثناء من النفى يكون إثباتا ولو رجع الاستثناء إليها لكان نفيا وإثباتا وهذا متضاد. فإن قيل قلتم رجع إلى الثانى دون الأول قلنا لما رجع إلى ما يليه وأمكن ذلك وتعذر رجوعه إلى ما سبق للتضاد الواقع فصرناه على ما يليه لأجل القرب اللفظى وأما هاهنا قد أمكن رجوعه إلى كل ما سبق بما بيناه ولا تضاد ولا تنافى فرددناه إلى الجميع. وأما المسألة التى أوردوا من قولهم لفلان على عشرة دراهم وعشرة دنانير إلا دينارا قلنا يحتمل أن يقال ينصرف إليهما جميعا ويحتمل أن ينصرف إلى الدنانير على الخصوص لأن الاستثناء من غير جنس المستثنى منه مجاز على ما سبق فإن كان حقيقة معنى فهو مجاز لفظا لكان رده إلى ما يكون اللفظ فيه حقيقة أولى. وأما قولهم فى آية القذف فى أن التوبة لا تنصرف إلى الجلد قد أجبنا عنه فى مسائل الخلاف وكذلك عن طريقة أبى زيد والكلام فى ذلك بالفقه أقرب منه بأصول الفقه فتركنا ذكره والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 فصل: تخصيص العموم بالشرط ... فصل: قد ذكرنا تخصيص العموم بالاستثناء. وأما تخصيص العموم بالشرط1. فهو موجب لتخصيص المشروط فيه إلا أن يقع موقع التأكيد أو غالب الحال فينصرف بالدليل عن حكم الشرط وهذا مثل قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] وليس.   1 الشرط لغة: هو العلامة ومنه أشراط الشاعة أي علاماتها انظر القاموس المحيط للفيروزآبادي 2/ وعرفه صاحب جمع الجوامع بأنه ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم انظر جمع الجوامع 2/20 نهاية السول 2/437 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/292. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 الخوف بشرط مخصص للفعل بحاله وإنما هو للتأكيد كقوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] وليس كونهن فى حجورهم بشرط مخصص وإنما ذكر لأنه أغلب الأحوال1. وإذا أوجب الشرط تخصيص المشروط فيه لم يثبت حكم المشروط إلا بوجود الشرط فيوجد بوجوده ويعدم بعدمه ومثال هذه الطهارة التى جعلها الله تعالى شرطا فى صحة الصلاة بقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] وكقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ   1 قال الآمدي اتفق القائلون بالمفهوم على أن كل خطاب خصص محل النطق بالذكر لخروجه مخرج الأعم الأغلب لا مفهوم له وذلك كقوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} وقوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} وقوله صلى الله عليه وسلم "أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل" وقوله صلى الله عليه وسلم "فليستنج بثلاثة أحجار" فإن تخصيصه بالذكر لمحل النطق في جميع هذه الصور إنما كان لأنه الغالب إذ الغالب أن الربيبة إنما تكون في الحجر وأن الخلع لا يكون إلا مع الشقاق وأن المرأة لا تزوج نفسها إلا عند عدم إذن الولي لها وإنابة من يزوجها وأن الاستنجاء لا يكون إلا بالحجارة وكذلك الحكم في كل ما ظهر سبب تخصيصه بالذكر كسؤال سائل أو حدوث حادثة أو غير ذلك مما سبق ذكره من أسباب التخصيص وعلى هذا فلو لم يظهر سبب يوجب تخصيص محل النطق بالذكر دون محل السكوت بل كانت الحاجة إليهما وإلى ذكرهما مع العلم بهما مستوية ولم يكن الحكم في محل السكوت أولى بالثبوت وبالجملة لو لم يظهر سبب من الأسباب الموجبة للتخصيص سوى نفي الحكم في محل السكوت فهل يجب القول بنفي الحكم في محل السكوت تحقيقا لفائدة التخصيص أو لا يجب! إن قلنا إنه لا يجب كان التخصيص بالذكر عبثا جليا عن الفائدة وذلك مما ينزه عنه منصب آحاد البلغاء فضلا عن كلام الله تعالى ورسوله وإن قلنا بموجب نفي الحكم لزم القول بدلالة المفهوم في هذه الصورة. والوجه في حله أن يقال: إذا لم يظهر السبب المخصص فلا يخلو إما أن يكون مع عدم ظهوره محتمل الوجود والعدم على السواء أو أن عدمه أظهر من وجوده فإن كان الأولى فليس القول بالنفي أولى من القول بالاثبات وعلى هذا فلا مفهوم وإن كان الثاني فإنما يلزم من ذلك نفي الحكم في محل السكوت أن لو كان نفي الحكم فيه من جملة الفوائد الموجبة لتخصيص محل النطق بالذكر وليس كذلك وذلك لأن نفي الحكم في محل السكوت عند القائلين بمفهوم المخالفة إنما هو فرع دلالة اللفظ في محل النطق عليه فلو كانت دلالة اللفظ في محل النطق على نفي الحكم في محل السكوت متوقفة عليه بوجه من الوجوه كان دورا ممتنعا انظر إحاكم الأحكام 3/146. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} [المجادلة: 4] فجعل عدم الرقبة شرطا فى جواز الصيام وجعل العجز عن الصيام شرطا فى جواز الإطعام وعلى هذا قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [التوبة: 29] أوجب إطلاق العموم استغراق ما انطلق عليه اسم المشرك فى قتله ومثاله فإذا قال اقتلوا المشركين أن كانوا حربيين وقاتلوهم حتى يعطوا الجزية أن كانوا كتابيين صار هذا1 الشرط مخصصا لعموم الأسماء. واعلم أن من حق الشرط أن يكون مستقبلا لحكم مستقبل ولا يجوز أن يكون ماضيا لحكم ماض ولا أن يكون مستقبلا لحكم ماض لأنه إذا قال لا أكرم زيدا أمس إلا أن يقدم عمرو اليوم امتنع اجتماع الشرط والمشروط لأنه أن أكرم زيدا بالأمس فهو قبل وجود الشرط وأن لم يكرمه حتى يقدم عمرو فإن المشروط من إكرام زيد بالأمس فلما امتنع اجتماعهما بطل حكم الشرط فبطل حكم المشروط. وأما أن كان الشرط ماضيا لحكم مستقبل كقوله أن كان زيد قدم فأكرم عمرا فهذا على ضربين. أحدهما أن يكون الشرط قد وجد قبل الأمر فيكون المأمور مخاطبا بالأمر المشروط ويكون الشرط الماضى تضليلا وليس بشرط فلا يخص به العموم لأنه لم يتقدمه أمر يختص بالشرط. والضرب الثانى أن يكون الشرط لم يوجد فلا يجوز أن يتعلق الحكم بوجوده بعد الأمر لأنه معقود على ماض وليس معقود على مستقبل. وأما تخصيص العموم بالغاية. فالغاية كالشرط فى تخصيص العموم بها مثل قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} إلى قوله: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [لتوبة: 29] فجعل إعطاء الجزية غاية فى قتالهم قبلها والكف عنهم بعدها فصارت الغاية شرطا مخصصا. وقد يتعلق الحكم المشروط بغاية وشرط فلا يثبت إلا بعد وجود الغاية والشرط مثل قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222] فجعل انقطاع الدم غاية والغسل شرطا فصارا معتبرين فى إباحة الإصابة.   1 ثبت في الأصل "صارت هذه" ولعل الصواب ما أثبتناه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 والتخصيص واقعا باجتماعهما ولا يقع بوجود أحدهما. وأما التخصيص بالتقييد. مثل قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [المجادلة: 3] وكقوله تعالى: {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [المجادلة: 4] فلما قيد الرقبة بالإيمان والصيام بالتتابع خص عموم الرقاب وعموم الصيام فلم يجز من الرقاب إلا المؤمنة ومن الصيام إلا المتتابع وكان لولا التقييد الإجزاء بكل رقبة مؤمنة كانت أو كافرة وكل صيام متتابعا كان أو متفرقا وصار التقييد الشرعى تخصيصا لكل عموم ورد به السمع. ويجوز تقييد العموم بشرطين وأكثر1 وإذا زيدت شروط تقييده كان أضيق لتخصيص عمومه ويجوز أن يجمع فى تقييد العموم بين شرط وصفة وغاية فإذا قال إذا قدم زيد صحيحا إلى رمضان فأعط عمرا درهما كان قدوم زيد شرطا وصحته صفة وإلى رمضان غاية ودفع الدرهم إلى عمرو حكما يلزم بمجموع الشرط والصفة والغاية.   1 اعلم أن الشرط قد يأتي متعددا على سبيل الجمع نحو: إن كان زانيا أو محصنا فارجمه فيحتاج إليهما للرجم وأما على سبيل البدل نحو: إن كان سارقا أو نباشا فاقطعه فيكفي واحد منهما في وجوب القطع انظر نهاية السول 2/441 إحكام الأحكام 2/455, 456 المحصول 1/424 المعتمد 1/240 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/294, 295. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 فصل: ومما يدخل فى باب العموم القول فى ألفاظ الشارع فى حكايات الأحوال . فعند الشافعى رحمه الله أن ترك الاستفصال فى حكايات الأحوال مع الاحتمال يجرى مجرى العموم فى المقال2. ومثال ذلك ما روى أن غيلان بن سلمة الثقفى رضى الله عنه أسلم وتحته عشر نسوة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أمسك أربعا وفارق سائرهن" 3 ولم يسأله عن كيفية العقد عليهن هل.   2 في هذه المسألة خالف الإمام أبو حنيفة الإمام الشافعي فقال: إن كان العقد عليهن في وقت واحد فعليه أن يجدد عقد النكاح على أربع منهن أي أربع وقع عليهن اختياره. وإن كانت العقود مرتبة فعليه أن يمسك الأربع الأول ويفارق ما عداهن لأن العقود الأولى صادفت محلا قابلا للعقد فكانت صحيحة أما ما عداها فلم يصادف محلا قابلا للعقد فكان باطلا انظر نهاية السول 2/367, 368, 369 إحكام الأحكام للآمدي 2/345 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/232. 3 أخرجه الترمذي النكاح 3/426 ح 1128 وابن ماجه النكاح 1/628 ح 1953 والبيهقي في الكبرى 7/294 ح 14041 وابن حبان 1277 - 1278/موارد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 عقد عليهن على الترتيب أو عقد عليهن دفعة واحدة فكان إطلاقه القول من غير استفصال واستبراد حال دليلا دالا على أنه لا فرق بين أن تتفق العقود عليهن معا أو يوجد العقود متفرقة عليهن فإن قال قائل يجوز أن النبي صلى الله عليه وسلم علم كيفية الحال فلهذا لم يسأل وأطلق الجواب وأيضا فإن كان الرسول عليه السلام لم يقف على الكيفية فى هذه الحادثة ولا يعرف استبهام الكيفية فى كل حادثة تنقل على هذا الوجه. والجواب المطلق إنما يمكن حمله على العموم إذا كان مبتنيا على استبهام الحادثة. والجواب أن دعوى معرفة النبي صلى الله عليه وسلم لكيفية العقود من غيلان بن سلمة وهو رجل من ثفيف ورد عليه ليسلم والتعرف لأمثال هذه المواقعات يبعد من الآحاد من الناس فكيف يلائم حال الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا غاية البعد. والذى ذكر ثانيا فنحن إنما ندعى العموم فى كل ما يظهر فيه استفهام الحال ويظهر من الشارع إطلاق الجواب فلا بد أن يكون الجواب مسترسلا على الأحوال كلها وعلى أن وجه الدليل واضح من خبر غيلان بن سلمة فى الأحوال كلها فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال أمسك أربعا فأجملهن ولم يخصص فى الإمساك أوائل عن أوآخر أو أوآخر عن أوائل وفوض الأمر إلى اختيار من أسلم ولذلك قال لفيروز الديلمى وقد أسلم على أختان: " اختر أيهما شئت وفارق الأخرى" 1 فقد علق على اختياره على الإطلاق من غير تعرض لأولى وأخرى.   1 أخرجه أبو داود الطلاق 2/280 ح 2243 والترمذي النكاح 3/427 ح 1129 - 1130 وقال هذا حديث حسن وابن ماجه النكاح 1/627 ح 1951 وأحمد المسند 4/284 ح 18063. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 فصل: ورود صيغة متخصة في وضع اللسان بالنبي صلى الله عليه وسلم ... فصل وإذا وردت صيغة مختصة فى وضع اللسان برسول الله صلى الله عليه وسلم فالذى صار إليه أبو حنيفة وأصحابه أن الأمة معه فى ذلك سواء ولهذا تعلقوا فى مسألة النكاح بلفظ الهبة بقوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} فالخطاب يختص به والأمة عندهم كالنبى صلى الله عليه وسلم فى موجبه وقد أوقفهم بعض أصحابنا فى هذا2 وقال من ذهب إلى هذا إن.   2 في هذه المسألة قولان: الأول: وهو قول عامة الأصوليين من الشافعية والحنفية أن الخطاب لا يتناول الأمة. القول الثاني: أن خطاب الرسول خطاب لأمته وهذا القول منقول عن أبي حنيفة وأحمد بن ...... = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 الأصل أن النبي صلى الله عليه وسلم وأمته فى الشرائع على التسوية والتماثل كما أن الأصل أن الأمة بعضها مع البعض فى الشرع سواء فإن جرى تخصيص فى بعض المواضع فإنما صدر ذلك عن دليل خاص دل عليه وقد روى أن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال له فى بعض الأمور إنك لست مثلنا أنه قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تآخر فغضب وقال إنما أرجو أن أكون أخشاكم لله تعالى ثم ذكر كلاما عن النكاح وغيره وقال فى آخره: "فمن رغب عن سنتى فليس منى" 1 وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] فدل أنه صلى الله عليه وسلم قدوة الأمة فى كل شىء. وقد وجدت أحكام خاصة لأفراد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما روى أن خزيمة ابن ثابت كان مختصا بشهادتين2 وكذلك قال للبراء بن عازب فى الأضحية تجزيك ولا تجزيء عن أحد بعدك3 ورخص للزبير فى لبس الحرير عن حكة به4 ولم ينقل أحد أنه يجوز لغيره ونحن نقول أن رجعنا إلى صورة اللفظ فلا ارتياب أنه مختص بالرسول صلى الله عليه وسلم ثم بعد هذا يقال ما ظهرت فيه خصائص الرسول عليه السلام كالنكاح والمغانم فإذا ورد خطاب مختص به صلى الله عليه وسلم فهو مخصوص به وعلى هذا ينبغى أن نص بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم اعتقدوه وإنما صرنا إلى هذا لأن الصيغة خاصة واختصاص الرسول صلى الله عليه وسلم فى الباب معلوم فحمل الخطاب على أنه خاص له فأما ما لم يظهر فيه خصائصه وورد خطاب من الله تعالى يختص به فينبغى أن يكون الأمر على ما قاله.   = حنبل رضي الله عنهما وأصحابهما انظر إحكام الأحكام للآمدي 2/379 نهاية السول 2/358 البرهان 1/367 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/224, 225. 1 أخرجه البخاري النكاح 9/5 ح 5063 ومسلم النكاح 2/1020 ح 5/1401 والنسائي النكاح 6/48 ح باب النهي عن التبتل وأحمد المسند 3/295 ح 13540. 2 أخرجه البخاري الجهاد 6/26 ح 2807 وأبو داود الأقضية 3/306 ح 3607 والنسائي البيوع 7/265 باب التسهيل في ترك الإشهاد على البيع وأحمد المسند 5/223 ح 21696. 3 أخرجه البخاري الأضاحي 10/5 ح 5545 ومسلم الأضاحي 3/1553 ح 7/1961 وأبو داود الضحايا 3/96 ح 2800 وأحمد المسند 4/372 ح 18717. 4 أخرجه البخاري الجهاد 6/118 ح 21919 ومسلم اللباس 3/1646 ح 25/2076 وأبو داود اللباس 4/49 ح 4056 والترمذي اللباس 4/218 ح 1722. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 وهذا لأنه قدوة الأمة فإذا وضعنا الخطاب على التخصيص الذى يقتضيه ظاهرة وقطعنا الأمة عنه مع جريان عادة أهل اللسان فى خطاب الواحد ويريدون به الجماعة يؤدى إلى خرم قاعدة الاقتداء به وقد أمر الله صلى الله عليه وسلم تعالى باتباعه فى مواضع كثيرة من القرآن وربما يؤدى قطع المشاركة فى الأحكام إلى نفرة القلوب عنه وتباعدها منه فالأولى ما ذكرنا والله أعلم بالصواب. وأما إذا خصص الرسول صلى الله عليه وسلم واحدا من أمته بخطاب فقد ذكر بعضهم خلافا فى هذا وقال من العلماء من صار إلى أن المكلفين قاطبة يشاركون المخاطب ومنهم من قال لا يشاركون فمن قال بالأول صار أن الأصل أن جميع الأمة فى الشرع سواء بلا تخصيص لواحد من بين الجماعة وقد جرت عادة أهل اللسان أنهم يخاطبون الواحد ويريدون به الجماعة وهذا فى كلام كثير. وأما من قال بالثانى فقد ذهب إلى صورة الصيغة وهى مختصة بالواحد من بين الجماعة فلا يجعل للتعميم إلا بدليل والأول أولى لأنا وأن كنا إذا نظرنا إلى مقتضى الصيغة كان موجبا للتخصيص ولكن إذا نظرنا إلى ما استمر الشرع عليه فذلك يقتضى المشاركة والمساواة ألا ترى أن اللفظ الذى يخص به أهل عصر يكون مسترسلا على الأعصار كلها ولا يخص به أهل العصر الأول كذلك هاهنا. مسألة: ومما يتعلق بباب العموم والخصوص مسألة المطلق والمقيد. اعلم أن الخطاب إذا ورد مطلقا لا تقييد له يحمل على إطلاقه وأن ورد مقيدا لا مطلق له حمل على تقييده وأن ورد مطلقا فى موضع ومقيدا فى موضع ينظر فى ذلك فإن اختلف السبب واختلف الحكم جميعا مثل ما ورد من تقييد الصيام بالتتابع فى كفارة القتل وإطلاق الإطعام فى الظهار لم يحمل أحدهما على الآخر بل يعتبر كل واحد منهما بنفسه لأنهما لا يشتركان فى لفظ ولا فى معنى1. وإن كان ورودهما فى حكم واحد وبسبب واحد مثل أن يذكر الرقبة مطلقة فى.   1 انظر إحاكم الأحكام للآمدي 3/3 روضة الناظر 230 المحصول 1/457 التصريح على التوضيح 1/63 حاشية الشيخ بخيت المطيعي 2/496 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/333. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 كفارة القتل ومقيدة فى كفارة الظهار كان الحكم للمقيد وبنى المطلق عليه ويصير كأن الوارد حكم واحد استوفى بيانه فى أحد الموضعين ولم يستوف بيانه فى الموضع الآخر1. وأما إذا ورد المطلق والمقيد فى حكم واحد وبسببين مختلفين مثل ما وردت الرقبة مطلقة فى كفارة الظهار ومقيدة بالأيمان فى كفارة القتل فعندنا يحمل المطلق على المقيد. واختلف أصحابنا فيما يوجب الحمل فمن أصحابنا من قال يحمل المطلق على المقيد بنفس الورود ومنهم من قال من جهة القياس2. وأما إذا اتفق السبب فاختلفوا فيه فقال بعضهم يحمل المطلق على إطلاقه والمقيد على تقييده مثل ما اختلف بالسبب ومنهم من قال يحمل المطلق على المقيد فى هذه الصورة أما دليلهم قالوا: أن المطلق خطاب على حاله والمقيد خطاب على حاله وربما يقولون نص على حدة ونص على حدة فهما نصان مختلفان فلا يحمل أحدهما على الآخر بل يعمل كل واحد منهما على ما يقتضيه إذ كل واحد منهما موجب للعمل بنفسه وبصيغته قالوا: وعلى هذا سواء كان المطلق أو المقيد فى سببين مختلفين أو سبب واحد يدل عليه أنا نعقل من كلام صاحب الشرع ما يعقل بعضنا من كلام البعض لأن الله تعالى خاطبنا بما يخاطب به العرب بعضهم مع البعض ثم الواحد منا لو أطلق كلامه إطلاقا ثم قيده ثانيا تقييدا فإنا نحمل المطلق على المقيد بل يجرى كل واحد منهما على سببه وقضيته ألا ترى من قال لامرأته أن دخلت الدار فأنت طالق ثم قال أن دخلت الدار راكبة فأنت طالق فإنها تطلق إذا دخلت الدار راكبة وتطلق إذا دخلت الدار غير راكبة. وكذلك إذا قال الرجل لغيره أعتق عبدا واحدا من عبيدى وقال لآخر أعتق عبدا واحدا أبيض من عبيدى فإن الأول يملك أن يعتق أى عبد شاء والثانى لا يملك إلا.   1 انظر المحصول 1/457 إحكام الأحكام للآمدي 1/4 التصريح على التوضيح 1/63 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/333, 334. 2 انظر المحصول 1/459 إحكام الأحكام للآمدي 3/5 روضة الناظر 231 التصريح على التوضيح 1/63 حاشية الشيخ بخيت المطيعي 2/499 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/335. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 إعتاق عبد أبيض ولا يحمل المطلق على المقيد فكذلك ما جاء من الشرع يكون كذلك وهذا المعنى معقول وهو أن المطلق ضد المقيد فيكون فى حمل المطلق على المقيد نسخ المطلق لا نسخ الحكم رفعه وأنتم قد رفعتم المطلق وحكمه بالمقيد وحكمه. وبيان رفعه أن قضية المطلق أجزأ كل ما يسمى رقبة وقد ارتفع هذا الإجزاء والرفع نسخه ببينة أن التعبير بمقتضى الآية نسخ فالرفع لأن يكون نسخا أولى. قالوا: ولهذا لا يشترط فى قضاء رمضان من التتابع لأنه ورد مطلقا بقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] ولم يحمل على صوم اليمين ولا على صوم الظهار وكذلك عندكم لا يحمل الصوم فى كفارة اليمين على الصوم فى كفارة القتل والظهار. قالوا: وأما فى الشهادة فإنا لا نقول يحمل المطلق فيها على المقيد بالعدالة لكن شرطنا العدالة فى الشهادة التى لم يرد فيها النص تقييدا بالعدالة بدليل آخر وهو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] والأمر بالتثبت يمنع القبول وكذلك فى زكاة الغنم إنما شرطنا السوم بدليل آخر وهو قوله عليه السلام لا زكاة فى المعلوفة ولا فى المحمولة وكذلك إنما قيدنا الميراث المذكور فى آخر سورة النساء بما قيد به الميراث المذكور فى أولها من تأخيره عن الدين والوصية بالإجماع لا يحمل المطلق على المقيد قالوا: ولا يجوز أن يقال أن المطلق عام وحمله على الرقبة المؤمنة تخصيص لأن دعوى العموم باطلة فى قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] من وجوه منها أن قوله: {رَقَبَةٍ} اسم لرقبة واحدة لأنها نكرة فى الإثبات فتخص ولا تعم والعام ما يشتمل على مسميات كثيرة فأما الذى يشتمل على مسمى فرد ومحل وبلد فمحال أن يدعى فيه العموم ببينة أنه لا شك أنه اسما مفردا. ألا ترى أنه يجمع فيقال رقبة ورقبات كما يقال رجل ورجال وعبد وعبيد ودعوى التخصيص فى اسم المفرد محالا ولأن إثبات التقييد فى الرقبة المطلقة زيادة على النص والزيادة على النص لا يجوز أن يدعى أنه تخصيص بوجه ما لأن التخصيص نقصان والنقصان زيادة على النص والزيادة على النص لا يجوز أن يدعى أنه تخصيص بوجه ما لأن التخصيص نقصان والنقصان ضد الزيادة ونقيضها فكيف نجوز أن يدعى فى الشىء معنى ضده ونقيضه والدليل على أنه زيادة أن صفة الإيمان لا تشتمل عليها اسم الرقبة فإن الرقبة اسم للبنية بأجزائها والإيمان ليس من إقرار بوجه ما وإنما هو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 معنى يعتقده ويكتسبه بقلبه وكذلك لو كفر وما كان من هذا الوجه لم يتصور أن يشتمل عليه اسم الرقبة. قالوا: ولا يجوز أن يدعى العموم فى أوصاف الرقبة لأن الأوصاف غير مذكورة فلا يجوز دعوى العموم فيها وما هو المذكور يقع اسما على الرقبة الواحدة وتخصيص المسمى الواحد محال. قالوا: وليس كالمعيبة والسليمة لأن العيب نقصان جزء من أجزاء البنية فلا تكون رقبة مطلقة وأما الكافر فرقبة مطلقة مثل المؤمنة لأن الكفر والإيمان ليس من أجزاء البنية فعلى هذا لا يكون شرط السلامة زيادة على النص بل يكون اعتبارها اعتبار ما يقتضيه النص. وأما صفة الإيمان لما كان سببا وراء ما يقتضيه اسم الرقبة فيكون زيادة محضة وإذا بدا أنه زيادة لم يجز إثباتها بالقياس لأن بالقياس لا يجوز الزيادة على النص لأنها نسخ على ما سنبين فى باب النسخ ونسخ القرآن بالقياس لا يجوز ولأن القياس إنما يجوز استعماله فى غير موضع النص وهذا استعمال القياس فى موضع النص لأن كفارة القتل منصوص عليها وكفارة الظهار منصوص عليها وقياس المنصوص عليه على المنصوص عليه باطل كما لا يجوز قياس السرقة على قطع الطريق لإثبات قطع الرجل مع اليد وكذلك قياس التيمم على الوضوء باطل فى إدخال الرأس والرجل فى التيمم وكذلك قياس كفارة القتل على كفارة الظهار باطلة فى إثبات الإطعام والإطعام كفارة مثل الرقبة والصيام. ببينة أن التقييد بالإيمان زيادة على حكم قد قصد استيفاؤه بالنص فلم يجز كما لا يجوز فى هذه الصورة التى بيناها قالوا: وأما قول من قال من أصحابكم يقيد بنفس ورود المقيد ويحمل عليه بلا قياس ولا دليل يدل عليه فكلام باطل وزعم محال لأن ظاهر المطلق يقتضى أن يجرى على إطلاقه فلو خص بالمقيد مجرد كون هذا مطلقا وكون الآخر مقيدا كان هذا مجرد ميل باطل وينتهى بمحال لأنه لا يكون أن يقيد بأولى من أن لا يقيد به. ببينة أنه يجوز أن يكون حكم الله تعالى فى أحدهما الإطلاق وفى الآخر التقييد وأيضا كما لا يجوز أن تكون المصلحة الشرعية فيهما التقييد يجوز أن يكون المصلحة الشرعية فيهما الإطلاق ويجوز أن يكون المصلحة فى أحدهما الإطلاق بينما الآخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 التقييد يدل عليه أنه لو جاز أن يقيد أحدهما بمجرد أن الآخر مطلق من غير أن يكون بينهما وصلة لا لفظية ولا معنوية ولكن بمجرد أن هذا المقيد وجب أن يقيد الآخر ومثله من هذا أيضا أن يكون لأحدهما بدل لأن للآخر بدلا أو يثبت التخصيص فى أحد العموم لأن الآخر مخصوص. قالوا: وقول بعضكم أن القرآن كله كالكلمة الواحدة يقيد بعضه مما يقيد به البعض الآخر مثل قوله تعالى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب: 35] لا يصح لأن قولهم أن القرآن كالكلمة الواحدة أن أرادوا بذلك أن كله حق ولا غرر فى شىء منه ولا اختلاف هذا صحيح. وإن أرادوا أن كله كالشىء الواحد حتى يقيد البعض منه بما يقيد به البعض فهذا كلام لم يقل به أحد وكيف يكون كالكلام الواحد وقد أنزله الله تعالى على سبعة أحرف وقيل معناه سبع جهات أمر ونهى ووعد ووعيد ومتشابه وقصص ومثل ولأن اسم القتل لا ينطلق على الظهار فلا يستعمل فيه حكمه إلا بمعنى يوجب قياسه عليه كالبر لما كان اسمه لا ينطلق على الأرز لم يستعمل فيه حكمه إلا بمعنى يوجب قياسه عليه وهو أما الكيل أو الطعم على حسب ما اختلفوا فيه. فأما حجتنا نقول فى المطلق والمقيد إذا وردا فى حادثة واحدة أن التقييد زيادة فى أحد الخطابين ورد من الشارع فوجب الأخذ بها دليله الزيادة فى الاحتياط فإنه يجب الأخذ بها كذلك هاهنا وإذا وجب الأخذ بهذه الزيادة لم يكن بد من حمل المطلق عليه لأنا إذا لم نحمل المطلق عليه كان تركا لوصف التقييد. فإن قالوا: وإذا حملنا المطلق على المقيد كان تركا لوصف الإطلاق قلنا لا يكون تركا بل يكون قولا بتخصيص عموم وأما إذا لم يحمل المطلق عليه كان تركا لصفة التقييد أصلا فإن قوله عليه السلام: "فى سائمة الغنم زكاة" 1 إذا لم يحمل عليه الخطاب الذى ورد فى إيجاب زكاة الغنم تعطلت صفة السوم والغنم ولم يبق لها فائدة ولا بد فى هذا الدليل من الرجوع إلى أن القول بدليل الخطاب واجب وأنه حجة شرعية وسيأتى هذا من بعد. ونقول أيضا إذا أجرينا المطلق على إطلاقه اعترضنا به على المقيد وإذا اعتبرنا.   1 أخرجه البخاري الزكاة 3/371 - 372 وأبو داود الزكاة 2/98 ح 1567 والنسائي الزكاة 5/19 باب زكاة الغنم وأحمد المسند 1/16 ح 73. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 المقيد واعتبرنا التقييد فى إثبات الحكم اعترضنا على المطلق ولا بد من واحد منهما والثانى أولى لأن الأمر المقيد صريح فى وصف التقييد أعنى السوم أو وصف الإيمان فيما إذا قال إذا جنيتم فأعتقوا رقبة ثم قال إذا جنيتم فأعتقوا رقبة مؤمنة واللفظ مختص بهذا الوصف. وأما المطلق فظاهر فى المعلوفة وليس بصريح فيها وكذلك فى المثال الثانى ليس بصريح فى الكافرة فكان الاعتراض بالصريح على الظاهر وبالنص على العام أولى لأن الخاص مقدم على العام والصريح مرجح على الظاهر هذا هو الكلام فى المطلق والمقيد إذا ورد فى حادثة واحدة والذى ذكروا من المثالين فى مسألة الطلاق والعتاق فلا يعرف ذلك على مذهبنا وإنما هو على مذهبهم. وأما الدليل فى الفصل الثانى وهو إذا ورد المطلق والخطاب المقيد فى شيئين مختلفين مع إيجاد الحكم وهو المسألة المعروفة ومثال ذلك فى كفارة القتل وكفارة الظهار فوجه الكلام فى هذه المسألة أن يدل على أن قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة 3] لفظ عام يشتمل على جميع الرقاب والتقييد بالإيمان تخصيص وإذا ثبت هذا صح بالقياس لأنا بينا أن تخصيص العموم بالقياس جائز والدليل على أنه لفظ عام أن قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة 3] صالح لكل رقبة لأن الرقبة اسم لكل شخص له رقبة إلا أنه اختص بالعبيد من حيث العرف فهو إذا صالح للمؤمنة والكافرة والمعيبة والسليمة والعاقلة والمجنونة وإذا صلح لكل الرقاب كان عاما فى كل الرقاب إلا أنه لفظ فى كل الرقاب من حيث البدل على معنى أنه لا يتعدد الرقبة الداخلة فى الأمر بالتحرير غير أنه ما من رقبة توجد وتسمى رقبة إلا ويتناولها اللفظ ويشتمل عليها الأمر حتى لو قصدها فيحررها تخرج عن عهدة الأمر فصار معنى قولنا من حيث البدل أنه متناول لكل الرقاب لا من حيث يدخل جميع الرقاب فى الأمر بالتحرير ولكن من حيث استرسال الأمر على الرقاب بوصف التناول وقيام البعض مكان البعض فيكون عاما من حيث المعنى أن لم يكن عاما من حيث صورة اللفظ ويمكن أن يقال أنه عام فى الأوصاف لأنه على أى وصف كانت الرقبة فهى رقبة. وقولهم أن الوصف غير مذكور فلا يمكن دعوى العموم فيه قلنا الأوصاف لا تنفك الرقاب عنها بل هى من صورة الرقاب فصارت كالمذكورة فصح دعوى العموم فيها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 ثم الدليل الواضح على أنه لفظ عام أنه يحسن منه الاستثناء بإلا وهو أن يقول: أعتق رقبة إلا أن تكون كافرة أو ذمية أو معيبة أو يقول: أعط هذا الدرهم فقيرا إلا أن يكون كافرا والاستثناء بعض ما يتناوله اللفظ ولولا أنه عام لم يتصور فيه الاستثناء لأن الاستثناء تخصيص إلا أنه دليل يتصل باللفظ والذى يتكلم فيه تخصيص بدليل منفصل عن اللفظ وإذا استويا فى معنى التخصيص فإذا قيل هذا اللفظ أحدهما قبل الآخر وقد ظهر هذا الذى قلناه الجواب عن قولهم أنه اسم فرد فهو وأن كان اسم فرد ولكنه عام فى الأوصاف أو نقول هو وأن كان اسم فرد فى الصورة لكنه اسم عام فى المعنى على ما ذكرنا من قبل بالتخصيص إنما يصح لعمومه من حيث المعنى كما صح الاستثناء بهذا الوجه ونزيد ما قلناه إيضاحا فنقول التخصيص على وجهين تخصيص بإخراج بعض المسميات من اللفظ مثل قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] فإن تخصيصه بإخراج بعض ما تناوله اللفظ من المسميات. والوجه الثانى من التخصيص هو إفراد بعض ما يصلح له اللفظ عن البعض وأن شئت قلنا تعيين بعض ما يتناوله الاسم المبهم ونظيره قول الرجل رأيت زيدا فهذا اسم مبهم يصلح اللفظ لكل من يسمى زيدا فإذا قلت: رأيت زيدا العالم فقد أفردت بعض من يصلح له اللفظ عن البعض وعنيت بعض من يتناوله الاسم المبهم. وإذا ثبت أن ما قلناه من حمل المطلق على المقيد بالقياس ومنع إجزاء الرقبة الكافرة تخصيص لفظ عام شامل لمسميات كثيرة بالوجه الذى قدمنا سقط قول أن تقييد الرقبة بالإيمان زيادة فى النص بل هو نقصان لأن التخصيص يكون نقصانا ولا يكون زيادة. وقولهم أن اسم الرقبة للبنية بأجزائها قلنا نعم ولكن الإيمان والكفر وصف لهذه البنية فقال رقبة مؤمنة ورقبة كافرة كما يقال معيبة وسليمة وكما لا يتصور إلا أن تكون معيبة أو سليمة لا يتصور إلا أن تكون كافرة أو مؤمنة وقد قال الطبرى فى أصوله لا يجوز أن لا يعتقد الكفر ولا الإيمان فيخلو عنهما وهذا هوس لأنه إذا لم يعتقد الإيمان يكون كافرا ولا أن تكون لا مؤمنة ولا كافرة كما لا يتصور أن تكون لا معيبة ولا سليمة وعلى أنه يدعى أن الإيمان والكفر من أجزاء البنية لكن ادعينا أنهما وصفا البنية وادعينا العموم من حيث الأوصاف ولهذا جاز الاستثناء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 وإذا جاز أن لا يكون من أجزاء البنية وصح استثناء الرقبة بهذا الوصف جاز أيضا أن لا يكون من أجزاء البنية ويصح تخصيص الرقبة بهذا الوصف. واعلم أن فصل الاستثناء يهدم كل كلام لهم فى هذه المسألة ولا يتصور لهم رد وكلام عليه والجواب إنما لا يدعى أن الكفر من أجزاء الرقبة أو الإيمان لكن يدعى أن الكافر رقبة وتناول اللفظ إياه من هذا الوجه لا من وجه الذى قلتم وقد بينا دعوى العموم فى هذه المسألة ولم نحتج إلى أن نبين أن الزيادة فى النص لا تكون نسخا وتركنا الكلام فيه إلى أن نبلغ إلى مسائل النسخ وأما المسائل التى أوردوها فإنا لم نجز استعمال القياس فى هذه المسائل لأن الإجماع منع منه. وأما مسألة التتابع فى قضاء رمضان أو فى صوم كفارة اليمين فإنما لم نحمل المطلق على المقيد فى ذلك لأن المحل قد تجاذبه أصلان أعنى صوم المتعة حيث نص فيه على التفريق وصوم الظهار حيث نص فيه على التتابع فلم يكن إلحاقه بأحدهما أولى من إلحاقه بالآخر على حاله. والكلام فى مطلق له أصل واحد فى المقيد وحين بلغ هذا الكلام فى هذا الموضع فقد انتهت المسألة والذى قالوا: أن قياس كفارة الظهار على كفارة القتل قياس المنصوص عليه على المنصوص عليه قد أجبنا عن هذا فى الخلافيات فلا معنى للإعادة ثم الكلام فى العموم والخصوص ونتبع القول فى هذا القول فى مفهوم الخطاب ودليله لأنه لائق بفصل المطلق والمقيد وقد انبنى الكلام عليه فى بعض فصوله والله الموفق للصواب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 القول فى دليل الخطاب القول فى دليل الخطاب ... القول فى دليل الخطاب. وبيان اختلاف العلماء فى ذلك ووجه كونه حجة وذكر ما يتصل به وما قيل فى بيان مذهب العلماء فى دليل الخطاب وما ذهب كل فريق منهم فى ذلك. اعلم أن أصحابنا أوردوا أنه على ثلاثة أنحاء فحوى الخطاب ولحن الخطاب ومفهوم الخطاب وبعضهم ضم إليها قسما رابعا وهو دليل الخطاب وفرقوا بين دليل الخطاب ومفهوم الخطاب. فأما فحوى الخطاب ما عرف به غيره على وجه البينة1 وطريق الأولى مثل قوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الاسراء: 23] وقوله تعالى ومن أهل الكتاب من أن تأمنه بقنطار يؤده إليك آل عمران 75 الآية ومثل قوله تعالى: {وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً} [النساء: 124] وعلى هذا ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ردوا الخيط والمخيط وكذلك قوله تعالى مما أفاء الله عليك الأحزاب 5 مثل هذه وضرب بيده إلى وبرة بعيره إلا الخمس والخمس مردود فيكم ويقول القائل فى مستعمل الكلام فلان لا يعطى خردلة ولا يترك من حقه حبة ويقول: لا تقر عين أخيك وأمثال هذا. وقد سمى الشافعى رحمه الله هذا قياسا جليا وذكر على مثاله قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] قال هذا تنبيه على وجوب الكفارة فى قتل العمد واعترضوا عليه قالوا: ليس هذا بقياس لأنا نعلم هذا باضطراد لا بحكم النظر والاستدلال وهو كما نجد أنفسنا غير مفتقرة إلى النظر والاستدلال فى العلم بالمدركات وما نجده فى أنفسنا من الآلام واللذات وأيضا فإنه يشترك فى هذا العلم العامة والسوقة والنساء وأهل العلم والعلية من الناس وإذا علمه من ليس من أهل النظر والاستدلال دل أنه ليس علمه بطريق النظر والاستدلال ولأنه لو كان معلوما بنظر وقياس جلى أو خفى لجاز أن يغلط فيه غالط أو يشك فيه شاك أو يجوز أن.   1 أي: مفهوم الموافقة الأولوي انظر إحاكم الأحكام 3/94 نهاية السول 2/202, 203 البرهان 1/449 التصريح على التوضيح 1/141 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/98. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 يترك الناس هذا القياس وهذا النظر ولا يقفون على قضيته وموجبه أو يعدل عن هذا النظر عادل أو يستعمل غير جهته مستعمل. وحين لم يتصور شىء من هذه الوجه دل أنه معرفة ضرورية بمعرفة قياسية ويجوز أن يصحح قول الشافعى فيقال إنما قال الشافعى ذلك لأن الضرب والشتم غير مذكور فى خطاب قوله: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الاسراء: 23] وإنما استدرك علمه وأن لم يذكر فى الخطاب من ناحية المذكور ويلقيه من قبله فأثبته علمنا بالفرع من ناحية أصله. وأيضا فإنه لا بد من نوع نظر فإن ما لم يعرف قصد المتكلم وأنه أخرج الكلام لمنع الأذى لا يجعل له هذا العلم. ألا ترى أنه يحسن أن يقول الرجل لغيره لا تشتم فلانا ولا تواجهه بقبيح ولكن اقتله ويقول: لا تضربه ولكن اقتله. وأمثال هذا يوجد كثيرا وإنما حبس ذلك لأن مقصوده لم يكن دفع الأذى عنه ولكن كان مقصوده إيقاع فعل دون فعل ويجوز أن يقصد العاقل فعلا ما فى عينه ولا يقصد فعل ما دونه. فأما إذا كان قصد المخاطب دفع الأذى بالمنع من التأفيف المنع من الشتم والضرب من طريق الأولى كما سبق فهذا تصحيح ما صار إليه الشافعى وسيأتى بأجلى من هذا فى باب القياس. وأما لحن الخطاب1 فقد قيل ما أضمر فى أثناء اللفظ وقيل لحن الخطاب ما يدل على مثله والفحوى ما دل على ما هو أقوى منه. وأما مفهوم الخطاب فما عرف من اللفظ بنوع نظر وقيل ما دل عليه اللفظ بالنظر فى معناه ومن فرق من أصحابنا بين دليل الخطاب ومفهوم الخطاب فلا يتجه له فرق صحيح. والجملة أن فحوى الخطاب ولحن الخطاب ودليل الخطاب أدلة يستخرج بها ما اقتضته ألفاظ الشارع من الأحكام. واعلم أن حقيقة دليل الخطاب أن يكون المنصوص عليه صفتان فيعلق الحكم بإحدى الصفتين وأن شئت قلت: فيقيد الحكم بإحدى الصفتين فيكون نصه مثبتا للحكم مع وجود الصفة فدليله نافيا للحكم مع عدم الصفة كقوله عليه السلام: "فى الغنم   1 وهو مفهوم الموافقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 السائمة الزكاة أو فى سائمة الغنم الزكاة" 1 فنصه وجوب الزكاة فى السائمة ودليله نفى وجوب الزكاة فى المعلوفة وكقوله عليه السلام: "إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا" 2 فنصه طهارته إذا بلغ الماء قلتين ودليله نجاسته إذا نقص عن القلتين وكقوله: "فى أربعين شاة شاة" 3 فنصه وجوبها فى الأربعين ودليله سقوطها فيما دون الأربعين وكقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] فنصه مقتضى التثبت فى قول الفاسق ودليله قبول قول العدل وترك التثبت فيه. وإذا عرف دليل الخطاب فنقول اختلف أهل العلم فى كونه دليلا وصحة الاستدلال به فقال مالك والشافعى وجمهور أصحابنا أنه دليل صحيح فى الأحكام ويحتج به وهو قول داود وأصحاب الظاهر وقال به أيضا طائفة من المتكلمين. وذهب أبو حنيفة وأكثر أصحابه إلى أن دليل الخطاب ليس بحجة ووافقهم على ذلك من أصحاب الشافعى أبو العباس بن سريج والقاضى أبو حامد المروزى وأبو بكر القفال الشاشى وهو قول جمهور المتكلمين من المعتزلة والأشعرية4 واختلف هؤلاء المبطلون بدليل الخطاب فى تعليق الحكم بالصفة إذا علق الحكم بغاية أو شرط فأكثر المتكلمين وطائفة من أصحاب أبى حنيفة ذهبوا إلى أن التقييد بالغاية والشرط مثل التقييد بالصفة وليس يدل على الخطاب على ما سوى المنطوق به أصلا. وذهب طائفة من الفقهاء إلى القول بدليل الخطاب فى المقيد بالشرط والغاية وأن أبطلوا ذلك فى المقيد بالصفة5 وبعضهم أبطل دليل الخطاب بالصفة والشرط6 وأثبته.   1 تقدم تخريجه. 2 أخرجه أبو داود الطهارة 1/16 ح 63 والترمذي الطهارة 1/97 ح 67 والنسائي المياه 1/142 باب التوقيت في الماء والدارمي الطهارة 1/202 ح 732 وأحمد المسند 2/18 4604. 3 أخرجه أبو داود الزكاة 2/99 ح 1568 والترمذي الزكاة 3/8 ح 621 وقال حديث حسن وابن ماجه الزكاة 1/577 ح 1805. 4 انظر روضة الناظر وجنة المناظر لابن قدامة المقدسي 235 التصريح على التوضيح 1/144. 5 انظر البرهان 1/453 نهاية السول 2/206 إحكام الأحكام 3/102, 103 روضة الناظر 244. 6 ذهب إلى إبطالهما من الشافعية الإمام الباقلاني وحجة الدين الغزالي انظر المستصفى 2/204, 205 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/105, 110. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 فى المقيد بالغاية. وأما المثبتون لدليل الخطاب فقد أثبتوه فى المقيد بالشرط والصفة والغاية واختلفوا فى المقيد فى الاسم والعين فأثبته أيضا أبو بكر الدقاق وشرذمة قليلة من الفقهاء والصحيح أنه غير ثابت1. وأما حجة النافين لدليل الخطاب قالوا: فلو دل الخطاب المقيد بالصفة على نفى ما عداه لدل عليه أما بصريحه ولفظه وأما بفائدته ومعناه وليس يدل عليه من كلا الوجهين فإذا ليس يدل عليه أما صريحه فلأنه ليس فيه ذكر لما عدا الصفة إلا ترى أن قول القائل أدوا عن الغنم السائمة الزكاة ليس فيه ذكر للمعلوفة أصلا وأما المعنى فلو دل من جهة المعنى لكان من حيث أنه لو كانت الزكاة فى غير السائمة كهى فى السائمة لما تكلف الشارع ذكر السوم وتعلق الزكاة باسم الغنم لأن تكلف ذكر السوم مع تعلق الزكاة بمطلق اسم الغنم تكلف لما لا فائدة فيه قالوا: وهذا لا يصح لأن فى تكلف ذكر السوم فوائد أخرى سوى نفى الزكاة عن المعلوفة وإذا أمكن ذلك بطل القول بأنه لا فائدة فى ذكر السوم سوى انتفاء الزكاة عن المعلوفة وذكروا فوائد فى التقييد بالصفة منها أنه قد يكون اللفظ لو أطلق فى بعض المواضع لتوهم متوهم أن الصفة خارجة عنه فتذكر الصفة لإزالة هذا الإيهام وهذا مثل قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الاسراء: 31] لو أطلق لكان يجوز أن يتوهم به متوهم أنه لم يرد عند خشية الإملاق قول الله تعالى: {خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} ليرفع هذا الإيهام وهذا غرض صحيح ومنها أن تكون البلوى تعم بالصفة المذكورة وما عداها لم يثبته على.   1 ليس المراد من اللقب نصوص ما اصطلح عليه النحويون وهو ما أشعر بمدح أو ذم ولم يصدر بأب أو أم وإنما المراد به كل ما يدل على الذات سواء كان عاما أو كنية أو لقبا مثل زيد وأعلى وأنف الناقة وللأصوليين في هذا قولين: أحدهما وهو المختار للبيضاوي وهو رأي جمهور العلماء أن تعليق الحكم بما يدل على الذات يدل على نفي الحكمعما عدا الذات وإنما يدل على ثبوته للذلك فقط. وثانيهما أن تعليق الحكم بما يدل على الذات يدل على نفي الحكم عن غير الذات كما يدل على ثبوته للذات وهو لبعض العلماء كأبي بكر الدقاق من الشافعية وابن خويز منداد من المالكية وبعض الحنابلة. انظر نهاية السول 2/206, 207 إحكام الأحكام للآمدي 3/137 روضة الناظر 240 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/100, 101. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 الناس فقيد الله تعالى الخطاب بالصفة لإحداث البلوى بها وهذا أيضا مثل قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الاسراء: 31] ومنها أن يكون غرض الشارع أن يعلم حكم المنصوص عليه بالنص ويعرف حكم ما عداه بالقياس أو بدليل وهذا غير ممتنع كما لم يمتنع أن تعرف حكم الأجناس الستة فى الربا بالنص ويعرف حكم ما عداها بالقياس عليها. وفى تعريض المجتهد للاجتهاد تعريضه للثواب وهو نفع عظيم وغرض صحيح ومنها أن تكون المصلحة المعلومة للشارع أن يبين حكم الزكاة عند وجود صفة السوم وينفى حكم المعلوفة على ما يدل عليه العقل. فأما إذا لم يجد دليلا يدل على وجوب الزكاة فى المعلوفة نفينا الزكاة عنها لأن العقل يدل على ذلك من حيث أنه مال الغير لا يستحق عليه إلا بدليل شرعى يدل على استحقاقه. فإن قلتم فقد نفينا الزكاة عن المعلوفة وصرتم إلى ما قلنا نقول بلى ولكن بتعليق الزكاة بالسائمة لكن ينعدم قيام الدليل على وجوب الزكاة فى المعلوفة فإنه حكم العقل ولم ينقلنا عنه دليل شرعى وهذا الذى قلناه دليل معتمد لهم وذكروا دليلا آخر وقالوا: لو كان الحكم المقيد بالصفة فى محل يدل التقييد على نفيه فيما عداها لكان أمر الخبر كذلك ومعلوم أن الإنسان لو قال زيد الطويل فى الدار لا يدل على أن القصير ليس فى الدار ولا على أنه فيها بل هو موقوف على قيام دليل عليه فالأمر يكون كذلك. دليل آخر لهم هو أن الأسماء مثبتة لتمييز الأجناس والأشخاص فتمييز الأجناس أن يقال خيل أو إبل وتمييز الأشخاص أن يقال فرس أو بعير والصفات موضوعة لتمييز النعوت والأحوال فتمييز النعوت بالأوصاف أن يقال طويل أو قصير وتمييز الأحوال أن يقال قائم أو قاعد فصارت الأسماء والصفات فى وصفها للتمييز شأن فإن كان تقييد الخطاب بالاسم لا يدل على نفيه عما عداه فإنه إذا قيل فى الإبل الزكاة لا يدل على نفيها عن البعير فوجب أن يكون التقييد بالصفات بمثابته فلا يدل تقييد الخطاب بها على نفى الحكم المذكور فى الخطاب عما عداه وهذا أشهر دلائلهم وأعرفها. دليل آخر لهم قالوا: قد فرق أهل اللغة بين العطف وبين النقض وقالوا: قول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 القائل اضرب الرجال الطوال والقصار عطف وليس بنقض ولو كان قوله اضرب الرجال الطوال يدل على نفى ضرب القصار لكان قوله والقصار نقضا لا عطفا. دليل آخر قالوا: موضوع الخطاب أن تفهم منه المراد بوصفه فيفهم من الإيجاب إيجابا ومن النفى نفيا ولا يصح لهم الإيجاب من النفى ولا النفى من الإيجاب كما لا يصح أن يفهم من القول الصحيح إلا ما يوافقه وقد قلتم فى دليل الخطاب أن يفهم النفى من الإيجاب والإيجاب من النفى فيكون جمعا بين المتضادين وهذا لا يجوز وليس كالأسماء المشتركة لأنه لا يجمع بين المتضادين هناك فى المراد فإنه إذا قام الدليل على أن المراد به أحدهما انتفى الآخر وفى مسألتنا القول بدليل الخطاب يقتضى الجمع بين الضدين من النفى والإثبات وهذا محال. دليل آخر قالوا: الخطاب المقيد بالصفة يحسن الاستفهام فيه لما عدا الصفة فيقال للمخاطب ما حكم المعلوفة فى قوله: "فى سائمة الغنم زكاة" 1 ويقال للمخاطب فى قوله البنت أحق بنفسها من وليها ما حكم البكر ولو كان دليل الخطاب ثابتا من حيث لسان العرب لكان يقبح الاستفهام لأن الاستفهام طلب الفهم وما فهم يقبح طلب فهمه واعتمد القاضى أبو بكر الباقلانى فى نفى دليل الخطاب على فصل وقال لو كان الأمر على ما يقوله القائلون بدليل الخطاب لوجب أن لا يعلم إلا سماعا وتوقيفا عن أهل اللغة لأن مثل هذا لا يدرك بموضوعات العقول وإنما يوجد بالمواضعة والمواطأة من أهل اللسان ولو كان من أهل اللغة توقيف فى هذا الباب لوجب أن نعلمه مع كثرة خوضنا فى هذه المسألة وتوفير دواعينا على طلب الحق منها. قالوا: وأن كان ما يحكيه المخالفون عن أهل اللغة فى هذا الباب لوجب أن ينقل إلينا نقلا مستفيضا حتى يقع لنا العلم بذلك وحين لم يقع لنا العلم فى ذلك بوجه ما عرفنا أنه لا نقل فى ذلك عن أهل اللغة أصلا وإذا لم يثبت النقل ولم يعرف شرع ورد بإثبات دليل الخطاب دل أن الدليل من هذه الجملة ساقطا أصلا وأما أبو زيد قال فى هذه المسألة لا يخلو أما أن يكون الوصف المذكور معنويا أو غير معنوى فإن كان غير معنوى فيعلق الحكم به كتعليقه بالاسم واللقب وأن كان معنويا وهو أن يكون مؤثرا فى إيجاب الحكم فنهاية ما فى الباب أن ينزل منزله العلة والاختلاف بين العلماء أن العلة توجب الحكم عند وجودها ولا يعدم عند عدمها بل الحكم يبقى عند العدم.   1 سبق تحريجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 على ما كان قبل معرفة العلة قال وكذلك فى الحكم المعلق بالشرط فالشرط يقتضى وجود الحكم عند وجوده ولا يقتضى نفيا عند عدمه بل الحكم عند عدم الشرط يكون موقوفا على قيام الدلالة كما تقول فى العلة. قال وأما الزكاة إنما لم تجب فى المعلوفة بدليل آخر وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "لا زكاة فى الإبل العوامل" 1 وبعضهم روى: "لا زكاة فى الحمولة والعلوفة" 2 واستدل من قال لغيره أعتق عبيدى ثم قال أعتق عبدى الأبيض لا يكون نهيا عن عتق غيره وأما أبو الحسن الكرخى من أصحابهم فرق بين المقيد بشرط وبين المقيد بصفة قال لأن التعليق بالشرط يقتضى إيقاف الحكم على وجود الشرط وإذا وقف عليه انعدم بعدمه وليس فى تقييد الحكم بالصفة إيقاف الحكم عليها حتى ينعدم عند عدمها فيبقى ما وراء المذكور موقوفا بل بحسب ما يقوم عليه الدليل والأصح عندهم أن لا فرق بين الشرط والصفة. وأما دليلنا اعلم أن الأصحاب اختلفوا فى أن دليل الخطاب دليل من حيث اللفظ أو من حيث الشرع والصحيح أنه دليل من حيث اللغة ووضع لسان العرب فيقول الدليل على ذلك أن ابن عباس ناظر الصحابة وهم قطب العرب والفصحاء منهم فى إسقاط ميراث الأخوات مع البنات بقوله تعالى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176] فكان دليله أن لا شىء لها مع الولد وسائر الصحابة لم يدفعوا عن هذا الاستدلال بل عدلوا فى إثبات توريث الأخوات مع البنات إلى حديث ابن مسعود رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ورث الأخوات مع البنات3 والخبر المشهور فى الباب وفى هذا إجماع منهم على القول بدليل الخطاب وبمثل هذا استدل ابن عباس على الصحابة فى قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] وزعم أن الأخوين لا يردان الأم من الثلث إلى السدس وقال له عثمان أصحابك جعلوا الأخوين بمنزلة الإخوة ولم يذكر أن هذا الذى يقوله لا يدل عليه لسان العرب.   1 أخرجه أبو داود الزكاة 2/101, 102 ح 1572 انظر نصب الراية 2/360. 2 قال الحافظ الزيلعي: غريب بهذا اللفظ انظر نصب الراية 2/36. 3 أخرجه البخاري الفرائض 12/25 ح 6742 وأبو داود الفرائض 3/120 ح 2890 والترمذي الفرائض 4/415 ح 2093 وابن ماجه 2/909 ح 2721 والدارمي الفرائض 2/447 ح 2890. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 ويدل عليه أيضا أن أبا عبيد القاسم بن سلام وهو من أوثق من نقل كلام العرب حكى عن العرب استعمالهم دليل الخطاب واستشهد عليه بقوله صلى الله عليه وسلم وهو من أفصح من ذب ودرج: "لى الواجد يحل عرضه وعقوبته" 1 قال فهذا دليل على أن لى المعدم لا يحل عرضه وعقوبته وكذلك قال فى قوله عليه السلام: " لأن يمتلىء جوف أحدكم قيحا حتى يزيد خير من أن يمتلىء شعرا" 2 وذكر أنه إذا لم يمتلىء فهو مباح فإن قال قائل يحتمل أن أبا عبيد قال ما قاله عن نظر واستدلال من قبل نفسه مثل ما يقولون لا أنه قال ذلك عن أهل اللغة هو رحمه الله إنما فسر حديث الرسول صلى الله عليه وسلم فى كتابه على ما عرفه من لسان العرب لا على ما يعرض فى خاطره ويظن فظنه فسقط ما قالوه ولأن العرب فرقت بين المطلق والمقيد بالصفة كما فرقت بين الخاص والعام وبين المطلق والمقيد بالاستثناء ألا ترى أنهم لا يقولون اعط زيدا الطويل واعط عمرا القصير وهم يريدون التسوية بين الطويل والقصير وبين الغنى والفقير وكذلك يقول القائل من دخل الدار فأعطه درهما ويقول: أن دخله عربى فأعطه درهما فإنه يريد بالأول كل من يدخل ولا يريد بالكلام الثانى غير العربى فدل أن الخطاب دليل مستخرج من اللفظ من حيث اللغة ولسان العرب. فإن قيل هذا دعوى على العرب لا يعرف ولا يمكنهم أن يوجدوا فى ذلك رواية عنهم ولا حكاية عن فصيح منهم وأن كان على ما يزعمون فنصوا على ما زعمتم وأن لم يمكنهم ذلك فاعلموا أنكم حصلتم على دعوى مجردة لا دليل عليها والجواب أن ما ذكرنا أمر متعارف من كلام العرب وشىء معقول من لسانهم ومعلوم من مذاهبهم وليس من عادة العرب أن تخبرك بذلك عن نفسها وتقول إنا أدرنا بكذا كذا وبكذا كذا وإنما تتكلم بطباعها وبما أودع الله عز وجل فى لسانها من البيان الذى يحصل به علم المعانى عند السامعين فمن كمل معرفته من الناس بلسانها واستدرك مرادهم بكلامهم بما ذكرنا من لغتهم وعرفه من لسانهم وهذا مثل وجوه.   1 ذكره البخاري الاستقراض 5/75 باب لصاحب الحق مقال معلقا وأبو داود الأقضية 3/312 ح 3628 والنسائي البيوع 7/278 باب مطل الغني وابن ماجه الصدقات 2/811 ح 2427 وأحمد المسند 272 ح 17969. 2 أخرجه البخاري الأدب 10/564 ح 6154 - 6155 ومسلم الشعر 4/1769 ح/2257 8/2258 وأبو داود الأدب 4/304 ح 5009 والترمذي الأدب 5/140 ح 2851. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 الإعراب من الرفع والنصب والخفض فإنهم لم يقولوا أن لساننا فى الإعراب كذا وكذا ولكن تكلمت بطباعها على وجوه من الإعراب فمن عرف لسانهم عرف وجوه الإعراب من كلامهم وكما عرف من كلامهم ذكر الأدب والتنبيه به على الأعلى مثل قول القائل فلان يحاسب على النقير والقطمير وفلان لا تقع الخردلة من كفه وما أشبه ذلك فكذلك عرف من كلامهم أنهم يذكرون أعلى صفات الشىء وأتمها فى بابه وجنسه ويريدون بذلك أن يكون ما عداه يخالفه فى حكمه كقولهم الشبع فى الخبز والقوة فى اللحم والرق فى البر واللذة فى الماء البارد فنعلم أن ما عدا هذه الأشياء مخالف لها قاصر عنها فى معانيها ونظير هذه الألفاظ قوله صلى الله عليه وسلم: "الولاء لمن أعتق" 1 لأن الإعتاق أجل ما يصطنعه الناس ويسديه السادة من النعم إلى عبيدهم فلم يجز أن يشاركهم فى استحقاق الولاء غيرهم وعلى هذا قوله: "فى سائمة الغنم الزكاة" 2 لما كانت السائمة أعلى جنسها فى توفر المنفعة وخفة المؤنة لم يجز أن يشاركها المعلوفة التى استغرقت مؤنتها عامة منفعتها ولا العوامل التى عدم ماؤها وانقطع درها ونسلها فقد وجد من النبي صلى الله عليه وسلم التكلم بهذا وأشباهه ليدل على المخالفة وذلك على دقاق لسان العرب وما توجبه اللغة ونحن نجد لدلالة اللحن من الغلبة على القلب والتمكن من الفهم ما نجده لنص الكلام قال الله تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد: 30] فدليل الخطاب من لحن القول وبيان اللسان وقد دل اللفظ من جهتين بنصه ومفهومه ففى نصه إلمامنا لشىء وفى مفهومه ما عداه وهذا من لطف لسان العرب وقد قال بعض الشعراء: والحادثات وأن أصابك نوبها ... فهو الذى إياك كيف نعيم فاستعمل الدليل من الشىء على نفسه وضده وقد قال أيضا أهل اللغة أن كلمة إنما أنها من أن التى هى لإقرار الشىء وإثباته ومن ما التى هى النفى فاجتمع المعنيان لها وأن كان هذا مشهورا عندهم وموجودا فى كلامهم فكيف بك وجود نظير ذلك من المنطوق ودليل مفهومه. ببينة أنه المعلوم أن صح الكلام وأبعده من دخول الشركة كلام التحديد ثم.   1 أخرجه البخاري الصلاة 1/655 ح 456 ومسلم العتق 2/141 ح 1504 وأبو داود الفرائض 3/126 والترمذي الوصيا 4/436 ح 2124. 2 تقدم تخريجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 الحدود جارية على الطرد والعكس وتعمل بركنيها وتعطى الدلالة من جهتيها فيثبت بهذا الذى قلناه أن دليل الخطاب ثابت من جهة كلام العرب وتضمنه لسانها الذى تكلموا بها وقد خرج ما قلناه أخيرا. الجواب عن كلامهم أنه كيف يعرف دليل الإثبات من النفى أو دليل النفى من الإثبات وأن ما قلتم يؤدى إلى أن يكون الكلام الواحد جامعا لدليلين متضادين وظهر أيضا الجواب عن دليل أبى بكر محمد بن أبى الطيب الباقلانى فى قوله أنه لم يدل على هذا نقل ولا عقل وقد بينا الدليل من جهة النقل عن العرب والمعروف عن كلامهم وقد ذكر الأصحاب ما يزيد هذا من قول النبي صلى الله عليه وسلم فى قصة عبد الله بن أبى واستغفاره له حين نزل قوله عز وجل: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80] قال صلى الله عليه وسلم عند ذلك: "والله لأزيدن على السبعين" 1 وفى رواية: "لو علمت أنه يستجاب لى لزدت على السبعين" 2 فإن قيل كيف يصح الاستدلال بهذا والكلام إنما خرج على جهة تأييس المنافقين من المغفرة. والجواب أن الاستدلال صحيح لأن الكلام كان محتملا أن يكون المراد به الإياس من المغفرة لهم ومحتملا أن لا تقع المغفرة بالسبعين وتقع بما جاوزها فاستعمل صلى الله عليه وسلم بما جعل الله فى قلبه من الرأفة والرحمة بالعباد حكم اللسان ووضع الاستدلال موضوعه رجاء أن يصادف الإجابة والمغفرة وبين الله تعالى المراد من الآية فى تحقيق الإياس بقوله: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84] فهذا وجه الاستدلال بالآية وهو بين جدا وخرج على الطريقة التى ذكرناها طريقة أبى زيد لأنا لم ندع أن دليل الخطاب من حيث العلة والمعلول حتى نلزم ما قال وإنما قلنا بدليل الخطاب من حيث اللغة ووضع اللسان. نعم قد رأيت لبعض المتأخرين من أصحابنا ذكر هذه المسألة فى أصوله وزيف دلائل الأصحاب من حيث الظاهر ومن حيث المعنى ثم قال المختار عندى أن الخطاب المقيد بالصفة ينظر فى الصفة المذكورة فإن كانت مناسبة للحكم المنوط به دل أن ما عداه بخلافه وأن لم تكن مناسبة لم تدل وذكر صورة المناسبة قوله صلى الله عليه وسلم: "فى خمس   1 أخرجه البخاري التفسير 8/184 ح 4670. 2 أخرجه البخاري التفسير 8/184 ح 4671 والترمذي التفسير 279 ح 3097 والنسائي الجنائز 4/54 باب الصلاة على المنافقين وأحمد المسند 1/21 ح 96. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 من الإبل السائمة شاة" 1 فإن السوم يشعر بخفة السوم وتوفر المنافع وذكر فى هذا الفصل عبارات زائفة حسنة فدل توفر المنفعة وخفة المؤنة على وجوب الزكاة فوجب القول بالمفهوم وسقطت الزكاة عن المعلوفة بحكم المفهوم وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "الثيب أحق بنفسها من وليها" وكذلك قوله عليه السلام: "من باع نخلة مؤبرة فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع" 2 ولهذا أمثلة كثيرة. وعندى أن هذه الطريقة ضعيفة ولا يجوز اختيارها لوجهين. أحدهما أنه خلاف مذهب الشافعى لأنه جعل المفهوم حجة على العموم فى جميع المواضع من غير اعتبار وجود مناسبة بين الصفة والحكم. والثانى أنه إذا اعتبرنا المناسبة التى ذكرها فليس ذلك الإتيان علة مؤثرة فى الحكم فيرد عليه ما ذكره القاضى أبى زيد وهو أن الإطراد فى العلل واجب لكن عكس العلة لا يكون حجة فى عكس الحكم والعلة توجد الحكم بوجودها لكن لا يجب أن ينعدم بعدمها والاعتماد على ما ذكرناه وهى الطريقة الصحيحة المختارة. واستدل كثير من أصحابنا فى هذه المسألة بالفصل المعروف المتداول بين الفقهاء وهو أن الصفة نطق عن صاحب الشرع تكلف ذكره فلا يجوز أن يخلو عن فائدة لأن طلب الفوائد من كلام صاحب الشرع واجب ما أمكن ولا يجوز استعمال طريق تؤدى إلى إلغاء كلامه وإخلائه عن الفائدة وما قلتم يؤدى إلى هذا يدل عليه أن التقييد فى الصفة يخصص الخطاب كتقييد الدلائل المخصصة للعمومات وكالاستثاء من الأعداد فإن قالوا: أن الاستثناء لفظ منطوق به فى النفى مثل ما هو منطوق به فى الإثبات وهاهنا النطق فى الإثبات دون النفى. فالجواب أن كون النطق فى شىء مخصوص لا يدل على سقوط دليله فيما لم يتناوله النطق دليله الفحوى وعلى أنا قد ذكرنا أن هذا أخذ وجوه البيان فى اللغة وهو من لحن القول على ما سبق. وأما الفوائد التى ذكروها فليست بشىء لأن المعتبر هو الفائدة التى يدل عليها اللفظ.   1 تقدم تخريجه. 2 أخرجه البخاري البيوع 4/469 ومسلم البيوع 3/1172 ح 77/1543 وابن ماجه التجارات 2/745 ح 2211 ومالك في الموطأ: البيوع 2/617 ح 9 وأحمد المسند 2/87 ح 5305. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 فى الأعم الأغلب والفائدة التى يدل عليها اللفظ فى الأعم الأغلب هو ما ذكرنا من كون ما عدا الملفوظ بخلافه. ويقولون على هذا قلتم أن الأكثر والأغلب على ما قلتم وأيضا فإنا لو اعتبرنا هذا كان الذى يؤدى إليه اللفظ هو غالب الظن دون القطع لأنه يجوز ما قلناه من الفوائد وأن كان قليلا نادرا. ويمكن أن يجاب عن هذا فيقال نحن لا نلحق المفهوم بالنص لكن نقول هو ظاهر فى المفهوم مثل العموم ظاهر فى الاستيعاب ولهذا نقدمه على القياس ونؤخره عن النص وهذه الطريقة قد حكيناها عن الشافعى وقالوا: ذكرها فى الرسالة ويمكن نسبتها غير أن الاعتماد على الأول وقد استدل بعض أصحابنا بظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: "الماء من الماء" 1 وقوله: "الأئمة من قريش" 2 وقوله عليه السلام: " الربا فى النسيئة" 3 واحتج ابن عباس فى ذلك فى نفى ربا النقد. وهم يقولون فى هذا الألفاظ إنما صارت دليلا لا من حيث دليل الكلام لكن لأن صاحب الشرع أدخل الألف واللام وهما لاستغراق الجنس فلأجل هذا حسن الاستدلال بهذه الألفاظ. أما من الأنصار من منع إيجاب الغسل بدون الإنزال حتى روت عائشة رضى الله عنها ما روت ومن أبى بكر رضى الله عنه فى دفع الخلافة من الأنصار ومن ابن عباس رضى الله عنهما فى نفى ربا النقد4.   1 أخرجه مسلم الحيض 1/269 ح 80/343 وأبو داود الطهارة 1/55 ح 217 والترمذي الطهارة 1/186 ح 112 والنسائي الطهارة 1/96 باب الذي يحتلم ولا يرى الماء واين ماجه الطهارة 1/199 ح 607 وأحمد المسند 3/36 ح 11249. 2 أخرجه أحمد المسند 3/172 ح 12315 والطبراني في الكبير 1/252 ح 725 والبيهقي في الكبير 3/172 ح 5298 انظر تلخيص الحبير 4/49 ح 6. 3 أخرجه البخاري البيوع 4/445 ح 2178, 2179 ومسلم المساقاة 3/1218 ح 102/1596 والنسائي البيوع 7/247 باب بيع الفضة بالذهب وبيع الذهب بالفضة. 4 وهذا مروي أيضا عن أسامة بن زيد وزيد بن أرقم وابن الزبير لقوله عليه السلام: "لا ربا إلا في النسيئة" رواه البخاري ومسلم والمشهور من ذلك قول ابن عباس ثم إنه رجع إلى قول الجماعة روى ذلك الأثرم بإسناد وقاله الترمذي وابن المنذر وغيرهم وقال سعيد بإسناد عن أبي صالح قال صحبت ابن عباس حتى مات فوالله ما رجع عن الصرف وعن سعيد بن ........... = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 وعندنا يثبت ربا النقد بالأخبار الصحيحة فى الباب1. واعلم أنه قد دخل الجواب فيما ذكرناه عن معظم ما ذكروه وقد نفيت لهم أحرف ولا بد من الجواب عنها. أما قولهم أن تقييد الخبر بالصفة لا يدل أن ما عداه بخلافه. قلنا الدليل بين الأمر والخبر أن المخبر قد يكون له غرض فى الإخبارى وبه زيد العالم أو دخوله الدار أو قدومه ولا يكون له غرض فى الإخبار عن عمرو الجاهل فيخص زيدا بالإخبار عن دخوله ورؤيته وأما الشارع فغرضه أن يبين جميع ما كلف فإذا قال زكوا عن الغنم السائمة علمنا أنه لو كانت الزكاة فى جميع الغنم تعلق بمطلق الاسم. وأما تعلقهم بالخطاب المقيد بالاسم. قلنا هو خارج على الطريقة الأولى لأن العرب تجمع بين الأسماء المختلفة فى الأمر الواحد ويحسن منهم ذلك فإنهم يقولون اشتر لحما وخبزا وتمرا وبيضا وتريد الكل بالشراء ولا تقول العرب اشتر تمرا برنيا فاشتر تمرا معقليا واشتر الإزاد حتى تعد جميع أنواع التمر ويعدون هذا عيا من الكلام بل يقولون اشتر التمر وهذا لأن الاسم بمجرد التعريف مثل الألقاب والتعريف فى محل لا يدل على الجهالة فى محل آخر. وأما الصفة فليس للتعريف المجرد بل هى للتنبيه على المعنى والدليل على الفرق بينهما من حسن اللغة ولسان العرب أن الأسامى تختلف على اتفاق المعانى ولا يتصور اختلاف الصفة مع اتفاق المعنى بل الأوصاف تقع أدلتها خاصة ومعنى هذا أن ذكر.   = جبير قال: سألت ابن عباس قبل موته بعشرين ليلة عن الصرف فلم ير به بأسا وكان يأمر به انظر المغني 4/123. 1 وعلى ذلك الجمهور وهو الصحيح لحديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا الورق بالورق لا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا غائبا بناجز" وروى أبو سعيد أيضا قال جاء بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر برني فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "من أين هذا يا بلال" قال كان عندنا تمر ردئ فبعت صاعين بصاع ليطعم النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم "عين الربا عين الربا لا تفعل ولكن إن أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر ثم اشتر به" متفق عليه انظر المغني 4/123. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 الصفة يدل على تلك الصفة على الخصوص إذا قال القائل أعط الأسود عقل تخصيص الأسود بالعطاء ومنع الأبيض وإذا قال أعط زيدا لم يعقل منه منع عمرو وعلى طريقة أبى بكر الدقاق قد منع هذا الفصل. وأما قولهم إلا يصح أن نقول أعط الطوال والقصار ويكون هذا عطفا ولا يكون نقضا. قلنا عندنا تخصيص الطوال بالأمر بالضرب أو الأمر بالإعطاء يدل على نفى ضرب القصار أو نفى إعطاء القصار فإذا عطف القصار على الطوال لم يوجد تخصيص الطوال بالخطاب حتى يوجد الدلالة على نفى ضرب القصار أو نفى إعطائه وعلى أن هذا يبطل بالغاية والشرط فإن الإنسان إذا قال لغيره صم إلى غروب الشمس أفاد ذلك نفى الصوم بعد غروبها ولو قال صم إلى غروب الشمس أو إلى طلوع القمر لم يكن نقضا وفى الشرط لو قال أعط زيدا درهما أن دخل الدار أفاد أنه لا يجوز العطية إذا لم يدخل الدار ولو قال أعط زيدا درهما أن دخل الدار وأن دخل السوق يكون تقييد عطفا ولا يكون نقضا وأما الذى قالوه من حسن الاستفهام فإنما حسن ذلك لأنا لم ندع أن اللفظ نص فى موضع المفهوم لكن إنما ادعينا أنه نص فى موضع النطق ظاهر فى موضع المفهوم وإذا كان ظاهرا يجوز أن يقوم دليل على خلاف المراد فى موضع المفهوم فيحسن الاستفهام ليصير الظاهر نصا ويسقط الوهم مثل صيغة العموم هى للاستيعاب ثم يحسن الاستفهام فيقول: أردت الجميع إذا أردت الاستغراق والاستيعاب وكان حسن الاستفهام بالطريق الذى قدمنا كذلك هاهنا وقد تبين الجواب عن جميع أدلتهم وهذه المسألة أصل عظيم فى الفقه وعليه مسائل كثيرة وقد وقعت الإشارة إلى بعضها فى أثناء المسألة وباقى المسألة معروفة وقد ذكرت فى خلافات الفروع فاقتصرنا على ذلك والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 فصل: الخطاب سبعة أنواع ... فصل وإذا ثبت القول بدليل الخطاب فنقول الخطاب سبعة أنواع. الشرط والغاية والصفة والحال والاسم والعين والعدد وأما تعليقه بالشرط فهو ما دخل عليه أحد الحرفين أن وإذا. فإن كقوله أن دخل زيد الدار فأكرمه. وإذا كقوله إذا دخل زيد الدار فأكرمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 وهما حرفا شرط ثبت الشرط بكل واحد منهما ويتعلق الحكم بوجوده وينتفى بعدمه على السواء وإنما يختلف الحرفان فى التحقيق والشك. فإن تستعمل فيمن لا يتحقق دخوله. وإذا تستعمل فيمن تحقق دخوله. وإنما الغاية فهى بلفظ حتى وهو قوله أكرم زيدا حتى يقوم فيستحق الكرامة قبل قيامه ولا يستحقها بعد قيامه. والفرق بين الغاية والشرط أن حكم الغاية يتعلق بها قبل وجودها وحكم الشرط يتعلق به بعد وجوده. وأما الصفة فالتعليق بالصفة إنما يكون فيما يختلف أوصافه وأقله أن يكون ذا وصفين فإذا علق الحكم بإحدى صفتيه كان موجبا لثبوت الحكم مع وجوده ودليله موجبا لانتفاء الحكم عند عدمها وإذا قرن الحكم المعلق بالصفة بحكم مطلق فقد اختلف قول الشافعى فى دليل المقيد بالصفة هل يصير مستعملا فى المطلق على قولين ومثاله قول الله تعالى: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] وكان نصه أن لا عدة على غير المدخول بها ودليله وجوب العدة على المدخول بها ثم قال: {فَمَتِّعُوهُنَّ} هل يكون إطلاق المتعة معطوفا على العدة فى اشتراط الدخول بها على قولين. أحدهما أنه تصبير المتعة بالعطف على العدة مشروطة بعدم الدخول. والقول الثانى أن قوله تعالى: {فَمَتِّعُوهُنَّ} لا يتقيد بما تقدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 فصل: إذا علق الحكم بالصفة في نوع من جنس وأخرى حكم في جميع الجنس قياسا ... فصل: وإذا علق الحكم بالصفة فى نوع من جنس وأخرى حكم فى جميع الجنس قياسا. مثل قوله عليه السلام: " فى سائمة الغنم زكاة" 1 وقد قيس عليها زكاة الإبل والبقر والكل جنس النعم فقد اختلف أصحاب الشافعى أن دليل الخطاب هل يكون مستعملا فى نوع النص أو فى جميع الجنس على وجهين. أحدهما يكون مستعملا فى نوع النص دون الجنس فيكون دليل هذا الخطاب موجبا بسقوط الزكاة فى معلوفة الغنم على الجنس ويسقط فى معلوفة الإبل والبقر.   1 تقدم تخريجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 بدليل آخر. والوجه الثانى أنه يستعمل دليله فى جميع الجنس لأنه لما ألحق جميع جنسه بالنوع قياسا وجب أن يستعمل دليله فى جميع الجنس قياسا1. وأما تقييد الخطاب بالحال كقوله تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] والحال كالصفة فى ثبوت الحكم بوجودها وانتفائه بعدمها فيكون نصه مستعملا فى الإثبات ودليله مستعملا فى النفى مثل الصفة. وأما تعليق الحكم بالاسم فهو ضربان. أحدهما اسم مشتق من معنى كالمسلم والكافر والقاتل فيكون ما علق به من الحكم جرى مجرى تعليقه بالصفة فى استعمال دليله فى قول جمهور أصحاب الشافعى رحمه الله. وقال بعضهم ينظر فى الاسم المشتق فإن كان لمعنى اشتقاقه تأثير فى الحكم استعمل دليل خطابه فإن ما لا يؤثر فى الحكم لا يكون علة. والضرب الثانى اسم لقب غير مشتق من معنى كالرجل والمرأة وأشباه ذلك فمذهب الشافعى أن دليل خطابه غير مستعمل وعند أبى بكر الدقاق أنه مستعمل وقد بينا. وأما تعليق الحكم بالأعيان كقوله فى هذا المال الزكاة أو على هذا الرجل الحج فدليل خطابه غير مستعمل ولا يدل وجوب الزكاة فى ذلك المال على سقوطها عن غيره وهذا عندنا مثل تعليق الحكم بالإسم. وأما تعليق الحكم بالعدد فدليله مستعمل وهو مثل تعليق الحكم بالصفة2 فهذا.   1 اعلم وفقك الله أن في هذه المسألة قولان: الأول: تعليق الحكم بالصفة يدل على نفي الحكم عن الذات عند انتفاء الصفة وهذا القول لجمهور العلماء من الأشاعرة والمتكلمين منهم: الشافعي وإمام الحرمين وهو المختار للبيضاوي. الثاني تعليق الحكم بالصفة لا يدل على نفي الحكم عن الذات عند انتفاء الصفة بل يكون ذلك مسكوتا عنه ويعلم النفي من البراءة الأصلية وهذا القول لجمهور الحنفية وبعض الشافعية كالغزالي وابن سريج وأبو بكر الباقلاني واختاره الآمدي انظر نهاية السول 2/206 وإحكام الأحكام للآمدي 3/102, 103 والمستصفى 2/191 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/104, 104. 2 اعلم أنه إذا خصص الحكم بعدد وقيد به مثل قوله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} ...... = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 تمام الأنواع التى ذكرناها. واعلم أن كثيرا من أصحاب أبى حنيفة جعل مفهوم الشرط حجة وإليه ذهب الكرخى ومن تبعه وأبى بعضهم1. وقال حكم ما وراء الشرط موقوف على الدليل وقال أبو زيد فى الأصول الذى عملها حين ذكر مذهب الشافعى وقال علماؤنا انتفاء المعنى حال عدم الشرط فلا يفهم من التعليق بل يبقى على ما كان قبل ورود النص فقد حكى عن جميع أصحابه وليس على ما زعم بل هو قول بعضهم على ما ذكرنا قالوا: وحأصل الخلاف يرجع إلى أن الشرط هل يمتنع به انعقاد علة الحكم أو لا قالوا: فعندنا الشرط يمنع انعقاد العلة لم تكن العلة وعندهم لا يمنع فإذا لم يكن الشرط عندهم مما يمتنع به انعقاد العلة كانت العلة موجودة وكانت موجبة للحكم والشرط منع وجود الحكم قال وعندنا لما كان الشرط مما يمتنع به انعقاد العلة موجودة حتى توجب الحكم فلم يتصور منع الحكم بالشرط. ودليلهم قالوا: التعليق دخل فى السبب لا فى الحكم. قال السبب قوله أنت طالق والتعليق دخل فيه فإن قوله أنت طالق تطليق وقد علقه بدخول الدار إلا ترى أنه قد قصد التطليق عند دخول الدار لا فى الحال وهذا لأنه جعل التطليق جزاء الدخول الدار والجزاء عند أهل اللغة يتعلق وجوده بوجود الشرط فإن من قال لغيره أن أكرمتنى أكرمتك أو قال أكرمك أن أكرمتنى فإنه علق التزام إكرامه بإكرام صاحبه كذلك هاهنا جعل التعليق جزاء دخول الدار.   = فهل يدل اللفط على نفي الحكم من غير ذلك العدد سواء كان ذلك الغير زائدا عن العدد الذي قيد به الحكم أو ناقصا عنه أو لا يدل اللفظ على ذلك اختلف الأصوليون في هذا على قولين: القول الأول: أن تخصيص الحكم بعدد لا يدل على نفسه عن غير هذا العدد سواء كان ذلك الغير زائدا أو ناقصا - واختار هذا القول البيضاوي وإمام الحرمين وأبو بكر الباقلاني. القول الثاني: أن تخصيص الحكم بعدد معين يدل على نفيه عن غير هذا العدد زائدا كان العدد أو ناقصا - وقد نقل هذا القول عن الشافعي رضي الله عنه انظر نهاية السول 2/221, 222 وإحكام الأحكام للآمدي 3/135 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/113. 1 انظر حاشية الشيخ محمد بخيت المطيعي 2/217 التصريح على التوضيح 1/146. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 فعلق وجود التطليق بوجود دخول الدار فيكون التطليق على العدم قبل دخول الدار فدل أن الشرط امتنع به انعقاد العلة. ببينة أنه إذا دخل الشرط على الإطلاق وعلقه منع تعلقه وصوله إلى محله والعلة الشرعية لا تصير علة إلا بوصولها إلى محلها ولا تصير علة إذا قصرت عن محلها وهذا بخلاف البيع على أن البائع بالخيار أو على أن المشترى بالخيار فإن كلمة على أن وأن كانت كلمة شرط لكن عملها خلاف عمل كلمة التعليق وهى كلمة أن فإنك إذا قلت: أزورك أن زرتنى كنت معلقا وجود زيارتك بزيارة صاحبك وإذا قلت: لصاحبك أزورك على أن تزورنى كنت معلقا زيارة صاحبك على زيارتك وتكون زيارتك سابقة على زيارة صاحبك وإذا كان عمل كلمة على أن خلاف عمل كلمة أن فلا توجب كلمة على أن تعليق نفس البيع بل توجب تعليق أمر آخر هو مطلوب من البيع وهو الملك فيتعلق حكم المبيع أعنى الملك بالاختيار وأما نفس البيع فانعقد فى الحال يدل عليه أن فى مسألتنا دخل كلمة الشرط على السبب لأنه قال أن دخلت الدار فأنت طالق وفى البيع لم تدخل كلمة شرط على السبب إنما نجز البيع تنجيزا ثم أثبت لنفسه فيه خيارا وحكمه على ما عرف فى الشرع لامتناع اللزوم وعدم الملك. وقد قال فى تقويم الأدلة قوله لعبده أن دخلت الدار فأنت حر فلا حرية قبل الدخول لانعدام العلة لا لأن الشرط بقاؤها بعد وجود سببها لأن قوله أنت حر كما لا يعمل حتى تتم الصيغة بقوله أنت حر لا يعمل حتى يجد محلا صالحا للتحرير فإنه لو أضافه إلى مبينة أو ثلاثة لغا فقوله أن دخلت الدار منع وصول هذا الإنجاز إلى العبيد لأنه معلق بالدخول فلا يصل إليه قبل وجوده كالقيد بل المعلق يحتمل إلا يكون وأصلا إلى الأرض وإذا لم يصل إلى محله لم يصل بقوله أنت حر علة بل كان بمعرض أن يصير علة بالوصول إليه عند وجود الشرط كالرمى لا يكون سببا للقتل قبل وقوع السهم فى المرمى ولكنه بغرض أن يكون علة إذا وصل إلى محله فحرفهم فى هذا هو أن الشرط يحول بين العلة ومحلها فلا يصير معه علة لأنه داخل على أصل العلة لا على الحكم بخلاف شرط الخيار والآخر فإنهما يدخلان على الحكم على ما ذكرنا ولهذا لو حلف أن لا يبيع فباع أو شرط الخيار بحيث لو حلف لا يطلق فقال لها أنت طالق أن دخلت الدار فإنه لا يحنث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 قال ولهذا جوزنا تعليق الطلاق بالملك لأنه ليس بطلاق ما كان معلق بالشرط غير وأصل إلى المرأة على ما ذكرنا وإنما هو مبين ويصير طلاقا عند الشرط والملك حينئذ لأن الملك أعنى ملك النكاح شرط الطلاق لا اليمين بل محل اليمين هو الذمة مثل اليمين بالله. قال ولهذا الأمثل لا يجوز تعجيل الكفارة قبل الحنث لأن سبب الكفارة بشرط الحنث فقبل الشرط لا يكون شيئا ويكون أشد وجوب الكفارة حين الحنث فلا يتصور الأداء قبل الحين وكما لا يتصور تعجيل فى الصوم. قال وقولهم بالبدن والمال ساقط لأن الكفارة عبادة والعبادة عبارة عن فعل العبد ماليا أو بدنيا وإنما يختلف محل الفعل والمالى ما يكون محل فعله المال والبدنى ما يكون محل فعله بدنه وأما الواجب ففعل من العبد فى الحالين بإيجاب الله تعالى. قال وهذا بخلاف دين العباد الذى يجب عوضا لأن الواجب هناك هو المال والتسليم للعبد الواجب لأن المستحق لصاحبه مال بأداء حقه وليس المستحق لصاحبه فعلا لأنه حق للعبد فى فعل العبد. وأما البارىء عز اسمه ما استحق على العبد إلا بالعبادة وهى فعل يفعلها العبد قال وعلى هذا الأصل نقول فى قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] أن الله تعالى أباح نكاح الأمة عند عدم الصبر وما حرمه عند وجوده بل لم يذكره أصلا فاستبيح نكاحها فى هذه الحالة بإشارة الآيات فصار نكاح الأمة حال وجود الحرة حلالا بالآيات المطلقة للنكاح وهذه أيضا وتجوز أن تكون حلية الأمة معلقة بوصفين أو بعلتين وبعلل كثيرة إلا ترى أن الرجل يقول لآخر أعتق عبدى أن دخل الدار ثم يقول: أعتق عبدي أن كلم زيدا أو دخل الدار يصح ولو دخل الدار فأعتقه كان جائزا ولو كلم زيدا ودخل الدار فأعتقه كان جائزا أيضا بالأمرين جميعا فيصح الإعتاق بعلة أو علتين وذكر كلاما طويلا ومسائل من الفروع على عادته من الاستشهاد بالفروع على الأصول تركت ذلك لطوله ولأن الفائدة فيما حكيته. وأما دليلنا فيدل أولا على أن الشرط يمنع من ثبوت الحكم عند عدمه على كل حال أن قول القائل لعبده ادخل الدار أن دخلها عمرو معناه أن الشرط فى دخولك دخول عمرو أو قال سافر أن سافر عمرو وكذلك إذا علق الطلاق أو الإعتاق بالدخول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 لكن صونا فى خطابه لعبده لأنه أظهر ولو قال لعبده شرط دخولك الدار دخول عمرو أو قال شرط سفرك سفر عمرو علمنا أنه لم يوجب عليه السفر مع فقد سفر عمرو وبينته أن الشرط هو الذى يقف عليه الحكم فلو ثبت الحكم مع عدمه لكان كل شىء شرطا فى كل شىء حتى يكون دخول زيد الدار شرطا فى كون السماء فوق الأرض وأن وجد ذلك مع عدم الدخول. والدليل على أن المعقول من الشرط ما ذكرناه أن يعلى بن منبه سأل عمر بن الخطاب فقال ما بالنا نقصر وقد أمنا فقال عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته فلو لم يعقل من الشرط نفى الحكم عما عداه لم يكن لتعجبهما معنى. فإن قيل يجوز أنهما إنما تعجبا لأنهما علما من الآيات الواردة فى الكتاب وجود الإتمام وأن حال الخوف مستثناة من الآيات والباقى ثابت على الأصل فى الإتمام فلهذا تعجبا. والجواب أن هذا كله زيادات وللعلماء كلام كثير فى أن الأصل كيف كان فى الصلاة وقد قالت عائشة رضى الله عنها كانت صلاة السفر والحضر ركعتين ركعتين فأقصرت صلاة السفر وزيدت فى صلاة الحضر وقد قيل غير هذا وإذا اختلفت الروايات فى هذا فكان التعجب مما صرح به الآيات وهو شرط الخوف فى القصر ثم القصر مع الأمن فكان الاستدلال قائما. واحتج أبو زيد لنا وقال أن تعليق الحكم بالشرط بنفيه عما قبله ويعدمه على اعتبار أنه لولاه كان موجودا إلا ترى أن قوله لعبده أنت حر توجب وجود الحرية صفة للعبد فإذا قال أن دخلت الدار وتعلق به العتق أوجب إعدامه عن محله ونفيه مع وجود قوله أنت حر فثبت أن التعليق كما يوجب الوجود عند الشرط يوجب النفى عما قبله وكذلك التعليق الحسى فإن تعليق المنديل بحبل بسماء البيت توجب وجوده فى الهواء ونفيه عن الأرض والمكان الذى يكون فيه لولا تعلقه وليس الشرط كالعلة فإن العلة يتعلق بها ابتداء ثبوت الحكم وانعدام قبل أوليته الوجود لا يكون علة الوجود ولكن بانعدام علة الوجود فلم يكن من حكم العلة إلا وجود الحكم عندها فإنه السبب لابتداء الوجود والتعليق لتغيير حكم الوجود بعد وجود سبب الوجود فجرى مجرى الأصل هذا كلامه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 ويقال أيضا أن الشرط لا يؤثر فى العلة إنما يؤثر فى حكم العلة فإن من قال لامرأته أنت طالق أن دخلت الدار فقوله أن دخلت الدار لا يؤثر فى قوله أنت طالق إنما يؤثر فى حكمه ولا يمنع ثبوته فإن قوله أنت طالق ثابت مع الشرط كما هو ثابت بدون الشرط ولكن حكمه لا يثبت لأصل الشرط فكان أثر الشرط فى منع حكم العلة لا فى نفس العلة والدليل عليه أنه لو لم يؤثر به الشرط ثبت حكم العلة وقوله أنت طالق ثابت فى الصورتين ولكن الحكم ينعدم عند وجود الشرط ويثبت عند عدمه فثبت أن عمل الشرط فى الحكم تسبب فى تحقيق هذا الفعل وهو أن سبب الطلاق قوله أنت طالق وقد وجد هذا صورته سواء وصل به قوله أن دخلت الدار أو لم يصل. وكلمة أن يجوز أن تدخل على السبب فتعلقه كما قالوا: ويجوز أن تدخل على الحكم فيكون عمله تأخير الحكم والدليل على جواز ذلك أنه كما يجوز أن يكون معنى قوله أن دخلت الدار فأنت طالق يجوز أن يكون المعنى أن دخلت الدار أنت طالق وقوعا ونزولا لأن النازل فى المحل والواقع قوله أنت طالق. ألا ترى أنه إذا اتصل الحكم بالسبب تكون هى طالقا من حيث الوقوع وإذا لم يتصل وتعلق بالدخول تكون هى طالقا من حيث التسبب والحرف على هذا إلى المعلق تكون الطالقية فعلا لا الطالقية تسببا فثبت قطعا أنه يجوز أن يدخل الشرط على الحكم ويجوز أن يدخل على السبب فنقول دخوله على الحكم لمنعه أولى لأن قوله أنت طالق كلمة مستقلة صحيحة لثبوت التطليق أو لثبوت [الطلاق بها] 1 عند الإطلاق واتصال حكمه به. ألا ترى أنه لزم تعليقه بالشرط ثبت كلاهما فإذا أوصل بالشرط فإنما منعنا الحكم لضرورة الشرط ولا ضرورة فى منع السبب وانعقاده عليه فانعقد السبب وتآخر الحكم ولأن الطلاق عقد شرعى له حكم وقد وجدنا فى أصول الشرع وجود عقد بصورته وتآخر العقد عنه وهذا لأن عقد التطليق قوله أنت طالق مضافا إلى محل النكاح فإذا وجد وتحقق فكيف يحكم بتأخره. نعم يجوز أن يتآخر حكمه لأنه لم يوجد فأما تآخر عقد الطلاق مع وجود تصوره من أهله فى محله فمحال.   1 زيادة ليستقيم بها المعنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 وخرج على هذا قوله أن أكرمتنى أكرمتك لأنه لا يتصور دخوله على الإكرام فحسب وهاهنا يتصور دخوله على الحكم لا على السبب وهذا لأن الإكرام شىء واحد فلا بد إذا علق شىء أن يتآخر فأما هاهنا فإن هذا عقد شرعى له حكم فيجوز أن يدخل على الحكم فيتآخر وينتجز العقد. وقد ذكرنا هذا الفصل فى خلافيات الفروع وأجبنا بجوابات مقنعة واقعة والذى ذكرنا هاهنا جواب برهانى فى غاية الوضوح. وقولهم أن الطلاق ما ينزل فى محله فبينا اتصال العقد بالمحل بصورة قوله أنت طالق فبقوله أنت اتصل اللفظ بالمحل وهذا يكفى للاتصال سببا وأما الاتصال وقوعا ونزولا فيكون عند الشرط والمسائل مبنية على هذا الأصل وقد عرف فى الخلافيات فلا يحتاج إلى الإعادة هاهنا والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 القول فى البيان والمجمل والمبين وما يتصل بذلك ويتفرع عليه البيان ... القول فى البيان والمجمل والمبين وما يتصل بذلك ويتفرع عليه. قال أبو بكر الصيرفى: البيان إخراج الشىء من حيز الإشكال إلى حيز التجلى1. وذكر الشافعى البيان فى الرسالة فقال البيان اسم جامع لأمور متفقة الأصول متشعبة الفروع. واعترض عليه أبو بكر بن داود وقال البيان أبين من التفسير والذى فسرته وهذا لا يصح لأن الشافعى رحمه الله لم يقصد بقوله حد البيان وتفسير معناه وإنما أراد به أن البيان اسم عام جامع لأنواع مختلفة من البيان فهى متفقة فى أن الاسم البيان يقع عليها ومختلفة فى مراتبها فبعضها أجلى وأبين من البعض لأن من البيان ما يدرك معناه من غير تدبر وتفكر فيه ومنه ما يحتاج إلى تدبر وتفكر فيه ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن من البيان لسحرا" 2 فأخبر أن بعض البيان أبلغ من البعض ويدل على ذلك أن الله تبارك وتعالى خاطبنا بالنص والعموم والظاهر ودليل الخطاب وفحواه وجميع ذلك بيان وأن اختلفت مراتبها. وقال أبو بكر الدقاق البيان هو البيان الذى يبين به العلوم. وقيل أن البيان هو الأدلة التى يتبين منها الأحكام وبهذا قال الأشعرى والجبائى3 واختار القاضى أبو الطيب الطبرى الحد الذى ذكره أبو بكر الصيرفى وقد اعترض عليه من وجهين. أحدهما أن البيان المبتدأ من قبل الله تعالى لا يدخل فى هذا الحد وأن كان بيانا فإنه ربما ورد من الله تعالى بيان لما لم يخطر ببال أحد فلا يكون مخرجا لشىء من حد الإشكال إلى حد التجلى.   1 انظر إحاكم الأحكام 3/32. 2 أخرجه البخاري الطب 10/247 ح 5767 ومسلم الجمعة 2/594 ح 47/869 وأبو داود الأدب 4/303 ح 5007 والترمذي البر والصلة 4/376 ح 2028. 3 وعزاه الآمدي إلى أبي هاشم وأبي الحسين البصري واختاره الآمدي انظر إحاكم الأحكام 3/32 المعتمد 1/293. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 والثانى أن لفظ البيان أظهر من قوله أنه إخراج الشىء من حيز الإشكال إلى حيز التجلى. ومن حق الحد أن يكون أظهر من المحدود. وقد قال القاضى أبو الطيب ما كان إيضاحا لمعنى وإظهارا له فهو بيان له وما دون ذلك فلا يكون بيانا والذى يبينه الله تعالى ابتداء إيضاح لما جهله الناس وما لم يتبينوه فيجوز أن يدخل تحت حد البيان. والذى قالوا: أنه أغمض من البيان المعروف فليس بشىء لما ذكرناه من دليله. وحكى القاضى أبو الحسن الماوردى عن جمهور الفقهاء أن البيان إظهار المراد بالكلام الذى لا يفهم منه المراد إلا به وهذا الحد أحسن من جميع الحدود لأن البيان فى اللغة هو الظهور والكشف من قوله بان الهلال إذا ظهر وأبان ما فى نفسه إذا أظهر ويعترض الحد الذى ذكره المتكلم فيقال أن الله تعالى قد قال: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44] فى الكتاب دليل فدلت الآية أن البيان غير الدليل. وقول أبى بكر الدقاق فى الحد حسن أيضا. وإذا عرفنا الحد فاعلم أن النص والظاهر والعموم ودليل الخطاب والفحوى كل هذا بيان وقد ذكرنا من قبل حد العموم وحد دليل الخطاب وفحواه فنذكر الآن معنى النص والظاهر وحدهما فنقول. النص ما رفع فى بيانه إلى الحكم غايته ومنه منصة العروس ترتفع عليها على سائر النساء وتتكشف لهن بذلك. ومما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يسير العنق فإذا وجد فجوة نص معناه رفع فى السير على ما كان يسير من قبل. ومنه قول امرىء القيس: وجيد كجيد الريم ليس بفاحش ... إذا هن نصته ولا بمعطل وقال القاضى أبو حامد النص ما تعرى لفظه عن الشركة ومعناه عن الشبهة وقيل ما استوى ظاهره وباطنه وقيل كل لفظ مقيد لا يتطرق إليه تأويل1.   1 النص لغة: بلوغ الشيء ومنتهاه وعند الأصوليين يطلق بإطلاقين: أحدهما: ما دل على معناه من كتاب أو سنة وثانيهما: ما دل على معناه من غير احتمال والمراد بالنص هنا هو الإطلاق. انظر نهاية السول 2/60, 61 والمحصول 1/462 انظر البرهان 1/412, 413 روضة الناظر 156, 157 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 والألفاظ قريبة بعضها من بعض والأول حد حسن والأول عندى هو الأولى واعترض بعضهم على ذكر اللفظ وقال الفحوى نص وليس بلفظ ونحن نقول أن الفحوى ليس بنص ولكنه مقتضى له1. وقد ذكر أبو زيد من أربعاتة التى ذكرها فى أصوله ونقصد إيراد أربعة أوجه فى كل فصل بذكره إيراد من لا ينظر إلى معنى وإنما ينظر إلى صورة عدد تورده ويكون قصده بلوغ العدد المقصود لا غير فقال فى أقسام الثابت بالظاهر دون الظاهر والرأى هذه الأحكام أقسام أربعة الثابت بعين النص والثابت بدلالة النص والثابت بإشارة النص والثابت بمقتضى النص وزاد غيره فقال والثابت بضم النص. فالثابت بعين النص يكثر. وأما الثابت بدلالة النص فذكر قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} [الحشر: 8] فثبت من دلالة النص ملك الكفار أموال المسلمين لأنه جعل لهم أموالا ثم سماهم فقراء والفقير هو عديم الملك لا البعيد من الملك لأنه ضد الغنى والغنى من ملك لا من أصابه بيده. قال وكذلك قوله: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} [الاحقاف: 15] فيه دلالة على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر وقد اختص بفهمه عبد الله بن عباس رضى الله عنهما. وكذلك قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] فيه دلالة على أن الجنابة لا تضاد الصوم لأنه تعالى أباح الجماع إلى مدة الصباح ثم أمره بإتمام الصوم ومن ضرورة إباحة الجماع إلى مدة الصباح وجود الجنابة بعد الصبح وذكر من هذا الجنس مسائل. وأما إشارة النص فهو مثل قوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الاسراء: 23] فيه دلالة على تحريم الشتم والضرب. وكذلك قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] فلما أوجب القضاء إذا أفطر بعذر ففيه دلالة أنه إذا أفطر بغير عذر يوجب.   1 اختاره إما الحرمين انظر البرهان 1/413. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 عليه القضاء. وكذلك ما روى أن ماعزا زنا فرجم1 صار رجم ماعز ثابتا بالنص ورجم غيره ثابتا بدلالة النص وذكر أمثلة لهذا أيضا منها الأكل مع الوطء فى نهار رمضان وغير ذلك وخرج عليه مسألة اللواطة مع الزنا وذكر أنها دونه ومسألة القتل بالمثقل وذكر أنه دون القتل بالسيف وهذه أشياء قد ذكرت في خلافيات الفروع وقد تكلمنا على ذلك. قال وأما الثابت بمقتضى النص فهو زيادة على النص لا يتحقق مع النص بدونها فاقتضاها النص حتى يتحقق معناه ولا يلغو وصار المقتضى مضافا إلى النص مثل حكمه وشبه هذا بشرى الأب2 فإنها إعتاق حكما وأن لم توجب العتق بنفسه بل بزيادة الملك ولكن لما ثبت الحكم بالشرى صار حكمه وهو العتق مع الملك حكمين للشرى قال وهذا لا خلاف فيه وهو إنما مثل قوله أعتق عبدك عنى على ألف فالملك يقتضى هذا النص ثم أنه ذكر أنه لا عموم للمقتضى. قال وعند الشافعى رحمه الله له عموم واحتج لنفسه وقال المقتضى ساقط من النص بعينه فى الأصل لا حكم له وإنما أثبتنا ضرورة أن يصير الكلام مفيدا فإذا ثبت بقدر ما صار به الكلام مفيدا زالت الضرورة فيسقط ثبوته كالميتة حكمها الحرمة فى الأصل والحل ثبت ضرورة فيعذر تقديرها وهو قدر سد الرمق دون ما سواها من التمول والجمل والشبع. ونحن نقول أن المقتضى يجوز أن يدعى فيه العموم لأنه ثابت ضرورة فصار كالثابت نصا ونقول كلما أمكن طلب فائدة العموم منه يجوز أن تطلب لأن الاختصار والحذف عام فى كلام العرب ويعدونه من الفصاحة والبلاغة فصار المقتضى كمضمر الكلام ثم دعوى العموم فى المضمر جائز كذلك فى المقتضى والمضمر مثل قوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] معناه أهل القرية وكقوله تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً} [مريم: 4] معناه اشتعل شعر الرأس شيبا وغير ذلك وقد ذكروا مضمر النص هذا هو الذى قلناه.   1 تقدم تخريجه. 2 قال ابن المنذر أجمع أهل العلم على أن الرجل إذا ملك والده أو ولده أنه يعتق عليه ساعة يملكها انظر الأشراف 3/179. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 واعلم أن هذا الذى أوردوه ليس فى أكثره ما يعترض عليه وما قالوه على أصولهم فقد أحسنوا فى مواضعه لكن هذه الأقسام ليست بنص إنما النص ثابت بعينه وأما الثابت بعموم ودلالة لا يكون نصا إنما هو دليل مستخرج من النص وإنما المقتضى من الضمير فيجوز أن يقال أنه نص أو بمنزلة النص كما بينا أنه على وفق لسان العرب. وقد ذكر بعض أصحاب أبى حنيفة أن العموم نص فيما يتناوله من المسميات وقد سمى الشافعى الظواهر نصا فى مجارى كلامه1 والأولى أن لا يسمى العموم نصا لأنه يحتمل الخصوص ولأن العموم فيما يدخل فيه من المسميات ليس بأرفع وجوه البيان ولكن العموم ظاهر. ونحن نقول حد الظواهر هو لفظ معقول يبتدر إلى الفهم منه معنى مع احتمال اللفظ غيره فعلى هذا العموم ظاهر فى الاستيعاب لأنه يبتدر إلى الفهم ذلك مع أنه يحتمل غيره وهو الخصوص. وكذلك الأمر يجوز أن يقال هو ظاهر فى الإيجاب لأنه يبتدر الفهم ذلك مع أنه يحتمل غيره وهو الندب والإباحة. وكذلك صيغة النهى ظاهر فى التحريم ويحتمل غيره من الكراهة والتنزيه وعلى هذا قوله: "لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل" 2 ظاهر فى نفى الجواز ويحتمل نفى الفضيلة والكمال. وكذلك قوله لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب ظاهر فى نفى الجواز ويحتمل نفى الفضيلة وأمثال هذا تكثر. ومن ذلك يلقى المفهوم من الخطاب المقيد بالصفة ظاهر فيما يستعمل فيه المفهوم وقد يتبع مثل هذا الظاهر فى الحروف مثل إلى الغاية وغير ذلك. وهكذا فى الظاهر كل لفظ يحتمل معنيين وأكثر وبعضها أظهر وأولى باللفظ فيحمل على الأولى والأظهر ويكون اللفظ ظاهر فيه وهذا قريب مما ذكرناه من قبل.   1 ذكره إمام الحرمين عن الشافعي والقاضي أبو بكر وصححه انظر البرهان 1/416. 2 أخرجه أبو داود الصوم 2/341 والترمذي الصوم 3/99 ح 730 والنسائي في الصوم 4/166 باب ذكر اختلاف الناقلين لخبر حفصة في ذلك انظر نصب الراية 2/433. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 وأما المجمل فاعلم أنه قد يعلق المجمل على العموم ومن قولك أجملت الحساب إذا جمعت إفادة له وأن أثبته تحت صيغة جامعة ولكن المجمل على اتفاق الأصوليين مخالف للعموم وقيل المجمل ما لا يفهم منه المراد به وقيل ما عرف معناه من غيره1 فإن قال قائل هلا اكتفى الشرع بالبيان عن الإجمال قلنا أجمل ليتفاضل درجة العلاء بالاجتهاد وبدراسة معانيه. ثم اعلم أن المحتاج إلى البيان ضربان: أحدهما ما يحتاج إلى بيان ما لم يركب وهو العموم الذى قصد به الخصوص. والضرب الثانى ما يحتاج إلى بيان ما فيه وهو المجمل الذى لا يفهم منه المراد ونقول الإجمال قد يكون فى الاسم المشترك مثل القرء2 ينطلق على الحيض والطهر والشفق يطلق على الحمرة والبياض والذى بيده عقدة النكاح يطلق على الأب والزوج والمراد من اللفظة واحد من هذين فى هذه المواضع. والاجتهاد داخل فى المراد باللفظ وكذلك يجوز أن يكون الدليل من قرينة تتصل باللفظ وقد يكون الإجمال فى المراد باللفظ مع أن اللفظ فى اللغة لشىء واحد3 وذلك مثل قوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] غير أن البيان فى هذا النوع من المجمل موقوف على الرسول صلوات الله عليه بقول منه أو فعل. وقد يكون البيان بالاجتهاد مثل قوله: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] وقد اجتهد العلماء فى أقل الجزية وقال سبحانه وتعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] أجمل الله تعالى وكذلك ذكر العدد الذى ينعقد به الجمعة حتى اجتهد العلماء فيه وقال تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ   1 اعلم أن المجمل لغة: هو المجموع يقال: أجملت الشيء جمعته ومنه أجمل الحساب جمعه وفي الاصطلاح عرف بتعريفات كثيرة نقتصر منها على تعريفين: أحدهما: هو ما لم تتضح دلالته أي له دلالة غير واضحة. وثانيهما: اللفظ الذي أطلق لم يفهم منه شيء انظر نهاية السول 2/61 إحكام الأحكام 3/9 المحصول 1/463/464 البرهان 1/419 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/3. 2 انظر إحاكم الأحكام للآمدي 3/11 المعتمد 1/306 نهاية السول 2/209 روضة الناظر 159 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/9. 3 انظر إحكام الأحكام للآمدي 3/13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق: 7] فأجمل الله تعالى نفقة السر وجاءت فى أكثرها وأوسطها وأقلها حتى اجتهد العلماء فى ذلك فهذا وأنواعه من المجمل الذى يوصل إلى بيانه من أصول أدلة الشرع. فإن قال قائل ما حكم المجمل قبل ورود البيان. قد قالوا: أن التزام المجمل قبل بيانه واجب والدليل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن قال: "ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله فإن أجابوك فأعلمهم أن فى أموالهم حقا يؤخذ من أغنيائهم ويرد فى فقرائهم" 1 فقد أوجب عليهم التزامها قبل بيانها. واختلف أصحابنا فى كيفية التزامها قبل البيان. فقال بعضهم إنهم يتعبدون قبل البيان بالتزامه بعد البيان. وقال بعضهم إنهم يتعبدون قبل البيان بالتزامه مجملا وبعد البيان بالتزامه مفسرا ومن وجوه المجمل ما يكون المجمل فى بعض الخطاب فيكون مقتضيا لإجمال صيغة وذلك مثل قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الأنعام: 151] لما كان الحق مجملا صار ما نهى عنه من القتل مجملا ومثل هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا"2 لما كان الحرام والحلال مجملين صار المراد بالصلح مجملا. ومن المجمل ما لا يكون إجمال بعضه مقتضيا إجمال باقيه وهو أن يكون بعضه مستقلا بنفسه وبعضه مفتقرا إلى البيان كقوله تعالى: {وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] فالجنب مجمل والغسل مفتقر لا يصير بإجمال الجنابة مجملا ويكون البيان إذا ورد مقصورا على موضع الإجمال. وأما المفسر فهو المنصوص ومحاويها ومفهوماتها المستقلة بأنفسها فلا تحتاج إلى بيان بظهور معناه بنفسه. وحد المفسر ما يفهم منه المراد به وقيل ما يعرف معناه من لفظه وكل خطاب استقل بنفسه وعرف المراد به فهو من المفسر الذى يستغنى عن البيان.   1 تقدم تخريجه. 2 أخرجه أبو داود الأقضية 3/302 ح 3594 والترمذي الأحكام 3/625 ح 1352 وابن ماجه الأحكام 2/788 ح 2353. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 فصل: المحكم والمتشابه ... فصل: وإذا وصلنا إلى هذا الموضع نذكر: المحكم والمتشابه. فإنما يعرف معناهما من المجمل والمفسر فنقول أن الله تعالى وصف جميع القرآن بأنه محكم وبعضه بأنه متشابه. فالأول قوله تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود: 1] ومعناه أن منزله أحكمه على وجه لا يقع فيه تفاوت. والثانى قوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً} [الزمر: 23] ومعناه أنه متماثل فى الدلالة والإعجاز والعلو. وأما الثالث فقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7] واختلف العلماء فى هذا المحكم والمتشابه على أقاويل فقال عبد الرحمن بن زيد المحكم هو الذى لم يتكرر ألفاظه والمتشابه الذى تكررت ألفاظه وعن ابن مسعود وابن عباس رضى الله عنهم أن المحكم الناسخ والمتشابه المنسوخ. وقال مجاهد المحكم ما لا يتشابه معانيه والمتشابه ما اشتبهت معانيه. وقال بعضهم المحكم ما لم يحتمل من التأويل إلا وجها واحدا فلم يحتج أى نظر وتدبر والمتشابه ما احتمل من التأويل أوجها واحتاج إلى تأمل وتفكر فى الوقوف على المراد به1. وأحسن الأقاويل أن المتشابه ما استأثر الله تعالى بعلمه ولم يطلع عليه أحدا من خلقه وكلفهم الإيمان به والمحكم مما أطلع العلماء عليه وأوقفهم على المراد به وهذا هو المختار على طريقة السنة وعليه يدل ما ورد من الأخبار وما عرف من اعتقاد السلف فعلى هذا يكون على قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} وقف تام ثم يبتدىء قوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} واو العطف إلا شرذمة قليلة من الناس واختاره البعض من المتأخرين. وقد كان يعتقد مذهب السنة وعليه يدل كلامه فى كتبه لكنه سها فى هذه المسألة.   1 انظر المستصفى 1/106 البرهان 1/419, 420 شرح المنار لابن مالك 100 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 ولكل جواد كبوة ولكل عالم هفوة. وقد نقل بعضهم مثل ذلك عن مجاهد من السلف ولا أعلم تحققه وقد تكلمت فى هذا ودللت على ما يذهب إليه أكثر السلف فى كتاب منهاج السنة وأوردت على مافيه الغنية فاقتصرت فى هذا الكتاب على هذا القدر والله الموفق للصواب والهادى إلى الرشاد بمنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 فصل: الحقيقة والمجاز وما يتصل بهما ... فصل: ويذكر بعد هذا الذى ذكرنا: الحقيقة والمجاز وما يتصل بهما. كما يشتمل القرآن على المجمل والمبين والمبهم والمفسر والخاص والعام والمحكم والمتشابه فهو يشتمل أيضا على الحقيقة والمجاز وكذلك التشبيه. وأنكر قوم وجود المجاز فى اللغة1 ولا يخلو كلامهم فى ذلك أما يكون خلافا فى معنى أو عبارة والخلاف فى المعنى ضربان. أحدهما أن يقولوا أن أهل اللغة لم يستعملوا الأسماء فإما يقولوا أنه مجاز فيه نحو اسم الحمار فى البليد والأسد فى الشجاع وهذا مكابرة لا يرتكبها أحد. وإما أن يقولوا أن أهل اللغة وضعوا فى الأصل اسم الحمار للبليد كما وضعوا للبهيمة وهذا باطل لأنه كما يعلم لم يضطرد أنهم يستعملون ذلك فى البليد فإنه يعلم أنهم استعملوا ذلك على طريق التشبيه وأن استحقاق البليد هذا الاسم ليس كاستحقاق البهيمة وكذلك يسبق إلى الأفهام من قول القائل رأيت الحمار البهيمة البليد.   1 اعلم أن وقوع المجاز في اللغة فيه أقوال المعروف منها ثلاث: الأول واقع مطلقا في اللغة والقرآن والحديث وهو لجمهور العلماء. الثاني: غير واقع مطلقا وينسب هذا القول إلى الأستاذ أبي إسحاق الإسفرايني وأبي علي الفارسي. الثالث: واقع في غير القرآن وليس واقعا في القرآن وهذا القول لبعض الحنابلة وبعض الرافضة وهو المعروف عن أبي بكر بن داود الأصفهاني الظاهري ونقل البيضاوي عنه أنه منع وقوع المجاز في الحديث أيضا ولم يشتهر هذا عنه انظر نهاية السول 2/148, 149 المحصول 1/130 المعتمد 1/24 المستصفى 1/105 شرح المنار لابن مالك 108 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/64, 65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 ولو كان ذلك موضوعا لهما على السواء لم يسبق إلى الأفهام أحدهما. فإن قيل فإذا كانت الحقائق تعم المسميات فلماذا تجوزوا بالأسماء فى غير ما وضعت له قلنا المجاز يشتمل على أشياء لا توجد فى الحقيقة يقصدها العرب فى كلامها منها المبالغة وإنا إذا وصفنا البليد بأنه حمار نكون أبلغ فى البيان عن بلادته من قولنا بليد ومنها الحذف والاختصار ومنها التوسع فى الكلام ومنها الفصاحة وأما الخلاف فى الاسم فبأن مبهم المجاز أن استعمال اسم الحمار فى البليد ليس موضوع له فى الأصل وأنه بالبهيمة أخص لكن نقول لا نسميه مجازا إذا عنى به البليد ولأن أهل اللغة لم يسموه بذلك بل أسميه مع قرينة حقيقة. فيقال له أن أردت أن العرب لم تسميه بذلك فصحيح وأن أردت أن الناقلين عنهم لم يسموه كذلك فباطل تلقيهم كتبهم بالمجاز وأنهم يقولون فى كتبهم هذا الاسم مجاز وهذا الاسم حقيقة وليس إذا لم يشتهر العرب بذلك يمنع أن يضع الناقلون عنه له هذا الاسم ليكون آلة وأدلة فى صناعتهم لأن عبارة أهل الصنايع أنهم يعقلون ذلك ولهذا يسمى النحاة الضمة المخصوصة رفعا والفتحة نصبا ولم يلحقهم بذلك عتب وأما تسمية الخصم مجموع الاسم والقرينة مجموع حقيقة فإنه أوضح ذلك بقدح ذلك فى تسمية أهل اللغة الاسم بانفراده مجازا على ما حكيناه عنهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 فصل: فى حسن دخول المجاز فى خطاب الله عز وجل وفى أنه قد خاطب به . ذهب الجمهور إلى أن الله تعالى قد خاطبنا فى القرآن بالمجاز ونفى بعض أهل الظاهر ذلك1 وقالوا: أن العدول عن الحقيقة إلى المجاز للعجز عن التكلم بالحقيقة وذلك يستحيل على الله تعالى ولو خاطب الله تعالى بالمجاز والاستعارة لصح وصفه بأنه متجوز فى خطابه وبأنه مستعير ولأن المجاز لا يغنى عن معناه بنفسه فورود القرآن به يؤدى إلى الالتباس ولأن القرآن كله حق فيكون كله حقيقة لأن الحق والحقيقة معنى واحد. أما دليلنا فنقول فى الدليل على حسن ذلك أن القرآن أنزل بلسان العرب وفى.   1 نهاية السول 2/148, 149 المحصول 1/140 المستصفى 1/105 شرح المنار لابن مالك 108 أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير 2/64, 65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 إنزال الله تعالى القرآن بلسان العرب يقتضى حسن خطابه إيانا فيه بلغتها ما لم يكن فيه تنفير والتنفير يكون بالكلام السخيف الذى ينسب قائله إلى المجون والغى وليس هذا سبيل المجاز لأن أكثر الفصاحة إنما يظهر بالمجاز والاستعارة ثم الدليل على أن فى القرآن مجازا كقوله تعالى: {جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} [لكهف: 77] وقوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94] وقوله تعالى واخفض لهما جناح الذل من الرحمة الإسراء 24 وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب: 57] وقوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: 42] أى شدة وقوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23] أى ذاهبا وقال تعالى فى حل النساء: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة: 187] وقال تعالى كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله المائدة 64 فليس يخلو أما أن يقول هذه الألفاظ وضعت فى الأصل للمعانى التى أراد الله سبحانه وتعالى وهذا قد أفتاه من قبل وأما أن يقول: هذا الكلام كان مجازا فى اللغة بهذه المعانى ثم نقل إليها بالشرع فصار من الحقائق الشرعية وهذا باطل لأنه لو كان كذلك لسبق إلى أفهام أهل الشرع معانيها التى أرادها الله عز وجل كما يسبق إلى أفهامهم الصلاة الشرعية ومعلوم أنه لا يسبق إلى الأفهام فى قوله: {جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} [لكهف: 77] الإرادة التى توجد للإنسان وقوله: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94] الصدع الذى هو الشق وكذلك فى قوله: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الاسراء: 24] الجناح الذى يكون للطائر فثبت بطلان ما ادعوه وعرف قطعا وجود المجاز فى القرآن. فأما قولهم أن العدول إلى المجاز عجز إنما يقتضى العجز عن الحقيقة أو لم يحسن العدول إلى المجاز مع التمكن من الحقيقة ومعلوم أن العدول إلى المجاز يحسن لما فيه من زيادة اللفظ والمبالغة فى التشبيه والتوسع فى الكلام والاختصار والحذف على ما هو عادة العرب فدل أن ذلك ليس بعجز. وأما قولهم أنه لو جاز ذلك لجاز أن يسمى الرب عز وجل متجوزا أو مستعيرا. قلنا عندنا لا يجوز أن يسمى الرب تعالى أو يوصف بوصف إلا الذى ورد به القرآن والسنة ولأنه لما يقال فى العادة فلان متجوز فى أفعاله وأقواله إذا كان يسمى بالقبح منها. وأما قولنا مستعير فإنما يفهم من إطلاقه إذا استأذن غيره فى التصرف فى ملكه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 لينتفع به وكل ذلك يستحيل على الله عز وجل. وأما قولهم أنه يؤدى إلى الالتباس قلنا لا التباس مع القرينة الدالة على المراد. وأما قولهم أن كل القرآن حق فيكون كله حقيقة. قلنا ليس الحقيقة من الحق فسنبين أن الحق فى الكلام أن يكون صدق وأن يجب العمل به والحقيقة أن يستعمل اللفظ فيما وضع له وسواء كان صدقا أو كذبا إلا ترى أن قول النصارى ثالث ثلاثة ليس بحق وهو حقيقة فيما أرادوه وقوله صلى الله عليه وسلم: "يا أنجشة رفقا سوقا بالقوارير" 1 ليس بحقيقة فيما قيلت فيه وهو صدق وحق فدلنا أن أحدهما غير الآخر ويقول: أن القرآن نزل بلسان العرب قلنا اشتمل القرآن على أقسام كلامهم فيما عدا المجاز اشتمل أيضا على المجاز ليكون كلام الله تعالى جامعا لأقسام الكلام فيكون أبلغ فى الإعجاز مع التحدى وهذا الكلام وجيز حسن والله الهادى بمنه.   1 أخرجه البخاري الأدب 10/597 ح 6202 ومسلم الفضائل 4/1811 ح 70/2323 وأحمد المسند 3/131 ح 12047. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 فصل: وإذا ثبت جواز المجاز فى القرآن والسنة فلكل مجاز حقيقة وليس لكل حقيقة مجاز . لأن الحقيقة أصل المجاز فافتقر المجاز إلى الحقيقة ولم تفتقر الحقيقة إلى المجاز. وأما حد الحقيقة والمجاز فقال بعضهم الحقيقة2 هى اللفظة المستعملة فى موضعها والمجاز3 هو اللفظ المستعمل فى غير موضعه.   2 الحقيقة على وزن فعيلة بمعنى مفعول مأخوذ من الحق بمعنى الثبوت - فإن كانت بمعنى فاعل فمعناها الثابتة من حق الشيء إذا ثبت وإن كانت بمعنى مفعول فمعناها المثبتة من أحق الشيء إذا أثبته منه نقلت من الثابت أو المثبت إلى الاعتقاد المطابق للواقع لأنه فرد من أفراد الثابت والعلاقة الكلية والجزئية ثم نقلت إلى القول الدال على الاعتقاد المطابق للواقع من باب اطلاق اسم المدلول على الدال. والحقيقة اصطلاحا: هي اللفظ المستعمل فيما وضع له في اصطلاح التخاطب إحكام الأحكام للآمدي 1/36 نهاية السول 2/146 المحصول 1/111, 112 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/51. 3 المجاز أصله مجوز على وزن مفعل مأخوذ من الجواز بمعنى العبور يقال جزت النهر يعني ............ = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 وأحسن من هذا أن يقال الحقيقة ما استغنت بها ما وضعت له والمجاز ما استفيد به غير ما وضع له. وقال بعضهم ما انتظم لفظها معناها من غير زيادة ولا نقصان ولا نقل فهو حقيقة وما لا ينتظم لفظه معناه أما لزيادة أو نقصان أو نقل فهو مجاز. واعلم أن للحقيقة والمجاز شروطا يعتبرونها. أحدهما أن الحقيقة والمجاز لا يدخلان فى أسماء الألقاب ويدخلان فى أسماء الاشتقاق. والثانى أنه لا يخلو منهما كلام وضعه أهل اللغة لشىء فإن خلت اللغة من وضع لفظ لشىء خرج عن الحقيقة والمجاز. والثالث ما ذكرنا فإنه لا يجوز أن يكون اللفظ مجازا فى شىء ولا يكون له حقيقة ويجوز أن يكون حقيقة فى شىء ولا يكون له مجازا عن غيره. والرابع أن الحقيقة مطردة والمجاز غير مطرد. والخامس أن الحقيقة تتعدى والمجاز لا يتعدى لأنه إذا سمى الرجل أسود لسواده.   = عبرته من الشاطئ إلى الشاطئ - ومجوز مصدر ميمي صالح للزمان والمكان والحدث فهو إما نفس الجواز أو زمانه أو مكانه نقل من هذا المعنى إلى الفاعل وهو الجائز يعني العابر والعلاقة الكلية والجزئية إن كان مأخوذا من نفس الجواز وهو الحديث لن المصدر جزء من المشتق كل له والحالية أو المحلية إن كان مأخوذا من الجواز بمعنى مكان العبور ويكون ذلك من إطلاق اسم المحل على الحال. المجاز اصطلاحا فهو نوعان: مجاز لغوي وثانيهما: مجاز عقلي وهو ما قصده البيضاوي بالمجاز المركب. المجاز اللغوي هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له في اصطلاح التخاطب لعلاقة وقرينة ثم المجاز اللغوي إن كانت علاقته خصوص المشابهة فهو مجاز لغوي بالاستعارة مثل قولك رأيت أسدا في الحمام تريد الرجل الشجاع - وإن كانت العلاقة غير المشابهة كالعلاقة التي يأتي ذكرها فيما بعد فهو مجاز لغوي مرسل. والمجاز اللغوي مطلقا سواء كان مرسلا أو بالاستعارة لا يقع إلا في مركب فلا يقع في المفرد لأن المفرد وحده لا يفيد. أما المجاز العقلي: فهو إسناد الفعل أو ما في معناه إلى غير ما هو لعلاقة وقرينة - مثل قول المؤمن: أثبت الربيع النقل فإن إسناده الإثبات إلى الربيع مجاز لأن المثبت هو الله تعالى والعلاقة أن الربيع سبب في الإثبات والقرينة أن القائل مؤمن نهاية السول 2/148, 149 المحصول 1/112, 113 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/63, 64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 جاز أن يسمى كل أسود من غير الرجال وإذا سمى الرجل الشديد أسدا لم يجز أن يسمى كل شديد من غير الرجال أسدا. واعلم أنه إذا كان للفظة حقيقة ومجاز وجب حملها على الحقيقة دون المجاز1 بحكم الظاهر إلا بدليل يصرفه عن الحقيقة إلى المجاز فيحمل على المجاز بالدليل. والحقيقة على ثلاثة أضرب لغوية وعرفية وشرعية. والمجاز على ثلاثة أضرب لغوى وعرفى وشرعى. فاللغة أصل فيهما والعرف ناقل لهما عن اللغة إلى العرف والشرع ناقل لهما عن اللغة والعرف. أما الحقائق اللغوية2 فمعلومة لكل أحد فإنه يوجد فى اللغة ألفاظ مقيدة للشىء الواحد على الحقيقة وقد يوجد أيضا ألفاظ مقيدة للشىء وبخلافه حقيقة على طريق اشتراك وضع من هذا قرء والدليل على جواز ذلك أنه لا يمتنع أن يضع قبله أتم القروء للحيض فيضع أخرى للطهر ويشيع ذلك ويجعل كون الاسم موضوعا لهما من جهة قبيلتين فهم من إطلاقه الحيض والطهر على البدل أوعلى أن وجود مثل هذه الأسماء يغنى عن الدليل وقد ذكره أهل اللغة فى كتبهم. وأما مسألة الحقائق الشرعية فقد ذهب الفقهاء وأكثر المتكلمين إلى أن الاسم اللغوى يجوز أن يتقبله الشرع إلى معنى آخر فيصير اللفظ فى ذلك المعنى حقيقة شرعية ونفى قوم من أهل العلم ذلك وهو اختيار القاضى أبى بكر محمد بن الطيب وذهبوا إلى أنها مقرة على حقائق اللغات لم ينقل ولم يزد فى معناها. وذهب طائفة من الفقهاء إلى أنها أقرب وزيدت فى معناها فى الشرع3 والأصح.   1 انظر المحصول 1/117 نهاية السول 2/147 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/52/53. 2 انظر المستصفى للغزالي 1/359. 3 اعلم وفقك الله أن الحقيقة الشرعية وهي ألفاظ استعملها الشارع في معان لم تضعها العرب لها إما لمناسبة بينها وبين المعاني اللغوية وإما لغير مناسبة. مذاهب العلماء ثلاثة: القول الأول: وهو للقاضي أبي بكر الباقلاني - الحقيقة الشرعية غير موجودة وما يظن أنه موجود منها فهو مستعمل في معناه اللغوي غاية الأمر أن الشارع شرط في اعتبار هذا المعنى شروطا لا يكون معتبرا بدونها فالصلاة في الشرع مستعمل في الدعاء بشرط أن ينضم إليه .......... = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 هو القول الأول وصوروا الخلاف فى الصلاة والزكاة والحج والعمرة وما أشبه ذلك فإن الصلاة فى اللغة الدعاء وقيل من ملازمة الشىء من قولهم صلى بالنار واصطلى بها1 والزكاة هى النمو2 لغة والحج والعمرة القصد3 وقد حمل الشارع الصلاة لأفعال مخصوصة والزكاة لفعل مخصوص من إخراج مال مخصوص والحج والعمرة لأفعال فى أزمنة معلومة والحج من يتبع ذلك. وقال أن الله تعالى أتى فى القرآن بلسان العرب وقال بلسان عربي مبين وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [ابراهيم: 4] والصلاة فى لغة العرب الدعاء والحج هو القصد والصوم هو الإمساك فإذا ورد به الشرع وجب أن يحمل على ما يقتضيه لسان العرب. ببينة: أن هذا النقل يقبح لأن إذا نقل الاسم من معناه إلى معنى آخر اقتضى تغير الأحكام المتعلقة به نحو أن يأمر الله عز وجل بالصلاة ويعنى بها الدعاء فإذا نقل الاسم إلى هذه الأركان تغير به الفرض. قالوا: فإن لم تغير حقيقة كون الصلاة اسم لهذه الأفعال التى نعرفها وفى اللغة على الدعاء فإذا جعلت اسما [يهدم عينها] 4 فقد تغيرت. نقول أن اسم الصلاة فى اللغة الدعاء وسميت الصلاة الشرعية بذلك لأن فيها.   = أمور خاصة هي الركوع والسجود والقراءة إلخ - والصوم مستعمل في الإمساك لكن بشرط أن ينضم إليه النية مع ترك الأكل والشرب زمنا معينا والحج مستعمل في القصد ولكن بشرط أن ينضم إليه إحرام وطواف وسعي ووقوف بعرفة. القول الثاني: الحقائق الشرعية موجودة مطلقا كانت هناك مناسبة بين المعاني اللغوية أو لم تكن وهذا القول للمعتزلة. القول الثالث: وهو للبيضاوي الألفاظ الشرعية مستعملة في معانيها الشرعية لمناسبة بينها وبين المعاني اللغوية ولم توضع لها ابتداء فهي مجازات باعتبار اللغة ولما كثر استعمالها شرعا في هذه المعاني كانت حقائق شرعية واختار هذا الرأي إمام الحرمين والإمام الرازي إحكام الأحكام للآمدي 1/37 نهاية السول 2/150 المحصول 1/119 جمع الجوامع 1/300 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/53, 54, 56. 1 انظر القاموس المحيط 4/353. 2 انظر كشاف القناع 2/165, 166. 3 الصحاح 1/303 لسان العرب 2/778. 4 طمس في الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 دعاء فلم يختلف معناه والزكاة النماء وسميت الصدقة المفروضة زكاة لما يوجد فيها من زيادة الثواب فى الآخرة والنماء هو الزيادة وسميت الأفعال المعهودة حجا لأن الحج فى اللغة القصد فسميت هذه العبادة المخصوصة حجا لأن فيها قصدا. قالوا: ولأنه لو قال فى الأسماء شبهة قول لبينه النبي صلى الله عليه وسلم بيانا يقع به العلم لأن معناه لا بد من وقوع العلم فيه حتى يتوصل إليه ولو بين بيانا يقع به العلم لقلنا ذلك كما علمهم ولما لم نعلم ذلك لأنه لم يفعل ويجوز ما بينا فيدل أولا على إمكان نقل الأسماء. فنقول أن كون الاسم اسما لمعنى نقل لشىء ولا يجب وإنما هو تابع للاختبار به بدليل انتفاء الاسم عن المعنى قبل المواضعة ولأنه كان يجوز أن يسمى المعنى بغير ما سمى به نحو أن يسمى البياض سوادا أو الحركة سكونا أو غير ذلك وإذا كان كذلك جاز أن يختار مختار سلب الاسم من معناه أو نقله إلى غيره وإذا كان ذلك نافعا للاختبار. فإذا قال قائل إذا جوزنا ذلك لتباينت الحقائق. قلنا إنما كان يلزم ذلك أن لو استحال انفكاك الآية عن المعنى وقد جاء أن الأمر بخلاف ذلك ثم نقول قد جاء الشرع بعبادات لم تكن معروفة فى اللغة فلم يكن بد من وضع اسم لها للتميز به عن غيرها كما يجب ذلك فى موارد يؤلفه بلا كتاب وفى آلة يستحدثها بعض الصناع ولا فرق بين أن يوضع لتلك العبادة اسم مبتدأ وبين أن ينقل إليها اسم من أسماء اللغة إلا ترى فى المولود لا فرق بين أن يستحدث له اسما ابتداء وبين أن يظل له اسما نعبر به. ثم الدليل على أن الشرع قد نقل بعض الأسماء أن قولنا صلاة لم يكن مستعملا فى اللغة بمجموع هذه الأفعال الشرعية ثم صار اسما بمجموعها حتى لا يعقل من إخلافه سواه وكذلك فى الحج والزكاة فثبت الوجود وإذا ثبت وجود النقل ثبت النقل إجماعا. وأما كلامهم. أما الأول قولهم أن القرآن والسنة جاءت بلسان العرب. قلنا نحن نقول أن الله تعالى خاطبنا بلسان العرب وهذه الأسماء كلها عربية والخطاب بها خطاب بلغة العرب وليس إذا استعمل ذلك فى غير ما وضعته العرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 خرج من أن يكون خطابا بلسان العرب إلا ترى أن الحمار قد يستعمل فى غير ما وضعته العرب وهو الرجل البليد وكذلك البحر يستعمل فى غير ما وضعته العرب وهو الرجل الجواد ولا يخرج الخطاب بذلك عن أن يكون خطابا بلسان العرب. وأما قولهم أنه يؤدى النقل إلى تغير الأحكام الشرعية. قلنا هذا النقل كان لتقرير الأحكام الشرعية لا لتغيير الأحكام الشرعية ثم يمنع نقل اسم عن معناه إذا كان قد تعلق به فرض ولا يمنع من نقل اسم لم يتعلق به فرض. وأما قولهم إنما سميت الصلاة صلاة لأنها تشتمل على الدعاء قلنا أن قلتم أن اسم الصلاة واقع به على جملة هذه الأفعال لأن فيها دعاء فقد سلمتم ما يزيده من إفادة الاسم لما لم يكن يفيده فى اللغة ولا يضرنا أن يتعللوا وقوع الاسم على هذه الأفعال مما ذكرتم وأن أردتم أن اسم الصلاة واقع على الدعاء من جملة هذه الأفعال دون مجموعها فذلك باطل لأن المفهوم من قولنا صلاة جملة الأفعال والمفهوم من قولنا فلان فى الصلاة أنه فى جزء من هذه الأفعال دعاء كان أو غيره والمفهوم من قولنا فلان خرج من الصلاة أنه فارق جملة الأفعال ولو كان الأمر كما ذكروه لوجب إذا قلنا أنه خرج من الصلاة أفاد أنه خرج من الدعاء وإذا عاد إلى الدعاء يجوز أن يقال أنه قد عاد الآن إلى الصلاة فلما لم يقل ذلك دل أن الصلاة اسم الأفعال المعلومة بجملتها وهذا الاسم واقع على جملة الأفعال على وجه واحد فثبت أن النقل قد صح وقد قال الأصحاب أن صلاة الأخرس صلاة حقيقة ولا دعاء فيها فدلت أن الاسم فى الشرع ليس بمعنى الدعاء. وقد قال بعض أصحابنا معترضا على ما قلناه وقال الدعاء التماس وأحوال المصلى أحوال يخضع المصلى فيها لربه عز وجل ويبغى بها التماسا فالشرع عمم الكل اسم الدعاء تجوزا واستعارة وهذا دعوى المجاز فى هذه الألفاظ والأصح أن هذه الأسماء حقائق شرعية ويجوز أن يقال أن هذه الأسماء شرعية فيها معنى اللغة لأن الصلاة لا تخلو من الدعاء فى أغلب الأحوال والأخرس نادر ولأنا لو اعتبرنا ذلك فقد يخلو فى حق بعض المرضى عن معظم الألفاظ وهذا اللفظ لا بأس به. وأما قولهم أنه لو حصل لها هذا النقل لوقع لنا العلم به. قلنا قد أجبنا عن هذا فيما تقدم وعلى أنا نقول أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين ذلك بيانا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 ثابتا إلا ترى فى كل موضع ذكر الصلاة لم ترد إلا هذه الأفعال ولكن ليس من شرط البيان أن يقع العلم به لكل أحد إلا ترى أنه صلى الله عليه وسلم بين الحج بيانا ثابتا ثم لم يقع العلم به لكل أحد حتى اختلف العلماء فى إحرامه فقال بعضهم كان مفردا وبعضهم قال كان قارنا وقال بعضهم كان متمتعا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 فصل: الحقائق العرفية ... فيصير هو المفهوم عند إطلاقه لكثرة استعمالهم الاسم فيه وهو الفرس وقد دل هذا الذى ذكرناه على وجود النقل كما دل على حسنه وقد قال أهل اللغة أن التروية اسم للجمل وقد صار بالعرف المزادة والغائط للمكان المطمئن وقد صار بالعرف اسما للحاجة وأما إشارة انتقال الاسم فهو أن يسبق الأفهام عند سماعه معنى غير ما وضع له فى الاسم فإن كان السامع الاسم يتردد فى فهم المعنى العرفى واللغوى معا كان الاسم مشتركا فيهما على سبيل الحقيقة. واعلم أنه كما جاز وجود الحقائق اللغوية والعرفية والشرعية كذلك يجوز وجود المجاز اللغوى والعرفى والشرعى فإن قال قائل ثم تعرفون الحقيقة عن المجاز والمجاز عن الحقيقة قلنا الأصل أن الكلام يحمل على الحقيقة بالإطلاق وعلى المجاز بالدليل ويعرف الفصل بين الحقيقة والمجاز بوجوه منها أن يرد نص أو يقوم دليل أن اللفظ مجاز. ومنها أن يعلم استعمال العرب اللفظ فى شىء وعدم استعمالها فى غيره فإذا أطلق اللفظ حمل على ما استعملوه ويكون حقيقة. ومنها أن تكون اللفظة تطرد فى موضع ولا تطرد فى غيره فيعلم أنها قد اطردت فيه حقيقة وفيما لم تطرد فيه مجاز1. وبيان الإطراد وعدم الإطراد أن قولنا أطول يفيد ما اختص بالطول وإذا علمنا أن أهل اللغة سموا الجسم طويلا عند اختصاصه بالطول ولولا ذلك ما سموه طويلا علمنا أنهم سموه بذلك لطوله فسمينا كل جسم فيه طول طويلا. وأما فى المجاز فلا يثبت الإطراد بحال وهذا نحو تسميتهم الرجل الطويل نخلة فإنه يجوز أن يسمى كل رجل طويل بذلك ولكن لا يجوز أن يسمى غير الرجل بذلك. ومنها غلبة الظن وهو أن يرد لفظ يغلب على ظن السامع أنه حقيقة أو ترد لفظة يغلب على الظن أنه مجاز وهذا لأن الفصل بينهما نوع حكم والأحكام تثبت بغالب الظن ومنها أن يستعمل الشىء فى الشىء لمقابلته فيعلم أنه مجاز استعمل لأجل المقابلة وهذا مثل قوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] فهذه وجوه.   1 انظر نهاية السول 2/172 المحصول 1/148, 146 إحكام الأحكام 1/41 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/71. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 فأصلة بين الحقيقة والمجاز وعند الإشكال والاشتباه يحمل على الحقيقة إلا أن يقوم الدليل على المجاز. واعلم أن الكلام الواحد يجوز أن يكون له حقيقتان وقد يتفقان على المضادة. والدليل على جواز ذلك وجوده فإن الاسم العين يطلق على عين الرأس وعين الماء وهو حقيقة فى كل واحد منهما والقرء اسم للحيض والطهر والشفق اسم للحمرة والبياض وليس هذا بأكثر من المحمل الذى يصح وروده لما يقترن به من البيان كذلك هاهنا صح أيضا لما يستعمل فيه من البرهان وقد يكون اللفظ له حقيقتان فيحمل اللفظ عليهما جميعا كاسم الناض فى الذهب والفضة واسم الماشية حقيقة فى كل نوع من الإبل والبقر والغنم فإذا ورد مثل هذا اللفظ فى موضع يحمل اللفظ على كل ما هو حقيقة فيه إلا أن يخص أحدهما دليل. وأما إذا تناول الاسم الواحد شيئين متضادين كالحيض والطهر فى القرء وما أشبه ذلك والحمرة والبياض فى الشفق فإنه يصار إلى الترجيح بالدليل فيرجح أحدهما على الآخر ويصير الحكم الراجح ويجوز أن يرد تغيير بنيهما فى الشرع فيخير المكلف أحدهما وهذا اللفظ الواحد إذا كان له حقيقتان متضادتان فهذا وجه الكلام فيما قصدنا والله أعلم. مسألة يجوز أن يراد باللفظ الواحد معنيان مختلفان. وسواء كانا حقيقتين أو مجازين أو أحدهما حقيقة والآخر مجازا وهذا قول أبى على الجبائى وعبد الجبار وأحمد وزعم أصحاب أبى حنيفة أنه لا يجوز أن يراد باللفظ الواحد معنيان مختلفان وهو قول أبى القاسم ويزعم الضميرى من أصحابهم أن هذا قول أبى حنيفة على الخصوص وأن عند أبى يوسف ومحمد يجوز ذلك1. واحتجوا فى ذلك وقالوا: أن الحقيقة هى اللفظ المستعمل فى موضعه والمجاز هو اللفظ الذى يجوز به عن موضعه ولا يجوز أن يكون اللفظ الواحد مستعملا فى موضعه ومستعملا فى غير موضعه فى حالة واحدة بل يستحيل ذلك كما يستحيل الاقتصار على الشىء والمجاوزة عنه فى حالة واحدة.   1 انظر المسودة 166 التصريح على التوضيح 1/87, 88. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 وقالوا: يبين ذلك أن العبارة تعتبره عبارة عن الشىء المعبر به عنه بالقصد إلى ذلك فلما استحال القصد إلى ما ذكرناه من هذين الشيئين المختلفين لم يجز أيضا أن يكون اللفظ الواحد عبارة عنهما وقال أبو عبد الله البصرى المعروف يجعل أن الإنسان يجد فى نفسه تعذر استعمال اللفظة فى مجازاتها وحقيقتها قال وجرى مجرى تعظيم زيد والاستخفاف به فى حالة واحدة وقالوا: أيضا أن المستعمل للكلمة فيما هى مجاز فيه لا بد أن يسم فيه كاف التشبيه والمستعمل لحالتها على حقيقة فيه لا يسم فيه كاف التشبيه ومحال أن يضمر الشىء ولا يضمره قالوا: ولهذا نقول فى قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43] لما حمل على الوطء لم يجز حمله على اللمس باليد لأنه حمل على المجاز ولا يحمل على الحقيقة. والدليل على أن الآية قد تناولت الوطء جواز التيمم للجنب ولهذا من حمل الآية على اللمس باليد لم يجوز التيمم للجنب مثل ابن مسعود ومن حمله على الوطء جوزه مثل ابن عباس. وأما دليلنا نقول إنكم لا تخلون أما أن تقولوا يستحيل فى مطلق اللفظ المشترك إرادة المعنيين معا أو تقولوا لا يستحيل منه إرادتهما. فإن قلتم يستحيل إرادة المعنيين فهذا جحد الضرورة ومعاندة المعقول فإنا نعلم قطعا جواز إرادة المعنيين المختلفين غير المتناقضين بلفظة واحدة إلا ترى أنه لا يستحيل أن نقول إذا أحدثت فتوضأ يريد به البول والغائط وكذلك تقول إذا لمست فتوضأ وتريد به الوطء واللمس باليد جميعا وهذا أمر قطعى لا يمكن خلافه. وإن قلتم لا يستحيل إرادة المعنيين ولكن لا يفهم من مطلق اللفظ جميع المعنيين من غير قرينة فهذا نحن نقول به فإنه إذا احتمل إرادة المعنيين واحتمل تخصيص اللفظ بأحدهما فيتوقف فى معنى اللفظ على قرينة تدل على الجمع والتخصيص. فإن قالوا: هذا الدليل فى المعنيين المختلفين فما دليلكم فى الجمع بين إرادة الحقيقة والمجاز بكلمة واحدة وقد بينا استحالته يدل عليه أن المجاز لا يعقل من الخطاب إلا بقرينة وتقييد والحقيقة تعلم منه بالإطلاق من غير قرينة وتقييد ويستحيل أن يكون الخطاب الواحد جامعا بين الأمرين فيكون مطلقا مقيدا فى حالة واحدة وهذا كقرينة الخصوص وقرينة الاستثناء فإنه يستحيل أن يكون اللفظ الواحد عاما خاصا مستثنى منه غير مستثنى منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 الجواب أن اللفظ الواحد يجوز أن يحمل على الحقيقة والمجاز إذا تساويا فى الاستعمال لكن إذا عرى عن عرف الاستعمال لم يجز أن يحمل على المجاز إلا أن يقوم الدليل على أنه مراد به وقيام الدلالة على إرادة المجاز لا ينفى عن اللفظ إرادة الحقيقة والدليل على جواز ما ذكرناه صحة تعلق القصد والإرادة بهما جميعا وصحة التصريح بهما متعلقين بلفظ واحد إلا ترى أنه يصح أن نقول لا تنكحوا ما نكح آباؤكم عقدا ووطئا وتوضئوا باللمس مبينا وجماعا فإذا صلحت الكلمة إنما كان الجمع بينهما مثل الجمع بين المعانى التى تشتمل عليها الكلمة الواحدة كشمول لفظ العموم لجميع الآحاد ولفظ الأمر للإيجاب والإباحة. وأما قوله أن المجاز لا يعلم بتناول اللفظ بلا تقييد والحقيقة تعلم بالإطلاق فلا جزم لأنا إنما ذكرنا هذا فى اللفظ الذى اشترك فى عرف استعمال الحقيقة والمجاز معا وفى هذه الصورة لا ينافى جواز دخول العرف على كل واحد منهما. فإن قيل فعلى ما قلتم تكون الكلمة الواحدة مجازا وحقيقة وهذا يستحيل. قلنا هذا لا نأباه لكن المجاز متعلق فيها بغير ما تعلق به الحقيقة وهذا كالأمر الذى هو نهى عندنا عن جميع أضداد ما تناوله الأمر فهو إذا أمر ونهى لكن اجتماعهما فى جهتين مختلفتين وقد ظهر بما ذكرنا الجواب عن معتمدهم وهو الكلام الأول والثانى وهذا لأنه ليس بين إرادته وبين أن تكون الكلمة مستعملة فى موضعها فى شىء ومعدولا بها عن موضعها فى شىء آخر تنافى كما لا تنافى فى أن يريد به معنى ويريد به معنى آخر إنما التنافى أن نقول أراد أن يستعملها فيما وضع له اللفظ وأراد أن لا يستعملها فيما وضعت له اللفظة وهذا لا يقول به أحد. وأما حجة أبى عبد الله البصرى قلنا قولك أن الإنسان يجد من نفسه تعذر ذلك دعوى بل المعلوم فى نفسه صحة ذلك وأما إجراؤه هذا مجرى تعظيم زيد والاستخفاف به فذلك مفارق لما نحن فيه إلا ترى أنه يجوز أن نريد الحقيقة والمجاز بخطابين فى وقت واحد ولا يجوز أن يعظم زيد ويستخف به بفعلين فى وقت واحد وعلى أن الفرق بين الموضعين أن الاستخفاف ينبىء عن اتضاع حال ذلك الغير والتعظيم ينبىء عن ارتفاع حاله ومحال أن يكون الإنسان فى حالة واحدة مرتفع الحالة ومتضع الحال وأما فى مسألتنا فلا تنافى إلا ترى أنه يستقيم أن نقول أنهاك عن مسيس النساء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 ونريد به اللمس باليد والجماع وأما الذى قال من كأن للتشبيه وترك كاف التشبيه. قلنا إذا قال الإنسان رأيت السباع وأراد به أنه رأى أسدا ورجالا شجعانا فإنه لا يمتنع أن يضمر كاف التشبيه فى بعضهم دون بعض ثم يدل على فساد مذهبهم من أصولهم كأنهم قالوا: لو حلف لا يضع قدمه فى الدار فدخل راكبا أو ماشيا حنث وقد تناول اللفظ الحقيقة والمجاز. وكذلك قالوا: لو قال اليوم يدخل فلانا الدار فعبده حر فدخل ليلا أو نهارا حنث وقالوا: في السير الكبير لو أخذ الأمان لبنيه يدخل فيه بنوه وبنو بنيه وأن كان فى أول اليوم من النهار حقيقة والليل مجازا وفى الثانى البنون بنوه من صلبه حقيقة وبنو بنيه على وصف المجاز. واعلم أنه قد ذكر بعضهم أنه لا يجوز هذا من جهة اللغة لأن أهل اللغة وضعوا قولهم حمارا للبهيمة وحدها وتجوزوا بها فى البليد وحده ولم يستعملوه فيهما معا إلا ترى أن الإنسان إذا قال رأيت حمارا لا يفهم منه البهيمة والبليد جميعا وإذا قال رأيت حمارين لا يفهم منه أربعة أشخاص بهيمتين وبليدين. والجواب أنا ادعينا ذلك إذا انضم إلى ذلك عرف الاستعمال وإذا كان كذلك فلا يأباه العربى ولا غير العربى وعلى أنه إذا جاز فى الإرادة وأمكن العبارة عنهما بأى وجه كان فقد ثبت ما رتبناه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 فصل: ما يرجع إلى لغه العرب ووجوه استعمالها ... فصل. وحين وصلنا إلى هذا الموضع فنذكر ما يرجع إلى لغة العرب ووجوه استعمالها اعلم أن الألفاظ لا بد من الاعتناء بها لأن الشريعة عربية وقد نزل القرآن بلسان العرب وجاءت السنة بلسانهم وقد قال بعضهم أن القرآن يشتمل على ما ليس من لسان العرب وهذا ليس بشىء لأن الله تعالى قال: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} [يوسف: 2] وقال: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:195] وهذا يدل على أن كل القرآن عربى وأنه ليس فيه شىء من غير لسان العرب وأيضا لو كان فيه من غير لسان العرب لاختل أمر التحدى ولم يثبت الإعجاز لأنه يكون طريقا لهم فى أن يقولوا أن القرآن الذى جاء به يشتمل على لسان العرب وغير لسان العرب ونحن لا نعرف إلا لسان العرب فى بلدنا من قبل هذا فيؤدى هذا القول إلى نفى أمر الإعجاز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 وأما الألفاظ التى يذكرون أنها وردت فى القرآن ليست من لغة العرب وسموا ذلك فى مواضع فاعلم أنها من لسان العرب ولا نقول إنها ليست من لسانهم لكن يجوز أن يقع موافقة بين لغة ولغة وكلمات معدودة وهذا غير مستنكر ولا مستبدع وقد قيل أن مثال هذا ما يقال بالعربية للسما سماء بالسريانية سمسا ويقال فى العربية حياة وبالعبرانية حيا ويقال سروال بالعربية وبالعجمية شروال لما يلبس وقد ذكروا أشباها آخر كهذا وإذا ثبت ما ذكرناه أن الشريعة عربية فينبغى للمجتهد أن يعلم من لغة العرب ما يحتاج إليه ويعرف طريق استعمالهم ووجوه مخارج كلامهم من مثلها. ثم اعلم أن الأصوليين اختلفوا فى مأخذ اللغات فذهب ذاهبون إلى أنها توقيف من الله عز وجل1 وصار صائرون إلى أنها ثبتت اصطلاحا تواطؤا2 والمختار أنه يجوز كل ذلك أما التوقيف فلا يحتاج إلى دليل فلا يجوزه وقد قال الله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31] فيجوز أن تكون الأسماء أو حيت ويجوز أن يثبت الله فى الصدور علوما بصيغ مخصوصة لمعانى فيبين للعقلاء الصيغ ومعانيها فيكون معنى التوقيف أن يلقوا وضع الصيغ على حكم الإرادة والاختيار. وأما الدليل على تجويز وقوعها اصطلاحا أنه لا يبعد أن يحرك الله تعالى رأس العقلاء لذلك ويعلم بعضهم مراد بعض ثم ينشئون على اختيار منهم صيغا لتلك المعانى التى يريدونها إلا ترى أن الإنسان يولد له مولود فينشىء له اسما وكذلك يجوز أن يستحدث صيغة وآلة فيصيغ اسما ولآلتها اسما فدل أن التوقيف جائز والاصطلاح جائز والظاهر فى الأسامى هذه أن بعضها كان توقيفا من الله عز وجل على ما نطق به الكتاب وبعضها كان اصطلاحا وتوقيفا. وإذا عرف هذا فنذكر بعد هذا مسألة معروفة فى الأصول يبنى عليها مسائل وهى مسألة جواز أخذ الأسماء من جهة القياس: فنقول اختلف أصحابنا فى جواز أخذ الأسماء من جهة القياس فذكر الأكثرون من أصحابنا أن ذلك جائز وهو اختيار ابن سريج وقد دل عليه من مذهب الشافعى.   1 ذكره الآمدي قول الأشعري وأهل الظاهر وجماعة من الفقهاء انظر إحاكم الأحكام للآمدي 1/105 المحصول 2/57, 58 روضة الناظر 151 البرهان 1/107. 2 ذكره الآمدي قول بهشمية وجماعة من المتكلمين إحاكم الأحكام للآمدي 1/106 المحصول 2/57, 58 روضة الناظر 151 البرهان 1/170. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 قوله فى مسألة شفعة الجار وقال أن الشريك جار واستدل عليه بقوله امرأتك أقرب إليك أم شريكك فقياس الاسم معنى القرب واحتج فى الأمر باشتقاق اللفظ. وذهب جماعة من أصحابنا إلى أن إثبات اللغة بالقياس لا يجوز وهو قول أصحاب أبى حنيفة وأكثر المتكلمين1 واحتج على ذلك وقال أن اللغة أما توقيف واصطلاح فلا معنى للرجوع إليه ببينة قوله ما من شىء إلا وله اسم فى اللغة توقيفا فلا يجوز أن يثبت له اسم آخر بالقياس كما إذا ثبت الحكم بالنص لم يجز أن نثبت له حكما آخر بالقياس. والمعتمد لهم أن الخلاف فى الأسماء المشتقة والعرب تلتزم وجود الاشتقاق فإنهم سموا الدابة دابة لدبيبها ولم يسموا كل ما يدب دابة وسموا الجنين جنينا لاستتاره ولم يسموا كل مستتر جنينا وسموا المجن مجنا لأنه يستتر به الإنسان ولم يسموا كل ما يستتر به مجنا. وأقرب من هذا أن الخمر ليس فى معنى اسمها الإطراب إنما هى من المخامرة والتخأمر والتخمير فلو ساغ الاستمساك بالاشتقاق لكان كل ما يخأمر العقل خمرا وأن لم يطرب الخمر يدل عليه أن العرب خالفوا بين المتشاكلين فى الاسم فسموا الفرس الأدهم أدهم وسموا الحرير الأسود أدهم وسموا الفرس الأبيض أشهب ولم يسموا الحمار الأبيض أشهب فدل عليه أنه لا مجال للقياس فى هذا. قالوا: ولأنكم أن أثبتم هذه الأسماء لغة للعرب فلا يجوز أن تكون اللغة أسبق من الشرع ولتقدم اللغة خاطبنا الله تعالى بها فلا يجوز إثبات الأسماء فيها بأمور طويلة. تنبيه أن الدليل بإثبات الأسامى قياسا أن كان يزعم أن العرب أرادت هذه الأسماء وأن لم يبوحوا بذلك فهو تحكم من غير تثبت ولا نقل فيما يزعمه وأن قال أن العرب لم تمنع بذلك فى مواضع يلحق ذلك بلسانهم وهذا محال لأن إلحاق شىء بالشاهد ليس من لسانهم لا يعرف وأما دلائل من جوز ذلك فى الأسماء المشتقة لأن الاسم الموضوع يبنى على ذلك الشىء فحسب والاسم المشتق يبنى على ذات الشىء وفعله وخاصيته والدليل على جواز تعليله أنه نقل عن الصحابة تعليل الأسماء قال عمر رضى الله عنه الخمر ما خأمر العقل وقال ابن عباس [رضى الله عنهما] 2 إشارة كل مخمر خمر.   1 انظر إحكام الأحكام للآمدي 1/78 روضة الناظر 152 البرهان 1/172. 2 بياض بالأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 فالأول إشارة إلى التعليل بالشدة المضرة لأنها بشدتها والتصاقها يمازج السكر منها العقل وكذلك قول ابن عباس رضى الله عنهما إشارة إلى أنها تغطى العقل بالسكر كما يغطى الإناء بالغشاء. ببينة: أن أهل اللغة جعلوا الأسماء على أقسام فجعلوا المشتقة أحد تلك الأقسام والاشتقاق بأنه القياس وربما استعاروا فى الأسماء الموضوعة واستخرجوا من ذلك أسامى وتصريحات فى مواضع من ذلك قولهم أشياء شد الرحيل إذا نوى وأسدته على كذا إذا شببه وقالوا: كلب أشياء وكلب الدهر علينا وسبع فلان فهذه اشتقاقات من اسم السبع والكلب والأسد. قال الخطابى ومثل ذلك فى كلامهم كثير وقد استعمله النبي صلى الله عليه وسلم فى كلامه قال صلى الله عليه وسلم: "من سلم المسلمون من لسانه ويده" 1 وقال صلى الله عليه وسلم حاكيا عن ربه عز وجل: "أنا الرحمن وهى الرحم شققت لها من اسمى من وصلها وصلته ومن قطعها ثنيته" 2. وقد أحدث فى الشرع أسماء لم تكن فى الجاهلية كالمنافق وإنما اشتق من نافقة السرجوح3 وكالفاسق يقال فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها وإذا ثبت أنهم وضعوا الأسماء وصرفوا الكلام تصريفات من جهة الاشتقاق ذلك أنهم جعلوا المشتق بمنزلة الفرع والمشتق منه بمنزلة الأصل والمعنى الذي اشتق لأجله بمنزلة العلة هذا الذى قلناه قدر الإمكان واعلم أن كلماتهم فى نفى إثبات الأسامى لغة العرب بالقياس قوى جدا فالأولى أن نقول يجوز إثبات الأسامى شرعا ولا يجوز إثباتها لغة وهذا هو الذى اختاره ابن سريج والدليل على جواز ذلك أنا نعلم أن الشريعة إنما سمت الصلاة صلاة لأجل صفة من الصفات متى اشتقت تلك الصفة عنها لم تسم صلاة ونعلم أيضا أن ما شاركها فى تلك الصفة تكون صلاة ونبين هذا بثبوت الأسماء الشرعية بالعلل وأن شئت قلت: أن الشريعة وسعت هذه الأسماء الشرعية مثل الصلاة الزكاة الحج وغير ذلك لاختصاصها بأحكام من الشريعة فإذا ثبت هذا الأمر لمعان جاز قياس كل محل وجد فيه ذلك المعنى وتسميته بذلك المعنى الاسم وعلى هذا خرجت الأسماء.   1 أخرجه البخاري الإيمان 1/70 ح 11 ومسلم الإيمان 1/65 ح 64/40 والترمذي صفة القيامة 4/661 ح 2504. 2 أخرجه البخاري في الأدب 10/430, 431 الحديث 5988 5989. 3 السرجوج: أي االأحمق انظر القاموس المحيط 1/193. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 اللغوية وأن لم يلزم ما ذكروه من تركهم اطراد معانى الأسماء فعلى هذا ثبت اسم الخمر للنبيذ شرعا ثم حرم بالآية وكذلك ثبت اللواط اسم الزنا شرعا ثم يجب الحد بالآية وثبت اسم السارق للنباش شرعا ثم يجب القطع بالآية والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 فصل: فى ذكر وجوه المجاز وطرق استعماله . اعلم أنا بينا أن الكلام ينقسم إلى الحقيقة والمجاز والصريح والكناية والمبين والمجمل والمفسر والمبهم والخصوص والعموم والمطلق والمقيد وقد بينا ذلك وهذه الوجوه كلها بلسان العرب وجاء الكتاب والسنة بها والبيان المطلوب متعلق بجميع ذلك وقد كنى الله تعالى عن النساء بالنعاج فقال تعالى: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} [صّ: 23] وكنى عن الوطء بالإفضاء وكنى عن النساء بالحرث وكنى عنهن باللباس وكنى عن ما يخرج من الإنسان بالغائط وكنى النبي صلى الله عليه وسلم عن الوطء بالعسيلة وكنى عن النساء بالقوارير وكنى عن قرب المشركين بلفظ النار وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تستضيئوا بنار المشركين" 1. وقد قيل أن الكناية عند العرب أبلغ من الصريح فى معنى البراعة وأكثر أمثال العرب على مجاز من الكنايات ويقولون فلان عفيف الإزار طاهر الذيل وكنوا عن الاقتضاض بثقب اللؤلؤ وكنوا عن بنت الرجل بكريمته وعن الصغير بالريحانة وعن الأخت بالشقيقة وعن الأعمى بالمحجوب وعن الأبرص بالوضاح وعن الأسود الذى قد شاب رأسه بالغراب وعن البخيل بالمتقصد وكنوا عن البخيل بأنه جعد الأصابع وقالوا: فيمن اكتهل سدل الأدهم2 بالأبلق3 وقالوا: استبدل المسك بالكافور وأمثال هذا كثير. واعلم أن المجاز على وجوه كثيرة ويذكر بعضها من ذلك تسمية الشىء باسم غيره4 إذا كان لسبب كتسميتهم البنت ندى لأنه من الندى يكون بما سموا النجم ندى لأنه عنه.   1 أخرجه النسائي الزينة 8/154 باب لا تنقشوا على خواتيمكم عربيا وأحمد المسند 3/122 ح 11960. 2 الأدهم: الأسود القاموس المحيط 4/115. 3 الأبلق: الأبيض القاموس المحيط 3/214. 4 انظر المحصول 1/135. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 ينعقد ومن هذا تسميتهم الوطء نكاحا لأن العقد الذى هو حقيقة النكاح سبب له فسمى باسم سببه كتسميتهم المطر سماء لأنه من السماء ينزل. تقول العرب ما زلنا نطأ السماء حتى أتيناكم وقال الشاعر إذا سقط السماء بأرض قوم ... وأرض القوم ليس لهم حجاب ومن هذا قوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران:107] يعنى الجنة لأن دخولهم الجنة برحمته يكون. ومن المجاز أيضا تسمية الشىء باسم ما يقارنه ويجاوزه قال امرؤ القيس. إذا ما الثريا فى السماء تعرضت وفى شعر زهير سمى عاقر الناقة أخا عاد وأراد ثمود لقرب ما بينهما وسموا أهداب العين أشفارا وإنما الأشفار مبيت أهداب العين وعبروا أيضا عن الجفن بالعين وبالمحاجر عن الوجه قال الشاعر. هن الحرائر الأرباب لعمرى ... سود المحاجر لا يقرأن بالسور وقال بعض أصحابنا أن الوجه يعبر به عن العين مجازا ومن هذا قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23] معناه أعين يومئذ ناضرة ويعبرون عن الوجه بالناصية فيقولون فلان مبارك الناصية أى مبارك الوجه ومن المجاز تسميتهم الشىء باسم ما يؤول إليه1 قال الله تعالى: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً} [يوسف: 36] وقال تعالى لهما يأكلون في بطونهم نارا ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم فى الذى يشرب فى آنية الذهب والفضة: "إنما يجرجر فى بطنه نار جنهم" 2. ومن المجاز تسميتهم الشىء باسم مكانه قال الله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ} [قّ: 37] أى عقل فكنى عن العقل بالقلب لأنه مكان العقل ومن هذا قوله تعالى: {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} [الحاقة:45] أى بالقوة لأن اليمين محل القوة ومن هذا أيضا تسميتهم قضاء الحاجة غائطا والشىء النجس عذرة ومن هذا تسمية الولد لهوا قال الله تعالى لو أردنا أن نتخذ لهوا أى ولدا لأنه وضع اللهو.   1 انظر المحصول 1/134. 2 أخرجه البخاري الأشربة 10/98 ح 5634 ومسلم اللباس 3/1634 ح 1/2065 وابن ماجه الأشربة 2/113 ح 3413 ومالك في الموطأ صفة النبي صلى الله عليه وسلم 2/924 ح 11 وأحمد المسند 6/339 ح 26667. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 ومن المجاز تسميتهم باسم بعض1 يقول القائل من على رأس كذا يريد نفسه وقال تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} النساء 3 أى ملككم ومن ذلك قوله فظلت أعناقهم لها خاضعين الشعراء 4 أى فظلوا ومن ذلك قوله عليه السلام: "على اليد ما أخذت حتى ترد" 2 وقد فرع مشايخنا على هذا مسألة إضافة الطلاق إلى اليد والرجل وقد بينا فى الخلافيات وعلى هذا الأصل تفريعات كثيرة. ومن المجاز تسميتهم الشىء باسم الشىء على معنى التشبيه3 قال النبي صلى الله عليه وسلم لخالد بن الوليد: "هو سيف من سيوف الله عز وجل" 4 أى كالسيف فى إمضائه وركب فرسا لأبى طلحة فقال وجدناه بحرا شبهه به لسعة الجرى ومنه تسمية الشجاع أسدا والبليد حمارا والشرير كلبا. ومن وجوه المجاز أيضا تسمية الشىء باسم ما يقابله5 مثل قوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] سمى الثانى سيئة وأن كان جزاء السيئة حقيقة لأنه يقابله وكذلك قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] فسمى الثانى اعتداء لمكان المقابلة ومن المجاز تسمية الشىء باسم غيره إذا قام مقامه وسد مسده وقد ورد هذا فى الأشعار. ومن المجاز حذفهم بعض الكلام على وجه لا يؤدى إلى الالتباس قال الله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] أى أهل القرية وقال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] أى وقت الحج أشهر معلومات. ومن المجاز أيضا الاستعارة فإن العرب تستعير الشىء لنوع مقاربة بينهما قال الله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] .   1 انظر المحصول 1/136. 2 أخرجه أبو داود البيوع 3/294 ح 3561 والترمذي البيوع 3/557 ح 1266 وقال حديث حسن صحيح وابن ماجه الصدقات 2/802 ح 2400 وأحمد المسند 5/12 ح 20109 انظر نصب الراية 4/167. 3 انظر المحصول 1/135. 4 أخرجه البخاري فضائل الصحابة 7/126 ح 3757 ومسلم الزكاة 2/743 ح 135/1064 ولفظ الحديث عند البخاري والترمذي المناقب 5/688 ح 3846 وأحمد المسند 4/112 ح 16829. 5 انظر المحصول 1/134. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 فالاستعارة فى لفظ الخيط ومن الاستعارة قوله تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً} [مريم: 4] وإنما الاشتعال للنار ومن ذلك أيضا قوله تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الاسراء: 24] فاستعار اسم الجناح وهو العلو المعروف وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "رجل أخذ بعنان فرسه كلما سمع ضيعته طار إليها" 1 أى أسرع إليها فاستعار اسم الطير للإسراع. ومن المجاز المعروف قوله تعالى: {جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ} [الكهف: 77] أى قارب وأشرف قال الشاعر: إن دهرا يلف شملا بشملى ... لزمان قد هم بالإحسان ووجوه المجاز كثيرة فاقتصرنا على ذكر بعضها وتركنا الباقى لئلا يطول. واعلم أنه قد ذكر أبو زيد ومن نظر طريقته فصلا فى الحقيقة والمجاز لا بد من ذكره لأنه يتعلق بذلك أصل كبير فى مسائل الخلاف الذى بينهم وبيننا قال أبو زيد فى تقويم الأدلة أنواع استعمال الكلام أربعة حقيقة ومجاز وصريح وكناية. أما الحقيقة كل كلام أريد به ما وضع واضع اللغة الكلام له. والمجاز كل كلام أريد به غير ما وضع واضع اللغة الكلام به يقال حبك لى مجازا أى هو باللسان لا بالقلب الذى هو معدنه وهذا الوعد منك مجاز لأنه لم يرد به التحقيق قال وقد ظهر المجاز ظهورا عظيما فى كتاب الله عز وجل ورسائل الكتبة وأشعار العرب حتى كاد يغلب على الحقيقة وجودا واستحسانا وبه توسعت اللسان وصلحت ثم قال فالحقيقة تبقى ولا يوقف عليه إلا بالنقل عن واضع اللغة كالنصوص فى باب الشرع وأما المجاز فلا حاجة بنا إلى سماعه ثبت لغه فلا يعتبر فيه السماع بل يعتبر المعنى الذى اعتبره أهل اللغة فإذا تكلم على ذلك المعنى صح والمجاز آت والاستعارات أمر شائع بين الخطباء والكتبة والشعراء حتى استحق الواحد منهم المدح بإبداع اللغة فإذا تكلم بالاستعارات والتعريضات دل أنه ليس بسمعى قال ومن الناس من ظن أن المجاز لا عموم له وهو غلط لأن ما أمكن اعتبار العموم فيه يعتبر ولأن الاستعارة تقم المستعار من اللفظ مقام الحقيقة لذلك المسمى الذى استعير له ولولا هذا لكان المتكلم به مخلا بالغرض وكان لا يحسن به المتكلم فلما كان المستعار أحسن من.   1 أخرجه مسلم الإمارة 3/1503 ح 125/1889 وابن ماجه الفتن 2/1316 ح 3977. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 الحقيقة دل أنه مثله فى البيان أو أكثر. قال ويتبين مما قلنا أن اللفظ الواحد لا يشتمل على الحقيقة والمجاز لأنهما مختلفان لا يجتمعان كالثوب الواحد لا يجوز أن يكون عارية وملكا قال ولهذا لم يجعل علماؤنا المس حدثا لأن الجماع مراد بقوله: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [النساء: 43] فبطل أن يكون الحقيقة مرادا وكذلك قال علماؤنا أن النص المتناول لتحريم الخمر لا يتناول سائر الأشربة لأن الاسم الذى من العنب إذا غلا واشتد حقيقة ولغيره مجاز لاتصال بمعنى مخامرة العقل فلا يدخلان جميعا تحت هذا الكلام وهذا كلام أبى زيد وخرج على هذا سائل له وذكر غيره ممن ينظر طريقته من جملة العصريين وهو أن المعنى الذى اعتبره أهل اللغة فى المجاز هو أن يكون بين المستعار منه والمستعار اشتراك فى المعنى وذلك المعنى فى المستعار منه أبلغ وأبين هكذا قاله أهل اللغة فيما زعمه وحكاه على بن عيسى الريانى صاحب التفسير قال وإنما شرطنا هذا لأن ترك الحقيقة مع القدرة على الاستعمال لها والميل إلى المجاز وفيه نوع إيهام وتلبيس لا يجوز إلا لفائدة لا تجوز إلا فى الحقيقة وذلك ما بينا وهو أن يكون فيه زيادة بيان لا توجد فى الحقيقة قال وهذا مثل قوله فاصدع بما تؤمر ومعناه امتثل بما تؤمر فقد استعار قوله فاصدع فى مكان قوله امتثل والصدع هو الشق والصدع بمعنى الشق مستعار منه والامتثال مستعار له وقوله فاصدع مستعار والمعنى المشترك بين الشق هو التأثير فإن الشق له أثر فى الشقوق والامتثال له أثر فى المأمور به إلا أن تأثير الشق فى المشقوق أبين من تأثير الامتثال فى الشق وكأن فى المجاز زيادة بيان فإن طلب الامتثال بقوله فاصدع بما تؤمر أبلغ من طلب الامتثال بقوله فائتمر وكذلك يقال فى بنى آدم أسد لاشتراكهما فى المعنى وهو الشرط فيه وهذا المعنى فى الأسد أبلغ لأنه أشجع الحيوانات وكذلك أيضا استعارة اسم الحمار فى البليد وزعم على هذا أنه لا يجوز أن يجعل لفظ الطلاق كناية ومجازا عن العتق لأن هذا الشرط لا يجوز أن يوجد فى هذه الصورة لأن العتق أبلغ فى الإزالة والطلاق دونه1 وأما لفظ الهبة أو التمليك يجوز أن يجعل مجازا فى النكاح2 لأن.   1 في هذه المسألة قولان للعلماء: الأول: وهو رواية عن أحمد لا تعتق وهو قول أبي حنيفة والقول الثاني: تعتق به الأمة إذا نوى العتق وهو قول مالك والشافعي انظر المغني 12/237. 2 وهذا قول الثوري والحسن بن صالح وأبو حنيفة وأصحابه وأبو ثور وأبو عبيد وجاود انظر المغني 7/429. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 لفظ الهبة والتمليك لإثبات الملك أبلغ من لفظ النكاح إلا ترى أنه يفيد من التمليك ما لا يفيده لفظ النكاح قالوا: ولهذا قلنا فى قوله لعبده وهو أكبر سنا منه هذا ابنى أنه يعتق ويصير قوله هذا ابنى مجازا عن العتق لاشتراكهما فى المعنى فإن كل واحد من اللفظين يوجب حرية العبد وقوله هذا ابنى أبلغ فى إفادة الحرية لأنه يوجب الحرية قبل قوله بزمان كثير لأنه يولد حرا لو ثبت ما قال وقوله أنت حر يوجب الحرية فى الحال وكان المعنى فى المستعار منه أبلغ منه فى المستعار لذلك وصحت الاستعارة قال وإنما استعملنا على جهته المجاز لأن المجاز أحد فسمى الكلام استعمالا على ما مر إلا أن الحقيقة ما سبقهما ثبوتا فإذا تعذرت الحقيقة بصرفه دلالة تعين المجاز مرادا وحمل الكلام عليه وهذا الذى ذكره لا يعرف فى استعمال المجاز ولم يذكر فى كتاب من كتب اللغة وإنما الاستعارة فى الكلام ضرب من التوسع وليظهر براعة المتكلم وحسن تصرفه في الكلام واقتداره عليه وليس لأن الاستعارة أفادت معنى زائدا على ما يفيده حقيقة الكلام إلا ترى أنهم تكلموا بالصريح والكناية وقد استكثروا من الكناية على حسب ما استكثروا من الاستعارة ومعلوم أن الكناية لا تفيد زيادة على ما يفيده الصريح ولا يقال أنهم لما تركوا الصريح مع قدرتهم عليه وجب أن يكون تركهم الصريح إلى الكناية لنوع فائدة لا توجد فيه بل قيل أنه ضرب من التوسع فى الكلام ونوع من البراعة واللمس واقتدار على تصاريف الكلام وفنونه والدليل على أن ما قالوه ليس بشرط أنهم استعاروا لفظ المس للوطء ولفظ القربان للدخول ونحن نعلم قطعا أنه ليس فيه زيادة على ما يفيده لفظ الجماع بل للفظ الجماع والوطء وصريح لفظ النيل من الزيادة على هذه الألفاظ وكذلك لفظ الخيط الأبيض والأسود استعير لضوء النهار وسواد الليل وليس لمعناه زيادة على معنى الضوء والظلام إلا أنا مع هذا كله لا ننكر أن يتفق مثل ما قالوه اتفاقا فإما أن يكون ذلك من شرطه فلا وأما قولهم أنه يقال للشجاع أسد وللبليد حمار وللشرير كلب والمعنى الذى استعير لأجله هذه الأسامى أبلغ فى هذه المعانى قلنا فى هذه الصورة قدر كاف التشبيه فكأنه قيل شجاع كالأسد وللبليد كالحمار أو شرير كالكلب وإنما يشبه الشىء بالشىء فى المعنى إذا كان المشبه به أبلغ فى ذلك المعنى فأما الاستعارة باب آخر وقد ذكرنا أن ما ظاهره ليس بشرط بوجه عام وأما الذى قالوه فى أول الفصل أن الكلام لا يجوز أن يراد به الحقيقة والمجاز وقد بينا وجه صحة ذلك وذكرنا من أصولهم ما ينقض أصلهم الذى زعموه وأما استعمال لفظ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 الهبة والبيع فى عقد النكاح فلا يجوز لأن الاشتراك فى المعنى لم يوجد وكذلك السببية التى يدعونها لم توجد أيضا لأن ملك المتعة نكاحا غير ملك المتعة يمينا ويظهر ذلك بأحكامها فعلى هذا لا تكون الهبة والبيع سببا لملك المتعة الذى ثبتت بعقد النكاح بوجه ما وأما لفظ الطلاق فقد بينا صلاحيته كناية ومجازا عن لفظ العتاق وأما إذا قال لغلامه وهو أكبر سنا منه هذا ابنى فإنما لم يصح عندنا مجازا عن العتق لأن اللفظ إنما يصلح مجازا إذا كان له حقيقة وهذا اللفظ فى هذا المحل لا حقيقة له لأنه لغو وهذا باب الكلام وأن قلتم أن النسب فى الجملة يوجب العتق فإنما يوجب فى محل يتصور فيه النسب فأما فى محل لا يتصور فيه النسب فلا يوجب العتق وإذا لم يوجب العتق لم يمكن استعمال اللفظ مجازا فى هذا المحل نعم يجوز هذا المجاز فى معروف النسب لأن النسب فيه متصور فإن لم يثبت كان مجازا عن العتق فأما فى هذه المسألة فبعيد جدا. أيضا قد بينا وجوه الكلام بقدر ما ذكر فى أصول الفقه والبيان يتعلق بجميعها فنعود الآن إلى ذكر المجمل وما يقع به بيانه وما ألحق بالمجمل وليس منه فنقول قد ذكرنا حد المجمل وحد المبين وقد قيل أن المجمل ما لا يستعمل بنفسه فى معرفة المراد به وقيل أيضا أنه الكلام المبهم الذى لا يطاوع التقييد أولا ببيان ولا يفهم منه المراد بنفسه حتى فضائه تعين كشف هذه. وقد قال الأصحاب أن المجمل على أوجه1. منها أن يكون اللفظ لم يوضع للدلالة على شىء بعينه2. كقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] . كقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله فإن قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل" 3 فإن الحق يشتمل على أشياء كثيرة وهو فى هذا الموضع مجهول لا يعرف ولا بد فيه من بيان يتصل به.   1 أي أقسام المجمل. 2 انظر نهاية السول 2/508 إحكام الأحكام للآمدي 3/9, 10 المحصول 1/464 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/5. 3 أخرجه البخاري الإيمان 1/94, 95 ح 25 ومسلم الإيمان 1/52 ح 34/21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 ومنها أن يكون اللفظ فى الوضع مشتركا بين شيئين كالقرء يقع على الحيض والطهر فيفتقر إلى البيان1. ومنها أن يكون اللفظ موضوعا لجملة معلومة إلا أن دخلها شيئا مجهول كقوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 1] فإنه قد صار مجملا ما دخله من الاستثناء وفى هذا المعنى العموم الذى علم أنه مخصوص ولم يعلم ما خص منه ومنها أيضا أن يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلا يحتمل وجهين احتمالا واحدا مثل ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الصلاتين2 فى السفر فهو محتمل لأن السفر يحتمل الطويل والقصير فلا يجوز حمله على أحدهما دون الآخر إلا بدليل وكذلك ما روى أن رجلا أفطر فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالكفارة3 وهذا مجمل لأنه يجوز أنه أفطر بجماع ويجوز أنه أفطر بالأكل ولا يجوز حمله على أحدهما دون الآخر لا بدليل فهذه الوجوه لا يختلف المذهب فى إجمالها لافتقارها إلى البيان واختلف المذهب فى ألفاظ فمنها قول الله عز وجل: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة: 275] فعلى حد قول الإمام الشافعى رحمه الله هو مجمل لأن الله تعالى أحل البيع وحرم الربا والربا هو الزيادة وما من بيع إلا وفيه زيادة فافتقر إلى بيان ما يحل وبيان ما يحرم وعلى القول الثانى ليس بمجمل وهو الأصح لأن البيع معقول فى اللغة فحمل اللفظ على العموم إلا ما خصه الدليل ومنها الآيات التى ذكر فيها الأسماء الشرعية وهى قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] وقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] وقوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] فمن أصحابنا من قال هذه الآيات عامة غير مجملة فتحمل الصلاة على كل دعاء والصوم على كل إمساك والحج على كل قصد إلا ما قام الدليل عليه ومن أصحابنا من قال هى مجملة لأن المراد بها معان لا يدل اللفظ عليها فى اللغة وإنما تعرف من جهة الشرع فافتقر إلى البيان مثل قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] وهذا هو.   1 نهاية السول 2/508 إحكام الأحكام للآمدي 3/11 المحصول 1/464 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3,5. 2 أخرجه البخاري تقصير الصلاة 2/675 ح 1107 ومسلم المسافرين 1/488 ح 42/703. 3 أخرجه مسلم الصيام 2/782 ح 83/1111 وأبو داود الصوم 2/324. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 الأصح لأنا بينا هذه الأسماء منقولة من اللغة إلى الشريعة ومنها الألفاظ التى علق التحليل والتحريم فيها على البيان كقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23] فقال بعض أصحابنا إنها مجملة لأن العين لا توصف بالتحليل ولا بالتحريم وإنما الذى يوصف بذلك أفعالنا وأفعالنا غير مذكورة فافتقر إلى بيان ما يحرم من الأفعال وما لا يحرم ومنهم من قال إنها ليست مجملة1 وهو الأصح لأن التحريم والتحليل فى مثل هذا إذا [ .... ] الأفعال مقصورة فى هذه الأيمان ولا يراد أنه إذا قال لغيره هذا الطعام عقل منه تحريم الأكل وكذلك إذا قال حرمت عليك هذا الشراب يعقل منه الشراب فصار المراد معقولا من هذا اللفظ وما عقل من اللفظ لا يكون مجملا فصار هذا الطريق أولى من الأول. ومنها الألفاظ التى تتضمن النفى والإثبات كقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات" 2 وكقوله صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلى بولى" 3 وكقوله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" 4 وكقوله صلى الله عليه وسلم: "لا صيام لمن لا يبيت الصيام من الليل" 5 وما شبه هذا. فقد زعم بعض أصحاب أبى حنيفة أن هذا مجمل لأن الذى نفاه هو العمل أو النكاح أو الصلاة وهذه الأشياء موجودة لا يمكن نفيها فيكون المراد بالنفى نفى صفة غير مذكورة فافتقر إلى بيان تلك الصفة وقال الكرخى وأبو عبد الله البصرى إذا لم يكن المراد به نفى صوة الصلاة والصوم كان المراد بذلك نفى الحكم شرعا فيجوز أنه أراد به نفى حكم الجواز ويجوز أنه أراد به نفى الفضيلة فلا يمكن الحمل عليها جميعا لأن نفى الفضيلة من ضرورته وجود الجواز ولأنه مضمر ودعوى العموم فى المضمر لا يجوز وإذا لم يصح دعوى العموم وجب التوقف إلى أن يعلم المراد وأما أصحابنا فقد زعموا أن هذه الألفاظ ليست مجملة وهو الأصح6 لأن صاحب الشرع لا يثبت ولا.   1 انظر المحصول 1/466 إحكام الأحكام 3/14 نهاية السول 2/519, 520. 2 أخرجه البخاري بدء الوحي 1/15 ح 1 مسلم الإمارة 3/1515 ح 155/1907. 3 أخرجه أبو داود النكاح 2/236 ح 2085 والترمذي النكاح ح 82/ 398 ح 1101 وابن ماجه النكاح 1/605 ح 1881 والدارمي النكاح 1/184 ح 82/2 وأحمد المسند 4/481 ح 19537. 4 أخرجه البخاري الأذان 2/276 ح 756 ومسلم الصلاة 1/295 ح 34/394. 5 تقدم تخريجه. 6 انظر نهاية السول 2/514, 515 المحصول 1/468 إحكام الأحكام للآمدي 3/20, 21 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/7, 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 ينفى المشاهدات وإنما يثبت وينفى الشرعيات فكأنه صلى الله عليه وسلم قال لا عمل فى الشرع إلا بالنية ولا نكاح فى الشرع إلا بولى وذلك معقول من اللفظ فلا يجوز أن يكون مجملا. وزعم جماعة من أصحاب أبى حنيفة أن قوله صلى الله عليه وسلم رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه مجمل لأن ظاهر اللفظ رفع الخطأ والنسيان والإكراه وهذه الأشياء موجودة قطعا فيجب أن يكون المراد منه معنى غير مذكور فافتقر إلى البيان. وأما عندنا فالأصح أنه ليس مجمل لأن معقول المعنى فى الاستعمال1 ويمكن أن يقال أنه معقول المعنى لعلة أيضا لأن المراد من مثل هذا اللفظ رفع المؤأخذة ألا ترى أنه إذا قال لعبد رفعت عنك جنايتك عقل منه رفع المؤأخذة ورفع كل ما يتعلق بهذه الأفعال من التبعات وقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبى رمثة وابنه حين قدما عليه: " أما أنه لا يجنى عليك ولا تجنى عليه" 2 وليس المراد منه رفع صورة الجناية ولكن المراد منه نفى المؤأخذة فإن معناه لا تؤخذ بجنايته ولا يؤخذ بجنايتك وزعم بعض أصحاب أبى حنيفة أيضا فى قوله عز وجل: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] فقوله أيديهما مجمل لأنه يجوز أن يقال أنه أراد من المنكب ويجوز أنه أراد من المرفق ويجوز أنه أراد من الزند لأن الجميع تناوله باسم قطع اليد ويقال أيضا إذا برى القلم وجرح شيئا من أصابعه قطع فلان يده. وقيل فى قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} [يوسف: 31] أنه أراد بذلك خدش اليدين لا القطع حقيقة. والصحيح أن الآية ليست بمجملة بل هى عامة وحملها على القطع من المنكب صحيح لو لم ترد السنة بالقصر على الزند فقد خص ذلك بدليل دل عليه وقال دليل على التخصيص لا يخرج اللفظ من عمومه.   1 انظر إحاكم الأحكام للآمدي 3/18, 19 المحصول 1/472 نهاية السول 2/518. 2 أخرجه أبو داود الديات 4/167 ح 4495 والنسائي القسامة 8/47 باب هل يؤخذ أحد بجريرة غيره؟ وأحمد المسند 4/202 ح 17505. 3 إحاكم الأحكام للآمدي 3/23 المحصول 1/471 نهاية السول 2/522 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 فصل فيما يقع به بيان المجمل . اعلم أن بيان المجمل يقع من ستة أوجه. أحدها بالقول وهو أكبرها وأوكدها كبيان نصيب الزكوات وكقوله صلى الله عليه وسلم: "لا قطع فى كثر" وكقوله: "القطع فى ربع دينار فصاعدا". والوجه الثانى بالفعل مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتمونى أصلى" وكقوله صلى الله عليه وسلم فى الحج: "خذوا عنى مناسككم". والوجه الثالث بيانه بالكتاب كبيانه لأسنان الديات وكذلك ديات أعضاء البدن بالكتاب وكذلك الزكوات وكذلك ما بين بما كتب إلى عماله من الأحكام ومن دعاء الملوك إلى الإسلام. والوجه الرابع بيانه بالإشارة مثل قوله صلى الله عليه وسلم الشهر هكذا وهكذا وهكذا يعنى ثلاثين يوما ثم أعاد الإشارة بأصابعه ثلاث مرات وحبس إبهامه فى الثالثة يكون تسعة وعشرون يوما. والوجه الخامس بيانه بالتفسير وهو المعانى والعلل التى نبه بها على بيان الأحكام كقوله صلى الله عليه وسلم فى بيع الرطب بالتمر أينقص إذا يبس وكقوله صلى الله عليه وسلم فى قبلة الصائم: "أرأيت لو تمضمضت". والوجه السادس اختص العلماء ببيانه عن اجتهادهم وهو ما قدمت فيه الوجوه الخمسة إذا كان الاجتهاد موصلا إليه من أحد وجهين أما من أصل يعتبر هذا الفرع به وأما من طريق أمارة يدل عليه1. فهذه وجوه البيان والله أعلم.   1 انظر المحصول 1/473, 474 إحكام الأحكام 3/34, 35 نهاية السول 2/525, 526, 527 روضة الناظر 163 المعتمد 1/311 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/16, 17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 فصل: وقت البيان ... فصل: وأما الكلام فى وقت البيان. اعلم أن لا خلاف بين الأمة أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة إلى الفعل ولا اختلاف أيضا أنه يجوز تأخير البيان إلى وقت الفعل لأن المكلف قد يؤخر النظر وقد يخطىء إذا نظر فهذان الضربان متفق عليهما لا اختلاف بين أهل العلم فيهما. وإنما اختلفوا فى تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة إلى الفعل فى بيان المجمل وتخصيص العموم ولهذا قال من أصحاب الشافعى أبو العباس بن سريج وأبو سعيد الإصطخرى وأبو على بن أبى هريرة وأبو على بن خيران وطائفة من أصحاب أبى حنيفة وهو قول أبى الحسن الأشعرى واختيار القاضى أبو بكر. والمذهب الثانى: أنه لا يجوز تأخيره عن وقت الخطاب فى بيان المجمل وتخصيص العموم وبه قال من أصحاب الشافعى أبو إسحاق المروزى وأبو بكر الصيرفى والقاضى أبو حامد ومذهب طائفة من أصحاب أبى حنيفة وهو قول أكثر المعتزلة. والمذهب الثالث: أنه يجوز تأخير بيان المجمل ولا يجوز تأخير تخصيص العموم وهذا قول أبى الحسن الكرخى وهو اختيار أبى الحسين البصرى صاحب المعتمد وبهذا قال أصحاب الشافعى. والمذهب الرابع: أنه يجوز تأخير تخصيص العموم ولا يجوز تأخير بيان المجمل وبهذا قال بعض أصحاب الشافعى رحمه الله. والمذهب الخامس أنه يجوز تأخير بيان الأوامر والنواهى ولا يجوز تأخير بيان الأخبار1 حكاه الماوردى عن الكرخى وبعض المعتزلة وعندى أن مذهب الكرخى هو ما قدمنا من قبل قال الماوردى ولم يقل بهذا القول أحد من أصحاب الشافعى رحمة الله عليه. مسألة: واعلم أن الذى ننصره جواز التأخير فى الكل وهو المذهب الأول خلافا لما ذهب إليه طائفة من أصحاب أبى حنيفة وأكثر المعتزلة ونصره عبد الجبار الهمذانى فى العمد وحكاه عن أبى على وأبى هاشم رجلى رجال المعتزلة من المتأخرين.   1 انظر المحصول 1/477 نهاية السول 2/531, 532, 533 إحكام الأحكام للآمدي 3/41, 42, 43 المعتمد 1/315 روضة الناظر 164 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 قال أبو زيد فى أصوله بعد أن جعل البيان أربعة أقسام أن بيان المجمل إذا لم يكن تبديلا ولا تغييرا يجوز مقارنا وطارئا وذكر أن بيان الاستثناء بيان تغيير ولا يجوز طارئا بحال ثم ذكر أن الخلاف بيننا وبين الشافعى فى بيان الخصوص فعندنا هو من قبيل بيان الاستثناء فلا يجوز إلا مقارنا وعند الشافعى هو من قبيل بيان المجمل فيصح مقارنا وطارئا قال ولهذا قال علماؤنا إذا قال أوصيت لفلان بهذا الخاتم ولهذا بفصه بكلام متصل فالفص كله لصاحب الفص ويكون تخصيصه بيانا كالاستثناء ولو فصل وقال وأوصيت لهذا بفصه كان الفص بين الأول والثانى ولا يصير بيانا عند الفصل قال وأما بيان المجمل منفصلا جائز إلا ترى أن أصحابنا قالوا: فيمن أقر لفلان على شىء يكون البيان إليه متصلا ومنفصلا وهو تفسير منهم قالوا: لذلك إذا قال لامرأته أنت بائن فالبيان إليه ويجوز متصلا ومنفصلا وذكر مسائل سوى ما ذكرنا واحتج من أثبت تأخير بيان المجمل بقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] وقال لا يخلو أما أن يكون أراد منها الاعتداد بالطهر أن شاءت أو بالحيض أن شاءت أو أراد منها الاعتداد بواحد منهما بعينه وأى الأمرين أراده فقد أراد منهما ما لا سبيل إلى فهمه من اللفظ لأن اللفظ لا يجنى عن التخير ولا عن واحد منهما بعينه وأن قلتم أنه لم يرد منها شيئا فهو محال ولم يقل به أحد. وقالوا: أيضا لو حسن الخطاب المجمل من غير بيان فى الحال لحسن خطاب العربى بالزنجية مع القدرة على مخاطبته بالعربية وكذلك مخاطبة الزنجى بالعربية فيخاطب ثم لا يبين فى الحال وحين قبح ذلك فليقبح هاهنا أيضا لأنه لا يعرف السامع مراد المخاطب بكلامه فإن قلتم لم يحسن مخاطبة العربى بالزنجية لأن العربى لا يعرف بكلام الزنج شيئا ويعرف بكلام المجمل شيئا وهو أن المتكلم أراد بخطابه إيجاب شىء عليه أو نهيه عن شىء فى الاسم المشترك يعلم أن المتكلم أراد بخطابه أخذ معنى الاسم المشترك قالوا: هذا لا يصح لأنه لا يخلو لنا أن يعتبروا فى حسن الخطاب العلم بكل المراد ويعتبروا العلم ببعض المراد فإن اعتبرتم المعرفة بنقد المراد لزمكم أن لا يجوز تأخير بيان المجمل لأنه لا يمكن مع فقد معرفة كمال المراد وأن اعتبرتم المعرفة ببعض المراد لزمكم حسن المخاطبة العربى بالزنجية لأن العربى إذا عرف بحكمه الزنجى المخاطب له علم أن أراد بخطابه له شيئا أما الأمر وأما النهى وأما غيرهما فهذا دليلهم المعتمد. وقال بعضهم أن المجمل مع البيان بمنزلة الشىء الواحد مثل المبتدأ مع خبره ثم لا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 يجوز فصل المبتدأ من خبره مثل أن يقول زيد ثم يقول بعد مدة قائم كذلك هاهنا لا يجوز أيضا تأخير البيان عن المبين قالوا: وأما تأخير بيان النسخ فنسلم أنه يجوز ولكن للفصل بينهما أن تأخير بيان النسخ لا يخل بالمعرفة بصفة العبادة فلم يمكن أداؤها وأيضا فإن النسخ بيان مدة الحكم وحقيقته سقوط الأمر عنه عند وجود مدة ينتهى إليها والخطاب المطلق يعلم قطعا أن حكمه يرتفع عنه لعلمنا بانقطاع التكليف وليس كذلك العموم لأنا لا نعلم خصوصه بإطلاقه وكذلك المجمل لا نعلم بيانه بإطلاقه. وأما الذين منعوا تأخير بيان العموم وتأخير المجمل فقد قالوا: بهذا المذهب فى كل كلام له ظاهر وذكروا أنه لا يجوز تأخير بيانه. واستدلوا فى ذلك وقالوا: أن بيان العموم خطاب لنا فى الحال بالإجماع ولا يخلو المخاطب أما أن يقصد أنها منا فى الحال أو لا يقصد ذلك فإن لم يقصد أنها منا بطل كونه مخاطبا لنا ونحن نعلم أنه باللفظ العام قصد اتهامنا وأنه لو لم يقصد اتهامنا كان عبثا لأن الفائدة فى الخطاب إفهام المخاطب ولأنه لو جاز لا يقصد إفهام المخاطب بالخطاب لجازت مخاطبة العربى بالزنجية وهو لا يحسنها إذا كان غير واجب إفهام المخاطب على زعمكم وليس من هذا الخطاب إلا ترك إفهام المخاطب وأن كان أراد اتهامنا فى الحال فلا يخلو أما أن يريد أن يفهم مراده على ظاهر اللفظ وعلى غير ظاهر اللفظ فإن أراد منا أن نفهم على ظاهر اللفظ فلفظه فظاهره العموم وهو مخصوص عنده فقد أراد منا اعتقاد غير الحق وأن أراد منا أن نفهم على غير ظاهره وهو بعد لم ينصب دليلا على تخصيصه فقد أراد منا أن من ما لا سبيل إليه فيكون تكليف لنا كما ليس فى وسعنا وطاقتنا وهذا باطل قالوا: فعلى هذا لا بد أن يبين لنا الخصوص متصلا بالعموم أو يشعر بالخصوص وكذلك النسخ لا بد أن يشعر بالنسخ وهذا لأن الخطاب مع هذا الإشعار يصير مفيدا فى الجملة ولا يكون إغراء باعتقاد غير الحق قالوا: والإشعار بالتخصيص أن يقول: اعلموا أن هذا العموم مخصص لا يبين ما الخارج عن العموم أو يقول: جوزوا خصوصه حتى أبينه وقال صاحب هذه الطريقة يجوز تأخير بيان المجمل لأن المجمل لا ظاهر له فلا ينكر الإجمال ثم تأخير البيان لأنه لا يجوز من الحكيم أن يفيد غير مراده على الجملة كما يجوز أن يفيد مراده على التفصيل إلا ترى أن زيدا قد يعلم أن فى الدار عمرا بعينه فيكون له غرض أن يعرفه أن فى الدار عمرا ويكون له غرض أن يعلم خالدا أن فى الدار عمرا ويكون له غرض أن يعرفه أن فى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 الدار رجلا ويكره أن يعرفه أنه عمرو فيقول: أن فى الدار رجلا ولا يبين له أنه عمرو ولغرض له كذلك فى المجمل يكون الأمر هكذا وهو أن يريد المخاطب أن يعلم المخاطب أن عليه حقا فى الجملة ولا يبين فى الحال لمعنى له ثم يبين ذلك فى ثانى الحال فهذا معتمد هؤلاء الطائفة وأما أبو زيد فقال فى هذا الفصل أن لفظ العموم للعموم والاستيعاب على سبيل القطع بلا احتمال خصوص كالألف اسم للعدد لكن ذلك العدد على سبيل القطع بلا احتمال لغيره فيكون التخصيص رفعا للحكم عن بعضه بعد ثبوته كما فى الألف إذا استثنى منها شىء فيكون بيان تعيين مثل الاستثناء ولا يجوز الاستثناء إلا متصلا باللفظ كذلك هذا البيان هذا كله وأما دليلنا فيدل أولا على وجود بيان تأخير المجمل والعموم فى الشرع ويتعلق أولا بقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 18, 19] وكلمة ثم للتراخى وقال تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الانبياء:98] وكان المراد بذلك الأصنام دون عيسى والملائكة عليهم السلام وإنما بين ذلك ببيان التراخى فإن من المزهر الشاعر خاصم فى ذلك على ما ورد فى القصة المعروفة وقال أن دخلها عيسى والملائكة فنحن ندخل أيضا فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الانبياء:101] وهم يقولون على هذا الدليل أن الملائكة وعيسى لم يكونوا دخلوا تحت الآية لأنه تعالى قال: {وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} وما لا يعقل ومن لم يعقل وقد كانت الكفرة متعنتين معارضتهم فيمكن أن يقال أن الاحتجاج صحيح ولو كان الأمر كما قالوا: لبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ولم يسكت حتى نزل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} وتعلق الأصحاب أيضا بقوله تعالى مخبرا عن الملائكة أنهم قالوا: {إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} [العنكبوت: 31] والمراد غير لوط وأهله وتأخير البيان إلى أن قال إبراهيم عليه السلام: {إِنَّ فِيهَا لُوطاً} [العنكبوت: 32] قالوا: نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله قال الله تعالى لنوح عليه السلام: {احْمِلْ فِيهَا} [هود: 40] يعنى فى السفينة من كل زوجين اثنين وأهلك والمراد غير ابنه وتآخر إلى أن قال نوح: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} [هود: 45] وقال الله تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود: 46] وهم يقولون على هذا أن البيان كان معروفا بالخطاب لأن الله تعالى قال: {إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ} [العنكبوت: 31] وهذا اللفظ يخرج لوطا ومن أسلم معه من الخطاب وقد قال تعالى فى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 موضع آخر مخبرا عن الملائكة: {إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ*إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلَّا امْرَأَتَهُ} [الحجر: 58, 60] وكذلك قالوا: فى قصة نوح أن البيان كان مقرونا لأن الله تعالى: {إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} والجواب عن السؤال ممكن بمراجعة إبراهيم ونوح عليهما السلام ولو كان البيان مقرونا لم يكن لمراجعتهما وجزائهما عن ذلك معنى وتعلق الأصحاب بقوله تعالى فى خمس الغنائم: {وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال: 41] تآخر البيان فى إخراج بنى عبد شمس وبنى نوفل إلى أن سأل عثمان بن عفان رضى الله عنه وجبير بن مطعم عن ذلك وهم يقولون على هذا أن آية القربى لا عموم لها لأن القربى تحتمل ضروب قرب وضروب قرابات بنفسه وبأبيه وجده وجد جده إلى آدم عليه السلام فلم يمكن تعميمها وكل لفظ لا يمكن إثبات عمومه يجب التوقف فيصبح البيان فيه متراخيا وهذا ضعيف لأن القرن معلوم يعرف الاستعمال ولم يكن يخفى عليهم وإنما خفى على هؤلاء الأعتام الجهال الذين خلوا من بعد وعلى هذا الدليل فى المجمل قائم. وتعلق الأصحاب أيضا بأمر الله تعالى بذبح بقرة مطلقة فى بنى إسرائيل وتأخير بيان أوصافها إلى أن سألوا وهم يقولون على هذا أنه قد روى عن ابن عباس رضى الله عنهما أنهم لو عمدوا إلى بقرة فذبحوها لكفاهم ولكن شددوا فشدد الله عليهم1. ونحن نقول هذا خلاف ظاهر الآية لأن بنى إسرائيل قالوا: ادع لنا ربك يبين لنا ما هي ثم قالوا: ثالثا: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} ولو كان البيان حصل لم يكن لهذه الأسئلة معنى. وتعلق الأصحاب أيضا بما روى أن جبريل قال للنبى صلى الله عليه وسلم فى ابتداء الوحى اقرأ فقال وما أقرأ ولست بقارىء إلى ثلاث مرات وجبريل عليه السلام يكرر القول وهو يجيب هذا وروى أنه كان يغطه حتى بلغ منه الجهد إلى أن قال اقرأ باسم ربك2 فقد آخر البيان قال الشافعى محتجا أن الله تعالى أثبت المواريث بين الناس ثم أن النبي صلى الله عليه وسلم بين إلا ميراث بين الكفر والإسلام وبين أيضا أن الله تعالى أمرنا بالصلاة مطلقا والزكاة.   1 أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس قاله الحافظ السيوطي انظر الدرر المنثور للسيوطي. 2 أخرجه البخاري التعبير 12/368 ح 6982 ومسلم الإيمان 1/139 ح 252/160 وأحمد المسند 6/259 ح 26014. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 مطلقا وتآخر بيان ذلك وأمرنا بالحج مطلقا وتآخر بيان ذلك حتى حج حجة الوداع وقال: "خذوا عنى مناسككم" 1 وسأل عمر النبي صلى الله عليه وسلم عن الكلالة فقال: "يكفيك آية القيد" 2 وهى الآية التى فى آخر سورة النساء وكان عمر رضى الله عنه يقول: اللهم من يبين لهم فإن عمر لم يبين وأمثال هذا تكثر فهذه الظواهر والنصوص دلائل سمعية وفيها مقتصر لو اقتصرنا عليها ثم مع هذا نبين من الدلائل العقلية ما يدل على ما ذكرناه فنقول أن البيان ما يجب لتمكن المكلف من إذا ما كلف والتمكين من ذلك غير محتاج إليه عند الخطاب وإنما يحتاج إليه قبل التعليق بلا فعل فلم يجب تقديمه عند الخطاب وهو كالاقتصار على الفعل فإنه لما كان ليتمكن من أداء الفعل لم يجب تقديمه على وقت الحاجة إلى الفعل وأيضا لو صح تأخير البيان لكان وجه متجه فقد بين المكلف ما أمر به وذلك يقتضى فتح الخطاب إذا لم يبين المكلف وأن بين له ولا يقال أنه إذا لم يبينه فقد أتى بالجهل من قبل نفسه بخلاف إذا لم يبين له ذلك وذلك لأن الجهل لا يختلف سواء أتى الإنسان ذلك من قبل نفسه أو من قبل غيره إلا أن الإنسان سقط تكليفه إذا مات سواء أماته الله تعالى أو قتل نفسه. ودليل آخر معتمد أنه لو قبح تأخير البيان لكان وجه متجه أنه لا يمكن للسامع له أنه يعرف به كمال المراد ولو قبح ذلك لقبح تأخير بيان النسخ أيضا لأنه فى معناه وهو أنه لا يعرف به كمال المراد مثل التخصيص. يبينه أن النسخ تخصيص من حيث الزمان وتخصيص العموم تخصيص من حيث الأعيان. أما الجواب عن دلائلهم أما ما تعلقوا به من أنه أمر بالاعتداد. قلنا نقول أن الله عز وجل إنما أراد بالآية اعتداد النساء بواحد بعينه من الطهر والحيض إلا أنه لو لم يرد من المخاطبين أن يفهموه فى الحال لأنه لم يدلهم فى الحال بلفظ الحيضة فيريد منهم فهمه وإنما دلهم على الجملة فهو يريد منهم فهم الجملة كما لو كان اعتد بواحد من أحد شيئين بعينه أما الطهر وأما الحيض وسأبين ذلك وكما لو قال.   1 أخرجه مسلم الحج 2/943 ح 310/1297 وأبو داود المناسك 2/207 ح 1970 وأحمد المسند 3/390 ح 14432. 2 أخرجه مسلم الفرائض 3/1236 ح 9/1617 وانن ماجه الفرائض 2/910 ح 2726 وأحمد المسند 1/33 ح 180. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 القائل لغيره اضرب رجلا واعلم أنه رجل معين وسأبين ذلك وكما لو علم أن زيدا فى الدار وأراد إعلام عمرو أن فى الدار رجلا فإنه قد عنى به زيدا ولم يرد أن يعرفه أنه زيدا. وأما الثانى الذى قالوه وهو تعلقهم بكلام العربى الزنجى بالعربية أو الزنجى العربى بالزنجية فهذا تعلق فاسد والفرق بين الموضعين أن العرب لا تعرف ما وضع له خطاب الزنج فلم يحسن أن يخاطبه به منفصلا عن بيان ذلك الخطاب أما أن يكون أمرا أو نهيا أو خبرا أو استخبارا أو غير ذلك والسامع من العرب غير متمكن من معرفة ذلك وأما هاهنا فإن المخاطب بالمجمل متمكن من معرفة ما يفيده الخطاب فى الجملة فإنه يعلم أنه أمر أو نهى أو خبر أو استخبار أو غير ذلك وكذلك يعرف ما وضع له الاسم المشترك لأنه وضع لواحد من هذين على انفراده وتصور هذا فى القرء فإنه يعلم أنه يريد بالخطاب أما الاعتداد بالطهر أو الاعتداد بالحيض ألا ترى أن القائل إذا قال للمرأة أريد منك أن تعتدى بشىء يعنى من شيئين أما الطهر وأما الحيض فإنها قد فهمت معنى هذا الخطاب من التردد بين الطهر والحيض وأنها مأمورة بالاعتداد بأحد هذين وكذلك فى قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] يفهم المخاطب أن المراد بالخطاب إيجاب شىء فى ماله وهذا مثل قول القائل فى الدار رجل فإنه يعلم بهذا وجود شخص بوصف الدخول فى الدار وأن لم يعلم حقيقة وهذا لأن الأمر ابتلاء فإذا لزمه أن يعتقد أن الله تعالى أراد منه حقا فى ماله وقد حصل الابتلاء وهذا لعلة أعظم من الابتلاء بالعقل. قال أبو زيد فى أصوله وهذا كما أن فى القرآن ما هو متشابه أجبنا عن بيانه وقد صح وروده لإيجاب اعتقاد الحقيقة فى الجملة قال ولهذا لو قال لفلان على شيئا يكون البيان إلى المقر منفصلا ومتصلا لأنه تكلم بكلام مجمل وإذا قال لفلان على ألف درهم وفى البلد نقد يختلف كان البيان إليه منفصلا ومتصلا وإذا قال لامرأته أنت بائن فالبيان إليه متصلا ومنفصلا وأما كلامهم فى منع تأخير بيان التخصيص للعموم فنحن نقول إذا ثبت جواز بيان تأخير المجمل ثبت جواز تأخير بيان التخصيص لأن فى الموضعين الموجود بيان متصل بما يحسن فيه البيان. والذى قالوا: أنه يريد إفهام المخاطب أو لا يريد. قلنا يريد به إفهامه وقد فهم بالمجمل شيئا فى الجملة وهو الخطاب بإيجاب شىء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 عليه وفارق هذا فصل المتكلم بالزنجى مع العربى لأنه لا يفهم منه شيئا ما. وأما قوله أنه كيف يريد إفهامه مقتضى اللفظ من العموم وأن لم يتصل به دليل يوجب التخصيص والخطاب على هذا الوجه حسن إلا ترى أن لو صرح به حسن فكذلك إذا لم يصرح به وأراده صح أيضا وعلى أن فصل النسخ داخل على ما قالوه وليس لهم على فصل النسخ عذر بيان وقولهم أنه يموت هوش لأن أمده ينقضى بموته إذا مد كل إنسان مدة حياته وأما النسخ فيه قطع الأمد الموت إنهاء الأمد فكيف يتشابهان وأما الذى قالوا: أنه لا بد من إشعاره بالنسخ فنقول مخترع لم يقل به أحد ويبطل بما ورد من نسخ تحليل الخمر ونسخ التوجه إلى بيت المقدس وما أشبه ذلك فإنه قد صح هذه الوجوه من النسخ ولم يتقدم إشعار بذلك من قبل ولا يمكنهم دعوى وجوده فبطل هذا وأما طريقة أبى زيد فضعيفة ولا نسلم أن لفظ العموم فيما يتناوله من الأعيان مثل لفظ الألف فى الأعداد التى اشتمل عليها وإنما العموم مجرد ظاهر فيما يتناوله من الأعيان وهو محتمل الخصوص وتأخير بيان التخصيص عنه لا يمنع منه شرع ولا عقل وهذا خير الكلام فى البيان وما يتصل به القول فى أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم وما يتصل بها يذكر أو لا مقدمة فنقول اعلم أن الأفعال على ضربين. أحدهما ما لا صفة له زائدة على وجوه وهو كبعض أفعال التناهى وبعض أفعال الناس فقد لا توصف بحسن ولا قبح وهذا الفعل الذى لا مضرة فيه ولا منفعة من فعل النائم والساهى وأما ما يكون من أفعال الساهى فيه مضرة أو منفعة فقد قال بعضهم أنه لا بد أن يوصف بالحسن أو القبح وقال بعضهم لا يوصف بشىء من ذلك وهذا هو الأولى لأن الحسن والقبح يتبع التكليف فمن لا يكون عليه تكليف لا يوصف فعله بشىء من هذين وعلى هذا كل فعل يفيد زمن لا تكليف عليه. وأما الضرب الثانى وهو أفعال المكلفين فينقسم خمسة أقسام واجب وندب ومباح ومحظور ومكروه وقال بعضهم ينقسم إلى قبيح وحسن ثم ينقسم القبيح إلى مكروه ومحظور والحسن إلى مباح وندب وواجب وقد بينا حدود هذه الأشياء ثم اعلم أن الواجب والندب والمباح يصح وقوعها من جميع المكلفين فأما المحظور فقد اتفقوا على صحة وقوع ذلك من بنى آدم وهل يصح وقوع ذلك من الملائكة فذهبت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 المعتزلة1 وكثير ممن سواهم إلى أنه لا يصح وقوع ذلك منهم وتعلقوا بقوله تعالى: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6] وعند أهل السنة أنه يصح وقوع ذلك منهم بدليل قصة إبليس وقد كان من الملائكة وقصة هاروت وماروت وقد كانا من الملائكة وأما قوله تعالى: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6] فيجوز أن يكون ذلك فى طائفة منهم أو فى زمان مخصوص والله أعلم وأما الأنبياء عليهم السلام فلا يصح منهم وقوع الكبائر لعصمة الله تعالى إياهم عن ذلك فأما الصغائر فقالوا: لا يصح منهم وقوع ما ينفر عنهم مثل الكذب وما يضع من أقدارهم وما يدعوا إلى البعد عنهم مثل الغلظة والفظاظة ولا يصح منهم أيضا وقوع ما ورد السمع بحظره عليهم من الكبائر وقول الشعر فى حق نبينا صلى الله عليه وسلم. وعندى أن هذا الحد لا يصح فى حق سائر الأنبياء وقد ورد السمع بحظر الأكل من الشجرة وصح منه ذلك وأما ما عدا ما ذكرناه من الصغائر فقد أبى بعض المتكلمين وقوع ذلك من الأنبياء أيضا والأصح أن ذلك يصح وقوعه منهم ويتداركون ذلك إبان موته قبل اخترام المنية وأما الخطأ والسهو فيجوز وقوع ذلك من الأنبياء وقد حمل كثيرا مما فعلوه مما حكى الله تعالى على ذلك وفى الباب خطب كثيرة وليس هذا موضعه. وإذا تقرر هذا رجعنا إلى أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم فنقول أفعاله على ثلاثة أضرب. أحدها: حركاته التى تدور عليها هواجس النفوس كتصرف الأعضاء وحركات الجسد فلا يتعلق بذلك أمر باتباع ولا نهى عن مخالفة. والضرب الثانى: أفعاله التى لا تتعلق بالعبادات كأحواله فى مأكله ومشربه وملبسه ومنامه ويقظته فيدل فعل ذلك على الإباحة دون الوجوب. وأما الضرب الثالث: ما اختص بالديانات وهو على ثلاثة أضرب. أحدها: ما يكون بيانا. والثانى: ما يكون تنفيذا وامتثالا. والثالث: ما يكون ابتداء شرع فأما البيان فحكمه مأخوذ من المبين فإن كان المبين واجبا كان البيان واجبا وأن كان ندبا كان البيان ندبا ويعرف أنه بيان بأن يصرح بأنه بيان كذلك ويعلم فى القرآن أنها مجملة تفتقر إلى البيان ولم يظهر بيانها بالقول فنعلم أن.   1 انظر المعتمد 1/342 المحصول 1/501 إحكام الأحكام للآمدي 2/242 نهاية السول 3/7 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 87. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 هذا الفعل بيان لها والثانى أن يفعل امتثالا وتنفيذا له فيعتبر أيضا بالأمر وأن كان الأمر على الوجوب علمنا أنه فعل واجبا وأن كان الفعل على الندب علمنا أنه فعل ندبا والثالث أن يعمل ابتداء من غير سبب ولم يوجد منه فى ذلك أمر باتباع ولا نهى عنه فاختلف أصحابنا فى ذلك على ثلاثة مذاهب وكذلك سائر الفقهاء والمتكلمين وهذا الاختلاف فيما يرجع إلى حقوق الأمة. المذهب الأول: أن اتباعه فى هذه الأفعال واجب على الأمة إلا ما خصه ذلك وهذا مذهب مالك والحسن وبه قال من أصحاب الشافعى أبو العباس بن سريج والإصطخرى وأبو على بن أبى هريرة وأبو على بن خيران وهذا هو الأشبه بمذهب الشافعى رحمة الله عليه وبهذا قال من أصحاب أبى حنيفة أبو الحسن الكرخى وهو قول طائفة من المتكلمين. والمذهب [الثانى] 1: المستحب للأمة اتباعه فى هذه الأفعال ويندب إلى ذلك ولا يجب وهو قول الأكثر من أصحاب أبى حنيفة وهو قول أكثر أهل المعتزلة وبه قال من أصحاب الشافعى أبو بكر الصيرفى وأبو بكر القفال. والمذهب [الثالث] 2 أن الأمر فى ذلك على الوقف حتى يقوم دليل على ما أريد منا فى ذلك وإلى هذا ذهب أكثر الأشاعرة واختاره من أصحاب الشافعى أبو بكر الدقاق وأبو القاسم بن كج3.   1 سقط من الأصل. 2 ثبت في الأصل "الأول". 3 لا خلاف بين العلماء في أن أفعله صلى الله عليه وسلم إذا كانت مما تقتضيه الجبلة والطبيعة كالقيام والقعود والأكل والشرب لا تدل على الإباحة بالنسبة له ولأمته. ولا خلاف بينهم أيضا في أن ما ثبت خاصا به عليه السلام لا يتعداه إلى أمته كتزوجه بأكثر من أربع سنوة ودخوله حلالا ووجوب التهجد والمشاورة. ولا نزاع بينهم أيضا في أن فعله المبين للمجمل الذي علمت صفته من الوجوب والندب يكون حكمه حكم ذلك المجمل الذي بينه الفعل فإن كان واجبا كان الفعل واجبا وإن كان مندوبا كان الفعل مندوبا لأن المبين يأخذ حكم المبين. وإنما الخلاف بينهم في أفعاله عليه السلام التي لم يقم دليل على اختصاصها به وليست من الأفعال التي تقتضيها الطبيعة البشرية ولم تكن بيانا لمجمل معلوم الصفة. وجملة ما قالوه في ذلك أن الفعل إذا لم تعلم صفته من الوجوب أو غيره إما أن يظهر فيه قصد القربة أو لا يظهر فيه ذلك .......... = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 ............................................................................   = فإن ظهر فيه قصد القربة ففيه أقوال ثلاثة: أحدها: أنه يفيد الندب وهو المختار للإمام الرازي والبيضاوي وابن الحاجب. ثانيهما: أنه يفيد الوجوب وهذا القول نقله القرافي عن مالك رضي الله عنه. وإن لم يظهر في الفعل قصد القربة: ففيه أقوال الأول: يدل على الإباحة وإليه ذهب الإمام مالك وابن الحاجب وجماعة. ووجتهم في ذلك: أن الفعل باعتبار صدوره عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يخلو حكمه عن واحد من أمور ثلاثة: الوجوب أو الندب أو الإباحة ولا يكون فعله محرما لأنه كبيرة والرسل معصومون من الكبائر ولا يكون مكروها كذلك لأن صدور المكروه من عدول المسلمين نادر فكيف بمن هو أشرف الخلق أجمعين ولا سك أن كلا من الوجوب والندب جانب الفعل فيه أرجح وجانب الترك مرجوح والأصل استواء الفعل والترك من غير رجحان لأحدهما على الآخر: فلا يكون الفعل واجبا ولا مندوبا لأن ذلك خلاف الأصل وهو لا يثبت إلا بدليل والمفورض أنه لا دليل لواحد منهما فلم يبق إلا الإباحة نوقش هذا: بأن الغالب في أفعاله عليه السلام التي علمت صفتها الوجوب أو الندب والإباحة قليلة بالنسبة إليهما فإذا وجد فعل لم تعلم صفته وجب أن يلحق بالكثير الغالب وهو الوجوب أو الندب ولا يلحق بالقليل وهو الإباحة لأن الحمل على القليل فيه عمل بالمرجوح وترك للراجح وهو مخالف لما تقتضيه العقول السليمة وبذلك تنتفي الإباحة ويثبت إما الوجوب أو الندب. القول الثاني: يدل على الندب وإليه ذهب الشافعي واستدل عليه بقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} ووجه الدلالة من الآية: أن الله قال "لكم" ولم يقل: "عليكم" وهذا مشعر بأن الاقتداء به عليه السلام في الفعل الذي لم يقم دليل عليه وجوبه ليس واجبا لانتقاء ما يدل على الوجوب وهو "عليكم" ووصف الأسوة بأنها حسنة وذلك يوجب رجحان الاقتداء به عليه السلام على ترك الاقتداء به فتنتفي الإباحة لانتفاء استواء الطرفين "الاقتداء وعدم الاقتداء" كما ينتفي كل من التحريم والكراهة لأن جانب الترك فيها راجح والثابت من الآية ترجح جانب الفعل فلم يبق بعد ذلك من الأحكام إلا الندب وهو المطلوب. نوقش بأن التأسي والاقتداء والمتابعة ألفاظ مترادفة معناها: الإتيان بمثل الفعل الذي فعل على الوجه الذي فعل عليه من الوجوب أو الندب أوالإباحة فهذه الأمور الثلاثة لا تكون إلا في الفعل المعلوم الجهة وبما أننا نتكلم في الفعل الذي لم تعلم جهته تكون الآية في غير محل النزاع. القول الثالث: يدل على الوجوب وإليه ذهب بعض الشافعية كابن سريج وابن خيران وأبي سعيد الإصطخري. واستدلوا على ذلك بالكتاب والإجماع. أما الكتاب فقوله تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ} ووجه الاستدلال أن: {اتَّبِعُوهُ} في الآية أمر والأوامر يدل على الوجوب لأنه لا قرينة تصرفه ......... = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 مسألة: التأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم عندنا واجب فى القرب. وعند من ذكرناه لا يجب1 واستدل من ذهب إلى ذلك بوجوه من الدليل وقالوا: تقدم أولا معنى التأسى فمعناه أن يفعل صورة ما فعله على الوجه الذى فعله لأجل أنه فعل وما لم يكن على هذا الوجه لا يكون تأسيا وقالوا: يدل أولا أنه لا يجب علينا أن.   = عنه إلى غيره فكانت متابعة الرسول واجبة من غير فرق بين ما علمت صفته وما جهلت وبذلك يكون الفعل غير معلوم الصفة واجبا ويجاب عن هذا بأن الآية ويجاب عن هذا بأن الآية في غير محل النزاع لأن المتابعة كما تقدم لا تتحقق إلا في الفعل الذي علمت جهته وموضوع الخلاف الفعل مجهول الجهة. وأما الإجماع فإن الصحابة رضوان الله عليهم اتفقوا على وجوب الغسل من التقاء الختانين بدون إنزال بعد أن كانوا مختلفين فيه ومستندهم في الاتفاق قول عائشة رضي الله عنها لمن سألها عن ذلك فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلنا فلو كان فعله عليه السلام غير مفيد للوجوب ما أجمع الصحابة على وجوب الغسل مما ذكر لمجرد فعله عليه السلام ذلك ولوجد منهم من يقول بالندب أو الإباحة لأن الفعل من حيث هو محتمل وأجيب عن هذا بأن الصحابة لم يجمعوا على ذلك لمجرد الفعل بل لأن فعل الرسول صلى الله عليه وسلم هذا يعتبر من باب المناسك وهم مأمورون بأخذ المناسك عنه لقوله عليه السلام: "خذوا عني مناسككم" فيكون فعله عليه السلام مبينا لواجب فيكون واجبا تبعا لما بينه وبذلك يكون الدليل في غير محل النزاع كذلك لأن الفعل المبين لما هو معلوم الصفة ليس من محل النزاع. القول الرابع: وهو المختار للبيضاوي والصيرفي وجماعة الوقف بمعنى أنه لا يحكم لا بالوجوب ولا بالندب ولا بالإباحة حتى يدل الدليل الخاص على واحد من هذه الأمور. ووجهتم في ذلك أن فعله عليه السلام محتمل للوجوب والندب والإباحة وأنه ليس خاصا به بل الأمة مثله في ذلك ومحتمل لأن يكون خاصا به فلا تكون الأمة تابعا له فيه وليس هناك ما يعين واحدا من هذه الأمور السابقة فوجب التوقف وعدم الحكم بشيء بخصوصه حتى يقوم الدليل عليه دفعا للتحكم ويمكن لأصحاب المذاهب السابقة أن تناقش هذا الدليل فتمنع احتمال الخصوصية بأن الأصل عدمها ثم يعين كل واحد منهم ما اختاره من الندب أو الإباحة أو الوجوب بالدليل الذي ساقه عليه. فلا يتم للواقف مدعاه وللواقف أن يرد هذه المناقشات بأن الأدلة السابقة لم تسلم من المناقشات فلم تثبت مدلولاتها فلا عبرة بها وبذلك يسلم دليل الواقف مما ورد عليه ويترجح مذهبه لترجيح دليله انظر البرهان 1/487, 488, 489 وإحكام الأحكام للآمدي 1/245 والمعتمد 1/343 نهاية السول 3/17 المحصول 1/502 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/88, 89, 90. 1 انظر البرهان 1/488 المحصول 1/511 إحكام الأحكام للآمدي 1/245 المعتمد 1/353, 354 نهاية السول 3/18, 19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 نفعل مثل ما فعله على جهة الواجب فنقول أنه لا يجوز أن يعلم ذلك بالعقل لأنه لو علم ذلك بالعقل لكان من أحد الوجهين أما أنه لا يجوز أن يختص بوجوب شىء عليه وما وجب عليه لا بد من كونه واجبا علينا أو لأنا إذا لم نتبعه فى أفعاله أدى ذلك إلى التنفير عنه والأول باطل لأنه عليه السلام إنما تعبد بالفعل لأنه مصلحة له ولسنا نعلم وجه كونه مصلحة حتى نعلم شياعه فى جميع الناس وهذا لأنه ليس يجب اشتراك المكلفين فى المصالح فيجوز أن يكون هذا الفعل مصلحة له ولا يكون مصلحة لنا إلا ترى أنه قد أبيح له ما لم يبح لنا مثل العدد فى الأنكحة والصفى من المغنم وغير ذلك وقد أوجب عليه ما لم يوجب علينا مثل قيام الليل والوتر والتضحية وغير ذلك والثانى باطل لأنه أما أن يقال أن التنفير يحصل إذا فارقناه فى فعل واحد أو يحصل إذا فارقناه فى جميع الأحوال والأول لا يصح لأن المفارقة قد حصلت فى أشياء كثيرة مثل المفارقة فى صلاة الضحى والمناكح فقد حصل التنفير إذا والثانى لا يصلح لأنه إذا كان التنفير يحصل بالمفارقة فى جميع الأفعال لا فى بعض الأفعال فلا بد من دليل غير العقل يميز لنا ما تعبدنا به من أفعاله وبين ما لم نتعبد به ولأنه لو قال اعلموا إنما تفعلوه مصلحة لكم دونى أو ما أفعله مصلحة لى دونكم لم يكن هذا مؤديا إلى التنفير فكذلك ما ذكرناه لا يؤدى إلى التنفير أيضا. قالوا: وليس الأفعال كالأقوال من الأوامر والنواهى لأن الأقوال موضوعة لمعان معلومة على ما ذكرناه من قبل فإذا لم يقتض ذلك الإيجاب أو التحريم علينا إذا كان أمرا ونهيا يطلب معانيها وهذا لا يوجد فى الأفعال لأن الأفعال مفيدة صحيحة فى حق فاعليها فالقول فى ترك إيجاب أمثالها علينا لا يؤدى إلى إبطالها وإلغائها وإذا ثبت أنه لا يجب التأسى به من حيث العقل وأن عرفنا أنه فعل واجبا فكيف يجب علينا أنه فعل ما فعل على وجه الوجوب وهذا لأنا إذا لم نعلم الجهة التى فعل عليها لم يكن ما يفعله تأسيا لوجه ما إلا ترى أنه لو صار واجبا فتطوعنا لم نكن متأسين به وكذلك إذا فعل تطوعا وفعلنا فرضا لم نكن متأسين به أيضا وحرفهم فى هذا الدليل أنه لا دليل على ما قلتم من وجوب التأسى لا من حيث العقل ولا من حيث السمع فسقط لعدم الدليل واستدلوا أيضا بأنه لو دل فعله على وجوب مثله علينا لدل على وجوب مثله عليه وحين لم يكن دليلا عليه فلا يكون دليلا علينا لدل أنه كان واجبا عليه لأنا إنما نفعله تبعا له فإذا لم يدل على أنه كان واجبا عليه فالأولى أن لا يدل على أنه يجب علينا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 مثله وإذا ثبت انتفاء الوجوب علينا مجرد فعله فقد قال بعضهم أن فعله1 يدل على الإباحة لأنها أقل الأحوال2. وقل بعضهم3 يدل على الندب4 لأن الكلام فى القرب وأدنى أحوال القرب الندبية فأخذنا بها أخذ باليقين ومنهم من يوقف ليقوم الدليل على أحد هذه الأمور وأما دليلنا فاعلم أن المعتمد هو الاستدلال بالشرع فى وجوب الاتباع والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158] وقال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} [الأعراف: 157] الآية وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] فأمر الله تعالى فى هذه الآيات باتباعه واتباعه قد يكون فى قوله وقد يكون فى فعله فكان بيان الشريعة من جهته واقعا بالأمرين جميعا إلا ترى أنه صلى الله عليه وسلم قال: "صلوا كما رأيتمونى أصلى" 5 وقال: "خذوا عنى مناسككم" 6 والصلاة والحج من الأحكام المجملة وقد حصل بيانها بالفعل فثبت أن مجمل الفعل فى البيان محل القول وأن من اتبعه فى فعله كان كمن اتبعه فى قوله وإنما يكون بيان الفعل أوكد من بيان القول. ألا ترى أنه إذا أمر بشىء فأراد تحقيقه حققه بفعله كحلقه حين أحصر عام الحديبية وقد كان أمر فلم يفعلوا وتربصوا وتوقفوا فلما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم تبادر الناس عند ذلك إلى الحلق فدل أن الفعل من المكانة فى القلوب ما ليس للقول ومما يدل أن محل فعله محل قوله أنه عليه السلام لما سئل عن القبلة للصائم فقال أنا أقبل وأنا صائم فقال السائل إنك لست كأحدنا فغضب وقال: "أرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بحدود الله" 7 ولما قيل لابن عمر أن ناسا يقولون إذا قعدت لحاجتك فلا تستقبل.   1 أي المجرد. 2 وهذا مذهب مالك وجزم به الإمام الرازي انظر نهاية السول 3/21. 3 وهو قول الشافعي انظر نهاية السول 3/12. 4 وقد قال بالوجوب أبو سعيد الإصطخري وابن خيران من الشافعية واختاره الإمام فخر الدين الرازي في معالم السنة انظر نهاية السول 3/21, 22. 5 أخرجه البخاري الأذان 2/131 ح 631 والدارمي الصلاة 1/317 ح 1253 وأحمد المسند 5/65 ح 20555. 6 تقدم تخريجه. 7 أخرجه مسلم الصيام 2/779 ح 74/1108 ومالك في الموطأ الصيام 1/291 - 292 ح 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 القبلة ولا تستدبرها قال لقد ارتقيت على ظهر بيت لنا فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على اليقين مستقبل بيت المقدس لحاجته1 فاستدل ابن عمر بذلك على جواز فعله ودل به على بطلان قولهم وأجزأه مجزءا قوله لوروده بإطلاقه وإباحته وقد قال عامة أهل العلم قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا صلى الإمام قاعدا فصلوا قعودا أجمعين" 2 بفعله حين أم قاعدا فى مرضه الذى توفى فيه وهم قيام وغفلوا أن نسخ القول واقع بالفعل منه وأنهما فى بيان الشريعة على السواء وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أصبح جنبا فقد أفطر" 3 ثم زاد أنه منسوخ بما روى أنه كان يصبح جنبا ثم يغتسل ويتم صومه وكذلك زاد أنه قوله صلى الله عليه وسلم: "الثيب بالثيب جلد مائة والرجم" 4 منسوخ بترك جلد ماعز والغامدية وأن قوله فى السارق: " فإن عاد فاقتلوه" 5 منسوخ بترك قتله حين أتى فى المرة الخامسة ومن هذا الباب جلوسه صلى الله عليه وسلم: "بين الخطبتين يوم الجمعة" 6 وليس فيه إلا فعله فقط وروى الشافعى رحمه الله فساد الصلاة بتركه7 ومما يزيد ما قلناه بيانا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خلع نعله فى صلاته خلع أصحابه نعالهم فلما سلم قال: "ما لكم خلعتم نعالكم" فقالوا: رأيناك خلعت نعلك فقال: " أن جبريل أخبرنى أن بهما قذرا" 8 وأيضا فإن عمر رضى الله عنه لما قبل الحجر قال إنى أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولكنى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك9 فيرى أن متابعته على الظاهر من فعله واجبة مع علمه أنه لا يقع فيه أكثر من الاتباع وأمثال هذه الأخبار كثيرة فهذه الأخبار تبين أن أفعاله جارية فى بيان الشرع.   1 أخرجه البخاري الوضوء 1/297 ح 145 ومسلم الطهارة 1/224 ح 61/266. 2 أخرجه البخاري الأذان 2/204 ح 689 ومسلم الصلاة 1/308 ح 77/411. 3 أخرجه مسلم الصيام 2/779 ح 75/1109 بلفظ "من أدركه الفجر جنبا فلا يصم" ومالك في الموطأ الصيام 1/290 ح 11 ولفظ الحديث عند مالك. 4 أخرجه مسلم الحدود 3/1316 ح 12/169 وأبو داود الحدود 4/142 ح 4416 والترمذي الحدود 4/41 ح 1434 وابن ماجه الحدود 2/852 ح 2550. 5 أخرجه أبو داود الحدود 4/140 ح 4410 والنسائي السارق 8/83 باب قطع اليدين والرجلين من السارق انظر نصب الراية 3/371. 6 أخرجه البخاري الجمعة 2/471 ح 928 ومسلم الجمعة 2/589 ح 34/862. 7 انظر روضة الطالبين 2/27. 8 أخرجه أبو داود الصلاة 1/172 ح 650 والدارمي الصلاة 1/370 ح 1378 وأحمد المسند 3/113 ح 11883. 9 أخرجه البخاري الحج 3/540 ح 1597 ومسلم الحج 2/925 ح 25/127. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 مجرى أقواله ومن الصحابة رضى الله عنهم كانوا يعتقدون ذلك ويرون أن المبادرة إلى أفعاله فى المتابعة مثل المبادرة إلى أقواله وقد دل على هذا الأصل الكبير قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63] وأمره هو شأنه وذلك مشتمل على أفعاله وأقواله ألا ترى إلى قوله تعالى: {لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا} [يوسف: 15] أى شأنهم وإلى قوله تعالى: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 97] أى شأنه وطريقته ومذهبه وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أدخل فى أمرنا ما ليس فيه فهو رد" 1 يريد دينه وشريعته وأقواله وأفعاله وأن ادعوا أن الأمر حقيقة فى القول مجاز فى الفعل نقول فى هذا الموضع لما كان المعنى الثانى كان منتظما بالقول والفعل على وجه واحد ودل أيضا قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] وهذا على الإلزام والإيجاب بدليل أن أتبعه قوله: {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [الأحزاب: 21] وهذا وعند التعقيب بالمواعيد دليل الوجوب ويبين هذا الجواب عن قولهم أنه لو كان المراد بالآية الإيجاب لقال لقد كان عليكم ولم يقل لكم لأن الذى قلناه من ذكر الوجوب واللزوم والشىء الواجب علينا إذا فعلناه كتب لنا أمره فهو لنا من هذا الوجه وقد دل أيضا على ما ذكرناه قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً} [الأحزاب: 37] فجعل فعله صلى الله عليه وسلم علما على القدرة والأسوة وثبت بالآية أن الائتساء به صلى الله عليه وسلم ثابت على العموم حتى ورد دليل الخصوص إلا ترى أنه لما جاء الخصوص قال تعالى: {إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50] فثبت أن الائتساء وجب شرعا والذى ذكرناه يعرف من الدلائل القطعية التى يحرم خلافها ولا يدخل الاجتهاد فى تجاوزها وعلى هذا الأصل الذى ثبتناه لا يحتاج إلى الجواب عن شىء من كلامهم لأنهم إذا ادعوا انتفاء الوجوب من حيث العقل ونحن ادعينا وجوبه من حيث الشرع ولا ملاقاة بين طرفى الدليلين فوقعت الغنية عن الاشتغال بم ذكروه وأوردوه والله المشكور بالهداية إلى ما يوافق السنة فإن ذكروا شيئا اختص به النبي صلى الله عليه وسلم نقول قام دليل التخصيص مع ذلك فلا يدخل على الأصل الذى أصلناه. فإن قيل لو كان الفعل منه صلى الله عليه وسلم على الوجوب لكان الترك على الوجوب قلنا نقول.   1 أخرجه البخاري الصلح 5/355 ح 2697 بلفظ "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" ومسلم الأقضية 3/1343 ولفظه لفظ البخاري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 إذا ترك النبي صلى الله عليه وسلم شيئا من الأشياء وجب علينا متابعته فيه إلا ترى أنه صلى الله عليه وسلم لما قدم إليه الضب فأمسك عنه أصحابه وتركوه إلى أن قال لهم إنى أعافه وأذن لهم فى تناوله وهذا وجه الكلام فى هذه المسألة وقد تبين جدا وقد رأيت لبعض المتأخرين فى هذه المسألة كلاما مختلطا ورأيته متردد الرأى فى المسألة وأشار إلى طرف مما ذكرناه من أن الصحابة رضى الله عنهم كانوا يبتدرون إلى أفعاله صلى الله عليه وسلم ابتدارهم إلى أقواله وهو صلى الله عليه وسلم إمام الخليقة فى جميع أموره وذكر أنه يبنى فعله على الإيجاب والإلزام أخذا بالأحوط ثم رأيته يميل إلى القول بالإباحة على معنى أنه إذا ظهر منه صلى الله عليه وسلم فعل لم يكن على الأمة حرج أن يفعلوا مثل فعله قال وأما القول بالإيجاب والندب فلا دليل عليهما ونحن نحمد الله عليهما قد دللنا على ذلك بأبين وجه وأظهر مسلك فليعتقد المرء ذلك يجد نفسه على سواء الصراط والله المغنى بمنه. وإذا فعل الرسول صلى الله عليه وسلم شيئا وعرف أنه فعله على وجه الوجوب أو على وجه الندب كان ذلك شرعا لنا إلا أن يدل الدليل على التخصيص بذلك فقال أبو بكر الدقاق لا يكون ذلك شرعا لنا إلا بدليل يدل عليه هكذا ذكر الأصحاب وعندى أن ما فعل فى القرب سواء عرف أنه فعله على جهته أو لم يعرف فإنه شرع لنا إلا أن يقوم الدليل على تخصيصه والذى ذكرناه فى المسألة الأولى دليل في هذه المسألة ولا معنى للإعادة والمعتمد رجوع الصحابة إلى أقواله وأفعاله جميعا على السواء. وإذا ثبت هذا فنقول اعلم أنه يحصل بالفعل جميع أنواع البيان من بيانه المجمل وتخصيص العموم وتأويل الظاهر والنسخ فأما بيان المجمل فهو كما روى من فعله صلى الله عليه وسلم الصلاة والحج وتصمن فعله بيان المجمل الذى فى القرآن وأما تخصيص العموم فهو كما روى أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغيب الشمس1 ثم روى أنه صلى الله عليه وسلم صلى بعد العصر صلاة لها سبب2 وكان ذلك تخصيص عموم النهى وأما تأويل الظاهر فهو كما روى أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن القود فى الطرف قبل الاندمال ثم روى أنه أفاد قبل الاندمال فيعلم أنه صلى الله عليه وسلم أراد بالنهى الكراهة فى وقت دون التحريم وأما النسخ فقد بيناه فى موضعين فلا يفيد وإن تعارض قوله وفعله فى البيان ففيه أوجه من أصحابنا من قال القول أولى من.   1 أخرجه البخاري المواقيت 2/73 ح 586 ومسلم المسافرين 1/567 ح 288/827. 2 أخرجه البخاري السهو 3/126 ح 1233 ومسلم المسافرين 1/571 ح 297/834. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 الفعل لتعديه بصيغته. ومنهم من قال الفعل أولى لأنه أدل وأقوى فى البيان على ما سبق من خبر حلق الرأس فى الحديبية. ومن أصحابنا من قال هما سواء1 وعندى أن هذا هو الأولى ولا بد من دليل آخر لترجيح أحدهما على الآخر ووجه التسوية بينهما ما ذكرنا فى المسألة الأولى وهو اتفاق الصحابة رضى الله عنهم على التسوية بين القول والفعل وأخذهم بيان الشرع منهما على وجه واحد من غير ترجيح والكتاب يدل أيضا على ذلك وهو فى المواضع التى ذكرناها والله أعلم. ونذكر حكم ما أقر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فى عصره فنقول وإذا شاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس على استدامة أفعال فى بيعات أو غيره من معاملات يتعاملونها فيما بينهم أو مأكول أو مشروب أو ملبوس أو أبنية أو مقاعد فى أسواق فأقرهم عليها ولم ينكرها منهم فجميعها فى الشرع مباح إذا لم يتقدم إقراره إنكار لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يستجيز أن يقر الناس على منكر ومحظور كما وصفه الله تعالى فى قوله: {النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} [الأعراف: 157] فدل أن ما أقرعليه داخل فى المعروف خارج عن المنكر فإن مدح فاعله وذم تاركه دل على وجوبه وأن ذم فاعله ومدح تاركه دل على حظره وهكذا لو أمره بالتوبة لأنه لا يأمر بها إلا فى معصية وأن مدح فاعله ولم يذم تاركه دل على استحبابه وهكذا لو وعد فاعله بالثواب أو لم يتوعد تاركه بالعقاب دل على استحبابه وأن لم يمدح فاعله ولم يذم تاركه دل على إباحته وأن أقر فاعلا بعد ذمه على فعل مثله دل على.   1 اعلم ان في هذه المسألة ثلاثة أقوال: القول الأول: وهو رأي الجمهور أن القول هو المبين سواء علم تقدمه وتأخر الفعل أو بالعكس أو لم يعلم شيء من ذلك. القول الثاني: لأبي حسين البصري: وهو أنه عند علم التقدم والتأخر يكون المتقدم هو المبين قولا أو فعلا وعند عدم العلم يجعل القول لجحانه من جهة أنه لا يفتقر في إفادته البيان إلى غيره بخلاف الفعل فإنه يفتقر إلى واحد من الأمور الثلاثة السابقة. القول الثالث: وهو المختار للآمدي: أنه إن علم تقدم القول على الفعل كان القول مبينا وكان الفعل على استحباب الطواف الثاني انظر نهاية السول 3/45, 46 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/18, 19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 إباحته بعد حظره وأن ذم واحدا على فعل وأقر آخر على مثله فإن علم افتراقهما فى السبب تعلق الحظر والإباحة بالسبب الذى افترقا فيه وأن جهل بسبب الافتراق عليه حكم الآخر منهما فإن كان الآخر الإقرار بعد الذم دل على الإباحة بعد الحظر وأن كان الآخر الذم بعد الإقرار دل على الحظر بعد الإباحة وإذا علم من حال مرتكب المنكر الإنكار أن كان الإنكار عليه يزيده إغراء على فعل مثله فإن علم به غير الرسول لم يجب عليه الإنكار لئلا يزداد من المنكر بالإغراء. وإن علم به الرسول ففى وجوب إنكاره وجهان أحدهما لا يجب لهذا التعليل وهو قول المعتزلة والوجه الثانى يجب إنكاره ليزول بالإنكار توهم الإباحة وهذا الوجه أظهر وهو قول الأشعرية من هذا الوجه يكون الرسول مخالفا لغيره لأن الإباحة والحظر شرع مختص بالرسول دون غيره. مسألة وإذا قال الصحابى كانوا يفعلون كذا فهو على ثلاثة أضرب. أحدها أن يضيفه إلى عصر الرسول صلى الله عليه وسلم والآخر إلى عصر الصحابة رضى الله عنهم والثالث أن ينطق فإن أضافه إلى عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وكان مما لا يخفى مثله حمل على إقرار الرسول وصار شرعا وأن كان مثله يخفى كأن يكرر منهم وكثر حمله على إقراره لأن الأغلب فيما كثر منهم أنه لا يخفى عليه كما روى عن أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه قال كنا نخرج صدقة الفطر فى زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا من بر أو صاعا من شعير أو صاعا من تمر1 الخبر وعلى هذا إذا أخرج الراوى الرواية مخرج التكثير بأن قالوا: كانوا يفعلون كذا حمل الرواية على علمه وإقراره فصار المنقول شرعا وأن تجرد عن لفظ التكثير كقوله فعلوا كذا فهو محتمل ولا يثبت شرع باحتمال وأما أن أضيف الفعل إلى عصر الصحابة رضى الله عنهم نظر فإن كان مع بقاء عصر الصحابة لم يكن حجة وأن كان انقراض عصرهم فهو حكاية عن إجماعهم فيكون حجة وأن أطلقه ولم يضفه إلى أحد العصرين نظر فإن كان عصر الصحابة باقيا فهو مضاف إلى عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وأن كان بعد عصر الصحابة فالماضى قبله عصر الصحابة. وإذا قال الراوى من السنة كذا كما قال على رضى الله عنه من السنة أن لا يقتل حر بعبد فقد اختلف فيه الفقهاء فعند أبى بكر الصيرفى من أصحاب الشافعى وأبى.   1 أخرجه البخاري في الزكاة 3/434 الحديث 1506 ومسلم في الزكاة 2/678 الحديث 17/985. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 الحسن الكرخى من أصحاب أبى حنيفة أنه لا يحمل ذلك على سنة الرسول1 لأن الصحابة ربما سنوا بالقياس والاجتهاد أحكاما كما قال على رضى الله عنه جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الخمر أربعين وجلد أبو بكر رضى الله عنه ثمانين فى كل سنة2 وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين من بعدى" 3 وأما مذهب الشافعى رحمه الله أن مطلق السنة ما سنه الرسول صلى الله عليه وسلم وأضافها إلى غيره4 فجاز لا قتدائه فيها بسنة النبي صلى الله عليه وسلم فوجب أن يحمل الإطلاق على حقيقته دون مجازه وأما قول على رضى الله عنه وكل سنة يعنى بالزيادة أنها تقرير جاءت به السنة وقوله صلى الله عليه وسلم: "وسنة الخلفاء الراشدين من بعدى" ما أخبروكم به عن سنتى وأن كان ذلك حجة نظر فإن كان الراوى لذلك صحابيا كان روايته مسندة يجب العمل بها وأن كان تابعيا كان روايته مرسلة فحكمها حكم المراسيل. مسألة: وإذا قال الصحابى أمرنا بكذا أو نهينا عن كذا فلا يوجب هذا أن يقطع بأنه عن الرسول ولا يقطع بأنه ليس عن الرسول صلى الله عليه وسلم لجواز الأمرين. واختلفوا فيما يوجب هذا الظاهر فحكى عن أبى الحسن الكرخى من أصحاب أبى حنيفة وأبى بكر الصيرفى من أصحاب الشافعى أنه يحمل على أنه من الصحابة دون الرسول صلوات الله عليه إلا أن يقوم دليل على أنه من الرسول عليه السلام. ومذهب الشافعى أنه يحمل على أنه من الرسول صلوات الله عليه دون الصحابة5 لأن الصحابة لقربهم من عصر الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا يستعملون هذه اللفظة فى أوامره ونواهيه فوجب أن يحمل على عرف الاستعمال وهذا مثل ما روى عن أنس أنه قال.   1 انظر إحاكم الأحكام 2/139 نهاية السول 3/187, 188 البرهان 1/649 المحصول 2/220 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/130. 2 أخرجه مسلم الحدود 3/1331 ح 38/1707 وأبو داود الحدود 4/162 ح 4480 وابن ماجه الحدود 2/858 ح 2571. 3 أخرجه أبو داود السنة 4/200 ح 4607 والترمذي العلم 5/44 ح 2676 وقال حديث حسن صحيح وابن ماجه المقدمة 1/16 ح 43 وأحمد المسند 4/156 ح 17149. 4 انظر إحاكم الأحكام 2/139 نهاية السول 3/187, 188 البرهان 1/649 المحصول 2/220 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/130. 5 انظر إحاكم الأحكام للآمدي 2/139 نهاية السول 3/186 المحصول 2/219,. 220 روضة الناظر 84 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/130. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 "أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة"1 وهذا محمول على أن الأمر هو النبي صلى الله عليه وسلم. ومنهم من جعل الأمر على الوقف حتى يقوم دليل والصحيح ما قدمنا ومما يلحق بالفصل الذى ذكرناه من قبل أن تقرير النبي صلى الله عليه وسلم غيره على ما يشاهده منه شرع استدل به الشافعى فى إثبات القافة2 من خبر محرز المدلجى ونظره إلى أسامة بن زيد وهما نائمان وعليهما قطيفة وقد بدت أقدامهما فقال هذه الأقدام بعضها من بعض3 وسرور النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وذكره لعائشة رضى الله عنها مستبشرا بقوله ووجه الاحتجاج بالخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يسره إلا الحق وقد قال محرز ما قاله بالقافة فإنه كان معروفا بهذا العلم فلما سره قوله تبين أنه مسلك صحيح وقوله مصدر عما صدر عنه حق وهذا هو الجواب عن قول من قال معترضا على الخبر أن قول محرز كان موافقا للشرع فإن أسامة ولد على فراش زيد والقول الصادر على وفق الشرع لا يكون دليلا على أنه فى نفسه حق وحجة ألا ترى أن الفاسق لو قال أن هذه الدار لفلان وعزاها إلى مالكها فلو قرر الشرع مثل هذا على قولكم لم يكن دليلا على أن قول الفاسق مقبول محكم به. والجواب على هذا ما سبق ويقال: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لو لم يكن معتقدا قبول قول القائف لعده من الزجر والفال وما يقال بالحدس والتخمين ولما أبعد أن يخطىء فى تواضع أن أصاب فى هذا الموضع وكان ينبغى أن لم يكن القافة حقا أن ينبهه على غلط وهو قوله بهذا الطريق حتى لا يتخذه مسلكا يسلكه فى سائر المواضع فيخطىء فى غير هذا الموضع وأن أصاب فى هذا الموضع فمقداره الاحتجاج بالخبر وهو وجه حسن واضح داخل فى أستار القلوب والله أعلم. مسألة: ويلحق بهذا الفصل الكلام فى تعبد نبينا عليه السلام بشريعة من قبله اعلم أنه يجوز أن يتعبده الله تعالى بشريعة من قبله من الأنبياء ويأمره باتباعها ويجوز أن يتعبده بالنهى عن اتباعها ولا لبس فى وجوب هذا أو عدمه استبعاد ولا استنكار ولأن.   1 أخرجه البخاري الأذان 2/92 ح 603 ومسلم الصلاة 1/216 ح 2/378. 2 انظر البرهان 1/498. 3 أخرجه البخاري الفرائض 12/57 ح 6771 ومسلم الرضاع 2/1082 ح 39/1459. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 مصالح العباد قد تتفق وقد تختلف فيجوز أن يكون الشىء مصلحة فى زمان النبى الأول دون الثانى ويجوز أن يكون مصلحة فى زمان الثانى دون الأول ويجوز أن يكون مصلحة فى زمان الأول والثانى وإذا جاز هذا فيجوز أن تختلف الشرائع وتتفق فإن قيل إذا جاء الثانى بمثل ما جاء به الأول لم يكن لبعثه وإظهار المعجزة عليه فائدة لأن الشريعة معلومة من قبل قلنا الله تعالى أعلم حيث يجعل رسالته لا يسأل عما يفعل وهم يسألون وعلى أن فيه فوائد كثيرة منها أنهما وأن اتفقا فى بعض الأحكام فيجوز أن يختلفا فى بعضها ومنها أنه يجوز أن يكون الأول مبعوثا إلى قومه والثانى إلى غيرهم ومنها أن يندر من شريعة الأول فلا يعلم إلا من جهة الثانى ومنها أن يحدث فى الأول بدع فيزيلها الثانى فيعلم أن الأمرين جائزان. ثم اختلف أصحابنا وغيرهم هل تعبده لله تعالى أعنى نبينا صلى الله عليه وسلم باتباعها أعنى شريعة من قبلنا أم كان منهيا عن اتباعها على ثلاثة مذاهب. أحدها: أنه لم يكن متعبدا باتباعها بل كان منهيا عنها وقد ذهب إلى هذا جماعة من أصحابنا وأكثر المتكلمين وطائفة من أصحاب أبى حنيفة. والمذهب الثانى: أنه صلى الله عليه وسلم كان متعبدا باتباعها إلا ما نسخ منها وإلى هذا مال أكثر أصحابنا وكثير من أصحاب أبى حنيفة وطائفة من المتكلمين. والمذهب الثالث: أنه صلى الله عليه وسلم لم يتعبد فيها بأمر ولا نهى وقال بعض الفقهاء كان متعبدا بشريعة إبراهيم عليه السلام على الخصوص دون غيره1 وهو قول شاذ والمعروف ما قدمنا من قبل والمذهب الصحيح هو الأول وإنه كان المذهب الثانى قد نصره كثير من أصحابنا وقد أومىء إليه الشافعى فى بعض كتبه وقيل أنه بنى عليه أصلا من أصوله فى كتاب الأطعمة غير أنا نقول أن العقل لا يحل اتباع شريعة من قبلنا غير أنه قد ثبت شرعا أنا غير متعبدين بشىء من أحكام الشرائع المتقدمة فأما وجه قول من قال إنا تعبدنا بذلك قوله تعالى: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} [آل عمران: 95] فهذا نص أن هذه الشريعة ملة إبراهيم ونحن نعلم أنها لم تجعل الملة فى الحال فثبت أنها ملة له على معنى أنها كانت ملة له فبقيت حقا لذلك وصارت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويدل عليه.   1 انظر نهاية السول 3/47 انظر البرهان 1/503 وانظر المحصول 1/518 انظر الإبهاج في شرح المنهاج 2/302 شرح المنار 251 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/97, 98. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] والهدى اسم الإيمان والشرائع جميعا لأن الاهتداء بها كلها ويدل عليه قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} [المائدة: 44] وقوله النبيون الذين أسلموا قد دخل فيها النبي صلى الله عليه وسلم وقيل أنه أراد بها النبي صلى الله عليه وسلم على الخصوص وقوله فى قصة اليهوديين اللذين زنيا ورجوع النبي صلى الله عليه وسلم إلى التوراة وحكمه بها على هذا القول أكثر أهل التفسير وبه وردت الرواية ويدل عليه أن ابن عباس رضى الله عنهما سئل عن سجدة ص فقال سجدها داود وهو ممن أمر نبيكم أن يقتدى به1 وأيضا فإن الله تعالى قال: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً} [الشورى: 13] والدين اسم لما يدان الله به من الشرائع ولأن ما أنزله الله تعالى من الشرع شرع ثبت لكل الناس ما لم يثبت نسخه وليس فى بعث الرسول الثانى ما يدل على نسخ ما كان شرعا من قبل لما بينا أنه غير ممتنع أن يكون شرع الأول شرعا للثانى فعلى هذا شرائع من قبلنا شرائع الله تعالى ولم يعرف نسخها ثبت حقا وشرعا إلى أن يعرف نسخها قال أبو زيد فى أصوله والصحيح هذا المذهب وهو أنه كان متعبدا بشرع من قبله إلا أن بقاء ذلك الشرع لا يثبت بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلا لحكايته أنها ثابتة لأن الله تعالى أنبأنا أنهم حرفوا الكلم عن مواضعها وخانوا فى النقل فصاروا مردودين الشهادة ولأن عداوة الدين كانت ظاهرة منهم واتهموا بالحيل واللبس فيما يظهرون من شر لبعض فلم يصر كلامهم حجة علينا إلا ما نقلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرنا أنها ثابتة بوحى متلو وغير متلو قال فالشرائع التى كانت من قبل تبقى حقا فى نفسها لأنها كانت مطلقة غير مقبولة فبعث نبى آخر ولكن لا يثبت شرعهم بنقلهم ولكن بنقل الثانى. قال وفيه كان عرف المصطفى صلى الله عليه وسلم حيث لم يصدق غيره عليه ولزم الماضين من الرسل اتباعه لو كانوا أحياء قالوا: ولهذا لم يرجع إليهم ولم يراجعهم فى معرفة الأحكام وربما يستدل من ذهب إلى هذا المذهب بحال النبي صلى الله عليه وسلم قبل الوحى بأنه كان متبعا شريعة من قبله بدليل أنه صلى الله عليه وسلم كان يحج ويعتمر ويفعل وجوه الخيرات ويذبح وينحر ويطوف ويعظم البيت ولا بد أن هذه الأفعال كانت منه باتباعه شريعة من قبله لأنه لم يكن ينزل عليه الوحى بشرع يدل عليه أن الله تعالى لا يخلى زمانا من شرع وإذا لم يكن عليه شرع فلا بد أن يكون الذى عليه شريعة من قبله فأما دليلنا قوله تعالى.   1 أخرجه البخاري التفسير 8/405 ح 4807. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} [آل عمران: 81] والرسول الذى ذكر هاهنا هو رسولنا صلى الله عليه وسلم فقد جعلهم بعد مبعثه بمنزلة أمته فدل أن شرائعهم قد انتهت بمبعثه ويدل عليه قوله تعالى لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا المائدة 48 قال أبو زيد على هذه الآية فيه دليل على جواز النسخ فى الجملة وليس فيه دليل على انتساخ كلى فإن تبدل الطريقة يثبت بتغيير الأحكام ولا شك أن بعض الأحكام قد تغيرت بتبدل الطريقة فاستقام قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة: 48] قال يبينه أنهم أجمعوا كلهم على طريقة واحدة بالإيمان بالله تعالى وطاعتهم إياه فى أوامره ونواهيه ويمكن أن يجاب عن هذا فيقال أن هذه الآية تقتضى تفرد كل واحد من الأنبياء بشرعة ومنهاج إلا ما قام عليه الدليل والدليل على أن شرائع من قبلنا انتهت بمبعث نبينا صلى الله عليه وسلم ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى صحيفة فى يد عمر رضى الله عنه فقال له ما هذه الصحيفة فقال فيها شىء من التوراة فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أمتهوكون أنتم كما تهوكت اليهود والنصارى لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعى1 فجعله بمنزلة واحد من أمته لو كان حيا فهذا نص أن شريعته انتهت ببعثه ولأن أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا يرجعون فى الحوادث إلى الكتاب والسنة والاجتهاد إذا لم يجدوا متعلقا من الكتاب والسنة والدليل عليه قول معاذ حين بعث إلى اليمن الخبر المعروف ولم يرو أن أحدا منهم رجع إلى شىء من أحكام الكتب المنزلة من قبل ولا بحث عنها ولا أمر أحدا بالبحث عما فيها ولو كانوا متعبدين بذلك لنقل عنهم أو نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ولو فعل لنقلوا عنه عليه السلام ذلك وهذا دليل معتمد لكن نبسط بساطا لهذا الدليل ليظهر وجه الاعتماد عليه فيقول القائل بوجوب اتباع شريعة من تقدمه لا يخلو أما أن نقول أن الله تعالى أوحى إليه بلزوم العبادات التى تعبد بها من قبله وأوحى إليه تلك العبادات وصفاتها وهيئاتها فرجع إلى ما أوحى إليه منها ولم يرجع إلى النقل عمن تقدم أو يقول: أنه رجع فى معرفة شرع من تقدم إلى النقل كما نفعله نحن فى شرع نبينا صلوات الله عليه أو نقول رجع فى البعض إلى الوحى وفى البعض إلى النقل ولا يجوز الأول لأن هذا مجرد دعوى ولا بد.   1 أخرجه أحمد المسند 3/473 ح 15164 وقال الحافظ الهيثمي فيه مجالد بن سعد ضعفه أحمد ويحيى بن سعيد وغيرهما وعزاه أيضا إلى أبي يعلى والبزار انظر مجمع الزوائد 1/179 8/265. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 فى ذلك من نقل وأما الظن والتخمين لا يثبت ولأنه لا يخلو أما أن نقول أن جميع ما أوحى إليه شرع نبي متقدم أما موسى عليه السلام أو غيره وأما أن نقول أن بعض ما أوحى إليه شرع نبى متقدم والبعض لا والأول باطل لأن كثيرا من شرعه لا يوافق شرع موسى والمسيح وغيرهما وهذا معلوم قطعا وأما الثانى فغير ممتنع أن يكون بعض شرعه موافقا لشرع من تقدمه ولكن وقوع الاتفاق لا يدل أنه متعبد بشريعة من تقدمه لأنه عليه السلام إنما علمه بالوحى فصار شريعته وإذا صار شريعته بالوحى ولا سند إلى أنه شريعة له بكونه شريعة من قبله وأن قال أنه أنزل إليه أن هذه شريعة من قبلك وأنت متعبد بها فاتبعها فهذا لا بد فيه من نقل على هذا الوجه وأن رجعوا إلى الآيات التى ذكروها فليس فيها ذكر شرع من شرائعهم وحملها على جميع شرائعهم لا يمكن لما ذكرنا من قبل ولا يجوز الثانى وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم رجع إلى نقل من تقدم وهو باطل لما بينا أنه لم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم رجع فى شىء من الحوادث إليها بل كان ينتظر الوحى مثل ما انتظر فى الظهار والإيلاء واللعان وغير ذلك ولم يرو أنه سأل أحد من أهل التوراة والإنجيل عن حكم من الأحكام ولو كان متعبدا بما فيها لم يتصور أن لا يرجع ولذلك أحد من السلف لم يرو أنه رجع إلى نقل أحد من أهل الملل ولا سألهم عن شرائعهم ولو كانوا متعبدين كما قلتم لكانت كتب الأنبياء المتقدمين عليهم السلام فى الأحكام بمنزلة الكتاب والسنة فكان ينبغى أن يجب الرجوع إلى ذلك كما أوجب الرجوع إلى الكتاب والسنة فإن ذكروا الرجوع إلى أمر الرجم سنجيب عنه فإن قالوا: إنما امتنع ذلك لأن أهل الأديان السالفة حرفوا كتبهم وغيروها عن الوجوه التى عليها نزلت قلنا إذا ثبت أن الرجوع إلى نقل من تقدم ممتنع ولم ينقل الوحى بذلك ولا ثبت فساد الرجوع فإذا سقط عرفنا قطعا أنه لم يكن متعبدا بشرع من قبله ولأنه لو كان متعبدا بشرع من قبله على ما زعموا وكانوا قد حرفوا وغيروا ونحن نعلم قطعا أنهم لم يحرفوا الجميع فكان ينبغى أن يقع التنبيه من الله تعالى على مواضع اللبس والتمويه والتحريف حتى لا يتعطل مرجع الأحكام ويدل عليه أنه كان قد أعلم من أحبارهم جماعة مثل عبد الله بن سلام وزيد بن شعبة وغيرهما فى زمان النبي صلى الله عليه وسلم ومثل كعب الأحبار وغيره بعده فكان يمكن أن يعرف مواضع التحريف من غير مواضع التحريف منهم وقد استشهد الله تعالى بعبد الله بن سلام فى نص التنزيل وهو قوله: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} [الرعد: 43] وهو عبد الله بن سلام فى قول جماعة المفسرين فإن قالوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 بقول الواحد والاثنين لا نعرف قلنا فيما طريقة العلم يعرف وعلى أنه كان يخالط أهل العلم النقل للكتب المتقدمة ليعرف ما فيها بطريق التواتر حتى لا يذهب عليه شرع من الشرائع التى تعبد به والذى قاله أبو زيد فى حجتهم أنه لا يثبت بما شرعهم إلا بقول من الرسول صلى الله عليه وسلم قلنا فإن ذلك القول وكان ينبغى أن يوقفه الله عليه وليس أوقفه الله عليه وكان ينبغى أن يعلمنا ذلك حتى لا يذهب علينا شريعة من الشرائع التى تعبدنا الله تعالى بها وقد قال بعض من ذهب إلى هذا المذهب أنه لو كان متعبدا بشرع من سلف لم ينسب جميع شرعه إليه كما لا ينسب شرعه عليه السلام إلى بعض أمته وفيما قالوه جعل الرسول كأنه أمة من تقدمه وهذا غض من درجته وحط عظيم من مرتبته ومنزلته واعتقاد أنه تبع لكل نبى من تقدمه وهذا لا يستجيزه أحد من أهل الملة بل فيه التنفير عنه لأنه يكون تابعا بعد أن كان متبوعا ومدعوا بعد أن كان داعيا أما الجواب عما تعلقوا به قلنا أما الآية الأولى فلا تعلق لكم بها لأن المذكور اسم الملة واسم الملة لا يقع إلا على الأصول من التوحيد والإخلاص لله تعالى بالعبادة وغير ذلك ولا يقع هذا الاسم على فروع الشرائع التى يقع اختلافنا فى ذلك ولهذا لا يقال ملة أبى حنيفة وملة الشافعى ويقال مذاهبهما مختلفة ولا يقال ملتهما مختلفة ويدل عليه أن الله تعالى قال: {أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 123] فعلمنا أنه أراد بالملة أصل الدين ويدل عليه أن شريعة إبراهيم قد انقطع نقلها وكيف يحثه الله تعالى على اتباع ما لا سبيل له. وأما قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] فقد أمر الله تعالى باتباعه هدى يضاف إلى جماعتهم والهدى المضاف إلى جماعتهم هدى التوحيد الذى اجتمعوا عليه دون الشرائع التى اختلفوا فيها وأما قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} [المائدة: 44] قلنا ظاهر هذا يقتضى أن يحكم بها كل النبيين فعلى هذا لا بد من حمله على التوحيد ليدخل جميع النبيين فيه لأننا نقطع أن بعض الشرائع قد تنسخ بعضا على تفاصيل معلومة وأما قولهم أنها نزلت فى شأن اليهوديين اللذين زنيا قلنا قد يسقط استدلالكم بالطريق الذى قلناه ويجوز أن يكون المراد بالذين أسلموا جماعة من أنبياء بنى إسرائيل بعثوا على شرع التوراة والدليل على أن المراد بالآية ما ذكرنا أنه لم ينقل رجوع النبي صلى الله عليه وسلم إلى التوراة فى طلب الأحكام وأما قصة اليهوديين فليس يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم رجع إليها مستفيدا لحكم منها ويجوز أن نرجع إليها لنتبين كذبهم فيما ادعوا أنه ليس حد الزنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 هو الرجم فى التوراة وقد كان إلى ذلك لأن اليهود كانوا يموهون على المسلمين ويقولون أنه لم يوجد صفة محمد صلى الله عليه وسلم فى التوراة فأراد أن يبين كذبهم فيما ادعوا من حكم الزانى ليعرف كذبهم فى غير ذلك مما يدعونه وأيضا يجوز أنه عليه السلام حكى أن الرجم هو حد الزانى فى التوراة فرجع إليها ليقررهم على صدقه فى حكاية أن الرجم موجود فيها ولو رجع فى استفادة الحكم منها لرجع إليها فى غير ذلك من الأحكام ورجع إليها في شرائط الإحصان وغيره. وأما قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً} [الشورى: 13] قلنا اسم الدين يقع على الأصول دون الفروع ولهذا لا يقال دين الشافعى ويراد به مذهبه ولا يقال دينه ودين أبى حنيفة مختلف وعلى أن قوله: {أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13] دليل على أن الدين شرعه لنا ما وصى به نوحا وهو ترك التفرق وأن يتمسك بما شرع وأما قولهم أن الشريعة التى شرعها الله تعالى وأنزلها لا يثبت نسخها إلا بدليل قلنا قد قام الدليل على نسخها على ما سبق وقد أقمنا الدلالة على ذلك وهذا لأن جميع الشرائع السابقة قد انتهت بشرع رسولنا صلوات الله وسلامه عليه ونستدل بما ذكرناه على انتهائها وقد سبق بما فيه وأما قولهم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان متعبدا بشرع من قبله قبل الوحى قلنا هذا لا نسلمه أيضا والدليل عليه أنه لو كان متعبدا بذلك لكان يفعل ما تعبد به ولو فعل ذلك كان يخالط من ينقل ذلك الشرع من النصارى واليهود وغيرهم ولو فعل معهم ما كانوا يفعلونه وقد نقلت أفعاله قبل البعث وعرفت أحواله ولم ينقل أنه كان يخالط أحدا من النصارى واليهود أو يفعل شيئا من أفعالهم والحق أنه لو تعبد بها لفعلها ولو فعلها لظهرت منه ولو ظهرت لاتبعه فيها الموافق لنازعه فيها المخالف وقد عدم هذا كله فدل أنه لم يكن متعبدا بذلك وأما قولهم أنه كان يحج ويعتمر ويطوف قلنا لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم حج واعتمر قبل المبعث ولم يثبت أنه تولى التذكية وأمر بها ويمكن أن يقال أنه وجد قومه على أدب من أدب إبراهيم عليه السلام فوافقهم فيما فعلوه من الأفعال التى كانوا فيها على طريقة إبراهيم وهذا غير ممتنع فعله وموافقته قومه فيها خصوصا إذا كانوا قوما نشأ فيهم وكان فيما بينهم ولم يكن الفعل مما هو محرم فى شريعة معروفة فهذا وجه الكلام فى هذه المسألة والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 القول فى الأخبار ومواجبها وما يقبل منها وما لا يقبل مدخل ... القول فى الأخبار ومواجبها وما يقبل منها وما لا يقبل. وإذا بينا أفعال الرسول صلوات الله وسلامه عليه وأحكامها فالواجب أن نبين أقواله صلى الله عليه وسلم ومواجبها وما يتعلق بها وأيضا فإن السنة تلو الكتاب فإذا بينا طرفا مما يتعلق بالكتاب فنبين السنة وما يبتنى عليها فنقول فى مقدمة الكلام فى الأخبار أن سنة الرسول صلوات الله عليه فى حكم الكتاب فى وجوب العمل بها وأن كانت فرعا له لأن الله تعالى ختم برسوله النبوة وأكمل الشريعة وجعل إليه بيان ما أجمله فى كتابه وإظهار ما شرعه من أحكامه وقال تعالى فى محكم تنزيله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] . ولما جعله بهذه الرتبة أوجب الله عليه أمرين لأمته وأوجب له أمرين على أمته وأما ما أوجب عليه لأمته منه الأمرين:. فأحدهما التبليغ قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67] . والثانى البيان قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] . وما أوجب له على أمته من الأمرين: فأحدهما: طاعته فى قبول قوله والعمل به قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] . والثانى: أن يبلغوا عنه ما أخبرهم به وأمرهم بفعله لأنه ما كان يقدر على أن يبلغ جميع الناس وما كان يبقى على الأبد حتى يبلغ أهل كل عصر فإذا بلغ الحاضر لزمه أن ينقله إلى الغائب وإذا بلغ أهل عصر لزمهم أن ينقلوه إلى أهل كل عصر عمن تقدمهم لينقلوها إلى أهل العصر الذى يتلوهم فينقل كل سلف إلى خلفه فيدوم على الأبد نقل سنته وحفظ شريعته. قال النبى صلى الله عليه وسلم: "ليبلغ الشاهد الغائب" وقال صلى الله عليه وسلم: "بلغوا عنى ولا تكذبوا على" وقال أيضا: "نضر الله امرءا سمع مقالتى فوعاها وبلغها من لم يسمعها فرب مبلغ أوعى من سامع ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 وإذا كان أمر السنة على هذا الوجه فللسنة حالتان. إحداهما: أن يأخذها الحاضر عن الرسول صلى الله عليه وسلم سماعا منه. والحالة الثانية: أن ينقل إلى الغائب خبرا عنه. فأما الحالة الأولى: فإذا سمع عن النبي صلى الله عليه وسلم وسمع لفظه فالعلم بذلك مقطوع بوجوده لأن السماع من علوم الحواس المدركة بالاضطرار وإذا رفع العلم بذلك فيكون وجوب العلم صادرا عن العلم بصحة ما سمعه. وأما الحالة الثانية: وهى إذا نقل خبره صلى الله عليه وسلم إلى غائب عنه فيجب على من نقل إليه أن يعمل به كما يجب على من شاهده وسمع منه فليثبتونه فى وجوب العمل وأن اختلفا فى وقوع العلم وسنبين هذا من بعد وليس على من بلغته السنة من الغائبين عن الرسول صلى الله عليه وسلم أن يهاجر لها لسماعها منه لأنها قد وصلت إليه بالنقل فسقطت عنه المعجزة وسقط عن النبي صلى الله عليه وسلم بيانه ثانيا وأن هاجر لأنه قد بين بالبلاغ الأول فسقط عنه فرضه ولو لزم كل مبلغ أن يحضر ولزم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكرر لخرج من حد الاستطاعة فى الجمعين فصارت الأخبار أصلا كبيرا فى أصول الدين بالوجه الذى قد بيناه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 فصل اعلم أن حد الخبر كلام يدخله الصدق والكذب. ولا يعنى بهذا دخولهما عليه فى حالة واحدة لكن المراد منه أنه يصح فيه الصدق والكذب من حيث صيغته ثم يكون الصدق بدليله والكذب بدليله إلا ترى أن الإنسان إذا أخبر بخبر فلا يقال صدقت أم كذبت من حيث صيغته لأنه من حيث صيغته يستوى فيه الصدق والكذب وإنما يقال كذبت أو صدقت بدليل يدل عليه لا من صيغته وقد عدل بعضهم عن الحد الأول فقال ما يدخله الصدق أو الكذب وقال بعضهم ما لا يخلو أن يكون صدقا أو كذبا1. والحد الأول هو المعروف وقد صح بالوجه الذى بينا فإن قيل قول القائل محمد ومسيلمة صادقان خبر وليس بصدق ولا كذب قلنا هذا الكلام يجرى مجرى خبرين أحدهما خبر عنه بصدق النبي صلى الله عليه وسلم والآخر بصدق مسيلمة والأول حق صدق.   1 انظر إحاكم الأحكام للآمدي 2/7, 11 المحصول 2/101 روضة الناظر 85 الإبهاج 2/310 المعتمد 2/73, 74 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/100. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 والثانى كذب باطل وإذا جرى هذا الكلام مجرى خبرين أحدهما صدق والآخر كذب سقط السؤال ثم نقول قد بينا أن معنى قولنا أن الخبر يدخله الصدق والكذب هو أنه إذا قيل للمتكلم به صدقت أو كذبت لم يكن باطلا من حيث اللغة وفى هذه الصورة لا يكون الصدق أو الكذب باطلا من حيث اللغة وإنما وجه بطلانه بدليل يدل عليه فإن قال قائل ما الصدق وما الكذب قلنا الصدق هو الإخبار عن الشىء على ما هو به والكذب الإخبار عن الشىء على خلاف ما هو به وهذا حد المتكلمين والأولى أن نقول إذا كان المخبر على ما تضمنه الخبر فهو صدق وإذا كان بخلافه فهو كذب ويكفينا هذا القدر. وإذا علمنا حد الخبر فنقول الأخبار على ثلاثة أضرب. خبر يعلم صدقه فهو حق وخبر يعلم كذبه فهو باطل وخبر يحتمل الصدق والكذب فهو ممكن أن يكون حقا أو باطلا. فالمعلوم صدق كالخبر ففى اجتماع الصدق والخبر نقصان الواحد من الاثنين وكالخبر ببياض العاج وسواد القار ويدخل فى هذا ما علم بضرورة العادة كالخبر بحدوث الولد عن أبوين وبطلوع الشمس من المشرق وقد يعلم الصدق بالدليل المكتسب مثل الخبر بحدوث العالم بوحدانية الصانع وبالدليل العرفى مثل قولهم الطعام مشبع والماء مروى. وأما الخبر الذى يعلم كذبه فهو الخبر الذى يقابل الضروب التى قلناها والخبر الذى يعلم صدقه بطريق العكس وهو كالخبر باجتماع الضدين بزيادة الواحد على الاثنين إلى آخر ما ذكرناه وقد يعلم صدق الخبر وكذبه بقرائن تتصل بالخبر وذلك أن الخبر الواحد يخبر ويعمل به جميع الأمة أو يخبر الواحد بخبر ويصدقه الجم الغفير وأما القرينة الدالة على الكذب فهو أن يخبر الواحد بخبر ويعلم الأمة بخلافه أو يخبر الواحد بخبر ويكذبه الجم الغفير وفى الأول نظر وسيأتى من بعده وأما الخبر الذى يمكن أن يكون صدقا أو يكون كذبا فهو كالإخبار بلقاء زيد أو بكلام عمرو وكذلك الإخبار بخصب السنة وحدها والإخبار بموت فلان وبحياته وبصحته ومرضه وغناه وفقره وأمثال هذا تكثر ثم اعلم أن الخبر صيغته موضوعة فى اللغة يدلك على ما وضعت له وقالت الأشعرية لا صيغة له مثل ما لا صيغة للأمر والنهى والعموم والخصوص وقد فرق بعضهم بين الخبر وغيره وجعل للخبر صيغة والدليل عليهم أن لم يجعلوا له صيغة ما ذكرناه من قبل فلا مقيد ثم اعلم أن الخبر ضربان متواتر وآحاد فللآحاد باب مفرد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 وأما المتواتر فكل خبر علم مخبره ضرورة1 وقد فرق بعضهم بين أخبار الاستفاضة وأخبار التواتر وزعم أن أخبار الاستفاضة ما تبدوا منتشرة ويكون انتشارها فى أولها مثل انتشارها فى آخرها وأخبار التواتر ابتدا به الواحد بعد الواحد حتى يكثر عددهم ويبلغوا عددا ينتفى عن مثلهم المواطأة معه والأصح أن لا فرق لأن من حيث اللسان كلاهما واحد وهذا الفرق لا يعرفه أحد من أهل اللسان. وأما شروط التواتر فأشياء: منها: أن يعلم المخبرون ما أخبروا به عن ضرورة أما بعلم الحس من سماع أو مشاهدة وأما بأخبار متواترة فإن وصل إليهم بخبر الواحد لم يصح منهم التواتر. والثانى: أن يكثر المخبرون كثرة يمتنع معها اتفاق الكذب منهم والتواطؤ عليه لأنا لو جوزنا أن يشتركوا فى الخبر اتفاقا أو متواطىء أو تراسل لم تأمن أن يكونوا كذبوا فى الخبر وقد عبروا بما قلناه وهو أن الشرط أن يكون شواهد أحوالهم تنفى عن مثلهم المواطأة والغلط. والشرط الثالث: أن يتفقوا على الخبر من حيث المعنى وأن اختلفوا فى العبارة فإن اختلفوا فى المعنى بطل تواترهم. الشرط الرابع أن يستوى طرفاه ووسطه فيؤدى العدد الذى ذكرناه عن مثله إلى أن يصل بالمخبر عنه. وممكن أن يختصر هذا كله فيقال الشرط أن يكثر المخبرون كثرة يمتنع معها التواطؤ على الكذب ويكونوا بما أخبروا به مضطربين2 وهذا كاف ثم اعلم أنه ليس فى عدد المخبرين فى التواتر حصر وعدد معلوم لا يزاد عليه وإنما الشرط ما ذكرناه وإنما لم.   1 اعلم أن جمهور الأصوليين على ان الخبر المتواتر يفيد العلم بمضمونه مطلقا سواء كان موجدا في الماضي أو في الحال. وقالت السمنية والبراهمة لا يفيد الحكم بمضمونه مطلقا وفصل جماعة فقالوا: إن كان مضمونه ماضيا فلا يفيد العلم به وإن كان موجودا في الحال أفاده انظر نهاية السول 3/62, 64 انظر المحصول 2/108 إحكام الأحكام للآمدي 2/20, 21 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/103. 2 انظر نهاية السول 3/82, 83, 84 وإحكام الأحكام 2/37 المحصول 2/129 البرهان 1/568, 569, 570 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/105, 106. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 يصدر العدد ليكون أنفى للريبة وأبعد من التصنع لأنه قد ينتفى الارتياب عن عدد ويثبت بهم التواتر ولا ينتفى عن عدد هو أكثر فلا يثبت بهم التواتر وهذا لأن ما يدل عليه من شواهد أحوالهم مختلف فامتنع به حصر عدده وليس فيه نص مشروع1. وقد ذكر بعض أصحابنا أن الشاهد الحال قد يقترن بخبر الواحد فيوجب العلم وذلك إذا وجدنا رجلا كبيرا عظيم الشأن معروفا بالمحافظة على رعاية المرويات حاصيا حاسرا رأسه شاقا جبينه وهو يدعو بالثبور والويل ويذكر أنه أصيب بوالده أو ولده ونقطع أنه لم يطرأ عليه عته ولا خبل وشهدت الجنازة وترى الغسال مشمرا يدخل ويخرج فبهذه القرائن وأمثالها إذا اقترنت بأخباره تضمنت العلم بصدقه وقد يوجد الكذب من الجم الغفير إذا ضمنهم حالة توجب اقتضاء الكذب وقد يقع التواطؤ على الكذب من الحد الكثير مكيدة بقصدهم بيانا وشر عادة. والذى ذكرناه من قبل وهو أن الشرط أن يكون فى شواهد أحوالهم ما ينفى عنهم تهمة التواطؤ والكذب بدفع هذه التصويرات والمشهور من الأصحاب أنه لابد من عدد على الوصف الذى ذكرنا وقد تكلم الأصحاب فيما لا يثبت به التواتر من العدد فذهب أكثر أصحاب الشافعى رحمه الله إلى أنه لا يجوز أن يتواتر الخبر بأقل من خمسة فما زاد فعلى هذا لا يوجد أن يتواتر بأربعة لأنه عدد معتبر فى الشهادة الموجبة لغلبة الظن دون العلم. قال الإصطخرى لا يجوز أن يتواتر بأقل من عشرة وأن جاز أن يتواتر بالعشرة فما زاد لأن ما دونها جمع الآحاد فاختص بأخبار الآحاد والعشرة فما زاد جمع الكثرة وقال قوم من غير أصحاب الشافعى أقل ما يتواتر به الخبر اثنى عشر لأنهم عدد النقباء لبنى إسرائيل قال الله تعالى: {وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً} [المائدة: 12] وقال قوم لا تواتر بأقل من عشرين لذكر الله تعالى لهذا العدد فى عدد الصابرين فى القتال قال الله عز وجل: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 65] وقال قوم لا تواتر بأقل من أربعين لأنه عدد نصاب الجمعة وقال قوم لا تواتر بأقل من سبعين لأنه العدد الذى اختاره موسى عليه السلام قال الله تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا} [الأعراف: 155] .   1 نهاية السول 3/84 إحكام الأحكام 2/38 المحصول 2/129 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/105. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 وقال قوم لا تواتر بأقل من ثلثمائة وثلاثة عشر عدد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر1 وهذه الأقاويل التى حكيناها عن غير الأصحاب ليست بشيء وليست بمستندة إلى أصل يعلم وخللها بين والاعتلال فيها مضطرب فلا معنى للالتفات إلى شىء من ذلك والذى ذكره أصحابنا من القولين أمثل الأقاويل والأولى أن لا يقع الالتفات إلى عدد ما سوى أنه كان يعتبر أن يكون أكثر من أربعة لما ذكره الأصحاب وإن قيل أن هذا العدد لا يعتبر أيضا لكن يعتبر وجود العلم بخبر المخبر لما يتصل به من شاهد الحال فيه صحيح أيضا على ما سبق بيانه والأحسن ما قاله أكثر الأصحاب. مسألة الخبر المتواتر يفيد العلم عند جماعة العلماء وعند بعض الناس أنه لا يفيد العلم وقد نسب ذلك إلى البراهمة والسمنية وهذا الخلاف خلاف لا يعتد به لأنه من قبل إنكار المحسوس وهو مثل خلاف السفسطائية فى رفع المحسوسات وتصور صورا ليزول الإشكال فنقول أن رجلا لو اعترض الناس وهم منصرفون من الجمعة فجعل الواحد والاثنان والجماعة يخبرون أن الناس قد صلوا الجمعة وتكاثر عليه هذا الخبر حتى أخبره الفوج بعد الفوج وخرج الأمر عن الحصر والعدد ولم ير أحدا منهم مخالف فى ذلك فإن السامع يجد فى نفسه وقوع العلم له فصلاتهم الجمعة بحيث لا يتخالجه شك ولا يدخله ريب ويجد قلبه ساكنا إلى ذلك وكذلك من دخل بلدا فاسترشد هذا إلى دار الوالى أو منزل الحاكم فأرشده الواحد بعد الواحد وذكروا أن سلوك هذا الطريق يفضى إلى داره وتواتر منهم ولم ير أحدا يخالفهم فى ذلك فإنه يقع العلم بقولهم ويعرف قطعا أنه إذا سلك هذا الطريق وصل إلى مقصوده وأصاب غرضه وكذلك لو أن رجلا يرى صبيا وسمع الناس يقولون أن والده فلان وقد مات عنه وتواتر له هذا الخبر من جيرته وعشيرته وسائر أقربائه ورآهم يخبرون بذلك فى السر والعلانية وحالتى الرضا والغضب ولا ينكر ذلك منكر ولا يخالفهم مخالف ودام الزمان على ذلك فإنه يجد نفسه ساكنا إلى قولهم معتقدا صحة ما أخبروه به من أمر هذا الصبى وهذا مما لا ينكره أحد له أدنى مسكة من عقل أو شمة من لب وقد استدلوا أيضا بوقوع العلم لنا بوجود البلدان النائية القرون الماضية والملوك السالفة.   1 انظر نهاية السول 3/85, 86 البرهان 1/569, 570 المحصول 2/132, 133 إحكام الأحكام للآمدي 2/39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 وسائر ما يجرى هذا المجرى وليس يدخل على هذا ما يجد الناس الكثير من اجتماعهم على اعتقاد أو مذهب ولا يدل ذلك على أنهم محقون لأنا بينا أن شرط وقوع العلم بالخبر المتواتر أن يكون صدره فى الابتداء عن ضرورة وأمر محسوس بالسمع أو النقل وهذا لا يوجد فى هذا الموضوع وعلى أن نقول أن اجتمعوا على حق فيجوز ويكون الذى حمى الاجتماع دليل الحق لأنهم مع اختلاف طباعهم وتباين هممهم يجوز أن يصرف دليل الحق إلى اعتقاد الحق وأما إذا كان ذلك النبأ باطلا فلا بد من دخول الاختلاف بينهم وعدم الائتلاف منهم ولم يوجد اتفاق كل الناس على الباطل أبدا بحال ثم نقول بأن الخبر مخالف لباب الرأى والاعتقاد لأن الخبر صدره عن الحس والمشاهدة والغلط لا يعرض فيها فإذا وجدناهم متفقين على الخبر لم نجد موضعا للارتياب بهم وتوهم الغلط عليهم وأن قلتم يجوز أنهم اتفقوا وتواطئوا على الكذب نقول أن الكلام فى الجماعة التى لا يتصور منهم التواطؤ والاتفاق على الخطأ وأما اعتقاد المذاهب فضلت عن الرأى والاجتهاد والغلط قد تعرض فيه على حسب غموض الأمر ودقة مستدله إلا ترى أن الجماعة من المتناولين يجوزون الخطأ على أنفسهم فيما اعتقدوه والجماعة من المخبرين لا يجوزون على أنفسهم الخطأ فيما أخبروه عن شاهدتهم فإن اختلاف الأمرين كان قبل هذا الذى قلتم موجود فى إجماع الأمة فلا تجعلوه إذا حجة وقد قلتم أنه حجة قاطعة موجبة العلم قلنا إنما كان كذلك لأن هذه الأمة قد خصت بالعصمة عند الإجماع على الشىء وقد دل على ذلك حجة السمع ولولا ذلك لم يفرق بينكم وبين سائر الأمم فإن قيل أن الجماعة الذين ذكرتهم وأن جم عددهم وكثرت أشخاصهم فإنهم فى أنفسهم آحاد يجوز على كل واحد منهم فى حالة الاجتماع ما يجوز فى حالة الانفراد إذ الانفراد والاجتماع أغراض لا تؤثر فى نفس الطباع ولا يغيرها عما هى عليه فإذا جاز الكذب على كل واحد منهم منفردين جاز الكذب على كل واحد منهم مجتمعين. الجواب إنما قلتموه غلط لأن الذى حلت عليه الكثرة فى اختلاف الطباع وتباين الهمم واختلاف الدواعى لا يمكنهم فى جارى العادات من الاجتماع والتواطؤ على وجه واحد من التقول والتكذب ولا يخلى بينهم وبينه كما لا يمكنهم من الاجتماع مهنة واحدة من المهن على صناعة واحدة من الصناعات وليس كل ما صح يجوز على كل أحد من الجماعة عند الانفراد يجوز على جماعتهم إلا ترى أن الواحد يجوز أن يقتل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 ولده أو يشوه وجهه ولا يجوز ذلك على جماعتهم وهو أن يتفقوا عليه وكذلك استعمال شىء واحد والمشى فى طريق واحد والاجتماع على صنعة واحدة وأمثال هذا تكثر وبهذا الطريق نجيب عن قولهم أن الخبر الذى وجد من الجماعة هو الذى وجد من الواحد فلو كان وجود من الجماعة يفيد العلم لكان وجوده من الواحد يوجب العلم ونقول يجوز أن يوجد من الواحد شىء ولا يجوز وجوده من الجماعة مثل ما بينا وعلى أنا دللنا على وجود العلم بل نقطع بوجوده لكل أحد عند الخبر المتواتر فكيف يحكم به وفاته مثل هذه الشبهة. فإن قيل إذا جاز اجتماعهم على الصدق وهو رأى اختاروه له لا يجوز اجتماعهم على الكذب وهو نظيره قلنا إنما افترقا لأن حسن الصدق داع إلى نفسه وأسبابه مرغبة فيه وذاته تحرك عليه ما فيه غنية من جميع الأحدوثة ونيل المنزلة العلية عند الناس وأما الكذب فعينه منفرة عنه وقبحه مزهد فيه ولأن فيه من قبح الأحدوثة وخمول الذكر وسقوط المنزلة عند الناس ما يمنع من ارتكابه إلا لغرض يدعوا إليه فأسباب الصدق يجوز أن تجتمع فى الجماعة فتصور إلفافهم عليه فإن قيل هذا الأصل الذى قلتم يقتضى أن صدق اليهود فى دعاويهم قتل المسيح عليه السلام فإنهم جماعة لا يجوز أن يتواطئوا على الكذب ببينة أن النصارى وافقوهم وعددهم لا يخفى كثرة ووفورا وكذلك المجوس مطبقون فى الخبر عن زرادشت ونبوته وإيراده المعجزات فى زمانه. الجواب أما أمر عيسى والخبر عن قتله لم يوجد فيه الإطباق ولم يحصل عليه منهم الاتفاق فإن العيسوية وهم فرقة كبيرة من النصارى يزعمون أن عيسى عليه السلام لم يقتل بل رفعه الله إليه ولا يعتقدون التثليث ونصارى الحبشة على هذا وزعم هؤلاء أن محمد صلى الله عليه وسلم رسول مبعوث إلى العرب خاصة وفى اليهود من يقول: هذا الأخير ثم قد قالوا: أن خبر قتل عيسى من النصارى أيوجد فيه شرط التواتر لأنا بينا أن شرط التواتر أن يستوى طرفاه وواسطته وقد قيل أن خبر قتله مسند إلى أربعة نفر هم يوحنا ومتى ولوقا ومرقص وذكر أهل العناية بالأخبار أن عيسى عليه السلام كان بأرض عربية وكان أصحابه مطلوبين خائفين عليه وعلى أنفسهم فلما وقعت الصحة وقيل أنه قد قتل جل أصحابه على خفية واستتار ونظروا إلى شخص مصلوب مقتول وهم على حال وجل ورعب توهموا أن ما سمعوه حق فأفاضوا الخبر بذلك وأشاعوا فى أصحابهم وأشياعهم وأما خبر اليهود فإن أصل الخبر عنهم فى قتله أوهى ما ضعف من خبر النصارى وذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 لأنهم كانوا يطلبون عيسى عليه السلام يريدون قتله وهم لا يعرفونه بحلته وإنما جعلوا لرجل منهم جعلا فدلهم على شخص فى بيت فهجموا عليه وقتلوه وزعموا أنهم قتلوا عيسى عليه السلام وأشاعوا الخبر وإذا كان مخرج الخبر به اعتورته هذه الآفات كان معدوم شرائط الصحة غير موثوق به وقد أخبر الله تعالى فى كتابه بالحماية من شرطه وقال: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: 157] فوجب الأخذ بهذا ونزل ما زعموه للآفات التى عرضت عليه فيه وأما ما يدعيه المجوس من نبوة زرادشت فإن الخبر فى ذلك لم يصدر عن جماعة وجد فيهم شرط الأخبار المتواترة فإن الوارد فى خبره أنه خرج فى زمن ملك كان يسمى بشتاين وآمن به الملك وأمر الناس بالإيمان به وزعم أنه أراه المعجزات الدالة على صدقه فصدقوه على ذلك رغبة ورهبة وآمنوا به وتابعوه ثم نقول أن الدين الذى دعا إليه زرادشت وما فى مردودهما مذهب قد بلغ فساده بالدلائل القطعية وهو فى نفسه قول متناقض فإن أصل مذهبهما هو القول بالأصل من النور والظلمة أو نرد ظاهر مرد هذا طريق بين الفساد ظاهر الأشخاص والانحلال فصارا كذابين لعينين ولا يجوز أن يظهر الله تعالى المعجزات على يدى الكذابين عليه فبهذا الطريق عرفنا أن تلك الأخبار عن أولئك القوم باطلة وإذا ثبت لنا أن خبر التواتر يفيد العلم فهو يفيد العلم الضرورى وعنده أنه القسم الحسى يفيد العلم الكسبى والكلام معه يرجع إلى معرفة العلم الضرورى وهو العلم الذى لا يخالجه شك ولا يدخله ريب ولا يمكن للإنسان دفعه عن نفسه بوجه ما وهذا المعنى موجود فى العلم الحأصل بخبر التواتر كما هو موجود فى العلم الحأصل بالعيان وقد ذكر المتكلمون فى هذه المسألة كلاما كثيرا إلا أن مرجعه إلى أصول الكلام فتركنا ذلك غناء عنه واقتصرنا على القدر الذى يحتاج إليه الفقهاء. واعلم أن الأصوليين من أصحابنا قد قسموا التواتر إلى قسمين فقالوا:. أحد قسمى التواتر ما يرجع إلى عين الشىء. والقسم الثانى ما يرجع إلى معناه دون عينه1.   1 اعلم وفقك الله أن المتواتر ينقسم قسمين: أولا: متواتر لفظي: هو خبر جماعة يفيد العلم بنفسه بمخبره مع اتحاد المخبر به في اللفظ مثل أن ينقل جماعة يستحيل تواظؤهم على الكذب قوله عليه السلام "إنما الأعمال بالنياب وإنما لكل امرئ ما نوى" ........ = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 فالأول معلوم وهو مثل ما سبق ذكره فى مواضع. وأما الثانى فهو الخبر عن جود حاتم وشجاعة على رضى الله عنه وأمثاله وحلم الأحنف وذويه فإن يروى نفر من سخاوة حاتم أنه وهب لرجل عشرة أعبد ويروى آخر أنه وهب لرجل مائة شاة ويروى آخر أنه وهب لإنسان فرسا ويروى آخر أنه نحر بعيره وقرى أضيافه ويروى آخر أنه أوهب ماله فيقع لنا العلم مجموع أخبارهم أنه كان رجلا سخيا وكذلك الأمر فى شجاعة على رضى الله عنه فإنه يروى واحد أنه قتل يوم بدر وليد بن عقبة وجماعة ويروى آخر أنه قتل يوم أحد فلانا ويروى آخر أنه بارز يوم الخندق عمرو بن عبد ود وقتله ويروى آخر أنه قتل يوم حنين فلانا اليهودى فيقع العلم مجموع أخبارهم أنه كان رجلا شجاعا وكذلك فى حلم الأحنف وما أشبه ذلك وعلى هذا الوجه يقع العلم لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أقام المعجزة فإنه روى نفر أن النبي صلى الله عليه وسلم نبع الماء من بين أصابعه وروى نفر أنه عليه السلام لما انتقل من الجذع إلى المنبر حن الجذع كحنين الناقة وروى نفر أنه أشبع الجماعة الكثيرة بالطعام اليسير وروى آخر أنه دعا شجرة فأتته وروى آخر أنه سبح الحصى فى يده وسمع ذلك وروى آخر أنه أشار إلى القمر فانشق إلى أمثال هذا فيقع العلم القطعى لنا بمجموع هذه الأخبار أنه أقام المعجزة على صدق نبوته وكان المعنى فى كل هذا أنه لا يجوز أن يقع من الجماعة الكبيرة التواطؤ على وقوع مثل هذا وقد نقلوا ذلك فى أزمنة مختلفة وأحوال متباينة ومعنى التواتر أنه وأن عدم التواتر فى أعيان آحادها فقد وجد التواتر فى معناها إذا كانت هذه الأخبار على اختلافها بحصرها معنى واحد فصار كأنهم نقلوا جميعا ذلك المعنى وأجمعوا على الخبر عنه وهؤلاء الذين أخبروا هذه الأشياء بمجموعهم لا يجوز عليهم التواطؤ على الكذب والتحق بورود الخبر المتواتر على الشىء لعينه واعلم أن مثل هذا الطريق رد على الرافضة ما زعموا من نص الرسول صلى الله عليه وسلم على إمامة على رضى الله عنه فإنهم زعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم نص عليه على رءوس الأشهاد ومشهد من جميع أصحابه.   = ثانيا: المتواتر المعنوي: هو نقل العدد الذي تحيل العادة تواظؤهم على الكذب وقائع مختلفة على قدر مشترك بين الجميع مثل أن يخبر واحد حاتما أعطى دينارا والآخر يخبر بأنه أعطى جملا والثالث يخبر بأنه أعطى شاة وهلم جرا حتى بلغ عدد المخبرين حد التواتر فيقطع بثبوته القدر المشترك لوجوده في كل خبر من هذه الأخبار والقدر المشترك هو الإعطاء انظر نهاية السول 3/87 انظر أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/106. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 ونص لهم عليه وقال هو الإمام من بعدى ثم إنهم جميعا كتموه وهذا محال من الكلام ولا يتصور من ذلك مثل الجماعة العظيمة والجم الغفير اختلاف طباعهم وتباين أهوائهم وتردد الدواعى منهم إطباقهم واتفاقهم على كتمان مثل هذا النص الجلى ومن دخل فى مثل هذا فقد كفى خصمه مؤنة والمسألة من باب أصول الدين وليست من باب أصول الفقه فتركنا الإطناب فى ذلك والله الموفق للصواب والهادى إلى الرشاد بمنه وعميم طوله. ونتكلم الآن فى أخبار الآحاد فنقول: أخبار الآحاد ما أخبر به الواحد والعدد القليل الذى لا يجوز عليهم المواطأة على الكذب1. وهى على ثلاثة أضرب. أحدها: أخبار المعاملات. والثانى: أخبار الشهادات. والثالث: أخبار السنن والديانات. فأما أخبار المعاملات فلا يراعى فيها عدالة المخبر وإنما يراعى فيها سكون النفس إلى خبر المخبر فتقبل من كل راو فاجر ومسلم وكافر وحر وعبد فإذا قال الواحد منهم هذه هدية فلان إليك أو هذه الجارية وهبها فلان لك أو كنت أمرته بشراء جارية فاشتراها لك جاز للمخبر قبول قوله إذا وقع فى نفسه صدقه ويحل له الاستمتاع بالجارية والتصرف فى الهدية وكذلك إذا قال أذن فلان لك فى دخول داره وأكل طعامه جاز له دخول داره وأكل طعامه وهذا شىء متعارف عليه فى جميع الأعصار ومن غير تكبر وهو المعتاد والمتعارف بين الناس وقد ألحق بعض أصحابنا الصبى بمن ذكرناه طردا للعرف فإن العرف فى مثل هذا العرف فيما سبق وهذا هو الأصح. وأما أخبار الشهادات2 فشرطها وعددها معلوم فى الشرع ولا حاجة إلى ذكر ذلك وأما أخبار السنن والديانات فاعلم أن خبر الواحد فيها قد يوجب العلم فى مواضع منها أن يحكى الرجل بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم شيئا ويدعى علمه فلا ينكر عليه فنقطع بصدق.   1 انظر نهاية السول 3/103 إحكام الأحكام للآمدي 2/48 انظر أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/109. 2 انظر نهاية السول 3/106 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/109. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 المخبر ويقع العلم بخبره ومنها أن يحكى الرجل بحضرة جماعة كثيرة ويدعى علمهم فلا ينكرونه فيعلم بذلك صدقه وعندى أن من شرط هذا أن التمادى على ذلك الزمان الطويل ثم لا يظهر من ذلك القول حد ينكره لأنه بدون هذا يجوز أن يسكتوا عن الإنكار عليه لغرض ويجوز أن يكون لهيبة له أو لوجل منه فأما إذا مر على ذلك الزمان الطويل فلا يتصور السكوت عن الإنكار من كل القوم مع اختلاف الطباع وتباين الهمم وكثرة الدواعى من كل وجه ومنها خبر الواحد الذى تلقته الأمة بالقبول وعملوا به لأجله فيقطع بصدقه وسواء فى ذلك عمل الكل به أو عمل البعض وتأوله البعض ومثال هذه الأخبار خبر حمل بن مالك بن النابغة فى الجنين وخبر عبد الرحمن بن عوف فى أخذ الجزية من المجوس وخبر أبى هريرة فى تحريم نكاح المرأة على عمتها وخالتها وقالت هذه الأخبار وهى كثرة وقد ألحق بعضهم بهذا أن يكون الخبر مضافا إلى حال قد شاهدها كثير من الناس ثم يرويه واحد أو اثنان ويسمع بروايته من شهد الحال فلا ينكره فيدل ترك إنكارهم له على صدقه لأنه ليس فى جارى العادة إمساكهم جميعا عن رد الكذب وترك إنكاره إلا ترى أنه لو انكفى عن الجامع من حضرة الصلاة فأخبر أحدهم بفتنة وقعت فيه فأمسكوا عن تكذيبه علم صدقه فى خبره قال وعلى هذا ورد أكثر معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم وأكثر أحواله فى مغازيه وأكثر ما ورد به السنن المشهورة وهذا وجه حسن جدا ولا بد أن يكون ملحقا بما قدمنا. وأما ما سوى هذا من أخبار الآحاد فالكلام فيها يشتمل على شيئين. أحدهما فيما يتعلق بالعلم. والآخر فيما يتعلق بالعمل. أما العلم فذهب جمهور الفقهاء والمتكلمين إلى أنه لا يوجب العلم وذهب أكثر أصحاب الحديث إلى أن الأخبار التى حكم أهل الصنعة بصحتها ورواها الأثبات الثقات موجبة للعلم1 وقد ذكرنا حجتهم على هذا فى كتاب الانتصار وذهب داود إلى أنها توجب علما استدلاليا لأن التعبد باستعمالها موجب لحدوث العلم بها استدلالا بقوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الاسراء: 36] وبقوله تعالى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 169] فدلت هاتان الآيتان أنه إذا أوجب العمل ثبت العلم. وذهب النظام إلى أن خبر الواحد يوجب العلم إذا اقترن به الشك وذلك إذا خرج.   1 المحصول 2/172 البرهان 1/599 إحكام الأحكام 2/49, 50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 الرجل من داره مخرق الثياب حافيا حاسرا يدعو بالويل وأخبر أن والده مات قال يقع العلم لكل من سمع منه بذلك قال وكذلك إذا أقر على نفسه بما يوجب القتل أو القطع. وأما حجة من قال أنه لا يوجب العلم هو أن الخبر الواحد لو اقتضى العلم لاقتضاه كل خبر واحد كما أن الخبر المتواتر لما اقتضى العلم اقتضاه كل خبر متواتر والمعتمد أن الشك والتجوز يعترض فى خبر الواحد ما لا يعترض فى خبر المتواتر وما يعترض فيه الشك لا يوجب العلم الذى يوجبه ما لا يعترض فيه للشك ولأنه لو كان خبر الواحد يوجب العلم لما لزم مدعى النبوة إظهار الأعلام الدالة على صدقه ولجاز الاقتصار على قبول قوله ولو اقتصر على قوله لما وقع فرق بين النبى والمتنبى ولأفضى ذلك إلى إبطال النبوات وهذا الرجوع إلى الدليل الأول واحتج عامة المتكلمين على النظام وقالوا: ليس يخلو العلم الواقع عند الخبر على ما قاله النظام أما أن يكون سببه القرينة وحدها أو القرينة بشرط الخبر أو الخبر وحده أو الخبر بشرط القرينة والقسمان الأولان باطلان لأن القرينة لا تتناول المخبر عنه وإنما المتناول له هو الخبر فلم يجز أن يكون المفيد للعلم هو القرينة وهى غير متناولة للخبر ولا يجوز أن يكون الخبر وحده هو المقتضى للعلم لأنه لو كان كذلك لاقتضاه إذا تجرد عن القرينة ولا يجوز أن يقتضيه الخبر بشرط القرينة لأن اعتقادنا عند رؤية القرينة مع فقد الخبر مثل اعتقادنا وأن اتصل به الخبر وبيان هذا إذا رأينا الرجل مشقوق الجيب يدعو بالويل أو سمعنا الداعية من دار وقد علمنا أن فى الدار مريضا فاعتقدنا مصاب الرجل فى الصورة الأولى وموت المريض فى الصورة الثانية قبل أن يخبر مخبر بموت المريض أو يخبر الرجل بمصابه مثل اعتقادنا أن لو أخبر ثم لا علم قبل الخبر كذا بعد الخبر فإن قال المخالف إذا اتصل الخبر بالقرينة فلا بد من وجود زيادة قلنا يجوز أن يقال أنه يحصل به زيادة قوة الاعتقاد فأما أن يفيد شيئا آخر لم يكن حأصلا له من قبل فهذا لا يكون وعلى أنه يجوز أن يكون المراد بخبره وإظهار القرينة تحصيل غرض له لأنه يريد أن يوهم بعض من يخاف موته أو يظهر أنه أصيب بمصيبة لغرض له قال القاضى أبو الطيب وقد وقع مثل هذا بخوارزم مع القاضى الكعنبى قال قد وقع أيضا بالبصرة واعلم أنه يجوز أن تنتفى دلائل الكذب فى خبر الواحد على الجملة نحو أن يكون الرجل متحفظا عن الكذب نافرا منه ويعلم من حاله بذلك ويحوز أن يكون رسولا من سلطان ويذكر أن السلطان يأمر الجيش بالخروج إليه ويعرف أن السلطان يعاقبه أن كذب ويجوز أن يخبر الإنسان بشعر بلد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 ويكون الإنسان ذا مرة مصرفه عن الكذب ولا يكون لداعى الكذاب فى ذلك داع ويجوز أن يكون الإنسان مهتما بأمر من الأمور بمنشأ فلان فيسأل عن خبر فيخبره عنه فى الحال فيعلم أنه لم يفكر فيه فيدعوه إلى الكذب داع وهذه وجوه تدل على الصدق وهو من الاستدلال على الشىء بإبطال يقتضيه ولكن مع كل لا ينتفى توهم الكذب ويمكن تصور الكذب فى هذه الصور كلها بوجوه من الأغراض وعوارض توجب صرف الإنسان عن الصدق إلى الكذب فلم يخبر أن يحكم بكون الخبر مفيد للعلم وإذا اقترنت به هذه القرائن ووجد على هذه الأحوال فهذا وجه الكلام فى هذه المسألة. وأما الكلام فيما يتعلق بالعمل الذى يثنى على خبر الواحد [ .... ] 1 مذهب أكثر أهل العلم وجملة الفقهاء أن خبر الواحد يوجب العمل فقد تعبد به الشرع وليس فى العقل ما يمنع من التعبد به وذهبت طائفة إلى منع التعبد بأخبار الآحاد واختلفوا فى المانع من التعبد به فقال بعضهم يمنع منه العقل وذكر بعضهم أنه قول ابن علية والأصم وقال القاشانى من أهل الظاهر والشيعة يمنع من التعبد بها الشرع وأن كان جاز فى العقل2 فى هذه مسألة يكثر الكلام فيها على أن تذكر المعتمد من الجانبين ونزع الشبهة المذكورة من المختلفين بتوفيق الله تعالى والحجج من منع التعبد بها عقلا وقالوا: لو جاز أن يكون علمنا بما أخبرنا به الواحد عن النبي صلى الله عليه وسلم وغلب على ظننا صدقه مصلحة لنا وجب العمل به وجب أن يكون إذا أخبر الواحد عن الله تعالى وذكر أنه رسول منه وغلب على ظننا صدقه مصلحة لنا أيضا ويجب علينا العمل به وأما الفرق أن يكون المخبر عن الله تعالى بلا واسطة أو واسطة نبى قالوا: فنقول مخبر عن شرع من الله عز   1 في المخطوطة بياض بمقدار كلمة أو كلمتين. 2 اختلف العلماء في العمل بأخبار الآحاد على خمسة مذاهب: أحدها: التعبد بخبر الواحد محال عقلا وهو مذهب الجبائي وجماعة من المتكلمين. الثاني: التعبد به جائز عقلا ولكنه لا يجب العمل به شرعا لقيام الدليل على عدم الوجوب. الثالث: التعبد به جائز عقلا وواجب شرعا فقط وهو مذهب الجهور ومنهم البيضاوي. الرابع: التعبد به جائز عقلا ولكنه لا يجب العمل به شرعا لأنه لا دليل على الوجوب. الخامس: التعبد به جائز عقلا ويدب العمل به للدليل العقلي والشرعي معا وهو مذهب أحمد بن حنبل "وابن سريج" والقفال الشاشي وأبي الحسين البصري انظر نهاية السول 3/106 المحصول 2/170 البرهان 1/599 إحكام الأحكام 2/68 روضة الناظر 92 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/109. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 وجل فلا يجب علينا قبوله عملا بمجرد غلبة الظن فى صدقه دليله إذا أخبر بواسطة دعوى الرسالة وقالوا: أيضا لو جاز التعبد بها بأخبار الآحاد فى الفروع لجاز التعبد بها فى الأصول وذلك فى صفات الله تعالى وما يجوز عليه وما لا يجوز فحين لم يجز فى الأصول كذلك فى الفروع وقالوا: أيضا لو جاز التعبد بأخبار الآحاد فى الفروع جاز التعبد بها فى نقل القرآن ببينة أنه لما لم يجز فى نقل قول الله تعالى لم يجز فى نقل قول الرسول عليه السلام والحرف المشكل لهم هو أن الشرعيات مصالح والواحد يجوز أن يكذب فيما يخبر به من فعل أو ترك فعل فإذا كان يجوز أن يكذب لم نأمن أن يكون ما تضمنه بخبره مفسدة وربما يعبرون عن هذا فيقولون لما لم يؤمن كون الخبر كذبا لم نأمن كون المخبر به مفسدة وإذا لم نأمن كونه مفسدة فالعقل يمنع منه حتى لا نكون عاملين بما يجوز أن يكون مفسدة لنا هذه شبهة القوم واحتج من قال أن الشرع يمنع من التعبد به بقوله: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الاسراء: 36] وبقوله وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون البقرة 169 وبقوله: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] قال والعمل بالخبر الواحد اتفاقا ليس لنا به علم وشهادة به وقول بما لا نعلم لأن العمل بالخبر الواحد مستند إلى الظن لا إلى العلم وتعلقوا أيضا بقول الله تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} [النجم: 28] قدم من اتبع الظن وبين أنه لا غنى له فى الحق فكان على عمومه فى كل موضع وهذا الموضع الذى اختلفنا فيه من جملته وذكر بعضهم أنا إذا لم نقبل خبر الرسول عليه السلام إلا بدليل يقترن به يدل على صدقه من إقامة المعجز فأولى أن لا نقبل من غيره لمجرد خبره وقوله وهذا الدليل يقرب من الدليل الأول وأما دليلنا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67] والتبليغ يكون بحسب الإمكان لأن الله عز وجل لا يأمر بما لا يحتمله طوق البشر ومعلوم أنه لم يكن فى وسع الرسول لقاء الناس كلهم والمصير إليهم فى بلادهم ولم يكن فى عمره من المهلة والتنفس ما يفى بخطابه آخر من يكون من أمته ولا كان أيضا فى وسع جميع الناس أن يصيروا إلى حضرته ولا أيضا كان فى الوسع أن يصير إليه من كل قبيلة من العدد ما يقع العلم بخبرهم فيبلغوا عنه بقية من لم يصل إليه لأن ذلك يشق عليهم ويغير معايشهم ويؤدى إلى الجلاء عن أوطانهم ومثل هذا لا يجوز أن يرد به خطاب الشرع لأن الله تعالى رفع مثل هذا عن أمته رحمة منه لهم وإلى هذا أشار قوله تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] فثبت بمجموع ما بينا أن التبليغ واجب بحسب الإمكان وليس ما ذكرناه من الإمكان وكان النبي صلى الله عليه وسلم يباشر التبليغ بحسب الإمكان فكان تبليغ الحاضر خطابا ويبلغ الغائب خبرا على لسان من بحضرته من واحد وجماعة ليبلغوا عنه ويؤدونه إلى من ورائهم فيقع به التبليغ وتقوم به الحجة وكذلك قال عليه السلام: "ألا هل بلغت" 1 وقال عليه السلام: "ليبلغ الشاهد الغائب" 2. وبيان أنه كذلك وأنه كان يفعل ما ذكرنا ما اشتهر عنه فى أخباره من بعثه الرسل إلى النواحى والأطراف وإلى الملوك ليبلغوا عنه ويبينوا للناس أمر الدين وليعلموهم أحكام الشريعة كتوجيه معاذ إلى اليمن وعتاب بن أسيد إلى أهل مكة وعثمان بن أبى العاص إلى الطائف وبعث الرسل إلى ملوك الأرض دحية إلى قيصر وعبد الله بن حذافة السهمى إلى كسرى وعمرو بن أمية الضمرى إلى الحبشة وبعث إلى المقوقس صاحب الإسكندرية وإلى هوذة بن على الحنفى وغيرهم وإنما بعث هؤلاء ليدعوا إلى دينه وليقم الحجة عليهم ولم يذكر فى موضع أنه بعث فى الوجه الواحد عددا يبلغون حد التواتر ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ليبعث بما يقع به البلاغ وتقوم به الحجة فعلى هذا جرت عادته صلى الله عليه وسلم وقد كان أيضا يبعث الجواسيس والعيون إلى أرض العدو ويقتصر على الواحد فى البعثة ويعتمد على قوله وأمثال هذا تكثر وليس يخفى على العلماء المبرزين نعم تخفى على الجهال ومن لم يقف على أحوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأخذ العلم من ورا وراء فتبين بمجموع هذا أن الخبر من الواحد موجب العمل مثل ما يوجب الخبر من العدد الكثير وهذا الدليل دليل قطعى لا يبقى لأحد معه عذر فى المخالفة. ويدل على ما ذكرناه إجماع الصحابة رضى الله عنهم فإنه من المشهور عنهم أنهم قبلوا أخبار الآحاد فى الشرعيات واستعملوها وذلك مثل قبول أبى بكر الصديق رضى الله عنه خبر المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة فى توريث الجدة السدس3.   1 أخرجه البخاري العلم 1/240 ح 105 ومسلم القسامة 3/1305 ح 29/1679. 2 تقدم تخريجه. 3 أخرجه أبو داود الفرائض 3/121 ح 2894 والترمذي الفرائض 4/419 2100, 2101 وابن ماجه الفرائض 2/909 ح 2724. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 وقبول الصحابة عن أبى بكر رضى الله عنه خبره عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة" 1 ولقبول عمر رضى الله عنه خبر عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه فى أخذ الجزية من المجوس2 وخبر الضحاك بن سفيان فى توريث المرأة من دية زوجها3 وخبر حمل بن مالك بن النابغة فى دية الجنين وكقبوله خبر أبى موسى وأبى سعيد فى الاستئذان وعن على رضى الله عنه أنه قال كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا نفعنى الله به ما شاء أن ينفعنى فإذا حدثنى عنه غيره استحلفته فإذا حلف صدقته وحدثنى أبو بكر وصدق أبو بكر رضى الله عنه4 وسأل على المقداد رضى الله عنهما أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أمور فلما أخبره عن النبي صلى الله عليه وسلم وقبل ابن مسعود رواية معقل بن سنان الأشجعى فى قصة بروع بنت واشق وسر بذلك ورجع ابن عمر رضى الله عنهما عن المخابرة برواية رافع بن خديج وترك ابن عباس رضى الله عنهما مذهبه فى الصرف بخبر أبى سعيد الخدرى. وأمثال هذا تكثر وهذه أمور مشهورة والشهرة فيها قامت مقام الرواية المستفيضة فمن خالف هذا فقد خالف جملة الصحابة ورام الطعن عليهم وترك القول بأخبار الآحاد ويقع الملحدين إلى إبطال كثير من أحكام الدين إلى الطعن فى السلف الصالح وهذا دليل هذا فإن قالوا: أليس [أن عمر رضى الله عنه] 5 قال فى حديث فاطمة بنت قيس لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا بقول امرأة6 وقال على فى حديث بروع بنت واشق: "ما أصنع بقول أعرابى بوال على عقبيه" قلنا ليس هذا بقادح فيما علمناه لأن عمر إنما أنكر مخالفة الكتاب وذلك فى السكنى فإن الكتاب دال على إيجاب السكنى والنبى صلى الله عليه وسلم.   1 أخرجه البخاري الفرائض 12/7 ح 6726 ومسلم الجهاد 3/1380 ح 52/1759. 2 أخرجه البخاري الجزية 6/297 3156, 3157 والترمذي السير 4/147 ح 1587 ومالك في الموطأ الزكاة 1/278 ح 41. 3 أخرجه أبو داود الفرائض 3/129 ح 2927 والترمذي الديات 4/72 ح 1415 وقال هذا حديث حسن صحيح وابن ماجه الديات 2/883 ح 2642. 4 أخرجه الترمذي التفسير 5/228 ح 3006 وابن ماجه الإقامة 1/446 ح 1395. 5 ثبت في الأصل [ابن عمر رضي الله عنهما] والحديث مروي عن الخليفة عمر رضي الله عنه انظر سنن الدارقطني 4/24 - 26 ح 68 - 71. 6 أخرجه مسلم الطلاق 2/1118 ح 46/1480 وأبو داود الطلاق 2/297 ح 2291. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 أسقط السكنى بسبب وكانت فاطمة رضى الله عنها تنقل إسقاط السكنى ولا تروى السبب فهذا محل إنكار عمر رضى الله عنه وغيره عليها وعلى لا يقبل رواية الأعرابى لغلبة الجهل عليهم وليس الكلام فى أمثال هذا وأما الكلام فى أصل قبول أخبار الآحاد دليل ثالث هو أنه لا خلاف فى قبول أخبار الآحاد فى باب المعاملات فإن للإنسان أن يدخل دار غيره بإذن الحاجب والبواب وله أن يستبيح ما يقول الرسول إذا قال أهداه لك فلان ووقع فى نفسه صدقه ويأخذ بقول الجمال والخادم وقد تكون الهدية جارية فيستبيح وطأها وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل أنس بن مالك رضى الله عنه بحوائجه وأموره وهو صبى واتخذ ابن أريقط الليثى دليلا حين توجه إلى المدينة وقد كان كافرا واعتمد على دالته فهذا فى أبواب المعاملات وأيضا فلا خلاف فى قبول شهادة من لا يقع العلم بقوله فإن نهاية ما فى عدد الشهود هو الأربع ولا شك أن هذا الخبر لا يفيد العلم وإنما يفيد غالب الظن وقد تكون الشهادة فى إراقه دم أو إقامة حد أو استباحة فرج وأدناه استحقاق المال فلم يخلفوا فى قول المستفتى قول المفتى وكذلك فى أخذ القرآن عن المعلم وهذه أمور تتعلق بالدين وما ذكرنا من قبل من أمور الدنيا فإذا جاز قبول أخبار الآحاد فى أمور الدين والدنيا فى هذه المواضع فكذلك فى سائر المواضع فإن قيل قد تعلقتم بالأخبار فى المعاملات وقد يقبل فى الأدنى والهدية وما يشبه ذلك قول من يسكن القلب إلى صدقه من صبى أو فاسق بل كافر أنه لا يجوز قبول قول هؤلاء فى أخبار الدين فكيف يحتج بهذا الفعل مع وقوع هذا الفرقان بينهما واعتذر أبو زيد لهم من أخبار الناس فى المعاملات وقال حقوق العباد ليست كأصل الشريعة فإنها تثبت بإيجابهم وتصرفهم ولهم ضرورة إليها ولا يمكنهم إظهارها وإثباتها بدليل لا يبقى فيه شك وأما الدين فحق الله تعالى والله تعالى قادر على إظهار حقه بما يوجب العلم فلا يجوز إثباته فما دونه كما لا يجوز إثبات أصل الدين من التوحيد والنبوة وصفات الله تعالى بالأخبار التى يعنى بها شك أو شبهة. قال وأما الشهادة فالأصل ما قدمنا وإنما تركنا الأصل الذى قد بيناه بكتاب الله تعالى وهو بخلاف القياس وقال بعضهم إنهم يقبلوا أخبار الآحاد فى إثبات شرع أو لشهادة بأن زنى أو قتل أو سرق ليس يثبت بها شرع أما الأول قلنا موضع الاستدلال من أخبار المعاملات هو استعمال قول من لا يؤمن الغلط عليه ووقوع الكذب منه وهو موجود فى الأمرين على ما سبق بيانه فإن كان أحدهما يتساهل فيه ما لا يتساهل فى الآخر وإنما يراعى فى الجمع والفرق موضع النكته التى يتعلق بها الحكم دون ما عداه من الأوصاف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 وإنما وقع التساهل فى باب الإذن والهدية وما صار عنهما من الأمور حتى جاء فيها قبول قول الخادم والقهرمان من العبد والحر والصبى والبالغ والذمى غيرهم لأن الغالب فى العرف الحادى والعادة القائمة أن يتولى هذه الأمور ويتعاهدها الخدم والخول منهم دون علية الناس وأهل المروءة منهم وأما الشهادات فإنما يقوم بها أعيان الناس ويتحملها ذوو الدين والعدالة منهم لما فيها من التوثق للحقوق والاحتياط عليها ولذلك قرأت مصمتة بأوصاف من البلوغ والحرية والعدالة ونحوها وصارت أخبار السنن واسطة بين الأمرين فجاز فيها قول الواحد إذا قوي قوله بوصف العدالة ولا يحتمل أن يكون ذكرا أو أنثى أو عبدا أو مملوكا أو بصيرا أو أعمى وهذا أيضا نوع تساهل فى رواة أخبار السنة والآثار لأنه لو أن فيها جميع أوصاف الشهود لعدمت النقلة وعز وجودهم وصار ذلك سببا لانقطاع العلم ولو جرت فيها المساهلة التى تجرى فى أخبار المعاملات لوجد الفساد والخلل فى أمر الدين وصار لأهل الباطل سبيلا إلى أن يدخلوا فيه ما ليس منه واختلط أهل الحق بالباطل فاقتصر على الواحد ليتسع الطريق إلى النقل وأيد بالعدالة لتنقطع التهيئة عنه وكل من هذه الأمور منزل على منزلة تليق ويرشد إليها وجه المصلحة ويدل عليه الحكمة وأما الذى قاله أبو زيد من العذر لهم فليس بشىء لأنا بينا وجود قبول الواحد فى أمور الدين وقد ذكرنا صورا منها ونزيد فنقول إذا قال الواحد هذا الماء طاهر أو نجس يقبل قوله ويعمل عليه أو يقول: أنا وكيل فلان فى التصرف فى ماله يجوز الشراء منه وإذا قالت المرأة حضت أو طهرت يقبل الرجل قولها فإذا قالت حضت يجب الامتناع من وطئها وإذا قالت طهرت يجوز الإقدام على وطئها وإذا قال هذه خمر أو نبيذ وقال هذه أمتى أبيعها منك أو ابنتى أزوجها منك فإن سلموا هذه الوجوه لا بد من تسليمها لأن مصالح الناس لا تقوم إلا بها فيكون الباقى من الأخبار ملحقا بها هذه الأخبار مرجعها إلى الدين لأن الامتثال بقول المخبر بالحل والحرمة والصهار والنجاسة وهذه أمور لا تثبت من حقوق الناس فى شىء فهذه الدلائل التى ذكرناها دلائل قطعية موجبة للعلم وللأصحاب دلائل كثيرة سوى هذا فرأينا عنها اقتصارا واكتفاء لهذا القدر وقد ذكر أهل الأصول فى بيان أنه يجوز أن يقع انعدام الآحاد من حيث العقل وأن كانت لا تفيد إلا الظن وذلك لأنه ليس بمستبعد ولا مستنتج فى العقل أن يقول الله تعالى إذا غلب على ظنكم صدق الرواى عن فلان فاعملوا بخبره كما أنه خبر مستقبح فى العقل أن يقول إذا أخبركم فلان فاعملوا بخبره فإذا جاز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 أحدهما جاز الآخر وقد قالوا: أن الشريعة مصالح فلا يمتنع أن يكون قبول قول الواحد إذا غلب على ظننا صدقه والعمل به مصلحة لنا ولهذا يلزم المسافر سلوك طريق وتجنب طريق آخر إذا أخبر الواحد بسلامة أحدهما ووجود المخافة فى الآخر. أما الجواب عن كلماتهم أما تعلقهم بخبر مدعى النبوة وأنه لا يجب علينا قبوله من غير دليل يقوم على صدقه وهو المعجز وأن غلب على ظننا صدقه قلنا نقول ولا أن نقطع بوجوب العمل بخبر الواحد لأن دليلا قطعيا قد قام على وجوب العمل به ومثل هذا لا يوجد فى غير مدعى النبوة لأن الأدلة الشرعية إنما تكون قاطعة فى خبر مدعى النبوة إذا علمنا صدقه لمعجز يقيمه حتى إذا أخبرنا بوجوب العمل علمنا وجوب العمل بخبره وهذا لا يتم إذا كان صدق المدعى للنبوة مظنونا غير مقطوع به ثم نقول أن الاقتصار على الظن فى صدق مدعى النبوة يؤدى إلى مفسدة عظيمة لأن فى النبوة من الرئاسة العظيمة التى لا يدانيها رئاسة فلأن من إذا قبلنا قوله من غير معجز تعين أن يطلبها كل واحد ويتحرى فى أكثر الناس ظاهر الصدق والعدالة والستر اسم له هذه الرئاسة فيكثر على هذا المدعون للنبوة والوارد بالشرائع المخالفة وفى هذا من المفسدة ما لا يخفى وأما ها هنا فليس للمخبر بالسنة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل هذه الرئاسة وأيضا فإن السنن محصورة فى النقل لا يمكن الزيادة عليها فلم يؤد قبول خبر الواحد فيها إلى المفسدة. ببينة أنه أن لزمنا ما ذكروه على قولهم وقولنا أن شهادة الشهود مقبولة وكل عذر لهم فى ذلك فهو عذرنا وأما قولهم أنه لو جاز التعبد بأخبار الآحاد فى الفروع لجاز فى الأصول قلنا قد بينا أن الأخبار التى تلقتها الأمة بالقبول موجبة للعلم قاطعة للعذر وكذلك فى كل حادثة شهدها جماعة وأخبر الواحد منهم ولم ينكر الباقون ذلك فعلى هذه الأخبار الواردة فى صفات الله تعالى وإثبات القدرة وجواز الرؤية وإخراج الموحدين من النار بعد إدخالهم فيها وإثبات الشفاعة وإثبات عذاب القبر وإثبات الحوض والميزان وما أشبه ذلك وإذا اشتهرت وعرفت فى الأمة فأكثرها لا يخرج عن هذين القسمين فتكون موجبة للعلم قاطعة للعذر ويفيد ما ويفيدها الأخبار المتواترة وأما قولهم أنه يجوز التعبد بأخبار الآحاد فى نقل القرآن قلنا هذا جمع بين موضعين بغير علة جامعة ثم نقول فى القرآن المنقول بالآحاد أما أن يظهر فيه الإعجاز أو لا يظهر فيه الإعجاز فإن ظهر فيه الإعجاز فالإعجاز حجة النبوة ولا يكون حجة إلا وقد علم أنه لم يعارض فى عصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 الله ما لا نعلم بل قلنا ما نعلمه ونتيقنه وأما قوله تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} قلنا إنما اتبعنا الدليل القاطع الذى يدل على وجوب العمل بخبر الواحد ولم نتبع الظن فإن قيل قد جعلتم للظن حظا فى الاتباع لأنكم لو لم تظنوا صدق الراوى لم تعملوا بالخبر قلنا أن الله تعالى إنما ذم من يتبع الظن فلم يدخل فى ذلك من اتبع الدليل عند الظن فهذا وجه الجواب عن التعلق بهذه الآيات ومن عرف هذا الوجه من الجواب سهل عليه الكلام على ما يوردونه والله أعلم. إذا ثبت وجوب العمل بخبر الواحد فنذكر بعد هذا ما ينبني عليه ونبتدىء بذكر. أحوال الرواى والشرائط المعتبرة فيه لنقل خبره: فنقول أولا اعلم أن الصحابة رضى الله عنهم عدول وروايتهم يجب قبولها من غير تخصيص وذهب المعتزلة إلى أنه قد كان فى الصحابة قوم فساق1 وقد فسق كثير منهم وهم الذين قاتلوا عليا رضى الله عنه خصوصا معاوية وعمرو وسائر من كانوا من الصحابة وغيرهم مع معاوية رضى الله عنهم وتوفى بعضهم أبو طلحة والزبير وعائشة رضى الله عنهم أجمعين وادعى كثير منهم أنهم فسقوا وتابوا قالوا: وقد علمنا ذلك فى هؤلاء الثلاثة ولم نعلم توبة معاوية ومن معه ونحن نتبرأ إلى الله تعالى من هذا القول وزعم أن القوم قاتلوا مع على رضى الله عنه بالتأويل فإن الإمام الحق قد قتل وهو عثمان رضى الله عنه وقد كانت قتلته أنصار على وكانوا جميعا معه ومع هذا زعم أن الحق كان مع على لكن لا نفسق أولئك القوم لأجل أنهم كانوا متأولين ولأن عدالة جميع الصحابة ثبتت قطعا فلا يزول عنها إلا بدليل قطعى والدليل على أن السمة كانت عظيمة إذ وجود من بقى من الصحابة اعتزلوا الطائفتين مثل سعد وأسامة وابن مسلمة وابن عمر وعبد الرحمن بن أبى بكر وغيرهم فالأولى فى هذا حفظ اللسان وتسليم أمرهم إلى الله تعالى وإنما الكلام فيمن وراء الصحابة فنقول:. نشترط فى الراوى أن يكون ثقة عدلا فى دينه معروفا بالصدق فى حديثه حافظا أن حدث من حفظه2 ضابطا لكتابه أن حدث من كتابه غير معروف بالتدليس.   1 انظر البرهان 1/631 إحكام الأحكام للآمدي 2/128 المحصول 2/196 نهاية السول 3/129/130 المعتمد 2/133 التصريح على التوضيح 2/6 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/119. 2 انظر نهاية السول 3/150, 151 المحصول 2/202, 203 إحكام الأحكام للآمدي ............... = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 وملاك الأمر شيئان صدق اللهجة وجود الضبط لما يرويه ومن كثر غلطه ترك حديثه والعدل قد تعورف استعماله فيمن كان من أهل قبول الشهادة وشرائطه ما عرف فى الفقه وقد قيل أن المشارطة على أخذ الأجرة على التحدث يقدح فى قبول الرواية وقيل أيضا أن الإقدام على المستقبحات مثل الأكل على الطريق وما يشبه ذلك تقدح أيضا فى الرواية وقد اتفقوا أن الفسق فى التعاطى يمنع قبول الرواية لأن من يقدم على الفسق وهو يعتقد أنه فسق لا يؤمن فيه الإقدام على الكذب فى حديثه وأما الفسق من حيث الاعتقاد مثل أهل الأهواء فقد ذكروا أنهم ينقسمون قسمين منهم من كفر الصحابة وفسقهم مثل الخوارج وغلاة الرافضة فهؤلاء حديثهم مردود غير مقبول وأما من سلم عليه السلف وكان ثقة فى دينه غير مستحل للكذب على مخالفته بل كان مأمونا عليهم معروفا بالصدق فى روايته جللا فى تعاطيه غير داعية إلى اعتقاده يقبل روايته1 والأصح هو الأول وقد روى سفيان بن عيينة عن عمرو بن عبيد قال حدثنا عمرو بن عبيد وكان صاحب بدعة والفرق بين الفسق فى التعاطى وبين الفسق فى الاعتقاد هو أن الفسق فى أعمال الخوارج إنما يمنع من قبول الحديث لأن فاعله فعله وهو يعلم أنه فسق فقدح ذلك فى الظن بصدق ولم يؤمن أن يقدم على الكذب وأن علم أنه محظور وليس كذلك الفسق فى العقيدة لأنه يؤمن منه الكذب لأن الأمور مشتبهة عليه وهو متحرج فى أفعاله متنزه عن الكذب فيه أن الركن فى قبول الحديث قوة الظن والظن يقوى بصدق من هذا سبيله لمكان نخرجه ببينة أن الصحابة تفرقوا ولم يمنع ذلك من قبول بعضهم رواية البعض وروى التابعون عن الفريقين أيضا وأما الكافر الخارج عن الإسلام فلا تقبل روايته بحال2 لأن اعتقاده يدعو إلى التحريف فلا يقوى الظن بصدقه وهذا الذى ذكرناه مذهب الفقهاء وعندهم أنه لا يقبل من أهل الأهواء وأنه يقبل رواية الكل كما.   = 2/106 المعتمد 2/135, 136 روضة الناظر وجنة المناظر 101 المستصفى 1/156 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/117. 1 انظر إحكام الأحكام للآمدي 2/117, 118 نهاية السول 3/135 المحصول 2/197 المعتمد 2/134 التصريح على التوضيح 2/6 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/119, 120. 2 انظر نهاية السول 3/123 إحكام الأحكام للآمدي 2/103 المحصول 2/195 المستصفى 1/156 التصريح على التوضيح 2/6 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/116, 117. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 يقبل شهادتهم وقد روى أصحاب الحديث عن قتادة وابن أبى نجيح وعمرو بن عبيد وأضراب هؤلاء فإن كانوا نسبوهم إلى القذف فى كتبهم من يظهر منه العناد والتعنت فلا تقبل روايته وكذلك من يتدين بالكذب فلا تقبل روايته وكذلك المتساهل فى روايته وتارك التحفظ من الزيادة. وقد ذكر بعضهم أن الشرائط فى الراوى لقبول الرواية خمسة: أحدها: البلوغ لأن الصغير لا يقبل قوله فى الدين فى خبر ولا فتيا ولا شهادة لأنه لم يقبل خبره فى حق نفسه فأولى أن لا يقبل فى حق غيره وقد ذكر بعضهم أن رواية الصبى إذا كان مميزا وقع فى ظن المستمع صدقه مقبولة1 والأصح هو الأول لأن المعتمد لنا إجماع الصحابة ولم يرو أن أحدا من الصحابة رجع إلى رواية صبى وحده إذا عرف أنه غير مؤأخذ بالكذب لا يزعه عن أمر لكان وازع. والشرط الثانى: العقل وقد قالوا: أنه لا يجوز الاقتصار على العقل الذى نيط به التكليف بل لا بد أن ينضم إليه شدة التيقظ وكذلك التحفظ وأن كان يفيق يوما ويجن يوما فإن أثر جنونه فى زمان جنونه لم يقبل خبره وأن لم يؤثر يقبل. والشرط الثالث: العدالة فى الدين وهذا لأن الفاسق لا يوثق بخبره كما لا يوثق بشهادته والعدالة مأخوذة من الاعتدال ولا بد من أربع شرائط. أحدها المحافظة على فعل الطاعات واجتناب المعاصى. والثانى أن لا يرتكب الصغائر وما يقدح فى دين أو عرض. والثالث أن لا يفعل من المباحات ما يسقط القدر ويكسب الذم. والرابع إلا يعتقد من المذهب ما يرد أصول الشرع مصرح معانيه ووحى وخلا دلائله وقد بينا فى أهل الأهواء ما قاله أهل العدالة الإسلام مع السلامة من فسق ظاهر وجعلوا العدالة المعتبرة فى الشاهد علة العدالة المعتبرة فى المفتى والعدالة المعتبرة فى المفتى أغلظ من العدالة المعتبرة فى الرواية وتعلقوا بحديث الأعرابى أنه لما شهد عند النبى صلى الله عليه وسلم برؤية الهلال قبل شهادته ولم يسأل عن عدالته والصحيح أن ما يعتبر من العدالة فى الشهادة يعتبر فى الرواية يدل أنه أن لم تكن العدالة فى الخبر أغلظ منها فى.   1 انظر إحكام الأحكام 2/101 المحصول 2/194 نهاية السول 3/119 المستصفى 1/156 التصريح على التوضيح 2/6 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/116. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 الشهادة فلا يتنفى أن يكون أسهل لأن المخبر ثبت بخبره شرعا يعم إلزامه فكان بتغليظ العدالة أولى قال وأما أهل الأهواء الذين لا يدفع شبهة شهوة تأويلهم نص كتاب ولا سنة ثابتة متواترة شهادتهم مقبولة وقد شدد بعض أصحاب الحديث فى هذا فمنع القبول فيما ذكرنا والأصح ما بينا ونرد خبر من ظهر منه الكذب فما قل أو كثر من أمور الدين وأن كذب فى ضرر أحد وجب إسقاط جميع ما تقدم من حديثه. والشرط الرابع: أن يكون بعيدا من السهو والغلط ضابطا لما يتحمله ويرويه ليكون الناس على ثقة منه وضبطه وقلة غلطه فإن كان قليل الغلط قبل خبره إلا فيما يعلم أنه غلط فيه وأن كان كثير الغلط رد خبره إلا فيما يعلم أنه لم يغلط فيه وليس من شرط الضبط معرفة أحكام الحديث لأن هذا صفة تزيد على الضبط ولا يمنع جهل الراوى بحكم الحديث قبوله وقد قيل الصدر الأول شهادة الأعراب وأهل البوادى. والشرط الخامس:أن لا يعرف التساهل فيما يرويه وبالتأويل لمذهبه فربما أحال المعنى بتأويله وربما يدين موضع زيادة يصحح بها فاسد مذهبه فلم يوثق بخبره ومن انتفت عنه الثقة لم يقبل خبره ولا يرد خبر من قلت: روايته كما لا يرد من قلت: شهادته ولا يرد خبر من لم يعرف بمجالسته العلماء والمحدثين لأنه قد يسمع من حيث لا يعلمون. فأما المدلس فاعلم أن التدليس هو ترك اسم من يروى عنه وطى اسمه وذكر اسم من يروى عنه شيخه وقد ذكر التدليس عن كثير من أئمة الحديث مثل قتادة والأعمش وهشام وشريك وذكر ذلك أيضا عن سفيان بن عيينة وجماعة يجرون مجراه فنقول التدليس من الرواة يجرى على وجهين. أحدهما أن يعرف بالتدليس ويغلب عليه ذلك وإذا استكشف لم يخبر باسم من يروى عنه فهذا يسقط الاحتجاج بحديثه لأن التدليس معه تزويد إبهام لما لا حقيقة له وذلك يؤثر فى صدقه وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم: "المتشبع بما لا يعط كلابس ثوبى زور". والوجه الثانى من التدليس أن يطوى اسم من يروى عنه إلا أنه إذا كشف عنه أخبر باسمه وأضاف الحديث إلى ناقله فهذا التدليس لا يسقط الحديث ولا يوجب القدح فى الراوى1 وقد كان سفيان بن عيينة يدلس فإذا سئل عمن حدثه بالخبر نص على اسمه ولم يكتمه وهذا شىء مشهور عنه وهو غير قادح قال إبراهيم بن بشار حدثنا سفيان ابن عيينة يوما بحديث فقال عمرو بن دينار عن الحسن بن محمد فقلت: يا أبا محمد.   1 انظر فتح المغيث للسخاوي 1/203. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 أسماعا عن عمرو فقال ابن جريج عن عمرو فقلت: سماعا من ابن جريج فقال لا تفسده أبو عاصم عن ابن جريج فقلت: سماعا من أبى عاصم فقال قد أفسدته بحديثى على ابن المدينى عن أبى عاصم عن ابن جريج عن عمرو فهذا طريق سفيان ومذهبه والشافعى لا يروى عنه من الحديث بما يدخله التدليس وبيان مذهب الشافعى فى هذا الباب أن من اشتهر بالتدليس لا تقبل روايته إذا لم يخبره بالسماع فيقول: سمعت أو حدثنى أو أخبرنى وما أشبهه فأما إذا قال عن فلان وحمل الأمر فى ذلك على السماع لأن الناس قد يفعلون ذلك طلبا للخفة إذ هو أسهل عليهم من أن يقول فى كل حديث حديثا والعرف الجارى فى ذلك يقام مقام التصريح وقد ذكر الحاكم أبو عبد الله الحافظ فى كتاب علوم الحديث وقال الأحاديث المعنعنة متصلة بإجماع أهل النقل إذا لم يكن فيها تدليس1 وذكر حديث عمرو بن الحارث عن عبد ربه بن سعيد الأنصارى عن أبى الزبير عن جابر عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "لكل داء دواء فإذا أصاب دواء داء برىء بإذن الله تعالى" 2 وكذلك ذكر رواية إسرائيل عن عبد الله بن مختار عن ابن سيرين عن أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "أن مع الغلام عقيقة فأهريقوا عنه دما وأميطوا عنه" 3 والرواة فى هذين الخبرين عن قولهم يعرفوا بالتدليس فالحديثان متصلان وأن ذكر بطريق العنعنة قال وضد هذا من الخبر ما رواه يعلى بن عبيد حدثنا الأعمش عن أبى صالح عن أبى هريرة قال ذكرنا ليلة القدر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كم مضى من الشهر" قلنا ثنتان وعشرين وبقى ثمان فقال: "مضى ثنتان وعشرون وبقى سبع اطلبوها الليلة الشهر تسع وعشرون" 4 وهذا الحديث فيه تدليس لأن الأعمش لم يسمعه من أبى صالح. وقد روى محمد بن أيوب حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير حدثنا خلاد الجحفى حدثنى أبو مسلم عبد الله بن سعيد قائد الأعمش عن سهل بن أبى صالح عن أبيه عن أبى هريرة الخبر الذى ذكرناه فإن الأعمش قد دلس فى الرواية الأولى وأظهر من سمع منه فى الرواية الثانية وذكرنا صورة من التدليس ليعرف بعينه وصورته رغم أن أصحاب الحديث.   1 انظر معرفة علوم الحديث 105. 2 أخرجه مسلم السلام 4/1729 ح 49/2204 وأحمد المسند 3/411 ح 14609. 3 عزاه الحافظ الهيثمي إلى - البزار- وقال: رجاله رجال الصحيح انظر مجمع الزوائد 4/61. 4 أخرجه ابن ماجه الصيام 1/530 ح 1656 وأحمد المسند 2/337 ح 7441 ولفظ الحديث عند أحمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 وأهل الرواية منهم قد ذكروا ستة أنواع من التدليس وقد ذكرها أبو عبد الله الحافظ فى كتاب معرفة علوم الحديث1 وذكرها صورا ولم أذكرها كيلا تطول الكتابة وذكرت مكانها حتى أن رغب إنسان فى علم ذلك عرف موضعه وذكر نوعا من ذلك تغير الأسامى بالكنى والكنى بالأسامى لئلا يعرفوا وقد فعله سفيان الثورى وليس هذا مما يوجب القدح فى الحديث وذكر نوعا من ذلك قول المحدث قال فلان ولم يسمع منه وإنما سمع إنسانا تحدث عنه وهو مثل ما قدمنا من قولهم عن فلان قال وقد دلسوا عن قوم مجهولين وعن قوم مجروحين والمتبحر فى علم الحديث يعرف ذلك وهذا باب يطول ذكره إذا وجد سماعا فى كتاب ولم يذكر أنه سمعه جاز له أن يرويه وهذا قول أبى يوسف وعند محمد وأبى حنيفة لا يجوز له أن يرويه حتى يذكر سماعه ولأهل الحديث خلاف فيه وقد اعتبر من منع ذلك بالشهادة وأما من جوز ذلك قال رواية الأخبار محمولة على الظاهر وحسن الظن وقدم فيها ما لم يسامح فى الشهادة ومن الظاهر أنه إذا رأى سماعه بخط من يوثق به أنه قديم فوجب أن يجوز له الرواية وليعلم الحديثى أن الحسن البصرى لم يسمع من أبى هريرة ولا من جابر ولا من ابن عمرو ولا من ابن عباس رضى الله عنهم شيئا قط وإنما روايته عنهم تدليس والشعبى لم يسمع من عائشة رضى الله عنها ولا من على ولا من ابن مسعود ولا من أسامة ولا من زيد بن ثابت رضى الله عنهم وروايته عن هؤلاء تدليس وليعلم أن الأعمش لم يسمع من أنس وأن قتادة لم يسمع من صحابى سوى أنس وأن عامة أحاديث عمرو بن دينار عن الصحابة غير مسموعة وأن عامة أحاديث مكحول عن الصحابة حوالة فاعلم أن عامة المحدثين من أهل الحجاز قد صانوا أنفسهم عن التدليس إلا ما ذكرنا عن ابن عيينة وهو كوفى وفد مكة وصار إمام الدنيا فى الحديث وإنما أكثر التدليس وهو من أهل الكوفة وجماعة من أهل الشام وقد كان خيثمة بن بشير كثير التدليس وهو من أهل واسط وأما أهل بغداد والجبال وأهل خراسان وما وراء النهر فلا يذكر من واحد منهم التدليس إلا الشىء اليسير وقد روى عبد الصمد بن عبد الوارث بن سعيد عن أبيه قال التدليس ذل وذكر عبدان عن ابن المبارك أنه ذكر رجلا ممن كان يدلس فقال فيه قولا سديدا وأنشد فيه: دلس للناس أحاديثه ... والله لا يقبل تدليسا هذا كله فى التدليس فى الرواية مع الصدق فى المتون.   1 انظرمعرفة علوم الحديث 105. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 وقد قال بعض أصحابنا إذا كان الأغلب على الراوى التدليس لا يقبل خبر ما جهلت حاله فى ذلك حتى يعلم أنه غير مدلس وأن كان الأغلب أنه لا يدلس قبلت روايته فيما جهلت حاله حتى يعلم أنه مدلس وأما من يدلس فى المتون فهذا مطرح الحديث مجروح العدالة وهو ممن يحرف الكلم عن مواضعه وأن كان ملحقا بالكذابين ولم يقبل حديثه. وأما تزكية الرواة فقد قال بعضهم لا نقبل إلا شاهدين والذى عليه أكثر الفقهاء المحدثين أنه يثبت عدالة الراوى بتزكية الواحد لأنها تزكية على خبر فكانت كالخبر ويقبل فى هذا تزكية الراوى وتزكية النساء والعبيد كما يقبل روايتهم1. فأما قدح الراوى فلا يقبل إلا من شاهدين وإذا روى العدل عن رجل لم تكن روايته عنه تعديلا وزعم بعض أصحاب الحديث أنه يكون تعديلا وليس بصحيح لأنه يجوز أنه إذا سئل عنه بعدله أو بجرحه قال الشعبى حدثنى الحارث الأعور وكان والله كذابا ولأنه لما لم يكن شهادة شهود الفرع على شهود الأصل تعديلا لهم كذلك رواية الراوى لهم. فإن قيل أيجوز أن يروى عن غير العدل قلنا يجوز فى المشاهير ولا يجوز فى المناكير وأن عمل الراوى بالخبر كان تعديلا للراوى اللهم إلا أن يعمل بموجب الخبر لا لأجل الخبر ويقبل خبر الأعمى والعبد وأن لم تقبل شهادتهما كما يقبل خبر النساء ولا تقبل شهادتهن ونذكر معه هذا الحديث بالمعنى فإنه شىء يرجع إلى الراوى فنقول.   1 اعلم وفقك الله أن الأصوليين قد اختلفوا في مسألة هل يشترط في المزكي العدد على أقوال: 1- لا يشترط التعدد مطلقا كانت التزكية للرواي أو للشاهد وهولأبي بكر الباقلاني ووجهته في ذلك أن التزكية لم تخرج عن كونها خبرا والخبر يقبل من الواحد. 2 - يشترط التعدد مطلقا ووجهة هذاالقول: أن التزكية شهادة بالعدالة والشهادة لا بد فيها من التعدد ولأن العمل بالمتعدد فيه عمل بالأحوط فوجب التعدد لذلك. 3 - المختار للإمام الرازي وأتباعه ومنهم البيضاوي أن العدد شرط تزكية الشاهد وليس شرطا في تزكية الراوي ووجهتهم في ذلك أن الشهادة لا يقبل فيها قول الواحد فما كان شرطا فيها وهو التزكية يأخذ حكمها فلا يقبل فيه قولا الواحد كذلك أما الرواية فخبر الواحد فيها مقبول فما كان متعلقا بها يأخذ حكمها فيقبل فيه قوله فمراعاة الأصل في كل واجبة المحصول 2/200 نهاية السول 3/142 إحكام الأحكام للآمدي 2/110 روضة الناظر 104 المستصفى 1/162 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/122, 123. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 اختلف أهل العلم فى ذلك فذهب بعض السلف إلى أنه لا يجوز مجاوزة اللفظ ولا يجوز أداء الحديث بالمعنى بحال وهذا مذهب عبد الله بن عمرو وجماعة من التابعين وجماعة من بعدهم واحتج من ذهب إلى هذا بقول صلى الله عليه وسلم نضر الله امرءا سمع مقالتى فحفظها ووعاها فأداها كما سمعها فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه قالوا: ومعنى الحديث متعلق بلفظه فإذا تغير اللفظ أثر فى المعنى فكان النبى صلى الله عليه وسلم أفصح العرب وأحسنها بيانا وقال أوتيت جوامع الكلم فمن يمكنه أن يأتى بلفظ يوازى لفظه ويتضمن ما يتضمنه من المعنى وعن أبى العباس أحمد بن يحيى يغلب أنه كان يذهب هذا المذهب ويقول: أن عامة الألفاظ التى لها نظائر فى اللغة إذا تحققتها وجدت كل لفظة منها مختصة بشىء لا يشاركها صاحبتها فمن رأى العبارة ببعضها عن البعض لم يسلم من الزيغ عن المراد والذهاب عنه. وأما عامة أهل العلم فرأوا أن الرواية على المعنى جائزة إذا كان الراوى عالما ما يتعين به المعنى وبذلك جرت عادة أكثر السلف والجمهور من الخلف وكذلك اختلفت ألفاظ الحديث وأن كانت القصة واحدة1 وشبهوا ذلك بالشهادات حيث يصح أداؤها بالمعانى ويعتبر اتفاق الشهود فيه وأن اختلفت ألفاظهم ومما يدل على ذلك رواية الصحابة المناهى عن النبى صلى الله عليه وسلم مثل نهيه عن بيعتين فى بيعة ونهيه عن المحاقلة والمزابنة وحبل الحبلى والنجش وبيع حاضر لباد وغير ذلك وكذلك روت الصحابة أن النبى صلى الله عليه وسلم قضى باليمين.   1 اعلم أن في هذه المسألة ثلاثة أقوال: القول الأول: يجوز ذلك بمعنى أنه لا حرمة في ولكن الأفضل نقل الحديث باللفظ الذي سمع من الرسول عليه السلام وهذا القول لجمهور العلماء وهو المختار للبيضاوي وشرطوا لذلك شروطا: 1 - أن يكون الناقل عالما بمدلولات الألفاظ. 2 - أن يكون اللفظ الثاني مفيدا لما يفيده الأول من غير زيادة ولا نقصان. 3 - أن يكون مساويا للأول في الجلاء والخفاء فإن فقد شرط من ذلك لم يجز النقل إلا باللفظ الأول. القول الثاني: لا يجوز النقل بالمعنى مطلقا بل يحرم وهو قول ابن سيرين وأبي بكر الرازي في الحنفية المعروف بالجصاص. القول الثالث: التفصيل إن كان اللفظ مرادقا للأول جاز وإلا فلا. انظر نهاية السول 3/211 المحصول 2/231 إحكام الأحكام للآمدي 2/146 روضة الناظر 111 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/137. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 على الشاهد1 وقضى بالشفعة فى ما لم يقسم2 ومعلوم قطعا أن فى هذه الأخبار لم يقصد الرواة ألفاظه صلى الله عليه وسلم وإنما حكوا معانى خطابه من غير قصد إلى لفظه بعينه فدل ذلك على جواز النقل عن طريق المعنى دون المحافظة على اللفظ وأما قوله صلى الله عليه وسلم فأداها كما سمعها هذا لا يمنع من النقل على المعنى ألا ترى أن الإنسان لا يمنع أن يقول: أديت رسالة فلان إليك كما سمعت وأن كان أداه على المعنى وهذا إذا كان الراوى عالما مميزا يعلم ما يتغير به المعنى ويميز بين اللفظ والمعنى أما إذا لم يمكن كذلك لم يجز له مجاوزة اللفظ وقال بعض أصحابنا كل ما أوجب العلم من ألفاظ الحديث فالمنقول فيه على المعنى ولا مراعاة للفظ فيه وأما الذى يجب العمل به منها ففيه ما لا يجوز الإخلال بلفظ كقوله صلى الله عليه وسلم: "تحريمها التكبير وتحليلها التسليم" 3 وكقوله صلى الله عليه وسلم: "خمس يقتلن فى الحل والحرم" 4 وما أشبه ذلك والأصح ما ذكرناه وهو الجواز بكل حال والله أعلم. ونذكر عقب هذا ما يتعلق بقولنا حدثنا وأخبرنا وتقدم أولا ما يتعلق بتحمل الأخبار وسماعها فنقول يتعين صحة التحمل وسماع الخبر صحة التمييز والضبط لما يسمعه حتى يعرف ذلك ويفعله إذا لم يكن بلغ من السن ما يعرف هذا لم يصح سماعه. وقد قدر بعضهم أن بلغ خمس سنين بحديث محمود بن الربيع أنه قال عقلت مجة مجها رسول الله صلى الله عليه وسلم فى بئر دارنا وكان لى خمس سنين والأصح أن لا يقدر وقد قال بعض الناس يعتبر أن يكون التابع بالغا وليس هذا بشىء فإن إجماع المسلمين ثابت على قبول ما نقله أحداث الصحابة وأن كانوا سمعوه فى صغرهم مثل ابن عباس وابن الزبير والنعمان بن بشير وأصغر منهم الحسن بن على رضى الله عنهم أجمعين. وقد روى عن.   1 أخرجه أبو داود الأقضية 3/307 ح 3610 والترمذي الأحكام 3/618 ح 1343 وقال حديث حسن غريب وابن ماجه الأحكام 2/793 ح 2368. 2 أخرجه البخاري الشركة 5/159 ح 2496 ومسلم المساقاة 3/1229 ح 134/1608. 3 أخرجه أبو داود الطهارة 1/16 ح 61 والترمذي الطهارة 1/8 وابن ماجه الطهارة 1/101 ح 275 وأحمد المسند 1/154 ح 1010 انظر نصب الراية 1/307. 4 أخرجه البخاري بدء الوحي 6/408 ح 3314 ولم يذكر الحل مسلم الحج 2/856 ح 67/1198. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 النبى صلى الله عليه وسلم ثم نقول للمستمع أربع أحوال بعضها أقوى من البعض أولها أن يسمع من لفظ المحدث والثانى أن يقرأ على المحدث والثالث أن يكاتبه به المحدث والرابع أن يخبر له المحدث والأول أقوى ثم الثانى ثم الثالث ثم الرابع ونبين خلاف الناس فى ذلك ويجوز أن يكون المحدث أعمى أو أصم وهو يحدث وإذا عرفت هذه المقدمة فنقول بعد هذا ما يتعلق بتحديث المحدث فنقول إذا حدث المحدث من حفظه أو كتابه فلا خلاف للسامع أن يقول: سمعت فلانا يحدث عن فلان وأن شاء قال حدثنا وأن شاء قال أخبرنا فلان وإذا قرىء على المحدث فأقر به فجائز أن يقول: أخبرنا فلان كما يجوز أن يشهد على الإنسان إذا قرأ عليك الصك وقرره به والدليل على ذلك قوله تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172] وزعم بعض أصحاب الحديث أنه لايجوز فى هذا أن يقول: حدثنا ولا أخبرنا وإنما يقول قرأ على فلان وأنا أسمع ما قرأ به وأما إذا قرىء عليه فلم يعترف فلا يجوز أن يروى عنه وأن علم أنه حديثه وسماعه1 كما أن الإنسان إذا قرأ على الإنسان وقبل حكايته إقراره بدين أوسع أو نحوه فلم يقر به ولم يعترف بصحته فإنه لا يجوز أن يشهد عليه وقد روى عن أنس بن مالك قال بينما نحن جلوس مع النبى صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل فقال يا محمد إنى سائلك فمشدد عليك فى المسألة فلا تجدن فى نفسك فقال: "اسأل ما بدا لك" فقال نشدتك ربك ورب من قبلك آلله أرسلك إلى الناس كلهم قال: "اللهم نعم الخبر" 2 إلى آخره واحتج شيخ الصنعة أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخارى بهذا الحديث فى كتاب العلم من الجامع الصحيح فى باب العرض على المحدثين وهو دال على ما قلناه من قبل بأنه إذا قرأ عليه فاعترف به يكون حديثا له وإخبار ويصير كأنه سمع منه وقد قال كثير من المحدثين أن العرض على الراوى سماع قالوا: وصورة العرض أن يكون الراوى حافظا متقنا فقدم المستفيد إليه جزء من حديثه أو أكثر من ذلك فتناوله ويتأمل الراوى حديثه فإذا عرف أنه من حديثه قال للمستفيد قد وقفت على ما ناولتنيه وعرفت الأحاديث كلها وهى رواياتى عن شيوخى فحدث بها حتى يجوز أن يحدث بها عنه وينزل هذا منزلة.   1 انظر المحصول 2/221 نهاية السول 3/193 إحكام الأحكام 2/141 روضة الناظر 107 المستصفى 1/165 البرهان 1/637 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/131. 2 أخرجه البخاري العلم 1/179 ح 63 ومسلم الإيمان 1/41 ح 10/12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 السماع1 وقد قال بهذا عكرمة والزهرى وربيعة ويحيى بن سعيد الأنصارى وهشام بن عروة ومالك وعبد العزيز الدراوردى فى جماعة آخرين هؤلاء من أهل المدينة ومن أهل مكة مجاهد بن جبر وأبو الزبير محمد بن مسلم ونافع بن عمر الجمحى وسفيان بن عيينة ومسلم بن خالد الزنجى فى جماعة ومن أهل الكوفة علقمة والشعبى وأبو بكر بن أبى موسى والنخعى وحبيب بن أبى ثابت ومنصور بن المعتمر وإسرائيل وزهير بن معاوية فى جماعة ومن أهل البصرة قتادة وأبو العالية وحميد الطويل وداود بن أبى هند وكهمش وسعيد بن أبى عروبة وجرير بن حازم فى آخرين ومن أهل الشام ومصر أيضا جماعة وكل أصحاب مالك ذهبوا إلى هذا منهم عبد الرحمن بن أبى القاسم وأشهب بن عبد العزيز وعبد الله بن وهب وعبد الله بن عبد الحكم وقال ابن أبى أويس سئل مالك عن حديثه أسماع هو أم عرض فقال منه سماع ومنه عرض وليس العرض عندنا بأدنى من السماع وقال مطرف بن عبد الله صحبت مالكا سبع عشرة سنة فما رأيته قرأ الموطأ على أحد وسمعته يأتى أشد الآيات على من يقول: لا يجزيه إلا لسماع ويقول: كيف لا يجزيك هذا فى الحديث ويجزيك فى القرآن وأنا أقول لا أدرى ما هذا الذى قاله مالك فى القرآن وكيف يكون العرض على ما قلنا فى التحديث للقرآن وإنما المعروف فى القرآن هو القراءة ولم ير أن فقهاء الإسلام الذين أفتوا فى الحلال والحرام لم يروا العرض سماعا واختلفوا فى القراءة على المحدث هل هو إخبار أم لا2 فقال الشافعى المطلبى بالحجاز والأوزاعى بالشام والبويطى والمزنى بمصر والنووى وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل رحمة الله عليهم أجمعين بالعراق وعبد الله بن المبارك وإسحاق الحنظلى ويحيى بن يحيى بالمشرق أنه لا يكون العرض سماعا وأما القراءة على المحدث فهو إخبار عند هؤلاء الأئمة والحجة لهم فى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "نضر الله امرءا سمع مقالتى فوعاها حتى يؤديها إلى من لم يسمعها" 3.   1 انظر المحصول 2/223/224 نهاية السول 3/196 المستصفى 1/166 إحكام الأحكام 2/146 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/132. 2 انظر المحصول 2/222 إحكام الأحكام للآمدي 2/142 نهاية السول 3/194 روضة الناظر 107 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/131. 3 أخرجه الترمذي العلم 5/34 ح 2658 وابن ماجه المقدمة 1/86 ح 236 والدارمي 1/86 ح 228 وأحمد المسند 4/99 ح 16743 ولفظ الحديث عند الدارمي وأحمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 وقال صلى الله عليه وسلم: "تسمعون ويسمع منكم" 1 قلنا ندب النبى صلى الله عليه وسلم إلى سماع قوله وحفظه وأدائه كما سمع دل أن مجرد العرض على ما ذكره لا يكون سماعا والذى عليه أكثر المشاع للحديث أن يقول: فيما يأخذ عن المحدث لفظا ليس معه أحد حدثنى فلان وما يأخذه من المحدث لفظا مع غيره يقول: حدثنا فلان وما قرأ على المحدث بنفسه يقول: أخبرنى فلان وما قرىء على المحدث وهو حاضر يقول: أخبرنا فلان وما عرض على المحدث وأجاز له روايته شفاها يقول: أنبأنى فلان وما كتب إليه المحدث عن فلان ولم يشافهه بالإجازة يقول: كتب إلى فلان وقد قال الشافعى لا تجوز الرواية بالأحاديث على أنه لا يجوز أن يقول: أخبرنا وحدثنا فى العرض الذى قالوه وهو المناولة ولكن يقول: أجاز لى فلان وأنبأنا أجازة أو مناولة والأولى تحرى الصدق فى كل شىء ومجانبة الكذب بما يمكن فهذا جملة ما يقال فى هذا الباب وقد ذكرته بزيادة الشرح لخفاء ذلك على أكثر الفقهاء وغفلتهم عنه واعلم أن الأولى للمحدث أن يروى الخبر بلفظه فإن أراد الرواية بالمعنى ينظر فإن كان ممن لا يعرف معنى الحديث لا يجوز له ذلك لأنه لا يؤمن أن يغير الحديث وأن كان يعرف معنى الحديث ينظر فى ذلك فإن كان ذلك فى خبر محتمل لم يجز أن يؤدى بالمعنى لأنه ربما ينقل بلفظ لا يؤدى مراد النبى صلى الله عليه وسلم وأن كان خبرا نصا أو ظاهرا فقد ذكرنا الكلام فى نقله بالمعنى ويجوز أن يؤدى جميع الحديث ويجوز أن يروى بعضه إذا كان له غرض فى ذلك2 وينبغى لمن لا يحفظ الحديث أن يرويه من الكتاب وأن كان يحفظه فالأولى أن يرويه من الكتاب وأما إذا لم يحفظ وعنده كتاب فيه سماعه بخطه وهو يذكر سماعه للخبر جاز أن يرويه وأن لم يذكر سماعه فهل يجوز أن يرويه3 فيه وجهان أحدهما يجوز ويدل عليه قول الشافعى فى الرسالة.   1 أخرجه أبو داود العلم 4/320 ح 3659 وأحمد المسند 1/417 ح 2951 والبيهقي في الكبرى 10/423 ح 21185 والطبراني في الكبير 2/71 ح 1321. 2 نهاية السول 3/230 إحكام الأحكام للآمدي 2/159 البرهان 1/658 التصريح على التوضيح 2/13 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/141. 3 قال أبو الحسين البصري في المعتمد أن العلماء اختلفوا في ذلك فعند أبي حنيفة رحمه الله لا يجوز أن يرويه ولا يجوز العمل على روايته لأنه لا يجوز أن يقول حدثني فلان وهو لا يعلم أنه حدثه إذا كان ذلك حكما عليه بأنه قد حدثه كما لا يجوز مثله في الشهادة وعند أي يوسف ومحمد والشافعي يجوز له الرواية ويجب العمل عليها حاشية الشيخ محمد بخيت المطيعي على نهاية السول 3/196, 197 انظر المعتمد 2/142 المحصول 2/222 التصريح على التوضيح 2/12 إحكام الأحكام للآمدي 2/144 روضة الناظر 109. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 والوجه الثانى أنه لا يجوز وهو الأصح لأنه لا يأمن أن يكون وقف على خطه ولا بد من شيئين فى الرواية من الكتاب أحدهما أن يكون واثقا بكتابه وسواء كان ذلك بخطه أو بغير خطه والثانى أن يكون ذاكرا لوقت سماعه فإن أخل بواحد منهما لم يصح روايته ويقبل رواية المحدث فيما يعود إليه نفعه بخلاف الشهادة لاشتراك الناس فى السنن والديانات وإذا أسند الراوى حديثه إلى رجل فدفعه المحدث عن نفسه وقال لا أذكره فعند أبى الحسن الكرخى وهو قول جماعة المتكلمين لا تقبل رواية الراوى لأنه الأصل فى الرواية فلا تقبل الرواية إذا أنكرها1 وهذا كشاهد الأصل إذا أنكر شهادة الفرع ولأنا إنما نقبل بطريق حسن الظن وإذا أنكر المروى عنه فأين حسن الظن وأما على مذهب الشافعى فلا يقدح هذا فى رواية الراوى لأنه يجوز أنه نسى ما رواه لأن الإنسان قد يحدث الإنسان بحديث فى أمور الدنيا ثم يسهو عنه ويذكر به فلا يذكره إلا بعد زمان طويل وربما لا يذكره أصلا وقد روى ربيعة عن سهيل بن أبى صالح عن أبيه عن أبى هريرة خبر القضاء بالشاهد واليمين ثم نسيه سهيل وكان يقول: حدثنى ربيعة عنى وهو ثقة ولم ينكر عليه فصار إجماعا من السلف وفى الشهادة زيادة احتياط لا توجد فى الرواية بدليل اشتراط التحمل هناك بخلاف الرواية هذا إذا قال لا أذكر أو قال نسيت فأما إذا جحد المروى عنه وكذب بالحديث سقط الحديث هكذا قاله الأصحاب وأقول يجوز أن لا يسقط رواية الراوى لأنه قال ما قال بحسب وإن قال ما رويته أصلا فيعارضه قول الراوى أنه سمع منه وكل واحد منهما ثقة ويجوز أن يكون المروى عنه رواه ثم نسبه فلا يسقط رواية الراوى بعد أن يكون ثقة هذا مع التجويز. ونذكر الآن مسائل الخلاف. [فصل] : 2 اعلم أن خبر الواحد إذا ثبت وجب العمل به سواء ورد فيما يعم به البلوى أو ورد فيما لا يعم به البلوى وذهب عامة أصحاب الحديث إلى أن خبر الواحد إذا ورد فيما يعم به البلوى لم يجب العمل به وتوقفوا فى خبر المتبايعين بهذا المعنى وكذلك فى إيجاب قراءة الفاتحة خلف الإمام وخبر الوضوء من مس الذكر3 والذى.   1 البرهان 1/653, 654, 655 روضة الناظر 109. 2 بياض في الأصل. 3 اعلم أن العلماء قد اختلفوا في العمل بخبر الواحد فيما تعم به البلوى فذهب جمهور العلماء ............ = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 تعلقوا به هو أن ما عم به البلوى يكثر السؤال عنه وما يكثر السؤال عنه يكثر بيانه وما يكثر بيانه يكثر نقله فحين قل النقل دل أنه لم يثبت فى الأصل ولهذا لم يقبل قول الرافضة فى دعواهم النص على على رضى الله عنه فى الإمامة لأن فرض الإمامة يعم به بلوى الناس فلو كان هذا النص ثابت لنقل نقلا مستفيضا وحين لم ينقل دل أنه غير ثابت قالوا: ولأن الخبر الذى يفيد العلم لا يقبل حتى ينقل على طريق الاستفاضة لعموم البلوى فى العلم المتعلق بالخبر كذلك الخبر الذى يوجب العمل فإذا عمت البلوى به لا يقبل حتى ينقل من طريق الاستفاضة. وأما الدليل لنا هو أن الدليل المعتمد فى قبول أخبار الآحاد هو إجماع الصحابة وقد دل هذا الدليل على قبول خبر الآحاد أجمع سواء كان فيما يعم به البلوى أو فى غير ما يعم به البلوى. ببينة: أن الصحابة اختلفوا فى الأمور العامة ثم صاروا فيها إلى أخبار الآحاد وهذا مثل اختلافهم فى وجوب الغسل بالتقاء الختانين وقد صاروا فى ذلك إلى خبر عائشة رضى الله عنها وقد كان قبل ذلك وجوب الماء من الماء ثم إنهم اجتمعوا عند عمر رضى الله عنه فأرسل إلى عائشة رسولا فانصرف الرسول فأخبرهم عنها بأن النبى صلى الله عليه وسلم قال إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل فصدوا عن قوليهما قائلين بذلك معتقدين له وقد كان هذا من الأمور التى يعم بها البلوى وسأل عمر الناس عن المجوس وأخذ الجزية منهم فأخبره عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنهما على ما روينا1 فأخذ بذلك وقد كان هذا من الأمور العامة لأنه حكم على أمة من الأمم وجيل عظيم من أجيال الناس وقال ابن عمر رضى الله عنهما كنا نخابر أربعين سنة حتى روى لنا رافع بن خديج الخبر2 وهذا أيضا من الأمور العامة وقد كان عمر رضى الله عنه يقول بالتفاضل فى رءوس الأصابع حينا من الدهر حتى روى له أن النبى صلى الله عليه وسلم قال فى كتاب عمرو بن حزم فى كل أصبع عشر من الإبل فرجع عن قوله وتحقق الكلام فنقول من لا.   = إلى أنه مقبول كغيره من الأخبار وقال جمهور الحنفية ومنهم الكرخي أنه غير مقبول انظر نهاية السول 3/170 حاشية الشيخ محمد بن مخيت المطيعي 3/170 إحكام الأحكام للآمدي 2/160 روضة الناظر 114 البرهان 665 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/127. 1 تقدم تخريجه. 2 تقدم تخريجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 يقبل خبر الواحد فيما يعم به البلوى مع اعتقاده أن خبر الواحد يوجب العمل فأما أن لا يقبله لأن الشريعة منعت من قبوله أو لأنه ليس فى الشريعة ما يدل على قبوله أو لأنه لو كان صحيحا لأشاعه النبى صلى الله عليه وسلم وبين على وجه متواتر نقله ليصل إلى من تعبد بموجبه على ما ذكروا من قبل قالوا: ولو فعل ذلك لقوى الدين والعادة إلى إشاعة نقله وهذه الأقسام كلها باطلة أما الأول فباطل لأنه لو كان فى الشرع نص منع من قبوله لوجدناه مع البحث المستديم فإن قالوا: أليس قد رد عمر خبر أبى موسى فى الاستئذان. ورد أبو بكر رضى الله عنه خبر معاذ فى الجدة قلنا كان ذلك نوع احتياط وليس أنهما لو لم يأتيا براوى آخر لم يقبلا وعندكم خبر الاثنين أيضا يعم به البلوى وأما الثانى فباطل أيضا لأنا قد قلنا بالدلائل القطعية على قبول أخبار الآحاد من غير تفصيل وتخصيص وأما الثالث فباطل أيضا وهو الحرف الذى ذكرنا فى حجتهم أنه إذا كان الحكم فيما يعم به البلوى يجب فى الحكم إشاعته فنقول على هذا إذ ما يجب ذلك لو لزم المكلفين العمل به على كل حال فأما إذا لزمهم العمل بشرط أن يبلغهم الخبر فليس فى ذلك تكليف ما لا طريق إليه ولو وجب ما ذكروه فيما يعم به البلوى لوجب فيما لا يعم به البلوى أيضا لأنه وأن كانت البلوى لا تعم به لكنه يجوز وقوعه لكل واحد من آحاد الناس فيجب فى الحكم إشاعة حكمه خوفا من أن لا يصل إلى من يعمل به فيصبح فرض عليه فإن قالوا: لا يلزم القول وجوب إشاعته لأنه إنما يكلف المكلف ذلك الحكم بشرط وصوله إليه وأن لم يصل إليه لم يكن مكلفا قلنا أن جاز هذا فى الآحاد من الناس جاز فى جماعتهم وعلى أن وجوب الوتر يعم به البلوى ولم يتواتر بوجوبه قال أبو الحسن الكرخى قد تواتر النقل بفعله قلنا هذا لا يعصمكم من المناقضة لأن الفعل يعم به البلوى والوجوب أيضا يعم به البلوى ولم يتواتر به النقل جواب آخر أن الحكم وأن عم به البلوى فليس هو بشىء وقعت واقعته فى الحال لكل أحد فى نفسه وذاته بل غاية ما فى الباب توهم وقوعه وإذا لم يكن إلا محض التوهم فإذا وقع يمكن الوصول إلى موجب الحكم لأن حكمه وأن نقله الواحد والاثنان فالتمكن من الوصول إليه موجود فيكفى ذلك لأنه إذا أمكنه الوصول فليس يضيع الحكم وأما مسألة الإمامة قلنا وجود الإمام للإنسان فرض على كل إنسان وواقعته فى الحال لأنه لا بد لكل أحد من إمامة ترجع إليه فلو كان النص الذى ادعوه فى على رضى الله عنه ثابتا وقد شاع النبى صلى الله عليه وسلم ذلك فإنهم يدعونه كذلك ويقولون أنه صلى الله عليه وسلم أشاع العهد فى الإمامة يوم غدير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 خم ولا يتصور أن يشيع ذلك ثم يجمع الجم الغفير والجماعة العظيمة على كلماته وقد قالوا: أن غدير خم لم يعرف فى العالم وكيف يفعل الرسول صلى الله عليه وسلم فى هذا الموضع مثل هذا الفعل وينصب للناس عليا يرجعون إليه ثم يشتبه على الناس موضع ذلك حتى لا يعرف أحد وأما ما تعلقوا به من الخبر الموجب للعلم فقد ذكرنا أنه بأى معنى لا يوجب الخبر الواحد وإذا ما لم يكن الخبر الواحد طريقا إلى إفادة العلم بوجه ما بالمعنى الذى بينا وكان طريقا لإيجاب العمل سقط سؤالهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 فصل: الخبر إذا صح وثبت من طريق النقل وجب الحكم به وأن كان مخالفا لمعانى أصول سائر الأحكام . وقد حكى عن مالك أن خبر الواحد إذا خالف القياس لا يقبل وهذا القول بإطلاقه سمح مستقبح عظيم وإنما أجل منزلة تلك عن مثل هذا القول وليس يدرى ثبوت هذا منه وقال أبو الحسين البصرى لا خلاف فى العلة المنصوص عليها وإنما الخلاف فى العلة المستنبطة قال والقياس لا يخلو أما أن يكون حكمه فى الأصل ثابتا بخبر الواحد أو بنص مقطوع به فإن كان الأصل ثابتا بخبر فلا يجوز أن يكون القياس معارضا لخبر الواحد بل الأخذ بالخبر يكون أولى على قول الكل وأما إذا كان الحكم ثابتا فى الأصل بدليل مقطوع به والخبر المعارض للقياس خبر واحد فينبغى أن يكون الناس إنما اختلفوا فى هذا الموضع وأن كان الأصوليون ذكروا الخلاف مطلقا وقال في هذه الصورة التى ذكرها فعند الشافعى أن الأخذ بالخبر أولى وهو قول أبى الحسن الكرخى وقال عيسى بن أبان أن كان راوى الخبر ضابطا عالما غير متساهل فيما يرويه وجب قبول خبره وترك القياس به وأن كان الراوى خلاف ذلك كان موضع الاجتهاد وذكر أن من الصحابة من رد حديث أبى هريرة بالاجتهاد وحكى عن مالك ما ذكرنا وأما أبو زيد فإنه قال إذا كان الراوى فقيها فيجب قبول خبره الذى رواه وترك القياس به بكل حال وأما إذا كان عدلا ولكن لم يكن فقيها مثل أبى هريرة وعمار وجابر وأنس وأمثال هؤلاء فإذا خالف القياس لم يجب قبول خبره1 واحتج المخالفون فى هذه المسألة أما من قدم القياس قال إن.   1 اعلم أن محل النزاع في هذه المسألة إذا لم يمكن تخصيص أحدهما بالآخر وللعلماء فيه ثلاثة أقوال: الأول: أن يقدم خبر الواحد على القياس وهو لجمهور العلماء منه الشافعي وأبو حنيفة ومالك والبيضاوي ........... = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 القياس أثبت من الخبر لجواز الكذب والخطأ على الراوى ومثل هذا لا يوجد فى القياس فكان القياس مقدما عليه ولأن القياس يخص عموم الكتاب فلأن يترك به خبر الواحد أولى لأن خبر الواحد أصوب من عموم الكتاب وقد قال بعضهم أن القياس لا يحتمل تخصيصا بل لا يجوز تخصيصه وأما الخبر الواحد يحتمل التخصيص وكان غير المحتمل أولى من المحتمل وقد قال أصحاب أبى حنيفة فى تقديم الأصول على الخبر الواحد بأن الأصول مقطوع بها والقياس غير مقطوع به وكان الدليل المقطوع به أولى من الدليل المظنون واحتج من قدم خبر الواحد على القياس بإجماع الصحابة فإنهم كانوا يتركون أحكامهم بالقياس إذا سمعوا الخبر الواحد وروى أن أبا بكر رضى الله عنه نقض حكما حكم به برأيه بحديث سمعه من بلال وترك عمر رأيه فى الجنين وفى دية الأصابع بالحديث الذى نقل له وكذلك ترك رأيه فى ترك توريث المرأة من دية زوجها بالحديث الذى رواه الضحاك بن سفيان وترك ابن عمر رأيه فى المزارعة بالحديث الذى سمعه من رافع بن خديج ونقض عمر بن عبد العزيز ما حكم به من رد الغلة على البائع عند الرد بالعيب بالخبر الذى روى له أن الخراج بالضمان وهذا شىء معروف منهم وعن بعض المشاهير من الصحابة لقد كدنا نقضى برأينا وفيه خبر عن رسول الله فإن قيل أليس أن ابن عباس قال لأبى هريرة حين روى عن النبى صلى الله عليه وسلم: "إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده فى الإناء حتى يغسلها ثلاثا فإنه لا يدرى أين باتت يده" 1 فقال ابن عباس فما تصنع بالمهراس والمهراس حجر عظيم كانوا يجعلون فيه الماء ويتوضئون منه قلنا من قال له أبو هريرة يا ابن أخى إذا حدثتك الحديث فلا تضربن له الأمثال ولأن ابن عباس إنما أخبره عن عجزه عن استعمال الحديث لأنه رد الحديث فسقط السؤال ولأن الخبر الواحد أصل القياس وأن القياس الذى يعارض الخبر أصله الخبر أما المتواتر والآحاد فإن قالوا: نحن إنما نقدم القياس على الخبر الواحد إذا كان القياس قائما على دليل قاطع والجواب أن هذا التفصيل لم يعرف من المخالف فى هذه المسألة إنما هذا.   = الثاني: يقدم القياس على خبر الواحد ونسب هذا القول لمالك. الثالث: الوقف بمعنى أنه لا يعمل بواحد منهما حتى يقوم العمل على ترجيحه وهو لأبي بكر الباقلاني انظر نهاية السول 3/164, 165 المحصول 2/211, 213, 214 إحكام الأحكام للآمدي 2/169 حاشية الشيخ محمد مخيت المطيعي 3/165 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/124. 1 أخرجه البخاري الوضوء 1/316 ح 162 ومسلم الطهارة 1/233 ح 87/278. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 شىء ذكره أبو الحسين البصرى ولم يعرف له متقدم وعلى أنا بينا أن خبر الواحد فى العمل منزلة الخبر المتواتر لأنه يوجب العمل بدليل مقطوع به فإذا كان الخبر المتواتر فى العمل مقدما على القياس فكذلك الخبر الواحد يكون كذلك أيضا وهذا لأن الخبر إذا ثبت يصير مقتضاه كأنه سمع من النبى صلى الله عليه وسلم وإذا صار كذلك لم يكن بد من تقديمه على القياس وهم يقولون على هذا إنما يجرى مجرى ما سمع من النبى صلى الله عليه وسلم فى وجوب العمل وكذلك القياس وقد قال بعض أصحابنا أن إثبات الحكم بخبر الواحد يستند إلى قول النبى صلى الله عليه وسلم بلا واسطة وإثباته بالقياس مستند إلى قوله بواسطة فكان إثباته بالخبر أولى وهم يقولون على هذا أنه وأن كان لا يتأتى الحكم بالخبر هذه المزية فإن لإثبات الحكم بالقياس مزية أخرى وهى استناده إلى أصل معلوم بدليل قطعى قالوا: وكما أن العمل بخبر الواحد مستند إلى أصل معلوم وهو ما دل على وجوب العمل بخبر الواحد فكذلك الحكم بالقياس مستند إلى ما دل على العمل بالقياس وهو معلوم وكما أن العمل بالقياس مفتقر إلى الاجتهاد فى الإمارة فالحكم بالخبر الواحد يفتقر إلى الاجتهاد فى أحوال المخبرين فهما متساويان فى هذه الجهة وهذا من أقوى ما يحتج به المخالف غير أن هذا الدليل موجب التعارض بين خبر الواحد والقياس وأن يكون الأمر فى تقديم أحدهما على الآخر مردود إلى القياس والمعتمد لنا هو الدليل من إجماع الصحابة والدليل لا بأس به على حسب ما ذكرناه وأما قولهم أن السهو والغلط له مدخل فى الخبر جواز ذلك كجواز كون الحكم غيره متعلق بالإمارة فى القياس وأن كان الأغلب صدق الراوى وتعلق الحكم بالإمارة وأما قولهم أنه يخص عموم الكتاب بالقياس قلنا إذا خصصنا العموم بالقياس لم نكن تاركين للعموم أصلا بالقياس وليس كذلك فى مسألتنا لأنه يؤدى إلى ترك الخبر أصلا بالقياس وأما قولهم أن الخبر محتمل قابل للتخصيص والقياس بخلاف ذلك قلنا الكلام فى خبر نص يرد ويخالفه القياس وفى هذه الصورة لا احتمال واعلم أنه قد قال بعض الأصوليين ينبغى أن يضاف إلى الاجتهاد إذا تعارض الخبر الواحد والقياس على الأصول المقطوع بها وهذا ليس بصحيح لأنا بينا معتمدنا إجماع الصحابة وعلى أن الترجيح للخبر بالدليل الثانى الذى قد بيناه ويمكن أن يقال أيضا أن دلالة الألفاظ لا تستنبط من غيرها وأما القياس فهو مستنبط من الألفاظ وكانت أقوى فى الدلالة إلى هذا الموضع انتهت هذه المسألة وهى مع مالك بن أنس ومن تابعه أن ثبت وأما الكلام مع أصحاب أبى حنيفة فإنهم قد زعموا أن الخبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 الواحد مفهوم على القياس وقد نص عليه أبو حنيفة فى كتاب الصوم وغيره ولكنهم زعموا أن الخبر الواحد إذا خالف الأصول لم تقبل وزعموا أن خبر القرعة وخبر المصراة خالف الأصول وكذلك خبر الشاهد واليمين وزعموا أن خبر القهقهة وخبر الوضوء بنبيذ التمر خالف القياس فإنا نقول نعوذ بالله من الطمع الكاذب وأى مخالفة للأصول فى هذه المسائل التى قالوها وهل ورد أصل مقطوع به فى صورة مسألة القرعة أو صورة مسألة المصراة أو صورة مسألة الشاهد واليمين بخلاف مواجب الأخبار الواردة فى هذه المسائل وإنما غاية قولهم أن قياس هذه الحادثة على أمثالها يقتضى أن يكون الحكم كذا وهو أن يكون الحكم على خلاف ما ورد به الخبر هل هذا إلا رد الخبر بمحض القياس ونقول أن الحديث إذا ثبت صار أصلا فى نفسه إلا أنه ربما لا يكون له من حديث المعنى يظهر فى سائر أصول الشرع وعدم النظير لا يبطل حكم الشىء وإنما يبطله عدم الدليل وإنما صارت الأصول أصولا لقيام الدلالة على صحتها وثبوتها فإذا ثبت الخبر صار أصلا مثل سائر الأصول فلو وجب تركه لسائر الأصول لوجب ترك سائر الأصول به فإذا لم يلزم أحدهما لم يلزم الآخر وعلى أنهم قد استعملوا فى مذهبهم من هذا ما أنكروه من مذهبنا وهو قولهم الخبر فى الوضوء بنبيذ التمر وفى إيجاب الوضوء بالقهقهة وأما الذى قالوا: أن ذلك الخبر مخالف للقياس فى هذا مخالف الأصول تمنى باطل لأن دعوى خلاف الأصول فى المسائل التى ذكروها لا يصح إلا من حيث المعنى وهو محض القياس والعجب أنه كيف صار القول واجبا بهذه الأخبار التى ذكروها أعنى فى القهقهة والوضوء بنبيذ التمر وما أشبه ذلك مع ضعف أسانيدها وبطل القول بالأخبار الصحيحة فى مسألة المصراة والشاهد واليمين والعرايا والقرعة وما أشبه ذلك فهل هذا لا تحكم فى الدين واختيار قول غير أولى بأهل العلم وذوى العقول يدل على ما بينا أن أصل الأصول وأقواها هو الكتاب وقد بين الله تعالى ما حرم من النساء وعدده تعديدا ثم قال: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} فلم يمتنع علماء السلف والخلف من قبول الخبر فى تحريم نكاح المرأة على عمتها وعلى خالتها وأن كان الظاهر أنه مخالف الآية وقال تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} فقبلنا نحن الخبر وكذلك أهل العراق فى تحريم كل ذى ناب من السباع وكل ذى مخلب من الطير وقبل عمر رضى الله عنه حديث حمل بن مالك بن النابغة فى الجنين وقضى به وقال لو لم ينسخ هذا لقضينا فيه بغيره فقبل الحديث وأن كان مخالفا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 لما غفله من معانى الأصول وذلك المعنى فى الأصول هو أن النبى صلى الله عليه وسلم أوجب فى النفس مائة من الإبل فلا يعدو الجنين أن يكون حيا فيكون جنينا من الإبل أو يكون ميتا فلا يكون فيه شىء إلا أنه لما بلغه الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه أصلا فى نفسه فقبله ولم يضرب به سائر الأصول وقبل أيضا خبر الضحاك بن سفيان الكلابى فى توريث المرأة من دية زوجها وقد كان يرى خلاف ذلك تمسكا بظاهر القرآن وذلك لأن قوله تعالى: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} ظاهره يقتضى أنها إنما ترث ما كان ملكه الزوج والزوج لم يملك الدية قط لأنها وجبت بموته وهذه دلائل بينة على خلاف ما قالوه وقد ذكر أبو زيد فى أصوله أقسام الرواة الذين تقبل روايتهم ويحكى على ما ذكروه وقد قال هم أربعة أقسام أما المشهورون فنحو الخلفاء الراشدين والعبادلة وأما المجهولون فنحو معقل بن يسار وسلمة بن المحنق ووابصة بن معبد وسائر الأعراب الذين لم يعرفوا إلا بما رووا ثم المخبر المشهور حجة ما لم يخالف القياس الصحيح فإذا خالف نظر فإن كان الراوى من أهل الفقه والرأى والاجتهاد رد القياس بخبره وأن لم يكن من أهل الفقه والرأى رد خبره بالقياس أما الأول فلأن الخبر أولى فى الجملة من القياس لأن الخبر فى الأصل حجة يقينا وإنما وقع الإسناد فى نقل الناقل والرأى فى أصله إشكال فى حق الإصابة ولأن شبهة الرأى من حيث أنه لعلة لم يبلغ حيث كان الحق وشبهة الراويه من حيث قصد الكذب أو اعتراض نسيان فيكون لا بحالة لعارض وكان دون الأول قال وقد اشتهر من الصحابة ترك الرأى بالجهر وذكر بعض ما ذكرنا قال وأما الراوى الذى ليس من أهل الفقه فذكر أنه قد ثبت ثبوتا ظاهرا الرد على أبى هريرة بالقياس وكان هو من المشهورين المعدلين إلا أنه لم يكن فقيها روى أبو هريرة الوضوء عما مسته النار فقال ابن عباس ألسنا نتوضأ بالحميم فرد بالقياس ولم يشتغل بالسند وقال أبو هريرة وأن كان قال يا ابن أخ إذا رويت لك الحديث فلا تضرب له الأمثال فهو لا يكون فى مقابلة ابن عباس رضى الله عنهم وقد كان عمر رضى الله عنه يستشير فى أحكام الحوادث وكان يقول له: غص يا غواص شنشذة أعرفها من أحزم وهذا مثل تمثل به العرب يشبه الولد بوالده قال وروى أبو هريرة أن ولد الزنا شر الثلاثة1 فقرأت عائشة: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} وقالت عائشة رضى الله عنها فيه إلا تعجبون من هذا وكثرة حديثه عن النبى صلى الله عليه وسلم كان النبى صلى الله عليه وسلم يحدث حديثا لو عده عاد لأحصاه وقال إبراهيم.   1 أخرجه أبو داود العتق 4/28 ح 3063 وأحمد المسند 2/416 ح 8118. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 النخعى كانوا يأخذون من حديث أبى هريرة ويدعون قال فدل ما قلناه أن العدل ترد روايته بالقياس إذا لم يكن فقيها لأن أبا هريرة ما كان يشكل على أحد عدالته وكثرة صحته ومع ذلك رد حديثه بالقياس لأنه لم يكن من أهل الاجتهاد ووجه ذلك أنهم كانوا يستجيزون نقل الحديث بالمعنى فلما ظهر ذلك منهم احتمل كل حديث أن يكون الراوى نقل بما فقه من المعنى فإذا لم يكن فقيها صار متهما بالغلط لما خالف لفظه معنى القياس الصحيح فالتحق برواية الصبى والمغفل فيرد وأما إذا كان الراوى فقيها لم يتهم وعلم أنه ما نقل ما يخالف القياس إلا عن معرفة صحيحة وهذا لأنه عالم بالرأى وطريقه فلا يظن به تركه إلا بنص محكم قال ولهذا رد علماؤنا حديث المصراة وحديث العرايا لأنه لم يروهما فقيه وإذا ثبت ما قلنا فى رواية أبى هريرة فمن لم يبلغه فى المنزلة شهرة وصحة بما قلنا إلا أن يكون حديثا عمل به السلف وقد كانوا أهل فقه وتقوى فيدل قبولهم الخبر على علمهم بصحته من طريق آخر. قال وأما المجهول من الصحابة رضى الله عنهم أجمعين فخبره حجة أن عمل به السلف وكذلك أن سكتوا عن الرد وقد ظهر ذلك الخبر فيما بينهم وأما قبل الظهور فيعمل به أن وافق القياس ولا يعمل به أن خالف القياس لأنه فى الرتبة دون أبى هريرة بكثير وقال محتمل أن يقال أن خبر المشهور الذى ليس بفقيه حجة ما لم يخالف القياس وخبر المجهول مردود ما لم يؤيد بالقياس ليقع الفرق بين الذى ظهرت عدالته والذى لم تظهر ليكون رد العدل يعارض تهمة وقبول قول غير العدل يعارض دليل وذكر قول عمر رضى الله عنه فى خبر فاطمة بنت قيس ذكرت ما قاله فى هذا الفصل على اختصار وتركت بعض قوله وهذا الرجل قد بنى كلامه فى هذا الفصل على التصرف فى الصحابة والإبهام ببعض الطعن على طائفة منهم ومن بعضهم بعدم العدالة ووسم طائفة منهم بكونهم مجهولين وهذا الذى قاله جرأة عظيمة ولا أدرى كيف وقع الأغضاء عنه والمدامجة فى حقه فى برار أهل السنة وجميع الصحابة قد عدلهم الله تعالى فى آى كثيرة من كتابه فقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} والمراد من الذين اتبعوهم بإحسان من مسلمى الفتح ومن أسلم من أهل البوادى والأعراب وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الفتح: 29] الآية وقال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18] الآية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 وكذلك وردت أخبار كثيرة فى فضل الصحابة وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تذكروا أصحابى إلا بخير فلو أنفق أحدكم ملء الأرض ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه" 1 والروايات فى جنس هذا تكثر وأما أبو هريرة رضى الله عنه لقد كان من المهاجرين من علية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفضائله كثيرة وحسب السامع ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اللهم حبب عبدك أبا هريرة إلى عبادك المؤمنين" 2 وقد كان دعا له بالحفظ واستجاب الله تعالى فيه ذلك حتى انتشر فى العالم ذكره وحديثه وقال إسحاق الحنظلى ثبت عندنا فى الأحكام ثلاثة ألف حديث روى أبو هريرة رضى الله عنه منها ألف وخمسمائة وقال البخارى روى عنه سبعمائة من أولاد المهاجرين والأنصار وقد روى جماعة من الصحابة رضى الله عنهم عنه وقد كان ابن عباس رضى الله عنه يأخذ الحديث عنه وعن أمثاله لأنه كان صبيا فى عهد النبى صلى الله عليه وسلم وخبر الوضوء مما مست النار3 منسوخ وقول ابن عباس ما قاله كان من طريق بينه أنه منسوخ وأما عائشة رضى الله عنها فإنها كانت تنكر عليه سرده الحديث سردا وما كانت تتهمه بالكذب ومعاذ الله أن يظن ذلك بأحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان الزبير وجماعة ينكرون كثرة الرواية عن النبى صلى الله عليه وسلم مخافة السهو والغلط وقد ورد أن عمر رضى الله عنه حبس ابن مسعود وجماعة لكثرتهم الرواية عن النبى صلى الله عليه وسلم وقيل أنه طعن وتوفى وهم فى حبسه ثم أطلقوا وقولهم أن أبا هريرة رضى الله عنه لم يكن فقيها قلنا لا بل كان فقيها ولم يعدم شيئا من آلات الاجتهاد وقد كان يفتى فى زمان الصحابة رضى الله عنهم وما كان يفتى فى ذلك الزمان إلا فقيه مجتهد وعلى أنه أن لم يكن من المعروفين بالفقه فقد كان معروفا بالضبط والحفظ والتقوى ولم يقل أحد من الأئمة أن الفقه فى الراوى شرطا.   1 أخرجه البخاري فضائل الصحابة 7/25 ح 3673 ومسلم فضائل الصحابة 4/1967 ح 221/2540 بلفظ "لا تسبوا أصحابي". 2 أخرجه مسلم فضائل الصحابة 4/1938 ح 158/2491 وأحمد المسند 2/428 ح 8279. 3 قال أكثر أهل العلم لا وضوء فيما مسته النار وروى ذلك عن الخلفاء الراشدين وأبي بن كعب وابن عباس وعامر بن ربيعة وأبي الدرداء وأبي إمامة وعامة الفقهاء وذهب جماعة من السلف إلى إيجاب الوضوء مما غيرت النار منهم ابن عمر وزيد بن ثابت وأبو طلحة وابو موسى وأبو هريرة وأنس وعمر بن عبد العزيز وأبو مجلز وأبو قلابة والحسن والزهري انطر المغني لابن قدامة 1/184. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 لقبول روايته. ببينة: أنه لما لم يشترط فى الشهادة مع أن الاحتياط فيها أكثر والاستقصاء فيها أشد فكيف يعتبر فى الرواية وقد جرى فيها من المساهلة ما لم يجر فى الشهادة. وقولهم إنهم كانوا ينقلون بالمعنى قلنا وكيف يخفى معنى الحديث على مثل أبى هريرة ودونه وقد كانت الأخبار جاءت بلسانهم التى عرفوها وعرفوا عليها فعله باللسان يمنع من اشتباه المعنى وعدالته وتقواه دافع لتهمة المزيد والنقصان عليه وأن قال يجوز أن يغلط فهذا أمر مثله موجود فى الفقيه وغير الفقيه وموجود فى الشهادات ومع ذلك لم يلتفت إليه فدل ما ذكرناه أن ما قاله هذا الرجل باطل. وعندى أن من قال أن خبر الواحد على الجملة لا يقدم على القياس أعذر ممن قال مثل هذه المقالة التى مرجعها إلى التصرف فى الصحابة وتطريق الناس للطعن عليهم والغمز فيهم ونسأل الله تعالى العصمة من مثل هذه المقالة الوحشة والعجب أنه يذكر فى أبى هريرة رضى الله عنه ما يذكر وقد نص صاحبهم أنه ترك القياس فيما إذا أفطر ناسيا وراوى ذلك الخبر أبو هريرة رضى الله عنه فقد خالف صاحبه والذى يعتنى كل هذا الاعتناء للذب عن مذهبه وأما حديث عمر رضى الله عنه فى فاطمة بنت قيس فالمراد بذلك فى السكنى وقد ذكرنا فى الخلافيات الفروع والله أعلم. مسألة: لا يجب عرض الخبر على الكتاب ولا حاجة بالمخبر إلى إجازة الكتاب. وذهب جماعة من أصحاب أبى حنيفة إلى أنه يجب عرضه على الكتاب1 فإن لم يكن فى الكتاب ما يدل على خلافه قبل وإلا فيرد وذهب إلى هذا كثير من المتكلمين. وقال أبو زيد فى أصوله خبر الواحد ينتقد من وجوه أربعة العرض على كتاب الله ورواجه بموافقته وزيافته بمخالفة ثم على السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهى السنة التى ثبتت بطريق الاستفاضة ثم العرض على الحادثة فإن كانت الحادثة مشهورة لعموم البلوى بها والخبر شاذا كان ذلك زيافة فيه وكذلك أن كان حكم الحادثة بما اختلفت بين السلف اختلافا ظاهرا ولم ينقل عنهم المحاججة بالحديث كان عدم الحجاج زيافة فيه وقال أما الأول فكما روى عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "كل شرط ليس فى كتاب الله فهو باطل وأن كان.   1 انظر نهاية السول 3/173 المحصول 2/215 حاشية الشيخ محمد بخيت المطيعي 3/173 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/129. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 مائة شرط" 1 أى كان حكمه بخلاف ما فى كتاب الله عز وجل وروى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا روى لكم عنى حديث فاعرضوه على كتاب الله تعالى فما وافق فاقبلوه وما خالف فردوه"2 وأن كتاب الله تعالى ثابت بيننا وغير الواحد ثابت ثبوتا فيه شبهة وكان رد ما فيه شبهة باليقين أولى من رد اليقين به قال وسواء عندنا خالف الخبر من الكتاب أصله أو عمومه أو ظاهره بأن حمله على المجاز وهذا لأن العام عندنا بوجوب العلم بعمومه يقينا كالخاص ولأن متن العام من كتاب الله تعالى ثابت يقينا ومتن خبر الواحد فيه شبهة قال وأن كان معنى المتن لا شبهة فيه يعنى به الخبر لواحد وفى متن الكتاب شبهة لاحتماله الخصوص وكان متن الكتاب بقوة بثبوته أولى من ترجيح غير الواحد بقوة ثبوته لأن المتن قالب المعنى وقوامه فيجب طلب الترجيح من قبله أولى ثم إذا استويا فى جهة المعنى وجه قولهم فى هذا أن خبر الواحد يقتضى الظن وعموم الكتاب يقتضى القطع ولا يجوز العدول عما يقتضى القطع إلى ما يقتضى الظن واستدلوا أيضا بالنسخ فإنه لا يجوز نسخ الكتاب بخبر الواحد كذلك تخصيصه أيضا لا يجوز لأن كل واحد منهما عدول إلى مظنون غير معلوم وكذلك السنة الثابتة بالتواتر والاستفاضة أو الإجماع لأن هذه الأشياء فى إفادة العلم بمنزلة الكتاب. قال أبو زيد ففى هذا الانتقال علم كثير وصيانة للدين بليغة فأكثر الأهواء والبدع كانت من قبل العمل بخبر الواحد وقبوله اعتقادا أو عملا بلا عرض له على الكتاب والسنة الثابتة ثم تأويل الكتاب لموافقة خبر الواحد وجعل المتبوع تبعا وبناء الدين على ما لا يوجب العلم يقينا فيصير الأساس علما بشبهة فلا يزداد به إلا بدعة وكان هذا الضرر بالدين أعظم من ضرر من لم يقبل خبر الواحد لأن هذا الرجل إنما رد خبر الواحد بشبهة الكذب وتمسك بقياس أو استصحاب حال وأما هذا الآخر جعل خبر الواحد أصلا وعرض كتاب الله عليه وبنى دينه على ما لا علم به يقينا فكان القول الوسط العدل أن يجعل كتاب الله تعالى أصلا فهو الثابت يقينا وخبر الواحد مرتبا عليه يعمل به على.   1 أخرجه النسائي الطلاق 6/134 باب خيار الأمة تعتق وزوجها مملوك وابن ماجه العتق 2/842 وأحمد المسند 6/205 ح 25558 وأخرجه البخاري الكتاب 5/225 ح 2563 بلفظ "أيما شرط كان ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مئة شرط" ومسلم العتق 2/1141 ح 6/1504 بلفظ "من اشترط شرطا..". 2 قال الحافظ العجلوني هو موضوع انظر كشف الخفاء للحافظ العجلوني 1/89 - 90 ح 220. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 موافقته ويرد إذا خالفه ثم القياس بعده مرتبا عليه يعمل به على موافقته ويصار إليه إذا لم يوجد فى الكتاب والسنة وذلك الحكم الثابت بالقياس على خلافه فأما إذا وجد فى الكتاب والسنة على خلافه فيرد وضرب أمثلة لهذا الذى ادعاه منها القضاء بشاهد ويمين. ومنها مسألة الرطب بالتمر فإن الخبر فى الأول ورد مخالفا لكتاب الله تعالى والخبر الثانى ورد مخالفا للسنة المتواترة وهو قوله عليه السلام التمر بالتمر مثلا بمثل والفضل ربا1 وذكر فى المسألة الأولى كلامهم المعروف فى مسألة الشاهد واليمين وذكر فى مسألة بيع الرطب بالتمر حرفا زائدا وقال قوله مثلا بمثل للإباحة وقوله والفضل ربا إشارة إلى فضل معتاد المماثلة المذكورة لا محالة وعليه الإجماع وخبر الرطب بالتمر جعل الربا فضلا لتوهم حدوثه بمعنى طارىء وهو الجفاف وهذا الفضل لا يعتاد المماثلة المبيحة فى الأمثل لأن المماثلة المبيحة فى الأصل هى المماثلة عند العقد وهذا الحديث يقتضى تحريم البيع مع قيام المماثلة فيكون التحريم مع المماثلة خلافا للخبر ولأنه يقتضى ضم مماثلة أخرى إلى المماثلة التى اقتضاها الخبر الأول فيكون إثبات زيادة مماثلة فيقتضى النسخ وذكر خبر فاطمة بنت قيس وقول عمر رضى الله عنه فى ذلك وذكر فى الحادثة التى يعم بها البلوى ما ذكرنا من قبل قال ولهذا لا يقبل قول الواحد فى رؤية هلال رمضان إذا كانت السماء مصحية لأن الناس لما شاركوه فى النظر والمنظر والأعين كان اختصاص الواحد بالرؤية خارجا عن العادة فأوجب تهمة فى خبره كذلك فى الحادثة التى يعم بها البلوى فقد دفعت الحاجة إلى معرفة حكمها وما كانوا يعملون بالرأى مع النص وكانت عنايتهم فى طلب الحجة أشد من عنايتنا فلو كان النص ثابتا لاشتهر لديهم مثل اشتهار الحادثة وحكمها فلما لم يشتهر أوجب تفرد الواحد بالرؤية تهمة وذكر على هذا الوضوء من مس الذكر ومن حمل الجنازة وخبر الوضوء مما مست النار قال وكذلك الحادثة التى ظهر فيها الخلاف بين السلف ولم تجر المحاجة بالخبر فيدل إعراضهم عن المحاجة بالخبر باطل على عدم ثبوته فإنه لو كان ثابتا مما يحل الإعراض فى المحاجة به ولو وقعت المحاجة به لظهر ولنقل الرجوع عن المخالفة إليه مما هو عادة المتدينين فلما لم يظهر المحاجة بالخبر دل أن الخبر غير ثابت وبيان هذا فى اختلاف الصحابة رضى الله عنهم فى زكاة مال الصبى ورواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبى صلى الله عليه وسلم قال.   1 أخرجه البخاري البيوع 4/408 ح 2134 ومسلم المساقاة 3/1209 ح 79/1586 والدارمي البيوع 2/335 ح 2578 واللفظ له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 "ابتغوا فى أموال اليتامى كيلا تأكله الصدقة" 1 فإنه لم يرو عنهم المحاجة بهذا الخبر دل أنه غير ثابت وكذلك اختلاف الصحابة فى عدد الطلاق أنها بالرجال أو بالنساء ورويتم أنه عليه السلام قال: "الطلاق بالرجال" 2 ولم يجزم بحاجة فثبت أنه مخترع موضوع هذا آخر ما ذكره أبو زيد وسمى هذا الباب باب الانتقاد للخبر الواحد أما الدليل على صحة ما ذكرنا من أن الخبر إذا ثبت لا يجب عرضه على الكتاب لقبوله وكان تخصيص عموم الكتاب به جائز نقول قد قال الله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى*إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3, 4] فأخبر الله تعالى أن مصدر الخبر عن الوحى كما أن مصدر الكتاب عن الوحى وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] وقال سبحانه وتعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59] فأمر باتباع سنن الرسول كما أمر باتباع آى كتاب وإذا كان كذلك وجب قبول ما ثبت عنه ولم يجز التوقف عنه إلى أن يعرض على الكتاب وهذا لأنه حجة فى نفسه فلا يجب عرضه على حجة أخرى حتى يوافقها أو يخالفها وقد قال الشافعى رحمه الله لا يجب عرضه على الكتاب لأنه لا يتكامل شرائطه إلا وهو غير مخالف للكتاب فإن قالوا: فما قولكم إذا خالف قلنا أنتم تتوهمون أنه مخالف ولا مخالفة وقد ضربتم أمثلة فى تلك المسائل لا مخالفة بين الكتاب والسنة وقد أجبنا عما قالوه فى مسائل الخلافيات للفروع وخبر القضاء بالشاهد واليمين لا يمسه الكتاب ولا هو يمس الكتاب وكل واحد منهما فى شىء آخر دون صاحبه وكذلك خبر سعد بن أبى وقاص فى بيع الرطب بالتمر لا يخالف الخبر المشهور الوارد فى الربا لأن هذا الخبر الخاص يدل على اعتبار المماثلة فى هذا الموضع الخاص حاله الجفاف أعدل الحالين وإذا بينا المماثلة على حالة الجفاف بين عدم المماثلة عند العقد وقد قررنا ما فى كتاب الاصطلام ذلك وأما الخبر الذى يروون من الأمر بعرض السنة على الكتاب فهو خبر رواه يزيد بن ربيعة عن أبى الأشعث عن ثوبان ويزيد بن ربيعة مجهول ولا يعرف له سماع من أبى الأشعث وإنما يروى أبى الأشعث عن أبى أسماء الرحبى عن ثوبان فالحديث منقطع وفيه رجل مجهول وحكى الساجى عن يحيى.   1 أخرجه مالك في الموطأ الزكاة 1/251 ح 12 والطبراني في الأوسط 4/264 ح 4152 بلفظ " اتجروا في مال اليتامى.." انظر نصب الراية 2/332 انظر تلخيص الحبير 2/167 ح 7. 2 أخرجه البخاري الفتن 13/7 ح 7056 ومسلم الإمارة 3/1470 ح 41/1709. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 ابن معين أنه قال هذا حديث باطل وضعته الزنادقة ويحيى بن معين أبو زكريا هو علم هذه الأمة فى علم الحديث وتركته الرواة وهو الطود المنيع وهو الذى كان ينفى الكذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وحين توفى بالمدينة وحمل على نعش النبى صلى الله عليه وسلم وكان رجل يمشى قدام الجنازة ويقول: هذا الذى ينفى الكذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحفظ سنته وأخباره والعجب من هذا الرجل أنه جعل هذا الباب باب نقد الأحاديث ومتى سلم له ولأمثاله بنقد الأحاديث وإنما نقد الحديث لا يعرف الرجال وأحوال الرواة ووقفت على كل واحد منهم حتى لا يشذ عنه شىء من أحواله التى يحتاج إليها ويعرف زمانه وتاريخ حياته ووفاته ومن روى هو عنه ومن صحب من الشيوخ وأدركهم ثم يعرف تقواه وتورعه فى نفسه وضبطه لما يرويه ويقظة رواياته وهذه صنعة كبيرة وفن عظيم من العلم وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم: "لا تنازعوا الأمر أهله" 1 وهذا الرجل أعنى الدبوسى وأن كان قد أعطى حظا من الغوص فى معانى الفقه على طريقة اختارها لنفسه ولكن لم يكن من رجال صنعة الحديث ونقد الرجال وإنما كان غاية أمره الجدال والظفر بطرق من معانى الفقه لو صحت أصوله التى يبنى عليها مذهبه ولكن لم يحتمل الأساس الضعيف من البناء عليه لا جرم لم ينفعه ما أعطى من الذكاء والفهم إلا فى مواضع يسيرة أصاب فيها الحق وأما فى أكثر كلامه وغايته تراه يبنى على قواعد ضعيفة ويستخرج بفضل فطنته معانى لا توافق الأصول ولم يوافقه عليها أحد من سلف أهل العلم ثم يحمل عجبه برأيه على خوضه فى كل شىء فتراه دخالا فى كل من هجوما على كل علم وأن كان لا يحسنه فيهجم ويعتز ولا يشعر أنه يعثر. وقد اتفق أهل الحديث أن نقد الأحاديث مقصور على قدم مخصوصين فما قبلوه فهو المقبول وما ردوه فهو المردود وهم أبو عبد الله أحمد بن حنبل الشيبانى وأبو زكريا يحيى بن معين البغدادى وأبو الحسن على بن عبد الله المدينى وأبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم الحنظلى وأبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخارى وأبو زرعة عبد الله بن عبد الكريم الرازى وأبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيرى وأبو حاتم محمد بن إدريس الحنظلى وأبو داود سليمان بن الأشعث السجستنانى وأبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمى ومثل هذه الطبقة يحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدى والثورى وابن المبارك وشعبة ووكيع وجماعة يكثر عددهم وذكرهم علماء الأمة فهؤلاء وأشباههم أهل.   1 أخرجه البخاري الفتن 13/7 ح 7056 ومسلم الإمارة 3/1470 ح 41/1709. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 نقد الأحاديث وصيارفة الرجال وهم المرجوع إليهم فى هذا الفن وإليهم انتهت رئاسة العلم فى هذا النوع فرحم الله امرأ عرف قدر نفسه وقدر بضاعته من العلم فيطلب الربح على قدره وإنما جرينا الكلام إلى هذا لأنه كان قد ذكر فى كلامه أن فى هذا النقد علما كثيرا وصيانة للدين عن الأهواء والبدع واعلم أن الخطة الفأصلة بيننا وبين كل مخالف أننا نجعل أصل مذهبنا الكتاب والسنة ونستخرج ما نستخرج منهما ونبنى ما سواهما عليهما ولا نرى لأنفسنا التسلط على أصول الشرع حتى نقيمها على ما يوافق رأينا وخواطرنا وهواجسنا بل نطلب المعانى فإن وجدناها على موافقة الأصول من الكتاب والسنة أخذنا بذلك وحمدنا الله تعالى على ذلك وأن زاغ بنا زائغ ضعفنا عن سواء صراط السنة ورأينا أنفسنا قد ركبت البنيان وبركت الجدد اتهمنا آراءنا فرجعنا بالآية على نفوسنا واعترفنا بالعجز وأمسكنا عنان العقل لئلا يتورط بنا فى المهالك والمهاوى ولا يعرضنا للمعاطب والمتالف وسلمنا الكتاب والسنة عليها وأعطينا المقادة وطلبنا السلامة وعرفنا أن قول سلفنا من أن الإسلام قنطرة لا تعبر إلا بالتسليم. وأما مخالفونا فجعلوا قاعدة مذاهبهم المعقولات والآراء وبنوا الكتاب والسنة وطلبوا التأويلات المستكرهة وركبوا كل صعب وذلول وسلكوا كل وعر وسهل وأطلقوا أعنة عقولهم كل الإطلاق فهجمت بهم كل مهجم وعثرت بهم كل عناء ثم إذا لم يجدوا وجها للتأويل طلبوا رد السنة بكل حيلة يحتالونها ومكيدة يكيدونها ليستقيم وجهة رأيهم ووجهة معقولهم فقسموا الأقسام ونوعوا الأنواع وعرضوا الأحاديث عليها فما لم يوافقها ردوها وأساءوا الظن بنقلتها ورموهم بما نزههم الله تعالى عنه وهذا الذى نحن فيه وهو التوقف عن قبوله السنة إلى أن يعرض الكتاب والأصول أحد تلك الأقسام على ما قاله هذا الرجل ولسنا نخصه بهذه الآية بل هو متبع فى هذا الأمر ناسج على منوال ثابت قبله سالك سبيلا وطيت له ولأمثاله فإن عيسى بن أبان البصرى هو المخترع لهذا ولذلك نقل عنه التصرف فى الرواة من الصحابة رضى الله عنهم فإنه قال أن كان الراوى متساهلا فى الرواية لم يقدم خبره على القياس مثل أبى هريرة وذويه وقد باء ذلك الرجل بوبال نصب هذه الأخبار وخبر هذه المهواة وبسط هذه الشبكة وطرح هذا الشوك فى طريق الإسلام وهذا أن كان فيه ما فيه لكن العلة فى أمر الفروع أسهل والشرع فيه أصح وإنما الشأن فيما يرجع إلى العقائد فى أصول التوحيد وصفات البارى عز اسمه وأمر القضاء والقدر وعند ذلك يأتى ما يضم السمع والعمى والبصر ولكل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 مرتبة وعن كل مسألة والله تعالى أعدل وهو أحكم من أن يعلم ضعفنا وقصور رأينا وقلة أفهامنا ثم تخلينا وعقولنا أو يجعل ذلك أصل دينه وقاعدة سبيله ونسأل الله تعالى العصمة فهو المستعان ومنه التأييد والتوفيق بمنه رجعنا إلى ما كنا فيه. أما الخبر الذى رووه من الأمر بعرض السنة على الكتاب فقد ذكرنا الكلام عليه وأما الذى ذكروه من قوله صلى الله عليه وسلم: "كل شرط ليس فى كتاب الله تعالى فهو باطل وأن كان مائة شرط" فالمراد من كتاب الله هو حكم الله تعالى وتقدس وعندنا كل شرط لم يحكم الله تعالى بصحته فى كتاب أو سنة فهو باطل. وقولهم: أن الكتاب يقين والسنة فيها شبهة. قلنا الخبر فى العمل يقين أيضا وقد بينا فى كتاب الانتصار أن عرض القوم ليس هو عرض السنة على الأصول فإنا بحمد الله تعالى لم نجد خبرا صحيحا يخالف الكتاب بل الكتاب والسنة متوافقان متعاضدان وأن عرض سؤال سائل فى كتاب أو خبر فقد أجاب عنه علماء السنة وقد ذكر ذلك الشىء فى كتاب مختلف الحديث وأجاب عنه وذكر غيره أيضا ولكن غرض القوم ومرماهم رد السنة وطى الأحاديث جملة وقد قال أبو حنيفة ما جاءنا عن الله تعالى وعن رسوله فعلى الرأس والعين وهذا قول ثابت عنه وهذا لفظ منصف معترف للانقياد للكتاب والسنة وهو ينفى ما زعموه من التوقف إلى أن يعرض على الكتاب وقد روى ابن عيينة عن سالم أبى النضر عن عبيد الله بن أبى رافع عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا ألفين أحدكم متكئا على أريكة يأتيه الأمر مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: لا ندرى ما وجدنا فى كتاب الله اتبعناه" 1 فبين صلى الله عليه وسلم أن الترفه والنعمة وترك طلب العلم مجملة على هذا المقال فإن الاتكاء على الأريكة شأن المترفين والمنعمين وقد قال الله تعالى فى صفة أهل النار: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} [الواقعة:45] وأما مسألة ورود الخبر فيما يعم به البلوى وقد ذكرنا من قبل فلا يفيد وقد بينا وجود المناقضة فى ذلك ودللنا على فساد ما قالوه بما فيه الغنية وأما ترك احتجاج الصحابة بالخبر فليس فيه دليل على ما قالوه لأنه يحتمل أن يكون ذلك لعدم بلوغ الخبر أياهم وعلى أن غرضه من ذلك الخبر الذى ذكرناه فى مسألة زكاة الصبى وليس الخبر بذلك الأحكام الذى يقتنع وأما الذى نسب إلينا من روايتنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.   1 أخرجه أبو داود السنة 1994 ح 4605 والترمذي العلم 5/37 ح 2663 وقال حسن صحيح وابن ماجه المقدمة 1/7 ح 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 "الطلاق بالرجال والعدة بالنساء" 1 فنحن لا نثبت هذا الخبر وأما تخصيص عموم الكتاب بالسنة فهو جائز عندنا لإجماع الصحابة فإنهم خصوا قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] بقوله عليه السلام: "إنا معاشر الأنبياء لا نورث" 2 وما روى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "لا يرث قاتل" 3 أو لفظ هذا معناه. فإن قالوا: أن فاطمة رضى الله عنها قد طلبت الميراث ولم تقبل هذا التخصيص. قلنا إنما طلبت التحلى لا الميراث وخصوا قوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} [النساء: 12] وقوله: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} [النساء: 12] بقوله عليه السلام لا يتوارث أهل ملتين حتى قالوا: لا يرث الزوج من المرأة النصرانية ولا المرأة النصرانية من زوجها وخصوا قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] بما روى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها4 وخصوا أيضا قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة: 275] بخبر أبى سعيد فى منع بيع الدرهم بالدرهمين وخصوا أيضا قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} بخبر عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه فى المجوس: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" 5 والمجوس مشركون وقد خصوا وأمثال هذا تكثر. فإن قالوا: أليس أن عمر رضى الله عنه قال لا ندع كتاب ربنا ولا سنة نبينا بقول امرأة6. قلنا يجوز أن يكون معناه لا ندع كتاب ربنا نسخا وهذا لأنه لا يقال لما خص من القرآن أنه ترك القرآن إنما يقال لمن ادعى النسخ وهذا لأن التخصيص مجراه فى الآية العامة والخبر العام مجرى البيان على ما سبق ذكره وخرج النسخ على هذه الآية تغير الحكم ورفعه.   1 تقدم تخريجه. 2 تقدم تخريجه. 3 تقدم تخريجه. 4 أخرجه البخاري النكاح 9/64 ح 5110 ومسلم النكاح 2/1029 ح 37/1408. 5 أخرجه مالك في الموطأ الزكاة 1/278 ح 42 والبيهقي في الكبرى 9/319 ح 18654. 6 أخرجه مسلم الطلاق 2/1118 ح 46/1480 وأبو داود الطلاق 2/297 ح 2291. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 وأما قولهم أن خبر الواحد يفيد الظن والكتاب يقتضى القطع قلنا نحن نعمل بخبر الواحد بطريق قطعى مفيد الحكم فهو مثل دليل الكتاب فى العمل قالوا: أليس إنا نعلم قطعا ويقينا أن الله تعالى قال وحكم بما يتضمنه الكتاب وفى خبر الواحد نظر أن النبى صلى الله عليه وسلم قال ولا نعلمه والجواب أما نظن أن النبى صلى الله عليه وسلم قال الذى قال فى خبر الواحد وقام لنا الدليل القطعى على العمل بما يغلب على ظننا من ذلك وكل هذا علم لأنا نعلم أنه غلب على ظننا صدق الراوى ونعلم قيام الدليل على وجوب العمل فما ظنناه فثبت مساواة الطريق إلى العلم بحكم الخبر طريقنا إلى العلم بعموم الكتاب. فإن قالوا: بما رجحتم حكم الخبر الواحد على ما يقتضيه الكتاب من العموم. قلنا بإجماع الصحابة على ما سبق وهو المعتمد والله أعلم. واعلم أنه إذا ثبت الخبر فخلاف الصحابى إياه لا يوجب رده وترك العمل به لأن الخبر حجة على كافة الأمة والصحابى محجوج به كغيره1 قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] وهذا وارد من غير تخصيص لبعض الأمة دون البعض وقد روينا عن الصحابة أنهم تركوا اجتهادهم وما صاروا إليه بقول الصحابة وأما بغير الصحابى أولى هذا إذا احتمل الخبر وجهين مثل ما فعله عمر رضى الله عنه فى خبر المتبايعين وأما تخصيص الصحابى فلا نقبله ما لم يقم الدليل على التخصيص وهو مثل قول ابن عباس فى المرتدة وقد سبق بيان هذا والله أعلم.   1 انظر المحصول 2/215, 216 نهاية السول 3/167 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/126. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 فصل: ما يقبل فيه خبر الواحد ... [فصل] 2 ونذكر الآن ما يقبل فيه خبر الواحد. فنقول كل ما يقبله بالعمل يقبل فيه خبر الواحد فنقول كان عبادة مبتدأة أو ركنا من أركانها أو خبر أو ابتداء نصاب أو تقدير نصاب وقاله بعض أصحاب أبى حنيفة لا يقبل فيما ينتفى الشبهة3 حكاه أبو بكر الرازى عن أبى الحسن الكرخى وقال أبو عبد الله البصرى فعل هذا لا يقبل فى الحدود وقال هو لا يقبل فى إسقاط الحدود ولذلك.   1 انظر المحصول 2/215, 216 نهاية السول 3/167 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/126. 2 بياض في الأصل. 3 التصريح على التوضيح 2/11 إحكام الأحكام للآمدي 2/168 روضة الناظر 115. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 قالوا: فى ابتداء النصب وفى أركان الصلوات وفرقوا بين ابتداء النصب وبين توانى النصب فقبلوا الخبر الواحد فى النصاب الزائد على خمسة أواق لأنه فرع ولم يقبلوا فى ابتداء نصاب الفصلان والعجاجيل لأنه أصل واستدل من قال أنه لا يقبل خبر الواحد فى الحدود لأن الحدود موضوعها فى الأصل على أن الشبهة تسقطها وخبر الواحد يفيد الظن ولا يفيد العلم فلا يجوز إيجاب الحد به لأن أقل أحوال الخبر الواحد يحصل معه شبهة انتفاء العلم به وإيجاب الحدود مع الشبهة لا يجوز وليس كالشهادة حيث ثبتت بها الحدود ولأن كانت تفيد الظن ولا تفيد العلم لأن الحكم بالشهادة ثابت من طريق يوجب العلم فإن قلتم ثبت بطريق يوجب العلم فإن قلتم ثبت وهو الإجماع ونص القرآن وأما الحكم الذى يرد به خبر الواحد لم يثبت بطريق يوجب العلم فإن قلتم ثبت بطريق يوجب العلم وهو إجماع الصحابة فليس كما ظننتموه لأن إجماعهم إنما ابتناه باستدلال يوجب علمية الظن ليس أنه وجد منهم صريح الإجماع على ذلك حتى يكون موجبا للعلم وأما الشهادة فإن حكمها ثابت بالنص الصريح من الكتاب فى إجماع الأمة وهما دليلان موجبان للعلم وأما دليلنا وهو قول الأكثر من أصحاب أبى حنيفة وقد روى ذلك نصا عن أبى يوسف واختاره أبو بكر الرازى ووجه ذلك أن الدلائل التى دلت على قبول خبر الواحد لم تخص موضعا دون موضع فنقول الحدود شرع عملى من الشرائع فجاز إثباته بخبر الواحد دليله سائر الشرائع ولا وجه للفصل بين الحدود والنصب وغيرهما وقولهم أن الحدود تنتفي بالشبهة قلنا هذا لا يمنع من قبول خبر الواحد كما لا يمنع من قبول الشهادة وأما عذرهم عن الشهادة فليس بشىء لأن الشبهة إنما جاءت عندهم من عدم ثبوت العلم بخبر الواحد وهذا المعنى موجود فى الشهادة وقولهم أن العمل بالشهادة وجب بدليل موجب للعلم قلنا وكذلك الخبر الواحد وقد سبق بيان ذلك وقولهم أنه لم ينقل عن الصحابة صريح الإجماع قلنا اتفاقهم على ذلك فعلا صريح أو أعلى منه وقول من قال أن وجوب العمل بخبر الواحد لم يكن بدليل مفيد للعلم قول مخالف لقول عامة الأصوليين بل لا ندرى أنه قال به أحد منهم ثم نقول لهم قد قبلتم شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض فى الحدود فلا إجماع فى قبول شهادة أهل الذمة فإن قالوا: قد أجمعوا أن النبى صلى الله عليه وسلم رجم اليهوديين بشهادة اليهود وفعله صلى الله عليه وسلم موجب للعلم قلنا ومن قال أن انعقد الإجماع على ذلك والمعروف أنهما اعترفا بالزنا فرجمهما وإنما روى أن اليهود شهدوا بطريق شاذ فسقط ما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 قالوه جملة وثبت ما قلناه ويقال لهم ما قولكم فى القصاص هل ثبت بخبر الواحد فإن قالوا: لا فمحال لأنه حق من حقوق الآدميين فثبت كسائر حقوقهم. ببينة: أن القياس حجة فيه فخبر الوالد أولى وقد استدلوا بخبر مرسل فى قتل المسلم بالذمى واستدلوا فى أن عمر قتل الجماعة بالواحد وهو دون الخبر الواحد وأن قالوا: يقبل فقد قبلوا خبر الواحد فيما يسقط بالشبهات وأى فرق بين القصاص والحدود والشبهة مؤثرة فى الكل فثبت أن قول من قال أن الخبر الواحد لا يقبل فى الحدود قول مردود وليس عليه دليل والعجب أنهم قالوا: لا يقبل أيضا فى ابتداء النصب ويقبل فى توانى النصب وهذا تفريق مستعجب وإذا قبل فى أحدهما فلا بد أن يقبل فى الآخر لأنه لا يظهر بينهما فرق والله أعلم وعلى ما ذكرنا يقبل عندنا خبر الواحد فى المعاملات والسنن والديانات وهذا قد بيناه من قبل. ويقبل خبر الواحد فى رؤية هلال رمضان ولا يعتبر شهادة جماعة يقع العلم بقولهم سواء كانت السماء مضحية أو متغيمة1 وعلى مذهب أبى حنيفة أن كانت السماء مضحية لا يقبل إلا شهادة جماعة يقع العلم بقولهم2 واستدلوا بما ذكرنا لهم فى المسألة الأولى وأما عندنا فيقبل لما بينا أنه شرع عملى من الشرائع فيقبل فيه خبر الواحد دليله غيره من الشرائع العملية وفى المذهب اختلاف القول أنه يقبل شهادة الواحد ويعتبر شهادة الاثنين ولا حاجة إلى إبراز ذلك فى هذا الموضع وأما الذين يقولون أن الناس لما ساووا هذا الواحد فى النظر والمنظر والعين دل تفرده أنه كاذب قلنا مع هذا يجوز أن يكون تفرد الواحد بروايته لحدة بصره أو علم منه موضع الهلال ولم يعلمه غيره أو زيادة قلت: وحدة منه فى النظر إلى أن يراه والباقون قد تفرقوا حين بم يروه لدقته أو خفاء موضعه وإذا جاء واحد من هذه الوجوه فلا يرد خبره ولا يلحق هذا الواحد من العمليات بالعلمى ولا يقطعه عن إخوانه وأضرابه واعلم أن ما يرويه الراوى إذا تضمن إضافة شرع إلى النبى صلى الله عليه وسلم فحكمه ما بيناه وأما إذا لم يتضمنه إضافة شرع إلى النبى صلى الله عليه وسلم فإن كان مما يجرى مجراه مثل إضافة الفتوى إلى المفتى فيقبل خبر الواحد فيه أيضا وأما أن أخبر بحكم الحاكم فإنه لا يقبل إلا بما يقبل بسائر الشهادات وأما الأخبار التى تحتاج إليها الناس فى مصالحهم فيقبل فيها خبر الواحد وقد ذكرنا صورها من قبل وقد ألحق بعض.   1 انظر روضة الطالبين 2/245. 2 انظر الهداية للمرغيناني 1/131. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 الأفعال بالأقوال فى ابتناء الشرع عليه وذلك مثل وضع الماء فى الطريق على بعض الوجوه يبيح شربه مثل الخبر بذلك وكذلك وضع الدرهم فى يد المسكين يبيح له أخذه وعلى هذا أمثال هذا فى الأمور المتعارفة ومن ذلك بسط المائدة بين يدى الجماعة ووضع الطعام وتقديمه يبيح لهم أكله وليس أمثال هذا على سنن القياس ولكن بحكم العادات الجارية أجريت الأفعال فى هذا مجرى الأقوال وعلى هذا التعاطى الجارى بين الناس فى المعاملات من غير قول يوجد من الجانبين لا يحكم بحرمتها ونقول يقع بها الملك ونقول تمليك وملك فعلى وقع على التراضى ولا نقول أنه عقد بيع أو عقد إجارة على ما يقوله أصحاب أبى حنيفة وإنما فعلنا ذلك لأن ذلك متعارف من قديم الدهر إلى حديثه ولم ينقل فى ذلك إنكار من أحد ما ولأن فى تحريم ذلك حرجا عظيما على الناس فجرى معدولا من سنن القياس. مسألة الأخبار على نوعين مسانيد ومراسيل: فالمسانيد حجة مقبولة. واختلفوا فى المراسيل وهى ما رواه التابعى عن الرسول صلى الله عليه وسلم هل هى حجة أم لا فذهب الشافعى رحمه الله إلى المرسل بنفسه لا يكون حجة وقد ينضم إليه ما يكون حجة معه على ما سنبينه وعند مالك وأبى حنيفة هو حجة ويقال أنه مذهب أحمد بن حنبل أيضا وقد ذهب إلى هذا كثير من المتكلمين وذهب إليه أبو على وأبو هاشم وجملة مذهب هؤلاء من يقبل سنده يقبل مرسله وقال عيسى بن أبان فمراسيل التابعى وتابع التابعى مقبول ولا يقبل مرسل من دونه1 واحتج هؤلاء.   1 اعلم أن المراسيل جمع مرسل وهو لغة المطلق عن التقييد وفي اصطلاح المحدثين ما سقط منه الصحابي مثل أيقول التابعي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بهذا الإطلاق يغاير المنقطع والمعضل لأن المنقطع ما سقط منه قبل الصحابي راو أو أكثر في موضع واحد والمعضل ما سقط منه اثنان فصاعدا في موضع واحد. أما المرسل عند الأصوليين: فهو قول العدل الثقة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بهذا الإطلاق يشمل المرسل والمنقطع والمعضل وغيرها عند المحدثين. وإنما سمي المرسل مرسلا لأن الراوي أطلق الحديث ولم يذكر من سمعه منه وقد اختلف الأصوليون في قبول المرسل على أقوال أربعة: القول الأول: لا يقبل المرسل مطلقا سواء كان من أئمة النقل أو من غيرهم إلا إذا تأكد بما يرجح صدق الراوي وذلك واحد من ستة أمور: ............... = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 الطائفة بأشياء منها وهو أقوى دلائلهم وهو إرسال المرسل العدل الحديث يجرى مجرى ذكره من المرسل عنه وقوله هو عدل عندى ولو ذكر كذلك يقبل حديثه كذلك إذا أرسل والدليل على هذا أن العدل لا يستجيز أن يخبر عن النبى صلى الله عليه وسلم شيئا إلا وله الإخبار عنه لأن عدالته مانعته عن إقدامه إلا على ما يجوز له الإقدام عليه ولا يجوز له الإخبار بذلك إلا بعد أن يخبره عدل عنه حتى أن لم يكن حقيقة أنه قال يكون قد غلب على ظنه أنه قاله. ببينة أن روايته قد أفهمت إيجاب عبادة على الناس وطرح عبادة عنهم فلا يجوز أن يقدم عليه من غير علم أو غلبة ظن فثبت أن روايته مرسلا جرت مجرى ما ذكرنا ولو ذكر من روى عنه وقال هو ثقة عندى لزم قبول خبره كذلك هاهنا قالوا: وليس ذكر سبب عدالته بشرط وهذا متفق عليه بيننا وبينكم وإنما الخلاف فى الجرح فذكر أصحاب أبى حنيفة أنه لا يجب عليه أن يذكر سبب الجرح أيضا وذهب الشافعى رحمة الله عليه أنه لا يصير مجروحا حتى يذكر سبب الجرح واستدلوا على دعوتهم أن ذكر سبب العدالة ليس بشرط أن أصحاب الرواية وأئمة الحديث يزكون الرجل من غير أن يذكروا سبب عدالته ولأن الإنسان إنما يكون عدلا إذا اجتنب الكبائر ولم يحل بالواجبات فلو.   = 1 - أن يكون من مراسيل الصحابة. 2 - أن يسنده راو آخر غير الذي أرسله. 3 - أي يرسله راو آخر يروي عن شيوخ الراوي الأول. 4 - أن يعضده قول أكثر الأمة. 5 - أن يعضده قول صحابي. 6 - أن يكون المرسل ممن عرف منه أنه لا يرسل إلا عمن يقبل قوله كسعيد بن المسيب وهذا القول للشافعي وهو المختار للرازي والبيضاوي ونقله ابن الصلاح عن جمهور المحدثين. القول الثاني: لا يقبل المرسل مطلقا وهو رأي الأئمة الثلاثة وجمهور المعتزلة وهو المختار للآمدي. القول الثالث: يقبل من أئمة النقل ولا يقبل من غيرهم وهو مختار ابن الحاجب. القول الرابع: يقبل مرسل العصور الثلاثة عصر الصحابة والتابعين وتابع التابعين ولا يقبل في غيرها من العصور إلا من أئمة النقل وهو قول عيسى بن أبان انظر نهاية السول 3/198 إحكام الأحكام للآمدي 2/177, 178 المحصول 2/228 المعتمد 2/143 روضة الناظر 112 البرهان 1/632, 633 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/133, 134. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 وجب ذكر أعيان ذلك لوجب ذكر أعيان ذلك فى الزمان الطويل مخافة أن يكون منها ما لا يسلم معه عدالة الإنسان وهذا متعزز قطعا قالوا: وأن لزمتم على هذا الشهادة فنقول قضية إطلاق الشهادة على هذا أيضا لكن الدلالة منعت من قبول الشهادة على الشهادة حتى يسمى شهود الأصل وليس يجب إذا منعت الدلالة من ذلك فى الشهادة ما يجب أن يمنع قبل ذلك فى الرواية إلا ترى أنه قد دلت الدلالة أن من شرط الحكم بشهادة الشهود الفرع أن يحملهم شهود الأصل الشهادة ولم يجب أن يعتبر مثل ذلك فى الرواية. ببينة: أنه ما وجب فى الشهادة ذكر شاهد الأصل لم يجب أن يشهد على وجه يجوز إلا يكون سمعه منه وهو أن يقول عن فلان وأما هاهنا فتجوز الرواية مع جواز كونها مرسلا وهو إذا قال الراوى عن فلان ويجوز فى هذا أن يكون سمع منه ويجوز أن يكون سمع من غيره عنه وهذا حجة مبتدأة لهم فى المسألة هينة وهذا لأنا جعلنا إرسال الحديث كأنه ذكر من يروى عنه وعدله وفى الشهادة لا يكتفى بمجرد ذكر شاهد الأصل وقوله هو عدل بل لا بد من تعديل القاضى وفى الرواية يكتفى بما ذكرناه فظهر الفرق بينهما ودليل آخر وهو أنهم ادعوا إجماع الصحابة روى عن البراء بن عازب أنه قال ليس كل ما حدثناكم به سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم غير أنا لا نكذب وروى عن أبى هريرة رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال من أصبح جنبا فلا صوم له فلما سئل عن ذلك ذكر أن الفضل بن عباس رضى الله عنهما أخبره وروى ابن عباس رضى الله عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "لا ربا إلا فى النسيئة" 1 ثم ذكر أن أسامة روى له ذلك وروى ابن عباس أيضا أن النبى صلى الله عليه وسلم ما زال يلبى حتى رمى جمرة العقبة ثم ذكر أن الفضل بن عباس أخبره ذلك. ببينة: أن أحداث الصحابة الذين كانوا صبيانا فى زمن النبى صلى الله عليه وسلم قد أكثروا الرواية عنه صلى الله عليه وسلم خصوصا ابن عباس ومعلوم أنهم لم يسمعوا إلا القليل ولم يرو عن أحد منهم إنكار ذلك والتفحص عنه والبحث أن هذا الصحابى ممن سمعه فصار ذلك إجماعا منهم على جواز ذلك وأن قلتم يجوز عندنا فى الصحابة ولا يجوز فى التابعين فهو من التمنى الباطل ولا فرق بين صحابى يرسل وتابعى يرسل خصوصا إذا كان الإرسال من.   1 أخرجه البخاري البيوع 4/445 ح 2178, 2179 ومسلم المساقاة 3/1217. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 وجوه التابعين والطبقة العالية منهم مثل عطاء بن أبى رباح من أهل مكة ومثل سعيد ابن المسيب من أهل المدينة وبعض الفقهاء السبعة ومثل الشعبى والنخعى من أهل الكوفة ومثل الحسن وأبى العالية من أهل البصرة ومثل مكحول من أهل الشام فهؤلاء قد نقل عنهم مراسيل ولا يظن بهم إلا الصدق وقد كان النخعى يقول: إذا قيل لكم حدثنى فلان عن عبد الله فهو الذى روى لى ذلك وإذا قلت: لكم قال لى عبد الله فقد رواه لى غير واحد ولهذا قال بعضهم أن المرسل أقوى من المسند فهذا وجه تعلقهم بهذا الدليل وهو معتمد جدا دليل آخر لهم هذا أن الناس من زمان النبى صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا ما زالوا يردون المراسيل من غير تحاش وامتناع قد ملأوا الكتب منها ولم يروا أن أحد من الأئمة أنكر عليهم ذلك ولم يزل العلماء من سلفهم إلى خلفهم يقولون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وقال فلان كذا للواحد فالواحد من الصحابة وهذا إرسال منهم للخبر ولو كان المرسل مردودا لامتنعت الأمة من روايته ولكانوا لا يقرون من فعل ذلك عليه فصار ذلك إجماعا منهم وعرف بما فعلوا أنهم قد سووا بين المرسل والمسند وقد تعلقوا أيضا بما قاله الشافعى رحمة الله عليه فى مراسيل ابن المسيب وغيره فإن قلتم أن مراسيله قد تتبعت فوجدت مسانيد قال فإذا لم تستحسن مسانيده لا مراسليه قال الشافعى أيضا إذا عملت الأمة بالمرسل فإن المرسل مقبولا قال أبو بكر فإذا يكون الإجماع هو المقبول فهل المجموع هو ما ذكرهم وهى دلائل قوم لا بد من صرف العناية إلى إيضاح الجواب عنها خصوصا وقد وجدت بعض من ضعف بكلام أبى بكر الباقلانى وبجعله الإمام والقدوة فى عامة ما ذكره فى أصول الفقه حتى كأنه رضى لنفسه أن يقلده وينصبه إماما لنفسه فى عقائده قد قال أن كان عرض الشافعى عن المراسيل على معنى تقديم المسانيد عليها وقد وجد من كلامه مما يدل على أنه إذا لم يجد أولا المراسيل مع الاقتران بالتعديل عن الإجماع يعمل عليها وبها عندى أن هذا خلاف مذهب الإمام الشافعى وقد أجمع كل من نقل عنه هذه المسألة مع كل العراقيين الخراسانيين أن على أصله لا تكون المراسيل حجة وهو فيما بين الفقهاء من الفريقين أشهر مسألة من خلافيات الأصول ولا عجب من أبى بكر الباقلانى أن كان يتصل القول بالمراسيل فإنه كان مالكى المذهب ومن مذهب مالك قبول المراسيل فأما من انتصب لذب عن مذهب الشافعى رحمة الله عليه فلا يجوز أن يعدل عن قوله إلى قول من لا يعرف تفسيره فى العلم فإن كان الأمر بالمحاجة على المذهب فالحجة سنبينها ونبين عند ذلك أن هذا القول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 هو الحق وأن رضى إنسان بالتقليد فلا يشك عاقل أن تقليد الشافعى أولى من تقليد المتأخرين الذين يعم بضاعتهم الجدال والله المرشد إلى الصواب والعاصم من الزلل عنه وأما حجة القائلين بقبول المراسيل وهو الصحيح على ما سنبين ونقيم البرهان عليه ونتعلق أولا بقوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الاسراء: 36] وقال تعالى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 169] ونحن إذا قلنا خبر من لا يعلم حاله فى الصدق والعدالة من حاله فى خلاف ذلك فقد قفونا ما ليس لنا به علم وقلنا على الدين والشرع ما لا نتحققه فإن قيل هذا ينعكس عليكم فإنكم إذا رددتم المراسيل فقد قلتم ما لا علم لكم به وتبعتم ما لا يتحقق به فقد دخلتم فيما نقمتم منا قلنا لا يلزم ما قلتم لأن الأصل أنه لا يلزمنا حكم إلا حجة والحجة لا تثبت إلا من ناحية العلم وعلمنا بصدق المرسل عنه معدوم فنحن متمسكون بهذا الأصل ما لم ينقلنا دليل يصح به الحجة الشرعية فى الخبر والحجة الشرعية إنما تثبت بالخبر عند معرفة صدق الراوى وعدالته فتبين بهذا أنا برد المرسل لم نكن قابلين متبعين لما لا علم لنا به والمعتمد من الدليل أن سكوت الراوى عن تسمية من سمع منه يوهم ضعفه وعدم عدالته فيمتنع به قبول روايته وإنما قلنا ذلك لأنه قد جرت عادة الرواة بإظهار اسم من يروون عنه ليتصل السند إلى النبى صلى الله عليه وسلم ولا ينقطع بعض الرواة عن البعض فيذهب روا الخبر وبهاؤه وطلاوته وحلاوته. ببينة أن رواية الحديث بالإسناد أحد محاسن هذه الأمة وقيل أنه لم يعط هذا غير هذه الأمة ولهذا ما زال سلف هذه الأمة يطلبون الأسانيد وكانوا يسمون الأحاديث التى تعرت عن الأسانيد بترا وعن عتبة بن أبى حكيم قال كنت عند إسحاق بن أبى فروة وعنده الزهرى فجعل إسحاق يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الزهرى قاتلك الله يابن أبى فروة ما أجرأك على الله إلا تسند حديثك تحدثنا بأحاديث ليست لها خطم ولا أزمة وجريان عادة السلف بتسمية من يروون عنه شىء لا ينكره أحد فهذا الراوى حين سكت عن تسمية من روى عنه الخبر ولم يكن مقصوده الاقتصار على ما يعتاده الفقهاء فى الحجاج وإنما كان مقصوده محض الرواية وأداء العلم وتبليغه والائتمار لما أمر به النبى صلى الله عليه وسلم من قوله: "نضر الله أمرأ سمع مقالتى فأداها كما سمعها" 1.   1 أخرجه الترمذي العلم 5/34 ح 2658 وابن ماجه المقدمة 1/84 ح 230 - 231 وابن ماجه المقدمة 1/86 ح 228 وأحمد المسند 4/99 ح 16743. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 فصان سكوته فى هذه الصورة عن تسمية من يروى عنه اتهاما عظيما قادنا ما يقال فى هذا الباب أنه يقال يجوز أن يكون تركه اسمه لثقته بعدالته فاستغنى بها عن تسميته ويجوز أن يكون لجليل علمه منه لم يحب الكشف عنه وإذا احتمل هذا واحتمل الأول يصير كما لو قال حدثنى من لا أعرفه بعدالة ولا تصديقا بل من نظر فى المقدمة التى ذكرناها عرف أن الظاهر من الستر وطى الاسم ما قلناه من الوجه الثانى خصوصا إذا طرد الإرسال طردا ولم يبين من سمع منه الحديث فى شىء من تارات روايته لهذا الحديث فإن سألوا على هذا بما ذكرنا من كلامهم من قبل وهو أنه إنما سكت عنه لثقته بعدالته قالوا: وهذا هو الأولى والأليق بأمر المرسل أنه عمن لا يتهمه بالكذب والراوى ثقة ولا يروى عن ثقة كيف وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم: "من روى عنى حديثا وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكذابين" وربما يقولون أن الأصل فى المسلمين العدالة فلا يحمل حال المروى عنه على عدم العدالة إلا بدليل يقوم عليه الجواب إنما نبين أولا قاعدة الإخبار ليتبين الجواب وهو أن الأخبار كلها متضمنة أمور الدين أما العلمية وأما العملية وما كان بهذا السبيل لا يجوز قبوله من كل أحد ولهذا لا تقبل الفتوى من كل أحد ولا بد أن يكون صادرا من أهل الفتوى وكذلك أمر الشهادة وهذا معنى قول ابن سيرين أن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذونه وإذا كان الأمر على هذا السبيل فى الإخبار لم يجز قبولها إلا عن عدل ثم يعتبر أن يكون عدلا عند المروى له لأن الرواية إذا شرع إليه كإلزام يتصل به وهو كالشهادة فإنه يعتبر عدالة الشهود عند الحاكم لأنهم يؤدون إليه الشهادة ولا تثبت عدالته عند المروى له إلا بعد معرفته بعينه فى صفته فإذا لم يعرفه أصلا كيف يحكم بعدالته عنده وقولهم أن روايتهم تعديل للمروى عنه قلنا للعدالة شرائط وأوصاف لا تحصل بمجرد الرواية وأيضا فإن الراوى قد يروى عمن عنده مقبول وعند غيره مجروح فلو قبلنا الرواية عنه من غير كشف عنه لكنا قد قبلناه تقليدا لا علما وأما قولهم أن الأئمة والعلماء لا يروون إلا عن ثقة قلنا هذا مجرد حسن الظن ونحن أيضا نحسن الظن بهم ولكنا مع هذا نجوز عليهم السهو والغلط وهذا سكوت عن اسم المروى عنه أمر محتمل فيجوز أنه سكت عنه لأنه نسى اسمه ويجوز أنه سكت عنه لأنه جهل حاله فلم يحب أن يذكره بجهله بحاله ويجوز أنه سكت عنه لأنه لم يحمد أمره فلم يحب أن يهتك ستره ويكشف حاله ويجوز أنه سكت لما قالوا: وأولى هذه الوجوه أن يكون سكت لضعفه وريبته فى أمره لما بينا أنه قد كان المعتاد منهم ذكر من. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 يروى عنه وقد كان يجوز أن يذكر مرة ويترك مرة فأما السكوت عن تسميته فى جميع تارات الرواية فهو موضوع ريبة عظيمة وقد كتبوا حديثا وقديما عمن لم يحمدوا فى الرواية أمره مرة قال الشعبى حدثنى الحارث وكان كذابا وروى شعبة وسفيان عن جابر الجعفى مع ظهور أمره فى الكذب وروى عنه أبو حنيفة وقال ما رأيت أكذب من جابر وروى الشعبى عن إبراهيم بن أبى الحسن وكان قدريا رافضيا ورمى بالكذب أيضا وقد كان جماعة من السلف لشغفهم بالحديث لا يسألون عمن أخذوا وكانوا ينتقدون ويميزون أن سئلوا عن ذلك وقال ابن سيرين حدثوا عمن شئتم إلا عن أبى الحسن وأبى العالية فإنهما لا يباليان عمن أخذا الأحاديث وأرسل الزهرى حديثا ثم سئل فقيل له من حدثك فقال رجل على باب عبد الملك بن مروان وأكثر المراسيل عن الحسن والنخعى وعطاء ومكحول وابن المسيب وسعيد وأبى هلال والشعبى والزهرى فى بعض الأحاديث وقد رووا عامة هؤلاء عن قوم مجاهيل وهذا لا يشكل عن أهل صنعة الحديث فكيف يمكن أن يقال أن المرسل إذا أرسل حديثا فيصير كأنه سمى من روى عنه وعدله والأمر على هذا الوجه وقد قلنا أنه لو جعل هكذا على البعد فيجوز أن يكون الإنسان عدلا عند إنسان ومجروحا عند آخر والمعتبر عدالته عند المروى له فأما إذا صرح فقال حدثنى فلان وهو عدل فالذى ذكرناه يوجب قطع الشبه بين هذه الصورة وبين ما إذا أطلق ولم يذكر وعلى أنا قلنا أن الاعتبار بجانب المروى له فينظر المروى له الحديث فإن سكنت نفسه إلى قوله فقبله وتقوم الحجة عليه وأن لم تسكن نفسه إلى قوله ويجوز أن يكون مجروحا فلا بد من البحث والتفحص فإن قيل قد اعتمدتم فى هذا كله على حرف واحد وهو أن السلف كانوا يروون عمن ليس بثقة وإنه إنما ترك اسمه لقدح عرفه فيه وهو الذى ذكرتم ليس بصحيح لأن من أشكل عمن ليس بثقة وأن كان عرف أنه غير ثقة فذلك يقدح فى عدالته كما أنه إذا ذكر وقال هو ثقة عندى وعلمنا أنه ليس عنده ثقة وكما أن الغالب أنه لا يزكى غير مزكى كذلك الغالب أنه لا يروى عمن ليس بثقة وأن كان يظن أنه ثقة وليس بثقة وهذا لا يقدح أيضا كما لو قال هو ثقة فإنه تجوز روايته وأن كان يجوز أنه قال عمن ظن أنه ثقة وليس بثقة والجواب أن روايته عمن ليس بثقة لا توجب قدحا فى الراوى لما بينا أنهم كانوا يفعلون وإذا سألوا بينوا وعلى أنا قد ذكرنا عن صاحبهم وعن جماعة من السلف أنهم رووا عن قوم وليسوا بثقات ولم يوجب ذلك قدحا فيهم فيجوز أنهم نقلوا لحسن ظن منهم فى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 ذلك الحديث الواحد أو نقلوا وأرادوا بعد ذلك أن يفتشوا عن حال الراوى عنه وعن حال الحديث أنه رواه غيره ممن يوثق بحديثه أو لا فإذا جازت هذه الوجوه لم يجز أن يجعل روايته قدحا فى الراوى مع علمنا بثقته وعدله وهو دليل استدل به الشافعى رحمة الله عليه والدليل على اعتبار الرواية فنقول أجمعنا على أن الشهادة المرسلة لا تقبل وهو إذا لم يذكر من شهد على شهادته فكذلك الرواية المرسلة ثم وجه التقرير فى إلزام الشهادة وهو أن الشاهدين إذا كانا عدلين لم يجز أن يشهدا على شهادة شاهدين يخفيان ذكرهما وهما عدلان مثل الرواية سواء ومع ذلك لا يصير تركهما ذكرهما دليلا على تعديلهما بل لا بد من ذكرهما مع الشهادة على شهادتهما كذلك لا بد فى الرواية من ذكر المروى عنه مع الرواية عنه وقد ذكروا مسائل فرقوا فيها بين الشهادة والرواية ونحن نقول لا ننكر وجود الفرق بين الرواية والشهادة فى مواضع كثيرة ولكن لا فرق بين الموضعين فى شرط العدالة والخلاف فى قبول المراسيل وعدم قبولها راجع إلى العدالة على ما سبق بيانه وقولهم أن فى الشهادة لو شهد على شهادة إنسان وقال هو عدل لم يثبت عدالته وفى الرواية يثبت قلنا لا نسلم فى الرواية على ما سبق ويجوز أن يكون الإنسان عدلا عند إنسان ولا يكون عدلا عند آخر إلا ترى أن عليا رضى الله عنه لم يقبل رواية من يروى خبر بروع بنت واشق وقبله ابن مسعود وهذا لأن العدالة تعرف بالاجتهاد والناس يختلفون فى الاجتهاد وقال أبو عبد الله البصرى أن القياس يمنع من الحكم بالشهادة على الشهادة فلم يجز قياس المراسيل على ذلك لأنه لا يجوز القياس على المخصوص من القياس ويجاب عن هذا فيقال لا نسلم أن قبول الشهادة على الشهادة بخلاف قياس الأصول ولا نسلم أنه لا يجوز القياس على المخصوص بالقياس وسنبين هذا وعلى أنا نقيس المرسل على الشهادة فى المنع لا فى الجواز فلم يكن هذا قياسا من الوجه الذى يمنع منه القياس فإن قالوا: أن الحاكم فى الشهادة يحكم بشهادة شهود الأصل فلهذا وجب ذكرهم قلنا والحكم بلزوم العبادة إنما يقع بخبر الأول فوجب ذكره وقال بعضهم فى الفرق بين الموضعين أن شهود الفرع فى كلا شهود الأصل لأنه لا يجوز أن يشهدوا على شهادتهم إذا سمعوهم يشهدون حتى يحملوهم الشهادة كما لا يجوز للوكيل التصرف إلا بعد أن يوكله الموكل فلهذا اشترط ذكر شاهد الأصل كما اشترط ذكر الموكل ونحن نقول هذا الفرق غير مؤثر لأنا جمعنا بين الرواية والشهادة فى العلة التى ذكرها المخالف فى المراسيل وهى أن عدالة الراوى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 تقتضى إنما أرسل الحديث إلا وهو على غاية الثقة بعدالة من روى عنه وهذه العلة موجودة قائمة فى الشهادة على ما بيناه. دليل ثالث وهو أنه لو جاز العمل بالمراسيل وجعلت كالمسانيد لم يكن لذكر أسماء الرواة فى الأخبار وفحص الأئمة عن عدالتهم معنى لأن الإرسال سهل والحوالة فى العدالة على ما ذكروه أمر هين فإذا حصل المراد من هذا الوجه فلأى معنى وجب تحمل المشقة وذكر أسماء الرواة ومعناه الفحص عن عدالتهم وهل هذا إلا تحمل متاعب ومشاق أغنى الله العباد عنها فيكونون قد شددوا على أنفسهم فيما سهله الله عليهم فيعتبرون بمنزلة بنى إسرائيل فى أمر الله تعالى إياهم بذبح البقرة وإلحاحهم فى طلب أوصافها وكان ينبغى أن يقتصروا ويقولوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتورعوا ويترفهوا وقد لقوا المؤنة وطرح عنهم التعب وقد ذم الشرع من دخل فى أمر لا يعنيه فكيف بمن دخل فى أمثال هذا. فإن قيل لطلب اسم الراوى معنى صحيح من وجهين أحدهما أنه إذا ذكر المحدث اسم من روى عنه أمكن السامع أن يتفحص عن عدالته فيكون ظنه بعدالته فى هذه الصورة أقوى من ظنه بعدالته عند إرسال المراسيل لأن طمأنينة الإنسان إلى فحصه وبحثه أكثر من طمأنينته إلى خبر غيره والثانى هو أن الراوى للحديث قد نسبه عليه حال من أخبره به فلا يقدم على جرحه وتزكيته فيذكره ليزكيه غيره ويجرحه غيره. الجواب أما الأول قلنا فقد تبين أن إرساله غير مغنى عن طلب العدالة وعلى أنا قد ذكرنا أن الاجتهاد والاجتهاد قد يختلف فلا بد من ذكره لتوهم اختلاف الاجتهاد فى جرحه وتعديله وأما قوله يذكره ليزكيه غيره ويجرحه غيره ويكون قد اشتبه علينا قلنا قد جرت عادتهم بذكر أسماء الرواة على الإطلاق وجرت عادة طلب الحديث بطلب ذكرهم وجرت العادة بالبحث عن عدالة الرواة وإذا عرف هذا من حالهم سقط السؤال الذى قالوه والاعتماد على الدليل الأول من حيث التحقيق وعلى الثانى من حيث التعلق بالحكم والدليل الثالث لإيضاح الكلام والاستبيان به أما الجواب عن كلامهم الأول فقد دخل جوابه فيما ذكرناه. والحرف الوجيز أن روايته عنه إنما تدل على عدالته إذا لم يتوهم فى السكوت عنه غير هذا فأما إذا توهمنا غيره فلا وأما إذا قال هو عدل فقد قيل هذا الإطلاق لا يقبل وأن قلنا يقبل على ظاهر المذهب فيقول: فلان عدل لا يحتمل غير ما وضع له اللفظ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 وأما السكوت عن اسم الراوى يحتمل ما قالوا: ويحتمل غيره وأما قولهم أنه تقبل الرواية بالعنعنة قلنا نحن لا نقبل إلا أن تعلمه أو يغلب على الظن أنه غير مرسل وهو أن يقول: حدثنا فلان أو سمعت فلانا أو يقول عن فلان ويكون قد أطال صحبته لأن ذلك أمارة تدل على أنه سمعه منه فأما بغير هذا فلا يقبل حديثه وأما مراسيل الصحابة قلنا جميع الصحابة عدول وليس لنا الاجتهاد فى تعديلهم وقد عدلهم الله تعالى بقوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الحديد: 19] وقال عليه السلام: "أصحابى كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" 1 وأما من بعدهم فإن موضع الاجتهاد فى تعديلهم باق فلم يجز العمل إلا بخبر من علمنا عدالته منهم أما تعلقهم بمراسيل ابن المسيب قلنا أما نقل هذا عن الشافعى فى كتبه القديمة ولم يرد بذلك تخصيص ابن المسيب دون غيره ممن مذهبه مذهب ابن المسيب فى ذلك لكن ظهر للشافعى من مذهب ابن المسيب أنه لا يرسل حديثا ليس له أصل فى المتصل ولم يظهر له مثل هذا فى غيره فإن عرف مثل هذا فى مراسيل عطاء والحسن والنخعى ومكحول فتكون مرسلاتهم مثل مرسلات ابن المسيب. واعلم أن الشافعى إنما رد المرسل من الحديث لدخول التهمة فيه فإن اقترن بالمرسل ما يزيل التهمة فإنه يقبله وذلك أن وافق مرسله مسند غيره من الرواة ومثل أن يتلقى الأئمة المرسل بالقبول ويعملوا به فيكون قبولهم وعملهم مزيلا للتهمة وكذلك أن انتشر فى الناس ولا يظهر له منكر وحكى بعضهم أن من جملة ما يقوى به المرسل فيصير حجة أن يشترك فى إرساله عدلان ثقتان من أهل العلم أو أكثر فيقوى حال المرسل ويكون المرسل موافقا للقياس أو يكون المرسل كثير التحرز شديد التحفظ مشهور الرجال بالرضى كالذى قاله الشافعى فى القديم فى ابن المسيب رحمة الله عليهما فقال مرسل ابن المسيب خمس فى تحريم بيع اللحم بالحيوان وقد قال بعض أصحابنا أن مرسل ابن المسيب لا يكون حجة أيضا مع ما قاله الشافعى رحمة الله عليه كما لا يكون مرسل غيره حجة إنما قول الشافعى فى ابن المسيب يدل على أن إرساله يكون ترجيحا للدليل الموجب للحكم لا أنه يكون موجبا للحكم واعلم أن ما حكيناه أولا من موافقة مرسل المرسل مسند غيره أو تلقى الأئمة إياه بالقبول أو انتشار المرسل فى الأمة من غير منكر أسباب مخيلة فى قبل المرسل إلا أن الحجة تكون فى المسند أو تكون فى.   1 عزاه الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير إلى عبد بن حميد في مسنده والدارقطني في غرائب مالك والبزار والقضاعي في مسند الشهاب وأبو ذر الهروي في كتاب السنة انظر تلخيص الحبير 4/209, 210 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 إجماع الناس على العمل بالحكم الذى تضمنه المرسل فأما البواقى التى ذكروها فعندى أنه ليس فى شىء من ذلك دليل على قبول المرسل فالأولى هو الإعراض عنها والاقتصار على ما قلناه والله أعلم هذا الذى ذكرناه حكم المرسل. فأما المنقطع فقال بعضهم أن المرسل والمنقطع معنى واحد ومنهم من فرق بينهما1. وقال المرسل ما ذكرناه والمنقطع هو أن يكون بين الروايتين رجل لم يذكر فمن منع من قبول المراسيل كان من قبول هذا أمنع ومن جوز قبول المراسيل اختلفوا فى المنقطع الذى ذكرناه فقبله بعضهم كالمرسل ومنع منه بعضهم وأن عمل بالمرسل والفرق صعب جدا لمن يرون الفرق اللهم إلا أن يقول: أن الإرسال على الوجه الذى قلناه معتاد متعارف وهو من حسب المتعارف دليل على تعديل من روى عنه فى الصورة التى بيناها ببينة أن الإخلال يذكر هذا الراوى الواحد مع ذكر الراوى قبله دليل على ضعفه وقال أصحاب الحديث مرسل ومنقطع ومعضل فالمرسل ما ذكرنا والمنقطع أن يسقط واحد من الوسط والمعضل أن يسقط أكثر من واحد واعلم أن الثقة إذا روى عن المجهول لم تدل روايته عنه على عدالته ومن أصحابنا من قال يدل ذلك على عدالته ومن ذهب إلى هذا أن هذا المجهول لو كان غير ثقة لبين العدل ذلك فى روايته حتى لا يغتر بروايته وحين لم يبين العدل ذلك دل أن روايته تعديل له والأصح أنه لا يدل على تعديله لأن شهادة شاهد الفرع لا تدل على تعديل شاهد الأصل فكذلك الرواية لأنا بينا أنهم كانوا يروون عن غير الثقة فلا تدل الرواية على التعديل وهذه المسألة فيما إذا سمى من روى عنه إلا أنه مجهول الحال فأما إذا لم يسمه فقد بينا من قبل وأما إذا أسند الرواة الحديث وأرسله غيره فلا شبهة أن من يقبل المراسيل فهو يقبل هذا وأما من لا يقبل المراسيل فينبغى فى هذا الموضع أن يقبل رواية من يسند الخبر لأن عدالة المسند تقتضى قبول الخبر وليس فى إرسال من يرسله ما يقتضى أن لا يقبل إسناد من يسنده لأنه يجوز أن يكون من أرسله سمعه مرسلا ومن أسنده سمعه مسندا فليس يقدح إرسال من يرسله فى إسناد الآخر ويحتمل أيضا أن هذا المرسل سمع الحديث مسندا إلا أنه نسى من يروى عنه وعلم ثقته فى الجملة فأرسله لهذا المعنى وأما إذا أرسله فى وقت وقد أسنده فى وقت فإن إرساله لا يمنع أيضا من كونه مسندا لأن إرساله يجوز أن يكون لما بيناه فلا يقدح ذلك فى إسناده وأما إذا وصل الراوى الحديث بالنبى صلى الله عليه وسلم مرة وجعله موقوفا على بعض الصحابة فإنه يكون أيضا متصلا بالنبى صلى الله عليه وسلم.   1 انظر فتح المغيث 1/174. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 لجواز أن يكون سمعه من الصحابى تارة يذكره عن نفسه على طريق الفتوى وتارة يذكره عن النبى صلى الله عليه وسلم وليس فى الأول ما يقدح عن الثانى وحين وصلنا إلى هذا الموضع نذكر شروط صحة الإسناد إلى النبى صلى الله عليه وسلم أنا بينا من قبل تنوع الأخبار وانقسامها إلى مسند ومرسل وقد بينا المرسل. فأما المسند فهو الخبر المتصل بالنبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم من حيث النقل1 واتصاله معتبر بثلاثة شروط. أحدها أن يرويه ناقل عن ناقل حتى ينتهى إلى صحابى يصله بالنبى صلى الله عليه وسلم فإن اختل اتصال النقل فى وسط أو طرف بطل الاتصال. والثانى أن يسمى كل واحد من ناقلى الحديث بما هو مشهور به مما سمى به وسمى به عن غيره حتى لا يقع التدليس فى اسمه فيمكن الكشف عن حاله فإن لم يسمه وقال أخبرنى الثقة أو من لا أتهمه لم يكن حجة فى النقل وقبول الرواية فإن قيل أليس أن الشافعى ذكر مثل هذا فى أحاديث رواها قيل له بلى ذكر الشافعى مثل ما قلتم ولكن قد اشتهر من عناه فقالوا: أراد بمن يثق به إبراهيم بن إسماعيل وبمن لا يتهمه يحيى بن حسان فصارت الكناية كالتسمية وقيل أن الشافعى قال ذلك احتجاجا لنفسه ولم يقله احتجاجا على خصمه وله فى حق نفسه أن يعمل بما يثق بصحته وأن لم يكن له فى حق غيره. الشرط الثالث وهو أن يكون كل واحد من جماعة الرواة على الصفة التى تقبل خبره من الضبط والعدالة فإن اختلت هذه الصفة فى حق أحدهم وكملت فيمن سواه رد الخبر ويعتبر فى حق كل واحد من الرواة أن يكون معلوم الاسم والنسب معلوم الصفة من العدالة فإن اختل شىء من ذلك اختلت الرواية عند اجتماع الشرائط التى ذكرنا يكون الخبر مسندا. فإن قال الصحابى أمرنا بكذا أو نهينا عن كذا أو من السنة كذا يكون مسندا ويكون حجة وقال أبو بكر الصيرفى لا يكون مسندا ولا يكون حجة وهو قول الكرخى من أصحابى أبى حنيفة وقد ذكرنا طرفا من هذا من قبل فهم يقولون قد تطلق السنة ويراد بها سنة النبى صلى الله عليه وسلم وقد تطلق السنة ويراد بها غيره والدليل عليه أن عليا رضى الله عنه قال فى جلد شارب الخمر جلد النبى صلى الله عليه وسلم أربعين وجلد أبو بكر رضى الله عنه.   1 فتح المغيث 1/117, 118. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 أربعين وجلد عمر رضى الله عنه أربعين وكل سنة1 فقد أطلق السنة على ما فعله عمر رضى الله عنه كما أطلق على ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم وفى الخبر: "عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين من بعدى" 2 وقال عليه السلام: "من سن سنة" 3 وأما دليلنا فنقول قول الصحابى فى الأمر والنهى أمرنا بكذا أو نهينا عن كذا مطلقا يرجع إلى النبى صلى الله عليه وسلم لأن الأصل أنه الأمر فى الشرائع خصوصا إذا كان الصحابى قال هذا القول للنبى صلى الله عليه وسلم وعلى هذا قول أنس رضى الله عنه أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة ولهذا لو قال الصحابى رخص لنا أن نفعل كذا ينصرف إلى النبى صلى الله عليه وسلم بالاتفاق فكذلك قول الصحابى من السنة كذا فمطلق السنة منصرف إلى النبى صلى الله عليه وسلم ولهذا يقال كتاب الله تعالى وسنة النبى صلى الله عليه وسلم وإذا قيل الكتاب والسنة وإنما يفهم من السنة سنة النبى صلى الله عليه وسلم ولأن السنة هى الطريقة المتبعة لأهل الدين والطريقة المتبعة لأهل الدين هى المشروعة فى الدين والمشروع فى الدين إنما يكون من الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم فأما من غير الله ورسوله فلا يدل عليه أن من التزم طاعته وبين فإذا قال أمرنا بكذا أو نهينا عن كذا فإنه يفهم منه من يلتزم طاعته ولا يتعدى أمره إلا ترى أن الرجل من أولياء السلطان إذا قال فى دار السلطان أمرنا بكذا أو نهينا عن كذا فهم منه أن السلطان أمر ونهى عما ذكروه وأيضا فإن غرض الصحابى من هذا القول أن يعلمنا الشرع أو يفيدنا الحكم صحب كمال ذلك عمن يصدر الشرع منه دون الأئمة والولاة لأن أمرهم غير مؤثر فى الشرع وهذا راجع إلى الدليل الذى قدمناه فيكون تقريرا له وأما قول على رضى الله عنه فالمراد بالسنة سنة النبى صلى الله عليه وسلم لأن الزيادة على الأربعين مفعولة عندنا تعزيرا والتعزير من سنة النبى صلى الله عليه وسلم وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "سنتى وسنة الخلفاء الراشدين من بعدى"4 فتلك السنة.   1 أخرجه مسلم الحدود 3/1331 ح 38/1707 وقال "وعمر ثمانين" وأبو داود الحدود 4/162 ح 4481 ولكنه قال "وكملها عمر ثمانين" وأحمد المسند 1/103 ح 626 لفظه لفظ أبو داود. 2 أخرجه أبو داود السنة 4/200 ح 4607 والترمذي العلم 5/44 ح 2676 وقال حديث حسن صحيح وابن ماجه المقدمة 1/51 ح 42 وأحمد المسند 4/156 ح 17149 انظر تلخيص الحبير 4/209 ح 14. 3 أخرجه مسلم الزكاة 2/704 ح 69/1017 والنسائي الزكاة 5/56 باب التحريض على الصدقة وابن ماجه المقدمة 1/74 ح 203. 4 تقدم تخريجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 المذكورة فى الخبر سنة مقيدة والكلام فى السنة المقيدة. وإذا قال الصحابى كنا نفعل كذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو بمنزلة المسند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال بعض أصحاب أبى حنيفة لا يكون بمنزلة المسند وعلى هذا الخلاف إذا قال الصحابى كانوا يفعلون كذا على عهد النبى صلى الله عليه وسلم وذهب من قال أنه لا يكون مسندا إلى أنهم كانوا يفعلون شيئا ولا يسندون ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ترى أنهم لما اختلفوا فى "الماء من الماء" ومن التقاء الختانين وزعم بعضهم أنهم كانوا يفعلون ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يعنى أنهم لا يغتسلون إلا من الماء1 قال عمر رضى الله عنه أو علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقركم على ذلك قالوا: لا قال فلا إذا وإنما نحن نقول أن الظاهر من أمر الصحابة أنهم كانوا لا يقدمون على شىء من أمور الدين والنبى صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم إلا عن أمره وإذنه فصار قولهم كنا نفعل كذا فى زمان النبى صلى الله عليه وسلم بمنزلة المسند لهذا الظاهر والظاهر حجة ولأن الصحابة إنما تضيف مثل هذا القول إلى زمان النبى صلى الله عليه وسلم لفائدة وهو أن يبين أن النبى صلى الله عليه وسلم علم ذلك ولم ينكره ولا فائدة لهذه الإضافة سوى هذا ولو عرف هذا كان هذا القول بمنزلة الخبر المسند كذلك هاهنا وأن شئت عبرت عن هذا فقلت: إذا قال الصحابى كنا نفعل كذا فالظاهر منه أنه قصد بهذا الكلام أن يعلمنا حكما ويفيدنا شرعا ولن يكون كذلك إلا إذا كانوا يفعلونه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجه يظهر له ذلك ولا ينكره وأما الذى ذكروه من اختلاف الصحابة فى الماء من الماء أو من التقاء الختانين فقد كان لا يجب الغسل بالتقاء الختانين فى ابتداء الإسلام ثم نسخ وأوجب به فلما نسخ لم يعلم بعضهم بالنسخ واستمر على ما كان عليه من قبل وقال الاستمرار والاستدامة يجوز أن يخفى أمره فأما الإقدام على ابتداء النهى فلا يفعل ذلك إلا عن إذن النبى صلى الله عليه وسلم. وأما إذا قال الصحابى قولا لا مجال للاجتهاد فيه فإنه لا يجعل ذلك مسندا إلى النبى صلى الله عليه وسلم وقد قال طائفة من أصحاب أبى حنيفة أنه يجعل بمنزلة المسند. وحرفهم فيما ذهبوا إليه هو أن حسن الظن بالصحابة واجب فإذا قال قولا يحسن الظن أنه لم ينقله جزافا وإنما قاله عن طريق فإذا لم يكن للاجتهاد فيه مجال فليس إلا أنه سمعه من النبى صلى الله عليه وسلم ونحن نقول أن إثبات الإسناد بهذا لا يمكن لأنهم لم يكونوا.   1 اتفق الفقهاء على وجوب الغسل عند التقاء الختانين ولو لم ينزل وخالفهم داود الظاهري وقال لا يجب الغسل ووافق ابن حزم الظاهري رأي الجمهور انظر المغني 1/203 المحلى لابن حزم 2/2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 يكتمون الأخبار ولا كان ذلك من عادتهم وبعد أن يقول الصحابى قولا ويستمر الزمان به ولقوله حجة من قول النبى صلى الله عليه وسلم ولا ينكر. ببينة: أنه كان من عادتهم الرواية عن النبى صلى الله عليه وسلم فيما يعين به من الحوادث إلا ترى أن الأخبار التى ذكرناها من قبل فإنهم رووها عن وقوع الحوادث فلما كانوا يظهرون الأحاديث ويروونها لأقوال غيرهم فكيف كانوا يكتمونها وهى حجة لأقوالهم أما قولهم أن حسن الظن بهم واجب قلنا نعم يجب علينا إحسان الظن بهم ويجب علينا أيضا أن لا نضيف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قولا وفعلا إلا عن تثبت ولا ثبت فى هذا الخبر الذى تظنون ثبوته وعلى أنهم لم يكونوا معصومين عن السهو والغلط فإن نقل عن واحد منهم شىء بخلاف القياس يجوز أن يكون قال عن قياس فاسد أو ظن ظنه ولم يكن صحيحا أو وقع له غلط فيما قاله وزلة فيما صار إليه فعرفنا أنه لا وجه لإثبات الخبر بمجرد ما قالوه وحين ذكرنا ما يكون مسندا أو ما لا يكون مسندا فنذكر بعد هذا ما يتعلق بمعرفة الصحابة ومعرفة طباقتهم بعون الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 فصل: طبقات الصحابة ... [فصل] 1 اعلم أن الصحابة على طبقات. فأعلاهم رتبة: العشرة الذين شهد النبى صلى الله عليه وسلم لهم بالجنة وأربعة منهم الخلفاء الراشدون2 وقد ضم إليهم عمر بن عبد العزيز وأول من أسلم من الرجال أبو بكر ومن الصبيان على ومن النساء خديجة ومن العبيد بلال رضى الله عنهم أجمعين قال أبو عبد الله الحاكم ولا أعلم من أهل التواريخ خلافا فى أنه أول من أسلم على وهذا خطأ من أبى عبد الله الحاكم وللعلماء فى هذا الباب اختلاف ظاهر عندى وذهب جماعة كثيرة إلى أن أبا بكر رضى الله عنه أول من أسلم واستدلوا بشعر حسان بن ثابت وهو إذا تذكرت نجوى من أحيى نعيه ... فاذكر أخاك أبا بكر مما فعلا الثانى التالى المحمود سيرته ... وأول الناس منهم صدق الرسلا وثبت حديث ابن عتبة أنه قدم على النبى صلى الله عليه وسلم فقال من تبعك على هذا الأمر، فقال: "حر وعبد" 3 يعنى بالحر أبا بكر وبالعبد بلال وقد قال زيد بن أرقم من الصحابة أن عليا رضى الله عنه أول من أسلم وقال إبراهيم النخعى معارضا لقول.   1 بياض في الأصل. 2 انظر فتح المغيث 3/293. 3 أخرجه مسلم المسافرين 1/569 ح 294/832 وابن ماجه الإقامة 1/434 ح 1364 وأحمد المسند 4/138 الحديث عن عمرو بن عبسة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 زيد بن أرقم حين ذكر له قوله قال لا بل أبو بكر رضى الله عنه أول من أسلم وقد أجمل أهل العلم الكلام إجمالا وقالوا: على ما قدمنا. والطبقة الثانية: أصحاب دار الندوة وذلك أن عمر لما أسلم حمل النبى صلى الله عليه وسلم إلى دار الندوة مع جماعة كثيرة من أصحابه قال أبو عبد الله الحافظ وهذا أيضا فيه نظر لأن النبى صلى الله عليه وسلم مختفيا فى دار بين الصفا والمروة وهى تعرف بدار الأرقم وهذه الدار معروفة اليوم وجاء عمر رضى الله عنه فأسلم وقصته معروفة فأما الحمل إلى دار الندوة ومعه جماعة من أهل مكة على ما قاله أبو عبد الله الحافظ فلا يعرف. وأما الطبقة الثالثة: طائفة هاجروا إلى الحبشة وهى الهجرة الأولى منهم عثمان وجعفر ابن أبى طالب وابن مسعود وجماعة وذكر فيهم حمزة وفيه نظر وجماعة. والطبقة الرابعة: هم الذين بايعوا النبى صلى الله عليه وسلم عند العقبة وهؤلاء كانوا من الأنصار ويقال للواحد منهم عقبى. والطبقة الخامسة: هم أصحاب العقبة الثانية قال وأكثرهم من الأنصار وأقول لا بل كلهم من الأنصار وكان الذى أخذ عليه العهد العباس بن عبد المطلب. والطبقة السادسة: المهاجرون الأولون وهم الذين وصلوا إلى النبى صلى الله عليه وسلم نقبا أن يدخلوا المدينة. والطبقة السابعة: أهل بدر. والطبقة الثامنة: المهاجرون بين بدر والحديبية. والطبقة التاسعة: أهل بيعة الرضوان بالحديبية وفيهم نزل قوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} . والطبقة العاشرة: المهاجرون بين الحديبية والفتح منهم خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم فيما روى حين هاجر: "لقد ألقت إليكم مكة أفلاذ كبدها" وأبو هريرة الدوسى. والطبقة الحادية عشر: قوم أسلموا يوم الفتح منهم أبو سفيان وسهيل بن عمرو وحكيم بن حزام وعكرمة بن أبى جهل وصفوان بن أمية وقد تآخر إسلام بعض هؤلاء النفر إلى أن فرغ النبى صلى الله عليه وسلم من غزوة حنين وفى هذه الطبقة أسلم بعد يوم الفتح إلى وفاة النبى صلى الله عليه وسلم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا هجرة بعد1 الفتح ولكن جهاد ونية".   1 ثبت في الأصل [يوم] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 والطبقة الثانية عشر صبيان رأوا مدة النبى صلى الله عليه وسلم وأطفال حملوا إليه كالسائب بن زيد وعبد الله بن ثعلبة بن أبى سعد وعأمر بن واثلة بن أبى الطفيل وابن أبى جحيفة وغيرهم وفى هذا علم كثير يطول ذكره. وأما الصحابة الذين تآخر موتهم قال الواقدى آخر من مات بالمدينة من الصحابة سهل بن سعد وكان ابن مائة سنة يوم مات توفى سنة إحدى وتسعين وآخر من مات بالكوفة من الصحابة عبد الله بن أبى أوفى مات سنة ست وثمانين وآخر من مات بالبصرة أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم مات سنة إحدى وتسعين وقيل سنة ثلاثة وتسعين وآخر من مات بالشام عبد الله بن بشر سنة ثمان وثمانين وقيل آخر من مات بمكة عبد الله بن عمر سنة ثلاث وسبعين وآخر من مات من روى أبو الطفيل عأمر بن واثلة الكنانى مات من سنة مائة من الهجرة. وأما اسم الصحابى فهو من حيث اللغة والظاهر يقع على من طالت صحبته مع النبى صلى الله عليه وسلم وكثرة مجالسته وينبغى أن يطيل المكث معه على طريقة السمع له والأخذ عنه ولهذا يوصف من أطال مجالسته العالم من أصحابه إذا لم يكن على طريق التبع له والأخذ عنه ثم إنما يعلم صحبة النبى صلى الله عليه وسلم أما بطريق موجب للعلم وهو خبر التواتر أو بطريق يقتضى غلبة الظن وهو إخبار الثقة وهذا الذى ذكرناه طريق الأصوليين وأما عند أصحاب الحديث فيطلقون اسم الصحابة على كل من روى عنه حديثا أو كلمة ويتوسعون حتى يعدون من رآه رؤية من الصحابة1 وهذا لشرف منزلة النبى صلى الله عليه وسلم.   1 اعلم أن الصحابي لغة يقع على من صحب أقل ما يطلق اسم صحبة فضلا عمن طالت صحبته وكثرت مجالسه. وفي اصطلاح من رأى النبي مسلما ذو صحبة على الأصح كما ذهب إليه الجمهور من المحدثين والأصوليين وغيرهم اكتفى بمجرد الرؤية ولو لحظة وإن لم يقع معها مجالسة ولا مماشاة ولا مكالمة لشرف منزلة النبي صلى الله عليه وسلم وممن نص على الاكتفاء بها أحمد فإنه قال: من صحبه سنة أو شهرا أو يوما أو ساعة أو رآه فهو من أصحابه وكذا قال ابن المديني من صحب النبي صلى الله عليه وسلم أو رآه ولو ساعة من نهار فهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وتبعهما تلميذهما البخاري فقال: من صحب النبي صلى الله عليه وسلم أو رآه من المسلمين فهو من اصحابه قيل: ويرد على ذلك توقف معرفة الشيء على نفسه فيدور لأ، صحب يتوقف على الصحابي وبالعكس لكن يمكن أن يقال مرادهم بصحب الصحبة اللغوية والصحابي المعنى الاصطلاحي على أن القاضي أبا بكر بن الطيب الباقلاني قال: لا خلاف بين أهل اللغة أن الصحابي مشتق من الصحبة جاز على كل من صحب غيره قليلا أو كثيرا يقال: صحبه شهرا ويوما وساعة قال ........ = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 أعطوا الكل ممن يراه حكم الصحبة ولأن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "طوبى لمن رآنى ولمن رأى من رآنى" فالأول هم الصحابة والثانى هم التابعون ولأنه عليه السلام قال: "خير الناس قرنى الذى بعثت فيهم" وأراد بهم الصحابة فكل من روى عنه أو رآه فهو قرنه الذى بعث فيه إلا أنه مع هذا لا بد من رؤية أو رواية للإجماع. وأما التابعون فعلى طبقات فالطبقة الأولى منهم قوم لحقوا العشرة أو أكثرهم كسعيد ابن المسيب هكذا قال أبو عبد الله الحاكم وحكاه الأستاذ أبو منصور البغدادى وتبعه وهذا خطأ لأن سعيد بن المسيب لا يصح له رواية عن أحد من العشرة إلا عن سعد بن أبى وقاص وولد لسنتين مضتا من خلافة عمر رضى الله عنه وتوفى سنة أربع وتسعين وقيل سنة ثلاث وتسعين نعم قد قيل أن سعيد بن المسيب أفقه أهل الحجاز فى زمانه ويقال أنه أعلم التابعين بقضاء عمر وأما الذين أدركوا العشرة أو أكثر العشرة فجماعة من التابعين من أهل الكوفة والبصرة مثل قيس بن أبى حازم ومسروق بن الأجدع وأبى عمرو الشيبانى وعمرو بن ميمون وعلقمة بن قيس وأبى وائل شقيق بن سلمة وأبى رجاء العطاردى وأبى عثمان النهدى وأبى شاشان حصين بن المنذر الرقاشى وغيرهم وقد خرج التابعون على خمسة عشر طبقة آخرهم من لقى أنس بن مالك والسائب بن يزيد وأبا أمامة الباهلى وواثلة بن الأسقع وغيرهم وهذا علم كبير وذكره يطول وقد.   = وهذا يوجب حكم اللغة إجراء هذا على من صحب النبي صلى الله عليه وسلم ولو ساعة هذا هو الأصل قال: ومع هذا فقد تقرر للأمة عرف أنهم لا يستعملون إلا فيمن كثرت صحبته وذكر المذهب الثاني وكذا قال صاحبه الخطيب أيضا لا خلاف بين أهل اللغة أن الصحبة التي اشتق منها الصحابي لا تحد بزمن بل يقول صحبته سنة وصحبته ساعة ولذا قال النووي في مقدمة شرح مسلم عقب كلام القاضي أبي بكر: وبه يستدل على ترجيح مذهب المحدثين فإن هذا الإمام قد نقل عن أهل اللغة أن الأحسن يتناول صحبته ساعة أو أكثر وأهل الحديث قد نقلوا الاستعمال في الشرع والعرف على وفق اللغة فوجب المصير إليه قلت: إلا أن الإسلام لا يشترط في اللغة والكفار لا يدخلون في اسم الصحبة بالاتفاق وإن رأوه صلى الله عليه وسلم وقال ابن الجوزي: الصحبة تطلق ويراد مطلقها وهو المراد في التعريف وتأكيدها بحيث يشتهر به وهي المشتملة على المحافظة والمعاشرة فإذا قلت: فلان صاحب فلان لم ينصرف يعني عرفا إلا للمؤكدة كخادم فلان وقال الأموي: الأشبه أن الصحابي من رآه وحكاه عن أحمد وأكثر أصحابنا واختاره ابن الحاجب أيضا لأن الصحبة تعم القليل والكثير فلو حلف أن لا يصحبه حنث بلحظة. ويشمل الصحابي الأحرار والموالي والذكور والإناث لأن المراد به الجنس انظر فتح المغيث 2/79, 80. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 صنف فيه ابن المدينى ومسلم بن الحجاج وغيرهم وأما الفقهاء السبعة من أهل المدينة فسعيد بن المسيب والقاسم بن محمد بن أبى بكر وعروة بن الزبير وخارجة بن زيد بن ثابت وأبو سلمة بن عبد الرحمن وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وسليمان بن يسار وقد أبدل بعضهم بأبى سلمة وخارجة سالم بن عبد الله بن عمر وأبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وفى المتقدمين من التابعين قوم أدركوا وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلموا من بعده وأسلموا فى زمانه ولم يروه مثل الأحنف بن قيس وسويد بن غفلة وعمرو بن ميمون وأبى وائل وأبى عثمان النهدى وغيرهم والأئمة المرجوع إليهم فى علم الحديث مالك بن أنس بالحجاز وسفيان الثورى بالعراق والأوزاعى بالشام والليث بن سعد بمصر وعبد الله بن المبارك بخراسان وكانت أعصارهم متقاربة وقد أجمعوا الرواية والدراية ولم يقابلهم أحد فى زمانهم وقيل أن الذين نشروا علم الحديث فى العالم قبل هؤلاء ستة نفر اثنان بالحجاز واثنان بالكوفة واثنان بالبصرة فاللذان بالحجاز الزهرى وعمرو ابن دينار واللذان بالكوفة أبو إسحاق السبيعى والأعمش واللذان بالبصرة قتادة ويحيى بن أبى كثير فمن هؤلاء الستة انتشر أكثر علم الحديث فى الدنيا وقد ذكرنا من قبل من يرجع إليهم فى الجرح والتعديل وفيهم كثرة وقد اقتصرنا على ما قدمنا. وأما الكتب التى تعتمد فى الحديث فأول ذلك الجامع الصحيح عن البخارى ثم الصحيح عن مسلم بن الحجاج القشيرى وكتاب السنة عن أبى داود والجامع عن أبى عيسى الترمذى وكتاب ابن أبى عوانة وكتاب أبو عبد الرحمن النسائى وكتاب الصحيح عن أبى العباس الدعولى وقد صنف أبو حاتم بن حبان كتابا سماه الصحيح جمع فيه الكثير وليس فى الصحة والتثبت مثل هذه الكتب وأولى هذه الكتب بالاعتماد صحيح البخارى وقد قيل أن ما فيه مقطوع بصحته عن النبى صلى الله عليه وسلم وقد اختلف أن الحديث فى أصح الأسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر وقال أبو بكر بن أبى شيبة أصح الأسانيد الزهرى عن على بن الحسين عن أبيه عن على وقال آخرون أصح الأسانيد سفيان الثورى عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله وقيل أصحها ابن سيرين عن عبيد عن على وقيل أصحها الزهرى عن سالم عن أبيه واعلم أن أصح أسانيد أهل البيت جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن على أن كان الراوى عن جعفر ثقة وأصح أسانيد أبى بكر الصديق رضى الله عنه إسماعيل بن أبى خالد عن قيس بن أبى حازم عن أبى بكر رضى الله عنه وأصح أسانيد عمر رضى الله عنه عن الزهرى عن سالم عن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 أبيه عن عمر وأصح أسانيد ابن مسعود إبراهيم عن علقمة عن عبد الله والأعمش عن أبى وائل عن عبد الله وأصح أسانيد أبى هريرة رضى الله عنه الزهرى عن ابن المسيب عن أبى هريرة وقيل أبو الزناد عن الأعرج عن أبى هريرة رضى الله عنه ولعبد الله بن عمر مالك عن نافع عن ابن عمر وعبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر ولعائشة رضى الله عنها هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة وعبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر عن القاسم بن محمد عن عائشة ويقال لهذا ترجمة مشتبكة بالذهب وكذلك الزهرى عن عروة عن عائشة ولجابر سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن جابر وجعفر بن محمد عن أبيه عن جابر ولأنس شعبة عن قتادة عن أنس ومالك عن الزهرى عن أنس وأصح أسانيد المكيين سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن جابر وابن جريج عن عطاء عن ابن عباس وأصح أسانيد المدنيين ما ذكرنا مالك عن نافع عن ابن عمر وأبو الزناد عن الأعرج عن أبى هريرة والزهرى عن سالم عن أبيه والزهرى عن عروة عن عائشة وأصح أسانيد الكوفيين سفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله والأعمش عن أبى وائل عن عبد الله وأصح أسانيد البصريين شعبة عن قتادة عن أنس وابن عون عن ابن سيرين عن أبى هريرة وأصح أسانيد اليمانيين معمر عن همام عن أبى هريرة وأصح أسانيد المصريين الليث بن سعد عن يزيد ابن أبى حبيب عن أبى الخير عن عقبة بن عأمر وأصح أسانيد الخراسانيين الحسين بن واقد عن عبد الله بن بريدة عن أبيه وهؤلاء مراوزة وعلى هذا الترتيب أوهى أسانيد الصديق صدقه بن موسى عن فرقد السبخى عن مرة الطبيب عن أبى بكر وأوهى أسانيد العمريين محمد بن القاسم عن عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم عن أبيه عن جده وأوهى أسانيد أبى هريرة المسرى بن إسماعيل عن داود بن زيد الأودلى عن أبيه عن أبى هريرة وأوهى أسانيد ابن مسعود شريك عن أبى زرارة عن أبى زيد والحمل فيه على أبى زيد وأما أبو زرارة راشد بن كيسان ثقة قال الحاكم وأوهى أسانيد أنس داود بن المحبر عن أبيه عن أبان عن أبي عياش عن أنس وأوهى أسانيد المكيين عبد الله بن ميمون القداح عن شهاب بن جابر عن إبراهيم بن يزيد الخودى عن عكرمة عن ابن عباس وأوهى أسانيد اليمانيين حفص بن عمر العدنى عن الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس وأوهى أسانيد الشاميين محمد بن قيس المصلوب عن عبد الله ابن رخو عن القاسم عن أبى أمامة وأوهى أسانيد المصريين أحمد بن الحجاج بن رشدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 ابن سعد عن أبيه عن جده عن مرة بن عبد الرحمن عن كل من روى عنه وأوهى أسانيد الخراسانيين عبد الله بن عبد الرحمن بن مليحة عن نهشل بن سعيد عن الضحاك عن ابن عباس نقلت على ما أورده الحاكم أبو عبد الله فى كتاب علوم الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 فصل: أقسام الصحيح من الأخبار ... فصل وذكر أبو زيد فصل فى أقسام الصحيح من الأخبار وقال: الأخبار التى يعمل بها ضربان مشهور وغريب قال: والمشهور ضربان. أحدهما ما اشتهر وبلغ حد التواتر. والآخر ما اشتهر ولم يبلغ حد التواتر. والغريب نوعان. أحدهما ما لم يشتهر ولكن لم يبلغ حد الاستنكار. والآخر ما بلغ حد الاستنكار. ثم قال أما المتواتر فحده ما اتصل بك عن المخبر اتصالا لا يبقى لك فيه شبهة كما يتصل تعليل من طريق السماع من المخبر عنه ثم قال وقد قال بعض الناس أن المتواتر من الأخبار لا يوجب علم اليقين وإنما يوجب علم طمأنينة. وذكر ما نقله اليهود أن عيسى عليه السلام قد قتل وقد ذكرنا من قبل الكلام فى هذا وذكرنا أن المتواتر من الأخبار يوجب علم الضرورة وأجبنا عن ما قاله اليهود. وأما المشهور فحده ما كان أوسطه وآخره على حد التواتر وأوله على حد الخبر الواحد وذكر عن أبى بكر الرازى أن هذا أحد قسمى التواتر لأنا نجد العلم فى أنفسنا بكل واحد منهما بلا اضطراب أنفسنا فى ذلك إلا أن العلم الأول يقع على اضطراره ولا مرد له فى النفوس والثانى يقع عن استدلال كما يكون مثله عن العقليات الموجبة للعلم فإن العلم بالمحسوسات عن اضطراب والعلم بالصانع عن الاستدلال قال عيسى بن أبان الخبر على ثلاثة أقسام قسم يضل جاحده كخبر الرجم وقسم يخشى المأثم على جاحده ولا يضله كخبر المسح على الخفين وقسم لا يخشى المأثم على جاحده كالأخبار التى رويت فى مسائل الخلاف التى اختلفت العلماء فيها فلم يكف عيسى بن أبان من جحد المشهور ثم جعل المشهور بعضه فوق بعض فى المرتبة وهو الصحيح عندنا ويسمى العلم عن الخبر المتواتر علم يقين وعن الخبر المشهور علم طمأنينة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 وعن الخبر الغريب علم يغالب الرأى وعن الغريب المستند علم ظن فهذه أربع مراتب تثبت الأخبار. والدليل على هذا أن المشهور لما لم يتصل برسول الله صلى الله عليه وسلم على وجه التواتر ولكن بالآحاد تمكنت الشبهة بالاتصال إلا أنها لما اشتهرت فى السلف وتواترت ولم يظهر رد اطمأنت النفوس إلى قبولها والعلم والعمل بها. قال والمشهور على هذا الوجه حجة يجوز بمثلها الزيادة على كتاب الله تعالى ويجوز نسخ الآية بها لأن السلف كانوا أئمة الدين وإجماعهم حجة ولم يكن فيهم تهمة ما تواتر النقل فيهم ولم يظهر رد منهم صار حجة من حجج الله تعالى حتى زدنا على كتاب الله الرجم وزدنا تحريم العمة على ابنة الأخ وابنة الأخت على العمة وكذا فى الخالة وابنة الأخت على كتاب الله تعالى وزدنا على أعضاء الوضوء الخف بالسنة والشائع على صوم كفارة اليمين والزيادة عندنا تجرى مجرى النسخ إلا أنا نفينا مع هذا شبهة الآحاد فلم نكفر جاحده وحططنا رتبته عن رتبة المتواتر فصار المتواتر علما يقينا من طريق الضرورة والمشهور يوجب علم اليقين أيضا إلا أن السامع متى تأمله حق تأمله وجد فى أوله ما يوجب ضرب شبهة فى آخره وكان دون العلم الواقع بالتواتر. قال وأما الغريب المقبول فما اختلفت الفقهاء خلفا وسلفا فى أحكام الحوادث على ما ورد أخبار فيها متعارضة قبلها بعضهم وردها بعضهم بلا إنكار ولا تضليل وهو حسب اختلافهم فى المقاييس المتعارضة. وأما الغريب المستنكر فنحو ما ذكرناه من الوجوه التى رد السلف بها الأخبار وربما يخشى الإثم على العامل به كما خشينا الإثم على تارك المشهور لأنه قرب من اليقين وهذا قرب من الكذب فيكون العلم به علم ظن على تحرى الحق كالذى تشتبه عليه القبلة فيتوجه إلى جهة على تحرى فلبه بلا دليل فهذا كلامه ذكرته على الاختصار وتركت كثيرا مما قاله لأنه لم يكن فيه شىء يستفاد. واعلم أن عندنا الخبر الصحيح ما حكم أهل الحديث بصحته والذى قال من المشهور والغريب فلا ننكر أن فى الأخبار ما هو غريب ومنها ما هو مشهور ولكن لا يعرف المشهور من الغريب بإشهاره عند الفقهاء وعدم اشتهاره عندهم لأنه رب خبر اشتهر عند الفقهاء وأهل الحديث لا يحكمون بصحته وهو مثل ما يروون: "لا وصية لوارث" 1.   1 تقدم تخريجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 ويروون: "لا تجتمع أمتى على الضلالة" 1 ويروون: "أنت ومالك لأبيك" 2 ويروون: "لا صلاة لجار المسجد إلا فى المسجد" 3 ويروون: "المكاتب عبد ما بقى عليه درهم" 4 وهذه أخبار لم يحكم أهل الحديث بصحة شىء منها ورب خبر كان غريبا عند الفقهاء وقد حكم أهل الصنعة بصحته وأما الذى قال أن الخبر الذى تلقته الأئمة بالقبول فهو موجب للعلم فقد ذكرنا من قبل والذى قال أن العلم الواقع به علم طمأنينة والعلم الواقع بخبر التواتر علم ضرورة هذا تفريق ولا علم فوق علم يطمئن به القلب نعم يجوز أن يقال فى الجملة للمتواتر رتبة زائدة على الخبر الذى ليس بمتواتر لكن تلقته الأئمة بالقبول كما أن للعيان رتبة زائدة على ما نعلم بالخبر وأن تواتر الخبر لكن عدا التفاوت يعرف فى ابتداء البداهة فإن لبداهة العيان ما ليس للخبر وأن وقع به العلم إلا ترى أن موسى عليه السلام لما رأى قومه قد طافوا بالعجل يعبدونه ألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه وقد كان الله تعالى أخبره بأنهم اتخذوا العجل إلها ولم يتغير فى تلك الحالة وأن كان وقع له العلم الضرورى بخبر الله تعالى له بذلك ولكن للعيان من التأثير والتمكن فى القلب ما ليس فى الخبر وهذا معنى قوله عليه السلام ليس الخبر كالمعاينة كذلك يجوز أن يكون الخبر المتواتر الذى يسمعه فى الابتداء عن الجمع العظيم من التمكن فى القلب ما لا يكون للخبر الواحد وأن اتفقت الأمة على قبوله فإن أراد بالتفاوت هذا القدر فهو صحيح والذى قال من الترتيب فى قوله أن الخبر كذا يضل بتركه وخبر كذا يخشى أن يأثم بتركه وفى الخبر الثالث لا يخشى فالأصوليون لا يعرفون واسطة ثالثة بين الخبر الموجب للعلم والخبر الذى لا يوجب العلم فإن قال قائل شيئا ودل عليه الدليل يقبل وما لا يدل عليه الدليل فهو.   1 أخرجه الترمذي الفتن 4/466 ح 2167 وقال: حديث غريب بلفظ "إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة" وابن ماجه الفتن 2/1303 ح 3950 بلفظ "إن أمتي لا تجتمع على ضلالة" والحاكم في المستدرك 1/115 - 116. 2 أخرجه أبو داود البيوع 3/287 ح 3530 بلفظ "أنت ومالك لوالدك" وابن ماجه التجارات 2/769 ح 2291 2292 وأحمد المسند 2/247 ح 6916. 3 أخرجه الدارقطني سننه 1/420 ح 2 والبيهقي في الكبرى 3/157 باب المأموم يصلي خارج المسجد بصلاة الإمام في المسجد وبينهما حائل والحاكم في المستدرك 1/246 انظر نصب الراية 4/412. 4 أخرجه أبو داود العتق 4/19 ح 3926 انظر نصب الراية 4/143. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 مردود وأما الغريب الذى لا يستنكر والغريب الذى يستنكر فهو أيضا إلى أهل الصنعة. وأنا أعلم قطعا أنه لم يكن فى هذا العلم حظ أعنى العلم بصحيح الأخبار وسقيمها ومشهور الأخبار وغريبها ومنكراتها وغير منكراتها لأن هذا أمر يدور على معرفة الرواة ولا يمكن أن يقترب من مثل هذا بالذكاء والفطنة فكان الأولى به عفا الله عنه أن يترك الخوض فى هذا الفن ويحيله على أهله فإن من خاض فيما ليس من شأنه فأقل ما يصيبه افتضاحه عند أهله وليست العبرة بقبول الجهلة وأن لكل ساقطة لاقطة ولكن ضالة ناشد ولكن العبرة فى كل علم بأهله إلا ذهن ولكل عمل رجال فينبغى أن يسلم لهم ذلك. فإن قال قائل فما حد الخبر الصحيح عندكم قلنا قد ذكرنا من قبل رجاله وكتبه فالأمر بالتصحيح والتمريض إليهم وقد ذكر الحاكم أبو عبد الله الحافظ فى كتاب علوم الحديث أن صفة الصحيح أن يرويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابى مشهور بالصحبة ويروى عنه تابعيان عدلان ثم يتداوله أهل الحديث بالقبول إلى وقتنا هذا وقد قالوا: أن الصحيح لا يعرف بالرواية من الثقات فقط وإنما بالفهم والحفظ وكثرة السماع وليس للمعرفة به معين مثل المذاكرة مع أهل العلم والمعرفة ليظهر ما يخفى من علة الحديث واعلم أن الشرط الذى شرطوه وهو أن يرويه اثنان من التابعين لا يعرفه الفقهاء لأن عند الفقهاء أن رواية الواحد مقبولة وإذا كان ثقة فحكم بصحة الخبر وقد ذهب بعض المتكلمين إلى شرط العدد وليس بشىء لما ذكرنا من إجماع الصحابة على رواية الراوى الواحد فأما أهل الحديث شرطوا هذا العدد لأنه شرط فى الصحة إلا أنهم يسمون ما نقله الواحد من الواحد الصحيح الغريب ويجعلون ما نقله الاثنان فما زاد وتداوله أهل الرواية بالقبول على ما مضى من القرون الصحيح المطلق أو الصحيح المشهور ولهم أسامى فى هذا الباب وألفاظ تواضعوا عليها لمعانى يحتاجون إليها وذكر ذلك يطول ويمل منه الناس فاقتصرنا على هذا والله أعلم. مسألة الزيادة إذا انفرد بها الراوى الثقة: يقبل عند آخر وكذلك فى قبول عامة الفقهاء1 وكذلك إذا رفع إلى الرجل الثقة.   1 اعلم أنه إذا روى الحديث اثنان فأكثر وانفرد أحدهم بزيادة لم يروها الآخرون وكان المنفرد بالزيادة عدلا ثقة فلا يخلو إما أن تكون الزيادة للمزيد عليه بحيث لا يمكن الجمع بينهما أو ليست مخالفة له فإن كانت الزيادة مخالفة للمزيد عليه ولا يمكن الجمع بينهما ............. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 حديثا ووقفه غيره فالقول قول من رفع وكان حجة مقبولة على قول من ذكرناهم وذهب جماعة من أصحاب الحديث إلى أن الواحد إذا كان انفرد بزيادة من بين جملة الرواة حمل الأمر فى هذه الزيادة على الغلط وكذلك إذا رفع الواحد حديثا ووقفه أصحابه يتوقف فى الحديث واحتج من رد رواية المنفرد وقال أن ضبط الراوى إنما يعرف بموافقة المعروفين بالضبط فإذا لم يوافقوه فى الرواية لم يعرف ضبطه وأيضا فإن الجماعة لو.   = كان متعارضين وهذا حكم الدليلين المتعارضن وإن كانت الزيادة غير مختلفة للمزيد عليه فلا يخلو إما أن يعلم تعدد المجالس أو يعلم عدم تعددها أو لا يعلم واحد منهما. أولا: فإن علم تعدد المجالس قبلت تلك الزيادة اتفاقا وذلك هو المقتضى لقبول روايته وترك الغير لتلك الزيادة لا يقدح في قبولها لجواز أن تكون الزيادة وقعت في مجلس لم يحضره من تركها ومتى وجد المقتضى للقبول وانتفى المانع عمل بالمقتضى لسلامته عن المعارض فتقبل تلك الزيادة. ثانيا: أما إن علم عدد المجلس بأن كان المجلس واحدا فإما أن يكون تاركوا الزيادة ممن لا يجوز عليهم الغفلة عنها بأن كانوا عدد التواتر أو ممن يجواز عليهم ذلك. فإن كانوا ممن لا تجوز عليهم الغفلة عن تلك الزيادة لم تقبل لأن تطرق الخطأ إلى راوي الزيادة أولى من تطرق الخطاء إليهم. وإن كانوا ممن يجوز عليهم الذهول والغفلة عنها - فجمهور الفقهاء والمتكلمين يقولون: تقبل تلك الزيادة لأن الراوي عدل ثقة وعدم رواية الغير لها يجوز أن يكون لأنه دخل المجلس بعد أن قبلت تلك الزيادة فيكون قد سمع بعض الحديث ولم يسمع البعض الآخر ويجوز أن يكون لخروج من المجلس قبل أن يسمع تلك الزيادة أو أن يكون قد ذهل عن سماعها وهذه كلهم احتمالات لا تقدح في راوي الزيادة لأنها لا تنفي سماعه لها وبذلك يكون المقتضى قد سلم عن المعارض فوجب العمل به. وقال بعض العلماء لا تقبل الزيادة مطلقا. وفصل البعض بين أن يكون الساكت عن الزيادة واحدا فتقبل الزيادة وأن يكون الساكت جماعة فلا تقبل منهم. ثالثا: أما إن جهل الحال فلم يعلم تعدد المجالس ولا اتحادها فقال الآمدي: يكون الحكم في هذه الحالة كالحكم عند اتحاد المجلس بل يكون قبول الزيادة هنا أولى لاحتمال اختلاف المجالس. المثال قوله عليه السلام "زكاة الفطر واجبة على كل حر أو عبد ذكر أو أنثى من المسلمين" فإن التقييد بالمسلمين زيادة تفرد بها مالك رضي الله عنه عن باقي الرواة انظر نهاية السول 3/217, 218 إحكام الأحكام للآمدي 2/154 انظر المحصول 2/233 روضة الناظر 110 المعتمد 2/128 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/139, 140. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 كانوا فى مجلس فنقلوا عن واحد كلاما وانفرد واحد بزيادة على الباقين مع كثرتهم وشدة عنايتهم بما سمعوه وطرحوه لأطرح السامعون تلك الرواية ولم يقبلوها وأيضا فإن الجماعة لو وافقوا هذا الراوى الواحد يقوى بموافقتهم خبره إلا إذا خالفوه أن يضعف خبره وأما دليلنا فنقول الراوى للزيادة ممن يجب قبول خبره ولا معارض لروايته فيجب قبولها كما لو انفرد برواية الحديث ولم يروه غيره معه وإنما قلنا أن من يقبل خبره لأنه اجتمع فيه العدالة والضبط وجميع الصفات المطلوبة وإنما قلنا لا معارض لروايته لأن التارك لرواية الزيادة لم ينفها ولا معنى. أما قولنا لم ينفها لفظا فبين وأما قولنا لم ينفها معنى فلأنه لبس ألا ترى أنه لم يرو هذه الزيادة وتركه رواية هذه الزيادة لبس يجب فيه أن يكون لنفيه إياها بل يجوز أنه لم يروها لسهو اعتراه حين تكلم به النبى صلى الله عليه وسلم أو لشغل قلب أو تشاغل بعطاس أو أصغى إلى كلام آخر فإذا جاز كل هذا بطل قول من قال أن التارك للزيادة نفاها معنى واعلم أن على موجب هذه الدلالة ينبغى أن يقال أن الذى ترك رواية الزيادة لو كانوا جماعة لا يجوز عليهم أن يغفلوا بجماعتهم عن تلك الزيادة وكان المجلس واحدا أن لا يقبل رواية راوى الزيادة فإن قيل نعم تجوز هذه الوجوه التى ذكرتها ويجوز أيضا أن يكون هذا الراوى الواحد غلط فى السماع فتوهم أنه سمع تلك الزيادة من النبى صلى الله عليه وسلم ولم يكن سمعها قيل له سهو الإنسان عما سمعه وتشاغله عن سماع ما جرى بمشهد منه يكثر وأما توهم الإنسان أنه سمع شيئا ولم يكن سمعه وأن كان يجوز ولكن يندر جدا لا يلتفت إليه وقد قال الأصحاب أن الزيادة التى ينفرد بها الثقة بمنزلة الخبر الذى ينفرد الثقة بروايته فإن لم تقبل روايته لهذه الزيادة وجب إلا يقبل روايته لخبر ينفرد بروايته فإن قيل قول من يثبت الزيادة يعارض قول من ينفيها قلنا قد أجبنا عن هذا وهذا لأن القول لا يعارض بالسكوت وإنما سبيل المحدثين إذا زاد أحدهما سبيل شهود شهد بعضهم على رجل أنه أقر له فى مجلس بدرهم وشهد آخرون أنه اقر فى ذلك المجلس بدرهم ودينار فالشهادتان جميعا مقبولتان وثبت الدينار مع الدرهم ولا خلاف فى هذا بين الفقهاء وكذلك لم يختلف الفقهاء أن الشاهدين لو شهدوا على رجل أنه طلق امرأته فى مجلس وشهد جماعة أنهم كانوا حاضرين ولم يسمعوا طلاقها أن شهادة الشاهدين بالطلاق مقبولة ويثبت ما شهدوا عليه واعلم أن هذا الدليل يقتضى أن الراوى الواحد إذا كان ثقة وروى الزيادة وقد كان فى المجلس جماعة لم يرووها أن يقبل رواية من. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 روى الزيادة ومن حيث المعنى الأول أولى قال الشافعى رحمة الله عليه من قبل القراءة الشاذة فى كتاب الله تعالى مع أن طريق ثبوته التواتر ورد الزيادة فى الحديث إذا انفرد الثقة العدل بها فقد ناقض فأما الذين قالوا: أن ترك ضابط آخر رواية هذه الزيادة يدل على غلط الأول قلنا هذا لا يصح لأنه لو لم يثبت ضبط الإنسان إلا بموافقته ضابط آخر أدى إلى ما لا نهاية له ولم يعرف أحد وأما الثانى الذى قالوه قلنا قد بينا أن الذى ترك الرواية لو كانوا جماعة لا يجوز عليهم الغفلة ينبغى أن لا يقبل رواية هذا الواحد ذلك فينبغى أن يقول الجماعة إنهم لم يسمعوه فإنهم إذا لم يقولوا ذلك يجوز أنهم رووا بعض الحديث ولم يرووا البعض لغرض لهم وأما قولهم أن الضابط لو وافق هذا الراوى أوجبت القوة فإذا لم يوافق أوجب الضعف قلنا ولم هذا لأنه بإمساكه رواية الزيادة ليس بمخالف لأنه ليس نافى لها على ما سبق ويقال لهم أيضا لم إذا كانت مشاركة الرواة له فى الزيادة موجب قوة خبره وجب إذا لم يشاركوه ينتقض تلك القوة إلى ضعف موجب إسقاط الرواية إلا ترى أن الراوى الواحد لو شارك جماعة فى رواية خبره أوجب ذلك قوة فى خبره ثم إذا لم يشاركوه فى الرواية لم يوجب ضعفا فى خبره يوجب إسقاط روايته واعلم أنه لا فرق فى هذه المسألة بين أن يسند الراوى الزيادة والتارك للزيادة ما رواه إلى مجلس واحد أو إلى مجلسين أو مطلقا إطلاقا ففى هذه الصورة كلها يقبل إلا فى الصورة التى ذكرنا فى أثناء المسألة ونذكر صورا من هذه الأخبار التى تفرد الراوي الواحد فيها بزيادة فمن ذلك حديث مالك بن مغول عن الوليد بن العيزار عن أبى عمرو الشيبانى عن عبد الله بن مسعود قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أى الأعمال أفضل قال: "الصلاة لوقتها" 1 ثم روى الحسن بن مكرم وبندار عن عثمان بن عمرو بندار عن غيره عن مالك بن مغول هذا الخبر وذكر أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "الصلاة لأول وقتها" 2 وكانت هذه الزيادة مقبولة لأن الحسن بن مكرم وبندارا ثقتان ومثال ذلك أيضا ما حدث ابن عمر فى صدقة الفطر رواه جماعة من الثقات أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرج صدقة الفطر صاعا من شعير أو صاعا من تمر3.   1 أخرجه البخاري التوحيد 13/519 ح 7534 ومسلم الإيمان 1/89 ح 137/85. 2 أخرجه الترمذي الصلاة 1/319 ح 170 وأحمد المسند 2/405 ح 27170 انظر تلخيص الحبير 1/191 - 192. 3 أخرجه البخاري زكاة 3/430 ومسلم الزكاة 2/677 ح 12/984. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 ثم روى سعيد بن عبد الرحمن الجمحى عن عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر وزاد صاعا من قمح ومثال ذلك أيضا حديث ابن عمر أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "من شرب من إناء ذهب أو فضة فإنما يجرجر فى بطنه نار جهنم" 1 ثم روى يحيى بن محمد الحارثى حديث زكريا بن إبراهيم بن عبد الله بن مطيع عن أبيه عن جده عن ابن عمر هذا الخبر وزاد فيه: "أو إناء فيه شىء كتلك" ومثال ذلك أيضا حديث أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم فى قوله: "قسمت الصلاة بينى وبين عبدى فإذا قال العبد الحمد لله رب العالمين يقول الله تعالى حمدنى عبدى" وهو خبر صحيح ثم روى عبد الله بن زياد ابن سمعان عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبى هريرة الخبر وذكر فيه "فإذا قال العبد بسم الله الرحمن الرحيم قال الله تعالى ذكرنى عبدى" 2 وقد تفرد بهذه الزيادة عبد الله بن زياد وفيه مقال ومثال ما ذكرنا أيضا حديث ابن جريج عن سليمان بن موسى عن الزهرى عن عروة عن عائشة رضى الله عنها وعن أبيها أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها" 3 الخبر ثم روى إسحاق بن أحمد بن إسحاق الرقى حدثنا أبو يوسف محمد بن أحمد بن الحجاج الرقى حدثنا عيسى بن يونس حدثنا ابن جريج الخبر وزاد فيه: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها وشاهدى عدل فنكاحها باطل" 4 والخبر محفوظ وهذه الزيادة بهذا الإسناد والله أعلم بها فإن قيل أليس الشافعى قد وهن حديث السقاية لانفراد سعيد بن أبى عروبة بها ومخالفة أصحابه إياه فى هذه اللفظة قلنا هذا لا يشبه ما ضربنا من الأمثلة لأن سعيد بن أبى عروبة روى مطلقا وغيره روى الخبر وقال قال قتادة يستسعى غير مشقوق عليه غير حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول قتادة فيكون هذا الراوى قد ضبط ما خفى على الآخر فلا يكون هذا شبيها بمسألتنا بل قد جرد ما قلنا واستمر وتكون هذه الرواية على وفق ما سمعناه والله أعلم.   1 أخرجه الطبراني في الأوسط 4/277 ح 4189 وقال الحافظ الهيثمي وفيه العلاء بن برد بن سنان ضعفه أحمد وعزاه أيضا إلى الطبراني في الصغير انظر مجمع الزوائد 5/89. 2 أخرجه مسلم الصلاة 1/296 ح 38/395 والترمذي التفسير 5/201 ح 2953. 3 أخرجه أبو داود النكاح 2/235 ح 2083 والترمذي النكاح 3/398 ح 1102 وقال حديث حسن والدارمي النكاح 2/185 ح 2184 وأحمد المسند 6/185 ح 25380. 4 الحديث بلفظ "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل وما كان من نكاح على غير ذلك فهو باطل." أخرجه ابن حبان 1247/موارد انظر نصب الراية 3/167. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 فصل: فى معرفة الترجيح بين الأخبار المتعارضة . اعلم أنه إذا تعارض خبران فلا يخلوا أما أن يمكن الجمع بينهما أو يمكن ترتيب أحدهما على الآخر فى الاستعمال فإنه يفعل أيضا فإن لم يمكن وأمكن نسخ أحدهما بالآخر فإنه يفعل فإن لم يمكن رجح أحدهما على الآخر بوجه من وجوه الترجيح ومثال الخبرين المتعارضين الذى يمكن استعمالهما ما روى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "أيما إهاب دبغ فقد طهر" 1 وقال النبى صلى الله عليه وسلم: "لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب" 2 فيحمل الحظر على ما قبل الدباغ والإباحة على ما بعد الدباغ فيستعمل السنتان على الوجه الممكن ولأنه يطرح أحدهما بالآخر. وأما ترتيب أحد الخبرين على الآخر فهو مثل الخاص والعام إذا تعارضا يرتب العام على الخاص وقد ذكرنا هذه المسألة. وأما الناسخ والمنسوخ فكثير وسيأتى بيانه. وأما الترجيح لأحد خبرين على الآخر فيدخل من جهة الإسناد ويدخل من جهة المتن. فأما الترجيح من جهة الإسناد فمن وجوه. أحدها أن يكون أحد الراويين صغيرا والآخر كبيرا3 فنقدم رواية الكبير لأنه يكون أضبط ولهذا قدم ابن عمر روايته على رواية أنس فى إفراد الحج وقرانه مع العمرة فقال أن أنسا كان صغيرا يتولج على النساء وهن منكشفات وأنا أخذ بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم.   1 أخرجه مسلم الحيض 1/277 ح 105/366 وأبو داود اللباس 4/65 ح 23/4 ولفظهما: "إذا دبغ الإهاب فقد طهر" والترمذي اللباس 4/221 ح 1728 ولفظ الحديث عنده والنسائي الفرع 7/151 باب جلود الميتة والدارمي الأضاحي 2/117 ح 1985. 2 أخرجه أبو داود اللباس 4/66 ح 4128 والترمذي اللباس 4/222 ح 1729 وقال حديث حسن والنسائي الفرع 7/154 باب ما يدبغ به جلود الميتة وابن ماجه اللباس 2/1194 ح 3613 وأحمد المسند 4/381 ح 18805. 3 المحصول 2/457 إحكام الأحكام للآمدي 4/327 نهاية السول 4/475 المستصفى 2/395. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 فيسيل على لعابها. والثانى: أن يكون أفقه فتقدم روايته على من دونه فى الفقه لأنه أعرف بما سمع1. والثالث: أن يكون أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون أولى لأنه يكون أوعى لما سمعه. والرابع: أن يكون أحدهما باشر القصة أو تعلق القصة به2 فيقدم روايته لأنه أعرف بالقصة من الأجنبى عنه ومثال هذا فى مسألة نكاح المحرم ورواية أبى نافع أن النبى صلى الله عليه وسلم كان حلالا3 وكذلك رواية ميمونة4 فيكون أولى من رواية ابن عباس أنه كان محرما5. والخامس: أن يكون أحد الخبرين أكثر رواة فتقدم على الخبر الذى يكون أقل رواة ومن أصحابنا من قال لا يقدم كما لا يقدم الشهادة بكثرة العدد6 وكذلك لا يقدم أحد الفتويين بكثرة المفتين والأول أصح لأن الترجيح يكون بوجود قوة فى أحد الخبرين لا يوجد فى الآخر ومعلوم أن كثرة الرواة نوع قوة فى أحد الخبرين لا يوجد فى الآخر لأن قول الجماعة أقوى فى الظن وأبعد من السهو من قول الواحد وأيضا أقرب إلى إفادة العلم وهو إذا بلغ عددا يقع به تواتر الخبر وأما الشهادة والفتوى فقد منعوا والمذهب التسليم والفرق بين الرواية والشهادة مقدرة فى الشرع بعدد معلوم فكفينا الاجتهاد فيها وأما الرواية فقد بنى أمرها على الاجتهاد وفى الرواة يوجد إذا كثروا ما لا يوجد إذا قلوا وهو سكون النفس من طمأنينتها فإنه يوجد عند كثرة الرواة ما لا يوجد عند قلتهم.   1 انظر المحصول 2/454 انظر إحكام الأحكام للآمدي 2/327, 328 نهاية السول 4/477 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/206. 2 انظر المحصول 2/454 انظر إحكام الأحكام للآمدي 2/327 نهاية السول 4/478 روضة الناظر 349 المستصفى 2/396 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/206. 3 أخرجه الترمذي الحج 3/191 ح 841 وقال حديث حسن. 4 أخرجه مسلم النكاح 2/1032 ح 48/1411 وأبو داود المناسك 2/175 ح 1843 والترمذي الحج 3/194 ح 845. 5 أخرجه البخاري النكاح 9/70 ح 5114 ومسلم النكاح 2/1031 ح 46/1410. 6 المحصول 2/453 نهاية السول 4/474 روضة الناظر للمقدسي 348 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/205, 206. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 والسادس: أن يكون أحد الراويين أكثر صحبة فتكون روايته أولى لأنه يكون أعرف بما داوم عليه الرسول من السنن1. والسابع: أن يكون أحدهما أحسن سياقا للحديث فيقدم خبره لأنه كان أحسن عناية بالخبر من الآخر فلهذا قدمنا جابر فى إفراد الحج. والثامن: أن يكون أحدهما متآخر الإسلام فتقدم روايته لأنه يحفظ أحد الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولذلك إذا كان أحدهما متآخر الصحبة فيدل ذلك على تآخر سماعه وهذا والأول واحد وقد قال أصحاب أبى حنيفة لا يقدم بهذا2 لأن المتقدم قد دامت صحبته إلى حال وفاة النبى صلى الله عليه وسلم فلا يكون للمتآخر ترجيح عليه والذى قلناه أولا أولى لأن سماع المتآخر متحقق لغيره وسماع المتقدم يحتمل التقدم والتآخر فما تآخر سماعه يتبين يكون أولى ولهذا قال ابن عباس كنا نأخذ بالأحدث فالأحدث من أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومثال ذلك ما فعله الشافعى من تقديم رواية ابن عباس فى التشهد على رواية ابن مسعود. والتاسع أن يكون أحد الراويين أورع وأشد احتياطا فيما يروى فتقدم روايته لاحتياطه فى النقل. والعاشر أن يكون أحدهما قد اضطرب لفظه والآخر لم يضطرب لفظه فيكون الذى لم يضطرب لفظه أولى3. والحادى عشر أن يكون أحد الخبرين رواه أهل المدينة والخبر الآخر رواه غيرهم4 فيكون الأول أولى لأنهم يروون أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته التى مات عليها فهم أعرف بذلك من غيرهم. والثانى عشر أن يكون أحد الروايين اختلفت عنه الرواية والآخر لم تختلف عنه الرواية فمن أصحابنا من قال بتعارض الروايتان اللتان اختلفتا وينفى رواية من لم.   1 إحكام الأحكام للآمدي 4/327. 2 المحصول 2/460 إحكام الأحكام للآمدي 2/327 نهاية السول 4/490 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/208. 3 إحكام الأحكام للآمدي 2/326, 328 انظر المحصول 2/456 انظر نهاية السول 4/488, 497 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/207, 211. 4 المحصول 2/459 نهاية السول 4/494 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/259. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 تختلف عنه الرواية ومنهم من قال يرجح رواية من لم تختلف عنه الرواية لمكان الاختلاف وعدم الاختلاف. وأما ترجيح المتن فمن وجوه. أحدها: [أن يكون أحد] 1 الخبرين موافقا لدليل آخر من كتاب أو سنة أو قياس فيقدم على الخبر الآخر الذى لا يوجد له هذه القوة2. والثانى: أن يكون أحد الخبرين عمل به الأئمة فيكون أولى لأن عملهم به يدل على أنه أحد الأمرين3 وكذلك إذا عمل بأحد الخبرين أهل الحرمين فيكون أولى لأن عملهم يدل على أن الشرع استقر عليه ويدل أنهم دونوه عن سلفهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا قدمنا رواية الإفراد على رواية التثنية فى الإقامة. والثالث: أن يكون أحدهما مجمع النطق والدليل فيكون أولى ما وجد فيه أحدهما لأنه يكون أبين. والرابع: أن يكون أحدهما نطقا والآخر دليلا فيكون النطق أولى من الدليل4 لأن النطق مجمع عليه والدليل مختلف فيه ومعنى هذا الدليل دليل الخطاب. والخامس: أن يكون أحدهما قولا وفعلا والآخر أحدثهما فالذى يجمع القول والفعل أولى لأنه أقوى من حيث تظاهر الدليلين وأن كان أحدهما قولا والآخر فعلا ففيه أوجه وقد سبق فى باب الأفعال. والسادس: أن يكون أحدهما ورد على سبب والآخر ورد على غير سبب والذى ورد على غير سبب أولى لأنه يكون متفقا على عمومه والوارد على سبب مختلف فى عمومه. والسابع: أن يكون أحدهما إثباتا والآخر نفيا فيقدم الإثبات لأن مع المثبت زيادة علم والأخذ بروايته أولى. والثامن: أن يكون أحدهما ناقلا والآخر منفيا على الأصل فيكون الناقل عن الأصل.   1 زيادة بالأصل. 2 روضة الناظر 349 المستصفى 2/396. 3 المستصفى 2/396 المحصول 2/470 روضة الناظر 350 نهاية السول 4/507 إحكام الأحكام 4/359. 4 انظر المحصول 2/464 إحكام الأحكام للآمدي 4/344. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 أولى لأنه يفيد حكما شرعيا ليس فى الآخر1. والتاسع: أن يكون فى أحدهما احتياط لا يوجد فى الآخر فيكون الأحوط أولى لأن الأحوط أسلم للدين. والعاشر: أن يكون أحدهما يقتضى الحظر والآخر يقتضى الإباحة ففيه وجهان. أحدهما: أنهما سواء لأنهما حكمان شرعيان. والوجه الآخر: وهو الأصح أن الذى يقتضى الحظر أولى لأنه أحوط2. وقيل فى القسم الأول إذا تعارض خبران من روايتين ورويا من واحد وأحدهما أعلم ممن يروى عنه فيكون أولى كالرواية فى زوج بريرة فالذى روى أنه كان عبدا القاسم بن محمد وعروة بن الزبير عن عائشة والذى روى أن زوج بريرة كان حرا الأسود عن عائشة وعروة والقاسم أعلم بعائشة رضى الله عنها من الأسود لأنهما قريباها والأسود أجنبى منها وقيل أيضا إذا تعارض الخبران أن يجوز أن يرجح أحدهما على الآخر لأن الصحابة تلقته بالقبول وأن لم يعرف من الصحابة فى ذلك شىء فإن كان عوام أهل الحديث عملوا بأحدهما يقدم على الآخر وقيل أنه يرجح أحد الخبرين على الآخر بأن يكون أحدهما أشبه بمعانى الكتاب والثانى أشبه بمعانى السنة وهذا قد بينا فإن لم يوجد فى واحد من الخبرين ترجيح بوجه ما وعدم الكل طرحا ويرجع إلى ما كان عليه الإفراد أولا اعلم أن الذى تضمنه الخبر أن ليس من دين الله إذ لو كان من دين الله لم يقع بينهما التنافى أو كان أحدهما من دين الله لم يخل من دليل يدل عليه فإذا لم يدل الدليل على واحد منهما من الوجوه التى قدمناها علمنا أنه ليس من عند الله تعالى وتقدس فأسقطناهما جميعا وقد رجح عيسى بن أبان المرسل على المسند لأن الراوى قال قال النبى صلى الله عليه وسلم وكأنه قطع به والآخر إحالة على غيره ونحن قد بينا أن المرسل ليس بحجة فكيف يرجح بهذا الوصف قال القاضى عبد الجبار هذا الكلام الذى قاله عيسى بن أبان وهو أن الراوى لا يقول قال النبى صلى الله عليه وسلم إلا وقد وثق أن النبى صلى الله عليه وسلم قاله إنما.   1 انظر المحصول 2/464. 2 قال الرازي: إذا تعارض خبران في الحظر والإباحة وكانا شرعيين فقال أبو هاشم وعيسى بن أبان: إنهما يستويان وقال الكرخي وطائفة من الفقهاء: خبر الحظر راجح انظر المحصول 2/468 وقال الآمدي ذهب الأكثر كأصحابنا وأحمد بن حنبل والكرخي والرازي من أصحاب أبي حنيفة إلى أن الحاظر أولى وذهب أبو هاشم وعيسى بن أبان إلى التساوي والتساقط إحكام الأحكام 4/351. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 يصح إذا قال قال النبى صلى الله عليه وسلم فأما إذا قال عن النبى صلى الله عليه وسلم فلا يتأتى هذا الكلام وأيضا فإن قول الراوى قال النبى صلى الله عليه وسلم يحسن مع الظن لكونه قائلا لذلك كما يحسن مع العلم فمن أين أنه لم يقل قال النبى صلى الله عليه وسلم إلا وقد روى له جماعة وظنه أكثر من الظن الحأصل برواية المسند المعارض له فإن قالوا: أن الذى يرسل لا يقول قال النبى صلى الله عليه وسلم إلا وقد روى له جماعة قلنا هذا لا يعرف وقد بينا أن السكوت عن اسم المروى عنه محتمل لوجوه كثيرة وقد رجح قوم الخبر بالذكورة والحرية أما الحرية فلا تأثير لها فى قوة الظن وأما الذكورة فيجوز أن يقال أن الضبط معها أشد وظاهر المذهب أن لا يرجح بهما وقد قال قوم أن أحد الخبرين إذا كان يقتضى إيجاب حد والآخر يقتضى نفيه فالنفى أولى لأن الحد يسقط بالشبهة وقد قيل إنهما حسان لأن الحد إنما يسقط عن الأعيان بالشبه فأما إثباته فى الجملة فمساو لإثبات سائر الشرعيات وفى تعارض الخبرين فى إثبات الشىء ونفيه كلام كثير وقد ذكر قوم موافقته دليل العقل فى النفى لأنه الأصل فيكون أولى ويمكن أن يعارض فيقال أن الشرع ناقل كما كان عليه فى الأصل فيكون الخبر الذى يتضمن النقل أولى من الذى يتضمن نفيه الشىء على ما كان عليه فى الأصل وأما إذا تضمن أحد الخبرين الحرية والآخر الرق فقد قال بعضهم أن المثبت للحرية أولى وقال بعضهم هما سيان لأنهما حكمان شرعيان يتقابلان ويتماثلان والأول أحسن وهو أن الحرية أولى لأن الحرية لا يعترضها من الأسباب المبطلة لها ما يعترض الرق والحرية لا يبطلها شىء بعد ثبوتها بخلاف الرق ومثل أيضا فيما لو تعارض خبران أحدهما على قضية العقل والآخر على قضية الشرع أن الذى على قضية الشرع أولى لأنه ناقل على ما سبق وقال بعضهم إذا تعارض خبران أحدهما معلل فيكون أولى وفى الباب كلام كثير اقتصرنا على هذا والله أعلم. [فصل] 1 اعلم أنا قد فرغنا من القول فى الأخبار وقد شرحنا الكلام فيها على حسب ما أذن الله تعالى فى ذلك وأرجو أن يكون قد وقع به الغنية عن كثير من تطويلات الأصوليين وقد رأيت بعض المتأخرين من أصحابنا ضم إلى أبواب الأصول المعروفة بابا فى تأويل الأخبار وسمى الباب باب التأويل وذكر أن التأويل هو رد الظاهر إلى الله تعالى فى دعوى المسئول وذكر أن الذى يطرق إليه التأويل وهو الظاهر قال وظهوره أن يكون اللفظ فى معناه مظنونا غير مقطوع وأما النصوص فلا يتطرق إليها.   1 بياض في الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 تأويل قال ولا يجوز الاستدلال بالظواهر فيما المطلوب منه القطع لأن ظهور معناه غير مقطوع فلا يسوغ الاستدلال به فى الأمر المقطوع وأما فى أحكام الشرع فيسوغ الاستدلال بالظواهر وقد كانت الصحابة يتعلقون فى تفاصيل الشرع بظواهر الكتاب والسنة وما كانوا يقصرون فى استدلالهم على النصوص ومن استراب فى تعلقهم بالقياس فلا يستريب فى تعلقهم بالظواهر وعلى القطع نعلم أن الظاهر فى إفادة غلبة الظن فوق الأقيسة فإذا جاز التعلق بالقياس جاز التعلق بالظواهر ودليل كون الظاهر حجة فى العمليات هو الإجماع مثل ما هو الحجة فى أخبار الآحاد سواء كانت ظواهر أو نصوصا ثم تأويل الظواهر فى الجملة سائغ إذا قام الدليل عليه ولا بد من دليل يقوم عليه لأن التحكم بالتأويل معتضل عليه من غير أن يعضد شىء لا يجوز لأنه لو جاز ذلك لبطل التمسك بالظواهر أصلا فصار التحكم بالتأويل مردودا وأصل التأويل مقبولا إذا لم يكن على وجه التحكم بل كان مستندا إلى دليل وقد ذكر كلاما طويلا فى المقدمة اختصرنا ما نحتاج إليه ثم ذكر أخبارا رويت فى مسائل من الخلافيات التى تثار بين أصحاب أبى حنيفة وذكر تأويل المخالفين لها وبدأ بمسألة النكاح بلا ولى وذكر الخبر الذى روى فى الباب من قوله عليه السلام: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل باطل"1 ورد تأويلهم للخبر من حملهم على الصغيرة والمكاتبة ورد تأويلهم بالكلام المعهود وعلى ما عرف فى مسائل الخلاف واعتمد فى رد كثير من تأويلات الخصوم بحرف واحد وهو أن الشارع صلوات الله عليه إذا ذكر أبلغ الصيغ فى العموم لا يجوز أن يحمل على موضوع نادر في الوجود قال ويستحيل أن يقصد الرسول صلى الله عليه وسلم أعم الصيغ وهو قوله أيما امرأة نكحت فإن أعم الصيغ كل وأى وما فيذكر أعم الأدوات ويكون قصده تأسيس شرع ثم زيد والحالة هذه مكاتبة أو صغيرة دون الحرائر البالغات اللاتى هن الغالبات المقصودات ومن ظن هذا التخصيص فى مثل هذا العموم فقد ظن محالا وما كان إلا كمن يقول لبوابه لا تدخل على أحد فلو دخل البواب كل مبرم ثقيل ولم يدخل قوما مخصوصين زاعما إنى حملت لفظك على الذين منعتهم لم يقبل هذا الكلام من البواب وكان حريا أن يؤدب ويصفع وقد ذكر من هذا النوع لرد هذا التأويل وأمثاله كلاما طويلا وذكر عن أبى بكر محمد بن الطيب أنه قال وأنا أعلم على الضرورة والبديهة أن الرسول صلوات الله عليه لم يعن بقوله أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها المكاتبة دون غيرها أو الصغيرة دون المبالغة ثم قال وقد سلم الرسول.   1 تقدم تخريجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 صلى الله عليه وسلم الموافق والمخالف أنه كان على الغاية القصوى من الفصاحة وحمل كلامه على مثل هذه المحامل يحط كلامه عن رتبة الفصاحة والجزالة ويكون التكلم بمثل هذا الكلام وهو قول أيما امرأة نكحت ثم يريد المكاتبة والصغيرة حظرا وعيا وما هذا إلا كمن يقول: رأيت جمعا من العلماء ثم إذا روجع يفسره بقطيع من الغنم ذهابا منه إلى أنهما على علوم يتعلق بمصالحها ومضارها ومنافعها وكذلك إذا فسره برؤية سفلة من الجهلة ثم زعم أنهم من العلماء فى كثير من الأشياء لم يقبل ذلك منه وعد هازلا لاعبا قال فإن قال قائل أن الصغائر والمكاتبات داخلات تحت قوله أيما امرأة فإذا دخلت تحت ظاهر اللفظ ولم يبعد تنزيل لفظ العموم عليهن تخصيصا يدل عليه أن التخصيص فى اللفظ العام يجرى مجرى الاستثناء ثم يجوز إطلاق لفظ عام يعقبه باستثناء شاذ نادر فليكن الأمر فى التخصيص كذلك والجواب أن التأويل ليس يسوغ بما قلتم وإنما يقبل التأويل إذا سوغه الفصحاء وأهل اللسان وإذا سمعوا أن يستنكروا ذلك والتخصيص فى الجملة للعموم غير مستنكر وإنما المستنكر إرادة الأخص والأخص باللفظ الأعم الأشمل وأما الاستثناء فنقول ليس يساغ التأويل بالقياس حتى يحمل التخصيص على الاستثناء وإنما يساغ التأويل بالوجه الذى قدمنا وهو أن لا يكون اللفظ متباينا له وذكر أبلغ العموم فى سياق الشرعيات وبنائها وتأسيسها متأتى لحمله على أخص الخصوص وقد منع القاضى أبو بكر جواز مثل هذا فى الاستثناء أيضا وإذا صدر من الرسول وغير الرسول صلوات الله عليه إنما يجوز فى صيغة ركيكة والرسول صلى الله عليه وسلم مبرأ من مثل ذلك وذكر بعد هذا تأويلهم فى قوله صلى الله عليه وسلم: "لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل" 1 وعلى هذا اللفظ أورد فى أكثر التعاليق والمعروف قوله: "من لم يجمع الصيام من الليل فلا صيام له" 2 وقال قد أولوا هذا على النذر المطلق أو القضاء وقال وهذا تأويل يسبه تأويلهم فى المسألة الأولى فإن هذا الكلام كلام بالغ فى اقتضاء العموم فإذا قال النبى صلى الله عليه وسلم ابتداءا الإنباء على سؤال ولا تنسيقا للكلام على حال فإذا ظن ظان أن الصوم الذى هو ركن للإسلام وهو القاعدة الأصلية لم يعيبه الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يرده وإنما أراد ما يقع فرضا للفرائض.   1 تقدم تخريجه. 2 أخرجه أبو داود الصوم 2/341 ح 2454 والترمذي الصوم 3/99 ح 730 والنسائي الصيام 4/166 باب ذكر اختلاف الناقلين لخبر حفصة في ذلك ومالك الصيام 1/288 ح 5 وأحمد المسند 6/319 ح 26513 انظر نصب الراية 2/433. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 الشرعية كالمنذور أو فرعا للأداء كالقضاء فقد أبعد كل الإبعاد وانصرف عن مأخذ الكلام وذكر تأويلهم الآخر لهذا الخبر وهو أنه أراد إذا نوى اليوم أن يصوم غدا قال وهذا أيضا صورة شاذة نادرة تجرى فى أدراج الوساوس ومن يفعل مثل هذا وربما لا يقع فى الدهور الكثيرة مرة واحدة وحمل كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم على الشاذ النادر باطل يدخل عليه أن مثل هذا اللفظ إنما يذكر نهيا عن الذهول وتحذيرا من الغفلة واستحسانا على تقديم التبييت وهذا يعلم بأول البديهة ولا ينكره محصل فإذا حمل حامل ذلك على النهى عن التقديم على الليل كان ذلك يقتضى مقصود الخطاب وذكر تأويلهم فى حمل اللفظ على نفى الكمال وأجاب عنه بأن حمل اللفظ على نفى الكمال غير ممكن فى القضاء والنذور وهما من متضمنات الحديث فإذا تعين حمل اللفظ على حقيقتها فى بعض المسميات تعين ذلك فى سائرها لأن الإنسان الفصيح لا يرسل لفظه وهو يريد حقيقته من وجه ومجازه من وجه وعلى الجملة أقول قوله لا صيام حقيقة لنفى أصل للصوم كقوله لا رجل فى الدار نفى أصله فحمله على نفى وصف من الصوم مع تبقية أصله مجاز ولا بد فيه من دليل ثم ذكر مسألة نكاح المشركات وإسلام الرجل والعدد أكثر من الأربع والأخبار المروية فى الباب وتأويل الخصوم لذلك وبين وجه بطلانه وهو وجه بين وفساده ظاهر ولا يحتاج فيه إلى كثير إطناب وقد بينا فى الخلافيات للفروع فلا معنى لذكر ذلك هاهنا ثم ذكر التأويل الذى ذكره الأصحاب وقوله: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} وحمل الكثير على الجواز كقولهم جحر ضب وكقول الشاعر: كبير أناس فى نجاد مزمل وزيف هذا التأويل بكلمات قالها وذكر وجها آخر فى الكلام على هذه القراءة والصحيح إيجاب الغسل ثم ذكر أن قراءة النصب أمثل وهذا التزييف لا ينبغى أن يسلم لهذا القائل وقد ذكر أهل اللغة فى كتبهم والقراءتان معروفتان والغسل واجب فى الرجلين بلا ريب وترا وقد صنف القاضى أبو الطيب الطبرى رحمه الله فى هذه المسألة تصنيفا حسنا وبلغ الغاية ولم يحتمل هذا الكتاب إيراد ما أورده ومن طلب ذلك أو طلب تصحيح ما قاله الأصحاب لم يعدم الدليل عليه قال أبو الحسين بن فارس فى كتاب حلية الفقهاء فأما غسل الرجلين فواجب ولا صلاة إلا بغسلهما والدليل على ذلك قوله عز وجل: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6] لأنه رده إلى قوله: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} [المائدة: 6] فإن قال قائل فقد قرئت بالخفض قيل له قد يعطف الاسم على الاسم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 ومعناهما مختلف إلا أنه عطف هذا عليه لقربه منه فإن الله تعالى قال: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ، بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} [الواقعة: 17, 18] ثم قال: {وَحُورٌ عِينٌ} [الواقعة:22] وهؤلاء يطاف بهن على أزواجهن وقد قال شاعر العرب. ورأيت زوجك فى الوغا ... متقلدا سيفا ورمحا والرمح لا يتقلد فى نظرنا فوجدنا الغاسل ماسحا غاسلا فقد جمع الأمرين فوجدنا الماسح لا يأتى إلا بأحد الشيئين فأخذنا بالغسل ويمكن أن يقال أيضا أن الله تعالى قال فى اليدين: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} وقال فى الرجلين: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} فقد ربط منتهى الفرض فى الرجلين بالكعبين وربط واجب اليدين بالمرفقين ومن يكتفى بالمسح فلا معنى لذكر الكعبين عنده ثم ذكر أن المخالفين قالوا: يجوز صرف الصدقة إلى بعض هؤلاء الأصناف لأن المرعى هو الحاجة قال وهذا تأسيس معنى يعطل تقييدا من الله تعالى فى الآية بذكر الأصناف الثمانية ولو كانت الحاجة هى المرغبة لكان ذكرها أولى وأحسن وأشمل فلما نص الرب عز اسمه على الأصناف الثمانية كان التأويل باعتبار الحاجة تعطيلا لا تأويلا فإن الحاجة قد لا تستمر فى بعض الأصناف كالعاملين وبعض الغارمين الذين يتحملون الحمالات لتطفئة الثائرة والفتن الثائرة وقد ذكرنا وجه كلامهم على هذه الآية وانفصالنا عما قالوه فى كتاب الاصطلام فتركنا ذكره هاهنا وأوردنا ما ذكره القائل على كلام مشائخهم ثم ذكر الآية الواردة فى خمس الغنيمة وذكر عن أبى حنيفة أنه اعتبر الحاجة لا القرابة قال والذى ذكره مضادة ومحادة وقد ذكرنا وجه كلامهم أيضا فى كتاب المسمى علم الآية وانفصلنا عنه فاستغنينا عن ذكر ذلك هاهنا وقد ذكرنا أنهم لا يعتبرون مجرد الحاجة ثم ذكر قوله تعالى: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} [المجادلة: 4] وقبول الخصم من وساوس أن معناه فإطعام ستين مسكينا وزيف هذا الكلام بوجه من العربية ونحن قد ذكرنا بطلانه فى المسائل قال ومن الظواهر أيضا قوله عليه السلام فى بيع الرطب بالتمر أينقص إذا جف قالوا: نعم قال فلا إذا قال وأن لم يكن هذا أيضا فى وضع اللسان للتعليل لكنه ظاهر فيه فمن أراد أن يزيل هذا الظاهر بقياس كان مردودا لأن ما يظهر من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم فى التعليل مقدم على ما يظهر فى ظن المستنبط وهذا لأن القياس تعلق بمسلك من الظن فيكون ما ظهر من كلام الرسول صلوات الله عليه فى التعليل أولى منه وهذا الكلام يوجب أن لا يصح تخصيص العموم بالقياس ونحن قد بينا جوازه على أصلنا فى هذه المسألة قوله عليه السلام فلا إذا نص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 فى فساد البيع وليس مما يتطرق إليه تأويل حتى يقال أنه يعضد بالقياس ويؤيد به وذكر مسألة الشغار ومسائل تشبهها وحمل الخصوم النهى فيها على الكراهة ثم قال وقد ثبت من عادات السلف الماضيين حمل أمثال هذا على الفساد والامتناع عنه بالكلية فمن أراد مخالفة ما ظهر لنا منهم كان فى حكم المخالف لهم قال وهذا لا يبلغ فى السقوط مبلغ ما تقدم من التأويلات واعلم أنه لم يكن غرضنا ذكر هذه التأويلات لأن هذا الكتاب يشتمل على ذكر أصول الفقه وليس هذا من أصول الفقه فى شىء إنما هذا الكلام يورد فى الخلافيات وفى التعاليق غير أنا ذكرنا طرفا من ذلك ولا يعدم الناظر فيه نوع فائدة وعلى الجملة لا يجوز حمل الخاطر على استخراج التأويلات المستكرهة للأخبار وينبغى للعالم الورع أن يتجنب ذلك ويحترز عنه غاية الاحتراز لأن الكلام على كلام الشارع صعب والزلل فيه يكثر وقد ورد فى الخبر يحمل هذا العلم من كل خلف عدولهم وقال فى وصفهم ينفون عنه تأويل الجاهلين والله العاصم بمنه والمرشد إلى الصواب بفضله وعونه ونسأله تعالى أن لا يجعلنا من هؤلاء القوم فقد بين النبى صلى الله عليه وسلم أن الجهل يحمل الإنسان على التأويلات المستكرهة وذكر أن العدول من علماء الأمة ينفون ذلك وذكر أيضا أنهم ينفون تحريف الغالين وانتحال المبطلين وإلى الله الملاذ وبه المعاذ من وساوس النفس وخواطر السوء فما ضل من ضل ولا هلك من هلك إلا بأمثال ذلك والله المستعان. مسألة1 هذه مسألة تتصل بالأخبار وهى ما يشتمل على القراءة الشاذة من الحكم هل تكون القراءة الشاذة حجة فيه. اعلم أن ظاهر مذهب الشافعى رحمه الله أن القراءة الشاذة2 التى لم تنقل تواترا لا يسوغ الاحتجاج بها ولا تنزل منزل الخبر الواحد ولهذا نقول أن التتابع لا يجب فى صيام الكفارة وأن كان قد وجد فى القراءة الشاذة المنسوبة إلى ابن مسعود رضى الله عنه فصيام ثلاثة أيام متتابعات وأما أصحاب أبى حنيفة يعلقوا هذه القراءة الشاذة.   1 بياض في الأصل. 2 القراءة الشاذة: هي التي لم تنقل بطريق التواتر كقراءة ابن مسعود في كفارة اليمين "فمن لم يحد فصيام ثلاثة أيام متتابعات" وقراءته في آية السرقة "والسارق والسارقة فاقطعوا أيمانهما" انظر نهاية السول 3/232, 333 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/141 حاشية الشيخ محمد بخيت المطيعي 3/232. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 فزعموا أن هذه القراءة وأن كان النقل قد انقطع فيها فلا يكون دون الخبر الواحد فلا بد أن يكون حجة. قالوا: وقد كانت قراءة ابن مسعود مستفيضة فى الأتباع وأتباع الأتباع ثم انقطع النقل فبقيت بطريقة الآحاد فجعلنا مواجبها بمنزلة مواجب أخبار الآحاد وتعلقوا أيضا بما نقل فى قراءته فى آية السرقة والسارق والسارقة فاقطعوا أيمانهما وفى مسألة نفقة المبتوتة بما وجد فى قراءة ابن مسعود فى صورة الطلاق أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن وأن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن وإذا وضعن حملهن فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن هكذا قراءته فى المصحف المنسوب إلى عبد الله بن مسعود رضى الله عنه فظاهرها يقتضى وجوب النفقة على الإطلاق ويقتضى أن ذكر مدة الحمل ليس لأن النفقة واجبة وأن طالت مدة الحمل وقد حملوا القراءة المعروفة على هذا وأثبتوا فيها تقديما وتأخيرا ذكر ذلك أبو زيد فى الأسرار. ونحن نقول أن الاحتجاج بالقراءة الشاذة ساقط والدليل عليه شيئان أحدهما القرآن قاعدة الإسلام ومنبع الشرائع وإليه الرجوع فى جميع الأصول ولا أمر فى الدين أهم منه والأصل أن كل ما جل خطره وعظم موقعه فى أمر الدين فأهل الأديان يتواطئون ويتفقون على نقله وحفظه وتتوفر دواعيهم على ذلك فلو كانت هذه القراءة من القرآن الذى أنزله الله تعالى لنقل نقلا مستفيضا ولشاع ذلك فى أهل الإسلام وحين لم ينقل دل أنه ليس بقرآن وإذا لم يكن من القرآن الذى أنزله الله تعالى لم يقم به حجة لأنه لو كان حجة لكان حجة من هذه الجهة. ببينة: أن لا خبر عن النبى صلى الله عليه وسلم فيما أعدوه من الأحكام لا من جهة التواتر ولا من جهة الآحاد وكونه موجودا فى بعض المصاحف لم يثبت أنه قرآن فمن أى وجه يدعون قيام الحجة به وقولهم أن القراءة الشاذة تنزل منزلة الخبر الواحد هذا دعوى ولا يعرف هذا وبأى دليل تنزل منزلة الخبر الواحد ونحن نعلم أنه لا نقل فى هذه القراءات لا من قبل التواتر ولا من قبل الآحاد ويقول أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم أجمعوا فى زمن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضى الله عنه على هذا المصحف الذى يدعى الإمام وهو الذى بين أظهرنا وأطرحوا ما عداه وروى أنهم حرقوا الباقى وقيل أنه دفن وقد نقل اضطراب ابن مسعود فى ذلك غير أن الصحابة لم يلتفتوا إلى اضطرابه واتفقوا على ما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 اتفقوا عليه ويروى أنه ناله تأديب عمر ولم ينكر على عثمان فى ذلك منكر يدل عليه أنه لما تجمعت عليه الطائفة المعروفة من الكوفة والبصرة وادعوا أشياء عليه وزعموا أنه غير وبدل لم يرو أنه ذكر أحد منهم أمر المصحف ولو كان ذلك أمرا ينكر لكان الأهم فى ذلك أن يخصوه بالذكر ولا يدعوه جانبا وذكروا أشياء لا تدانى هذا فثبت أن القرآن ما يحويه المصحف للمهام واعلم أن الأولى عندى أن لا يتعرض لتلك القراءة وأشباهها أصلا ولا يذكر أنه قرآن أو ليس بقرآن لأنه فى كلا الأمرين خطأ وقد اشتمل الصحاح على أشياء لا توجد إلا فى قراءة ابن مسعود ولكن مع هذا نقول لا يقوم بما فيه حجة لعدم النقل ولأنه لو كانت تشتمل تلك القراءة على أحكام لا توجد فى القراءة المعروفة لم يعرض عنها الأئمة ولنقلوا ذلك أما بتواتر أو بآحاد حتى لا تضيع ولا تتعطل تلك الأحكام فهذا وجه الكلام فى هذا والله أعلم. وأما الإعراب الذى اختلف فيه القراء فليس كذلك مخالف المصحف الإمام وقد ادعى أهل القراءة أن ذلك منقول بطريق يوجب العلم ولولا ذلك لم يقروا بها حين انتهى الكلام فى الأخبار وما يتصل بها بعون الله وتوفيقه نذكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 القول فى الناسخ والمنسوخ مدخل ... القول فى الناسخ والمنسوخ. ونبتدىء بمعنى النسخ فى اللغة والشرع أما من حيث اللغة فاعلم أن معنى النسخ فى اللغة نقل الشىء وإزالته بعد ثبوته من قولك نسخت الشمس الظل إذا أزالته ونسخت الرياح الآثار إذا محتها ويقال أيضا نسخت الكتاب وهو بمعنى نقل المكتوب من مكان إلى مكان آخر وقيل أن الأشبه أن يكون حقيقة بمعنى الإزالة فحسب وأما بمعنى النقل فيكون مجازا لأن ما فى الكتاب لا ينقل حقيقة إلا ترى أنه ثابت فيه على ما كان من قبل وإذا كان مجازا فى النقل كما ذكرنا لم يبق إلا أن يكون حقيقته فى الإزالة ويجوز أن يقال أنه حقيقة فى النقل أيضا لأنه إذا نسخ الكتاب فقد حصل المكتوب الذى كان فى هذا الموضع فى موضع آخر فصار شبه النقل أن لم يكن نقلا حقيقة فدلنا هذا أن اسم النسخ موضوع للنقل حيث تجوزوا به فيما يشبه النقل وأما نسخ الكتاب بإزالة وهو لا شبه الإزالة وقد قيل أن ما قالوه لا يدل على أنه ليس بحقيقة فى الإزالة لأنا بينا من حيث اللغة أنهم عرفوا النسخ بمعنى الإزالة ويمكن أن يقال أن النقل بمعنى الإزالة سمى نسخا لأن النقل يزيل المنقول من مكانه الأول1. والأولى فى الشرع أن يكون بمعنى الإزالة وحده لأنه خطاب دال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان لازما مع تراخيه عنه ولا يلزم على هذا ما سقط عن الإنسان بالموت حيث لا يكون ذلك لأنا قلنا خطاب دال وذلك ليس بخطاب ولا يلزم ما وقع مما كانوا عليه من شرب الخمر وغيره لأن ذلك ليس بنسخ من حيث أن ما كانوا عليه لم يثبت بخطاب ولا يلزم ما أسقط بكلام متصل كالاستثناء والغاية مثل قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] حيث لا يكون نسخا لأنه غير متراخى عنه وقيل أن اللفظ الدال على انتهاء الحكم الشرعى مع التآخر عن مورده وهذا جد حسن وهو أوجه من الأول. واعلم أنه لا يجوز أن يقتصر على قول من قال أنه بيان انقضاء زمان العبادة لأنه يدخل الموت على هذا فإنه ينتفى زمان العبادة به ولا يكون نسخا ويقال أنه رفع الحكم.   1 انظر المحصول 1/525 ونهاية السول 2/548 إحكام الأحكام 3/46 روضة الناظر 66 المستصفى 1/107 المعتمد 2/418 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 المأمور به بالنهى عنه ويقال إزالة الحكم بعد استقراره والأولى1 ما سبق. واعلم أن التناسخ يقع على أشياء فالناصب للدلالة الناسخة يوصف بأنه ناسخ فالله تعالى ناسخ لأنه ينصب الدلالة الناسخة ولهذا يقال أن الله تعالى نسخ التوجه إلى بيت المقدس بالتوجه إلى الكعبة ويوصف الحكم بأنه ناسخ فيقال وجوب صوم شهر رمضان ناسخ صوم عاشوراء ويوصف المعتقد لنسخ الحكم بأنه ناسخ فيقال فلان ينسخ الكتاب بالسنة أى يعتقد ذلك ويوصف الطريق بأنه ناسخ فيقال القرآن ناسخ للسنة وخبر كذا ناسخ لخبر كذا فى الحد الذى ذكرناه فى الطريق الناسخ وقد اشتمل الحد الذى ذكرناه على شرائط النسخ وتفصيل ذلك وهو أنه لا بد أن يكون الحكمان أعنى الناسخ والمنسوخ شرعيين2 لأن العجز يزيل التعبد الشرعى ولا يقال أن الناسخ من شرائطه أيضا أن يكون الناسخ منفصلا عن المنسوخ3 لأنه إذا كان متصلا به فإما أن يسمى استثناء أو يسمى غاية ولا يسمى نسخا بحال ألا ترى إلى قوله تعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً} [العنكبوت: 14] وإلى قوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} [النساء: 15] وقد دل الدليل المنفصل عن الدليل الأول ببيان السبيل وهو الرجم أو الجلد على ما عرف فكان الإمساك منسوخا والرجم والجلد ناسخا ومن شرط صحة النسخ أيضا أن يكون إزالة لحكم الفعل لا لنفس الفعل وصورته لأن صورة الصلاة إلى بيت المقدس لا يصح إزالتها وإنما الأدلة الشرعية دلت على زوال وجوب التوجه إليها أو دلت على جواز الصلاة إليها وقد قال بعضهم إن.   1 النسخ في اصطلاح اللأصوليين فقد اختلفوا في تعريفه وقد ذكر البيضاوي من هذه التعاريف تعريفين أحدهما للأستاذ أبي إسحاق الإسفرايني واختاره والثاني للقاضي أبي بكر الباقلاني وقد أبطله بما أورده عليه من الاعتراض الذي ذكره وسيأتي: تعريف الأستاذ أبي إسحاق الإسفرايني وهو المختار للبيضاوي: بيان انتهاء حكم شرعي بطريق شرعي. تعريف القاضي أبي بكر الباقلاني عرف الباقلاني النسخ بأنه رفع الحكم الشرعي بطريق شرعي متراخ عنه. إحكام الأحكام للآمدي 3/151 نهاية السول 2/548, 549 روضة الناظر 66 المحصول 1/526 المستصفى 1/107 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/34, 36. 2 إحكام الأحكام للآمدي 3/164 نهاية السول 2/552. 3 إحكام الأحكام للآمدي 3/164 نهاية السول 2/552. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 من شرط حسن النسخ أيضا أن يكون إزالة لنفس ما تناوله التعبد على الوجه الذى تناوله بل أن يكون النسخ فى التعبد بمثله فى وقت آخر وهذا فيه نظر لأنا نجوز نسخ الشىء قبل وقت فعله وسيأتى ذلك من بعد ونبتدىء بالقول فى جواز النسخ. مسألة النسخ جائز فى الشرعيات. وقالت اليهود لا يجوز ذلك وكذلك قال شرذمة من المسلمين1 وقد نسب ذلك إلى بعض الروافض من اليهود وطائفة يجوزون النسخ وتعلق من لم يجوز النسخ بأن جواز النسخ يؤدى إلى جواز البداء على الله تعالى لأنه أداء نهى عن صورة ما أمر به أو أمر بصورة ما نهى عنه يكون قد ظهر له شىء كان خاصا عليه حتى نهى عن غير ما أمر به أو أمر بغير ما نهى عنه وهذا لا يجوز على الله تعالى فيكون النسخ محض البداء وهو من صفات البشر ولا يجوز على الله تعالى قالوا: ولأن الأمر بالفعل يقتضى الفعل أبدا فإن تعلق الأمر يقتضى أن الأمر أراد ذلك فإذا لم يرد الفعل أبدا من اقتضاء الظاهر إياه كان ملبسا وإذا اقتضى الأمر الفعل أبدا فإذا نهى فى المستقبل عنه يدل نهيه أن ظهر له شىء كان خافيا عنه أو خفى عنه شىء كان ظاهرا له وهذا لا يجوز على الله تعالى وهذا الدليل قريب من الأول. وقد قال بعضهم أن الأمر بالشىء يدل على حسنه والنهى عنه.   1 اعلم أنه قد أجمع المسلمون على أن النسخ جائز عقلا ووافع شرعا إلا ما نقل عن أبي مسلم الأصفهاني في أحد النقلين عنه من أنه غير واقع ويئول ما يراه الجمهور نسخا بأنه من باب انتهاء الحكم لانتهاء زمنه ومثل هذا لا يعتبر نسخا. والصحيح في النقل عنه أنه واقع بين الشرائع بعضها مع بعض ولكنه غير واقع في الشريعة الواحدة. وبذلك يكون أبو مسلم مع الجمهور في أن النسخ واقع وإنما قلنا أن النقل الأخير هو الصحيح عنه لأنه هو الذي يتفق مع ما أجمع عليه المسلمون من أن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ناسخة لجميع الشرائع السابقة ولا يسع أبو مسلم أن يخالف هذا الإجماع. أما اليهود فقد انقسموا إلى فرق ثلاث: 1 - قرقة الشمعونية ةهذه الفرقة ترى أن النسخ محال عقلا وسمعا. 2 - فرقة العيسوية وترى أن النسخ جائز عقلا وواقع شرعا ولكن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ليست ناسخة لشريعة موسى وإنما هي خاصة ببي إسماعيل. 3 - فرقة العنانية: النسخ جائز عقلا ولكنه غير واقع سمعا. انظر نهاية السول 2/554, 555 إحكام الأحكام 3/165 المحصول 1/532, 533 روضة الناظر 69 المستصفى 1/111 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 يدل على قبحه فيؤدى النسخ إلى أن يكون الشىء الواحد حسنا قبيحا وهذا لا يجوز وقد نقل اليهود عن موسى عليه السلام أن السبت لا ينسخ أبدا وربما قالوا: أنه قال شريعتي لا تنسخ أبدا وأما دليلنا فى جواز النسخ فنقول على من خالفنا ممن يدعى الإسلام قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] وقال تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} [النحل: 101] ويدل عليه أن نكاح الأخوات كان جائزا فى شريعة آدم صلوات الله عليه وقد نسخ والأولى أن يدل بالدليل النقلى فإن هذا الخلاف مع اليهود فأما المسلمون فعندى أنهم مجمعون على الجواز والدليل العقلى أن الشىء يجوز أن يكون حسنا فى وقت قبيحا فى وقت ألا ترى أنه يحسن أن يقول السيد لعبده افعل كذا فى وقت كذا ولا تفعله فى وقت كذا ويحسن أن يقول الله تعالى تمسكوا بالسبت ما عشتم إلا السبت الفلانى وهذا لأنه يجوز أن يكون التمسك بالسبت مصلحة فى وقت ومفسدة فى وقت آخر كما يجوز أن يكون الرفق مصلحة لإنسان مفسدة لآخر وكذلك يجوز أن يكون مصلحة فى وقت مفسدة فى وقت وهذا كما يجوز كون الصحة والمرض والغنى والفقر مصلحة فى وقت دون وقت وكذلك السبت يجوز أن يكون مصلحة فى وقت دون وقت ولا فرق فى العقل بين هذه الأشياء وهذا على قول من يعتبر المصالح ومن هذا الجنس نقلت الأحوال بالإنسان من الطفولية والبلوغ والشباب والكهولة والشيخوخة وما هذا إلا تصريف الأمور على توجيه الحكمة وتدعو إليه المصلحة وابتلاء العباد وامتحان طاعتهم وقتا بعد وقت بالوجه الذى هو خير لهم وأدعى إلى صلاحهم وإن قلنا أن الله عز وجل يكلف عباده ما بينا ولم نعتبر وجوه المصالح فعلى هذا الطريق يجوز النسخ أيضا لأنه لا يجوز أن يكلفهم شيئا فى وقت ويكلفهم فى وقت آخر غيره على ما يشاء ويريد بين ذلك أنه إذا جاز أن يطلق الأمر والمراد إلى أن يعجز عنه لمرض أو غيره جاز أيضا أن ينسخه برهة من الزمان وأما الذى تعلقوا به من فصل البداء وإلحاق النسخ به فليس للقوم إلا ذلك وإذا بينا الفرق بين البداء والنسخ سقط كلامهم جملة. فنقول البداء فى اللغة أصله بداء الشىء يبدو إذا ظهر بعد خفاء ويقال بدا لنا سور المدينة إذا ظهر من النسخ نقل وتغيير على ما سبق بيانه فلم يتفقا من مأخذ اللغة ولسان العرب فلم يجز أن يجعلا كشىء واحد وهذا لأنه إذا كان البداء من الظهور ويدل على أن بدا له شىء فقد ظهر ما كان خافيا عليه لم يجز على الله تعالى لأنه تعالى لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 يخفى عليه خافية ولا تستتر عليه غائبة بل الأشياء كلها له بادية أحاط بكل شىء علما وأحصى كل شىء عددا لا يعزب عنه مثقال ذرة فلهذا لم يجز البداء عليه ولم يتصور ذلك فى حقه وأما النسخ إزالة حكم بحكم وتبديل حال ويقال تناهى مدة العبادة وليس فى هذا قصور علم ولا لزوم جهل بل تصريف العباد على ما يشاء ويريد أو على ما يعلم من مصالحهم يدل عليه أن البداء الذى توهموا إنما يلزم أن لو كان الله تعالى نهانا عن نفس ما أمرنا به1 وذلك أن يقول: افعلوا كذا فى وقت كذا على وجه كذا ثم يقول: لا تفعلوا ويذكر ذلك الوقت وذلك الوجه أو يقول: افعلوا كذا أبدا ولا تنتقلوا عنه ثم ينقلنا عنه فأما إذا أمرنا بأمر مرسل ويريد أن ينقلنا عنه بعد زمان ونقلنا حين جاء ذلك الزمان فليس بمنكر ولا مستحيل ولا فيه معنى البدل إلا ترى أنه لو قال صلوا إلى بيت المقدس إلى الزمان الذى أنقلكم عنه إلى الكعبة وجاء الشرع بصريح هذا كان جائزا سائغا كذلك إذا أطلق وأراد أن يفعل كذلك أو الجملة أنه يجوز أن يكون الشىء حسنا فى وقت قبيحا فى وقت مصلحة فى وقت مفسدة فى وقت ولو كان الشىء ووصفه واحد فى جميع الأوقات لكان حكم نكاح الأخوات واحد فى الأوقات كلها ومعلوم أنه ما كان نكاح الأخوات محظورا فى زمن آدم عليه السلام وقد صار فى زمن موسى عليه السلام وإذا جاز وفى هذه الصورة الواحدة جاز فى سائر الصور وهذا قاطع لا يتأتى عليه كلام وأما الكلام الثانى الذى قالوه أن ظاهر إطلاق الأمر هو الأمر بالفعل أبدا قلنا هذا ليس كذلك لأن الأمر المطلق لا يفيد التكرار وإنما يفيد الفعل مرة واحدة وقد سبق بيان هذا وأن قلنا يوجب التكرار فلا نقدم على اعتقاد التأبيد لجواز أن يرد نسخ من الله تعالى وهذا صحيح من شرائع من قبلنا لأنه قد أشعرهم بورود نبى بعد نبيهم فأما فى شرعنا فقد انحسم الباب كلية ولا بد من اعتقاد بوجوب على التأبيد اللهم إلا أن يقدر الأمر فى زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد يجوز ورود النسخ وقد ذكر عبد الجبار الهمدانى فى العمد أنه لو قال افعل كذا أبدا لا يقتضى الدوام أيضا قال ولهذا لا يفهم من قول القائل لغيره الزم فلانا أبدا واحبسه أبدا الدوام وقولهم أن فى تأخير بيان النسخ إلباسا قلنا الإلباس إنما ثبت إذا لم يبين الحكيم ما يجب لبيانه مما يحتاج المكلف إليه فأما ما لا يحتاج إليه فلا يجب بيانه ولا إلباس فى ترك بيانه وهل ترك بيان النسخ إلا جهل العبد بوقت ارتفاع العبادة وأما الذى ادعوه من قول موسى.   1 انظر إحاكم الأحكام 3/157 المعتمد 1/368. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 فقد قالوا: أنه كذب عليه وإنما لقنهم ذلك ابن الروندى والدليل على ذلك أنه لو كان لهذا أصل صحيح لاحتج به أحبار اليهود على النبى صلى الله عليه وسلم ولو فعلوا ذلك لنقل عنهم ولاشتهر وعرفناه كما عرفنا سائر أمورهم فعلمنا من هذا أن هذا كذب صريح على موسى صلوات الله عليه. واعلم أن الأصوليين قد ذكروا الخلاف فى هذا مع طائفة من اليهود وشرذمة من المسلمين ونسبه الشيخ أبو إسحاق الشيرازى رحمه الله فى كتابه إلى أبى مسلم محمد بن بحر الأصبهانى وهذا رجل معروف بالعلم وأن كان قد انتسب إلى المعتزلة وبعد عنهم وله كتاب كبير من التفسير وكتب كثيرة فلا أدرى كيف وقع هذا الخلاف منه ومن خالف فى هذا من أهل الإسلام فالكلام معه أن يريه وجود النسخ وذلك مثل نسخ ثبات الواحد للعشرة إلى ثباته بالاثنين ونسخ التوجه إلى بيت المقدس إلى التوجه إلى الكعبة ونسخ صوم عاشوراء برمضان إلى غير ذلك فإن لم يعرف مدة الأشياء كان هذا تعنتا أو ظنا ولزوم أن ترفع شريعة من قبلنا بشرعنا لا يكون نسخا أيضا وهذا لا يقوله مسلم وقد قال بعض الرافضة يجوز البداء على الله تعالى وهذا باطل لأنهم أن أرادوا إثبات ما قلناه أنه يظهر ما كان خافيا عنه فهو كقوله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وأن أرادوا تبديل العبادة والفروض فهذا لا ننكره وليس من البداء فى شىء. ومما يتصل بهذه المسألة فصلان. أحدهما: أنه يجوز النسخ وأن اقترن بالمنسوخ ذكر التأبيد وعند بعض المتكلمين لا يجوز النسخ إلا فى خطاب مطلق وأما إذا قيد فلا يجوز نسخه1 وزعموا أن ذلك لا يؤدى إلى البداء الذى ذكرناه وعندنا يجوز النسخ فى هذه الصورة أيضا ولا يكون البداء وقد ذكرنا طرفا منه فى المسألة الأولى. ببينة: أنه إذا جاز أن يقال لازم غريمك أبدا ويريد إلى وقت القضاء جاز أن يقال فعل كذا أبدا ويراد إلى وقت النسخ يدل عليه أنه إذا جاز ذكر الكل والجميع فى الأعيان ولا يمنع ذلك التخصيص جاز أن يذكر أبدا فى الزمان ولا يمنع ذلك النسخ ولأنه إذا جاز أن يفيد الخطاب بالتأبيد ثم يكون معناه ما لم يعجز المخاطب عن الفعل لمرض وغيره جاز أن يفيد التأبيد ويكون معناه افعلوا أبدا ما لم أنسخه عنكم.   1 انظر إحاكم الأحكام للآمدي 3/192 المحصول 1/549 المعتمد 1/382 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/79, 80. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 والفصل الثانى: وهو أن النسخ جائز وأن لم يشعر عند التكليف بالنسخ وقال المتكلمين لا يجوز ما لم يشعر عند الخطاب بالنسخ وزعموا أنه إذا لم يشعر بالنسخ يؤدى إلى الإلباس وعندنا هذا ليس بشرط وترك الإشعار لا يؤدى إلى ما ذكروه والدليل عليه أن عامة ما وجد من الناسخ والمنسوخ فى شريعتنا لم يعرف فى ذلك إشعار ومن ادعى معرفة ذلك للصحابة ابتداء التكليف يكون مباهتا قطعا ولأن الإشعار بالنسخ لأى معنى يجب وأى حاجة وقعت إلى ذلك وإذا اعتقد المخاطب أن الله تعالى يأمر بما شاء واعتقد أنه يجوز أن يكون فعله للشىء مصلحة فى وقت مفسدة فى وقت فكيف يقع له الحاجة إلى الإشعار الذى ذكروه يدل عليه أنه لو وجب الإشعار بما يزيل الأمر من النسخ لوجب الإشعار بما يحدث من الأمراض المسقطة للأمر وحين لم يجب الإشعار فى تلك الصورة كذلك فى النسخ لأنها فى المعنى واحد وقد ظهر الجواب عما قالوه من فصل الإلباس فيما قلناه والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 فصل: ما يجوز نسخه وما لا يجوز ... فصل: إذا عرفنا معنى النسخ وجوازه سنذكر ما يجوز نسخه وما لا يجوز فنقول: أن النسخ لا يجوز إلا فيما يجوز وقوعه على وجهين كالصلاة والصوم والعبادات الشرعية فأما ما لا يجوز أن يكون إلا على وجه واحد مثل التوحيد وصفات الله عز وجل فلا يصح فيه النسخ وعبر بعضهم عن هذا فقال أن النسخ لا يقع فى موجبات العقول وإنما يقع فى مجوزات العقول1 ولذلك قال النبى صلى الله عليه وسلم: "أن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت" 2 وذلك أن الحياء غريزة فى الإنسان محمودة حسنة فى العقول وهو قائم بعينه ونفسه فلم يجز أن يتناسخه الأديان والشرائع فكان ذلك مستمر فى الشرائع على وجه واحد باقيا ما بقى التكليف وفى هذا كلام كثير ومرجعه إلى الكلام ولا حاجة بنا إليه ومما لا يجوز النسخ فيه ما أخبر الله تعالى من أخبار القرون الماضية والأمم السالفة وكذلك ما أخبر من الكوائن فى المستقبل من خروج الدجال وغير ذلك لا يجوز فيه النسخ وجوز بعض الأشعرية نسخ الخبر فى المستقبل ويمنع من ذلك فى الماضى وأجاز قوم نسخ الأخبار فى الماضى والمستقبل جميعا3.   1 انظر إحاكم الأحكام للآمدي 3/257 نهاية السول 2/575 المحصول 1/548 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/81. 2 تقدم تخريجه. 3 نهاية السول 2/576, 577 إحاكم الأحكام للآمدي 3/257 المحصول 1/548 انظر أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/56. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 والصحيح أنه لا يجوز النسخ فى الأخبار بوجه ما لأنه يؤدى إلى دخول الكذب فى أخبار الله تعالى وأخبار الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك لا يجوز فإن قال قائل ما قولكم فى الأخبار الواردة فى الوعيد لمرتكبى الكبائر قلنا يجوز العفو عنها قالوا: فهذا نسخ قلنا هذا ليس بنسخ إنما هو من باب التكرم والعدول عن المتوعد بالفضل وقد يتكلم المتكلم بالوعيد وهو لا يريد إمضاءه ولا يعد ذلك خلفا بل يعد عفوا وكرما وقال أبو عمرو بن العلاء لعمرو بن عبيد حين تكلما فى هذا إنك رجل أعجمى القلب أن العرب تعد الانصراف عن الوعيد كرما والانصراف عن الوعد لؤما وأنشد: وإنى إذا أوعدته أو وعدته ... لمخلف إيعادى ومنجز موعدى وقال الأصمعى ما سمعت أعرابيا يقول: سبحان من إذا وعد وفى وإذا أوعد عفى وقال بعض أصحابنا أن وقوع العفو عن المذنبين مع أن الوعيد إنما جاء من ترتيب الخطاب بعضه على بعض فإن الله تعالى قال ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا} وقال تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ} [لأنفال: 16] إلى أمثال هذا وقال تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} [الرعد: 6] وقال فى موضع آخر: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 116] وأمثال ذلك فكانت الآيات المتقدمة مرتبة على هذا والآيات المشتبه فيها مضمرة وإذا ورد الأمر بلفظ الخبر مثل قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] فنسخه جائز فى قول الأكثرين ومنع منه من أصحاب الشافعى أبو بكر الدقاق فعلق الحكم بالخبر على معنى الأمر وهذا فاسد لأن الأمر بلفظ الخبر يجرى على حكم الأمر من وجهين. أحدهما: اختصاص الأمر بالإلزام والخبر بالإعلام. والثانى: اختصاص الخبر بالماضى والأمر بالمستقبل فلما تعلق بما ورد من الأمر بلفظ الخبر حكم الأمر دون الخبر من هذين الوجهين كذلك حكم النسخ ولأنه أمر وضح نسخه كسائر الأوامر وما لا يجوز نسخه بالإجماع لأن الإجماع لا يكون إلا بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم والنسخ لا يجوز بعد موته صلى الله عليه وسلم وكما لا يجوز الإجماع بنسخه فلا يكون ناسخا أيضا1 لأن الإجماع لما كان ينعقد بعد زمان النبى صلى الله عليه وسلم لم يتصور أن ينسخ ما.   1 انظر نهاية السول 2/589 إحكام الأحكام للآمدي 3/226, 227 المعتمد 1/400 روضة الناظر 80 تيسير التحرير 3/207 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/66 المحصول 1/559. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 كان من الشرعيات في زمانه ولأن الأمة لا تجتمع على مثل هذا لأنه يكون اجتماع على ضلاله وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم لا يجتمعون على الضلالة. فان قيل قد نسختم خبر الواحد بالإجماع وهو الخبر الذي روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من غسل ميتا فليغتسل ومن مسه فليتوضأ" 1. قلنا إنما استدل من مخالفة الإجماع له على تقدم نسخه فصار منسوخا بغير الإجماع لا بالإجماع فصار الإجماع في هذا الموضع دليلا عن النسخ ولم يقع به النسخ وأما نسخ الإجماع با لأجماع فمثل أن يجمع الصحابة في حكم على قولين ثم يجمع التابعون بعدهم على قول واحد منهما فيكون الصحابة مجمعة على جواز الاجتهاد فيها والتابعون مجمعون على نسخ الاجتهاد فيها. وفي هذه المسألة قولان للشافعي على ما سنبينه في مسائل الإجماع وعلى القول الذي يجوز صحة الإجماع لا يكون نسخا كما تقدم لأن الصحابة وأن سوغوا الاجتهاد ولكن إنما سوغوا إذا لم يمنع منه مانع كما سوغوا الاجتهاد من صحابي عن حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم فكان منع الاجتهاد في إجماع التابعين لهذه العلة لا أنه منسوخ. واما دليل الخطاب فيجوز نسخ موجبة ولا يجوز النسخ بموجبه لأن النسخ أقوى من دليله. واما النسخ بفحوى الخطاب فهو جائز لأنه مثل النطق وأقوى منه2 وقد جعل الشافعي فحوى الخطاب في قوله عز وجل: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} مع تحريم الضرب قياسا على التأفيف فعلى قوله لا يصح النسخ به لأن القياس لا يجوز به نسخ النص. وأما نسخ الفحوى فإنه توجه النسخ إلى النطق كان نسخا له ولفحواه ولمفهومه وأن توجه النسخ إلى الفحوى والمفهوم فقد اختلفوا في جوازه مع إبقاء نطفه فجوزه أكثر المتكلمين كالنصين يجوز نسخ أحدهما مع بقاء الآخر ويمنع من ذلك أكثر الفقهاء لأن.   1 أخرجه أبو داود الجنائز 3/197 ح 3161 وأحمد المسند 2/598 ح 9876 بلفظ "من غسل ميتا فيغتسل ومن حمله فليتوضأ". 2 انظر نهاية السول 2/596, 597 المعتمد 404 إحكام الأحكام للآمدي 3/235 المحصول 1/563 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/71. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 ثبوت نطفه موجب لفحواه ومفهومه فلم يجز نسخ الفحوى والمفهوم مع بقاء موجبة1 كما لا يجوز نسخ القياس مع بقاء أصله. وأما الحكم الذي ثبت بالقياس فنسخ أصله يوجب نسخه في قول الشافعي وجمهور الفقهاء وقال بعض أصحاب أبي حنيفه يكون حكم القياس بعد نسخ أصله ثابتا في فروعه وهذا لا يصح لأن زوال الموجب يقتضي زوال الموجب ولأنه ما ثبت تابعا لغيره يزول بزواله لآن المتبوع أصل والتابع فرع ولا يصح بقاء الفرع مع زوال أصله لأنه إذا بقى لا يكون فرعا. وأما نسخ القياس مع بقاء أصله فعلى وجهين وهو مثل ما إذا نسخ الأصل هل يكون ذلك نسخا للقياس وعلى وجهين أيضا وصورته وهو أن ثبت الحكم في عين بعلة وقيس عليها غيرها ثم نسخ الحكم فى تلك العين المقيس عليها والأصح أن يبطل الحكم في الفروع لأن الفرع تابع للأصل فإذا بطل الحكم في الأصل بطل في الفرع. وأما النسخ بالقياس فلا يجوز لأن القياس مستعمل مع عدم النص فلا يجوز أن ينسخ النص وقد ذهب بعض أصحاب الشافعي إلى جواز النسخ بالقياس الجاري في أخبار الآحاد2 والأصح هو الأول لما ذكرنا ولأن القياس إنما يصح إذا لم يعارضه نص فإذا كان نص يخالف القياس لم يكن للقياس حكم فلا يجوز النسخ به.   1 انظر نهاية السول 2/598, 599, 600 المعتمد 404 إحكام الأحكام للآمدي 3/237 المحصول 1/563 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/71, 72 تيسير التحرير 3/214. 2 نهاية السول 594, 595 المعتمد 1/402 إحكام الأحكام للآمدي 2/38, 39 المحصول 1/561, 562 تيسير التحرير 3/212 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/74. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 فصل: وجوه النسخ ... فصل: قد ذكرنا بعض ما يجوز النسخ به وسنبين الباقي بعد ذلك وفيه كلام كثير ومسائل من الخلاف كبار ونذكر الآن وجوه النسخ فنقول: الناسخ والمنسوخ يشتمل على ستة أقسام. أحدها: ما نسخ حكمه وبقي رسمه كنسخ أية الوصية في الوالدين والأقربين بآية المواريث: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11] الآية ونسخ العدة حولا بأربعة أشهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 وعشرا فالمنسوخ ثابت التلاوة مرفوع الحكم والناسخ ثابت التلاوة ثابت الحكم. والقسم الثاني: ما نسخ حكمه ورسمه وثبت حكم الناسخ ورسمه كنسخ استقبال بيت المقدس باستقبال الكعبة ونسخ صيام عاشورا بشهر رمضان فالمنسوخ مرفوع الرسم والحكم والناسخ ثابت الرسم والحكم. والقسم الثالث: ما نسخ حكمه وبقي رسمه ورفع رسم الناسخ وبقي حكمه كقوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} لأنه نسخ بقوله تعالى الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله وقال عمر رضى الله عنه كنا نقرؤها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولولا أن يقال زاد عمر في كتاب الله لأثبتها فيه والمنسوخ باقي التلاوة مرفوع الحكم والناسخ مرفوع التلاوة ثابت الحكم. والقسم الرابع: ما نسخ حكمه ورسمة ونسخ رسم الناسخ وبقى حكمه كالمروى عن عائشة رضي الله عنها قالت كان فيما أنزل الله عز وجل من القرآن عشر رضعات معلومات فنسخن بخمس رضعات معلومات فتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ما يتلى في القرآن1 يعني أنه يتلى حكمه دون لفظه وكان المنسوخ مرفوع التلاوة والحكم والناسخ مرفوع التلاوة باقى الحكم ومنع قوم من نسخ اللفظ مع بقاء حكمه ومن نسخ الحكم مع بقاء لفظه2 لأنه يؤدي أحدهما إلى أن ينفي الدليل ولا مدلول والآخر يؤدي إلى أن يرتفع الأصل ويبقى التابع والصحيح هو الجواز لأن التلاوة والحكم في الحقيقة شيئان مختلفان فجاز نسخ أحدهما وتبقيه الآخر كالعبادتين يجوز أن ينسخ أحدهما ويبقي الآخر. والقسم الخامس: ما نسخ رسمه أو حكمه ولا يعلم الذي نسخه كالمروي أنه كان في القرآن لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثا ولا يملأ جوف أبن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب كما رواه أنس في أصحاب ببئر معونة وهم القراء الذين قتلوا بئر معونة قال أنس كنا نقرأ بلغوا إخواننا أنا لقينا ربنا فرضى علينا.   1 أخرجه مسلم الرضاع 2/1075 ح 24/1452 ومالك في الموطأ الرضاع 2/608 ح 17. 2 انظر إحكام الأحكام للآمدي 2/201, 202 203 المحصول 2/546و 547 نهاية السول 2/572, 573 المعتمد 1/386 تيسير التحرير 3/204 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 وأرضانا1. وهذا القسم في معنى النسخ وليس بنسخ حقيقة ولا يدخل في حد النسخ. وقد روى أن رجلا قام في الليل ليقرأ سورة فلم يقدر عليها فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رفعت البارحة وقيل أن سورة الأحزاب كانت مثل سورة البقرة فسخ منها ما زاد على الموجود. والقسم السادس ناسخ صار منسوخا وليس منهما لفظ متلو كالتوارث بالحلف والنصرة نسخ بالتوارث بالإسلام والهجرة ثم نسخ التوارث بالهجرة وهذا داخل في أقسام النسخ أيضا من وجه ذكر هذه الأقسام الستة القاضي الماوردى وعندي أن القسمين الآخرين تكلف وليس بتحقق فيهما النسخ.   1 أخرجه البخاري الجهاد 6/209 ح 3064 ومسلم المساجد 1/468 297/677 وأحمد المسند 3/134 ح 12070. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 فصل آخر في بيان وجوه النسخ. وهو معرفة حكمه فنقول أحكامه مشتملة على ستة أضرب. أحدها: أن ينسخ الحكم بمثله في التخفيف والتغليظ2 مثل نسخ استقبال بيت المقدس بالكعبة. والضرب الثاني: نسخ الحكم إلى ما هو أخف منه مثل نسخ العدة حولا كاملا بالعدة أربعة أشهر وعشرا. والضرب الثالث: من النسخ أن ينسخ الحكم بما هو أغلظ منه فقد منع منه قوم أهل الظاهر وذكره ابن داود وصار إليه فقال بعضهم منع بالعقل لما فيه من التنفير وقال بعضهم منع منه بالشرع لقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] واحتج محمد بن داود بقوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] ونح ندل على جوازه بالعقل والشرع جميعا أما من حيث العقل فإن الناس في أصل التكليف على قولين منهم من بناه على مشيئة الله تعالى.   2 انظر المحصول 2/546 نهاية السول 2/569 المعتمد 1/385 إحكام الأحكام للآمدي 3/196, 197 تيسير التحرير 3/197 روضة الناظر 76 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/51. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 وعلى هذا لا يمتنع نسخ الأخف بالأثقل كما لا يمتنع نسخ الأثقل بالأخف ومنهم من اعتبر فيه الأصلح وعلى هذا لا يمتنع أن يكون من المصلحة نسخه بالأخف تارة وبالأثقل أخرى وأما الشرع فنقول نسخ الأخف بالأثقل قد وحد في الشرع إلا ترى أن الله وضع القتال في أول الإسلام ثم نسخه بفرض القتال ونسخ الإمساك في الزنا بالجلد وصوم عاشورا بصوم رمضان لأن الأثقل يكون أكثر ثوابا على ما قاله عليه السلام لعائشة رضي الله عنها: "إنما أجرك على قدر تعبك" 1 فيكون نسخ الأخف با لأغلظ تعريض المكلف للثواب الكبير وهذا لا يمنع منه اشرع ولا عقل وأما قوله: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} فمعنى ذلك نأت بما هو أنفع لكم وأعود عليكم وقد تكون الفائدة فيما هو الأثقل واستقام معنى الآية على هذا. والضرب الرابع: أن ينسخ التخيير بين أمرين بانختام أحدهما كالذي في صدر الإسلام من التخيير في صيام رمضان بعد الفدية والصيام بقولة: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} [البقرة: 184] الآية ثم نسخ التخيير بأنختام الصيام بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] وفي هذا دليل أيضا على جواز نسخ الأخف بالأغلظ لأن انختام الصوم أغلظ من التخيير. والضرب الخامس: نسخ الوجوب بالإباحة والإباحة بالوجوب كنسخ تحريم الأكل والمباشرة بعد النوم في ليل الصيام بإباحته بقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] وأما نسخ الإباحة بالوجوب كنسخ النهى عن القتال بإباحته ثم إباحته بوجوبه وقد نسخ الواجب إلى الندب مثل قيام الليل نسخ إيجابه إلى الندب. والضرب السادس: أن يكون النسخ إلى غير بدل وهو جائز عند الجمهور ومنعت منه طائفة من أهل الظاهر2 لقوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] والدليل على جواز ذلك السمع والمعقول أما السمع فلو جود ذلك. ألا ترى أن نسخ إيجاب الصدقة عند مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى غير بدل ونسخ تحريم إدخار لحوم الأضاحي إلى غير بدل ومن حيث المعقول فلأنه أن كان بالمشيئة فيجوز أن يشاء نسخه إلى بدل ويجوز أن يشاء نسخه لا إلى بدل وأن كان الاعتبار.   1 أخرجه البخاري العمرة 3/714 ح 1787 ومسلم الحج 2/876 ح 126/1211. 2 انظر المحصول 2/546 المعتمد 1/384 إحكام الأحكام للآمدي 3/195 تيسير التحرير 3/197 روضة الناظر 75 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 بالمصلحة فيجوز أن تكون المصلحة في نسخ الشيء إلى بدل ورفع الواجب لا إلى بدل ولأنه إذا جاز أن يسقط بالعذر إلى بدل وغير بدل جاز أن يسقط بالنسخ إلى بدل وغير بدل وأما الآية قلنا الآية محمولة على النسخ إلى بدل ثم وصفه أن يكون مثل الأول أو خيرا منه فهذا إتمام هذه الأضرب فإن نسخت صفه من صفات العبادات كالصلاة ينسخ منها استقبال بيت المقدس باستقبال الكعبة فقد اختلفوا أنه هل يكون نسخا بجميع العبادة فجعله أهل العراق نسخا بجميعها وجعلوا فرضها مبتدأ بالأمر الثاني دون الأول لارتفاع الأول بزوال شرطه فتكون الصلاة إلى بيت المقدس منسوخة بالصلاة إلى الكعبة والصحيح وهو الذي عليه جمهور أصحاب الشافعي بأن فرضها باق دون نسخ صفتها ولأن النسخ يكون مقصورا على الصفة ولا يتعدى إلى الأصل لأن النسخ لا يتعدى من محله إلى غير محلة فعلى هذا تكون الصلاة إلى بيت المقدس محولة إلى الكعبة ومن حيث التوجه فحسب وأما جواز أصل الصلاة بعد تحويلها إلى الكعبة إنما هو بالخطاب الثابت قبل النسخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 فصل: في أوقات النسخ ... فصل ونتكلم الآن في أوقات النسخ. فنقول أوقات النسخ على ثلاث أضرب ضرب يجوز فيه النسخ وضرب لا يجوز فيه النسخ وضرب اختلفوا فيه. أما الضرب الأول: وهو الذي يجوز به النسخ وهو بعد العلم بالمنسوخ وبعد العمل به فيجوز نسخه سواء عمل به جميع الأمة أو بعض الأمة فالأول مثل استقبال القبلة والثاني مثل فرض الصدقة في مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه روى أنه عمل به على أبن أبي طالب رضي الله عنه وحدة. وأما الضرب الثاني: فهو النسخ قبل العلم بالمنسوخ واعتقاد وجوبه فلا يجوز نسخه لأن النسخ يكون فيما استقر فرضه ليخرج به عن البداء والنسخ قبل العلم بالمنسوخ يؤدي إلى البداء لأنه يصير كما لو قال افعل ولا تفعل وهذا يقبح إلا ترى أنه إذا كان متصلا يقبح فإذا كان منفصلا يقبح أيضا فإن قيل أليس روى أن الله تعالى فرض خمسين صلاة ليلة المعراج ثم أنه نسخه قبل أن تعمل به الأمة والقصة ثانية في تردد النبي صلى الله عليه وسلم ومسألة التخفيف وحث موسى إياه على ذلك قلنا قد كان الرسول صلى الله عليه وسلم عالما بذلك واعتقد وجوبه فقد نسخ بعد العلم بوجوبه واعتقاده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 والضرب الثالث وهو النسخ بعد العلم به واعتقاد وجوبه قبل العمل به وقبل وقت عمله فقد اختلفوا في ذلك على ما سنبين. مسألة يجوز عندنا نسخ الشيء قبل وقت فعله. وقال أبو بكر الصيرفي لا يجوز وهو قول المعتزلة ولأصحاب أبي حنيفة في ذلك خلاف وذهب أكثرهم إلى أنه لا يجوز وذهب بعضهم إلى جوازه1 والمسألة تدور على أنهم يقولون مثل هذا النسخ يدل على البداء وعندنا لا يدل على ذلك وأما أكثرهم فقد تعلقوا بهذا الحرف وقالوا: نسخ الشيء قبل وقت فعله يؤدي إلى البداء والبداء لا يجوز على الله تعالى والدليل على أنه يؤدي إلى البداء أن الله عز وجل إذا قال لنا في صبيحة بوم صلوا عند غروب الشمس ركعتين بطهارة ثم قال عند الظهر لا تصلوا عند غروب الشمس ركعتين بطهارة كان الأمر والنهي متناولا فعلا واحدا على وجه واحد في وقت واحد وقد صدر من مكلف واحد إلى مكلف واحد وفي تناول النهي لما تناوله الأمر على الحد الذي تناوله من غير انفصال دليل أما على البداء وأما على القصد إلى الأمر القبيح والنهي عن الحسن وهذا لأن أمر الحكيم يدل على حسن المأمور به ونهيه يدل على قبح المنهي عنه فأما إذا أمر بفعل في وقت من الأوقات دل ذلك على حسنه فإذا نهانا عنه نهيا عما هو حسن والنهي عن الحسن قبيح كما أن الأمر بالقبيح قبيح وذلك لا يجوز توهمه على الله سبحانه وتعالى وهذا دليل المتكلمين ولأن الأمر لا بد له من فائدة وإذا جوزنا النسخ على ما قلتم سقطت فائدة الأمر قالوا: فلا يجوز أن يقال قد أفاد اعتقاد الوجوب والعزيمة على الفعل وإذا أفاد هذا سقط صفة البداء عن النسخ لأن المسألة مصورة فيما إذا كان النهي يتناول غير ما أمر به والأمر طلب الفعل وإذا جوزنا نسخه قبل وقت الفعل لم يبق للأمر فائدة فيما وضع الأمر له فأما اعتقاد الوجوب والعزم على الفعل فليس الأمر بموضوع لهما. ببينة: أنه على ما قلتم يصير كأن الله تعالى قال اعزموا واعتقدوا وقوله افعلوا ليس بعبادة عنه لا لغة ولا شرعا ولا حقيقة ولا مجازا فصار الأمر أمرا بالفعل لا بغيره.   1 انظر المحصول 1/541 إحكام الأحكام للآمدي 3/179, 180 روضة الناظر 71 تيسير التحرير 3/188 المعتمد 375 نهاية السول 2/562 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/46. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 فقيل وقت الفعل إذا نسخ يؤدي إلى ما ذكرناه ويؤدي إلى سقوط الفائدة عن الأمر وأيضا فانه لا بد أن يكون في الأمر بالعزم والأمر بالاعتقاد فائدة ولا فائدة في ذلك إذا لم يجب العزوم عليه أو سقط عنه وحله قبل وقته فإن قلتم أن الفائدة اختيار المكلف فهذا لا يصح لأن حقيقة الأخبار إنما يجوز على من لا يعرف العاقبة دون من يعرف العاقبة وأيضا فإيجاب العزم والاعتقاد على الإطلاق لا يحسن والمعزوم عليه غير واجب لأنه لا يحسن اعتقاد وجوب ما ليس بواجب. دليل آخر لهم وهو أن المراد من الأمر هو الابتلاء بالامتثال والابتلاء بالفعل إنما يوجد عند أدراك وقت الفعل وأما قبل أدراك وقت الفعل فكيف يتصور الابتلاء بالفعل فإن قلتم أن الابتلاء باعتقاد الوجوب فقد ذكرنا أن الأمر بالفعل لا باعتقاد الفعل وقبوله والدليل عليه أن في أوامر العباد يكون المراد بها تحصيل للفعل كذلك في أوامر الشرع يدل عليه أن بمجرد الأمر يجب تحصيل الفعل بغير بيان يقترن به ولو كان يحتمل الفعل ويحتمل اعتقاد الفعل لما وجب تحصيل الفعل من غير بيان لأن المحتمل لا يوجب شيئا وهذا استدلال القاضي أبي زيد لهم والمعتمد هو الأول وأما دلائلنا في المسألة نستدل أولا بالوجود والدليل على وجود مثل هذا النسخ قصة إبراهيم عليه السلام فانه أمر بذبح أبنه بدليل قوله تعالى: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات: 102] وقوله: {مَا تُؤْمَرُ} دليل على أنه كان مأمورا بذبح الولد ثم نسخه قبل أن يفعله وفداه بذبح عظيم فإن قيل أن إبرهيم عليه السلام لم يؤمر بذبح الولد الذي هو قطع الحلقوم وفرى الأوداج وإنما أمر بمعالجة الفعل الذي هو حكاية الذبح فانه روى أنه كان يقطع ويلتئم بقدرة الله تعالى بدليل أن الله تعالى قال: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا} [الصافات: 105] ومنهم من قال كان مأمورا بمقدمات الذبح لا بنفس الذبح قالوا: على الجملة لم يكن مأمورا بأكثر مما فعل بدليل ما تلونا من قوله تعالى: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا} [الصافات: 105] قلنا هذا التأويل الذي قلتم خلاف ما يقتضيه لفظ الكتاب حقيقة لأن الذبح في اللغة هو الشق قال الشاعر: كان بين فكها والفك ... فارة ممسك ذبحت في شك أى شقت فدل أن الأمر تناول الفعل الذي هو شق الذبح يدل عليه لو كان الأمر على ما زعموه لم يكن لقوله: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات:107] معنى لأن الفداء لا معنى له من حصول الفعل المأمور به فإن الفداء اسم للذي أقيم مقام الشيء المفدى ولم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 يمكن أيضا لقوله: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102] ولا لقوله: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ} [الصافات:106] وجه لأن معالجته مقدمات الذبح مع علمه بالسلامة لا يبلغ المبلغ الذي يقتضي هذا القول في عظم الامتحان فدل أن الله تعالى أمره بحقيقة الذبح ثم من عليه ونسخه قبل أن يفعل وأما قوله: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا} [الصافات: 105] فمعناه والله أعلم أزمعت التصديق واعتقدت الفعل وأردت فعله إلا أن الله تبارك وتعالى أعفاك عنه وأبقى عليك ولدك انعاما ومنه يدل عليه قصة المعراج وفرض الرب عز اسمه خمسين صلاة ونسخها بخمس صلوات قبل الفعل فان قالوا: أن هذا الخبر واحد قلنا قد تلقته الأمة بالقبول وهو من قبيل التواتر على ما سبق وقد ذكرنا كلامهم على هذا وأجبنا عنه وعلى ذلك الجواب نستقيم الحجة في هذه المسألة وأيضا فإن الله تعالى أمر بالصدقة قدام نجوى النبي صلى الله عليه وسلم ونسخه قبل فعله وهم يقولون أن وقت الفعل قد كان حضر بدليل ما روى أن عليا رضي الله عنه استعمله ويدل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم صالح قريشا عام الحديبية وكان فيما شرطوه في الصلح أن يرد عليهم من جاء من المسلمين فيهم رجلا كان أو امرأة1 ثم نسخ الله تعالى ذلك فى النساء بقوله تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] ويدل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فى فتح مكة: " وإنما أحلت لى ساعة من نهار" 2 يعنى أحل القتال بمكة ثم قد اشتهرت الأخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم منع من القتال فيها وكان ذلك قبل وقت الفعل والمعتمد هو خير إبراهيم عليه السلام3 وخبر المعراج على الوجه الذي قدمناه ويمكن أن يتعلق بظاهر قوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39] وأما دليلنا من جهة المعقول هو أن الدليل لما قام على حسن النسخ على الجملة فلا فرق بين أن ينسخ قبل وقت الفعل أو بعد وقت الفعل لأنه يجوز أن يكون المراد بالأمر هو اعتقاد الوجوب والعزم على الفعل إذا حضر وقته وبكون الله تعالى قد ابتلى عباده بهذا القدر وهو ابتلاء صحيح لآن الإيمان رأس.   1 أخرجه البخاري الصلح 5/358 ح 2700 ومسلم االجهاد 3/141 ح 92/1783. 2 أخرجه البخاري الصيد 4/55 ح 1833 ومسلم الحج 2/988 ح 447/1355 وأبو داود المناسك 2/218 ح 2017 والترمذي الديات 4/21 ح 1406. 3 أخرجه البخاري أحاديث الأنبياء 6/469 ح 3367 ومسلم الحج 2/993 ح 462/1365. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 الطاعات فيجوز أن يكون الله تعالى ابتلى عباده بقبول هذه العبادة ايمانا. ببينة أن الاعتقاد أحد موجبي الأمر فيجوز أن يقع القصد إليه في الأمر ألا ترى أنه لو قال لنا صلوا ركعتين إذا زالت الشمس أن لم أرفع الأمر عنكم قبله كان هذا سائغا في العقول غير مستحيل كذلك إذا أبهم وأراد ذلك ورفعة قبل وقت فعله كان مستحيلا أيضا يدل عليه أن الأمر كما يسقط عن المأمور بنسخه عنه بموته وعجزه عن الفعل ثم إذا لم يكن مستحيلا أن يؤمر بالشيء ثم لا يصل إلى فعلة بموت لا يقطعه عنه أو عجز يحول بينه وبينه وقد يؤمر قلنا إذا اعتبرتم هذا فقولوا لا يجوز النسخ أصلا لأنه إذا كان المأمور به صلاح العباد فلا يجوز أن ينهي عما يصلحهم ولكن قيل لما نسخه تبين أن الصلاح كان إلى هذه الغاية كذلك هاهنا إذا نسخ دل النسخ أن الصلاح كان هذا القدر وهو إلزام القبول وإيجاب اعتقاد الوجوب. ببينة:أنه غير مستبعد في قضايا العقول أن يكون صلاح عبده في أمره بشيء ثم إذا علم واعتقد الوجوب يرى أن صلاحه في غيرة. وأما قولهم أنه لا يحسن أن يصل النهي بالأمر فيقول: افعلوا لا تفعلوا قلنا إنما كان كذلك لأنه إذا وصل به لا يفيد الأمر فائدة وأما هاهنا قد أفاد الأمر فائدة على ما سبق فصح النسخ كما بعد الفعل والله أعلم. [مسألة] 1 أعلم أن المسلم يقتل الكافر فيتوجه إليه بسيفه ثم يقتل قبل أن بصل إليه أو تصيبه آفة تحول دون قصده فإذا جازت مثل هذه الصورة وهذه العوارض المانعة من الفعل جاز أيضا عارض النسخ يدل عليه أن الخصوم في هذه المسألة وافقونا أنه يجوز أن يأمر الله تعالى بموأصلة الفعل سنة ثم ينسخه عنا بعد أشهر فكذلك يجوز أن ينسخه أيضا قبل ابتداء شئ من الفعل لأن جميع ذلك نسخ قبل وقت الفعل فإن قيل بالنسخ تبين أنه لم يعني بالسنة جميعها وأن لم يكن أراد الفعل إلا فى بعض السنة وكان النسخ بيانا للمراد بالخطاب وصار النهي متناولا غير ما يتناوله الأمر ويجاب عنه فيقال يقيد الأمر بالفعل بالسنة والسنة وقت معلوم الأول والآخر يمنع أن يكون المراد بعض السنة أما الجواب عن كلامهم أما الأول قولهم أن هذا يؤدى إلى البداء لأن البداء أن يظهر له شئ كان خافيا عليه وفي هذا الموضع لا يوجد هذا إنما أمر الله تعالى ليبتلى بالقبول واعتقاد الوجوب ثم نسخه عنهم وهذا لأن القبول واعتقاد الفعل مقصود لا محالة والابتلاء به.   1 بياض في الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 صحيح وقد قلنا أنه أحد موجبي الأمر لأن قبول الأمر واعتقاد وجوب الأمر كان بالأمر قطعا فأما قولهم أن الأمر طلب الفعل قلنا صحيح في أوامر العباد فإنه لا يتناول إلا طلب الفعل فأما في أوامر الله تعالى فإن الإيمان والقبول رأس العبادات ولا بد أن ذلك موجبا للأمر بدليل أنه لو فعل الشيء ولم يعتقد وجوبه لا يصح وهذا لأن أمر العباد لا يكون بطريق الابتلاء إنما يكون بجر النفع والنفع يحصل بالفعل لا بالقبول فأما أوامر الله تعالى للابتلاء وليس بحر النفع لأن الله تعالى غني على الحقيقة عن الخليقة فإن قالوا: كلاهما مقصودان قلنا بلى من حيث الظاهر هما مقصودان ولكن بالنسخ تبين لنا أن المراد كان من الأمر هو الابتلاء بالقبول والاعتقاد أنه إذا نسخ بعد الفعل مرة وقد كان الأمر مطلقا يتبين أن الابتلاء كان بالفعل مرة أو مدة الحكم كانت مقصورة على هذا الزمان وأن كان مطلق الأمر بتناول الأزمنة كلها حتى لو لم يرد النسخ وجب الفعل في الأزمنة بقضية الأمر وقد ظهر بما ذكرنا الجواب عن كلامهم الثاني. وأما قولهم أن الأمر يدل على حسن المأمور والنهي على قبحه فجواز مثل هذا النسخ يدل على التناقض أو يودي إلى أن ينهي عما هو حسن أو يأمر بما هو قبيح وربما يزيدون على هذا فيقولون أن الله تبارك وتعالى لا يأمر إلا بما هو صلاح للعباد فالأمر من الله تعالى يدل على أن المأمور به صلاح المأمورين وإذا كان صلاحا لهم لم يجز أن ينهاهم عنه ويمنعهم منه. والجواب أن عندنا الحسن ما حسنه الشرع والقبيح ما قبحه الشرع فإذا أمرنا بالشيء فبالأمر عرفنا حسنه وإذا نهانا عنه زال المقيد لحسنه فزال حسنه وكذلك النهي يدل على قبح الشيء فإذا أرتفع النهي أرتفع قبحه فعلى هذا لا تناقض ولم يوجد النهي عن الحسن ولا الأمر بالقبيح وأما الذي ذكروا أن الله تعالى يأمر بمصالح العباد قلنا إذا اعتبرتم هذا فقولوا لا يجوز النسخ أصلا لأنه إذا كان المأمور به صلاح العباد فلا يجوز أن ينهي عما بصلحهم ولكن قيل لما نسخه تبين أن الصلاح كان إلى هذه الغاية كذلك هاهنا إذا نسخ دل النسخ أن الصلاح كان هذا القدر وهوا إلزام القبول وإيجاب اعتقاد الوجوب. ببينه: أنه غير مستبعد في قضايا العقول أن يكون صلاح عبده في أمره بشيء ثم إذا علم واعتقد الوجوب يرى أن صلاحه في غيره وإنما قولهم أنه لا يحسن أن يصل النهي بالأمر فيقول: افعلوا لا تفعلوا قلنا إنما كان كذلك لأنه إذا وصل به لا يفيد الأمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 فائدة وأما هاهنا قد أفاد الأمر فائدة على ما سبق فصح النسخ كما يعد الفعل والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 فصل: دلائل النسخ ... فصل: اعلم أن هذا الفصل يشتمل على دلائل النسخ فنقول: إذا ورد في الشيء الواحد حكمان مختلفان فلا يخلو أما أن يمكن استعمالهما ولا يتنافى اجتماعهما وذلك أن يكون أحدهما الأعم من الآخر والآخر أخص فيقضي بالأخص على الأعم فيستثنى منه كقوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ} [البقرة: 221] لما قابل عموم هذه الآية خصوص قوله تعالى والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم المائدة 5 قضى بخصوص هذه الآية على عموم تلك الآية فصار كقوله ولا تنكحوا المشركات إلا الكتابيات وفي هذا النوع أن تساوي الآيتان في العموم والخصوص ويمكن أن نخص كل واحدة من الآيتين بالأخرى ومثال ذلك قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 23] وقد قابلها قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6] ويجوز أن تكون كل واحدة من الآيتين مخصوصة بالأخرى فيحرم الجمع بين الأختين إلا بملك اليمين ويحل ملك اليمين إلا الجمع بين الأختين فتتكافأ الآيتين في الجواز ووجب الرجوع إلى دليل موجب تخصيص أحداهما بالأخرى ولذلك قال عثمان رضي الله عنه أحلتهما آية وحرمتهما آية والتحريم أولى والجملة في هذا الضرب من التعارض أنه إذا أمكن استعمال الآيتين أو تخصيص أحداهما بالأخرى يصار إلى الاستعمال والتخصيص إلا أن يقوم دليل على النسخ فيعدل بالتعليل عن التخصيص إلى النسخ وهذا كآية الوصايا وآية المواريث قد كان يمكن استعمالهما من غير نسخ لكن قد روى عن الصحابة أنهم قالوا: قد نسخت آية المواريث آية الوصية وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أن الله عز وجل قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصيه لوارث" 1 فعدل بالدليل عن التخصص إلى النسخ وكان طاوس من بين التابعين بجمع بين الآيتين ولا يثبت النسخ هكذا أورده بعض أصحابنا وفيه نظر وتأمل.   1 أخرجه أبو داود الوصايا 3/113 ح 2870 والترمذي الوصايا 4/433 ح 2120 والنسائي الوصايا 6/207 باب إبطال الوصية للوارث وابن ماجه الوصايا 2/905 وأحمد المسند 4/229 ح 17680 انظر تلخيص الحبير 3/106 ح 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 وأما لوجه الثاني من تقابل الدليلين واجتماع الحكمين فهو أن لا يمكن استعمالهما ويكون بينهما تناقض فنعلم أن أحدهما ناسخ والآخر منسوخ فيرجع إلى دلائل النسخ فيستدل بها على الناسخ في أثباته وعلى المنسوخ في نفيه واحد دلائله أن يعرف تقدم احد الحكمين على الآخر فيكون المتقدم منسوخا والمتآخر ناسخا والمراد منه أن يكون متقدما في التنزيل دون التلاوة1 فإن قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة: 234] ناسخ لقوله تعالى: {مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة: 240] وهو متقدم عليه في التلاوة ومتآخر عنه في التنزيل وقد عدل في كثير من القرآن بترتيب التلاوة عن ترتيب التنزيل بل بحسب ما أمر الله عز وجل لمصلحة استأثر بعلمها. وقد قيل أن آخر آية نزلت من القرآن قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281] وهذه الآية متلوة في سورة البقرة وهي مقدمه على جميع سور القرآن سوى الفاتحة وأول سورة نزلت اقرأ باسم ربك وهى في أوآخر ما يتلى في القرآن. ودلائل النسخ مع التقدم والتآخر في التنزيل من أوجه كثيرة. أحدها أن يكون في نظم التلاوة لفظ يدل على النسخ وهذا مثل النسخ الثابت في آية المصابرة على الجهاد وقال الله تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 65] ثم نسخ هذا وقال: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} [الأنفال: 66] نص في أن المراد بالآية تخفيف ما تقدم من تغليظه. والوجه الثاني: أن يرد لفظ يتضمن التنبيه على النسخ وذلك كما نسخ الله تعالى ونقد من الإمساك في البيوت لحد الزنا في قوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} [النساء: 15] بجلد المائة في قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] لأن قوله تعالى: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} [النساء: 15] تنبيه على عدم الاستدامة في الإمساك ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم.   1 اعلم أنه يعرف المتقدم والمتأخر أما بلفظ النسخ والمنسوخ كما لو قال صلى الله عليه وسلم هذا ناسخ وهذا منسوخ أو اجمعت الأمة على ذلك وأما بالتاريخ إحكام الأحكام للآمدي 3/259 تيسير التحرير 3/222 نهاية السول 2/607, 608 المحصول 2/571 روضة الناظر 81 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/84, 85. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 "خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا" 1 الخبر. والوجه الثالث: من دليل النسخ نص يرد من الرسول صلى الله عليه وسلم يصرح بثبوت النسخ2 مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "كنت نهيتكم عن إدخار لحوم الأضاحي وكلوا واشتروا" و" كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ولا تقولوا هجرا" 3. والوجه الرابع: من دلائل النسخ إجماع الصحابة4. واجماعهم ضربان إجماع قول واجماع فعل. أما إجماعهم على القول مثل قولهم نسخ صوم رمضان صوم عاشوراء ومثل قولهم نسخت الزكاة سائر الحقوق في المال. وأما إجماعهم على الفعل مثل صلاتهم إلى الكعبة بعد صلاتهم إلى بيت المقدس. والوجه الخامس: من دلائل النسخ فعل الرسول صلى الله عليه وسلم وفعل الصحابة وفعل الأمة أما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم مثل فعله في حد الزنا فانه صلى الله عليه وسلم رجم ماعز ولم يجلده5 وكذلك رجم الغامدية ولم يجلدها6 فعلم بهذا أن قوله صلى الله عليه وسلم: "الثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة" 7 منسوخ. وقد قالوا: أن الفعل لا ينسخ القول في قول الأكثرين من الأصوليين وإنما يستدل بالفعل على تقدم النسخ بالقول فيكون القول منسوخا بمثله من القول لكن فعل الرسول صلى الله عليه وسلم دليل على القول. وأما فعل الصحابة فيوجد في قوله صلى الله عليه وسلم: "من تصدق على صدقة فإنا أخذوها وشطر   1 أخرجه مسلم الحدود 3/1316 ح 12/1690 وأبو داود الحدود 4/142 ح 4415 والترمذي الحدود 4/41 ح 1434. 2 إحكام الأحكام للآمدي 3/259 نهاية السول 2/607 روضة 81 تيسير التحرير 3/221, 222 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/84. 3 أخرجه مالك في الموطأ الضحايا 2/485 ح 8 والطبراني في الكبير 11/253 ح 11653. 4 إحكام الأحكام للآمدي 3/259 نهاية السول 2/607 روضة 81 تيسير التحرير 3/221, 222 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/84. 5 تقدم تخريجه. 6 أخرجه مسلم الحدود 3/1323 ح 23/1695 وأبو داود الحدود 4/150 ح 4442 وأحمد المسند 5/408 ح 23013. 7 تقدم تخريجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 ماله عزمة من عزمات ربنا ليس لمحمد ولا لآل محمد منها شيء" 1. وأجتمعت الصحابة على ترك استعمال هذا فدل عدولهم عن استعماله على نسخه. وأما فعل الأمة فقد سبق ذكره. والوجه السادس: من دلائل النسخ نقل الراوي تقدم أحد الحكمين وتآخر الآخر وذلك أن يروي أن أحدهما شرع بمكة والآخر بالمدينة أو يروي أن أجدهما شرع عام بدر والآخر شرع عام الفتح أو غير ذلك من الأعوام بعد بدر فإن وجد هذا فلا بد أن يكون المتآخر ناسخا للمتقدم كما روى عن بعض الرواة أنه قال كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء ما مست النار2 وهذا وأن لم يكن على مثال ما قلناه عام كذا وعام كذا فهو على مثال ما قلناه أنه يروى تقدم أحدهما وتآخر الآخر وقد روى أيضا من إباحة المتعة ونسخها على ترتيب قد ذكر في الأخبار وأن كان راوي المتقدم غير راوي المتآخر ينظر فإن كان المتقدم من أخبار الآحاد والمتآخر من المتواتر كان المتآخر ناسخا للمتقدم وأن كان المتقدم من أخبار التواتر فلا يصير منسوخا بالخبر الواحد المتآخر وأن كانا متواترين أو كانا جميعا من جملة الآحاد فإنه يصير المتآخر ناسخا للمتقدم ثم الراوي للنسخ لا يخلو أما أن يذكر دليل النسخ أو يرسل للنسخ إرسالا ولا يذكر دليله أما إذا ذكر دليل النسخ فلا إشكال أنه يثبت النسخ وأما إذا لم يكن ذكر دليل النسخ ولم يرو عن النبي صلى الله عليه وسلم لكن أرسل النسخ إرسالا ففيه وجهان. أحدهما: يقبل قوله في النسخ وبه قال الحسن الكرخي من أصحاب أبي حنيفة وتعلق من قال هذا بما ينقله من الشرع ووجه ذلك أن الصحابي لا يرسل قوله إلا عن دليل موجب للنسخ. والوجه الثاني: وهو الأظهر أن لا يقبل قوله في النسخ ما لم يذكر دليل النسخ لجواز أن يعتقد النسخ بما ليس بنسخ كما روى عن بعض أصحابنا أن مسح الخفين نسخ غسل الرجلين وعندى أن هذا أثر منكر ولا يعرف ثبوته عن أحد من الصحابة.   1 أخرجه أبو داود الزكاة 2/103 ح 1575 والنسائي الزكاة 5/17 باب سقوط الزكاة عن الإبل إذا كانت رسلا لأهلها ولحومتهم والدارمي الزكاة 1/486 ح 1677 وأحمد المسند 5/3 ح 20038. 2 إحكام الأحكام للآمدي 3/259 نهاية السول 2/608 روضة الناظر 81 تيسير التحرير 3/222 المحصول 572 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/672. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 وأما إذا كان راوى أحد الخبرين متقدم الصحبة والراوي الآخر متآخر الصحبة فهو على ضربين. أحدهما أن تنقطع صحبة الأول عند صحبة الثاني فيكون الحكم الذي رواه الثاني ناسخا لما رواه الآخر فيكون الحكم الذي رواه الآخر ناسخا عند صحبة الثاني فيكون على الحكم الذي رواه ناسخا لما رواه الآخر كالذي رواه قيس بن طلق عن أبيه طلق بن على قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يؤسس مسجد قباء فسألته عن مس الذكر فقال: "هل هو إلا بضعة منك" 1 وروى أبو هريرة وجوب الوضوء لمن مس الذكر2 وقد أسلم وهاجر عام خيبر بعد بناء مسجد قباء بست سنين فكان حديث أبي هريرة ناسخا لحديث طلق. والضرب الثاني أن لا تنقضي صحبة المتقدم عند صحبة المتآخر فلا يكون رواية المتآخر الصحبة ناسخا لرواية المتقدم الصحبة لجواز أن يكون المتقدم راويا لما تآخر كما يجوز أن يكون راويا لما تقدم وإنما إثبات النسخ بمجرد الاحتمال لا يجوز وهذا مثل رواية أبن عباس لما يرويه من التشهد وبرواية أبن مسعود لما يرويه من التشهد ولا تكون رواية ابن عباس ناسخة لرواية ابن مسعود ولكن بطل الترجيح بدليل آخر وحين ذكرنا دلائل النص نذكر الآن أن الزيادة على النص ليست من دلائل النسخ. مسألة الزيادة على النص لا تكون نسخا بحال. وهو قول جماعة كثيرة من المتكلمين وذهب إليه أبو على وأبو هاشم قال أبو الحسن الماوردي وهو قول أكثر الأشعرية وأكثر المعتزلة قال ولا فرق بين أن تكون هذه الزيادة مانعة من اجزاء المزيد علية أو غير مانعة وذهب أصحابنا إلى أن الزيادة لو غيرت المزيد عليه تغيرا شرعيا حتى صار المزيد علية لو فعل بعد الزيادة على الحد الذي كان.   1 أخرجه أبو داود الطهارة 1/46 ح 183 والترمذي الطهارة 1/131 ح 85 والنسائي الطهارة 1/85 باب ترك الوضوء من ذلك وأحمد المسند 4/29 ح 16292 انظر نصب الراية 1/60. 2 أخرجه أحمد المسند 2/445 ح 8425 والبيهقي في الكبرى 1/211 ح 641 والدارقطني سننه 1/147 ح 6 والحاكم في المستدرك 1/138 وابن حبان 210/موارد انظر نصب الراية 1/56. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 يفعل قبلها لم يجز ووجب استيفائه فإن الزيادة في هذه الصورة تكون نسخا وذلك نحو زيادة ركعة على ركعتين وأن كان المزيد عليه فعل على حد ما كان يفعل قبل الزيادة صح فعله واعتد بفعله ولم يلزم استيفائه لم تكن الزيادة نسخا نحو زيادة التغريب على الحد وزيادة العشرين على حد القاذف واختار هذا عبد الجبار الهمذاني. وأما مذهب أصحاب أبي حنيفة فقد قالوا: أن الزيادة على النص بعد استقرار حكمه يوجب النسخ حكاه الضميري عن أصحابه على الاطلاق وعن أبي الحسن الكرخي وأبي عبد الله البصري أنهما قالا أن كانت الزيادة مغيرة حكم المزيد عليه في المستقبل كانت نسخا وأن لم تغير حكمه في المستقبل بل كانت مقارنه له لم يكن نسخا وأما زيادة التغريب على حد الزاني في المستقبل يكون ناسخا وكذلك لو زيد في حد القاذف عشرون. قالا وأما إذا وجب ستر الفخذ فوجب بعد ذلك ستر بعض الركبة لا يكون ذلك نسخا وكذلك إيجاب صلاة أخرى أو فرض آخر على الفرائض المعلومة1.   1 اعلم أن الزيادة على النص على ثلاثة مراتب: المرتبة الأولى: أن تكون لعبادة مستقلة ليست من جنس المزيد عليه أو تكون زيادة لعبادة من جنس المزيد عليه. المرتبة الثانية: أن تكون الزيادة لعبادة من جنس المزيد عليه. المرتبة الثالثة: أن تكون زيادة لعبادة غير مستقلة كزيادة شرط أو جزء أو صفة. أما المرتبة الأولى وهي زيادة عبادة مستقلة ليست من جنس المزيد عليه كزيادة صوم يوم الخميس وجوبا من كل أسبوع مثلا على ما شرعه الله من العبادات ليست نسخا اتفاقا لأنها لا تتحقق فيها حقيقة النسخ ضرورة أنها لم ترفع حكما شرعا. المرتبة الثانية: زيادة عبادة مستقلة من جنس المزيد عليه كزيادة صلاة على الصلوات الخمس. فجمهور السافعية والحنابلة والحنفية على أنها ليست نسخا كذلك وقال بعض العراقيين من الحفنية أنها نسخ. المرتبة الثالثة: زيادة غير مستقلة الشرط مثل اشتراط الطهارة في الطواف واشتراط الإيمان في عتق الرقبة في كفارة الظهار أو زيادة جزء مثل زيادة ركعة على ركعتين الفجر. فقد اختلف فيها الأصوليون على أقوال أشهرها ما يأتي: أولا: ليست نسخا مطلقا وهو مذهب الشافعية والحنابلة وبعض المعتزلة كالجبائي وأبي هاشم. ثانيا: هي نسخ مطلقا وهو مذهب الحنفية. ثالثا: إن وقعت حكما شرعيا كانت نسخا وإن وقعت البراءة الأصلية لم تكن نسخا وهو مذهب الباقلاني وأبي الحسين البصري واختاره الآمدي والإمام الرازي ...... = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 واحتج من قال أن الزيادة على النص نسخ بوجوه من الكلام أكثرها يرجع إلى معنى واحد وهو أن النسخ مأخوذ من الإزالة على ما سبق بيانه والزيادة فيه قد تضمنت الإزالة لأن الجلد قبل الزيادة قد كان كمال الحد فصار بعدها بعض الجلد فقد أزالت الزيادة كون الجلد بعدها كمال الحد وإذا تحقق معنى النسخ ثبت النسخ وقالوا: أيضا أن الجلد قد كان مجزيا وحدة ومن بعد التغريب صار غير مجزي وحده وقد أزالت الزيادة كون الجلد مجزيا وحده وهذا قريب من الأول قالوا: أيضا أن الجلد وحدة كان يتعلق به رد الشهادة فلما زيد التغريب صار لا يتعلق به وحدة ويصير هذا كما لو صرح الخطاب يكون الجلد كل الحد ثم غير يكون نسخا إجماعا كذلك هاهنا يدل علية أن زيادة ركعة على ركعتين يكون نسخا فكذلك بزيادة التغريب على الجلد يكون نسخا وأن منعتم ندل على ذلك فنقول أن هذه الزيادة جعلت وجود الركعتين وحدهما لعدمهما وأوجبت الاستئناف وأزالت الآخر ومن قبل هذا الزيادة لم تكن الركعتان كذلك وهذا هو معنى النسخ. وأما أبو زيد فال في هذه المسألة أن الزيادة تنسخ معنى لأن الآية جعلت الجلد مائة حد الزنا ومتى كان الجلد حدا مع النفي لم يكن المذكور في الكتاب حدا بنفسه لأن حقوق الله تعالى من العقوبة أو العبادة أو الكفارة لا يتجزيء وجوبها ولا أداؤها ومتى عدم شئ منها لم يكن للباقي حكم الجواز بحال كالركعة من الفجر والركعتين من الظهر إذا فصلت عما بقيت لم يكن ظهرا ولا بعضة ولهذا لو صام شهرا عن كفارة القتل ثم مرض فأراد أن يتمه بالإطعام لم يجز لأن المشروع فيه كفارة صوم شهرين فلا يكون لأحد الشهرين قبل الإتمام بما بقى حكم أداء الواجب بحال وإذا ثبت أن بزيادة التغريب لا يبقى الجلد بنفسه حدا ثبت أنه نسخ وكذلك كفارة اليمين حين جعلت الكفارة رقبة.   = رابعا: إن خير الشارع بين خصال ثلاثة بعد تجبيره بين اثنين أو كانت الزيادة تجعل المزيد عليه غير معتد به لو فعل بدونها وتجب إعادته كان نسخا مثل زيادة ركعة أو سجدة. وإن كانت الزيادة لا تجعل الفعل المزيد عليه لغوا بل إذا أضيفت الزيادة إليه كان معتبرا لم تكن نسخا كزيادة التغريب على الجلد وزيادة عشرين جلدة على الثمانين في القذف وهو مذهب القاضي عبد الجبار انظر إحاكم الأحكام للآمدي 3/243, 244, 245 نهاية السول 2/610 المحصول 2/563 حاشية الشيخ محمد بخيت المطيعي 2/610 روضة الناظر 73 المستصفى 1/117 تيسير التحرير 3/218 جمع الجوامع 2/91 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/74, 75, 76. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 مؤمنة لم يبق الرقبة المطلقة بغير هذا الوصف كفارة بوجه وكذلك إذا جعلنا ركن القراءة في الصلاة الفاتحة لم تبقى قراءة القرآن مطلقة ركنا والله تعالى أوجب قراءة القرآن قالوا: ولا يجوز أن يقال أن الزيادة تخصيص لأن العموم إذا خص في الحكم فيما لم يخص بخطابة العام نفسه لا بشيء آخر فلم يكن نسخا لحكم بل يفرض بالتخصيص ما بقى على ما كان وأما في الزيادة فانه لا يبقى للخطاب الأول حكم لأن قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} جعل الجلد حدا ولا يبقى حدا بنفسه بعد ثبوت التغريب حدا معه وكذلك آية الكفارة جعلت الرقبة بدون صفة الأيمان كفارة إذ ليس في الآية إلا الرقبة ولا تبقى الرقبة كفارة بعد أن قيدت الرقبة بقيد الأيمان بل تكون الكفارة رقبه مؤمنة لا رقبة على ما قال الله تعالى وهذا لأن الكفارة إذا خرجت من الآية جازت المؤمنة لا لأنها رقبة على ما قال الله تعالى بل للصفه الزائدة التي ليست في الكتاب وبدون هذه الصفة لا تكون الرقبة كفارة عندكم والزيادة نسخ معنى وبيان صورة هذا كلام أبي زيد ذكره في تقويم الأدلة ثم استدل بأنه ليس بيان معنى وذلك لأن البيان أسم لما يحمله اللفظ ولما ينتظم على الأوصاف والجلد مائة لا يحتمل النفي فلا يكون إثبات هذه الزوائد بيانا بل يكون رفعا للحكم عن القدر المذكور وتعليقا بالزوائد قال وهذا كالإعتاق المطلق إذا علق بشرط تبدل المطلق وصار شيئا آخر يعني على ما عرف في مسألة تعليق الطلاق والعتاق بالملك وهو أيضا بمنزلة العلة يزاد عليها وصف فإن ما قبل ذلك لا يكون علة ولا بعض للعلة بل يسقط حكم العلة أصلا إلى أن يوجد الوصف الآخر فيصير جملته علة وقد ادعى بعضهم ثبوت نسخ قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] بإثبات الشاهد واليمين ووجه النسخ أن الله تعالى قال ذاك: {وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} فجعل المرأتين أدنى الحجة الشرعية وإذا جعلنا الشاهد واليمين حجة لم يكن أدنى فثبت تغيير ما اقتضته الآية وكان نسخا. ببينه: أنه خير بين شيئين أعنى رجلين أو رجلا وامرأتين فإن ضممنا الشاهد واليمين في الحجة إليهما صار مخيرا بين ثلاثة أشياء بعد أن كان مخيرا بين شيئين. وأما دليلنا أن النسخ إزالة الحكم وتغييره وزيادة التغريب لا يوجب إزالة الحكم ولا تغييره في المائة لأنها واجبة بعد إيجاب التغريب كما كانت واجبة من قبل وإنما أيجاب التغريب ضم حكم إلى حكم وضم الحكم إلى الحكم لا يؤدي معنى النسخ بحال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 ببينه: أن النسخ تبديل الحكم إلى غيره وأبطاله بالثاني تقول العرب نسخت الشمس الظل أي أبطلته ونسخت الرياح الآثار أي أبطلت أعلامها ونسخت الرسوم إذا بدلت ومنه مذهب التناسخ وهو تبديل جسم بجسم آخر بالروح الأولى. وأذا ثبت أن النسخ تبديل وتغير وأبطال في الشهادة تقرير لما كان ثابتا وضم شيء إلى شيء آخر نحو آية الزنا أثبتت الجلد مائة والسنة أثبتت التغريب معه وكذلك الظهار واليمين أوجبت الرقبة مطلقة والآية المقيدة بالإيمان أثبتت زيادة الأيمان علية فثبت أن الزيادة موجبة تقرير ما سبق بل الحكم وضم حكم آخر إليه فلم يكن نسخا بوجه ما. ويدل عليه أن الزيادة على النص لو كانت نسخا لكان القياس باطلا لأن القياس هو أخذ المعنى من الأصل الثابت بالنص والحاق غيره به ما لا يتناوله النص فلو كانت الزيادة على أصل النص نسخا سقط القياس أصلا لاثبات زيادة على النص وحين كان القياس دليلا شرعيا جائزا استعماله في أحكام الحوادث سقط ما قالوه هذا هو ما قاله الأصوليون من الأصحاب وغيرهم ونحن نقرر الكلام على وجه لا تبقى معه شبهة الخصم وينزاح الأشكال فنقول أن الزيادة لو كانت نسخا لكانت نسخا من حيث أنها تضمن تغير الحكم الثابت من قبل ولا تغير بلا نسخ والدليل على أنه لم يوجد تغيير للحكم الثابت من قبل أن قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] لا يتضمن إلا إيجاب جلد المائة فحسب وإيجاب التغريب لا يغير حكم الجلد لأن حكم الجلد وجوب إقامته والتغريب لا يزيل وجوب اقامة المائة إنما يزيل نفي وجوب ما زاد عن المائة والآية لم تتعرض لما زاد على المائة لا بنفي ولا إيجاب نعم لو لم يرد وجوب التغريب كنا نقول أن الجلد كمال الحد لا تقتضيه الآية لكن لعدم قيام الدليل على وجوب شيء آخر مع الجلد ثم إذا لم يقم دليل على وجوب شيء آخر حكمنا أن الجلد كمال الحد ضرورة لا من حيث أن نص الكتاب دل عليه يدل عليه أن نفى وجوب ما زاد على المائة لم يكن معلوما بدليل شرعي حتى تسمي إزالته نسخا وإنما قلنا لم يكن بدليل شرعي لما بينا أن إيجاب المائة لم يتعرض لما زاد عليها بنفي ولا إثبات فإن انتفى إنما ينتفي الدليل العقلي لأن الفعل يقتضي أنتفاء وجوبه ولم ينقلها عن الدليل العقلي دليل شرعي وإذا كان حكما عقليا جاز قبول خبر الواحد والقياس في النقل عنه كما يجوز في كل حكم عملي يجب بخبر الواحد والقياس والعقل ينفي وجوبه والأول الذي ذكرناه أقرب إلى طريقة الفقهاء وهو في نهاية الوضوح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 ونقول في تقيد الرقبة بالإيمان هو تخصيص لأن الرقبة عامة في كل ما يسمى رقبة فإذا أخرجنا عتق الكافرة من الخطاب كان تخصيصا محضا وإذا عرف وجه الكلام في هاتين الصورتين ظهر في سائر الصور ولم يثبت النسخ الذي ادعوه في صورة ما وإنما نهاية ما في الباب أن يكون ضم حكمه إلى حكم في بعض المواضع مثل التغريب مع الجلد وزيادة العشرين على الثمانين في حد القذف لو قدر1 ورود الشرع بها وكذلك إيجاب النية في الوضوء وإيجاب الترتيب وأثبات الحجة بالشاهد واليمين وكذلك إيجاب قراءة الفاتحة والأولى أن يقال أن خبر الفاتحة بيان لقوله تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20] أو يكون تخصيصا للعموم مثل تقييد الرقبة بوصف الإيمان في كفارة الظهار وكفارة اليمين ويمكن دعوى التخصيص أيضا بإثبات النية والترتيب فإن ظاهر الآية يقتضي جواز الوضوء بالنية وغير النية فيكون إفساده بعدم النية بدليل يقوم عليه تخصيصا وأما الترتيب فعندنا أن ظاهر الكتاب دل عليه على ما بينا في الخلافيات الفروع أما الجواب عن كلامهم قولهم أن الجلد كان قبل التغريب كمال الحد وقد صار بعض الحد قلنا نقول أولا أن قولنا أن الجلد جميع الحد الواجب معناه أنه لا يلزم أن يضم إليه غيره وقولهم قد صار بعض الحد الواجب معناه أنه وجب أن يضم إليه غيره قولهم أن هذه الزيادة نسخ لأنها صيرت الجلد بعض الحد الواجب معناه أن هذه الزيادة إنما كانت نسخا لأنها زيادة ومعنى العبارتين واحد وهذا باطل لأنه تعليل الشيء بنفسه ونقول أيضا أن الكل والبعض من قضايا العقول دون الشرع فلم يفد النسخ وهم يقولون على هذا نعم أن الكل والبعض يعرفان بالعقل لكن كون الشيء كل الحكم الشرعي أو بعضه إنما يعلم بالشرع وطريق الجواب تحقيقا ما سبق من قولنا أن إيجاب التغريب وإيجاب وصف المؤمنة ليس يتضمن تغيير قضية الآية بوجه لما لأنه ليس من قضية الآية الإيجاب جلد المائة فحسب فأما كونه كل الحد أو بعض الحد فليس يعرف بالآية بحال وإنما يعرف بدليل آخر على ما سبق بيانه كذلك الجواب عن كلامهم الثاني وكلامهم الثالث من قولهم أن رد الشهادة تعلق بالجلد لا نسلم وإنما هذا شيء قالوه على أصولهم وعلى أن إثبات النسخ بمثل هذا لا يمكن ألا ترى أن فرائض الصلاة إذا كانت خمسا وقف جواز الشهادة على أدائها ولو زيد في الخمس صلاة سادسة وقف قبول الشهادة على قبول السادسة وفعلها وهذا لا يوجب نسخا في أمر الشهادة ومن.   1 في الأصل "قد" والصحيح ما أثبتناه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 قال أن إيجاب صلاة سادسة نسخ للصلاة الخمس يلزمه أن يقول: أن الفرائض الشرعية كلها أوجبت فيها شيء يتضمن نسخ ما سبق وهذا لا يقوله أحد وأما إذا صرح الخطاب يكون الجلد كمال الحد فنقول أنه إذا وقع التصريح بذلك يكون أجزاء الجلد وحده حكما شرعيا فكانت إزالته نسخا وأما إذا لم يصرح بذلك بل أوجب الجلد مطلقا فإيجاب الجلد مطلقا لا يتعرض للتغريب بنفي ولا إثبات وإنما يعلم نفيه على ما ذكرنا وهو أن الأصل أن لا وجوب وإزالة حكم الأصل لا يكون نسخا وأما تعلقهم بزيادة ركعة على ركعتين أو زيادة ركعتين على الأربع فقد منع ذلك أصحابنا وزعموا أن ذلك لا يكون نسخا مثل مسألتنا وأن سلمنا فالفرق ظاهر وهو أن زيادة الركعة قد يتضمن تغير حكم الآية بوجه ما لأنه آخر الصلاة على ما ذكروا وأما هاهنا فإن إيجاب التغريب لا يتضمن تغيير حكم الآية بوجه ما لأن أجزاء الجلد باق من الحد مع إيجاب التغريب ولو قدرنا أنه وجب الجلد والتغريب إجماعا ثم جلد من غير تغريب وقع مجزيا عن الحد وإنما لا يكون حدا كاملا وقد بينا أن الآية لا تدل على الكمال ولا على النقصان ولا على البعض ولا على الكل وأيضا فإن زيادة الركعة على الركعتين أو الركعتين على الأربع يوجب نسخ وجوب الجلوس عقب الركعة الثانية وهم يقولون على هذا الجلوس الواجب موضعه آخر الصلاة وهذا إنما يتغير لو تغير آخر الصلاة ونحن نقول قد تغير آخر الصلاة والأولى ما سبق من قبل وأما طريقة أبي زيد فنقول من عرف ما ذكرناه سهل عليه الجواب عن طريقته لأن معتمد أن التغريب إذا أوجب لم يكن الجلد حدا بنفسه وقد بينا أن الآية لا تدل على كونه حدا فحسب فأما قوله بنفسه فليس معناه إلا أنه يقتضي الاتيان يكون حدا كاملا أو مجزيا وحدة وقد أجبنا عن هذا وقلنا أن الآية لا تدل على شيء من هذا والذي قال أن العقوبة والعبادة والكفارة لا تتجزأ وجوبا وفعلا قلنا كون الجلد مجزيا عن الحد ليس بمتعلق بكونه حدا كاملا بنفسه بلا جزاؤه يتناول الإيجاب إياه والشرع قد أوجب الجلد فإذا فعل بنية امتثال أمره لا بد أن يقع مجزيا وهذا كنفس المائة فانه لو ضرب الجلاد خمسين وترك فانه يكون المفعول من الواجب عليه ويكون حدا إلا أنه لا يكون حدا كاملا بل يكون بعضه وأن قالوا: لا يكون حدا أصلا حتى يكمله مائة فهذا محال بل مباشرة بعض الواجب وترك البعض متصور معقولا فلا يكون ترك مباشرة البعض من الواجب كاملا فيما باشره ونضير حقوق العباد واستيفاؤها قالوا: هذا في حقوق العباد مسلم فأما في حقوق الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 فلا لأنها لا تتجزأ ثبوتا وأداء بل يصير ما كان مع الزيادة شيئا واحدا فإن كان هذا في الأحكام يصير حكما واحدا وأن كان في العلل يصير علة واحدة وإذا صار شيئا واحدا والاسم تعلق به وبما زيد عليه ذهب فيما دونه. قالو ولهذا قلنا إذا وجد من الماء ما لا يكفيه لوضوئه سقط استعماله ويباح له التيمم لأن الماء لم يجب استعماله لنفسه بل لحكمه وهو إباحة الصلاة والأباحه حكم علق بما يكفي الأعضاء كلها فلا يكون لبعضه حكم ذلك القدر بحال وهذا كنكاح الأربع علة لتحريم النكاح عليهن فلا يكون للواحدة من الأربع حفظ في التحريم وكذلك البيع علة في إيجاب الملك فلا يكون لأحد شطريه أثر في الإيجاب. قيل في الجواب عنه أن هذا شيء بقوله على أصله ونحن قد رجعنا إلى دليل عقلي قطعي في الباب وهو أن من أمر بحمل شيء فإذا باشر المأمور بعضة بنية امتثال أمره يكون فاعلا لما أمره ويقع موقعة إلا أن يكون بعضه مرتبطا ببعض ينعقد تحريمه شرعية مثل الصلاة والحج وما أشبه ذلك فأما ما كانت مباشرته من الحسيات من إقامة جلد بعدد معلوم فهو مثل ما إذا قال بعدد معلوم وسواء كان حق الله تعالى أو حق العباد فانه لو وجب عليه خمسة دراهم زكاة وهي أقل ما يجب فأدى بعضها وحبس الباقي يكون مؤديا بذلك القدر الذي أداه ما عليه لا يذهب الأجزاء عن المؤدي بتركه إذا ما بقي عليه. والحرف أن عندنا بعض الحد حدا وبعض الوضوء وضوء وبعض الشيء أداء ولا فرق بين حقوق الله تعالى وحقوق الآدمي في ذلك والتعلق بما ذكرناه من الدليل. وأما إيجاب صفة الإيمان في الرقبة الواجبة في الظهار واليمين فليس بنسخ بل هو تخصيص وقد سبق بيان هذا وقولهم أنا إذا قيدنا الرقبة بصفة الإيمان يكون جواز الكفارة بصفة الإيمان لا بكونه رقبة قلنا وأن كان الجواز ثابتا بصفة الإيمان للرقبة لكن الرقبة المطلقة تتناول بإطلاقها المؤمنة والكافرة جميعا لأن الكل رقبة وهي وأن كانت نكرة من الإثبات لكن تتناول كل رقبة على البدل على معنى أن ما من رقبة إلا ويجوز أن تكون هي المراد من رقبة غيرها كقولك رأيت رجلا في الدار فانه ما من رجل إلا ويجوز أن يكون هو الذي رآه فثبت بما ذكرنا أن التقييد بصفة الإيمان هو إخراج الكافرة من مطلق الآية فيكون تخصيصا ولا يكون زيادة وعلى أنه وأن كان زيادة فلا يكون نسخا لأن الرقبة وجبت بالآية وصفة الإيمان وجبت في الرقبة بدليل القياس وكان ضم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 واجب إلى واجب وهو تقرير ما سبق من إيجاب اعتقاق الرقبة وزيادة واحب علية وبإيجاب إعتاق الرقبة المؤمنة لا يخرج من أن يكون إعتاق الرقبة واجبا عليه لأن فى إيجاب إعتاق الرقبة المؤمنة إيجاب إعتاق الرقبة وإيجاب اعتبار صفة الإيمان في الرقبة واعتبار هذا لا ينفي إيجاب الرقبة فثبت أن لا تغيير والأول من ادعى التخصيص أحسن وأحرى ونظير ما ذكرنا من أدعى التخصيص قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] فإن النص وجد على المشرك ثم قد ضم صفة الذكورة إلى صفة الشرك ولم يكن زيادة بل كان تخصيصا كذلك هاهنا وأما قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} فليس في جعل اليمين والشاهد حجة دليل على النسخ في هذه الآية لأن الآية ما تعرضت لما سوى المذكور بنفي ولا إثبات وهذا لأن التخيير بين الشيئين لا يتعرض لما عداهما بتحريم ولا إيجاب فانتفاء الغالب ليس بحكم الآية بل بحكم أن الأصل فيه الانتقاء والنقل من الأصل لا يكون نسخا والعجب أنهم لا يجعلون إيجاب الوضوء بالتقييد نسخا لآية الوضوء ثم هاهنا جعلوا إيجاب القضاء بالشاهد واليمين نسخا ولئن لزم أحدهما لزم الآخر وأما قوله تعالى: {وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} [البقرة: 282] فقد أجبنا عنه في الخلافيات وقد زعم بعض أصحابنا أن الزيادة على النص نسخ وادعاه مذهب الشافعي واحتج بأنه علية السلام قال: "الماء من الماء" 1 ثم صار منسوخا بقول عليه السلام: " إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل" 2 وإنما صار نسخا بالزيادة على الأصل وهذا من قائله غلط لأن قوله عليه السلام الماء من الماء إنما دل من حيث الخطاب أن الماء إذا لم يوجد لا يجب الغسل فقوله إذا التقى الخناتان فقد وجب الغسل هو نسخ دليل النص بنص وليس النسخ من حيث الزيادة.   1 أخرجه مسلم الحيض 1/269 ح 80/343 بلفظ "إنما الماء من الماء" وأبو داود الطهارة 1/55 ح 217 والنسائي الطهارة 1/96 باب الذي يحتلم ولا يرى الماء وابن ماجه الطهارة 1/199 ح 607 وأحمد المسند 3/36 ح 11249. 2 أخرجه ابن ماجه الطهارة 1/199 ح 608 وأحمد المسند 6/266 ح 26079. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 فصل: الزيادة على النص لا تكون ناسخا ... فصل وإذا ثبت أن الزيادة على النص لا تكون نسخا فالنقصان من النسخ لا يكون نسخا أيضا. وذهب بعض المتكلمين إلى أن النقصان من العبادة نسخ الباقي وقال بعضهم إذا كان نسخا منفصلا عن الجملة لم يكن ذلك نسخا للجملة وأن كان نسخ بعض الجملة كالقيام والركوع والسجود في الصلاة يكون نسخا للعبادة1 ودللنا على ما ذكرناه في المسألة الأولى وهو أن الباقي من الجملة على ما كان عليه لم يزل فلم يجز أن يحكم بنسخه كما لو أمر بصوم وصلاة ثم نسخ أحدهما لا يكون نسخا للثاني والكلام في هذه المسألة من الجانبين يقرب من الكلام في المسألة الأولى وصورة المسألة فيما لو قدرنا نسخ الوضوء ونسخ استقبال القبلة وفي هذا الموضع وأمثاله يكون الكلام ظاهرا في أنه لا يكون نسخا للصلاة فأما إذا قدرنا إسقاط ركوع أو سجود أو قيام فينبغي أن يكون هذا على ما ذكرناه فيما إذا زيدت ركعة على ركعتين أو ركعتان على أربع الظهر وقد بينا فيما سبق.   1 انظر نهاية السول 2/609, 610 جمع الجوامع 2/93 حاشية الشيخ محمد بخيت المطيعي 2/611. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 فصل: ما يجوز به النسخ وما لا يجوز ... فصل وقد ذكرنا من قبل وجوه ما يقع بها النسخ وقد بقيت منها بقية فيما يجوز به النسخ وما لا يجوز نذكره في هذا الموضع لا خلاف بين العلماء أن نسخ القرآن بالقرآن جائز2 كما نسخ بالقرآن صدقة المناجاة الواجبة بالقرآن وكما نسخ العشرون بمصابرة الاثنين في الجهاد ونسخ الاعتدال بالحول بالاعتداد أربعة أشهر وعشرا ولأن جميع القرآن موجب للعمل والعلم فساوى بعضه بعضا فجاز أن ينسخ بعضه بعضا وكذلك نسخ السنة المتواترة بالسنة المتواترة3 لقوة الناسخ وضعف المنسوخ ولا يجوز نسخ المتواتر.   2 إلا أن أبا مسلم الأصفهاني منعه انظر نهاية السول 2/579 إحكام الأحكام للآمدي 3/208 المحصول 538 جمع الجوامع 2/78 المستصفى 1231 تيسير التحرير 3/200 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/43. 3 انظر نهاية السول 2/579 إحكام الأحكام للآمدي 3/208 المحصول 1/550 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/57. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 بالآحاد1 لضعف الناسخ وقوة المنسوخ وقد ذكرنا طرفا من هذا فأما نسخ القرآن بالسنة فإن كانت السنة أخبار آحاد لم يجز النسخ بها اتفاقا2 أما إذا كانت السنة ثبوتها بطريق التواتر فقد اختلف العلماء في ذلك على ما سنبين. مسألة: نص الشافعي رحمة الله عليه في عامة كتبه أنه لا يجوز نسخ القرآن بالسنة بحال وأن كانت السنة متواترة ثم اختلف الوجه على مذهب الشافعي أنه يمنع منه العقل أو الشرع فالظاهر من مذهبه أنه يمنع منه العقل والشرع جميعا والوجه الثاني أنه منع منها الشرع دون العقل ثم اختلف من قال بهذا فقال ابن شريح أن الذي يمنع منه أن الشرع لم يرد به ولو ورد به كان جائزا وهذا أصح وقال أبو حامد الإسفرائيني الشرع منع منه ولم يكن مجوزا فيه وأما مذهب أصحاب أبي حنيفة أنه يجوز نسخ القرآن بالسنة وهو قول عامة المتكلمين وقيل أنه اختيار ابن شريح3 واحتج من جوز بالعقل أنه لو لم يجز لكان لنا أن لا نجوز في القدرة أو في الحكمة والأول لا يجوز لأنه معلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقدر على أنواع الكلام ولو أتى بكلام موضوع لدفع حكم من أحكام الكتاب صح ذلك ودل على ما هو موضوع له والثاني لا يجوز أيضا لأنه لو امتنع في الحكمة لكان وجه امتناعه أن يكون مسفرا عن النبي صلى الله عليه وسلم وموهما أنه صلى الله عليه وسلم يأتي بالكلام من قبل نفسه وهذا لو نفر عنه من حيث أن أزال حكما.   1 إحكام الأحكام للآمدي 3/209 المحصول 1/550 نهاية السول 2/586 حاشية الشيخ محمد بخيت المطيعي 2/586 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/61. 2 اعلم أن الكاتبون في هذه المسألة مختلفون في محل النزاع فيهما فجمهورهم كالإمام الرازي وصاحب الحاصل التحصيل والآمدي ذهبوا إلى أن محل النزاع هوالجواز السمعي أي الوقوع وأما الجواز العقل مقدور عليه بمعنى أن الكل متفق على أنه يجوز عقلا نسخ المتواتر بالآحاد وقليل من الكاتبين كابن الحاجب والبيضاوي والكمال بن الهمام ذهبوا إلى أن الخلاف جاد في الجواز العقلي كما هو جاد في الوقوع بمعنى أن من العلماء من يقول: إن نسخ المتواتر بالآحاد غير جائز عقلا ومنهم من يقول بجوازه عقلا. والقائلون بالجواز في الوقوع فمنهم من قال وقع نسخ المتواتر بالآحاد ومنهم من قال بعدم الوقوع انظر نهاية السول 2/586 إحكام الأحكام للآمدي 3/209 حاشية الشيخ محمد بخيت المطيعي 2/586, 587 جمع الجوامع 2/18 المحصول 1/550 تيسير التحرير 3/203 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/61, 62. 3 نهاية السول 2/580, 581 إحكام الأحكام 3/217 المحصول 1/555 جمع الجوامع 2/78 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/57, 58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 شرعيا وأوهم أنه أوحى إليه بإزالته وهذا قائم في نسخ القرآن بالقرآن ونسخ السنة بالسنة فإن قلتم أن القرآن معجز فاتصل به دليل يدل أنه جاء من الله تعالى فهذا لا يسقط هذا الدليل أن نسخ القرآن بالقرآن جائز وأن كان النسخ بما لا يظهر فيه صفة الإعجاز ثم النسخ هو رفع الحكم وإزالته وذلك موقوف على أن يدل دليل على رفعه وليس من شرط الدليل أن يكون معجزا ألا ترى أن السنة تنسخ بالسنة وأن لم يكن فيها دليل على الإعجاز يدل عليه أن الحكم إذا كان قابلا للنسخ والدليل محتملا لأن يقع به النسخ لم يكن لمنع الجواز معنى الدليل على أن الحكم الثابت بالقرآن يحتمل النسخ بالسنة أنه لا دليل في أن يكون نسخه بالكتاب فحسب لأن السنة كافية في النسخ بها وليس في أنه يجب أن يكون النسخ بالكتاب دليل يدل عليه قالوا: ولأن النسخ إسقاط الحكم في بعض الأوقات التي يتناولها العموم فأشبه التخصيص فإن إسقاط الحكم في بعض الأشخاص الذين يتناولهم العموم ثم تخصيص الكتاب يجوز بالسنة فكذا النسخ واحتج أبو زيد في هذه المسألة فقال النسخ بيان انتهاء مدة الحكم قال وكتاب الله حجة وسنة النبي صلى الله عليه وسلم حجة يجوز أن يبين بالكتاب مدة بقاء الحكم الثابت بالكتاب فكذلك يجوز أيضا أن يتولى النبي صلى الله عليه وسلم بيان مدة بقاء الحكم الثابت بالكتاب وقال فإن قال قائل هذا يوهم الاختلاف فهذا غلط لأنه أن كان هذا يوهم الاختلاف فنسخ القرآن بالقرآن يوهم الاختلاف بل هذا يدل على قرب المنزلة حيث جوز له نسخ ما ثبت بالكتاب بلسانه من غير إضافة إلى الله عز وجل وهذا القرب وهذه المنزلة غير مستنكر ولا مستبعد قال والذي يوضح هذا أنه جائز نسخ التلاوة دون الحكم بغير كتاب ونسخ التلاوة يمحو الحفظ من القلوب أما رفعا وأما بانقراض الذين علموه من غير خلف وإذا جاز بهذا الطريق جاز بلسان رسول الله صلى الله عليه وسلم بوحي الله تعالى إليه فإنهما سواء في أن النسخ كان بغير كتاب دليل آخر لهم من حيث الشرع قالوا: يدل على أن نسخ القرآن بالسنة قد وقع والدليل على ذلك أنه كان الوجب على الزائد الحبس في البيوت بقوله: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ} [النساء: 15] ثم قد وقع نسخ ذلك بخبر الرجم قالوا: وقال الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة: 180] ثم نسخ ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا وصية لوارث" وقال الله تعالى: {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 11] وهذا الحكم منسوخ اليوم بالإجماع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 ولم يعرف نسخه بالكتاب فقد نسخ بغير الكتاب وقال الله تعالى: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 191] وقد نسخ ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "اقتلوا ابن خطل وأن كان متعلقا بأستار الكعبة" 1 وقال الله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} [الأنعام: 145] وقد ينسخ هذا بما روى النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير2 وأما دليلنا قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] والسنة لا تكون مثل القرآن ولا خيرا منه فوجب أن لا يجوز النسخ بها وأيضا فإنه تعالى قال: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] فهذا يدل على أنه هو المتفرد بالإتيان بخير من الآية وذلك لا يكون إلا [نسخا] 3 والناسخ قرآن وأيضا فإنه تعالى قال: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} [البقرة: 106] وقوله: {مِنْهَا} يفيد أنه يأت من جنسه وجنس القرآن قرآن والاستدلال بالآية معتمد يدل عليه أنه تعالى ساق الآية إلى قوله: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وهذا يدل أن غيره يعجز عنه فإن قيل المراد من الآية نأت بخير منها أو مثلها في الثواب وقد يكون في السنة ما هو خير من المنسوخ في الثواب وربما يعبرون عن هذا فيقولون معنى الآية نأت بخير منها أو مثلها في النفع وأما قولكم أنه قال نأت فقد أضاف الإتيان بالناسخ إلى نفسه قلنا إذا دل الدليل على نسخ القرآن بالسنة فالذي أتى بذلك هو الله عز وجل ألا ترى أن الله هو الناسخ على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم كما أنه هو المثبت لسائر الشرائع على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم قالوا: وعلى هذا سقط تعلقكم بقوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أن الله تعالى إذا كان هو الناسخ في الحقيقة على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم فالقدرة في ذلك له دون غيره وأما قولهم أن قوله: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} [البقرة: 106] يقتضي أن يكون ما يأتي من جنسه قال هذا لا يفيد ما قلتم فإن الإنسان إذا قال ما أخذت منك من ثوب آتيك بما هو خير منه احتمل أن يأتيك بثوب ويحتمل أن يأتيك بشيء آخر وإذا أتاه بشيء آخر هو أنفع منه سواء كان ثوبا أو غيره.   1 أخرجه البخاري الجهاد 6/191 ح 3044 ومسلم الحج 2/989 ح 450/1357 بلفظ "جاء رجل فقال: إن ابن خطل متعلق بأستار الكعبة فقال: اقتلوه". 2 أخرجه مسلم الصيد 3/1534 وأبو داود الأطعمة 3/354 ح 3803 والنسائي الصيد 7/182 باب إباحة أكل لحوم الدجاج وابن ماجه الصيد 2/1077 ح 3234 وأحمد المسند 1/321 ح 3196. 3 بياض في الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 فقد صدق في قوله ووعده. ثم ذكروا سؤالا آخر حكوه عن أبي هاشم ثم المتكلم وهو أن قوله: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] ليس فيه أنه يأتي بخير منها ناسخا بل لا يمتنع أن يكون الذي يأتي به مما هو خير منها أنه في حكم آخر بعد نسخ الآية ويكون الناسخ غير الآية الجواب أن الاستدلال بالآية قائم ونقول على سؤالهم الأول أن قوله: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} يقتضي أن الذي يأتي به خير من الآية المنسوخة على الإطلاق وهذا لا يوحي الله تعالى إليه ما يوجد إلا في نسخ القرآن بالقرآن فأما في نسخ القرآن بالسنة لا يوجد لأنه لا تكون السنة خيرا من القرآن على الإطلاق بحال بل يجوز أن يكون خيرا في الثواب أو أنفع منه وهذا لا يقتضي أن يكون خيرا على الإطلاق بل الخير على الإطلاق أن يكون خيرا من كل وجه فإن قيل إذا دخلتم في أمثال هذا فلا يتصور أن يأتي بخير من الأول بحال وأن نسخ القرآن بالقرآن لأن القرآن لا تكون بعض آياته خيرا من البعض قلنا يجوز أن يكون في الثواب أو في إظهار الإعجاز أمثل بتوقي الإخلاص والإخلاص أكثر في الثواب من غيره وقوله تعالى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي} [هود: 44] أبلغ في الإعجاز من غيره فإذا نسخ القرآن بالقرآن يجوز أن يظهر الخيرية المطلقة فأما إذا نسخ القرآن بالسنة فلا يظهر الخيرية المطلقة لأنه أن كان خيرا في الثواب فالقرآن خير منه في نفسه في الإعجاز فإنه كلام الله عز وجل وإنه ينال الثواب بقراءته إلى غير ذلك قال الخطابي أن الشيء إذا أطلق أنه خير من الشيء فلا يجوز أن يكون دونه على وجه من الوجوه أما قولهم إنا إذا نسخنا القرآن بالسنة فيكون الذي يأتي بالناسخ هو الله عز وجل أيضا قلنا لا ننكر هذا لكن الحكم المضاف إلى الله تعالى في حق الظاهر والإطلاق هو ما أوجبه في كتابه وافترضه نصا فيه وأما الذي ثبت بالسنة فهو وأن كان صدوره عمن لا ينطق عن الهوى لكن على إطلاقه يضاف إلى الرسول وإلى سنته هذا كما أن الوحي يختلف فمنه ما يكون رؤيا ومنه ما يكون إلهاما ونفثا في الروح ووحي الكتاب مخالف لكل هذا إذ هو الأعلى والمتقدم على سائر أنواعه كذلك ها هنا يكون الحكم الثابت بالكتاب ثابت على وجوه ما يثبت به أما قولهم على قولنا أن قوله: {بِخَيْرٍ مِنْهَا} يقتضي أن يكون من جنسه أنه يجوز أن يكون من جنسه ويجوز أن يكون من غير جنسه والاستشهاد الذي قالوه قلنا لا بل يفيد أن يكون الذي يأتي به من جنس الأول وهذا الذي يفهم عند إطلاق ذلك اللفظ فأما قول القائل ما أخذت منك من ثوب آتيك بما هو خير منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 إنما يفيد ما ذكرتم لأنه ذكر لفظ ما وهذا اللفظ يقع على الثواب وعلى غيره وليس كذلك الآية لأن الله تعالى لم يقل بما هو خير منها وإنما قال: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} [البقرة: 106] فنظير قول القائل ما أخذ منك من ثوبا آتيك بخير منه وهو مفيد ثوبا خير من الثواب الأول وأما الذي نسبوه إلى أبي هاشم من السؤال فليس بشيء لأنه خلاف قول المفسرين بل خلاف قول جميع الأمة وقد قال كل من تكلم في هذه الآية من العلماء أن الآية التي تأتي ها هنا هي الناسخة والأخرى هي المنسوخة وهذا السؤال من أبي هاشم سؤال جدلي لا يجوز أن يعترض به على إجماع المفسرين ونقول أيضا على قولهم أن ما يثبت بالسنة قد يكون أنفع وأفضل في الثواب قلنا هذا محال لأن الثابت بالسنة أن كان أنفع عملا فيبقى أن الكتاب أنفع لاستحقاقه الثواب بتلاوته وهذا لا يوجد في السنة والاعتماد في المسألة على هذه الآية وقد تأيد الاستدلال بهذه الآية بقوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [يونس: 15] فأخبر أن تبديل القرآن ونسخه يكون من عند الله عز وجل لا من عند نفسه وسؤالهم على هذا بما قالوا: أنه وأن كان من عند الرسول صلى الله عليه وسلم بصورة ولكنه من عند الله حقيقة وقد أجبنا عن هذا وهذا لأنه إنما يضاف إلى الله عز وجل ما اختص به ويضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما اختص به ولو كانا مضافين إلى الله عز وجل لم يجز إضافة أحدهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم. واعلم أن المسألة مشكلة جدا وقد ذهب كثير من أصحابنا إلى اختيار مذهبهم في المسألة والذي يمكن الاعتماد عليه هو ما ذكرنا ولا ينبغي أن يستدل في هذه المسألة من حيث المعنى لأن نهاية ما قالوه هو أن الكتاب أفضل من السنة فلا يجوز نسخ الشيء بما هو دونه في المرتبة كما أنه لا يجوز نسخ المتواتر بخبر الواحد والكلام على هذا يسهل فإنهم يقولون كل واحد من الكتاب والخبر المتواتر دليل مقطوع به والجواز عقلا موجود فلا سبيل إلى امتناعه ونحن نقول إنما لم يمتنع ذلك عقلا فعلى هذا سقط جميع ما ذكروه من حيث المعقول في الدليل على جوازه وبقي الدليل الشرعي الذي أقمناه في المنع منه وأما تعلقهم بالمواضع التي استدلوا بها في وجوب نسخ الكتاب بالسنة فهي دلائل ضعيفة وسنبين الكلام على واحد واحد من ذلك أما آية الإمساك في البيوت قلنا قد قالوا: أن الآية الواردة في الأذى والحبس في البيوت وآية الجلد كل ذلك في الأبكار دون المحصنين وفي ذلك نسخ الكتاب بالكتاب وأما الرجم الذي هو حد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 المحصنين ثبت بالسنة ابتداء وهذا جواب ابن شريح وهو حسن جدا فإن قالوا: لا بد على هذا من دليل قلنا لأن الرجم حد المحصن وليس في هذا الموضع ذكر الإحصان ولا ذكر ما يدل عليه الإحصان. جواب آخر أن سلمنا أن المحصنين والأبكار قد دخلوا في حكم الكتاب لكن بنسخ الحبس والأذى بآية الجلد ثم آية الجلد نسخه في المحصن بقوله الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة وقد كان ذلك قرآنا يتلى في زمان النسخ وأن رفعت تلاوته من بعد وكان ذلك نسخ الكتاب بالكتاب لا نسخ الكتاب بالسنة. ووجه ثالث وهو أن حكم الرجم مبني على قوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} إلى قوله: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} [النساء: 15] أن الله تعالى جعل السبيل غاية ينتهي إليها حكم الحبس فقد تضمنت الآية أن حكم الحبس إلى أن يجعل الله لهن سبيلا وكان السبيل الذي وقع إليه الإشارة في الكتاب هو الرجم الثابت بالسنة وكأن الله تعالى قال وأمسكوهن في البيوت حتى يتبين فيهن سنة ثم قد ثبت ببينة الرجم فانقضى زمان حكم الحبس مثل ما ينقضي زمان الصوم بدخول الليل وليس هذا من النسخ في شيء إنما هو حكم مؤقت ثبت بالكتاب فحين وجد وقته ارتفع وأما نسخ الوصية للوالدين والإرث ثبت بآية المواريث وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا وصية لوارث" 1 بيان أن آية المواريث ناسخة لآية الوصية فإن الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث" والفاء تدل على تقدم المسبب كقولك قمت إلى فلان فضربته دل أن القيام سبب لضربه فيكون على هذا الخبر الوارد مثبتا للكتاب لا ناسخا له ونحن لا ننكر البيان بالسنة ولا نأباه وسائر ما قالوه من بعد إنما هي عمومات دخلها التخصيص وكذلك أن أوردوا قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها" 2 فهذا وأمثاله ليس بنسخ وإنما هو عموم خص ونحن نجوز تخصيص الكتاب بالسنة وإنما الكلام فى النسخ وقد منع الشرع من النسخ ولم يمنع من التخصيص وسنبين الفرق بين النسخ والتخصيص من بعد. ببينه: أن التخصيص جائز للكتاب بخبر الواحد وأجمعوا أن النسخ لا يجوز بخبر الواحد.   1 تقدم تخريجه. 2 تقدم تخريجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 وأما قولهم يجوز نسخ التلاوة ونسخ التلاوة يمحو حفظه عن القلوب إلى غير كتاب. قلنا نحن إنما منعنا بالشرع والشرع إنما منع نسخ الكتاب إذا أتى بشيء آخر أن ينسخه إلا أن يكون الذي يأتي به خير منه وهذا لا يوجد في الموضع الذي صوره وإنما يوجد في موضع الخلاف لأن نسخ الكتاب وإثبات السنة التي هي دونه والشرع قد رفع هذا وأباه نصا على ما سبق ذكره والله أعلم. مسألة فأما نسخ السنة بالقرآن. فمن جوز نسخ القرآن بالسنة فأولى أن يجوز نسخ السنة بالقرآن فأما إذا منعنا نسخ القرآن بالسنة فقد اختلف في هذه الصورة الثانية وذكر الشافعي رضوان الله عليه في كتاب الرسالة القديمة والجديدة ما يدل على أن نسخ السنة بالقرآن لا يجوز ولعله صرح بذلك ولوح فى موضع آخر بما يدل على جوازه فخرجه أكثر أصحابنا على قولين أحدهما لا يجوز وهو الأظهر من مذهبه. والآخر يجوز1 وهو الأولى بالحق. واستدل من تعلق بالقول الأول بقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] فلما جعل السنة مبينة للكتاب لم يحتج المبين إلى بيان أو يقال إذا كانت السنة مبينة للكتاب فلا يكون الكتاب مبينا للسنة لأن الشيء الواحد لا يكون مبينا ومبينا ولأنه نسخ للشيء بغير جنسه فلم يجز كما لا يجوز نسخ الكتاب بالسنة على ما بينا. واعلم أن الأولى والأصح أنه جائز والدليل على جوازه وجود ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم صالح المشركين عام الحديبية2 وكان مما شرط في الصلح أن جاء من المشركات مسلمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ردها إليهم ثم نسخها الله تعالى ونقض الصلح في ذلك على الخصوص بقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10] .   1 انظر نهاية السول 2/579 حاشية الشيخ محمد بخيت المطيعي 2/579 إحكام الأحكام للآمدي 3/212 جمع الجوامع 2/78 تيسير التحرير 3/202 المستصفى 1/124 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/60. 2 تقدم تخريجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم آخر الصلوات يوم الخندق حتى مضى هوى من الليل ثم صلاها على ترتيب ما فاتت1 ثم أن الله تعالى نسخ ذلك بقوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102] الآية وأيضا قال النبي صلى الله عليه وسلم كان متعبدا في الابتداء بالتوجه إلى بيت المقدس ولم يكن ثبوت ذلك بالكتاب لأنه ليس في القرآن دليل عليه ولم يكن ذلك أيضا لاتباعه شريعة من قبله لأنه لم يقم دليل على أنه يلزمنا اتباع شريعة من قبلنا فقد كان ذلك بمحض السنة ثم نسخ بالكتاب فثبت بما بينا وجود نسخ السنة بالكتاب وإذا وجد صار شرعا جائزا. وأما الدليل من حيث المعقول فلأنه لا مانع من جوازه لا من حيث القدرة ولا من حيث الحكمة وقد سبق بيان هذا في المسألة المتقدمة ولا يجوز أن يقال أن نسخ السنة بالكتاب يوجب التنفير عن الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه يوهم أنه لا يرضى بما سنه الرسول صلى الله عليه وسلم وقد لا يصح لأن النسخ يرفع الحكم بعد استقراره واستقراره يمنع من هذا التوهم لأنه لم يرض بما سنه لم يقر عليه أصلا وعلى أن ذلك لو نفر عنه لنفر عنه أيضا نسخ السنة بالسنة لأن الناسخة إنما صدرت عنه لأجل الوحي فجرى مجرى كلام ينزله الله تعالى ولأن الكتاب أقوى والسنة أضعف ويجوز نسخ الأضعف بالأقوى والمعتمد أنا إنما منعنا نسخ القرآن بالسنة للشرع منع من ذلك ولا يوجد مثل ذلك في هذا الجانب هو نسخ السنة الكتاب لأن نسخ السنة بالكتاب ونسخ الشيء بما هو خير منه ولا دليل في العقل يمنع منه فجاز النسخ إذا لم يكن منه مانع وأما تعلقهم بقوله تعالى وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم النحل 44 قلنا ليس في قوله لتبين للناس ما نزل إليهم دليل على أن لا يتكلم إلا بالبيان كما أنك إذا قلت: دخلت الدار لأسلم على زيد ليس فيه أنك لا تفعل فعلا آخر على أنه ليس في كون كلامه بينا للكتاب ما يمنع من نسخه للكتاب إذا قام الدليل عليه كما لا يمنع ذلك من نسخ قوله بقوله وكما لا يمنع أن ينسخ الكتاب بالكتاب وأن كان بعضه يكون بيانا لبعض وأما قولهم أنه ينبغي أن يكون نسخ الشيء بجنسه دعوى لا دليل عليه فسقط والله أعلم.   1 أخرجه البخاري المغازي 7/468 ح 4112 ومسلم المساجد 1/438 ح 209/631. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 مسألة: وقوله اشتبه الفرق تحقيقا بين النسخ والتخصيص على كثير من الفقهاء لا بد من معرفة الفرق بينهما وهما متقاربان لأنهما يجتمعان من وجه ويفترقان من وجه فلتقاربهما اجتمعا في بعض الأحكام ولاختلافهما افترقا في بعض الأحكام والنسخ يختص بالأزمان والتخصيص يختص بالأعيان ويرفع النسخ بعض الأزمان ويرفع التخصيص بعض الأعيان وهذا الرفع في التحقيق متوجه إلى أحكام الأفعال في الأزمان والأعيان وإنما يرسل القول رفع الأزمان والأعيان على وجه المجاز لأن وجود الأعيان والأزمان في الحالين على سواء وإنما تتغير أحكام الأفعال فيهما ثم يجتمعان وأن كل واحد منهما أعني النسخ والتخصيص بيان ما لم يرد باللفظ فالمخصوص من العموم غير مراد بالعموم والمراد بالنسخ غير مراد من الخطاب. ثم اعلم أن النسخ والتخصيص يفترقا من وجوه كثيرة. أما التفريق بينهما في الحد فقيل أن التخصيص بيان المراد باللفظ العام والنسخ رفع الحكم بعد ثبوته ثم قد ذكر الأصحاب وجوها من التفريق بينهما. أحدها: أن النسخ لا يكون إلا بمنفصل عن المنسوخ والتخصيص يصح ويكون بالمنفصل والمتصل. والثاني: أن نسخ المقطوع به لا يكون إلا بالمقطوع به وهو على قول الشافعي رحمه الله لا يكون إلا بجنسه فلا ينسخ الكتاب إلا بالكتاب ولا السنة إلا بالسنة على أحد القولين أما تخصيص العموم يجوز للشيء المقطوع به وأن كان العموم مقطوعا به وبغير جنسه. الثالث: أن النسخ لا يكون إلا قولا وخطابا والتخصيص يجوز بجميع أدلة الشرع والعقل. والفرق الرابع: قد يصح النسخ فيما علم بالدليل أنه مراد وأن لم يتناوله اللفظ والتخصيص لا يصح إلا فيما يتناوله باللفظ. والخامس: أن النسخ يختص بالأحكام ولا يصح في الأخبار والتخصيص يجوز فيهما. والسادس: أن النسخ رافع لجميع الحكم والتخصيص يثبت لبعض الحكم وكذلك يجوز أن يعود النسخ إلى الشيء الواحد ولم يجز أن يعود التخصيص إلا إلى عدد أقله اثنان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 والسابع: أن النسخ يختص بعموم الأزمان والتخصيص يختص بعموم الأعيان وبهذا المعنى فرق أصحابنا بين التخصيص والنسخ فقالوا: النسخ تبديل والتخصيص تقليل1. وهذه الوجوه كلها ذكرها الأصحاب في الفرق وشرح ذلك يعرف في مسائل متفرقة وقد مضى أكثر ذلك. مسألة: إذا نزل النسخ على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبت النسخ في حق النبي صلى الله عليه وسلم وفي حق الأمة. على قول بعض أصحابنا وقال بعضهم لا يثبت ذلك في حق الأمة2 حتى يتصل بهم وتعلق من قال بالوجه الثاني بقصة أهل قباء فإن أهل قباء لما بلغهم نسخ القبلة وقد صلوا بعض صلواتهم فاستداروا كما هم إلى القبلة ومعلوم أنهم كانوا قد فعلوا بعض الصلاة بعد النسخ قبل أن يتصل بهم الخبر ومع ذلك لم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة ولأن الله تبارك وتعالى لا يكلف إلا ما يكون في وسع العبد وإذا كلف العبد الشيء قبل أن يعلمه يكون قد كلف ما ليس في وسعه وهو باطل ولهذا المعنى لا يأثم بالتأخير إلى أن يعلم ولو كان الخطاب قد توجه عليه لكان يأثم وحين لم يأثم ثبت ما قلنا. وأما دليل الوجه الأول أن النسخ محض إسقاط فلا يعتبر فيه علم من سقط عنه كالطلاق والعتاق وهذا لأن دليل النسخ قد قام ولا دليل على اعتبار علم من يعمل النسخ في حقه فإذا لم يكن دليل ثبت النسخ على العموم وهذا لأن الخطاب بالشرعيات ثبت بإثبات الله تعالى فإذا كان الله تعالى رفعه فكيف يبقى ثابتا ولأن النسخ يكون بإباحة محظور والإباحة تكون من الله تعالى ويكون من قبل الله تعالى العبد ثم الإباحة من قبل العبد يثبت حكمها قبل علم العبد بالإباحة مثل أن نقول أبحث ثمرة بستاني لبنى فلان ولم يعلموا بإباحته لهم فتناوله واحد منهم قبل العلم لم يجب الضمان.   1 انظر نهاية السول 2/552, 553 إحكام الأحكام للآمدي 3/161 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/37. 2 اعلم أن الحنفية والحنابلة ذهبوا إلى أنه لا يثبت حكمه قبل التبليغ واختار هذا المذهب الآمدي وابن الحاجب وذهب بعض الشافعية إلى ثبوته قبل التبليغ انظر نهاية السول 2/612, 614 إحكام الأحكام للآمدي 2/240 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 بالإجماع فكذلك الإباحة من قبل الله تعالى جاز أن تثبت على هذا الوجه وأما حديث أهل قباء قلنا استقبال القبلة يسقط بأعذار كثيرة إلا ترى أنه يسقط في النوافل لعذر السفر فكذلك يجوز أن يسقط عنهم بعذر الجهل وأن كانوا توجه الخطاب عليهم وأما قولهم أنه يؤدي إلى تكليف العبد ما ليس في وسعه ثم يجوز أن لا يأثم والخطاب متوجه إلا ترى أنه لو نسي الخطاب أو نام عن المأمور لم يلحقه الإثم والخطاب متوجه في حقه ولعل هذه المسألة تأتي من بعد بأشرح وأبسط مما ذكرناه أن شاء الله انتهى باب الناسخ والمنسوخ والقول في ذلك ونذكر الإجماع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 القول في الإجماع وما يتصل بذلك مدخل ... القول في الإجماع وما يتصل بذلك. اعلم أن الإجماع هو اتفاق أهل العصر على حكم النازلة ويقال اتفاق علماء العصر على حكم الحادثة1 هذا الحد أحسن واختلفوا في معنى تسميته بالإجماع فقال قوم هو مأخوذ من اجتماع الأقوال عليه فصار بالاجتماع إجماعا وقال آخرون بل هو مأخوذ من الجمع الذي هو العزم من قولهم قد أجمع فلان على كذا إذا عزم عليه ومنه قوله تعالى: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} أي اعزموا عليه وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا صيام لمن لم يجمع الصيام من الليل" أي يعزم عليه وينويه وهذا المعنى باللغة والأول بالشرع أشبه وعلى المعنى الثاني يصح الإجماع من الواحد وعلى المعنى الأول لا يصح إلا من جماعة والإجماع إذا أطلق في اللغة قد يفهم منه العزم على الشيء والإجماع على الشيء من اثنين فصاعدا وأما في الشرع فإن الإجماع إذا أطلق لا يتناول إلا اجتماع الأمة على الحق ثم اعلم بعد هذا أن الإجماع ممكن وانعقاده متصور وقال قوم انعقاد الإجماع غير متصور وغير ممكن وهذا باطل لأنه لما كان الإجماع في الأخبار المستفيضة ممكنا وجب أن يكون الإجماع باعتقاد الأحكام ممكنا لأنه كما يوجد سبب يدعو إلى إجماعهم على الأخبار المستفيضة يوجد أيضا سبب يدعو إلى إجماعهم باعتقاد الأحكام يدل عليه أن من تبين بشرع فإنه لا يستجيز كتمانه إلا عن تقية في بعض المواضع فأما إذا لم يكن هناك تقية ولا خوف فإنه لا يستجيز كتمانه وإخفاءه وإذا ثبت هذا إذا اجتمعت الجماعة على اعتقاد أو حكم واستفاض ذلك فيما بينهم أو لم ينكر أحد منهم ذلك لو خلو اعتقد أحد منهم خلاف ذلك لأنكره أما صريحا أو تعريضا فصار.   1 الإحماع لغة: يطلق بإطلاقين: أحدهما: العزم على الشيء والتصميم عليه ومنه قوله تعالى: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ} أي اعزموا عليه وقوله عليه السلام " لا صيام لمن لم يجمع الصيام من الليل" أي يعزم. وثانيهما: الاتفاق يقال: أجمع القوم على كذا إذا اتفقوا عليه أما الإجماع عند الأصوليين فهو اتفاق أهل الحل والعقد من أمة محمد عليه السلام في عصر من العصور على أمر من الأمور تيسير التحرير 3/224 انظر نهاية السول 3/237 إحكام الأحكام للآمدي 1/280 والمحصول 2/3 جمع الجوامع 2/176 روضة الناظر 116 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/143. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 عدم الخلاف منهم دليلا على وجود الإجماع وسيأتي الكلام في هذا بأكثر من هذا الذي ذكرناه وإذا ثبت وجود الإجماع فأول مسألة تذكر من ذلك كونه حجة. مسألة: الإجماع حجة من حجج الشرع ودليل من دلائل الله تعالى على الأحكام وهو حجة مقطوع بها. وقال النظام ليس بحجة وقالت الإمامية ليس بحجة من حيث الإجماع لكن الحجة في أن الإمام داخل فيهم وقوله مقطوع على صحته وذهب بعض من دفع الإجماع إلى أنه لا يتصور وجود الإجماع. واعلم أن من يدفع الإجماع فإنه يسلك أحد مسالك ثلاثة: أحدها: أن يحيل وقوع الإجماع. والثاني: أن يحيل ثبوت الطريق إليه. والثالث: أن يقول: ليس في الشرع ولا في العقل دليل على أن الإجماع حجة1. أما الأول قالوا: أنه لا يمكن ضبط أقاويل العلماء على كثرتهم تباعد ديارهم ألا ترى أن أهل بغداد لا يعرفون أهل العلم بالمغرب فضلا أن يعرفوا أقاويلهم في الحوادث وكذلك من بالمشرق فدل أن معرفة قول الأمة بأجمعهم في الحوادث متعذرة لا سبيل إليها ثم قالوا: كيف يتصور اتفاق آرائهم في الحادثة مع تفاوت الفطن والقرايح وتباين المذاهب وتفنن المطالب وأخذ كل قوم صوبا من أساليب الظنون فيكون تصوير إجماعهم في الحكم المظنون بمثابة تصور إجماع العالمين في صبيحة يوم على قيام أو قعود أو أكل نوع من الطعام وأيضا لو تصور إجماعهم كيف يتصور النقل عنهم على التواتر والحكم في المسألة الواحدة ليس مما يتوفر الدواعي إلى نقله فنثبت أن تصور الإجماع بأنه متسلل وأيضا فإن الرجوع من كل واحد منهم موهوم ومع هذا الذي قلناه لا يتصور انعقاد الإجماع على وجه يؤمن معه الخطأ لأنه يستحيل أن يجوز على كل واحد من الأمة الخطأ ثم لا يجوز على جماعتهم كما يستحيل أن يكون كل واحد منهم مصيبا وجماعتهم غير مصيبين وأن يكون كل واحد منهم أسود وجماعتهم غير سود. وأما المسلك الثاني وهو أنه لا طريق إليه لأنه لو انعقد الإجماع لكان لا بد أن يكون.   1 انظر نهاية السول 3/245 المحصول 2/8 إحكام الأحكام للآمدي 1/286 المستصفى 1/173 المعتمد 2/4 روضة الطالبين 116 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/145. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 إجماعهم صادرا عن أصل فإن انعقد عن نص وجب نقله والاستغناء به وأن انعقد عن اجتهاد وأمارة مظنونة فلا يجوز ذلك لأنهم مع كثرتهم واختلاف هممهم لا يجوز أن يوجد إجماعهم عن الأمارات المظنونة يدل عليه أنكم جعلتم الإجماع حجة وإذا انعقد عن دلالة فتكون الدلالة هي الحجة لا الإجماع قالوا: ولا يجوز أن يقال ينعقد إجماعهم لا عن دلالة لأن الذين ينعقد بهم الإجماع ليسوا بآكد حالا وأعلى مرتبة من النبي صلى الله عليه وسلم ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول: ما يقوله إلا عن وحي فالأمة أولى أن يقولوا ما يقولونه إلا عن دليل ولأنه إذا جاز لهم أن يقولوا إلا عن دليل جاز لكل واحد منهم أن يقول أيضا بغير دليل لأنهم إنما يجتمعون على القول بأن يقول: كل واحد منهم ونحن نعلم قطعا أنه لا يجوز لكل واحد منهم أن يقول بغير دليل وإذا لم يجز لآحادهم لا يجوز لجماعتهم وإذا ثبت أنه لا بد من دليل فتكون الحجة هي الدليل لا الإجماع. وأما المسلك الثاني فيطالبون بإقامة الدليل قالوا: ولا دليل عليه لا من حيث العقل ولا من حيث السمع وقد تعلق بعضهم بالأمم السالفة وقالوا: لما لم يكن إجماعهم حجة فكذلك اتفاق هذه الأمة وتمسكوا بظواهر منها قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] ولم يذكر الإجماع ولو كان حجة لذكره ويدل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن قال بم تقضي قال بكتاب الله قال فإن لم تجد في كتاب الله تعالى قال بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فإن لم تجد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم" قال أجتهد رأيي1 ولم يذكر الإجماع ويدل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض" 2 وهذا يدل على جواز الضلالة على الأمة وإذا جازت الضلالة عليهم لم يكن إجماعهم حجة. وأما حجتنا فتتعلق أولا بالكتاب وهو قوله سبحانه وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] والوسط من كل شيء خياره وقيل الوسط من يرضى قوله وقيل هو العدل والمعاني متقاربة وقال الشاعر: هم وسط يرضى الأنام بحكمهم ... وإذا نزلت إحدى الليالي بمعظم وأيضا فإن الله تعالى قال: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] والشاهد أتم لمن.   1 أخرجه أبو داود الأقضية 3/302 ح 3592 والترمذي الأحكام 3/607 ح 1327 وأحمد المسند 5/280 ح 22122 انظر تلخيص الحبير 4/201 ح 5. 2 أخرجه البخاري العلم 1/262 ومسلم الإيمان 1/81 ح 118/65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 يكون قوله حجة فقد وصف الله تعالى الأمة بالعدالة والشهادة فدل أن قبول قولهم واجب لأنه لا يجوز أن يصفهم بالعدالة فيجعلهم شهداء على الناس ثم لا يقبل قولهم ولا يجعله حجة. ببينة: أن الحكيم لا يصف بخيرية قوما ليشهدوا وهو عالم بأنهم كلهم يقدمون على الكذب فيما يريدون فدل أنه تعالى علم أنهم لا يقدمون إلا على الحق حيث وصفهم بما وصفهم فإن قيل المراد بالآية هو شهادتهم في الآخرة على الأمم بأن الأنبياء بلغت إليهم الرسالة وهذا يقتضي أن يكونوا عدولا في الآخرة لا في الدنيا والجواب أن هذا لو كان هو المراد لقال نجعلكم أمة وسطا فلما قال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: 143] دل أن هذا الوصف متحقق فيهم في الحال وعلى أن الآية عامة في الدنيا والآخرة فإن قيل قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ} [البقرة: 143] أن كان المراد بهذا جميع من صدق النبي صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة فلا يتصور إحاطة علمنا بإجماع كل من صدق النبي صلى الله عليه وسلم وأن أريد بذلك من وجد في زمان نزول الآية فينبغي أن لا يكون الإجماع في موضع ما حجة حتى يعلم أن جميع من كان حاضرا حين نزلت الآية قال بذلك القول والجواب أن الله تبارك وتعالى لما وصفهم بالعدالة والشهادة فقد أوجب علينا قبول قولهم في ذلك فلا يجوز أن يقسم تقسيما يؤدي إلى سد باب الوصول إلى شهادتهم فيكون المراد بالآية أهل العصر الصحابة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم أو أهل كل عصر يأتي وقد تأيد هذا الاستدلال بقوله سبحانه وتعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110] فدل أنهم ينهون عن كل منكر لأن لام الجنس مستغرق الجنس فلو جاز إجماعهم على مذهب منكر لما كانوا ناهين بل كانوا آمرين بذلك وقد قيل أن معنى قوله كنتم صرتم ويحتمل وجدتم ويحتمل أنتم خير أمة ذلك معتمد قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء:115] فقد جمع بين مشاقة الرسول واتباع غير سبيل المؤمنين في الوعيد فلو كان اتباع غير سبيل المؤمنين مباحا لما جمع بينه وبين المحظور في الوعيد إلا ترى أنه لا يحسن أن يقول الحكيم لغيره أن تبت وشربت الماء عاقبتك وإذا قبح غير سبيل المؤمنين وجب تجنبه وليس يمكن تجنبه إلا باتباع سبيلهم لأنه لا واسطة بين اتباع سبيلهم واتباع غير سبيلهم وقد تبين بهذا الجواب عن السؤال الذي يقولونه وهو أن الله تعالى علق الوعيد بمخالفة الرسول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 وترك اتباع غير سبيل المؤمنين قد بينا أنه لا يصح الجمع بين شيئين في الوعيد إلا وأن يكون كل واحد منهما يستحق عليه الوعيد يدل عليه أنه لا خلاف أنه يستحق الوعيد بمشاقة الرسول على الانفراد فكذلك استحق الوعيد بترك متابعة سبيل المؤمنين على الانفراد فإن قيل المراد بترك متابعة سبيل المؤمنين في مشاقة الرسول قلنا فيكون لا فائدة في قوله ويتبع غير سبيل المؤمنين لأن استحقاق الوعيد عرف بقوله: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ} [النساء:115] فيجب أن يكون الوعيد بترك اتباع سبيل المؤمنين متعلقا بمعنى آخر غير ما سبق يفيد فائدة وأيضا فإن هذا السؤال يقتضي أن لا يكون مشاقة الرسول بانفراده معصية فإن قيل قد شرط الله عز وجل في لحوق الوعيد أن يكون اتباعه غير سبيل المؤمنين بعد أن تبين له الهدى والألف واللام لاستغراق الجنس فاقتضى استيعاب الهدى وكان معنى الآية من تبين جميع الهدى واتبع غير سبيل المؤمنين لحقه الوعيد فيدخل ما أجمعوا عليه في جملة الهدى فعلى هذا يجب أن يكون الهدى بدليل سوى قول الأمة تم إذا تبين يتبعون فيه كما أن الإنسان إذا قال لغيره إذا تبين لك صدق فلان فاتبعه اقتضى أن يكون تبين صدقه بشيء سوى قوله. والجواب أنه قد قيل أن تبين الهدى شرط في لحوق الوعيد المذكور بمشاقة الرسول فقط لا في اتباع غير سبيل المؤمنين لأن الإنسان إنما يكون مشاقا معاندا إذا تبين الحق وعرفه وكان هذا الشرط مقصورا على المشاقة فقط وأيضا فإن الذي قالوه لو كان على ما زعموا لبطل فائدة تخصيص المؤمنين مع علمنا أنه خرج الكلام مخرج تمييز المؤمنين والإعظام لهم ألا ترى أن غير المؤمنين إذا عرفنا أن قولا من أقاويلهم هدى فإنه يلزمنا أن نقول مثل قولهم كما يلزمنا مثل ذلك في المؤمنين يدل عليه أن اتباع المؤمنين هو الرجوع إلى قولهم لأنهم قالوه وليس اتباعهم هو مشاركتهم في قولهم لأن دليلا دل عليه ألا ترى أنا لا نكون متبعين لليهود في إثبات الصانع جل شأنه وفي نبوة موسى عليه السلام وأن شاركناهم في اعتقاد ذلك لما لم نصر إلى ذلك لأجل قولهم فإن قيل هذا الاستدلال بدليل الخطاب لأنكم قلتم لما ذكر في الآية إلحاق الوعيد بمن اتبع غير سبيل المؤمنين دل أن اتباع سبيل المؤمنين واجب وهذا تعلق بمحض دليل الخطاب لأنه ليس في الآية الأمر باتباع سبيل المؤمنين. قالوا: والاستدلال في مثل هذه المسألة بدليل الخطاب لا يجوز. الجواب أن مطلق الآية تدل على ما قلناه لأن الله تعالى نص على إلحاق الوعيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 باتباع غير سبيل المؤمنين وعند المخالف لا يلحق الوعيد باتباع غير سبيل المؤمنين بحال وعلى أن الاستدلال بالآية تقسيم عقلي لا يتصور خلافه وهو أنه أما أن يوجد اتباع سبيل المؤمنين أو يوجد اتباع غير سبيل المؤمنين ولا ثالث لهذين فإذا حرم اتباع غير سبيل المؤمنين قطعنا بوجوب اتباع سبيل المؤمنين فإن قيل وقد قال ويتبع غير سبيل المؤمنين فظاهره يقتضي أن يتبع غير سبيلهم فيما صاروا به مؤمنين وعندنا إذا اتبع غير سبيلهم فيما صاروا به مؤمنين يلحقهم الوعيد. والجواب أنه ليس كما زعموه لأن ظاهره يقتضي لحوق الوعيد عند ترك اتباع سبيلهم فيما صاروا به مؤمنين وفيما لم يصيروا به مؤمنين. ألا ترى أنه لو قال القائل اتبع سبيل العلماء يقتضي أن يتبع سبيلهم فيما صاروا به علماء وفيما لم يصيروا به علماء وأيضا فإن الآية تقتضي لحوق الوعيد في هذا الفعل بترك اتباع سبيل المؤمنين وعلى هذا السؤال لا يكون بترك اتباع سبيل المؤمنين وإنما يكون الوعيد بترك الإيمان والتوحيد وما يتصل بذلك لا بترك اتباع سبيل المؤمنين فسقط السؤال بهذا الوجه. فإن قيل قد قال ويتبع غير سبيل المؤمنين وهذا يقتضي سبيلا واحدا فلا يقتضي كل سبيل يوجد. والجواب أنكم إذا سلمتم أنه إذا ترك اتباع واحد يستحق الوعيد فثبت أنه إذا ترك اتباع كل سبيل هو سبيل المؤمنين يستحق الوعيد أيضا وعلى أن السبيل قد صار معرفا بالإضافة إلى المؤمنين وإذا صار معرفا بهذا الوجه فلا فرق بين أن يعرف الألف واللام أو يعرف بالإضافة وإذا ثبت أن السبيل معرف اقتضى كل سبيل هو سبيل المؤمنين وإذا ترك ذلك استحق الوعيد والاستدلال بهذه الآية في نهاية الاعتماد وقد احتج الشافعي رحمة الله عليه بهذه الآية. دليل آخر في أن الإجماع حجة: وهذا الدليل من السنة وهو ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تجتمع أمتي على الضلالة" 1. وفي رواية: "لا تجتمع أمتي على الخطأ" 2 وقال صلى الله عليه وسلم لم يكن الله   1 تقدم تخريجه. 2 لم أجده بهذا اللفظ وما وجد بلفظ "لا تجتمع أمتي على ضلالة" انظر كشف الخفاء للحافظ العجلوني 2/470 ح 2999 تلخيص الحبير للحافظ ابن حجر 3/162 ح 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 ليجمع هذه الأمة على الخطأ وقال: "ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وما رآه المسلمون قبيحا فهو عند الله قبيح" 1 وقال: "من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه" 2 وقال: "من فارق الجماعة فمات ميتة جاهلية" 3 وقال: "عليكم بالجماعة" 4 و "يد الله مع الجماعة" 5 و "من شذ شذ في النار" 6 وقال: "عليكم بالسواد الأعظم" 7 وقال: "من فارق الجماعة فاقتلوه" 8 وقال صلى الله عليه وسلم: "من أحب أن ينال بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد" 9 وقال صلى الله عليه وسلم: " ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم إخلاص العمل لله ولزوم الجماعة فإن دعوتهم تحيط من ورائهم والنصح لأولي الأمر" 10 وقال صلى الله عليه وسلم ستكون بعدي هنات وهنات فمن أراد أن يفرق أمر المسلمين وهم جمع فاضربوا عنقه كائنا من كان11.   1 قال الحافظ الزيلعي غريب مرفوعا ولم أجده إلا موقوفا على ابن مسعود وله طرق بلفظ: "ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وما رأوه سيئا فهو عند الله سيئ" أخرجه أحمد المسند 1/493 ح 3599 والحاكم في المستدرك 3/78, 79 وبلفظ: "..وما رأوه قبيحا فهو عند الله قبيح" عزاه - إلى - أبو داود الطيالسي في مسنده وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في كتاب الاعتقاد انظر نصب الراية 4/133 وانظر كشف الخفاء للعجلوني 2/245 ح 2214. 2 أخرجه أبو داود السنة 4/242 ح 4758 والترمذي الأمثال 5/148 ح 2863 وأحمد المسند 4/248 ح 17817. 3 وأخرجه البخاري الفتن 13/7 ح 7054 ومسلم الإمارة 3/1477 ح 55/1849. 4 أخرجه الترمذي الفتن 4/465 ح 2165 وقال حسن صحيح غريب انظر نصب الراية 4/249. 5 أخرجه الترمذي الفتن 4/466 ح 2166 وقال حسن غريب والنسائي التحريم 7/84 باب قتل من فارق الجماعة. 6 تقدم تخريجه. 7 تقدم تخريجه. 8 أخرجه مسلم الإمارة 3/1479 ح 59/1852 60/1852 وأبو داود السنة 4/243 ح 4762 والنسائي تحريم الدم 7/84 باب قتل من فارق الجماعة بلفظ "من أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاقتلوه". 9 أخرجه أحمد المسند 1/33 ح 178. 10 أخرجه ابن ماجه المناسك 2/1015 ح 3056 والدارمي المقدمة 1/86 ح 227 وأحمد المسند 4/99 ح 16743. 11 تقدم تخريجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 والأخبار في معنى هذا كثيرة وإذا أمر في هذه الأخبار بالكون مع الجماعة ونهى عنه الشذوذ ونفى الخطأ والضلالة عنهم دل ذلك أن إجماعهم حجة وصواب وحق يدل عليه أنه صلى الله عليه وسلم لما قال: "لا تجتمع أمتي على الخطأ" فما أجمعوا عليه أنه لا يجوز مخالفة ما أجمعوا عليه فيجب كون ذلك صوابا غير خطأ فإن قالوا: هذه الأخبار آحاد فلا يصح إثبات الإجماع بها وهي من مسائل الأصول قيل هي متواترة من طريق المعنى فإن ألفاظها وأن اختلفت فقد اتفق الكل على معنى واحد وهو وجوب التمسك بالإجماع وتحريم المخالفة وعصمة الأمة من الاجتماع على الخطأ والضلالة وقد بينا أن مثل هذا الطريق يفيد العلم فإن قيل قوله لا تجتمع أمتي على الضلالة يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم أراد بالضلالة الكفر دون غيره وكذا نقول أن هذه الأمة لا تجتمع على الكفر فقد قال صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق حتى تقوم الساعة" قيل له كل معصية ضلالة لأنه قد عدل بها عن الحق ومنه قوله تعالى: {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} فينبغي أن لا يجوز اجتماعهم على خلاف الحق بحال لأنا قد ذكرنا أن كل ما عدل به عن الحق ضلال وعلى أنه قد قال صلى الله عليه وسلم: "لم يكن الله ليجمع هذه الأمة على الخطأ" وهذا لا ينفي أنواع الخطأ لأن الكلام خرج مخرج بيان كرامة هذه الأمة على الله عز وجل وكرامتهم على الله عز وجل تنفي أن يجتمعوا على كل ما هو خطأ وعدول عن الحق فإن قيل قوله أمتي يتناول جميع أمته من وقته إلى قيام الساعة ولا يتصور اجتماع كلهم على الخطأ وأيضا فإن إجماعهم لا يتصور أن يكون حجة لأنه إذا كان يتناول جميع من صدقه إلى انقطاع التكليف فلا يوجد بعد ذلك تكليف حتى يكون اجتماع هؤلاء حجة وقد ذكرنا الجواب عن هذا السؤال فيما سبق وبينا أن المراد بهذا أهل كل عصر. ببينة: أن عند المخالفين يتصور اجتماع أهل كل عصر على الخطأ والضلالة فإذا تصور ذلك عندهم في أهل كل عصر إلى أن ينقطع التكليف فقد تصور اجتماع الكل على الضلالة وقد نفى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فإن قيل ولم قلتم إذا كان لا يجوز اجتماعهم على الخطأ والضلالة يجب أن يكون اجتماعهم حجة ولا يجوز مخالفته قيل له قد اجتمعت الأمة أنه لا يجوز مخالفة ما أجمعوا عليه ونعني بهذا إجماع من يقول: أن الأمة لا تجتمع على الخطأ دون غيرهم فكل من قال أن الأمة لا تجتمع على الخطأ فقد قال أن إجماعهم حجة لأنه لم يجوز لأحد منهم مخالفتهم على ما ورد به النص وإذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 أجمعوا أنه لا يجوز المخالفة فقد أجمعوا أنه يكون حجة. ببينة: إذا تعرفنا حال الأمة وجدناهم متفقين على تضليل من يخالف الإجماع وتخطئته ولم تزل الأمة ينسبون المخالفين للإجماع إلى المروق وشق العصا ومحادة المسلمين ومشاقتهم ولا يعدون ذلك من الأمور الهينة بل يعدون ذلك من عظام الأمور وقبيح الارتكابات فدل أنهم عدوا إجماع المسلمين حجة يحرم مخالفتها وفي المسألة دلائل كثيرة ذكرها الأصحاب وأوردها المتكلمون والقدر الذي قلناه كاف وهو المعتمد. وأما الجواب عن الذي قالوه أما الأول قوله أنه يستحيل وجود الإجماع قلنا لا يستحيل على ما سبق بيانه أما قولهم أنه مع كثرتهم وتباعد ديارهم يمتنع ويتعذر الوقوف على إجماعهم قلنا نقول: أولا كيف يدعى استحالة هذا ونحن نرى خيلا من الكفار يرمى عددهم على عدد المسلمين وهم متفقون على ضلالة يدرك بطلانها بأدنى ذكر فإذا لم يمتنع ذلك إجماع أهل الدين على حكم من أحكام الدين وأيضا فإنا نعلم إجماع العلماء من أصحاب الشافعي وأصحاب أبي حنيفة رحمهم الله على مذهب كل واحد منهما في مسائل الفروع مع تباعد الديار وانقطاع المزاد فدل أن الذي ادعوه من الاستحالة باطل هذا جواب القاضي أبي بكر ثم نقول أن الوقوف على الإجماع غير ممتنع بسماع أقاويل الحاضرين والنقل من الجانبين كما يمكن معرفة اتفاق المسلمين على الصلوات الخمس وصوم شهر رمضان واعتقاد أداء الزكاة والحج وغير ذلك مع كثرة المسلمين وتباعد الذكر بهم لأن الاعتبار بعلماء العصر وأهل الاجتهاد وهم كالأعلام في كل عصر لا تجلى مواضعهم ولا وأقوالهم. ببينة: أن من عاصر الصحابة يمكنه أن يكتفي بكل واحد من المجتهدين أو ببعضهم فيعرف قوله ويتعرف قول الناس لأن أهل الاجتهاد من ذلك الوقت كانوا محصورين وكذلك التابعون فأمكن التوصل إلى معرفة قولهم بالطريق الذي قدمنا وأيضا فإن القول المنتشر في أهل العصر من غير مخالف دليل على الإجماع وهذا يمكن معرفته وهذا لأن الدليل الذي دل على أن الإجماع حجة يوجب أن يكون سبيل من الوصول إليه ولا وصول إلا بالقول المنتشر في الأمة وعدم المخالف لذلك لأن معرفة قول كل واحد من علماء العصر لا سبيل إليه في العالم ولا يجوز أن يوجب علينا ما لا سبيل إلى الوصول إليه فإذا لم يمكن إلا هذا القدر علمنا أن ذلك حجة وأنه المعنى بالإجماع الذي أوجب علينا اتباعه وأما قولهم أنه يستحيل أن يجوز الخطأ على كل واحد منهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 ثم إذا اجتمعوا لا يجوز قلنا المستحيل أن يقال أن كل واحد من الأمة يجوز كونه مخطئا في القول الذي اتفقوا عليه وجماعتهم غير مخطئين فيه ونحن لم نقل هذا وإنما نقول أن كل واحد منهم يجوز أن يكون قوله خطأ إذا انفرد وإذا اجتمع مع الكافة لم يكن قوله خطأ وليس نمنع أن يفارق الواحد الجماعة في هذا ألا ترى أن كل واحد منهم يجوز أن يأكل اليوم مأكلا مخصوصا ولا يجوز أن تجتمعوا على أكلة مخصوصة في هذا اليوم وأما قولهم أنه لا بد أن ينعقد الإجماع على دليل قلنا لا نمنع أن يكون إجماعهم عن نص لم ينقلوه واكتفوا بالإجماع عن النقل ويجوز أيضا أن يجتمعوا عن أمارة فطرية وسنبين ذلك من بعد وأما قولهم أن الإجماع لا يكون إلا عن دلالة فتكون تلك الدلالة حجة لا الإجماع قلنا هذا يبطل بقول النبي صلى الله عليه وسلم فإنه حجة ومع ذلك لا نقول ما يقوله إلا عن دلالة وعلى أنه لا يمتنع أن يكون الإجماع حجة ما صدر عنه الإجماع حجة أيضا فيكون فى المسألة حجتان وأيضا فإن الإجماع وأن كان عن دليل هو حجة ولكن في الاجماع فائدة وهي أن يسقط عنا البحث عن الحجة ويسقط هنا نقلها ويحرم علينا الخلاف الذي كان سابقا في مسائل الاجتهاد وقد قال بعضهم إنا وجدنا إجماعا منعقدا من غير دليل نحو إجماعهم على بيع المراضاة من غير عقد والإستبضاع وأجرة الحمام وقطعة الشارب وأخذ الزكاة من الخيل تبرعا وأخذ الخراج أورد هذه المسائل أبو الحسين البصري في أصوله1. الجواب أن هذه المسائل لم يقع على كلها الإجماع فإن البيع بالتراضي لا يكون بيعا ولا بد عندنا من الإيجاب والقبول2 حتى لا يكون ما أخذاه حراما أما البيع فلا يقول: أنه بالتعاطي المجرد ينعقد البيع بحال3 وأما الاستبضاع فهو على مذهب أبي حنيفة والباقي من المسائل يجوز أن يسلم لكنا نقول أن الإجماع لا يقع إلا عن دليل غير أنه.   1 المعتمد 2/57. 2 انظر روضة الطالبين 3/338. 3 قال الإمام النووي المعاطاة ليست بيعا بيعا على المذهب وخرج ابن سريج قولا من الخلاف في مصير الهدى منذورا بالتقليد أنه يكتفي بها في المحقرت وبه أفتى الروياني وغيره والمحقر كرطل خبز وغيره مما يعتاد فيه المعاطاة وقيل: هو ما دون نصاب السرقة فعلى المذهب في حكم المأخوذ بالمعاطاة وجهان: أحدهما: أنه إباحة لا يجوز الرجوع فيها قاله القاضي أبو الطيب وأصحهما: له حكم المقبوض بعقد فاسد فيطالب كل واحد صاحب بما دفعه إن كان باقيا بضمانه إن تلف انظر روضة الطالبين 3/338, 339. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 يجوز أن يقع الاكتفاء عن نقل الدليل بوقوع الإجماع وأما الذي تعلقوا به من الظواهر قلنا أما الآية وهي قوله تعالى: {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] نقول لهم أن الآية دليلنا لأنه تعالى شرط في الرد إلى الكتاب والسنة وجود التنازع فدل أن دليل الحكم عند عدم التنازع هو الإجماع إذ لا بد للحكم من دلالة وعلى أن يرد الحكم إلى الإجماع رد إلى الكتاب والسنة وقد ذكرنا ذلك وأما حديث معاذ قلنا قد كان ذلك في زمن النبي صلى الله عليه وسلم والإجماع يكون بعد زمانه وأما قوله عليه السلام: "لا ترجعوا بعدى كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض" 1 قلنا يجوز أن يكون قال ذلك لأقوام بأعيانهم ويجوز الخطأ والضلالة على أقوام بأعيانهم وأن تعلقوا بإجماع سائر الأمم قلنا قد قال بعض أصحابنا أن إجماع هذه الأمة وسائر الأمم سواء في كونه حجة وهو اختيار أبي إسحاق الإسفراينى وإن سلمنا فالفرق بين هذه الأمة وسائر الأمم هو أن عصمة الأمة طريقها الشرع ولم يرد الشرع بعصمة سائر الأمم وقد ورد بعصمة هذه الأمة ونفى الخطأ عنهم على ما سبق بيانه فافترقا لهذا المعنى ولأن اعتراض النسخ في دين سائر الأمم جائز. ألا ترى كيف اعترض ونسخ الكل بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم وإذا كان النسخ جائز لم يقع الحاجة فيها إلى عصمة الأمة وأما في شريعتنا فلا يجوز النسخ بل هذه شريعة مؤيدة فعصمت أمتها ليرجع إليها عند الخطأ والنسيان وليبقى الشرع بإجماع الأمة محفوظا. فإن قيل أليس قال الله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} إلى قوله: {وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ} [آل عمران: 99] فقد جعلهم كما جعل هذه الأمة شهداء فيجب أن يكون إجماعهم حجة أورد هذا السؤال أبو زيد في أصوله وأجاب وقال يحتمل أن إجماعهم كان حجة ما كانوا متمسكين بالكتاب وإنما لم يجعل اليوم إجماعهم حجة لأنهم كفروا بالكتاب وإنما ينتسبون إلى الكتاب بدعوتهم ولأن تأويل الآية وأنتم شهداء بما فيه قبل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فلم لا يشهدون الحق ألا ترى أنه قد سبقت هذه الآية أنه أخذ الميثاق بالبيان قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 187] فدل أن المراد ما ذكرنا وأعلم أنا لما حققنا الإجماع حجة من جهة الشرع خاصة فقد قال بعضهم أنه حجة من جهة الشرع والعقل جميعا والصحيح هو الأول لأن العقل لا يمنع اجتماع الخلق الكثير على الخطأ ولهذا اجتمع اليهود.   1 تقدم تخريجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 والنصارى مع كثرتهم على ما هم عليه من الضلالة وإذا جعلناه حجة في الشرع فإنما وجد ذلك في هذه الأمة على ما سبق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 فصل: الإجماع على ضربين ... فصل إذا ثبت أن الإجماع حجة يجب التزامها ولا يجوز مخالفتها. فهو على ضربين. أحدهما: ما يكفر مخالفه متعمدا وهو الإجماع على الشيء الذي يشترك الخاصة والعامة في معرفته مثل أعداد الصلوات وركعاتها وفرض الحج والصيام وزمانهما ومثل تحريم الزنا وشرب الخمر والسرقة والربا اعتقد في شيء من ذلك خلاف ما انعقد عليه الإجماع فهو كافر1 لأنه صار بخلافه جاحدا كافرا لما قطع به من دين الرسول صلوات الله عليه كالجاحد لصدق الرسول صلوات الله عليه. والضرب الثاني: ما يضل مخالفه إذا تعمد ولا يصير كافرا وهذا إجماع الأمة الخاصة وذلك مما ينفرد بمعرفته العلماء كتحريم المرأة على عمتها وخالتها2 وإفساد الحج بالوطء قبل الوقوف بعرفة3 وتوريث الجدة السدس4 وحجب بني الأم مع الجد5 ومنع توريث القاتل6 ومنع وصية الوارث7 فإذا اعتقد المعتقد في شيء من هذا خلاف ما عليه إجماع العلماء لم يكفر لكن يحكم بضلالته وخطئه8. ثم إعلم أن الكلام في الإجماع بعد أن عرفنا أنه حجة يشتمل على خمسة فصول: أحدها: معرفة ما ينعقد عنه الإجماع من الأدلة.   1 تيسير التحرير 3/259 جمع الجوامع 2/201 نهاية السول 3/327, 328. 2 قال ابن المنذر وأجمعوا على أن لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها لا الكبرى على الصغرى ولا الصغرى على الكبرى انظر الإجماع لابن المنذر 77. 3 قال ابن المنذر وأجمعوا أن من جامع عامدا في حجه قبل وقوفه بعرفة أن عليه حج قابل والهدي وانفرد عطاء وقتادة الإجماع لابن المنذر 49. 4 قال ابن المنذر وأجمعوا أن للجدة السدس إذا لم يكن للميت أم الإجماع لابن المنذر 69. 5 انظر الإجماع لابن المنذر 70. 6 قال ابن المنذر: وأجمعوا على أن القاتل عمدا لا يرث من مال من قتله ولا من ديته شيئا الإجماع لابن المنذر 70. 7 قال ابن المنذر: وأجمعوا على أنه لا وصية إلا أن يجيز ذلك الإجماع لابن المنذر 73. 8 المحصول 2/98 تيسير التحرير 3/259 نهاية السول 3/327, 328. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 والثاني: فيمن ينعقد به الإجماع من الأمة. والثالث: ما ينعقد فيه الإجماع من الأحكام. والرابع: ما ينعقد به الإجماع من الشروط. والخامس: معرفة ما يتخالط [مما] 1 يتعارض فيه الإجماع والاختلاف. ولا بد لكل واحد من هذه الفصول الخمسة من إيراده بما يشتمل عليه ليصير الإجماع مستوفي في أحكامه وما يتصل به.   1 زيادة ليست في الأصل يتم بها الكلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 فصل: فيما ينعقد عنه الإجماع من الأدلة ... فصل أما الكلام فيما ينعقد عنه الإجماع من الأدلة. أعلم أن الإجماع لا ينعقد إلا عن دليل يوجب ذلك2 لأن اختلاف الآراء أو الهمم يمنع من الاتفاق على شيء إلا عن سبب يوجب ذلك وهذا مثل اتفاق الناس على أكلهم عند الجوع وشربهم عند العطش ولبسهم عند العرى كان عن سبب وهذه أمور طبيعية كانت عن سبب طبيعي وكذلك الأمور الدينية لا تكون إلا عن سبب ديني وذلك مثل اتفاقهم على المعتقد الديني واتفاقهم على صلاة الجمعة وصلاة العيدين وعلى فعل الصلوات الخمس وصوم رمضان فإنه لا يكون ذلك إلا عن سبب ديني قادهم إليه ويجوز أن يتفقوا عن دليل على حكم الحادثة وتكون على الحكم دلائل سواه ويجوز أن يختلفوا في الأدلة مع إتفاقهم على الحكم فلا يكون اختلافهم في الأدلة مانعا من إجماعهم على الحكم وقد أجاز قوم انعقاد الإجماع عن توفيق من الله تعالى من غير دليل شرعي دلهم على ذلك. وذلك بأن يوفقهم الله تعالى للصواب من غير أن يكون لهم عليه دلالة وأمارة وهذا ليس بصحيح لأنه لو جاز لجماعة الأمة أن يقولوا من غير دليل لكان يجوز لكل واحد منهم أن يقول من غير دليل وحين لم يجز لآحادهم كذلك لا يجوز لجماعتهم ولأن الدليل هو الموصل إلى الحق فإذا فقد الدليل.   2 يشترط في الإجماع أن يكون عن مستند إليه المجمعون في إجماعهم من كتاب أو سنة أو قياس والإجماع عن غير مستند بأن يكون عن عاطفة أو إلهام وتوفيق من الله تعالى لهم بوجه الصواب غير جائز عند جمهور العلماء وخالف في ذلك شذوذ فجوزوا الإجماع عن غير مستند انظر نهاية السول 3/307, 308 تيسير التحرير 3/254 المحصول 3/88 إحكام الأحكام للآمدي 1/374 المعتمد 2/56 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/172. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 فقد الوصول وقد بينا أن حال الأمة لا يكون أعلى من حال نبي الأمة ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول ما يقول إلا عن دليل فالأمة لأن لا يقولوا ما يقولونه إلا عن دليل أولى وإذا ثبت أنه لا ينعقد الإجماع إلا عن دليل فلا خلاف أنه ينعقد الإجماع عن الكتاب والسنة ثم إذا كان الإجماع عن نص غير محتمل من كتاب أو خبر متواتر كان الحكم والقطع بصحته ما يتبين بالنص فلم يكن للإجماع تأثير في ثبوتهما وأن كان النص خبر واحد وأجمعوا به كان الحكم ثابتا بالظاهر وكان نفى الاحتمال من الظاهر والقطع بصحة الحكم ثابتين بالإجماع واختلفوا في انعقاد الإجماع عن القياس. مسألة: ذهب جمهور الفقهاء والمتكلمين إلى أنه يجوز بانعقاد الإجماع عن القياس وقالوا: لا فرق بين القياس الجلي والخفي في ذلك وقال قوم أنه لا يجوز انعقاد الإجماع عن القياس بحال سواء كان خفيا أو جليا واختاره محمد بن جرير الطبري وذهب قوم إلى جواز انعقاده بالجلي دون الخفي وأما نفاة القياس منعوا انعقاد الإجماع بالقياس لأنه ليس بدليل عندهم1 والكلام مع نفاة القياس يأتى من بعد. وأما حجة من نفى انعقاد الإجماع بالقياس قال في ذلك لأن الخطأ موهوم في القياس والإجماع يوجب العلم القطعي فلا يجوز أن يقع بالقياس لأن ذلك يوجب أن يكون فروع الشيء أقوى من أصله. ببينة: أن القياس فرع الاجماع. ألا ترى أن الإجماع يستخرج منه المعنى فيقاس عليه مثل ما يستخرج من الكتاب والسنة فإذا كان القياس فرعا للإجماع فلا يجوز أن يصير الإجماع فرعا لأنه يؤدي إلى أن ينقلب الأصل فرعا والفرع أصلا وهذا لا يجوز. ببينة: أن الحكم الصادر عن القياس لا يفسق مخالفه بل يجوز مخالفته ولا يجعل.   1 اعلم أن العلماء قد اختلفوا في ذلك على أربعة مذاهب: الأول: محال عقلا أن يكون القياس سندا للإجماع وهو رأي الشيعة وجماعة. الثاني: جائز عقلا ولكنه غير واقع وهو لبعض العلماء. الثالث: جائز عقلا وواقع وهو لجمهور الأصوليين منهم البيضاوي. الرابع: يجوز إن كان القياس جليا ولا يجوز إن كان القياس خفيا إحكام الأحكام للآمدي 1/379 حاشية الشيخ محمد بخيت المطيعي 3/309 روضة الناظر 134 المستصفى 1/196 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/173. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 أصلا في نفسه بل هو فرع لغيره ولا يقطع عليه بثبوته ولا على تعلقه بالأمارة وأما الحكم المجمع عليه لا يجوز مخالفته ويفسق مخالفه ويجعل أصلا ويقطع عليه وعلى تعلقه بطريقة فإذا صدر هذا الإجماع عن الاجتهاد اجتمع فيه هذه الأحكام مع تنافيها وتضادها وهذه الحقيقة وهي أن الأمارة دلالة خافية فلا يجوز أن يقال أن الأمة على كثرتها واختلاف هممها وأغراضها يجمعها الأمارة مع خفائها يدل عليه أن الإجماع لا يكون إلا باتفاق أهل العصر ولا عصر إلا وفيه من ينفى القياس أصلا فلم يجز وقوع الإجماع وانعقاده والذي ينعقد به الإجماع معدوم. وأما حجة من جوز انعقاد الإجماع عن القياس فنبين أولا وجود ذلك ثم نبين جواز ذلك من حيث المعنى والدليل على وجود ذلك ووقعه إجماع الصحابة على قتال أهل الردة وقد كان ذلك من طريق الاجتهاد قال أبو بكر رضوان الله تعالى عليه قال لا أفرق بين ما جمع الله بينهما فقاس الزكاة على الصلاة في وجوب قتال المخل بها ولو كان معهم في قتال مانعي الزكاة على نص لنقلوه. واتفق الصحابة أيضا على إمامة أبى بكر وقد كان ذلك بطريق الاجتهاد فإنهم استدلوا في إمامة أبي بكر رضي الله عنه بتقديم النبي صلى الله عليه وسلم إياه في الصلاة وقالوا: اختاره صلى الله عليه وسلم لديننا فاخترناه لدنيانا. وقد أجمع الصحابة أيضا على توريث الجدتين السدس فإن اجتمعا فهو لكما وأيتكما تفردت به فهو لها1 وقد أجمعت الأمة على هذا الحكم وكان ذلك عن الاجتهاد. وأجمعت الأمة أيضا على أن حد العبد على النصف من حد الحر وإنما اتفقوا عليه بقياس العبد على الأمة فإن في الكتاب حد تنصيف الإماء وليس فيه ذكر حد العبيد. وأجمعت الأمة أيضا على تحريم شحم الخنزير قياسا على لحمه وأجمعوا على تقديم الأمة في العتق قياسا على العبد. وأجمعوا على إراقة الشيرج إذا وقعت فيه الفأرة وكان مائعا وإلقائها وما حولها إذا كان جامدا قياسا على السمن2.   1 قال ابن المنذر: وأجمعوا على أن الجدتين إذا اجتمعتا وقرابتهما سواء وكلتاهما ممن يرث: أن السدس بينهما الإجماع 69. 2 قال الإمام النووي: قال الخطابي: اختلف العلماء في الزيت إذا وقعت فيه نجاسة فقال جماعة من أصحابنا: الحديث لا يجوز الانتفاع به بوجه من الوجوه لقوله صلى الله عليه وسلم "فلا بقربوه" وقال أبو حنيفة وهو نجس لا يجوز أكله ولا بيعه الاستصباح به وقال داود: إن كان هذا سمنا ........... = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 وهم يقولون على هذه الدلائل أن إجماعهم لم يكن عن قياس بل كان عن دليل آخر في مسألة قتال مانعي الزكاة وإمامة أبى بكر الصديق رضي الله عنه وفي مسألة الجدتين كان إجماعهم عن خبر المغيرة وقالوا: في سائر المسائل إنما كان الإجماع لأن النص على تنصيف الحد في الأمة نص في العبد وكذلك النص على تحريم لحم الخنزير نص على تحريم شحمه والنص في السمن نص في الشيرج. والجواب أن هذه الدعاوى بلا دليل وقد نقلنا في قتال مانعي الزكاة وتقديم أبي بكر رضي الله عنه في الإمامة على الصحابة أنهم ذكروا الاجتهاد فيما صاروا إليه وأما ميراث الجدتين فلازم قولهم أن إجماعهم كان عن خبر المغيرة فخبر المغيرة كان في الجدة الواحدة والإلزام في الجدتين وأما سائر المسائل فلازمة أيضا وقولهم أن النص في كذا نص في كذا مجرد دعوى لا دليل عليها وسيأتي في باب القياس أن طريق إثبات هذه الأحكام فى الصور التى لم يقع النص عليها لم يكن إلا بالقياس إلا أنه بالقياس الجلي فإن قال بعض من يخالف هذه المسألة أن عندي يجوز انعقاد الإجماع بالقياس الجلي ولا يجوز بالخفي قلنا إذا ثبت جواز انعقاده بأحدهما ثبت بالآخر وهذا لأن القياس دليل من دلائل الشرع وطريق موصل إلى الحكم ولا مانع من انعقاد الإجماع عنه فينعقد عند الإجماع دليل الكتاب والسنة. فإن قالوا: قد بينا أن الإجماع لا يقع عن الاجتهاد وقلنا قد قلتم أن كثرة عدد الأمة واختلاف هممها وأغراضها يمنع من اجتماعهم بطريق الاجتهاد والأمارة وهذا دعوى وليس يمتنع أن تجمعهم الأمارة الواحدة والأمارات الكثيرة على الحكم الواحد فإن اختلفت الأغراض وكثر العدد لأنهم مع كثرتهم واختلاف أغراضهم قد اتفقوا على وجوب المصير إلى الأمارة فإذا ظهرت الأمارة لجماعتهم لم يمتنع اتفاق جميعهم على الحكم الذي دلت عليه الأمارة يدل عليه أن اليهود والنصارى وهم الجم الغفير قد اجتمعوا على اعتقاد واحد فإذا جاز اتفاقهم مع كثرتهم وتباين هممهم وأغراضهم من جهة شبهة دخلت عليهم فلأن يجوز اتفاق الجماعة من جهة الأمارة المستندة إلى أصل.   = لم يجز بيعه ولا أكله وشربه وإن كان زيتا لم يحرم أكله ولا بيعه وزعم أن الحديث مختص بالسمن وهو لايقاس والله أعلم هذا كلام الخطابي وقد سبق في باب ما يكره لبسه وأن المذهب الصحيح جواز الاستصباح بالدهن النجس والمتنجس سواء ودك الميتة انظر المجموع للنووي 9/38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 هو حق أولى وليس هذا كاتفاقهم على الكذب في شيء معين حيث لا يجوز وقوع ذلك لأنه لا داعي لجميعهم على ذلك وقد بينا وجود الداعي ها هنا وعلى هذا خرج اتفاقهم على مأكل واحد وصناعة واحدة حيث لا يجوز وقوع ذلك لأنه لا داعي لجميعهم على ذلك وهذا لأن اتفاقهم على مأكول واحد تابع لتساوي شهواتهم وأماكن شهواتهم ونحن نقطع أن الناس يختلفون في الشهوات وأماكن نيل الشهوات فمنهم من يشتهي ما ينفر طبع الآخرين ومنهم من تنقص شهوته لما تقوى شهوة الآخر فتدعوه قوة شهوته إلى تناوله دون الآخر وقد يتفق الاثنان في شهوة حتى يقدر أحدهما على تحصيلها بعجز الآخر عنه وأما الذي قالوه أولا من أن الخطأ موهوم في القياس والإجماع يوجب علما قطعيا قلنا هذا يبطل بخبر الواحد فإن الإجماع ينعقد عنه مع وجود ما قالوه ولأن العبرة بحسب ما يدل عليه الدليل وقد دل الدليل أن الإجماع يفيد العلم القطعي وأن القياس لا يفيد إلا غلبة الظن وأما قولهم أن القياس فرع والإجماع أصل ولا يجوز أن يكون الفرع أقوى من الأصل قلنا الأدلة قد يتقوى بعضها ببعض وقد تتعاضد وتتظاهر الدلائل فيتم عند الاجتماع بما لا يتم عند الانفراد ألا ترى أن أصل التواتر آحاد يجوز عليها الخطأ ثم إذا اجتمعت تعاضدت وتقوى بعضها ببعض أفادت العلم القطعي. كذلك القياس إذا اجتمعت الآراء صار دليلا قطعيا على صحة الحكم به وانتفاء الخطأ عنه وبهذا الوجه جعلنا الإجماع الصادر عن الخبر الواحد والعمود دليلا قطعيا وأن لم يكن الخبر الواحد والعمود في جميع مسمياته كذلك وأما قولهم أن القياس لا يفيد كذا وكذا وما بينوا من المخالفة بين القياس والإجماع فليس يدخل على ما قلناه وذلك لأن ما قالوه حكم لاجتهاد إذا انفرد عن الإجماع فإذا اقترن به الإجماع صار دليلا مقطوعا به ويجوز مثل هذا القول ألا ترى أن القول عن الأمارة إذا اقترن به تصويب النبي صلى الله عليه وسلم أفاد العلم المقطوع به وإذا لم يقترن به أفاد الظن. وأما قولهم أنه ما من عصر إلا ويوجد فيه من ينفى القياس قلنا ليس الأمر على ما زعمتم والأصل في الإجماع إجماع الصحابة رضي الله عنهم أجمعين ولسنا نعلم أن أحدا منهم أنكر القياس والاجتهاد. ببينة: أنه كما وجد في الأمة من ينفى القياس قد وجد فيهم أيضا من ينفى أخبار الآحاد ومن ينفى القول بالعموم ثم أجمعوا أن الإجماع يجوز أن ينعقد بهما ولم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 نعتبر خلاف من خالف ونظر إلى ما كان الأمر عليه في عصر الصحابة رضي الله عنهم كذلك ها هنا والله أعلم. وقد حكى عبد الجبار عن الحاكم صاحب المختصر قال إذا انعقد الإجماع لأهل العصر عن اجتهاد جاز لمن بعدهم أن يخالفهم لأنه قول صادر عن اجتهاد فيجوز خلافه وهذا لا يصح لأن الإجماع إذا وجد بأي دليل كان صار حجة وحرم خلافه وقد ذكرنا وجه ذلك وأن كان من اجتهاد ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تجتمع أمتي على الضلالة" وما اتفقوا عليه أنهم إذا اتفقوا لا يجوز مخالفتهم على ما ذكرناه من قبل. فصل. وأما الاجتهاد عن غير أصل كالاجتهاد في جزاء العبد وجهات القبلة وأروش الجنايات وقيم المتلفات فمن يمنع انعقاد الإجماع بالقياس كان من هذا أمنع وأما من جوز القياس فقد ذهب بعضهم إلى أنه لا يجوز انعقاد الإجماع عن مثل هذا الاجتهاد1 والصحيح جوازه والذي ذكرناه دليلا في المسألة المتقدمة يصلح دليلا في هذه المسألة وفي هذا الموضع. وقد قال بعض أصحابنا أن. دلائل الاجتهاد التي ينعقد بها الإجماع من أوجه. أحدها: أن ينعقد عن تنبيه من كتاب أو سنة. فالتنبيه من الكتاب كإجماعهم على أن ابن الابن في الميراث كالابن2. والتنبيه من السنة كإجماعهم على أن موت العصفور فى السمن كموت الفأرة. والوجه الثاني: أن ينعقد عن استنباط من كتاب أو سنة فالاستنباط من الكتاب كإجماعهم على تحريم نكاح خالات الآباء وعماتهم وخالات الأمهات وعماتهن مثل تحريم الخالات والعمات والاستنباط من السنة كإجماعهم على توريث كل واحدة من الجدتين السدس والجدتان أم الأم وأم الأب وأن حجب أم الأم لأم أم الأم كحجب الأم لأم الأم.   1 انظر الإجماع لابن المنذر 66. 2 إحكام الأحكام للآمدي 1/379 روضة الناظر 134 المستصفى 1/196 المعتمد 2/59 المحصول 2/93. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 والوجه الثالث: أن ينعقد عن المناظرة والجدال كإجماعهم على قتال مانعي الزكاة وأن في المرهونة إذا أجهضت دية الجنين. والوجه الرابع: أن ينعقد عن استدلال بقياس كإجماعهم على أن حد العبيد في الزنا كالأمة وأن الجواميس في الزكاة كالبقر. والوجه الخامس: أن ينعقد عن استدلال باجتهاد كإجماعهم على جهة القبلة وقد ذكر غير هذا وعندي أن هذا تكلف شديد وإذا ذكرنا جواز الإجماع عن الاجتهاد دخل فيه وجوه الاجتهاد جليها وخفيها. وإذا علمنا أن الإجماع ينعقد عن أحد هذه الوجود فاختلفوا أن الإجماع إذا انعقد يأخذ هذه الدلائل يكون منعقدا على الحكم الثابت بالدليل أو يكون منعقدا على الدليل الموجب للحكم وذهب بعض المتكلمين من الأشعرية إلى أنه منعقد على الدليل الموجب وذكر أكثر الفقهاء والمتكلمين إلى أنه معقد على الحكم المستخرج من الدليل وهو الصحيح لأن الحكم هو المطلوب من الدليل ولأجله انعقد الإجماع فعليه انعقد الإجماع ونبني على هذا مسألة وهي أن الإجماع الواقع على موجب خبر من الأخبار هل يكون دليلا على صحة الخبر فمنهم من قال يدل على ذلك إذا علم أنهم اجمعوا لأجله ومنهم من قال أن إجماعهم يدل على صحة الحكم ولا يدل على صحة الخبر وهذا أولى القولين لأنه يجوز أن يكونوا اتفقوا على العمل به لأن التعبد ثابت بخبر الواحد وهذا التعبد ثبت في حق الكافة ولأجل التعبد الثابت أجمعوا على موجب الخبر وصار الحكم مقطوعا به لأجل إجماعهم وأما صحة الخبر على طريق أنه يكون مقطوعا به فله طريق مخصوص في الشرع على ما قلنا في باب الأخبار فبطلت صحة الخبر وعدم صحته أو كونه خبرا واحدا أو خبر يقطع بثبوته ويوجب العلم بموجبه من ذلك الطريق فإن ظهر الإجماع ولم يعلم الدليل الذي انعقد به الإجماع فقد بينا أنه لا يجوز أن ينعقد إلا عن دليل فيكون انعقاده دليلا على أنه انعقد عن دليل موجب له إلا أنه استغنوا بالإجماع عن نقل الدليل واكتفوا به عنه وقد ذكرنا هذا من قبل والله أعلم بالصواب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 فصل: فيمن ينعقد به الإجماع من الأمة مدخل ... فصل: ولما عرفنا ما ينعقد به الإجماع من الأدلة فنتكلم الآن فيمن ينعقد به الإجماع من الأمة أما إجماع سائر الأمم سوى هذه الأمة فليست بحجة وقد بينا ثم اعلم أنه لا اعتبار بالكافرين في الإجماع لأن الإجماع إنما صار دليلا بالسمع والأدلة السمعية التي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 ذكرنا لم تتناول الكافرين1 وإنما تتناول المؤمنين على الخصوص ولأن الإجماع حجة بمعرفة الأحكام الشرعية والكفار لا يمكنهم معرفة الأحكام الشرعية فلا يجوز اعتبارهم في حجة الأحكام الشرعية والاعتبار أيضا في الإجماع بكل المؤمنين إلى انقضاء التكليف ولأنا لو اعتبرنا جميع المكلفين إلى انقضاء التكليف خرج الإجماع أن يكون حجة لأنه لا يكون بعدهم تكليف حتى يكون إجماعهم حجة فيه ولأنا قد دللنا أن إجماع أهل كل عصر حجة والدلائل دلت أن الإجماع حجة فدلت على هذا كما سبق بيانه ولا اعتبار أيضا بمن ليس من أهل الاجتهاد في الأحكام كالعامة والمتكلمين الذين يدعون علم الأصول وقال بعض المتكلمين اتفاق العامة مع العلماء شرط في صحة الإجماع وهو قول القاضي أبي بكر وقال بعضهم يعتبر اتفاق الأصوليين والمتكلمين2 وتعلق من هذا اعتبر غير الفقهاء بقوله عليه السلام لا تجتمع أمتي على الضلالة وهذا يتناول الكل وهذا لأنه إنما كان قول الأمة حجة لأنهم عصموا عن الخطأ وليس يمتنع أن يكون جماعتهم العامة والخاصة معصومة عن الخطأ وإذا لم يمتنع ذلك وكانت الظواهر هي الراجحة على أن الإجماع حجة عامة في الخاصة والعامة اعتبر جماع الكل لكونه حجة ولأن الله تعالى قال: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115] وهذا سينال الفقهاء والعامة والصحيح ما قدنا لأن العامة لا يعرفون طرق الاجتهاد فهم كالصبيان وأما المتكلمون فلا يعرفون طرق الأحكام وأن عرفوا البعض لا يعرفون جميعها فصاروا كالفقهاء الذين لا يعرفون طرق أصول الفقه والذي استدلوا به فأكثر ما فيه أنه عام فنخصه ونحمله على الفقهاء الذين يعرفون طرق الأحكام ونقول أيضا أن الأمة إنما كان قولها حجة إذا قالوه عن استدلال وهي إنما عصمة عن الخطأ في استدلالها والعامة ليست من أهل النظر والاستدلال حتى تعصم عن الخطأ فصار وجودهم وعدمهم بمنزلة يدل عليه أن العامة يلزمهم المصير إلى قول العلماء فصار العلماء كأنهم المتصرفون فيهم فيسقط اعتبار قولهم وقد ظهر بهذا الجواب عن المعنى الذي قالوه وقد روى أن أبا طلحة.   1 إحكام الأحكام للآمدي 1/321 روضة الناظر 121 المحصول 2/92 حاشية الشيخ محمد بخيت المطيعي 3/324 المعتمد 2/24 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/180. 2 انظر نهاية السول 3/306 إحكام الأحكام 1/322 المحصول 2/92 روضة الناظر 120 المعتمد 2/24, 25 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/170. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 الأنصاري رحمة الله عليه كان يستبيح أكل البرد في الصوم ويقول: أنه لا يفطر ولم يعد خلافه خلافا لأنه لم يكن من فقهاء الصحابة رضي الله عنهم. وقد قال بعض أصحابنا إنما يشترك الخاصة والعامة في معرفته فلا بد من إجماع الكل في الشيء لينعقد عليه الإجماع وقد ذهب إليه بعض المتكلمين وعندي أن هذا باطل ولا يعتبر قول العامة في شيء من الأحكام سوى أن كان من الأحكام الظاهرة التي يعرفونها أو من الأحكام التي لا يقفون عليها وما ذكرنا من الدليل يعم الكل فيوجب إخراج العامة وإطراح قولهم في الأحكام اجمع وعلى هذا نقول أن العلماء في النحو والعربية واللغة لا نعتبر قولهم أيضا في انعقاد الإجماع عن الأحكام وكذلك العلماء الذين لا يعرفون إلا التفسير وإنما يرجع إليهم في الوقوف على أقوال المفسرين من السلف وكذلك أمر المحدثين الذين لا يعرفون إلا الرواية فيرجع إليهم فيما يصح من الأخبار وما لا يصح. وأما الفقهاء الذين يرجع إلى قولهم في انعقاد الإجماع فهم المجتهدون وسنذكر شرائط الاجتهاد من بعد. وأما الذين يتكلمون في الجواهر والأغراض وعرفوا بمحض الكلام ولا يعرفون دلائل الفقه فلا عبرة بقولهم في الإجماع وهم بمنزلة العوام. وأما المتفردون بأصول الفقه فإن وافقوا الفقهاء في ترتيب الأصول وطرق الأدلة كان خلافهم مؤثرا يمنع من انعقاد الإجماع وأن خالفوهم فيما يقتضيه استنباط المعاني وعلل الأحكام وغلبة الأشباه لم يؤثر خلافهم وانعقد الإجماع بدونهم والله أعلم. وعلى الجملة إذا أجمع المفتون على المسألة وبقى قوم لا يستقلون بأنفسهم في معرفة حكم حادثة تقع لهم ويتعين عليهم في ذلك تقليد غيرهم فوجوب مراجعتهم في المسألة التي اتفق عليها الفقهاء المجتهدون محال. ونقول في تقسيم الفقهاء أن من يعرف الفروع والأحكام ولا يعرف دلائلها وعللها فهذا ناقل يرجع إلى حفظه ولا يعول على اجتهاده ولا يرتفع الإجماع بخلافه. وأما من يكون حافظا للأحكام والفروع بدلائلها وعللها مشرفا على الأصول في ترتيبها ولوازمها عارفا شبهها وأدلتها وعللها فهذا أكمل الفقهاء علما وأصحهم فيه اجتهادا وهذه الطبقة هم الذين يرجع إليهم في الإجماع والاختلاف. وأما من يكون حافظا للأحكام والفروع بدلائلها وعللها غير عارف بالأصول وترتيبها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 ولوازمها فيصح اجتهاده فيما يقتضيه التعليل والسنة ولا يصح اجتهاده فيما يقتضيه دلائل الأصول فيما يصح اجتهاده فيه ويقع الإجماع بخلاف ما لا يصح اجتهاده لم يرتفع الإجماع بخلافه وهذا التقسيم ذكره المعرف بأقضى القضاء أبو الحسن الماوردي. وأما الكلام في اعتبار الورع فقد ذهب معظم الأصوليين إلى أن الورع معتبر في أهل الإجماع وقالوا: أن الفسقة وأن كانوا بالغين في العلم مبلغ المجتهدين فلا يعتبر خلافهم ووفاقهم لأنهم بفسقهم خارجون عن محل الفتوى والفاسق غير مصدق فيما يقوله وافق أو خالف وقد قال بعض أصحابنا يعتبر قوله ولا ينعقد الإجماع بدونه لأن الفاسق المجتهد لا يلزمه أن يقلد غيره بل يتبع فيما يقع له يؤدي إليه اجتهاده وليس له أن يقلده غيره فكيف ينعقد الإجماع عليه في حقه واجتهاده مخالف اجتهاد من سواه ويجوز أن يقال أنه عالم في حق نفسه مصدق على نفسه فيما بينه وبين ربه وهو مكذب في حق غيره وغير ممتنع هذا الانقسام وقد قال بعض أصحابنا أن الفاسق يدخل في الإجماع من وجه ويخرج من وجه1 وبيان ذلك أن المجتهد الفاسق إذا أظهر خلافه فسئل عن دليله فلجواز أنه يحمله فسقه على اعتقاده خرج بغير دليل فإذا ظهر من استدلاله على خلاف ما يجوز أن يكون محتملا يرتفع الإجماع بخلافه وصار داخلا في جملة أهل الإجماع وأن كان فاسقا لأنه من أهل الاجتهاد وأن لم يظهر من استدلاله محتملا لم يقيد لخلافه قال هذا القائل وفي هذا يفارق العدل الفاسق لأن العدل إذا أظهر خلافه جاز الإمساك عن استعلام دليله لأن عدالته تمنعه من اعتقاد شرع بغير دليل وهذا التقسيم لا بأس به وهذا كلام يقرب من مأخذ أهل العلم فليعول عليه. قال ورأيت في كتاب الشيخ أبي إسحاق الشيزاري رحمه الله أن كل من كان من أهل الاجتهاد سواء كان مدرسا مشهورا أو خاملا مستورا وسواء كان عدلا أمينا أو فاسقا متهتكا يعتد بخلافه لأن المعول في ذلك على الاجتهاد والمهجور كالمشهور والفاسق كالعدل في ذلك والأحسن هو الأول وأما الفسق بتأويل فلا يمنع من اعتبار من يعتد به في الإجماع والاختلاف وقد نص الشافعي رحمه الله على قبول شهادة أهل الأهواء وهذا ينبغي أن يكون في اعتقاده بدعة لا تؤديه إلى التكفير فأما إذا كان يؤديه إلى.   1 انظر نهاية السول 3/324 روضة الناظر 122 إحكام الأحكام للآمدي 1/326 المستصفى 1/182 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/180. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 التكفير فلا يعتد بخلافه ووفاقه وأما الكلام فيما يكفر به وما لا يكفر به طويل الذيل ضيق المجال وقد أكثر العلماء الكلام في ذلك وليس هو بأمر هين لأن تكفير الناس لا يجوز بما يجازف فيه وأسرع الناس إلى تكفير الناس الخوارج ثم المعتزلة وقد يطلق بعضهم فيقول: من خالف الإجماع يكفر وهذا أيضا فيه نظر وقد بينا طرفا من ذلك والكلام فيما يكفر به وما لا يكفر به ليس هذا موضعه فنتجاوز عنه وقد ذكر الأصحاب طرف ذلك في كتاب الشهادات ونذكر ذلك في التعليق وقد ذكر في كتاب منهاج أهل السنة ما نقل عن بعض السلف الصالح والأئمة المقتدى بهم ونصصت على المواضع التي طلب الكفر فيها المتواطئ واتباعهم أسلم والله المرشد والموفق بمنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 فصل: في عدد المجمعين ... فصل وأما الكلام في عدد المجمعين. فإن بلغ علماء العصر مبلغا لا يتوقع فيهم التواطؤ على الكذب وهم الذين اعتبروا في عدد التواتر فلا شك في انعقاد الإجماع باتفاقهم واما إذا لم يبلغوا هذا العدد فذهب بعض علماء الأصوليين إلى أن لا يجوز الخطأ عدد علماء العصر عن مبلغ التواتر لأنهم ورثة الملة وحفظة الشريعة وقد ضمن الله تعالى قيامها ودوامها إلى قيام الساعة فإذا عاد العلماء إلى عدد لا ينعقد منهم التواطؤ فربما يفقد منهم الاستقلال بحفظ الشريعة فلا يكون إليه حفظ الملة على الكمال. وقد قال بعضهم يجوز أن ينحطوا عن عدد التواتر وإذا انحطوا وأجمعوا يكون إجماعهم حجة1 وقال الأستاذ أبو إسحاق لم يبق في الدهر إلا مفتى واحد واتفق ذلك لقوله حجة ويصير ذلك بمنزلة إجماع الأمة. أما الأول فبعيد لأنه يستحيل أن ينقص عدد العلماء في عصر من الأعصار عن عدد التواتر خصوصا وقد ورد الخبر في ذهاب العلم في آخر الزمان. وأما الثاني فالإشكال فيه أن العلم الضروري هل يحصل بخبر الواحد أم بخبر جماعة ينقص عددهم عن عدد التواتر وقال بعضهم أن الله تعالى يحدث في هذا العدد من الأمارات الدالة على صدقهم ما يوجد ذلك عنده وجود عدد التواتر والأولى أن يقال أنه يعلم صدقهم ضرورة لا بخبرهم لكن بخبر النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من   1 انظر المحصول 2/93 إحكام الأحكام للآمدي 1/358 روضة الناظر 119 المستصفى 1/188 تيسير التحرير 3/336. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 أمتي على الحق لا يضرهم في من خذلهم حتى يأتي أمر الله عز وجل" 1. وقد قيل أنه إذا لم يبلغ عدد المجمعين عددا يقع العلم بصدقهم ضرورة يجب اتباعهم على قولهم فإن لم يقطع بأن الحق في إجماعهم كما يلزم العمل بالاجتهاد وأن لم يقطع بأن الحق فيه ذهب أكثر العلماء إلى أن إجماع كل عصر حجة وذهب أهل الظاهر إلى أن إجماع الصحابة هو الحجة دون إجماع أهل سائر الأعصار2 وذهبوا في ذلك إلى أن الإجماع إنما صار حجة بالسمع دون غيره والأدلة السمعية اختصت بالصحابة رضي الله عنهم دون غيرهم ولك الأدلة قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: 143] وهذا خطاب مواجهة فيتناول الحاضرين دون غيرهم ولنا قوله تعالى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115] وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تجتمع أمتي على الضلالة" 3 فلا يمنع أن يكون الله عز وجل عنى الصحابة بالخطاب وحده ليميزهم بهذه الكرامة عن غيرهم والرسول صلى الله عليه وسلم أيضا عنى الصحابة رضي الله عنهم على الانفراد لتكون هذه المنحة لهم وهذا لأن الخطاب صالح أن يتناول الصحابة على الانفراد ولا يصلح أن يتناول التابعين على الانفراد بل إنما يصلح تناولهم مع من تقدمهم لأنهم الذين كانوا موجودين زمان الخطاب وأما التابعون فلم يكونوا موجودين زمان الخاطب فتبين أن الأصل في هذا هم الصحابة دون من بعدهم فيكون إجماعهم حجة دون من بعدهم. قالوا: ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" 4 وإنما حكم بالاهتداء بالاقتداء بالصحابة دل أن غيرهم لا يكون بمثابتهم ولأن الصحابة رضوان الله عليهم قد اختصوا بمشاهدة النبي صلى الله عليه وسلم والحضور عند الوحي وكان ذلك مزية لهم لا توجد لمن بعدهم.   1 أخرجه البخاري الاعتصام 13/306 ح 7311 ومسلم الإمارة 3/1523 ح 170/192 ولفظ الحديث عند مسلم. 2 إحكام الأحكام للآمدي 1/328 المحصول 2/93 المعتمد 2/27 روضة الناظر 129 المستصفى 1/185. 3 تقدم تخريجه. 4 تقدم تخريجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 وأما دليلنا نقول أن الأدلة للإجماع ولا تخص عصرا دون عصر فإن قوله عز وجل: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115] لا يختص بعصر الصحابة رضي الله عنهم لأن التابعين من المؤمنين وكذلك أهل كل عصر وكذلك قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: 143] وقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تجتمع أمتي على الضلالة" 1 ليس لشيء من هذا اختصاص بعصر دون عصر ولأنه لما كان نقل أهل كل عصر الأخبار كنقل الصحابة في أحكام التواتر والآحاد وجب أن يكون في الإجماع بمثابته ليكون كل خلف محجوبا بسلفهم وليكون الشرع محفوظا من الخطأ والغلط. ببينة: أن أهل كل عصر حجة على من بعدهم في البلاغ فكذلك وجب أن يكونوا حجة في الإجماع. وأما الجواب عن تعلقهم قلنا قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: 143] وقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران: 110] خطاب لجميع الأمة بإجماع الأمة. ببينة: أنه وصفهم بما وصفهم في الآيتين لانتسابهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكونهم من أمته ولأنهم قد دانوا لشريعته وهم أتباعه في الأقوال والأفعال وهذا المعنى موجود في أهل جميع الأعصار إلى قيام الساعة ولهذا المعنى لم ينقل عن أحد من السلف والخلف أنه حمل الآية على أهل عصر الصحابة دون من بعدهم وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" 2 فمعنى ذلك من أحد وجهين أما أنه ورد ليبين أن قول كل واحد منهم حجة وهذا صحيح على قول الشافعي رحمه الله وهو محمول على أن لمن بعد الصحابة أن يرجعوا إلى قول كل واحد من الصحابة فيما يرويه عن الرسول صلى الله عليه وسلم والدليل على أن معنى هذا الخبر ليس الإجماع أنه قال: "بأيهم اقتديتم اهتديتم" 3 وقوله بأيهم يتناول الآحاد ولا يتناول جماعتهم وأما قولهم أن الصحابة اختصوا بعصر الرسول صلى الله عليه وسلم ومشاهدته قلنا ولم ينبغي أنهم إذا كانوا كذلك وجب لأن يختصوا بكون إجماعهم حجة دون من بعدهم إذ ليس في اختصاصهم بما اختصوا به ما يدل على اختصاصهم بكون إجماعهم حجة دون من سواهم والله أعلم.   1 تقدم تخريجه. 2 تقدم تخريجه. 3 تقدم تخريجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 فصل: الفصل الثالث وهو بيان ما ينعقد فيه الإجماع مدخل ... فصل. أما الفصل الثالث وهو بيان ما ينعقد فيه الإجماع. اعلم أن الإجماع حجة في جميع الأحكام الشرعية كالعبادات والمعاملات وأحكام الدماء والفروج وغير ذلك من الحلال والحرام وكل ما هو من الأحكام الشرعية. وأما الأحكام العقلية فعلى ضربين. أحدهما [ما] 1 يجب تقديم العمل به على العلم بصحة السمع كحدث العالم وإثبات الصانع وإثبات صفاته وإثبات النبوة وما أشبه ذلك فلا يكون الإجماع في هذا حجة لأنا بينا أن الإجماع دليل شرعي ثبت بالسمع فلا يجوز أن يكون حجة ولا أن يثبت حكما قبل السمع كما يجوز أن يثبت الكتاب بالسنة والكتاب يجب العمل به قبل السنة. والضرب الثاني: ما لا يجب تقدم العلم به على السمع وذلك مثل جواز الرؤية وغفران المذنبين وغيرهما مما يجوز أن يعلم بعد السمع والإجماع حجة في هذا الضرب لأنه لما كان يجوز أن يعلم بعد الشرع والإجماع من أدلة الشرع جاز إثبات ذلك به. وأما أمور الدنيا كتجهيز الجيوش وتدبير الحروب والعماره والزراعة وغيرها من مصالح الدنيا فالإجماع ليس بحجة فيها2 لأن الإجماع فيها ليس بأكثر من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ثبت أن قوله صلى الله عليه وسلم إنما هو حجة في أحكام الشرع دون مصالح الدنيا وكذلك الإجماع ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنتم أعلم بأمور دنياكم وأنا أعلم بأمور دينكم" 3 وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى رأيا في الحرب راجع الصحابة في ذلك وربما ترك رأيه برأيهم وقد ورد مثل هذا في حرب بدر وحرب الخندق وغير ذلك ولم يكن أحد يراجعه فيما يكون من أمر الدين وقد ذكر بعض المتكلمين أن الإجماع ينعقد في أمر الدنيا أيضا وإذا رأى أهل العصر شيئا واتفقوا عليه لا يجوز مخالفته سواء كان في أمر الدين أو في أمر الدنيا لأن أدلة الإجماع منعت من الخلاف على الأمة ولم يفصل ولم يفصل بين أن يكون اتفقوا على أمر ديني أو دنيوي والصحيح الأول كما سبق.   1 زيادة في الأصل. 2 انظر نهاية السول 3/237, 238 المحصول 2/4 المعتمد 2/35 المحصول 2/97 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/157. 3 أخرجه ابن ماجه الرهون 2/825 ح 2471 وأحمد المسند 6/138 ح 24973 وذكره مسلم الفضائل بلفظ "أنتم أعلم بأمر ديناكم" أخرجه مسلم الفضائل 4/1836 ح 141/2363. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 فصل إذا اجتمعت الأمة على الجمع بين مسألتين في حكم مخصوص فإنه لا فرق بينهما فيه. مثل الإجماع على أن لا فرق بين الصلاة والصيام في وجوب النية وأن لا فرق بين الأكل والجماع في إفساد الصوم لم يجز التفرقة بينهما كما نعتاد الإجماع على اجتماعهما وذهب بعض أهل العلم إلى جواز التفرقة بينهما بالدليل الموجب لافتراقهما لأنه إجماع منهم لم يتعين في حكم والإجماع إنما ينعقد في الأحكام المتعينة1 وقيل أنه مذهب سفيان الثوري فإنه أفسد الصيام بجماع الناسي ولم يفسد بأكل الناسي وهذا ليس بصحيح لأن الإجماع على استوائها في الحكم إجماع على حكم فلما لم يجز مخالفة الإجماع في أعيان الأحكام لم يجز مخالفته في تساوي الأحكام فإذا وجب بالدليل ثبوت الحكم في أحد المسألتين أوجب الإجماع ثبوته في الأخرى فيكون ثبوته في الأول بدليله وثبوته في الثاني بالإجماع وأن وجب الدليل نفى الحكم عن إحداهما وجب نفيه عن الآخر فيكون نفيه عن الأول بالدليل وعن الثاني بالإجماع وإذا قام الدليل على فساد الصيام بجماع الناسي أوجب الإجماع فساده بأكل الناسي وإذا قام الدليل على صحة الصيام مع أكل الناسي أوجب الإجماع صحته مع جماع الناسي وإذا اجتمعت الأمة على الفرق بين مسألتين في حكم مخصوص لم يجز الجمع بينهما في ذلك الحكم وجوز الجمع بين المفترقين من وجوب الفرق بين المجتمعين وهو فاسد بما قلناه فإذا أوجب الدليل ثبوت الحكم في إحدى المسألتين أوجب الإجماع نفيه عن الأخرى وإذا أوجب الدليل نفيه عن إحدى المسألتين أوجب الإجماع ثبوته في الأخرى. وإذا اجتمعت الأمة على قولين في حادثة لم يجز إحداث قول ثالث فيهما وجوزه.   1 اختلف الأصوليون في ذلك على ثلاثة أقوال: 1 - يجوز مطلقا اتحد الجامع بين المسألتين أو اختلف. 2 - لا يجوز مطلقا. 3 - وهو المختار للبيضاوي تجوز التفرقة عند اختلاف الجامع ولا تجوز عند اتحاده. ومحل النزاع إذا لم ينصوا على عدم الفرق بينهما فإن نصوا على ذلك فلا خلاف في عدم جواز التفرقة بين المسألتين في الحكم انظر نهاية السول 3/275 المحصول 2/64 روضة الناظر 132 المعتمد 2/46 حاشية الشيخ محمد بخيت المطيعي 3/275 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/161. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 بعض أهل الظاهر وقال بعض المتكلمين وبعض أصحاب أبي حنيفة أن اختلافهم على قولين يوجب تسويغ الاجتهاد فجاز إحداث قول ثالث كما لو يستقر الخلاف1. وأيضا فإن الصحابة اختلفوا في زوج وأبوين وامرأة وأبوين على قولين فجاء ابن سيرين وأحدث قولا ثالثا فقال في امرأة وأبوين بقول ابن عباس وفي زوج وأبوين بقول سائر الصحابة وأقره سائر العلماء على هذا فلم ينكروا عليه مخالفة الإجماع. والصحيح ما قدمنا من تحريم إحداث قول ثالث لأن إجماعهم على قولين إجماع على تحريم ما عداهما فلما لم نجز خلاف الإجماع في القول الواحد لأنه يتضمن تحريم ما عداه فكذلك لا يجوز خلاف إجماعهم على القولين لإجماعهم على تحريم ما عداه يدل عليه أنه قد ثبت أن الحق لا يخرج عن الإجماع فلو جاز إحداث قول ثالث لم يعتقدوه يخرج الحق عن أقوالهم لأنا إنما جوزنا ذلك فيجوز أن يكون الحق في القول الثالث وفي هذا إبطال الإجماع. وأما قولهم أن اختلاف الصحابة على قولين يوجب جواز الاجتهاد. قلنا يوجب جواز الاجتهاد في طلب الحق من القولين فأما في قول ثالث فلا لما بينا أن في إثبات قول ثالث إبطال إجماعهم. وأما الذي حكوه عن ابن سيرين. قلنا هو لم يخالف الصحابة بل أخذ بكل واحد من القولين في إحدى المسألتين فصار قوله داخلا في القولين غير خارج منهما وعلى أن ابن سيرين قد عاصر الصحابة وأفتى معهم فاعتد بخلافه فيهم. ومثال هذه المسألة مسألة الحرام وهي إذا قال لزوجته أنت علي حرام فإن الصحابة اختلفوا في هذه المسألة على خمسة أقاويل وأحدث مسروق قولا سادسا وقال.   1 اختلف الأصوليون في ذلك على أقوال ثلاثة: القول الأول: لا يجوز إحداث قول ثالث في المسألة مطلقا سواء كان القول الثالث رافعا لما اتفق عليه المجتهدون الأولون أم غير رافع له وإلى ذلك ذهب جمهور العلماء. القول الثاني: يجوز مطلقا وإلى ذلك ذهب الظاهرية وبعض الحنفية. القول الثالث: التفصيل بين ما برفع متفقا عليه فلا يجوز وما لا يرفعه فيجوز والمختار للرازي والبيضاوي والآمدي وابن الحاجب انظر نهاية السول 3/286, 287 إحكام الأحكام للآمدي 1/384 المحصول 2/62 روضة الناظر 131 المعتمد 2/54 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/158. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 لا أبالي أحرم امرأتي أم قصعة من ثريد يعني أنه ليس بشيء فقال الأصحاب أن مسروقا عاصر الصحابة فاعتد بخلافه فيهم وأنا أقول هذا في مسروق صحيح وأما في ابن سيرين فبعيد لأنه وأن أدرك عصر الصحابة رضي الله عنهم فلم يكن في ذلك الوقت في عداد من يعتد بقوله يتبع قولهم بخلاف مسروق فإنه من متقدمي التابعين وأدرك زمان عمر رضي الله عنه وما بعده كان من الفقهاء المتقدمين في عصر الصحابة وقد قال بعض أصحابنا أن ابن سيرين محجوج بقول الصحابة رضوان الله عليهم وقول من قال أنه لا ينكر عليه فلعله لم يظهر في ذلك الزمان فلهذا لم يروا الإنكار عليه ونحن ننكره ونقول قد خالف إجماع الصحابة في هذه المسألة. وإذا أجمعت الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين على دليل في حكم لم يتعد وهو في المجلدة الثانية. تم المجلد الأول بحمد الله وعونه والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين. يتلوه الثاني أن شاء الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 المجلد الثاني (تابع) القول في الإجماع وما يتصل به تابع الفصل الثالث: في بيان ما ينعقد فيه الإجماع فصل وإذا أجمعت الصحابة على دليل في حكم لم يتعد ... فصل وإذا أجمعت الصحابة على دليل في حكم لم يتعد ويجوز للتابعين أن يستدلوا على ذلك الحكم بغيره من الأدلة1 وهذا بخلاف ما إذا أجمعوا على حكم لم يجز خلافهم. والفرق بينهما أن المفروض عليهم إظهار الحكم ببعض أدلته لا بجميعها فأما في الحكم فالمفروض عليهم إظهار جميع الحكم فلو كان للحادثة حكم آخر لما أظهروه وإن أجمعوا على علة في حكم يكون إجماعا على الحكم لأن العلل إنما تنصب للأحكام فيكون الإجماع على العلة إجماعا على الحكم وقال بعضهم: إنه يكون إجماعا على الدليل لا على الحكم والأصح: هو الأول لما بينا أن المقصود من العلل: أحكامها لا أعيانها. والله أعلم بالصواب.   1 اعلم أن محل النزاع إذا لم ينص أهل العصر السابق على إبطال الدليل أو التأويل الذي أحدثه أهل العصر الاحق أو ينصوا على صحة كل منهما فإن نصوا على الإبطال لم يجز اتفاقا لأن ذلك يكون فيه تخطئة له وتخطئتهم غير جائزه وإن نصوا على الصحة جاز اتفاقا أما إن سكتوا عنه ولم يقدح أهل العصر اللاحق في دليلهم أوتأويلهم فذلك هو محل النزاع وما ذكره المصنف هو رأي الجمهور وقد منع منه قليلون انظر المحصول "2/67" إحكام الأحكام "2/391" المعتمد "2/51" أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "3/178". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 3 الفصل الرابع: في معرفة ما ينعقد به الإجماع من الشروط مدخل ... فصل: الفصل الرابع: في معرفة ما ينعقد به الإجماع من الشروط: اعلم أن من شروط الإجماع: ظهوره في أهل العصر حتى يعلم به أهل العصر الثاني وقد يكون ظهوره بالقول وقد يكون بالفعل وقد يكون بالقول والفعل جميعا فأما ظهوره بالقول إذا وجد يصح انعقاد الإجماع به وذهب بعض أهل العلم إلى أنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 3 لا ينعقد بالقول حتى يقترن به الفعل ليكمل في نفسه وهذا ليس بصحيح لأن حجج الأقوال أكثر من حجج الأفعال وإن كان كل واحد منهما إذا انفرد يكون حجة فلا يجب اجتماعهما كما لا يلزم الجمع في الحكم بين دليل الكتاب والسنة وإذا ثبت أن الإجماع على القول يكون حجة فقد يكون الإجماع على القول بوجوده من جميع أهل الإجماع وقد يكون بوجوده من البعض وسكوت الباقين بعد انتشاره فيهم وهذه المسألة اختلف أهل العلم فيها. مسألة: إذا قال الصحابي قولا وظهر في الصحابة وانتشر ولم يعرف له مخالف كان ذلك إجماعا مقطوعا به. ومن أصحابنا من قال: إنه حجة وليس بإجماع قاله أبو بكر الصيرفي وقيل: إن هذا مذهب الشافعي لأنه قال من نسب إلى ساكت قولا فقد افترى عليه وبهذا قال الكرخي من أصحاب أبي حنيفة وبعض المعتزلة قاله أبو هاشم وقال القاضي أبو بكر ليس بحجة أصلا وهو مذهب داود وبه قال بعض المعتزلة واختاره أبو عبد الله البصري وقال أبو علي بن أبي هريره: إن كان وجد حكما من بعض الصحابة وانتشر من الباقين لم يعرف له مخالف لا يكون إجماعا وأن كان فتوى وانتشر ولم يعرف له مخالف يكون إجماعا وعكس هذا أبو إسحاق المروزى وقال يكون إجماعا إن كان حكما ولا يكون إجماعا إن كان فتيا1 والأصح هو القول الأول وأما من قال ليس بحجة أصلا   1 اعلم أنه اختلف الأصوليون في هذه المسألة على مذاهب خمسة: المذهب الأول: لا يعتبر ذلك إجماعا ولا يكون حجة وهو منقول عن داود الظاهري ومختار الإمام الرازي والبيضاوي. والمذهب الثاني: يعتبر ذلك إجماعا ويكون حجة مطلقا - مات المجمعون أو لم يموتوا وهو مذب الإمام أحمد وأكثر الحنفية. والمذهب الثالث: يعتبر إجماعا ويكون حجة بعد موتهم لا في حياتهم وهو لأبي علي الجبائي. والمذهب الرابع: يعتبر حجة ولا يكون إجماعا لأبي هاشم والجبائي. والمذهب الحامس: إذا كان القول على سبيل الفتوى وسكت الباقون عن إنكاره كان ذلك إجماعا وحجة وإن كان حكما وسكت الباقون عن إنكاره لم يكن إجماعا ولا حجة وهو لأبي علي أبي هريرة من أصحاب الشافعي انظر نهاية السول "3/294, 295" المحصول "2/74" الإحكام للآمدي "/361" المعتمد "2/66, 67" روضة الناظر "123" حاشية الشيخ محمد بخيت المطيعي على نهاية السول "3/295" أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "3/167". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 4 فاحتج في ذلك وقال: لا يمتنع أن يكون سكوت من سكت لتقية أو هيبة كما روى عن ابن عباس أنه لما أظهر قوله في مسألة العول قيل له: هلا قلت في زمان عمر رضي الله عنه قال: إنه كان رجلا مهيبا وروى أنه قال "هيبة"1. وأيضا يجوز أن يكون سكت لأنه لم يتفكر في المسألة لتشاغله بغير ذلك من الاشتغال إن كان فقيها فلعله اشتغل بالفكر في غيره من المسائل لأنها كانت أهم عنده وإن كان إماما فاشتغل بالجهاد وسياسة الناس فلم يوجد في هذه المسألة إلا قول بعض الصحابة ويقول بعضهم لا ينعقد الإجماع وأما من قال: إنه ليس بإجماع لكنه مع ذلك حجة لأن الإمساك عن القول في الحادثة من الممسك يحتمل أن يكون ذلك للارتياب في النظر والاستدلال فلم يجز أن يجعل اعتقاد للساكت فيه إلا أنه مع ذلك حجة لأن الفقهاء في كل عصر يحتجون بالقول المنتشر في الصحابة إذا لم يظهر مخالف منهم فدل أنهم اعتقدوه حجة وأما علي بن أبي هريرة قال: إذا كان الموجود قضاء من بعض القضاة والحكام فلا يدل السكوت من الباقين على الرضا منهم لأن في الإنكار افتياتا عليه وقال ابن أبي هريرة: ونحن نحضر مجالس بعض الحكام ونراهم يقضون بخلاف مذهبنا ولا ينكر ذلك عليهم فلا يكون سكوتنا رضا منا بذلك وأما أبو إسحاق المروزى فقال: إن الأغلب أن الصادر عن الحاكم يكون عن مشورة والصادر عن فتوى يكون عن استبداد ولا يدل ذلك على الإجماع وأما دليلينا فيما اخترناه وهو أن يكون حجة وإجماعا. فنقول أولا: إن قول بعض أهل العصر إذا انتشر في جميعهم وسكت الباقون ولم يظهروا خلافا فإما أن يعلم أن سكوتهم سكون راض أو لا يعلم ذلك فإن علم أن سكوتهم عن رضى بدليل يدل عليه فإنه يكون ذلك إجماعا كما لو قالوا: صريحا رضينا بهذا القول وللرضا أمارات كثيرة بالقول وقد جوز بعضهم وجود العلم بالمذاهب اضطررا فيكون على هذا القول معرفة الرضى أحكم وآكد وأما إذا لم يعلم رضاهم بقوله فإن كان مسألة لا تكليف فيها وليس مما يلزم بالنظر فيه وإنكاره إذا علموا أنه منكر مثل قول القائل: إن عمارا أفضل من حذيفة وأمثال هذا وقول القائل إن زيدا في الدار وعمرو خرج إلى الصحراء فالسكوت من الباقين   1 أخرجه الحافظ البيهقي في الكبرى في الفرائض 6/414 الحديث 12457. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 في أمثال هذا لا يكون إجماعا وأما إذا كان على الناس من ذلك تكليف وظهر من بعضهم القول في ذلك وانتشر وسكت الباقون يكون ذلك إجماعا واحتج من قال بذلك بأن العادة جرت أن النازلة إذا نزلت فزع أهل العلم إلى الاجتهاد وطلب الحكم فيها وإظهار ما عندهم في ذلك فلما وقعت الحادثة وظهر قول من المجتهد في ذلك وانتشر قوله ولم يظهر خلاف ذلك مع طول الزمان وارتفاع الواقع دل أنهم راضون بذلك وصار رضاهم بهذا الطريق بمنزلة ما لو أظهروا رضاهم بالقول والفعل. ببينة: أن أهل الإجماع معصومون من الخطأ والعصمة واجبة لهم كما تجب للنبي صلى الله عليه وسلم ثم إذا رأى النبي صلى الله عليه وسلم مكلفا يقول قولا في أحكام الشرع فسكت عنه كان سكوته تقريرا منه إياه على ذلك ونزل ذلك منزلة التصريح بالتصديق في إبداء ذلك كذلك هاهنا يكون كذلك في حق أهل الإجماع وينزل سكوتهم منزلة التصريح بالموافقة فإن قيل: ولم إذا صار السكوت من الرسول صلى الله عليه وسلم تقريرا يكون من أهل الإجماع تقريرا وهذا لأن النبي صلى الله عليه وسلم يتلقى ما تلقاه من الوحي ولا عذر له في السكوت إذا كان المفعول متكررا وأما أهل الإجماع فلعلهم سكتوا لأنهم وجدوا الاجتهاد مساغا ومضطربا فكان سكوتهم محمولا على تسويغ ذلك. والجواب: أما الأول: قلنا قد بينا وجه الجمع بين سكوت النبي صلى الله عليه وسلم وبين سكوت أهل الإجماع وأما الفرق الذي قالوه فليس بصحيح لأن الرسول صلى الله عليه وسلم وإن كان يتلقى ما يتلقاه من الوحي وأهل الإجماع يقولون ما يقولون عن مدارج الظنون لكن إذا لم يوجد من أهل الإجماع إنكار لما ظهر من القول دل أنه عندهم صواب وحق لأنه لو كان خطأ لكانوا قد تطابقوا له على ترك ما يجب من إنكار المنكر وهذا لا يجوز لأن أهل الإجماع قد عصموا عن الخطأ ومن عصم عن الخطأ يكون معصوما أيضا عن التقرير على الخطأ كالنبي صلى الله عليه وسلم وإذا ثبت بهذا الطريق أن ذلك القول صواب ثبت أن ما سواه خطأ فإن قالوا إنما سكتوا لأنه من ومسائل الاجتهاد. قلنا: إذا اعتقدوا أنه خطأ لا يجوز أن يجمعوا على التقرير عليه على ما سبق فإن قيل أليس لو اجتمع العلماء في المجلس وقام سائل إلى واحد من الحنفيين وسأله عن مسألة اختلف العلماء فيها فلو أجاب المفتى الحنفى بما يوافق مذهبه وسكت الحاضرون على سائر المذاهب يحمل سكوتهم على أنهم سكتوا لأنه قال ما قال في محل الاجتهاد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 والجواب: إن هذا يمكن دعواه في مثل هذه الصورة لأن مذاهب الكل معلومة فلا يكون السكوت للتقرير وإبداء الموافقة وليس مسألتنا في مثل هذه الصورة وإنما مسألتنا في الحادثة تقع بين أهل الاجتهاد ويذكر كل واحد منهم قولا فيه ويظهر في الباقين من علماء الوقت وينتشر ذلك بينهم ولا يظهر إنكارا وكان الفرق بين الصورتين أن في الصورة الأولى إذا كان المذهب معلوما فالإنكار من الباقين كذلك معلوم وإن لم يظهره في ذلك الوقت فكان سكوتهم على ما عرف من قبل لا على إبداء الموافقة أما هنا فلا يمكن حمل السكوت على مثل هذا لأنه لم يعرف من قبل خلاف منهم لذلك والسكوت على مثل هذا بعد أن علموا أنه خطأ لا يجوز فدل أن سكوتهم كان محض الموافقة وعلى أن بعض أهل العلم قد اشترط في هذا شرطا وهو اعتراض من العصر على ذلك يعنى أنه ظهر قوله وانتشر ولم يوجد منكرا واعترض العصر على ذلك وقال من اعتبر هذا الشرط: إن اتجه في حكم العادة سكوت العلماء على قول مجتهد في مسألة ظنه فاستمرارهم على السكوت الزمن المتطاول يبعد بخلاف العادة قطعا لأنه إذا كان يتكرر تذكار الواقعة والخوض فيها فلا يتصور دوام السكوت من كل المجتهدين مع تكرار الواقعة في حكم العادة ولهذا أن ابن عباس أظهر خلافه من بعد في مسألة العول والذين يقولون لعل السكوت لتقية أو هيبة. قلنا: ليس هذا مما يدوم على الدهر ولأن المسألة مصورة فيما إذا لم يكن تقية ولا هيبة وفى هذه الصورة يظهر الكلام جدا ولعله يصير من القواطع وأما على الصورة الأولى فالدليل الذي قدمناه دليل مستحكم يستمر على منهاج الأصول ولكنى أقول: إنه لابد من وجود نوع شبهة في هذا الإجماع بالوجوه التي قالها الخصوم فيكون إجماعا مستدلا عليه ويكون دون القواطع من وجوه الإجماع في المسائل التي قدمناها إلا أنه مع هذا لابد من تقديم هذا على القياس فإن قال قائل: قد انتشر قضاء عثمان في ميراث المبتوتة وهو قصة عبد الرحمن بن عوف بطلاقه امرأته آخر تطليقاتها الثلاث وكذلك قتل الحسين بن على ابن ملجم قصاصا مع وجود الورثة الصغار وانتشر كلا الأمرين في الصحابة ولم يكن مخالف ومع ذلك لم يقدموا ذلك على القياس. قلنا: أما ميراث المبتوتة فقد ذكرنا أن عبد الرحمن بن عوف مخالف وقد نقلنا قولا عنه يدل على ذلك وأيضا فإن ابن الزبير قد خالف ولم يكن انقرض عصر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 الصحابة وأما قتل الحسين بن على ابن ملجم فإنه على أى جهة قتله كلام كبير وأيضا فإن الصحابة قد كانوا في هذا الوقت تفرقوا تفرقا عظيما واعتزل جماعة من وجوههم وكفوا قولهم وفعلهم والحادثة وقعت بالكوفة وأكثر الصحابة بالحجاز ومما يضم إلى هذا أن الحكم الصادر من الأئمة لا يماثل الفتوى الصادرة من المفتين وحفظ الأدب في ترك الاعتراض على الأئمة فإنه ليس للعلماء إذا جرى قضاء من قاض بمذهب مسوغ أن ينكروا عليه نفوذ قضائه وقد ذكرنا عن ابن أبي هريرة ما ذكرناه في الفرق بين الحاكم والمفتى وهو تفريق حسن فلا بأس به في هذا المكان وهو نافع جدا في صورتى الإيراد في مسألة المبتوتة ومسألة استيفاء القصاص مع وجود الصغار في الورثة وقد قال بعض أصحابنا: إن هذا الإجماع فيما إذا وجد القول المنتشر من أحد الصحابة في سائر الصحابة فأما في التابعين ومن بعدهم فلا ولا يعرف فرق صحيح بين الموضعين والأولى التسوية بين الجميع وقال بعض أصحابنا: إن إمساك الناس من إظهار الخلاف إنما يدل على الإجماع إذا كان في شئ يفوت استدراكه من إراقة دم واستباحة فرج فيدل سكوتهم على أن القول صواب وحق لأنهم لو اعتقدوا خلافه لما جاز لهم السكوت عليه وهو منكر لا يمكن استدراكه وأما الذى يمكن استدراكه فلا يكون سكوت الباقين دليلا على الإجماع والأولى أن لا يشتغل بهذا التفريق لأنه ليس فيه كثير معنى والمسألة في غاية الإشكال من الجانبين وقد ذكر القاضي أبو الطيب في كتاب الإجماع في هذه المسألة ترتيبا في الاستدلال استحسنته فأوردته ويدخل فيه الجواب على خلافهم قال: الدليل على ثبوت الإجماع مبنى على أصلين أحدهما: أن أهل العصر لا يجوز إجماعهم على الخطأ والثاني: أن الحق واحد وما عداه باطل وإذا ثبت هذان الأصلان فلا يخلوا القول الذي ظهر من أن يكون حقا أو باطلا فإن كان حقا وجب اتباعه والعمل به وإن كان باطلا فلا يخلو سائر العلماء من أربعة أحوال: إما أن لا يكونوا اجتهدوا أو اجتهدوا فلم يؤد اجتهادهم إلى شئ يجب اعتقاده أو أدى إلى صحة الذي ظهر أو خلافه ولا يجوز أن لا يكونوا اجتهدوا لأن العادة مخالفة لهذا لأن النازلة إذا نزلت فالعادة أن كان أهل الاجتهاد يرجعون إلى النظر والاجتهاد ولأن هذا يؤدى إلى خروج الحق عن أهل العصر بعضهم بترك الاجتهاد وبعضهم بالعدول عن طريق الصواب وهذا لا يجوز لأنهم لا يجتمعوا على الخطأ ولا يجوز أن يقال: أنهم اجتهدوا فلم يؤد اجتهادهم إلى شئ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 يجب اعتقاده لأن ذلك يؤدى إلى خفاء الحق على جميع الأمة وهذا محال ولأن طريق الحق ظاهر فلا يجوز أن تخفى على جميع الأمة فإن قالوا: إنهم كانوا في مهلة النظر. قلنا: هذا ظن يحيد بكل أهل الإجماع وعلى ذلك لا يتصور امتداده إلى أن ينقرض العصر ولا يجوز أن يقال: إنهم اجتهدوا فأدى اجتهادهم إلى خلافه إلا أنهم كتموا لأن إظهار الحق واجب لا سيما مع ظهور قول هو باطل عندهم والتعلق بالتقية والهيبة تعلق باطل لأنهم كانوا يظهرون الحق ولا يهابون أحدا ولهذا ردت امرأة على عمر بن الخطاب رضى الله عنه في المغالاة في الصداق حتى قال عمر: امرأة خاصمت رجلا فخصمته1 وقال عبيده السلماني: رأيك في الجماعة أحب إلينا من رأيك في الفرقة فقد كانوا يحتشمون من إظهار الخلاف لأنهم كانوا يعتقدون منهم فيقولون الحق وأما ابن عباس فقد كان صغيرا في زمانهم فلعله احتشم لصغره وعلى أنه قد أظهر من بعده. قال القاضي أبو الطيب: وإذا بطلت2 هذه الوجوه دل أنهم إنما سكتوا لرضاهم بما ظهر من القول فصار كالنطق فإن قال قائل: إنما سكتوا لأنهم اعتقدوا أن كل مجتهد مصيب قلنا لم يكن من الصحابة من يعتقد ذلك وسنبين إن شاء الله تعالى. مسألة: قد ذكرنا حكم القول المنتشر فإما القول الواحد من الصحابة إذا لم ينتشر إلا أنه لم يعرف له مخالف فلا يكون إجماعا لأنهم لم يعرفونه فيعتبر قوله أو ينكرونه3 وأما الكلام في كونه حجة فإن كان موافقا للقياس فهو حجة إلا أن الأصحاب اختلفوا فقال بعضهم: إن الحجة في القياس وقال بعضهم: إن الحجة في قوله وأما إذا كان بخلاف القياس أو كان مع الصحابى قياس خفى والجلى بخلاف قوله: فقد اختلف قول الشافعي في هذا. قال في القديم: قول الصحابي أولى من القياس وهو قول أبى حنيفه وأحمد وجماعة وقال في الجديد القياس أولى4   1 أخرجه الحافظ البيهقي في الكبرى في الصداق "7/380" الحديث "14336". 2 في الأصل "بطل". 3 قال الآمدي: اختلفوا فيه والأكثر على أنه ليس بإجماع وهو المختار انظر إحكام الأحكام للآمدي "3/365" انظر المحصول "1/76" انظر نهاية السول "3/302" المعتمد "2/71". 4 اعلم أنهم اختلفوا في اعتبار مذهب الصحابي حجة على غير الصحابي كاتابعين ومن بعدهم من باقي المجتهدين على مذاهب ثلاثة: الأول: حجة مطلقا خالف القياس أو وافقه- وإلى ذلك ذهب مالك وأبو بكر الرازي من الحنفية والشافعي في أحد قوليه والإمام أحمد في بعض الروايات عنه: الثاني: ليس "حجة مطلقا وهو مذهب جمهور الأشاعرة والمعتزلة والشافعي في أحد قوليه والكرخي. الثالث: حجة إن خالف القياس وليس حجة إن وافقه انظر نهاية السول "4/407, 408" إحكام الأحكام للآمدي "4/201" انظر أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "4/192". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 واحتج من قال بالأول بقوله صلى الله عليه وسلم: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم"1 فقد جعل المقتدى بالصحابة مهتديا ولا يجوز العدول عن الاهتداء ولأن الصحابي إنما يحكم في شئ خبرا كان أو قياسا فإن كان عن خبر فالقياس متروك له وإن كان قياسا فإن الذي بان به من الفضيلة عن غيره وتميز عن من سواه من مشاهدة الرسول صلى الله عليه وسلم وحضوره نزول الوحى عليه ومعرفة مخارج كلامه يرجح قياسه على غيره فكان قوله أولى من القياس المجرد أما وجه القول الجديد هو أن القياس أصل من أصول الدين ودليل من أدلة الشرع والعمل به عند عدم النص واجب والدليل عليه خبر معاذ رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال له: "فإن لم تجد في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله" قال: أجتهد رأيى"2 والصحابي غير مأمون من الخطأ فيما يقوله فلو كان عنده خبر من الرسول لأظهره لأنه كان مأمورا بالتبليغ فلما لم ينسب القول مما حكم به إلى النبي صلى الله عليه وسلم دل أنه إنما قال استنباطا وقد بينا أنه غير معصوم من الخطأ فيلحقه في الاجتهاد ما يلحق غيره من السهو والغلط وقد كانوا يرون في الحوادث آراء ثم يرجعون عنها لدليل يلوح لهم هو أقوى من الأول وإذا كان الأمر على ما ذكرنا لم يكن مجرد قول الصحابي حجة إلا أن الحادثة إذا تنازعها أصلان جاز أن يغلب أحدهما بموافقة قول الواحد من الصحابة كما قد يغلب أحد القياسين على الآخر بكثرة الأشباه وأيضا فقد قال الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] فالمراد به رد الحكم إلى الكتاب والسنة وهو رد إلى الله وإلى رسوله وأما   1 ذكره الحافظ ابن حجر في التلخيص وقال: أخرجه عبد بن حميد في مسنده عن ابن عمر وفيه حمزة ضعيف جدا والدارقطني في غرائب مالك عن جابر وفيه جميل بن يزيد لا يعرف ولا أصل له في حديث مالك ولا من فوقه وذكره البزرا عن عمر وفيه عبد الرحيم ابن زيد العمى كذاب ومن حديث أنس أيضا وإسناده واهي انظر تلخيص الحبير "4/209- 210" ح " 15". 2 أخرجه أبو داود: الأقضية "3/302" ح "3592" والترمذي: الأحكام "3/607" ح "1327" وأحمد: المسند "5/272" ح "22068". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 تعلقهم بقوله صلى الله عليه وسلم: " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" 1 "قلنا: هذا أمر من لم يكن في زمن الصحابة من أهل الاجتهاد بتقليد الصحابة لأن من كان من أهل الاجتهاد في الصحابة لا يجوز أن يأمره بتقليد مثله وأيضا فإن الاقتداء بهم هو الرجوع إلى المعاني المستنبطة من كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأما الذي قالوه من بعد قلنا: أما دعوى التوقيف وأن الصحابى قال ما قال عنه بعيد لما بيناه وأما قوله إن اجتهاده يكون أقوى فلا يصح لأنه يجوز أن يسمع هو من النبي صلى الله عليه وسلم ويكون غيره أعلم بمعناه وقصده ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " نضر الله امرأ سمع مقالتى فبلغها غيره فرب مبلغ أوعى من سامع ورب حامل فقه إلى من هو أفقه" 2 "ولأنه لو كان ما قالوه صحيحا وجب على من لم تطل صحبته للنبي صلى الله عليه وسلم أن يقلد من طالت صحبته لأنه يكون من طالت صحبته أبصر بمعانى كلام النبي صلى الله عليه وسلم ومقاصده لطول صحبته له واستبراء أحواله وكثرة اهتدائه إلى معانيه في أقواله وأفعاله ما لم يهتد من قلت صحبته وربما رآه رؤية أو سمع حديثا من أحاديثه وحين لم يقل أحد ما ألزمناهم عرفنا أن ما قالوه ساقط وقد قال بعض أصحاب أبى حنيفة: أنه إذا قال الصحابي قولا يخالف القياس يحمل على أنه قاله عن النبي صلى الله عليه وسلم: لأن الظاهر أنه لم يعدل عن القياس مع النفوذ في معرفة القياس وطريقه إلا بسنة عرفها عن النبي صلى الله عليه وسلم والجواب: إن يكن حسبان فاسد وظن بعيد لأنا بينا أنه لو كان عنده خبر لرواه وما كان من عاداتهم الكتمان. بل كان طريقهم التبليغ على ما أمروا به فأما الذي قالوه قلنا إنما يجب علينا أن نحمل قولهم على أنهم قالوه عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان لا يجوز عليه الخطأ فأما إذا جاز عليهم الخطأ فلا يجب علينا أن نثبت خبرا عن النبي صلى الله عليه وسلم بالشك ولو جاز هذا في الصحابة جاز في التابعى. أيضا وسائر الأمة فيقال: إذا ذهب الواحد منهم إلى خلاف القياس يحمل أمره على أنه قال ذلك لأنه سمع خبرا عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه لم يظهره وكل ما يمكن أن يكون في الصحابى يمكن أن يقال في التابعى أيضا فدل أن ما ظنوه باطل والله أعلم فصل   1 تقدم تخريجه. 2 أخرجه أبو داود: العلم "3/321" ح "3660" والترمذي: العلم "5/34" ح "2657- 2658" وابن ماجه: المقدمة "1/84" ح "230- 232" والدارمي: المقدمة "1/86" ح "228- 230" بنحوه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 فصل: وأما انعقاد الإجماع بالفعل فكل فعل لم يخرج مخرج الحكم والبيان لا ينعقد به الاجماع . كما أن ما لم يخرج من أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم مخرج الشرع لم يثبت به الشرع وأما الذي خرج من الأفعال مخرج الحكم والبيان يصح أن ينعقد به الإجماع لأن الشرع يوجد من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم كما يوجد من قوله فإن اجتمع القول والفعل فلا شك في انعقاد الإجماع لأنه إذا انعقد الإجماع فكل واحد منهما على الانفراد منهما أولى. مسألة: اتفاق أهل الإجماع شرط في انعقاد الإجماع وإن خالف واحد أو اثنان ينعقد الإجماع. وقال محمد بن جرير الطبرى: ينعقد ولا يعتد بخلاف الواحد والاثنين. وقيل: إنه قول أحمد بن حنبل رضى الله عنه وهو قول بعض المعتزلة ويقال: إنه قول أبى الحسين الخياط أستاذ الكعبى1 واستدل من قال بقوله تعالى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115] وقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: 143] وبقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تجتمع أمتى على الضلالة" 2 "قالوا: وهذه الأشياء حقيقة تتناول جميع المسلمين وجماعة الأمة وإن شذ منهم الواحد فخرج منهم كما أن الإنسان يقول رأيت بقرة سوداء [وإن] 3 كان فيها شعيرات بيض ويقول أكلت منها رمانة وإن سقطت منها حبة وتعلقوا بقوله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالسواد الأعظم"4 وأهل العصر كلهم إلا الواحد والاثنين   1 انظر نهاية السول "3/305, 306" لنظر المحصول "2/85" انظر إحكام الأحكام "1/366" روضة الناظر "124" المعتمد "2/29" انظر أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "3/171". 2 أخرج الترمذي: الفتن "4/466" ح "2167" عن ابن عمر وقال: هذا حديث غريب: وابن ماجه: الفتن "2/1303" ح "3950" عن أنس وقال في الزوائد: في إسناده أبو خلف الأعمى واسمه حازم بن عطاء وهو ضعيف. وانظر تلخيص الحبير "3/162" ح "8". 3 ثبت في الأصل "فإن". 4 أخرجه ابن ماجه: الفتن "2/1303" ح "3950" وإسناده ضعيف عن أنس وأحمد: المسند "4/340" ح "18479" عن النعمان بن بشير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 هم السواد الأعظم فلأن الواحد من أهل العصر إذا خالف من سواه من أهل العصر يوصف بالشذوذ وذلك اسم ذم فلو كان يعتد بخلافه معهم لم يوصفوا باسم الذم ولهذا أنكرت الصحابة على ابن عباس رضى الله عنه مقالته في الربا قالوا: ولأن الناس يقولوا في خلافة أبى بكر رضى الله عنه على الإجماع وقد خالف في ذلك جماعة منهم سعد بن عبادة. وقال سلمان: كردن ونقلوا عن على رضى الله عنه أنه وقف عن البيعة مدة ومع ذلك لم يعتد بخلاف هؤلاء ولأن خبر الجماعة مقدم على خبر الواحد وكذلك قول الجماعة مقدم على قول الواحد وأما دليلنا أن الإجماع هو الحجة بالدلائل السمعية على ما سبق وإذا خالف الواحد أو الاثنان فقد فقد الإجماع ففقدت الجماعة والدليل على أن الإجماع قد فقد بخلاف الواحد والاثنين لأن دليل الإجماع قوله تعالى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115] والألف واللام لاستغراق الجنس فظاهر الآية اقتضى جميع المؤمنين وكذلك قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] فتناول جميع الأمة وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم "لا تجتمع أمتى على الضلالة" 1 تتناول جميعهم وإذا خالف مخالف وأن كان قليلا فقد فقد اجتماع الأمة وصار القول من بعض الصحابة دون البعض. ببينة: أنه إذا كثر المخالف امتنع انعقاد الإجماع فكذلك إذا قل المخالف يمتنع أيضا بعد أن يكون من أهل الاجتهاد وهذا لأن القلة لا تمنع من الإصابة ويجوز أن يصيب القليل ويخطئ الكثير قال الله تعالى {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13] وقال تعالى أيضا: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 249] وقال تعالى: {إِنَّ الذينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [الحجرات: 4] وقال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سبأ: 20] فثبت بما قلنا: أن قلة العدد لا تمنع من إصابة الصواب وكثرة العدد لا تؤمن من الخطأ يدل عليه أن الإجماع لو انعقد مع خلاف الآحاد لوجب على المجمعين أن ينكروا على من خالفهم من الآحاد كيلا يتبعوا غير سبيل المؤمنين وقد أقرت الصحابة على خلافهم كما أقروا ابن عباس وإن كان قد تفرد بالخلاف في القول وقد تفرد هو أيضا بمسائل في الفرائض خالف سائر الصحابة وكذا ابن مسعود وقد أقر على ذلك ولأن أبا بكر قد   1 تقدم تخريجه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 كان يخالف جميع الصحابة في قتال مانعى الزكاة وقد كانوا يشيرون ببعض المفارقة ثم إنه يبين لهم أن الحق معه واتفقوا على قتالهم فإن قيل: قد تفرد قوم من الصحابة بأشياء لم يعتدوا بذلك. وأثبتم الإجماع مع وجود ذلك الخلاف مثل خلاف حذيفة في وقت السحور وخلاف ابن أبى طلحة في أكل البرد في حال الصوم1. وقوله: إنه لا يفسده وكذلك خلاف ابن عباس في جواز ربا الفضل2 قلنا نحن إنما نعتد بخلاف الواحد إذا لم يكن على خلاف النص فأما إذا كان بخلاف النص فلا يعتد بخلافه ويحكم بانعقاد الإجماع معه وعلى هذا خلاف حذيفة فإنه مخالف النص وهو قوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] وكذلك خلاف ابن أبى طلحة لأن الله تعالى قال: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] والصيام هو الإمساك ولا يوجد الإمساك مع أكل البرد وعلى هذا خلاف ابن مسعود جميع الصحابة رضوان الله عليهم في الفاتحة والمعوذتين في ترك إثباتهن في المصحف3 وخلاف أبى بن كعب في إثبات سورتى القنوت4 وقد أنكر عليهما سائر الصحابة ذلك وكذلك خلاف ابن عباس في الربا وليس ما اختلفنا من جملة ذلك أما الجواب عن كلماتهم أما الكلام الأول: قلنا أما أسماء الجمل والعموم لا يتناول الأكثر إلا مجازا ألا ترى أنه يجوز أن يقال في الأمة إلا الواحد: ليس هؤلاء كل المؤمنين ولا كل الأمة فعلمنا أن اسم الكل لا يتناول إلا الجميع والذي قالوا من اسم البقرة السوداء وقولهم أكلت الرمانة فليس ذلك بحقيقة وإنما هو على طريق المجاز ويجوز أن يقال إنما حسن أن يقول: "أكلت الرمانة" وإن سقطت منها حبات أو يقول: رأيت بقرة سوداء وإن كان فيها شعيرات بيض لأجل العادة فإنه في العرف يقال: أكلت   1 قال الشيخ النووى: وحكاه أصحابنا عن الحسن بن صالح وبعض أصحاب مالك أنه لا يفطر بذلك قال: وحكوا عن أبي طلحة أنه كان يتناول البرد وهو صائم ويبتلعه ويقول: "ليس بطعام ولا شراب" انظر شرح المهذب "6/340". 2 قد ذكر ابن قدامة المقدسي قول ابن عباس وأسامة بن زيد وأرقم وابن الزبير وقال: إن ابن عباس قد رجع إلى قول الجماعة روى ذلك الأثرم بإسناده وقاله الترمذي وابن المنذر وغيرهم انظر المغني لابن قدامة "4/123" قال الإمام الترمذي: وقد روى عن ابن عباس أنه رجع عن قوله حين حدثه أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم انظر سنن الترمذى "3/534". 3 انظر الإتقان للسيوطي "1/182- 183". 4 انظر الإتقان للسيوطي "1/181- 182". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 الرمانة وإن سقطت منها حبات ويقال في العرف: رأيت بقرة سوداء وإن كان فيها شعيرات بيض فخرج الأقل من الكلام بالعرف وليس إذا نقل العرف من ذلك يجب أن ينقل غيره من الأسماء وأما تعلقهم بقوله صلى الله عليه وسلم "عليكم بالسواد الأعظم"1 قلنا السواد الأعظم جميع أهل العصر ولو كان المراد منه الأكثر لدخل تحته النصف من أهل العصر إذا نادوا على النصف الآخر بواحد أو اثنين أو ثلاثة وأما قوله: يوصف الواحد إذا خالف بالشذوذ قلنا لا نسلم أنه يطلق عليه هذا الاسم إلا إذا خالف بعد ما وافق. وأما قولهم: إنهم أنكروا على ابن عباس خلافه في الربا قلنا إنما أنكروا عليه لأجل خبر أبى سعيد لا لأجل مخالفته بقية الصحابة. وأما بيعة أبى بكر قلنا لا يثبت خلاف أحد أما سعد بن عبادة قد كان يظن أن للأنصار حقا في الخلافة وكذلك جماعة من الأنصار كانوا على هذا فلما روى أبو بكر رضى الله عنه ما روى رجعوا عنه وقول سلمان هو من حكاية الروافض فلا يثبت إليه وأما قولهم إن عليا امتنع من بيعة أبى بكر رضى الله عنهما إلى مدة قلنا الأصح أنه بايع وقد روى ذلك في بعض الروايات الصحيحة وعلى أنه إن روى ما قالوه من تأخير البيعة فرواية المثبت أولى من رواية النافى وأما استدلالهم بالخبر المتواتر ففيه جوابان: أحدهما: أن التواتر يقتضى القطع بالصدق ولا يقتضى القطع بالحق وأما الإجماع يقتضى القطع بالحق فمن أين أنه إذا أخبر جماعة يقتضى القطع بالصدق ما يوجب أن يكون قولهم يقتضى القطع بالحق لأن أخبار التواتر توجب العلم الضرورى على ما سبق وذلك علم يمكن للإنسان دفعه عن نفسه بخلاف خبر الواحد لأنه لا يوجب العلم الضرورى: ألا ترى أنه يمكن للإنسان دفعه عن نفسه وأما ها هنا فهو اجتهاد وغير يمتنع إصابة الأقل للصواب وأخطأ الأكثر لأن الإصابة ها هنا بالتوفيق ولا يمتنع أن يوفق الله الأقل ويحرم الأكثر قال الله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [البقرة: 269] .   1 تقدم تخريجه وانظر كشف الخفاء للعجلوني "2/569" - "3223". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 فصل: ومن شروط الإجماع أن يقيم أهل الإجماع على ما أجمعوا عليه ولا يرجعوا عنه : فإن ظهر فيهم رجوع عما أجمعوا عليه فقد قال بعضهم: يجوز أن يرجع عنه بعضهم ولا يجوز أن يرجع عنه جميعهم لأن رجوع جميعهم يمنع أن يكون الحق فيما أجمعوا عليه ومنهم من قال: لا يجوز أن يرجع لا جميعهم ولا بعضهم لأن إجماعهم قد تبين الحق فيما أجمعوا عليه وانتفى عنه الخطأ وإذا تعين لم يجز الرجوع لأنه إذا جاز الرجوع تبين أن الإجماع انعقد على الخطأ ومنهم من قال: يجوز أن يرجع عن جميعهم ويجوز أن يرجع عن بعضهم وهذا صحيح على قول من يجعل انقراض العصر شرطا في انعقاد الإجماع1 وسنبين ذلك والأصح أنه لا يجوز الرجوع عنه بحال لما سبق بيانه والله أعلم. مسألة: انقراض العصر ليس بشرط في صحة انعقاد الإجماع في أصح المذاهب لأصحاب الشافعي. ومن أصحابنا من قال: إن انقراض العصر شرط ومنهم من قال: إن كان قولا من الجميع لم يشترط انقراض العصر وإن كان قولا من بعضهم وسكوتا من الباقين اشترط فيهم انقراض العصر وقال بهذا أبو إسحاق الإسفراينى ولأصحاب أبى حنيفة فيه اختلاف أيضا وقال بعض أصحاب الشافعي أيضا: إنه ينعقد قبل انقراض عصره فيما لا مهلة له فلا يمكن استدراكه من قتل نفس أو استباحة فرج ولا ينعقد فيما اتسعت له المهلة وأمكن استدراكه إلا بانقراض العصر2 واحتج من قال: إن انقراض   1 وهو مذهب الإمام والأستاذ أبو بكر بن فورك. انظر إحكام الأحكام للآمدي "1/366". 2 اعلم أن انقراض المجمعين: معناه موتهم من غير أن يوجد منهم مخالفة. وقد ذهب أكثر الأصوليين إلى أن موت المجمعين ليس شرطا في صحة الإجماع بل يكون صحيحا وحجة فيحرم على أحدهم المخالفة بعد الإجماع كما يحرم على غيرهم ذلك. وقال أبو بكر بن فورك وأحمد بن حنبل: إن انقراضهم شرط في صحة سماعهم فيجوز لكل منهم الرجوع ما دام حيا متى ظهر له خلاف ما أجمعوا عليه فإذا ماتوا جميعا ولم توجد مخالفة كان الإجماع منعقدا وصار حجة على من بعدهم. وقال إمام الحرمين: إن انقطع المجمعون بالجكم لم يكن موتهم شرطا وإن لم يقطعوا به = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 العصر شرط بأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان يرى التسوية في القسم ولم يخالفه أحد من الصحابة ثم خالفه عمر لما صار الأمر إليه وفضل في القسم وصحت هذه المخالفة لأن العصر كان لم ينقرض على الأول وكذلك رأى عمر أن لا تباع أمهات الأولاد1 ووافقه عليه الصحابة. ثم إن عليا رضي الله عنه2 خالفه من بعد وهذا لأن الإجماع لا يستقر قبل انقراض العصر لأن الناس يكونون في حال تأمل وتفحص فوجب وقوفه على انقراض العصر ليستقر. وأما دليل من قال: إنه ليس بشرط قول الله عز وجل: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115] وقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] وقوله تعالى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: 143] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تجتمع أمتى على الضلالة " 3 وكل هذه الدلائل موجبة للرجوع إلى الإجماع فإذا وجد الإجماع فشرط انقراض العصر زيادة لا يدل عليها دليل. ببينة: أن هذه الدلائل توجب الرجوع إلى مجرد الإجماع لأنه لم تدل هذه الدلائل على غيره فإذا وجد وجب أن يحكم بكونه حجة ثم نقول: لا يخلو إما أن يكون الدليل هو انقراض العصر أو الاتفاق بشرط انقراض العصر أو مجرد الاتفاق والأول باطل لأنه يقتضى أن العصر إذا انقرض بدونه أن يسبقه اتفاق أن يكون حجة وهذا لا يقول به أحد وأما الثانى فباطل أيضا لأنه يقتضى أن يكون لموتهم تأثير في كون قولهم حجة وذلك لا يجوز أيضا كما لا يكون لموت النبي صلى الله عليه وسلم تأثير في كون   = وأسندوه إلى ظنهم فلا بد من تطاول الزمن. ماتوا أو لم يموتوا. وفصل الآمدي فقال: إن كان الإجماع قولا أو فعلا من الجميع لم يكن موتهم شرطا وانعقد الإجماع بمجردالفعل أو القول من الجميع وليس لواحد منهم الرجوع والمخالفة وإن كان الإجماع قولا من البعض وسكوتا من الباقي كان موتهم شرطا وصح لمن سكت أن يخالف. انظر نهاية السول "3/315, 316" انظر المحصول "2/71" إحكام الأحكام للآمدي "1/366" المعتمد "2/41, 42" فواتح الرحموت "2/244" حاشية الشيخ محمد بخيت المطيعي على نهاية السول "3/315" أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "3/175, 176". 1 وهو مذهب مالك وسفيان الثوري والحسن بن صالح وأصحاب الراي والأوزاعي والشافعي وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وقد احتجوا بأن عمر منع من بيعهن انظر الأشراف لابن المنذر "2/213". 2 ذكره المنذر قول علي وابن عباس رضي الله عنهما انظر الأشراف لابن المنذر "2/213". 3 تقدم تخريجه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 قوله حجة وإذا بطل الوجهان ثبت الثالث. ودليل آخر أنا لو اعتبرنا انقراض العصر لم ينعقد إجماع ما لأنه قد حدث قوم من التابعين في زمان الصحابة كانوا من أهل الاجتهاد وشرط انقراض العصر يجوز مخالفتهم لهم لأن العصر ما انقرض ويجب على هذا انقراض عصر التابعين ومعلوم أنه لا ينقرض عصرهم إلا من بعد أن يحدث من تابعهم من هو من أهل الاجتهاد ويجوز لهم أن يخالفوا التابعين ثم يعتبر انقراض عصر تابعى التابعين ثم كذلك القول في كل عصر إلى قيام الساعة فلم يتصور على هذا انعقاد الإجماع في عصر ما وهذا باطل فيكون شرطا ما يؤدى إليه باطلا ولقائل أن يقول على هذا إنه لا يمتنع أن يكون المعتبر هو انقراض عصر من كان مجتهدا عند حدوث الحادثة لا من يتجدد بعد ذلك فلا يلزم اعتبار عصر التابعين إن أحدث منهم مجتهد بعد حدوث الحادثة والمعتمد أن الدليل قد قام أن الإجماع حجة وقد وجد الإجماع فوجب الحكم لقيام الحجة من غيره اعتبار انتظار لا انقراض العصر أو غير ذلك. ببينة: أنا لو اعتبرنا انقراض العصر جوزنا أن يكون الأمة حين أجمعت على الخطأ وقد دللنا على أن هذا لا يجوز. وأما الجواب عما تعلقوا به. أما الأول: قلنا قد كان عمر خالف أبا بكر رضى الله عنه في زمانه وناظره وقال: أتجعل من جاهد في سبيل الله بماله ونفسه كمن دخل في الإسلام كرها. فقال أبو بكر رضى الله عنه إنما عملوا لله فأجرهم على الله وإنما الدنيا بلاغ ولم يروا أن عمر رضى الله عنه رجع إلى قول أبى بكر رضى الله عنه فالظاهر أنه كان يرى التفضيل في زمان أبى بكر فلما صار الأمر إليه فضل على ن كان يعتقده وأما الذى تعلقوا به من فضل أمهات الأولاد قلنا قد روى عن جماعة من الصحابة أنهم كانوا يرون بيع أمهات الأولاد ومنهم جابر بن عبد الله وغيره1 فلم يكن وجد الاتفاق في زمان عمر رضى الله عنه وأما قول عبيدة السلمانى: رأيك مع الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك ليس فيه دليل على أنه قد كان وجد الإجماع بل يدل على أنه قد كان على قول عمر رضى الله عنه جماعة وليس كل جماعة يكون إجماعا وإنما اختار عبيدة أن ينضم قول على إلى قول عمر رضى الله عنهما لأنه يرجح قول   1 قال ابن المنذر: وقال جابر وأبو سعيد الخدري: كنا نبيعهن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم انظر الأشراف لابن المنذر "2/213". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 الأكثر على قول الأقل وأما قولهم إن الإجماع لا يستقر إلا بانقراض العصر قلنا إن أرادوا بنفى الاستقرار نفى كونه حجة فذلك نفس المسألة وإن أرادوا أنه لا ينعقد إلا بعد انقراض العصر فليس بشئ لأن الانعقاد إنما يكون باتفاق الأمة من غير خلاف وإنما اختلفوا أنه مع وجود هذا الانعقاد هل يكون حجة أم لا وأما الذى قالوه أنه حال تأمل وتفحص قلنا المسألة فيما إذا قطعت الأمة على الاتفاق إلا أن أهل العصر لم ينقرضوا عليه والناظر المتأمل غير والقاطع على الشئ غير والإنسان إذا أخبر عن نفسه أنه يعتقد فهو بخلاف ما إذا أخبر عن نفسه أنه متأمل متوقف وقد قال بعض أصحابنا رحمهم الله إنهم إن أسندوا الإجمع إلى الظن فلا يتم الإجماع ولا ينبرم ما لم يتطاول الزمان بذلك وإن كان اتفاقهم لا عن اجتهاد بل عن أصل مقطوع به فإنه يتم الإجماع في الحال وهذا الفرق لا يصح لأنه لا يعرف إلى أى شئ أسندوا الإجماع ولو عرف أنهم أسندوا اتفاقهم إلى دليل مقطوع به فيكون حجة ذلك الدليل لا غير والأصح ما قدمناه بالدليل الذى اعتمدنا عليه. مسألة: إذا أدرك التابعى عصر الصحابة وهو من أهل الاجتهاد اعتبر رضاه في صحة الإجماع. ومن اصحابنا من قال: لا يعتبر1 واعلم أن هذا الخلاف فيما إذا بلغ التابعى رتبة الاجتهاد ثم أجمعوا على حكم خالفهم فيه التابعى فأما إذا تقدم الإجماع على قول التابعى فإنه يكون التابعى محجوجا بذلك الإجماع وأما الذين قالوا: إنه لا يعتد بخلاف التابعى مع الصحابة تعلقوا من ذلك بأن الصحابة قد اختصوا بلقاء الرسول صلى الله عليه وسلم ومعرفة التأويل والتنزيل والعلم بسبق الدين ووجوه الدلالة وطريق الاجتهاد فصار غيرهم من التابعين إذا أجتمعوا معهم بمنزلة العامة مع علماء الدين لا يعتد بخلافهم وقد أنكرت عائشة على أبى سلمة بن عبد الرحمن بن عوف دخوله فيما بين الصحابة ومنازعته عبد الله بن عباس وقالت: أراك كالفروخ يصيح مع الديكة2 وعن   1 انظر نهاية السول "3/323, 324" حاشية الشيخ محمد بخيت المطيعي "3/323" إحكام الأحكام للآمدي "1/368" المحصول "2/83" فواتح الرحموت "2/221" المستصفى "1/185" المعتمد "2/33" أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "3/179". 2 أخرجه مالك في الموطأ: الطهارة "1/46" ح "72". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 على: أنه نقض الحكم على شريح1 حين قضى بين ابنى عم أحدهما الأخ لأمه وكان جعل المال كله لابن العم الذي هو أخ لأم فنقض عليه وأما دليلنا فلأنه من أهل الاجتهاد وقت وقوع الحادثة فيعتبر خلافه ولا ينعقد الإجماع دون قوله: دليله إذا كان صحابيا وهذا لأن العبرة بالعلم دون الصحبة بدليل أن من كان من الصحابة غير مجتهد لا يعتبر اتفاقه لانعقاد الإجماع ولأن الصحابة أقروا التابعين على الفتوى في زمانهم وقد كان على رضى الله عنه قلد شريحا قضاء الكوفة فقضى برأيه وعلى بها لا ينكر وكان سعيد بن المسيب يفتى بالمدينة زمن الصحابة وعطاء بن أبى رباح بمكة وأصحاب ابن مسعود كانوا يفتون بالكوفة في زمن الصحابة وكذلك الحسن البصرى وجابر بن زيد كانا يفتيان بالبصرة زمن الصحابة وروى أن ابن عباس رضى الله عنه وأبا سلمة بن عبد الرحمن اختلفا في عدة المبتوته عنها زوجها إذا كانت حبلى فقال ابن عباس تعتد بأبعد الأجلين وقال أبو سلمة: إذا وضعت حملها حلت فقال أبو هريرة أنا مع ابن أخى2 يعنى أبا سلمة ولم ينكر أحد قول أبى سلمة [وهو] 3 خلاف لابن عباس وقد قال أبو هريرة: أنا معه وأما الذي ذكره من قول عائشة رضى الله عنها في هذه القصة قلنا قد نقلنا عن أبى هريرة تصويبه وعلى أنه ليس في قول عائشة ما يدل على أن خلاف التابعين لا يعتد به مع الصحابة ويجوز أنه كان رفع صوته على ابن عباس وادعى منزلته وطلب مساواته فانكرت عائشة ذلك وأما خبر على في نقضه قضاء شريح قلنا: هذا لا يعرف وكيف؟ وقد كان ولاه قضاء الكوفة وكان يقضى برأيه وعلى بها وعلى أنه يحتمل أن يثبت ذلك أنه إنما كان يقضى لأنه كان سبقه الإجماع في المسائل قبل أم يدرك شريح زمان الاجتهاد وأما قولهم إن الصحابة يكونون أعلم بالاحكام قلنا قد يكون أعلم وقد لا يكون والدليل على هذا أن أنسا كان يحيل بالمسائل على الحسن البصرى وكان عمر بن يحيل على ابن المسيب وقد قال صلى الله عليه وسلم: "رب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه" 4   1 أخرجه الحافظ اليهقي في الكبرى في الفرائض "6/393" ح "12377" - "12378". 2 أخرجه البخاري: التفسير "8/521" ح "4909" ومسلم: الطلاق "2/1122" ح "57/1485"والنسائي: الطلاق "6/156" "باب عدة الحامل المتوفى عنها زوجها". 3 زيادة ليست في الأصل يستقيم بها المعنى. 4 تقدم تخريجه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 وعلى أن ما ذكره من الترجيح لا يمنع من مساواة الناس بعين لهم في الاجتهاد. ألا ترى أن من طالت صحبته للنبى صلى الله عليه وسلم من أكابر الصحابة وعلمائها لهم من المزية بطول الصحبة وقوة الأنس بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا ليس لصغارها ولمتأخريها ثم الجميع في الاجتهاد واحد فبطل ما قالوه ولأن هذا الترجيح إن كان قائما يكون فيما يوجد من التنبيه فأما فيما يوجد من الكتاب وسائر الأصوليين فلا يكون لمن شهد مع النبى صلى الله عليه وسلم مزية على غيره فإن قال قائل: إنكم قد قلتم: من قبل إن انقراض العصر ليس شرط من انعقاد الإجماع وإذا لم يكن شرطا وقد انعقد الإجماع فكيف يعتبر خلاف التابعي؟ والجواب: أنا قد قلنا في أول المسألة ما يبطل هذا السؤال لأنا قد بينا أن موضع الخلاف إذا لم تقع الحادثة حتى أدرك التابعى حال الاجتهاد فأما إذا سبق الاتفاق فلا إشكال أن أنعقاده وكونه حجة لا يقف على إدراك التابعى وموافقته لذلك وقد اعتبر ذلك من يشترط انقراض العصر وقد بينا أن هذا الاعتبار يؤدى إلى أن لا ينعقد إجماع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 "فصل": قد بينا من قبل أن من شرط الإجماع اتفاق جميع علماء العصر على الحكم فإن خالف بعضهم لم يكن إجماعا . وقد سبق بيان هذا ومما يتصل بهذا أن من الناس من قال: إذا أجمع أهل الحرمين مكة والمدينة وأهل المصرين الكوفة والبصرة لم يعتد بخلاف غيرهم1 وما ذكرنا من قبل يدل على بطلان قول من زعم هذا. وقال بعضهم: إذا أجمع الخلفاء الاربعة لم يعتد بغيرهم وذهب إلى هذا القاضي أبو حازم من أصحاب أبى حنيفة وحكاه الضميرى عنه2. وقالت الرافضة: إذا قال على كرم الله وجهه شيئا لم يعتد بخلاف   1 انظر نهاية السول "3/263, 264, 265" إحكام الأحكام "1/349" المستصفى "1/187" روضة الناظر "126" حاشية الشيخ محمد بخيت المطيعي "3/264, 265" أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "3/154, 155". 2 الخلفاء الأربعة: هم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي لقوله عليه السلام: "الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم ملكا ثم عضوضا وكانت مذة هؤلاء الأربعة ثلاثين سنة. وقد اختلف العلماء في إجماعهم فالجمهور على أن إجماعهم على شيء مع وجود المخالف لا يكون حجة على غيرهم وقال الإمام أحمد والقاضي أبو حازم من الحنفية أنه حجة وإن وجد مخالف انظر نهاية السول "3/266, 267" إحكام الأحكام "1/357". انظر روضة الناظر = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 غيره وقال بعض الرافضة: إذا اتفق أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على شئ كان حجة مقطوعا بها ولم ينظر إلى خلاف غيرهم1 وقد تعلق من قال بالقول الاول بقوله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي" 2 وتعلق من قال بالقول الثاني بقوله صلى الله عليه وسلم: "أنا من على وعلى مني" 3 وقال: "أنا مدينة العلم وعلى بابها" 4 وقال حين بعث عليا خلف أبى بكر في الحجة التي استخلف أبا بكر عليها ليقرأ أوائل سورة براءة على الناس في الموسم: " لا يبلغ عنى إلا رجل من أهل بيتى" 5 وتعلق من قال بالقول الثالث بقوله صلى الله عليه وسلم: "تركت فيكم شيئين إن تمسكتم بهما لن تضلوا أبدا كتاب الله عز وجل وأهل بيتي ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض" 6 وقال صلى الله عليه وسلم: "مثل أهل بيتى مثل سفينة نوح من ركبها نجا" 7 وتعلقوا بخبر الكسائى وهو أنه لما نزل قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} [الأحزاب: 33] دعا عليا وفاطمة   = "127" فواتح الرحموت "2/232" المحصول "2/83" أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "3/156". 1 اختلف العلماء في إحماع العترة فالجمهور على أن إجماعهم ليس حجة على غيرهم عند المخالفة وقال الشيعة الزيدية والإمامية: إن إجماعهم مع وجود المخالف لهم حجة انظر نهاية السول "2/265, 266" انظر إحاكم الأحكام "1/352" فواتح الرحموت "2/228" المحصول "2/80" أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "3/155". 2 أخرجه أبو داود: السنة "4/200" ح "4607" والترمذي: العلم "5/44" ح "2676" وقال: هذا حديث حسن صحيح. وابن ماجة: المقدمة "1/15" ح "42" والدارمي: المقدمة "1/57" ح "95" وأحمد: المسند "4/156" ح "17147"اتنظر تلخيص الجبير "4/209" ح "14". 3 أخرجه الترمذي: المناقب "5/636" ح "3719" وقال: حسن غريب وابن ماجة: المقدمة "1/44" ح "119" وأحمد: المسند "4/204" ح "17517". 4 أخرجه الحاكم في المستدرك "3/126" والطبراني في الكبير "11/65" ح "11061" وقال الحافظ الهيثمي في المجمع "9/117": رواه الطبراني وفيه عبد السلام بن صالح الهروي وهو ضعيف. 5 أخرجه الترمذي: التفسير "5/275" ح "3090" وقال: حسن غريب وأحمد: المسند "3/260" ح "13219" انظر الدر المنثور للسيوطي "3/209". 6 أخرجه مسلم: فضائل الصحابة "4/1873" ح "36/2408" من حديث طويل وأحمد: المسند "3/33" ح "11217" بنحوه. 7 أخرجه الطبراني في الكبير "12/34" ح "12388" وذكره الهيثمي في المجمع "9/171" وقال: رواه البزار والطبراني وفيه: الحسن بن أبي جعفر وهو متروك وأبو نعيم في الحلية "4/306" والحاكم في المستدرك "2/343" وانظر الدر المنثور للسيوطي "3/334". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 والحسن والحسين رضى الله عنهم وأدار عليهم كساء وقال: " هؤلاء أهل بيتى" 1. وأما الدليل على تصحيح ما قلنا: أن الشرط اتفاق جميع الصحابة في عصرهم لينعقد الإجماع ويصير حجة لقوله تعالى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115] فتعلق الوعيد بترك سبيل المؤمنين دل أنه لا يتعلق بترك سبيل بعضهم وقال النبى صلى الله عليه وسلم: "أصحابى كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" 2 ولأن الدليل على أن الإجماع حجة ليس من طريق العقل إنما هو من طريق السمع وإنما ورد السمع بعصمة جميع الأمة لأنه عليه السلام قال: "لا تجتمع أمتى على الضلالة" 3 يدل على أن الخطأ يجوز على بعضهم وإنما لا يجوز على جماعتهم وأما الأخبار التي رووها فيما ادعوه4 فتلك الأخبار تدل على اختصاص هؤلاء القوم بفضائل من بين سائر الصحابة وتدل على نوع يميز لهم من غيرهم ولا تدل على أن قولهم حجة مقطوع بها. وقد ورد في غيرهم من الصحابة أخبار ورويت لهم فضائل عن النبى صلى الله عليه وسلم لو تتبعناها وعلقنا معانيها دل أيضا أن أقوالهم حجة وأنه يجب علينا أن نتبعهم ونترك قول غيرهم منها ما ورى في أبي بكر وعمر رضى الله عنهما أنه قال صلى الله عليه وسلم: "اقتدوا باللذين من بعدي أبى بكر وعمر" 5 وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الحق لينطق على لسان عمر" 6 وفى رواية أنه قال صلى الله عليه وسلم: "السكينة" 7 بدل لفظة "الحق" وقال: "لو كان بعدى نبي لكان عمر" 8 وقال: " اهتدوا بهدى عمار وتمسكوا بعهد ابن   1 أخرجه الترمذي: المناقب "5/699" ح "3871" وقال: هذا حديث حسن وأحمد: المسند "6/337" ح "26653". 2 تقدم تخريجه. 3 تقدم تخريجه. 4 في الأصل: ادعوها. 5 أخرجه الترمذي: المناقب "5/609" ح "3662" وقال: هذا حديث حسن وابن ماجه: المقدمة "1/37" ح "97" وأحمد: المسند "5/447" ح "23307" انظر تلخيص الحبير "4/209" ح "13". 6 أخرجه أبو داود: الإمارة "3/138" ح "2961" والترمذي: المناقب "5/617" ح "3682" وابن ماجة: المقدمة "1/40" ح "108" وأحمد: المسند "2/530" ح "9235" بألفاظ نحوه. 7 أخرجه أحمد: المسند "1/132" ح "837". 8 أخرجه الترمذي: المناقب "5/619" ح "3686" وقال: حسن غريب والطبراني في الكبير "17/180" ح "475". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 مسعود" 1 وقال: "رضيت لأمتى ما رضى لها ابن أم عبد" 2 يعنى ابن مسعود وقال صلى الله عليه وسلم "أعلمكم بالحلال والحرام معاذ وأقرأكم أبى"3 وقال: "إن لكل أمة أمينا وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح" 4 وهذا يوجب الرجوع إلية لاختصاصه بالأمانة ولكل ما ذكروه معنى وتأويل ذكره أهل العلم في كتبهم ولا يحتاج إلى ذكره في هذا الموضوع واقتصرنا على هذا القدر ورفعنا بهذه المعارضة كلامهم والله المعين على التمسك بالحق والمرشد إليه. مسألة: إجماع أهل المدينة على انفرادهم لا يكون حجة عندنا. وقال مالك: إذا أجمع أهل المدينة على شئ لم يعتد بخلاف غيرهم5. وقال الأبهرى من أصحابنا: إنما أراد بهذا فيما طريقه الإخبار. وقال بعضهم: أراد به ترجيح قولهم6 وقد أشار الشافعى رضى الله عنه في هذا في القديم ورجح رواية أهل المدينة على رواية غيرهم وقال بعضهم: أراد بذلك في زمان الصحابة والتابعين وتابعى التابعين فأما من نصر قول مالك على الإطلاق تعلق بقوله صلى الله عليه وسلم: " المدينة طيبة وأنها ينفى خبثها كما ينفى الكير خبث الحديد" 7 قال: والخطأ من الخبث فكان منتفيا عن أهل المدينة. وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الإيمان ليأزر إلى المدينة كما تأزر الحية إلى جحرها" 8   1 أخرجه الترمذي: المناقب "5/672" ح "3805" وقال: حسن غريب. 2 أخرجه الطبراني في الكبير: "9/80" ح "8458" والحاكم في المستدرك "3/317". 3 أخرجه الترمذي: المناقب "5/664" ح "3790 وقال: حسن غريب وابن ماجة: المقدمة "1/55" ح "154" وأحمد: المسند "3/344" ح "13998". 4 أخرجه البخاري: المغازي "7/696" ح "4382" ومسلم: فضائل الصحابة "4/1881" ح "53/2419". 5 المقصود بأهل المدينة هنا أي: الصحابة والتابعين دون غيرهم انظر نهاية السول "3/264". 6 انظر نهاية السول "3/264" إحكام الأحكام للآمدي "1/349" انظر المحصول "2/78" روضة الناظر "126" فواتح الرحموت "2/232" حاشية الشيخ محمد بخيت المطيعي "3/264" أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "3/154". 7 أصله في البخاري ومسلم بلفظ "المدينة تنفي كما ينفي الكير خبث الحديد" أخرجه البخاري: فضائل المدينة "4/104" ح "1871" ومسلم: الحج "2/1006" ح "488/1382". 8 أخرجه البخاري: فضائل المدينة "4/111" ح "1876" ومسلم: الإيمان "1/131" ح "233/147". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 والأخبار في فضل المدينة تكثر ولأن الممدينة منزلة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أن قبض ومهبط الوحى حتى انقطع ودار الهجرة ومنها ظهر العلم ومنها صدر وهى منازل الصحابة ومستقر الإسلام ومتبوأ الأيمان مجموع هذا يدل أن الحق معهم وأنه لا يعدوهم وأما من قال: إن روايتهم أولى فلأنهم أعرف بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كان بينهم من أفقه أهل كل بلد يكونون أخبر وأعرف مما يجرى فيه من غيرهم وأما دليلنا فظاهر وذلك لأن الإجماع إنما كان حجة بالأدلة السمعية التي بيناها وتلك الدلائل تتناول أهل المدينة كما تتناول أهل غيرها من البلاد على الانفراد ولأن الأماكن غير مؤثرة في كون الأقوال حجة دليله الحرم والمسجد الحرام ويقال لأصحاب مالك: ما الذى أوجب قصر الإجماع على أهل المدينة؟ فإن قالوا: لأنهم مخصوصون بالعصمة فهذا كلام باطل بالإجماع ونحن نعلم قطعا أنه يجرى بالمدينة من الفضائح والكبائر مثل ما يجرى في سائر البلاد وإن قالوا: لأنها مهبط الوحى ومنزل النبى صلى الله عليه وسلم وأهلها يتوارثون السنة قرنا فقرن فهذه أمور لا توجب قصر الإجماع على أهلها وتخصيصهم به دون أهل سائر البلدان لأن المجتمعين على الحكم إنما يجمعهم عليه دليل يوجب اتفاقهم عليه والدليل إما بتوقيف أو إجتهاد وأهل العلم حيث كانوا من بقاع الأرض وأقطارها المشاركون لأهل المدينة في أنواع الأدلة ووجوه الاستدلال وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ينزل الوحى عليه بالمدينة وهو مقيم بها وفى أسفاره وهو طاعن عنها وقد نزل عليه بمكة قرآن كثير ولعله يبلغ شطر القرآن فثبت أن أهل المدينة وأهل سائر البلاد في الشرع سواء وثبت أن أدلة الإجماع في الكل سواء وليس لها تخصيص بأهل المدينة دون غيرهم. ببينة: أن المناسك بينها النبى صلى الله عليه وسلم بمكة. وقال: "خذوا عنى مناسككم" 1 ثم لم يقل أحد: إن أهل مكة إذا أجمعوا على شئ من المناسك يكون إجماعهم حجة وأنهم يمتازون بهذا عن سائر البلاد. ثم نقول: إن كثيرا من الصحابة قد تفرقوا عن المدينة ورحلوا عنها إلى العراق والشام ومصر وسائر البلدان وإنما رحل كل واحد منهم بما معه من السنة فبينه في أهل تلك البلاد التي أقام فيها وقد أقام بالشام جماعة منهم أبو عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل وعبادة بن الصامت وغيرهم وانتقل على   1 أخرجه مسلم: الحج "2/943" ح" 310/1297" والبيهقي في الكبرى "5/204" ح "9524" ولفظه للبيهقي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 بالكوفة وهو أحد الخلفاء الأربعة وأقام بها إلى أن توفاه الله عز وجل وكان بها ابن مسعود وحذيفه وسعد بن أبى وقاص وسلمان وغيرهم وحين بعث عمر ابن مسعود إلى الكوفة كتب إليهم بعبد الله على نفسى وورد البصرة من الصحابة طلحة والزبير وعائشة فمن كان معهم من الصحابه فأقام بهها ابن عباس مدة وكان بها أبو موسى الأشعرى وعمران بن حصين وأنس وغيرهم وهؤلاء من أعيان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان مع كل واحد منهم طائفة من أمر الدين وقطعة من السنة وقد تلقاها عنهم أهل هذه البقاع وحصلوها عندهم فكيف يجوز أن يختزلوا دون الإجماع ويفتات عليه في ذلك ولا يكون لهم منه حظ ولا يعتبر منهم خلاف هذا أمر قبيح وخطة مستشنعة ثم نقول إن المدينة كما أنها كانت مجمع الصحابة ومهبط الوحى فقد كانت أيضا دار المنافقين ومجمع أعداء الدين منهم عبد الله بن أبى ابن سلول وحلاس بن سويد ويجمع بن حارثة الثقفى وطعمه بن أبيرق غيرهم وكان من رؤسهم أبو عامر الراهب وله بنوا مسجد الضرار وهو أبو حنظلة غسيل الملائكة وفى المدينة قال القائلون المنافقون: {لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون: 7] وقالوا: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون: 8] وفيها الماردون على النفاق الذين نزل فيهم قوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ} [التوبة: 101] وفيها طعن عمر وحوصر عثمان حتى قتل وعلى أهلها كانت وقعة الحرة أيام يزيد بن معاوية ففنى الخلق وهلك عامة أهل الفضل ثم انجلى عنها أكثر من بقى منهم وبها غيرت السنن زمن مروان بن الحكم حين كان أميرها من قبل معاوية رضى الله عنه وقدم خطبتى العيد على الصلاة وأقام الحرس حتى منعوا الناس عن تحية المسجد حين كان يخطب وأخرج المنبر يوم العيد وغير ذلك مما يكثر والخطب جسيم والداء دوى والشر قد تم وجرى منذ قتل عثمان بالمدينة سنة خمس وثلاثين من الهجرة إلى بعد المائة من الهجرة بالمدينة ومكة والعراق1 وغيرها من بلدان الإسلام ما ترتاع النفوس سماعها وتقشعر القلوب من هولها وشدتها وظهر من الجرأة على الله تعالى وهتك جهات الدين والتهاون بشعائره وتغيير رسومه وسننه ونقض عرى الإسلام وسفك الدماء المحترمة وانتهاك المحارم والإقدام على العظائم التي لا يقدر قدرها ما لو حكى عشر ذلك بل أقل القليل منه بنى إسرائيل لتعاظمه هذه الأمة فكيف وهم   1 ثبت في الأصل "العراقيين". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 الفاعلون لذلك المقدمون عليه ولله أمر بالغه وهو لعباده وهو بالمرصاد ونسأل الله تعالى العصمة وهذا الذى قلنا فيما سوى سيئات سليمان بن عبد الملك وعمر بن عبد العزيز أما سليمان فقد قيل: إنه فتح بخير وختم بخير أما افتتاحه بخير فهو هلاك الحجاج واختتامه بخير استخلافه عمر بن عبد العزيز وأما عمر فقد ضم إلى الخلفاء الراشدين وحسبك بهذا شرفا ونقول في مجموع ذلك ما قاله بعض سلفه: وهو أنه سئل عن الأمور التي جرت بين الصحابة ومن بعدهم وقرأ قوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} البقرة: 286] وأما رواية أحدهم تقديم أهل المدينة فقد قاله بعض أصحابنا على ما قدمناه والأصح أن روايتهم ورواية غيرهم سواء وذلك أن ما يوجب قبول الأخبار يستوى القولفيه أهل المدينة وأهل سائر البلدان ولأن شهادة أهل المدينة وشهادة غيرهم واحد وكذلك الرواية ولأنا قد بينا أنه لا يقدم في المناسك رواية أهل مكة وإن اختصوا بها على معنى أن الكعبة عندهم والمشاعر في بلدهم واختصاصهم بمناسك الحج [أخص] 1 من أهل المدينة بالسنن فأهل المدينة وغير أهل المدينة في السنن والشرع سواء وقد حكى بعضهم عن مالك أنه قال: "يخرج العلم من عندنا شبرا ويرجع ذراعا" يعنى أنه يزاد فيه ولا يمكن إطلاق هذا القول وفيه أن الظن بنقلة الأخبار وقد قال بعض أهل المدينة لبعض أهل العراق. وعندي أن من عندنا خرج العلم فقال: بلى ولكن لم يعد إليكم وأيضا يجوز أن يصير ذراعا [وذلك] 2 بالمدينة أيضا بأن يزيد فيه بعض الفسقة ويجوز أن يكون في الخير زيادة ثابته يقع الزيادة عند بعض العلماء من غير أهل المدينة والأولى هو التسوية [بين] 3 أهل المدينة وغير أهل المدينة في الرواية وفي الاجتهاد وفى مسألة الإجماع على ما سبق هذا مع اعترافنا للمدينة بالفضل الذي خصها الله تعالى به على ما نقل في الأخبار مثل ما نعترف لمكة بالفضل الذى خصها الله به على ما ورد في الأخبار ومن الله العصمة ونسأله أن لا يكلنا إلى أنفسنا وحولنا وقوتنا بمنه وجوده.   1 ثبت في الأصل "اختص". 2 ليست واضحة في الأصل. 3 ثبت في الأصل من. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 الفصل الخامس: وهو يشتمل على معارضة الاختلاف والإجماع تعارض الاختلاف والاجماع ... فصل هذا الفصل هو الفصل الخامس وهو يشتمل على: معارضة الاختلاف والإجماع ويشتمل تعارضها على أربعة أضرب: فالضرب الأول: أن يحدث الإجماع بعد تقدم الخلاف في عصر واحد1 كاختلاف الصحابة ثم إجماعهم بعد خلافهم فيصير الإجماع بهم منعقد وما تقدم من خلافهم ساقطا لأن العمل يكون بما استقرت عليه أقاويلهم وقد استقرت على الإجماع [و] 2 زال به الخلاف وقد وجد في الصحابة من ذلك خلافهم في الصحبة حيث قالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير ثم أن أبا بكر رضى الله عنه لما حاججهم وأخبر أن الخلافة لا تصلح إلا في هذا الحى من قريش رجعوا إلى قوله وزال الخلاف ومن ذلك أيضا خلافهم على أبى بكر في قتال أهل الردة ثم رجعوا إلى قوله وأجمعوا عليه ومن ذلك خلاف ابن عباس وزيد بن أرقم لسائر الصحابة رضى الله عنهم في أن الربا لا يجرى إلا في النساء [رجعا] 3 عن ذلك ووافقا سائر الصحابة ومن ذلك أيضا خلاف عمر وابن   1 إذا اختلف المجتهدون في العصر الواحد في حكم المسألة على قولين فهل يجوز الاتفاق منهم بعد ذلك على أحد القولين: اختلف الأصولين في ذلك فمنهم من جوز الاتفاق بعد الاختلاف ومنهم من منعه. وهذا الحلاف مبني على خلاف آخر وهو هل موت المجمعين شرط في اعتبار إجماعهم أو ليس شرطا فيه فمن قال إن موت المجمعين شرط في اعتبار إجماعهم جوز الاتفاق منهم بعد الاختلاف كأن إجماعهم الأول لم يعتبر لفقدان شروطه ومن قال: إن موتهم ليس شرطا في ذلك بل جعل الإجماع حجة بمجرد الاتفاق وإن لم يموتوا - اختلف في جواز الاتفاق المذكور بعد الاختلاف على أقوال ثلاثة: القول الأول: يجوز مطلقا وهو مختار ابن الحاجب والرازي والبيضاوي. القول الثاني: لا يجوز مطلقا استقر الخلاف -بأن علمت- أو لم يستقر وهو للصيرفي والباقلاني. القول الثالث: يجوز إن لم يستقر الخلاف ولا يجوز عند استقراره وهو لإمام الحرمين والآمدي المستصفى "1/205" انظر نهاية السول "3/281" انظر إحكام الأحكام "1/399" انظر المحصول "2/66" المعتمد "2/37" أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "3/163". 2 زيادة ليست في الأصل. 3 ثبت في الأصل: رجعوا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 مسعود لسائر الصحابة في أن الجنب لا يجوز له التيمم ثم [رجعا] 1 عن ذلك ووافقا سائر الصحابة2. وعندي أن ثبوت الرجوع في هذه المسألة والمسألة التي قبلها نظر ومن هذا الباب خلاف ابن عباس لجماعة الصحابة في تحريم المتعة فإن ابن عباس أحلها3. ونقل ذلك عن ابن مسعود ثم أن ابن عباس رجع عن ذلك4. وعندي أن في الرجوع عما كان يقوله نظر والفقهاء ينقلون عن جابر بن زيد أن ابن عباس رضى الله عنه لم يلبث حتى رجع عن قوله في الصرف وأما قول ابن مسعود في تحليل المتعة فليس بمعروف وقد أورده بعص أصحابنا وقد قال أبو سعيد الاصطخرى: إن المتعة محرمة بالإجماع وجعل مرتكبها زانيا وأوجب الحد عليه وأما سائر أصحابنا وكذلك عامة الفقهاء قد أبوا عن هذا وجعلوا حكم الخلاف باقيا ولم يوجبوا الحد بارتكابها5 ولا وسموا مرتكبها بسمة الزنا وفى تفسيقه وجهان. والضرب الثاني: أن يحدث الخلاف بعد تقدم الإجماع في عصر واحد فهو على ضربين أحدهما: أن يكون المخالف لم يوافق المجمعين قبل خلافه فيصح خلافه ولا ينعقد مع خلافه الإجماع كما خالف ابن عباس في القول مع إجماع غيره عليه. والضرب الثالث: أن يكون وافقهم ثم خالفهم كخلاف على في بيع أمهات الأولاد مع اتفاقه مع عمر وسائر الصحابة في تحريم بيعهن فمن جعل انقراض العصر شرطا في انعقاد الإجماع بخلافه لحدوثه قبل استقراره ومن لم يجعله شرطا أبطل خلافه مع إجماعه. والضرب الرابع: أن يحدث الإجماع بعد تقدم الخلاف في عصرين وذلك مثل اختلاف الصحابة على قولين وإجماع التابعين على أحد القولين فهذه مسألة معروفة وسنذكرها.   1 ثبت في الأصل "رجعوا". 2 ونقله الشيخ النووي عنهما وزاد إبراهيم النخعي قال: قال ابن الصباغ وغيره: وقيل إن عمر وعبد الله رجعا انظر شرح المهذب "2/207, 208". 3 ذكره الإمام موفق الدين بن قدامة عن ابن عباس وأكثر أصحابه عطاء وطاوس وه قال ابن جريج وحكى ذلك عن أبي سعيد الخدري انظر المغني لاين قدامة المقدسي "7/571". 4 ذكرع ابن قدامة: انظر المغني "7/572". 5 انظر روضة الطالبين "7/42". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 مسألة: إذا اختلف الصحابة على قولين ثم أجمعت التابعون على أحد القولين: فمذهب الأكثرين من أصحاب الشافعى رضى الله عنه أن خلاف الصحابة ثابت ولا يرتفع بإجماع التابعين. من بعدهم والمسألة لا تصير إجماعا وهو قول بعض أصحاب أبى حنيفه وبعض المتكلمين وقال الأكثرين من أصحاب أبى حنيفه أنه يرتفع الخلاف المتقدم ولا ينعقد الإجماع من التابعين على المسألة وبه قال الإصطخرى وابن خيران والقفال من أصحاب الشافعى رحمه الله عليهم وقد نص عليه الكرخى وصار إليه وكذلك كل من تبعه وذهب إليه أيضا أكثر المعتزلة وحكى بعض أصحاب أبي حنيفة في المسألة روايتين عن أبى حنيفة وحكى عن أببى يوسف أيضا أنه ينعقد الإجماع1 ويرتفع الخلاف المتقدم واحتج من قال بالقول الثانى بقوله تعالى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115] . وبقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: 143] وقد بينا أن ذلك يتناول أهل كل عصر ولم يفصل في اتباع غير سبيل المؤمنين بين أن يكون تقدم خلاف أو لم يتقدم خلاف واستدلوا أيضا بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تجتمع أمتى على الضلالة" 2 وفى رواية "على خطأ" فيجب أن يكون ما اتفق عليه أهل العصر الثاني غير خطأ ولأن الإجماع المبتدأ لا يجوز خلافه فكذلك الإجماع بعد الاختلاف وجب أن لا يجوز خلافه لأن الإجماعين واحد وحرفهم أن الإجماع قد وجد فينعقد ويكون حجة كما لو لم يتقدمه خلاف. ببينة: أن الصحابة لو اختلفوا ثم أجمعوا فإنه يسقط الخلاف المتقدم بالإجماع المتأخر فكذلك يسقط الخلاف المتقدم في مسألتنا لأن الحجة في إجماع التابعين مثل الحجة في إجماع الصحابة فلما سقط اختلاف الصحابة بإجماعهم فيسقط أيضا بإجماع التابعين وأما حجة من ذهب إلى المذهب الأول وهو الأصح تعلقوا بقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] "فأمر عند وقوع التنازع بالرد إلى الكتاب والسنة وأهل العصر الأول قد ردوا الحادثة إلى الكتاب والسنة فوجدوا الحادثة مجتهدا فيها وقد   1 انظر الإحكام "1/394" المحصول "2/66, 67" انظر نهاية السول "3/286, 287" المستصفى "1/203" حاشية الشيخ المطيعي "3/286, 287" أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "3/164". 2 تقدم تخريجه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 انقرض عصرهم على هذا وقد أثنى الله على التابعين بحسن المتابعة فإذا اعترضوا عليهم قطعوا الاجتهاد عن الحادثة لم يكونوا متبعين فدل أن الحادثة على ما رآه أهل العصر الأول فيها وأنها مستمرة على ذلك وهذا الحقيقة وهي أن علماء العصر إذا اختلفوا في الحادثة على مذهبين وذلك مثلا في تحليل وتحريم فقد تضمن ذلك إجماعهم من كافتهم على أن الخلاف سائغ من الحادثة فحصل في ضمن الخلاف الإجماع على جواز الخلاف فإذا صورنا الرجوع إلى أحد القولين من التابعين لم يجز لأنه مسبوق بالإجماع على جواز الخلاف فنقول: ما أجمعت الصحابة عليه لم يجز للتابعين إبطاله كما لو أجمعوا على قول وليس يلزم على هذا إذا اختلف الصحابة على قولين ثم أجمعوا على أحد القولين لأنا إن قلنا: إن انقراض العصر شرط في صحة الإجماع لم يسلم لوجود الإجماع على تسويغ الخلاف وأن قلنا إن انقراض العصر ليس بشرط وهو الأولى على ما سبق لم يسلم جواز الاتفاق على أحد القولين بعد هذا الاختلاف وقد حكى عن القاضى أبى بكر أنه جعل حكم الصورتين واحد وقال كما لا يجوز لأهل العصر الثانى أن يتفقوا على أحد القولين ويبطلوا به الخلاف المتقدم كذلك في أهل العصر الواحد أيضا لا يجوز أن يختلفوا على قولين ثم يتفقوا على أحد القولين فإن قيل لا يمتنع أن يتفقوا على تسويغ الاجتهاد بشرط أن لا يظهر إجماع فإذا ظهر الإجماع يسقط ذلك الاتفاق كما أنهم اتفقوا أن فرض العادم للماء التيمم ما لم يجد فإذا وجد الماء زال ذلك الاتفاق. والجواب: أن دعوى هذا الشرط ليس عليها دليل بل حصل احتلافهم وجود الإجماع على تسويغ الاجتهاد وهذا الإجماع لا يجوز إبطاله بإجماع يوجد من بعد وأما مسألة التيمم فبعيدة عن هذا لأن النص قد دل على أن جواز التيمم مشروط بعدم الماء فإذا وجد الماء زال الشرط وأما ها هنا فإن أهل العصر الأول قد أجمعوا على تسويغ النظر على الإطلاق من غير شرط فهو بمنزلة إجماعهم على شرط واحد فلا يجوز أن يزول ذلك بإجماع يوجد بعده يدل على ما ذكرنا: أن الإجماع إذا حصل واستقر لم يجز أن يتغير بالاختلاف من بعد فكذلك إذا حصل الاختلاف واستقر لم يجز أن يتغير بالإجماع من بعد والاعتماد على الكلام الأول وقد قال بعض أصحابنا: إن القول إذا صدر عمن له في الدين تحمل لم يجز أن ينقطع حكمه بموته بدليل النبى صلى الله عليه وسلم فإن قيل: قد ورد خلاف ما صرتم إليه من الصحابة فإن أبا بكر كان يرى سبى المرتدات ثم اتفقوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 على المنع زمن عمر رضى الله عنه وأجرى الأثر على ذلك وكذلك كانت الصحابة تقرأ بالحروف المختلفة في زمان أبى بكر وعمر رضى الله عنهما ثم اجتمعوا في زمان عمر رضى الله عنه على [أن] 1 ما بين الدفتين كلام الله فدل أن الوفاق الثاني يدفع الخلاف الأول قيل له هذا لا يشبه مسألتنا لأن عصر الصحابة كله عصر واحد فقد يمتد زمان النظر وتنفسخ مدة الرؤية وقد كانوا ينظرون ثم يعيدون النظر كرة بعد أولى على حسب ما يحتاج إليه لدقة الأمر وغموضه إلى أن يتبين لهم الأمر غاية البيان ويزول الإشكال فلم يكن الإجماع يستقر بأول وهلة والكلام فيما إذا استقر الأمر من الصحابة على شئ وانقرضوا على ذلك ثم حدث من بعد ما يوجب إزالة ما انقرضوا عليه ورفعه وقد قال بعض أصحابنا: إن قرب عهد المختلفين ثم اتفقوا على قول فلا أثر للخلاف المتقدم وهو نازل منزلة تردد من ناظره ثم استقراره أخيرا وأما إذا تمادى الخلاف في زمان فتطاول بحيث يعلم أنه لو كان ينقدح وجهه في سقوط أحد القولين ليظهر ذلك في الزمان الطويل فإذا بلغ الأمر إلى هذا المنتهى فلا حكم للوفاق مع أحد القولين والأمر باق على الخلاف السابق لما بينا أن في اختلافهم وفاقا ضمنيا على أن الخلاف في هذا المجال سائغ وهذا لا بأس به والأول هو المنقول عن أئمة المذاهب وأما الجواب عن كل ما تعلقوا به من الظواهر فقد بينا أن اختلافهم يثبت وفاقا ضمنيا فلا يجوز رفعه من بعد وعلى هذا صارت هذه الظواهر حجة على المخالفين لأن سبيل المؤمنين في العصر الأول لما كان هو تسويغ الاجتهاد فلا يجوز اتباع غير سبيلهم وكذلك لما اجتمعوا على ما ذكرناه كان خلافه ضلالة وخطأ وأما الذى قالوا أن الإجماع المبتدأ لا يجوز خلافه فكذلك الإجماع بعد الخلاف قلنا: ولما قلتم هذا ثم الإجماع المبتدأ لم يتضمن رفع إجماع سبق وقوعه وأما ها هنا فإن الإجماع الذى يوجد من بعد من أهل العصر الثانى يتضمن رفع إجماع سبق وقوعه وهو ما سبق ذكره وأما تعلقهم بما إذا اختلف أهل العصر ثم أجمعوا عليه فقد أجبنا عنه وعلى أنا قد ذكرنا من قبل أن بعض أصحابنا ذهب إلى أن انقراض العصر شرط انعقاد الإجماع وعلى هذا القول لا يرد هذا الفصل أصلا وإن جربنا على ما اخترنا في أن انقراض العصر ليس بشرط فليس وجه الجواب عنه إلا أن يمنع ويقال إذا لم يختلفوا لم يجز أن يجمعوا على أحد القولين وإن تمسكوا بالصور   1 زيادة ليست بالأصل يستقيم بها الكلام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 التي قلناها فنقول إنهم كانوا في طلب الدليل ومهلة النظر ولم يكن استقرار الأمر على نفى من اختلاف أو اتفاق ويمكن أن يقال: لا نسلم أن أبا بكر كان يرى سبى المرتدات ولم ينقل عنه رضى الله عنه نص على ذلك يحتمل أن من سبى من النساء كن من الكافرات الأصليات ولم يكن أسلمن أصلا وأما اتفاق الصحابة على حرف واحد بعد أن كانوا يقرءون ثم بالحروف المختلفة فذلك نوع مصلحة رأوها لما وقع الاختلاف والتنازع وخافوا المفسدة العظيمة والكلام فيما يرجع إلى الأحكام الشرعية وليس هذا مما نحن فيه. واعلم أن هذا الذي قلناه كله من الإجماع بعد الاختلاف فأما الاختلاف بعد الإجماع في عصر واحد فهو نبأ على أن انقراض العصر هل هو شرط في انعقاد الإجماع أو لا فإن قلنا شرط فيجوز الاختلاف لأن الإجماع لم ينعقد بعد وإن قلنا: ليس بشرط فلا يجوز وأما في العصرين وذلك بأن يجمع الصحابة على شئ ثم يختلف التابعون فلا يجوز ذلك ويكون اختلاف معاندة ومكابرة والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 فصل: إذا اختلف الصحابة في مسألتين على قولين : ذهبت طائفة منهم إلى حكم وصرحت بالتسوية بينهما وذهبت طائفة أخرى إلى حكم آخر وصرحت بالتسوية فهل يجوز لمن بعدهم أن يأخذ بقول إحدى الطائفتين في إحدى المسألتين ويأخذ بقول الطائفة الأخرى في المسألة الأخرى؟. ففيه وجهان: أحدهما: أنه يجوز والآخر لا يجوز ووجه الجواز أنهم لم يجمعوا على التسوية بين المسألتين في حكم واحد1 وإنما سووا في حكمين مختلفين فجاز لمن بعدهم الأخذ بالتفصيل وأما وجه عدم الجواز وهو أن جميعهم أجمعوا على التسوية بينهما وهذا التفصيل يمنع من التسوية فصار كما لو أجمعوا على قول واحد فإنه لا يجوز إحداث قول ثاني وهذا الوجه أشبه وأصح.   1 انظر نهاية السول "3/275" حاشية المطيعي "3/275" انظر إحكام الأحكام "1/387" انظر المحصول "2/64" المعتمد "2/46" أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "3/161". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 فصل: ولا يجوز أن يتفق أهل عصر على الجهل بحكم حادثة حدثت في عصرهم . لأنه لا يخلوا من حكم الله تعالى فيها لما نصب من الأدلة عليه فصار الجهل بحكمها إجماعا على الخطأ وقد دللنا أن ذلك لا يجوز ولأن في الإمسال عنها إعراضا عن الأدلة التي توصل إلى الحكم في الحادثة وهذه معصية لا يجوز أن ينعقد عليها الإجماع من الأمة وحين وصلنا إلى هذا الموضع انتهى القول في الإجماع بعون الله تعالى وحسن تأييده وتيسيره ولما فرغنا من باب الإجماع ووصلنا إلى باب القياس فقد بقيت علينا مسائل شذت عن الأبواب المتقدمة وليس بعض هذه الإبواب المتقدمة بأولى بها من البعض فنذكر اولا تلك المسائل ثم نتكلم في التقليد ثم نشرع في باب القياس حسب ما يأذن الله تيسيره وتسهيله. اعلم أنا وصلنا إلى باب القياس والاجتهاد وما يتصل بذلك غير أنه قد بقيت مسائل شذت عن الأبواب التي قدمناها ولم تدخل في أبواب القياس ولابد من ذكرها فوجدنا ذكرها أليق بهذا الموضع خصوصا مسألة استصحاب الحال وهل هو حجة أم لا فإن هذه المسائل يصلح أن تكون من توابع الإجماع فنقدم هذه المسألة ثم نذكر سائر المسأئل بعون الله وتوفيقه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 مسائل تابعة للإجماع مسألة استصحاب الحال ... [مسألة استصحاب الحال] مسألة: استصحاب حكم الإجماع أو غيره من الدلائل إن أمكن في موضع الخلاف أو عند تغيير الحال: ليس بدليل على الصحيح من المذهب وقال أبو ثور وأبو داود وهو دليل وبه قال المزنى والصيرفى وابن سريج وابن خيران من أصحابنا1. وقال بعض أصحابنا في تفسير استصحاب الحال: أنه استصحاب حكم العموم فيما ورد به وحمله على جميع الأزمان والأوقات مثل أن يقول: صلوا أو صوموا فيحمل ذلك على حكم الصلاة والصوم في عموم الأوقات على الدوام والاتصال فيستصحب حكمه إلى أن يدل الدال على رفعة ونسخه وهذا التفسير ليس بصحيح وهذا الموضع نتفق عليه ولا يجوز أن يسمى هذا استصحاب الحال لأن لفظ العموم دل على استغراقه جميع ما يتناوله اللفظ في أصل الوضع في الأعيان وفى الأزمان فأى عين وجدت ثبت الحكم فيها وأى زمان وجد ثبت الحكم فيه يكون اللفظ دال عليه وتناوله بعمومه فيكون ثبوت الحكم في هذه الصورة من ناحية العموم [لا] 2 من ناحية استصحاب الحال وإنما استصحاب الحال أن يدل الدليل في اثبات حكم ثم يستصحب حكم ذلك الدليل في موضع من غير أن يكون لفظ الدليل تناوله ودل عليه ويقال: تفسيرا استصحاب الحال هو أن يثبت حكم في حالة من الحالات فيتغير الحال فيستصحب المستدل ذلك الحكم بعينه في الحالة المتغيرة ونقول من ادعى تغيير الحكم فعليه الدليل ومثال ذلك في المتيمم إذا رأى الماء قبل الصلاة وجب عليه التوضؤ فيستصحب هذا الحكم بعد الدخول في الصلاة ويقول من ادعى تغيير الحكم فعليه الدليل وقد يكون ذلك في الدليل العقلى أيضا وذلك مثل ما اختلف الناس في أن الأشياء قبل ورود الشرع على الحظرأو الإباحة أو الوقف وكل قول من هذه الأقوال قد انتحله فريق وزعم أن العقل يدل عليه فالاستصحاب أن تستصحب   1 انظر إحكام الأحكام "4/185" امحصول "2/549" نهاية السول "4/358" حاشية الشيخ المطيعي "4/358, 359" المستصفى "1/224" روضة الناظر "139" أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "4/177". 2 ثبت في الأصل: لأن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 حكم ذلك في موضع على ما كان عليه من إباحة أو حظر أو وقف إلى أن يقوم الدليل الشرعى على خلاف ذلك الحكم فينقله عن حكمه وقد قال الأصحاب: إنه لا خلاف في هذا الموضع أيضا ويجوز الاستدلال بما ذكرناه حتى يقوم الدليل الشرعى على خلافه وإنما الخلاف في الحكم إذا ثبت بدليل وقع الخلاف في استدامته بحادث يحدث مثل ما ذكرنا في المتيمم ومثل المكفر يدخل في الصوم عند عدم القدرة على العتق ثم يجد الرقبة فقال قوم: يخرج من الصوم بالعتق وقال قوم: يمضى فيه ومثل الحائض ثبت في حقها أحكام الحيض قبل العشر فإذا جاوزت العشر لم تستصحب تلك الأحكام ولا يحكم بانقطاعها واستدل من تعلق باستصحاب الحال بما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الشيطان يأتي أحدكم فينفخ بين أليته فيقول أحدثت أحدثت فلا ينصرفن حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا" 1 فقد قضى استدامة الحكم وهو استصحاب الحال ويدل عليه أنه لا خلاف أنه إذا تيقن الحدث وشك في الطهارة أو تيقين الطهارة وشك في الحدث فإنه يأخذ باليقين ويطرح الشك فكذلك إذا عرض الشك لوقوع الاختلاف في الحادثة لم يجز أن يرفع ما تقدم من اليقين فيها واستدل أبو بكر الصيرفى وقال: إن ابتداء الحكم ثبت بقيام الدليل عليه وفى موضع الخلاف لا يحكم بانتفاء الحكم لعدم قيام الدليل على نفيه وبيان هذا أن المتيمم إذ دخل في الصلاة فقد حكم الإجماع بصحة صلاته فإذا رأى الماء في خلال صلاته اختلفنا في حكمه فقال بعض الناس: يخرج منها وقال بعضهم: يمضى فيها والخروج حكم والمضى حكم وكل واحد منهما يحتاج إلى دليل فإذا عدم الدليل على وجوب الخروج وعدم الدليل على المضى تقابل الأمران وتساويا ولا يجوز أن يحكم بأحدهما ووجب [إبقاء] 2 الحال على ما كانت عليه وإذا ثبت أن الخروج لا يجب وأن الحال باقية على ما كانت عليه ثبت أن المضى في الصلاة وإتمامهاواجب وقال الصيرفى ولست أقول إن الإجماع مستصحب ودل على بقاء الصلاة ووجوب المضى فيها لأن الإجماع قد زال [عند] 3 رؤية الماء فلا يستصحب حكمه لكني أقول: لا يجب الخروج أو لا يخرج لعدم الدليل عليه ووجب تبقية الحال على ما   1 أخرجه البيهقي في الكبرى "2/361" ح "337" والطبراني في الكبير "11/222" ح "11556" من حديث ابن عباس نحوه. 2 كشط في الأصل. 3 ثبت في الأصل: عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 كانت عليه فقالوا: ولأن ما ثبت بالعقل من براءة الذمم يجب استصحابه في مواضع الخلاف فكذلك ما ثبت بالإجماع وجب وأن يكون كذلك هذا لأن الحكم إذا ثبت بدليل من دلائل الشرع لا يجب استدامة الدليل لبقاء الحكم بل يبقى الحكم ويدوم إلى أن يقوم الدليل على قاطع يقطعه ومسقط يسقطة فإذا لم يقم الدليل على سقوطه بقى ثابتا على ما كان من قبل ومن ادعى سقوطه فعليه الدليل ألا ترى: أن من ادعى النبوة وأقام المعجز على ثبوته فإن تجدد إنكار منكر لنبوته لا يجب عليه إقامة المعجز ثانيا بل النبوة على ثباتها بالدليل الذي أقامه من قبل فيستمر الثبوت ولا يلتفت إلى قول المنكر ولا حجة على المنكر في هذه الصورة إلا من جهة استصحاب الحال وعلى هذا إذا عرفنا فراغ ذمة الإنسان يحكم أن الأصل فراغه فلو ادعى عليه إنسان حقا فإن القول قول المنكر لأن الأصل فراغ ذمته فصار استصحاب الأصل الذى عرفناه دليلا في دفع دعوى المدعى عنه وكذلك إذا ثبت الملك لإنسان فنازعه منازع يكون القول قول من في يده وإنما جعلنا القول قوله باستصحاب الحال التي تقدمت فدل أن استصحاب الحال حجة في الأحكام معمول بها وعلى هذا نقول من اشترى أخاه أو عمه لم يعتقه عليه لأن الأصل بقاء ملكه الثابت بالشراء فمن ادعى زواله فعليه الدليل. فأما الدليل على أن استصحاب الحال ليس بحجة هو أن المستصحب ليس له في موضع الخلاف دليل لا من جهة العقل ولا من جهة الشرع فلا يجوز له إثبات الحكم فيه. دليله: ما إذا لم يتقدم موضع الخلاف إجماع وإنما قلنا لا دليل له لأن دلائل الشرع معلومة من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس ولم يؤخذ شيء من هذا في هذه الصورة أما الكتاب والسنة فلا شك في انعدامها ها هنا وكذلك القياس وأما الإجماع فقد كان ثابتا لكنه قد زال وإذا انعدمت الدلائل فما قالوه إثبات حكم بلا دليل وقد نذكر صورة حتى يتبين الكلام فنقول: المستدل باستصحاب الحال في مسألة التيمم إذا رأى الماء في الصلاة لا يخلو إما أن يشترك بين الحالتين في وجوب الوضوء لاشتراكهما فيما يدل على وجوب الوضوء فإن قال ذلك فليس هذا بدليل بل ينبغي أن يتبين للخصم اشتراك الموضعين فيما يدل على وجوب الوضوء وإما أن يشترك بينهما في الحكم لاشتراكهما في علته وهذا قياس وإما أن يشترك بينهما بغير دلالة ولا علة فليس هو بأن يجمع بينهما بأولى بأن لا يجمع بينهما وهذا لأن عدم الدليل لا يكون حجة فإن قالوا: إن حدوث الحادث لا يغير الأحكام فحدوث الصلاة لا يغير حكم وجوب الوضوء قيل له: لا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 يمتنع أن يختلف الشرع بحدوث الحوادث ولهذا يجوز أن يرد نص بإسقاط الوضوء عن الرائى للماء في الصلاة مع وجوبه على من رآه قبل الصلاة واستدل أبو زيد في هذه المسألة وقال: إن ثبوت الشئ أو عدم الشئ غير موجب ثبوته ولا عدمه يعنى في المستقبل ويجوز حال العدم ثبوت حالة موحدة ويجوز في حال ثبوت وجود علة معدمة ألا ترى أن عدم الشراء لا يمنع وجود الشراء وكذلك لا يمنع وجود سائر الأسباب وهذا لأن العدم ليس بشئ فيستحيل أن يكون مانعا حدوث شئ وكذلك وجود الشئ ليس بعلة لبقائة بل يبقى لعدم ما يزيله كالملك في باب البيع والحل في باب النكاح وعلى هذا حياة الانسان لا يوجب بقائها ولا يمنع نزيان الموت قال: وإذا ثبت هذا فمن أراد إثبات إدامة الحالة الماضية في المستقبل ثبوته في الماضي وثبوته لا يوجب بقائة كان محتجا بلا دليل يدل عليه أن الثابت لا يزول إلا بدليل بالإجماع فإن كان الاختلاف في الزوال اختلافا في دليله فالذي يدعى الزوال يدعى دليلا والآخر ينكره فلا يكون إنكاره حجة على غيره كما أن دعوى هذا لا يكون دليلا عليه فثبت أن مستصحب الحال متشبث بإنكاره الدليل بلا دليل فإن قيل: الاحتجاج بالأخبار والنصوص صحيح وثبوت النص حجة لا توجب البقاء أيضا فلا يمنع الانتساخ بنص آخر ومع ذلك بقى الحكم قلنا: أما بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يحتمل الحكم الانتساخ قطعا وإذا لم يتصور النسخ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يجوز ثبوته دليل بقائه وإن تصور دعوى ناسخ له فلا يكون ثبوته من قبل بلا ناسخ دليلا عليه قالوا: ومستصحب الحال متمسك بما كان لعدم الدليل على زواله لا لدليل أوجب بقاؤه انتهى كلام أبو زيد وقال بعض أصحابنا: إن الاحتجاج باستصحاب الحال يؤدى إلى التعارض والتكافؤ في الأدلة لأنه ما من أحد يستصحب حال الإجماع موضع الخلاف في صحة فعل أو سقوط فرض إلا ولخصمه أن يستصحب حالة الإجماع في مقابلته وبيان ذلك أنه متى قال في التيمم إذا رأى الماء في صلاته إن صلاته لا تبطل لأنا أجمعنا على صحة صلاته وانعقاد إحرامه ولا يجوز إبطال ما أجمعوا عليه لا بدليل تعارض الخصم فنقول: أجمعنا على اشتغال ذمته بفرض الإسلام فلا يجوز إسقاط ما أجمعوا عليه إلا بدليل فلا يكون التعلق بأحد الإجماعين بأولى من التعلق بالآخر وما أدى إلى مثل هذا يكون باطلا وأما الجواب عن الخبر قلنا نحن لا نمنع من تعدى الحكم من حالة إلى حالة بدلالة وإنما نمنع لا بدلالة وقول النبي صلى الله عليه وسلم دلالة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 وأما مسألة الطهارة: فهناك يقين الدلالة أو يقين الحدث ما زال وها هنا الإجماع قد زال والأولى أن نقول إنه في موضع يقين الطهارة وشك الحدث إنما أخذنا باليقين لأجل الخبر وأما في موضع يقين الحدث والشك في الطهارة كان الأخذ باليقين قياسا على الصورة الأولى وأما الذي استدل به الصيرفى فليس بشئ لأن نهاية ما في الباب أنه يقابل الاحتمالان على ما ذكر لكن لا دليل على بقاء الصلاة فإن قالوا: إذا ثبت يبقى قلنا: قد ذكرنا أن ثبوته لا يكون دليل بقائه فبقى أنه يقول: انعدام الدليل المبطل للصلاة وعدم الدليل لا يكون دليلا فإن قالوا: إذا لم يقم دليل يوجب بطلان الصلاة فهنا قيل له من ادعى البقاء وهناك منازع يمنع البقاء فلابد له من دليل يقيمه عليه ولا دليل له على ما سبق فأما إذا عدم المنازع بقى على ما كان أما عند وجود المنازع لابد من دليل يكون حجة عليه ولم يوجد فإن رجعوا إلى قولهم أن الأصل ثبات الأحكام ودوامها قلنا بلى ولكن ما لم تحدث هذه الحادثة فإما عند حدوث الحوادث فلم قلت هذا وعلى أن قلنا: إن البقاء الذي وقع التنازع فيه لابد من دليل يقام عليه ولم يوجد فأما قولهم إن دليل العقل في براءة الذمم يجعل دليلا وحجة فكذلك دليل الشرع قلنا إنما وجب استصحاب براءة الذمم لأن دليل العقل في براءة الذمة قائم في موضع الخلاف فوجب الحكم به وأما ها هنا فالإجماع الذي كان دليلا على الحكم قد زال في موضع الخلاف فوجب طلب دليل آخر. والجواب: المعتمد أنا لا نقول تثبت براءة ذمته باستصحاب الحال ولا يحكم بكون الشئ له باستصحاب الحال لكن يطلب من المدعى حجة يقيمها على ما ادعاه فإذا لم تقم بقى الأمر على ما كان من غير أن يحكم بثبوت شئ والخلاف واقع في ثبوت الحكم باستصحاب الحال وهذا لا نقوله في موضع ما وقد قال أبو زيد: إن استصحاب الحال يصلح دليلا. لتبقيه حكم قد كان ثابتا ولا يصلح دليلا لإثبات حكم لم يكن ثابتا وربما نقول: هو حجة دافعة ولا يكون حجة مثبته وهذه العلة تنقض ما سبق من كلامه من قبل والأصح على مذهبنا أن استصحاب الحال لا يكون حجة في شئ ما وسائر ما ذكروه من الاستشهاد خارج على ما بيناه وأما الذي تعلقوا به من النبى إذا أقام المعجزة قلنا إذا ما أقام المعجزة ثبت كونه نبيا فيجب على كل أحد الإيمان به فكان سقوط إمكان من ينكر ثبوته من هذا الوجه لا من قبل دليل استصحاب الحال والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 مسألة: النافي للحكم يجب عليه الدليل المثبت : وقال أصحاب الظاهر: لا دليل عليه1 واستدل من قال: أنه لا دليل عليه بقوله صلى الله عليه وسلم: "البينة على المدعى واليمين على من أنكر" 2 والبينة حجة وقد جعلها على مدعى الثبوت لا على مدعى النفى فثبت أن النافي لا دليل عليه. ببينة: أن أهل العلم اتفقوا على قولهم: إن القول في الدعاوي قول المدعى عليه ومعنى قولهم إن القول قوله أنه لا دليل عليه ومعنى قولهم أنه لا يقبل دعوى المدعى أن الدليل عليه وكذلك أجمعوا أن من أنكر النبوة لا دليل عليه وإنما الدليل على من ادعى النبوة. ببينة: أن أقوى الخصومات في البينات والنبي صلى الله عليه وسلم: كان مثبتا والقوم كانوا نفاة وما كان لهم حجة سوى أنه لا دليل على النبوة وإذا كان الأمر على ما قلنا في النبوة وسائر الدعاوي كذلك ها هنا يجب أن تكون الحجة على من أثبت الحكم لا على من نفاه قالوا: ولأن معنى قولنا لا دليل على النافى هو أنه لا دليل على المتمسك بالعدم لأن العدم ليس بشئ والدليل يحتاج إليه لشئ هو مدلول عليه فإذا لم يكن العدم شيئا لم يحتج المتمسك به إلى دليل حتى يدل عليه وأما دليلنا هو أن النفى لكون الشئ حلالا وحراما حكم من أحكام الدين كالإثبات والأحكام لا تثبت إلا   1 إذا نفى بعض المجتهدين حكما من الأحكام فقال: هذا الحكم ليس ثابتا عندي فهل يطالب بدليل على هذا؟ اختلف الأصوليون في ذلك فقال فريق منهم: يطالب بدليل مطلقا لأن نفى الحكم دعوى والدعوى لا تثبت إلا بدليل. وقال فريق آخر: لا يطالب بالدليل مطلقا لأن نفي الحكم استمرار للعدم الأصلي وهو غير محتاج إلى فاستمراره كذلك. وقال فريق ثالث: إن ادعى أنه نفى الحكم ثابت عنده بالضرورة لا يطالب بالدليل لأن عدالته توجب صدقه والضروري شأنه أن لا يكون محل شبهة وإن ادعى أنه ثابت عنده بالعلم النظري أو بطريق الظن طولب بالدليل لأن النظري أو الظني قد يشتبه فيه. فالدليل يبين هل هو مثبت للعدم أو غير مثبت له لنزول الشبه المستصفى "1/132" انظر نهاية السول "4/395" روضة الناظر "139" أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "4/181, 182". 2 أخرجه الترمذي: الأحكام "3/617" ح "1341" ولكنه قال: واليمين على المدعى عليه والبيهقي في الكبرى "8/484" ح "17288" والدارقطني في سننه "4/157" ح "8" انظر تلخيص الحبير "4/229" ح "1". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 بأدلتها وكل من ادعى في شئ من الأشياء حكما من إثبات أو نفي فعليه إقامة الدليل عليه بظاهر قوله تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [النمل: 64] ثم الدليل على ما قلناه من جهة التحقيق هو أن النافى فيما نفاه لا يخلو من أحد الأمرين إما أن يدعى العلم بنفى ما نفاه أو لا يدعى العلم بانتفائه بل إنما يخبر عن جهله وشكه فإن كان يخبر عن جهله وشكه1 فالدليل عنه ساقط لأن أهل النظر قاطبة لا يوجبون على من يدعى الشك والجهل دليلا ولا يقال لمن جهل أو شك: لما جهلت أو شككت ولو رام المدعى لذلك إقامة دليل عليه لم يمكنه ذلك إن كان النافى يدعى العلم بصحة ما نفاه فقال: من أين علمت نفى ما نفيته باضطرار أو باستدلال؛ ولا يمكنه دعوى الضرورة لأنه لو كان ضرورة لشاركناه في ذلك وإن قال: بدليل علمت نفى ما نفيته سئل عن ذلك هل هو حجة عقل أو سمع؟ فإن قال: سمع قلنا له: بين ذلك فإن قال: بعقل قلنا له: بين ذلك فدل أنه لابد من دليل يقيمه واعلم أنه لا خلاص لهم من هذه المطالبة إلا بدعوى علم الضرورة وهذا باطل أو بدعوى جهله بانتفاء ما نفاه فتزول عنه المطالبة أيضا لأنه لا مطالبة على الجهلة فأما تمنى زوال الحجة مع دعوى وجود العلم بانتفاء المنتفى غير متصور قال أبو زيد: قول القائل لا دليل لا يكون دليلا كما أن قوله لا حجة ولا يكون حجة مثل قول الإنسان لا زيد ولا عمرو ولا يكون زيد ولا عمرو فصار المتمسك بالنفى متمسكا بعدم الدليل وعدم الدليل لا يكون دليلا يدل عليه إن دعوى خصه أنه وجد الدليل يعارض قوله إنه عدم الدليل فلا يكون قوله حجة على خصمه كما لا يكون قول خصمه حجة عليه قالوا إن النافى متمسك بالعدم والعدم غير محتاج إلى الدليل فإن الشئ الذي هو مدلول يحتاج له إلى الدليل فأما العدم فليس بشئ فلا يحتاج إلى الدليل وهذا السؤال يفسد بما قلناه من قبل وهو أن النافى يدعى العلم بانتفاء الشئ ودعوى العلم بانتفاء الشئ لا يجوز إلا أن يكون عن دليل نعم دعوى الجهل لا يحتاج إلى الدليل فأما دعوى العلم فلا يستغنى عن الدليل بحال وأما دليلهم قلنا: إن لا دل فهو خارج على ما قلنا لأنا لا نقول إن المدعى عليه إذا ادعى أنه لا شئ عليه أنه ينتفى عنه الحق بإنكاره ونفيه. بل نقول: لا دليل على ثبوت الحق عليه فلا يحكم بالثبوت ومعنى قولنا: إن القول قوله هو أنه لا يقبل دعوى المدعى   1 ثبت في الأصل "وشكله". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 عليه ويترك الأمر على ما كان عليه من قبل ثم يمينه تكون حجة لقطع الخصومة وعلى أنه يمكن أن يقال: إن حجته في إنكاره ونفيه الوجوب عن نفسه يمينه فإن سقطت البينة عنه لم يسقط عنه اليمين التي تقوم مقامها في هذا الجانب فالله تعالى جعل اليمين حجة في جانب المدعى عليه كما أن البينة حجة في جانب المدعي وفى دعوى الأعيان يجوز أن يقال: إن اليد للمدعى عليه حجة فيما يدعيه من كون الشئ ملكا له والحجة مختلفة فيجوز أن تكون اليد حجة ويجوز أن تكون البينة حجة وأحسن الأجوبة هو الجواب الأول وأما تعلقهم بمنكر النبوة قلنا: من ينكر النبوة إذا قطع بالنفى وقال: لست بنبى فإنه يجب عليه إقامة الدليل على نفيه وهو أنه يقول لو كنت نبيا مبعوثا لكان معك دليل يدل على صدقك لأن الله عز وجل لا يبعث رسولا إلا ومعه دليل يدل على صدقه ومهما لم أر معك دليلا دلنى ذلك أنك لست بنبى وإن لم يقطع بالنفى وقال: لا أعلم أنك نبى أو لست بنبى فهذا لا دليل عليه لأنه شاك والشاك لا دليل عليه وأما في مسألتنا فصورة الخلاف في موضع يقطع بالنفى ولا يجوز أن يقطع بالنفى إلا عن دليل يقتضيه ويوجبه فإن قيل: أليس لو نفى صلاة سادسة لا يكون عليه دليل. قلنا: لابد في نفيها من دليل يقيمه عليه وهو أن يقول إن الله تعالى لا يقيد خلقه بفرض إلا وأن يجعل إلى معرفته طريقا من جهة الدليل ولما لم نجد ما يدلنا على الوجوب دلنا ذلك على أنه لا واجب وقد قال: بعض أصحابنا يقال: لمن زعم أنه ليس على النافى دليل قلت هذا بدليل أو بغير دليل فإن قال قلته بدليل فقد اعترف للنافى عليه دليل وإن قال: قلته بلا دليل يقال: له مم يتفضل عمن يقول أنا أنفى صحة ما تعتقده من هذا القول وأتمسك بأن النافى لا دليل عليه وهذا فصل يعتمد في إظهار المناقضة عليهم في قولهم وسئل أبو زيد سؤالا وأجاب عنه وهو فإن قيل: أليس أن ما يثبت بالدليل وهو مما ينفى بلا دليل فقد أثبتم البقاء في هذه الصورة بلا دليل؟ والجواب: أنه يبقى على ما قلته لكن بقاء يحتمل الارتفاع والمحتمل لا يكون حجة في إثبات ما ليس ثابت والحكم في حق الخصم غير ثابت فاحتيج إلى إثباته فما يكون محمتلا لا يكون حجة في حقه ثم قال: على هذا مسائل منها الصلح على الإنكار فإنه جائز عندنا غير جائز عند الشافعي رحمة الله عليه لأن الله تعالى خلق الذمم بريئة عن الحقوق فثبت براءة ذمة المنكر بالدليل الأصلي في براءة الذمم ولم يقم دليل على شغل ذمته قال: وعدم الدليل حجة في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 إبقاء ما يثبت بالدليل عند الشافعى رحمة الله عليه فلم يجز شغل ذمته بالدين فلم يصح الصلح. قال: وعندنا الصلح على الإنكار جائز ونقول: قول المنكر ليس بحجة على المدعي كقوله المدعي ليس بحجة على المنكر وعدم الدليل على شغل الذمة لا يكون حجة للمنكر على المدعى كقول المدعي: إن المال ثابت لم يكن حجة على المنكر وربما عبر عن هذا فقال: عدم الدليل ليس بحجة لإبقاء ما ثبت بالدليل فيجوز شغل ذمته بالدين على معنى أن المال يكون ثابتا في حق المدعي في ذمة المنكر وأما البراءة تكون ثابته في حق المنكر خاصة وهذا لأن خبر كل واحد منهما يكون حجة في حق نفسه دون خصمه ولما كان المال في حقه ثابتا يكون خبره حجة شرعا مع اعتياضه وإن عارضه خبر المنكر لأن تلك المعارضة ليس بحجة في حق المدعي فيبقى الأمر على ما كان قبل المعارضة وهذا كما صح شراء من شهد بالعتق ثم اشترى وإن كان العتق ثابتا في حقه وهذا يؤاخذ به بعد الملك لأنه غير ثابت في حق البائع فصح بيع البائع واعتياضه عن عبد كان ملكا له بخبر هو حجة في حقه لا غير وإن عارضه لخبر المشتري لأنه ليس بحجة عليه وهذا لأنه لا دليل وإن استند إلى أصل ثابت بدليل فذلك الدليل الذي أوجب ثبوته لا يوجب بقاؤه بل البقاء لاستغنائه عن الدليل غير أنه لما لم يكن واجب البقاء وكان مما يجوز زواله بما ينفيه احتمل كل ساعة تأتى طرفان ما يزيله فيصير قول القائل وقد طرأ ما يزيله محتملا للصدق كقوله لم يقم الدليل فلا يصير حجة على جاحد منهما قال: ولأن الذي اعتمد عدم الدليل لبقاء ما ثبت بدليله اعتمد معنى لا يمكنه الإثبات على خصمه فلا يصير حجة عليه وإنما قلنا: لا يمكنه لأنه جائز بالاتفاق تفاوت الناس في العلم بالأدلة ويجوز أن يعلم خصمه دليلا ثم يبلغه ومن ادعى أنه علم كل شئ لا يناظره ويكون متعنتا جاهلا وهذا كما كان يجوز في زمن النبى صلى الله عليه وسلم أن يثبت حكم بدليله ثم ينسخ بدليل آخر فيبلغ الناسخ أقواما دون أقوام فيكون من لم يبلغه الناسخ معذورا في العلم بالمنسوخ ولا يكون جهله بالناسخ حجة على من بلغه الناسخ فكذلك الحجج اليوم يجوز أن يبلغه حجة منها شخصا دون شخص فلا يكون قوله دليل حجة على خصمه قال: ولهذا صح من الله تعالى الاحتجاج بعد التحريم في إثبات الحل في قوله عز وجل: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام: 145] لأن الله تعالى هو المحرم ولا يخفى عليه العدم كما لا يخفى عليه الوجود فثبت العدم على التابعين أجمع بقول الله تعالى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 فيلزمهم البقاء على الحكم الأول الثابت بدليله أعنى الحل هذا كلام أبى زيد ذكره في أصوله الذي سماه: "تقويم الأدلة" وهذا الذي قاله تكلف شديد وبنى على هذا الأصل مسائل أخر وطول الكلام تطويلا كثيرا ولم أر كثير فائدة فيه وفى ذكره ونحن نقول: إن عدم الدليل ليس بحجة في موضع ما والذي ادعاه حكى الشافعى رحمه الله عليه من مذهبه فيما قاله لا ندرى كيف وقع له ذلك والمنقول عن الأصحاب ما قدمناه. وأما مسألة الصلح على الإنكار: فقد بينا وجه فساده في مسائل الخلافيات وكم من أصول ذكروا لنا بنوا عليها مسائل من الخلاف ولا نعلم صحة تلك الأصول على مذهب الشافعى رحمة الله عليه وذكر أيضا مسألة الشفعة على هذا الأصل أو كان جارا على أصلهم فأنكر المشترى أن يكون الشقص ملكا له قال: عند الشافعى رحمة الله عليه لا يلتفت إلى إنكاره ويثبت له حق الأخذ بالشفعة بظاهر ملكه قال: وعندنا ليس له حق الشفعة حتى يقيم البينة أن الشقص ملكه والله أعلم. "فصل" وقد ذكر بعض أصحابنا في الحكم بأقل ما قيل وذلك أن يختلف المختلفون في مقدر بالاجتهاد على أقاويل فيؤخذ بأقلها عند إعواز الدليل وهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون فيما أصله براءة الذمة فإن كان الاختلاف في وجوب الحق وسقوطه كان سقوطه أولى من وجوبه لموافقته براءة الذمة الإ أن يقوم دليل على ثبوت الوجوب فيحكم بوجوبه بدليل وإن كان الاختلاف في قدره بعد الاتفاق على وجوبه كدية الذمى إذا وجبت على قاتله فقد اختلفت الفقهاء في قدرها فقال بعضهم هى كدية المسلم. وقال بعضهم: نصف دية المسلم وقال بعضهم: ثلث دية المسلم وهذا مذهب الشافعي رحمة الله عليه وهل يكون الأخذ بالأقل دليلا حتى ينقل عنه اختلف فيه أصحاب الشافعى رحمة الله على وجهين أحدهما يكون دليلا والآخر لا يكون دليلا. والضرب الثاني: أن يكون فيما هو ثابت في الذمة كالجمعة الفائت فرضها اختلف العلماء في عدد انعقادها فلا يكون الأخذ بالأقل دليلا لارتهان الذمة بها فلا تبرأ الذمة بالشك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 وهل يكون الأخذ بالأكثر دليلا؟!! على وجهين: أحدهما: يكون دليلا ولا ينقل عنه إلا بدليل لأن الذمة تبرأ بالأكثر إجماعا وبالأقل خلافا وجعلها الشافعى رحمة الله عليه منعقدة بالأربعين لأن هذا العدد أكثر ما قيل. والوجه الثاني: لا يكون الأخذ بالأكثر دليلا لأنه لا ينعقد من الاختلاف دليل والشافعى رحمة الله عليه إنما اعتبر عدد الأربعين بدليل آخر1 ولست أرى في هذه الكلمات كثير معنى لكنى نقلت على ما ذكر والله تبارك وتعالى أعلم.   1 انظر نهاية السول "4/380, 381, 382, 383" انظر حاشية الشيخ محمد بخيت المطيعي "4/380, 381, 382, 383" انظر أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "4/183, 184, 185". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 مسألة: فهذه مسألة الحظر والإباحة : أوردنا في هذا الموضع لما بينا من شذوذها عن الأبواب المتقدمة وعدم دخولها في باب القياس ومعرفة هذه المسألة أصل كبير في مسائل كثيرة ولابد من تقديم مقدمة ينبنى عليها ما يتلوها وهى أن الحظر والإباحة والحسن والقبيح. ثم يعرف فاعلم أن الذي ذهب إليه أكثر أصحاب الشافعى رحمة الله عليه أن التكليف يختص بالسمع دون العقل وأن العقل بذاته ليس بدليل على تحسين شئ ولا بتقبيحه ولا حظره ولا إباحته ولا يعرف حسن الشئ وقبحه ولا حظره ولا تحريمه حتى يرد السمع بذلك وإنما العقل آلة يدرك بها الأشياء فيدرك به ما حسن وقبح وأبيح وحرم بعد أن يثبت ذلك بالسمع وقد ذهب إلى هذا المذهب من المتكلمين جماعة كثيرة وهم الذين امتازوا عن متكلمى المعتزلة وذهب إلى هذا أيضا جماعة من أصحاب أبى حنيفه وذهب طائفة من أصحابنا إلى أن العقل مدخلا في التكليف وأن الحسن والقبح ضربان ضرب علم بالعقل وضرب علم بالسمع وأما المعلوم حسنه بالعقل فهو العدل والصدق وشكر النعمة وغير ذلك وأما المعلوم قبحه بالعقل فنحو الظلم والكذب وكفر النعمة وغير ذلك وأما المعلوم حسنه بالشرع فنحو الصلاة والصيام والزكاة والحج وما أشبه ذلك وأما المعلوم قبحه بالشرع فنحو الزنا وشرب الخمر وما أشبه ذلك قالوا وسبيل السمع إذا ورد بموجب العقل أن يكون وروده مؤكدا لما في العقل إيجابه وقضيته وزعموا أن الاستدلال على معرفة الصانع واجب بمجرد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 العقل قبل ورود الشرع ودعا الشرع إليه وهذا مذهب المعتزلة بأسرهم والذي ذهب إليه من أصحابنا أبو بكر القفال الشاشى والصيرفى وأبو بكر الفارسي والقاضى أبو حامد وغيرهم وذهب الحليمى أيضا من المتأخرين وذهب إلى هذا كثير من أصحاب أبي حنيفة1 خصوصا العراقيون منهم واستدلوا في ذلك. وقالوا: إن الله تعالى وبخ الكفار على تركهم الاستدلال بعقولهم على وحدانيته وربوبيته بما يشاهدونه في أنفسهم وغيرهم من الخليقة وأصنافها من الآيات والعلامات فقال: {لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 19] وقال: {لِأُولِي النُّهَى} [طه: 54] وقال: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 76] وقال: {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [العنكبوت: 35] وقال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: 37] أي عقل وقال تعالى حاكيا عن أهل النار: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10] والآيات على هذا المعنى تكثر في القرآن فلو كان العقل لا يدلهم على وجوب ذلك إذا رجعوا إليه لم يوبخوا على ترك الاستدلال بها. ببينة: أن الله تعالى لم يخل شيئا من العالم عن دلالة على وحدانيته ولم يترك خلقه سدى مع إكمال عقولهم وإزاحة العلل عنهم وتمهيد الأسباب التي يصح بها معارفهم فلو لم يجب عليهم الاستدلال بعقولهم بالنظر في هذه الأشياء لخرج الأمر في ذلك عن وجه الحكمة ولبطلت فائدة العقول التي أعطاهم وصاروا بمنزلة البهائم التي لا تحتاج إلى تكليف وحين لم تعط آلته ولم يجعل لها استطاعة وهم في هذا الكلام كثيرا ثبوتا إلى طرف من ذلك واقتصرنا عليه لأن المسألة من باب الكلام أما الدليل على القول الأول وهو الصحيح وإياه نختار ونزعم أنه شعار أهل السنة قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15] ولم يقل حتى نركب فيهم عقولا فلما كان العذاب غير واقع إلا بالخطاب دل أن الإيجاب غير واقع إلا به وقال تعالى حكاية عن الملائكة في خطابهم مع أهل النار: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الزمر: 71] وقال: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} [الملك: 8] في آى غير هذا مما هو في معناه فدل أن الحاجة إنما لزمتهم بالسمع دون العقل وقد ورد نص القرآن بهذا وهو قوله تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] فدل أنه لا حجة   1 انظر التلويح على التوضيح "1/173 إلى 190" البرهان "1/87, 88, 89" انظر نهاية السول "1/82, 83, 84" حاشية الشيخ محمد بخيت المطيعي "1/82, 83, 84". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 بمجرد العقل بحال. وقال تعالى: {أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} [المائدة: 19] ونحن نعلم قطعا أن الكفار كانت لهم عقول ولهذا توجه التكليف عليهم فلو كانت الحجة توجهت عليهم بعقولهم لم يكن لهذه الآيات معنى أصلا فإن قالوا: ورد الشرع بما ورد به مؤيدا لما في العقل وذلك لأن العقل لايدل على من آمن وجبت له الجنة خالدا مخلدا أبدا ولا يدل أن من كفر وجبت له النار خالدا مخلدا فإن هذا مما لا يهتدى إليه العقل وإذا كان الوعد والوعيد على هذا الوجه ثبت بالسمع فلهذا في هذه الآيات التي ذكرتم أضاف ما أضاف إلى السمع وإلى ما أراد به الرسل. والجواب: أنه ليس فيما قلت انفصال عمن ذكرناه لأن الله تعالى بين أن الحجة لا تتوجه إلا بالرسل وبين أن التوبيخ لحقهم في النار لبعث الرسل وبين أن عذرهم انقطع بالرسل وهذا في قوله تعالى: {فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ} [المائدة: 19] وعندهم أن الحجة متوجهة في الإيمان بالله بمجرد العقل والتوبيخ لاحق إياهم بغير رسول والعذر منقطع بغير نذير ولا بشير وأما الآيات اللاتى ذكروها فنحن نقول: إن العقل آلة التمييز وبه تدرك الأشياء ويتوصل إلى الحجج وإنما الكلام في أنه بداية هل يستقل بإيجاب حله وتحريمه وأما قولهم: إنه لا يجوز في الحكمة خلق الإنسان تكميل عقله وتركه سدى وعندنا أن عدم جواز هذا لا يعرف بالعقل أيضا ثم نقول ومن يوافقكم أن الإنسان إذا خلقه الله تعالى وركب فيه العقل فإذا لم يلزمه الاستدلال به تركناه سدى وعطلنا فائدة العقل فإن الله تعالى إنما أعطاه العقل ليستدل به في الأمر والنهى إذا خوطب يميز به بين الحسن والقبيح إذا ورد بالسمع بهما فإذا كان كذلك فلم يخلق سدى لأن السمع قد ورد بالتكليف وإدراك ذلك بالعقل فقد وصلت فائدته وثمرته فبطل ما قالوه فإن قيل لو كان الاستدلال على التوحيد لا يجب بمجرد العقل لكان يجوز ورود الشرع بإسقاطه وإباحة الكفر وإيجابه وحين لم يجز هذا عرفنا أن الوجوب كان بالعقل قيل له: قد وردالشرع بإباحة الفاظ عند الضرر إذا قالها الإنسان باختيار منه يكون كفرا ألا ترى أنه إذا كان مكرها فإنه يرخص له في أنه يقولها إذا كان لا يعتقدها بقلبه ولا يكون قوله ذلك كفرا. وكذلك يرد مثل هذا في الأفعال وذلك مثل السجود للصنم وعباده الشمس والقمر وغير ذلك فإنه إذا فعل هذه الأشياء تقية من عقوبة الكفار وكان مع ذلك مطمئن بالإيمان لم يكفر فإن قيل: إنما يلزمكم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 ورود الشرع بأن يعتقد فيه الإنسان ما هو من خلاف أوصافه قلنا لا يجوز لاستحالته في نفسه وبيان ذلك أن الأمر لا يلزم إلا بمعرفة الأمر على أوصافه فإذا أمرنا لاعتقاد فيه على خلاف ما هو به كان قد وجب الاعتقاد فيه على ما هو به ويستحيل وجود أمر بمأمور هذا وصفه ويكون متناقضا ولا يمكن اعتقاد المتناقض ونحن وإن قلنا: إن العقل لا يوجب شيئا ولا يحرمه ولكن نقول إنه آلة الدرك والتمييز والمستحيل لا يدرك فسقط عنه الدرك والأولى أن نقول: إنما عرفنا أن الله عز وجل لا يكلفنا بما قلتم من اعتقاد الكفر ومعرفته على خلاف ما هو به الشرع قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} وأفحش الفواحش الكفر وقال تعالى: {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [مريم: 35] . وهذه مسألة كلامية فالأولى هو الاقتصار على هذا القدر والمبالغة في مثل هذا النوع لا يؤمن فيه من المعفوات وأن يقال على الله تعالى ما لا يجوز وإنما ذكرنا القدر الذي ذكرناه لأنه كان من مسألة عظيمة في أصول الفقه ولأن مرجع ما يصير أليه أهل السنة في هذه المسألة إلى الآيات التي ذكرناها. وهو أيضا أصل كبير ولعله يحتاج إليه في مسائل من الفقه فذكرنا هذا القدر لئلا يكون الفقيه أجنبيا عنه ويعرف طرفا منه والله تعالى يهدى ويرشد ويوفق بمنه. مسألة: إذا عرفنا الأصل الذي قد بيانه رجعنا إلى المسألة المقصودة المختصة بأصول الفقه فنقول: اختلف العلماء في الأعيان المنتفع بها ما حكمها قبل ورود الشرع قال كثير من أصحابنا: إنها على الوقف لا نقول إنها مباحة ولا محظورة وهو قول الصيرفى وأبو بكر الفارسي وأبى على الطبرى وبه قال أبو الحسن الأشعرى ومن ينتمى إليه من المتكلمين وقال بعض أصحابنا إنه على الحظر إلا أن يرد الشرع بإباحتها وهو قول بعض البغداديين من المعتزلة وقال القاضى أبو حامد المروزى وأبو إسحاق المروزى وحكى ذلك أيضا عن ابن سريج أنها على الإباحة أيضا وهو قول أصحاب أبى حنيفه وإليه ذهب أكثر المعتزلة1. واحتج من ذهب إلى الإباحة بقوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] وهذا لتحريم الإباحة دل   1 انظر نهاية السول "4/352" انظر حاشية الشيخ محمد بخيت المطيعي "4/353" انظر أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "4/174". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 أن الله تعالى خلق الأشياء على الإباحة حيث أنكر على من يعتقد التحريم واستدلوا من حيث المعقول وهو أن الانتفاع بالعين أكلا في المأكول وشربا في المشروب وركوبا في المركوب ولبسا في الملبوس منفعة ليس فيها وجه من وجوه القبح فكان حسنا والعقل يجوز فعل المستحسنات وإنما قلنا: إنه منفعة لأنا نعلم قطعا أن أكل الفاكهة منفعة وشرب الماء كذلك وكذلك كل ما أشبهه وأما قولنا: إنه انتفى عند وجوه القبح لأنه انتفى عنه اتصال مضرة يأخذ وهذا النوع من الفعل لو كان قبيحا لكان وجه قبحه اتصال ضرر منه بغيره لأنه ليس في نفسه بكذب ولا جهل ولا كفر لمنعم إنما يبقى وجه قبحه أن يظلم به غيره ويتصل منه ضرر بذلك الغير ولا شك أن هذا منتف فثبت حسنه من هذا الوجه قالوا: ولا يجوز أن يقال: إنه يجوز أن يكون قبيحا فإذا لم نأمن كونه قبيحا لم يجز فعله وذلك لو كان قبيحا ومفسدة لوجب في الحكمة تعريفنا كونه مفسدة أو نصب أمارة عليه فلما لم يوجد ذلك علمنا أنه ليس فيه مفسدة ولا قبح أصلا. ببينة: أنا إذا لم نعلم وجه قبح جاز لنا هذا الانتفاع كالتنفس في الهواء لما لم يعلم قبحه جاز لنا ذلك وقرروا هذا الكلام من وجه آخر وهو أن النفع بالعين يدعو إلى الفعل فإذا خلا من وجوه القبح وخلا من أمارة الضرر والمفسدة حكم بحسنه وعلى هذا التقرير يقولون: إن المعتبر هو الأمارة والدليل وعلى أن المعتبر هو أمارة الضرر والمفسدة أن العقلاء لا يلومون من امتنع من الفعل لتجويز الضرر إذا كان هناك أمارة ويلومون من امتنع لمجرد التجويز إذا لم يكن عليه أمارة الا ترى أنهم يلومون من امتنع من أكل طعام شهى لتجويز كونه مفسدة إذا لم يكن عليه أمارة بأن يقول هو مسموم ولا يلومونه إذا امتنع من أكله إذا كانت هناك أمارة تدل على ما قاله وكذلك يلومون من امتنع من القيام بجنب حائظ لخوف سقوطه إذا لم يكن هناك أمارة ولا يلومون إذا امتنع وهناك أمارة من ميل أو فساد أساس وما أشبه ذلك فثبت أن المعتبر وجود الأمارة على كونه مفسدة أو مضرة ولم يوجد ها هنا فقضى بحسن الفعل بدليل ما بينا يدل عليه أنه لو قبح الإقدام على المنفعة لجواز كونها مفسدة لقبح الإحجام عنه أيضا لجواز كونه مصلحة وفى هذا إيجاب الانفكاك منهما وهو إيجاب لما ليس في طوق الإنسان ووسعة قالوا: ولا يجوز أن يقال: إن القبح إنما كان لأنه تصرف في ملك الغير بغير إذن فلم قلتم: إن هذا قبيح فإن قاسوه على تصرف بعضنا في ملك بعض فهذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 قياس باطل لأن معنى الملك فينا وفى الله مختلف فالجمع بين ملكنا وملك الله لا يجوز وإنما قلنا: إنه يختلف لأنه معنى كوننا مالكين للشئ هو أنا أحق بالانتفاع به من غيرنا على الإطلاق وذلك مستحيل على الله عز وجل ومعنى كونه مالكا للشئ أنه قادر على إفنائه وإيجاده. ببينة: أن في الامتناع من الانتفاع إضرار بالنفس وليس في الانتفاع إضرارا بملك الله تعالى فصار الأولى إطلاق الانتفاع ثم نقول إنما قبح تصرفنا في ملك غيرنا لأنه يضره لا لأنه مالكه فقط ألا ترى أنه يحسن منا الاستظلال بحائط غيرنا والاستضاءة بنار غيرنا وكذلك النظر في مرآة الغير والتقاط ما تناثر من حب غلته بغير إذنه لما لم يضره ذلك والانتفاع والضرر يستحيلان على الله عز وجل فصارت الإباحة متعينة. دليل آخر: وهو أن الله تبارك وتعالى خلق هذه الأعيان وأوجدها وركب فيها المنفعة فلا يخلو من أن يكون خلقها لغير غرض أو لغرض ولا يجوز أن يكون لغير غرض لأنه يكون عبثا ولا يجوز أن يكون الله تعالى عابثا في أفعاله فوجب أن يكون خلقها لغرض ولا يخلو عند ذلك إنما يكون خلقها ليضر بها أو لينتفع بها ولا يجوز أن يقال خلقها ليضر بها لأنه حكيم لا يبتدئ بالضرر ولأن الإضرار بمن لا يستحق الإضرار سفه فدل أنه خلقها لينتفع بها وإذا خلقها لينتفع بها فلا يخلو أما أن يكون خلقها لينتفع بها نفسه أو ينتفع غيره وهو العباد ولا يجوز أن يكون لينفع نفسه لأنه غنى عن المنافع ولا يتصور أن يصل إليه نفع فدل أنه خلقها لينفع بها عباده وإذا خلقها لينفع بها عباده فيكون خلقها إذا لهم في الانتفاع بها فإن قلتم خلقها ليستدل بها نقول إنما يصح الاستدلال بها إذا عرفت والمعرفة بها موقوفة على إدراكها وإن قلتم: خلقها ليجتنب العبد عنها ويصير العبد يبتلى بذلك فإذا اجتنب يستحق الثواب نقول في هذا إباحة الإدراك1 أيضا لأنه إنما يستحق الثواب بتجنبها إذا دعت النفس إلى إدراكها ولابد في ذلك من تقدم إدراكها حتى إذا أدركها وصارت النفس داعية إليها حينئذ إذا اجتنب استحق الثواب فثبت أنه كيفما كان الأمر لا فائدة في خلقها وتركبت المنفعة فيها إلا الإباحى للانتفاع بها دليل آخر وهو أنه يحسن من العقلاء التنفس في الهواء والاستنشاق من النسيم ويجوز أن يفعلوا منه أكثر ما يحتاج إليه للحياة ومن رام أن يقدر على نفسه ذلك فلا يزيد على قدر ما يحتاج إليه للحياة عده العقلاء من المجانين والعلة في جواز   1 ثبت في الأصل "الأراك". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 ذلك أنه انتفاع لا يعلم فيه مفسدة ولا مضرة وهذا موجود في كل ما ينتفع به ولا يجوز أن يقال: إن علة حسن ذلك بقاء الحياة به وفى تركه إهلاك النفس لأنا إنما عينا الإلزام في موضع يفعل منه ما يبقى الحياة بدنه وعلى أن الكف عن التنفس وإن أدى إلى إتلاف الحياة فلم يجب أن يقبح ولا يجوز ذلك قالوا: وإذا ثبت بهذه الدلائل حسن الانتفاع بهذه الأعيان وإن الخلق وقع لذلك بطل القول بالحظرية وبطل القول بالوقف. ببينة: أنه إذا اعتقد الوقف فلا يكون وقفا لأن الاعتقاد إذا وجب بطل الوقف واستدل أبو زيد بقوله تعالى: {هُوَ الذي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} [البقرة: 29] وبقوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} [الجاثية: 13] قال: وإن الله تعالى ما حرم شيئا من المتناولات والانتفاعات وما سوى ذلك إلا لمصالح تعود إلى العباد في الحرمة فحرم الزنا1 لما فيه من ضياع النسب وحرم الإسراف في الأكل لما فيه من الضرر وحرم تضييع المال لما فيه من السفه وحرم الخمر لما فيها من نقص العقول والصد عن ذكر الله تعالى وحرم القمار لما فيه من البغضاء والعداوة ولما فيه من السفه بتضييع المال وحرم الخنزير2 لما في أكله من عدوى طبعه إلى الآكل وكذلك سائر السباع العادية3 وحرم علينا الخبائث حتى لا يعدوا إلينا الخبث الذي منها وأباح عند الضرورة لأن ضرر الهلاك فوق عدوى الخبث. فثبت أن التحريم كله مصالح للعباد فكان النهى من الله تعالى على سبيل نهى الطبيب المريض عن بعض الأغذية لصلاح المريض ثم أنه يمنحه له إذا صار الصلاح في التناول وكذلك نهى عن شرب الدواء في بعض الأحوال ويأمر بذلك في بعض الأموال من غير تبدل حال المشروب في نفسه بل تبدل حال الشارب وقد يبيح الطبيب شيئا لإنسان دون أنسان مع اتفاق حالهما لاختلاف مصالحهما فثبت أن الحرمة لا تكون إلا لمصلحة تعود الينا فإذا لم يعرف في التحريم مصلحة بوجه وبما تعين التحليل وثبت أن الأصل هو الإباحة وأن التحريم يكون يعارض دليل قال والدليل على هذا أن الله تعالى [قال] : {قُلْ لا أَجِدُ   1 ذكره ابن المنذر إجماعا انظر الإجماع لابن المنذر "112". 2 انظر المغنى "11/64". 3 قال الإمام ابن قدامة المقدسي: أكثر أهل العلم يرون تحريم كل ذي ناب قوي من السباع يعدو به ويكسر إلا الضبع منهم مالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الحديث وأبو حنيفة وقال الشعبي وسعيد بن جبير وبعض أصحاب مالك: وهو مباح انظر المغنى "11/66". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} الآية. فيما أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه "الآية فعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم الاحتجاج بلا دليل على التحليل من طريق الشرع وعدم الدليل لا يكون حجة على الإباحة فعلم أن الإباحة في الأعيان المنتفعة بها اصل ثابت بدليل العقل لأنه حجة يجب العمل بها حتى يتبين في الشرع إن الحق بخلاف ذلك فيصير الدليل الشرعى كالمخصص بدليل العقل فيكون حكم ذلك الخاص يرد على العام فيبقى العام حجة فيما لم يرد الخصوص فيه هذا طريقته. وقال بعضهم: إن الله تعالى غنى على الحقيقة جواد على الحقيقة وبهذا الوصف يعرف الله من عرف الله والغنى الجواد لا يتصور منه منع ماله عن عباده إلا ما كان فيه ضرر. فتكون الإباحة [هي] 1 الأصل باعتبار جوده وغناه والحرمة تعارض ولا عارض يوجب الحرمة فتثبت الإباحة وأما من قال بالحظر. قال: وذلك لآن الشئ إذا لم يكن له من الظاهر أصل يستدل به على حكمه استشهد له بالنظائر والأمثلة والأشباه وألحق حكمه بهذا وقد علمنا أن الأشياء كلها ملك الله تعالى وله الخلق والأمر وملك الغير لا يجوز تناوله إلا بإذنه فوجب أن تكون الأشياء كلها على الحظر وينبغى أن تبقى الأشياء على ملك مالكها ولا يتعرض لشئ منها إلا بإذنه وأمره ولأن الملك علة الحرمة على غير المالك بدليل سائر الأملاك. فإذا وجدت علة الحرمة ولم توجد علة الإباحة كان الشئ على الحرمة هذا مجموع كلام المخالفين. وأما دلائلنا أعلم أولا أنه ليس معنى الوقف هو أنه يحكم به لأن الوقف حكم مثل الحظر والإباحة والدليل الذي يمنع من القول بالحظر والإباحة يمنع من القول بالوقف وإنما يعنى الوقف أنه لا يحكم للشئ بحظر ولا إباحة لكن يتوقف في الحكم بشئ إلى أن يرد به الشرع وإذا عرف هذا. فنقول: هذه المسألة بناء على أن يعمل مجرد ما لا يدل على حسن شئ ولا قبحه ولا على حظره ولا تحريمه وإنما كل ذلك موكول إلى الشرع فنقول المباح ما أباحة الشرع والمحظور ما حظره الشرع فإذا لم يرد الشرع بواحد منهما لم يبق إلا التوقيف إلى أن يرد السمع فيحكم به وقد دللنا بنص من القرآن أن الحجة لا تقوم على الآدمى بالعقل مجردة بحال ببينة: أنه ليس من الحكمة تخلية الإنسان وعقله؛ لأن عقول عامة الناس معمورة بالهوى مكفوفة عن بلوغ المقالة بالميل الطبعى إلى خلاف ما يهتدى إليه ولهذا النظر   1 ثبت في الأصل "هو" ولعل الصواب ما أثبتناه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 أكثر العقلاء في مهاوى الحيرة ولحقهم من الدهش والتردد ما ليس وراءه غاية والدليل على هذا أنا لا نجد أحدا خلاه الله وعقله بل بعث الرسل وأنزل الكتب ولو كان العقل يستقل بشئ ما لجاز أن يوجد عبد خلى وعقله من غير أن يدخل تحت رتبة أحد من الأنبياء إلى صانعه وهؤلاء الفلاسفة الذين اتبعوا العقول ولم ينقادوا لأحد من الأنبياء فيما يعرف أو أرادوا إدراك الحق بالعقل المحض إما يرآهم المعتبر ارتكسوا وانتكسوا ولادته في النظر العقلى إلا وهو دون دقة نظرهم فإنهم بلغوا من هذا الباب إلى ما يجاز دونه الوهم ويضل عن إدراكه الفهم هذا بعد قيامهم على أخلاقهم بتهذيبها وعلى طبائعهم بتأديبها ورضى أكثرهم من الدنيا بالقوت اليسير وعزوف أنفسهم عن الملاذ والشهوات فلما تخلوا وعقولهم وطلبوا الحق من جهته ولم يصلوا إليه بتأييد سماوى وبرهان إلهى ووحى غيبي ترددوا وسلكوا واعتقدوا العقل الفعال والنفس الكلى وعلة العلل والهيولى وغير ذلك من ألفاظ مهولة وضعوها على وفق مذاهبهم وقد كان قصدهم طلب الصانع ولكنهم لما تخلوا بعقلهم وخلوا وعقلهم فليعتبر معتبر ولينظر ناظر إلى أي شئ صار أمرهم وأى شئ. فإنهم على وفق ما ذهبوا إليه لا يتصور اعتقاد وحدانية الصانع وكثير منهم اعتقد خمسة قدماء وكثير منهم اعتقد قديمين اثنين إلى غير ذلك مما لا يخفى على العلماء والسعيد من وعظ بغيره فليبق امرؤ وزنه وليبق على نفسه ولا يدخل في دينه ما ليس منه وليتبع الوحى الشرعى والتمس التأييد الإلهي ولا يعتبر بزخارف من القول وأباطيل من البهت فإنها خدع الشيطان وتسويلات النفوس وخذلان من الله عز وجل يلحق العبد ولا عقوبة من الله تعالى أعظم من أن يكل العبد إلى نفسه وحوله وقوته ويخليه ورأيه ومعقوله ويحول وجهه إلى الطاغوت الأعظم والصنم الأكبر وقد جعل التبرى من حول الله وقوته إلى حول نفسه وقوته من المهلكات التي لا تلبث ولا تربث فأنشد الله عبدا وقف على هذا أن يجعل كده ووكده وسعيه وجهده ليتخلص من هذه المذلة العظيمة والورطة الهائلة فكم من هالك فيها لا نجاة له ووقع في هذه المهواة لا نهوض به مستعينا بالله مستغيثا به ملتجئا إليه مستعيذا به. ذكرنا أكثر من هذا في كتاب "الانتصار" فمن يرغب فليرجع إليه وقد قال أصحابنا في هذا أن هذه الأعيان ملك لله عز وجل له أن يمنع من الانتفاع بها وله أن يبيح الانتفاع بها وله الانتفاع بها وقبل أن يرد الشرع لا مزية لأحد لهذه الوجوه على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 الباقي. فوجب التوقف. فإن قالوا: بل إن الإباحة عندنا من قبل الله تعالى لكن بدليل العقل. قلنا: قد بينا أن العقل لا يستقل بإثبات شئ أو نفيه وأما الدليل الذي اعتمدوا عليه فسنجيب عنه ثم. فنقول في إبطال الحظر والإباحة: إن القول بذلك يؤدى إلى القول بالمتنافيين المتضادين وهذا لا يجوز. وبيان ذلك: أن من قال بالإباحة. فليزمه أن يقبح اعتقاد من خالفه في ذلك بحظره عليه لأن القول به داخل في جملة الأشياء التي يقتضى قوله إباحتها وكذلك من قال أنها على الحظر وهذا داخل في جملتها فدل أن المعتقد لواحد من المذهبين يلزمه القول بالمتنافيين وعندي أن هذا ضعيف عند المتأمل والأولى ما سبق واستدل الأصحاب أيضا بقوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} . فاعلم أن من ادعى تحليل شئ أو تحريمه بغير إذنه. فقد افترى عليه. فإن قالوا: قد أذن الله تعالى في ذلك بدليل العقل قلنا بينا أن دليل العقل ساقط وأما الجواب: أما تعلقهم بقوله سبحانه وتعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} . قلنا: نحن لا نحرم ذلك وهذا يلزم أن لزم على من يعتقد الحظر. فأما من لا [يقول] 1 بحظر ولا [أباحة] 2 فلا يلزمه ذلك وعلى أن الآيه وردت في قوم الذين كانوا يطوفون بالبيت عراة وكانوا يعتقدون ذلك قربة إلى الله عز وجل. ويقولون: لا نطوف في ثوب عصينا الله تعالى فيه وكانوا يحرمون البحيرة3 والوصيلة4   1 ثبت في الأصل "يقوم" ولعل الصواب ما أثبتناه. 2 كلمة غير مقروءة في الأصل. 3 قال في القاموس المحيط: البحيرة كانوا إذا أنتجت النلقة أو الشاة عشرة أبطن وتركوها ترعى وحرموا لحومها إذا ماتت على نسائهم وأكلها الرجال أو التي خليت بلا راع أو التي إذا أنتجت خمسة أبطن والخامس ذكر بحروا أذنها فكان حرام عليهم لحمها ولبنها فإذا ماتت حلت للنساء لأو هي ابنة السائبة وحكمها حكم أمها أو هي في الشاة خاصة إذا نتجت خمسة أبطن بحرت وهي الغريزة أيضا انظر القاموس المحيط "1/367, 368". 4 قال في القموس: والوصيلة الناقة التي وصلت بين عشرة أبطن من الشاء التي وصلت سبعة أبطن عناقين فإن ولدت في السابعة عناقا وحديا قيل: وصلت أخاها فلا يشرب لبن الأم إلا الرجال دون النساء النظر القاموس المحيط "4/65". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 والسائبة1 والحام2 وكان قوم يقال لهم: الحمرة وكانوا ابتدعوا أشياء منها: أنهم لا يسلئون3 السمن لانه قطوان الأقط ولا يدخلون البيوت من أبواب البيوت وغير ذلك فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية وأنزل فيهم أيضا قوله: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} الآية. وأما قولهم: إن الانتفاع بما فعل في هذا المحل فليس فيه وجوه من وجوه القبح. قلنا: هذه طريقة منصوبة لبيان أن الانتفاع بالمحل أكل مباح في العقل ونحن قد بينا أن العقل لا يجوز أن يفيد بنفسه حسن شئ ولا قبحه. ثم قد قيل: على هذا إما لا نسلم أنه انتفى عنه وجوه القبح بكل حال لأن جواز كونه مفسده قائم وجواز كونه مفسدة يكنى في إظهار وجه القبح كالخبر إذا جاز أن يكون كذبا قبح من ذلك. ونعني بقولنا: أنه يجوز أن يكون مفسدة هو أنه لا يجوز أن لا يبيح الله تعالى هذا الشئ إذا لم يبح يكون الإقدام عليه قبحا أو مفسدة وأيضا يجوز أن لا يكون الإقدام على هذا مصلحة فإن إمكان الانتفاع بالشئ لا يوجب كونه مصلحة. لجواز أن يكون المحل منتفعا به ولا يكون الانتفاع به مصلحة عند الله تعالى. فإن قالوا إن الغالب فيما هذا سبيله. أن لا يكون فيه وجه قبح. قلنا: لم زعمتم أن الغالب ما ذكرتم ولم إذا كان الغالب ذلك لا يكون تجويز وجه القبيح كافيا بالقبح فأما قولهم إنما يحسن الإحجام أذا كان على المفسدة أمارة قلنا: قد يكون أمارة وقد لا يكون أمارة وتجويز المفسدة في الموضعين يوجب وجه القبح لأن العقل مانع من الإقدام على القبيح وعلى ما يجوز أن يكون قبيحا وكم من أشياء مجوزة لا أمارة عليها. يدل عليه أنا لما رأينا عند استقرار الشرع كثيرا من الأشياء التي ينتفع بها محرمة ورأينا كثيرا من الأشياء   1 قال في القاموس والسائبة المهملة والعبد يعتق على أن لا ولاء له والبعير يدرك نتاج نتاجه فيسيب أي يترك لا يركب والناقة كانت تسيب في الجاهلية لنذر ونحوه أو كانت إذا ولدت عشرة أبطن كلهن إناث سيبت أو كان الرجل إذا قدم من سفر بعيد أو نجت دابته من مشقة أو حرب قال عي سائبة أو كان ينزع من ظهر فقاره أو عظما وكانت لا تمنع عن ماء ولا كلأ ولا تركب انظر القاموس المحيط "1/84". 2 الحام: -فحل الإبل يضرب الضراب المعدود فإذا قضى ضرابه ودعوه للطواغيت ةأعفوه عن الحمل فلم يحمل عليه شيء وسموه الحامي انظر تفسير ابن كثير "2/107". 3 سلأ السمن كمنع طبخه وعالجه كاستلأه القاموس المحيط "1/18". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 مباحة مطلقة. فمن أين وقع الأمان لنا. إن هذه الأفعال ليست قبيحة وقد جاز كونها حسنة وكونها قبيحة فأما الامتناع من تناول الطعام لجواز كونه مسموما. فليس أمارة إنما لم يحسن لأنه يرى من تقدم عليه ولا مفسدة في حقه وكذا في الحائط المستقيم يرى من يقوم تحته ولا مفسدة عليه. أما ها هنا فلا أمان أن يكون التناول مفسدة عند الله تعالى ولا مثال يوجب الأمان. فلم يحسن خوفه وامتناعه. وأما قولهم: لو قبح الإقدام لجواز كونه مفسدة أيضا. قلنا: نحن نقول: إن العقل لا يوجب إقداما ولا إحجاما وإنما علينا الكف فإن قالوا ربما يكون الكف مفسدة. قلنا: الكلام في جواز الإقدام لا في وجوب الإقدام ومن يجوز له الإقدام على شئ من غير أن يوجب عليه لا يكون ترك ذلك مفدسة. فأما مع تجويز الحظر يجوز أن يقال إن الإقدام يكون مفسدة وعلى أنا نقول: إذا جوزنا وجود المفسدة في الإقدام والإحجام جميعا. فلا جرم لم ينفك فعل من هذه الأفعال عن سمع يطلق الإقدام أو يوجب الإحجام وإنما كلامنا على تقدير عدم السمع أو يكون الكلام في أن السمع الوارد بالإباحة ورد مقدرا للإباحة أو مثبتا للإباحة ابتداء فعندنا هو مثبت للإباحة ابتداء. وعندكم هو مقرر للإباحة مؤكد لما ثبت في العقل منها. وأما قولهم: أنه لابد من أن يكون خلو المعنى. قلنا: تعليل أفعال الله تعالى لا يجوز ويكون باطلا عندنا وإنما يخلق ما يشاء ويفعل ما يرد من غير أن يكون لذلك علة بوجه ما وعلى أنه يجوز أن يكون خلق هذه الأشياء ليعتبر بها فيعرف قدرة الله تعالى ويتأمل حكمته فيها وألغيت فعل ما ليس له وجه في الحكمة. ببينة: أنه يجوز أن يعبد الله تعالى بأن لا يأكل هذا المأكول ولا يشرب هذا المشروب كما يتعبده بما يؤلمه ويؤذيه ويؤدى إلى تلفه كما تعبدنا بالجهاد والختان وكما تعبد بنى اسرائيل بأن يقتل بعضهم بعضا. وقوله: إنه لا يتحقق الابتلاء وتعريضه للثواب إلا بعد أن يثبت على حقيقته ويعرف ويحسن بميل طبيعته إليه. ثم يكلف الاجتناب عنه. قلنا إذا عرف أنه مأكول أو مشروب ونفسه متشوقة إلى المأكول والمشروب طبعا. ثم أمر بالاجتناب عنه بتحقيق الابتلاء وتعريضه للثواب. وقولهم: إنه إنما يقبح التصرف في ملك الغير بكذا وكذا. قلنا: الملك سبب التصرف فإذا فات سبب الملك قبح التصرف ولأنه يجوز أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 يكون في التصرف السخط من المالك. فإن قالوا: ويجوز أن يكون في ترك التصرف السخط في المالك. قلنا: قد أجبنا عن هذا وأما كلامهم وتعلقهم بالتنفس في الهواء والاستنشاق من النسيم. قلنا: بينا أن الإذن في الشريعة من وجهين: أحدهما: من طريق اللفظ ومعناه. والآخر: من طريق الضرورة الداعية إليه فكل شئ اضطراه الله إليه فقد أذن له فيه ورفع الحرج عنه وإذا كان كذلك لم يخل هذا النوع من دليل الإباحة ويمكن أن يقال: إنما يحسن من الإنسان أن يتنفس ليطفى عن قلبه الحرارة وذلك يحتاج إليه في الحياة ويضطر إلى فعله وما زاد عليه فلا يحسن وهذا هو الجواب عن قولهم: إنه يحسن منه هذا الفعل. بأن زاد على قدر الحياة. واعلم أن هذه الكلمات يمكن تمشيتها في الجملة لكن الأولى عندي أن يقتصر على الأول وهو منع ثبوت شئ مما يعتقدونه بمجرد العقل وأما طريقة أبى زيد. قلنا: أما تعلقهم بقوله تعالى: {هُوَ الذي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} . فإنما هو والله أعلم على معنى أنه لم يخلقها ليتكثر بها أو لينتفع بها وإنما خلقها ليعتبر الخلق بها ويتأملوا قدرة الله تعالى وحكمته فيها وقد يكون أيضا على سبيل الاعتداد والامتنان بها عليهم وتعريفهم موضع النعم فيها وليس في ذلك دلالة على أنهم يستبيحونها كما شاءوا أو يتناولونها من غير إذن منه فيها وتقدير وترتيب لها فموضع الحظر إذا تعد باق وهذا كما يقول الرجل لولده إنما أجمع المال لك وأسعى والكدح بسببك وكما يقول الأمير لجنده وخدمه إنما أجمع الأموال لكم وأدخرها من أجلكم ومعلوم أنه لا يريد بهذا القول تمليكها بينهم وإطلاق تصرفهم فيها من قبل أن يخرجها إليهم على الوجه الذي يسنح له من الرأى في قسمتها بينهم وإيصال ذلك إليهم في الوقت الذي يختاره لا في الوقت الذي يختارونه وإنما قال ما قال ليلزمهم به المنتبه1 ويعرفهم موضع النعمة ثم يكون إطلاق ما يطلقه لهم منها في أوقات مؤقته على مقادير معلومة على حسب ما تدعو إليه الحاجة ويعلم فيه المصلحة. وأما قوله: إن الحرمة الثابتة للأشياء على وجه المصالح على ما ذكرنا قلنا أولا: إن القول بالمصالح باطل ونحن نعلم قطعا أن الله تعالى يفعل بالخلق ما هو الأصلح لهم وأيضا فإنه لا يجوز أن يقال: إنه قصد لطفه في فعل الأصلح بهم بل ما من أصلح إلا   1 كشط بالأصل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 ووراءه أصلح منه وما هو لطف يوصله إليهم إلا ووراءه ما هو ألطف منه ولو وجب فعل ما هو صلاح لهم لوجب فعل ما هو أصلح لهم وقد عرفنا أن الأصلح ليس له نهاية في قدرة الله تعالى وعلمه وإن حكموا بنفاده وانتهائه فهذا قول يؤدى إلا تناهي القدرة وهذا لا يقول به أحد. ثم نقول كما أنه يحرم ما يحرمه للمصلحة فكذلك يبيح ما يبيحه للمصلحة فبأى طريق عرفتم وجه المصلحة في الإباحة؟ بل يجوز أن يكون مفسدة على ما سبق وينبغى إذا كانت الإباحة عقلية أن لا يجوز ورود الحظر وقد أجمعت الأمة على جواز الحظر وأجمعوا أيضا أنه قد [ورد] 1 الحظر في مواضع ليس فيه إلا مجرد التكليف أو مجرد الابتلاء وأيضا فإن ما ذهبتم إليه مفسدة وسنبين ذلك وهو أن الأشياء لو كان أصلها على الإباحة حتى يكون لكل واحد من الناس تناولها والتبسط فيها أدى ذلك إلى أن لا يصلوا إلى حاجتهم منها وإلى أن تتعطل منافعهم لأن في طباع الناس من الحرص والشدة والاستكبار من الشئ ما لا يخفى على ذى لب فيدعوهم طباعهم إلى الازدياد والاستكبار عن كل شئ أبيح لهم فيقع بينهم التزاحم والتغالب وربما يؤدى إلى التجاذب المفضى إلى التنازع والمؤدى إلى القتال والمحاربة فينقلب الشئ الذي قدروها مصلحة مفسدة ويتبين خطأ ظنونهم وغلط مقاديرهم من عقولهم وليس يدخل في هذا إباحة الحطب عقولهم والحشيش والماء لأن هذه الأشياء ليست مما يقع فيها التنافس ولا تميل إليها الطباع من الاستكبار عنها وطلب الثروة من جمعها وأما المباحات من الذهب والفضة والجواهر فهى ما لا يوصل إليها بكد عظيم وتعب شديد فليس مما يرغب في ذلك كل إنسان ويسمح بتعب ذلك وتحمله كل نفس فلا يؤدى إثبات الإباحة لكل أحد إلى المفسدة التي بيناها وأما إثبات الإباحة في الأشياء كلها على العموم لكل احد فيؤدى إلى المفسدة التي ذكرناها. فوجب الاحتراز عليها لأن الاحتراز عن كل ما يجوز أن يفضى إلى المفسدة واجب على أصلهم وفيما قالوه يؤدى إلى المفسدة فهذه جملة ما قصدنا إيراده في هذه المسألة.   1 ثبت بالأصل: ورود ولعل الصواب ما أثبتناه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 فصل في أقسام ما يرجع إلى العقل ... "فصل" وقد ذكر أبو زيد أقساما فيما يرجع إلى العقل فذكر أولا موجبات العقل. قال: ونعنى بالوجوب. الوجوب في الذمة حقا لله تعالى بوقوعه علينا لا وجوب الأداء والتسليم إلى الله تعالى فإن الأداء لا يجب قبل الشرع. قال: وهذه الواجبات أربعة معرفة نفسه بالعبودية ومعرفة الله بالألوهية ومعرفة العبيد الابتداء إلى حين الموت بطاعة الله على أوامره ونواهيه للجزاء الوفاق خالدين ومعرفة الدنيا وما فيها بضرب يقع يعود إليهم منها. وقال: ونعى بموجب العقل ما دل عليه العقل قطعا إذا استدل به العبد إلا أن يكون دينا يجب فعله لله تعالى لأنه يبتلى به وما يجب للحياة الدنيا لا نصفه بالوجوب عليه لحق الدنيا وإنما نصفه بالوجوب لحق الدين ويجب الأكل والشرب عليه دنيا وكذلك التنفس والتحصن من شر الأعداء ودفع الحر والبرد ولو ترك هذه الأشياء أثم وإنما جعلنا الوجوب دينا لأن ما كان لحق الدنيا فالآدمى فيه بمنزلة البهائم فلا يوصف بالوجوب وأما الجماع فحظ الدين فيه بقاء الجنس إلى قيام الساعة لأن الله تعالى حكم ببقائه إلى تلك المدة وعليه بالجماع وفرض عليه دينا للمبتغى لإقامة حكم الله تعالى لأنه لا تبديل لحكمه غير أن هذا الحكم يتأدى بجماع البعض فلم يجب على كل واحد بخلاف الأكل فإن الله حكم ببقاء كل شخص إلى خير وعلق بأكله لا بأكل غيره فتعين كل شخص بوجوب الأكل عليه دينا وطبعا. ثم إنا قلنا: إن هذه الأحكام الأربعة واجبه بالعقل دينا اله تعالى أما معرفة نفسه بالعبودية لأن قوامه باجتماع أجزاء والاجتماع عرض يضاد القدم فيلزمه الحكم على نفسه بالحدث ويعرف أنه مملوك لأن المملوك لغة ما قهر بيد الاستيلاء والآدمى مقهور بالتكوين والأشياء مقدور عليه مركب من طبائع مختلفة وأمشاج متباينة يجرى أمره على مقتضى اختلاف طبائعه وتباينها وإذا عرف أنه مملوك عرف أنه عبد لأن العبد اسم خاص للملوك من العقلاء الصالحين لفعل العبادة فإذا عرف نفسه بهذه الصفات عرف ربه ضرورة لأن كونه محدثا لا يخلو من محدث وكونه مقدورا عليه لا ينفك عن قادر وكونه مملوكا لا ينفك عن مالك وكونه عبدا لا يخلوا من إله. فإن العبد اسم لمن خلق للعبادة ولابد للعبادة من معبود والإله اسم لمن يستحق العبادة فيعرف بضرورة هذه الصفات التي ظهرت عليه من حيث لا شك فيه أن له إلها مالكا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 قادرا محدثا. قال: ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "من عرف نفسه عرف ربه"1. قلت: وهذا لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هو لفظ محكى عن يحيى بن معاذ الرازى وهذا نتيجة الجهل بأخبار النبى صلى الله عليه وسلم والواجب على الإنسان أن يحكم ما قال الله أولا وما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم ينصب نفسه منصف المتصرفين ويستشهد على تصرفه بما نطق به الكتاب وبما نطق به الرسول صلى الله عليه وسلم ونستعيذ بالله من غلبة الجهل وفرط الهوى وطغيان العقل وهو العاصم بمنه رجعنا إلى حكاية قوله: وإذا عرف أنه خلق لعبادة ربه ولا يجوز في الحكمة خلق الصنع عن عاقبة حميدة وعاقبة الصنع عن العقلاء أحد أمرين: فإنه يعود من حدث نفع أو دفع ضر أو ظهور الفاعل بجلاله وعظمته وكرمه وصفاته الحسنى بذلك الصنع كذا غيره والله يتعالى عن المعنى الأول فيتعين الآخر وهو ظهور عظمته وجلاله وكرمه وحكمته وسائر صفاته ولما ظهر بهذه الصفات طلب من الحق الثناء والحمد له بإحسانه إليهم شكرا له على ذلك فكان خلق الناس من الله تعالى لهذه الحكمة وهو أن يعرفوه ويشكروه ثم وجدنا الناس بين شاكر وكافر قال: فقد خلق الله العباد ليعبدوه بأمره لهم لا يجبرهم عليه وقد جعلهم مختارين في الإجابة مبتلين بشهوات معلومة تصدهم عن الإجابة قال: والدليل على أنهم مختارون أن العقلاء يجدون من أنفسهم وفى أفعالهم حد الاختيار ضرورة ويحسبون ذلك قطعا ويجدون في انفسهم ما يصدهم عن طاعة الله تعالى وما يدعوهم إلى خلافها وفى ذلك فوات عاقبة الصنع وفوات عاقبة الصنع دليل عجز الصانع تعالى الله عن ذلك فعلمنا أن وجود تعليق وجود الطاعة بالإختيار من العبيد مع وجود الهوى والشهوات الصادة عن طاعة الله تعالى وعن الإجابة كان لحكمه أخرى هي فوق حصول الطاعة بلا فوت وذلك هو أن الله تعالى خلقهم وأمرهم بهذه الإعمال ليجازيهم عليها بوفاق أعمالهم الإحسان بالإحسان والسيئة بالسيئة   1 موضوع: ذكره الحافظ العجلوني وقال: قال ابن تيمية موضوع. وقال النووي قبله: ليس بثابثت وقال أبو المظفر بن السمعاني في القواطع [وهو كاتبنا] : إنه لا يعرف مرفوعا وإنما يحكى عن يحيى بن معاذ الرازي يعني من قوله وقال ابن الغرس بعد أن نقل عن النووي أنه ليس بثابت قال: لكن كتب الصوفية مشحونة به ويسوقونه مساق الحديث وللحافظ السيوطي فيه تأليف لطيف سماه القول الأشبه في حديث من عرف نفسه وقال النجم قلت: وقع في أدب الدين والدنيا للماوردي عن عائشة فذكر نحوه انظر كشف الخفاء "2/344" ح "2532". وماقاله الحافظ العجلوني يعتبر توثيق لكتابنا القواطع. طلب العلم/ محمد فارس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 ثم لما وجب القول بدار الجزاء على هذه الأعمال وجب القول بالخلود والبقاء لآنا أوجبنا هذا الترتيب لبيان حكمة الله تعالى فيجب أن لا تفوت هذه الحكمة لأنها إذا فاتت صار فعله عبثا فكما لا يفوت العاقبة المطلوبة من الصنع عن الصانع ابتداء لا يعجزه فكذلك لا يفوت بعد الوجود إلا بعجزه وتعالى الله عن ذلك وبهذا نطق الكتاب قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115] أى حسبتم أنا عبثنا بخلقكم ثم نفى صفة العبث بحكم الرجوع إليه فيبين أنه لا يجوز أن تكون الدنيا دار ابتلاء بلا جزاء وقال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأحزاب: 72] الآية فأخبر أن الآدمى حملها عن اختيار لعاقبة تعذيب المشركين ومغفرة للمؤمنين وقال تعالى: {الذي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك: 2] وقال تعالى: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} [آل عمران: 154] ولما ثبت أن الصنع من الله تعالى لا يجوز إلا لعاقبة الاستعباد للجزاء وما سوى الإنسان من المحسوسات لا يصلحون للعبادة ولم يخاطبوا بها علم أنهم خلقوا لفائدة تجلب منهم أو لضر يدفع بهم وتعالى عن ذلك فعلم أنه خلقها لعود هذه الفائدة إلى عبده المبتلى بعبادته فإنه يحسن في الشاهد فعل شئ لفائدة تعود إليه أو إلى غيره بهذا نطق اكتاب قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} [الجاثية: 13] وقال تعالى: {هُوَ الذي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} [البقرة: 29] وأيات في هذه المعنى كثيرة ثم ذكر محرمات العقل قطعا للدنيا وهذه المحرمات أربعة: الجهل والظلم والعبث والسفه أما الجهل فيكون بترك الاستدلال بنور عقله والعاقل ما ركب فيه العقل إلا ليقف به على مصالح غائبة لا تنال بالحواس وبه غلب ما في البر والبحر وسخرها وادعى لنفسه كل شئ منها فمتى لم يستدل بنور عقله لم ينل شيئا مما تمنى لنفسه من هذه المطالب فيحرم عليه بالعقل ما يفوت به أغراض العقلاء كما يحرم به ترك الأكل الذي هو سبب حياته وكما يحرم بالعقل ترك النظر بالعين عند إرادة الشئ إلى موضع يحتاج إليه ويحرم أيضا إطفاء السراج ليلا مع إرادة السلوك في المضائق لا يهتدى فيها إلا بسراج ولما حرم الجهل قطعا حرم الظلم من طريق الأولى لأن تفسيره وضع الشئ في غير موضعه فيكون الظلم مكابرة لما رأى بنور عقله فالأول نزل كالذي لم يفتح عينيه حتى وقع في بئر يقبح منه ذلك والثانى كالذي فتح عينيه ورأى البئر ثم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 أوقع نفسه فيها فهذا الفعل منه أقبح ومثاله من باب الشرع من بلغته الدعوة والمعجزة فلم يتأمل وكفر كان قبيحا والذي تأمل وعرف ورد تعنتا كان فعله أقبح وأما العبث فحرام عقلا لأنه اسم لفعل يخلو عن الفائدة لأن نفس الفعل وإن قل لا يخلو عن أدنى تعب فلا يحتمل هذا التعب عقلا إلا لفائدة أولى منه وأما السفه فحرام أيضا لأن فيه مع خلو الفائدة مضرة فكان أقبح من الأول لوجود معنى الأول فيه من فوت الفائدة وزيادة ضرر فكان السفه من العبث بمنزلة الظلم من الجهل ثم ذكر محرمات العقل للدين قال: وهذه المحرمات أربعة: الإيمان بالطاغوت وكون الخلق للحياة الدنيا واقتضاء الشهوات فيها والإنكار بالصانع جل جلاله والإنكار بالبعث للجزاء أما الإيمان بالطاغوت اسم لما عبد من دون الله أو سمى قديما دونه على حسب اختلاف المشركين والملحدين لان ما دون الله لا يخلو عن صفات الحدث كما أن الإنسان بنفسه لا يخلو عنه فلم حرم عليه القول بأنه الإله المعبود فليحرم القول بغيره بطريق الأولى وإلى هذا أشار الله تعالى بقوله: {إِنَّ الذينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأعراف: 194] يعني من حيث إنها مخلوقة. وأما القول بأن الدنيا مخلوقة لاقتضاء الشهوات فحرام لأنك كما لا تجد نفسك وكل من دون الله إلا وأمارات الحدث فيه ظاهرة كذلك لا تجد شهوة إلا مشوبة بما لا يشتهي فإن الحياة رأس مال الحى وقد ابتلى الحى بالموت والشهوة شهوتان شهوة بطن وشهوة فرج وما سواهما اتباع في حق الحياة وشهوة البطن الأكل والاكل لا ينال اصله إلا بضرب كسب ويحتاج بعده إلى قضاء الحاجة الذي إذا عرف العاقل قبحه لم يباشر سببه مع الإمكان بدونه ألا ترى أن الأكل في الآخرة كيف يخلو عن الكسب وقضاء الحاجة لما كانت الدار لاقتضاء الشهوة وأما الجماع لا ينال إلا بطلب وشبق ثم لا يقضى إلا بذهاب القوة فحرم القول أنه خلق لاقتضاء الشهوة حيث لا ينال ما يشتهي إلا بماء لا يشتهى وأما الكفر بالله فحرام لأنه من حيث عرف نفسه مخلوقا يعرف خالقه والمنعم عليه والكفر بمن أنعم عليه حرام لأنه بمنزلة من ذم من أحسن إليه فيكون كذبا وظلما وسفها فقد وضع الشيء في غير موضعه ولما حرم الكفر بالله تعالى حرم إنكار البعث للجزاء لأن خلق الدنيا بدون البعث للجزاء عبث من الله تعالى ووصف الله تعالى بالعبث كذب عليه كالكفر كذب على الله فكان بابا واحد وبالله التوفيق ثم ذكر المباحات التي تجوز عقلا للدنيا قال: وهذه أربعة أقسام قال: وأعنى بالجوز أنه يجوز أن يكون مباحا عقلا وهذه الأقسام نحو مباشرة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 أسباب البقاء فوق ما يندفع به الضرورة وجميع المال فوق الحاجة والتزين بأنواع ما يتجمل به على وجه لا يتعلق به القوام والجماع إلا لطلب الولد وفوق ما يكتفى به الولد فهذه إباحات غير واجبة بالعقول ولهذا جاء الشرع فيها بالإباحة مرة والتحريم أخرى وأما موجبات العقول لا يرد الشرع بخلافها لأن الشرع والعقل حجتان لله سبحانه وتعالى على عباده يتأيد أحدهما بالآخر ولا يتناقص فمجئ الشرع بالتحريم دليل أن العقل يجوز تحريمه وذكر من هذا الجنس كلاما طويلا ذكرنا المقصود من كلامه واعلم أن هذا الكلام كله بناء على أن العقل موجب بنفسه وعندنا أن هذا المذهب خلاف مذهب أهل السنة والجماعة والنص من الكتاب قاطع على خلافه وقد سبق بيانه فلا معنى للاشتغال بالزيادة عليه فإن قيل المسألة التي ذكرتم أن الأشياء كانت على الإباحة أو لا وقد أطنبتم الكلام فيها وهى لا تفيد في الفقه شيئا وإنما الكلام فيما يقتضيه العقل فلا معنى لإيرادها لأن أصول الفقه لا ينبغى أن تشتمل على ما يفيد في الفقه والجواب أن لها فائدة في الفقه وهو أن من حرم شيئا أو أباحة فقال طلبت دليل الشرع فلم أجد فبقيت على حكم العقل من تحريم أو إباحة هل يصح ذلك أم لا؟ وهل هذا دليل يلزم خصمه أم لا؟ وهذا أمر يحتاج الفقيه إلى معرفته للوقوف على حقيقته. قال القاضي أبو الطيب: سمعت بعض أصحاب داود احتج في إباحة استعمال أوانى الذهب1 في غير الشرب فقال: الأصل في [الأشياء] 2 الإباحة وقد ورد الشرع بتحريم الشرب فوجب أن يبقى ما عداه على الإباحة فقال أهل العلم لهذا المحتج مذهب داود أن هذه الأشياء على الوقف في العمل عما يرد به الشرع فإذا كان كذلك لم يجز إثبات إباحتها بهذا الطريق فلا يكون إباحتها بعدم دليل شرعي بأولى من حظرها وبطلت حجة هذا المحتج فظهر أن المسألة يفيد ذكرها.   1 ذكر ابن قدامة المقدسي أن مذهب أبي حنيفة والشافعي ومالك والإمام أحمد أنه يحرم استخدامهم انظر المغنى "1/62" وذهب ابن حزم الظاهري إلى رأي الجمهور انظر المحلى "2/223". 2 في الأصل أشياء ولعل الصواب ما أثبتناه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 فصل: مجرد السكوت لا يدل عندنا على سقوط ما عدا المذكور : كما يدل عند من يذهب إلى أن الأشياء أصلها على الإباحة إنما هو بحسب الحال وقيام الدليل عليه وذلك على ضروب أما سكوت النبى صلى الله عليه وسلم عن الشئ يفعل بحضرته ولا يغيره ولا ينهى عنه فإنه دليل الجواز وقد سبق هذا ولأن الله تعالى وصفه بأنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فإذا رأى الشئ وسكت عنه ولم يغيره دل أنه غير منكر وكذلك هذا فيما كان يبلغه عنهم ويعلمه ظاهر من حالهم أو بتقرير عنه من عاداتهم مما سبيله الاعتبار والاستشارة فلا يعرض لهم بنكير ولا يعتبر كنوم أصحابه قعودا ينتظرون الصلاة فلا يأمرهم بتجديد الطهارة وكعلمه أن أهل الكتاب يتعاملون بالربا ويشربون الخمور فلا يتعرض لهم ويتصل بهذا ما استدل أصحابنا به من سقوط الزكاة في أشياء سكت النبى صلى الله عليه وسلم عنها من الزيتون1 والرمان2 ونحوهما وذلك أنه كان لا يخفى عليه أن الناس يتخذونها كما يتخذون الكروم والنخيل وكان الأمر في إرساله المصدقين والسعاة في أقطار الأرض ظاهرا بينا وكان إذا بعثهم كتب لهم الكتب فيقرءوها بحضرته ويشهد عليها ولو كان يجب فيها شئ لأمر بأخذه ولو أمر لظهر كما ظهر غيره من الأشياء التي انتظمها الوجوب والإباحة فلما لم يكن كذلك دل على سقوط الزكاة عنها. وأما قول من روى أنهم كانوا يبيعون أمهات الأولاد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنما لم يجر هذا المجرى في الدلالة على جواز بيعهن لأنه لا يعلم إن كان يبلغه هذ الفعل عنهم أو يظهر له ذلك من صنيعهم وقد قام الدليل على فساد بيعهن من وجوه فلم يجز أن يعترض بهذا على مثل تلك الدلائل وأما الشئ إذا كان له أصل في الوجوب والسقوط فإن السكوت قد يقع عنه في بعض الأحوال استغناء بما يقدم من   1 قال الإمام موفق الدين بن قدامة المقدسي: واختلفت الرواية في الزيتون فقال أحمد في رواية ابنه صالح: فيه العشر إذا بلغني خمسة أوسق وإن عصر قوم ثمنه لأن الزيت له بقاء وهذا قول الزهري والأوزاعي ومالك والليث والثوري وأصحاب الرأي وروى عن ابن عباس. وعن أحمد: لازكاة فيه وهو اختيار أبي بكر وظاهر كلام الخرقي وهذا قول ابن أبي ليلى والحسن بن صالح وأبي عبيد وأحد قولى الشافعي لأنه لا يدخر يابسا فهو كالخضروات انظر المغنى "2/533". 2 انظر المغنى "2/553". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 البيان فيه وليس تكرر البيان واجبا في كل حال ومراتب الاستدلال بالسكوت تختلف فأقوى ما يكون منه إذا كان صاحب الحادثة جاهلا بأصل الحكم في الشئ ولم يكن من أهل الاستدلال كالأعرابى الذي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم [وقد أحرم وعليه الجبة فقال: "انزع عنك الجبة واغسل عنك الصفرة"] 1 وسكت عن الكفارة فدل ذلك أنها ساقطة عن الجاهل والناسى ولو كانت واجبة لذكره إذ لم يكن يجوز إهمال ذكرها قولا على معرفته بالحكم فيها مع العلم بمكانه في الجهالة والغباوة وذلك إن علم تحريم اللباس علم عام عند العرب في جاهليتها وابتلائها حتى أنهم كانوا لا يطوفون بالبيت إلا عراة ويخلفهم نساؤهم وكذلك نهى النبى صلى الله عليه وسلم قال: "لا يطوف بالبيت عريان وأمر فنودى به" 2 فحين أمر النبى صلى الله عليه وسلم بنزع الجبة مع أن الحال هذا ولم يتعرض للكفارة علمنا أنها غير واجبة ومن هذا الباب وإن كان دونه في المرتبة خبر الأعرابي المجامع في شهر رمضان حين قال: هلكت وإنما جاء يعرف حكم الله تعالى فيما فعله ويتوهم أن يلزمه حد وضرب من ضروب العقوبات فلما قيل: له أعتق رقبة دل ظهره أنه جواب عن هلاكه وإهلاكه وهو إفطاره وإفطار زوجته وكانت أمراته إنما تصل إلى العلم بما يلزمه من جهته لغيبتها عن حضرة النبى صلى الله عليه وسلم وكان قوله: افعل كذا محمولا على أنه يجزئ عنها وعنه وإنما صارت دلالة هذا أضعف من دلالة الخبر الأول لأن السائل في هذا الخبر قد أنبأ عن علمه بأنه ارتكب معصية الا ترى أنه قال: هلكت وأهلكت وإذا كان المبتلى بالحادثة من أهل الاستدلال كان دليل الشك معه أوهى وأضعف وأما قول الشافعى رحمة الله عليه فيما يخرج من غير السبيلين ذكر الله الأحداث في كتابه ولم يذكر هذا {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} فإن قوما من أصحابنا تعلقوا به وقالوا: إنما رده إلى أصل سكوت التكليف إلا بدليل وليس الأمر كذلك عند عامة أصحابنا وإنما وجهه ومعناه أن المتطهر على طهارته ولا ينتقض وضوءه إلا بحدث وما لم يقم دلالة على الحدث فأصل الطهر كاف فيه وقال صلى الله عليه وسلم: "فلا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا"3. ومن   1 أخرجه البخاري: العمرة "3/718" ح "789" ومسلم: الحج "2/837" ح "9/1180" ولفظه لمسلم. 2 أخرجه البخاري: الصلاة "1/569" ح "369" ومسلم: الحج "2/982" ح "435/1347". 3 أخرجه البخاري: الوضوء "1/285-286" ومسلم: الحيض "1/276" ح "98/361". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 احتج من هذه الطائفة بقوله وما سكت عنه فهو عفو1 فليعلم أنه ليس بعام في جميع أنواع السكت لكنه خاص في محل مل لأنه لا يمكن إجراؤه على عمومه.   1 ثبت في الأصل "عضو". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 فصل: اعلم أن العادة غير موجبه شيئا بنفسها بحال وإنما هى قرينه للواجبات أو منبئة عن المقاصد فيها . كالغسل فإن الله تعالى قال: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ..} [المائدة: 6] وكانت العادة جارية بأن يكون الغسل بالماء صرف الأمر إلى ذلك وحمل عليه وإن لم يجر له ذكر لأن العادة جرت بذلك ألا ترى أن قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا ولغ الكلب في إناء أحكم فليغسله سبع مرات إحداهن بالتراب" 2 ذكر الغسل وكانت دلالته أنه بالماء لما جرت به العادة ولما كانت الثامنة أو السابعة بالتراب احيتج إلى ذكره لأن العادة في ذلك مفقودة فلم يكن بد من النص عليه وكذلك إذا قال: بعتك هذا الثوب بدرهم كان الدرهم مستحقا على عادة نقد البلد وإن كانت الدراهصم مختلفة السك والجوهر متفاوته في الجودة والرداءة وقد يعتبر بعض العادات في الأيمان يرجع إليها فة مطلق الأيمان ولهذا قال الشافعى رحمة الله عليه: فمن حلف لا يأكل الرءوس فأل رءوس الحيتان لا يحنث3 لأن عادة المتكلمين بهذا الكلام قد جرت أنه يريد بهذا الرءوس التي تبان من أجساد الحيوان وتقصد بالأكل دون ما كان منها تبعا لأبدانها ولا يكاد القائل يقول أكلت الرءوس وهو يريد رءوس الحيتان وإنما يقال هذا ويراد به رءوس الغنم وما يشبهها من الحيوان ومن هذا الباب أن يوصى الإنسان بدابة من روابه فيعطى بعض أجناس الدواب التي جرت العادة بركوبها ويعتبر في ذلك عادة أهل البلد الذي فيه الحالف ولغتهم في التسمية وقد قيل: إنه يدخل في هذا الباب ما يعطيه الإنسان خادم الحمام والشارب للماء عند   2 أخرجه البخاري في الوضوء "1/330" ح "172" بلفظ "إذا شرب منه فليغسله سبعا" مسلم: الطهارة "1/234" ح "91/ 279" ولفظه. 3 قال الشيخ النووي: فإن أكل رأس طير أو حوت أو ظبي أو صيد آخر لم يحنث على المشهور فإن كانت رءوس الصيد والحيتان تباع مفردة في بلد حنث بأكلها انظر روضة الطالبين "11/37". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 الاستقساء وإن لم يتقدم في ذلك شرط ولم يسلم له عوض لكن العرف القائم والعادة الجارية نيوبان عن التسمية وكذلك هذا فيمن استعمل إنسانا بالزور جار ونحوه فإنه قد يستحق عليه أجر المثل وإن لم يتقدم في ذلك شرط وليس هذا من باب الاستحسان لكنه من باب العادات التي صدرها عن الأصول الصحيحة المشروعة وقد يرد هذا برفع العادة في بعض الأحوال لمعنى من المعانى ولدليل أقوى من اعتبار العادة وهذا القدر الذي قلناه كاف في هذا الفصل وليس بشئ مطرد حتى يطرد في جميع المواضع والله أعلم انتهى ما قلناه وقصدناه وقد كنا وعدنا ذكر باب التقليد في هذا الموضع لكنا رأينا بعد ذلك أن الأولى أن نذكره عند وصولنا إلى الفصول المذكورة في الاجتهاد وبيان أحكامه وتفسير المجتهد وذكر الأصوب من الأقوال فأخرناه إلى ذلك الموضع إلى أن نصل إليه إن شاء الله تعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 القول في القياس وما يتصل به مدخل ... القول في القياس وما يتصل به اعلم أن أحكام الشرع مأخوذة من وجهين: وجه سمع ووجه معقول. فأما السمع فعلى ثلاثة أضرب كتاب وسنة وإجماع وقد استقصينا شرح أقسامها وأحكامها. وأما المعقول فالقياس وقد قيل: إن القياس على ضربين عقلى وشرعى. فالقياس العقلى ما استعمل في أصول الديانات والقياس الشرعى ما استعمل في فروع الديانات ومعنى ذلك ما ورد التعبد من الأحكام. وقد ذكر كثير من أصحابنا في ابتداء الكلام في القياس مسألة في القياس العقلى وذكروا الخلاف في هذه المسألة بين الأصوليين وبين عامة المجتهدين أهل الرواية وأهل السلامة من الفقهاء فالأصوليين من المتكلمين وسائر من تبعهم أثبتوا القياس العقلي وأمروا به وزعموا أنه معرفة أهم الأشياء وزعموا في حده أنه رد غائب إلى شاهد ليستدل به عليه وأما أهل الرواية وعامة أئمة الحديث وكثير من الفقهاء اختاروا السلامة في هذا الباب وسلكوا طريقة السلامة ونهوا عن ملابسة الكلام وطلبوا الحق بطريقة وزعموا له علم يحدث وفن يخترع بعد انصرام زمن الصحابة والتابعين وأنكروا قول أهل الكلام في أن أول ما يجب على الإنسان النظر. وقالوا: إن أول ما يجب على الإنسان هو معرفة الله تعالى على ما ورد به الإخبار ولو قال الكافر: أمهلونى لأنظر وأبحث فإنه لا يمهل ولا ينظر ولكن يقال له أسلم في الحال وإلا فأنت معروض على السيف ولا أعرف في هذا خلافا بين الفقهاء ونص عليه ابن سريج وقد ذكرنا في كتاب الانتصار لأصحاب الحديث واخترنا طريقة السلف وما كانوا عليه في هذا الباب ونقلنا عن عامة الأئمة ما يوافق ما اخترناه وذكرناه أيضا أنا لا ننكر من النظر بقدر ما أذن فيه الشرع على ما يوافق الكتاب والسنة وهذا الكتاب إنما قصرناه على محض أصول الفقه وليست هذه المسألة من باب أصول الفقه فلا معنى لذكرها فيها رجعنا إلى الكلام في القياس الشرعى فنقول قبل أن نشرع في إثباته: ان اثبات الشئ إنما يكون بعد معرفة معناه نذكر أولا الكلام فيما أخذ منه القياس من حيث اللغة ثم نذكر حده أما الكلام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 فيما أخذ منه القياس فنقول في اللغة وفى قول بعضهم: مأخوذة من الإصابة من قولهم: قست الشئ إذا أصبته فسمى القياس قياسا لأن القائس يصيب به الحكم وقال بعضهم: إنه مأخوذ في اللغة من المماثلة من قولهم: هذا قياس هذا أي ومثله وسمى القياس قياسا لأنه الجمع بين المتماثلين في الحكم1. وأما حد القياس فقال بعضهم: هو حمل معلوم على معلوم في أيجاب بعض أحكامه بأمر يجمع بينهما وقال بعضهم: حمل شىء على شيء في بعض أحكامه بوجه   1 اعلم أن القياس في اللغة كما قال الآمدي والأسنوي: عبارة عن التقدير ومنه قست الأرض بالقصة وقست الثوب بالذراع أي قدرته به قال الأسنوي: يقال قاس الثوب بالذراع يقيسه قيسا وقياسا إذا قدرته به. والتقدير يستدعي التسوية وذكر الآمدي أنه يستدعي أمرين يضاف أحدهما إلى الآخر بالمساواة وإضافة بين شيئين لأن التقدير معرفة قدر الشيء بشيء آخر مساوو له ولو بالتضعيف ولكونه يستلزم المساواة يستعمل فيها المساواة مجازا لغويا ولهذا يقال في اللغة: فلان يقاس بفلان ولا يقاس به أي: يساويه أو لا يساويه. وعلى هذا اكون المساواة لازمه للتقدير واستعمال القياس في المساواة مجاز لغوي من إطلاق اسم الملزوم على اللازم. وقال بعض الأصوليين: إنه حقيقة عرفية في المساواة. القياس يطلق لغة على أمور ثلاثة: أ- التقدير: تقول قست الثوب بالذراع أي: قدرته به. ب- المساواة: وهي قد تكون حسية أو معنوية. فالحسية مثل قولهم: قست النعل بالنعل ساويته به والمعنوية كقولك: فلان لا يقاس بفلان أي لا يساويه في فضله وشرفه والمساواة المعنوية هي المرادة للأصوليين إذا قالوا: القياس مساواة أو فيه مساواة فرع الأصل في علة حكمه. جـ- ويطلق على التقدير والمساواة معا - أي المجموع منهما إذا قصد الدلالة على التقدير وثبوت المساواة عقيب التقدير ومثال ذلك: قست النعل بالنعل أي/ قدرته به فساواه. وعلى هذا فيكون القياس مشتركا لفظيا بين هذه الثلاثة التقدير والمساواة والمجموع أو المركب من التقدير والمساواة. أنه حقيقة في التقدير فقط وتحته فردان: 1- استعلام القدر أي طلب معرفة قدر الشيء مثل: قست الثوب بالذراع. 2- التسوية في مقدار مث: قست النعل بالنعل سويتها بها في المقدار انظر إحكام الأحكام للآمدي"3/361" نهاية السول "4/2" فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت "2/246" الصالح في مباحث القياس عند الأصوليين للشيخ سيد صالح "5, 6, 7". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 من الشبه1 وهذان منقولان عن المتكلمين والفقهاء قالوا: حمل فرع على أصل في بعض أحكامه بمعنى يجمع بينهما وقد بسط بعضهم هذا الحد فقال: القياس طلب أحكام الفروع المسكوت عنها من الأصول المنصوص عليها بالعلل المستنبطة من معانيها ليلحق كل فرع بأصله حتى يشركه في حكمه لاستوائهما في المعنى والجمع بينهما بالعلة ذكره على هذا الوجه القاضي أبو الحسن الماوردى. وقال بعض المتقدمين: هو اعتبار الشئ بغيره2. وقال بعضهم هو موازنة الشئ بالشيء3. وحكوا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه لما سئل عن ميقات أهل المشرق فقال ما حاذاه من المواقيت؟ قالوا: قرن. فقال: قيسوا به4. يعني اعتبروا به وهذان الحدان فيهما إجمال لأنهما لا يعبران عن صفة القياس في أحكام الشريعة والمقصود ها هنا هو   1 وقد ذكره الشيخ الآمدي وعزاه للقاضي عبد الجبار وأبطله من وجهين: الأول: أنه غير جامع لأنه يخرج منه القياس الذي فرع معدوم ممتنع لذاته فإنه ليس بشيء. الثاني: أن حمل الشيء على غيره وإجراء حكمه عليه قد يكون من غير جامع فلا يكون قياسا وإن كان بجامع فيكون قياسا وليس في لفظه مايدل على الجامع فكان لفظه عاما للقياس ولما ليس بقياس انظر إحكام الأحكام للآمدي "3/264, 265". 2 وقد ذكره الشيخ الآمدي وعزاه لأبي هاشم وأبطله بالوجهين السابقين أيضا انظر إحكام الأحكام "3/264". 3 وقد عرفه البيضاي بأنه إثبات مثل حكم معلوم في معلوم آخر لا شتراكهما في علة الحكم عند المثبت انظر نهاية السول "4/2". وقد أورد الشيخ الآمدي عدة تعرفات للقياس: أولا: إنه عبارة عن إصابة الحق. ثانيا: أنه بذل الجهد في استخراج الحق. ثالثا: إن القياس هو التشبيه. رابعا: هو الدليل الموصل للحق. خامسا: هو العلم الواقع بالمعلوم عن النظر. سادسا: قال القاضي أبو بكر: القياس حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما أو نفيه عرفه أبوالحسين البصري بأنه تحصيل حكم الأصل في الفرع لا شتباههما في علة الحكم عند المجتهد انظر المعتمد "2/195". 4 أخرجه البيهقي في الكبرى في الحج "5/40, 41" ح "8913". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 العبارة عن القياس في الأحكام الشرعية1 وهو على التفسير الذي ذكرناه. وقد يقول القائل: قست الأرض معناه ذرعتها بمقياس مهيئ للذرع وبينى وبين فلان قيس رمح أى قدر معتبر بقدر رمح الحد الصحيح ما ذكرناه فيما سبق وقد قال بعضهم: إن القياس فعل القائس وليس هذا بشيء لأنه لو كان ذلك صحيحا لوجب أن يقال: كل فعل يفعله القائس من القيام والقعود والمشي قياس وهذا لا يقوله أحد. فإن قال قائل: ما قولكم في الاجتهاد وهل هو والقياس واحد؟ قيل: نقول أولا: إن الاجتهاد مأخوذ من إجهاد النفس وكدها في طلب الزاد كما أخذ جهاد العدو من إجهاد النفس في قهره وهل هو والقياس واحد وهما مختلفان اختلفوا فيه فقال أبو علي بن أبى هريرة إن الاجتهاد والقياس واحد ونسبة إلى الشافعي وقال أشار إليه في كتاب الرسالة وأما الذي عليه جمهور الفقهاء هو أن الاجتهاد غير القياس وهو أعم لأن القياس يفتقر إلى الاجتهاد وهو من مقدماته وليس الاجتهاد يفتقر إلى القياس واختلفوا في حده فقال بعضهم: هو بذل المجهود في طلب الحق بقياس وغيره قالوا: والقياس ضرب من ضروب الاجتهاد وهو أخص منه وقال بعضهم: الاجتهاد وهو طلب الصواب بالأمارات الدالة عليه والقياس هو الجمع بين الفرع والأصل والحد الأول حسن جدا وقيل إنه يدخل في باب الاجتهاد حمل المطلق على المقيد وترتيب العام على الخاص وأمثال ذلك وليس بشئ من هذا بقياس فإن قال قائل ما قولكم فلا الاستدلال هل هو قياس أم لا قلنا: الاستدلال طلب الحق بدليل معانى النصوص وقيل استخراج الحق وتمييزه من الباطل وقيل كل ما استخرج به الحق حتى يمتاز به عن الباطل وقد حكى عن الشافعى رحمة الله عليه أنه سمى القياس استدلالا لأنه فحص ونظر فإن قال قائل ما قولكم في الأمارة هل هي قياس؟ قيل له: الأمارة من حيث اللغة هى العلامة وقال بعضهم: الأمارة هى التي النظر الصحيح فيها2 يؤدى إلى الظن واعلم أن الأمارة قد تكون قياسا وقد تكون غير قياس وللأمارة تقسيمات وستأتى من بعد وحين عرفنا القياس وحده فنتكلم الآن في بيان كونه دليلا.   1 ثبت في الأصل: "الشريعة". 2 ثبت في الأصل "فيما" ولعل الصواب ما أثبتناه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 مسألة: ذهب كافة الأمة من الصحابة والتابعين وجمهور الفقهاء إلى أن القياس الشرعى أصل من أصول الشرع: ويستدل به [على] 1 الأحكام التي لم يرد بها السمع وذهب طائفة إلى إبطال القياس وقالوا: لا يجوز أن يستدل به على حكم في فرع وهذا قول إبراهيم النظام ومن تبعه وهو قول داود بن على ومن تبعه من أهل الظاهر والقاشانى والمغربى والقيروانى وهو قول الشيعة أيضا واختلف هؤلاء في طريق نفيه فقال بعضهم إن التعبد بالقياس قبيح من حيث الفعل وإنما بطل القياس لأن العقل مانع منه ولو لم يمنع منه جاز أن يرد الشرع به وقال بعضهم: لا يقبح من حيث العقل ولكن الشرع منع منه ولو لم يمنع كان جائزا وقال بعضهم: إنما بطل لأن الشرع لم يرد به ولو ورد به كان جائزا وقال بعضهم: إنما بطل القياس لضعف البيان الحاصل به وقال بعضهم إنما بطل لأن [الشرعيات] 2 مصالح والمصالح لا يعلمها إلا الله عز وجل وهذا قول النظام. وقال بعضهم: إنما بطل لأنه كان حجة ضرورة ولا ضرورة في كون القياس حجة3.   1 ثبت في الأصل "عن" والصحيح ما أثبتناه. 2 كشط في الأصل. 3 قد ذكر المصنف الأدلة ولكننا نصوغها بطريقة أخرى للتسهيل على القارئ: اتفق الأصوليون على أن القياس حجة في الأمور الدنيوية لأنه يفيد الظن بالحكم والظن كاف فيها واختلفوا في كونه حجة في الأمور الشريعة: 1- فذهب الجمهور إلى أن التعبد به جائز عقلا ويجب العمل به شرعا فقط. 2- وقال القفال الشاشي من الشافعية وأبو الحسين البصري من المعتزلة: إن العمل به واجب شرعا وعقلا لا فرق في المذهبين بين أن يكون القياس منصوص العلة وغير منصوصها ولا بين أن يكون جليا ولا خفبا. 3- وذهب القاشاني والنهرواني وداود بن علي الأصفهاني إلى أن التعبد بالقياس واجب شرعا في صورتين وفيما عداهما يحرم العمل به ولا دخل للعقل في الإيجاب ولا في التحريم. يقول الشارع: الخمر حرام للإسكار فيقاس النبيذ عليها. الصورة الثانية: أن يكون الفرع بالحكم أولى من الأصل مثل قياس الضرب على التأفف بجامع الإيذاء ليثبت له التحريم فإن الضرب أقل بالتحريم من التأفيف لشدة الإيذاء فيه. 4- وقال ابن حزم الظاهري وأتباعه إن التعبد بالقياس جلئز عقلا ولكن الشرع لم يوجد فيه ما يدل على وجوب العمل به. 5- وقال الشيعة الإمامية والنظام في أحد النقلين عنه أن التعبد بالقياس محال عقلا انظر نهاية السول "4/7, 8, 9ط فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت "2/310" المستصفى للغزالي "2/234" المعتمد "2/214" المحصول "2/245" روعة الناظر "251" أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير "4/17, 18". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 وإذا عرف هذا فنقدم أولا: مسألة: بيان حسن التعبد بالقياس عقلا: ولأنه لا مانع من حيث العقل ثم نذكر ورود التعبد من حيث السمع ونقدم شبههم في الفصلين. احتج من قال: إن التعبد بالقياس يجوز من حيث العقل قال: لأن الشرعيات مصالح والمصالح لا تعلم إلا بالنصوص فأما بالأمارات المفيدة للظنون لا تعرف لأنها ربما أخطأت وربما أصابت ولا يجوز أن نتعبد الحكيم في المصالح بما يجوز أن يخطئ المصالح وأيضا فإن القياس فعلنا ولا يجوز أن نتوصل إلى المصالح بفعلنا. ببينة: أنه لو جاز الحكم في الشرعيات بالظنون عن أمارات لجاز أن نخبر أن زيدا في الدار إذا دلت الأمارة على كونه فيها وحين لم نخبر دلت أن القول بالظن باطل قالوا: ولأن جلى الأحكام الشرعية لا يعرف إلا بالنصوص فلم يجز إثبات خفيها إلا بالنص أيضا لأن ما علم جليه بطريق فخفيه لا يعلم إلا بذلك الطريق كالمدركات لا نعلم جليها وخفيها إلا بإدراك قالوا: ولأنه لو كان للشرعيات علل لكانت كالعلل العقلية في استحالة انفكاكها من أحكامها في كل حال إلا ترى أن الحركة لما كانت علة تحرك الجسم استحال وجود الحركة وليس الجسم المتحرك وإذا لم ينفك من أحكامها كان في ذلك ثبوت الأحكام الشرعية قبل الشرع وقالوا ولأن العقل كالنص في أنه يدل على حكم الحادثة فكما لا يجوز أن يتعبدنا الله تعالى بالقياس المخالف للنص المعين لا يجوز أن يتعبدنا بالقياس المخالف حكم العقل وكل حادثة فلها حكم في العقل فإذا لا يجوز التعبد فيها بالقياس قالوا: ولأن القياس لو كان صحيحا لكان حجة مع النص كالخبر حجة مع الكتاب وحين لم يكن حجة مع النص دل أنه ليس بحجة أصلا قالوا: ولأن أحكام الشرع لو كانت معلومة وجب أن يكون جميعها معلولة كما كان جميعها حجة مشروعة ولما خرج بعضها من التعليل إجماعا دل أن كلها خارج لأن صنعه السمع في جميعها على السواء هذا بعض شبههم من حيث المعقول وسنبين ما يدعون من السمع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 المانع منه ويدخل في ذلك تقرير بعض ما ذكرنا من قبل وتعلقوا بقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ} [العنكبوت: 51] فأخبر الله تعالى أن الكتاب كاف فمن لم يكتف به إلا بالقياس فقد خالف وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] والقياس الذى نستنبطه نحن من آرائنا ليس مما أنزل الله تعالى بل ذلك مما ولده رأينا وإنما المنزل كتاب الله وسنة رسوله فإنه ما كان ينطق عن الهوى إنما ما كان ينطق عن الوحى وقال سبحانه وتعالى في صفة كتابه: {تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} وقال: {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} فأخبر أن الكل بيانه في كتاب الله عز وجل إما في نصه أو في إشارته أو أقتضائه أو دلالته فإن لم يوجد فالابقاء على الأصل الثابت من وجود أو عدم فإن ذلك في كتاب الله تعالى قال الله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام: 149] الآية فالله تعالى أمر بالاحتجاج بعدم نزول التحريم في كتاب الله تعالى لثبوت الإباحة كالأصلية وقد ذكرنا هذا من قبل فيصير على هذا كل تاأحكام من رطب ويابس بيانه موجودا في كتاب الله تعالى فيبقى الرأى مستعملا لتعرف الحكمة التي فيها علم المصلحة عاقبة وهى مما لا توقف عليها بالرأى والإجماع لأن المصلحة في كل ما شرع الله تعالى من الأحكام التي هى النجاة في الآخرة وبالآراء لا تدرك مصالح الآخرة وإنما تدرك به المصالح العاجلة التي يوقف عليها بالحواس والتجارب. فتعرف نظائرها بالقياس وتعلقوا أيضا بقوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} وقال: {وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} والقياس لا يفيد العلم فيكون قولا باطلا وأما خبر الواحد فأصله كلام النبى صلى الله عليه وسلم وهو يوجب العلم يقينا وإنما دخل الشك والاحتمال في الانتقال الينا فلا يبطل أصل الخبر بهذا الاحتمال وكان هذا بمنزلة النص المأول بالرأى من كتاب الله تعالى على بعض ما يقتضيه لسان العرب فإنه حجة ولا يوجب العلم لأنه في أصله موجب وأما القياس في الأصل محتمل فلا يصير حجة مع الاحتمال. قالوا: وليس يدخل على هذا تعرف جهة القبلة وبيان قدر مهر المثل وقيمة المستهلك حيث تعرف1 هذه الأشياء بالرأى لأن معرفة جهات البلدان من مصالح الدنيا ومما يوقف عليه بالحواس وكذلك قيمة الشئ تعرف بمعرفة النظائر وطريق العلم بها حس البصر وهذا كما أن الله تعالى أخبرنا بإهلاك كثير ممن مضى من الأمم وأمرنا بالاعتبار بها وذلك يكون   1 ثبت في الأصل "يتعرف" وهذا هو الصواب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 بالرأى لأن المقصود من ذلك معرفة هلاك مثله بمثل ذنبه وتلك المعرفة إما بحس العين أو بحس الأذن وكان الاحتراز من مثل سببه من مصالح الدنيا وحل ذلك محل الاحتراز عن تناول ما يتلفه مما وقف على تلف مثله يتناوله ومثل الاحتراز عن سيف يقع عليه لعلمه بقطعته. فلم تكن معرفة هذه الأشياء من أحكام الشرع. قالوا: فالله تعالى قد أكرم الآدمى بالرأى لكن ليستدرك به مصالح عاجلة ليبقى إلى جنبه المضروب له بتدبيره وجعل طريق استدراكه للوقوف على نظير ما عمله سببا من خير أو سوء وكان الرأى حجة للآدمى في أمثال هذا. فأما الشريعة فما شرعت إلا الآخرة وتلك المصالح تثبت على خلاف مصالح الدنيا فلا يكون الرأي فيها حجة ولأنا متى لم نصل إلى تلك المصالح بحواسنا وهى طريق العلم لنا في الأصل لم نقف على نظائرها بالرأى يلزمنا وجوب التأمل في معانى النصوص لأن معانيها لغة من أمور الدنيا وهى مما يوقف عليها بحاسة السماع من أهلها ولم يكن هذا من الشريعة في شئ فإن قيل: فإنها كانت قبل الشرع وإنما أنكر استنباط المعنى الذي يتعلق به حكم الشرع فإنه من أمور الآخرة فثبوت الحكم على ما ثبت من حظر أو إباحة حق الله تعالى وليس هو من معانى اللسان في شيء. قالوا: فتحمل الآيات الوارده بالأمر بالتفكر والاعتبار على هذا القبيل وتحمل النصوص التي نهت عن العمل بالرأى وألزمت اتباع الوحى على أحكام الشرع وعلى هذا تحمل مشاورة النبى صلى الله عليه [وسلم] 1 أصحابه فإن الله تعالى أمره بها في تدبير الحرب وقد شاورهم فيها والوقوف على جهة الغلبة من مصالح الدنيا وما هو بحكم شرعى والنبى صلى الله عليه [وسلم] 2 ما شاور أحدأ في حكم من أحكام الشرع بحال. هذه الكلمات من الآية المذكورة كلمات ذكرها القاضى أبو زيد في كتابه حجة لهم. رجعنا إلى ما ذكرناه آية الأصوليين لبقاء القياس من الدلائل الشرعية في المنع منه وتعلقوا من الكتاب سوى ما ذكرناه بقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] ولم يقل إلى القياس فتضمنت الآية نفيه وقال سبحانه وتعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النحل: 116] والقياس مفترى وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً   1 زيادة ليست في الأصل. 2 زيادة ليست في الأصل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59] والقياس يحل ويحرم فصار مفتريا على الله تعالى وتعلقوا بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1] والقول بالقياس تقديم بين يدى الله ورسوله وتعلقوا بالأخبار ومنها ما روى عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله تعالى لا يقبض العلم انتزاعا ينزعه من الناس ولكن بقبض العلم بقض العلماء فإذا لم يبق عالم اتخذ الناس رءوسا جهالا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا" 1 والفتوى بالرأي فتوى بغير علم لأن الظن لا يكون علما بحال وروى واثلة بن الأسقع أن النبى صلى الله عليه [وسلم] 2 قال: "لم يزل أمر بنى إسرائيل مستقيما حتى حدث فيهم أبناء السبايا فأفتوا برأيهم فضلوا وأضلوا" 3. وروى أبو هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "تعمل هذه الأمة برهة بكتاب الله وبرهة بسنة رسول الله وبرهة بالرأى فإذا فعلوا ذلك فقد ضلوا" 4. وروى عوف بن مالك الأشجعى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: " تفترق أمتى على بضع وسبعين فرقة أضرها على أمتى يقيمون الأمور بآرائهم فيحللون الحرام ويحرمون الحلال" 5. وروى أبو الدرداء رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "الحلال ما أحل الله والحرام ما حرم الله وما سكت عنه فهو عفو" 6. وأما الآثار عن الصحابة تعلقوا بما روى عن أبى بكر الصديق رضى الله عنه أنه قال: أي سماء تظلنى وأى أرض تقلنى إذا قلت في كتاب الله برأيى.   1 أخرجه البخاري: العلم "1/234" ح "100" ومسلم: العلم "4/2058" ح "13/2673". 2 زيادة ليست بالأصل. 3 أخرجه ابن ماجة المقدمة "1/21" ح "56" في الزوائد: إسناد ضعيف "عن عبد الله بن عمرو ابن العاص" بنحوه والدارمي: المقدمة "1/62" ح "120" عن عروة بن الزبير بنحوه. 4 ذكره الحافظ الهيثمي في المجمع "1/184" وقال: رواه أبو يعلى وفيه عثمان بن عبد الرحمن الزهري متفق على ضعفه. 5 أخرج الطبراني في الكبير "18/50- 51" ح "90" وعزاه الحافظ الهيثمي في المجمع "1/184" إلى البزار –أيضا- وقال: رجاله رجال الصحيح والحاكم في المستدرك "4/430". 6 أخرجه البيهقي في الكبرى "10/21" ح "375" والدارقطني: سننه "2/137" ح "12" والحاكم في المستدرك "2/375" وذكره الحافظ الهيثمي في المجمع "1/176" وقال: رواه البزار والطبراني في الكبير وإسناده حسن رجاله موثوقون. انظر الدر المنثور "4/279". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 وعن عمر رضى الله عنه أنه قال: إياكم وأصحاب الرأى فإنهم أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها وثقلت عليهم السنن أن يعوها فقالوا برأيهم فضلوا وأضلوا1. وعن علي رضى الله عنه [قال] 2: لو كان الدين بالرأي لكان باطن الخف أحق بالمسح من ظاهره3. وعن ابن عمر رضى الله عنه أنه قال: اتهموا الرأى على الدين فإن الرأى منا تكلف وظن وإن الظن لا يغنى من الحق شيئا. وعن ابن مسعود رضى الله عنه أنه قال: إن عملتم في دينكم بالقياس أحللتم كثيرا مما حرم الله تعالى وحرمتم كثيرا مما أحل الله. وأما الآثار عن التابعين روى عن ابن سيرين أنه قال: أول من قاس إبليس وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس4. وقال الشعبى ما حدثوك عن أصحاب محمد صلى الله عليه [وسلم] 5 فأخبره وما أخبروك به عن رأيهم فألقه في الحش وفى رواية: فبل عليه6. وعن مسروق: لا أقيس شيئا إنما أخاف الله تعالى أن تزل قدم بعد ثبوتها7 وفى هذا المعنى عن التابعين ومن بعدهم كثير. وذكرنا أكثر من ذلك في كتاب الانتصار واستدل النظام فقال: إن الله تعالى دلنا بموضع الشريعة على أنه منعنا من القياس فإنه تعالى فرق بين المتفقين وجمع بين المتفرقين فأباح النظر إلى الأمة وحرم النظر إلى شعر الحرة وإن كانت شوهاء وأيضا   1 ذكره الحافظ ابن حجر في فتح البارئ من طرق الشعبي عن عمرو بن حريث عن عمر فذكره وقال: فظاهر في أنه أراد ذم من قال بالرأي مع وجود النص من الحديث لإغفاله التنقيب عليه فهلا بلام وأولى منه باللوم من عرف بالنص وعمل بما عارضه من الرأي وتكلف لرده بالتأويل وإلى ذلك الإشارة بقوله في الترجمة وتكلف القياس والله أعلم انظر فتح الباري "13/302- 303" "باب ما يذكر من ذم الرأي وتكلف القياس". 2 زيادة ليست بالأصل. 3 أخرجه أبو داود: الطهارة "1/41" ح "162". 4 أخرجه الدارمي: المقدمة "1/76" ح "189". 5 زيادة ليست بالأصل. 6 أخرجه الدارمي: المقدمة "1/78" ح "200". 7 أخرجه الدارمي: المقدمة "1/76" ح "191" بنحوه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 أباح النظر إلى وجه الحرة وحرم النظر إلى شعرها مع اتفاقهما في معنى الشهوة وربما يكون هيج الشهوة عن النظر إلى الوجه أكثر منه عند النظر إلى الشعر وأوجب الغسل من المنى1 دون البول وحرم الصلاة بالحيض2 دون الاستحاضة3 وأوجب على الحائض قضاء الصوم دون الصلاة4. ببينة: أن القياس ليس إلا تشبيه الشئ بالشيء. وقد زعمتم أن التفريق بين المتشابهين5 لا يجوز وقد وجد التفريق بينهما في غير موضع من أحكام الشرع بدليل هذه الصورة. بل قد ترك الشرع الأولى عند النظر في المعانى بدليل أن المني نجاسته دون نجاسة البول وأوجب بخروجه الغسل وأوجب بخروج البول الوضوء خاصة وأيضا فإن الله تعالى أوجب الحد على من رمى محصنا بالزنا6 ولم يوجب على من رمى إنسانا بالكفر والشرك شيئا7 والكفر فوق الزنا. ببينة: أن الله تعالى جعل أحكام الشرع متباينة كمقادير العبادات والعقوبات والكفارات ولم يشرعها نظائر ليبين لنا أن الشرع باب لا مدخل للرأي فيه. قالوا: ولأنه ما من فرع إلا ويشبه أصلين متضادي الحكم وذلك يقتضى ثبوت حكمين في محل واحد على وفق الشبه وهذا باطل فإذا القول بالشبه باطل. قالوا: ولأن الإنسان لو قال لوكيله: أعتق عبدى سالما لأنه أسودا أو بريعا لأنه أبيض لم يجز أن يعتق في الأول كل عبد له أسود ولا في الثانى كل عبد له أبيض. واحتج أبو زيد لهم أيضا فقال: إن أصل الشرع من أحكام الله تعالى في الإيجاب والإسقاط والإحلال والتحريم وهى كلها خالص حق الله تعالى لأنها حدود دينية وحق الله تعالى لا ينبغى أن يثبت إلا بحجة فاصلة موجبة للعلم قطعا لأن الله تعالى لا يشتبه عليه حق والرأى لا يوصلنا إلى ما عند الله تعالى.   1 قول عامة الفقهاء انظر المغنى "1/197". 2 انظر المغنى "1/314". 3 انظر المغنى "1/324". 4 انظر المغنى "1/314". 5 في الأصل "المتشبهين" ولعل الصواب ما أثبتناه. 6 ذكره ابن المنذر إجماعا انظر الإجماع لابن المنذر "113". 7 قال ابن المنذر: وأجمعوا على أنه إذا قال الجل للرجل: يابن الكافر وأبواه مؤمنان قد ماتا أن عليه الحد انظر الإجماع لابن المنذر "113". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 قال: وأما أخبار الرسول صلى الله عليه [وسلم] 1 فهى غير مختلفة وهى في أصلها موجبة للعلم وأنما اختلفت الرواية على ما سبق. قالوا: ولأن في منعنا2 من القياس أمرين بهما قوام الدين ونجاة المؤمنين فإنا متى حجرنا عن القياس يلزمنا المحافظة على النصوص والتبحر في معانى اللسان وفى المحافظة على النصص إظهار قالب3 الشريعة كما شرعه وفى التبحر في معاني اللسان إثبات حياة القالب فتموت البدع بظهور القالب ويسقط الهوى عند حياة القالب وهذا لأن القالب لا يحيا إلا باستعمال الفكر في معانى النصوص ومعانيها جمة وافرة لا تنزف بأول الرأى وأول الفكر وقد تفنى الأعمار ومعانى النصوص تبقى غير مستدركة فثبت أن في ترك القياس موت البدع وسقوط الهوى فتموت البدع تماما من الدين وبسقوط الهوى استقامة العمل وفيها الفوز والنجاة للناس فهذا الذي ذكرناه احتجاج نفاة القياس وسنجيب بعون الله تعالى ونبتدئ بإثبات كونه دليلا لله تعالى في أحكام الشرع من حيث المعقول ومن حيث السمع وإنما نذكر من حيث العقل على طريق الرد عليهم والمعتمد هو السمع وأما دلائلنا في إثبات القياس. قال أولا: ونبين أن العقل يدل على التعبد به. فنقول: إن مرادنا بقولنا: إن العقل يدل على ذلك هو أنا إذا غلب على ظننا بأمارة شرعية علة حكم الأصل. ثم علمنا بالعقل أو بالحس ثبوتها في شئ آخر فإن العقل يدل على قياس ذلك الشئ على ذلك الأصل بتلك العلة أما جواز قيام أمارة شرعية على علة حكم الأصل فهو أنا إذا علمنا أن قبح شرب الخمر تحصل عندشدتها وينتفي عند انتفاء شدتها كان ذلك يقتضى الظن بكون شدتها علة تحريمها ومعلوم أن الشدة ثابته في النبيذ وإنما قلنا: إن العقل يدل على قياس النبيذ على الخمر لأن العقل يدل على قبح ما ظننا فيه أمارة الضرر وأمارة الضرر التحريم الا ترى أن العقل يقتضى قبح الجلوس تحت حائط مائل لعلمنا بثبوت أمارة المضرة فإن قيل: كيف يجوز القطع على قبح ما وجدت فيه أمارة التحريم والمضرة مع أن الأمارة تخطئ وتصيب قيل له: كما يجب مثله في أمارة المضرة الحاصلة في القيام تحت حائط مائل فإن قيل: العقل إذا انفرد يقتضى إباحة شرب النبيذ فلم يجز الانصراف عنه   1 زيادة ليست في الأصل. 2 ثبت في الأصل: "معنا ولعل الصواب ما أثبتناه. 3 ثبت في الأصل: "قالت" ولعل الصواب ما أثبتناه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 لأمارة. قيل له: هذا موجود في الجلوس تحت حائط مائل لأن العقل يقتضى إباحة الجلوس في الأصل فيجب أن لا ينتقل عن هذه الإباحة لأمارة تجوز أن تخطى وتصيب فإن قيل: إنما حسن الجلوس بشرط أن لا يكون فيه أمارة التحريم والمضرة فلا فرق بينهما هذا دليل المتكلمين من المعتزلة ذكرناه على ما أورده أبو الحسين البصرى والأولى أن نذكر دليل العقل على وجه لا يؤدى إلى مذهب من مذاهبهم فنقول قد ثبت القول بحجج العقول في مواضعها فعلى هذا نقول: إن من قضية العقل أن كل شيئين مشتبهين فحكمهما من حيث أشتبها واحد ولولا أن الأمر في العقول كذلك لم يكن لنا سبيل إلى التمييز بين المتضادين ولا عرفنا صادقا من كاذب ولا محقا من مبطل ولا كاملا من ناقص ولا قصيرا من طويل ولذهب علم الحواس وبطلت فائدته وذكر الله الأمثال في كتابه وضرب الشبه بين المثال والممثل به وجرت عادة أهل العقل باستعمالها في كلامهم وابتذالها في مخاطبتهم وجمعوا بالمعنى بين الشئ وغيره وألحقوا حكمه بحكمه وهو كقول القائل إينما أتوجه ألقى سعدا وهو مثل مشهور من أمثال العرب وهو لرجل من بنى سعد رأى من قومه هذه الحكمة وسوء جوار فرحل عنهم وانتقل إلى قوم آخرين فرأى منهم مثل ذلك فأرسل هذه الكلمة مثلا وذلك أن القوم الذين صار إليهم لما كان معناهم في جواره معنى بنى سعد جعله منهم وألحقة في الحكم بهم وأجرى سنته عليهم وهو معنى قوله كل وبنو سعد وينو سعد قومى وعلى هذا يقا: خزيم الناعم: إذا وصفوه بالترفة والنعمة وما فلان إلا سخيا [وهو كما يقال] 1 هو الأمير إياد وصفوة بالبيان والفصاحة. ويقال: ما فلان إلا كليب [بن واسق إذا وصفوه] 2 بالعز والمتعة والسلطان3 إلا قارون إذا وصفوه بالثروة وأمثال هذا تكثر وعلى هذا المعنى. قيل للرجل الشجاع: أسد وللبليد حمار وللذمى كلب وكان متمم بن نويرة بعد ما نجع بأخيه مالك بن نويرة وهذا الذي قتله خالد بن الوليد لا يرى قبرا إلا بكى فعوتب على صنيعه. فقال: وقالوا أتبكى كل قبر رأيته ... لقبرثوى بين اللوى والدكادك4   1 بياض بقدر كلمتين. 2 كشط في الأصل. 3 كشط في الأصل. 4 قال في القاموس: دكادك ودكاديك وأرض مدكدكة مدعوكة ومدكوكة لا إسناد لها تنبت الرمث انظر القاموس المحيط للفيروز آبادي "3/302". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 فقلت لهم أن الأسى يبعث الأسى ... دعونى فهذا كله قبر مالك فهذا أعرابى من بنى يربوع لا يعرف مذاهب الفقهاء في القياس ولا طريقهم في الاعتبار وإنما جرى ذلك على حكم أرشده إليه عقله وسجية هداه اليها طبعه حين رأى الشبه بين الكل في معنى واحد وأمثال هذا تكثر فثبت أن الأمر في العقول الصحيحة على ما قلناه من أن كل مشتبهين فحكمهما من حيث اشتبها واحد وصح أن المعانى أدلة وأنها متى وجدت متفقة أو حيث اتفاق الحكم ومهما كانت مختلفة أوجبت اختلافه. ببينة: أنه إذا كان النظام ومن تبعه يتبعون أدلة العقل في العقليات وبه يستدلون على إثبات الصانع وعلى حدث العالم إلى سائر ما هو معروف فوجب ألا يمتنعوا من ذلك في أحكام الشرع وفى فروع السمعيات فإنه إذا استقل شئ بأعظم الأمرين كان قمنا1 أن يستقل بأيسرها وإذا جاز أن يتعبدنا الله به في أصول الدين جاز أن يتعبدنا ويجعله دليلا في فروعه. فإن قيل: القياس في العقليات لا يتغير ولا يوجد فيه التفريق بين المشتبهات وقد وجد ذلك في السمعيات على ما سبق بيانه. والجواب: أن الأصول التي يقع إليها رد الفروع في الشرعيات لا يتغير أيضا لأن الله تعالى قد أكمل الدين وبين الناسخ والمنسوخ واستقرت الشرعية قرارها فالسمعى والعقلى فيما تنازعنا فيه بمثابة واحدة وأما التفريق بين المشتبهات فغير جائز عندنا أن يقع التفريق بينهما من الوجه الذي يتعلق به الحكم فيهما وإن جاز أن يقع ذلك من سائر الوجوه وإنما المعتبر في الجمع والفرق على النكتة التي هي مناط الحكم ورباطه دون ما سواه وأما المسائل التي ذكروها من التفريق الموجود بين المشتبهين فالنص فرق بين المنى والبول والحيض والاستحاضة والحرة والأمة وقد يمكن أن يوجد معنى الوفاق بين المنى والبول من وجه وموضع الخلاف من وجه وذلك أن المنى والبول من حيث كانا خارجين من مخرج واحد جاءت الشريعة فيهما بإيجاب الطهارة فوجب التسوية بينهما في نوع الواجب ولم يقع التفريق بينهما في أن يجعل في أحدهما الطهارة بالماء وفي الآخر الطهارة [بالماء] 2 وأما موضع الافتراق فهو أن أحدهما وهوالبول من حيث كان يكثر خروجه من بدن الإنسان وتدوم البلوى والمحنة فيه ورد   1 أي: جدير انظر القاموس المحيط "4/261". 2 هكذا في الأصل ولعل الصواب "بالتراب". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 الشرع بتخفيف الطهارة عن صاحبه لئلا يشق عليه ولا يلحقه الضرر المجحف وأما المنى فإن خروجه من بدن الإنسان نادر وأنما هو في الفرط والحين فلما لم تكثر البلوى فيه وكان خروجه في العادة بالشهوة واللذة التي تشيع في جميع البدن ولم يكن في إيجاب الاغتسال ضرر قادح ورد الشرع بأعم الطهارتين وأسبغهما وأما الأمر في وجه المرأة وشعرها. قلنا: الأصل أن بدن المرأة كله عورة وأن عليها الستر وترك التبرج إلا أن موضع الوجه منها موضع الحاجة والضرورة لأن إثبات عينها والمعرفة بها عند المعاملات لا يقع إلا برؤية الوجه وأيضا فإن مصلحتها في أسباب معاملتها لا يكمل إلا بذلك وأما الشعر فلا ضرورة في إبرازه بحال فصار كسائر بدنها وإن تعلقوا بالحرة والأمة في الشعر وصورة الحرة الشوهاء والأمة الحسناء. فيقال لهم: إن القياس يقتضى الجمع بين الشيئين في الحكم واختلافهما إذا اشتركا وافترقا في علته لا في صورته فبينوا أولآ أن شعر الأمة والحرة اشتركا في علة التحريم والإباحة حتى يكون ورود الشرع بالتفرقة بينهما ورودا بما يمنع القياس. قال النظام: غرضي بما أوردته الإبانة عن أن الشريعة قد شهدت بإبطال أماراتكم لأن الشريعة لو حرمت النظر إلى شعر الحرة ولم تذكر الأمة قلتم إنما حرم ذلك خوف الفتنة وذلك قائم في شعر الأمة الحسناء فوجب أن يحرم النظر إليه وهذا من أقوى أماراتكم في القياس فإذا شهدت الشريعة بإبطاله صح قولنا: إن وضع الشرع مانع من القياس. قال النظام: ونبين هذا الفرق بين القياس العقلى والقياس الشرعي فإن الأحكام العقلية لا تتفق مع التباين في العللل العقلية ولا تختلف مع الاتفاق في العلل ونحن نقول: إن شعر الأمة وشعر الحرة خارج على ما قلناه من اعتبار الحاجة. فإن الجارية سلعة تباع وتشترى وبالناس حاجة إلى النظر إلى وجهها وشعرها عند المعاملات فأعرض الشرع عن خوف الفتنة لوقوع الحاجة بخلاف الحرة فإن الأصل أنها عورة فالشرع حرم النظر سواء كانت شوهاء أو حسناء حسما للباب وسدا له وزيادة احتياط للأمور وأما وجوب قضاء الصوم على الحائض وسقوط قضاء الصلاة ففيه إجماع وعلى أنه ليس بمستنكر وقوع الفرقان بين الصلاة والصوم. ألا ترى أن االمسافر يدع الصوم أصلا ولا يجوز تركه الصلاة وإنما السفر تأثيره في إثبات القصر ثم نقول إن الصوم ليس مما يتكرر في دوام الأوقات كالصلاة وإنما هو في السنة شهر واحد وربما يمر عليها الشهر كله ولا تحيض فيه فلم يكن في إلزامها الصوم كبير مشقة ولا كبير مضرة أما الصلاة لو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 كلفت قضاءها لأيام حيضها لحقها حرج ظاهر ومشقة شديدة فرفع الله تعالى القضاء عنها رفقا بها وتخفيفا عنها وأما القذف بالزنا والقذف بالكفر فالفرق بينهما ظاهر لأن المقصود من إيجاب الحد نفى العار عن المقذوف والكفر قد ينتفى عنه بقول يبديه فيسلم من عاره والزنا لا يمكنه أن ينفيه عن نفسه بالقول فلم يكن بد من إيجاب الحد لينتفى منه عاره وشينه. ببينة: أن الكافر يفعل الكفر تدينا فلا يتعير به بخلاف الزنا فإن المرء يفعله مستقبحا له فيلزمه العار العظيم من النسبة إليه ويمكن الجواب عن هذه الشبهة بجواب جدلى يدفع السؤال من أصله فيقال إنه ليس فيما قاله سوى أنه أرانا أمثال أماراتنا وقد نفت الشريعة أحكامها وذلك لا يمنع من كونها أمارة لأنه ليس من شرط الأمارة أن تدل هى وأمثالها على حكمها على كل حال. بل قد تنجزم دلالتها ولا تخرج عن كونها أمارة. ألا ترى أن الغيم الرطب أمارة في الشتاء على المطر. ثم قد نجد غيما أرطب من كل غيم في صميم الشتاء وتخلف المطر ولا يدل ذلك على خروج الغيم الرطب عن كونه أمارة وكذلك وقوف مركب القاضى على باب الأمير أمارة على كونه عند الأمير ثم قد يوجد مركب القاضى على باب الأمير وليس القاضي هناك ولا يدل ذلك على خروج ما ذكرناه عن كونه أمارة ونقول قولكم الشرع جمع بين المختلفين وفرق بين المتفقين كلام باطل لأن ذلك يوجب إحالة القياس في العقليات لأن العقل جمع بين المتضادين في حكم واحد كاجتماع السواد والبياض في الحاجة إلى محل وجمع بين مختلفين غير متضادين في الحكم كاجتماع الأعراض والأجسام ففى الافتقار إلى محدث وأمثال هذا تكثر وإذا كان مثل هذا يوجد فلا تخرج أماراتنا على الأحكام من كونها أمارات لها لوجودنا أماراتها والأحكام مختلفة عنها وهذا لأنه يجوز أن يفرق الله بين الأصول في الأحكام فيجعل بعضها عقيما لا يثمر فرعا وبعضها مثمرا يستدل بمعانيها على فروعها وثمارها وعلى أنا نزيد لما ذكرنا من أصل الطريقة تقريرا لنبين به الكلام زيادة بيان وهو أنه لو لم يكن لأحكام الشرع معان تجري في جميع ما وجدت فيه تلك المعاني لم تكن تتعدى مواضعها التي وقعت فيها والأعيان التي خرجت عليها ولم يجز أن يشارك عمرو الذي لم يحكم له أو عليه بها زيدا الذي حكم له أو عليه ولما اتفقوا على أن في رجم ماعزا دليلا على رجم غيره إذا زنى وفى بيع عبد مدبر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 دليل على جواز بيع مدبر غيره وفى قوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبى حبيش: "إذا أقبلت الحيضة فدع الصلاة وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي" 1 دليل على أن غيرها من النساء يكن أمثالها في هذا الحكم وفي قوله صلى الله عليه وسلم لهند: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف" 2 دليل على غيرها وفى قوله صلى الله عليه وسلم للأعرابى حين قال له: هل على غيرهن قال: "لا إلا أن تطوع" 3. دليل على سقوط ما وراءها عن كافة الناس وقد روى عن النبي صلى الله عليه [وسلم] 4: أنه خرج مرة وفى يده ذهب وحرير. فقال: "هذان حلال لإناث أمتى حرام عل ذكورهم" 5 وإنما وقعت الإشارة منه في ذلك القول إلى ما في يده منهما ثم كان الحكم متعديا إلى جميع الجنس فيهما فثبت أن المعانى في الأحكام معتبرة وأنها إلى كل عين وجدت فيها متعدية. وهم يقولون: إنما أثبتنا هذه الأحكام التي ذكرتموها في حق غير من ورد فيهم بدليل آخر فيجوز أن يكون ذلك الدليل هو الإجماع ويجوز أن يكون ذلك الدليل قوله صلى الله عليه [وسلم] 6: "خطابي للواحد خطابي للجماعة". وقالوا أيضا: الكلام في العلل الظنية وكون الزنا مع الإحصان علة الرجم علة مقطوع بها وكذا في سائر ما قلتم والاعتماد على ما سبق طريقة ثانية في إثبات القياس نقول: الضرورة داعية إلى وجوب القياس لأن النصوص متناهية والحوادث غير متناهية ولابد أن يكون لله تعالى في كل حادثة حكم إما بتحريم أو تحليل فإذا كانت النصوص قاصرة عن تناول جميع الحوادث وكان التكليف واقعا بمعرفة الأحكام لم يكن لنا طريق نتوصل به إلى معرفتها إلا القياس. ألا ترى: أنا إذا تركنا القياس تعطلت   1 أخرجه البخاري: الوضوء "1/296" ح "228" ومسلم: الحيض "1/262" ح "62/333". 2 أخرجه البخاري: النفقات "9/418" ح "5364" ومسلم: الأقضية "3/1338" ح "7/1714" واللفظ للبخاري. 3 أخرجه البخاري: الإيمان "1/130" ح "46" ومسلم: الإيمان "1/40, 41" ح "8/11". 4 زيادة ليست بالأصل. 5 أخرجه أبو داود: اللباس "4/49" ح "4057" والنسائي: الزينة "8/138" "باب تحريم الذهب على الرجال" وابن ماجه: اللباس "2/1189" ح "3595" وأحمد: المسند "1/144" ح "938" انظر تلخيص الحبير "1/64, 65" ح "13". 6 زيادة ليست بالأصل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 أحكام الحوادث فصح قولنا: إن الضرورة داعية إلى استعمال القياس والأصل أن الأسباب والمعاون التي بها يتوصل إلى الشئ المأمور به في معنى المأمور به والمنطوق بذكره فيكون الأمر الوارد بالجملة منطويا عليها وإنما يقع السكوت عنها اختصارا للكلام واعتمادا على فهم المخاطب وهذا كالقبلة أمرنا باستقبالها في حال الغيبة كان الاستدلال بالعلامات الموصلة إليها لازما لنا ومعلوم أن من استؤجر لإيصال كتاب إلى موضع كان عليه فعل ما يوصله إليه من سير وقطع مسافة ومن استأجر أجيرا ليخبز له خبزا فقد انتظم ذلك إيقاد النار وتسجير التنور وإن لم يجر ذكره في لفظ الإجارة وكذلك ها هنا إذا لم يصل إلى معرفة أحكام الحوادث إلا بالقياس وجب عليه استعمال القياس كما لزمنا حكم الحادثة يدل عليه أنا إذا سلكنا هذا الطريق وصلنا به إلى الائتمار وإذا عدلنا عنه لم نصل إليه بعلمنا أنه الواجب وقد أمرنا بنفقة الزوجات وتقويم المتلفات وأورش الجنايات ولم يرد بتقديرها توقيف ولا يجوز أن يكلف معرفته ما لا سبيل لنا إلى معرفة فعلم أن طريقها الاجتهاد واستعمال أسبابه الموصلة إليها. فإن قيل: لا ضرورة لأن العلة قد ارتجت بما يدل عليها قضايا العقول في الحوادث على مما ذكروا في حجتهم قد بينا من قبل أن العقل لا يدل على شئ بنفسه لا تقبيح ولا تحسين ولا إيجاب ولا حظر وقد ذكرنا في هذا الباب ما فيه غنية وعلى أن الدليل من حيث [إن] 1 العقول متعارضة لأن قول من يزعم أن العقل يدل على إباحة الأشياء في الأصل يعارضه قول من يزعم أنه يدل على الحظر وبإزائها من يقول بالتوقف فإذا تعارضت هذه الأقوال فعلى أيها يعتمد. ثم يقال لهم: ما ذهبتم إليه من الرجوع إلا دلائل العقول مخالف لفعل النبى صلى الله عليه [وسلم] 2 فإنه صلى الله عليه وسلم كان يقف في الأمور التي لا يجد فيها نصا ولا يردها إلى الإباحة بقضية العقل وكذلك الصحابة كانوا يقيسون الأحكام بأدلة الشرع. ويقال لهم: أيضا إنا قد وجدنا في الشرع مسائلا وأحكاما لا يتصور الحكم فيها على قضايا العقول لأن ما قاله إنما يتصور في الاشياء التي اختلفوا في تحليلها وتحريمها. فنقول: احملها على قضية العقل في إثبات الإباحة وإذا وقع التنازع ففى أمر العقود والفسوخ وإلزام كل واحد من المتعاقدين تسليم ما يلزم منها وإسقاط ما يسقط كيف يحمل أمثال هذا على قضية   1 زيادة ليست بالأصل. 2 زيادة ليست بالأصل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 العقل وكذلك في باب الأنكحة فلا يدرى كيف يتمشى هذا الأصل الذي زعموه. فإن قالوا: يستصحب الحال فيما لا دليل فيه. قلنا: استصحاب الحال في العقود مع الاختلاف متعذر متناقض لأنه ما من حكم يتسصحب فيه حالة لإثباته إلا ويعارضه ما يوجب نفيه. أنه إذا وقع الاختلاف في فسخ النكاح بالعيب. ألا ترى: فالاستصحاب من أحد الجانبين يوجب الفسخ والاستصحاب من الجانب الآخر يمنع الفسخ وكذلك إذا اشترى جارية ثيبة ووطئها. ثم اطلع على عيب بها وأراد ردها فإن الاستصحاب في أحد الجانبين يوجب الرد وفى الجانب الآخر يمنع الرد فثبت أن الضرورة التي ادعيناها متحققة قطعا والذي قالوه خيرا من كلامهم أن الفكر في معاني النصوص وأشارتها وقضاياها تغنى عن القياس مجرد دعوى ونحن نعلم بطريق القطع وجود حوادث لا تدل عليها النصوص بوجه ألا ترى أنا وجدنا حوادث اختلف الصحابة فيها وقال كل أحد بخلاف ما قال صاحبه ولم يحتج أحد منهم على الآخر بنص ولا بمعنى نص ولو كانت النصوص تتناول جميع الحوادث لاحتجوا بها وإن رجعوا إلى قضية العقل فقد سبق إبطاله وعلى أن تناول العقل حكم الحادثة إنما يقتضى إثبات حكمة فيها ويغنى عمن سواه إذا لم ينقل عن العقل دليل شرعى فعليهم أن يثبتوا أن القياس ليس بدليل شرعى يوجب الانتقال عن قضية العقل هذا إذا كان القياس غير مطابق لحكم العقل وأما إذا كان مطابقا له فما المانع أن يدل هو على الحكم إيجاد مع العقل كما يدل العقل على الحادثة مع خبر الواحد فبطل ما قالوه من كل وجه. طريقة ثالثة في إثبات القياس: فهو التمسك بإجماع الصحابة وذلك أنهم اختلفوا في أمر من أمور الدين فصار كل واحد منهم إلى نوع من القياس فلم ينكر صاحبه ذلك منه مع إنكاره عليه قضية حكمه كمسألة الجد1 والمشتركة وميراث ذوي الأرحام فإن الاختلاف بينهم في هذه   1 قال الكلوذاني: اعلم أن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في توريث الجد مع الإخوة والأخوات فروى عن أبي بكر الصديق وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وعبد الله بن عباس وعائشة وأبي هريرة وأبي الدرداء وأبي الطفيل وأبي موسى وعمران بن حصين وجابر بن عبد الله وعبادة = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 المسائل مشهور واحتجاجهم فيها من طريق القياس مذكور كقول ابن عباس لزيد: أتجعل ابن الابن ابنا ولا تجعل أب الأب أبا وتشبيه زيد مثالا بالرأى في مسألة الأخوة مع الجد وذلك مثال غصن الشجرة وجدول النهر وروى قريب في هذه المسألة عن على وكقول من حاج عمر في توريث الأخ للأب والأم مع الأخوة للأم في مسألة المشتركة1 هب أن أبانا كان حمارا ألسنا بنى أم واحدة فرجع عمر إلى التشريك2 لما نبهه هذا الرجل على موضع المساواة في السبب الذي يستحق به الإرث وروي أن أبابكر رضى الله عنه ورث أم الأم ولم يورث أم الأب. فقال له عبد الرحمن بن سهل لرجل من الأنصار وقد شهد بدرا: لقد ورثت امرأة لو كانت هي الميتة لم يرثها وتركت امرأة لو كانت هي الميتة ورثها. فأشرك عند ذلك أبو بكر رضي الله عنه بينهما   = ابن الصامت وابن الزبير رضي الله عنهم أنهم جعلوا الجد أبا وأسقطوا به جميع الأخوة والأخوات وإليه ذهب الحسن وعطاء وطاووس وجابر بن زيد وقتادة وابن سيرين وأبو حنيفة وعثمان البتى والمنزني وداود والعمل على هذا لوضوحه. وروى عن على وابن مسعود وزيد بن ثابت أنهم وروثوا الإخوة معه ثم اختلفوا في كيفية توريثهم فكان عليه السلام يقسم المال بين الجد وبين الإخوة والأخوات ويجعله في ذلك بمنزلة الأخ ما لم تنقصه المقاسمة من السدس فإن نقصته المقاسمة عن السدس فرض له السدس وجعل الباقي للإخوة والأخوات. وإلى قوله في جميع باب الجد ذهب الشعبي والنخعي والمغيرة وابن أبي شعبة وابن أبي ليلى وابن شبرمة والحسن بن صالح وكان زيد وابن مسعود يقسمان المال بينهم وبينه مالم تنقصه المقاسمة من الثلث فرض له الثلث وجعل الباقي للإخوة والأخوات وبقول زيد في باب الجد أخذ الزهري والأوزاعي والثوري ومالك وأحمد بن حنبل والشافعي وأبو يوسف ومحمد وأبو عبيد وجمهور الفقهاء وأخذ بقول ابن مسعود في الجد كله شريح ومسروق وعلقمة وجماعة من أهل الكوفة انظر المغنى لموفق الدين "7/64" بداية المجتهد لابن رشد "2/88" نيل الأوطار للشوكاني "6/61" حاشية البيجرمي على الخطيب "3/278"الأشباه والنظائر للسيوطي "474" الأشباه والنظائر لابن نجيم "298" المبسوط للسرخسي "29/180" الاختيار للموصلي "4/179" التهذيب في الفرائض للكلوذاني- قيد الطبع بتحقيقنا. 1 مسألة الشركة هي كل مسألة اجتمع فيها زوج وأم وجدة واثنان صاعدا من ولد الأم وعصبة من ولد الأب والأم انظر المبسوط للسرخسي "29/254" المغنى لموفق الدين "7/21" كشاف القناع للبهوتي "4/415" بداية المجتهد "12/259". 2 أخرجه البيهقي في الكبرى "6/417" ح "12467". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 بالسدس1 واتفقت الصحابة على الزيادة في حد الشارب2. وقالوا: إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى وحد المفترى ثمانون3. ثم قالوا: هو رأى رأيناه بعد رسول الله صلى الله عليه [وسلم] 4 وأوجبوا فيه الدية إذا أتلف بالضرب واختلفوا في أم الولد: فقال علي: اجتمع رأيى ورأي عمر أن لا يبعن ثم رأيت بيعهن وكتب عمر رضى الله عنه إلى أبى موسى الأشعرى كتابا في تعليم القضاء [فقال فيه] 5: الفهم الفهم فيما يتحالج في صدرك مما ليس في الكتاب والسنة أعرف الأشباه والأمثال. ثم قس الأمور وراجع الحق إذا علمته فإن الرجوع إلى الحق أولى من التمادي في الباطل6. وعن ابن مسعود رضى الله عنه في قصة بروع بن واشق: أقول فيها برأيى فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمنى ومن الشيطان: لها مهر بمثل نسائها لا وكس ولا شطط7 وعن عمر رضى الله عنه أنه قال: إنى رأيت في الجد رأيا فاتبعونى وقال له مسروق أو غيره إن تتبع رأيك فرأيك رشد وأن تتبع رأى من قبلك فنعم ذا الرأى8 يعنى أبا بكر رضى الله عنه أو غيره كان وقال رضى الله عنه في قصة بروع بالرأى حسبها الميراث لا مهر لها9. وقال ابن مسعود في دم بين اثنين عفا أحدهما أرى هذا أحيا بعض النفس قال عمر: وأنا أرى ذلك واختلفوا أيضا في مسألة الحرام.   1 أخرجه البيهقي في الكبرى "6/385" ح "12343". 2 اعلم أن قدر حد الشرب فيه روايتنا ورواية عن أحمد: إحداهما: أنه ثمانون وبهذا قال مالك والثوري وأبو حنيفة ومن تبعهم لإجماع الصحابة. الثانية: أن الحد أربعون وهو اختيار أبي بكر ومذهب الشافعي والروابة الثانية عن الإمام أحمد انزر المغنى "10/329". 3 أخرجه مالك في الموطأ: الأشربة "2/842" ح "2". 4 زيادة ليست في الأصل. 5 زيادة ليست في الأصل. 6 أخرجه الدارقطني: سننه "4/206" ح "15" من حديث طويل انظر تلخيص الجبير "4/215" ح "42". 7 أخرجه أبو داود: النكاح "2/244" ح "2116" والنسائي: النكاح "6/98" "باب إباحة التزويج بغير صداق" وأحمد: المسند "1/580" ح "4275". 8 أخرجه الدارمي: الفراشض "2/452" ح" 2916". 9 تقدم تخريجه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 فقال أبو بكر وعمر رضى الله عنهما: هو يمين1 وقال على كرم الله وجهه: هو طلاق [ثلاث] 2. وقال ابن مسعود رضى الله عنه: طلقة واحدة3. وقال ابن عباس رحمة الله عليه: هو ظهار. واختلفوا أيضا في مسألة المخيرة وخلافهم في ذلك معروف في اختيارها نفسها4 أو اختيارها زوجها5. قال زاذان عن على رضى الله عنه: سألنى عمر رضى الله عنه عن المخيرة. فقلت: إن اختارت زوجها فهى واحدة وزوجها أحق بها وإن اختارت نفسها فهي واحدة بائنة. فقال: ليس كذلك ولكن إن اختارت نفسها فهي واحدة وهو أحق بها وإن اختارت زوجها فلا شيء فتابعته على ذلك فلما خلص الأمر إلى عدت إلى ما كنت أرى. فقلنا له: لأمر جامعت فيه أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه وتركت له رأيك أحب إلينا من رأى انفردت به فضحك. وقال: أما أنه أرسل إلى ازيد بن ثابت فخافني وإياه. وقال: إن اختارت زوجها فهى واحدة وهو أحق بها وإن اختارت نفسها فهي [ثلاث6] 7 وهم في هذه المسائل رجعوا إلى مجرد الرأى لأنهم لابد أن يكونوا قالوا: عن طريق إذ لا يجوز أن يكونوا قالوا ما قالوا جزافا   1 أخرجه البيهقي في الكبرى في الخلع والطلاق "7/576" - ح"15067". 2 في الأصل "ثلث" وانظر السنن الكبرى للبيهقي "7/576". 3 وروى الحافظ البيهقي في الكبرى "7/575"- ح"15061" عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه إن نوى به يمينا فيمين وإن نوى طلاقا فطلاق. أخرجه البيهقي "15064" أنه إن نوى طلاقا تقع طلقة واحدة. والله أعلم. 4 إذا اختارت نفسها فلا تون أكثر من تطليقة رجعية وبه قال أحمد وهو قول ابن عمر وابن مسعود وزيد بن ثابت وعمر وعائشة رضي الله عنهم وروى ذلك عن جابر وعبد الله بن عمر. وقال أبو حنيفة: هي ةاحدة بائنة وهو قول ابن شبرمة. وقال مالك: هي ثلاث في المدخول بها لا تبيين بأقل من ثلاث إلا أن تون بعوض انظر المغنى "8/267". 5 إذا خيرها زوجها فاختارت زوجها أو ردت الخيار أو الأمر لم يقع شيء نص عليه أحمد وروى ذلك عن عمر وعلي وزيد وابن مسعود وابن عباس وعمر بن عبد العزيز وابن شبرمة وابن أبي ليلى والشافعي وابن المنذر. وعن الحسن تكون واحدة رجعية وروى ذلك عن علي ورواه إسحاق بن منصور عن أحمد انظر المغنى "8/298". 6 في الأصل "ثلث"." ح " "7 أخرجه البيهقي في الكبرى في الخلع والطلاق 566/7ح15027. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 ونحن نعلم أنهم يقولون عن نص فدل أنهم قالوا عن قياس وتتبع هذا يطول والأمر في هذا أشهر من أن يحتاج معه إلى إكثار على هذا المنهاج كان أمر التابعين في المحاجة والمقايسة ولم يصح عن أحد منهم في ذلك إنكار وخلاف وهو ميراث الأمة إلى زماننا فإن قالوا: يحتمل أنهم قالوا ما قالوا عن نص. ثم يقولون: تعلقتم فيما صرتم إليه بالإجماع وأنتم لا تنقلون فيه لفظا جامعا مانعا حتى يكون مرجوعكم إليه فيما تأتون وتدرون وتصححون وتبطلون والأقاصيص المتفرقة لا ضبط لها فكيف انضبط لكم ما يفسد منها؟ وما يصح ذكر هذا السؤال الشيخ أبو المعالى على هذا اللفظ وذكر أن هذا سؤال مشكل. والجواب: أن دعوى النص محال لأنه لا يتصور من جهة العادات في عدد كبير يهتمون بنقل كلام من يعظمونه حتى ينقلوا ما لا يتعلق به حكم شرعى أن يعملوا إظهار ما اشتدت إليه الحاجة مما يتعلق به حكم شرعى ووقع فيه الاختلاف ويفارق هذا ترك نقل ما اجتمعوا عليه لأجله فإنه يجوز لأن الإجماع حجة وقد أغنى عن الخبر وليس كذلك إذا وقع الاختلاف ووقعت الحاجة إلى المحاجة بالنص فلا يتصور أن يكتموا الخبر إن كان هناك خبر. وأما كلامهم الثاني: فقد حكم المورد له أنه سؤال كل ولا أدرى وجه الإشكال في هذا السؤال وهذه الآثار صرحت المصير إلى الرأى من الصحابة بالانضباط فيما اتفقوا عليه وقد دلت هذه الآثار أنهم قالوا ما قالوه عن الرأى فإن قالوا: لم يحك عنهم الاختلاف في الأقوال في هذه المسألة ولم ينقل عنهم تصريح بعلة. قلنا: قد ذكرنا ونقلنا محاجتهم بضرب الأمثلة وعلى أن التنبيه منهم على العلة والقياس قد وجد وتعين مسألة واحدة. فنقول في مسألة الحرام: من قال منهم: إنه طلاق ثلاث1. فقال: مطلق التحريم يقتضى غاية التحريم ومن جعله طلقة واحدة2 اعتبر أقل ما ثبت ومن جعله إيلاء اعتبر أن الزوج قد منع نفسه بهذا القول عن وطئها ومن جعله ظهارا3 أجراه مجرى ذلك من قبل تقييد التحريم بلفظ ليس بلفظ طلاق ولا إيلاء   1 هذا قول: علي وزيد بن ثابت وابن عمر والحسن البصري والحكم بن مالك وابن أبي ليلى انظر الأشراف "1/152". 2 هو قول الزهري ورواية عن أحمد انظر المغنى "8/275" الأشراف "1/152". 3 هو قول ابن عباس وسعيد بن أجبير وأبي قلابة وأحمد انظر الأشراف "1/152". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 وإذا كان هذا الذى ذكرناه ممكنا ولم يكن ذكر نص ولأنهم قالوا بغير طريق وجب القطع على أنهم أرادوا ما ذكرناه أو ما يجرى مجراه وأيضا فإن الناس قد يقتصرون على الفتوى في كلامهم ويعلم السامع الوجه الدال على الفتوى من نفس الفتوى وقال بعضهم: إنهم قالوا في مسائل المواريث ما قالوه بالصلح أو بأقل ما يجب وهذا ليس بشئ لأن المنقول في مسألة المواريث إثبات الإرث ونفيه وتقديره في بعض المواضع فكيف يتصور الصلح على هذا؟ وقولهم: إنهم أوجبوا أقل ما قيل باطل لأنه لم يتقدم اختلافهم [في] 1 أقوال هم قالوا بأقلها ولا اتفوا على قول حتى يقال: إنه أقل ما قيل بل قالوا أقاويل متباينة بعضها يخالف البعض وثبت ها هنا عما نقلوه عن الصحابة والتابعين من ذم الرأى قلنا إنما قالوه في الرأى الفاسد الذي لا [تعلق] 2 له بأصل من الأصول أو قالوا ذلك في القياس قياس الذي بخلاف النص ألا ترى أن عليا رضى الله عنه قال حين قال: لو كان الدين بالرأى ولكنى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر قدميه3 والدليل على أن المراد منهم بما قالوا أحد هذين الوجهين أنه ثبت عنهم القول بالقياس واعتبار الأشباه والأمثال على ما ذكرناه وعلى ما ذكرنا بأول قول التابعين. ألا ترى: أن ابن سيرين قال: أول من قاس إبليس4 وإنما أراد به القياس الفاسد دون الصحيح. ببينة: أن إبليس كان قد اعترض بالقياس على النص وما كان من القياس كذلك فإنا لا نجوزه ولا نعمل به وكذلك قوله: ماعبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس يرد به المقاييس الفاسدة وقد ورد النهى الصريح في الكتاب عن السجود لها وذلك قوله عز وجل: {لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الذي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37] وكذلك الذي حكوه عن الشعبى إنما هو في القياس الخالى عن أداة الأصول وقد كان ظهر في آخر زمان التابعين قوم يقدمون الرأى على السنن فإنما أراد ذلك وكل ما نقل من أمثال هذا يكثر وقد حمل جميع ما نقل من ذم الرأى من الصحابة والتابعين على الرأي قبل طلب السنن وعندنا يجب طلب حكم الحادثة من   1 زيادة ليست بالأصل. 2 في الأصل "يتعلق". 3 تقدم تخريجه. 4 تقدم تخريجه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 السنة أولا ثم يصير إلى القياس وكذلك الجواب عن الأخبار التي تعلقوا بها عن النبى صلى الله عليه [وسلم] 1 وعلى أنه ليس في تلك الأخبار خبر ثابت غير خبر عبد الله ابن عمرو في قبض العلم2 فإما سائر الأخبار فلا تعرف ولا نقل في كتاب يوثق به فلا يجوز التعويل عليها. فإن قالوا: اعتمدتم على إجماع الصحابة ولم يوجد إجماع الصحابة لأنكم نقلتم ما نقلتكم عن نفر يسير فأين الإجماع؟ قلنا: نقلنا عن وجوههم ولم ينقل عن واحد منهم خلاف ذلك وقد بينا أن القول المنتشر إذا لم يظهر له مخالف يكون إجماعا فكيف في هذه الأقوال المنتشرة؟ فإن قالوا: إنما تركوا إنكاره لأنه كان صغيرة وإنما تنكر الكبائر. قلنا: كما يجب إنكار الكبائر يجب إنكار الصغائر وعلى أنا بينا أنه لم تجر العادة فيما هذا سبيله أن يظهر الخلاف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه [وسلم] 3 على شئ ونعلم أنهم قالوا ما قالوا عن الرأى فيكون منكراثم تطبق الجماعة على ترك إنكاره. ألا ترى: أنه لما ظهر بينهم الاختلاف والتنازع كيف أنكر بعضهم على بعض حتى صاروا إلى التجاذب والتقاتل واعلم أن الاحتجاج بإجماع الصحابة دليل في نهاية الاعتماد وهو مما يقطع العذر ويزيح الشبهة فليكن به التمسك. طريقة رابعة: وهى الاستدلال بالكتاب والسنة: قال الله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2] وقال تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الذينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] فأمر بالاعتبار والإستباط والاعتبار اعتبار الشئ بغيره وأجرى حكمه عليه يقال: اعتبر هذا بمقداره وقال ابن عباس رضى الله عنه في الأسنان: اعتبر حكمها بالأصابع في أن ديتها متساوية4 وقولهم: إن في هذه العبرة مغناة أن فيه ما يقتضى حمل غيره عليه وأما الاستنباط هو استخراج المعنى المودع من النص حتى يبرز ويظهر فإن قيل:   1 زيادة ليست بالأصل. 2 تقدم تخريجه. 3 زيادة ليست بالأصل. 4 أخرجه أحمد: المسند "1/377" ح "2625" بلفظ "أن النبي صلى الله عليه وسلم سوى بين الأسنان والأصابع في الدية". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 الاعتبار الاتعاظ والانزجار وليس بمعنى القياس الذي يدعونه وقيل: إن الاعتبار لا يدل على معرفة الشئ بغيره إنما هو تبيين الشئ نفسه. ببينة: أنه يقال للقائس معتبر لا لسانا ولا عادة وإنما الذي يعرف معنى المعتبر هو الاتعاظ والتفكر في نفس الشئ والجواب: أن وزن الاعتبار افتعال من العبرة والعبرة أصلها في اللغة المثال ومنها يقال: أخذ السلطان العشر على عبرة العام الماضي أى على مثاله ومن هذا تعبير الموازين والمكاييل إنما هو تمثيل بعضها ببعض وتسويتها على مثال واحد ومنه تعبير الرؤيا وهو تمثيلها بأمور تطابق معانيها معاني الرؤيا وقيل هو تعديتها ونقلها من ظواهرها إلى مواطن معانيها من قولك عبرت النهر أى صرت من أحد العبرين إلى الآخر والعبر الشاطئ فثبت بما قلناه أن الاعتبار هو إجزاء الشيء على مثال غيره وبطل بهذا ما زعموه أنه معرفة الشئ نفسه والتفكير فيه وأما حملهم على الاتعاظ والانزجار غاية الاعتبار فعلمنا أن معناهما مختلف وقد قال الشاعر في الاعتبار: واعتبر الأرض بأسمائها ... واعتبر الصاحب بالصاحب وظهر بهذا أن الاعتبار هو ما قدمناه من اعتبار الشئ بغيره وأجرى حكمه عليه فإن قيل: لو كان المراد ما ذكرتم من الأمر بالقياس لحسن التصريح به وهو أن يقول: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} [الحشر: 2] فقلبوا الأرز على البر وهذا التصريح يكون فاسدا عند كل عاقل فدل أنه ليس هو المراد. قالوا: وأما الاستنباط المذكور في القرآن فهو استخراج الشئ من كونه باطنا ليظهر فتحمله على الاستدلال بمعانى النصوص وقد يقال لمن استدل على الشيء بما يخفى في النصوص: قد يستنبط هذا الحكم من هذا النص. والجواب: أما الأول: فإنما لا يجوز ما قالوه لأنه اقتصار على ما تعلق له بالكلام في ظاهره فلم يحسن لهذا لكن حسن مع هذا قوله: "فاعتبروا" لإن اشتمل على ما يتعلق بالكلام الأول وعلى ما لا يتعلق به. ألا ترى: أن النبى صلى الله عليه وسلم لو سئل عمن ابتلع حصاة في شهر رمضان لم يحسن أن يقول: من جامع فعليه الكفارة ويحسن أن يقول: من أفطر فعليه الكفارة وإذا قال ذلك دخل فيه من جامع ومن بلع الحصاة وقد اعترض على الآية. فقيل: إن قوله: "فاعتبروا" ليس على العموم لأنه لا يجب ما قلتموه في كل موضع وإذا لم يجب في كل موضع فنحن نقول: نوجب الاعتبار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 بالتفكر في معاني النصوص فهذا رجوع إلى ما سبق والجواب بما قدمنا. وأما الاستنباط فالاستدلال به أيضا صحيح والذي قالوه من حمله على الاستدلال بمعانى النصوص. قلنا: الذي قلتموه استنباط والقياس الذي اختلفنا فيه من وجوه الاستنباط أيضا فيكون الاستنباط المذكور مشتملا على الكل وفى الباب آيات كثيرة وأحسن ما يستدل به هاتان الآيتان وأما السنة فحديث معاذ أن النبى صلى الله عليه [وسلم] 1 لما بعثه إلى اليمن قاضيا قال له: "بم تحكم؟ " قال: بكتاب الله قال: "فإن لم تجد في كتاب الله؟ " قال: بسنة رسول الله قال: "فإن لم تجد في سنة رسول الله؟ " قال: أجتهد رأيى ولا آلو. قال: "الحمد لله الذي وفق رسول رسوله لما يرضى الله ورسوله" 2 وهذا نص [ثابت] 3 وهم يقولون هذا خبر واحد لا يثبت به مثل هذا الأصل وقد قالت الأصحاب: هو خبر واحد ولكن تلقته الأمة بالقبول فصار دليلا مقطوعا به وتعلقوا أيضا بما روى أن النبى صلى الله عليه [وسلم] 4 قال لعمر حين سأله عن قبلة الصائم: "أرأيت لو تمضمضت كان يضرك؟ " قال: لا قال: "ففيم" 5 إذا فجعل القبلة بغير إنزال قياسا على المضمضة بغير ازدراد والخبر أيضا خبر واحد مثل الأول ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم للخثعمية: "أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيتيه أكان يقبل منك" قالت: بلى قال: "فدين الله أحق أن يقضى" 6. وقال النبى صلى الله عليه [وسلم] 7 في الهرة: "إنها ليست بنجسة إنها من الطوافين عليكم والطوافات" 8 فقد علل بعلة مؤثرة وهى التطواف علينا والعلة   1 ليست بالأصل. 2 أخرجه أبو داود: الأقضية "3/302" ح "3592" والرتمذي: الأحكام "3/607" ح "1327". 3 في الأصل "إن يثبت". 4 ليست في الأصل. 5 أخرجه أبو داود: الصوم "2/322" ح "2385" والدارمي: الصوم "1/22" ح "1742" وأ؛ مد: المسند "1/28" ح "139". 6 أخرجه النسائي: القضاء "8/200" "باب الحكم بالتشبيه والتمثيل" وأصله في البخارى ومسلم بغير هذا السياق. 7 زيادة ليست بالأصل. 8 أخرج أبو داو: الطهارة "1/19" ح "75" والترمذي: الطهارة "1/153" ح "92" وقال: حديث حسن صحيح والنسائي: الطهارة "1/48" "باب سؤر الهرة" وابن ماجة: الطهارة = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 ضرورة الطواف وتعذر الاحتراز وقال صلى الله عليه [وسلم] 1 في دم الاستحاضة: "إنها دم عرق" 2 ولهذا الذي ذكرناه أمثال سواه فاقتصرنا على هذا القدر وفيما نقلناه من الأخبار [في] 3 تعليم استعمال القياس وقد تعلق الأصحاب أيضا بالاجتهاد في القبلة. وقالوا: تعبدنا الله تعالى بالاستدلال بالأمارات على جهة القبلة إذا اشتبه علينا أمرها ونصلى إلى الجهة التي ظننا أن القبلة فيها وهذا تعبد بالاستدلال بالأمارات فدل ذلك على حسنها واعترضوا على هذا وقالوا من الناس من لا يجوز الاجتهاد في طلب القبلة ومن اشتبهت عليه القبلة صلى إلى الجهات كلها. قلنا: لا نسلم وإن سلمنا فالأمارات الدالة على القبلة أمارات عقلية لا سمعية ونحن إنما منعنا الأمارات المظنونة في الحوادث الشرعية ولسنا نمنع العمل بالأمارات العقلية وفى المسألة دلائل كثيرة ذكرها الأصحاب أو غيرهم لكن الاعتماد على الدلائل الأول والثانى والثالث وأمثلها وأحسنها إجماع الصحابة وأما التعلق بما ذكرنا من دلائل الكتاب والسنة فلا بأس بها لتكثر الدلائل فأما الاعتماد عليها ابتداء فلا يصح لأن الأخبار آحاد وليس في نص القرآن ما يدل على جواز القياس ولكن إن وجد يوجد من طريق الاستدلال ولابد من دليل قطعى في إثبات القياس والظاهر المحتمل لا يحتج به في القطعيات فالأولى ما ذكرنا. فأما الجواب عن كلماتهم أما قولهم إن الشرعيات مصالح. قلنا: قد أجبنا عن هذا في مواضع وبينا أن القول بالصلاح والأصلح قول باطل وزعم لا يمكن تمشيته ثم يقال لهم ولم لا يجوز معرفة المصالح بالظنون ويجوز أن يكون الفعل مصلحة إذا فعلناه ونحن على صفة وإذا فعلناه على غير تلك الصفة لا يكون مصلحة لنا فلا يمتنع أن يكون فعلنا الفعل ونحن نظن شبه الفرع بالأصل هو المصلحة وإذا لم ينظر حتى نظن شبهة به أو بغيره فاتتنا المصلحة يدل عليه أنا إذا دللنا على أن الله تعالى قد تعبدنا بالقياس فإذا تعبدنا الله تعالى بذلك علمنا بتعبده أن المصلحة أن يفعل بحسب ظننا. وقولهم: إن المصالح لا   = "1/131" ح "367" ومالك في اموطأ: الطهارة "1/22" ح "13" والدارمي: الطهارة "1/203" ح "736" وأحمد: المسند "5/348" ح "22589". 1 ليست بالأصل. 2 تقدم تخريجه. 3 زيادة يستقيم بها المعنى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 يتوصل إليها بالآراء والأمارات. قلنا: ولم هذا؟ لأن الأمارات التي تستند إلى النصوص لنستدرك بها المصالح لأنها بمنزلة النصوص ومن قال لا التي يستدرك بقول ليس بيدك إلا مجرد الدعوى ويقال لهم أيضا إن المصالح تستدرك بالنصوص لكن منها ما يستدرك بنص ظاهر جلى وبعضها يستدرك بنص خفى فيفتقر إلى الاستدلال حتى يعلم المراد به والقياس من هذا القبيل وهذا لما قلنا: إن الأقيسة لما استندت إلى النصوص صارت بمنزلة النصوص. فأما قولهم: إن الجلى من أحكام الشرعية لا يعرف إلا بنص فكذلك الخفى منها. قلنا: ولم ينبغى أن يكون كذلك أليس ما عدا الشرعيات يعلم حكمه بالإدراك والضرورة؟ ويعلم خفيه بالاستدلال دون الإدراك وجلى الشرعيات يعلم بالنصوص الظاهرة وخفيها يعلم بنص خفى وكثير الزعفران الواقع في الماء يعلم بالإدراك وخفيه يعلم بخبر من شاهد وقوعه فيه. فإن قالوا: إن ذلك يستند إلى المشاهدة. قلنا وكذلك أحكام الفروع استندت إلى الأحكام الثابته بالنصوص. جواب آخر: إن جميع الشرعيات [تعلم] 1 عندنا بالنص ولكن بعضها يعلم بظاهر وبعضها يعلم بالاستدلال بالنص وما علم بالقياس هو مثل ما علم بطريق الاستدلال. وأما قولهم: إن هذه العلل توجد وهى غير موجبة وهى قبل الشرع فلو كانت موجبة لم ينقل عن موجبها كالعلل العقلية. قلنا: العلل العقلية موجبة لأعيانها وكانت لازمة لمعلولها والعلل الشرعية موجبة بالشرع فصارت طائرة على معلولها فلهذا افترقا وهذا لأن الشرائع مصالح ويجوز أن يكون الشئ مصلحة في زمان دون زمان ولهذا اختلف شرائع الأنبياء وصح نسخها فيجوز أن لا تكون هذه العلة موجبة قبل الشرع لأنه لا يكون مصلحة قبل الشرع وأما بعد الشرع تكون موجبة لأنها مصلحة بعد الشرع هذا جواب المتكلمين والأولى أن نقول إنا قد بينا أن العقل بعينه لا يوجب شيئا فلا يتصور هذا السؤال على هذا القول وإن تمسكوا بالحسيات. قلنا: لم جمعتم بين الحسية والشرعية من غير جامع وأيضا فإن عنوان الحركة تحرك الجسم وذلك إنما وجب أن يكون الجسم معه متحركا لأن كون الجسم إذا تحرك هو معنى كونه متحركا. فالقول: إن فيه حركة وليس بمتحرك مناقضة.   1 ثبت في الأصل "يعلم". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 وأما قولهم: إن الحليم لا يقتصر على أدنى البيانين مع قدرته على إعلامها. قلنا: في هذا الكلام تسليم أن القياس بيان ولا يمتنع أن يكون فيه مصلحة زائدة وإن كان أدون بيانا من غيره ولو وجب التعبد بأعلى وجوه البيان لوجب تعريفنا الأحكام كلها بالكتاب أو بالضرورة أو كان ينبغى أن يقع الاقتصار على النصوص الجلية المتواترة دون الآحاد لأنها أعلى بيانا من الخفية. وأما قولهم: لو كان القياس حجة لكانت مع النص. قلنا: ولم وما قلتم دعوى وعلى أنهم إن قالوا إنه يكون حجة مع النص على حكم الأصل فكذلك نقول يكون الخبر دلالة والقياس أيضا دلالة مطابقة له فإن قالوا مع النص على خلاف حكمه في الفرع فقد بينا ذلك في الخبر الوادد بخلاف قياس الأصول وعلى أنه لا يمتنع أن يكون حجة إذا انفرد وإذا عارضه النص كان النص أولى منه كما أن خبر الواحد حجة إذا انفرد وإذا اجتمع مع الخبر المتواتر أو مع نص القرآن كان أولى منه وأما تعلقهم بالآيات التي ذكروها فليس في شئ منها دليل على ما قالوه. ويقال لهم: لم قلتم: إن الحكم بالقياس حكم بخلاف ما أنزل الله تعالى أو تقديم بين يدى الله ورسوله أو فيه آتباع ما ليس لنا علم به فإن الدلائل القطعية قد قامت على صحة القياس وهو في الحقيقة رد الفرع إلى أصله من الكتاب والسنة والحكم به حكم بما أنزل الله عز وجل ورد إلى الله والرسول واتباع ما لنا به علم. وقوله تعالى: {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59] معناه إما على الجملة أو التفصيل وليس المراد منه على التفصيل لأن كثيرا من الأشياء التي لا تعد لم نجد تناولها الكتاب على التفصيل فدل أن المراد من تلك إما على هذه الجهة أو على تلك الجهة والكتاب والسنة وإن لم [يشتملا] 1 على بيان القياس على التفصيل فقد اشتملا على بيانه بالأجمل ببينة: أنه قد وجدت أشياء كثيرة صارت ببينة بالسنة وليس لها في الكتاب ذكر ولكن لما دل الكتاب على الأخذ بقول الرسول صلى الله عليه [وسلم] 2 ودل أنه لا ينطق عن الهوى جعل كأن بيانه كان بالكتاب كذلك هاهنا لما دل الكتاب والسنة على أن   1 في الأصل: "يشتمل". 2 زيادة ليست بالأصل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 القياس دليل الله وكان رد القياس إلى أصول ثبتت1 بالكتاب والسنة صار بما دل عليه القياس كما أن2 الكتاب والسنة دلا عليه. فإن قيل: إن استقام هذا لكم في سائر ما أوردناه فما قولكم في قوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] ومعلوم أن القياس دليل ظنى فإن قلتم إن وجوب العمل به كان بدليل قطعى فهذا لا يزيل الإشكال لأن القياس لما كان ظنا فيستحيل أن ينتج الظن علما قطعيا وقولكم: إن القياس يفيد العلم بوجوب العمل طبع محال. قلنا: الأقيسه لا تفيد [العلم] 3 بوجوب العمل بأعيانها وإنما يقع العلم بوجوب العلم بالدلائل القطعية التي أقمناها عند وجود الأقيسة وإذا قررنا على هذا الوجه سقط هذا السؤال وعلى أن الشرع قد ورد باتباع كثير من الظنيات بدليل أن الحكام إنما يفصلون الأحكام بالشهادات المقامة في مجالسهم وهى دلائل ظنية لا قطعية وكذلك الأمارات المرجوع إليها في القبلة ظنية لا قطعية وكذلك في تقويم المتلفات وأروش الجنايات وكذلك التدابير في الحروب يجوز الرجوع إليها والاعتماد عليها ومعلوم أن الرأى في الحروب والتدابير التي تقع بين الناس ليس تفيد علما قطعيا وما زال الناس من قديم الدهر إلى حديثه ومن أولهم إلى آخرهم ومن سلفهم إلى خلفهم يرجعون إلى غالب الظنون ويعتمدون عليها وإذا حصرنا الأمور في المنتفيات وحملنا الناس على ما يفيدهم العلم الحقيقى بالأشياء فسد ما به قيام أمورهم وانسد ما به تقوم أكثر مصالحهم والإنسان يبعث الواحد في أمر ما [ويرسل] 4 رسولا في شئ فيعتمد على تبليغه وفعله لما أرسله فيه ويسمع من الإنسان بالخبر في إباحة شئ أو في تحريمه أو طهارته أو نجاسته فيؤمر بالأخذ بقوله وقد كان النبى صلى الله عليه وسلم يبعث الواحد في الأمور ويعتمد على ما يخبره به وكان ذلك رجوعا إلى غالب الظن وأمثال هذا وقد ذكرنا في مسألة الخبر الوحد فالقياس عندنا بمثابة ذلك. وقولهم: إن الاحتمال في الأخبار في طرقها لا في الأقوال المنقولة بل الأقوال   1 في الأصل: "يثبت". 2 ثبت في الأصل: "كمام". 3 ثبت في الأصل: "بالعلم". 4 ثبت في الأصل: "ويرسله". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 المنقولة نص في المعانى التي اشتملت عليها. قلنا إذا يمكن الاحتمال في الطريق لم يقع لنا العلم بصدد ذلك القول عن النبى صلى الله عليه [وسلم] 1. بل كانت نهاية ما في الباب وجود غلبة ظنه ومع ذلك وجب الاعتماد عليه والرجوع إليه فكذلك أمر القياس يكون كذلك يدل عليه أن الله تعالى سمى هذا الدين شرعا وشرحا للصدور. فقال تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الزمر: 22] ومعلوم أن القلب بصره بالغائب كبصيرة العين بالحاضر ومعقول القلب بالرأى كمرئى العين بالبصر فإنا نعلم أن الإنسان يكون حرجا صدره في حكم من الأحكام فإذا تأمل فيه وعرف معناه ينشرح صدره بمعرفة معناه ويطمئن إليه قلبه ويدخله النور والضياء والفسحة وهذا لأن الإنسان إذا قلد الحاكى في شئ وإن كان الحاكى صادقا فألقى في قلبه بعض الحرج ولم ينشرح صدره كل الانشراح فإذا عقل معنى الحكم تم انشراح صدره وانفساحه والجملة أن في قبول فعل صاحب الشرع على ما جاء به حسن الطاعة والانقياد لله عز وجل وفى المصير إلى القياس وطلب المعاني من الأصول الواردة طمأنينة القلب وانشراحها لوقوعها على حجتها ومعانيها المعقولة وما زال طلب طمأنينة القلوب حسنا منذ قال إبراهيم عليه السلام مجيبا لقوله صلى الله عليه وسلم ولقوله تعالى: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] ولهذا لهج الناس بطلب المعاني في الأشياء وسلكوا طريق ذلك في مصالح دنياهم كذلك صح ذلك أيضا في مصالح دينهم والذين فرقوا بين ما يرجع إلى مصالح الدنيا ومصالح الدين ففرق باطل والرجوع إلى الرأى وغالب الظن في الموضعين. وهذا لأن الفوز والنجاة جائز للعبد من الله تعالى وناجيا به غير أن هذه الطاعات والشرائع المشروعة أمارات وعلامات لنيل تلك السعادة ويجوز أن يجعل معنى يغلب عليه الظن علامة لنيل الفوز والسعادة وليس هذا بمستنكر في عقل ولا شرع. وأما قولهم: إن أحكام الشرع مختلفة فدل اختلافها أنها غير معلولة قلنا من الأحكام ما يعقل معانيها ومنها ما لا يعقل معانيها. ونحن إنما نستجيز القياس فيما نعقل معانيها ولا نستجيز فيما لا يعقل معانيها ووجه انقسام الشرع إلى هذين القسمين هو أن بعضها لا يعقل معانيه ليتحقق الإسلام لأمر الله عز وجل وبعضها ما يعقل معناه ليتم شرح الصدور بتعليل ما يعقل معناه.   1 زيادة ليست في الأصل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 وأما قولهم: إن حجج الله تعالى تكون موجبة قطعا. قلنا: هذا الأصل غير مسلم في العمليات فإن الواحد حجة في العمل وهو حجة من حجج الله تعالى من حيث العمل به وإن لم يكن مقتضيا موجبه على وجه القطع والثبات ولا فرق بين الخبر والعلة لأنه كما يحتمل تعليل المعلل للغلط كذلك الرواية تحتمل الغلط وأما قولهم: إنه ما من فرع إلا ويشبه أصلين مختلفين. قلنا: هذا ممنوع ومن أين قلتم إن كل فرع يشبه أصلين متضادى الحكم. ثم ولئن سلمنا أنه يوجد الفرع الذي له شبه بأصلين متضادى الحكم لكن الله تعالى قد جعل لنا طريقا إلى قوة شبهه بأحد الأصلين فينبغى أن يراجع المجتهد النظر أو يبالغ في النظر ابتداء حتى يظهر له ذلك وقد قال بعض القياسين: إنه يجوز أن يكون حكم الله في الفرع هو التخيير فإذا اعتدل الشبهات عند المجتهد فيكون المجتهد مخيرا يلحقه باى الأصلين شاء فأما كلامهم الأخير. قلنا: نحن إنما نجوز المصير إلى الاجتهاد بعد طلب الحكم في الكتاب والسنة فإذا أعوزه ذلك حينئذ يصير إلى القياس والذى قالوا: إن حصر أحكام الحوادث على معاني النصوص يتضمن الاستحثاث على الإكثار من الأخبار والفكر في معانيها وفى ذلك إماته البدع وإسقاط الهوى. قلنا: نحن إنما نأمره أولا بطلب أحكام الحوادث في النصوص فإذا لم يجد فيها حينئذ ينتقل إلى المعنى وعلى أنا قدمنا أن في الأمر بطلب المعانى [انشراح] 1 الصدر وانفساحه وطمأنينة القلب وإصابة زيادة النور الداخل عليه من قبول أحكام الله تعالى على طمأنينة القلب مع قبوله على الطوع والانقياد وقد أبتلى الله تعالى عباده بطلب المعانى مرة لتنشرح صدورهم وتضىء قلوبهم ويتجرد القبول والاستسلام مرة ليظهر عطاؤهم المقادة واستسلامهم لأمر خالقهم وبارئهم فيستعمل عقله مرة بطلب المعنى ليظهر له قدر نعمة الله تعالى بما أعطاه من النفاذ في الأمور ومعرفة الله وحكم الله ومعانيه الغامضة التي هى أمارات أحكامه وشرعه فيقابلها بالشكر وينقاد ويستسلم مرة ويحبس عقله من توثبة على الأمور ويصرفه عن عتوه وتجاوزه عن حده المحدود له ليظهر حسن عبوديته وخضوعه وانقياده لمعبوده وهذا باب عظيم وحكمة بالغة وتصريف من الرب للعباد وابتلاء منه لهم ليظهر خفى أمرهم ومكنون سرهم ويتميز الخبيث من الطيب فيهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيى عن بينة والله   1 ثبت في الأصل: "أشراح". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 تعالى للعباد بالمرصاد وهو المستعان. فإن قيل: أليس لو قال الإنسان لغيره: أعتق سالما عبدى لأنه أسود لم يجز أن يعتق كل عبد له أسود. الجواب: أنا نقول أولا: لو رودع بمثل هذا. فقال: أعتقوا فلانا لأنه أسود وجب إعتاق كل عبد أسود فأما في أمر العباد قلنا: هذا دليل عليكم لأن الإنسان إذا قال: أعتقت عبدى لأنه أسود فإن كل عاقل يناقضه إذا لم يعتق غيره من عبيده السود إلا أن يكون قد عرف من قصده أنه أعتقه لأنه أسود مع شرط آخر لا يوجد في غيره وكذلك إذا قال لوكيله: أعتق عبدى سالما لأنه أسود قال له العقلاء فعبدك الآخر أسود فلم خصصت هذا بالعتق إلا أنه لا يجوز لوكيله الإقدام على إعتاق كل عبد أسود لأن الشرع منع من ذلك إلا بصريح القول ولأن الموكل لما جاز عليه البدوات والمناقضات لم يجز الإقدام على إتلاف ماله إلا بصريح القول. ألا ترى: أن الموكل لو قال هذا القول وأمر وكيله بالقياس لم يكن للوكيل أيضا إعتاق كل عبيده السود وخرج على هذا أمر الشارع لأنه لا يجوز عليه البدوات والمناقضات ولأنه لو أمر بالقياس صريحا أجمعوا على أنه يجوز للمخاطب القياس فثبت الفرق بينهما من كل وجه فهذا وجه الكلام في هذه المسألة وقد طالت جدا لكن هذه المسألة أصل عظيم فلم يكن بد من الكلام فيها على الإشباع والاستقصاء لئلا يدخلها وهم كاذب من الإزراء بالقائسين والراجعين إلى الظنون والله الموفق للصواب والمرشد إلى الحق بمنه وفضله. وإذا عرفنا جواز القياس في الفروع وتعرف الأحكام من قبله فأول ما نبدأ به بعد ثبوت جواز القياس الكلام فيمن يجوز له الاجتهاد والقياس وإنما يقع الكلام في النبى صلى الله عليه [وسلم] 1 وفى الصحابة إذا اجتهدوا بحضرته   1 زيادة ليست في الأصل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 مسألة: ذكر أصحابنا أنه كان يجوز للنبى صلى الله عليه وسلم أن يجتهد في الحوادث1 ويستعمل القياس ويحكم به وكذلك ذكروا أنه يجوز الاجتهاد من الصحابة بحضرة النبى صلى الله عليه وسلم ومن أصحابنا من قال لما كان يجوز للنبى صلى الله عليه وسلم ذلك ولا كان يجوز ذلك لأحد من الصحابة بحضرته2 وعلى هذين القولين اختلف أصحاب أبى حنيفة أيضا. قال أبو زيد: والقصد عندنا أنه لم يكن له العلم بالرأى ابتداء حتى ينقطع طمعه عن الوحى فيما ابتلى به وكان له العمل برأيه بعد ذلك واستدل من أبى جواز ذلك بقوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3, 4] فدل أنه لا يحكم إلا على وحى ويدل عليه قوله تعالى: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} [يونس: 15] لأنه كان صلى الله عليه وسلم يسأل عن أشياء ويتوقف فيها إلى أن يرد النص كالظهار واللعان وغير ذلك ولو جاز الاجتهاد ولم يكن للانتظار معنى والمعتمد لهم أن النبى صلى الله عليه وسلم إذا أثبت الحكم بالاجتهاد كان للعالم أن يخالفه ثم إذا خالفه فيكون للعامى التخيير في الاستفتاء وهذا أمر قبيح لا   1 ذهب الأشاعرة والمتكلمين إلى أن الاجتهاد في حقه عليه الصلاة والسلام جائز عقلا واختاره البيضاوي وذهب الجبائي وابنه وأبو هاشم إنه محال انظر نهاية السول "4/530" فواتح الرحموت "2/366" سلم الوصول شرح نهاية السول "4/530, 531" المستصفى "2/355" المحصول "2/489" انظر إحكام الأحكام "4/222" أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "4/227, 228". 2 مسألة اجتهاد الصحابة بحضرة الرسول أو في غيبته اختلف فيها الأصوليون في ذلك على أقوال: 1- اجتهاد الصحابة في عصر الرسول غير جائز عقلا وهو لبعض الأصوليين. 2- اجتهاد الصحابة في عصر الرسول جائز عقلا - وهو مذهب الجمهور والقائلون بالجواز اختلفوا على أقوال: 1- يجوز مطلقا للحاضر منهم مجلس الرسول والغائب عن مجلسه وهو لمحمد بن الحسن والباقلاني. 2- يجوز للغائب من الولاة والقضاة ولا يجوز لغيرهم كما لايجوز للحاضر في مجلس الرسول انظر نهاية السول "4/538, 539" سلم الوصول "4/538, 539" المحصول "2/494" فواتح الرحموت "2/374" إحكام الأحكام "4/234" أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "4/234". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 يقول لديه أحد وأيضا لو جوزنا له الاجتهاد لوجب القطع على أن العلة التي استخرجها هى علة الحكم ولا قطع مع الاجتهاد وإذا لم يقطع جازت مخالفته. ببينة: أن الأمة أجمعت على أن من استحل مخالفة النبى صلى الله عليه وسلم يصير كافرا فإذا جوزنا له الاجتهاد لم يكن تكفير مخالفه في الحكم لأن الاجتهاد طريقه الظن فلا يجوز أن يكفر من يخالفه فيه فثبت أن الاجتهاد ممتنع أصلا وهذا لأن المجتهد لا يؤمن عليه الغلط فكيف يحرم مخالفة من لا يؤمن عليه الغلط ألا ترى أن الرأى في الحروب لما لم يؤمن عليه الغلط كيف جاز مخالفته فإن النبى صلى الله عليه وسلم أراد النزول في منزل يوم بدر فقال له الحباب بن المنذر: أرأى رأيته أم وحى؟ فقال: "بل رأى رأيته" فقال: بل الرأى أن ننزل في موضع كذا أو أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطى يوم الأحزاب قوما من الكفار شطر ثمار المدينة لينصرفوا فقال الأنصار: أرأي رأيته أم وحى فقال: "بل رأى رأيته" فقالوا: لا نعطيهم إلا السيف والله ما كانوا يطعمون ذلك في الجاهلية إلا بشرى أو بقرى فكيف وقد أعزنا الله تعالى بالإسلام ولما دخل المدينة نهاهم عن تأبير النخل ففسد ثمارها ذلك العام فأمرهم بالتأبير وقال: "أنتم أعلم بأمر دنياكم وأنا أعلم بأمر دينكم" 1 قالوا: ولأنه لا ضرورة له صلى الله عليه وسلم إلى الرأى لأن الوحى له متوقع واستعمال الرأى لا يجوز إلا عن ضرورة ببينة: أن الدين في الأصل لله تعالى فلا يجوز شرعه برأى لا يؤمننا عن الغلط إلا عن ضررورة ولا ضرورة لصاحب الوحى وهذا كتحرى القبلة لا يجوز إلا لمن بعد عن الكعبة فأما من قرب فلا ضرورة له كذلك ها هنا يكون الأمر كذلك قالوا: وأما الأمر بالمشاورة فكان من أمور الدنيا ونحن إنما نجوز الاجتهاد في أمور الدين فأما في أمور الدنيا فهو جائز وعلى أنه صلى الله عليه وسلم أمر بمشاورتهم تطييبا لنفوسهم لأخذ برأيهم واستدل من قال: إنه لا يجوز للصحابة أن يجتهدوا بحضرة النبى صلى الله عليه وسلم هو أن الحكم بالاجتهاد حكم يغالب الظن فلا يجوز مع إمكان الرجوع إلى النص وقد كان يمكنهم الرجوع إلى نص النبى صلى الله عليه وسلم فصار اجتهادهم في هذا الموضع كاجتهاد علماء الأمة في موضع النص وأما دليلنا فيتعلق أولا بقوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2] وهذا على العموم ويدل عليه قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} فلو لم يجز لهم الحكم بالرأى لم يؤمر بالمشاورة لأن الذي ينال بالمشاورة محض الرأي. وقولهم: إنه   1 أخرجه مسلم: الفضائل "4/1836" ح "141/2363". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 أراد بذلك في أمور الدنيا. قلنا: قد كان النبى صلى الله عليه وسلم يشاورهم في أمور الدين بدليل المفاداة يوم بدر والمفاداة حكم شرعى وقد شاورهم في ذلك واختلاف أبى بكر وعمر رضى الله عنهما في ذلك معروف مشهور وقد روى أن خولة سألت النبى صلى الله عليه وسلم عن ظهار زوجها منها فقال: "ما أراك إلا وقد حرمت عليه" فقالت: أشتكى إلى الله عز وجل فأنزل الله تعالى آية الظهار1 ويدل عليه أن النبى صلى الله عليه وسلم شاور الصحابة في أمر الأذان فاختلفوا عليه ثم إن عبد الله بن زيد رأى الرؤيا على ما عرف وقد روينا أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لعمر رضى الله عنه حين سأله القبلة للصائم: "أرأيت لو تمضمضت" 2 وفي حديث الخثعمية "أرأيت لو كان على أمك دين؟ " 3 قال تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: 43] وقد كان أذن لهم بالرأى ويدل على ما ذكرناه قصة داود وسليمان صلوات الله عليهما على ما ذكر الله عز وجل وهو قوله تعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} [الأنبياء: 78] الآية وقال تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 79] وكانا حكما بالاجتهاد وهذا كله بمعنى وهو أنه كما يجوز في العقول أن يكون مصلحتنا أن نعمل بالاجتهاد بالأمارة تددل عليه مرة ونعمل بالنص مرة إذا وجد كذلك جاز مثله في النبى صلى الله عليه وسلم وليس يحيل العقل ذلك في النبى صلى الله عليه وسلم ويصححه فينا كما لا يصححه في زيد ويمنع منه في عمرو لهذا يجب عليه وعلينا أن نعمل باجتهادنا في مضار الدنيا ومنافعها وإذا ثبت أن العقل ايمنع من التسوية بيننا وبين النبى صلى الله عليه وسلم وبين الأمة ولم يرد شرع يفرق بينه صلى الله عليه وسلم وبيننا صارت الدلائل مستمرة على عمومها واستدل من جوز الاجتهاد للصحابة بمحضر النبى صلى الله عليه وسلم بما روى أن النبى صلى الله عليه وسلم أمر سعدا أن يحكم في أمر بنى قريظة4 والرسول صلى الله عليه وسلم حاضرا وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عمرو بن العاص أن يحكم بين نفسين على أنه إن أصاب فله عشر حسنات. فقال: يا رسول الله أجتهد وأنت حاضر؟ قال: "نعم" ولأنه إذا جاز الاجتهاد في غيبة النبى صلى الله عليه وسلم وخطأه لا يستدرك فلا يجوز بحضرة النبى صلى الله عليه وسلم ولو أخطأ يستدركه النبى صلى الله عليه وسلم أولى وأحرى.   1 ذكره الحافظ السيوطي في الدر المنثور وقال: أخرج ابن مردويه عن ابن عباس أن خولة ... فذكره. انظر الدر المنثور "6/180". 2 تقدم تخريجه. 3 أخرجه البخاري "4/77" ح "1852" وأحمد: المسند "1/295" ح "1975". 4 أخرجه البخاري: الاستئذان "11/51" ح "6262" ومسلم: الجهاد "3/1388" ح "64/1768". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 وأما الجواب عما ذكروه. قلنا: أما قوله تعالى {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3, 4] فلا دليل من هذه الآية في موضع الخلاف لأن الآية نزلت في شأن القرآن ولأن الهوى عبارة عن هوى النفس الباطل لا عن الرأى الصواب عن عقل ونظر في أصول الشرع أما قولهم إن النبى صلى الله عليه وسلم قد توقف في أشياء قلنا: إن كان قد توقف في مواضع فقد اجتهد في مواضع على ما سبق وعلى أنه كان يجوز له أن يجتهد فيما له أصل من الكتاب فيحمل غيره عليه فأما ما لا أصل له فلا سبيل إلى الاجتهاد فيه. فأما الذى اعتمدوه من قولهم إنه لو جاز الاجتهاد له لجاز لغيره مخالفته قلنا: نحن نقول: يجوز له صلى الله عليه وسلم الاجتهاد وأما مخالفة غيره له حرام فإن قيل: كيف يحرم مخالفة قول صدر عن اجتهاد؟ ويمنع مجتهد آخر عن الاجتهاد فيه. ببينة: أنه لا يتصور أن يحرم على غيره المخالفة إلا بعد أن يكون الدليل قطعيا وإذا لم يكن للنبى صلى الله عليه وسلم في نفسه قطعيا كيف يكون في غيره قطعيا. قلنا: بلى قد يجوز صدور1 القول عن اجتهاد لكن يحرم على غيره المخالفة لكونه نبيا في نفسه وإنما حرم المخالفة وإن صدر عن الإجتهاد لأنه صلى الله عليه وسلم كان معصوما عن الخطأ في الأحكام فإذا كان معصوما عن الخطأ محروسا عن الزلل كان مصدورا منه محكوما بصحته مقطوعا بذلك فلذلك حرمت المخالفة ومن استحل كفر ويجوز أن يصدر الحكم عن الاجتهاد ثم ينضم إليه ما يوجب القطع بالصحة ويتضمن تحريم المخالفة بدليل الإجماع الصادر عن الاجتهاد. وأما قولهم: هل يقطع على العلة التي استخرجها أنها علة الحكم قلنا نحن نقطع بذلك لأنه واجب علينا اتباعه وهو لا يقطع بذلك لأنه مجتهد ولأنا نعلم أنها علة الحكم قطعا لما قام لنا من الدليل أنه معصوم عن الخطأ. وأما قولهم: إن الاجتهاد بحضرته حكم بالظن مع إمكان التوصل إلى العلم قلنا: إذا اجتهد وأقر هو صلى الله عليه وسلم على ذلك فقد وقع لنا بحضرته العلم بذلك ولأنه إن أخطأ يمنعه منه على أنه يجوز الحكم بالظن مع أمكان العلم بدليل أنه لا يجوز الحكم بخبر الواحد من إمكان الرجوع إلى قول جماعة يقع الخبر بخبرهم والله أعلم. وقد بينا اختلافهم في جواز الاجتهاد بحضرة النبى صلى الله عليه وسلم وقد قال: بعضهم إذا أذن   1 ثبت في الأصل "صدر" ولعل الصواب ما أثبتناه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 النبى صلى الله عليه وسلم في ذلك والأولى أن يقال: إنه لا يجوز لمن حضر النبى صلى الله عليه وسلم أن يجتهد قبل سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما لا يجوز لأن للمجتهد أن يجتهد قبل طلب النص كما لا يجوز لسالك1 في برية مخوفة أن يعمل على رأيه مع تمكنه من سؤال من يخبره عن الطريق عن علم وإذا سأل النبى يجوز أن يكله النبي صلى الله عليه وسلم إلى اجتهاده ليس من ذلك مانع لا من حيث العقل ولا من حيث الشرع.   1 ثبت بالأصل: "ليسالك" وهذا أصوب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 فصل: وإذا عرفنا من يجوز له القياس فالكلام بعد ذلك فيما يجوز فيه استعماله : اعلم أن التعبد في جميع الشرعيات بالنصوص جائز ومن الممكن أن ينص الله تعالى على صفات المسائل في الجملة فيدخل تفاصيلها وهى فيها بالنص على صفات المسائل يجوز أن ينص على جريان الربا كل مطعوم فيدخل في ذلك أنواع المطعومات وينص على تحريم كل مسكر فيدخل فيه الخمر والنبيذ وكل ما يشبهه فأما التعبد في جميعها بالقياس فلا يصح لأن القياس حمل فرع على أصل بنوع شبه بينهما فإذا لم يكن أصل فكيف يتصور القياس. ببينة: أنه قياس الشيء على نفسه وهذا لا يجوز وإذا علم أنه لا يجوز إثبات جميع الأحكام الشرعية بالقياس. فنقول: ليس القياس تتخصيص شئ دون شئ من الأحكام بعد أن لا يكون جميعها ثابت بالقياس فعلى هذا قال الأصحاب: تثبت جميع الأحكام الشرعية بالقياس على معنى أن لا يتخصص بشئ دون شئ بل يجوز أن يستعمل القياس في كل حكم من أحكام الشرع. ويتفرع على هذه المسألة المعروفة مع أصحاب أبى حنيفة وهى مسألة استعمال القياس في الحدود والكفارات وفى المقادير كلام على ما سنبين إن شاء الله تعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 مسألة: يجوز أثبات الكفارات والحدود بالقياس على مذهب الشافعى رحمة الله عليه. وعند أصحاب أبي حنيفه لا يجوز1. وقال أبو الحسن الكرخى: لا يجوز تعليل الحدود ولا الكفارات ولا العبادات ولهذا منع من قطع القياس بالقياس ومنع من إيجاب الحد على اللوطى بالقياس ومنع من الصلاة بإيماء الحاجب بالقياس ومنع من إيجاب الكفارة من قتل العمد بالقياس قال ولا فرق بين الكفارات الجارية مجرى العقوبات وبين ما لايجرى مجرى العقوبات ومنع أيضا من إثبات النصب بالقياس ولهذا الأصل لم يوجب الزكاة في الفصلان وصغار الغنم وقد منعوا أيضا ثبوت كثير من هذا بخبر الواحد ومنعوا أيضا من استعمال القياس في المقادير والأصح على مذهبنا جواز القياس في المقادير أيضا ومنع أبو الحسن الكرخى أيضا أن يعلل ما رخص فيه لنوع مساهلة كأجرة الحجام وقص الشارب والاستصناع فيما جرت [به] 2 العادة مثل الخفاف والأواني وغير ذلك وقد تتبع الشافعى رحمة الله عليه مذاهبهم وأبان أنهم لم يفوا بشئ مما ذكروه ونورد كلام الشافعى رحمة الله عليه على وجهه. قال الشافعى رحمة الله عليه: أما الحدود فقد كثرت أقيستكم فيها حتى تعديتموها إلى الاستحسان وهو في مسألة شهود الزنا فإنهم أوجبوا الحد في تلك المسألة وقضوا   1 جمهور الأصوليون على أن القيلس يجري في الحدود والكفارات والرخص والمقدرات كما يجري في غيرها من الأحكام الشرعية واشتهر عن الحنفية الخلاف في ذلك فقالوا: إن الحدود والكفارات والرخص والمقدرات لا تثبت بالقياس ولا يكون القياس حجة فيها. مثال القياس في الحدود: قياس النباش على السارق بجامع أخذا المال خفية في كل فيقطع النياش كما يقطع السارق وقياس اللائط على الزاني بجامع الإيلاج في فرج محرم مشتهى فيحد اللائط كما يحد الزاني. ومثال القياس في الكفارات قياس الأكل في نهار رمضان عمدا على الجماع انتهاك حرمة الشهر في كل فتثبت الكفارة في الأكل كنا تثبت في الجماع وقياس القتل العمد على القتل الخطأ بجامع إزهاق الروح في كل لتثبت الكفارة في القتل العمد كما تثبت في القتل الخطأ انظر نهاية السول "4/53" سلم الوصول "4/35" المحصول "3/424" إحكام الأحكام "4/28" فواتح الرحموت "2/317" المستصفى "2/334" انظر أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "4/50, 51". 2 زيادة ليست في الأصل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 أنه استحسان وأما الكفارات فقد قاسوا الإفطار بالأكل فيها على الإفطار بالوقاع وقد قاسوا قتل الصيد ناسيا على قتله عامدا مع تقييد النص بالعمد في قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] وأما المقدورات فقد قاسوا فيها ومما أفحشوا في ذلك عدد الدلاء عند وقوع الفأرة في البئر ثم أدخلوا تقديرا على تقدير فقدروا للحمامة غير تقدير العصفور والفأرة وقدروا للدجاجة غير تقدير الحمامة وقدروا الحوض بالعشر في العشر وأما الرخص فقد قاسوا فيها وتناهوا في البعد فإن الاقتصار على الأحجار في الاستنجاء من أظهر الرخص ثم اعتقدوا أن كل نجاسة نادرة أو معتادة مقيسة على الأثر اللاصق بمحل النجو فانتهوا في ذلك إلى نفى إيجاب استعمال الأحجار مع قطع كل منصف بأن الذين عاصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فهموا هذا التخفيف منه في هذا الموضع المخصوص لشدة البلوى فيه وكانوا على تحرزهم في سائر النجاسات على الثياب والأبدان ثم قال الشافعى رحمة الله عليه: من شنيع ما ذكروه في الرخص إثباتهم لها على خلاف وضع الشرع فيها فإنها مثبته تخفيفا وإعانة على ما يعانية المرء في سفره من كثرة أشغاله فأثبتوها في سفر المعصية فهذا الذي ذكروه يزيدونه على القياس إذ القياس تقرير المنصوص عليه قراره وإلحاق غيره به وهذا قلب لوضع المنصوص في الرخص بالكلية قال الإمام رحمة الله عليه والمناقضات للقوم طبيعة لا يمكن نزعها منهم بحيلة وما من أصل لهم في الأصول وفي الفروع إلا ولهم في ذلك من أصولهم لفروعهم مناقض وهذا لأن القوم لم يبنوا فروعهم على أصول صحيحة وإنما وضعوا المسائل على أشياء تراءت لهم ثم تراءت لهم غيرها في مسائل أمثال المسائل الأولة فحكمها بغير تلك الأحكام وراموا الفروق بالخيالات وهيهات ثم هيهات ما أبعدهم عن ذلك فإن الآراء مستعصية على ما لم يسندها إلى أصول صحيحه ومن أراد عد مناقضاتهم جاوز الألوف وبلغ مبلغا ينتهى دونه الحد والعد ولولا أنا آثرنا إثبات المسائل في الأصول والفروع والمعانى وإلا جمعنا من ذلك ما يتحير معه الناظر وتعجب منه المناظر ولو صرفنا إليه طرفا من العناية لم يعدمه طالبه رجعنا إلى الكلام في أصل المسألة وحجة من أبى ذلك من أطلقه احتج من منع دخول القياس في الحدود والكفارات وقال الحد شرع للردع والزجير عن العاصي والكفارة وضعت لتكفير الإثم وما يقع به الردع عن المعاصى ويتعلق به التكفير عن المآثم إلا الله عز وجل لأن الإنسان يردع بالقليل من العقوبة وقد لا يرتدع بالكبير فمقدار ما يقع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 به الردع لا يتصور أن يعلمه إلا الله عز وجل وكذلك ما يكفر الإثم لا يعلمه إلا الله تعالى وربما عبروا عن هذا وقالوا إن وجوب الحدود مصالح للعباد والمصلحة لا تثبت بالقياس وأيضا فإن الحدود والكفارات تختلف بحسب المآثم والمآثم لا تعرف بالقياس وكذلك المقادير مشروعة على مقادير معلومة لمصلحة العباد وقد بينا أنه لا مدخل للقياس في معرفة المصالح قالوا ولأن القياس موضع شبهة لآنه إلحاق فرع بأشبه الأصلين فيبقى الأصل الآخر شبه والحدود تسقط بالشبهات فلا يجوز إيجابها بدليل لا يخلو عن الشبة وأما دليلنا وهو أن القياس دليل الله تعالى ودليل الله تعالى يجوز أن يثبت به الحدود والكفارات دليله الكتاب والسنة ويقال أيضا إثبات حكم شرعى بدليل من دلائل الله تعالى فجائز كما لو كان الحكم سوى الحدود والكفارات والقياس على خبر الواحد قياس معتمد لأن كل واحد من الدليلين لا يفيد إلا قوة الظن فإذا جاز إثبات هذه الأحكام بخبر الواحد جاز بالقياس والحرف المعتمد أن الدلائل التي قامت على صحة القياس قد قامت على الإطلاق من غير تخصيص موضع دون موضع فصار القياس صحيحا استعماله في كل موضع إلا أن يمنع منه مانع ولا مانع في الحدود والكفارات فإن قبل وجد مانع قلنا: بينوا فإن تعلقوا بالشبهة التي ذكرناها أخيرا في كلامهم وزعموا أن ما سقط بالشبهة لا يجوز إثباته بدليل مطلوب لأن الظان معترف ببقاء إمكان ما وراء ظنه فوجب أن يحصل الدرأ بذلك الإمكان فنقول على هذا أن خبر الواحد داخل على هذا فإنه لا يفيد إلا الظن ومع ذلك يجوز إثبات الحدود والكفارات به وأيضا فإنهم لم يمنعوا من استعمال القياس في القصاص والقصاص يندرئ بالشبهات قطعا ويدل عليه أن الحدود تثبت بالشهود عند الحكام وشهاداتهم لا تفيد إلا الظن ومع ذلك جاز إيجاب الحد بهما وكذلك الكفارة فسقط ما قالوه ثم المعتمد من الجواب هو أن وجوب العمل بالقياس ليس بمظنون وقد ذكرنا هذا من قبل ونعنى بهذا أنا جعلنا القياس حجة بالدلائل القطعية لا بدلائل مظنونة وأما تعلقهم بقولهم إن الحد للزجر عن المعصية والكفارة لتغطية المأثم وهذا لا يهدى إليه القياس قلنا: ولم قلتم: إنه لا يهتدى إليه بالقياس1 بل القياس يهتدى إلى كل ما يمكن استخراج معنى مؤثر منه ومسألتنا من هذا الباب لأن المسألة مصورة في مثل هذا الموضع ونظيره أن تستخرج معنى من الزنا إيجاب الحد فقياس اللواط وأيضا   1 في الأصل: "القياس" والصواب ما أثبتناه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 يستخرج معنى من السارق فقياس عليه النباش وكذلك في الكفارات بقياس العمد على الخطأ في القتل ويقاس الغموس على اليمين في المستقبل في إيجاب الكفارة وكذلك تقاس كفارة الظهار على كفارة القتل في شرط الإيمان وإنما صح القياس في هذه المواضع لأنا علمنا معانى صحيحة في هذه الأصول فصح قياس الفروع عليها بتلك المعانى وقد علموا هم بمثل هذا في القياس الأكل على الوطء إيجاب كفارة الفطر فإن قيل: هل يصح إثبات حد مبتدأ بالقياس أو كفارة مبتدأه قلنا: لا طريق يوصل القياس إلى إثبات حد مبتدأ وكذلك لا طريق يوصل إلى إثبات كفارة مبتدأه بالقياس ولو كان الطريق يصح إثباته من جهته لصح إثباته وأما في المسائل التي ذكرناها بالقياس يمكن فوجب استعماله وعلى هذا القول في المقدير إذا عرف معناها وثبت تأثيرها يجوز القياس عليها وعلى أنا قد بينا أن كثيرا من أصحابنا قالوا: إن أثبات الأسامى التي يبتني عليها الأحكام في الشرع يجوز بالقياس وقد بينا هذا من قبل وقد ذكر أبو زيد فصلا يرجع إلى هذا الأصل. قال: وأما تعدى الحكم ففصل عظيم الفقة عزيز الوجود وقاله فيما قال الشافعى رحمة الله عليه: إن كفارة اليمين تجب بالغموس قياسا على المعقود لأنه يمين الله تعالى مقصودة قال: وهذا التعليل لم يقع لتعديه حكم المعقودة إليها بل لتعديه اسم اليمين الثابت لغة وبيان ذلك أنا أجمعنا أن كفارة اليمين لا تجب بغير اليمين واختلفنا في يمين الغموس أنها يمين حقيقة أو يمين تسمية مجاز كبيع الحر وغيره فقلنا إنها ليست بيمين حقيقة بل إنما تسمى يمينا على طريق المجاز ولا تجب كفارة اليمين بما ليست بيمين. وقال: ولا يجوز إثبات اسم اليمين وهو اسم لغوى بالقياس الشرعى بل يجب تعرفه من طريق لسان العرب. فيقال: إن اليمين عقد على الخبر لتحقيق الصدق منه وضعا وشرعا فلا يكون محله إلا الخبر المحتمل للصدق فإنها ما لا يحتمل الصدق بحال فلا يكون محلا لليمين كالبيع شرع لتمليك المال فما ليس بمال لا يكون محلا له. قال: ولذلك أبطل أبو حنيفه قياس اللواط على الزنا في إيجاب الحد1 لأن حد الزنا لا يجب إلا بالزنا فيكون التعليل واقعا لإثبات الاسم اللغوى بالقياس. قال: وكذلك لا يجوز تحريم الثلث الشديد بالقياس على الخمر من طريق إثبات اسم الخمر له بالقياس لأن الخمر اسم لغوى. قال: وليس إيجاب الكفارة   1 اعلم أنه لايحد عند أبي حنيفة من أتى امرأة في موضع مكروه أو عمل عمل قوم لوط ولكنه يعزر وزاد في الجامع الصغير: ويودع في السجن انظر الهداية "2/390". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 بالأكل إلحاقا بالجماع بالقياس والكفارة ليست بكفارة جماع إنما هى كفارة إفطار والأكل والشرب والجماع من حيث إيجاب الفطر باب واحد لما ذكرنا أن الكفارة أنما تتأدى بالكف عن اقتضاء بالشهوتين والفطر بالاقتضاء يقع من حيث انعدامم الكف بفعل منه فكان الباب واحدا وأنما تختلف أسماء ما يقع به الفطر كالقتل بأى آلة قتل به المقتول إذا استوت الآلات في إيجاب ما يكون قتلا قال: وأما إيجاب الكفارة بجماع الميتة والبهيمة إيجاب بالقياس لأنه ليس هذا الفعل والأفعال التي ذكرناها من باب اقتضاء الشهوة واحد لأن المحل غير مشتهى طبعا وكان بمنزلة الاستمتاع بالكف أو الإدخال في شق جدار أو في شق إليه وإنما سمى هذا الفعل جماعا مجازا لأجل ما يشبه الجماع صورة وإذا ثبت أنه ليس هذا الفصل وطء البهيمة بابا واحدا فلو وجب الحد بوطء البهيمة أو الميتة لوجب بالقياس وقد بينا أن اسم الجماع في هذا الفعل ساقط وإثبات الاسم اللغوي بالقياس ساقط قال: كذلك قلنا: لا يجب القطع على النباش لأن القطع في السرقة حد والنص ورد باسم السرقة وعدم الاسم في النباش لأن السرقة اسم للأخذ مسارقا عن صاحبه وهذا لا يتصور في الكفن لأن صاحبه ميت وقد سقط القياس الشرعى لإثبات الاسم ولا قطع بالاجماع بدون اسم السرقة وهذا لأن الأسماء ضربان حقيقة ومجاز وسبب الحقيقة وضع الواضع وهذا لا يعرف إلا بالسماع وسبب المجاز استعارة العرب لاسم آخر بطريق لا يعرف طريق استعمالهم اللغة الشرعية والنظر في أصولها بل يعرف بالنظر في كلام العرب قال: ومن هذه الجملة الكلام في أن ألفاظ الطلاق هل تصلح كناية عن العتق أو لا؟ ولفظ التمليك حل يصلح كناية عن النكاح أم لا؟ قال: ومن هذه الجملة تعليلهم الرقبة الواجبة في القتل وقياسهم الظهار عليها بعلة أنه يجب في تكفير وإنما لم يجز القياس في هذه الصورة لأن زيادة الوصف بمنزلة زيادة القدر فصار تعريفنا للحكم الثابت نصا فامتنع ألا ترى أنه لا يجوز الزيادة على صوم ستين يوما ولا إطعام ستين مسكينا قال: وعلى هذا تخرج مسألة رد شهادة القاذف إذا تاب فإنا نقول إن هذا حده الجلد وتحريم قبول الشهادة وقد دل نص الآية على هذا فإذا عللتم لإخراج رد الشهادة من كونه حدا وتعلقتم بالفسق فقد تعرضتم للحكم الثابت أيضا بالتنقيص وهو تنقيض حد القذف عما أوجبه النص فلم يجز إثباته بالقياس قال: وعلى هذا لا يقبل القياس في إيجاب التمليك في الإطعام للكفارة لأن الخلاف وقع في قدر الواجب بنص التكفير فقلنا: إنه الإطعام بلا قيد التمليك وقلتم: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 إنه واجب بهذا القيد فصار هذا مثل زيادة الإيمان في الرقبة المطلقة في الظهار. قال: وعلى هذا قول من قال: إن الحرمة بين المتلاعنين بلعان الزوج من هذا القبيل لأن اللعان واجب بالرمى بنص الله تعالى وهى شهادات مؤكدة بالأيمان مزكاة باللعنة محرمة للإجماع بعد التلاعن منها بالسنة وهى قوله صلى الله عليه وسلم: "المتلاعنان لا يجتمعان أبدا" 1. وكان إيجاب الحرمة بلعان الزوج وحده زيادة في الحكم قال: والحرف في هذه المسائل كلها أن التعليل لتعديه حكم النص إلى الفرع من غير تعرض للحكم نصا بوجه ما حتى لا يؤدى إلى تغييره بإثبات زيادة فيه أو نقصان منه قال: ومن جنس ما ذكرنا أن المنصوصات لا يقاس بعضها على بعض فمتى وجدنا في الفرع نصا يمكننا العمل به من غير أن نقيسه على أصل آخر يكون قياس ذلك الفرع على غيره فاسد على هذا لا يجوز قياس قتل العمد على قتل الخطأ في الكفارة لا يجوز أيضا قياس قتل المسلم في دار الحرب قبل الهجرة إلينا على المسلمين في درانا في إيجاب الضمان وكذلك لا يجوز قياس المحصر على الممتنع في إيجاب الصوم بدلا عن الهدى عند العدم وكذلك لا يجوز قياس المطلقة التي لها مهر مسمى على التي طلقت قبل الدخول بلا فرض مهر إيجاب المتعه لأن هذه الحوادث كلها منصوص عليها فلم يجز قياس بعضها على بعض   1 أخرجه أبو داود: الطلاق "2/282" ح "2250" انظر نصب الراية الزيلعي "3/250". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 فصل: في شروط القياس ... فصل: وقد قال أبو زيد: إن شرط القياس أربعة: إحداها: أن لا يكون الاصل مخصوصا بحكمة آخر. والثانى: أن لا يكون معدولا به عن القياس. والثالث: أن يتعدى الحكم الشرعى بالنص بعينه إلى فرع هو نظيره ولا نص فيه. والرابع: أن يبقى الحكم في الأصل المعلول بعد التعليل على ما كان قبل التعليل. أما الأول فلأنه عنى متى ثبت اختصاص الحكم بنص آخر لم يجز إبطال الخصوصية الثابته بالنص الآخر بالقياس لأن القياس ليس بحجة معارضة للنص. وأما الثانى فلأن حكم النص متى ثبت على وجه يرده القياس الشرعى لكنه ترك لمعارضة النص أياه ومجيئه بخلافه لم يجز إثباته في الفرع بالقياس كالنص إذا جاء نافيا للحكم لم يجز إثباته به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 وأما الثالث فلأن المقايسة هى المحاداة بين الشيئين فلا يتصور ثبوتها في شئ واحد ومتى لم يتعد الحكم إلى الفرع بقى الأصل وحده فلا يكون النظر لإثبات الحكم فيه مقايسة ويتبين أن محل المقايسة حادثتان سوى بينهما بالمقايسة. وأما الرابع فلأن النص فوق القياس فلم يجز استعمال القياس ليغير حكمه بوجه ولأن الرأى مشروع حجة بعد النص فلم يبق حجة حيث يثبت فيه النص. قال ومثال الأول أن الله تبارك وتعالى شرط العدد في جميع الشهادات وثبت بالنص قبول شهادة خزيمة بن ثابت وحدة وكان مخصوصا بذلك وقد اشتهر من الصحابة بهذه الفضيلة فلا يجوز إبطال هذا التخصيص بالتعليل وكذلك حل للنبي صلى الله عليه وسلم تسع نسوة إكراما له فلا يجوز تعليله ولهذا ثبت بالنص أن البيع يقتضى محلا مملوكا معلوما مقدورا على تسليمه وجوز التسليم في الدين بالنص وجاء النص بشرطه بالأجل فلا يجوز إبطال التخصيص بالتعليل ثم قال: وقد قال الشافعى رحمة الله عليه: لما صح نكاح النبى صلى الله عليه وسلم بلفظ الهبة على سبيل الخصوص بقوله: {خَالِصَةً لَكَ} [الأحزاب: 50] بطل التعليل قال وقلنا بل التخصيص في سلامة البضع بغير عوض وفى اختصاصه في المرأة بألا تحل لأحد بعده وهذا مما يكون على طريقة الكرامة فأما الاختصاص بلفظ الهبة مع سهولة ذكر لفظ النكاح فلا كرامة فيه وكذلك المنافع جعلت أموالا كالأعيان في التجارات ولم يجعل كذلك عندنا في الاتلاف والغصب فصار كون مال المنافع معادلة مالية الأعيان مخصوصة بالتجارات وعندنا لأن الأصل فيها أن ماليتها دون مالية الأعيان بدرجات لأن المنافع أغراض لا تنفى زمانين والأعيات جواهر تتبقى أزمنة وتفاوت ما بين الجوهر والعرض بحيث لا يخفى وكذلك ما يبقى وما لا يبقى إلا أن الشرع سوى فيهما في التجارات لحاجة الناس إلى المنافع حسب حاجتهم إلى الأعيان لإقامة المصالح ويتعذر وصول المحتاج إلى المنافع إلا بمال هو عين وهذه الضرورة غير ثابتة في الإتلاف لأنه منتهى عنها والسبيل في ذلك أن لا يوجد فلم تلتحق المنافع في حق الإتلاف بالأعيان قال: وكذلك جواز بيع المنفعة قبل الوجود والملك ثابت لضرورة أنها لا تبقى موجودة فلا يمكن بناء البيع على الوجود وهذه الضرورة معدومة في الأعيان فصار حكمها مخصوصا بموضع الضرورة فهذه أمثلة الشرط الأول قال: وأما أمثلة الشرط الثانى هو مما كان معدولا به عن القياس فهو كأكل الناسى في الصوم فإنه معدول به عن القياس وذلك لأن فيه بقاء القربة مع وجود ما يضاد فإن ركنه الكف والأكل سواء كان ناسيا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 أو عامدا يضاد ركنه فصار الحكم بأنه يؤدى صومه مع عدم الركن وهو الكف معدولا به عن القياس فلم يجز قياس المكره والمخطئ عليه ولا قياس الصلاة والحج على الصوم وأما بقاء الصوم مع الجماع ناسيا ولا نص فيه أنما كان لأن الجماع من جنس الأكل من حيث تفويت الأداء والصوم تأدية بالكف عن قضاء شهوتى بطنه وفرجه وذهاب الصوم عن استيفائهما بطريق الأداء الذى هو ركن العبادة وكانا جنسا واحدا وإن اختلف الاسمان فالأكل والشرب واحد في حق الإفطار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 فصل: واعلم أن هذا الذي ذكرنا اشتمل على مسائل من الأصول معروفة : منها أن العلة التي لا تتعدى هل تكون صحيحة أم لا؟ وهل التعدية شرط صحة العلة أو لا؟ ومنها: أن الأصل الثابت بخلاف قياس الأصول هل يجوز القياس عليها أو لا؟. ومنها: أن تعليل الأصل هل يوجب أن يكون الحكم ثابتا في الأصل بالنص والعلة جميعا وهل يدل ثبوت الحكم في موضع لا توجد فيه العلة على فساد العلة أو لا؟ وإذا عرفنا من هذه المسائل يشير إلى طرف من الجواب عما قاله وقبل الشروع في هذه المسألة نقول إنا وإن ذكرنا أن استعمال القياس في الحدود والكفارات والمقادير جائز خلاف ما يقول الخصم ولكن مع هذا لا ننكر أن يوجد في الشرع ما لا يتعلل ويلتحق بمحض التعبد الذي ينحسم سلوك سبيل القياس فيه وعلى هذا فلا بد من علامة وأمارة تعرف بها القسم الذي يجرى فيه التعليل من القسم الذى لا يجرى فيه التعليل وهذا عويص عسر لكن مع هذا نقول كل حكم يمكن أن يستنبط منه معنى مخيل من كتاب أو نص سنة أو إجماع فإنه يعلل وما لا يصح فيه مثل هذا فإنه لا يعلل سواء إن كان من الحدود أو الكفارات أو المقادير أو الرخص ثم قد تنقسم العلل أقساما فقسم يعلل جملته وتفصيله وهو كل ما يمكن أبدا معنى في أصله وفرعه وقسم يعلل بجملته ولا يعلل تفاصيله لعدم المراد التعليل في التفاصيل. ومنها قسم آخر: لا يعلل جملته لكن بعد ثبوت جملته يعلل تفاصيله كالكتابة والإجارة وفروع تجمل الغافلة وقد يوجد قسم لا يجرى التعليل في جملته ولا تفاصيله مثل الصلاة وما تشتمل عليه من القيام والتعوذ والركوع والسجود وغير ذلك وربما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 يدخل في هذا القسم الزكاة ومقادير الأنصبة والأوقاص وقد قيل أيضا: إنه لا محال القياس في الأحداث وتفاصيلها والوضوء وتفاصيله بل يتبع محض النص وقد قيل: إن الوضوء معقول المعنى فإنه مشعر بالتنظيف والتنقية وقيل إن الصلاة يعقل منها الخشوع والاستكانة والابتهال للمعبود وأما الشهادة فقد قالوا: أصلها معقول المعنى وهو الثقة وحصول غلبة الظن والمقصود من مزيد العدد زيادة الثقة ومما يعقل في الشهادة أيضا أن شهادة النساء لا تقبل لما غلب عليه من الذهول والغفلة ونقصان العقل فأصول هذه المعانى معلومة ولكن لا سبيل إلى طرد التعليل في التفصيلات وأما أصل عقود المعاملات معقولة المعنى إلا أن الشرع أثبت فيها أنواعا من التعبدات يلزم اتباعها ولا يجوز تجاوزها وتعديها ولهذا تقول من اشترى شاة من قطيع من الغنم على أنه بالخيار يأخذ أيها شاء والبائع بالخيار يعطى أيها شاء لا يجوز1 وإن كنا لا نعقل فيه معنى فاسد وبهذا يتبين أن المعنى الذى اعتمده أصحاب أبى حنيفة في أن الجهالة إنما تفسد العقل لأنها مؤدية إلى المنازعة باطل فإن هذه الجهالة لا تؤدى إلى هذا ومع هذا لم يجز العقد وكذلك إذا قال: بعتك عبدى بما باع به فلان أمس وكانا جاهلين بمبلغ الثمن فإنه يكون باطلا كذلك إذا قال: بعتك هذا الثوب بزنة هذه السنجة أشار إلى سنجة مجهولة القدر بطل البيع ولا منازعة في مثل هذا العقد وللشارع تعبدات يلزم اتباعها في المعاملات كما يلزم في العبادات فلا تسقط تلك التعبدات بإسقاط العباد ذلك فإن كانت المعاملات أصلها جاريا في حقوق العباد لأن المعاملات وإن كانت من حقوق العباد لكن يلزمهم اتباع الأوامر فيها لأن الله تعالى أعلم بمصالحهم لأن أوامره كلها من حدود الدين ولا يجوز الإخلال بها بوجه ما وأن وجدت الأوامر والتكليفات صارت حدود الدين وكانت متبعة لا يجوز تركها ومن جنس ما ذكرنا التذكية فإن الذبح معقول المعنى لما فيه من تطيب اللحم وإزالة الخبيث من الطيب ورفع الخبث من المحل ثم اختص بذابح مخصوص ومحل مخصوص تعبدا وكذا التضحية اختصت بأجناس مخصوصة ووقت مخصوص والتفريعات على ما قلناه في المسائل تكثر وقد ذكر الأصحاب أمثلتها في الخلافيات وربما يأتى بعض ذلك من بعد وأما المسائل التي وعدنا ذكرها فنبتدى بمسألة العلة إذا كانت غير متعدية.   1 انظر الشرح الكبير "4/29". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 مسألة: يجوز تعليل الأصل بعلة لا تتعداه عندنا وتكون علة صحيحة1. وقال أصحاب أبى حنيفة: هى باطلة وقد ذهب إليه بعض أصحابنا وبين المتكلمين في ذلك خلاف مذهب أبو عبد الله البصرى إلى ابطالها وأما عبد الجبار بن أحمد وحزبه يصححونها واستدل من قال ببطلانها ذلك لأن هذا تعليل غير مفيد فيكون باطلا وإنما قلنا غير مفيد لأن فائدة التعليل ليس إلا التعدية فإن حكم الأصل ثابت بالنص فصار تعليل الأصل بحكم الأصل مستغنى عنه بالنص فلا فائدة للتعليل في الأصل ولا فرع له حتى تظهر فائدته فيه فثبت أن هذا تعليل غير مفيد وما لا فائدة فيه يكون عبثا والعبث حرام يدل عليه أن ما لا فائدة فيه لا يجوز أن ينصب الله عليه أمارة فإذا كانت العلة قاصرة علمنا أن الله تعالى لم ينصب عليها أمارة وما لا أمارة عليه لا يجوز أن يكون علة هذا حجة أبى عبد الله البصرى وقد قال أيضا: إن الصلة الشرعية أمارة ولا أمارة كالدلالة في أنها كاشفة عن شئ ولا يتصور دلالة ولا إمارة ولا يكشف عن شئ والتعليل عن الأحكام والعلة القاصرة لا يكشف عن حكمه في أصل ولا فرع فلم يكن أمارة ولا علة واحتج أبو زيد في هذه المسألة بأن التعليل إنما يصار إليه بكونه حجة زائدة بعد النص وحجج الله تعالى إنما تكون حججا لإيجاب العلم أو لإيجاب العمل والتعليل بالرأى لا يكون موجبا علما وإنما صير إليه لفائدة العمل فإذا لم يتعد لم يفد علما فيما لم يتناوله النص ولا فيما تناوله النص أما فيما لم يتناوله النص فلأنه لا فرع له وأما فيما تناوله النص فلأن النص فوق التعليل   1 اتفق الأصوليون على أن الوصف القاصر إذا ثبت عليته بنص أو إجماع فإنه يكون علة الحكم ويصح التعليل به. واختلفوا فيما إذا ثبت عليه بطريق من طرق الاستنباط كالسبر والتقسيم أو المناسبة أو الدوران فهل يصح التعليل به أو لايصح؟ على مذهبين: المذهبد الأول: يجوز تعليل الحكم بالعلة القاصرة ولا كن لا يعدى الحكم بها إلى محل آخر لعدم تحققها فيه وهذا هو المعروف عند جمهور العلماء ومنهم الشافعي وأحمد وهو المختار للبيضاوي. المذهب الثاني: لا يجوز التعليل بها مطلقا -وهذا المذهب قد نسب إلى جمهور الحنفية انظر نهاية السول "4/277" سلم الوصول "4/277" انظر أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "4/158". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 وإذا ثبت بالنص لم يثبت بالتعليل. فإن قلتم: يثبت بالنص والعلة جميعا لم يصح لأن التعليل لا يصح لتغير حكم النص فكيف يصح لإبطاله؟ وهذا الذي قلتم يتضمن إبطال حكم النص لأن الحكم كان ثابتا بالنص على الاستقلال فبطل ثبوته على هذا الوجه حيث صار ثابتا به وبغيره. قالوا: وإذا لم يتضمن الإبطال فلابد أنه يتضمن التغيير ولا يجوز تغيير حكم النص المعلول بعلته وإذا لم يتغير بقى الأول بعيينه وهو ثبوت الحكم بالنص وقصره عليه قال: وهذه الفائدة حاصلة متى لم يعلل النص وعلق الحكم بعينه ولأن هذا التعليل لا يوجب الحصر لأن تعليل النص بعلة خاصة لا يمنع التعليل بأخرى عامة كما يجوز التعليل بعلتين إحديهما أكثر تعديا من الأخرى يدل عليه أن عدم العلة لا يوجب عدم حكمها على ما سنبين فإذا لم يوجب قصر الحكم على النص قالوا: ولا يجوز أن يقال: فائدته معرفة الحكمة من المشروع لأن معرفة الحكمة لا تفيد عملا وقد بينا أن التعليل للعمل ولأن الحكمة لا تكون بسبب الحكم وأما حجتنا نقول إن الدليل الذى دل على صحة العلة لم يخص موضعا دون موضع والأصل إنما يمكن تعليله صح تعليله ولأن الدليل قام على العلة والتعدى نافى صحة العلة لأن صحة العلة بدليلها وقد وجد الدليل من التأثير على ما عرف في مسألة تعليل الربا في الدراهم والدنانير بالثمنية وهذا لأن المسألة متصورة في علة تكون على هذا الوجه وقد عبر بعضهم عن هذا وقال: العلة مستجمعة لشرائطها إخالة1 ومقايسة وسلامة عن الاعتراضات في معارضات النصوص وهى على مساق العلل الصحيحة وليس فيها إلا اقتصارها وانحصارها على محل النص وحقيقة هذا تئول إلى أن النص يوافق مضمون العلة ويطابقها وهذا بأن يؤكد العلة ويشهد على صحتها أولى من أن يدل على فسادها وقد استدل عبد الجبار في هذه المسألة. وقال: إن العة إذا دلت عليها الأمارة غلب على ظننا وجه المصلحة وإن لم يتعد لأن وجوه المصلحة قد تخص نوعا واحدا وقد يتعداه كما تقول في وجه القبح والحسن كلها. يدل عليه: أن حقيقة كلام الخصم هو أن صحة العلة موقوفة على أن يجتاز الإنسان إلى الخلاف في الفرع حتى يتعدى إليه فيعمل بهذا أمر مستشنع مستقبح فأما دلائلهم فمجموع كلامهم يئول إلى أن هذا التعليل لا يفيد   1 الإخالة: هي المناسبة لأن المجتهد يخالو أي: يظن أن الوصف علة. واعلم أن الإخالة شرط لوجوب العمل دون الجواز حتى لو عمل بها قبل ظهور التأثير نفذ ولم ينفسخ انظر حاشية التلويح على التوضيح "2/69". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 قلنا: نقول: أولا إن المستنبط للعلة طالب لها وهو في حال الاستنباط لا يدرى ما علة الحكم وهل هى متعدية أو لا؟ حتى يقال له: لا تتكلف هذا البحث والطلب وإنما تعلم أن العلة التي بحث عنها إلا بتعدى بعد استيفاء الطلب ونقول أجمعنا على أن النص لو ورد بمثل هذه العلة تكون صحيحة ولو جاز أن يكون الطلب لها عبثا لأنها ليست بطريق إلى الحكم لا في أصل ولا في فرع لكان النص عليها عبثا وقوله إن النص يغنى عن القياس قلنا: وقوع الغنى عن الشئ لا يفسده ألا ترى أنا قد نستغنى بالقرآن في بعض الأحكام عن أخبار الآحاد وعن القياس ولا يوجب ذلك فسادهما فإن قيل: خبر الواحد يمكن أن يكون طريقا إلى الحكم الذى دل عليه القرآن ولا يمكن أن تكون العلة القاصرة طريقا إلى الحكم أصلا قلنا: أنما تكلمنا بهذا على قولكم إن النص مغنى عن التعليل فيفسد وهذا الكلام الذي ذكرتم الآن هو الرجوع إلى ما قلتم أنه غير مفيد وقد أجبنا عن هذا ويجب بجواب آخر وهو أن العلم بعلة الحكم فائدة لأنا إذا علمنا ذلك لو ظننا صرنا عالمين أو ظانين بما لم نكن عالمين به مما تتشوف النفس إلى معرفته ولا يمتنع أن يكون لنا في ظن ذلك مصلحة وفائدة أخرى وهى أن يمتنع من قياس فرع على هذا الأصل وقولهم إن هذا يوجد بمجرد النص قلنا: لا وذلك لأن مجرد النص لا يمتنع من القياس عليه لأنه يجوز أن يعلل بوصف آخر متعدى فيقاس به فرع من الفروع عليه فإذا علمنا أن ما لا يتعدى هو العلة لأن الدليل دل عليه رفضنا ما عدا ذلك الوصف فلم نقس على ذلك الأصل شيئا وأما قولهم إن عدم العلة لا يوجب عدم حكمها. قلنا: هذا لا يرد على ما قلنا: لأن صورة الخلاف في تعليل الدراهم والدنانير بالثمنية1 ولم يكن له فرع فلابد أن ينحصر الحكم في محل النص ولا يجرى في غيره فيفيد التعليل على ما سبق وأما قولهم إن العلة لابد أن تكون كاشفة عن شئ قلنا: نبطله بالعلة المنصوصة إذا كانت قاصرة تكون علة صحيحة ولا تكشف عن شئ وعلى أن قولهم إن شرط صحة العلة أن تكون كاشفة عن شيء. قلنا: إن عنيتم أنها تكشف عن الحكم فهو نفس الخلاف وأن قلتم تكشف عن معنى الحكم وعلته فقد كشفت ويجوز أن يتعلق به مصلحة وأما قولهم إن العلة دليل عامل فلابد له من عمل. قلنا: هذا هو الكلام الأول وهو أنا هذا تعليل غير مفيد وعلى أنا قد بينا فائدة هذا التعليل وإذا ثبت فائدة عمله ويجوز أن يقال: إن الحكم ثبت بالنص والعلة   1 ثبت في الأصل "بالنميمة" والصواب ما أثبتناه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 جميعا وقولهم: إن هذا تغيير حكم النص قلنا: ليس فيه تغيير أصلا لأن الحكم على ما سبق من غير تغيير وتبديل وقولهم إنه لا يضاف إلى النص قلنا: يضاف فيقال النص مقيد لهذا الحكم والعلة مقيدة له ويجوز أن يتوالى دليلان على حكم واحد ولا تغيير لأن النص يدل على ما يتعلق الحكم بالنص ولا يدل على عدم تعلقه بدليل آخر وهذا كالحكم يثبت بالكتاب وبخبر الواحد فإنه يجوز ولا يقال: إن ثبوته بخبر الواحد يغير حكم الكتاب بل لا يعرف تغيير بهذا. مسألة: يجوز القياس على أصل مخالف في نفسه الأصول بعد أن يكون ذلك الأصل ورد به الشرع ودل عليه الدليل. والمحكى عن أصحاب أبى حنيفه أنهم لم يجوزا هذا القياس وقد [ذكره] الكرخى ومنع من جوازه إلا بإحدى خلال ثلاث1: إحداهما: أن يكون ما ورد به بخلاف الأصول قد نص على علته نحو ما روى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه علل طهارة سؤر الهرة أنها من الطوافين عليكم والطوافات2. وقال: لأن النص على العلة كالتصريح بوجوب القياس عنه. والثاني: أن تكون الأمة مجمعة على تعليل ما ورد به الخبر وإن اختلفوا في عليته. والثالث: أن يكون الحكم الذى ورد به الخبر موافقا للقياس على بعض الأصول وإن كان مخالفا للقياس3 على بعض الأصول كالخبر الواحد بالتحالف في المتبايعين إذا تبايعا   1 أي: خصال. 2 تقدم تخريجه. 3 في مسألة هل يجوز القياس على مايكون حكمه مخالفا للأصول والقواعد الواردة من جهة الشرع كالعرايا أم لا؟ فيه خلاف. ذهب جماعة من الشافعية والحنفية إلى جواز القياس عليه مطلقا إذا كان حكم الأصل مخالفا لبعض الأصول والقواعد كالعرايا ويجوز القياس عليه متى كان معقول المعنى سواء وافق أصلا آخر أو لم يوافقه. ومنهم من قال: متى كان حكم الأصل مخالفا لبعض الأصول والقواعد امتنع القياس عليه مطلقا كان معقول المعنى أو تعبديا نص على علته أو لم ينص عليها وافق أصلا آخر أو لم يوافقه ومن هؤلاء الآمدي وابن الحاجب أما الكرخي فقد اشترط الشروط التي ذكرها المصنف المحصول "2/429" انظر نهاية السول "4/320" سلم الوصول "4/321" إحكام الأحكام "4/142" المستصفى "2/347" أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "4/169". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 فإنه يخالف قياس الأصول ويقاس عليه الإجارات لأنه يوافق بعض الأصول وهو أن ما يملك على الغير فالقول قوله فيه في أنه أى شئ ملك عليه وقالوا: إذا كان في الشرع أصل يبيح القياس وأصل يحظره وكان الأصل جواز القياس وجب القياس وقالوا أيضا يجوز القياس على الأصل المخصوص إذا كان أحد لم يفصل بينه وبين المخصوص فيكون حكمه على ما خص من جملة القياس مثل جماع الناسى وأكل الناسى وقال محمد بن شجاع البلخى من أصحابهم: إذا كان الخبر الواحد بخلاف قياس الأصول غير مقطوع به لم يجز القياس عليه فاقتضى قوله هذا أنه إذا كان الخبر مقطوعا به جاز القياس عليه وقد قال أصحاب أبى حنيفة: إن مثال الذي يمنع من القياس عليه انتقاض الوضوء بالقهقهة في الصلاة1 وجواز التوضؤ بنبيذ التمر2 وجواز الثبات على الصلاة فيما إذا سبقه الحدث3 وذكروا أمثلة سوى هذا وذهبوا في تصحيح ما صاروا إليه إلى إثبات الشئ لا يصح مع وجود ما ينافيه. ببينة: أنه إذا جاز القياس على هذا الأصل لم يكن فرق بين هذا الأصل وبين سائر الأصول فكان يخرج حينئذ من كونه مخصوصا من جملة القياس قالوا وليس كما إذا ورد النص معللا لأنه إذا كان معللا يصير كل ما وجدت فيه تلك العلة كالمنصوص عليه وكان النبى صلى الله عليه وسلم قد أمرنا أن نقيس عليه كل ما شاركه في العلة فصار نصه عليه من قياس الأصول وكذلك إذا كان شيئا لا يفصل أحد بينه وبين المخصوص فإن الحكم في أحدهما يكون حكما في الآخر واحتج أبو بكر الرازى لهم وقال: إن القياس لما وجب القول به وجب أن يكون حكما ثابتا في جميع الأحوال حتى يخصه دليل يسقط حينئذ حكم القياس في الموضوع المخصوص ويبقى حكمه فيما عدا المخصوص على ما كان عليه وهذا معنى قول فقهائهم: إن القياس على الأصل المخصوص من القياس لا ينفك   1 انظر الهداية للميرغياني "1/16". 2 قال أبو حنيفة رحمه الله: يتوضأ بنبيذ التمر ولا يتيمم بالصعيد وقال في كتاب الصلاة: يتوضأ بنبيذ التمر وإن تيمم معه فهو أحب إلي. وقال أبو يوسف رحمه الله: يتيمم ولا يتوضأ بالنبيذ بحال وقال محمد رحمه الله: يجمع بينهما احتياطا - وروى أسد بن نجم ونوح بن أبي مريم والحسن عن أبي حنيفة أنه رجع إلى قول أبي يوسف انظر الفتاوى الهندية "1/21, 22". 3 مذهب الحنفية أنه إذا أصابه الحدث في ركوعه أو سجوده نوضأ وبنى ولا يعتد بالتي أحدث فيها انظر الهداية "1/65". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 عن أصل يعارضه يكون ساقطا لأن من شرطه انفكاكه عن المعارض لأن معارضة الدليل بالدليل توجب توقفه عن العمل قال أبو زيد في هذه المسألة حكم النص إذا ثبت على وجه يرده القياس الشرعى لكنه ترك بمعارضة النص إياه ومجيئه بخلافه لم يجز إثبات ذلك الحكم في فرع بالقياس عليه لأن القياس جاء نافيا لهذا الحكم فلم يجز إثباته كالنص إذا جاء نافيا لحكم لم يجز إثباته به وأما دليلنا هو أن ما ورد به الخبر أصل يجب العمل به فجاز أن يستنبط منه معنى ويقاس عليه دليله إذا لم يكن مخالفا للأصول والمعتمد أن ما ورد به الخبر صار أصلا بنفسه فالقياس عليه يكون كالقياس على سائر الأصول فقد تعارض قياسان قياس على هذا الأصل وقياس على سائر الأصول فكما يجوز أحدهما يجوز الآخر ثم على المجتهد أن يرجح أحد القياسين على صاحبة ويجوز أن يرجح القياس على سائر الأصول على القياس على هذا الأصل إذا كان هذا الأصل ثبت لا بدليل مقطوع به لأن القياس على ما طريقه يفيد العلم أولى من القياس على ما يفيد الظن فأما إذا كان هذا الأصل فقد صح القياس عليه ولا ترجيح بما قلنا: لأن الكل ثبت بدليل يفيد العلم فنطلب الترجيح بدليل آخر وهذا لأن أصول الشرع كلها سمعية فعلى هذا لا فرق بين هذا الأصل وبين سائر الأصول ويكون القياس على الكل واحد وقد قال الشافعى رحمة الله عليه: في بعض كتبه ملزما إياهم على هذا الأصل الذى ذكروه وهو أن المعدول من القياس لا يقاس عليه غيره قال: قد زعمتم أن القهقهة في الصلاة تنقض الوضوء واعتقدتم أن هذا معدول به عن القياس ثم زعمتم أنها تبطل صلاته ذات ركوع وسجود ولا تبطل صلاة الجنازة ولا ينقدح لكم فرق معنوى ولكنكم اعتمدتم قصة جرت في صلاة من الصلوات الخمس ورأيتم أن تقتصروا على مورد النص. ثم قلتم: إن القهقهه تبطل صلاة النفل وإن لم تجز القصة في النفل فليت شعرى ما الذى عن لكم من التخصيص من وجه والإلحاق من وجه وقال أيضا في مساق هذا الكلام اعتقدتم في التوضؤ بنبيذ التمر مع اشتمال كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لو صح الحديث على التنبيه على ذلك فإن صلى الله عليه وسلم قال: "ثمرة طيبة وماء طهور" 1. وهذا في الزبيب يوجد فيقال: زبيب طيب وماء طهور وقد قال: بعضهم محتجا لنا في   1 أخرجه أبو داود: الطهارة "1/21" ح "84" والترمذي: الطهارة "1/147" ح "88" وابن ماجة: الطهارة "1/135" ح "384" وقال: مدار الحديث على "أبي زيد" وهو مجهول عند أهل الحديث: المسند "1/582" ح "4295". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 هذه المسألة: إنه إذا كان عموم الكتاب لا يمنع من قياس في تخصيص فبأن يكون القياس على العموم لا يمنع من القياس على أصل مخالف للعموم أولى لأن العموم أقوى من القياس عليه فإذا كان العموم نفسه لا يمنع من قياس على أصل فإن أدى إلى تخصيصه فوجود القياس على ما يثبت بالعموم أو بأصل من الأصول كيف يمنع من القياس على أصل آخر فإنه أدى إلى تخصيص الأصول أما الجواب عن دلائلهم قوله إنه إثبات الشئ مع وجود ما ينافيه قلنا: ولم؟ قالوا: لأن القياس على الأصول يمانع القياس على ما ورد بخلاف الأصول. قلنا: هلا كان القياس على ما ورد بخلاف قياس الأصول يمانع القياس على الأصول. قالوا: إذا كان القياس على ما يخالف الأصول يمنع أن يدل أمارة على علة الحكم. قلنا: هذا دعوى لا دليل عليها وإذا جاز أن يدل على علة هذا القياس النص جاز أن يدل عليه دلالة غير النص فإن قيل: ما ورد بخلاف قياس الأصول وإن كان ورد بطريق يفيد العلم وصار أصلا لكن لا يجوز أن يكون في القوة بمثل القياس على سائر الأصول قلنا: وهذا دعوى أيضا وما أنكرتم أن يكون الخبر الوارد بخلاف قياس الأصول قد غير الحكم عما كان عليه من قبل لأنه لما كان ثبت بطريق معلوم صار أصلا في نفسه فلا يمتنع أن يقع التنبيه على علة ويكون التنبيه على علة أقوى من التنبيه على علة مطلوبة من سائر الأصول ثم يقال: لهم أليس قد جاز أن يدل عليها النص وهو أقوى وأظهر من علة الأصول فلم لا يجوز أن يدل عليهما دليل آخر ويكون أقوى من دليل علة الأصول وأما قولهم إن القياس إذا كان دليل الله وجب أن يثبت حكمه في جميع الأحوال حتى يخصه دليل قلنا: إذا كان القياس دليل الله عز وجل فالقياس الذى وجد على الأصل المخصوص قياس أيضا وجب أن يكون دليل الله تعالى فإن رجعوا وقالوا إن القياس على سائر الأصول يمنع من هذا القياس فقد أجبنا عن هذا وقلنا إنه ليس هذا القول باولى من قول من يقول إن القياس على هذا الأصل يمنع من القياس على سائر الأصول وقولهم إن القياس على المخصوص لا ينفك عن أصل يعارضه قلنا: هذا قول المتفقهة الذين لا تمييز لهم فليس لهم من الدرك ما يعرفون به الصحيح من السقيم ويميزون به الخبيث من الطيب وإلا فوجود المعارض لا يمنع صحة القياس لكن يقال: للمستدل سيره إلى الترجيح وإلى تقديم أحد العلتين على الأخرى بنوع دليل وأما الذى قاله أبو زيد فليس بشئ لأن القياس على سائر الأصول ليس يمنع من القياس على هذا الأصل لكن يعارضه ثم لابد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 من طلب الترجيح على ما سبق وليس إثبات هذا الفرع بالقياس إثبات شئ بالقياس يمنعه القياس بل الدليل الذى دل على كون القياس صحيحا مطلق لهذا القياس مصحح إياه ذلك الدليل لم يخص أصلا دون أصل ولا مانع فجاز القياس من غير تخصيص وما ينحسم به القول في هذه المسألة أن التعليل قد يمنع بنص الشارع على وجوب الاقتصار وإن كان لولا النص لأمكن التعليل وهو كقوله تعالى: {إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50] وقال صلى الله عليه وسلم: "إنما أحلت لي ساعة من نهار ثم عادت حرمتها كيوم خلق الله السموات والارض"1. وقال لأبى بردة بن يسار وقد جاء بجذع من شعر "يجزيك ولا يجزئ عن احد بعدك" فمهما منعنا نص عن القياس امتنعنا وكذلك لو فرض إجماع على هذا النحو وهو كالاتفاق على أن المريض لا يقصر وإن ساوى المسافر في الفطر فإذا لم يكن منع من هذه الجهات فالمتبع في جواز القياس أمكنا به على الشرائط التي ذكرنا من قبل والمتبع في منعه امتناعه وعدم تأبيه وقد قال الشافعى رضي الله عنه في بعض كتبه: ولا يقاس على المخصوص ويجوز أن يؤول فيقال أنه أراد هذا في الموضع الذى لا يمكن القياس عليه والأصل فيما يجوز القياس عليه وما لا يجوز أن ينظر إلى المخصوص ويمتحن فإن كان يتعدى معناه قيس عليه غيره كقياس الخنزير على الكلب في حكم الولوغ وقياس خف الحديد والخشب على خف الأدم على المسح عليه وإن لم يوجد في المخصوص وجه يمكن القياس عليه كالجنين لا يقاس عليه الشخص الملفوف في الثوب لأنه لا يعرف معنى في الجنين فقياس به الملفوف عليه والله أعلم. فصل واعلم أن الفصل الآخر الذى أشار إليه مما مرجوعه إلى مسألة إزالة النجاسة بغير الماء من المائعات وهو قوله: إن الأصل إذا علل ثبت الحكم في الفرع بالعلة وفي الأصل بالنص وقوله إن الأصل لا يتغير عما كان عليه والتعليل لا يتعرض له أصلا فهذا فصل لم أر أحدا من أصحابنا أورده ويجوز أن نسلم له ذلك ويجوز أن نخالف فيقال: إن التعديه بالعلة لا يتصور إلا بعد ثبوت العلة في الأصل المنصوص عليه وتحققها فيه ألا   1 أخرجه البخاري: العلم "1/238" ح "104" ومسلم: الحج "2/987" ح "446/1354" بنحوه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 ترى أن الأشياء الستة لما عللت لم يكن بد من ثبوت الطعم عندنا والكيل عندكم في الأصل. ثم تعدية كل واحد على اختلاف المذهبين في الفروع وأقل ما في العلل أنها أمارات على الأحكام فإذا علل الأصل فلابد أن يصير أمارة عليه ثم يتعدى فيصير أمارة على الأحكام في الفروع وإذا ثبت أن الوجود لابد منه في الأصل فنقول بعد هذا يجوز أن يقال: على ما زعموا ويجوز أن يقال: إن الحكم في الأصل يثبت بالنص للمعنى الذى تناوله التعليل وتصير العلة كالمنصوص عليها وقد ورد النص في مواضع دالا على الحكم مع ذكر المعنى فأما في الفرع يكون ثبوته بمحض المعنى وهذا جائز وروده مستقيم وجهه. وأما في مسألة إزالة النجاسة فعندنا إنما يعلل التعليل في تلك المسألة لأنا بينا أنه لابد من وجود العلة في الأصل: ثم التعدية وإذا عللنا للطهارة بالأدلة فلا شك أن طهارة الحدث تناولها النص ولم يوجد فيها الإزالة لأنه لا شئ يزال فبطل التعليل بالإزالة وإذا بطل لم يقبل التعدية وقد ذكر بعض أصحابنا فصلا في هذه المسألة أعنى مسألة النجاسة وأودعه أصول الفقه الذى صنفه. فقال: الذي ذهب إليه جماهير العلماء مع التزام القياس والقول به أن طهارة الحدث ليست بمعقولة المعنى. وذهب أبو حنيفه ومتبعوه إلى أن إزالة النجاسة معقولة المعنى1. وبنوا على هذا الفرق بين طهارة الحدث إذا تعين الماء لها وبين إزالة النجاسة فإن الغرض منها رفع عينها واستئصال أثرها فإذا رفع ذلك بأى مائع كان وقع موقعه قال واضطرب متبعوا الشافعى في ذلك فمذهب المتأخرين إلى أن طهارة الحدث مقعولة المعنى والغرض منها النظافة والتنقى عن الأدران والأوساخ وأوضحوا ذلك بتخييل يبتدره من يكتفى بظواهر الأمور فقالوا الأعضاء الظاهرة وهى الوجه واليدان إلى المرفقين والقدمان وبعض الساق في المهن والتصرفات تبدو وتظهر ويصادفها الغبرات وغيرها فورود الشرع بغسل هذه الأعضاء في مظان مخصوصة ومواقيت معلومة ومحاسن الشريعة تؤل في نهاياتها إلى أمثال ذلك والرأس مستورا بالعمامة غالبا وقد تبدو الناصية والمقاديم من المستروح إلى تحتية عمامته إلى هامته فلما كان ذلك أبعد اكتفى بالمسح فيه وعضد هؤلاء ما ذكروه بقوله تعالى: في سياق آية الوضوء {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6] ولا مسلك في نصب المظنونات إلى إثبات العلل أوقع وانجع من إيماء الشارع إلى   1 انظر البرهان لإمام الحرمين "21/911". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 التعليل وقوله تعالى: {لِيُطَهِّرَكُمْ} ظاهر في التعليل1 بما ذكرناه وأورد هؤلاء في هذا المعنى على أنفسهم التيمم وأجابوا عنه وقالوا: إن التيمم أقيم بدلا غير مقصود في نفسه ومن أمعن النظر ووفاه حقه تبين له أن الغرض في إقامة التيمم مقام الوضوء إدامة الدربة في إقامة [وظيفة] 2 الطهارة فإن الأسفار كثيرة الوقوع في أطوار الناس وإعوازا لها فيه ليس بالنادر فلو أقام الرجل الصلاة من غير طهارة ولا بدل عنها مرنت نفسه على إقامة الصلوات من غير طهارات والنفس ما عودتها تتعود فقد تفضى النفس إلى ركونها إلى هواها وانصرافها عن سراسم التكليف ومغزاه. ويسأل عن هذا فيقال: لو كان المعنى هذا وجب أن يقال: إذا توضأ وأسبغ وضوءه ثم عمد إلى تراب فيعفر به أو تطلى بالطين وجب أن بنتقض وضوءه فإنه إذا وجب الوضوء بتوقع الغبار فلأن يجب بتحقيقه أولى. وقد أجابوا عن هذا وقالوا: إن الأصول إذا تمهدت على قواعدها واسترسلت على حكم العرف المطرد فيها فلا التفات إلى ما يندر ويشذ ويقل في الناس من يتطلى وينتضح بالقاذورات فلا يعتبر هذا النادر الفارد3. فإن قال قائل: ما بال الوضوء يختص بوقوع الحدث وقد أجمع العلماء في الشرع أن الأحداث موجبة للوضوء وليست ملطخة لأعضاء الوضوء وقد أجابوا عن هذا فقالوا غاية هذا السؤال خروج وقت الوضوء عن كونه معقول المعنى وهذا لا ينافى كون أصله معقولا قال الإمام جمال الإسلام رحمه الله: وعندي أن هذا التعليل وتكلف الأسئلة ثم تكلف الجواب عنها شئ عظيم والأصح أنه لا يتمشى تعليل صحيح في إيجاب الوضوء بل الأصح أنه تعبد محض وتكليف من الله عز وجل لعباده من غير أن يتطرق إليه تعليل ولئن أمكن على التعبد وجه من المعنى فإذا لم يمكن تمشيته وطرده على المعنى المذكور فالأولى الإعراض عنه والنظر فيما سواه.   1 ذكره إمام الحرمين بنصه انظر البرهان "2/911, 912". 2 ثبت في الأصل: "وصيفة" والصواب ما أثبتناه. 3 الفارد: أي المتفرد انظر القلموس المحيط "1/319". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 فصل: في ضروب القياس ... فصل إذا عرفنا من يجوز له القياس وما يجوز فيه القياس فنقول لا شك أن القياس نظر شرعى لإثبات حكم شرعى إذا عرف أن النظر الشرعى أقساما فنقول: القياس على ضروب وقد جعلها ابن سريج ثمانية أقسام ومن أصحابنا من زاد على ذلك ومجموع ذلك وجهان على ظاهر جلى وخفى غامض فالجلي الواضح ما يعلم من غير معاناة فكر1 والخفى الغامض ما لا يتبين إلا بإعمال الفكر والروية2. والجلى الواضح على ضربين: المتناهى في الجلاء حتى لا يجوز ورود الشرع في الفرع بخلافه مثل قوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23] وكقوله تعالى: {مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} [فاطر: 13] وقوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 75] وكقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة: 8] ونحو هذا فإنه لا يجوز في المعقول أن يرد الشرع بتحريم التأفيف للوالدين وإباحة شتمهما وضربهما في تجويز تجويز ذلك إبطال النص من أصله وغير جائز أن لا يملكون من قطمير ويملكون ما فوق ذلك ولا أن يوفوا ثواب الذرة ويحرموا ما فوق ذلك والضرب الثانى من القياس الجلى دون هذا في الوضوح والجلاء وكان بحيث يجوز   1 القياس الجلى هو ماقطع فيه بنفى تأثير الفارق بين الأصل والفرع من قياس الأمة على العبد فإن الفارق بينهما هو الذكورة والأنوثة ونحن نقطع بأن الشارع لم يفرق في إحكام العتق بين الذكر والأنثى وعرفه الآمدي بأنه ماكانت العلة فيه منصوصة أو غير منصوصة غير أن الفارق بين الأصل والفرع مقطوع بنفى تأثيره انظر نهاية السول "4/27" إحكام الأحكام "4/3" انظر أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "4/45". 2 القياس الخفى هو مالم يقطع فيه بنفى تأثير الفارق بين الأصل والفرع مثل: قياس القتل بالمثقل على القتل بالمحدد بجامع القتل العمد العدوان ليثبت وجوب القصاص في المثقل كما وجب في المحدد فإن الفارق بينهما وهو كون أحدهما مثقلا والآخر محددا لم يقطع بإلغاء تأثيره من الشارع بل يجوز أن يكون الفارق مؤثرا ولذلك قال أبو حنيفة رضي الله عنه: لا يجب القصاص في القتل بالمثقل وعرفه الآمدي بأنه ما كانت العلة في مستنبة من حكم الأصل انظر إحكام الأحكام "4/3" أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "4/45". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 ورود الشرع في الفرع بخلاف ما في الأصل ومثال ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يقضى القاضي وهوغضبان" 1 ومعلوم بأوائل النظر أن ما يتأوى الغضب من جوع مفرط وألم مزعج ونوم مذهل بمنزلة الغضب في المنع من القضاء وأبعد من هذه تعليل ما كان من نحو قوله صلى الله عليه وسلم: "من أعتق شركا له في عبد فإن كان موسرا قوم عليه العبد" 2 قيمة عدل يعلم أن الجارية بمنزلة العبد لتساويهما في الرق وجاز مع ذلك أن يرد الشرع بالمخالفة بين الغضب والآلام في القضاء بين العبد والجارية في التقويم ومن الناس من زعم أن هذا ليس بقياس ولكنه من معقول الكلام ومجرى الخطاب وإلى هذا ذهب الكرخى ومن يتبعه من أصحاب أبى حنيفة وذكر عبد الجبار الهمذانى قالوا: وإنما قلنا ذلك لأن القياس لا يدركه من ليس بقائس وهذا يستدركه من ليس بقائس ويشترك في استدراكه الخاص والعام ولو كان قياسا لاختص به أهل النظر والاجتهاد ولأنه لو كان ما ذكروه من هذا قياسا لاحتاج إلى أصل وفرع وعلة ولما جاز أن يكون الفرع أقوى من أصله وقد علم كل أحد أن المعقول من قوله: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} أن الضرب والشتم أشد في المنع والتحريم من التأفيف والاصح أن ذلك ثابت من جهة القياس لأن غير المذكور لما علم بالمذكور على طريق الاعتبار فقد حصل معنى القياس وهذا لأن تحريم الشتم والضرب غير معقول من اللفظ لأنه لو عقل باللفظ لكان اللفظ موضوعا للمنع من الضرب والشتم إما في اللغة أو في العرف ومن البين أنه غير موضوع للمنع من الضرب والشتم في اللغة وكذلك في العرف لأن الناس لا يتعارفون هذا الاسم كذلك المعين فصار المنع من الضرب والشتم باعتبارهم بالتأفيف المنصوص عليه وبيان هذا أن الإنسان إذا سمع قول الله عز وجل: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً} [الإسراء: 23] علم أن هذا الكلام خرج مخرج الأمر بالإعظام لهما مع ما تقرر في الشرع من وجوب تعظيمهما وإذا علم هذا علم أن الله تعالى إنما نهى عن التأفيف لأنه ينافي التعظيم ولأنه إنما يفعل هذا القصد إلا استخفافا3 فعلم أنه   1 أخرجه البخاري: الأحكام "13/146" ح "7158" مسلم: الأقضية "3/1342" ح "16/1717" والنسائي: القضاء "8/216" "باب النهي عن أن يقضي في قضاء بقضاءين" بنحوه. 2 أخرجه البخاري: العتق "5/179" ح" 2521". 3 ثبت في الأصل "استخفاف" والصواب ما أثبتناه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 إنما نهى عن التأفيف لكونه أذى ويعلم أن الحكيم لا ينهى عن الشئ لعلة ويرخص ما فيه تلك العلة وزيادة بل يكون ذلك بالحظر والتحريم أولى فثبت ما قلنا وهو أن هذا من باب علم غير المذكور من المذكور بطريق الاعتبار فيكون بطريق القياس ولا ينكر سهولة مأخذ وقرب مسلك لهذا لأن هذا لا يخرجه عن كونه على طريق القياس لأن مراتب القياس قد تتفاوت في الجلاء والخفاء كما تتفاوت مراتب النصوص فمن ذلك ما يدرك بأول ما يفرع السمع ومن ذلك ما يحتاج إلى تأمل وتفكر وهذا الاختلاف لا يخرج ذلك عن كونه نصا وإنما يتميز النص من غير النص بما كان مذكورا في اسمه والقياس ما لا حظ له في الاسم وإنما أدرك معناه وأما الذى قالوه إن هذا لو كان قياسا لكان يحتاج إلى فرع وأصل وعلة وقد وجدها هنا لأن التأفيف أصل والضرب والشتم فرع والأذى علة وأما قوله إن غير القياس يعرف ذلك أو هذا مما يشترك في معرفته الخاص والعام قلنا: قد حققنا معنى القياس على ما سبق وهذا لأن هذا القياس في نهاية الجلاء والانكشاف فلأجل هذا اشترك في معرفته الخاص والعام ونقول إنه لا يعلم تحريم الشتم والضرب بهذا الخطاب إلا بالمقدمات التي قلناها إلا أن هذه المقدمات لا تحتاج إلى غامض محض فإن كثيرا من ذلك يعمله المكلف قبل الخطاب مثل قولنا: إن الحكيم لا يرخص فيما فيه علة المنع وزيادة ومثل قولنا: إن التعظيم مناف للأذى والاستخفاف وبعض ما قلناه إنما يعلم الإنسان مقترنا بالخطاب وذلك قولنا: إن هذا الخطاب خرج مخرج التعظيم فإذا كملت هذه المعانى لكل أحد جاز أن يسمى كل أحد قائسا لأن كونه قائسا يمنع هذه الأشياء فإذا وجدت كان قائسا كان عالما كان غير عالم وأما قولهم إن الفرع لا يجوز أن يريد بيانه على الأصل قلنا: الأغلب هذا الذى قلتم وغير ممتنع أن يوجد في بعض المواضع بخلاف هذا كما نقول الروم أعقل من الزنج والترك أشد بأسا من الهند وقد يوجد الواحد من الزنج أعقل وقد يوجد الواحد من الهند أشد بأسا وإنما يطرد الأمر على ما قالوه إذا كانت الدلالة واضحة بالأكثر على الأقل فأما إذا وقعت بالأقل على الأكثر فإن الفرع يصير في التقدير أقوى من الأصل وهذا كما نقول في الكفارة في القتل العمد فإنه أقوى في الوجوب من الكفارة في القتل الخطأ وإن كان الخطأ هو الأصل لأن النص تناوله وكما أن من يخرج الحنطة في صدقه الفطر وقوته الشعير فإنه يكون ذلك أقوى في وجه الجواز من إخراج الشعير وإن كان الأصل هو الشعير لمن قوته الشعير فإن قيل: لو علم ما قلتم بالقياس الجلى يجوز أن لا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 يعلم ذلك العاقل إذا منعه الله تعالى من القياس الشرعى قلنا لو منعنا الشرع النظر في المعانى أصلا لم يعلم ذلك فإن قيل قوله تعالى {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} [الزلزلة: 7] فإن ما اقتضاه اللفظ من الذرتين فما فوقهما إنما هو قضية الاسم لا قضية المعنى لأنه ذرة وذرة إلى أكثر من ذلك قلنا: قد يكون ذرة ونصف ذرة فلا يمكن التعلق بالاسم وهذا الذى قلناه غاية ما يمكن أن يقال: في هذه المسألة لكن الخلاف في هذه المسألة خلاف لفظى وليس فيها فائدة معنوية وبعد أن وافقونا في المعنى الذى قلناه فلا نبالى أن يسمى ذلك قياسا او لا يسمى وإنما بالغنا في إثبات الذى ادعيناه مع أنه ليس للخلاف فيه فائدة معنوية نصرة للشافعي فإنه قد نص في موضع أنه قياس مع وصفه بالجلاء والظهور وقد قيل: إن القياس الجلى ثلاثة أقسام: أولها: ما عرف من ظاهر النص بعد استدلال ولا يجوز إيراد التعبد به بخلاف أصله وقد بينا مثال ذلك. والقسم الثاني: ما عرف معناه بظاهر النص من غير استدلال لكن يجوز إن يرد التعبد فيه بخلاف أصله مثل النهى عن التضحية بالعوراء البين عورها والعرجاء البين عرجها فكانت العمياء قياسا على العوراء والقطعاء قياسا على العرجاء وإن جاز أن يرد التعبد بتحريم العوراء أو العرجاء وإباحة العمياء والقطعاء ومثل هذا أيضا نهى المحرم أن يلبس ثوبا مسه الورس والزعفران فكان الكافور والمسك على الزعفران والورس وإن جاز أن يرد التعبد بتحريم الورس والزعفران وإباحة المسك والكافور. والقسم الثالث: ما عرف معناه من ظاهر نص باستدلال ظاهر فعرف بمبادئ النظر مثل قوله تعالى في زنا الإماء: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] فجعل حدهن نصف حد الحرائر ولم يكن المعنى إلا نقصهن بالرق وكان العبد قياسا عليهن في تنصيف الحد إذا زنوا لنقصهم بالرق ومثاله أيضا قوله صلى الله عليه وسلم: "من أعتق شركا له في عبد" 1 كما بينا ومثاله أيضا قوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] وكان معنى نهيه تعالى عن البيع أنه شاغل عن الجمعة فصار عقود المناكح والإجارات وسائر المعاملات والصنائع نهيا عنها قياسا على البيع لأنه شاغله عن حضور الجمعة.   1 أخرجه البخاري: "5/156" ح "2491" ومسلم: العتق "2/1139" ح "1/1501". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 وأما القياس الخفى: فهو ما خفى معناه فلم يعرف إلا بالاستدلال. وهو على ثلاثة أقسام: أحدها: ما كان معناه لا يجاء باستدلال متفق عليه مثل قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ} وكانت عمات الآباء والأمهات محرما قياسا على الخالات لاشتراكهن في الرحم والمحرم ومثل قوله تعالى: في نفقة الولد في صغره {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] . وكانت نفقة الولد في عجزه عند كبره قياسا على نفقة الولد لعجز لصغره لاشتراكهما في البعضية والمعنى في هذا لائح لتردده بين الجلى والخفى وهو في أقسام الخفى بمنزلة القسم الأول من أقسام الجلي. والقسم الثاني: ما كان معناه غامضا لتقابل المعنيين أو لتقابل المعانى مثل تعليل الربا في البر المنصوص عليه إما بالطعم أو بالكيل أو القوت ولابد من ترجيح أحد هذه المعانى على الآخر من طريق المعنى الذى يكون دالا على التحريم. والقسم الثالث: ما كان سببها لحاح يضمنه ومعناه إلى الاستدلال ومثاله ما روى أن النبى صلى الله عليه وسلم قضى أن الخراج1 بالضمان فعلم بالاستدلال أن الخراج هو المنفعة فإن الضمان هو ضمان المبيع بالثمن ثم الكلام في تلك المنفعة أنها عبارة عن ماذا يعرف في مسائل الفقه وهذه ثلاثة أقسام من أقسام القياس الخفى واعلم أنا إنما ذكرنا قياس المعنى فأما قياس الشبه فله باب يذكر فيه ولابد من زيادة شرح ليحصل معرفة الصحيح من ذلك والفاسد وسيأتى بمشيئة الله تعالى.   1 أخرجه ابو داود: البيوع "3/282" ح "3508" والترمذي: البيوع "3/572" ح "1285" وقال: حسن صحيح والنسائي: البيوع "7/223" "باب الخراج بالضمان" وابن ماجه: التجارات "2/754" ح "2243" وأحمد: المسند "6/56" ح "24279". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 فصل في أقسام طريق العلل الشرعية اعلم أن للعلل الشرعية طرقا كثيرة في الشرع وقد يكون ذلك من جهه اللفظ وقد يكون من جهه الاستنباط فأما الطريق من جهه اللفظ وقد يكون من جهه الصريح وقد يكون من جهة التنبييه فإما الصريح مثل قول القائل: أوجبت عليك كذا لعلة كذا ومثل قوله أوجبت عليك كذا لأنه كذا أو لأجل كذا أو لكى يكون كذا وها دون الأول في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 التصريح وروى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنما نهيتك لأجل الرأفة" 1وقال تعالى: {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7] وأما الألفاظ المنبهة على العلة فضروب: منها: فوله صلى الله عليه وسلم في المحرم الذي وقصت به ناقته "لا تخمروا رأسه ولا تقربوه طيبا فإنه يبعث يوم القايمه ملبيا" 2 وهذا من باب تعليق الحكم على علته بلفظ الفاء وقد تدخل الفاء على العلة والحكم متقدم وقد تدخل الفاء على الحكم والعلة متقدمة مثل قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] "ومثله قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] "وقال الله تعالى: {فَإِنْ كَانَ الذي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282] فهذا دليل على أن العلة في قيام وليه بالإملاء هو أنه لا يتطيع أيمل هو ومن هذا الضرب ما روى أن النبى صلى الله عليه وسلم سهى وسجد3 وزنا ماعز فرجمه رسول الله صلى الله عليه وسلم4 ومن ضروب التنبيه أن يسأل النبى صلى الله عليه وسلم عن حكم شئ ويذكر السائل صفة ذلك الشئ: مما يجوز كونها علة مؤثرة في ذلك الحكم فيجيب النبى صلى الله عليه وسلم عند سماع تلك الصفة يدل أن العلة تلك الصفة ومثال هذا قول القائل للنبى صلى الله عليه وسلم واقعت أهلى في نهار رمضان وقول النبى صلى الله عليه وسلم في الجواب: "أعتق رقبة" 5 وقد يكون هذا في لفط الإفطار أن يثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم. ومن ضروب التنبيه: أن لا يكون لذكر الوصف فائدة لو لم يكن ععلة فمن ذلك أن يكون الوصف مذكورا بلفظ أن كما روى أن النبى صلى الله عليه وسلم امتنع من الدخول على قوم عندهم كلب. فقيل له: إنك تدخل على آل فلان وعندهم هرة. فقال: "إنها ليست نجسة إنها من الطوافين عليكم والطوافات" 6. فلو لك يكن لكونها من الطرفين تأثير في   1 أخرجه مسلم: الأضاحي "3/1561" ح "1971" وأبو داود: الضحايا "3/99" ح "2812" والنسائي: الضحايا "7/207" "باب الادخار من الأضاحي". 2 أخرجه البخاري: الصيد "4/77" ح "1851" ومسلم: الحج "2/866" ح "99/1206". 3 أخرجه البخاري: السهو "3/116" ح "1227" ومسلم: المساجد "1/403" ح "97/573". 4 أخرجه البخاري: الحدود "12/138" ح "6824" ومسلم: الحدود "3/1319" ح "17/1692". 5 أخرجه البخاري: النكاح "9/423" ح "5368" ومسلم: الصيام "2/781" ح "81/1111". 6 أخرجه الدارقطني: سننه "1/63" ح "5" والبيهقي في الكبرى "1/377" ح "1176" بنحوه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 طهارتها لم يكن لذكره عقيب حكمه بطهارته فائدة. ومن ذلك: أن يوصف المحكم فيه بصفة قد كان يمكن الإخلال بتركها فعلم أنها ما ذكرت إلا لأنها علة وذلك مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "تمرة طيبة وماء طهور" 1 ومن ضروب التنبيه قوله صلى الله عليه وسلم حسن سئل عن بيع الرطب بالتمر قال: "أينقص الرطب إذا جف؟ " قيل: نعم قال: "فلا إذا" 2 فلو لم يكن نقصانه عند اليبس علة للمنع من البيع لم يكن لذكره معنى. ومن التنبية أيضا قوله صلى الله عليه وسلم لعمر رضى الله عنه وقد سأله عن قبلة الصائم: "أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته" 3. فعلم أنه إنما لم يفسد الصوم بالقبلة والمضمضة لآنه لم يحل ما يتبعها من الإنزال والإزدراء. ومن ضروب التنبيه قوله صلى الله عليه وسلم: "لايرث القاتل" 4 وقوله صلى الله عليه وسلم: " لايقضى القاضي" 5 الخبر ووجه التنبيه: أنه لما تقدم بيان إرث الورثة فلما قال: "لا يرث القاتل" مفرقا بينه وبين جميع الورثة على أن القتل علة في منع الإرث وكذلك في اللفظ الثانى لما تقدم أمر القاضي بأن يقضى فإذا منع من أن يقضى وهو غضبان علم أن الغضب علة في المنع منه. ومن ضروب التنبيه قوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم بعد أن يكون يدا بيد" 6 فلما قال هذا البعد نهيه عن بيع البر متفاضلا دل أن اختلاف الجنس العلة في أن يجوز7 البيع. ومن ذلك قوله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ   1 تقدم تخريجه. 2 أخرجه أبو داود: البيوع "3/248" ح "3359" والترمذي البيوع "3/519" ح "1225" وقال: حسن صحيح: والنسائي: البيوع "7/236" "بابا اشتراء التمر الرطب". 3 تقدم تخريجه. 4 أخرجه أبو داود: الديات "4/187, 188" ح "4564" والدارمي: الفرائض "2/478" ح "3080" وأحمد: المسند "1/61" ح "348". 5 تقدم تخريجه. 6 أخرجه مسلم "31211" ح "81/ 1587" وأبو داود: البيوع "3/246" ح "3350" ولفظهما: "فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد". 7 ثبت في الأصل "جواز" ولعل الصواب ما أثبتناه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89] فدل أن تعقيد اليمين علة المؤاخذة. ومن ضروب التنبيه قوله صلى الله عليه وسلم: "للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهم" 1 فإذا استأنف أحد السببين بذكر صفة من الصفات فقد ذكر الآخر وتلك الصفة يجوز أن تؤثر في الحكم دل أنه علة. ومن ضروب التنبيه قوله تعالى: {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] لما أوجب علينا السعى ثم نهى عن البيع المانع من السعى علمنا أنه إنما نهانا لأنه مانع من الواجب. واعلم: أن هذه الوجوه ذكرها المتكلمون من الأصوليين والكلام على مجال ونحن إذا بينا العلل الصحيحة ووجوه تأثيرها في الأحكام عرف عند ذلك صحيح العلل من فاسدها وعلى الجملة لا بأس بذكر هذه الضروب لأن هذه العلل علل من النصوص وطلب الفوائد من النصوص واجب فإذا أمكن استفادة علة من نص صاحب الشرع فلا مترك لها كما أنه إذا أمكن استفادة حكم منه فلا معرض عنه وقد ذكرنا في مسألة علة الربا أنا عللنا كون الطعم علة بالنص وجعلنا ذلك أحد فوائد النص وذكرنا أن بيان التأثير غير واجب علمنا بعد أن ثبت لنا كونه علة أحد فوائد النص لأن طلب الفوائد لما وجب وكان كون الطعم علة إحدى فوائده سقط عنا بيان تأثيره وهذه طرقة حسنة ذكرناها في الخلافيات ولا بأس بالاعتماد عليها وإن اخترنا بيان التأثير فقد ذكرنا أن التأثير في الطعم وبلغنا غاية الإمكان وكلتا الطريقتين حسنتان معتمدتان ومن الله العون.   1 أخرجه البخاري: المغازي "7/553" ح "4228" ومسلم: الجهاد "3/1383" ح "57/1762" وابن ماجه: الجهاد "2/952" ح "2854" والدارمي: السير "2/297" ح "2472". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 فصل: ما يشتمل عليه القياس ... "فصل" إذا عرفنا أقسام القياس رجعنا إلى بيان ما يشتمل عليه القياس فنقول: إن القياس يشتمل على أربعة أشياء على الأصل والفرع والعلة والحكم. ونمثل مثالا لنعرف هذه الأشياء الأربعة فنقول إذا قسنا الأرز على البر في جريان الربا والنبيذ على الخمر في التحريم فالأصل هو البر أو الخمر والفرع هو الأرز أو النبيذ والعلة الطعم أو الشدة والحكم جريان الربا ويقال حرمة الفضل في الأول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 وحرمة الشرب في الثاني. قال أبو زيد: لابد للقياس من أصول [بل] 1 وهم شهود الله تعالى على أحكامه فيما لا نص فيها ولابد من وصف جامع بين الأصل والفرع وهو الشهادة ولابد من قائس وهو طالب معرفة الحكم المحتاج إليه فشهادة الجامع بين الأصل والفرع ولابد من حكم يثبت لديه ليحكم به وهو القلب ولابد من شهود وهو الحكم المطلوب ولابد من صلاح الشاهد للشهادة كما في شهود المعاملات صلاحهم للشهادة بالحرية والعقل والبلوغ2 كذلك الأصل يجب أن يكون صالحا للتعليل ولابد من اعتبار الوصف صالحاكما يعتبر لفظ الشاهد ولابد من اعتبار العدالة كما في الشاهد والعدالة ها هنا هو التأثير ولابد من مشهود عليه وهو البدن واللسان فاللسان يلزم الإقرار بحكم تلك الشهادة والبدن يلزمه العمل به وهذا إذا حاج نفسه فأما إذا حاج غيره فمثال المتناظرين مثل المتخاصمين في حقوق الناس بالمجيب حقوق الناس بمنزلة المدعي والسائل بمنزلة المنكر والقياس شهادة والأصل شاهد والمجيب مستشهد والحكم مشهود به والسائل بلسانه وبدنه مشهود عليه والقلب منه حاكم عليه وتأثير الوصف عدالة ظاهرة وهذا الذى ذكره هذا الرجل تكلف شديد وليس يليق بالمحققين وقد دخل في أثناء هذه التفاصيل ما لا يمكن تحقيق معناه على انفراده وقد نقلته على ما أورده. قال وقد خالفنا الشافعى رحمة الله عليه في بعض ما ذكرنا على ما نذكر في تفاصيل هذه الحملة وما ذكرناه من الأشياء الأربعة كاف في معرفة ما يشتمل عليه القياس لأن القياس إلحاق فرع مجهول بأصل معلوم لحكم مطلوب بعلة جامعة والمثال ما بينا أن البر أصل والأرز فرع والطعم علة والربا حكم ولابد أن نفرد لهذه الأشياء الأربعة لكل منها فصلا.   1 طمس في الأصل ولعله ما أثبتناه. 2 شروط الشهادة سبعة: الحرية والبلوغ والعدالة وأن يكون متيقظا حافظا لما يشهد به وأن يكون ذا مروءة وانتفاء الموانع انظر المغني "12/27, 28, 29, 30". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 أما فصل: الأصل فنقول: أعلم أن الأصل يستعمله الفقهاء في أمرين: في أصول الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع فيقولون: هى الأصل وما سوى ذلك من القياس ودليل الخطاب وفحوى الخطاب معقول الأصل ويستعملون اسم الأصل في الشئ الذي يقاس عليه كالخمر أصل النبيذ والبر أصل الأرز. وحد الأصل: ما عرف حكمه بنفسه أو ما عرف به حكم غيره ومن مثبتى القياس من جوز أن يكون القياس بغير أصل وهذا قول من خلط الاجتهاد بالقياس. والصحيح: أنه لابد له من أصل لأن الفرع لا يتفرع إلا عن أصول لوقوع الفرق بين الأصول والفروع. والأصل: ضربان معلول وغير معلول. فأما غير المعلول فما لم يعقل معناه كأعداد الركعات واختصاص الصيام بشهر رمضان وغير ذلك وقد سبق بيان هذه القصة وأما المعلول فهو ما عقل معناه وهو ضربان متعد وغير متعد. فأما غير المتعد فهو ما عدم معناه في غيره فوقف حكمه على نصه كتعلل الذهب والفضة أنهما أسمان فهذا لا يوجد معناها في غيرهما فوقف الحكم عليها وعند أبى حنيفة وأصحابه لا يكون غير المتعدية علة بحال وقد سبق الكلام في هذا الفصل. وقد قال أبو زيد: في تقويم الأدلة في العبادة عن الخلاف في هذه المسألة قال علماؤنا حكم العلة تعدية النص المعلل إلى فرع لا نص فيه وقال أصحاب الشافعى حكم العلة تعلق حكم النص بالوصف الذى يتبين علة. قال: فعلى هذا العلة إذا لم تكن متعدية كانت فاسدة. قال: فإما الذين قالوا إن حكم العلة هو تعلق الحكمية فقد شبهوا هذه العلل بالعلة العقلية فإنها لا تعرف عللا إلا بتعلق أحكامها بها فكذلك العلل الشرعية إذا كانت منقولة عن الشارع قال والجواب عن هذا وهو الطريق في المسألة أن النص لا يجوز تعليله بعلة تغير حكم النص بنفسه وإذا كان كذلك وجب أن يبقى الحكم بعد التعليل على ما كان قبل التعليل وهو أن يكون وجوبه مضافا إلى النص دون العلة فإنك متى قصدت الإضافة إلى العلة كنت قد غيرت حكم النص عما كان قبل التعليل ولأن العلة لما لم تشرع حجة إلا بعد النص الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 صارت لغوا مع النص وإذا صارت لغوا لم يجز تعليق الحكم بها وإذا ثبتتا بهذا تبين بهذا أن حكم العلة التعدية لا غير ونظيره من العقود الحوالة ما لها حاكم سوى التحويل من ذمة إلى ذمة ونحن قد أجبنا عن هذا وبينا صحة مثل هذه العلة وذكرنا فائدتها فلا معنى للإعادة. والحرف لنا: أن التعليل عندنا إذا أفاد حكم بصحته فيكون لتعدية الحكم تارة ويكون لقصر الحكم على المنصوص عليه تارة وقد سبق بيان هذا رجعنا إلى ما كنا فيه. وأما التعليل المتعدى فوجود ومعناه في غيره كتعليل غير البر والشعير في الطعم والكيل الموجود في البر والشعير فهو أصل في نفسه وأصل لغيره فيجوز مثل هذا أن يكون أصلا للقياس وسواء أجمع القائسون على تعليله وهذا فاسد من وجهين: أحدهما: أنه لو روعى انعقاد الإجماع على تعليله لبطل القياس لأن نفاة القياس ممتنعون من تعليل الأحكام. والثاني: أنه لو روعى انعقاد الإجماع على تعليله لروعى انعقاد الإجماع على علته ولو روعي هذ لما استقر قياس إلا بالإجماع وهذا مدفوع بالإجماع. والجملة أن عندنا كل أصل يوجدد معناه في غيره جاز القياس عليه سواء كان ما ورد به النص مجمعا على تعليله أو مختلفا فيه وكذلك سواء كان موافقا لقياس الأصول أو مخالفا وكلا الأصلين قد سبق وهذا الذى قلناه في الأصل الذى عرف بالنص فأما ما عرف بالإجماع فحكمه حكم ثابت بالنص في جواز القياس عليه على التفصيل الذى قلناه في النص. ومن أصحابنا من قال: لا يجوز القياس عليه ما لم يعرف النص الذى أجمعوا لأجله وهذا غير صحيح لأن الإجماع أصل في إثبات الأحكام كالنص فإذا جاز القياس على ما ثبت بالنص جاز على ما ثبت بالإجماع وأما ما ثبت بالقياس على غيره فهل يجوز أن يستنبط منه معنى غير المعنى الذى قيس به على غيره ويقاس عليه غيره اختلف أصحابنا في ذلك: والصحيح أنه لايجوز لأنه إثبات حكم في الفرع بغير علة للأصل وذلك لا يجوز. ومثال هذا: أنا نقيس الأرز على البر بعلة الطعم فلو استخرج من الأرز معنى لا يوجد في البر وقيس عليه غيره في الربا فهذا محال لأختلاف الأصحاب وقد ذكرنا أن الصحيح أنه لا يجوز لأن علة جريان الربا في الأرز الطعم فلو استخرج منه معنى سوى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 الطعم وقيس عليه غيره أدى إلى ما ذكرنا وهو إثبات الحكم في الفرع بغير علة الأصل وهذا لأن الفرع ما شارك أصله في علة حكمه فإذا لم يشارك لم يكن فرعا وأما إذا قاس الأرز على البر بعلة الطعم ثم قاس الذرة على الأرز بعلة الطعم فهذا لا معنى له لأن الذرة والأرز جميعا فرعان للبر فإذا جعل الذرة فرعا للأرز لم يكن هذا أولى بأن يجعل الأرز فرعا للذرة وإذا لم يكن أحدهما أولى من الآخر وجب أن يكونا جميعا فرعين للبر. فإن قال قائل: ما قولكم في الأصل في حكم الربا أهو النص أم البر؟ قلنا: قد اختلفت الفقهاء والمتكلمين في هذا: قال بعضهم: الخبر هو الأصل للبر ولكل مطعوم ومكيل لأن الحكم مأخوذ منه فصار أصل الكيل هو الخبر. وقال بعضهم: الأصل هو الحكم المعلل لثبوت الربا لأنه المطلوب في الفرع فكان هو الأصل في الفرع. والصحيح: هو المذهب الثانى وتمامه أن الخبر أصل للبر والبر أصل لكل ما يقاس عليه وهذا ظاهر حسن فليعتمد عليه إذا عرفنا هذه الأصول التي يقاس عليها فنقول ما لا يثبت من الأصول مأخذ هذه الطرق أو كان يثبت ثم نسخ فلا يجوز القياس عليه لأن الفرع إنما يجعل فرعا لأصل ثابت فإذا كان الأصل غير ثابت لم يجز إثبات الفرع من جهته. وقال أبو زيد في هذا الفصل: مذهب علمائنا أن الأصول كلها معلولة ولا يجب العمل مما جعل علة أوصاف الأصل إلا بدليل يميز به بين علته وبين غيره من الأوصاف ومع وجود هذا أيضا لا يجب العمل بها إلا بدليل يدل على كون الأصل شاهدا للحال. وحكى عن الشافعى رضي الله عنه أن الأول يجب وهو الذى يميز الوصف الذى هو علة من غيره ولا يجب أكثر من هذا. واستدل فيما اختاره وفسره وقال: مع هذا الذى ذكره الشافعى يحتاج إلى دليل يدل على كون الأصل شاهدا يعمل بشهادته لأن الأصول وإن كانت معلولة في الأصل بالدلائل الموجبة للقياس فقد احتمل واحدا بعينه من بين الجملة أن لا يكون معلولا وقد وجد بالإجماع نصوص غير معلولة فلا يكون حجة على الفرع مع قيام هذا الاحتمال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 حتتى يقوم دليل يدل على كونه شاهدا للحال. كالرجل المجهول الحال إذا شهد قبلت شهادته وإذا طعن الخصم في حريته لم يصر حجة عليه لكونه حرا في الأصل إلا بدليل يوجب حريته في الحال لأن حرية الأصل تحتمل التغيير بعارض فلم يكن حجة على غيره بحال. فإن قيل: أليس النبى صلى الله عليه وسلم قدوة أمته فما كان له وعليه وقد احتمل أن يكون مخصوصا ومع ذلك صار فعله حجة عل غيره أجاب وقال: إن الحجة في الابتداء فيه كونه نبيا وما اختلف الحال في كونه مقتدى به على كل حال والخصوص ثبت بدليله في بعض أحواله وأفعاله فبقى الباقى على عمومه كالنص إذا خص منه شئ فإن الباقى يبقى على عمومه وأما هاهنا فإن النص المعلول هو الشاهد بعلته وقد احتمل في نفسه أن لا يكون معلولا بعارض كالشاهد هو حجة بشهادته واحتمل أن لا يكون حجة بعارض رق أو غيره وإذا احتمل على هذا الوجه فلابد من دليل. قال: ومثال هذا أنا متى عللنا حرمة الفضل في الذهب بالذهب بكونه موزونا احتجنا إلى بيان أنه معلول بهذا الوصف بدليل يوجب له غير الدلائل المصححة للقياس وذكر في هذا فصلا طويلا اقتصرنا على هذا القدر. واعلم: أن هذا الذى ذكره ليس بشرط بعد أن يظهر تأثير الوصف فمتى ظهر التأثير للوصف الذى جعل علة وامتاز بالتأثير عن غيره من الأوصاف وقع الاكتفاء بذلك وأما قولهم إنه يحتمل ألا يكون هذا الأصل معللا ويحتمل أن يكون معللا قلنا ما استوى الاحتمالان لأن الأصل الذى نعرفه في الشرع أن كل أصل أمكن تعليله جاز ألا يمنع مانع من تعطيله يدل عليه أن الدلائل التي دلت على صحة التعليل دلت على تعليل كل أصل لأن الدلائل لا تخصيص فيها فإن عرض عارض دليل أنه لا يعلل أصل من الأصول لا يجب التوقف في سائر الأصول ألا ترى أن العموم حجة وقد خص بعض العمومات ثم بأن خص بعض العمومات لا يدل على أنه يجب التوقف في كل عموم حتى يدل الدليل أنه غير مخصوص وأظهر من هذا أمر النبى صلى الله عليه وسلم فإن الخصوصية في حقه محتملة ومع ذلك لا يعتبر هذا الاحتمال بل اعتبر الأصل المعهود وهو أنه قدوة إلا أن يقوم الدليل على خلافه في موضع وقولهم إنه لا خلاف في كونه مقتدى به وهذا الوصف منه لا يحتمل غيره وفى مسألتنا وجد الاحتمال في هذا الأصل أنه غير معلول قلنا نعم لا اختلاف أنه مقتدى به في الجملة وكذلك الاحتمال عن إطلاق كونه قدوة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 فأما في كل شئ بعينه فيحتمل أنه مخصوص به ويحتمل أنه غير مخصوص به فلا فرق بين الفصلين بوجه ومن هذا الأصل نقول: إن تحريم الخمر معلول وهم يقولون: ليس بمعلول ويطالبون بإقامة الدليل أنه معلول ونحن نقول الدلائل التي دلت على صحة القياس لم تخص محلا دون محل وكل أصل أمكن تعليله بعلة مؤثرة وجب تعليله والتأثير في تعليل الخمر بالشدة في نهاية القوة يدل أنها المحرمة وإذا عرفنا وفرغنا عن هذا الأصل بذكر الفصل الثانى وهو الكلام في فروع القياس فالفرع في القياس ما ألحق بأصل أخذ حكمه منه وقد يكون الفرع على نوعين فرع معنى معلول وفرع شبه متماثل وقد أنكر بعض القائسين بأن يكون المشبه لأصله فرعا في حكمه فابطل فرع الشبه وأثبت فرع المعنى ولم يجعل الفروع إلا ما شاركت الأصل في المعانى دون الأشباه وعكس هذا آخرون وأثبتوا فرع الشبه وأنكروا فرع المعنى وذهب الأكثرون إلى تصحيح كليهما وأثبتوا فرع المعنى وفرع الشبه وسنبين الصحيح من ذلك واعلم أن الذى يلزم في فرع المعنى أن يكون مشاركا لأصله في المعنى الذى جعل علة الحكم. وأما اختلافهما فيما عدا ذلك من المعاني لا يؤثر فقد تكون الصلاة أصلا للحج في أحكام وورد النص عليها في الصلاة لاشتركهما في معانى تلك الأحكام وإن اختلفا فيما عدا ذلك من المعانى وكذا الحج مع الصلاة والذى يلزم من فرع الشبه أن يجتمع الأصل والفرع في أكثر الأشباه وأغلبها وأقواها ولا يلزم أن يجتمعا في جميع الشبه لأنه يكون هو ولا يكون بينهما فرع ولا أصل وقد ذكر. ومثال ذلك: إلحاق العبد بالحر في وجوب القصاص في النفس والأطراف ووجوب الكفارة وكذلك إلحاق العبد بالأمة في تنصيف الحد وإلحاق الجواميس بالبقر في الزكاة وقد يكون الشبه في صورة الذات وقد يكون الشبه في حكم الذات والأمثلة التي قلناها في العبيد والأحرار والبقر والجواميس لبيان الشبه في صورة الذات. وأما الأمثلة للشبه في حكم الذات كإلحاق الوطء بالشبهة بالوطء في النكاح لاشتباههما في الأحكام وكذلك إلحاق المكاتب بالحر وأما العبد في تمليك المال فإن ألحق بالحر في ثبوت ملكه فبقياس الشبه في حكم الذات وليس يمتنع أن نجمع بين الشبهين في الصورة والحكم فيحكم بكل واحد منهما في موضعه بما يقتضيه ثم إذا عرف معنى فرع المعنى وفرع الشبه يكونان متشاركين لأصلهما في صفة الحكم المطلوب بهما من وجوب وإسقاط وتحليل وتحريم وإن اختلفا في طريق الحكم بالمعنى والشبه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 فيكون في الأصل معلوما وفى الفرع مظنونا وسيأتى في ذلك فرع المعنى وفرع الشبه وحين فرغنا من هذا الأصل وهو بيان الفرع فنذكره بعده. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 فصل: القول في علة القياس ... الفصل الثالث: وهو القول في علة القياس وفيه الكلام الكثير وقد وقع فيه الخبط العظيم ولابد أن نعتبر في ذلك زيادة اعتناء ليظهر ما هو الحق من ذلك بعون الله تعالى وتوفيقه. واعلم أن العلة1 مأخوذة في اللغة من العلة التي هى المرض لأن لهذه العلة تأثير بيان الحكم كتأثير العلة في ذات المريض وقيل: سميت العلة علة لأنها ناقلة بحكم الأصل إلى الفرع كالانتقال بالعلة من الصحة إلى المرض. والأول أحسن لأنا بينا أن غير المتعدية من العلة تكون علة وقيل إن العلة مأخوذة من العلل بعد النهل وهو معاودة شرب الماء مرة بعد مرة لأن المجتهد في استخراجها يعاود النظر بعد النظر. وأما حد العلة: فقد قالوا: إنها الصفة الجالبة للحكم. وقيل: إنها المعنى المثير للحكم2. واعلم: أن علة الحكم شرط في صحة القياس ليجمع بها بين الأصل والفرع وذهب بعض القائسين من أصحاب أبى حنيفه وغيرهم إلى أن القياس يصح بغير علة إذا لاح بعض الشبه احتجاجا بأن الصحابة حين قاسوا لم يعللوا وإنما شبهوا فجمعوا بين الشئ والشئ لمجرد التشبيه من غير تعليل مثلما فعلوا بالجد والإخوة وغير ذلك. وذهب جمهور القائسين من الفقهاء والمتكلمين إلى أن العلة لابد منها في القياس وهو ركن القياس ولا يقوم القياس إلا بها والدليل على ذلك أنه لا يخلو إما أن يرد الفرع إلى الأصل بسبب جامع بينهما أو بغير سبب ولا يجوز أن يكون بغير سبب لأنه لا   1 ثبت في الأصل اللغة ولعل الصواب ما أثبتناه. 2 اختلف الأصوليون في تعريف العلة: عرفها الرازي بأنها المعرفة للحكم انظر المحصول "2/311" الأحكام "3/289". عرفها الغزالي بقوله: الوصف المؤثر في الحكم لا بذاته بل يجعل الشرع عرفها الآمدي بأنها الوصف الباعث على الحكم انظر المحصول "2/311" الأحكام "3/289" نهاية السول "4/54, 55" أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "4/61, 62, 63". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 يكون رده إلى أصل بأولى من رده إلى غيره فلا يتعين الأصل وإن كان بسبب فلابد أن يكون ذلك السبب متعينا لأن السبب المجهول لا يكون شيئا فلم يبق إلا أن يكون بسبب معين ثم ذلك السبب المعين عندنا في الجمع هو العلة فإن سموه علة فقد وقع الاتفاق وإن لم يسموه علة فقد وقع الاتفاق في أنه لابد من جامع فالنزاع في الاسم مع الاتفاق في المعنى مصرح وأما الصحابة فقد عللوا تارة وأرسلوا الشبه أخرى قال على رضى الله عنه في حد الخمر: إنه إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى وحد المفترى ثمانون1. فقد ذكر التعليل. وقالت الصحابة لأبى بكر -رضى الله عنهم-: "رضيك رسول الله صلى الله عليه وسلم لدينا فرضيناك لدينانا" وأما إذا أرسلوا إرسالا فهو تنبيه على القائس وليس بقياس وإذا ثبت أنه لابد من العلة في صحة القياس فتقدم مسألة الطرد وكلام الفقهاء في ذلك. مسألة: أعلم أن الطرد ليس بحجة والتمسك به باطل: وهو الذى لا يناسب الحكم ولا يشعر به2 وكذلك الاطراد لا يكون دليل صحة العلة وبالغ القاضى أبو بكر محمد بن الطيب في التغليظ على من يعتقد ربط حكم الله تعالى به وقال بعض أصحابنا وطائفة من أصحاب أبى حنيفة أنه حجة3 ذكره الشيخ أبو إسحاق في التبصرة عن أبى بكر الصيرفى وسمى أبو زيد الذين يجعلون الطرد حجة والاطراد دليلا على صحة العلة حشوية أهل القياس قال: ولا يعد هؤلاء من جملة الفقهاء واحتج من قال: إن الطرد حجة بالأدلة التي دلت على أن القياس حجة وقالوا إنها لم تخص وصفا دون وصف وهذا لأن علل الشرع أمارات على الأحكام وليست   1 تقدم تخريجه. 2 الطرد: مصدر بمعنى الاطراد ومعناه وجود الحكم مع وجود الوصف الذي لا مناسبة بينه وبين الحكم لا باذات ولا بالتبع في جميع الصور ماعدا الصورة المتنازع فيها انظر نهاية السول "4/135" البرهان "2/788" المحصول "2/355" أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "4/115". 3 اختلف الأصوليون في كون الطرد مفيدا للعلية: فذهب أكثر منهم الآمدي وابن الحاجب إلى أنه لا يفيدها ولا يكون حجة وذهب جماعة منهم الرازي والبيضاوي إلى أنه مفيد للعلية ويحتج به فيها نهاية السول "4/135" البرهان "2/788, 789" أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "4/117". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 من قبل العلل العقلية فصح تعليقها بالصور وتصير تلك الصور أمارات على الأحكام كالنصوص التي ترد في أحكام ولا يعقل معانيها فهذه العلل مثل تلك النصوص في الأحكام. واستدل من قال: إن الإطراد دليل صحة العلة قال: لأن عدم الإطراد دليل على فساد العلة فالإطراد دليل صحة العلة ولأن الإطراد والجريان هو الاستمرار على الأصول من غير أن يردها أصل وهذا شهادة من الأصول في غير أن يردها أصل وهذا شهادة من الأصول في غير أن يردها أصل وهذا شهادة من الأصول لها بالصحة فوجب أن نحكم بصحتها. ببينة: أنها إذا أطردت فقد عدم ما يوجب فسادها فوجب أن نحكم بصحتها لأنه ليس بين الصحة والفساد واسطة. وأما دليلنا في أن الطرد ليس بحجة هو أنا اتفقنا على أن الاحتكام على الشرع باطل ألا ترى أنه لو أحتكم المحتكم من غير ذكر علة أصلا فيكون قوله باطلا وصفه المحتكم على الشرع أن لا يكون لقوله الذي يقوله طريق معلوم ولا مظنون ونحن نعلم قطعا أن أحكام الشرع مرتبطة إما بطريق علمى أو ظنى ويستند إلى سبب وإذا خلا عن هذين الطريقين يصير مجرد احتكام على الشرع من قائله والدليل على أن الظن لابد من إشارة إلى سبب حتى يعمل به أن العلميات في الشرع لابد من استنادها إلى طريق يوجب العلم فالظنيات لابد من استنادها إلى سبب يفيد الظن ولأن من ادعى يظن أن وراء هذا الجبل المطل علينا جيشا عظيما أو بحرا أو سباعا أو غير ذلك من الأشياء فإنه لابد من استنادها إلى أسباب فإنه إذا لم يربط بسبب كان مما ظنه مهموسا وفى قوله هاذيا ثبت أن الظن لابد له من سبب ليعمل عليه والطرد لا يفيد علما ولا ظنا لأن الحكم الذى ربط به إثباتا لو ربط به نفيا لم يترجح في مسلك الظن احدهما على صاحبة فبطل التعلق به. فإن قيل: سلامته عن النقض يفيد علية الظن كونه علما على الحكم قلنا هذا الذى قلت هو طرد الطارد وهذا الطارد مطالب بتصحيح علة وطرده لعلته لا يكون دليلا على صحة علته فإن فعله لا يكون دليل صحة قوله ثم هذا المعترض يقول إن الإطراد في محل النزاع وعندي أنه لا إطراد. فإن قال: المعلل قد طرد في غير محل النزاع يقال له: جريانه في غير محل النزاع لا يوجب إطراده في هذا الموضع الذى وقع فيه النزاع وهذا لأن الطارد منازع في طرده فكيف يستدل بإطراده وإنما غاية دعواه أنه يقول إن الدليل على صحة طردى دعواى بإطراده في صورة النزاع قال القاضى أبو بكر لو جاز الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 التمسك بالطرد لما عجز عنه أحد من طبقات الخلق لما كان من اشتراط استجماع أوصاف المجتهدين معنى ثم قال فإن زعم زاعم أن شرط الطرد أن يسلم عن العوارض والمبطلات ولا يهتدى إلى ذلك إلا عالم فقال كيف لا يهتدى بأن يذكر علة ويطردها أين وجدت قال: وإذا انتهى التصرف في الشرع إلى هذا المنتهى كان ذلك استهزاء بقواعد الدين واستهانة بضبطها وتطريقا لكل قائل أن يقول ما يريد ويحكم بما شاء ولهذا صرف علماء الشرع تبعتهم إلى البحث عن المعانى المختلة المؤثرة. ببينة: أنا جعلنا إجماع الصحابة هو الدليل الأقوى في صحة القياس ولم يرو عن احد منهم أنه تعلق بطرد لا يناسب الحكم ولا يؤثر فيه وإنما نظروا إلى الأقيسة من حيث المعانى وسلكوا طريق المراشد والمصالح التي تشير إلى محاسن الشريعة ولو كان الطرد قياسا صحيحا لما عطلوه لوما أهملوه ولما تركوا الاعتلال به وكذلك سائر الأئمة االمقتدى بهم من بعدهم وضرب الحليمى لذلك مثلا فقال من رأى دخانا نائرا فظن أن وراءه حريقا كان مصيبا في ظنه ومن رأى غبارا ثم ظن أن وراءه حريقا كان مختلا في ظنه نعم لو ظن أن وراءه عسكرا أو سرحا كان مصيبا ونقول أيضا أنا قد بينا أن العلة هى الصفة الجالبة للحكم ويجوز أن يقال: إن العلة هى المقتضية للحكم فأما إذا لم نعتبر وجود ما يقتضى الحكم أو وجود ما يجلب الحكم في الصفة التي جعلت علة لم تكن هذه الصفة بأن يجعله علة بأولى من غيرها من الصفات فإن للاصل صفات كثيرة وقد جعل أحدهما علة فلابد أن يكون لها اختصاص أو مناسبة بالحكم الذى جعلت الصفة علة له حتى تكون جالبة له أو مقتضية إياه وهذا لأن التغييرات الاتفاقية قد تقع كثيرا فلا يقع الفرق بين التغير الاتفاقى وبين التغير بالعلة إلا بما ذكرناه من وجود اختصاص ومناسبة بين العلة والحكم. فإن قال قائل: إن المناسبة والاختصاص في إنه يوجد الحكم بوجود العلة ويعدم بعدمها أو المناسبة بالإطراد فقد أجينا عن هذا من قبل ويدل عليه أن دوران الحكم معه وجودا وعدما لا يدل على الصحة لأن الحكم كما يدور وجوده مع العلة فيدور مع الشرط ألا ترى أن من قال: لعبده أنت حر إن كلمت زيدا دار وجود العتق مع الكلام كما دار مع قوله أنت حر وهو علة فدل أن هذا القدر لا يصلح أن يستدل به على صحة العلة وسيعود الكلام في هذا من بعد فإن كثيرا من أصحابنا جعلوا الإطراد والانعكاس دليلا وأما الجواب عن الذى ذكروه أما تعلقهم بالأدلة التي دلت على صحة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 القياس قلنا: هذا الكلام دليل عليكم لأن الأدلة التي دلت على صحة القياس على الأصول وهذا القياس يوجد ببعض الأوصاف ثم البعض عن البعض لا يمتاز إلا بدلالة أخرى ألا ترى أن نصوص القرآن دلت أن الأمة شهداء في الأصل ولم يدل أن كل لفظ فهم شهادة بل دلت أنه يوجد منهم الشهادة وذلك يحصل ببعض الألفاظ ولا يتميز ذلك عن غيره إلا بدليل ولأن كل وصف لو صلح علة والأوصاف محسوسة مسموعة لشرك السامعون وأهل اللغة كلهم الفقهاء في المناسبات ولما اختص القياس بالفقهاء علمنا أن المقايسة مبنية على معان تفقه لا على أوصاف وأسامى تسمع وقد ذكرنا هذا من قبل بلفظ آخر. وأما قولهم: إن علل الشرع أمارات وليست بموجبات قلنا: لا يسلم هذا الأصل على الإطلاق فإن الفقهاء وإن كانوا يطلقون هذا ولكن معنى ذلك أنها لا توجب بذواتها شيئا بل يجعل الشارع إياها موجبة وإن لم تكن بنفسها موجبة بل صارت موجبة بالشرع لا يمنع أن يقوم الدليل على أن القياس إذا احتاج صحته إلى علة فلابد أن تكون العلة مناسبة للحكم مؤثرة فيه مقتضية إياه وقد دللنا أنه لابد من ذلك. فإن قيل: ما قولكم في الشرع إذا نصب الطرد علما هل يجوز أم لا؟ قلنا: يجوزقالوا إذا جاز من الشارع جاز من المعلل قلنا: وإن جاز من الشارع لكنه لا يكون علة. لكنه تعريف للحكم أو تجديد له ولو ذكر الشرع الحكم من غير علة له قوبل بالقبول فإذا ذكره وذكر علما عليه قبل وصدق أيضا وهذا لأن الشرع له التحكم علينا كما يشاء ولكن ليس لنا التحكم على الشرع كما شئنا فتبين الفرق قطعا وباقى ما ذكروه ليس بشئ ينبغى الاشتغال به وفيما ذكرناه من قبل جواب عنه وقد ذكر القاضى أبو الطيب إن الإطراد زيادة دعوى والدعوى لا تثبت بزيادة الدعوى قال: ولأن القياس الفاسد قد يطرد ولو كان الاطراد دليل صحة العلة لم يقم هذا الدليل إلا على الأقيسة الفاسدة فالأقيسة الفاسدة المطردة مثل قول من يقول في إزالة النجاسات بغير ماء مائع لا يبنى عليه القناطر ولا يصطاد منه السمك فأشبه الدهن ومثل من يقول في الكلب أنه كلب فيكون نجسا كالكلب الميت ومثل من يقول في مس الذكر مس ذكره فصار كما لو مس وبال ومثل من يقول في وطء الثيب شرع من نافد فصار كما لو مشى في شارع أو أدخل من يدخل في المدخل فصار كما لو أخرج رأسه من الروزنة وأدخل رجله في الحف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 ومثل ما يقول في القهقهة اصطكاك الأجرام العلوية فلا ينقض الطهارة كالرعد ولا يلزم الظراط لأنه اصطكام الأجرام السفلية قال القاضى: وهذا مع سخفه ينتقض بما لو اصفع امرأته وصفعته وقد قال قوم: من أصحاب أبي حنيفة: في مس الذكر مس آلة الحرث فأشبه إذا مس اليدان وقال: طويل مشقوق ينقض الوضوء كالقلم والبوق وقال: تعلق منكوس فأشبه الدبوس وقال في السعى: بين الصفا والمروة إنه سعى بين جبلين فلا يكون ركنا في الحج كالسعى بين جبلى نيسابور أو غيرها من البلاد وهذه حكايات سخيفة والاشتغال بأمثالها هزو ولعب بالدين ولولا أن هذا الإمام أوردها وإلا لم نوردها وأيضا فإن المتأمل يتأمل هذه التحقيقات السخيفات التي لا يمكن مناقضتها بشيء ويطردها ومباحثها1 طردا أو يعرف أن سائر الطرد على مثالها وبمثابتها واللعب والضحك ليس من باب الدين في شئ وقولهم إنه لا يوجد دليل بعده قلنا عدم تأثيره ومناسبته للحكم دليل على فساده يدل عليه أن من ادعى النبوة وقال الدليل على صحة دعواى عدم ما يفسدها لا يسمع منه ذلك وكذلك كل من يدعى صحة شئ بهذا الوجه فثبت أن ما قالوه باطل والله العاصم منه.   1 كلمة غير مقروءة ولعل الصواب ما أثبتناه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 فصل: ويدخل في هذا ال فصل القول في المركبات: اعلم أنه ذكر أبو زيد بابا في أقسام الطرديات وقال: الطرديات الفاسدة أربعة أنواع: نوع منها يعرف فاسدها ببداءة العقول من غير تأمل في الأصول كقولهم في قراءة الفاتحة فرض في الصلاة إن الصلاة عبادة ذات أركان مختلفة لها تحليل وتحريم فوجب أن يكون من أركانها ذو عدد سبع دليله الحج ومثل قولهم إن السبع أحد عددى صوم التمتع فوجب أن لا يجوز الصلاة إذا قرأ دونها دليله الثلاث وكقولهم إن الوطء فعل ينطلق مرة وينغلق أخرى فلا يثبت به الرجعة كالقبلة وقال سمعت بعض شيوخنا يحتج لإبطال النية في الوضوء بأن الوضوء فرض عين تقام في أعضائه فلا تكون النية شرطا لأدائه دليله قطع اليد قصاصا أو في السرقة وهذه علل تعرف فسادها ببداءة العقول لأنه لا مشابهة بين الأصول في هذه الأصول وبين فروعها وهذا الضرب لا يوجد له نظير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 من كلام السلف ولكنه شئ أحدثه حشوية أهل الطرد. قال: والنوع الثاني: رد فرع إلى أصل لا يكاد الفرع يمتاز عن الفرع إلا بضم ما هو علة الحكم إليه نحو قولهم: إن مس الذكر حدث كما لو مس وبال فإنه لا زيادة فيما جعله أصلا إلا البول لأنه حدث بالإجماع وقد عدم ذلك في الفرع فسقط اعتباره لإيجاب الحكم في الفرع فلا يبقى بعده إلا المس المختلف فيه وكذلك قولهم في إعتاق المكاتب عن الكفارة إن إعتاق مكاتب عن الكفارة فصار كما لو رأى بعض الدلائل لأنه لا زيادة في الأصل إلا أخذ بعض البدل وإنه علة مانعة من التكفير وقد عدمت في الفرع فبقي العبرة لما وراء هذه الزيادة وهو أنه إعتاق مكاتب وهذا مختلف فيه وكذلك قولهم في شراء الأب لا يكون تكفيرا كما لو حلف بعتقه إن اشتريه ولا زيادة في الأصل إلا اليمين بعتقه وهو علة مانعة من التكفير بنية توجد عند الشرط عندنا وقد عدم هذا في الفرع وليس وراء هذا إلا شراء الأب وهذا مختلف فيه. قال: وأما النوع الثالث: رد فرع إلى أصل بوصف اختلف في كونه علة وظهر ذلك من العلماء لأنه لما ظهر الاختلاف فيه حل محل الحكم المختلف فيه ووجب نقل الكلام إليه لقولهم إن الكتابة الحالة لا تمنع التكفير عن العتق وكانت فاسدة كالكتابة على القيمة فالخلاف ظاهر بيننا وبينهم في الكتابة الصحيحة أنها هل تمنع الإعتاق عن الكفارة أو لا فلم يصر عدم المنع دليلا علينا في فساد الكتابة وعن ذلك قولهم: إن الأخ يجوز إعتاقه عن الكفارة فلا يعتق بسبب القرابة دليله ابن العم وهذا فاسد لأن الأب عندنا يجوز إعتاقه عن الكتابة ويعتق بالقرابة وعنده لما عتق بالقرابة لم يجز عن الكفارة ومن ذلك قولهم إن رهن المشاع باطل لأنه رهن لا يتبع للإنتفاع به ومن هذا الجنس يكثر وقال: والنوع الرابع: التعليل بعدم الوصف كقول الشافعي: النكاح ليس بمال فلا يثبت بشهادة الرجال مع النساء كالحدود وهذا فاسد لأن العدم لا يوجب حكما وهذه العلل تذكر للإيجاب والعلل توجد ولا تعدم وكذلك قولهم: إن الأخ لا يعتق على الأخ لأنه لا بعضية بينهما وكذلك قولهم إن المرض لا يبيح التجلد لأن المرض معنى لا يفارق الحال بالإحلال فأشبه الضلال وكذلك قولهم: المبتوتة لا يلحقها الطلاق لأنه لا نكاح بينهما وإسلام الشئ في جنسه لا يجوز لأنه لا يجمعهما صفة الطعم والثمنيه واعلم أنى ما ذكرت ما أورده على طريق الاختصار ونحن نقول في الأنواع الثلاثة التي قدمها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 علل فاسدة كما ذكروا للأصحاب كلام في المركبات وهى التي ذكرها في النوع الثالث وقد رأيت من الأئمة في العصر الذى أدركته من شغف بأمثال هذا وقد ملأ كتبه من ذلك ومن أمثال ذلك ما قاله بعض أصحابنا في النكاح بغير ولى أنثى فلا تزوج نفسها دليله إذا كانت بنت خمس عشرة سنة والخصم يعتقد في الأصل أنها صغيرة فتكون علة المعلل مقيسة على الصغيرة عند الخصم ولابد من كون الأصل متفقا عليه ولو اعتقد الخصم أنها كبيرة لكانت تزوج نفسها والخلاف واقع في الكبيرة وطائفة من الجدليين يصححون هذا ويقولون الحكم يتفق عليه في الأصل والمعلل علل الأنوثة وهى تعليل صحيح فقاس على أصل مسلم فتشعب المذاهب واختلافها ليس يضر ومثل هذا التعليل والدليل لا يرضى به محقق لأن المخالف يقول بنت خمس عشرة فيما أذهب إليه صغيرة ولو كانت فالقياس عليها باطل فإنه لو قال ابتداء أنثى فلا تزوج نفسها كالصغيرة يكون قياسا لأن لمعلل ذكر الأنوثة والصغر في الأصل والصغر على حاله مانع من العقد بدليل الغلام فقد ضممت إلى الأنوثة في الأصل صفة مستقلة بالحكم المطلوب فيكون مثاله ما يقول القائل في مس الذكر مس ذكره فينتقض وضوءه كما لو مس وبال فيصير التعليل باطلا لأن قياس الفرع على الأصل إنما يجوز بعلة الحكم في الأصل فأما تغيير علة الحكم في الأصل فيكون باطلا. قالوا: وهذا إذا كانت بنت خمس عشرة سنة صغيرة على ما نقول نحن فأما إذا كانت كبيرة على ما يقولون فعندنا يجوز لها أن تزوج نفسها والتقدير لا يخلو من هذين فالعلة مترددة بين منع الحكم في الأصل على تقدير وبين سقوط العلة على تقدير فلم تصح. صورة أخرى من التركيب الذى قاله الأصحاب وهو قولهم في البكر البالغة: بكر فيجبرها أبوها كبنت خمس عشرة سنة وهذا أمثل من الأول فإن بنت خمس عشرة سنة إن ثبت صغرها فالقياس على البكر الصغيرة جائز لأن الصغر لمجرده على مذهب الشافعى1 لا يستقل بإفادة الإجبار بدليل الثيب الصغيرة فإن قال الخصم ظني أن بنت خمس عشرة سنة صغيرة وإن كانت كبيرة لا يجبرها أبوها على النكاح فهذا كلام صحيح غير أن هذه الصورة تنفصل عن الصورة الأولى لأن في الصورة الأولى تبطل العلة على تقدير الصغر والبلوغ جميعا وفى الصورة الثانية لا تبطل على تقدير الصغر لكن يتوجه   1 انظر روضة الطالبين "7/53". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 على تقدير الكبر منع من الخصم ويضطر المعلل إلى رد القياس إلى الصغيرة البكر فيلغوا تعيين خمس عشرة سنة. فأما التركيب في الوصف فمثاله ما قال أصحابنا في قتل المسلم بالذمى من لا يستوجب القصاص بقتل شخص بالمثقل لا يستوجبه بقتله بالسيف كالأب في حق ابنه وهذا أيضا فاسد لأن الخصم يقول: إن المثقل ليس كآلة القتل والقتل به لا يكون عمدا محضا على ما عرف من مذهبهم فإن كان الأمر على ما قلنا: فقد قست العمد على غيرالعمد وإن كان الأمر على ما قلتم إنه عمد محض يوجب القود فأنتم بين منع وإطلاق وقد قال بعض أصحابنا: في مسألة الثمار التي تؤبر وتبعيتها للأشجار في مطلق التسمية ما يستحقه الشفيع من الشجرة يدخل تحت تسميتها بالأغصان وهذا فيه معنى حسن وهو أن الشفعة في وضعها لا تتعلق بالمنقولات فأشعر ثبوت أخذ الشفيع بكونها معدودة من أجزاء الشجرة ملحقة بها. فإن قال الخصم: سبب أخذها قطع ضرار مداخلة المشترى وكذلك أثبتنا أخذ الثمار المؤبرة للشفيع فالوجه أن يقال الحكم المطلوب ثابت والمناسبة كما قلنا هنا بين وتسويتكم بين المؤبر لا يقدح في هذا. ومثال هذا أيضا ما يقوله أصحابنا في مسألة قتل الحر بالعبد من قياس النفس على الطرف ويقول الخصم: هذا تركيب لأن مذهبنا أن طرف العبد لا يكون محلا للقصاص له وعليه محال غير أنا إذا صححنا التعلق بالشبه على ما سنبين فهذا أقوى شبه وقد تأيد هذا الشبه بكون الأطراف محلا للقصاص على الجملة مثل ما تكون النفوس محلا للقصاص ولم يوجبه منع وهذا من قوة الشبه كأنه مناقضة من الخصم. فإن ناقض الخصم مناقضة ثانية ومنع كون طرف العبد محلا للقصاص بخلاف طرف الحر فلا يمنع هذا من صحة القياس مع قوة الشبه على ما زعمنا والتخبط لهم في قطع الأطراف عن النفوس عظيم والرفق الذى يذكرونه في تنزيل الأطراف منزلة الأحوال فرق بعيد مرامه عويص تصحيحه سهل إبطاله والجملة في التركيبات أنه لا يتعلق بها محقق وطالب لمعنى وإنما التعلق بها من باب أرباب الصور وبابه من لم يشم رائحة الفقه وعزيز على أهل الدين أن يسمعوا بناء أحكام البارى عز اسمه على مثل هذه التعليلات التي هى شبه الخرافات عند مقابلتها بالعلل المعنوية والقواعد العقلية التي يشهد لها أصول الشرع وتقوم يتصحيحها قوانين الملة وتناضل دونها براهين معانى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 الكتاب والسنة فلا ينبغى للفقيه أن يشتغل بمثل هذه الأشياء فإنه تضييع للوقت وحيد عن مسالك الفقه وترك لسبيل السلف الصالح وجرأة على أحكام الله تعالى وجر المعللين إلى التلاعب بالدين فإنه إذا دخل في أمثال هذا وسهل على نفسه ينجر شيئا فشيئا إلى أمثال ما حكينا من العلل السخيفة ثم حينئذ ينسلخ عن الفقه أصلا ويصير ضحكة عند المحققين ومعدودا من جملة الهاذين المخرفين ونسأل الله تعالى أن يعصمنا من أشباه ذلك وأمثاله بمنه وطوله وقد ذكر جماعة من أصحابنا جوابا من الأصل المركب وسموه التعدية ولست أرى في ذلك معنى غير أنا نذكر صوره لئلا يخلو الكتاب عن ذكر ذلك لو قال المعلل في مسألة النكاح بلا ولى أنثى فلا توزج نفسها كبنت خمس عشرة سنة فيقول المعترض المعنى في الأصل أنها صغيرة وأعدى ذلك إلى منع استقلالها بالتصرفات فإذا قال المعلل دعوى الصغر ممنوع فيقول المعترض كذلك الأنوثة ليست بعلة وقد أدعيت أنها ععلة فقد ادعيت علة وعديتها إلى فروعك وادعيت علة وأعديتها إلى فروعى فاستوى القدمان وآل الكلام إلى التزامك إبطال علتى أو ترجيح علتك على علتى وأجابوا عن هذا وقالوا معنانا نسلم الوجود وهو الأنوثة وإنما المنازعة لكم في كونها علة وأما الذى ادعيت علة فلا أسلم وجوده فإن اشتغلت بإثبات وجوده منتقلا إلى علة أخرى فالانتقال ممنوع لا سبيل إليه ويستوى فيه السائل والمسئول وقد سلكوا أيضا في إبطال التعدية مسلكا آخر وهو أن يقول لو ثبت معناك لقلت به ضما إلى معناى فإن الحكم الواحد لا يمتنع ثبوته بعلتين وهذا قد لا يجرى في بعض المركبات فأما إذا قلنا في البكر البالغة بكر فتجبر على النكاح كما ذكرناه في بنت خمس عشرة سنة فإذا ذكر المعدى الصغر لم يمكنا أن نقدر الصغر علة في الإجبار فإن الثيب الصغيرة لا تجبر على النكاح عندنا قال الأستاذ أبو إسحاق سبيل المركب إذا عورض بالتعدية أن يقول معناى عندك دعوى غير مثبتة بما تثبت بمثله معانى الأصول أو قد ثبت بدليله فإن قلت لم يقم عليه دليل فلست معللا بعد ولا مقيما متمسكا في محل النزاع فمعارضتك إياى بالتعدية غير متجه وإن اعترفت يكون معناى ثابتا فمعناك الذي أبديته ليس مناقضا لمعناى وإنما يقدح المعارضة إذا جرت مناقضة في المقتضى وهذا الذى ذكرناه أورده الأصحاب نقلته على ما أوردوه وعندي أن الاشتغال بأمثال هذا تضييع الوقت العزيز وإهمال العمر النفيس ومثال هذه التعليلات لا يجوز أن يكون معتصم الفتاوى والأحكام ولا مناطا لشرائع الدين الرفيع وهذا وأمثاله تعمية على المبتدئين وإيقاعهم في الأغلوطات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 وحيد بهم عن سنن الرشد ومسالك الحق وقد كانت أنواع هذا طريقا مسلوكا من قبل يجرى النظار على سنتها ويجادلون ويناطحون عليها غير أن زماننا الذى نحن فيه غلب عليه معانى الفقه وقد جرى الفقهاء فيه على مسلك واحد فتناظموا في مسلك واحد يطلبون الفقه المحض والحق الصريح وقد تناهت معانى الفقه إلى نهاية أظن أن ليس بعدها مبلغ الحق لطالب ولعلها قاربت في الوضوح الدلائل العقلية التي يدعها المتكلمون في أصول الدين فالنزول عن تلك المعانى إلى مثل هذه الصور زلة في الدين وضلة في العقل واالله العاصم بمنه نعم. وقد ذكر أبوزيد من أقسام الطرديات: مسألة شهادة رجل وأمراتين في النكاح وتعليل الشافعي فيها أن النكاح ليس بمال1 وذكر لهذا أمثلة والعجب أنه يفهم منا هذا وقد سلكوا مثل هذا المسلك قال محمد بن الحسن: لا ضمان في إتلاف ملك النكاح لأنه ليس بمال وذكر أنه لا [خمس] في اللؤلؤ لأنه لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب وقال في الصائم يأكل الحصاة لا كفارة عليه لأنه ليس بطعام وقال في ولد الغصب إنه أمانة لأنه لم يغصب وقال أبو حنيفة في العقارات إنها لا تضمن لأنه لم ينقلها اعتذر عن هذه المسائل وقال: إنما قال محمد بن الحسن ما قال في هذه المسائل على سبيل الاستدلال لا على سبيل التحليل ووجه ذلك ان حكم العلة لابد أن يتقدم إذا عدمت العلة كما كان تعد وما قبل العلة فإن هذه المسائل من هذا وإنما أبينا إضافة العدم إلى عدم العلة واجبا به لأن العدم لا يقبل الإضافة وإذا بطلت الإضافة لم يكن علة وإنما يبقى الحكم عند عدم العلة بعلة أخرى وأما الاستدلال بعدم العلة على عدم الحكم صحيح إذا لم توجد علة أخرى تقوم بذلك الحكم قال فمتى اختلفنا في ضمان الغصب لم يجب بدونه وكذلك إذا وقع الاختلاف في ضمان ما هو مال لم تجب فيما ليس بمال لأن الضمان بشرط المماثلة يجب وإذا كان الضمان مالا المتلف ليس بمال تزول المماثلة وذكر في كل مسألة مما ذكرنا شيئا من هذا الجنس وأما في الشهادة فالخصم يحتاج إلى أن يثبت أن شهادة النساء متعلقة صحتها بالمال لتنعدم بعدمه ويحتاج إلى أن يذكر أن العتق من حكم البعضية لا غير حتى ينعدم بعدم [البعضية] وعلى أن غاية ما في الباب أن ما تعلق بالبعضية ينعدم بعدم البعضية إلا أن عندنا في مسألة إذا ملك أخاه لا يتعلق ما تعلق بالبعضية وإنما يقع ما تعلق بالمجزئة والجواب أنا في هذه المسألة لا نعلق الحكم بمجرد   1 انظر المهذب للشيرازي "2/40". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 العدم وقد ذكرنا معنى في المال يوجب سهولة شأنه وحرمان المسامحة من الشرع فيه في الحجة وذكرنا في النكاح معنى يشعر باستقصاء الشرع فيه وإنما يحتاج إلى اعتبار القوة في الحجة ما لا يحتاج إليه المال وقول الشافعى إنه ليس بمال وقعت به الإشارة إلى ما ذكرناه وكذلك ذكرنا في البعضية معنى يفيد العتق وعلى أنا سلكنا طريقة متبينة في شراء الأخ أخاه أنه لا يعتق ويستمر ملكه وذكرنا أن الأصل في الأب والأخ وغيرهما انتفاء العتق وإنما العتق وقع في جانب الأب معدولا عن الأصل المعهود بعلة [المجازاة] وهذ لا يوجد في الأخ وأبطلنا المعنى الذى ذكر من الجانبين وقدمنا بحق هذه الطريقة في كتاب الاصطلام فليكن الاعتماد عليه وقد انتهى الكلام في الطرد وما يتبعه وحين فرغنا من الكلام فيه رجعنا إلى ما كنا فيه في الأصل وهو الكلام في علة القياس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 فصل: لابد للعلة من الدلائل على صحتها ... "فصل" قال المحققون من أصحابنا: إن العلة لابد من الدلائل على صحتها لأن العلة شرعية كما أن الحكم شرعى وكما لابد من الدلالة على الحكم لابد من الدلالة على العلة وقد قالوا إذا ثبت حكم متفق عليه وادعى المستنبط أنه [تحلل بمعنى أبداه] فهو مطالب بتصحيح دعواه في الأصل وذكر بعض أهل الجدل أنه لا يسوغ هذه المطالبة لكن على المعترض أن يبطل معناه الذى ذكره إن كان عنده مبطل له وهذا ليس بشئ والصحيح هو الأول وذلك لأنا قد ذكرنا فساد الطرد وذكرنا بطلان التحكم في الدين ولابد من علة مقتضية للحكم مناسبة له مغلبة في الظنون أنها المثيرة هذا الحكم فإذا ادعى أنه أصابها فهو مطاب بإبدالها فإذا [اقتصر] على محض الدعوى كانت دعواه [العلة] بمنزلة دعواه الحكم. ببينة: أن المعلل يدعى كون هذا الوصف علة ولابد من إقامة البرهان على الدعوى وإن قال: لا يلزمنى إقامة البرهان فهو إذا متحكم على الشرع بعلته فهو [كتحكمه] بالحكم فإن قال هذا المعلل: إن الصحابة نصبوا علامات1 على الأحكام فإنا أيضا ننصب من جنس ما نصبوه فبين ذلك وبرهن عليه فإن قال الدليل على صحة العلة عجز المعترض عن الاعتراض قلنا: ومن أين قلت إن عجز المعترض يدل على صحة العلة   1 ثبت في الأصل "علاها" ولعل الصواب ما أثبتناه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 فالسائل مسترشد مستهدى يطلب دليل صحة العلة لينقاد لقضيتها والأصل أن إقامة الدليل على المدعين ولو قال المدعى عليه للمدعى الدليل على أنى محق عجزك عن إقامة البينة هل يسمع هذا وهل تسقط عنه اليمين فهذا هوى بين وقد يقع العجز عن الطعن في الباطل لعدم آلته وكم من حق مستور خفى في العالم وكم من باطل ظاهر مجهور به. وإذا ثبت أنه لابد من الدليل على صحة العلة وقد قال القاضى أبو الطيب الدليل على صحة العلة من أربع طرق: أحدها: لفظ صاحب الشرع بنصه أو ظاهره أو شبهه. والثانى: إجماع الأمة. والثالث: التأثير. والرابع: شهادة الأصول. فأما لفظ صاحب الشرع فقد يكون في الكتاب وقد يكون في السنة. أما في الكتاب مثل قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [المائدة: 91] وهذا عبارة عن الإسكار الذى يحدث هذه الأشياء التي ذكرها الله تعالى وقال سبحانه وتعالى: {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7] وقال تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} [النساء: 20] ثم قال: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} [النساء: 21] والإفضاء اسم للوطئ وقال تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} [النور: 59] وذكر مثال هذا. وقد ذكرنا بعض ذلك من قبل وذكر من أمثال هذا والتنبية قوله -عليه السلام-: "أينقص الرطب إذا جف" 1وقوله -عليه السلام-: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث" 2 وقوله: "نهى عن بيع مالم يقبض" 3 وقوله: " إنها من الطوافين   1 تقدم تخريجه. 2 أخرجه البخاري: الديات "12/209" ح "6878" ومسلم: القسامة "3/1302" ح "25/1676". 3 أخرجه البخاري: البيوع "4/409" ح "2136" ومسلم: البيوع "3/1161" ح "36/1526" عن ابن عمر بلفظ: من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 عليكم" 1 وقوله: " إنما هو دم عرق" 2 وفى بعض الروايات قال لبريرة: "ملكت بضعك فاختاري" 3. وقد ذكرنا من قبل نظائر هذا. قال: وأما الإجماع فهو دليل مقطوع به فما أجمعوا عليه من حكم أو علة وجب المصير إليه ومثاله قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يقضى القاضي وهو غضبان" 4 وأجمعوا أن النهى عن ذلك لأن الغضب يشغل قلبه ويغير طبعه ويمنعه من التوفر على الاجتهاد وكذلك على مثال قوله تعالى {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] . قال: وأما التأثير فهو أن يوجد الحكم بوجود العلة ويعدم بعدمها وذكر نظائر لهذا منها الشدة في الخمر يثبت التحريم عند وجودها وتزول بزوالهها وكذلك الرق في علة نقصان الحد يوجد النقصان بوجوده ويكمل بزواله وذكر مسائل من أمثال هذا وأورد كلاما طويلا فيما وجد تأثيره من هذا الجنس وفيما لا يوجد تأثيره من هذا الجنس وبيان هذا يدل على صحة العلة أنه يفضى إلى غلبة الظن لأنه إذا رأى الحكم يدور مع الشئ وجودا وعدما غلب على ظنه أن هذا الشئ هو الأمارة على ذلك الحكم وإذا وجد عند وجوده ولم يعدم عند عدمه لم يوجد عليه الظن. قال: وأما شهادة الأصول مثل قولنا لا تجب الزكاة في أناث الخيل لآنه لا تجب في ذكورها فالأصول شاهدة لهذا لأنها مبنية على التسوية بين الذكور والإناث في وجوب الزكاة وسقوطها وهذا طريق يفضى إلى غلبة الظن لأن الإنسان إذا علم أن فلانا إذا أعطى بناته شيئا يعطى بنية مثلها فإذا سمع أنه أعطى البنات غلب على ظنه إعطاء البنين مثلها فثبتت أن شهادة الأصول دليل صحة العلة من هذا الوجهه وقال: ومن نظير ما ذكرناه قول المعلل من صح صلاته صح ظهارة وكذلك قوله من لزمه العشر لزمه ربع العشر في مسألة زكاة الصبى وكذلك قوله ما حرم فيه النساء حرم فيه التفرق قبل التقابض وأمثال هذا تكثر فالأصول تشهد لصحة هذا القليل وهذا الذى ذكرنا لمجموع كلامه واعلم أن إقامة الدليل على صحة العلة فصل مشكل وقد اختلف الأصوليون في   1 تقدم تخريجه. 2 تقدم تخريجه. 3 أخرجه الدارقطني: سننه "3/290" ح "170" بلفظ: "اذهبي فقد عتق معك بضعك" انظر نصب الراية "3/204". 4 تقدم تخريجه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 ذلك أختلافا عظيما وإن وجدنا من الأصول في الشرع وهى الكتاب والسنة والإجماع نوع دليل على صحة العلة من نص أو تنبيه أو إشارة أو مفهوم صرنا إلى ذلك واستدللنا بذلك على صحتها وقدمنا ذلك على غيره مما يدل على صحة العلة إذ النص ودليله مقدم على كل دليل عندنا فإن قال قائل فإنكم لم تقولوا بهذه الدعوى فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في دم الاستحاضة: "فإنه دم عرق انفجر" 1. وقال صلى الله عليه وسلم لبريرة: "ملكت بضعك فاختاري" 2. وقال صلى الله عليه وسلم في أخبار الربا: "كيلا بكيل ووزنا بوزن" 3 فالأول يدل على أن سيلان الدم وخروجه من الباطن إلى الظاهر علة انتقاض الوضوء والثانى يدل أن ملكها نفسها بالحرية علة ثبوت الخيار والثالث يدل أن الكيل هو العلة ولم تقولوا بشئ من ذلك. الجواب: إن هذه الألفاظ لها معان غير ما ظننتموها وتعرف بمخارج الألفاظ والتأمل فيها أما اللفظ الأول فقد كان اشتبه على السائلة أن الدم الذى تراه ما حكمه وكانت تظن أن ذلك دم حيض فذكر الرسول صلى الله عليه وسلم هذا اللفظ ليميز بين دم الحيض ودم الاستحاضة فإن دم الحيض دم يرخيه الرحم ويخرج من جوفه في زمان مخصوص4 تعتاد النساء ذلك بأصل بنيتهن وخلقتهن وأما دم الاستحاضة دم ينفصل من العرق لا من الرحم5 ولا رخاء لذلك وإن كان في الظاهر ينفصل من المحل الذى ينفصل منه دم الاستحاضة وكانت الإشارة منه صلى الله عليه وسلم واقعة إلى هذا وعلى أن قوله صلى الله عليه وسلم انفجر كلمة زائدة لا يعرف [ثبوتها] وأما الذى رووا من قوله صلى الله عليه وسلم: "ملكت بضعك فاختاري" 6 فعلى هذا الوجه لا يعرف هذا الخبر وعلى أنه يقال لهم هل تقولون: إنها ملكت نفسها بالعتق   1 تقدم تخريجه. 2 تقدم تخريجه. 3 أخرجه أحمد: المسند "2/311" ح "7189". 4 وهو لغة: السيلان: مأخوذ من قولهم: حاض الوادي إذا سال وحاضت الشجرة إذا سال منها شبه الدم وهو الصمغ الأحمر. يقال: حاضت المرأة تحيض حيضا ومحيضا فهي حائض وحائضة: إذا جرى دمها وتحيضت أي: قعدت أيام حيضها عن الصلاة ويسمى أيضا الطمث والعراك والضحك والإعصاد والإبار والنفاس والفراك والدارس انظر القاموس المحيط "حيضا" لسان العرب "مادة/سيل". 5 المستحاض من يسيل دمها لا من الحيض بل من عرق العاذل وحيض جبل بالطائف وتحيضت قعدت أيام حيضها عن الصلاة انظر القاموس المحيط "مادة حيضا". 6 تقدم تخريجه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 حتى تصير كامرأة لا زوج لها فإنها هى التي تملك نفسها على الإطلاق ونعلم قطعا أنها لم تملك نفسها كذلك فلابد من تأويل وتأويله ملكت الفسخ لتملكى نفسك فاختارى ثم قام الدليل أن زوجها كان عبدا وأن ملكها الفسخ كان في هذه الصورة وأما قوله عليه صلى الله عليه وسلم: "كيلا بكيل" 1 فهو من صلى الله عليه وسلم إشارة إلى علة الخلاص عن الربا وقد بينا في مسائل الفروع أن قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تبيعوا الطعام بالطعام" 2 يدل ذكر الطعام أن الطعم علة وقوله صلى الله عليه وسلم: "الثيب أحق بنفسها من وليها" 3 يدل أن الثيابة علة وقوله صلى الله عليه وسلم: "من باع نخلا مؤبرة فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع" 4 دليل أن التأبير علة في كون الثمرة للبائع وقوله تعالى {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] يدل أن الحمل علة وقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] يدل أن السرقة علة وقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور: 2] يدل أن الزنا علة وقوله صلى الله عليه وسلم في النهى عن بيع الطعام قبل القبض5 يدل أن عدم القبض علة وأمثال هذا توجد كثيرا وأما قوله صلى الله عليه وسلم في الرطب "أينقص إذا جف" نص في التعليل به وقوله: " أينقص إذا جف" 6 تقرير وأبين باستفهام مثل قوله تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه: 17] ومعنى الخبر إذا علمت له ينقص الرطب إذا جف فلا يجوز البيع إذا ومن البينة على العلة قوله صلى الله عليه وسلم: "العينان وكاء السه" 7 فيكون الدليل دليلا أن بزوال الاستمساك علة لإنقاض الوضوء.   1 تقدم تخريجه. 2 أخرجه مسلم: المساقاة "3/1214" ح "93/1592" بلفظ: "الطعام بالطعام مثلا بمثل" وأحمد: المسند "6/429" ح "27317" بلفظ مسلم. 3 أخرجه مسلم: النكاح "2/1037" ح "67/4121" وأبو داود: النكاح "2/239" ح "2099". 4 أخرجه البخاري: البيوع "4/469" ح "2204" ومسلم: البيوع "3/1172" ح "77/1543". 5 تقدم تخريجه. 6 تقدم تخريجه. 7 أخرجه أبو داود: الطهارة "1/51" ح "203" وابن ماجة: الطهارة "1/161" ح "477" والدارمي: الطهارة "1/198" "722" وأحمد: المسند "4/120" ح "16885". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 فصل: هل الاطراد والانعكاس دليل على صحة العلة ... "فصل" وأما إذا أعوز الدليل من هذا الوجه ولم يكن بد من إقامة الدليل فقد جعل بعض أصحابنا مجرد الاطراد والجرى دليلا وقد ابطلنا ذلك وذكر كثير من أصحابنا وأصحاب أبى حنيفة أن الاطراد والانعكاس دليل على صحة العلة وهو أن يوجد الحكم بوجود وصف زائد وتزول بزواله فيدل أن لذلك الوصف التأثير في الحكم ما ليس لغيره. واستدل من قال إن هذا دليل صحة العلة بأن العلل الشرعية علل ظنية وليس لها عمل إلا إفادة غالب الظن ونحن نعلم قطعا أن الحكم إذا وجد بوجود وصف وانتفى بعدمه غلب على الظن أنه العلة وهو كالشدة في الخمر فإنه يوجد التحريم بوجودها وينعدم بعدمها دل أنها العلة. قالوا: ومن أنكر أن هذا يفيد غلبة الظن فقد عاند. ببينة: أن مثل هذا يعتمد عليه في المؤثرات العقلية فكيف لا يعتمد عليه في المؤثرات الشرعية وإذا ثبت وجود غلبة الظن ولم يبطل كونه علة بمسلك من المسالك ثبت كونه علة وافاد الحكم الذى بنى عليه. وقد قيل إن الحكم إذا ربط بالطرد والتنكيس فهو في العكس أبين من جهة أن الطارد في محل النزاع مدعى الاطراد وهو منازع فيه لا محالة وأما الانعكاس فهو متفق عليه لأن الانعدام عند عدم الوصف متفق عليه واعلم أن الاستدلال بهذا الدليل في نهاية الإشكال لأنا بينا أن الاطراد ليس بدليل على صحة العلة وهى شئ يلزم المعلل بكل حال حتى إذا لم يطرده والتزم ما ينقضه ظلت علته على ما سنبين من بعد. ويقال للحنفى إذا قال: إن علة جريان الربا الكيل لم قلت إن الكيل علة؟ قال: لأنها علة مطرده قال لأنى أتبعها الحكم أين وجد الكيل فيقال هذا باتفاق بينى وبينك فإن قال: باتفاق لم يسلم له ذلك وإن قال: لا باتفاق لكنى أطرد العلة وأتبع الحكم الكيل أين وجد فيقال له ليسوغ لك ذلك فإن قال: لا كفى الخصم شغله وإن قال: نعم فيقال له لم ساغ لك ذلك فإن قال: لأنها علة الحكم يقال: له ولم قلت إنها علة الحكم فيعود إلى ما بينا من قبل فهو يستدل على صحة العلة بالجريان ويستدل على صحة الجريان بالعلة وهذا فاسد. فإن قال: ساغ لى لأنها غير منتقضة يقال: معنى قولك غير منتقضة أنك علقت الحكم بها في كل موضع وجدت فيه العلة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 فكأنك قلت إنما ساغ لى تعليق الحكم بها لأنى علقت الحكم أين وجدت. فإن قال إنما ساغ لى تعليق الحكم أين ودت لأنه لم يمنع من ذلك نص ولا إجماع. يقال له ولم إذا لم يمنع من ذلك نص ولا إجماع وجب تعليق الحكم بها وما أنكرت أن يكون هاهنا مانع غير ما ذكرت لأن وجوه الفساد تكثر به فإن قال: ليس هاهنا وجه فساد. يقال: أبعد في وجوه الفساد فقد الدلالة على صحتها. فإن قال: نعم قيل: فدل على صحتها واترك حديث الجريان والاطراد وإن قال: لا يعد ذلك من وجوه الفساد رجع الأمر إلى ما سبق وهو أن مدعى صحة العلة لابد له من إقامة الديل على صحتها. فإن قال: ما لا يوجد فيه وجه من وجوه الفساد فهو صحيح. قلنا قد بينا. أن هذا عدم الدليل على الصحة والفساد وعلى أنك إذا لم تدل على وجه الصحة فيجوز أن يكون فيه وجه فاسد وانت لا تشعر لأن الفساد كما لا يثبت إلا بدليل الفساد فالصحة لا تثبت إلا بدليل الصحة ولأن العدم لا يدل على شئ ما بصحة ولا فساد. فإن قال: لو لم تكن العلة صحيحة لأعلمنا الله تعالى ذلك. قيل له يكفى في النفى فقد دليل الإثبات ولا يكفى في الإثبات فقد دليل النفى. ألا ترى: أنا ننفى صلاة سادسة لفقد الدليل على وجوبها ولا نوجبها لفقد الدليل على نفيها فلا تثبت الصحة ها هنا لفقد دليل الفساد وهذا لأن الأصل نفى صلاة ساسة فلا ينتقل عنه إلا بدليل. فإن قالوا: عجز الخصم عن إفسادها يدل على صحتها. قيل الخصم قد يعجز عن إفساد الفاسد. فإن قيل: أليس أن المعجزة إنما صارت حجة لعدم ما يعارضها فقد صار عدم المعارضة دليلا على صحته فكذلك ها هنا عدم المعارض يصير دليلا لصحة العلة قلنا: العجز إنما كان حجة لا بما قلتم ولكن بوقوعها خارجا عن معتاد قدرة البشر إلا أن الكفار تعنتوا وقالوا هو في مقدور البشر فقيل لهم ائتوا بمثلها ليقطع تعنتهم ثم إذا انقطع تعنتهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 بعجزهم فالحجة صحتها بما بينا وقد كان سبق بعض هذا الكلام غير أنا ذكرنا في هذا الموضع على وجه السؤال والجواب ما يبين أن الإجراء والطرد ليس بدليل الصحة العلة فكذلك العكس بل هذا أبعد لأن الاطراد يلزم المعلل والانعكاس ليس بشرط لصحة عند أكثر الأصوليين فإن كان الإطراد الذى هو شرط العلة لا يدل على صحة العلة فالانعكاس الذى ليس بشرط لأن لا يكون دليلا أولى ومن جعل ما ذكرناه دليلا يجيب عن هذا فيقول إن مجموع الأمرين يفيد غلبة الظن في انتصاب الشئ علما على الحكم ومن زعم أنه لا يفيد لابد أن ينسب إلى العناد وإن سلم فالقائس غايته إظهار علم على الحكم بجهة تفضى إلى غلبة الظن. وعندي: أن الإشكال لا يزول بهذا ويدخل على ما ذكروا فصل الشرط الذى قدمنا فإنه يوجد عند وجوده ويعدم عند عدمه وليس بعلة ومن يقول إنه علة ولا يفرق بين اشرط والعلة فهو مجازف ولأن الشئ قد يوجد عند الشئ اتفاقا وينعدم عند عدمه اتفاقا ولا يدل على أنه علة. وقد حكى الإمام أبو المعالى عن الأستاذ أبى إسحاق أن الدليل على صحة العلة إنما يكون بتقرير إحالته ومناسبته للحكم مع سلامته عن العوارض والمبطلات ومطابقته الأصول وعبر عن هذا فقال وأنا أقرب في ذلك قولا فأقول إذا ثبت حكم في أصل وكان يلوح في سبيل الظن استناد ذلك الحكم إلى أمر ولم يناقض ذلك الأمر بشئ فهذا هو الضبط الأقصى الذى ليس عليه مزيد فإذا أشعر الحكم في ظن الناظر بمقتضى استناد إليه فذلك المعنى هو المظنون علما وعلة لاقتضاء الحكم ثم سأل على هذا سؤالا فقال فإن قيل: الإخالة مع السلامة هي الدالة على صحة القياس إذا لا ما اعتمدتم عليه من إجماع الصحابة. قلنا: إذا أثبت الإخالة ولاحت المناسبة واندفعت المبطلات التحق ذلك بمسالك نظر الصحابة فالدليل على القياس إجماعهم لكن إجماعهم هو على مثل هذا القياس ثم سأل سؤالا فقال المآخذ على هذا الوجه محصورة والوقائع غير محصورة فكيف يستند ما لا نهاية له إلى المتناهى وقال إن هذا السؤال عسر جدا. قال الإمام جمال الإسلام: وعندي هذا السؤال ليس يدخل على فصل الإخالة وإنما هو إشكال إن كان في مسألة القياس أنه حجة أو لا وليس يتصور فرع يقع إلا ويستند ذلك إلى أصل مناسب له ويكون معنى الأصل مؤثرا فيه وقد ذكر بعض الأصوليين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 فى الدليل على صحة العلة طريق السبر والتقسيم وهو أن يبحث الناظر عن المعانى في الأصل ويتتبعها واحدا واحدا وبين خروج آحادها عن الصلاح للتعليل به إلا واحدا يرضاه. واعلم أن الفصل اختلف فيه أهل الأصول وهو أن القائس إذا خالفه قائس آخر في علة الأصل فأبطل هذا القائس علة خصمه هل تصح علته؟ فبعضهم قال: يدل ذلك على صحة العلة مثل الحنفى يبطل علة الكيل فتصح بذلك علته التي يدعيها لأن القائلين بالقياس اتفقوا على أن إحدى العلتين صحيحة والأخرى باطلة فإذا بطلت إحدى العلتين صحت الأخرى ضرورة وهذا الوجه في تصحيح العلة ضعيف لأن البطلان ضد الصحة فكيف يكون دليل الصحة ولأن الصحة لا تدل على الصحة مع تجانسها فكيف يدل البطلان على الصحة مع تضادهما وهذا لأنه يجوز أن تكون العلتان جميعا فاسدتين ويكون الصحيح العلة الثالثة ويجوز أن لا يكون المنصوص عليه معلولا بعلة ما وأيضا فإن العلم ببطلان إحدى العلتين لا يدل على صحة العلة الأخرى إذا توهم البطلان قائم في العلة الأخرى ولأن شرط صحته العلة أن يكون مخيلا مقتضيا للحكم الذي ربط به وإن بطلت العلة الأخرى لا يثبت هذا المعنى لهذه العلة وقولهم إنهم اتفقوا على أن إحدى العلتين صحيحة قلنا ليس على هذا الوجه بل كل فريق يقول علتى صحيحة وعلة الخصم باطلة وإن بطلت علته لا يعترف بصحة علة الخصم لأنه مقيم على اعتقاد بطلان علة الخصم سواء صحت علته أو بطلت. فإن قيل: قد اتفقوا أن هذا الأصل معلول وإذا اتفقوا أنه معلول فلابد أنه إذا بطلت إحدى العلتين صحت الأخرى. قلنا: إنما اتفقوا على أن الأصل معلول بعلة صحيحة لو وجدت فإذا لم نجد علة صحيحة لا يكون معلولا ونقول أن بطلت علتي ولم يدل البطلان على صحة علتك بقيت علتى صحيحة وعلتك غير مدلول على صحتها فيكون الأصل من قبيل ما هو معلول إلا أن تأتى بعلة وتدل على صحتها. وذكر أبو زيد عن بعضهم أن العلة المخيلة ما يوقع في القلب خيال الصحة وذلك بالملاءمة والصلاحية. وتقسيم الملاءمة أن يكون على وفق ما جاء به الشرع من المقاييس المنقولة عن السلف وعن الصحابة. قال: وعلماؤنا قالوا ما لم يقم الدليل على أن الوصف ملائم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 لا يقبل التعليل ولا يلتفت إليه وإذا صار ملائما يعمل به إلا بسبب العدالة وذلك بكونه مؤثرا في ذلك الحكم كالشاهد لابد أن يأتى بلفظ الشهادة لأنه الملائم للشهادة ولابد بعد ذلك من التعديل والتعديل هناك مثل التأثير ها هنا فإن عمل قبل التأثير يصح وإن عمل قبل الملائمة لا يصح كالشهادة لو عمل القاضى بها بلا لفظ الشهادة لا يصح واستدل في أن الإخالة ما أوقع في القلب خيال الصحة لأن العلة ما تغير الحكم لعلة المريض تغير وصفه والمغير لابد أن يكون لتغييره أثر لأن ما لا يحس لا يعرف ثبوته بآثار محسوسة فما لا أثر له لا يكون علة ثم هذا الأثر ليس مما يحس لكنه مما يعقل فيجب الرجوع إلى القلب وشهادته تحكيمة كما قيل في أمر القبلة إذا اشتبه ولم يبق عليها دليل يحس وجب الرجوع إلى القلب وشهادته فإذا شهد القلب بصحته قبلت الشهادة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الإثم ما حاك في قلبك وإن أفتاك الناس" 1 والاعتراض على هذا الفصل هو إن الإخالة بما يقع في القلب تكون حجة يقع في قلبه ولا يكون حجة على غيره وكذلك في أمر القبله إذا اختلفت الجهات بجماعة لا يكون قول بعضهم حجة على البعض2. قال: ولأن كل معلل يمكنه أن يقوله قد وقع في قلبى خيال الصحة فيصير قوله معارضا لقول صاحبه فبطل دعوى الإخالة بهذا الوجه. وذكر أبو زيد أن الطريق الصحيح في تصحيح العلل أن يكون الوصف ملائما للحكم. ويستدل على الملاءمة بدليل يمكن الوقوف عليه بأن التمثيل وهو أن يبنى عمل مثل ذلك الوصف في أصول الشرع وهذا لأن الوصف مع صلاحه وملاءمته للحكم يحتمل أن لا يكون علة فلابد من دليل عليه ولا دليل عليه سوى الاستشهاد بأصل صحيح ثابت لترجيح جهة الصواب على جهة الغلط وذكر على هذا مسألة الإفطار بالأكل وأنه يوجب الكفارة. والعلة إنه إفطار كامل والاستشهاد عليه بالوطء وذكر مسألة السلم الحال وأن المفسد له العجز عن التسليم والاستشهاد بكل عقد يوجد فيه العجز عن تسليم المبيع. وذكر مسألة حرمة المعاهدة وأن علة إثباتها البعضية والاستشهاد عليه بالوطء الحلال   1 أخرجه الدارمي: البيوع "2/320" ح "2533" وأحمد: المسند "4/279" ح "18022". 2 انظر المغنى "1/470". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 والوطء بالشبهة وذكر هو غيره ممن ينصر طريقته كلاما طويلا في الأصول التي صنفوها فجعلت فيه هذا القدر وهو الذى يفهم ويقع في القلب من التطويل العظيم في كلامه وجعل يردد هذا المحرف وهو أن ما لا يحس يعرف بأثره فيعرف صحة العلة ببيان أثرها واستشهد بالشهادة في عامة كلامه في هذا الفضل وقال عدالة الشاهد إنما تثبت بأمر دينه في منعه من ارتكاب ما اعتقده حراما بدينه فيستدل به على منعه من الكذب الذى هو حرام في دينه فكذلك عدالة الوصف الذى هو بمنزلة الشاهد على الحكم إنما يعرف بأثره في إيجاد مثل هذا الحكم في موضع آخر بالإجماع ليصير الأثر الموجود دليلا على نظيره ويكون استدلالا بوجود معلوم ولا بعدم ولا بشيء لا يطلع عليه ولا يجوز المحاجة به وهذا إنما يقوله على من يجعل دليله في صحة العلة عدم قيام الدليل على فساده ويقول من يتعلق بذلك الدليل على صحة العلة متعلق بمحض العدم. قال ولأنا ذكرنا أن الحكم كما يوجد مع العلة ويطرد معه فكذلك يوجد مع الشرط ويطرد معه فلابد من دليل آخر يميز بين الشرط والعلة وذلك في بيان الأثر وأنه لا أثر للشرط في إيجاب الحكم وللعلة أثر فهذا الذى ذكرت قدر ما وجدت من كلام المحققين في بيان الدليل على صحة العلة. واعلم: أن الاشتغال بدليل الإطراد بمجرده لا معنى له وكذلك بدليل الإطراد والانعكاس وإن كان هذا أمثل من الأول وأوقع في القلب ولأصحابنا العراقيين شغف عظيم بهذا ولعل بعضهم يقول لا دليل فوق هذا ولكن الاعتراض الذى قلناه اعتراض واقع. وأما الاستدلال بشواهد الأصول فضعيف أيضا كثرة الشواهد لا يكون فيها دليل كثير وهذا لأن الوصف هو المقتضى للحكم فلا بد من بيان معنى في الوصف يدل على الاقتضاء حتى تصح العلة وأما إبطال علة الخصم وطلب تصحيح العلة بهذا الطريق فضعيف أيضا بما قد بينا فلم يبق في الدليل على صحة العلة سوى الإخالة والمناسبة. وقد ذكر أبو الحسين البصرى في أصوله أن مما يدل على صحة العلة أن يكون الوصف مؤثرا في قبيل ذلك الحكم لأن العلة ما يؤثر في الحكم وما لا يؤثر لا يكون علة. قال: وهذا كالبلوغ يؤثر في رفع الحجر عن المال فكان أولى أن يكون علة في رفع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 الحجر عن النكاح من الثيوبة لأن الثيوبة لا تؤثر في جنس هذا الحكم الذى هو رفع الحجر1. واعلم أنا بينا تأثير الثيابة في مسائل الخلاف في الفروع وأوردنا ما فيه الكفاية ورجحنا اعتبار الثيابة على اعتبار الصغر وتركنا إيراد ذلك في هذا الموضع واعلم أن مجموع ما يحصل من معنى الإخالة والمناسبة وهو أن يقال دليل صحة العلة وجود وصف مناسب للحكم مخيل مؤثر في إثباته متى عرض الوصف على قواعد الشرع وقوانينه وأصوله فإذا وجد الوصف بهذا الحد عرف صحته وهذا أمر لا يتم بالمكابرات والمعاندات وإنما يعرف ذلك بعرضه على أصول الشرع وقواعده وبيان هذا في الشدة المسكرة: فإنا نقول: إنها العلة في تحريم الخمر ونقيس النبيذ على الخمر بهذا الوصف وهذا وصف مناسب للحكم مخيل مؤثر في إثباته ونعنى بالتأثير إشعاره في القلوب وقبولها لذلك الحكم بتلك العلة ووجود شاهد الأصل على ذلك وكذلك الطعم مشعر بالتحريم بالوجه الذى ذكرناه في كتاب الاصطلام وقد أبى بعض أصحابنا وجود معنى في الطعم يؤثر في الحكم ويشعر وجعل يلوذ بالخير واللياذ بالخير وإن كان حسنا لكنا ندعى إن علة الربا علة مستنبطة لا منصوص عليها وقد استنبط الشافعى علة الطعم واستنبط أبو حنيفه علة الكيل فلابد من إقامة الدليل على تصحيحه من حيث الإخالة والمناسبة وفى هذا خطب عظيم ولا يمكن إقامة الدليل عليه إلا بعد معرفة حكم النص ولابد من الإعراض عن الترجيحات لأن الحاجة ماسة إلى إقامة الدليل على تصحيح العلة فلا معنى للاشتغال بالترجيح وعندنا أن الكيل علة فاسدة وليس لها مناسبة لحكم النص بوجه ما. وأما الطعم فهو المخيل المشعر بثبوت حكم النص فذكر الترجيح في مثل هذا يبعد فدل أنه لابد من ذكر دليل في نفس الطعم وأنه علة وقد أوردنا وحققنا وليس هذا الكتاب لمسائل الفروع وإنما هو لمسائل الأصول وعلى الأصل الذى أوردناه مسألة بيع الفاسد فإن الفساد مشعر بانتفاء الحكم وفى مسائل النكاح بغير ولى الأنوثة مشعرة ببقاء الولاية للمرأة في الأنكحة والبكارة مشعرة بثبوت الإجبار وأمثال هذا يكثر فهذا هو الأصول وعلى أمثالة هذه العلل ينبغى أن يقع الاعتماد من الله المعونة والتوفيق بمنه. وحين وصلنا إلى هذا الموضع فنقول قد بينا أن الاطراد ليس بدليل لصحة العلة   1 انظر المعتمد "2/448, 449". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 لكنه شرط لصحة العلة وسيأتى هذا من بعد فأما الانعكاس ليس بشرط ونذكر هذه المسألة في هذا الموضع. مسألة: اعلم أن الانعكاس ليس بشرط لصحة العلة في قول أكثر الأصحاب: وهو قول جمهور من انتمى إلى الأصول من الفقهاء وهو أيضا قول بعض المتكلمين وذهب بعض أصحابنا إلى أن الانعكاس شرط فإذا ثبت الحكم بوجود العلة ولم يرتفع بارتفاعها بطلت العلة وهو قول بعض المعتزلة1. ويعلق من ذهب إلى هذا بالعلل العقلية. وقال: العلل الشرعية وإن كانت مظنونة ولكن ينبغى أن تكون على مضاهاة العلل العقلية إلا في كون إحديهما معلومة والأخرى مظنونة ثم العلل العقلية يجب انعكاسها كذلك العلل السمعية ولأن العلل الشرعيه إنما تفيد الحكم لآنها تفيد غلبة الظن فإذا وجد الحكم بوجود الوصف ولم ينعدم بعدمه ولم يفد غلبة الظن فلا يبقى حجة. وأما دليلنا نقول: العلة المنصوبة للإثبات فلا تدل على النفى وكذلك إذا نصبت للنفى لا تدل على الإثبات. فنقول علة منصوبة فلا يطلب منها إلا التأثير في ذلك الحكم كالعلة المنصوص عليها لا يطلب منها إلا إثبات الحكم الذى تناوله النص وهذا لأن المقصود من التعليل إثبات الحكم دون نفيه فلا يعمل في النفى لأن العلة إنما تعمل فيما قصد بالعلة. ونقول أيضا إن العكس لو كان شرطا لكان لا يقتل إلا قاتل من حيث كان القتل علة قتل القاتل أو لا يقتل إلا مرتد فإذا كان الحكم الثابت بعلة تطرد مع ارتفاعها لوجود علة أخرى تخلفها عند ارتفاعها دل ذلك أن الانعكاس ليس بشرط. فإن قالوا: إن القتل قصاصا قد لنعدم بعدم القتل وكذلك الفعل بالردة لنعدم بعدم الردة وإنما تقتل بعلة أخرى. قلنا: فإذا كان وجوب القتل بعلة القتل من حيث انعدام وجوب القتل عند عدم القتل فإذا حدث علة أخرى للقتل فينبغى أن يحكم بتعارض ما يوجب القتل وما لا   1 انظر إحكام الأحكام "3/338" المستصفى "2/344" البرهان "2/842" نهاية السول "4/183". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 يوجب القتل ويسقط القتل لأن الدليل الشرعى دليل مثل الدليل العقلى ثم الدليل العقلى يجوز أن لا يدل على وجود الحكم في الموضع الذى وجد فيه الحكم ثم ينعدم ويثبت الحكم بدليل آخر فكذلك الدليل الشرعى يجوز أيضا أن يكون كذلك بل هذا أولى لأن الدليل العقلى قد صار دليلا بنفسه والدليل الشرعى إنما صار دليلا بجعل جاعل فإذا لم يكن هذا شرطا في الدليل العقلى ففى الدليل الشرعي أولى وقد ظهر بهذا الجواب عما تعلقوا به وقد ظهر الذى قالوه لا يشرط في الدليل العقلى وفى الحسيات أيضا ليس كل من نصب علما على إثبات شئ ينبغى أن ينصب علما على ضده. وأما قولهم إن قوة الظن تذهب بعدم الانعكاس دعوى لا دليل عليها وعلى أنا بينا أن الدليل على صحة العلة الإخالة والمناسبة وذلك قائم وإن لم ينعكس وهذا هو الدليل المعتمد وإذا بقى الدليل على صحة العلة بقيت العلة مفيدة لحكمها ثم إذا انعدمت العلة فيجوز أن يقوم دليل آخر على بقاء الحكم ويجوز أن يدل دليل فينتفى لعدم الدليل. ويقال أيضا إن العلة الشرعية أمارة فيجوز أن يدل على الحكم الواحد أمارتان أيهما وجدت دلت عليه فإحدى الأمارتين وإن عدمت بقى الحكم بالأمارة الأخرى ولم يدل ذلك على أن الأمارة الأخرى لم تكن صحيحة1. والله أعلم.   1 انظر البرهان "2/842" المحصول "2/243" جوامع الجوامع "2/287" إحكام الأحكام للآمدي "3/338" فواتح الرحموت "2/203" أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "4/102". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 فصل: قياس الشبه ... فصل: قد فرغنا من ذكر قياس المعنى فهذا قياس الشبه2: وقد اختلف العلماء في كونه حجة في الأحكام أو ليس بحجة. مسألة: اعلم أن ظاهر مذهب الشافعى رحمة الله أنه حجة وقد أشار إلى الاحتجاج به في مواضع من كتبه وأقرب شئ في ذلك قوله: في إيجاب النية في الوضوء كالتيمم:   2 الشبه جاءفي اللغة من معانيه الآتية: الشَّبَه والشَّبِه والشبيه المثل والمثيل والجمع: أشباه ونقول: أشبه الشيء الشيء ماثله وبينهما شبه وشبهه إياه وشبهه به مثله به والشبه هو المشاركة بين اثنين في أمر من الأمور حسيا = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 طهارتان فكيف يفترقان وتابعه أكثر الأصحاب على ذلك غير أبى إسحاق المروزى فإنه روى عنه أنه قال: ليس بحجة. وقال الشافعى في أدب القاضى القياس قياسان: أحدهما: ما كان في معنى الأصل. والآخر: أن يشبه الشيء بالشئ من أصل ويشبه [الشئ] 1 من أصل [غيره] 2 ثم قال: وموضع الصواب عندنا في ذلك أن ينظر إن أشبه أحدهما في خصلتين وأشبه الآخر في خصلة ألحقه بالذي أشبه في خصلتين3. قال بعض أصحابنا: إن قوله هذا يدل على أنه حكم بكثرة الأشباه من غير أن يجعلها على الحكم. وقال بعضهم: إنما حكم بترجيح إحدى العلتين في الفرع بكثرة الشبه. وقال كثير من أصحاب أبى حنيفة أن قياس الشبه ليس بحجة وإليه ذهب من ادعى التحقيق منهم وصار إليه القاضى أبو زيد ومن تبعه وذهب إلى هذا القول أيضا:   = أو معنويا والتشابه: هو الالتباس وعدم التميز بين الأمور. ويقولون: اشتبهت الأمور وتشابهت فلم تتميز فكان بخلاف الشبه انظر لسان العرب مادة "شب" القاموس المحيط "4/286" الشبه عند الأصوليون بطلاق بإطلاقين: أحدهما: الطريق المثبت لكون الوصف علة وثانيهما: عليته بهذا الطريق: وقد اختلف الأصوليون في تعريفه بالإطلاق الثاني ونشأ عن ذلك اختلافهم في الشبه بالإطلاق الأول فعرفه بعضهم بقوله: الوصف الشبهي: هو الذي لم تظهر مناسبته بعد البحث التام ولكن عهد من الشارع الالتفات إليه في بعض الأحكام. مثل الطهارة بالنسبة لتعيين الماء في إزالة النجاسة فإنها وصف لم تظهر مناسبته لتعيين الماء ولكن عهد عن الشارع اعتبار الطهارة بالماء في الوضوء. وعرفه القاضي أبو بكر الباقلاني بأن الشبه هو الوصف المقارن للحكم وكان مناسبا له بالتبع دون الذات وعرفه بعضهم بأن الشبه هو الوصف الذي علم اعتبار جنسه القريب في جنس الحكم القريب من غير مناسبة بالذات انظر إحكام الأحكام "/3/423, 424, 425" نهاية السول "4/106, 107" فواتح الرحموت "2/301, 302" المحصول "2/344, 345" جمع الجوامع "2//286, 287" أشول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "4/100, 101" الصالح في مباحث القياس عند الأصوليين "329, 330, 331". 1 زيادة ليست في الأصل. 2 ثبت في الأصل"غيرهم". 3 انظر مختصر المزنى بهامش الأم "5/242". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 القاضى أبو بكر والأستاذ أبو منصور البغدادي1. ثم اعلم أن الشبه ضربان: أحدهما: في الأحكام. والثانى: في الصورة. فأما الشبه في الأحكام فقد ذهب عامة أصحابنا إلى جواز التعليل به كوطء الشبهة مردود إلى النكاح في سقوط الحد ووجوب المهد لشبة بالوطء في النكاح في الأحكام. وأما الشبه في الصورة فكقياس الخيل على البغال والحمير في سقوط الزكاة بصورة الشبه أو كقياس الخيل على البغال والحمير في حرمة اللحم كقول القائل: ذو حافر أهلى وقد جعل بعضهم مثل هذا القياس حجة لأن الشبه قد وجد. قال: وإذا جاز أن يعلل الأصل بصفة من ذاته جاز أن يعلل بصورة من صفاته ولأن العلل أمارات فيجوز أن يكون الشبه في الصورة أماره على الحكم كما يجوز أن الشبه في المعنى أو في الحكم أمارة على الحكم وهذا ليس بصحيح. والصحيح أن مجرد الشبه في الصورة لا يجوز التعليل به لأن التعليل ما كان له تأثير في الحكم بأن يفيد قوة الظن ليحكم بها والشبه في الصورة لا تأثير له في الحكم وليس هو مما يفيد قوة الظن حتى يوجب حكما. وقد استدل من قال: إن قياس الشبه ليس بحجة بأن المشابهة في الأوصاف لا توجب المشابهة في الأحكام فإن جميع المحرمات يشابهه بعضها بعضا في الأوصاف ويختلف في الأحكام ولأن المشابهة فيما لا يتعلق بالحكم لا توجب المشابهة في الحكم لأن العلة هى الجالبة للحكم فيما لا يتعلق به الحكم لا يجلب الحكم ولأن من جعل الشبه حجة لا يخلو إما أن يجعل المشابهة بهذا في جميع الأوصاف حجة أو يجعل المشابهة في بعض الأوصاف حجة فإن جعل المشابهة في جميع الأوصاف حجة فهذا لا يوجد وإن جعل المشابهة في بعض الأوصاف حجة فإذا لم يكن لذلك الوصف تأثير في الحكم فليس بأن يجعل المشابهة في ذلك الوصف علة للمشابهة للحكم بأولى بأن يجعل المفارقة في غيرها من الأوصاف علة للمفارقة في الحكم.   1 انظر البرهان "2/842" المحصول "2/345" جمع الجوامع "2/287" إحكام الأحكام "3/338" فواتح الرحموت "2/301, 302" أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "4/102" الصالح في مباحث القياس "235, 236". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 قالوا: وأما المكاتب فنحن لا نقول: ألحق بالأحرار لمشابهته بالأحرار فإن العبد يشبه الأحرار في معانى كثيرة ومغ ذلك لا يلحق بالأحرار وكذلك الدواب تشبه بنى آدم في صفات خمس ولا يلحق هذا الشبه ببنى أدم ولكن المكاتب حر يد أثبتت له بحكم عقد الكتابة ورقيق رقبة فلحرية يده يستحق ما يستحق الحر بيده ولرق رقبته لا يستحق ما يستحقه الحر برقبته. والصحيح: أنه ثبت له أحكام الأحرار بالكتابة نظرا له ليصل إلى الحرية مع بقاء الرق على الكمال. وقد قال أيضا من يرد قياس الشبه أن مجرد الشبه صورة أوحكما لا يشعر بمناسبة بين العلة والحكم لجواز افتراق المحلين في الحكم. وبيانه: أن من قاس الوضوء على التيمم في إيجاب النية بقوله طهارة فليس في قوله طهارة ما يؤثر في إيجاب النية ويجوز افتراق الوضوء والتيمم في حكم النية وغيرها فلا يدل نفس وجوب النية في التيمم على وجوبها في الوضوء فلابد من اجتماعهما في المعنى الذى يوجب نية الفعل إذا اتصف بكونه طهارة حتى إذا اجتمع الفعلان في وصف الطهارة يجتمعان في الحكم وعلى هذا من علل في منع قتل الحر بالعبد يقول قصاصا وقاس على الطرف فيقال نفس قول قصاص لايدل على امتناع الجريان ويجوز أن يمنع الحكم بين الطرف والنفس في ذلك المعنى ليجتمعان في حكم النفى وأمثال هذا تكثر جدا يدل عليه أنه ليس الشبه إلا اشتراك الشيئين في وجه من الوجوه وإن اشتركا في وجه من الوجوه افترقا في كثير من الوجوه ومن اكتفى بمجرد اشتراك في الشبه بوجه ما يعارض بمجرد افتراق الشبه بوجه ما أو بوجوه شتى لأن وجوه الافتراق في الأشياء أظهر من وجوه الاجتماع فدل على أن قياس الشبه بنفسه لا يكون حجة. ويقولون أيضا: قولك إن الفرع كالأصل في الحكم أبعلم تقول هذا أم أبظن أو لا بعلم ولا بظن؟ فإن قلت: بعلم فأين العلم وإن قلت بظن فأين الظن وهذا لأن العلم والظن لابد لهما من مستند فاذكر المستند حتى يصح قولك إنه بعلم أو بظن وإلا فهو هذيان وإن قلت لا بعلم ولا بظن فحكم الله تعالى لا يثبت بالجزاف. وإن قلت: تشابههمافى وجه يغلب على الظن تشابههما في الحكم فهذا دعوى مجردة وإن كانت المشابهة في وجه يفيد ظنا فالمفارقة في سائر الوجوه تبطل الظن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 وتشوش على الظان ظنه. وقالوا أيضا: إن الأصل في القياس هم الصحابة والمنقول من الصحابة النظر إلى المصالح والعلل المعنوية فأما مجرد الشبه فلم ينقل عنهم بوجه ما. وأما دليل من جعل قياس الشبه حجة فنذكر أولا الفرق بين قياس المعنى وقياس الشبه والطرد ويمكن أن يقال: على الإطلاق قياس المعنى تحقيق وقياس الشبه تقريب وقياس الطرد تحكم. ونقول: إن قياس المعنى ما يناسب الحكم ويستدعيه ويؤثر فيه ويقتضيه وهو تعليق التخفيف بما يوجب التخفيف وتعليق العقوبات بالجنايات وتعليق وجوب الحق بالايجابيات وأمثال هذا تكثر وأما الطرد فعلى عكس هذا هذا فإنه تعليق الحكم بما لا يناسب الحكم ولا يشعر به ولا يقتضيه وقد سبق بيان هذين جميعا والكلام فيهما. واما قياس الشبه فلابد وأن يكون في فرع يتجاذبه أصلان فيلحق بأحدهما بنوع شبه يقرب من غير تعرض لبيان المعنى ونعنى بالمقرب شبها يقرب الفرع من الأصل في الحكم المطلوب ويجوز أن يقال قياس يشعر باجتماع في حكم من غير بيان المعنى وقد استدل من جعله حجة بأن الشرع ورد باعتبار الشبه في جزاء الصيد وباعتبار الأشباه في العدالة والفسق يعنى اعتبار السدد في القول بالسداد في الأفعال وبذلك عدم السداد في القول بعدم السداد في الأفعال وكذلك ورد الشرع باعتبار الأشباه في الضيافة وأيضا فإن القياس ليس إلا بمثيل الشئ بالشئ وتشبيهه به والشئ إنما يمثل بما يشتبهه ويجانسه فيجب إلحاق الشئ بما يشابهه ويجانسه جريا على هذا الأصل. يدل عليه: أن التساوى في الذوات والأوصاف يوجبه التساوى في الأحكام فإن المستويين ذاتا ووصفا يستويان في الحكم لتحقيق التساوي. ألا ترى أن المكاتب ملحق بالأحرار في كثير من الأشياء وليس ذلك إلا باعتبار مجرد الشبه والمعتمد من الدليل أنا أجمعنا أن قياس المعنى حجة ولا موجب لكونه حجة إلا أنه يفيد قوة الظن أو يخيل في القلب أنه متعلق بذلك المعنى فإن طريق العلم القطعى مسدود مردوم ومثل هذا المسلك يوجد في قياس الشبه ولا يعرف هذا إلا ببيان المثال هذا قول تعالى القائل في الوضوء: إنه يجب فيه النية إنه طهارة حدث فيجب فيها النية كالتيمم أو يقول في مسألة المضمضة والاستنشاق: إنهما لا يجبان في الغسل من الجنابة إنه غسل حكمى فلا يتعدى من الظاهر إلى داخل الفم والأنف كغسل الميت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 وكذلك قوله القائل في زكاة الصبى زكاة فتجب على الصبى كزكاة الفطر. ويقول في مسألة تبييت النية صوم فرض فلا يتأدى بنية من النهار كالقضاء ويقول في نفى القصاص عن الحر بقتل العبد قصاص كالطرف وأمثال هذا لا تعد ولا تحصى كثرة. فنقول في هذه الأقيسة إن هذه الأقيسة مغلبة للظن مفيدة قوته في كون الحكم على ما نصب له المعلل فإنه يغلب على ظن كل عاقل شبيهة الوضوء بالتيمم وشبيهة الغسل بالغسل والزكاة بالزكاة والصوم بالصوم والقصاص بالقصاص. ومن قال: إن هذا لا يفيد غلبة الظن فلا شك أنه معاند. ونقول في قول الشافعى في الوضوء والتيمم إنهما طهارتان فكيف يفترقان لمن يأتى هذا القياس أيغلب على ظنك كون الوضوء مثل التيمم فإن كل واحد منهما طهارة عن حدث لا يعقل معناه وقد غلب التعبد على كل واحد منهما؟ فإن قال: نعم فهذا هو الذى قصدناه من وجود غلبة الظن وهو أيضا معنى شبه التقريب الذى ادعيناه. وإن قال: لا يغلب على ظنى فلا شك أنه معاند ولهذا الذى قلناه عسر الفرق بين الوضوء والتيمم على المفرق بينهما ولهذا سوى الأوزاعي وهو أحد أئمة الدنيا بينهما في نفس وجوب النية وعلى هذا جملة ما ذكرنا من المسائل وكذلك قول القائل في مسألة ظهار الذمى من صح طلاقه صح ظهاره فهذا مفيد لقوة الظن بقرب حكم الفرع من حكم الأصل في الذى نصب له العلة لأن كل واحد منهما بملك النكاح وكل واحد منهما يحرم البضع مع كون الزوج مالكا للبضع متمكنا من التصرف فيه بالتحريم على وجه ينفرد بإثباته ومما يؤيد ما ذكرناه من التعلق بقياس الشبه أن القياس إنما أطلقه الشرع في أصل الأحكام لضرورة الحاجة فإنا قد ذكرنا أن النصوص متناهية والحوادث غير متناهية ولله تعالى في كل حادثة حكم لو لم يجز القياس أدى إلى التوقف في كثير من الأحكام المطلوبة إقامتها بين الناس. وإذا عرفت هذا الأصل فنقول: لابد من وضع الأقيسه على وجه يسهل طلبها ووجودها ليتيسر بناء الأحكام عليها ولا يشتد باب البحث على العلماء فيها فإذا قلنا: إن القياس الصحيح هو قياس المعنى فهذا وإن وجد في كثير من الأحكام والأصول ولكن ليس مما يسهل وجودها فإنا نعلم أن كثيرا من أصول الشرع يخلو عن المعانى خصوصا في العبادات وهيئاتها والسياسات ومقاديرها وكذلك شرائط المناكحات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 والمعاملات ثم تلك الأصول لها فروع وتلك الفروع تتجاذبها أشباه وإذا كانت المعانى تعدد في الأصول فكيف يسهل وجودها في الفروع فلم يكن بد في استعمال القياس لكن مع الحيد عن طريقة الطرد لأن غلبة الظنون لابد منها ولا ضرورة في استعمال مجرد الطرد الذى لا يفيد ظنا أصلا فجعلنا غلبة الأشباه والقياس المنصوب في هذه الجهة مع وجود ما يقرب في الظن إلحاق الفرع بذلك الأصل وجعله في مسلكه وضمنه إلى مسلكه حجة ثم ظهور الفرق يكون محصلة واحدة وهو عسر الفرق على الفارق بين الوضوء والتيمم وزكاة الرأس وصدقة الماشية وصدقة النبات وكذلك الفرق بين القصاص في الطرف والقصاص في النفس ويعضد هذا الكلام بالأصل المعهود وهو أن الأقيسة الشرعية أمارات وعلامات وليس بموجبات وفى الأمارات والعلامات من سهولة المأخذ ما لا يوجد في الموجبات. والقول الجامع: إن التأثير لابد منه إلا أن التأثير قد يكون بمعنى وقد يكون بحكم وقد يكون بغلبة شبه فإنه رب شبه أقوى من شبه آخر وأولى بتعليق الحكم به لقوة أمارته والشبه قد يعارضه شبه آخر فربما يظهر فضل قوة أحدهما على الآخر وربما يخفى ويجوز أن ترجع الشبهات إلى أصل واحد ويجوز أن ترجع إلى أصلين فلا بد من قوة نظر المجتهد في هذه المواضع وهذا كالعبد يشبه الحر من حيث إنه آدمى مكلف ويشبه الأموال والسلع من حيث إنه مال مملوك والجص يشبه البر من حيث إنه مكيل ويفارقه من حيث إنه ليس بمأكول وعلى عكس ذلك الرمان والسفرجل يشبه البر من حيث إنه مأكول ويفارقه من حيث إنه ليس بمكيل وكذلك الذرة وما يشبه ذلك. وقد قال القاضى أبو حامد المروروزي في أصوله: إنا لا نعني بقياس الشبه أن يشبه الشئ بالشئ بوجه أو أكثر من وجه لكن نعنى أن لا يوجد شئ أشبه به منه ومثال هذا لا يوجد شئ أشبه من الوضوء بالتيمم وكذلك في الزكاة والزكاة وكذلك القصاص في الطرف والنفس فإنه لا يوجد شئ أشبه من القصاص في الطرف بالقصاص في النفس أو على عكس هذا لأن إلحاق الشئ بنظائره وإدخاله في مسلكه أصل عظيم فإذا لم يوجد شئ أشبه به منه لم يكن بد من إلحاقه به وهذا الذى قاله القاضى أبو حامد تقريب حسن وهو عائد إلى ما ذكرناه. واعلم أن هذا الذى ذكرناه نهاية ما يمكن إيراده في كون قياس الشبه حجة والذى ذكروه في نفى قياس الشبه كلمات مخيلة والأولى أن يقال: إن من يتحرى طلب الحق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 وطلب إيراد معنى مناسب للحكم فينبغى أن يشتغل بذلك ويبذل غاية مجهوده وعندي أن من طلب ذلك فلابد أن يجده إلا في أفراد من المسائل وردت بها النصوص واتفقت الأمة على تعديها من المعانى فأما عامة الأحكام فالشارع للحكم لم يخلها من المعانى المؤثرة في تلك الأحكام وإن أعوز المجتهد وجود المعنى حينئذ ينبغى أن يرجع إلى قياس الشبه على الطريقة التي قدمناها فلا بأس بذلك وغير مستبعد من الشرع أن ننبه بحكم على حكم ويمثل شيئا بشئ إما معنى أو حكما أو غلبة شبه بسائر الوجوه والله أعلم بالصواب وقد ذكر الأصحاب على ما ذكرناه أمثلة كثيرة ولا حاجة إلى الاشتغال بكثرة الأمثلة بعد أن تبين أصل الكلام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 فصل: جعل الاسم علة للحكم ... "فصل" وأما إذا جعل الاسم علة للحكم فقد قال الأصحاب: إن الاسم على ضربين: اسم اشتقاق واسم لقب. فأما الاسم المشتق فعلى ضربين: أحدهما: مشتق من فعل كالضارب والقاتل اشتق من الضرب والقتل فيجوز أن يجعل هذا الاسم علة معنى في قياس المعنى لأن الأفعال يجوز أن تكون عللا في الأحكام. والضرب الثانى: أن يكون مشتقا من صفة كالأبيض والأسود مشتقق من البياض والسواد فهذا الاسم من علل الأشباه الصورية فمن جعل شبه الصورة حجة قال: يجوز أن يجعل هذا علة وحجة وقد قال: النبى صلى الله عليه وسلم في الكلاب: "فاقتلوا منها كل أسود بهيم" 1 فجعل السواد علما على إباحة القتل. وأما اسم اللقب فعلى وجهين: أحدهما: مستعار كقولنا زيد وعمرو ولا يدخله حقيقة ولا مجاز لأنه قد ينقل اسم زيد إلى عمرو واسم عمرو إلى زيد فلا يجوز التعليل بهذا الاسم لعدم لزومه وجواز انتقاله وإنما يوضع موضع الإشارة وليست الإشارة بعلة كذلك الاسم القائم مقامها.   1 أخرجه أبو داود: الضحايا "3/107" ح "1845" والترمذي: الأحكام والفوائد "4/78" ح "1486" وقال: حسن صحيح. والنسائي: الصيد "7/163" "باب صفة الكلاب التي أمر بقتلها" وابن ماجة: الصيد "2/1069" ح "3205" انظر نصب الراية "4/313". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 والضرب الثانى: اسم لازم كالرجل والمراة والبعير والفرس فقد ذكر أالصحاب في هذا وجهين: فمنهم من جوز التعليل ومنهم من لم يجوز تجويز التعليل به. والصحيح عندي: أنه لا يجوز التعليل بالأسامى بحال لأنها تشبه الطروه وأما الأسامى المشتقة فالتعليل بموضع الاشتقاق لا بنفس الاسم والله أعلم. وإذا فرغنا من بيان العلة فقد اشتمل هذا الفصل على ما يحتاج إليه الفقيه ولا يستغنى عنه بحال فنذكر بعد هذا الكلام فى: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 فصل: بيان الحكم ... الفصل الرابع: وهو بيان الحكم فالحكم هو ما تعلق بالعلة في التحليل التحريم الإيجاب والإسقاط هو على ضربين مصرح به ومبهم. فالمصرح به أن يقول فجاز أن يجب كذا أو يقول فوجب أن يجب كذا وما أشبهته والمبهم أن يقول فأشبه كذا فمن الناس من يقول إن ذلك لا يصح لأنه حكم مبهم. ومنهم من يقول: إنه يصح وهو الأصح عند الجدليين لأنه المراد به فأشبه كذا في الحكم الذى وقع السؤال عنه وذلك بشئ معلوم بين السائل والمسئول فيجوز أن يمسك عن بيانه اكتفاء بالمعلوم الموجود بينهما ومنها أن تعلق عليها التسوية بين حكمين كقولنا في إيجاب النية في الوضوء طهارة فاستوى جامدها ومائعها في النية كإزالة النجاسة فمن أصحابنا من قال: إن هذا لا يصح لأنه يريد التسوية بين المائع والجامد في الأصل في إسقاط النية وفى الفرع في إيجاب النية وهما حكمان متضادان والقياس أن يستقى حكم الشئ من نظيره لا من ضده ومنهم من قال: إن ذلك صحيح وهو الأصح لأن حكم العلة هو التسوية بين المائع والجامد في النية والتسوية بين المائع والجامد في النية موجودة في الأصل فصح القياس عليه وإنما يظهر الاختلاف في التفضيل وليس ذلك بحكم عليه حتى يضر فيه الاختلاف ومن حكم العلة أيضا أن يذكر التأثير فنقول: في مسألة السواك للصائم تطهير يتعلق بالفم من غير النجاسة فوجب أن يكون للصوم تأثير فيه دليله المضمضة فهذا تعليل لهذا الحكم صحيح لأن تأثير الصوم في المضمضة صحيح موجود وهو منع المبالغة فصح إثبات تأثيره في الفرع وذلك بالمنع منه بعد الزوال واختلافهما في كيفية التأثير لا يمنع من التعليل لأصل التأثير لأن الغرض إثبات أصل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 التأثير إلى هذا الموضع ذكره في التبصرة وهذه فصول عراقية ليس تحتها كثير معنى غير أن كتب الجدل والأصول تزين بأمثال هذا من غغير أن يعود بفائدة فقهية واعلم أن في بيان حكم العلة مسألة خلافية ذكرناها من قبل وهى أن مذهب أصحاب أبى حنيفة أن حكم العلة ثبوت حكم الأصل في الفرع بمعنى الأصل وفى الحقيقة ثبوت مثل حكم الأصل مثل معنى الأصل وعندنا حكم الأصل بها ثم إن وجدت تلك العلة في موضع آخر ثبت مثل ذلك الحكم في ذلك الحكم في ذلك الموضع وإلا فلا يثبت وهذا الخلاف هو الذى ذكرناه من قبل أن العلة القاصرة تكون علة صحيحة وعنهم لا تكون علة صحيحة ثم أعلم أنه كما يجرى الاختلاف في الحكم فيجرى الخلاف أيضا في علة الحكم كاختلافهم في الإسلام هل هو علة العصمة أم لا؟ وكذك الاستيلاء على مال الغير عندنا علة الضمان وعندهم ليس بعلة ة قد يحجرى الهلاف في صفة العلة وهو علة وجوب الزكاة فعندنا ملك النصصاب علة لوجوب الزكاة من غير اعتبار صفة المعنى وعندهم ملك نصاب المغنى علة وقد يوجد الاختلاف في لشرط وهو مثل الخلاف في الشهاددة في النكاح وعندنا هو شرط1 وعند مالك ليس بشرط2 وعلى هذا اخلافهم في عدالة الشهود في النكاح قال أبو زيد: في تققديم الأدلة جملة أقسام ما يختلف فيه الفقهاء من الشرعيات رابعة أنواع الاختلاف في الموجب للحكم أو صفته أهو مشروع أم لا؟ أو في شرط العلة أو صفتها أو في حكم من الأحكامم أو صفته أو في حكم مشروع معلوم بوصف بلا منازعة في محل هل هو مقصور عليه أو هو متعدى عنه إلى غيره قال: والقياس لم يشرع حجة إلا لهذا النوع لما ذكرنا أنه لا حكم له غير التعدية وة التعدية لا يتصور إلا في هذا القسم الرابع ففسد فيما ععدا هذا لقسم لانعدام حكمه ولانه لم يصادف محله فمحله أصل فيه حكم مشروع ليمكن التعدية فيما لليس موجود ولا يكن تعديته كالحوالة حيث لا دين يلغو ولأن الخلاف متى يحصل في الموجب للحكم أو شرطه ونفس الحكم فقد وقع الاختلاف في أصل الشرع أكان أم لم يكن وهذا لا يهتدى إليه القياس لأنه ليس إلينا نصب الأحكام ولا رففعها بارأى ولا نصبب أسبابها لأن في نصب الأسباب نصب الأحكام ولا شروطها لأن في نصب الشروط المانعة رفع الأحكام فإذا لم يكن إلينا ذلك   1 انظر روضة الطالبين "7/45". 2 انظر المعونة "2/745". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 بالرأي بطل تعليل مدعيها لأنه يعلل لنصب الشرع وبطل تعليل المنكر أيضا لأن المنكر يقول لم يشرع أصلا وما لم يشرع لا يكون حكما شرعيا حتى يمكن إثباته بالقياس وإنما يثبت بالقياس قسم واحد هو شيء يثبت في محل الشرع فيستعمل القياس لتعدية ثم ذكر الأقسام فقال أما قسم الموجب فنحو اختلافنا في الجنس بانفراده هل هو علة محرمة للنساء أو لا؟ وهذا مما لا يجوز فيه التكلم بالقياس بل على مدعيها إقامة الدلائل على صحة ما ادعاه من نص أو دلالة نص أو إشارته أو اقتضائه لأنه الثابت بذلك ثابت بالنص لا بالقياس وعلى المنكر الامتناع لعدم الدليل كما نقول فيمن ادعى أن الوتر فرض عمل زائد على الخمس وأنكره آخر لم يكن على المنكر أولا التمسك بعدم قيام الدليل ولزم المدعى إقامة الدليل سوى القياس وكان بمنزلة من ادعى أن فرض الفجر أربع ركعات وأنكره الآخر وكذلك إذا اختلفنا أن السفر هو مسقط لشطر الصلاة أم لا؟ لم يصح التكلم فيها بالقياس بل الذي يدعيه مسقطا يلزمه إثباته وإنما يظهر الفقه في هذه المسائل بإفساد أدلة الخصم لا لأنه يمكنه إفسادها إلا تفقد طرق الأدلة حتى يعلم بها أن الأدلة جائزة وليست بعادلة قال وكذلك إذا وقع الخلاف في الحربي يسلم أيكون إسلامه موجبا لجعل نفسه وماله مضمونين مثل الأحرار بدارنا أم لا؟ فهذا لا يعرف بالقياس وكذلك الخلاف أن العقل مثل الشرع أهو حجه قاطعة لعذر الكفار. ما صفته فنحو اختلافنا في المال الذي سببب الزكاة أهو سبب بصفة النماء أم دونها واليمين بالله سبب الكفارة بسبب أنها مقصودة أو معقودة وقتل النفس بغير حق سبب الكفارة بصفة الحرمة أو بصفة الإباحة مع الحرمة والإفطار سبب الكفارة باسم الجماع أو باسم اقتضاء إحدى الشهوتين وهذا لأن وصف الشىء منه فما لم يكن أصله مما يثبت بالقياس لم يكن وصفه كذلك من قبل ما يثبت به. قال: وأما أصل الشرط فنحو الاختلاف في شهود النكاح أنهم شرط أم لا؟ وكذلك الولى فأما ثبوت الولاية للمرأة على نفسها فمما يعرف قياسا لأننا وجدنا ثبوت نعنى الولاية حكما ثابتا مع البلوغ والحرية في أصل مجمع عليه فصح القياس لتعدية إلى المرأة وكذلك إذا اختلفنا في الزكاة أن التسمية هل هي شرط فيها أم لا؟ لم يجز التكلم فيها بالقياس وكذلك قلنا: إن شرط نفوذ الطلاق من جانبها النكاح أو العدة عنه وقال: خصمنا العدة ليست بشرط النفوذ وبالعدة وحدها لا يصير محلا وكذلك إذا اختلفنا في البلوغ عن عقل أهو شرط لوجوب حقوق الله تعالى التي تحتمل النسخ والتبديل كالصلاة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 والزكاة والصوم والكفارات ولزوم الإحرام وكذلك وجوب العقوبات كحرمات الإرث بالقتل والحدود لم يكن للقياس فيه مدخل وكذلك إذا أختلفنا في البلوغ بعد العقل أهو شرط لصحة أداء ما لا يحتمل النسخ وهو الإسلام أو لا؟ ثم سأل على نفسه سؤالا فقال فإن قيل: أليس اختلفنا في الطعام بالطعام أن القبض في المجلس هل هو شرط في بيع أحدهما بالآخر أم لا؟ وتكلمتم بالقياس فيها فأجاب وقال: البقاء على الصحة بلا شرط القبض حكم ثبت في أصل منصوص عليه من البيوع وهو بيع العبد بالدراهم وكل ما عدا الطعام من السلع فصحت التعدية بالتعليل إلى الفرع المختلف فيه ما لم يمنمعنا منه نص بخلافه فيجب على مدعى الفساد لوجود النص إقامته قال: ولا يلزم على هذا استعمال القياس في منع شرط التسمية في الزكاة بالقياس على الناسى لأنا إذا أحللنا زكاة تارك التسمية ناسيا على أنه في حكم المسمى بدليل النص كما يجوز صوم الآكل ناسيا على أنه في حكم من لم يأكل بدليل النص ثم لا يجوز أن يقاس عليه إذا ترك التسمية عمدا أوأكل في الصوم عمدا لأنه معدول به عن القياس قال: فبهذا يظهر بيان الفقه في طرق القياس. وأما صفة الشرط فكشهود النكاح أهم رجال أو رجال ونساء وصفة طهارة الصلاة أهى مرتبة أم غير مرتبة أم بفصة الموالاة أو ليست بصفة الموالاة قال: أما الحكم فنحو اختلافنا في الركعه الواحدة مشروعة صلاة أم لا؟ وصوم بعض اليوم مشروع أم لا والأربع مشروعة على المسافر والمسح على الخف مشروع أم لا وكذلك اختلافهم في القراءة هل تسقط بالإقتداء أم لا والصوم عل يسقط بالجنون أم لا؟ ثم سأل سؤالا فقال فإن قيل: اختلفنا في صوم يوم النحر مشروع أم لا وتكلمتم فيه بالقياس وأجاب وقال: لا كذلك فإن كون اليوم سببا لصيرورة الصوم مشروعا ثابت أصلا ووقع في استنساخه أنه يوم عيد فأنكرناه لأنا أثبتنا كون اليوم سببا بالقياس وأما وصف الحكم فنحو اتفاقنا على أن القراءة مشروعة على الشفع الثانى واختلفنا أنها فرض أو لا واتفقنا أنها فرض في الأول واختلفنا أنها فاتحة أم لا واتفقنا أن من حكم النكاح أن يملك الرجل طلاق امرأته واختلفنا في وصفه أنه يملك مباحا والكراهة بعارض ويملك مكروها والإباحة بعارض وهذا مذهبنا على ما بينا في موضعه وكذلك يملك الطلاق مبينا قصدا إليه عندنا وعندي لا يملك فهذا لا يعرف بالقياس وأنا لا نجده بعينه أصلا آخر لتعديه إلى الفرع وكذلك إذا اختلفنا في ملك النكاح في حق المتعة أهو خاص للرجل على المرأة أو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 هو مشترك بين الزوجين لا يعرف بالقياس لأنه غير موجود في أصل آخر لتعدية إليه بل يعرف بالاستدلال بما ثبت بالنصوص وكذلك إذا اختلفنا في حكم خبر الربا وهو قوله: "والفضل ربا" 1 أنه فضل ذات الحنطة أو فضل كيل لم يجز إثباته بالعلة لما قلنا. وكذلك إذا اختلفنا في حكم الرهن الثابت للمرتهن إذا تم العقد بالتسليم إليه أهو في حكم يد الاستيفاء التي يتم بالتسليم إليه أم هو حق بيع الدين إذا تم العقد باليد كما يتم عقد الهبة باليد وحكمه وقوع الملك للموهوب له وهذا لا يجوز إثباته بالقياس لأنا لا نجد حكم الرهن في عقد آخر لتعديه إليه بالقياس وكذلك لا يجوز نفى هذا بالقياس لأن الانتفاء من حيث لم يكن لايكون حكما شرعيا ليمكن تعديته إلى غيره بالقياس على ما ذكرنا وكذلك إذا اختلفنا في وجوب المهر بالنكاح بلا تسمية لم يكن للقياس فيه تدخل لأنا لا نجده في غيره لتعديه إليه. وكذلك إذا اختلفنا في وجوب المتعة بعد الطلاق وبعد الدخول لأنا إنما اختلفنا في ذلك لاختلافنا في المتعة أوجب أصله على نفى وحشة الطلاق أم عوضا عن ذلك النكاح واجبا بالعقد مقام الساقط بالطلاق فهذا لا يعرف بالقياس وهذا لأن أحكام الشرع بصفاتها لا تثبت أبدا إلا بالشرع فلا يمكن معرفتها مشروعة بصفاتها إلا بالنظر من حيث المعانى التي تثبت بالأسامى العربية لا يمكن معرفتها إلا بالنظر في كلام العرب والتعرف من قبلهم. وأما القسم الر ابع فنحو قولنا: إن المسح في الضوء يسن تثليثه لأنه مسح قياسا على مسح الخف فهذا يمكن إثباته بالقياس لأنا وجدنا مسحا في الوضوء وله فرض وسنة ووجدنا حكم إقامة سنته بإفراده لا يتثليثه فعديناه إلى الفرع وكذلك قولهم: الرأس عضو من أعضاء الوضوء فيسن تثليثه وصيغته قياسا على الوجه فهذان القياسان في محليهما فيجب طلب الفساد بطريق آخر وكذلك قولنا: صوم رمضان صوم عين فيتأدى بنية الصوم كالنفل في غير رمضان وقولهم إنه صوم فرض فيشترط فيه نية الفرض كالقضاء وكذلك قولنا: المديون لا زكاة عليه لأن الصدقة تحل له فلا تجب عليه الزكاة كالمكاتب وقولهم إن ملكه كامل فيلزمه الزكاة بغير المديون فهذا الذى ذكرناه سياق كلامه واعلم أن أصلنا الذى يعرفه الأصوليون أن كل ما يمكن إثباته بالقياس يثبت   1 أصله عند مسلم بلفظ "الدينار بالدينار ولا فضل بينهما. والدرهم بالدرهم ولا فضل بينهما" أخرجه مسلم: المساقاة "3/1212" ح "85/1588". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 بالقياس من غير تخصيص وفى هذه المسائل التي ذكرناها في بعضها ما يمكن إثباته بالقياس وفى بعضها ما لا يمكن إثباته بالقياس وعلينا فيها أن نعرضها على الأصل الذى قدمناه فما لا يمكن إثباته بالقياس وافقناه على زعمه وما يمكن إثباته بالقياس أثبتناه وإن رغم أنف من رغم والله المعين على طلب الحق والهادى والمرشد إلى الصواب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 فصل يتصل بالذي ذكرناه ... "فصل" وقد ذكر بعض متأخرى أصحابنا فصلا يتصل بهذا الذى ذكرناه أحببت إيراده في هذا الموضع وأذكر ما يعتمد عليه من ذلك. وقال قال الخائضون في هذا الفن رب أصل يتطرق إليه بالتعليل من وجه ويتقاعد من وجه ونذكر من ذلك مثالا أو مثالين فمن ذلك اختصاص القطع بالنصاب وهذا على الجملة متعلق بأمر ظاهر فإن الناس يهجمون على ما يوجب التغرير بالأرواح ويخاطر بالمهج بسبب التافه الوتح1 الحقير وإن فعل ذلك إنسان فإنما يغرر بمال نفيس وتشهد له القواعد التي تستحث الطباع على الهجوم على الفواحش فيها وانتصب مزجرة الحدود يزدجره عنها وأما المحرمات التي لا ميل للطباع إليها لم يرد الشرع في المنع فيها بالحدود فوقع الاكتفاء فيها بمجرد النهى مع الوعيد بالعذاب الشديد في الآخرة. ثم قال هؤلاء: لإن القياس وإن اقتضى الفصل في الجملة بين التافه والنفيس ولكن مبلغ النفيس لا يعرف بالقياس وكان ذلك موكولا إلى الشرع ونصاب السرقة منصوص عليه2. ومن أمثلة ذلك النصاب في الأموال الزكاتية والأقيسة قد ترشدنا إلى اختصاص   1 الوتح: القليل التافه من الشيء. انظر: القاموس المحيط "1/252". 2 اختلف الفقهاء في نصاب السرقة كا الآتي: قالت طائفة: لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا وهو قول عائشة وعمر وعثمان وبه قال الفقهاء السبعة وعمر بن عبد العزيز والأوزاعي وابن المنذر وهو إحدى الروايات من أحمد وهو قول مالك وإسحاق. وقالت طائفة: لاتقطع إلا في خمس. وهو مروى عن عمر وبه قال سليمان بن يسار وابن أبي ليلى وابن شبرمة والحسن. وقالت طائفة: إلا في عشرة دراهم: وهو قول عطاء والنعمان وصاحبيه. = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 وجوب الإرفاق بالأموال المحتملة لذلك المتهيئة لارتفاق مالكه ليكون الإرفاق بمقابلة الاستمكان من الارتفاق ثم القدر الواجب لا يهتدى إليه الرأى فاتبع الشرع والدليل على أن الرأي لا يهتدى إلى ما قلناه أن الهمم تختلف بالخسيس والنفيس فالفقير قد يستعصم القلس والقلسين والملك لا يستكثر القناطير المقنطرة وكذلك هذا في النصب فإن القانع بالبلاغ قد يجتزئ بالارتفاق بما ينقص عن النصاب وذو البسطة والسعة لا يرفقه العشرون بل المائتان فلابد من الرجوع إلى الشرع ويكون هو المتبع أبدا لا غير ثم قال: نحن نقسم أصول الشريعة خمسة أقسام: أحدها: ما يعقل معناه وهو أصل ويؤول المعنى المعقول فيه إلى أمر ضرورى لابد منه وهذا مثل القصاص فإنه معلل بتحقيق العصمة في الدماء المحترمة والزجر عن التهجم عليها فإذا وضح للناظر المستنبط ذلك في أصل القصاص تصرف فيه وعداه إلى حيث يتحقق أصل هذا المعنى فيه وهذا هو الذى يسهل تعليل أصله والتحق به تصحيح البيع فإن الناس لو لم يتبادلوا ما تأيد بهم لجر ذلك إلى الضرورة ظاهرة فمستند البيع إذا زائل إلى ضرورة الراجعة إلى النوع والجملة ثم قد تمهد في الشريعة أن الأصول إذا تمهدت قواعدها فالنظر بتحقيق معنها في آحاد النوع ربما يعسر فيعرض عنه قال: وهذا ضرب من الضروب الخمسة وعندي أن تعليل إيجاب القصاص ما ذكر من حكمة وجوب القصاص وتعليل تجويز البيع بما ذكر من حكمه تجويز البيع بعيد جدا وإنما السبب لوجوب القصاص هو القتل والقتل مخيل في إيجاب القتل بعد أن تأيد بالشرع والنص عليه وكون الإنسان مالكا للشئ مخيل مؤثر بجواز تمليكه من غير قد تأيد بنص أيضا نعم يجوز أن يقال: وجب القصاص بسبب القتل وجاز التمليك فيه بسبب تملكه للمحل بحكمة الزجر أو الحكمة دفع حاجات الناس فأما تعليل أصل وجوب القصاص بالزجر أم تعليل أصل جواز البيع بالحاجة فبعيد وهذا لأن الأحكام في الشرع بأسبابها لا بحكمتها وفوائدها وكان البيع لفائدة البيع والتعليل غير وإظهار الفوائد غير ونحن   = وقالت طائقة: لاتقطع إلا في أربعة دراهم فصاعدا روى هذا عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري. وقال عثمان البتي: تقطع اليد في درهم فما فوقه. وقال الخوارج: تقطع اليد في كل ماله قيمة. انظر الأشراف "2/289, 290" المغنى "10/242, 243". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 نعلم قطعا أن الشرائع لفوائد وحكم لكن لا نقول إنها معللة بها وهذا كالعبادات لا تعلل بعلى الثواب فإن كانت واجبة لفوائد الثواب والأنكحة لا تعلل بعلة حصول النسل في العالم وإن كانت مشروعة لفائدة النسل وكذلك الحدود واجبه لفائدة الزجر الحاصل بها ولا تعلل بها والقصاص من جملة ذلك. قال: والضرب الثاني: ما يتعلق به الحاجة العامة ولا ينتهى إلى حد الضرورة وهذا مثل الإجازة فإنها مبنية على مسيس الحاجة إلى المساكين مع قصور اليد عن تملكها وفي نماكها ببدل على سبيل العارية فهذه حاجة ظاهرة غير بالغة مبلغ الضرورة ولكن حاجة الجنس قد تبلغ ضرورة الشخص الواحد من جهة أن الكافة لو منعوا عن ما يظهر الحاجة فيه للجنس لنال آحاد الجنس ضرر لا محالة تبلغ مبلغ الضرورة في حق الواحد وقد يزيد أثر ذلك في الضرر الراجع إلى الجنس على ما ينال الآحاد بالنسبة إلى الجنس وعندي أن المنافع أموال وقد قام الدليل على ذلك فالإجازة فيها كالبيع في الأعيان وقد بينا ذلك في خلافيات الفروع. قال: والضرب الثالث: مما لا يتعلق بضرورة حاققة ولا حاجة عامة ولكنه قد يلوح منه غرض في جلب مكرمة أو نفي ينقص بها ويجوز أن يلتحق بهذا الجنس طهارة الحدث وإزالة الخبث وإن أجبنا عبرنا عن هذا فقلنا: مما لاح ووضح الندب إليه تصريحا كالتنظيف فإذا ارتبط الرابط أصلا كلياته تلويحا كان ذلك في الدرجة الآخرة والرتبة الثانية البعيدة في القياس وجرى وضع التلويح منه مع الامتناع عن التصريح مع حمل المكلفين على مضمونه مع الاعتضاد بالدواعي الجلية كما سبق تقرير هذا في المسالك السابقة والصور الممثلة المخيلة وهذه العبارات كلها تكلف صعب وحمل الطبع على ما بالمرء غنية عنه ولا أرى وراءها كثير معنى والطهارات كلها تعبدات وإن عللنا بالتنظيف فينبغي أن يكون على الندب لا على الإيجاب وأما عامة العبادات وتوابعها تكليفات لا يعقل معناها إلا القيام بالعبادة المحضة لله تعالى. قال: والضرب الرابع: ما لا يستند إلى حاجة وضرورة وتحصيل المقصود فيه مندوب إليه تصريحا ابتداء وفي المسلك الثابت في تحصيله الخروج عن قياس كلي وبهذه المرتبة يتميز هذا الضرب عن الضرب الثالث وبيان ذلك بالمثال أن الغرض في الكتابة تحصيل العتق وهو مندوب إليه والكتاب المنتهضة سببا في تحصيل العتق يتضمن أمورا خارجه عن الأقيسة الكلية كمعاملة السيد عبده وكمقابلة ملكه بملكه والطهارات قصاراها إثبات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 التسبب وجوبا إلى ما لا يصرح بإيجابه وليس فيها اعتراض على أصل آخر سوي ما ذكرناه من التصريح والتلويح وقد مثلناها موضع الشرع بالنكاح لتحصين الزوجين قال: والضرب الخامس من الأصول ما لا يلوح فيه للمستنبط معنى أصلا لا مقتضيا من ضرورة وحاجة ولا استحثاثا على مكرمة وهذا يندر تصويره حدا فإنه إن امتنع استنباط معنى ضرورى فإنه لا يمتنع عليه كليا ومثال هذا القسم العبادات البدلية والمحضة وأنه لا يتعلق بها الأعراض دفعية ولا نفعية ولكن لا يبعد أن يقال: تواصل الوظائف يديم تروي العباد على حكم الانقياد وتجديد العهد بذكر الله عز وجل ينهي عن الفحشاء والمنكر وهذا يقع على الجملة. ثم قال: فأما الضرب الأول وهو مما يستند إلى الضرورة فنظر القايس فيه ينقسم إلى اعتبار آخر الأصل بعضها ببعض وإلى اعتبار غير ذلك بذلك الأصل إذا اتسق له معنى فأما اعتبار الجزء بالجزء مع استجماع القياس لشرائط الصحة فهو يقع في الطبقة العالية من أقيسة المعانى ومن خصائص هذا الضرب أن القياس الجزئي وإن كان جليا إذا صادم القاعدة ترك القياس الجزئي للقاعدة الكلية ومثال ذلك أن القصاص من حقوق الآدميين وقيامها رعاية التماثل عند التقابل في هذا القياس يقتضي أن لا تقتل الجماعة بالواحد ولكن في طرده والمصير إليه هذه القاعدة الكلية لان الاستعانة بالظلمة في القتل ليس بعسر وفي درء القصاص عند وجود الإجماع خرم أصل الباب وحاصل القول في هذا قوله إلى أن مقابلة الشئ بأكثر منه ليس يحرم أمرا ضروريا هذا معنى تسميته لهذا جزئيا وإلا فالتماثل في الحقوق التي للآدميين من الأمور الكلية في الشريعة غير أن القاعدة التي سميناها في هذا الضرب مستندها أمر ضروري والتماثل في التقابل أمر مصلحي والمصلحة أذا لم تكن ضرورة جزء بالإضافة إلى الضرورة وهذا يعتضد فيما ضربناه مثلا من القصاص بأمر آخر وهو أن يبقي القصاص على مخالفة الأعواض أجمع فإن أعواض المتلفات مبناها على جبران الفائتات كالمثلي إذا ضمن بالمثل وكالقيمة إذا وجبت جبرا للتقويم المتلف والقصاص لا يجبر الفائت وإنما الغالب عليه أمر الزجر وحظ مستحقه منه شفاء الغليل فلما خرج أصله عن مضاهاة الأعواض هذا الخروج احتمل فيه الخروج عن قياس التماثل لدى التقابل وإذا قسنا الأطراف عند وجود الاشتراك في قطعها على النفوس كان واقعا جليا معتضدا بالمعنى الأصلي وهو الضرورة مع أجتماع الأطراف والنفوس في كونها مصونة بالقصاص وذكربعد هذا تخريج مسألة تمييز الفعلين واعلم أن هذا الذي ذكره المشايخ في المسألة التي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 أشار إليها وعندي أن هذا غير معتمد وقياس الطرف على النفس وإن كان جليا في الصورة ولكن افتراق النفوس والأطراف في الأحكام غير ممتنع في الشرع فلابد من بيان اجتماع النفوس والأطراف فة المعنى الذي يجب به القصاص على العدد في مقابلة الواحد والذى أشار إليه من قوله: إن في نفى القصاص عن الجماعة بقتل الواحد خرم القاعدة مثل هذا لا يصلح لبيان السبب والأسباب لا تترك بأمثال هذا الكلام فإن حفظ الأسباب لإيجاب الأحكام من أهم الأمور وكذلك قوله إن القصاص عوض يخالف سائر الأعواض قد ذكرنا عندنا أن العوض الأصلى عندنا هو المال في القتل أعنى بقولي: الأصلى هو العوض الذى يصح على أصول الشرع قياسا وجاء الشرع وراء ذلك بعوض آخر وهو القصاص فالدية عوض قياسى والقصاص عوض شرعى لغرض زائد لا يوجد في العوض القياسى فخير ولى القتل بينهما لاختلاف الغرضين ولم يجمع بينها لاتفاقهما في العوضية وهذه كلمات قد حققناها في خلافيات الفروع ولا معنى لشحن أصول الفقه من ذلك ثم تكلم على الضرب الثانى وهو فصل الإجازة بكلام طويل يخالف القياس وهذا قد سبق بيانه من قبل وذكر تقريرا في إلحاق المنافع بالأعيان ونحن قد دللنا أنها مال وأن العقد عليها كالعقد على المال وقد ألحقت المنافع بالأعيان الموجودة شرعا وجعل العقد عليها كالعقد على الأعيان وذكر الضرب الثالث وأعاد فصل الطهارة بزيادة تقريرات وذكر عبارات رائعة في ذلك والتعليل في ذلك بعيد جدا وذكر الضرب الرابع وأعاد فصل الكتابة وحكى عن مالك أنه يوجب الكتابة وعندي أن هذه النسبة إلى مالك خطأ وإنما القول بوجوب الكتابة قول داود1 على الخصوص ومذهب مالك أن الكتابة مستحبة وهو مذهب الكافة2 وجواز الكتابة خارج عن قياس سائر العقود وإنما جوز لنوع نظر وإرفاق للعبد ولهذا لزم في حق السادة ولم يلزم في جانب العبد لأن إلزام العقد في جانب العبيد يخالف النظر لهم وترك إلزامه في جانب السادة يخالف ما وضع عقد الكتابة لأجله ولأجل هذا الأصل جاز أن يبدل كسبه مع أنه عبد سيده سيجه وتنجز العتق من سيده فدل أنه مشروع محض النظر للعبيد وبهذا الوجه ندب السادة إلى فعل هذا العقد وكره لهم تركه إذا طلب العبيد ذلك ولهذا   1 وهو قول عطاء وعمرو بن دينار انظر الأشراف لابن المنذر "2/174". 2 وهو قول مالك والشعبي والحسن البصري وبه قال مالك والثوري والشافعي انظر الأشراف "3/174" المعونة "2/1463". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 الأصل وجب الإتيان لأن العجز من العبيد في أداء الأموال على التمام والكمال متوهم وأوجب حط بعض ذلك البذل عنهم ليتمحض العقد مرفقا للعبيد بكل وجه وذكر تعلق أصحاب أبى حنيفه في البيع الفاسد في الكتابة وهو تعلق معروف ثم. قال: وقال الشافعى: لا يقبل هذا القياس فإن الكتابة الصحيحة خارجة عن قياس المعاملات والفاسدة متفرعة عليها فإذا انحسم مسلك القياس في الأصلين يعنى البيع الصحيح والكتابة الصحيحة ويترتب عليه امتناع القياس في الفرعين وقال أصحاب أبى حنيفة: إذا ثبتت الكتابة والتحقت بالمعاوضات المحضة فلا ينظر بعد ذلك إلى خروجها عن قياس المعاوضات ولكنها تقضى فيها وعليها بقضايا المعاوضات حتى يقول بشرط فيها من التراخى وإعلام العوض واتصال الإيجاب بالقبول ما يشترط في المعاوضات فاعتبار البيع الفاسد بالكتابة الفاسدة أولى من النظر في التفاصيل بعد تسليم الأصل والفاسد في كل باب حايد عن موجب أصله وكذلك فسد فإذا لم يمتنع إلحاق الفاسد بالصحيح في الكتابة مع حيد الفاسد عن الحقة الصحيحة فلا ينبغى أن يمتنع مثل ذلك في البيع والحاقة بالكتابة قال: ونحن الآن نقول: هذا الجمع لا ينتظم في مناظم المعانى ولا يجمعه قياس معنوى من قبل إن شرط المعنى انقداحه واتجاهه في الأصل ثم إذا تقرر في الأصل معنى واطرد في الفروع فحينئذ يجمع الجامع بالمعنى وليس معنا معنى متضمن لتنزيل الكتابة الفاسدة منزلة الكتابة الصحيحة فإن الذى لا يتمارى فيه الناظر من نظره أن الفاسد ليس مطابقا للشرع والأحكام تثبت إذا جرت أسبابها موافقة للشرع ويتهون على الرشيد الفطن تقرير خروج الكتابة الفاسدة في نزولها منزلة الكتابة الصحيحة عن القياس المعنوي والاعتبار الكلى فإذا فعل ذلك انحسم مطمع الخصم في قياس المعنى ولكن النظر إلى التشبيه فإن علة الخصم انحسام المعنى واجتزاء بالشبه فقال البيع الفاسد بالإضافة إلى الصحيح يشبهه الكتابة الفاسدة بالإضافة إلى الصحيحة ولا يلتزم أبدا معنى في الأصل وآخر في الفرع فالذى يدرأ ذلك النقض الصريح فإنا لم ننزل كل فاسد منزلة الصحيح بدليل النكاح وأقرب من ذلك البيع فإن فاسده من غير قبض لم ينزل منزلة صحيحة قال: والشبه لابد في طرده فإذا لم يطرد وانتقض انحل ولم يبق له عمل وإذا سقط الشبه طولبوا بالمعنى وإلحاق الفاسد بالصحيح قال: ومما نذكره في هذا أيضا أن الكتابة الفاسدة في وضعها مخالفة للبيع الفاسد على رأى المخالف فإن المكاتب بالكتابة الفاسدة يتسلط على اكتسابه بنفس العقد تسلطا وينفذ تصرفاته فيها على الصحة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 نفوذها في الكتابة الصحيحة وليس البيع الفاسد كذلك وإن اتصل به القبض وقال من دقيق القول في ذلك أن تحصيل العتاقة موجود الصفة ما يوجب القضاء لصحته فإن تعليق العتق على أداء العوض الفاسد صحيح وإن فسد العوض ثم التعليق إذا صح فحقه أن لا يرفع وأثر فساد الكتابة في دفع وجوب التعليق والكتابة عقد أخذ من قياس بابين وعقدين أحدهما المعاوضة والثانى تعليق القول والعتق أنفذ التصرفات وأغلبها فإن مؤقته يتأيد ومبعضه يتم فالوجه استيلاء حكمه فلم يكتب معنى التعليق صفة الفساد من فساد المعاوضة وإذا لم يفسد عتق بجهته. ثم قال: وهذا منتهى كلام الفقهاء وأنا أذكر مسلكا أصوليا يغنى عن جميع ذلك فأقول قد مهدت أن القوانين المبنية على المكارم الكلية لا يجرى فيها تمهيد أصل قياسا على أصل وإنما تجرى الأقيسة من الأصول على الأصول وإذا لاحت المعانى قال: والمعنى المخيل في الكتابة هو الاستحثاث على مكرمة من المكارم مثل الطهارات فالطهارة واجبة مكرمة والكتابة مستحبة مكرمة قال: وإنما يظهر المعنى في الضروريات والحاجات قال: فالبيع من الضرورات والكتابة من المكرمات فكيف ينقدح بسببه فاسد هذا بفساد البيع وهذا القائل مع هذا التطويل لم يخرج عن أشكال الكتابة فإن الإشكال في الكتابة أنه لابد من أنعقاد الكتابة ليقع بها العتق والفساد لم يخرج من انعقادها فينبغى أن لا يمنع أيضا من انعقاد البيع وإذا انعقد وجب أن يفيد موجب لأن العقد لا ينعقد إلا لموجبه فالملك موجب البيع والعتق موجب الكتابة فإذا انعقدت الكتابة الفاسدة لإفادة موجبه فلينعقد البيع الفاسد لإفادة موجبه وعلى الجملة ما ذكره للأصحاب في دفع قياس البيع على الكتابة كان أبين وأظهر من الذى اعتمد عليه واستخرجه بذكره. وقد قال على هذا الإشكال الذى ذكرناه أن الوجه في دفعه مسلكان: أحدهما: أن يدعى أن الكتابة صحيحة في جهه مقصودها أى في العتق. والمسلك الثانى: وهو الأصل أن لا يلزم في أقيسة المعانى النقض. واعلم أن فضل الكتابة في البيع الفاسد في نهاية الإشكال ولأنى أعرف في جملة مسائل الخلاف ما يقارب هذا الإشكال إلا اليسير القليل ومن أراد دفع هذا الفصل فأولى الفصول أن يبين فساد البيع ويبين أن الفاسد غير مشروع وإذا كان غير مشروع لا يثبت بع حكم مشروع لأن الحكم المشروع لا يبتنى إلا على سبب مشروع ثم الكتابة لا ترد على هذا لأن هذا أصل من الأصول وقاعدة كلية من قواعد الشرع فلا يجوز الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 الاشتغال بإيراد النقض عليه وهذا كما أنه لا يجوز إيراد النقض على الكتاب والسنة فلا يجوز إيراد النقض على مثل هذه القواعد والأصول الثابته بالدلائل القطعية نعم وقد اعتنيت في كتاب الاصطدام زيادة اعتناء في الكلام على هذا الفصل واعترضت على كل ما قاله الاصحاب ثم اعتمدت في آخر الأمر على فصل وهو نهاية الإمكان وأحببت إيراده في هذا الموضع فقلت: الكتابة عقد عتاقة والعتق مبنى في الشرع على أنه يجب السعى في تحصيله ويطلب وجوده بالتمسك بأدنى شئ يمكن التمسك به من وجه ولهذا يكتفى في سببه ومحله بما لا يكتفى به في سائر عقود الأملاك أما المحل فالدليل عليه أنه لو أعتق جزءا من عبد وإن قل سرى إلى جميع الأجزاء مع ترك مباشرة العتق في سائر الأجزاء واقتصاره على عتق هذا القدر وأما السبب فلأن الشرع قد اكتفى به في تحصيله بمجرد القرابة ويعقد من السيد مع عبده في الكتابة بأداء ماله إليه في قوله إذا أديت إلى كذا فأنت حر وأيضا فإن الشرع حقق سببه بتحصيله من غير وجود تحصيل لذلك من الإنسان. ألا ترى أن في قوله أعتق عبدك عنى على ألف درهم فإن الشرع حكم بتحصيل الملك فيما يعود إلى تحصيل العتق من غير أن يوجد من الذى يعتق عليه بتحصيله ومثل هذا لا يوجد في حكم ما وأيضا فإنه احتمل فيه من الغرر والخطر ما لا يحتمل في شئ من المواضع وإذا عرف هذا الأصل في العتق منقول به في الكتابة باشر سبب العتق وأخل بشرطه فيجعل الشرط المتروك كالمذكور فيما يرجع إلى العتق كما جعل السبب المذكور في بعض المحل كالمفعول الموجود وإن لم يفعله فيجعل هنا أيضا الشرط المتروك من إعلام العوض وغيره كالمذكور والمشروط وكذلك جعل السبب المتروك تحصيله كالمحصل في المسألة التي قلناها فأما سلامة الاكتساب والأولاد وفك الحجر وغيره ابتاع في هذا العقد فإذا اعتبر هذا العقد شرعا فيما هو الأصل لحق به الاتباع. والحرف أن الإعتراض عن حكم الفساد في الشرع وقع لأجل العتق كما حصل الإعراض عن باقى المحل في المعتق بعضه ويتبين صحة هذا الجواب بأصلهم فإن عندهم البيع الفاسد لا يوجبه الملك بنفسه وإذا أوجبه أوجب ملكا مستحق النقض والفسخ وأما عقد الكتابة فيوجب العتق على ما يوجب الصحيح منها ووجب بها عتق مستقر ينقضى ولا يرفع وليست هذه المفارقة عندهم إلا لأن العقد عقد عتق وهذا الجواب نهاية الإمكان ولا يعرف معنى في الكتابة ووقوع العتق بها عندنا وعندهم على الوجه الذى قالوه وجعلهم ذلك أسوة الصحيح من كل وجه إلا لهذا المعنى الذى قلت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 ولابد في قبوله من فضل نظر وتمام عناية وتأمل على الجهة الحسنى والله المعين بمنه وعلى الجملة والفقه عزيز جدا وقد غلب الجدليون غلبة عظيمة واقتنعوا بدفاع الخصوم ورضوا بعبارات مزوقة فاضلة عن قدر الحاجات والعبارات قوالب المعانى فإذا زادت على المعانى كانت من فضول القول والواجب على الفقيه أن يكون جل عنايته مصروفا إلى طلب المعانى ثم إذا هجم عليها فلا بأس أن يكسوها بالكسوة الحسنة ويبرزها عن خدرها في أحسن مبرز فيصير المعنى كالعروس تترفل1 في حلية وجللة فأما إذا اشتغل بالعبارات وأعرض عن المعانى وكان جل سعيه في التهوين على الخصوم وإيقاعهم في الأغاليط بعبارته خفى الحق والصواب فيما بين ذلك وجواب واحد يقام عليه برهان يكشف عن الحق ويسكن إليه القلب ويزول به تلجلجه خير من ألف جواب جدلى وإن كان يقع به دفاع الخصوم وإسكاتهم والله يعين على ذلك بمنه وطوله إن شاء الله تعالى. مسألة: تخصيص العلة العمل أن نشرع في هذه المسألة بذكر طرف مما يفسد به العلة: أعلم أنه قد ذكر الأصحاب ما يفسد به العلة وعدوا وجوها عشرة وأكثر وذكروا: الوجه الأول: وهو أن لا يدل الدليل على صحتها. والوجه الثانى: أن تكون العلة منصوبة لما لا يثبت بالقياس كأقل الحيض وأكثره وإثبات الأسماء واللغات وغير ذلك وقد ذكرنا اختلاف الأصحاب في ذلك. والوجه الثالث: أن تكون العلة مشروعة من الأصل لا يجوز انتزاع العلة منه مثل أن يقيس على أصل غير ثابت كأصل منسوخ أو أصل لم يثبت الحكم به وكذا لو كان الأصل قد ورد بتخصيصه الشرع ومنع القياس عليه مثل قياس أصحاب أبى حنيفة غير الرسول على الرسول صلى الله عليه وسلم في جواز النكاح بلفظ الهبه. والرابع: أن يكون الوصف الذى علل به لا يجوز التعليل به مثل أن يجعل العلة اسم لقب أو نفى شئ على قول من لا يجيز ذلك أو شبها على قول من لا يجيز قياس الشبه أو وصفا لم يثبت وجوده في الأصل أو في الفرع. والخامس: أن لا تكون العلة مؤثرة في الحكم وهذا قد سبق.   1 أي: تمشى متبخترة انظر القاموس المحيط "3/374". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 والسادس: أن تكون العلة منتقضته وهى أن توجد وبها حكم معها والكلام في هذا سيأتى. والسابع: أن يمكن قلب العلة وهو أن يعلق عليها نقيض ذلك في الحكم ويقاس على الأصل والكلام يأتى في هذا أيضا. والثامن: أن لا توجب العلة حكم به الأصل وذلك أن يفيد الحكم في الفرع بزيادة أو نقصان عما يفيدها في الأصل فيدل ذلك على فسادها وذلك مثل أن يقول الحنفي في إسقاط تعيين النية في رمضان لأنه مستحق العين فلا يفتقر إلى التعيين كرد الوديعة وهذا لا يصح لأنه لا يفيد في الفرع غير حكم الأصل لأنه يفيد في الأصل إسقاط التعيين مع وجوب أصل النية ومن حكم النية أن يثبت الحكم في الأصل ثم يتعدى إلى الفرع فينقل حكم الأصل إليه. والتاسع: أن يعتبر حكما بحكم مع اختلافهم في الوضع وهو الذى تسمية الفقهاء فساد الوضع والاعتبار وذلك مثل أن يعتبر ما بنى على التخفيف على ما بنى على التغليط وما بنى على التغليط على ما بنى على التخفيف وما بنى على التضعيف والتأكيد بما بنى على خلافه وسيأتى هذا أيضا. والعاشر: أن يعارضها بما هو أقوى منها فيدل ذلك على فسادها. وهذه الوجوه ذكرها الشيخ أبو إسحاق رحمة الله تعالى في اللمع أوردتها على سبيل الاختصار وحين أذكر وجوه الاعتراض الصحيح على العلة ووجوه الاعتراض الفاسدة يدخل أكثر هذه الوجوه في أثناء ذلك فأما المسألة التي قصدناها وهى مسألة تخصيص العلة وهى داخلة فيما تفسد به العلة فنقول: اختلف العلماء في تخصيص العلل الشرعية وهى المستنبطة دون المنصوص عليها فعلى مذهب الشافعى وجميع أصحابه إلا القليل منهم لا يجوز تخصيصها وهو قول كثير من المتكلمين وقالوا تخصيصها نقض لها ونقضها يتضمن إبطالها. وقال عامة العراقيين من أصحاب أبى حنيفة: يجوز تخصيصها وأما عامة الخراسانيين فإنهم أنكروا تخصيصهاوذهبوا إلى ما ذهبنا إليه. وقال أبو منصور الماتوريدى السمرقندى القول بتخصيص العلة باطل ومن قال بتخصيص العلة فقد وصف الله تعالى بالسفه والعبث فأما أبو زيد فإنه قال بتخصيص العلة أو ادعى أنه مذهب أبى حنيفة وأصحابه واختلف أصحاب مالك في ذلك أيضا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 وقال بعضهم بجوازه وأنكر بعضهم جوازه1 وقال بما ذهبنا إليه. ومثال التخصيص في العلة ما صار إليه أصحاب أبى حنيفة فإنهم قالوا: إن علة جريان الربا في الذهب والفضة هو الوزن وجعلوا لذلك فروعا من الموزنات ثم جوزوا إسلام الدراهم في الزعفران والحديد والنحاس مع اجتماعهما في الوزن يحكم بتخصيص العلة فانتقضت العلة عندنا واحتج من أجاز تخصيص العلة وقال: إن العلل الشرعية أمارات وليس بموجبات وإنما صارت أمارات بجعل جاعل ونصب ناصب فجاز أن تجعل أمارات للحكم في عين دون عين كما جاز أن نجعل أمارة في وقت دون وقت وربما عبروا عن هذا وقالوا العلة أمارة على الحكم فجاز وجودها في موضع ولا حكم كما جاز وجودها قبل الشرع ولا حكم. ببينة: أن الدليل الشرعى الظنى يجوز أن يكون دليلا في موضع دون موضع. ألا ترى أن خبر الواحد يكون دليلا عند عدم نص القرآن قالوا: ولأن تخصيص العلة المنصوصة جائز فكذلك العلة المستنبطة وهذا لأن ما يجوز على الشئ وما يستحيل جواز على الشئ لا يختلف بحسب اختلاف طرقه ولم يوجدفى العلتين إلا اختلاف الطريق فإن الطريق في أحدهما النص وفى الآخر الاستنباط وليس هذا مما يوجب الاختلاف بعد أن يكون كل واحد علة ومما اعتمده الأصولين في جواز تخصيص العلة هو أن العلة الشرعية أمارة بوجدها في بعض المواضع من دون حكمها لا يخرجها عن كونها أمارة لأن الأمارة ليس يجب وجود حكمها معها على كل حال وإنما الواجب أن يكون الغالب مواصلة حكمها معها وليس يبطل هذا الغالب بتخلف حكمها عنها في بعض المواضع. والدليل عليه أن وقوف مركب القاضى على باب الأمير أمارة لكونه في دار الأمير ولا يخرجه عن كونه أمارة على ذلك أن لا يكون القاضى في بعض الحالات في دار الأمير ويرى مركوبه على بابه. ألا ترى أنا نرى مرة مركوب القاضي على باب الأمير ولا يكون القاضي هناك فإن رأينا مرة أخرى مركوبة على باب الأمير غلب على ظننا كونه في داره ولم يمنع تخلف المرة من وجود الظن وغلبته وكذلك الغيم الرطب في الشتاء أمارة للمطر وقت يخلف في بعض الأحايين ولا يدل إخلافه في بعض الأحايين   1 انظر إحكام الأحكام "3/351" المستصفى "2/336". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 أو ليس بأمارة. قال أبو زيد في تقويم الأدلة: زعمت الطردية أن العلل القياسية لا تقبل الخصوص نقضا لزعمهم أن الحكم متعلق بعين الوصف فلم يجز وجوده بلا مانع ولا حكم معه وهذا غلط لغة وشريعة وإجماعا وفقها أما اللغة فلأن النقض اسم لفعل يرد فعلا سبق على سبيل المضادة كنقض البيان ونقض كل مؤلف ونقض العقد كل قول بخلافه والخصوص بيان أنه لم يكن في العموم. ألا ترى: أن نقض الخصوص العموم ونقيض النقض البناء والتأليف وأما الشريعة فلأن التناقض غير جائز على الكتاب والحجج كلها والخصوص جائز على عموم النص فتبين أنه لم يكن دخل تحت الجملة ولم يرد به في الابتداء ألا ما بقى بعد الخصوص إلا أنه نقض بعد الثبوت. وأما الإجماع فلأن القائسين أجمعوا أن من الأحكام ما ثبت بالنص بخلاف القياس فخص النص عن موجب القياس ولولا النص لكان الحكم بالقياس بخلاف ذلك والشافعى يسميها مخصوصة عن القياس ونحن نسميها معدولا بها عن القياس. وأما الفقه فلما ذكرنا أن المعلل ما ذكر شيئا غير أن سماه علة ويمكنه الثبات عليه من غير رجوع مع انعدام الحكم بأن يضيف العدم إلى مانع ودليل قام عليه دون فساد العلة وإنما عبروا عن هذا وقالوا إذا علمنا وصفا من جملة المنصوص أنه علة ثم وجدناه في موضع ولا حكم معه فعلم ضرورة أن مانعا يمنع من الحكم وهذا كما أن ما يضاد العبادات وجدناه مبطلا للعبادة ثم إنا وجدنا أكل الناسى وهو مضاد للصوم لا يبطل الصوم علمنا ضرورة أن مانعا منعه من العمل وكذلك وجدنا بيع من هو من [أهل البيع مزيلا للملك] 1 من البائع فإذا وجدنا بيعا فيه خيار البائع ولا يزيل الملك مع [ .... ] 2 محله علمنا ضرورة أن مانعا منعه من العمل. ببينة: أنا نرى [فى العلل المحسوسة أنها] 3 توجد ولا يوجد الحكم لمانع لها من العمل فإن النار علة الاحتراق والنار توجد ولا إحراق لمانع منعها من العمل فإن النار لم تحرق إبراهيم صلوات الله عليه وكذلك لا تحرق الطلق4 ولا يحرق الذهب والفضة فإذا   1 كشظ في الأصل ولعل الصواب ما أثبتناه. 2 كشظ في الأصل 3 كشظ في الأصل ولعل الصواب ما أثبتناه. 4 هو دواء إذا طلى به منع حرق النار انظر القاموس المحيط "3/251". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 جاز هذا في العلل الحسية فلأن يجوز في العلل الشرعية أولى. وأما دلائلنا في منع تخصيص العلة فنبدأ بما ذكره الأصوليون من المتكلمين قالوا: معنى قولنا لا يجوز تخصيص العلة هو أن تخصيصها يمنع من كونها أمارة وطريق إلى الحكم وإذا بينا أن تخصيصها يمنع من كونها طريقا إلى الحكم فقد تم ما أردناه. وبيان أنه يمنع: أنا إذا قلنا علة تحريم بيع الذهب بالذهب متفاضلا كونه موزونا. قلنا: إن بيع الرصاص بالرصاص متفاضلا لا يجوز مع وجود الوزن فالقائل لذلك لا يخلو إما أن يقول نص أو يقول ذلك بعلة تقضى إباحة هى أقوى من علة بتحريم بيع الذهب بالذهب. فإن قال علمت ذلك بعلة وهى أنى أقيس الرصاص على أصل مباح. فيقال له: بأي معنى تقيس فإن ذكر وصفا من أوصاف الرصاص وقاسه على سائر الأصول التي يجوز بيع بعضها ببعض متفاضلا فإنا إنما نعلم حينئذ حرمة بيع الذهب باذهب متفاضلا بالوزن وبعدم ذلك الوصف الذي جعله علة للإباحة فتبين أنا نعلم بعد التخصيص أنا لا نعلم تحريم شئ بكونه موزونا فقد وأنت جعلت العلة هي الوزن فإن قال: الخصم الأمر كما قلتم غير أنى لا اشترط نفى ذلم الوصف في كون الوزن علة يقال: له سلمت أن العة ليست هى الوزن فقط فهو الذي نريده فإنه لابد من اعتبار نفى وصف آخر. فنقول لك: هلا اشترطت نفى ذلك الوصف؟ فإنك إذا لم تشترط أوهمت أن العة هي الوزن فقط وقد سلمت فساد كون ذلك علة فقط. فإن قال: أنا لا أشترط غير أن لا أسمية جزءا من العلة وإن كان التحريم لا يحصل بدونه. يقال له: قد ناقضت في هذا الكلام لأنك قد اشترطته في التحريم. ثم نقضت ذلك بقولك لا أسمية جزءا من العلة مع أنك وافقت في المعنى وخالفت في الاسم. فإن قال: علمت إباحة بيع الرصاص بنص يقال له: هل علمت علة إباحته. فإن قال: علمت فالقول في ذلك قد تقدم وإن قال: لا أعلم علة إباحته. فمعلوم أن علة ذلك مقصورة على الرصاص لا يتعداه لأنها لو تخطته لوجب في الحكمة أن ينصب الله تعالى علمنا على ذلك. لنعلم ثبوت حكمها فيما عدا الرصاص وإذا كان كذلك لم يعلم تحريم بيع الذهب بالذهب إلا لأنه موزون وأنه ليس برصاص. فيبطل بهذا الوجه أيضا أن تكون العلة هى الوزن فقط فثبت أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 التخصيص يخرج العلة عن كونها أمارة والذى يبين هذا أيضا أن الإنسان لو استدل على طريقة في برية بأميال منصوبة ثم رأى ميلا لا يدل على طريقه وعلم أنه لا يدل على طريقه لأنه أسود. فإنه لا يستدل بعد على طريقه بوجود ميل دون أن يعلم أنه غير أسود فقد صح بما أردناه أن تخصيص العلة يخرجها عن كونها أمارة على الحكم ثم الذي يؤيد صحة هذه الطريقة العلل العقلية فإن تخصيصها لا يجوز بالإجماع والعلل الشرعية مع الشرع كالعقلية مع العقل. فلما لم يجز تخصيص العلة العقلية كذلك العلة الشرعية. فإن قالوا: إنما لم يجز تخصيص العلة العقلية لا لإن الدلالة دلت على تعليق الحكم بها بل لأنها موجبة بنفسها فلا يجوز أن لا يتبعها حكمها إذا وجدت وأما العلة الشرعية أمارة والأمارات يتبعها حكمها وقد لايتبعها. قالوا: ولا نسلم أن العلة الشرعية مع الشرع كالعقلية مع العقل [ويمكن] 1 أن يجاب عن هذا فيقال: إن العلل الشرعية موجبة أيضا مثل العلل العقلية ولا فرق عندنا [بين] 2 العلل الشرعية والعلل العقليه. فإن العلة قط لا تكون علة بنفسها إنما تكون علة بالشرع ولولا الشرع لو لم يعرف ثبوت [شيء و] 3 لا انتفاؤه ولا تحليل شئ ولا تحريمه بالعقل بحال وعلى قول من يقول: إن العقل موجب يقال: لهذا السائل أيضا إنكم تقولون إن الشرائع مصالح والعلل الشرعية وجوه المصالح ووجوه المصالح موجبات أيضا فلا يجوز تخصيصها أيضا كما سلمتم من العلل العقلية. وقد قال الأصحاب: إن العلل الشرعية وإن صارت عللا بالشرع إلا أنها بعد ما صارت عللا بمنزلة العقلية في وجوب الحكم بوجودها فوجب أن تكون بمنزلتها في أن تخصيصها يوجب فسادها. دليل آخر: وهو أن العلة طريق في إثبات الحكم في الفرع فإنا إذا علمنا أن الوصف علة الأصل ودل الدليل على التعبد بالقياس. فإن الوصف يكون طريقا إلى العلم بحكم الآخر لأن طريق العلم بالشئ أو الظن له لا يجوز حصوله في أشياء. فيكون طريقا إلى العلم أو الظن بأحدهما ولا يكون طريقا إلى ذلك في الآخر والدليل   1 كشظ في الأصل ولعل الصواب ما أثبتناه. 2 كشظ في الأصل ولعل الصواب ما أثبتناه. 3 كشظ في الأصل ولعل الصواب ما أثبتناه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 على أن الطريق لا يختلف فإن من ظن أن زيدا في الدار بخبر رجل بعيد من الكذب. فإنه لا يجوز أن يخبره ذلك الرجل بكون عمرو في الدار. ثم لا يظنه صادقا وإذا وجب ذلك في الأخبار فلأن يجب ذلك في الأمارات التي دل عليها الدليل أولى. دليل آخر ثالث للفقهاء وهو: أن وجود العلة مع عدم حكمها مناقضة والمناقضة من آكد ما يفسد به العلة لأنه يفضى إلى العبث والسفه. والدليل على أن هذا مناقضة أن العقلاء يعدونه مناقضة مفسدة حتى العوام منهم لأن قائلا لو قال: سامحت فلانا لأنه بصرى ثم لم يسامح غيره من البصريين يقول له الخواص والعوام زعمت أنك سامحت فلانا لأنه بصر فهذ بصري فهلا سامحته؟ فإن قيل: لو اعتذر عن هذا فهلا سامحته فإن قيل: لو اعتذر عن هذا وقال: لم أسامح فلانا وإن كان بصريا لأنه عدوى صح عذره ولم يكن لأحد أن يلزمه نفى اللعداوة في غلبة الأولى. قيل له: يجوز أن يلزم ذلك. فيقال: هلا قلت سامحت فلانا لأنه بصري ولأنه صديقي. فإن قيل: [العلة] 1 المؤثرة لا يتصور انتقاضها. قلنا: إذا ورد عليها النقض دل أنها ليست بمؤثرة. فإن [قالوا: إن الحكم] 2 في صورة النقض ثبت بخلاف هذا الحكم بعلة أخرى لا بهذه العلة قلنا: وإذا [ .... ] 3 علة أخرى من علة والانتقال من علة إلى علة أمارة ضعف [الحكم .... جواز] 4 صوم غير رمضان بالنية قبل الزوال وقال صوم يتأدى بنية متقدمة على وقت الشروع فيه فيتأدي بنية متأخره عن وقت الشروع فيقال بنتقض بالقضاء فمن يقول بتخصيص العلة يقول في القضاء منع مانع من الجواز فإذا قيل له: ما المانع؟ يقول: المانع هو أن الإمساك موقوف على الصوم المشروع في ذلك الوقت وهو النفل فلا يجوز رد تنفيذه على صوم آخر بخلاف صوم رمضان فإنه يوقف الإمساك على الصوم المشروع فيه وهو صوم الفرض. فيجوز تنفيذه عليه وهذه علة أخرى سوى العلة الأولى وقد تطلب هذه العلة. فمن ارتكب مثل هذه المناقضة   1 كشظ في الأصل ولعل الصواب ما أثبتناه. 2 كشظ في الأصل ولعل الصواب ما أثبتناه. 3 كشظ في الأصل. 4 كشظ في الأصل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 ولم يبال بمثل هذا الانتقال. قلنا: من ضعفه على ضعف غيرته وقلة تصيرته في معنى الفقه والجملة أن النقض لا يلزمه إلا الضعف. وقد قيل: أيضا إن من لم يبال بانتقاض علته يلزمه القول بتكافئ الأدلة وهو ساقط بالاتفاق. وبيان ذلك: أن من قال في محاولة تحليل النبيذ هو مائع فيحل شربه كالماء والمعلل غير مبال بلزوم الخمر نقصا لأنه يقول بتخصيص العلة فللمعترض أن يقول مائع فيحرم كالخمر ولا يبالى بالنقض بالماء لأنه يقول بتخصيص العلة فيتكافأ الدليلان وليس أحدهما بأولى من الآخر وقد اعترضوا على هذا وقالوا بطلان هذين التعليلين إنما كان لوقوعهما طردين خارجين عن مسلك المعانى والأشباه المعتبرة والنطق بمثل هذا باطل. ونحن نقول: إنما قلتم معنى مبطل وما قلناه أيضا معنى مبطل فبطلت العلة من وجهين. وقد قال: أصحابنا إن القول بتخصيص العلة يؤدى إلى ما ذكرناه من تكافئ الأدلة يؤدى أيضا إلى أن يتعلق بالعلة الواحدة حكمان متضادان وذلك أنه إذا وجدت العلة في أصلين واقتضت التحليل في أحدهما دون الآخر لم ينفصل من علق عليهما التحليل في الفرع اعتبارا بأحد الأصلين ممن علق عليها التحريم في ذلك الفرع اعتبارا بالأصل الآخر فيتكافأ الدليلان ويستوى القولان وهذ لا يجوز وفى المسألة كلام كثير ونحن رأينا الاعتمادد على هذه الدلائل الثلاثة وهى أقوى ما يعتمد عليها وقد أيد ما قلنا قول الله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء: 82] والنقض من الاختلاف فدلت المناقظة على أن الدليل ليس من عند الله تعالى وما لا يكون من عند الله لا يكون حجة في حكم الجواب قلنا: أما قولهم: إن العلل الشرعية أمارات بجعل جاعل. قلنا: من تعنى الجاعل إن عنيت المعلل فلا نسلم أنها صارت علة بجعل الجاعل. بل هى علة شاء المعلل أم أبى وقد يقصد المعلل إثارة حكم فيظهر العلة المؤثرة بغير ذلك الحكم وإن عنيت بجعل الشرع فمن أين لكم أن الشرع جعل هذا أمارة في موضع دون موضع؟ ثم نقول: الأمارة المعتبرة لنا الحكم عليها الأمارة اللغوية للظن وبالنقض يذهب قوة الظن أو يقال: هو أمارة بشرط أن لا ينتقض كما هو أمارة بشرط أن لا يعارضها نص كتاب أو نص خبر وأما تعلقهم بالعلة المنصوبة قلنا: من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 أصحابنا من قال: لا يجوز تخصيص العلة المنصوص عليها1 لا يجوز تخصيص العلة المستنبطة ومتى وجدناها مع عدم الحكم علمنا أنها بعض العلة غير أنا لا نقول: إن العلة الشرعية منقوضة لأن الشرع لا تناقض في كلامه فإذا كان مخصوصا علمنا أنه لم ترد كل العلة وأما المعلل يجوز أن يناقض. فإذا أطلق التعليل ودخل التخصيص وهو مناقضة كما بينا علمنا أن ما ذكره ليس بدليل أصلا إن سلمنا أن تخصيص العلة التي نص عليها يجوز ولا يجوز تخصيص العلة المستنبطة فالفرق بينهما أن العلة المنصوصة دليل صحتها النص فحسب وقد وجد فصحت وأما العلة المستنبطة فدليل صحتها التأثير أو الجريان على ما سبق وبالتخصيص بطل الجريان ويبطل التأثير أيضا لأنه تبين أنه ليس بأمارة أو تبين أنه لا يفيد قوة الظن وإنما صارت العلة علة لقوة الظن فإذا فات الظن فاتت العلة. وأما كلامهم الذي اعتمدوا عليه: قلنا: لا ننكر أن توجد الأمارة في بعض المواضع من غير حكمها لكن إذا علمنا انتفاء حكمها في بعض المواضع العلة من العلل شرطنا في كونها أمارة انتفاء تلك العلة وانتفاء الموضع الذي لم يوجد حكم العة فيه حكمها ولا يكون العلة المذكورة طريقا إلى الحكم إلا إذا علمنا انتفاء ما شرطنا انتفاؤه وعلى أن بطلان العلة لمكان التخصيص أثبتناه بوجود المناقضة في كلامه أو لفوات التأثير الذى هو المعتمد في صحة العلة وفى المواضع التي استشهدوا بها في الحسيات ليس الموجود بكلام حتى يكون مناقضا وأما على قولنا: إن التأثير يفوت بالتخصيص فإنما أردنا بالتأثير قوة الظن وكذلك نقول في تلك المواضع إن قوة الظن تفوت خصوصا إذا تكرر رؤية دابة القاضى على باب الأمير من غير أن يكون القاضى ثم وكذلك إذا تكرر وجود الغيم ولا مطر والإشكال مع ما قلناه قائم لأنه تمكن دعوى زوال الأمارة في الغيم الرطب وفي الموضع الآخر بوجود الإخلاف مرة أو مرتين فكذلك في مسألتنا وجب أن لا تزول الأمارة بوجود التخصيص في موضع أو موضعين إلا أنا نقول: لابد أن تضعف الأمارة بما ذكرنا ولابد من توفر القوة من كل وجه لأن هذا ظن يثير حكما شرعيا فلا بد من بلوغه نهاية القوة وأن لا يتوهم في الظن قوة وراء قوته حتى يصح تعليق الحكم الشرعى به وذلك بوجود الإطراد حتى لا يخلف هذه الأمارة في موضع ما. فإذا اختلف لم يتوفر للحكم القوة من كل وجه وهذا جواب حسن   1 انظر إحكام الأحكام "3/315". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 اعتمدته وهو بمحل الاعتماد. فإن قال قائل: أليس أنكم لم تجعلوا الإطراد على صحة العلة. قلنا: الدليل الأصلى في صحة العلة هو التأثير إلا أن الإطراد شرط لما ذكرنا وهو أولا يضعف الظن فوجب ترك تعليق الحكم به وأما الذى ذكره أبو زيد فليس فيه كبير دليل. وقد بينا دلائل سوى ما ذكرناه وبينا وجه تأثير التخصيص في العلة [وأنا نقول: إن تخصيص العام المطلق لا يجوز كما لا يجوز تخصيص العلة المطلقة أن كل واحد منهما دليل] 1 والذي تعلق به من جواز تخصيص العموم. فالجواب عنه من وجهين: أحدهما: أنا نقول: إن تخصيص العام من أدلة الشرع والدليل إذا اختلفت عدالته بطلت شهادته وإنما يجوز تخصيص العام المقيد ويتبين عند وجود علم التخصيص أنه كان مقرونا في الابتداء ولا يكون ذلك نقضا لدلالته وإنما كان النقض أن يقال: كان مطلقا مقيدا. وهذا الجواب فيه نظر على المذهب. والجواب الثاني: إن لفظ العموم لفظ لغوى يجوز أن يشتمل على كل ما يصلح أن يكون أسما له ويجوز أن يشتمل على بعضه. ألا ترى: أن أهل اللغة يستعملون ذلك على كلا الوجهين ولهذا نقول إذا ورد في الابتداء لابد من النظر في الأدلة. ثم إذا لم نجد مخصصا يعتقد عمومه فصار اللفظ العام محتملة لا يستقر قرار المراد بنفسه إلا بعد السير والنظر في الأدلة فلم يمتنع بذاته على المخصوص به. واما المعنى فشئ له مقصود خاص. فمتى قام الدليل على صحته بالتأثير استقر المراد به. فلا يجوز أن يختلف المعنى المؤثر وهذا اختلف تغيرت صفته وأذا تغيرت صفته تغيرت سمته. وعندي أن الجواب بحرف واحد وهو أن العام كان حجة فيما يتناوله بنفس تناول اللفظ له وذلك التناول فيما وراء المخصوص لا يبطل بالتخصيص وأما   1 ثبتت العبارة في الأصل هكذا: [وقد بينا دلائل سوى ما ذكرنا وبينا وجه تأثير التخصيص في العلة والذي تعلق به من جواز تخصيص العلوم فالجواب عنه وجهين: أحدهما: أنا نقول إن تخصيص العام المطلق لا يجوز تخصيص العلة المطلقة؛ لأن كل واحد منهما دليل. أحدهما: أنا نقول إن تخصيص العام ... إلخ] . فعدلنا العبارة بعلمنا الضعيف الحقير. طالب العلم/ محمد فارس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 العلة كانت حجة بالتأثير المفيد لقوة الظن وهذا يبطل ويفوت بالتخصيص وعلى هذا يظهر الجواب عن العلة المنصوصة أيضا لأن صحتها بالنص لم يضره التخصيص الواقع عليه. وأما المستنبطة فصحتها بالتأثير وشرطها الجريان لئلا تضعف قوة الظن الواقع بها فيمتنع تعليق الحكم به وعلى أن طائفة من أصحابنا سووا بين العلتين في المنع من التخصيص وعلى التسليم قد ظهر الجواب ظهورا قويا وقد سلم أبو إسحاق المروزى وأبو العباس بن القاص وفرقا بشئ طويل على ما هو سمت كلام المتقدمين وحرف الجواب ما قدمنا وفيه بلاغ ومقنع. وقد قال بعضهم: إن الشافعى في إنكاره تخصيص العلة مناقض لأنه قال بتخصيص العلة في مسائل كثيرة: منها أنه يقول: إن الواجب على متلف اللبن مثله قياسا على إتلاف كل ماله مثل. ثم خص هذا الأصل في المصراة فأوجب في اللبن المستهلك فيها صاعا من تمر ومنها: أنه علل تحريم الخمر للشدة وقاس عليها تحريم النبيذ وللخمر ثلاث أحكام التحريم والتفسيق والحد وطرد علته في الفرع في الحد ولم يطرد في التفسيق. فإنه لم يرد شهادة شارب النبيذ ولم يحكم بفسقه وأيضا فإنه خص علة الزنا في مسألة العرايا. وجوز العقد من غير وجود المماثلة كيلا أو كذلك قد خص ضمان الجنين بالغرة مع مخالفته سائر أجناسه وكذلك الدابة على العاقلة خص من بين المواضع ولا يوجد لها نظير في موضع ما وأمثال هذا كثير وما زال الفقهاء يقولون خص بموضع كذا بدليل كذا وقل ما يوجد أصل من أصول الشرع لم يخص منه موضع. والجواب وبالله التوفيق: أنا لا ننكر وجود مواضع في الشرع وتخصيصها بأحكام تخالف سائر أجناسها بدليل شرعى يقوم عليه في ذلك الموضع على الخصوص فيقال إنه موضع يمتاز من سائر المواضع يختص بالحكم من غير أن يتعرض لع معنى أصلا فيكون ذلك مسلما لذلك الدليل ولا يصدم أصل ولا يصدم هو أصلا ولا يطلب له معنى قبل ما يطلب سائر المواضع وهذا مثل عوض اللبن في المصراة ومثل مسألة الميزابنه ومسألة تحمل العقل ومسألة الجنين وأمثال هذا فكما لا يقول أنه يقاس عليها من غيرها المواضع بمعنى لا نقول أنه تخصيص به أصل عرف بمعنى والقول الملخص في الباب: أن ما تخص به العلة المعنوية إذا عرف معناها ولابد للمخصص من فارق معنوى من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 الموضعين فهذا التخصيص ممنوع منه لأنه إذا افترق الموضعان بعلة معنوية مؤثرة في التفريق تبين لنا أن المعلل في نصبه العلة التي خص منها هذا الموضع لم يستوف الحجة ولم يكمل نظره في بيان العلة لأنه لم يكن له غير استثناء المعنى الذى خص به الموضع المذكور ونظيره من جعل الوزن علة بانفراده في تحريم النساء ثم قال: يجوز أن يسلم الدراهم في الزعفران والحديد والرصاص وبين معنى مؤثرا في جواز ذلك خص هذا الموضع في الجواز مع وجود الوزن في الجانبين فحين ذكرنا معنى مؤثرا في جوازه دل أنه بجعله مجرد الوزن علة لم يستوف النظر ولم يدرك تمام الحجة وكذلك من جعل الطعم علة في تحريم الربا ثم قام للدليل أن الطعم مؤثر مع الجنس حتى أن الحنطة بالشعير يجوز بيع أحدهما بالآخر متفاضلا مع وجود علة الطعم فيها دل أنه لم يستوف النظر فإن لم يبين المعلل معنى مؤثرا في الجنسين فنبين عند ذلك أن الجنس محل وشرط وليس بعلة وكذلك نقول وقد ذكرنا في مسألة علة الربا إنه لا تأثير للجنس بوجه ما وأن التأثير للطعم على الخصوص فمن عرف الأصل الذى قد بيناه سهل له الكلام هذا لأن التخصيص عمله في تفويت قوة الظن بالأمارة وإنما يفوت مثل ما يستند المخصوص منه إلى معنى فأما إذا لم يستند إلى معنى أصلا فلا يفوت بذلك قوة الظن وهذا مثل من يقول إن اللبن من ذوات الأمثال لأن المثل أعدل الواجبين وكونه أعدل منه للقيمة لا يشكل على ناظر فبأن استثنى لبن المصراة من هذا الأصل بنص خصه لا يفوت قوة الظن في سائر المواضع وكذلك إذا قلنا: إن غير الجانى لا يوجد بضمان الجناية فإذا خص هذا الأصل بإيجاب الدية على العاقلة وتحميلهم إياها وسلم ذلك النقض لا يفوت قوة الظن في سائر المواضع وعلى عكس هذا إذا قال: إن الوزن علة الربا ثم قال: إسلام الدراهم في الموزونات تجوز ورام التفريق بين الوزن والكيل في أن الكيل بانفراده يحرم النساء والوزن بانفراده ولا يحرم النساء في هذه الصورة وفرق بما ذكروا من أن الوزن في أحدهما يشبه الكيل والوزن في الآخر لا يشبه الكيل أو قال: إن الوزن في أحدهما وزن الأثمان وفى الآخر وزن المثمنات ثم كان قد جعل أصل الوزن علة فعلى القطع نعلم أنه يزول قوة الظن في كون الوزن علة وقد ذكر بعضهم الكتابة الفاسدة في مسألة البيع الفاسد من هذا الجنس وقال: إذا قلنا: إن البيع الفاسد ليس بسبب شرعى فلا يفيد الملك الشرعى فإذا ألزم الخصم عليه الكتابة فيقال للملزم أتعرف بخروج الكتابة الفاسدة عن قاعدة المعانى أم تدعى جريانها على سمت المعاني؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 فإذا ادعى جريانها على المعنى فلا شك أنه لا يمكنه الوفاء به وإن سلم أنها خارجة على قاعدة المعانى الشرعية وصار يطلب فارقا معنويا بين البيع الفاسد والكتابة. فقال للمعلل: إن النقض إنما يلزم المعلل من جهة أنا نطالبه بطرد المعنى في كل موضع يوجد فيه فإذا سلمت أن النقض خارج حائد عن مسلك المعانى لم يدخل على الأصل المعنوى ولم يبطل به ذلك المعنى ولا فات به قوة الظن وهذا مثل إيجاب الدية على العاقلة لا يرد نقضا على الأصل الذى قلناه من قبل وهذا لأن الشاذ لا يورد نقضا على الأصول الكلية بل يترك الشاذ على شذوذه ويحكم بخروجه عن المنهاج المستقيم على قواعد الشرع بدليل دل على ذلك ولا يحكم بمصادمته أصلا كما لا يحكم بمصادمته أصل أياه وعلى هذا مسألة المزابنة وجعل الخرص سببا لمعرفة المماثلة والخلاص به عن الربا وعلى هذا مسألة الجنين وإيجاب الغرة من غير أن يعرف للجنين حياة ومن غير أن يبلغ بالواجب ضمانات النفوس ومن أحكم ما قدمناه سهل عليه الخروج عن مثل هذه المسائل واعلم أن هذه المسائل ليست ترد على الأصل الذى قدمناه وقد اختار أبو زيد في هذه المسائل جواز القول بتخصيص العلة واستدل بما قدمناه ثم سأل على نفسه سؤالا فإن قيل: لو جاز القول بتخصيص العلة ما اشتغل أهل النظر بالجواز من النقوض كما في العمومات ولاكتفوا بقولهم كانت علتى توجب كذبا فخصصها بدليل وبالإجماع لا يكتفى بذلك وأجاب وقال: إنما لم يكتفوا لأن دعواهم أن هذا الوصف علة قول بالرأى ويحتمل الغلط فإذا وجدنا الوصف ولا حكم معه واحتمل عدم الحكم لفساد العلة واحتمل لمانع ولم تثبت جهة الانعدام لمانع بنفس الدعوى حتى تقيم عليه الدلالة بإظهار المانع في تلك الحادثة دون هذه وأما النظر فلا يحتمل الغلط فلا ينبغى لإنعدام الحكم مع وجود النص إلا الخصوص الذى يليق بكلام الشرع فلم يحتج إلى أن يثبت هذا الوجه ثم قال: وفرق ما بيننا وبينهم في الخروج عن المناقضة أنا خرجنا عن المناقضة بمعنى فقهى وهم خرجوا بلفظ سمعى إلا أن الدفع باللفظ يسير لآنه ظاهر محسوس والمعنى عسر لأنه باطن معقول فمالت النفوس بهواها إلى الظاهر الميسر ولعمرى لو أنصفوا وعدلوا أنفسهم على ترك المعنى الفقهى بسبب الحرج الذى يلحقهم لشكروا من تحمل المشقة وجاهد هواه حتى وصل إليه وذكر في هذا كلاما طويلا ولا حاجة إليه ونحن قد بينا الدلائل المعتمدة في منع تخصيص العلة فيبقي أن يكون الكلام على ذلك والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 فصل: ذكر بعض أصحاب أبي حنيفة أنه يجوز تعليل الحكم بالعلة التي لم يثبت الحكم فيها في الاصل ... "فصل" قد ذكر بعض أصحاب أبى حنيفة أنه يجوز تعليل الحكم بالعلة التي لم بثت الحكم فيها في الأصل قالوا كما يجوز أن يثبت الحكم في الأصل بالنص ويستخرج معنى من الأصل ويعدى إلى الفرع وهذا مثل من يقول في أن الشهادة على السرقة لا تقبل عند تقادم العهد بأنه حد من حدود الله تعالى كحد الزنا وليست العلة في الأصل هذا لكن العلة في الأصل توهم الطعن في شهادتهم لأنهم لما لم يشهدوا فقد اختاروا الستر فإذا شهدوا بعد ذلك فالظاهر أنه حملهم على ذلك طعن وهذا لا يوجد في البينة على السرقة لأنه لا بد من الدعوى ولكن قاسوا السرقة على الزنا في المعنى الذي يثبت به الحكم في الأصل. وأما عندنا فالتعليل بمثل هذا باطل لأن إقامة الدليل على صحة العلة لابد منه على ما سبق من قبل ولا يمكن إقامة الدليل على صحة هذه العلة لأن التأثير لا يوجد بحال فإنه إذا لم يمكن الحكم به ثبت في الأصل بتلك العلة فكيف يوجد تأثيرها ولا يجوز أن يستدل على صحتها بفساد ما عداها لأن العلة الأخرى صحيحة لم يفسد ما عداها ولا يمكن أن يستدل على صحتها عليها بأن الحكم يوجد بوجودها في الأصل وينتفى بانتفائها لأنا نعلم أنها لو وجدت في الأصل بدون العلة الأخرى لم يثبت لها الحكم وإذا لم يثبت لها الحكم لم ينتف بانتفائها فدل أنه لا دليل على صحة العلة وإذا لم يدل الدليل على صحتها فبطل بهذا الوجه والله المعين بمنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 فصل: وجوه الاعتراض على العلل الشرعية ووجوه الفاسد من ذلك ... "فصل" وحين ذكرنا في العلل وأوردنا ما يصح منها نذكر الآن: وجوه الاعتراض الصحيح على العلل الشرعية ووجوه الفاسد من ذلك: اعلم أن العراقيين من أصحابنا ذكروا أن ما يعترض به على القياس من وجوه. أحدها: الاعتراض بأن الحكم الذي نصبت له العلة لا يجوز إثباته بالقياس. الثاني: الاعتراض عليه بأن ما جعله أصلا لا يجوز أن يكون أصلا. والثالث: الاعتراض بأن ما جعله علة لا يجوز أن يكون علة. والرابع: الاعتراض بالممانعة في الأصل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 والخامس: الاعتراض بالممانعة في الوصف. والسادس: الاعتراض بعلة تصحيح العلة. والسابع: الاعتراض بالقول بموجب العلة. والثامن: الاعتراض بعدم التأثير. والتاسع: الاعتراض بالنقض. والعاشر: الاعتراض بالكسر. والحادى عشر: الاعتراض بفساد الوضع. والثانى عشر: الاعتراض بالقلب. والثالث عشر: الاعتراض بالمعارضة. قالوا: إن أول ما يبدأ به السائل من الاعتراض أن ينظر في المختلف فيه هل يجوز إثباته بالقياس فيمنع من القياس إن كان لا يجوز أثباته بالقياس ثم ينظر في الأصل هل يجوز أن يعلل ثم ينظر في العلة هل يجوز أن يكون مثله علة ثم يذكر الممانعة في الأصل إن لم يكن ملما ثم يطلب تصحيح العلة في الأصل ثم يقول بموجب العلة إن أمكنه ثم ينقض ومن الناس من يقدم النقض على موجب العلة ثم يأتى على ما بقى من عدم التأثير والكسر وفساد الوضع ثم يأتى القلب والمعارضة. قالوا: وإن خالف ما ذكرناه وبدأ يغير ما قلناه جاز وإن كان قد ترك الأحسن إلا في الممانعة والنقض فأنه لا يجوز أن ينقض ثم يمانع لأن التناقض يعرف بوجود العلة وأما المانع فيمنع وجود العلة فإذا مانع بعد المناقضة فقد رجع فيما سلم وهذا لا يجوز ثم قد ذكروا لكل واحد من هذه الاعتراضات أمثلة ثم نذكر طرفا من ذلك فذكروا في وجه الاعتراض بان المختلف فيه لا يجوز إثباته بالقياس أمثلة: منها: أن يستدل على أمر طريقة العادة والوجود بالقياس. ومنها: إثبات اللغة بالقياس وعلى هذا قول بعض أصحابنا1.   1 إثبات اللغة بالقياس: قال ابن جنى: جمهور أهل الأدب على أن القياس يجري في اللغات ووافق أهل الأدب في ذلك بعض الأصوليين كالإمام الرازي والبيضاوي وخالف ذلك جمهور الشافعية والحنفية منهم الآمدى وابن الحاجب فقالوا: لاتثبت اللغة بالقياس ولا يكون حجة فيها. وسنحرر محل النزاع: = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 وقالوا: مثال الأول من يعلل في أن التسمية من الفاتحة أو يعلل لنفيها من الفاتحة. ومثال الثانى: إثبات الحيض للحامل بالقياس. ومثال الثالث: إثبات اسم الخمر للنبيذ وإثبات اسم السارق للنباش. وقال بعض أصحاب أبى حنيفة: إن التعليل لإثبات كون الفراق والسراح1 صريحين تعليل لإثبات اللغة بالقياس ولا يصح وكذلك التعليل لإثبات أصل مثل المساقاة لا يصح لأن الأصول لا تثبت بالقياس وكذلك قالوا: إن الحدود والكفارات لا يجوز إثباتها بالقياس وكذلك الأبدال لا يجوز إثباتها بالقياس مثل استدلال الشافعى رضى الله عنه أن المحصر ينتقل إلى الصوم عند عدم الهدى. ونحن نقول في الأول وهو مسألة الفراق والسراح أن التعليل لإثبات حكم بالقياس   المستفاد من اللغة: إما أن يكون حكما وإما أن يكون لفظا فإن كان المستفاد منها حكما مثل رفع الفاعل ونصب المفعول فلا خلاف أن القياس لا يجري في مثل ذلك لأن رفع الفاعل أو نصب المفعول ثبت من اللغة بالاستقراء والتتبع لكلام العرب فكان ذلك شبيها بالقاعدة الكلية والقاعدة الكلية لاتختص بالفرد دون فرد آخر وإن كان المستفاد منها لفظا فلا يخلو إما أن يكون علما أو صفة أو اسما أو جنسا. فإن كان اللفظ علما أو صفة فلا خلاف كذلك أن القياس لايجري فيها أما العلم فلأنه وضع للذات ولم يوضع للمعنى حتى يمكن انتقال هذا المعنى من محل إلى محل آخر فامتنع القياس فيه لعد الجامع. وأما الصفة مثل العالم والجاهل الكريم فلأنها واجبة الاطراد بمقتضى الوضع في كل من جد فيه المعنى كالعلم والجهل والكرم حيث كان الاطراد ثابتا وصفا فالقياس فيها لاحاجة إليه. أما إن كان اللفظ المستفاد من اللغة اسم جنس فلا يخلو إما أن يكون له معنى يمكن ملاحظته في غير جنسه أو لايكون له كذلك فإن كان الثاني فلا يمكن جريان القياس فيه لعدم الجامع ولأن الواضع وصفة لكل من تحقق فيه المعنى مثل الذكورة والبلوغ في الرجل والقياس لا حاجة إليه لوجود الاطراد وضعا. وإن كان الأول أي: له معنى يمكن ملاحظته في غير جنسه فهو محل النزاع مثل: لفظ الخمر مثلا فإنها وضعت للمتخذ من عصير العنب إذا غلا وقذف بالزبد لمعنى فيه هو المخامرة وهذا المعنى يدور مع التسوية وجودا وعدما فعصير العنب عند المخامرة يسمى خمرا وعند عدمها لا يسمى ذلك. فإذا وجد هذا المعنى وهو المخامرة في غير الخمر كالنبيذ مثلا فهل يجوز إطلاق اسم الخمر عليه أو لايجوز في ذلك الخلاف المتقدم انظر نهاية السول "4/44, 45" سلم الوصول "4/44, 45" اصول افقه للشيخ محمد أبو النور زهير "4/53, 54". 1 ثبت في الأصل "الصراح". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 والحكم هو وقوع الطلاق بهذا اللفظ من غير نية. ونقول في الثاني: إن إثبات الأصول والجمل يجوز بالقياس كما يجوز إثبات التفاصيل. وأما الحدود والكفارات فقد بينا الكلام فيها. وأما الأبدال فعندنا يجوز إثباتها بالقياس إذا أمكن إثباتها على الشريطة التي قلناها وقدمناها من قبل. وأما الاعتراض بأن من قاس عليه لا يجوز أن يجعل أصلا. فمثاله: أن نقيس على اصل منسوخ مثل صوم عاشوراء فإنه لا يجوز القياس عليه وكذلك إذا قاس غير الرسول على الرسول صلى الله عليه وسلم وكذلك القياس على أصل مركب وقد ذكرنا الكلام فيه وقد قال أصحاب أبى حنيفة: إن القياس على المخصوص من الأصل لا يجوز وقد بينا من قبل جوازه إذا أمكن القياس عليه وذلك بأن عرف له معنى يمكن قياس غيره به عليه وأما الاعتراض بأن يقول ما جعلته علة لا يجوز أن يجعل علة فمثال هذا أن يقول جعلت الاسم علة أو جعلت الشبه علة. أو يقول: جعلت صورة المسألة علة أو يقول جعلت نفى صفة علة أو يجعل الاختلاف أو الاتفاق علة والصورة في هذه الأشياء معلومة. وأما مثال قولنا: إنه جعل الاختلاف علة هو قول القائل في زكاة ما لا يؤكل لحمه حيوان مختلف في جواز أكله فيطهر جلده بالذكاة كالضبع والتعليل للكلب. وأما مثال جعل الاتفاق علة فهو مثال ما قاله الأصحاب في المتولد بين الظباء والغنم حيوان منفصل من حيوان يجب فيه الذكاة بالإجماع فأشبه المتولد بين السائمة والمعلوفة. واعلم أما قد بينا من قبل أنه لابد من إقامة الدليل على صحة العلة. فكل علة يمكن إقامة الدليل عليه بالوجه الذى قلنا فتلك العلة صحيحة وما لا فلا. وأما الاعتراض بأن ما جعله حكما للعلة لا يجوز أن يجعله حكما فمثاله أن نقول في حكم العلة فأشبه ولا يبق الحكم فيه. ومنها أن نقول: فاستوى ولا يصرح بالحكم وقد أخبرنا اختلاف الأصحاب في هذا من قبل وأما الاعتراض بالممانعة في الأصل فمثاله أن يقول القائل في موت أحد المتعاقدين في الإجارة عقد على المنفعة فبطل بموت المعقود له كالنكاح. فيقول السائل: لا نسلم أن النكاح يبطل بالموت بل يتم وقد يكون المنع بأحد القولين للشافعى وبإحدى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 الروايتين عن أبى حنيفة وقد ذكر بعض أصحاب أبى حنيفه منع الأصل بالقياس الذى يخالف الاستحسان على مذهب أبي حنيفة وهذا منع باطل لأن المذهب عندهم هو الاستحسان والكلام في هذا الأصل يكثر وسنبين من بعد. وأما الاعتراض بمنع الوصف فمثاله أن يقول القائل في الاستئجار على الحج فعل يجوز أن يفعله الغير عن الغير فيجوز الاستئجار عليه1. فيمنع السائل ويقول لا يجوز عندي أن يفعله الغير عن الغير فإن الحج يقع عن النائب وكذلك قول القائل في الترتيب الوضوء عبادة يبطلها الحدث فيكون التريب من شرطها. فيقول السائل: عندي لا تبطل الصلاة بالحدث إنما تبطل الطهارة به ثم الصلاة تبطل ببطلانها. وأما الاعتراض بطلب تصحيح العلة وهذا قد بينا من قبل وقلنا إن المطالبة صحيحة وذكرنا وجه تصحيح العلة ومثاله قول القائل في تحريم النبيذ إنه شراب مسكر ومشتد يدعو قليله إلى كثيره كالخمر فإذا طولب بتصحيح العلة وجب عليه تصحيحها على ما عرف. وأما الاعتراض بالقول بموجب العلة ومثال ذلك ما يقول الحنفى في مسألة بيع الغائب عقد معاوضة فلا يبطل بعدم الرؤية وإنما يبطل بالجعالة وسنبين بعد هذا في هذا الفصل ما يتصل به. وأما الاعتراض على العلة بعدم التأثير. ومثاله ما نقول في الثيب الصغيرة حرة سليمة ذهبت بكارتها بالجماع فلا يجوز نصر رضاها كالبالغة. فيقول المخالف: ذهاب البكارة لا تأثير له في الأصول ألا ترى أن في المال وفى الولاية على الغلام لا فرق بين الثيب والبكر وقد بينا أن إثبات العلة واجب وسبيل المجيب أن يبين التأثير في مثال آخر وذلك قول القائل في الاستنجاء أنه لابد فيه من العدد فيقول عبادة تتعلق بالأحجار لم يتقدمها معصية فوجب فيها التكرار كرمى الجمار. فيقول السائل: لا تأثير لقولك لم يتقدمها معصية لأن ما تقدمته معصية وما لم يتقدمة معصية نحو باب العدد سواء. ألا ترى أن الاستنجاء لا فرق فيه بين أن يتقدمه معصية أو لا يتقدمه معصية في أن العدد معتبر فيه عندكم. وكذلك في رمى الجمار   1 الاستئجار على الحج غير جائز في إحدى الروايتين عن أحمد وهو مذهب أبي حنيفة وإسحاق. وهناك من قال: يجوز وهو الرواية الثانية عن أحمد وهو مذهب مالك والشافعي وابن المنذر انظر المغنى "3/180" رحمة الأمة في اختلاف الأئمة "211". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 202 وقد عد المشايخ المتقدمون هذا السؤال في نهاية القوة وأبطلوا به العلة. ونحن نقول إن مثال هذه العلل من نوع الطرديات والصور ولا يجوز تعليق الحكم بها بوجه ما. وقد ذكر الجدليون في هذا النوع من السؤال كلاما كثيرا وكتب الجدل مملوءة من ذلك ولم أر للإتيان بذلك كبير فائدة لأنا إذا قلنا بطرد كل وصف لا يخيل في الحكم ولا يناسبه سقط أمثال هذه الأوصاف إذا دخلت في العلل. وأما الاعتراض بالنقض فهو: أن توجد العلة في مسألة ولا حكم ومثاله: قول القائل في مسألة الأجرة عقد على المنفعة فلا يجب فيه تعجيل العوض بنفس العقد كالمضاربة فيقول السائل ينتقض بالنكاح وسنبين الكلام في النقض وجوابه. وأما الاعتراض بالكسر1 فقد سموه نقضا من حيث المعنى. ومثاله: ما يقول القائل في بيع ما لم يره المشترى مبيع مجهول الصفة عند العاقد فلا يصح بيعه. دليله: إذا قال: بعتك عبدا. فيقول السائل ينكسر بالنكاح وذلك أن يتزوج امرأة مجهولة الصفة عند العاقد ومع ذلك جاز النكاح. قالوا: والكسر سؤال مليح والاشتغال به ينتهى إلى بيان الفقه. وأما الاعتراض ببيان فساد الوضع فهو أن يتعلق بما يوجب التخفيف تغليظا وبما يدل على التغليظ تخفيفا. ومثاله: قول الحنفى في قتل العمد إنه كبيرة فلا يوجب كفارة كالرده. فيقول السائل: علقت بها لحكم التخفيف وهو سقوط الكفارة وقد يذكر بلفظ إفساده: ومثاله: قول الحنفى في النكاح بلفظ الهبة: لفظ ينعقد به نكاح النبى صلى الله عليه وسلم فينعقد به نكاح أمته فيقول السائل هذا اعتبار فاسد لأن الله تعالى خص النبى صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ. فقال تعالى: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50] فمن جمع بينه وبين غيره بالتعليل فسد اعتباره لأنه تعليل منصوب لإبطال التخصيص الثابت بالقرآن.   1 اختلف الأصوليون في تعريف الكسر فعرفه الإمام الرازي والبيضاوي بأنه عدم تأثير أحد جرأي العلة ونقض الجزأ الآخر. ومعنى هذا أن العلة تكون مركبة من جزأين: أحدهما: لا تأثير له أي يوجد الحكم بدونه. وثانيهما: منقوض أي يوجد ويتخلف الحكم عنه. وعرفه الآمدي وابن الحاجب: بأنه اختلف الحكم عن الحكمة التي قصدت منه انظر نهاية السول "4/204, 205, 206, 207" سلم الوصول "4/204, 205, 206, 207" إحكام الأحكام "4/123" أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "4/138". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 واما الاعتراض بالقلب: فمثاله ما يقول القائل في أنه يعتبر الصوم شرطا لصحة الاعتكاف لبث في مكان مخصوص فلا يكون قربة بنفسه. دليله: الوقوف بعرفة فيقلب السائل فيقول وجب أن لا يكون الصوم شرطا في صحته. دليله ما قاسوا عليه. وأما الاعتراض بجعل المعلول علة والعلة معلولا فمثاله: قول القائل في ظهار الذمى من صح طلاقه صح ظهاره كالمسلم فيقول السائل لا يصح ظهار المسلم لأنه صح طلاقة ولكن يصح طلاقه لأنه يصح ظهاره. وأما الاعتراض بالمعارضة قالوا: قد يكون لعلة مبتدأة وقد يكون بالمعارضة في علة الأصل. فأما المعارضة بالعلة المبتدأة. فمثاله أن يقول القائل في إزالة النجاسة بغير الماء طهارة تراد للصلاة فلا يصح بالخل كالوضوء فيعارض السائل فيقول هذا معارض بمثله فأقول عين تصح إزالتها بالماء فيصح إزالتها بالخل كالطيب عن ثوب المحرم. وأما المعارضة في علة الأصل فتكون بالفرق ومثال هذا يكثر وقال بعض أصحابنا: الفرق أفقه شئ يجرى في النظر وبه يعرف فقه المسألة فهذا الذى ذكرناه جملة ما ذكره مشايخنا من وجوه الاعتراض على العلة وبعضهم يزيد وبعضهم ينقص وقد نقلت على ما وجدت في الجدل الذى صنفه بعض المتأخرين وقد استكثر الأصحاب في ذكر الأمثلة لهذه الأسؤلة ولا يعتقد صحة هذه الاعتراضات فإن هذه اعتراضات أرباب الظاهر اقتنع بها من يقتنع بظاهر من الكلام وقل وقوفه على حقائق المعانى ولابد من تنحل الأسئلة ووجوه الاعتراضات حتى يعرف الصحيح من ذلك ويعرف الفاسد ويذكر وجه الجواب الصحيح من الأسؤلة ويذكر الاعتراضات الفاسدة أيضا ووجه فسادها والله المعرف على ذلك والموفق له بمنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 فصل: اعلم أن الاعتراض على العلة ينقسم إلى الصحيح والفاسد : فالصحيح يكون بالممانعة وهى السؤال الأول ويكون بفساد الوضع ويكون بالمعارضة ويكون بالمناقضة فهذه أربعة من وجوه الأسؤلة وهى أسؤلة صحيحة وأحسنها سؤال الممانعة وسؤال المعارضة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 وأما المناقضة فقد قال كثير من المحققين أنه لا مناقضة على العلة المؤثرة وكذلك فساد الوضع وسنبين وجه الكلام في جميع ذلك ونبين كيف يوجه ذلك. أما الممانعة فاعلم أنها أوقع سؤال على المعلل وقيل: إنها أساس المناظرة وبها يتبين الجواب والمجيب من السائل والملزم من الدافع والسائل منكر فسبيله أن لا يتعدى عن دفع حجة الخصم عن نفسه ما أمكنه وعلى هذا ثبتت الخصومة في الدعاوى الواقعة. ثم الممانعة أقسام: أولها: منع ما يدعيه الخصم أنه علة فإن من الناس من يتمسك بما لا يصح أن يكون علة فيجعله عله وهذا مثال ما يتمسك المعلل بالطرد وقد بينا أن الطرد لا يصلح أن يكون علة أو يتمسك بالنفى وقد ذكرنا أن النفى لا يصلح أن يكون علة كذلك قول الحنفى في مسألة تبييت النية إنه صوم عين. فيقول السائل: إنه صوم عين لكنه صوم فرض فيقول السائل: لم قلت: إن الصوم العين متى كان فرضا يصلح أن يكون علة في هذا الحكم وكذلك من قال من أصحابنا في هذه المسألة: إنه صوم فرض فيقول السائل: هو وإن كان صوم فرض ولكنه عين. فلم قلت: إن صوم الفرض متى كان عينا يصلح أن يكون علة لهذا الحكم وكذلك من يعلل في نفى الكفارة عن غير الوطء في الصوم. فنقول: إن الكفارة متعلقة بعين الجماع فلا يشارك غير الجماع الجماع في إيجابها كالقضاء في الحج والحد فيمنع السائل ويقول لا أسلم أن الكفارة متعلقة بعين الجماع وإنما هى متعلقة بإفطار كامل لا بالجماع ومن ذلك قول القائل في مسألة الثيب الصغيرة ثيب يرجى مشاورتها فيقول الخصم يرجى مشاورتها برأى قائم أو برأى يحدث أو بأيهما كان. فإن قال: بأيهما كان يبطل بالمجنونة فإن حدوث رأيها غير مأيوس عنه وإن قال برأى قائم لم يجد في الفرع ويتبين بهذا حرف المسألة فإن القاطع هو رأى قائم لا رأي سيحدث من علة أو مانع لا يوجب حكما قبل الحدوث والرأى هو القاطع فلم يجز أن يتعجل القطع على الرأي ونحن نجيب عن هذا فنقول: وإن لم يوجد رأى في الحال. ولكن يوجد سبب حدوث الرأى فقام سبب الرأى مقام حقيقة الرأى. وأما المجنونة فقد ذكرنا في المسألة على وجوه يخرج فصل المجنونة وربما يقولون قولكم فلا يجوز تزويجها كرها أيش تعنون به إن قلتم نعنى بدون رأيها ولها رأى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 معتبر شرعا فلابد أن تقولوا رأى معتبر ثم لا تجدونه في الفرع ويتبين عند ذلك حرف المسألة وهذه ممانعات عائدة إلى محض الفقه وبهذا السؤال يتبين المحقق من الفقهاء من غيره. ثم وهذه الممانعة بعد أن يقع التسليم لأصل القياس في أنه معلل فإن الأحكام لابد أن تنقسم إلى ما يعلل وإلى ما لا يعلل فمن استمسك بأصل فلابد أن يثبت كونه معللا إلا أنه يقال: هذا إنما يتبين كون الأصل معللا بأن يتجه للشيء معنى يصلح كونه علة أو يدل الدليل على أنه علة فالسؤال الصحيح هو الأول ومتى أثبت المعلل صلاحية كون الوصف علة فقد ثبت أن الأصل معلل ويتبين الجواب عن المطالبة وخرج المعلل عن السؤال وهذا أيضا بعد أن يسلم الحكم في الأصل فإنه ربما يمنع السائل الحكم في الأصل وإذا اتجه السائل منع الحكم في الأصل لفابد للمسؤل من إنبائه والنبأ مقبول من المسئول. بل أن يقول السئول إن لم يسلم الفرع فهذا الفرع مبنى على تسليم هذا الأصل فإن لم تسلمه أنبأته بالدليل. والقسم الثاني: من المنع: ما يتجه في العلل المركبة وقد ذكرنا وجه ذلك وقد سبق أن المركبات هى من الطرديات التي لا تصلح للاعتماد عليها إلا في بعض الوجوه وهي التي تؤل إلى المعنى. والقسم الثالث: منع الحكم1 وهو عائد إلى القول بموجب العلة ومثاله أن يقول الحنفى في مسألة بيع الغائب عقد معارضة فلا يشترط في صحته رؤية المعقود عليه فيمنع السائل فيقول: عندي لا يشترط رؤية المعقود عليه أنما يشترط إعلامه وكذلك يقول شفعوى المذهب في مسألة مسح الرأس المسح ركن في الوضوء فيسن تثليثه كالغسل. فيقول: لا أسلم أن الغسل يسن تثليثه إنما يسن إكماله إلا أن إكمال الغسل بالتكرار يكون لضيق المحل ولإكمال المسح الاستعانه لسعة المحل وقد يمانع الحنفى في هذه العلة الحكم من وجه آخر. فيقول في هذه العلة: عندي يسن تثليث المسح لأن المفروض قدر ربع الرأس وعندي يسن مسح جميع الرأس فكان التثليث مسنونا وزيادة ومن منع الحكم قول القائل في مسألة بيع الطعام بالطعام مالان جمعهما علة ربا الفضل فيشترط القبض بينهما إذا بيع أحدهما بالآخر كالذهب بالذهب فيقول الخصم القبض ليس بشرط في الأصل وإنما الشرط هو التعيين حتى لا يكون دينا بدين فرجع إلى حرف المسألة وهذا مثال المنع في الأصل.   1 انظر إحكام الأحكام "4/98, 99". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 والقسم الرابع: يقع الوصف1 فإن التعليل قد يقع بوصف مختلف فيه مثل قول الحنفى في مسألة الإيداع من الصبى له مسلط على الاستهلاك فمنع. ويقال: ليس بمسلط والإيداع ليس بتسليط وكذلك شفعوى المذهب يقول في يمين الغموس معقودة فيمنع السائل ويقول: لا أسلم أنها معقودة. ويقول الحنفى في مسألة الجنس: إن الجنس حد وصفى علة تحريمه الفضل فيقول السائل لا أسلم أن الجنس علة بل هو شرط بمعنى أو يحل على ما عرف. قال القاضى أبو زيد: أقسام الممانعة الصحيحة أربعة: أولها: الممانعة في نفس الحجة التي يذكرها المجيب أهو حجة أم ليس بحجة؟ ثم في نفس الوصف الذى يدعيه المجيب علة موجودة أم لا؟ ثم في شروطه. ثم في كينونته واجب العمل به. ثم بعد ذلك يحتاج إلى مدافعة الحجة لا الممانعة قال: أما الممانعة في نفس الحجة فما مر من قبل أن كثيرا من وجوه حجج الناس يرجع إلى دليل فإذا ثبت أنه من جملة ما هو صالح دليلا فلابد من إثبات الوصف في الأصل والفرع لأنه ركنه. ثم شروط الصحة لأنها تكون سابقة على دليل وجوب العمل به. ثم دليل التأثير الذى يجب به العمل ثم العلة عامة عندنا وكل هذه الممانعات بالإنكار ومطالبة دلالة العلة. قال: وللممانعة في الشرط فقد ذكرنا شروط التعليل قال: ومانع الشرط من شرط يكون ثابتا بالإجماع. فيقول: قد عدم في الفرع أو الأصل وهذا مثل قول الشافعي في السلم الحال أنه أخذ عوض البيع فيثبت حالا ويؤجلاه كالثمن في البيع فيقول السائل لا خلاف أن من شرط التعليل أن لا يغير حكم النص وأن لا يكون الأصل معدولا به عن القياس بحكمه الذى صار به الدليل دليلا والممانعة والتأثير لأن مجرد الوصف بلا تأثير ليس بحجة فلا يصلح للاحتجاج حتى يتبين تأثيره وإن قال في موضع الخلاف ليس بشرط عندي فنقول: المعترض عندي هو شرط فلا يصلح الاحتجاج به على من لا يراه دليلا.   1 انظر إحاكم الأحكام "1/109". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 وأما القول لموجب العلة فهو سؤال صحيح إذا أخرج مخرج الممانعة وقد بينا نظيره ولابد أن توجه القول بالموجب من شريطة وهى إلى مسند الحكم الذى نصب له العلة إلى شئ مثلما يقول حنفي المذهب في ماء الزعفران: ما خالطه طاهر بالمخالطة لا تمنع صحة التوضؤ. فيقول السائل: المخالطة لا تمنع إنما المانع أنه ليس بماء مطلق وكذلك يقول شفعوى المذهب في مسألة تمكين العاملة البالغة جنون أحد الواطئين لا يوجب درأ الحد من الموصوف بالعقل كجنون الموطؤة. فيقول السائل: بل أقول بموجبه فإن عندي الجنون غير مانع فما المانع خروج الوطء عن كونه زنا ففى مثل هذه المواضع يتوجه هذا السؤال. فأما مع إثباته الحكم من نفى أو إثبات لا يستقيم إلا أن ينتقل السائل إلى مذهبه وقد قال جماعة من الأصوليين: إن القول الموجب ليس بسؤال ولا تبطل به العلة لأنه إذا صحت العلة وحكمها متنازع فيه فلأن تصح العلة وحكمها متفق عليه أولى وسبيل صحته أن يكون الخروج على مسلك المنع والجملة في القول بموجب العلة أن السائل إذا أمكنه القول بموجب العلة مع الاستقرار على الخلاف في الحكم فيتبين به أن المعلل لم يدل في موضع الخلاف ومثاله أن يعلل المعلل في الاعتكاف فيقول لبث في مكان مخصوص فكان من شرطه نعنى ما دليله الوقوف. فيقول: إن أقول من شروطه معنى ما هو النية فعلى المعلل أن يستدل في موضع الخلاف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 فصل: وأما السؤال بفساد الوضع : فاعلم أنه سؤال يمكن إيراده على الطرود ويضطر به المعلل إلى إظهار التأثير وإذا ظهر التأثير بطل السؤال وهذا طريق سلكه كثير من أصحابنا المتقدمين وأورد كثير من الأصوليين يرد عند اختلاف موضوع الأصل والفرع وذلك مثل أن يكون الأصل مبتنيا على التخفيف كالتيمم والمسح على الخفين ويكون الفرع مبتنيا على التغليظ كالوضوء وغسل الرجلين ويروم القائس أن يثبت في الفرع حكما مخففا أو يكون الأصل مبتنيا على التغليط ويكون الفرع مبتنيا على التخفيف كالتيمم والمسح على الخفين ويروم القائس أن يثبت في الفرع حكما مغلطا وقد يأتى فساد الوضع أيضا من اختلاف موضوع العلة والحكم وهو أن يكون مبتنيا على التغليط والآخر على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 التخفيف وقد يأتى فساد الوضع أيضا من وجه آخر وهو أن يتقدم حكم الفرع على حكم الأصل ومثاله الوضوء إذا قيس على التيمم في اشتراط النية وذلك أن الوضوء وجب بمكة والتيمم بعد الهجرة فلا يجوز أن يكون شرط ما يقدم وجوبه مستفادا مما تأخر وجوبه لأن الدليل لا يجوز تأخره عن المدلول عليه وكذلك في مسألة الأصل إذا قاسوا الثمن على المبيع فهو فاسد وضعا لأن البيع شرع في المبيع لإيجاب الملك شرط لا ابتداء وفى الثمن لإيجاب الملك ابتداء في الذمة على المشترى للبائع فلما كان البيع لإيجاب الملك واليد في العين للمشترى كان شرطه قيام الملك في المحل. قال أبو زيد: فساد الوضع من الشهادة يجرى مجرى فساد الأداء وهو قبل النقص لأنه إنما يشتغل باطراده بعد صحته علة كالشهادة إنما يشتغل بتعديل الشهادة بعد صحة الأداء وهو أقوى من النقص لأن الوضع إذا فسد لم يبق إلا الانتقال والنقص مجلس يمكن الاحتراز منه في مجلس آخر. قال: وبيان فساد الوضع أن الشافعي متى علل لوجوب الفرقة بعد إسلام أحد الزوجين أنها فرقة وجب لاختلاف الدين فأشبه الفرقة بالردة كان فاسد الوضع لأن الاختلاف إنما يثبت فيما نحن فيه بإسلام المسلم منهما وقد كان الاتفاق ثابتا قبله وإنما حدث الاختلاف بالحادث من الدين وهو الإسلام والإسلام في الشرع جعل عاصما للأملاك والحقوق لا مبطلا وكان الوصف ثابتا على الحكم قال وكذلك الطعم إذا جعل علة لأنه به القوام فهذا فاسد في الوضع لأن المال خلق بذله لحاجته إليه وأشد الحاجات حاجة البقاء فيزيد هذا على ابتذاله وسعة وجه كسبه لا أن يزيد تضييعا حتى أكل طعام الغنيمة قبل أن يخمس بخلاف سائر الأموال. قال: وكذلك من علل لحرمة نكاح الأمه بوجود طول الحرة فإنه مستغن عن تعريض خبر منه للرق فلا تحل له كما لو كان تحته حرة قال وهذا يفسد وضعا لأنه يثبت حجرا عن النكاح نسب الحرية والشرع جعل الحرية مؤثرة في الإطلاق دون الحجر وكذلك اعتبار الحجر عن تسليم الثمن بالعجز عن تسليم المبيع في ثبوت حق الفسخ فإن البيع شرع لنقل الملك في العين واليد للبائع ليعمل العقد عليه فلم يصح العقد قبل أن يقدم ملكا ويدا ولما كان الشراء لإيجاب الثمن ابتداء في ذمة المشترى لا في عين اشتراط في صحته قيام ذمة قابلة لثمن يجب فيها بحيث يقبل النقص بمثلها من غير بشرط القدرة على التسليم بالمثل لأنه لا قدرة إلا بملكه ولم يشترط للجواز قيام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 الملك ولا يد في عين مثله ولما لم تكن القدرة على التسليم شرطا للجواز ابتداء لم يوجب العجز عن التسليم خللا فصار فاسدا وضعا لما فيه من اعتبار ما لم يجعل شرطا لصحة عقد بما جعل شرطا. قال: وكذلك إذا قال قائل في الأثمان: إنها أموال فتتعين في التبرعات فتتيعن في المعاوضات فهذا فاسد وضعا لأن التبرعات ما شرعت لإيجاب الأموال في الذمة. بل للإتيان بعين ماله والمعارضات شرعت لإيجاب الأثمان في الذمم لأن المتعارف بين الناس فعلا هو المتعارف شرعا والمتعارف في الأثمان بين الناس هو العقد بلا إشارة في الأثمان. بل بمجرد التسمية وهى موجبه في الذمة فلما كان الإيجاب في الذمة كانت الذمة محل هذا الإيجاب فلم تصح الإضافة إلى عين كما لو أضاف هبة الألف إلى ذمته فإنه لا يصح وإذا عرف هذا صار اعتبار البيع بالهبة في التعيين وإثبات المحل فاسدا وضعا وقد أجبنا عن هذا وأمثاله في الخلافيات. وقد ذكر بعض متأخرى أصحابنا أن حاصل القول يحصره نوعان: احدهما: أن يبين المعترض أن القياس موضوع على خلاف ما يقتضيه ترتيب الأدلة ومثال ذلك أن يقول: إن التعليل على خلاف الكتاب أو على خلاف السنة ومن هذا أيضا أن يقول إنه بالقياس حاول الجمع بين شيئين فرق الشرع بينهما أو فرق بين شيئين جمعت الشريعة بينهما. والملخص في هذا النوع أن يكون القياس يخالف وضعه موجب متمسك في الشرع هو مقدم على القياس فإذا كان كذلك فيكون القياس فاسد الوضع. والنوع الثاني: أن يكون الوصف مشعرا بخلاف الحكم الذى ربط به وهذا زائد في الفساد على فساد الطرد لأن الطرد مردود من جهة أنه لا يناسب الحكم ولا يشعر به فالذى لا يشعر به ويخيله خلافه يكون أولى بالرد ومثاله ما ذكرناه وهو ذكر وصف يشعر بالتغليظ في روم تخفيف أو على العكس من ذلك. قال: وإذا اعتبر القائس القصاص بالدية في الثبوت على الشركاء أو اعتبر الدية بالقصاص في السقوط أو قاس الحد على المهر في طلب الثبوت أو قاس المهر على طلب الحد في محاولة السقوط فقد ذهب جماعة من الجدليين إلى فساد هذا القياس لأن العقوبات تدرأ بالشبهات. وأما الواجب بالجنايات يثبت مع الشبهات فاعتبار أحدهما بالآخر في السقوط أو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 الثبوت يكون فاسدا في الوضع وقد منع بعضهم قياس الرخص على الوظائف التامة وكذلك قياس الوظائف التامة على الرخص وقد أجابوا عن السؤال من كل هذه الوجوه بإظهار التأثير والإخالة في القياس والجمع بين الفرع والأصل أو الجمع بين العلة والوصف. فقد قال أبو زيد وكثير ممن تبعه: إن هذا السؤال لا يرد إلا على الطرد والطرد ليس بحجة. وأما العلة التي ظهر تأثيرها وقام الدليل على صحتها فلا يرد هذا السؤال ونحن نقول: نعم وإن كان الطرد ليس بحجة على ما سبق وإظهار التأثير لابد منه ولكن السؤال ينفى وهو أن يقول السائل: لا يجوز أن يدل الدليل على صحة مثل هذه العلة أو يقول لا يجوز أن يظهر له تأثير فلابد في الجواب من نقل الكلام إلى ذلك وبيانه أن الدليل قد قام على صحة هذه العلة فبهذا الوجه صححنا هذا السؤال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 فصل: الاعتراض بالنقض ... فصل: وأما الاعتراض بالنقض: فهو سؤال يبطل به العلة والنقض أن توجد العلة في موضع دون حكمها وقد ذهب معظم الأصوليين إلى أن النقض سؤال صحيح تبطل به العلة ولكن من ألزم عليه نقض فعليه تعليل تلك المسألة التي نقضت علته بيان الفصل بينها وبين المسائل التي يدعى اطراد العلة فيها1.   1 من قوادح العلة: النقض ومعناه في اللغة: الحل والإبطال. وعند الأصوليين: هو مجرد الوصف المدعى كونه علة في محل مع تخلف الحكم عنه. اتفق الأصوليين على أن النقض إذا كان واردا على سبيل الاستثناء لا يقدح في كون الوصف علة في غير الصورة المستثناة ولا يبطل عليته. فإن كان النقض ليس واردا على سبيل الاستثناء فقد اختلف الأصوليين في كونه قادحا أو غير قادح على مذاهب كثيرة أشهرها ما يأتي: الأول: لا يقدح النقض في العلية مطلقا سواء كانت العلة منصوصة أو مستنبطة وسواء كان التخلف لمانع أو لغير مانع وهذا المذهب هو المعروف عن الحنفية ويسمونه تخصيص العلة. الثاني: يقدح النقض مطلقا وهو مذهب الشافعي ومختار الإمام الرازي. الثالث: يقدح النقض في العلل المستنبطة ولا يقدح في العلل المنصوصة وهو المختار عند أكثر الشافعية ولا فرق بين الموضعين بين أن يكون التخلف لمانع أو لغير مانع. الرابع: هو المختار عند البيضاوي: -يقدح النقض إذا كان التخلف لغير مانع ولا يقدح إذ كان التخلف لمانع ولا فرق في ذلك بين العلل المنصوصة والعلل المستنبطة انظر البرهان "2/855". إحكام الأحكام "4/118" نهاية السول "4/146, 147, 148" المحصول "2/361" أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "4/131, 132, 133". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 قال أبو زيد: النقض لا يرد على العلة المؤثرة لأن تأثيرها لا يثبت إلا بدليل يجمع عليه ومثل ذلك الدليل لا ينقض وإنا تجئ المناقضة على الطرد لأن أصحاب الطرد إنما جعلوا العلة علة باطرادها فإذا لم تطرد بطلت. قال: وأما المؤثرة لا يرد عليها النقض ولكن يرد عليها الخصوص فيبين المعلل أن الذى جاء ناقضا في الظاهر لا يدخل تحت ما جعله المعلل علة من حيث المعنى وبيان ذلك بطرق أربعة من حيث اعتبار معنى الوصف الذى هو ركن العلة ثم باعتبار معنى دلالة التأثير الذى صار الوصف به حجة يجب العمل بها ثم باعتبار الحكم الذى وقع التعليل لإثباته ثم بالغرض الذى قصد المعلل التعليل لأجله وأثبت الحكم بقدره. أما الوصف فنحو قولنا: إن وظيفة الرأس المسح فلا يثلث كوظيفة الخف ولا يلزم الاستنجاء بالحجارة لأن تلك الوظيفة ليست بمسح بل هى إزالة النجاسة الحقيقية. ألا ترى أن الإزالة بالماء أفضل منها لأنها أتم ولو كانت الوظيفة مسحا لكره التبديل بالغسل كما في [وظيفة] 1 الرأس. قالوا: كذلك قولنا في الدم السائل: إنه نجس خارج فأشبه البول ولا يلزم الدم إذا لم يسل لأنه طاهر وليس بخارج لأن الخروج بالانتقال من مكان باطن إلى مكان ظاهر وتحت كل جلدة رطوبة وفى كل عرق دم فالذى هو على رأس الجرح ظهر بزوال الجلدة عنه وقد كانت سترة له ولم ينتقل عن مكانه إلى مكان طاهر من بدنه خلقه فهو مثل رجل ظهر بفتح الباب أو بنقض البناء وآخر ظهر بالخروج عن الباب فالأول ليس بخارج والثانى خارج. وأما التأثير وبيان دفع النقض به قال هو مثل قولنا في مسألة تثليث المسح:   1 كشط في الأصل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 مسح وإيراد الخصم الاستنجاء عليه ووجه دفعنا ذلك بالتأثير وهو أن صفة المسح إنما صار علة لمنع التثليث لأنه قد ظهر أثره في نفسه من حيث التخفيف لأنه إذا قوبل المسح بالغسل كان المسح في نهاية التخفيف وكذلك ثبت التخفيف له قدر التأدية ببعض المحل وهذا المعنى معدوم في الاستنجاء لأن الأصل المأمور مسح موضع النجاسة بإزالتها فيكون على وصف التغليط مثل الغسل ولا يتأدى أيضا ببعض محل النجاسة مثل ما يتأدى فرض مسح الرأس ببعض المحل. قال: وكذلك المسألة الثانية. فإن النجاسة الخارجة إنما كانت حدثا لأنها أوجبت تطهرا في نفسها. ألا ترى: أنه يجب غسلها إذا سالت عن رأس الحرج كما وجب الغسل إذا سال البول عن رأس القضيب فلما ساوت النجاسة البول في إيجاب الحقيقة ساوت في الحكمية ولا يلزم النجاسة التي لم تسل لأنها تصير كالبول في إيجاب الطهارة في محلها فكذلك في غيره فيتبين بدلالة التأثير أنها لم تدخل تحت التعليل بل يزيد قولا بانعدام الحكم إذا انعدم دلالة التأثير. وأما الحكم وبيان الدفع به فنحو قولنا: فيمن نذر صوم يوم النحر أنه يوم فلا يفسد النذر بالإضافة إليه قياسا على سائر الأيام ولا يلزم إذا نذرت المرأة صوم يوم حيضها لأن الفساد بالإضافة إلى الحيض والحيض صفة لها لا لليوم. قال: وكذلك على قولنا: إن الغصب سبب ملك بدل أصل المال فيكون سببا لملك الأصل قياسا على البيع ولا يلزم المدبر لأنا عللنا لنجعل الغصب سبب ملك ولم نعلل لبيان المحل الذى يعمل فيه وفى المدبر الغصب سبب للملك إلا أن التدبير منع عمله كما لو باعه. قال: وكذلك قولنا: إن الكتابة عقد يحتمل الفسخ فلا يوجب ما يمنع التكفير به كالإجارة ولا يلزم إذا أدى بعض البدل لأن المنافع أحد العوض عن العتق لا الكتابة وهو معنى قول أهل النظر إن العلة المنصوبة للجملة لا تنقض بالإفراد. وأما الغرض بوجه الدفع به نحو قولنا: إن التأمين يخافت به لأنه ذكر ولا يلزم التكبيرات من الإمام لأن غرضنا أن يجعل كونه ذكرا علة بشرع المخافتة وإنما وجب الجهر لعلة أخرى وهى أنها شرعت إعلاما والعلة مع كونها علة قد يجب ضد حكمها بمعاوضه أخرى أولى منها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 قال: وكذلك قولنا في الدم السائل: إنه حدث لأنه نجس خارج فأشبه البول ولا يلزم دم الاستحاضة لأن الغرض أن يجعل النجس الخارج علة لنقض الطهارة وهو علة ناقضه للطهارة في الاستحاضة بعد الوقت ولكن امتنع النقض في حال لعلة أخرى مانعة وهى أنها مخاطبة بالأداء فيجب أن تكون قادرة ولا قدرة إلا بسقوط حكم الحدث فسقط ومنع العلة أن يمنع من عملها لدفع ضرورة العجز في الإمكان فلا يخرج من كونه علة تأخر العمل إلى مدة كالبيع بشرط الخيار ثلاثة أيام وأهل النظر لقبوا هذا الدفع بأنه لا يفارق حكم أصله ونحن لقبنا بالغرض لأن الغرض أوجب القصر على تلك الجملة وهى أن العموم لم يدخل تحت التعليل. قال: وجملة الحد في الخروج عن المناقضة أن المعلل متى أمكنه الجمع بين حكم علته وهذا الذى جاء مناقضا لم يكن نقضا ومتى لم يمكنه يكون نقضا كما في تناقض الدعاوى وهذا لأن الجمع بين النقيضين لا يتصور وبهذه الوجوه من البيان يمكن الجمع بينهما من غير رجوع عن الأول وذكر بعد هذا كلاما آخر في آخر الفصل لا يحتاج إليه فهذا سر ما ذكره في تقويم الأدلة في دفع النقض وبيان قوله إن النقض لا يرد على العلل المؤثرة. ونحن نقول: إن سؤال النقض بناء على أن تخصيص العلة لا يجوز وإذا لم يجز تخصيصه على ما سبق ذكره فلابد أن يكون النقض مبطلا للعلة وقولهم: إن العلل إذا كانت مؤثرة لا تنقض. قلنا: بالنقض يتبين فقد تأثير العلة وهذا قد سبق بيانه. ببينة: أن الناصب للعلة بنصبه العلة قد التزم طردها وادعى أن هذه العلة متى وجدت فالحكم يتبعها فإذا لم يف بقوله ووجد علة مناقضة بطلت علته لعدم وفائه بدعواه وصحة ما يزعمه. فأما دفع النقض فقد اشتغل الجدليون بدفع النقض بمجرد اللفظ وليس ذلك بشيء والأولى أن يدفع النقض ببيان أنه لم يرد على المعنى الذى جعله علة إن كانت العلة معنوية وإن كان قد وقعت له ضرورة إلى جواز العلة حكمية واستقام تعلقه به من الوجوه التي سبقته فسبيل دفعه أن يدفع ببيان أنه لا يرد على ذلك الحكم الذى تعلق به فإن ورد ولم يمكنه دفعه انتقضت علته وبطلت وقد يوجد موضع يظن المتناظر أن يوجه النقض وهو مما ليس يتوجه وقد قيل: إن الإثبات المجمل لا ينقض بمنفى مفصل والنفى المفصل لا ينقض بإثبات مجمل والنفى المفصل ينقض بإثبات مفصل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 وكذلك الإثبات المفصل ينقض بالنفى المجمل يعنى المطلق ومثال الأول: أن يقول القائل في قتل المسلم بالذمى محقون الدم على التأبيد فيثبت بينهما القصاص كالمسلمين فينقض تاآخر بما إذا قتله خطأ وهذا لا يرد نقضا لأن نفى القصاص في موضع الخطأ لا يمنع من صحة التعليل من المعلل بقوله فوجب أن يكون بينهما قصاص فلا ينتفى حكم العلة بما يقوله من قول الخطأ فلم يكن نقضا. وأما مثال الثانى: إن يقول المعلل مكلفا فلا يثبت بينهما قصاص فإذا نوقض بالمسلمين انتقض لأن ثبوت القصاص بينهما في موضع يمنع صحة التعليل بقوله فموجب أن لا يجرى القصاص وقد احترز بعضهم من النقض بقول المعلل: أنا أقول في الأصل مثل ما أقوله في الفرع ومثاله أن يقول قائل في مسألة المسلم يقتل ذميا هل يقتل فنوجب القود كالمسلم إذا قتل مسلما فينتقض بالخطأ فيقول أنا أقول في الفرع مثل ما قلته في الأصل وإنما أوجب القصاص في العمد دون الخطأ وقد أشار أبو زيد في كلامه إلى هذا الاحتراز وهذا الاحتراز باطل لأن العلل ما صرح به المعلل دون ما أضمره وكذلك الحكم وقد علل بالفسخ وصرح بالحكم بوجوب القصاص وقد ورد النقض على هذا ولم يعلل لاستواء المسلم والكافر في حكم القتل حتى يدفع النقض به فليس هذا الدفع بشئ وقد دفع بعضهم النقض بذكر الأحرار في الحكم مثال أن يقول القائل محقونا الدم على التأبيد فوجب أن يثبت بينهما القصاص إذا قتل أحدهما صاحبه عمدا فإذا نوقض بالخطأ وقال: قد احترزت بقولى في الحكم فإذا قتل أحدهما صاحبه عمدا وقد قيل أيضا: إن هذا ليس بدفع لأن المعلل قد حكم بأن علة القصاص كونهما محقونى الدم على التأبيد فحسب وأنه لا مزيد على العلة التي ذكرتها فإذا قال: وجب أن يوجب القصاص إذا كان عمدا فقد اعترف بانتقاض العلة لأن اقتران الحكم يوجد من الموضعين والحكم يتبع العلة في أحد الموضعين دون الآخر. فإن قال هذا المعلل: لا يمتنع أن يكون حقن الدم على التأبيد يؤثر في إيجاب القصاص في العمد دون الخطأ. قيل: إن كان ذلك يؤثر في أحد الموضعين لمعنى يختص به أحدهما فينبغى أن نذكر ذلك المعنى في جملة العلة لأن له تأثيرا في غيجاب القصاص وإن لم يكن لذلك المعنى تأثير وكانت الأوصاف المذكورة تؤثر في أحد الموضعين دون الآخر لا لأمر يفترق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 لأجله الموضعان فقد اعترف أن العلة تقتضى الحكم في موضع دون موضع مع وجوده تتميما على السؤال والجواب الصحيح عن السؤال أن الشرط المذكور في الحكم متأخر في اللفظ يتقدم في المعنى لأن معنى القياس أنهما محقونا الدم على التأبيد قتل أحدهما صاحبه عمدا لأن صفة العمدية مؤثرة في القصاص فإذا قلنا: على هذا الوجه يتم الدفع وقد دفع بعضهم النقض بوجه آخر وهو أن يحذف الحكم حذفا. فيقول في الثيب الصغيرة: إنها مجبرة الزواج فأشبهت الكبيرة فلو قال: المعلل فلم تجبر على النكاح ينتقض بالثيب المجنونة والثيب الأمة. فإذا قال: فأشبهت الكبيرة نوقض بها بين المسألتين فيقول إنما شبهت الصغيرة بالكبيرة فعلى أن أقول في الثيب الصغيرة ما أقول في الثيب الكبيرة وفى اليب الكبيرة لا تجبر على النكاح إذا لم تكن مجنونة أو مملوكة وأجبرت إذا كانت مملوكة أو مجنونة فلم ينتقض قولى فأشبهت الكبيرة وإنما عللت لهذا وهذا دفع حسن غير أن بعض الجدليين قد قال: إنه لا يجوز التعليل ما لم يصرح بالحكم وقد ذكرنا هذه المسألة من قبل وبينا جوابه وأحسن وجوه الدفع هو الدفع بالمعنى كما تقدم وجهه. وقد قال أبو زيد في موضع من كتابه: إن النقض يلجئ إلى إظهار التأثير والقول به مثل من يقول في النية في الوضوء وقياسه على التيمم طهارة الصلاة فإذا نقض طهارة النجاسة فلابد من ذكر التأثير ليتخلص عن النقض وهو أن يقول طهارة حكمية أى حصولها عرف حكما وشرعا لا حقيقة وكذلك قول من قال إن النكاح ليس بمال فلا يثبت بشهادة النساء مع الرجال وهذا يبطل بالبكارة فلا تجد بدا من الرجوع إلى طلب التأثير وهو أن الأصل أن لا شهادة للنساء لنقصان عقلهن وكثرة غفلتهن لكن جوز في باب المال لكثرة حاجة الناس إليه وتكرر المعاملات فيه في الأسواق وغيرها فجوز شهادة النساء مع الرجال حتى لا يضيق الأمر على الناس ولا يقعوا في الحرج العظيم وهو معدوم فيما ليس بمال فلم يقبل فيه هذه الشهادة وهذا كما تثبت الولادة بشهادة النساء وحدهن لضرورة أن الرجال لا يحضرونها ولم تكن حجة فيما يطلع عليه الرجال لعدم الضرورة وكذلك قول القائل في أن الزنا لا يوجب لحرمة المصاهرة لأنه وطء رجمت عليه والنكاح عقد حمدت عليه. فإن قال المعلل فوجب أن لا يشارك هذا في حكم هذا بطل بوجوب الاغتسال والمهر. فإن قال: في حكم المصاهرة. يقال: ولم قلت فإن قال: لأن الصهرية نعمة والزنا حرام فقد رجع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 إلى بيان التأثير ولا يبطل هذا بالوطء في النكاح الفاسد لأن الصهرية هناك إنما ثبت لما فيه من جهة المحل. قال: ونحن نقول: إن لزنا معصية والمصاهرة كرامة ولا تضاف الكرامة إلى العاصى ولكن تثبت الصهرية لحراثة الواد في هذا المحل على ما عرف وبينا في موضعه ولا معصية من حيث الحراثة فإنه أمر مشروع بسببه. قال: وكذلك قوول القائل: إن الغصب عدوان فلا يكون سببا للملك كالقتل فإذا نقض بالاستيراد أحد الشريكين جارية بينهما يقول إنما أوجبنا الملك في هذا الموضع للشريك لماا فيه من تأويل الحل شرعا لا من حيث العدوان فقد رجعوا إلى تأثير العلة. قال: ونحن نقول: إنما أوجب الملك في الغصب لأنه سبب ملك البدل وهذا حكم شرعى ليس بعدوان. وكذلك ققول القائل في مسألة المنافع إن المنافع أموال فتضمن بالإتلاف. دليله الأعيان فإذا نقض هذا بالمتلف إذا كان معسرا. قال: هناك يضمن لكن الاستيفاء يتأخر إلى الميسرة فهذا رجوع إلى التأثير وها هنا المتلف ضامن لكن الاستيفاء يتأخر بعذر العجز والعدوان موجب ضمان المثل فلا يمكن الاستيفاء إلا بعد القدرة على المثل وعندنا الأعيان أجود من المنافع مالية وليسا بمثلين وعنهم مثلان ويرجع اللكلام إلى هذا. وكذلك قول القائل في إسلام الهروى في المروى أسلم مذروعا في مذروع كما لو أسلم الهروى في المروى. فيقول الخصم يبطل هذا بما إذا شرط شرطا فاسدا. فيقول المعلل إنما بطل بالشرط الفاسد لا بالوصف الذى ققلنا فيكون هذا رجوعا إلى حرف المسألة فإن عنده الجنس ليس بعلة محرمة وعندنا علة محرمة فيكون الفساد بالعلة المحرمة لا بالذرع ومرجع الكلام إلى أن الجنس علة أم لا؟ ويبل الطرد فهذا كلام يحسن ونحن لا نرى لللرطد صحة ولابد من بيان التأير غير أن ورود النقض في موضعه يخل بالتأثير ففإنما كام وروده من هذه الجهة ولابد من معرفة بطلان القول بنخصييص العللف ن أيراد المعللل شرع لذلك والله المعين بمنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 فصل: بقية القول بموجب العلة ... "فصل" وقبل أن نصل إلى سؤال المعارضة قد بقيت بقية فيما يرجع إلى القول بموجب العلة وتفسيره التزام ما أوجبته العلة وقد ذكرنا مثاله وصورته وقد ذكر في تقويم الأدلة أنهم إذا قالوا في صوم النفل: قربة لا يجب المضى في فسادها فلا يجب القضاء في إفسادها قياسا على الوضوء. قلنا لهم نقول بموجب العلة فإنه لا يجب القضاء بإفسادها بل وجب بالشروع. فإن قيل: فلا يجب بالمشروع والإفساد. قلنا: ولا يجب بالشروع المضاف إلى عبادة لا يمضى في فاسدها. بل بالشروع في عبادة تلزم بالنذر ولابد من اعتبار إضافة الحكم إلى ما ذكرنا من الوصف لأن الأوصاف تذكر عللا وبما ذكر من الوصف لا تصير العابدة محلا يلتزم بالشروع فيه بل بوصف آخر فلابد من رجوعه إلى نصب العلة في بيان أن الشروع ليس بسبب للإلزام الذى فيه النزاع. قال: وكذلك قولهم في إسلام المروى في الهروى: إنه جائز لأنه أسلم مذروعا في مذروع. فيقول: من حيث إنه مذروع في مذروع يجوز العقد ويعلق الجواز بهذا الوصف لا بنفي تعلق الفساد بأمر آخر. ألا ترى: لو شرط شرطا فاسدا ولم يقبض رأس المال في المجلس كان العقد فاسدا فكذلك عندنا صفة الجنس بأنه علة مفسدة وهو كالشرط الفاسد في الإفساد فيلزمه الرجوع إلى بيان أن الجنس ليس بعلة محرمة وكذلك قول من قال في المطلقة الرجعية: إنها مطلقة فيحرم وطؤها كالمطلقة بمال. فيقال: [لا] 1 من حيث إنها مطلقة محرمة ولكن من حيث إنها منكوحة محللة كما لو ابانها ثم تزوجها وكان قيام النكاح مع الطلاق المحرم محللا فيضطر إلى الرجوع إلى بيان ضلل في النكاح أوجب التحريم وهو حرف المسألة. قال: وكذلك قولهم في المبتوتة: لا يلحقها الطلاق لأنها منقطعة النكاح. فنحن نقول: الطلاق لا يلحقها من حيث انقطاع النكاح ولكن من حيث العدة الواجبة عن النكاح التي هى أثره.   1 زيادة ليست في الأصل يقتضيها السياق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 قال: وكذلك إذا قالوا: في تحرير الكافر عن كفارة اليمين إنه تحرير في تكفير فأشبه كفارة القتل وعندنا لا يجوز لأنه تحرير في تكفير ولكن من حيث أنه ائتمر بالأمر كما يجوز إذا كسا مساكين ولا يجوز بالكسوة في كفارة القتل فيضطر إلى الرجوع إلى بيان أن المطلق يحمل على المقيد أو لا؟ قال: وكذلك إذا قال: إن السرقة توجب الضمان لأنه أخذ مال الغير بلا تدين ولا تأويل كالغصب. فيقال إنا نقول إن هذه العلة موجبة للضمان لكنا نقول إن القطع ينفيه كما ينفيه الإبراء فيضطر إلى بيان أن القطع لا ينفى الضمان وهو حرف المسألة. قال: وقد يجئ هذا السؤال على أكثر العلل الطردية لأن اصحابهم تعلقوا بأوصاف محتملة أن لا تكون عللا فهذا السؤال يردهم إلى القول بالتأثير وفى هذا السؤال تكلف عظيم ومن يجعل الطرد حجة يستجيز أن يكون بمجرده أمارة على الحكم فلا يرضى بمثل هذا السؤال لأنه يقول: إن علتى صحيحة بوجود الإطراد وصلاحيته علة من حيث إنه لم يقم دليل على فسادها أو لأنه صالح أمارة وعلل الشرع أمارات وهذا القدر لى كاف ولا ينافى بمثل هذا السؤال لأنه يقول: أنا أعلم منك ولا نثبت الحكم بهذه العلة بل نثبته بعلة أخرى ومرجه هذا السؤال ليس إلا هذا القدر لكني مع منعك أجعله علة ولا احتاج إلى إقامة دليل على كونه علة ولا إلى إظهار تأثير لها سوى الوفاء بالإطراد الذى ضمنته وسوى وجود المعنى في الأصل وصلاحية كونه أمارة شرعا وأما من يقول إن الطرد لا يكون حجة وهو الذى نختاره ولابد من كون العلة مؤثرة فمتى طولب بالدلالة على صحة العلة فهو لا يترك إقامة الدليل عليها ويظهر تأثير العلة مناسبة الحكم وإخالته فلا معنى لهذا التكلف الشديد واستخراج السؤال بهذا الاستقصاء بل المطالبة كافية والله المعين بمنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 فصل: السؤال الرابع من الأسئلة الصحيحة المعارضة ... "فصل" فالسؤال الرابع من الأسئلة الصحيحة المعارضة وقبل أن نشرع فيه نقول: قد ذكر كثير من أصحابنا سؤال عدم التأثير1. ولست أرى لذلك وجها بعد أن يبين المعلل التأثير   1 من قوادح العلة: تأثير العلة في الحكم ومعناه: انتفاء الحكم عند النتفاء الوصف في نفس المحل الذي ثبت عليه الوصف فيه. فعدت التأثير معناه وجود الحكم بدون الوصف الذي ثبتت عليه فيه. وقد اختلف الأصوليون في عدم التأثير من حيث كونه قادحا في العلية أو غير قادح فيها على مذاهب ثلاثة: الأول: يقدح مطلقا سواء كانت العلل مستنبطة أو منصوصة. الثاني: لا يقدح مطلقا لافي العلل المنصوصة. ولافي العلل المستنبطة. الثالث: لا يقدح في العلل المنصوصة ويقدح في العلل المستنبطة. نهاية السول "4/183, 184" المحصول "2/375" البرهان "2/1022" أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "4/132, 133". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 لعلته وقد ذكرنا أن العلة الصحيحة ما أقيم الدليل على صحتها بالتأثير بالوجه الذى قدمناه. وقد ذكر مشايخ اصحابنا في سؤال عدم التأثير وتصحيحه كلاما كثيرا وعدوه سؤالا قويا واقعا على المعلل. وقالوا: إذا أورد السائل هذا السؤال فيجب أن ينظر المعلل فإن وجد له تأثيرا في الحكم بين التأثير وإن لم يجد له تأثيرا فله أن يجيب ويقول إن له تأثيرا في طرد العلة والمأخوذ على طرد العلة لا العكس وعلل الشرع من شرطها الاطراد دون الانعكاس بل إذا كانت مطردة منعكسة تترجح به العلة ومثاله ما يحتج به في زكاة الحلى فيقول إنه مال مصروف من جهة النماء إلى غير جهة النماء بوجه مباح يسقط عنه الزكاة كما لو جعل مال التجارة للقنية فقالوا قولكم لوجه مباح لا تأثير له في الأصل فإنه إن كان بوجه محظور يسقط الزكاة أيضا فإنه لو كان له إبل سائمة فصيرها معلوفة بعلف مغصوب تسقط عنه الزكاة وإن كان بوجه محظور والمعلل يقول له تأثير في الطرد والعكس غير مأخوذ على بل إذا كانت تطرد يكفى فأجيب عنه أيضا فقيل إن عدم التأثير هو نقض لعكس العلة ولا يلزم نقض العكس. وبيان هذا: أنى إذا قلت: مال مصروف من جهة النماء إلى غير جهة النماء بوجه مباح فإذا ادعيت عدم التأثير صار كأنك قلت لى: إذا عللت بهذه العلة تصير كأنك عللت بعكسه وقلت إن المال إذا كان مصروفا من جهة النماء إلى غير جهة النماء بوجه محظور يجب فيه الزكاة ثم نقضت هذا العكس بالإبل السائمة إذا جعلها معلوفة بعلف مغصوب أو جعلها عوامل في قطع الطريق فإنه مال مصروف من جهة النماء إلى غير جهة النماء بوجه محظور والزكاة ساقطة فيكون هذا نقضا لعكس العلة ونقض عكس العلة لا يقدح في العلة بعد أن سلم الطرد والأصل في الجواب عن هذا السؤال أن التأثير إذا ذكر للعلة. فيقول القائل: لا تأثير له غير مسموع والعكس الذى يورده الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 السائل فسبيل المعلل أن يبين المعنى فيه ويخرجه على المعنى الذى اعتمده. وأما الكلام في المعارضة1 فقد قال: أبو زيد ليس للسائل بعد الممانعة إلا المعارضة ونحن قد بينا الممانعة قبل المعارضة سؤالين واقعين وهو النقض وفساد الوضع وذكرنا وجه توجههما على العلة. واعلم أن المعارضة قد تكون بعلة أخرى وقد تكون بعلة المعلل بعينها فالمعارضة بعلة المعلل تسمى قلبا2 وتسمى مشاركة في الدليل. ومثاله أن يقول المخالف3: عضو4 من أعضاء الطهارة فلا يكفى في إيصال الماء إليه ما يقع الاسم عليه5 دليله الوجه. فيقول خصمه: وجب أن لا يكون مقدرا بالربع قياسا على الوجه وسائر الأعضاء. ويقول القائل: في الاعتكاف لبث في مكان مخصوص فلا يكون بمجرد قربة6 قياسا على الوقوف بعرفة فيقول خصمه7: وجب أن لا يكون الصوم شرطه دليله الوقوف بعرفة. واختلف أصحابنا في هذه المعارضة فمنهم من قال: هذه المعارضة غير صحيحة لأنها معارضة في غير الحكم الذي علله فلا يلزم الجواب عنه. ألا ترى: أنه إذا استأنف قياسا في حكم آخر لم تكن معارضة وأيضا فإن أوصاف   1 المعارضة في اللغة على سبيل الممانعة فيعم النقض والمعارضة وسائر المقابلات. وفي الاصطلاح: إثبات السائل حقيقة أو حكما بأن يكون ماادعاه بديهيا انظر الولدية في آداب البحث والمناظرة للآمدي ص "92". 2 وتسمى معارضة على سبيل القلب لقلب المعارض ذلك الدليل على المعلل بأن يقيم على نقيض مدعاه أو مايستلزمه وزيادة دليل المعارض بما يفيد تقريرا وتفسيرا لا تبديلا ولا تغييرا لا تقدح في كون معارضته قلبا كذا في التلويح انظر الولدية في البحث والمناظرة للآمدي ص "99". 3 أي: الأحناف. 4 أي: الرأس. 5 فمذهب الحنفية مسح ربع الرأس انظر الهداية للميرغيناني "1/12". وأما مذهب الشافعية ما ينطلق عليه الاسم ولو لبعض شعره أو قدره من البشرة انظر روضة الطالبين "1/53". 6 فمذهب الحنفية أنه يشترط في الاعتكاف أن يقترن بالصوم انظر الهداية للميرغيناني "1/142". 7 أي: الشافعية ومذهبهم لأنه لا يشترط الصوم في الاعتكاف على المشهور انظر روضة الطالبين "2/393". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 علة المعلل لا تصلح للحكم الذى ذكره القلب1. وقال أبو علي الطبرى: القلب من ألطف ما يستعمله المناظر وهو معارضة صحيحة لأن المعلل لا يمكنه الجمع بين علته وبين موجب قلبه فصارا متعارضين وأنزل ذلك منزلة المعارضة من أصل آخر وقد استدل المخالف في المنع من نقض البناء لرد الساجة بأن في الرد إضرار والضرر والضرار منفى في الشرع. فيقال له: في المنع من الرد أو إطلاق المنع إضرار يعنى لصاحب الساجة فإن منع الملك من المالك ضرر فيتعارض الضرر والضرار فتحصل المشاركة في نفس ما جعل المعلل دليلا لنفسه وكذلك يستعمل مثل هذا في مسألة الملتجئ إلى الحرم فإن المخالف يقول وجب أن يصير آمنا في نفسه. فيقول الخصم له: وجب أن يصير آمنا على نفسه حتى لا يلحقه الفوات والذى قاله من دفع القلب بأن المعارضة وجدت في غير الحكم الذى علل له المعلل فليس بشئ لأن الجمع بين موجبى التعليل إذا تعذر تبين وجود المعارضة وأما قوله: إن الأوصاف ليست بمؤثرة في القلب. قلنا: قد تكون مؤثرة وقد تكون مثل أصل العلة من المعلل على أن بينا أن طلب التأثير واجب فإذا بين المعلل التأثير فيجب أن يطلب من القالب التأثير أيضا وعلى هذا ينبغى أن يصحح ماله التأثير وإذا قلب التسوية فقد اختلف فيه الأصحاب والأصح أن لا يكون متوجها لأنه لا يمكن فيه التصريح بحكم العلة ويقال في توجيه سؤال القلب: إنه إذا علق على العلة ضد ما علقه المعلل من الحكم فلا يكون تعليق أحد الحكمين أولى من الآخر فبطل تعليقهما بها وهو على أضرب:   1 اعلم أن القلب هو ربط النعترض حكما مخالفا لحكم المستدل بعلة المستدل. ينقسم القلب إلى: أولا: قلب يكون الغرض منه إبطال مذهب المستدل صراحة. ثانيا: قلب يكون الغرض منه إبطال مذهب المستدل ضمنا. أي بطريق اللزوم. ثالثا: قلب يكون الغرض منه إثبات مذهب المعترض صراحة. وقد اختلف الأصوليون في القلب: فذهب أكثر الأصوليون ومنهم البيضاوي إلى أن القلب يكون قادحا في العلية ويقبل من المعترض. وذهب قليل منهم إلى أنه غير مقبول انظر نهاية السول "4/210, 211,. 212" المحصول "376" أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "4/140, 141, 142, 143". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 أحدهما: أن يكون الحكمان مفصلين. والآخر: أن يكونا مجملين. والثالث: أن يكون أحدهما مجملا والآخر مفصلا. أما المفصلان فضربان: أحدهما: أن تناقضا بأنفسهما حتى يقول المعلل وجب أن يجوز. والآخر يقول: وجب أن لا يجوز وهذا شئ لا وجود له. وإنما إذا لم يتناقضا بأنفسهما بل بواسطة مثل أن يقول في استيفاء القصاص بغير حق قتل على جملة القصاص فيجوز بالآلة التي وقع القتل بها كما لو قتل بالسيف وقد بينا توجه هذا السؤال لأن أحد الحكمين إذا ثبت انتفى الآخر فليست العلة بأن تدل على أحد الحكمين بأولى من أن تدل على الآخر. وأما إذا كانا مجملين: فيجوز أن يقول أحدهما: وجب أن يكون من شرط هذه العبادة معنى ما. والآخر أن يقول: وجب أن لايكون من شرطها معنى من المعانى وهذا أيضا لا وجود له. وأما إذا كان أحدهما مجملا والآخر مفصلا فضربان: أحدهما: أن يكون المجمل على حكم التسوية نحو أن يقول القائل وجب أن يستوى حكم كذا وكذا وقد بينا. والآخر: أن لا يكون على وجه التسوية مثل تعليل المعلل في الاعتكاف لبث في مكان مخصوص فكان من شرطه اقتران معنى من المعانى دليله الوقوف فيقول الخصم وجب أن لا يكون الصوم من شرطه وهذا سؤال متوجه لما بينا من قبل بأن اعترض على قلب وجه من وجوه الفساد فسد القلب وصح التعليل المعلل ومن القلب أيضا جعل المقلوب علة وجعل العلة معلولا ومثاله في ظهار الذمي فإن أصحابنا قالوا: من صح طلاقه صح ظهاره فقلبوا وقالوا في الأصل إنما صح طلاقه لأنه صح ظهاره ونظائر هذا تكثر. وقد قيل: إن القلب نوعان: أحدهما: جعل الأسفل أعلى وجعل الأعلى أسفل كقلب الإناء بجعل أسفله أعلاه وأعلاه أسفله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 والقلب الآخر: أن يجعل باطنه ظاهره وظاهره باطنه مثل قلب الجراب. فمثل الأول أن يجعل المعلول علة والعلة معلولا وهو مبطل للتعليل لأن العلة واجبة والمعلول هو حكم الواجب به كالفرع من الأصل فلم يجز أن يكون الحكم علة والعلة حكما فلما احتمل الانقلاب دل على بطلان التعليل ومثاله كثير من ذلك أن يقول القائل في مسألة إيجاب الرجم إن الكفار جنس يجلد أبكارهم مائة فيرجمهم قياسا على المسلمين فيقال في الأصل جنس رجم ثيبهم فجلد أبكارهم وكذلك في قول القائل: إن القراءة تكررت فرضا في الأوليين فتكررت في الأخرتين كالركوع والسجود فيستعمل في الأصل على الوجه الذ بينا وقد أجابوا عن هذا وقالوا: هذا القلب لا يضر لأن الشئ يصح أن يكون دليلا على الشئ وذلك الشئ يكون دليلا عليه كما في العقليات فإن يجوز أن يقال: بوجوده فيجوز رؤيته ويقال يجوز رؤيته فيكون موجودا وكذلك تكون النار دليلا على الدخان والدخان دليلا على النار. ويتأيد هذا الجواب بقول من قال: أنا أجعل أحد الحكمين دليلا على الآخر ولا أخرج الكلام مخرج التعليل وهذا كلام صحيح إذا ثبت أن الشيئين نظيران شرعا فيدل ثبوت أحدهما على ثبوت الآخر أنهما كانا كالتوأمين فإن عتاق أحدهما إنما كان يدل على عتاق الآخر وأما القلب الآخر فهو أن نجعل العلة شاهدا لك على خصمك وهو من قلب الجراب فإنها كانت لخصمك عليك ظاهرا فانقلبت وصارت لك على خصمك وقد كان ظهرها أليك فصار وجهها أليك وإنما توجه هذا السؤال لأن العلة لما شهدت لك وعليك في حكم واحد فصار أحدهما يعارض الآخر ويفضى كل واحد منهما [إلى] صاحبه فبطلا جميعا وذكروا لهذا نظيرا وقالوا في قول من قال من أصحابنا إنه صوم فرض فيشترط لصحته نية العين قياسا على صوم القضاء. فيقال في قلبه: صوم فرض فلا يشترط له نيه التعيين بعد التعيين قياسا على قضاء رمضان فإن صوم رمضان متى تعين لم يشترط بعده نية التعيين إلا أنه يتعين بعد الشروع وهذا يتعين قبل الشروع والملخص من القلب بذكر ما هو الوصف في الحكم الذى علل له دون الحكم الذى قاله خصمه وقد ذكر والعكس عند ذكر القلب وجود عكس حكم العلة بقلبها وهو ضد الطرد ونظيره. قول القائل: جنس يجلد أبكارهم مائة فيرجم بينهم وعكسه العبيد كما قال المخالف في الصوم: إنه عبادة يلتزم بالنذر فتلتزم بالشروع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 كالحج وعكسه الوضوء وهذا مما يقوى الاستدلال بالحكم ويدل أنه نظير حيث استويا طردا وعكسا وثبوتا وسقوطا. وأما المعارضة بعلة أخرى فنوعان: أحدهما: معارضة في حكم الفرع. والآخر: معارضة في علة الأصل. أما المعارضة في حكم الفرع فالصحيح في ذلك أنه إذا ذكر المعلل علة في إثبات حكم في الفرع أو نفى حكم فيعارض خصمه بعلة أخرى توجب ضد ما يوجب علة المعلل فتتعارض العلتان فيمتنعان في العمل إلا أن يترجح إحدى العلتين على الأخرى فحينئذ يعمل بالعلة الراجحة. وهذا المعارضة تجئ على كل علة يذكرها المعلل مثاله ما يقول في تكرار مسح الرأس1: إن هذا ركن في الوضوء فيسن تثليثه كغسل الوجه. فيعارض الخصم فيقول مسح الرأس [مسح] 2 فلا يسن تثليثه كالمسح على الخفين3. وأما المعارضة في علة الأصل فهو أن يبين في ألصل علة سوى علة المعلل. وتكون تلك العلة معدومة في الفرع ويقول: إن الحكم ثبت بهذه العلة التي ذكرتها في الأصل لا بالعلة التي ذكرتها. مثاله ما يقول الحنفى في تبييت النية إن هذا صوم عين فيتأدى بالنية قبل الزوال كالنفل4. فيقال: ليس المعنى في الأصل ما ذكرت لكن المعنى في الأصل النفل بناء على السهولة والخفة فلما بنى أمر على الخفة والسهولة له جاز أداؤه بنية متأخرة عن الشروع بخلاف الفرض فإنه لم يبن على السهولة والخفة فلا يجوز بنية متأخرة وهذا هو الفرق الذى جعله كثير من فقهاء الفريقين أقوى سؤال وظنوه فقه المسألة وبه تمسك المناظر من فقهاء [غزنة] وكثير في بلاد خراسان زعموا أن الفقه هو الفرق والجمع وعند المحققين هذا ضعف سؤال يذكر وليس مما تتبين العلة التي نصبها المعلل بوجه لأن نهاية ما في الباب أن الفارق بين الفرع والأصل يدعى معنى في الأصل عدم ذلك المعنى في الفرع ولم يتعرض للمعنى الذى نصبه المعلل. ويجوز أن يكون الأصل معلولا بعلتين وكل علة موجبة للحكم بانفرادها ووجدت إحدى العلتين   1 وهو مذهب الشافعية انظر روضة الطالبين "1/59". 2 زيادة ليست بالأصل. 3 وهو مذهب الأحناف انظر الهداية "1/14". 4 انظر الهداية للميرغياني "1/127". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 فى الفرع وعدمت الأخرى وإحدى العلتين كافية لوجوب الحكم والحرف أن يقال بأن وجد في الأصل معنى لا يوجد في الفرع من أن ينبغى أن تفسد هذه العلة. ببينة: أنا ذكرنا يعنى في الفرع ووجد هذا المعنى في الأصل وهو ذكر معنى في الأصل وعدم ذلك المعنى في الفرع والعدم لا يكون حجة والعلة الموجودة لا تعارض بما عدم في العلة ويعتبر مما ذكرنا بعبارة أخرى فيقول ليس فيما ذكر من الفرق إلا وجود علتين في الأصل ووجدت إحدى العلتين في الفرع ولم توجد الأخرى فيقول إذا وجدت إحدى العلتين في الفرع وجب وجود حكمها فيه ولم يلزم انتفاؤه لانتفاء العلة الأخرى لأن انتفاء العلة لا يقتضى انتفاء حكمها إذا خلفتها علة أخرى وأيضا فإن الفارق بين مفارقة الأصل والفرع ووجود المفارقة دليل صحة العلة فإن الأصل يكون مفارقا للفرع في بعض الوجوه ولولا تلك المفارقة لم يمكن الجمع بينهما ببعض الوجوه مفيدا للحكم لأن الشئ لا يدل على نفسه ولأن القياس إلحاق فرع بأصل فلابد من وجد المفارقة بينهما ليكون أحدهما أصلا والآخر فرعا. وصورة هذا أنا نقيس الأرز والذرة على الحنطة والشعير في حكم الربا وعلى قطع نعلم وجود المفارقة بينهما في أوصاف كثيرة والمفارقة في تلك الأوصاف لم تمنع صحة القياس. وقد ذكر بعضهم نوعا آخر من الفرق وهو أن يبين الخصم في الأصل علة غير علة صاحبه ويعديه إلى فرع آخر واختلفوا فيه وسموا هذا فرق تعدية فبعضهم حكم بصحته وبعضهم بفساده مثاله ما يقول الحنفى في نكاح الأخت في عدة الأخت معتدة عن طلاق فيمنع زوجها عن نكاح أختها دليله المعتدة عن طلاق بائن فيقول خصمه ليس المعنى في الأصل أنها معتده بل المعنى أنها منكوحة لأن عندنا الطلاق البائن لا يقطع النكاح وفى هذه الصورة لا يمكن كل واحد من الخصمين أن يقول بالمعنيين صاحبه فيعارض كل واحد من المعنيين فيبطلان ويبقى الأصل بلا معنى فلا يكون حجة. واعلم أنه إذا فرق على هذا الوجه فلابد أن يبين المعلل صحة علته وفساد علة الخصم فإذا بين ذلك بطل السؤال والفرق مع التعدية في مسألة الثيب الصغيرة وإجبار البكر البالغة أبين ولابد من الرجوع إلى حرف المسألة وبيان الإخالة في الوصف الذى يدعيه المعل علة فثبت أن الفرق اعتراض فاسد وكذلك أراه الحكم مع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 عدم العلة اعتراض فاسد فإن الحكم ثبت بعلل. ألا ترى: أن ملك اليمين يثبت بالشراء والارث والهبة وأسباب أخر فثبوت الملك بلا شراء لا يدل على أن الشراء ليس بعلة الملك فكذلك ثبوت الحكم بدون علة جعلها المعلل علة لا تدل أن ما جعله من العلل ليس بعلة بل هو علة وغيره علة فإن وجدت هذه العلة يثبت الحكم وإن وجد غيرها وابعد من هذه يثبت الحكم أيضا وقد ذكرنا من قبل طرفا من هذا1.   1 الفرع نوعان: أحدهما: اعتبار ما في الأصل من الخصوصية جزءا من العلة وثانيهما: جعل خصوص الفرع مانعا من ثبوت الحكم فيه. فالنوع الأول: يعتبر قادحا في العلية في رأي من لم يجوز تعليل الحكم الواحد بعلتين ولا يعتبر قادحا على رأي من جوز ذلك. والنوع الثاني من الفرع وهو جعل خصوصية الفرع مانعا فإنما يعتبر قادحا مطلقا سواء تخلف الحكم عن العلة أو لغير مانع أما إذا قلنا: إن تخلف الحكم عن الوصف لمانع لا يقدح في العلية فلا يكون النوع الثاني قادحا انظر نهاية السول "4/231, 232, 233, 234, 235, 236, 237" أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "4/146, 147". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 فصل: إن العلل قد لا يجتمع كونها عللا لتنافى أحكامها ... فصل: ونقول: إن العلل قد لا يجتمع كونها عللا لتنافى أحكامها: فالمتنافية أحكامها لابد أن يكون أصلها أكثر من واحد ويستحيل أن يكون أصلها واحدا لأنه لو كان أصلها واحدا على وجه واحد لكان قد اجتمع في الأصل حكمان متنافيان وذلك محال. ومثال التنافى في العلتين المردودتين إلى أصلين: وجوب النية في التيمم ونفى وجوبها في إزالة النجاسة ورد الوضوء إلى إزالة النجاسة بعلة أنها طهارة بالماء ورده إلى التيمم بعلة أنها طهارة عن حدث فالتنافى موجود في هاتين العلتين لتنافى حكمهما وإنما تحقق التنافى لاختلاف الأصلين فأما مع الاتفاق الأصلى فلا يتصور وقد يمتنع كون العلل عللا لوجه سوى تنافى الحكمين وذلك بأن لا يكون في الأمة من علل ذلك الأصل بعلتين. بل تكون الآمة قد افترقوا فكل فريق منهم علله بعلة واحدة وهذا كتعليل من علل تحريم التفاضل في الربا بالطعم2 وتعليل من علل   2 وهو قول الشافعي وإحدى الروايات عن أحمد انظر المغنى "4/126". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 بالكيل1 وتعليل من علل بالقوت2 وليس واحد من هؤلاء من يعلله بجميع هذه العلل فوجب القول بتنافى هذه العلل فمن علل في القليل من البر بأنه مطعوم جنس فأشبه الكثير فإذا رد الخصم: وقال: المعنى في الكثير أنه مكيل جنس فلا يمكن للمعلل أن يقول بالمعنيين جميعا كما ذكرنا فلابد من بيان الترجيح وبيان التأثير لإحدى العلتين دون الأخرى حتى تصح العلة المؤثرة وتبطل الأخرى. واعلم: أن بعض الجدليين ذهب إلى أن المعارضة غير مقبولة من السائل لأنه ينتهض مستدلا والذى يقتضيه رسم الجدل أن يحصر السائل كلامه كله في الاعتراض المحض يدل عليه أن العلة لا تكون مخيلة صحيحة ألا بعد إقامة الدليل على صحتها وإذا انتصب السائل لذلك تصور بصورة البانيين المبتدئين لا بصورة الهادمين المعترضيين وهذا فصل تعلق به طائفة من الجدليين وهو باطل عند ذوى التحقيق من جهة أن المعارضة اعتراض وإنما قلنا إنه اعتراض لأن العلة التي يتمسك بها المجيب لا تكون حجة ما لم يسلم عن المعارضة فإن المعارضة توجب وقوف الحجة بدليل البينات وبدليل أن القرآن إنما صار حجة عند سلامته من المعارضة وإذا ثبت أن المعارضة تمنع ثبوت الحجة وكان إيراد المعارضة اعتراضا صحيحا لأن الدليلين إذا تعارضا في محل واحد بحكمين مختلفين فلا يكون أحد الحكمين أولى من صاحبه وأيضا فإنه إنما يعتمد في القياس قوة الظن وإذا تعارض الدليلان ولم يظهر ترجيح يفوت قوة الظن لأن الظن إذا قابله مثله يقع بينهما التعارض تفوت الحجة من كل واحد منهما حتى يترجح أحد الظنين على صاحبه فيصير القوة له على الآخر ويكون الحكم له. فإن قال: قائل إن السائل وأن قصد الاعتراض ولكنه قد أتى بصورة الدليل المبتدأ فيكون ممنوعا من ذلك. قلنا: صورة الأدلة ما امتنعت من السائلين من حيث إنها تسمى أدلة وإنما امتنعت إذا كان السائل مضربا عن قصد الاعتراض آتيا بكلام مبتدإ لا معترضا وقد بينا أن بهذه المعارضة معترض. ببينة: أنه لما سمع منه اعتراض لا يستقل في نوعه كلاما مفيدا فإذا كان يستقل في   1 هو قول النخعي والزهري والثوري وإسحاق وأصحاب الرأي وإحدى الروايات عن أحمد انظر المغنى "4/125". 2 وهو قول مالك انظر المغنى "4/127". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 نوعه كلاما مفيدا ويقدح في كلام الخصم اعتراضا أولى أن يقبل. فالجواب عن المعارضة: أن يعترض عليها المجيب بمسلك من المسالك المذكورة في الاعتراضات الصحيحة أو يبين ترجيح علته على علة صاحبه فإن لم يتأت له واحد من المسلكين كان منقطعا وأن يرجح المجيب علته فللسائل أن يبين ترجيح علته فيعارض الترجيح بالترجيح كما عارض العلة بالعلة ومن نزق1 السائل وقلة فهمه أن يتشوف إلى الازدياد على قصد المساواة فإنه إذا فعل ذلك يكون على منهج المبتدئين لا على منهج المعترضين فيكون حينئذ منسوبا إلى الجهل بمراسم الجدل ولم يقبل منه قصده إلى شئ ورأى المساواة فإن ذكر المعلل ترجيحا واحدا وذكر السائل ترجيحين فهو محاور ليتبوأ القصد وإن عارض ترجيح واحد ولكنه أوقع من ترجيح المسئول فهذا لا يقبل منه فإنه قد لا يوجد غيره.   1 النزق هو: السفه بعد حلم. انظر القاموس المحيط للفيروز آبادي "3/276". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 فصل: هل الفرق اعتراض صحيح ... "فصل" وقد يزعم بعض أصحابنا أن الفرق اعتراض صحيح واستدل في ذلك بأن شرط صحة علة الخصم خلوها عن المعارضة فإذا عارض معارض امتنعت صحتها. قال: وحقيقة هذا الكلام راجعة إلى أن المعلل لا يستقر كلامه لما لم يبطل بمسلك السبر كل ما عدا علته مما يقدر التعليل به فإذا علل ولم يسبر بعوض معنى الأصل فكأنه طولب بالوفاء بالسبر ويتبع كل ما سوى علته بالنقض والإبطال. ثم قالوا: هذا راجع إلى تعليل الأصل بعلتين لا يجوز. واعلم أن هذا باطل أما قوله: إن شرط صحة التعليل خلوها من المعارضة فليس بشئ لأن المعارضة إنما تكون قادحة إذا وجدتا في حكمين على التضاد واما إذا أدركته علتان لحكم واحد فلا يكون قادحا ولا يسمى معارضة. وقوله: إنه لا يصح تعليل المعلل ما لم يبطل كل ما عدا علته فقال لهذا القائل: ومن قال هذا؟ ولأى معنى يجب؟ وإنما وجب عليه أن يذكر علة مخلة في الحكم مناسبة له. ثم إذا وجد لها فرعا ألحقه بالأصل الذي استنبط منه العلة في الحكم2.   2 السبر معناه البحث والاعتبار والتقسيم معناه: جمع الأوصاف التي يظن كونها علة في الأصل والترديد بينها. = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 فأما السبر والتقسيم وإبطال كل علة سوى العلة المذكورة فليس بشئ وقد نسب هذا إلى أبى بكر الباقلانى ومن كلف المعلل هذا أو رام تصحيح العلة من نفسه فقد أعلمنا من نفسه أن الفقه ليس من بابته1 ولا من شأنه وإنما دخل فيه مدعيا له وقد بينا من قبل بطلان قول من يطلب تصحيح العلة بهذا الطريق وبلغنا فيه شفاء يثلج الصدر. وقولهم: إنه التزم ذلك من يقول إنه التزم ذلك وأبى في تعليل المعلل إبطال كل علة سوى علته فهذا من الترهات والخرافات وكذلك قول من يقول: إن تعليل الأصل لا يجوز بعلتين وقد بينا هذا من قبل وذكرنا جوازه ومتى يمتنع في شرع أو حكم أن يكون على الحكم الواحد دلائل وهذا أيضا فإن سبق فلا معنى للإعادة وهذا لأن الجامع لم يلتزم بجمعه مساواة الفرع والأصل في كل القضايا وأنما مغزاه ومقصده اجتماع الفرع والأصل الذى يبغيه فإذا استتب له ما يريده من ذلك لم يلزمه سواه.   = هل السبر والتقسيم يفيد العلية قطعا أو يفيدها ظنا؟. يكون السبر والتقسيم مفيدا للعلية قطعا إذا كان حصر الأوصاف التي يظن كونها علة قطعيا بأن ردد فيه بين النفي والإثبات وكان الدليل الذي دل عليه إلغاء ما عدا الباقي قطعيا كذلك. ومثل هذا النوع من السبر والتقسيم يكون حجة في العقليات والشرعيات من غير خلاف. وفيما عدا ذلك يكون مفيدا للعلية ظنا كم إذا كان كل من حصر الأوصاف والدليل المثبت للإلغاء ظنيا أو كان أحدهما ظنيا والآخر قطعيا ومثل هذا النوع من السبر مختلف فيه: فأكثر الشافعية يقولولن: يكون حجة على المتناظرين: المستدل والمعترض لأنه يفيد الظن بالعلية والعمل بالظن واجب على الجميع. وقليل منهم يقول: هو حجة علىالمستدل وليس حجة على المعترض لأن ظن العلية إنما يدركه المستدل فقط فظنه لا يكون حجة على خصمه ما دام لم يوجد عنده الظن بالعلة. وذهب فريق ثالث إلى أنه لا يكون حجة على واحد منهما لأن الوصف الباقي بعد الإلغاء يجوز أن يبطل كما يبطل غيره من الأوصاف لأن علية الباقي تثبت بالظن والظن قابل الخطأ. وفصل إمام الحرمين فقال: إن أجمع على أن حكم الأصل معلل كان الوصف الثابت بالسير والتقسيم الظني علة وكان حجة على الجميع لأن عدم العمل به يؤدي إلى إبطال الإجماع والإجماع لا يجوز إبطاله وإن لم يوجد إجماع على تعليل حكم الأصل لم يكن حجة عليهما لجواز إبطال الوصف الباقي كما بطل غيره دون أن يوجد مانع من ذلك. انظر نهاية السول "4/128, 129, 130" سلم الوصول "4/128, 129" المحصول "2/353" أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "4/111, 112". 1 أي لا يصلح له انظر القاموس المحيط "1/38". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 230 ببينة: أن كل سؤال استمكن المعلل من الاعتراف بمقتضاه مع الاستقرار على مقصده من العلة فليس هو بقادح وإنما الاعتراض القادح ما يرد مناقضا لمقصود المستدل نعم يجوز أن يمكن من إبطال الجمع بأن يحرم ما جاء به المعلل زاعما أنه مناسب مخل فيبين أن الذى تعلق به غير متبع بالحكم فيكون هذا سؤالا واقعا يستغنى به عن الفرق. وحكى الشيخ أبو المعالى عن القاضى أبى بكر أن الفرق سؤال صحيح واحتج في ذلك بأن السلف الذين تبعناهم في أمر القياس والاحتجاج به قد كانوا يفرقون ويجمعون وثبت اعتبارهم بالفرق حسب ثبوت تعلقهم بالجمع وقد نقل ذلك في وقائع جرت في مجامع من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم منها القصة المعروفة في إجهاض المرأة وإلقائها الجنين واستشارة عمر الصحابة رضى الله عنهم في ذلك. فقال عبد الرحمن ابن عوف: إنما أنت مؤدب ولا أرى عليك شيئا. فقال علي: إن لم يجتهد فقد غشك فإن اجتهد فقد أخطأ أرى عليك الغرة فكأن عبد الرحمن حاول تشبيه تأديبه بالمباحات التي لا تعقب ضمانا وجعل الجامع أنه فعل ما له أن يفعله فاعترض عليه على وتشبث بالفرق وأبان أن المباحات المضبوطة ليست كالتعزيرات التي يجب الوقوف فيها دون ما يؤدى إلى الإتلاف. قال: ولو تتبعنا معظم ما خاض فيه الصحابة من المسائل علمنا أنهم كانوا يفرقون ويجمعون. ثم قال: بعد هذا ولا يبين مدرك الحق إلا بتفصيل نبديه وبه يتبين المختار ويدرك الحق في الفرق. فنقول رب فرق ملحق للجامع بالطرد وإن كان لولاه لكان الجمع مؤثرا مخيلا. فما كان كذلك فهو مقبول لا محاله غير معدود من الفروق التي لا تقبل ومن آيه هذا القسم أن الفارق يعيد جمع الجامع ويزيد فيه عليه ما يوضح بطلان أثره مثال ذلك أن الحنفى إذا قال في البيع الفاسد معاوضة جرت على تراضى فيصير الملك كما في البيع الصحيح فيقول الفارق المعنى في الأصل أنه معاوضة جرت على وفق الشرع فنقل الملك بالشرع بخلاف البيع الفاسد فإنه ينتقض هذا الكلام مبطلا إخاله المعلل وما ادعاه من إشعاره بالحكم مقبول ومن خصائصه إمكان البوح فيه بالغرض على سبيل الفرق بأن يقول السائل لا تعويل على التراضى على البيع الشرعى في الطرق الناقلة للملك قال: ومما يقع مدانيا لهذا أن الحنفى إذا قال: طهارة بالماء فلا تفتقر إلى النية كإزالة النجاسة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 فالفارق بعيد [فى] كلامه ويقول المعنى في الأصل أنه طهارة عينية بالماء والضوء طهارة حكمية ومقصودة أن يجزم فقه الجامع ويلحقه بالطرد وهذا الأول وذكر مثالا آخر في مسألة مع ملك ثم قال: إن الفرق إذا بطل فقه الجمع فلا شك في كونه اعتراضا والفرق والجمع إذا ازدحما على فرع في محل النزاع فالمختار فيه عندنا اتباع الإخالة فإن كان الفرق أخيل بطل الجمع وإن كان الجمع أخيل سقط الفرق وإن استويا أمكن أن يقال هما كالعلتين المتناقضتين إذا ثبتتا على صيغة التساوى وإن أمكن أن يقال: إن الجمع مقدم من جهة وقوع الفرع بعده غير مناقض له والجامع يقول لم ألتزم انسداد مسالك الفرق جملة. قال: وحاصل القول في مذاهب الجدليين يئول إلى ثلاثة مذاهب: أحدها: رد الفرق ورد المعارضة أيضا في الأصل والفرع جميعا. والمذهب الثانى: وهو منسوب إلى ابن سريج وهو اختيار الأستاذ أبى إسحاق أن الفرق ليس بسؤال على حالة واستقلاله وأما المعارضة في الفرع فمقبولة وهى سؤال متوجه. والمذهب الثالث وهو الصحيح: أن الفرق مقبول1 وليس الغرض منه مقابلة علة الأصل بعلة الغرض منه مناقضة الجمع ثم المقبول منه ينقسم إلى ما يبطل الجمع ويلحقه بالطرد أصلا ومنه ما لا يبطل فقه الجمع بالكلية ولكنه يشترط على فقه آخر مناقض لقصد الجامع ثم ذلك ينقسم إلى زائد في الإخالة على العة وإلى مساو لهما. قال: والقول الوجيز: إن قصد الجمع ينتظم بفرع وأصل ومعنى يشتمل على ذكر أصل وفرع وهما يفترقان وهذا يقع على نقيض غرض الجمع ومن ضرورته معارضة   1 قال الآمدي: اعلم أن سؤال الفرق عند أبناء زماننا لا يخرج عن المعارضة في الأصل أو الفرع إلا أنه عند بعض المتقدمين عبارة عن مجموع الأمرين حتى أنه لو اقتصر على أحدهما لا يكون فرقا ولهذا اختلفوا فمنهم من قال: إنه غير مقبول لما فيه من الجمع بين أسئلة مختلفة وهي المعارضة في الأصل والمعارضة في الفرع ومنهم من قال بقبوله واختلفوا مع ذلك في كونه سؤالين وسؤالا واحدا؟ فقال ابن سريج: إنه سؤالان جوز الجمع بينهما لكونه أدل على الفرق وقال غيره: بل هو سؤال واحد لاتخاذ مقصوده وهو الفرق وإن اختلفت صيغته. ومن المتقدمين من قال: ليس سؤال الفرق هو هذا وإنما عبارة عن بيان معنى في الأصل له مدخا في التعليل ولا وجود له في الفرع فيرجع حاصله إلى بيان انتفاء علة الأصل في الفرع وبه ينقطع الجمع انظر إحكام الأحكام "4/138, 139" البرهان "1060". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 232 الأصل والفرع ولكن الغرض منه مضادة الجامع بوجه فقهى أو بوجه تشبيه إن كان القياس من نفس التشبيه فعلى هذا لو سمى مسمى الفرق معارضة لم يكن متعديا ولكن ليس الغرض منه الإتيان بمعارضين على الطرد والعكس بل المقصد منه فقة ينتظم من معارضات يشعر بمفارقة الفرع للأصل على مناقضة الجمع فهذا سر الفرق ومن وفر حظه من الفقه وذاق حقيقته أستبان أن المعارضة الكبرى التي عليها يتنجاز الفقهاء وهو الفرق والجمع والجامع أبدا يأتى ما يخيل اقتفاء الجمع والفارق يأتى بأخص منه مع الاعتراف بالجمع له الذى أبداه الجامع وبين الفارق الفرع والأصل إذا افترقا في الوجه الخاص كان الحكم بافترقهما أوقع من الحكم بالجمع الذى أبداه باجتماعهما في الوصف ثم يتجاذب الجامع والفارق أطراف الكلام هنا سرد كلامه مع اختصاره اخترته لئلا يطول ونحن نقول أما الذى حكاه عن أبى بكر الباقلانى فقد حاول شيئا بعيدا لأن الفرق والجمع على الوجه الذى نخوض فيه ما نقل عن الصحابة أصلا وإنما كانوا يتتبعون التأثيرات ومن تأمل فيما نقل عنهم علم مغزاهم في كلامهم وتيقن أنهم كانوا ينقلون المعاني المؤثرة والذى نقل عن عبد الرحمن بن عوف أنه أشار إلى عمر مؤدب وإن ما فعله حق فهو معنى صحيح والذى أشار إليه على في وجوب الضمان عليه معنى هو ألطف من المعنى الأول وإن كان لم يصرح به فقد بينا أن المراد من كلامه أنه وأن كان مباح التأديب ولكنه مشروط بالسلامة لأنه أمر ليس بحتم بل هو جائز فعله وجائز تركه ولم يكن على حد مضبوط في الشرع وتقدير قدره فيطلق فعله بشرط السلامة فليس هذا الكلام من الفرق والجمع الذى نحن فيه بسبيل ولا ندرى كيف وقع هذا الخبط من هذا القائل وأين وقع الفرق فنحن لا ننكر الفرق بالمعانى المؤثرة وترجيح المعنى على المعنى وإنما الكلام في شئ وراء هذا وهو أن المعلل إذا ذكر علة قام له الدليل على صحتها بالوجوه التي قلناها فإذا فرق فارق بين الأصل والفرع بمعنى أبداه فإن كان فرقا لا يقدح في التأثير الذى لو كان المعلل في الحكم فيكون الفرق فرق صورة ولا يلتفت إليه وإن فرق معنى مؤثر في حكم الأصل فنهاية ما في الباب أن الحكم في الأصل يكون معللا بعلتين مؤثرتين وإحدى العلتين وجدت فرعا أثرت فيه وألحقته بالأصل والأخرى لم تجد فرعا يؤثر فيه فكيف يقدح هذا في الجمع الذى قصده المعلل وأن يبقى الفارق معنى مؤثرا في التفريق بين الفرع والأصل فالذى يقدح هو بيان معنى مؤثر في الفرع يفيد خلاف الحكم الذى أفاده المعنى الأول فلابد لهذا من اسناده إلى أصل فحينئذ يكون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 معارضة ولا يكون الفرق الذى يقصد بالسؤال ونحن قد بينا أن المعارضة قادحة والتقسيم الذى قسمه في الفرق يبين أن الفرق على ما يقتضيه بعض التأثير ليس بصحيح بل إنما يصح الفرق على وجه يكون فيه إبداء سقوط فقه المعلل من العلة لكن أخرجه على صيغة الفرق والمثال الذى ذكره من مسألة البيع الفاسد ليس مما يتكلم فيه من شيء لأن البيع الذى لا يمكن إثبات المشروعية فيه لا يكون مفيدا للملك عند أحد من العلماء وهم لا يعتمدون على مجرد المعنى الذى ذكره لكن يثبتون وصفا من المشروعية في البيع الفاسد الذى وقع فيه الاختلاف فيقولون هو مشروع بأصله غير مشروع بوضعه فلهذا أوجبوا الملك ونحن ننفيها من كل وجه فنقول لا يفيد الملك لأن المشروع من الملك لا يثبت إلا بسبب مشروع فعلى هذا يقع تنازع الخصوم وتجالب المعانى وأما مسألة النية في الوضوء فعندنا قولهم طهارة بالماء علة باطلة ما لم يثبتوا المعنى المؤثر في ذلك وقول من قال من أصحابنا طهارة حكمية أيضا باطلة مل لم يبين التأثير على الجملة لا يتصور بوجهه سؤال الفرق معنى بيان علة أخرى في الأصل للحكم نعم إذا عكس ذلك المعنى في الفرق وبين تأثيره في الحكم على خلاف ما توجبه العلة وبين أصلا له فحينئذ تكون معارضة وقد بينا الكلام في المعارضة ونحن لا نبالى بغضب من يغضب بسبب إفساد الفروق على ما يعتاده المتفقهة الذين لا يرجعون إلى تحقيق ورضوا بصور ينتصبون للذب عنها والدفع عن حزبها ويتصالحون عليها من الجانبين ويظنون أن ذلك هو المطلوب في المسائل في الفقه منهم كبعد الإنسان من مناط الثريا والذى ادعاه هذا الذى حكينا قوله أن فيما قلته بيان سر المسألة فلا ينكشف من سره إلا الذى قدمناه ومن حاول توجيه سؤال الفرق إلا معارضة المعنى في الفرع بمعنى آخر وتمسكة بأصل آخر فقد رام شيئا بعيدا وطلب ما لا يوصل إليه بحيلة ما فليفهم المعترض وجوه الاعتراضات على النمط الذى قلناه وليعلم أن السؤال الصحيح على العلة المؤثرة الممانعة المعارضة ويورد النقض وفساد الوضع على بيان أن الوصف غير مؤثر ويظهر الوجه الذى قلنا عدم تأثيره بتوجه هذين السؤالين والله ولى المعونة في التمييز بين الحق والباطل منه وقد ذكر الأصحاب فيما يتصل بالفرق كلاما طويلا كثيرا ونحن إذا لم نره صحيحا إلا في المعارضة بجانب الفرع لم نر لذكر ذلك فائدة فاعترضنا عن جميعه وذكروا أيضا كلاما كثيرا وأمثلة في وجوه الاعتراضات الفاسدة وفيما ذكرناه كفاية فلا معنى لتسويد البياض وإملال الناظر فيما لا يعود بفائدة والله العاصم بمنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 فصل: الترجيحات في العلل ... "فصل" ولما ذكرنا توجه سؤال المعارضة فلابد أن نذكر الكلام في الترجيحات ونبين وجوه ذلك فنقول: أولا إن: تعارض العلتين على ضربين: أحدهما: أن تتعارضا في حق المجتهدين فلا يوجب التعارض فسادهما لأن كل واحد منهما مكلف باطل ما أداه إليه اجتهاد. والضرب الثانى: إن تعارضا في حق مجتهد واحد فيوجب التعارض فسادهما إلا أن يوجد ترجيح لإحدى العلتين على الأخرى. ثم اعلم: أن الترجيح لا يقع بين دليلين موجبين للعلم لأن العلم لا يتزايد وإن كان يجوز أن يكون بعضه أقوى من بعض وكذلك لا يقع الترجيح بين دليل موجب للعلم وبين دليل موجب للظن لأن المفضي إلى الظن لا يبلغ رتبة الموجب للظن ولو رجح الدليل المفى إلى الظن بكل ترجيح لكان الدليل الموجب للعلم مقدما عليه ثم متى تعارضت العلتان المقربتان للظن فلا شك أن العلة القياسية لا تفيد الظن فإذا لم يكن بد من ترجيح إحديهما على الأخرى فنقول: الترجيح يكون من وجوه: أحدها: أن تكون إحديهما منتزعة من أصل مقطوع به والأخرى منتزعة من أصل غير مقطوع به فالمنتزعة من المقطوع به أقوى وأولى لأن مثلها أولى فتكون أقوى1. والثاني: أن تكون إحديهما عرفت بنطق والأخرى عرفت بمفهوم واستنباط فما عرفت بالنطق أقوى فيكون المنتزع منه أقوى2. والثالث: أن تكون إحديهما عموما لم يخص وأصل الأخرى يكون عموما قد دخله التخصيص فالمنتزع مما لم يدخله التخصيص أولى لأن ما دخله التخصيص أضعف فإن من الناس من قال: قد صار مجازا بدخول التخصيص فيه3.   1 انظر نهاية السول "4/514" سلم الوصول "4/514" فواتح الرحموت "2/324" البرهان "2/1285" المحصول "2/474" إحكام الأحكام "4/371" أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "4/218". 2 انظر نهاية السول "4/514" أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير"4/218". 3 انظر المحصول "2/463". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 والرابع: أن يكون أصل إحدى العلتين قد نص بالقياس عليه وأصل الآخر لم ينص بالقياس عليه فما ورد النص بالقياس عليه يكون أولى. والخامس: أن يكون أصل إحديهما من جنس الفرع فقياسه عليه أولى من القياس على ما ليس من جنسه. والسادس: أن تكون إحديهما مردودة إلى أصل واحد والأخرى مردودة إلى أصول فتكون المردودة إلى أصول أولى. ومن أصحابنا من قال: هما سواء والأول أصح لأن ما كثرت أصوله يكون أقوى. والسابع: أن تكون إحديهما صفة ذاتية1 والأخرى صفة حكمية فالحكمية تكون أولى ومن أصحابنا من قال: الذاتية أولى لأنها ألزم والأول أصح لأن الحكم بالحكم أشبه فيكون الدليل عليه أولى: والثامن: أن تكون إحداهما منصوصا عليها والأخرى غير منصوص عليها فالعلة المنصوص عليها أولى لأن النص أقوى من الاستنباط2. والتاسع: أن تكون إحداهما نفيا والأخرى إثباتا فالإثبات أولى لأن النفى لا يكون علة على الأصح3. والعاشر: أن تكون إحداهما اسما والأخرى صفه فتكون الصفة أولى من الاسم لأن الأصح أن الاسم [لا يمكن] 4 أن يكون علة. الحادى عشر: أن تكون إحداهما أقل أوصافا والأخرى أكثر أوصافا ومن أصحابنا من قال: القليلة الأوصاف أولى لأنها أسلم ومنهم من قال: التي كثرت أوصافها أولى لأنها أكثر شبها بالأصل5.   1 انظر البرهان لإمام الحرمين "2/1278- 1279" نهاية السول للآسنوي "4/519" أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "4/222". 2 انظر نهاية السول "4/514" سلم الوصول "4/514" البرهان "2/1285" المحصول "2574" إحكام الأحكام "4/371" أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "4/218". 3 انظر المحصول "484" نهاية السول "4/517" المحصول "2/466" إحكام الأحكام "4/382" البرهان "2/1289" أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "4/221". 4 ثبت في الأصل "لا يكون" ولعل الصواب ما أثبتناه. 5 انظر البرهان "2/1286, 1287" المستصفى للغزالي "2/402". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 والثاني عشر: أن تكون إحداهما أكثر فرعا من الأخرى فمن أصحابنا من قال: ما كثرت قفروعها أولة لأنها أكثر فائدة ومنها من قال: هما سواء1. الثالث عشر: أن تكو إحداهما متععدية والأخرى واقفة بالمتعدية أولى لأنها مجمع على صحتها والواقفة مختلفف في صحتها2. الرابع عشر: أن تكون إحداهما تطرد وتنعكس والأخرى تطرد ولا تنعكس فالتى تطرد وتنعكس أولى لأن التي تطرد وتنعكس تكون أقوى في الظن ولأن الاطراد ليس بدليل لصحة العلة وأما الاطراد والانعكاس فدليل على ما سبق3. الخامس عشر: أن تكون إحداهما تقتضى احتياطا في الغرض والأخرى لا تقضى احتياطا فالتى تقتضى الاحتياط أولى لأم القلب يكون عليه أسكن. السادس عشر: أن تكون إحداهما تقتضى الحظر والأخرى تقتضى الإباحى فمن أصحابنا من قال: هما سواء والأصح التي تقتضى الحظر أوللى لأنها أحوط4. السابع عشر: أن تكون إحداهما تقتضى النقل من الأصل إلى الفرع الشرعى والأخرى تقتضى التبقية على الأصل فالناقلة أولى ومن اصحابنا من قال: المتبقية أوى والأول أصح لآنها تفيد حكما رشعيا لا تفيده هذه الثامن عشر: أن تكون إحداهما توجب حدا والخرى تسقطه أو إحديهما توجب العتق والأخرى تسقطه فمن أحابنا نت قال التي توجب العتق تسقط الحد أولى لأن العتق مبنى على الإيقاع والتكميل والحد من على الاستنباط والدرأ ومن اصحابنا من قال: لا يترجح بما بينا لأن إيجاب الحد وإسقاطه والعتق والرق في الحكم الشرع على السواء5. التاسع عشر: أن تكون إحديهما يوافقها عموم والأخرى لا يوافقها عموم فما يوافقها العموم أولى ومن أصحابنا من قال: لا يكون أولى والأول أصح لأن العموم دليل بنفسه فإذا انضم إلى القياس يقويه.   1 انظر المستصفى للغزالي "2/405" نهاية السول "4/519, 520" أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "4/222". 2 انظر إحكام الأحكام "4/375" المحصول "2/486" المستصفى "2/404". 3 انظر إحكام الأحكام "4/375". 4 المحصول "2/468". 5 المحصول "2/484". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 العشرون: أن بكون مع إحديهما قول صحابى ولا يكون مع الأخرى فالتى معها قول الصحابى أولى لأن قول الصحابى حجة في قول بعض العلماء فإذا انضم إلى القياس قواه ففالأقوى أولى1. الحادى والعشرين: أن تكون إحديهما تعم حكم أهلها والأخرى تخص حكم أصلها كتعليل البر بالطعم يعم ثبوت الربا في جميع البر قليله وكثيرة وتعليله بالكيل ينفى ثبوت الربا فيما رر يكال من ابر ومن التعليل منه فرجح التعليل بالطعم لأنه عم حكم أصله على التعليل بالكيل لأنه خص حكم أصله. الثانى والعشرين: أن تكون إحديهما مأخوذة من أصل متفق على تعليله والأخرى مأخوذ من أصل مختلف في تعليله فتكون المأخوذة من أصل متفق على تعليله أولى. الثالث والعشرون: أن تكون إحديهما تدخل فروعها في فروع الأخرى فيكون الأعم أولى وهذا مثل تعليل الربا بالطعم يكون أولى من التعليل بالقوت لأن القوت يدخل في الطعم والطعم لا يدخل في القوت. الرابع والعشرين: أن تكون إحديهما تفيد حكما هو أزيد من الآخر كالندب والإباحة فرجح الندب على الإباحة وكذلك الوجوب والندب. الخامس والعشرون: أن تكون إحديهما موافقة للأصول والأخرى مخالفة لها. فهذا جملة ما ذكره العراقيون2 من أصحابنا في الترجيح ذكرها القاضى أبو الطيب والقاضى أبو الحسن الماورددى والشيخ أبو إسحاق الاشيرازى. واعلم بعد هذا أت الترجيح في اللغة عبارة عن إثبات الرجحان وهو الزيادة لأحد المثلين على الآخر صفة3. فقال: هذه الدراهم راجحة إذا مالت كفة الدراهم على كفة السنجاات صفة وهى صفة الثقل فرجحان أحد العلتين ععلى الأخرى زيادة قوة إحدى العلتين وتلك القوة رجحان. قال أبو زيد: ولنا انضمام علة إلى علة أخرى لا توجب رجحان تلك العلة وقد قال بعض أصحابنا: يترجح بذلك إلا أن الأول أصح لأن الشئ لا يتقوى إلا بصفة توجد في ذاته وإنما يغير انضمام غيره إليه لا يقوى الدليل عليه المحسوسات فكذلك   1 انظر البرهان "2/1282". 2 ثبت في الأصل: "ذكرها" ولعل الصواب ما أثبتناه. 3 انظر القاموس المحيط "1/221". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 العلة لا يتصور تقويها بانضمام علة أخرى إليها وإنما تتقوى بوجود صفة فيها ولهذا قلنا: إن الشهادة لا ترجح بكثرة العدد حتى أن شهادة الأربع تساوى شهادة الاثنين هذا قد منعه بعض أصحابنا ولهذا الأصل قلنا: إن صاحب النصيب القليل وصاحب النصيب الكثير في الشفعة على السواء لأن كل جزء من العرصة1 والشقص علة تامة في الاستحقاق بالشفعة فلا يترجح أحدهما بزيادة نصيبه لأنه انضمام علة إلى علة أخرى. قالوا: ولهذا لا يصير صاحب الكثير أولى بالاستحقاق من صاحب القليل ولكن ثبت استحقاقه بقدر النصيب ولا يقال إن لصاحب الكثير طرفا في الاستحقاق ولصاحب القليل طريقا واحدا فيوجب أن يقدم صاحب الكثير الذى له طرق كثيرة في الاستحقاق فدلت هذه المسألة أن نضمام علة إلى علة لا يوجب رجحان العلة. قالوا: ولهذا نقول إذا ماتت المرأة وتركت ابنى عم أحدهما زوج لها وأحدهما أخ لأم فإن صاحب القرابتين لا يترجح في الاستحقاق على الآخر بل يكون لابن العم الذى هو زوج نصف المال بالزوجية والباقى بينه وبين ابن العم الآخر نصفان وكذلك في المسألة الثانية يكون لابن العم الذى هو أخ لأم سدس المال والباقى بينهما نصفان بالعصوبة لأن الأخوة والزوجية علة على وحدة فانضمامها إلى العصوبة لا يوجب رجحان العصوبة والأصل ما بينا أن انضمام علة لا يوجب زيادة قوة في العلة قالوا: وإنما تترجح العلة بزيادة التأثير والعلة تصير علة بالتأثير فما كان أكثر تأثيرا يكون أولى بالعمل وضرب لهذا مثلا في طول الحرة وذكر ما بينا لهم في تلك المسألة وزعم أن الذى قالوا: أكثر تأثيرا وذكر أيضا مسألة غصب المنافع وحكى عن أصحاب الشافعى أنهم قالوا: لم يجب ضمان المنافع إذ أتلفت لم يجبر لأن التضمين يضمن إيجاب زيادة على المتلف في الضمان وفيه إلحاق الضرر ولكن مع هذا الإيجاب أولى لأن فلى الإيجاب إبطال من بعض حق المتلف وفى الامتناع من الإيجاب إلحاق الضرر بالمظلوم وإلحاق الضرر بالظالم أولى فكان الإيجاب أولى من الامتناع منه قال: إلا أنا نقول: إن الامتناع عن إيجاب الضمان مع كون المتلف متقوما مشروع بدليل إتلاف الحربى والباغى وأما القضاء بزيادة في الضمان غير مشروع فكان الامتناع من إيجاب الضمان أولى ولأن في الامتناع عن القضاء بإيجاب الضمان تأخير   1 قال الفيروز آبادي "والعرصة كل بقعة بين الدور واسعة ليس فيها بناء انظر القاموس المحيط " "2/307". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 إلى الآخرة وفى القضاء بزيادة الضمان إبطال الحق أصلا ورأسا فالتأخير أهون من الإبطال فكان التأثير فيما قلناه أكثر فيكون أولى ونحن نقول: إن انضمام العلة إلى العلة يجوز أن يقال: ترجح العلة لأنها تزيد قوة الظن والحكم في المجتهدات بقوة الظن فإذا زادت قوة الظن ظهر الترجيح. ببينه: أن الفائدة بالترجيح ليست ألا وجود قوة الظن بإحديهما دون الأخرى وحد الترجيح يقوى الظن الصادر عن إحدى الأمارتين عند تعارضهما. ببينة: أن العلة المنتزعة من أصول تكون أقوى من العلة المنتزعة من أصل واحد وكذلك العلل المنتزعة من أصول وكلها يدل على حكم واحد تكون أقوى من العلة الواحدة المنتزعة من أصل واحد يدل عليه أن العلة المنتزعة من الأصول دون العلل المنتزعة من أصول وكلها دالة على حكم واحد فإذا ترجح الأول فالثانى أولى وهذا لأن في الفصل الأول ثبوت العلة بكثرة أصولها وفى الفصل الثانى بكثرتها في نفسها وكثرة أصولها فيكون أحكم وأقوى ويصير كأن العلل شهد بعضها لبعض في القوة فيكون ذلك أولى من العلة المتجردة عن شهادة شئ لها أصلا. وأما مسألة الشفعة ومسألة طول الحرة ومسألة إتلاف المنافع فقد ذكرنا في الخلافيات لهذه المسائل طرقا لا يأتى عليها شئ فيما ذكروه فاستغنينا عن إعادة شئ من ذلك لأن من نظر في هذه الأصول وأحكمها لابد أن ينظر في تلك الفروع ومن نظر في تلك الفروع لابد أن ينظر في هذه الأصول فإن الكلام في الفروع والأصول أخذ بعضها برقاب بعض وهى كأنها مشتبكة وصحة البعض فيها منوطة بصحة البعض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 فصل: مراتب قياس المعنى ... "فصل" وقد ذكر بعض متأخرى أصحابنا عند ذكر الكلام في ترجيحات الأقيسة بعضها على بعض مقدمة تشتمل على ذكر مراتب الأقيسة وسمى البعض قياس المعنى وسمى البعض قياس الشبه وسمى البعض قياس الأدلة ونحن رأينا أن نذكر طرفا من ذلك ونتكلم على بعض ما يكون موضع الكلام عليه. قال: ونحن نرسم مراسم في الاختلاف وننزل كل مرتبة منزلتها ونرى أن مداركها على حقائقها مشرقة على طرق المعانى وإذا عسر الوفاء باستيعاب الأقيسة المعنوية في هذا المجموع فالوجه أن نتخير اصلا من أصول الشرع يشتمل على مجامع القول في وجوه الإخالة ونبين وجوه الترتيب فيها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 وما يقع في الرتبة العليا والرتبة التي تليها إلى استيعاب مدارك القول ومعانيها ثم نقيس النظر على ما نرسمه منها ما يدانيها فليقع الكلام في القصاص وما يقتضى إيجابه ويجب اندفاعه قال: أوجب الله تعالى القصاص في كتابه زجرا للجناة وكفا لهم فأشعر بذلك نفى قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179] واتفق المسلمون على هذه القاعدة ولم ينكرها من طبقاتهم منكر. ثم قال أئمة الشريعة: كل مسلك يطرق إلى الدماء السفك ويخرم قاعدة الزجر فهو مردود فإن المقصود المتفق عليه من القصاص صيانة الدماء وحفظ المهج مما يخالف هذا ولو قدر ثبوته كان مناقضا لهذا الأصل فلا سبيل إلى قبوله وإثباته وإذا تمهد هذا فكل معنى يستند إلى هذه القاعدة ويوافقها من غير اختلاف في مجراه فهو على المرتبة العليا من أقيسة المعانى وهذا مثل في القول في القتل بالمثقل1 فلا شك أن من نفى القصاص في القتل بالمثقل2 مناقض للقاعدة من جهة أن القصد بهذه الالات التي اختلف فيها ثابت وهو ممكن لا عسر في إيقاعه ثم ليس القتل بها مما يندر فإذا لم يتعسر ولم يندر كن نفى القصاص عن القتل بها مضادا لحكم الشريعة في القصاص وإذا ناكر الخصم العمدية في القتل سفه ولم يستفد منه إيضاح عسر القتل ولئن تشبث بتعبد في آلة القصاص كان ذلك في حكم العبث فإن تقدير التعبد مع ما تمهد من الحكمة يناقض الحكمة المرعية في العصمة فليفهم الفاهم مواقع التعبد وإن تمسك بصورة من العكس وقال الجرح الذى لا يغلب إفضاءه إلى الهلاك إذا هلك أوجب القصاص كان هذا غاية في خلاف الحق فإن الحرج لاختصاصه بمزيد الغور وإمكان السريان إذا اقتضى القصاص حسما لمادة الجناية وردعا للمعتدين فكيف يستجير لما رد عليه إسقاط القصاص بالقتل الذى يقع بالأسباب التي تقتل لا محالة فهذا على قياس المعنى لا حاجة في ربطه بالقاعدة التي تكلف نظر أو تحرير أو تقريب وتقرير ويخالف ما وقع في هذه الرتبة مائل عن الحق على قطع وليس القول في ذلك دائرا في فنون الظن وما يكون بهذه   1 أي أن يضربه بغير محدد مما يغلب على الظن حصول الزهوق به عند استعماله انظر المغنى "9/322". 2 قال الحسن وروى ذلك عن الشعبي وقال ابن السيب وعطاء وطاوس: العمد ما كان بالسلاح وقال أبو حنيفة: لا قود في ذلك إلا أن يكون قتله بالنار وعنه في مثقل الحديد روايتان انظر المغنى "9/323". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 الصفة لا يتصور أن يعارضه معارض هذا كلامه في هذا الفصل. وعندي أن هذا الكلام بهذا التقرير حائد عن نكثه الخلاف في مسألة القتل بالمثقل لأن الخلاف بيننا وبين الخصم أن سبب القود هل وجد في مسألة المثقل أم لا؟ فالخصم يقول: لم يوجد لأنه يدعى شبهه في السبب ونحن ندعى أن السبب قد وجد وأنه لا شبهة وإذا كان موضع الخلاف هذا ومنه نشأ ما نشأ فتقرر وجه الحكمة في إيجاب القود وبيان وجودها في هذا المحل لا ينفع وإنما ينبغى أن يكون الكلام في بيان السبب ونفى ما يدعونه من الشبهة ثم إذا ثبت ذلك وعرف استمر وجوب القصاص بالسبب المعهود في الشرع للفائدة التي ذكرناها وأما التعبد في آلة القصاص فلست أعرف أن أحدا من المخالفين ذكر هذا اللفظ في آلة القصاص وإنما ادعوا الشبهة عند وجود القتل بالمثقل في استيفاء القصاص قالوا: إنه آلة القتل حسا وشرعا بدليل المرتد ومن حيث المعنى ادعوا أن القتل به أيسر وأسهل فكان أولى وليس المذكور للذب عن المخالفين ولكن يبين وجه كلامهم في المسألتين حتى يكون كلامنا على هذا ونحن قد ذكرنا في خلافيات الفروع فساد دعواهم الشبهة في القتل وقلنا: إن اعتبار المماثلة في الاستيفاء من كل وجه ممكن مشروع وقد ذكرنا ودللنا على ذلك بدلائل تزيل الإشكال وتنفى الشبهة فليكن الاعتماد على ذلك وقد ذكرنا أن الفعل يصير قتلا بتفويت الحياة وتفويت الحياة بالمحدد والمثقل واحد والخصم يدعى شبهة عدم القتل إما بعدم الحرج أو بعدم آلة القتل ومتى عرف حد القتل سقط دعوى شبهة عدمه وسقط أيضا قولهم إن آلة القتل لم توجد لأن آلة الشئ ما يوجد به الشئ فلا يتصور بغير آلة القتل وأيضا فإن القتل فعل محسوس والفعل المحسوس متى وجد لا يتصور أن لا يوجد من وجه بل إذا وجد من وجه ما يصير موجودا من كل الوجوه والمسألة في نهاية الظهور على المخالفين لكن من هذا الوجه لا من طريق بيان فائدة القصاص وقد بينا أنه إنما ينطر في وجوب القصاص إلى سبب القصاص لا إلى حكمة القصاص. ثم ذكر المرتبة الثانية وقال: هى مشتملة على قياس معتضد بالأصل لكن الجامع لابد له من مزيد تقرير وتقريب وقد يعن للخصم تخيل فرق وإن كان إفساده هينا مثال ذلك أنه قد ثبت وجوب القصاص على المشتركين في القتل وهذا مستند إلى قاعدة الشرع في تحقيق العصمة وزجر الجناة فإن الاستعانة في أمثال هذا ليس بالعسير والقتل على الاشتراك غالب الوقوع فاقتضى معنى القصاص في الأصل إيجاب القصاص على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 الشركاء وهذا يتطرق إليه الكلام قليلا من جهة أن كل واحد منهم بالانفراد ليس بقاتل وقتل غير القاتل مخالفة لموضوع الشرع في تخصيص القتل بالقاتل وفيه وجه آخر وهو أن إمكان القتل بالاستعانة دون إمكان القتل بالمثقل وعن هذا تردد بعض العلماء في إيجاب القصاص على المشتركين في القتل وقال بعض أصحابنا إن قتل الشركاء في القتل الواحد خارج عن القياس وإنما هو ثابت بقول عمر رضى الله عنه لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به1 قال: والمسلك الحق عندي أن المشتركين يقتلون2 بحكم قاعدة القصاص ولا نظر إلى خروج آحادهم عن الاستقلال بالقتل إذا كان يظهر بسبب درء القصاص عنهم هرج ظاهر ومفسدة عظيمة ولا نظر مع هذا إلى انحطاط مكان الاشتراك قليلا عن الانفراد بالقتل فإنه يعارض ذلك أن المنفرد لا يستمكن استمكان المشتركين فيعتدل المسلكان وإذا تمهدت هذه القاعدة فنقول في الطرف إلحاقا له بالنفس أنه صين بالقصاص على المنفرد فليصن بالقصاص على المشتركين كالنفس وذكر بعد هذا كلاما طويلا ومد النفس مدا عظيما وصار في آخر الكلام إلى الفرق بين المشتركين في السرقة والمشتركين في اليد بما ذكره المشايخ في الفرق وكل ذلك موجود في مسائل الفروع ولم أر لذكر ذلك وجها هاهنا فتركته واعتماده على ما اعتمد عليه من قتل الجماعة بالواحد من جنس ما اعتمد عليه في القتل بالمثقل والكلام عليه بمثل ما تكلمنا به في تلك المسألة وهو أن الأحكام إنما تناط بالأسباب لا بالحكم وكل ما أشير إليه حكمه وجوب القود بالحكمة في الواجب لا يجب الواجب إنما يجب بالسبب الواجب ونحن بينا طريقين أحدهما: أن كل واحد منهما قاتل بمعونة غيره ببينة: أنه لا جزء من النفس إلا ولكل واحد من المشتركين فيه عمل في تفويته إلا أنه وجد معونة غيره ومن استعان بغيره في شئ فقد تمهد في الشرع أنه يجعل فعل المعين فعل المستعين   1 أخرجه مالك في الموطأ: العقول "2/871" ح" 13". 2 أي: إذا كان واحد منهم إذا انفرد بفعله وجب عليه القصاص وهو قول عمر وعلي والمغيرة ابن شعبة وابن عباس وبه قال سعيد بن المسيب والحسن وأبو سلمة وعطاء وقتادة وهو مذهب مالك والثوري والأوزاعي والشافعي وإسحاق وأبي ثور وأصحاب الرأي ورواية عن أحمد. وهنا من قال: إنهم لا يقتلون به وتجب عليهم الدية وهو قول ابن الزبير والزهري وابن سيرين وحبيب بن أبي ثابت وعبد الملك وربيعة وداود وابن المنذر وحكاه ابن أبي موسى عن ابن عباس وروى عن معاذ بن جبل وابن الزبير وابن سيرين والزهرى ورواية عن أحمد انظر المغنى "9/366". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 فيجعل كل واحد كأنه قاتل من هذا الوجه ويمكن أن يقال: إنهم إذا اشتركوا جعلوا بمنزلة الشخص الواحد حكما والسبب أنا إذا لم نجعل كذلك أدى إلى ما قال: من الهرج وسفك الدماء وإذا جعلوا كالشخص الواحد حكما وقد تحقق السبب منه فيقابل بالقصاص وعلى كلا المعنيين وجب القود في الطرف على الجماعة أيضا إذا قطعوا طرفا واحدا1. وإما فصل السرقة فإنما لم يجعل كل واحد كأنه تفرد بسرقة النصاب لأن المقصود من السرقة تحصيل المال فإذا سرق نصابا واحدا فالنصاب يقصد لتحصيله ولم يحصل مقصود كل واحد وهو تحصيل نصاب كامل حتى يجعل صاحبه معينا له في تحصيل مقصوده ويجعل فعله كفعله وأما هاهنا فإن المقصود لكل واحد من المشتركين في القتل والقطع هو إهلاك هذا الإنسان في القتل وإهلاك اليد في القطع وقد حصل مقصود كل واحد منهما وقد أعانه صاحبه في تحصيل مقصوده وفعل المعين فعل المستعين فيصير كل واحد منهما كالمنفرد بالقتل والقطع ويجعل كل واحد منهما قاطعا قاتلا ولأن الاشتراك في سرقة نصاب واحد يندر فإسقاط القطع عنهما لا يؤدى إلى المفسدة العظيمة فلم يجعلوا كلهم كالشخص الواحد وأما هاهنا فإن اجتماع القوم على قتل واحد يوجد غالبا بل الأصل أن الواحد يقاوم الواحد وإنما يعجز في رده إذا اسعان بغيره فلو أسقطنا القود يؤدى إلى المفسدة العظيمة فطلبنا سببا لإيجاب القود عليهم فكان ذلك بأن نجعل الجماعة بمنزلة الشخص الواحد حكما وهذا فرق بين وخرج على ما ذكرناه إذا قطعا وتميز فعلاهما الذى عده مشكلا لأنا إنما ادعيناه في الموضع الذى وجد لفعل كل واحد منهما عمل في جميع اليد وفى هذه الصورة لم يوجد فلم يمكن أن يجعل كل واحد قاطعا بجميع اليد وهذا بخلاف النفس في هذه الصورة لأن التميز لا يتصور في النفس لأن الإهلاك بتفويت الحياة ولا يتصور تميز فعل كل واحد فعل صاحبه في تفويت الحياة فصار فعل كل واحد منهما عاملا في جميع ما تفوت به الحياة مثل ما إذا لم يتميز فعلاهما وأما في اليد فيتصور تميز فعل كل واحد منهما عن صاحبه في قطع اليد وحين يتميز في صورة ولا يتميز في صورة يقع الفرق المعنوى على الوجه الذى قدمناه وقد يلزم عليه تعدد الكفارة إلا أنا ندعي هذا في القصاص ولأن القصاص إذا وجب على كل واحد تبعته الكفارة فهذا ينبغى أن يكون   1 وهو قول مالك والشافعي وإسحاق وأبو ثور ورواية عن أحمد وهناك من قال: لا تقطع يدان بيد واحدة انظر المغنى "9/370". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 وجه الكلام في المسألة لا الذى قاله والله أعلم. قال: والمرتبة الثالثة فمثلها بالقول في المكره على القتل وفيه ثلاثة مذاهب: أحدها: أن القصاص على المكروه دون المكره1. والثاني: وهو قياس بين أن القصاص على المكرة دون المكره وهو مذهب زفر2. والثالث: أن القصاص عليهما وهو مذهب الشافعى3. وأبعد المذاهب عن الصواب هو إيجاب القصاص على المكره دون المكره فإنه زعم أن فعل المكره منقول إلى المكره وكأنه آلة له وهذا ساقط له مع المصير إلى أن النهى عن القتل يستمر على المكره القاتل فكيف يتحقق كونه آلة مع تكليف الشرع إياه ومن ضرورة كونه آلة انقطاع التكليف عه فتخصيص المكره بالتزام القصاص مع ما ذكرناه لا أصل له ووجه مذهب زفر في القياس لائح وهو إذا رأى المحمول ممنوعا ولم ير الإكراه أثرا في سلب المنع والنهى والمباشرة تغلب على السبب إذا استقلت وارتبط بها التكليف والتصريف من الشارع والذى يختاره اصحاب الشافعى يبتنى على ما ذكرناه لزفر من استقلال المباشرة وهذايقتضى إيجاب القصاص على القاتل المحمول ولكن لم ير هؤلاء إحباط الإكراه وإسقاط أثره بالكلية فإنه يوقع القتل غالبا والإكراه من أسباب الضمان فبعد تعطيله وإخراجه من البين وبعد إحباط المباشرة فالوجه تنزيلهما منزلة الشريكين ولا شك أن فعل كل واحد من الشريكين يضعف فعل صاحبه من جهة أنه يخرج عن كونه قتلا. ثم لم يسقط الاشتراك القصاص عنهما فإذا لم يسقط القصاص عن الحامل والمحمول لضعف ما صدر عنها أما ضعف المباشرة فمن جهة كون المباشر محمولا وأما ضعف الإكراه فمن جهة كون المكره المحمول منهيا واستمرار التكليف عليه يوهن أثر الإكراه وليس أحدهما أولى بالضعف من الثانى فلا سبيل إلى تخصيص القصاص بأحدهما فنزلناهما منزلة الشريكين ولكن القول في هذا ينحط عن القول في الشريكين من جهة اختلاف السبب والمباشرة وخروج كل واحد منهما عن قياس بابه ثم إنه يتعارض مذهب أبى حنيفة وزفر والترجيح لزفر ومذهب إيجاب القصاص عليهما   1 أي: أنه يقتل المباشر دون المكره وهو قول أبي حنيفة انظر المغنى "9/330". 2 انظر المغنى "9/331". 3 قال الإمام النووي: "فإذا أكره على القتل وجب القصاص على الآمر وفي المأمور قولان أظهرهما: وجوب القصاص أيضا انظر روضة الطالبين "9/35" الأشراف "3/76". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 منسوب إلى جميع نكتتى المذهبين مع امتناع إسقاط القصاص عنهما جميعا. قال: وإيجاب القصاص على شهود الزنا إذا رجعوا بعيد فإن فرض رجوع المدعى واعترافه فلا وجه لوجوب القصاص على الشهود والطريق القطع بتغليب المباشرة وإن فرض الكلام في استمراره على دعوى الاستحقاق فهذا ينحط في مرتبة الاجتهاد عن شهود الزنا فإن المدعي على خيرته قال: ولو ذهبنا نستقصي هذه المسائل لطال الكلام وإنما غرضنا التنبيه ولم يوجب الشافعى عقوبة في هذا المساق أبعد من إيجابه حد الزنا على المرأة إذا نكلت عن اللعان1 بعد لعان الرجل فإن هذا سفك دم بقول المدعى وهو في مسلك القياس يدانى إيجاب القصاص بقول المدعي في لوث القسامة ولولا الخبر لما اقتضى قياس ذلك قال: واللعان أبعد من القسامة من جهة أن الشرط في القسامة ظهور اللوث عند الحاكم وهذ غير مشروط في اللعان غير أن المعتمد في القسامة الخبر الصحيح والمعتمد في اللعان نسبته إلى شيئين. أحدهما: أنه لا يجد بد من الخروج عن قانون الحجج فالإستمساك بظاهر القرآن اقترب وهو قوله تعالى {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} [النور: 8] وحمل العذاب على الجنس بعيد وبالجملة نفى إيجاب الحد وتغليب حقوقها اقترب إلى مأخذ الشريعة عندي قال: ومن عجيب الأمر أن قول الشافعى اختلف في أن القصاص هل يجب بأيمان القسامة ولم يختلف قوله في وجوب الحد على المرأة مع تعرض الحد الواجب لله للسقوط بما لا يسقط به القصاص وسبب هذا أن خبر القسامة ورد في الغرم وآية اللعان اشتملت على ذكر العذاب وهو الحد فهذا عبرة في أمثال ما ذكرنا من قواعد الشرع ونحن نختم بأمر بدع يقضى الفطن العجب منه فالمرتبة الأولى تكاد تقضى بالقطع والمرتبة الثانية أعنى اللعان والقسامة لا يستقل المعنى فيها ولم نر شبهها مرتبة في القياس من حيث لم نرها مستقلة فهذه جملة كافية في التنبيه على المراتب وضابطها القرب من القاعدة والبعد منها هذا سرد كلامه في هذا الفصل ونحن قد تكلمنا على ما جعله في المرتبة الأولى والثانية. وأما هذه التي سماها المرتبة الثالثة فاعلم أن ما صار إليه في مسألة المركه على القتل من الكره والمكره بمنزلة الشريكين في القتل فليس بشئ لأن مباشرة جملة الفعل محسوسا وجد من المكره فإذا جعلنا المكره شريكا له في المباشرة فأما أن نجعل ذلك لأنا نجعل المكره آلة له أو لأنه سبب سببا يفضى إلى القتل غالبا فإن جعلنا شريكا له فإذا   1 انظر روضة الطالبين "8/349". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 246 صار المكره آلة للمكره في بعض القتل وجب جعله آلة له في جميعه لأن الذى يجعله آلة له في بعض القتل موجود في كله وإن جعلنا شريكا بالتسبب فباطل أيضا لأن التسبب للقتل ومباشرة الفعل فعلان مختلفان وينفصل أحدهما عن الآخر وكل واحد من المكره والمكره يستقل بما فعله فكيف نجعلهما شريكين في القتل وإذا لم يكن التسبب إلى القتل قتلا عند هذا القائل فمتى يتصور أن يجعله شريكا للمكره في القتل فالقضاء بأنهما شريكان في القتل كلام قاله بعض المشايخ من غير تأمل في عائلته والذى قال: إن الخصم يحكم بنقل الفعل فهم لا يرتضون هذه اللفظة وإنما يقولون إن المكره آلة للمكره وليس للمكره فعل أصلا فيما يعود إلى النيابة على محل الفعل لأنه في ذلك يصلح أن يكون أله المكره ووجه كونه آلة وهو استعماله في فعله على اختيار نفسه يحمله عليه مثلما يستعمل السيف في قطعه على اختيار نفسه بتحامله عليه ويقولون هذا في الإثم لا يتصور لأن الإثم بجنايته على دينه وهو بجنايته على دينه لا يصلح أن يكون آلة للمكره وإنما في جنايته على محل الفعل صورة يصلح أن يكون آلة له وأما نحن نقول إن الحكم بكونه آلة للمكره مع بقاء اختياره وإمكانه الصبر والكف إلى أن يقبل ورود الشرع بذلك باطل وجعل المكره والمكره شريكين في القتل باطل لكنه يجب القود على المكره بمباشرة القتل وعلى المكره بالتسبب للقتل ويقول: كل واحد منفرد بفعله من القتل والتسبب من غير مشارك والقود واجب على المكره بالمباشرة وعلى المكره بالتسبب لأن التسبب أخذ شبها من القتل والقتل أخذ شبها من التسبب أما الأول فلأنه يفضى إلى إزهاق الروح غالبا وأما الثاني فلأن القتل بإزهاق الروح غالبا. وأما الثاني: فلأن القتل بإزهاق الروح وأزهاق الروح لا يدخل تحت قدرة العباد فلا يكون منه إلا التسبب فلما أخذ كل واحد منهما شبها من صاحبه جعلناهما علتين صحيحتين في إيجاب القتل غير أنا نعتبر في التسبب أن يكون مفضيا إلى القتل غالبا حتى يأخذ شبها من القتل ويخرج على هذا حفر البئر في بئر المسلمين ويعتبر أيضا أن يكون معتبرا في أحكام الشرع حتى يخرج عليه الإمساك ويظهر الاعتبار في المال وإذا عرف هذا بطل قول زفر وسقط ما حمده هذا القائل وعلى هذا الأصل الذى مهدناه ينبنى وجوب القود على شهود القصاص وشهود الرجم إذارجعوا وسواء في وجوب القصاص رجع المدعي أم لم يرجع بعد أن تم رجوع الشهود وذلك التفريق الذى قال: ليس بمذهب ولا هو صحيح على المعنى بعد أن يكون المشهود على قتله قد قتل فأما إذا أقمنا الدليل على أن السبب موجب للقتل صار مثل القتل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 وعلى القطع نعلم وجود السبب القوى من الشهود فيكون علة لوجوب القود عند رجوعهم مثل القتل من الولى يكون علة لوجوب القود عند رجوعه فإذا أوجب القتل على الولى عند رجوعه واعترافه وإن قام الشهود على شهادتهم فيكون التسبب علة لوجوب القود على الشهود إذا رجعوا وإن كان الولى مقيما على زعمه وإن قتل بحق وبأمثال هذا الكلام تعرف مقادير الرجال ويظهر مراتبهم والفقه أعز علم خاض فيه الخائضون ومنه مدارك الأحكام وهو البحر ذو التيار وفيه المغاصات على دور المعانى فلا يقع عليها إلا من أيد بنور من الله تعالى ومنه قيل: إن العلم نور يقذفه الله تعالى في قلوب من يشاء من عباده وقد كنا ذكرنا في خلافيات الفروع أن شهود القصاص قتله حكما ودللنا عليه وهذا الذى ذكرناه هاهنا أحسن. وأما مسألة إيجاب الحد على المرأة إذا نكلت عن اللعان فهو يبتنى على أن اللعان حجة شرعية لتحقيق الزنا على المرأة ولعانها حجة شرعية لدفع الحد عنها وكذلك الأيمان في القسامة حجة شرعية على تحقيق القتل على المدعى عليه نعم يجوز أن يقال: إن هذه الحجة لا تشبه سائر الحجج ونحن لم نعرف الحجج في جميع المواضع إلا بالشرع البحت والتعبد الخالص من غير خلط وإذا كان اللعان حجة سقط استبعاد إيجاب الحد على المرأة ومن نظر في كلمات اللعان وتأملها عرف أنه ما وضع إلا لتحقيق الزنا على المرأة وما وضع في الشرع لتحقيق شئ فلابد أن يتحقق وإذا تحقق الزنا عليها سقطت الاستبعادات والإنكارات جملة وأما اختلاف القول في القسامة واتحاد القول في مسألة اللعان فيجوز إن يقال: إنه لاتحاد الواجب في الزنا واختلاف الواجب في القتل ويجوز أن يكون له ما قاله والله أعلم. واعلم أنا ننكر مراتب المعانى وأن يكون بعض المعانى أوضح من البعض لكن لا على هذه الوجوه التي قالها والإخالة والتأثير قد يترتب فإنا نعلم أن الإخالة في الطعم لتحريم البيع دون الإخالة في شدة التحريم المسكر والإخالة في الثيابة لإيجاب الإذن والإخالة للبكارة في إفادة الإجبار مثل الإخالة في الطعم أو دونه بيسير إلا أن كل واحد من المعانى له علقة بالقلب وإشعار بالحكم الذى علق به وقد سبق من هذا ما فيه غنية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 فصل: في قياس الشبه ... "فصل" قال هذا القائل الذى حكمنا منه ما حكينا في قياس المعنى ونحن الآن نذكر مراتب قياس الشبه فنقول: محال هذا القسم عند انحسام المعنى المخيل الثابت فإذا لم نجد معنى للحكم الثابت أو صادفنا تخيل غير صحيح على الشبه فالوجه رد النظر إلى التشبيه ثم مراتب الأشباه تنقسم إلى القريب والبعيد انقسام مراتب المعنى فالواقع في المرتبة العليا هو الذى يسميه الأصوليون في المعنى الأصل ولا يريدون به المعنى المخيل وهذا إذا وقع كان في المرتبة العليا وقد سبق الاختلاف أنه هل يسمى قياسا أو هو متلقى من اللفظ والنفى والوجه عندنا في ذلك أن يقال: إن كان في اللفظ إشعار من طريق اللسان فلا نسميه قياسا كقوله صلى الله عليه وسلم: "من أعتق شركا له في عبد قوم عليه" 1 فهذا وإن كان في العبد فإنه يستعمل في الأمة وقد يقال للأمة عبدة وأما إذا لم يكن لفظ الشارع مشعرا في وضع اللسان بما ألحق به فهو قياس معنى وقد يكون مفضيا إلى العلم مثل قياس عرق الكلب بلعابه في التعبد برعاية العدد والتعفير فأما إذا زال العلم وكان الظن هو المستفاد ولم يفسد عند السبر والعرض على الأصول فإن لم يفد غلبة الظن فهو الطرد المردود عند المحققين والإشتباه بين طرفى قياس المعنى والطرد فالذى لاح من كلام الشافعى رحمه الله أن أقرب الرتب من المرتبة المعنوية إلحاق الزبيب بالتمر في الربا وأبعد منه قليلا بحيث لا يخرج من المرتبة إلحاق الأرز بالحنطة والذرة بالشعير. ثم يلى هذه المرتبة إلحاق الوضوء بالتيمم في النية ولهذا قال الشافعي مستبعدا طهارتان فكيف يفترقان قال ونحن نقول في هذا: إن كل شبه كلى يعتضد بمعنى فهو بالغ في فنه2 وذلك إذا كان المعنى لا يستقل بنفسه مخيلا مناسبا وبيان ذلك بما وقع المثال به أن التيمم ليس فيه غرض ناجز وقد بينا من كلى الشريعة أنها مبتنية على استصلاح العباد فإذا لم يلح صلاح ناجز ظهر من المآخذ الكلية أنها صلاح في العقبى وهو التعرض للثواب ولا سبيل إليه إلا بقصد التقرب فإذا وجدنا الطهارة كذلك متفقا عليه. ثم كان المختلف فيه غير معقول المعنى ظهر وقع الشبه في الافتقار إلى النية المحصلة لغرض العقبى فليجعل الناظر هذا معتبرا في المرتبة الأولى من الأشباه المظنونة   1 أخرجه البخاري: العتق "5/179" ح "2522" ومسلم: العتق "2/1139" ح "1/1501". 2 لم نستطع قراءتها إلا هكذا ولعل هذا هو الصواب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 249 ولم يبلغ مرتبة العلم للاختلاف الواقع بين الطهارتين في أحكام وشرائط قال: وإلحاق المطعومات التي لا تقدر بكيل ولا وزن طريقة الشبه عندنا فإن مسالك الإخالات مفسدة فلا يبقى إلا التشبيه ثم سبيل هذا التشبيه النظر إلى مقصود المنصوص عليه وقد لاح أن المقصود هو الطعم وبطل اعتبار الفوت لمكان الملح وسقط اعتبار القدر لأنه في الجنسين والجنس الواحد على وتيره واحدة والحكم مختلف فلاح النظر إلى المقصود وأنه العلة وهذا مع الاعتراف أنه غير مستند إلى معنى معقول وهذا ينحط عما يتعلق بغرض في العقبى كما ذكرناه في القسم الأول ولولا ما ثبت عندنا من الاضطرار إلى تعليل المنصوصات في الربا لما لاح لنا فيها معنى ولا شبه ولكن إذا اضطررنا إليه لإجماع القائسين وجدنا اتباع المقصود أقرب مسلك وهذا واقع في المرتبة الثانية. واعلم أن الذى قاله هذا القائل ليس على ما ظنه في هذه المسائل وليس على ما رتبه أما إلحاق الأمة بالعبد في مسألة العتق وإلحاق العبد بالأمة في الحد المنصف عن الحر فقد سبق الكلام في ذلك فلا معنى للإعادة. وأما مسألة النية في الوضوء ومسألة الربا فليس الأمر على ما زعمه في المسألتين أما النية في الوضوء فليس وجوبها بالجهة التي ظنها من فضل التقرب به إلى الله تعالى لأن تخفيف التقرب إلى الله تعالى وهو لا يثبت مستقلا بنفسه يبعد جدا وإنما الوضوء محض تعبد وسبيل التعبد أن ينظر فيه إلى الحد الذى ورد الشرع فيه فلا يتجاوز عنه والشرع أمرنا بالوضوء للصلاة لقوله تعالى {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6] يعنى فاغسلوا للصلاة مثل قول القائل: إذا جاء الشتاء فتأهب أى للشتاء وإذا قدم فلان فاستعد إلى قدومه فعندنا يجب الوضوء للصلاة وهذا هو معنى قولنا: إن النية واجبة فيها إلا أن الدليل قد قام أن الوضوء لفعل لا يستباح إلا بالوضوء ينزل منزلة الوضوء للصلاة وإذا ثبت ما قلنا: عرف محل الخلاف فعندهم التيمم يجب للصلاة والوضوء لا يجب للصلاة وفرقوا بما عرف وهو أن الماء مفيد للطهارة بطبعه لأنه خلق لذلك فإذا استعمل أفادها بذاته ولم يفتقر إلى إرادة الصلاة وأما التيمم فلا يفيد الطهارة بذاته لأنه لم يخلق لذلك وإنما يفيدها بالشرع والشرع جاء بكونه مفيدا للطهارة إذا أراد به الصلاة فهذا فرق القوم. وأما عندنا قالوا: طهارة شرعية لا حسية. ألا ترى: أنها تجب في موضع ليس فيه تطهير المحل من شئ محسوس وإذا كان طهارة شرعية فيتبع مورد الشرع والشرع يأمر به للصلاة فتكون طهارة شرعية إذا أريد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 250 به الصلاة وإذا لم يرد به الصلاة لا يكون طهارة أصلا بمثل ما سلموا في التيمم ومن نظر في هذا عرف أنه المعنى الصحيح والدليل المعتمد وأما ما سواه فليس فيه طائل وأما مسألة علة الربا فليس الأمر على ما زعم أنه ليس فيه معنى مخيل مؤثر يدل على حكم النص والكلام في مسألة علة الربا لا يمكن إلا بعد معرفة النص فإن1 التعليل له فعندنا حكم النص تحريم بيع المطعوم بجنسه غير متساويين في معيار الشرع والتحريم أصل والإباحة تعارض دليلا وهو المماثلة في معيار الشرع وعلة الطعم مخيلة في الحكم الثابت بالنص لأنه مشعر بشرف المحل لما تعلق به من القوام وشرف المحل مؤثر في التحريم لأنه لما تعلق به القوام والبيع ابتذال جعل الأصل فيه الحظر ليظهر شرف ما تعلق به من القوام وليكون مبقيا مصونا عند مالكه فيستعمله في قوام حياته في وقته وهذا كالإيضاح فإن الأصل فيها الحرمة لأن قوام النسل بها فجعل الشرع أصلها على الحرمة وصانها عن الابتذال والامتهان ثم أباحها بعارض دليل وهذا أصل كبير وعليه أسئلة للمخالفين أجبنا عن ذلك في كتبنا وإنما أشرنا إلى هذا القدر في هذا الموضع ليعلم بطلان قول من زعم: أنه ليس فيه معنى مخيل وأما كون الطعم مقصودا في المحل فليس يشعر بتحريم العقد. ألا ترى: أن من علق الإباحة بهذا الوصف يكون مثل من علق التحريم به في أن الوصف لا يدل على واحد منهما والشبه يعود مثل هذه المسألة التي أجمع القائسون على الخصوص فيها بالتعليل بترك ذلك خالية على المعنى الذى يدل على الحكم فالمعنى موجود لكن العاثر عليه يعز نعم يجوز أن يجعل كون الطعم مقصودا في المحل أولى من الكيل لكن ليس الكلام في الترجيح لأنه لابد أولا من تصحيح العلة ثم إذا عارضها علة يطلب من المعلل تصحيحها فإذا صحت فحينئذ يصار إلى الترجيح فأما أن يبدءوا أولا في كلامه بإظهار الترجيح ويشتغل به فليس هذا من دأب أهل المعانى في شئ وإن اشتغل بإبطال علة الخصم فلا يصح علته بهذا أيضا وقد سبق بيانه وعلى أن الخصم يقول ليس حكم النص عندي ما قلتم إنما حكم النص وجوب المماثلة وربما يقول حرمة الفضل قدرا وعلى اللفظ الأول معولهم قالوا: والمؤثر في المماثلة بالكيل والجنس ولهم في هذا كلام طويل عريض والذى قال: إن النبى صلى الله عليه وسلم أباح الفضل عند اختلاف الجنس ويوجد الكيل والوزن عند اختلاف الجنس واتفاقه على وتيرة واحدة فهم يزعمون   1 هكذا في الأصل [فأما] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 أن الجنس مؤثر في إثبات المماثلة التي هى حكم النص مثل تأثير الكيل وذلك لا يوجد عند اختلافه وعلى أن هذا الكلام إن صلح إنما يصلح للترجيح وقد بينا أن الكلام فيه باطل إلا بعد أن يقوم المعلل بتصحيح العلة ويعارض أيضا بعلة صحيحة ثم حينئذ يكون الكلام في الترجيح فليفهم الفقيه كل ما أشرنا إليه وليكن معوله عليه وتمسكه به وليعض عليه بناجذه فإنه من الأعلاق النفسية وقلما يظفر به بمثله وقد قال الصاحب في بعض ما نقل عن رسائله: وإذا كان الذهب بناقده فما أعزه صير في الكلام مضى هذا ورجعنا إلى نقل كلام من كافأ نقل كلامه قال: ومن أبواب التشبيه ما يتعارض فيه المعنى والشبه على التناقض كالتردد وهو في أن قيمة العبد هل تضرب على العاقلة أو لا فالذى يقتضيه القياس المعنوى عدم الضرب والذى يقتضيه الشبه الضرب اعتبارا بالحر ومما يلحق بهذا القول في تقرير أروش أطراف العبيد بالسبب الذى يقدر به أطراف الأحرار فالذى يقتضيه القياس المعنوى نفى التقدير واعتباره ينقص من القيمة نظرا إلى المملوكات وهذا مذهب ابن سريج والرأى الظاهر للشافعى رحمه الله أنها تتقدر معتمدة الشبه وهذا أولى من الأول لأن الشارع أثبت للحر بدلا حتى لا يهدر إذا قتل خطأ ثم قاس أطرافه بجملته بمعاني لا تنتهى أفهام المستنبطين إلى ضبطها وكان من الممكن أن لا تقدر أروش أطراف الحر فإنا وجدنا في جراحات الأحرار حكومات غير مقدرة فلو اقتضى شرف الحر تقدير ديته فهذا لا يطرد في أطرافه فلما تأصل في الطرف تقدير وطرف العبد من العبد كطرف الحر من الحر اعتبر به ولم يلتفت إلى خروج قيمة العبد عن التقدير وعلى هذا خرج أطراف البهائم لأنا لم نتحقق فيها أنها تقع من البهائم مواضع أطراف الأحرار من الأحرار فأما في العبد علمنا قطعا أن أطراف العبيد من العبيد مثل أطراف الأحرار من الأحرار وفقا ومنفعة. قال: وأما ضرب القيمة على العاقلة فالأولى في ذلك سلوك المعنى وأن لا تضرب على العاقلة لبعد تحميل العاقلة عن مدارك العقول فلا جرم أن يكون الضرب على العاقلة في حق الأحرار خاصة. قال: ومما يعده الفطن فزعا من هذا إلحاق القليل من الدية بالكثير في الضرب على العاقلة ونحن نرى ذلك في المسألة الأعلى من جهة الشبه ومن جهة أن أصل الضرب ثابت وهو جرى في القليل عند كثرة الشركاء جريانه في الكثير وليس هذا مبتنيا على صرف الإجحاف والإضرار عن المحمول عنه فإن الدية محمولة عن الموسرين مثل حملها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 252 عن الفقراء وكان الضرب ثابتا في الشرع مسترسلا على الأقدار من غير اعتبار مقدار والذى قاله هذا القائل في الفصل لا بأس به ويجوز أن يعول عليه وهو كلام الأصحاب وقد قرره وأحسن تقريره وأورده بألفاظ حية فليؤخذ بها ثم ذكر في آخر كلامه سؤالا فأجاب عنه والسؤال. فإن قيل: إذا تعلق المتعلق بوجه شبه ونوقش فيه فكيف وجه تقريره فإن قال: المتعلق بالشبه أنه يفيد غلبة الظن ونوزع فيه كيف يبين وجه وجود غلبة الظن أجاب عن هذا السؤال وقال: لاشك أن غلبة الظن لا تحصل إلا مستندة إلى سبب يقتضيها ولابد من ذكره وبه يتميز الشبه من الطرد فالشبه مستند إلى مأخذين هما الأصل وبعدهما أمر ثالث ينبه عليه: فأحدهما: جريانها على مقتضى الشبه وهذا كإلحاق اليسير بالكثير في الضرب على العاقلة والمستند فيه ضرب حصة الشركاء مع تناهيها في القلة وينضم إليه بطلان اعتبار المواساة المشروعة بسبب خيفة الإجحاف فيخرج بما ذكرناه أن ضرب العقل لا ينتهى إلى توقيف في قلة ولا كثرة وليس هذا المعنى مخيل مناسب ولكنه متلقى من أصل الوضع بالمسلك الذى ذكرناه. والوجه الثانى: وهو الذى يدور عليه معظم الأشباه وهو أن يثبت معنى على الجملة في قصد الشارع ولا يدخل في الإمكان ضبطه بعبارة وهذا كعلمنا بأن الشارع قد أرش أكثر بنصف الدية بنسبة لها مخصوصة من الجملة فهذا مما نعلمه ونطلع عليه على الوجه الذى لأجله قدر النفس لهذا التقدير غير معلوم وإذا تمهد هذا كان اعتبار يعد العبد يد الحر شبها صحيحا فإن عنائد1 العبد من جملته كعنائد الحر من جملته فالشبه في هذا راجع إلى معنى معلوم من قصد الشارع ولكن لا سبيل إلى التنصيص عليه وإذا اتجه هذا النوع كان بالغا جدا مقدما. قال: وأما الأمر الثالث: فهو اعتبار المقصود وهذا لا استقلال له إلا أن تضطر إلى التمسك بعلة للمنصوص عليه ومثال ذلك الأشياء الستة في الربا فلو هجم ناظر عليها ولم يتقدر عنده وجوب طلب علة أو علم للحكم لم يعثر على فقه قط ولا شبه. فإن قيل: الفقه مناسب حاز مطرد سليم على السبر والشبه يتلقى من أمثله أو تخيل معنى جمل والرأى لا يقضى بواحد منهما في نصب الطعم علما ولكن إذا ثبت طلب العلم وانحسم المعنى المستور والمجمل فلا وجه إلا أن يقال إذا لم يثبت الحكم لأعيان هذه   1 حمع عند وهو العرق إذا سال. انظر القاموس المحيط "1/315". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 الأشياء ثبت لمعانيها ومعانيها هى المقصودة منها ثم ينصب على ذلك شاهدان أحدهما من قبل التمثيل وهو اختلاف الحكم باتحاد الجنس واختلافه والمقصود في الجنسين مختلف والكيل على وتيرة واحدة فدل هذا أن المقصود هو العلم على الحكم والشاهد الثانى قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا مثلا بمثل" 1 فهذا معاندة الأشباه وإذا عرف هذا فلا حاجة إلى تكلف التمييز بينهما وبين الطرد. واعلم أنا تكلمنا من قبل على فصل الشبه وبينا الموضع الذى يكون حجة فيه فليعتمد على ذلك وإذا قرر على هذا الوجه الذى بيناه فعلى القطع2 نعلم وجود قوة الظن وأما رجوعه إلى مسألة الربا فلا أرى لذلك وجها وجعل الطعم علة بمجرد كونه مقصودا في المحل لا وجه له بحال اللهم إلا أن يقول هذا القائل: إن الطعم ليس بعلة لكنه علم منصوب على الحكم ويقال له من نصبه؟ وما الدليل على نصبه في هذا الحكم؟ وما الفصل بينه وبين من يقول: إنه منصوب على ضد هذا الحكم؟ إذ ليس من المناسبة في التحريم ما ليس له ذلك في التحليل وأما اختلاف الجنس لا يدل أن العلة هى الطعم وإنما يقول الخصم: إن الجنس مؤثر مثل الكيل في الحكم المنصوب له العلة فإذا عدم فات الحكم وأما عندنا فنحن نقول: إن الطعم علة مؤثرة بالوجه الذى بينا إلا أنه أباح الفضل عند اختلاف الجنس ووجود الطعم لأن الطعم عندنا علة والجنس محل أو شرط بالشرع والعلل يطلب تأثيرها فأما الشرط فلا يطلب له تأثير بدليل سائر الشروط فصار الطعم مؤثرا لأنه علة والجنس شرطا شرعيا غير مؤثر لأنه شرط محض وليس بعلة ولهذا قلنا لا يحرم النساء بانفراده لأن الشرط بانفراده لا عمل له قال هذا القائل: ونحن نختم هذا الفصل بمسألة يتعارض فيها شبهان فنقول اختلف العلماء في أن العبد هل يملك؟ 3 ومأخذ الكلام فيه من طريق الشبه وأما من يقول إنه يملك فيشبهه بالحر فإن العبد خلق آدميا مختارا طلوبا لما يصلحه دفوعا لما يضره لبيبا أريبا فطنا وهو في هذا كالحر فهذا شبه خلقى غير عائد إلى الصور وإنما هو راجع إلى المعانى التي يتهيئ بها الإنسان لمطالبة ومأربه وأما من منع كونه مالكا شبهه بالبهائم من جهة أنه مسلوب   1 تقدم تخريجه. 2 ثبت في الأصل هكذا "العع" ليس لها معنى ولعل الصواب ما أثبتناه. 3 اعلم أن العبد لا يمكلك شيئا إذا لم يملكه سيده في قول عامة أهل العلم وقال أهل الظاهر: يملك انظر المغنى "4/256". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 القصد والاختيار مستوعب المنافع باختيار مالكه حتى كأنه لا اختيار له والتعلق بهذه الأشياء أقرب فإن القائل الأول تمسك بالأمور الخلقية ومن منع من الملك تمسك بمأخذ الأحكام وكان هذا القول أقرب وأصوب فإن الرق حكم غير واجب إلى صفات حقيقية خلقية فإن حاصلة سقوط استبداد شخص في أمور نفسه وتهيؤه لتصرف غيره وهذا يناقض صفات المالكين فإن حكم المالك الاستقلال ثم أقام الشرع طالبا للملوك فيما يسد حاجته ويكفى مؤنته والحاجة التي لا يتصور الكفاية فيها أثبتها الشرع للمملوك بإذن مالكه وهو حق المتمتع في النكاح فإن قيل: السيد إذا ملك عبده فالحق لا يعدوهما فإن كان استغراق السيد لحقه يمنعه من صفة المالكين فإذا ملكه المولى وجب أن يملك قلنا: التمليك لم يخرجه عن كونه مملوكا محتكما فلا يجتمع معه الملك وهذا لأنه مملوك في نفسه فلا يكون مالكا وأما إذا ثبت للسيد حق استقلال بأن كاتبه فيتصور له ملك على حسب ما يليق به على ما عرف. واعلم أن المعتمد في نفى ملك العبد كونه مملوكا ولو كان أهل الملك لكان أول ما يظهر فيه الأهلية ملكه نفسه ولو ملك نفسه عتق فصار الملك مضادا لثبوت الملك فهذه وجوه نفى الملك له. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 فصل: سؤال المطالبة ... "فصل" ثم ذكر سؤال المطالبة وجوابه عنها على ما عرف من الجدليين ونحن قد ذكرنا من قبل وبينا وجه الجواب وذكر الترجيحات وقد سبق وجوه ذلك وذكر العلة القاصرة مع العلة المتعدية إذا تعارضتا قال: وحاصل ما قيل ثلاثة مذاهب: أحدهما: وهو اختيار الأستاذ أبى إسحاق ترجيح العلة القاصرة. والثانى: وهو المشهور ترجيح العلة المتعدية. والثالث وهو اختيار القاضى أبى بكر: أن إحديهما لا تترجح على الأخرى بالقصور ولا بالتعدى1. قال: وهذا إنما يرد إذا لم نر تعليل الأصل بعلتين أصلا وإذا اتفق القائسون أن الصحيحة إحداهما ولا يجوز تعليقه بهما جميعا وأما الذى رجح المتعدية فكلامه ظاهر   1 سبق تخريج هذه المسألة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 وهو أن العلل تزاد لفوائدها والفائدة للمتعدية لأن النص يغنى عن القاصرة فليكن التمسك بالمتعدية أولى وأما من رجح القاصرة قال: لأنها متأيده بالنص وصاحبها أمن من الزلل في الحكم العلة فإذا دل الدليل على صحة العلل حينئذ تطلب الفوائد قال: والترجيح بحكم للعلة بعيد والترجيح الحقيقى يكون بما ينشأ من مثار الدليل عليها لأنه يفيد زيادة قوة الظن فأما الترجيح بالنظر إلى الفوائد فلا وجه له لأنه ليس مما يرجع إلى زيادة قوة الظن. وقد قيل: إن هذه المسألة تقديرية وهى غير واقعة في الشرعيات فإن قال قائل: أن أبا حنيفة قد علل الربا في التقدير بالوزن وهو معتد إلى كل موزون وعلل الشافعى بكونهما جوهرى النقدين وهذا مقتصر على محل النص فما قولكم في ذلك قلنا علة الوزن باطلة عند الشافعى كبطلان علة الكيل وعلة الثمنية صحيحة وقد قام الدليل عليها والترجيح إنما يكون بعد أن تصح العلتان جميعا بقيام الدليل عليهما. فإن قيل علة الشافعي في تثبيت الخيار للمعتقة تحت العبد قاصرة وقد قدم ثبوتها1 على العلة المتعدية لأبى حنيفة قلنا هذا باطل من أوجه: منها: أن ما اعتمده أصحاب أبى حنيفة من تعليل الخيار باطل في نفسه فلا ينتهى القول إلى مقام الترجيح. ومنها: أن الرأى الظاهر أن لا يعلل خيار المعتقة تحت العبد كما حققنا في الفروع ومنها أن من يثبت الخيار للمعتقة تحت الحر يزعم أن قصة بريرة كانت واقعة والزوج حر فيكون الأصل على هذا ما ورد فيه النص ويكون غيره فرعا فكيف يعلل الأصل ويقاس على الفرع حتى يقال إنها متعدية أو غير متعدية؟ واعلم أنا أما التقطنا كلمات له في هذه المسألة ولم نحكمها على الوجه. وعندي أن المتعدية والقاصرة سواء بعد أن يقوم الدليل على صحتها وإن طلب الترجيح بوجه آخر. وأما مسألة خيار المعتقة فقد ذكرنا في كتابى "النكاح" أن النكاح وقع لازما وقد استبرأ قبل لزومه على اختلاف التارات والحالات ولا دليل يدل على ثبوت الخيار عند العتق وأبطلنا ما يزعمونه من الدليل وإذا بطل ذلك بقى النكاح لازما على ما وقع لأن الباقى بعد الثبوت هو الثابت ابتداء فإذا ثبت لازما بقى لازما وذكر فصلا آخر فيما يرجع إلى الترجيح قال: وإذا تعارض قياسان واعتضد أحدهما بمذهب صحابي فمن يقول: إن   1 ثبت في الأصل هكذا "متهوها" ولعل الصةواب ما أثبتناه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 مذهب الصحابى حجة عد هذا من انضمام دليل إلى أحد القياسين وهذا يقتضى تقديم المذهب الذى يدل عليه القياس ويدل عليه قول الصحابى ويقع الكلام في أن هذا هل يسمى ترجيحا أو لا؟ وإذا كنا لا نرى التعلق بمذهب الصحابى فلا أثر له في الترجيح وقوله كقول بعض علماء التابعين ومن بعدهم وإن لم يكن قوله بانفراده حجة لكن إذا انضم قوله إلى القياس وقد شهد النص بمؤيد علم في هذا الفن الذى نصب فيه القياس أفاد انضمامه زيادة قوة في الظن قال الشافعى: قول زيد أرجح من قول معاد رضى الله عنهما وإن كان قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعلمكم بالحلال والحرام معاذ" 1 وذلك لأن شهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد أخص في الفرائض وأدل على اختصاصه بمزيد الدرك فيها وكذلك مذهب زيد مع انضمام قياس إليه أرجح من مذهب على مع انضمام قياس إليه وإن كان قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أقضاكم علي" 2 وهذا أبين مما قدمناه في معاذ فإن شهادة الشارع له بمزية البصيرة في القضاء يشير إلى التفطن لقطع المشاجرات وفصل الخصومات والتهدى إلى تمييز المحق من المبطل والشهادة بمزية العلم في الحلال والحرام وقع في مض الاجتهاد والشهادة بمزية العلم في الفرائض أخص من الجميع فهذه إذا ثلاث مراتب وإذا لم يكن في الواقعة قياس واجتمعت هذه المذاهب الثلاث فالقول في تقليد من يقلده يأتي في غير هذا الموضع. فإن قيل: إذا اعتضد أحد المذهبين بقول أبى بكر وعمر رضى الله عنهما فما قولكم فيه؟ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقتدوا باللذين من بعدى أبى بكر وعمر -رضي الله عنهما-"3 قلنا هذا عندنا اعم من الشهادة لعلى بمزيد في العلم في القضاء فإنا نجوز أن النبى صلى الله عليه وسلم أشار بهذه على الاستحثاث على اتباعهما في الخلافة وإبداء الطاعة فإذا انضم إلى المراتب الثلاث في الشهادات الصحيحة مرتبة رابعة فأولاها بالتعلق أخصها وهى الشهادة لزيد ويليها الشهادة لمعاذ ثم تلى الشهادة لمعاذ الشهادة لعلى ثم يلى ما ذكرناه ما ذكر صلى الله عليه وسلم في أمر أبى بكر وعمر رضى الله عنهما ثم قال الشافعى: قول علي في الأقضية كقول زيد في الفرائض وقول معاذ فى   1 أخرجه الترمذي: المناقب "5/664" ح "3790" وقال حسن غريب وابن ماجه: المقدمة "1/55" ح "154" وأحمد: المسند "3/266" ح "12909". 2 تقدم تخريجه انظر الحديث السابق. 3 أخرجه الترمذي: المناقب "5/609" ح "3662" وقال: هذا حديث حسن وابن ماجه: المقدمة "1/37" ح "97" وأحمد: المسند "5/447" ح "23307". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 التحليل والتحريم إذا لم يتعلق بالفرائض كقول زيد في الفرائض فهذا الذي وجد من زيادة فائدة فيما نقله في أصوله وأما سائر ما نرجح به العلل قد ذكرنا الكلام فيه ثم أعلم أنه قل ما يوجد علتان متعارضتان وقد قام الدليل على صحتهما ثم يصار إلى الترجيح في ذلك بل أكثر الكلام إنما يقع في طلب التأثير الذى به تصح العلة فإن اتفق ما قلناه من تعارض العلتين وقد قام الدليل على صحتهما ووقعت الحاجة إلى الترجيح فالوجه ما قدمنا وحين فرغنا من هذا نذكر الكلام بعد هذا في التعلق بالاستدلال ونبين عند ذلك الفرق بينه وبين التعليل وبين قرينه كل واحد منهما ووجه ترجيح أحدهما على صاحبه ثم نذكر بعده الكلام في السبب والشرط والفرق بين العلة وبينهما وهذان الفصلان أعنى الكلام في الاستدلال والكلام في السبب والشرط ومعرفة الفرق بينهما وبين العلة مما يجب الاهتمام بذلك لكثرة ما تقع الحاجة إليه في المسائل وسنذكر ذلك جميعه بعون الله تعالى وتوفيقه ونبرأ إلى الله عز وجل من حولنا وقوتنا ونعتصم ونلوذ بحوله وقوته فإن الكل منه وبه وإليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 القول في الاستدلال قد ذكرنا أن الاستدلال طلب الحكم بالاستدلال بمعانى النصوص وقيل: أنه استخراج الحق وتمييزه من الباطل ذكرهما أبو الحسن الماوردى وقيل: إنه معنى مشعر بالحكم المطلوب مناسب له فيما يقتضيه الفكر العقلى من غير وجدان أصل متفق عليه1. واختلفوا في هذا فذهب جماعة إلى رد الاستدلال وقالوا: لا يجوز أن يكون المعنى دليلا حتى يستند إلى أصل وذكره القاضى أبى بكر وجماعة من المتكلمين وأما الذى يدل عليه مذهب الشافعى رحمة الله عليه هو كون الاستدلال حجة وإن لم يستند إلى أصل ولكن من شرط قربه من معانى الأصول المعهودة المألوفة في الشرع وقد ذهب طائفة من أصحاب أبى حنيفة إلى جواز الاستدلال وإن لم يستند إلى حكم متفق عليه في أصل وشرح ذلك أن يكون الثابت مصالح شبيه بالمصالح الثابته في أصول الشرع غير خارجة عنها وأفرط مالك في جواز القول بالاستدلال2 وجوز مصالح بعيدة عن المصالح المعهودة والأحكام المعروفة في الشرع وحكى عنه جواز القتل وأخذ المال بمصالح يقتضيها غالب الظن وإن لم يوجد لتلك المصالح مستندا إلى أصول وربما يقول أصحاب مالك يجوز اتباع وجوه المصالح والاستصواب قربت عن موارد النصوص أو بعدت إذا لم يصدمها أصل من الأصول الثلاثة الكتاب والسنة والإجماع واحتج من نفى الاستدلال على وجه القياس بأن الدلائل محصورة بالكتاب والسنة وإجماع الأمة والقياس على أحدها والاستدلال الذى يذكرونه خارج عن هذه الأقسام ومن هذه الدلائل أجمع قد يصح أن يكون دليلا قال القاضى أبو بكر: إن المعانى إذا حصرتها الأصول وضبطتها المنصوصات كانت منحصرة في ضبط الشرع وإذا لم يشترط استنادها إلى الأصول لم تنضبط واتسع الأمر وصار الشرع مرجوعه إلى وجود الرأى من الناس من غير اعتماد واستناد إلى أصل شرعى فيرى كل إنسان وجها ويعتمد شيئا سوى ما يراه ويعتمد صاحبه ويصير إذا أهل الرأى في هذا بمنزلة الأشياء فيفعل كل إنسان ما يراه ويعتقده صلاحا في المعنى الذى سنح له فيصير ذلك ذريعة إلى أبطال أبهة الشروع   1 انظر البرهان "2/1113" إحكام الأحكام "2/161". 2 انظر البرهان "2/1113, 1114". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 ورونقها ويذهب طراوتها وبهاؤها وينسكب ماؤها ثم مع ذلك يختلف ما يرونه من الاستصلاح والاستصوابات بالمكان والزمان وأصناف الخلق فتختلف أحكام الله تعالى نهاية الاختلاف ويكون حكم الله تعالى اليوم خلاف ما كان عليه أمس وحكم الإنسان خلاف حكم جاره وشريكه وهذا أمر يخالف ما عهد عليه قوانين الشرع وما درج عليه الأولون من هذه الأمة وما أرى القول به إلى مثل هذا فهو باطل وهذا لأن ما لا أصل في الشرع فهو في نفسه ما لا أصل له وأيضا يقولون إن معاذا رضى الله عنه لم يذكر إلا الكتاب والسنة والقياس فدل أن ما سوى ذلك باطل وأما دليل مثبتى الاستدلال هو أنا نعلم قطعا أنه لا يجوز أن يخلو حادث عن حكم الله تعالى منسوب إلى شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. ببينة: أنه لم يرو عن السلف الماضين أنهم أغروا وأخلوا واقعة عن بيان حكم فيها لله تعالى وتقدس ونحن نعلم كثرة الفتاوى وازدحام الأحكام الأحكام وقد استرسلوا في بث الأحكام استرسال واثق بانبساطها على جميع الوقائع وقد قصدوا لإثباتها فيما وقع وتشوفوا في إثباتها فيما سيقع ولا يخفى على منصف أنهم ما كانوا يفتون فتوى من تقسيم الوقائع عنده إلى ما يغري عن حكم وإلى ما لا يغغرى عنه وإذا عرفنا هذا فنقول لو انحصرت مآخذ الأحكام في المنصوصات والمعانى المستشارة منها لما وسع القياس لكل ذلك فإنا نعلم أن المنصوصات معانيها لا تنسحب على كل المعانى ولو لم يتمسك الماضون بمعانى وقائع لم تعهد وأمثالها لكان يزيد وقوفهم في الأحكام على فتاويهم وجريانهم فيها قال الشافعى رحمه الله: من سير أحوال الصحابة - رضي الله عنهم - وهم الأسوة والقدرة لم ير لواحد منهم تمهيد قياس على ما يفعله القياسيون بل كانوا يخوضون في وجوه الرأى من غير التفات إلى الأصول كانت أو لم تكن فثبت بمجمع ما ذكرناه صحة القول بالاستدلال ومما يدل على صحة ما ذكره الشافعى رحمة الله عليه وتمسك به أنه إذا استندت المعانى إلى الأصول فالتمسك بها جائز وليست النصوص وأحكامها حججا وإنما الحجة في المعنى وأعيان المعنى ليست منصوصة وهى المتعلق بها بل نقطع بمحض خروج المعانى عن ضبط النصوص فدل أن المعانى حجة كافية ولو راعينا ردها إلى الأصول تنصرف الأصول عن كثير من المعانى ومن يتتبع كلام الشافعى لم يره متعلقا بأصل ولكنه يبنى الكلام في الأحكام على المعانى المرسلة فإن عدمها حينئذ شبه بالأصول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 عليه فيما قلناه ولو قال قائل: لم يصح عن أحد من السلف استعمال القياس على ما يعتاده أبناء الزمان من تمثل أصل واستتاره معنى فيه وربط فرع به كان ذلك حقا وصوابا. فأما الكلام الثانى الذى قاله وزعمه أن القول بهذا يؤدى إلى خروج الأمر عن الضبط وانحلال أمر الشرع ورد الأحكام إلى أرآء الرجال فهذا لا يلزمنا لأنا نعتبر وجود معنى لا يدفعه أصل من أصول الشرع من كتاب أو سنة أو إجماع والجملة أنه يعتبر وجود معنى يناسب الحكم الذى يبنيه عليه من غير أن يدفعه أصل من كتاب أو سنة أو إجماع وقد قال بعض أصحابنا في العبارة: عن هذا إنه قد ثبتت أصول معللة اتفق القائسون على عللها فقال الشافعى رحمه الله: نتخذ تلك العلل معتصما ويجعل الاستدلال قريبا منها وإن لم تكن أعيانها حتى كأنها مثلا أصول والاستدلالات معتبرة بها واعتبار المعنى بالمعنى تقريبا أولى من اعتبار صورة بصورة لمعنى جامع فإذا قرب معنى المجتهد والمستدل فيما يجتهد إلى الشرع ولم يرده [إلى] 1 أصل كان استدلالا مقبولا مثاله أن الرجعية المحرمة الوطء عند الشافعي رحمه الله عليه مباحة الوطء عند أبى حنيفة واستدل الشافعى بأنها متربصة الرحم وتسليط الزوج على شغل رحمها في الزمان الذى تؤثر فيه بالتبرئة متناقض ثم هذا يعتضد تبرئة بأن الزوج لو اعتزل امرأته قبل الطلاق مدة العدة. ثم طلقها لم يعتد بما كان منها عدة ولو كانت تحل قبل الطلاق وبعد الطلاق لما كان لاختصاص العدة بما يعد الطلاق معنى وهذا نوع استدلال ضمنى مستخرج من العدة ولم يطلب الشافعى لهذا أصلا يقيس عليه وذكر بعض متأخرى الأصحاب في هذا كلاما طويلا لم أر في حكايته فائدة فتركته وقد ترد المسألة من أولها إلى آخرها إلا القليل على طريقة المشايخ. وأما نحن فعلى طريقة المحققين لا نرى الاعتماد على العدة وإن كان هو متعلقا حسنا من حيث الحكم وأقل غائلة في هذا التعليق على أصل الخصم أنه لا يجتمع العدة وشغل الرحم من الزوج فإنه قد صار مراجعا بالوطء ولهم على العدة كلام واقع على ما ذكرناه في الخلافيات وإنما المعتمد عندنا وقوع الطلاق وهويصرف فأجر عمله الإسقاط والإزالة فلابد أن يزيل شيئا وليس ذلك إلا ملك الحل وقد بينا وجه الاعتماد على هذا ومشيئة وقد أورد بعض أصحابنا أمثلة الاستدلال سوى هذا.   1 زيادة ليست في الأصل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 وقال: مثال الاستدلال ما قال أصحابنا: إن الخارج من غير السبيلين ليس بحدث1 لأنه لو كان حدثا لاستوى قليله وكثيره وحكمه وكذلك قالوا: لو كانت القهقهة حدثا ينقض الطهارة لاتفق في ذلك حال الصلاة وحال غير الصلاة. ومثال ذلك أيضا ما قالوا في المتيمم إذا رأى الماء: إنه لا يكون رؤية الماء حدثا2 لأنه لو كان رؤية الماء حدثا لم يختلف موجبه في وجوب الغسل تارة والوضوء أخرى ومن ذلك قولهم في توسيع وقت الحج3: إنه لو كان مضيقا لكن المؤخر له عن عام وجوبه إذا أتى بعد ذلك يكون قاضيا لا مؤديا فلما كان مؤديا دل أنه موسع الوقت ومن ذلك أيضا ما قاله الشافعى: إنه لو كان اللعان شهادة لكان حكمه كيت وكيت على ما عرف. ومنها ما استدل به الشافعى على إبطال علة الوزن. فقال: العلة الموجبة لتحريم التفاضل لو كان هو الوزن ما جاز إسلام الذهب والورق في سائر الموروثات على ما هو المعروف. وعندي أن هذا كله قياس لاعتبار شئ بشئ بمعنى مستخرج. ويجوز أن يقال: إنه قياس من حيث المعنى لا من حيث الصورة والدليل على أنه لم يخرج من قسم القياس أنه استند في كونه دليلا إلى غيره وما استند إلى غيره واعتبر به فلابد أن يكون غير خارج من قسم القياس. ويجوز أن يقال: إنه نوع بحث يثير حكما شرعيا. وقد قالوا: إنه يجوز أن يوجد في الأحكام الشرعية ما لا أصل له بعينه وذلك نحو العمل القليل في الصلاة وما شاكله وذلك لأن الدليل لما دل أن كثير العمل يفسد الصلاة وأن قليله لا يفسدها ولم يثبت   1 فمذهب الشافعية أن الوضوء لا ينقص بالخارج من غير السبيلين انظر روضة الطالبين "1/72". 2 مذهب الشافعية إذا كان لعدم الماء أو الخوف في تحصيله أو الحاجة إليه فيبطل بتوهم القدرة على الماء قبل الدخول في الصلاة إذا لم يقارن التوهم مانع من القدرة فإذا قارنه مانع لم يبطل انظر روضة الطالبين "1/115". 3 فمذهب الشافعية أن الحج واجب على التراخي وقال أبو حنيفة ومالك في المشهور عنه وأحمد في أظهر الروايتين: إنه يجب على الفور ولا يؤخر إذا وجب انظر رحمة الأمة فياختلاف الأئمة "208". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 262 بالنص القدر الذى يفسد والقدر الذى لا يفسد وجب الرجوع إلى الاجتهاد. وقال بعضهم: إن قدر ما يفسد الصلاة على التقريب ما إذا شاهد المشاهد لم يظن أنه في الصلاة وعلى الجملة فلا شك أن العمل في ذلك على ما ظن المصلى أنه قليل فلا يفسد أو كثير فيفسد وليس ذلك راجع إلى أصل بعينه من أصول الشرع وقد ألحق بعض أصحاب أبى حنيفه بهذا الباب انكشاف ساق المرأة فإنه يقول إذا انكشف ربع الساق فما فوقه فسدت صلاتها وإن كان قد انكشف ما دون الربع لا تفسد وذكروا لهذا التقدير وجها على التقريب وهو أن الناظر إلى ساق المرأة إذا كانت الساق مكشوفة إنما يبصر جانبا منها وللشئ اربعة جوانب فإذا رأى جانبا منها فيكون قد رأى الربع فجرى في هذا مجرى الكل في فساد الصلاة وهذا أيضا شئ قالوه على وجه التقريب من غير أن يستند إلى أصل وعلى هذا من مذهبهم مقادير النجاسات المعفو عنها وقدر ما ينزح من الدلاء من البئر عند وقوع الحيوانات فيها. وقد قدر الشافعى أيضا في المتابعة بين الإمام والمأموم فقال: إذا سبق الإمام المأموم بركن واحد أو ركنين لم تفسد المتابعة وإن سبق بثلاثة أركان فسدت المتابعة1 وهذا تقدير على وجه التقريب ليس له أصل بعينه ولذلك قال في المسافة بين الإمام والمأموم إذا زاد على مائتى ذراع أو ثلاث مائة فسدت المتابعة وفيما دون ذلك لا تفسد وإن كان هذا تقديرا على وجه التقريب غير مستند إلى أصل بعينه وعلى هذا نفقة الموسر والمعسر ينظر في ذلك على حسب العادة فيعرف بذلك الموسر من المعسر ونجرى الحكم على ذلك وهو غير مستند إلى أصل بعينه. وكذلك القول في جهة الكعبة ومقدار ما يعرف أنه على جهة الكعبة أو ليس على جهة الكعبة وكذلك ما يتوصل به إلى معرفة قيم المتلفات وإيجاب قدر القيمة حكم شرعي وقد تعلق بأمارة غير مستندة إلى أصل. وقد قيل: إن الأمارة في هذا عقلية وهى النظر إلى عادات الناس. ألا ترى أن من قوم الثوب بعشرة لو قيل له: لم قومته بذلك يقول: إن عادة الناس أن يبيعوا مثل هذا الثوب بعشرة ويمكن أن يسألوا على هذا فيقال إذا جعلتم الأمارة في هذا عقلية فهلا قلتم: إذا خرق زيد ثوب عمرو يكون الواجب تخريق ثوبه   1 انظر شرح المهذب "2/54". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 263 والجواب عنه: إن زيدا إذا خرق ثوبه يقابل بتخريق ثوب الجاني وقد أضر بنفسه لحين لم يتعرض من ماله التالف بماله ولا يجوز أن يضر الإنسان بنفسه من غير فائدة فإن قال قائل: فائدته التشفى. قيل له التشفى تبع لحسن تحريق ثوب الجانى فإذا لم يحسن التخريق لم يحسن التشفى ذكر هذا السؤال عبد الجبار الهمدانى في العمد وأجاب بما بينا. وعندي إن هذا ليس بشئ لأن السائل يقول: إن التشفى حسن بدليل القصاص فإن اعتبار التشفى فيه قد حسن فليحسن ها هنا وإذا حسن التشفى وجب أن يحسن التخريق ويصير حسن التخريق لثوب الجانى تبعا لحسن التشفى والأولى أن يقال في هذا: إذا لم يجوز تخريق ثوب الجانى لانعقاد الإجماع أنه لا يجوز وإنما فرقنا بين النفس وبين المال بمحض اتباع الشرع وعلى أن الأصل المعلوم في الضمانات الواجبة للآدميين هو أن ينظر لما فيه صيانة حقوقهم عليهم وحفظها. ألا ترى: أن في الأعيان القائمة وجب صيانتها وحفظها على أربابها بوجوب الاحتراز عما يؤدى إلى إهلاكها وإتلافها فإذا تلفت وجب أيضا ضمانها على ما يكون فيه حفظ حقوق الملاك عليهم بقدر الإمكان وذلك بإيجاب المثل في المثليات وإيجاب القيم في غير المثليات فيقوم المثل مقام المثل وتقوم القيمة مقام العين المقومة ويصير كأن المتلف باق لملاكه محفوظ عليهم وكأنه لم يتلف وهذا هو المعنى المعقول في إيجاب الضمان وأما الإتلاف في مقابلة الإتلاف فخارج عن هذا المعنى وفيه تقدير الإهلاك السابق ومقابلة إهلاكه بإهلاك مثله إلا أن الشرع ورد بالقصاص على خلاف هذا الأصل لغرض قائم فيه لا يوجد في الضمان من حيث المال وهو زجر الجناة وإحياء النفوس ومعلوم قطعا أنه يوجد في القصاص من الزجر والردع المؤدى إلى حياة النفوس ما لا يوجد في النفوس فصار القصاص ضمانا شرعيا للنفس لغرض مختص به وصارت الدية ضمانا قياسيا للنفس من حيث إن فيه إيفاء حق صاحب الحق عليه وحفظه له بقدر الإمكان وأن الدية قامت مقام نفسه في السلامة لصاحب الحق إن كانت الجناية في قطع اليد أو وارثه إن كانت الجناية بقتل النفس وسلامة العوض لمن يقوم مقام صاحب الحق ينزل منزلة سلامته لصاحب الحق فاستقام كون القصاص ضمانا بالشرع واستقام كون الدية ضمانا بالقياس ولم يجز الجمع بينهما لأن كلا الواجبين بدل النفس وإن اختلفت جهة إيجابهما ولا يجوز إيجاب واجبين عن متلف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 واحد فأما في تخريق الثوب وقتل البهيمة فليس في مقابلة التخريق بالتخريق وقتل الدابة بالدابة غرض صحيح لأن نهاية ما في الباب أنه يوجد بذلك إتلاف مال عليه وفى أخذ الضمان يوجد هذا مثل ما يوجد إذا أهلكنا ماله عليه فإنا إن قدرنا أنه يتلف عليه بهيمته بإتلافه عليه بهيمة أو قدرنا أنه خرق عليه ثوبا بإزاء ما خرق وعليه ثوبه فإنه لا يجوز أن يعرض بهائمه فيتلف عليه أى بهيمة شاء أو يخرق أى ثوب شاء بل ينبغى أن يخرق ثوبا مثل ثوبه أو يتلف بهيمة مثل بهيمته وإذا فعل ذلك كان ذلك في المعنى وأخذ الضمان سواء وأما القصاص ففيه إتلاف نفسه وإزهاق روحه ولا شك أن فيه معنى زائد على الدية وقد لا يبالى الإنسان بإعطاء الدية بقتل عدوه فإذا عرف أنه يقتل إذا قتل انكف عنه فهذا هو المعنى الصحيح والحكمة المعقولة الشرعية وعلى مثل هذا يكون المعول في هذا وأمثاله وأمثال هذه المعانى تكثر في الشرع وقد يكون نظير هذا إيجاب الكفارة في القتل فإن الله تعالى لما خلق ليعبدوه على ما نص عليه فإذا قتل إنسانا فهو بالقتل قد أبطل عليه معنى التعبد والتعبد من العبد لله تعالى مقصود كلى من العباد فصح بنا إيجاب الضمان على هذا المعنى الذى يليق به وليس ذلك إلا الكفارة بإعتاق رقبة إذا قدر عليها لأن العبد مسلوب النفس بالرق فكأنه هالك عن صفة الآدمية وقد قدم الله حق السادة على حقه في كثير من المواضع فأوجب الله على القاتل عتق رقبة على معنى أنه يزيل عنه صفة الرق فيكون قد أحيا نفسا بقدر الإمكان فأقامه مقام النفس التي أتلفها لتعبد الله مكانها فيكون قد أقام الله عبدا يعبده مكان العبد الذى أهلك فيها فبهذا الوجه يضمن حق الله وصار الضمان كضمان النفس بالدية أو القود فعلى هذا يستوى فيه القتل عمدا وخطا لأن حق الله في جهتى العمد والخطأ مثلما يكون حق الآمى مضمونا في الجهتين أيضا ويستوى في هذا أيضا قتل المسلم والكافر والحر والعبد والبالغ والصبى وينظر إلى أصل ما كان عليه الخلقه وقد خلق الكل في الأصل. ثم يتصل بهذا الفعل أن الواجب باسم الكفارة والكفارة اسم معنوى وهو التغطية فيكون واجبا لتغطية الذنب ومحوه والذنب متى صار مغطا ممحوا التحق المذنب بمن لم يذنب فصارت الكفارة كفارة بهذا المعنى ولا نقول: إنه عبادة لأنه ليس القصد منها التقرب إلى المعبود. ولا نقول: إنه عقوبة لأنه ليس فيها أخذ أو تنكيل والعقوبات هى ما يختص بصفة الأخذ أو التنكيل فكان شيئا غير العبادة والعقوبة وهى أنها كفارة ومعناها أنها ماحية للذنب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 265 مغطية له والشئ إذا أمحى ذهب ولم يبق وإذا غطى لم يبق له أثر وإذا كان كذلك استقام إيجابها على الكافر كما يستقيم إيجابها على المؤمن فهذا الذى ذكرناه وما يشبهه استدلالات حسنة ومعان بالغة مناسبة للأحكام المبنية عليها تعلق بقلب كل فقيه إن هذا هو المعنى الذى يبتنى عليه الحكم ومن هذا الباب أيضا ما نقول فيمن نفى وجوب الكفارة [بعيد بالوطء في الصوم] 1 وإيجابها بالوطء وهو أنا نقول: إن الجماع محظور الصوم والأكل والشرب مناف للصوم لأن الصوم عبادة كف عن قضاء شهوة2 على خلاف النفس فينبغى أن يكون التعبد بالكف في زمان الفعل عبادة حتى يكون بخلاف هوى النفس فإنه إذا لم يكن زمان الفعل عادة لم يحصل الكف عبادة والنهار زمان الأكل والشرب عادة فكان الكف عنه في هذا الزمان عبادة تعم هو محظور العبادة لأن الحظر والتحريم للعبادة يكون متحققا في زمان الفعل عادة أو لا في زمان الفعل عادة وإذا ثبت أن الأكل والشرب مناف للصوم فيصير بفعله تاركا للصوم في المستقبل وترك الصوم لا يوجب الكفارة كتركه في الابتداء وأما الوطء لما كان محظور الصوم فيكون بالكف عن الأكل والشرب مقيما على فعل الصوم غير أنه يكون جانيا عليه بفعل المحظور وإيجاب الكفارة بفعل محظور الصوم لا يكون دليلا على إيجاب الكفارة بترك الصوم وانقطع إحدهما عن الآخر صورة ومعنى وبطل فهذا استدلالهم في إيجاب الكفارة في الوطء على إيجاب الكفارة في الأكل وهم يدعون على أنا أوجبنا الكفارة في الأكل والشرب بطريق الاستدلال لا بطريق القياس ومن وجوه الاستدلال ما نقوله في مسألة الاستيلاء فإن عندنا لا يملك الكفار ما استولوا عليه من أموال المسلمين بخلاف المسلمين إذا استولوا على أموال الكفار ملكوها. وإنما قلنا: إن المسلمين يملكون أموال الكفار إذا استولوا عليها ويملكون رقابهم إذا أسروها لأن المشركين في معنى العبيد فإن حريتهم غير ثابتة ثبات تمكن واستقرار. وأما أموالهم التي في أيديهم إنما هى للمسلمين وهى في أيديهم بمنزلة الغصب لأن الله إنما خلق الدنيا وما فيها من أصناف الأموال والقنيات لعبيده الذين يؤمنون به   1 هكذا ثبت في الأصل "وجوب الكفارة بالوطء في الصوم بعيد". 2 الصوم لغة: الإمساك يقال: صام النهار إذا وقف سير الشمس انظر الصحاح "5/1970" لسان العرب "4/2529" وشرعا: إمساك عن الفطر على وجه مخصوص انظر مغني المحتاج "1/420". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 266 ويعملون ما خلقهم له من عبادته وجعل سائر الأملاك معاونات لهم على إقامة طاعاته فمن كفر وعبد غيره فلا شئ له يستعين به على كفره وعبادة غيره فما حصلوه في أيديهم واحتووا عليها فهى غصب في أيديهم وسبيله أن يرد إلى من يسعتين به على طاعة الله ولهذا سمى المال المأخوذ من المشركين فيئا. ويقال: أفاء الله مال المشركين أى رده علينا بعد أن كان المشركون غصبونا إياه وما هذا وصفه فهو مردود على صاحبه فصار ملك المسلمين أموال الكفار بهذا الوجه وهذا لا يوجد في الكفار إذا أخذوا أموال المسلمين لأنها أموال في أيدي ملاكها وعليها حماية الإسلام وإذا كانت في حماية الإسلام لم تزل بغلبة أهل الشرك عليها وصارت أموالهم كرقابهم فهم أحرار حقيقة وأملاكهم لهم حقيقة وأما الكفار فيهم فهم في المعنى عبيد المسلمين وأموالهم التي في أيديهم للمسلمين فالكل يكون فيئا لأنهم عبيد أبقة ردوا إلى مواليم وأملاكهم غصوب أعيدت إلى ملاكها فهذه الأمثلة التي ذكرناها في الاستدلال أمثلة حسنة يشهد الشرع والعقل بصحتها ومن عرف قواعد الشرع وقوانينها شهد له قلبه وما أدركه من معانى الشريعة بصحتها ولم يرده أصل مجمع عليه من كتاب أو سنة أو أجماع فيجوز أن يسمى أنواع هذا استدلالا فإن الأمثلة التي ذكرناها من قبل حكاية عن بعض المتأخرين من أصحابنا فإنها هي أقيسة حكمية منقولة من الأصحاب غير هذا القائل العبارة عنها فسماها استدلالا على أنا نقول لا غيره بالاسم فإن سموا استدلال قياسا والقياس استدلالا فالوجه الذى قدمناه لأن جميع ذلك طلب الحكم من معانى النصوص والكل نوع بحث عن معنى مناسب للحكم صحيح على السبر فهذا صحيح ولا مبالاة بأى اسم سمى وحين وصلنا إلى هذا الموضع فنذكر الاستحسان وهل يجوز أن يكون حجة على ما ذكره أصحاب أبى حنيفة؟ أو لا؟. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 267 القول في الاستحسان ذكر الأصحاب أن القول بالاستحسان في أصول الدين فاسد وذهب أصحاب أبى حنيفة إلى القول به وكذلك القول بالمصالح والذرائع والعادات من غير رجوع إلى دليل شرعى باطل فأما مالك فإنه يقول بذلك ويعتمده1. واعلم أن الكلام في الاستحسان يرجع إلى معرفة الاستحسان الذى يعتمده أصحاب أبى حنيفة فإن كان الاستحسان هو القول بما استحسنه الإنسان ويشتهيه من غيردليل فهو باطل قطعا ولا نظن أن أحدا يقول بذلك تنذكر الآن ما ذكره أبو زيد في كتابه في معنى الاستحسان لغة وحكما. قال: أما اللغة: فالاستحسان هو اعتقاد حسن الشئ. يقال: استحسنت كذا أى: اعتقدته حسنا2 واستقبحت كذا أى: اعتقدته كلك ومحل ظن بعض الفقهاء أن من قال بالاستحسان قد ترك القياس والحجة الشرعية باستحسانه تركها من غير دليل يطلق وطعن بهذا على علمائنا وأن ما هذا تغير الاستحسان لغة فأما عند الفقهاء الذين قالوا بالاستحسان اسم لضرب دليل يعارض القياس الجلي حتى كان القياس غير الاستحسان بعد سبيل التعارض وكأنهم سموه بهذا الاسم لاستحسانهم ترك القياس أو الوقف على العمل بدليل آخر فوقه في المعنى المؤثر أو مثله وإن كان الخفى منه إدراكا ولم يروا القياس الظاهر حجة قاطعة لظهوره ولا رأوا الظهور رجحانا. بل نظروا إلى قوة الدليل في نفسه من الوجه الذى تعلق به صحته ولم يكن غرضهم من هذه التسمية إلا يميزوا بين حكم الأصل الذى يدل عليه القياس وبين الحكم المال [عن ذلك السنن الظاهر] 3 بدليل أوجب الذى أماله4 فسموا الذى يبقى على الأصل قياسا والذى الممال استحسانا وهذا كما ميز أهل النحو بين وجوه النصب فقالوا: هذا نصب على التفسير   1 انظر نهاية السول "4/299" المعتمد "2/295" إحكام الأحكام "4/209" حاشية التلويح على التوضيح "2/81" أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "4/188, 189". 2 انظر القاموس المحيط "4/214". 3 هكذا ثبت في الأصل ولعل الصواب: "عن تلك السنن الظاهرة". 4 كشط في الأصل ولعل الصواب ما أثبتناه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 268 وهذا نصب على الظرف ونصب على المصدر وكذلك أهل العروض ميزوا بين الطويل والمديد والمتقارب. قال محمد بن الحسن في كثير من المواضع: القياس كذا والاستحسان كذا وبالقياس نأخذ وأخذ في عامة المواضع بالاستحسان فعلم أنهما يستويان كدليلين متعارضين. قال: فصار العمل بالاستحسان هو الممال بحكمه من الطريق الظاهر إلى الخفى بدليل شرعي لا بهوى التعيين فإنه كفر وإنما سموه بهذا الاسم لاستحسانهم ترك الظاهر بالخفي الذى ترجح عليه فلما كان العمل به مستحسنا شرعا سموا الدليل بهذا الاسم كان اسما مستعارا كاسم الصلاة والصوم وغير ذلك. قال: ثم الاستحسان قد يكون نصا وقد يكون ضرورة وقد يكون إجماعا وقد يكون قياسا خفيا1. أما النص فنحو قول أبى حنيفة في من أكل ناسيا لصومه: لولا قول الناسى لقلت يقضى القياس الظاهر بوجوب القضاء إلا أنى استحسنت تركه بنص خاص ورد فيه2 وهذا لأن النص فوق الرأى فأستحسن ترك الرأى به. وأما الإجماع فنحو جواز الاستصناع فإنه قد ظهر تعامل الأمة به قد بينا وحدثنا من غير تكبر والقياس أنه لا يجوز لأنه بيع معدوم. قالوا: وأما الضرورة فنحو الحكم بطهارة الآبار والحياض بعد تنجسها3 والقياس يأبى ذلك لأن الدلو ينجس لملاقاة الماء فلا يزال يعود وهو نجس فلا يمكن الحكم بطهارة الماء إلا أن الشرع حكم بالطهارة الضرورية لأنه لا يمكن غسل البئر ولا الحوض وإنما غاية ما يمكن هذا وهو نزح الماء النجس وحصول الماء الطاهر فيه فاستحسنوا ترك العمل بالقياس لأجل الضرورة والعجز فإن الله تعالى جعل العجز عذرا في سقوط العمل بكل خطاب وأما ترك القياس بدليل أخفى منه فهو مثل المتبايعين إذا اختلفا في الثمن والسلعة قائمة بعينها في يد البائع لم تقبض لا يتحالفان قياسا لكن القول قول المشترى وفى الاستحسان يتحالفان لأن كل واحد منهما مدع ومدعا عليه   1 انظر فتح الغفار بشرح النار "3/30". 2 انظر الهداية "1/132". 3 وهو قول الحنفية انظر الهداية "1/22". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 269 لأن البائع يدعى على المشترى زيادة الثمن والمشترى ينكره وأما المشترى فيدعى على البائع وجوب تسليم السلعة عند أداء ما يدعيه من الثمن والبائع ينكره فأخذوا بدليل الاستحسان دون القياس لأن تأثيره أكثر وأخذ بالقياس في موضع آخر وهو إذا تلا آية السجدة في صلاته فركع في صلاته ينوب الركوع عن السجود قياسا لأن الواجب عليه عند قرآة السجدة الخشوع والخضوع لله تعالى وذلك يحصل بالركوع وفى الاستحسان لا ينوب لأن الواجب عليه السجود والركوع غير السجود ولا يعرف أنه مثله في الخضوع والخشوع بالقياس أخذوا لأن الواجب الخشوع والركوع خشوع تام مثل السجود بخلاف القياس لأنه ليس بخشوع تام ونحن أوردنا ما قالوه في الاستحسان لتعرف حقيقة مذهبهم. ويقال لهم: إن كان الاستحسان هو الحكم بما يهجس في النفس ويستحسن في الطبع فلا شك أنه باطل والأحكام إنما تبنى على أدلة الشرع لا على الهواجس والشهوات وما يقع في الطباع وإن كان هو الحكم بأقوى الدليلين من كتاب أو سنة أو إجماع أقوى من قياس فلا معنى لتسميتهم ذلك استحسانا ولإن كان هذا النوع استحسانا فكل الشرع استحسان فلا معنى لتخصيص ذلك ببعض المواضع دون البعض. واعلم أن مرجع الخلاف معهم في هذه المسألة إلى نفس التسمية فإن الاستحسان على الوجه الذي ظنه بعض أصحابنا من مذهبهم لا يقولون به والذى يقولونه لتفسير مذهبهم به العدول في الحكم من دليل إلى دليل هو أقوى منه وهذا لا ننكره لكن هذا الاسم لا نعرفه بآية ما1 لما يقال به لمثل هذا الدليل. وقد قال بعضهم: إنه تخصيص قياس بدليل أقوى منه وهذا باطل لأنا لا نقول بتخصيص الأقيسة وقد أبطلناه من قبل. وقال بعضهم: هو عدول عن قياس إلى قياس أقوى منه وهذا أيضا باطل لأنهم يسمون إذا عدلوا عن القياس إلى نص استحسانا أيضا. وقال بعضهم: الاستحسان ترك طريقة الحكم إلى أخرى هى أولى منها ولولا ما يوجب الثبات على الأولى وحده أبو الحسن الكرخى من أصحابهم وقال: هو أن يعدل الإنسان عن أن يحكم في المسألة بمثل ما يحكم به في نظائرها لوجه هو أقوى من   1 لم نستطع قراءتها إلا هكذا ولعل هذا هو الصواب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 270 الأول يقتضى العدول عن ذلك وهذا يلزم عليه أن يكون القياس الذى يعدل به إليه عن الاستحسان استحسانا. وقد قالوا في مسائل بالقياس نأخذ وعدلوا عن الاستحسان إليه وسموه قياسا وعلى الجملة لا معنى لهذه التسمية وهى تسمية لا يمكن حدها بحد صحيح تختص به. وأما تفسيرهم الذى يفسرونه فنحن قائلون بذلك وليس مما يتحصل فيه خلاف وقد ذكر الشافعى لفظ الاستحسان في مراسيل ابن المسيب وقال أيضا في المتعة: واستحسن يقدر بالأفلس درهما ليس هذا اللفظ بممتنع في بعض المواضع وإنما المستنكر أن يجعل ذلك أصلا من الأصول تبنى عليه الأحكام وخالف بينه وبين سائر الأدلة ولا يمكن تحقيق المفارقة والتمييز على ما سبق به القول في السبب والعلة والشرط والفرق بين معانى ذلك ومواجبها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 271 السبب و العلة والشرط السبب ... اعلم أن مما يكثر ذكره1 في أقوال الفقهاء ويرد في المسائل هو السبب والعلة والشرط ولابد من معرفة ذلك والفرق بين معانيها ومواجبها. أما السبب: فاعلم أن السبب في اللغة: اسم للحبل الموصل إلى ما لا يوصل إليه إلا بتعلقه به2. ثم يسمى كل مبنى يتوصل به إلى مطلوب مرام باسم السبب بسببها بالحبل الذى يتدلى به من يوصل به إلى مرامه ومطلوبه مع أنه لا أثر للحبل في إيجاد ذلك المطلوب وتحصيله وإذا كان السبب في اللغة اسما. فنقول: حده ما يوصل إلى المسبب مع جواز المفارقة بينهما. وقيل: إن السبب مقدمة يعقبها مقصود لا يوجد إلا بتقديمها فلا أثر لها فيه ولا في تحصيله3 وهذا كالجبل سبب للوصول إلى الماء ثم الوصول بقوة النازح لا بالحبل   1 ثبت في الأصل "ذكر". 2 قال صاحب القاموس المحيط: السبب: الحبل ونا يتوصل به إلى غيره انظر القاموس المحيط "4/80". 3 عرفه السبكي: بأنه مايضاف الحكم إليه للتعلق به من حيث إنه للحكم أو غيره انظر جمع الجوامع ومعه شرح الجلال "1/94". وعرفه صاحب حاشية التلويح بأنه: مايكون طريقا إلى الحكم من غير تأثير وقال: وأما من جهة المعنى فقد قيل: هو دليل ينقدح في نفس المجتهد يعسر عليه التعبير عنه فإن أريد بالانقداح الثبوت فلا نزاع في أنه يجب عليه العمل ولا أثر لعجزه عن التعبير عنه وإن أريد أنه وقع له شك فلا نزاع في بطلان العمل به وقيل: هو العدول عن فياس إلى قياس من أقوى وقيل: تخصيص لقياس بدليل أقوى عنه فيرجع إلى تخصيص العلة. وقال الكرخى رحمه الله: هو العدول في مسألة عن مثل ماحكم به في نظائرها وإلى خلافه بوجه هو أقوى ويدخل في التخصيص والنسخ. وقال أبو الحسن البصري: هو ترك وجه من وجوه الاعتماد غير شامل شمول الألفاظ بوجه أقوى منه وهو في حكم الطارئ على الأول واحترز بقوله: غير شامل عن ترك العموم إلى الخصوص وبقوله: وهو في حكم الطارئ عن القياس فيما إذل قالوا: تركنا الاستحسان بالقياس وأورد هذه التفاسير إن ترك الاستحسان بالقياس يكون عدولا عن الأقوى إلى الأضعف وأجيب بأنه إنما يكون بانضمام معنى آخر إلى القياس يصير به أقوى ولما اختلفت العبارات في تفسير الاستحسان مع أنه قد يطلق لغة على مايهواه الإنسان ويميل إليه وإن كان مستقبحا عند الغير وكثر استعماله في مقابلة القياس على الإطلاق كان إنكار العمل به عند الجهل بمعناه مستحسنا حتى يتيبن المارد منه إذا لاوجه لقبول العمل بما لا يعرف معناه وبعد ما استقرت الآراء على = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 272 وكذلك الطريق سبب للوصول إلى المكان الذى يقصده ثم الوصول لا يكون بالطريق بل بقوة الماشى وكذلك الدلالة بحل الشىء سبب لأخذه وليس الأخذ بدلالة بل هو بقوة الأخذ وكذلك حل قيد المقيد سبب لفراره ثم ليس الفرار بحل القيد. بل هو بقوة الفار ويمكن الاستدلال على ما ذكرناه بقوله سبحانه وتعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة: 73] . فجعل الله تعالى ضرب القتيل ببعض لحم البقرة سبب الحياة فلا أثر لذلك في الحياة وكذلك ضرب موسى البحر بالعصا صار سببا لصيرورته يبسا وضربه الحجر صار سببا لانفجار العيون من غير أن يكون ضرب العصا مؤثرا في تجفيف البحر أو انفجار الماء من صخرة صماء وتبين بهذه الأمثلة صحة قولنا في الحد الأول أنه وصل إلى المسبب مع جواز المفارقة بينهما. ببينة: أن العصا بالضرب في البحر والحجر لم ينقلب طبعه عما كان إلى شئ آخر ليؤثر في يبس البحر أو انفجار الحجر بالضرب ولكنه صار سببا بجعل الله تعالى ذلك سببا فدل أن السبب للشئ سبب وإن لم يكن له تأثير في إيجاده بوجه ما ولأهل الكلام في هذا خوض كثير وقد جعلوا الطعام سببا للشبع والماء سببا للإرواء وليس هو بنفسه مشبعا ولا مرويا لكم المشبع والمروى هو الله تعالى على الحقيقة وهذا من حيث الاعتقاد صحيح لكنه لا يسببه النظر الأول فإن في الطعام طبع الإشباع وفى الماء طبع الإرواء والأولى هو الاقتصار على القدر الذى قلناه. وذكر أبو سليمان الخطابى وقد كان من العلم بمكان عظيم وهو إمام من أئمة   = أنه اسم لدليل متفق عليه نصا كان أو إجماعا أو قياسا خفيا إذا وقع في مقابلةتسبق إليه الأفهام حتى لا يطلق على نفس الدليل من غير مقابلة فهو حجة عند الجميع من غير تصور خلاف ثم إنه غلب في اصطلاح الأصول على القياس الخفى خاصة كما غلب اسم القياس على القياس الجلى تمييزا بين القياسين أما في الفروع فإطلاق الاستحسان على النص والإجماع عند وقوعهما في مقابلة القياس الجلي الشائع ويرد عليه أنه لاعبرة بالقياس في مقابلة النص أ, الإجماع بالاتفاق فكيف يصح التمسك به والجواب أنه لا يصح التمسك به إلا عند عدم ظهور النص أو الإجماع. انظر حاشيةالتلويح على التوضيح "2/81, 82" نهاية السول "4/399, 400, 401" سلم الوصول "4/399, 400, 401, 402" المعتمد "2/295" إحكام الأحكام "4/209, 210, 211" أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "4/189, 190, 191". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 273 السنة صاح للاقتداء به والإصدار عنه. قال: السبب هو الوصلة التي يتوصل بها إلى الشئ ومن هذا قيل للحبل سبب وللطريق سبب لأنه بسلوكه تصل إلى الموضع الذى تريده قال الله تعالى: {فَأَتْبَعَ سَبَباً} [الكهف: 85] أى طريقا وقد يسمى السبب علة لأنه يتوصل به إلى معرفة الحكم كما بنيته بالعلة على الحكم إلا أنه ليس كل سبب بعلة ولكن كل علة سبب كما أن كل علة دليل وليس كل دليل علة وفرقوا بين العلة والسبب من وجوه. فقيل: العلة لا توجد إلا ومعلولها موجود كالنار لا توجد ولا إحراق وقد يوجد السبب ومسببه غير موجود كالسحابة توجد ولا مطر وقد قيل: إن السبب هو الحال الذى يتفق بكونها نزول الحكم كالوقت الذى يتفق فيه نزول الحكم والعين التي يتفق نزوله فيها وقد يوجد السبب والحكم غير مقصور عليه بل يكون عاما لأهل ذلك السبب وغيرهم فيمن لا يشاركهم فيه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 وأما العلة : فتطرد مع الحكم بكل حال وقيل: إن العلة هى المعنى الجالب للحكم ومنه علة المريض وهى السبب والجالب للمرض. وقد قال بعض الشعراء: ألم تر أن الشئ للشئ علة ... يكون بها كالنار تقدح بالزندى وقد قيل أيضا: إن اشتقاق العلة في اللغة راجع إلى معنى التكرار والدوام وذلك أن العرب تسمى السقى الثانى عللا وتسمى المرأة التي نكحت على الأخرى علة وذلك أنها تعل بعد صاحبتها فكانت العلة على هذا الاشتقاق هى الشئ التي يتكرر ويدوم بوجوده ما علق به. واختلفوا في المعلول ما هو؟ فقال بعضهم: هو الحكم لأنه مجلوب العلة ويقال علة هذا الحكم كذا فتضيف العلة إلى الحكم. وقال آخرون: هو الشيء الذى وقعت فيه العلة بمنزلة المضروب الذى وقع فيه الضرب. ألا ترى أنا نقول: إن البر معلول بالأكل والخمر معلول بالشدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 وأما الشرط : فأصله العلامة1. قال أبو عبيد: ومنه أشراط الساعة أى علاماتها. وحد الشرط: ما يتغير به الحكم بوجوده2 ويفارق السبب لأن الشرط يقتضى   1 قال صاحب القاموس المحيط: أشراط وبالتحريك العلامة انظر القاموس المحيط "2/368". 2 الشرط في الاصطلاح عرف بتعريفات كثيرة فعرفه صاحب جمع الجوامع بقوله: مايلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته وعرفه الغزالي بقوله -ملا يوجد المشروط دونه ولا يلزم أن يوجد عند وجوده وعفه البيضاوي بقوله. ما يتوقف عليه تأثير المؤثؤ لا وجود له. انظر نهاية السول "2/437" انظر المستصفى "2/180, 181" إحكام الأحكام "2/453" المحصول "1/422" أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "2/292". اعلم أن الشرط ينقسم إلى أربعة أقسام: 1- شرعي كالطهارة بالنسبة للصلاة أو الإحصان بالنسبة للرجم. 2- عقلي: كالحياة بالنسبة للعلم. 3- عادي: كنسب السلم بالنسبة لصعود السطح. 4- لغوي مثل إن دخل محمد الدر فأكرمه. أما متى يوجد المشرط: الشرط نوعان: أحدهما: شرط يتحقق في الوجود دفعة واحدة وثانيهما: شرط يوجد على التدريج بمعنى أنه يحتاج في وجوده إلى أزمان متعددة. فالنوع الأول يوجد المشروط عند أول الزمن وجوده إن علق عليه من حيث الوجود وينعدم المشروط عند انعدامه مثل: إن بتع عبدي فلك درهم وإن تزوجت فلك عندي هدية. فالدرهم يستحق عند البيع والهدية تستحق عند حصول العقد الصحيح ولا يوجدان عند عدم الشرط. وأما النوع الثاني من المشروط فإن المشروط إن علق على وجود الشرط فلا يوجد إلا عند تكامل كل أجزائه وإن علق على عدمه فإن المشروط ينعدم بترك أي جزء من أجزائه فمن قال لغيره: إن قرأت سورة البقرة فلك عشرون قرشا. لم يستحق المبلغ المذكور إلا عند الفراغ من قراءتها كلها. أما تعدد الشرط والتحاده: فالشرط يكون واحدا وقد يكون متعددا والمتعدد قد يكون معطوفا بحرف يفيد الجمع كالواو وقد يكون معطوفا بحرف لا يفد الجمع كأو فتلك ثلاثة أقسام في الشرط والمشروط مثل الشرط في ذلك لأنه قد يكون واحدا وقد يكون متعددا والمتعدد قد يعطف الواو وقد يغطف بأو - فتلك ثلاثة أقسام أيضا- فإذا ضربت هذه الثلاثة في الثلاثة المتقدمة كانت الصور تسعة وإليك تفصيلها: = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 تغير الحكم بوجوده وعدمه والسبب قد لا يوجد ذلك بل يوجب مصادفته وموافقته وقد أشار إلى هذا الذى قلناه الشيخ القفال الشاشي. قال القفال: والطريق في التمييز بين العلة والسبب والشرط أنا ننظر إلى الشئ فإن جرى مقارنا للشئ مع تأثير الشئ فيه دل على أنه علته وإن جرى مقارنا للشئ أو غير مقارن لا تأثير للشئ فيه دل أنه سببه.   = أولا: اتحاد الشرط مع اتحاد المشروط مثل: إن سرق زيد فاقطع يده وفي هذه الصورة يتوقف المشروط على هذا الشرط وحده وجودا وعدما. ثانيا: اتحاد الشرط وتعدد المشرط بالواو مثل: إن شفيت من مرضي تصدقت بدرهم وصمت يوما وفي هذه الصورة يكون حصول الشرط مقتضيا للجمع بين الأمرين. ثالثا: اتحاد الشرط وتعدد المشرط بأو مث:: إن شفيت من مرضي تصدقت بدرهم أو صمت يوما وفي هذه الصورة يكون حصول الشرط مقتضيا لحصول أحد الأمرين على اتخيير. وعليه أن يعين مايفعله منهما. رابعا: تعدد الشرط بحرف الواو مع اتحاد المشروط مثل: إن جاءك محمد وكان مؤدبا فأكرمه. وفي هذه الحالة لا يوجد المشروط المتحد إلا إذا وجد الشرطان معا. خامسا: تعدد الشرط بحرف الواو مع تعدد المشروط بحرف الواو كذلك مثل: إن جاءك محمد وكان مؤدبا فأعطه مصحفا ودرهما وفي هذه الصورة يكون حصول الشرط المتعدد مقتضيا لحصول المشروط المتعدد. سادسا: تعدد الشرط بحرف الواو مع تعدد المشروط بأو مثل: إن جاءك محمد وكان مؤدبا فأعطه مصحفا. وأد رهما وفي هذه الحالة يكون حصول الشرط مقتضيا حصول أحد المشروطين على التخيير ويكون التعيين لمن أمر بهذا الأمر. سابعا: تعدد الشرط بأو مع اتحاد المشروط مثل: إن ذهب محمد إلى المدرسة أو ذاكر دروسه فأعطه درهما. وفي هذه الحالة يكون أحد الشرطين مقتضيا حصول المشروط المتحد. ثامنا: تعدد الشرط بأو مع تعدد المشرط بأو كذلك مثل: إن ذهب محمد إلى المدرسة أو ذاكر دروسه فأعطه مصحفا ودرهما. وفي هذه الحالة يكون أحد الشرطين مقتضيا لحصول الأمرين معا. تاسعا: تعدد الشرط بأو مع تعدد المشروط بأو مثل: إن ذهب محمد إلى المدرسة أو ذاكر دروسه فأعطه مصحفا أو درهما. وفي هذه الحالة يكون حصول أحد المشروطين مقتضيا على التخيير ويرجع إلى التعيين إلى من أمر بهذا الأمر انظر نهاية السول "2/439/440, 441" إحكام الأحكام "2/455, 456" المستصفى "2/181, 182, 183" المحصول "1/423, 424, 425" أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "2/294, 295, 296". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 وأما الشرط هو ما يختلف الحكم بوجوده وعدمه وهو مقارن غير مفارق للحد كالعلة سواء إى أنه لا تأثير له فيه وإنما هو علامة على الحكم من غير تأثير أصلا. ويقال أيضا في الفرق بين السبب والعلة: إن السبب قد يوجد مع تراخى الحكم كالبيع بشرط الخيار سبب للملك ليس بعلة ولو كان علة لما تأخر حكمه ولكنه سبب منعقد ويصير علته بارتفاع الخيار فيكون ارتفاع الخيار شرطا ليصير علة لوقوع الملك فمتى وجد هذا الشرط انقلب السبب علة ولا يتراخى عنه حكمه ثم الحكم إذا وجد بانضمام الشرط إلى السبب يضاف إلى السبب لا إلى الشرط ولهذا قلنا: بتضمين شهود اليمين إذا رجعوا دون تضمين شهود الشرط وكذلك حصول الجرح في المجروح من المكلف المختار سبب لوجوب القصاص عند زهوق الروح ويصير عند زهوق الروح علة القصاص وكذلك حصول النافى في يد الغنى المكلف في الزكاة سبب لوجوب الزكاة وإذا حال الحول صير علة موجبة وكذلك اليمين قبل الحنث سبب لجواز أداء الكفارة ويصير عند الحنث علة موجبة مقررة وكذلك الطلقة الواحدة سبب التحريم في الرجعة وعند انقضاء الرجعة تصير علة لانقطاع النكاح. وقد ذكروا مثال هذا الشرط فقالوا: إن الحياة شرط في صحة وجود العلم والقدرة وغيرهما من صفات الحى ولا يصح وجود العلم والقدرة بدون الحياة وهذا في العقليات وفى الشرعيات لا تصح الصلاة بدون الطهارة ولا يصح الصوم بدون النية وهذا الذى ذكرناه هو مذهبنا وقد أوردناه على ما ذكره الأصحاب مع شئ من الزيادة في تقديره وتحقيقه. وأما أبو زيد فله كلام كثير في السبب والعلة والشرط ونذكر طرفا من ذلك ونتكلم على ما يوافق مذهبنا قال في تقويم الأدلة: الأسباب التي تسمى أسبابا شرعا أربعة أقسام سبب اسما لا معنى وسبب محض اسما ومعنى وسبب هو علة العلة معنى وسبب هو علة معنى. أما السبب اسما لا معنى ولا حكما فنحو اليمين بالله في حق الكفارة فإنها بعد الحنث تجب باليمين لا بالحنث على ما عرف وكذلك النذر المعلق بالشرط فإنه يلزم بعد الشرط بالنذر لا بالشرط ويسمى النذر المعلق بالشرط سببا وكذلك اليمين إلا أنه اسم مجازا لتصوره بصورة الأسباب لا حقيقة لعدم معنى السبب لأن معنى السبب ما يكون مؤديا إلى غيره وطريقا واليمين تعقد للبر وأنه مانع من الحنث الذى تجب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 277 عنده الكفارة وليس بطريق ولكنه لما كان الغرض أن يزول المانع فيصير علة كان في صورة السبب ويتحلل المانع ذهب عنه معنى السببية ولهذا قال أصحابنا: لا يجوز تقديم الكفارة على الحنث. قال: ونقول على هذا: إن تعليق الطلاق بالنكاح جائز لأنه ليس بطلاق ولا هو سبب الطلاق ولا يعتبر لانعقاده شرطا لطلاق وهو ملك النكاح كما لو حلف بشئ آخر وإنما تكلم هذا بما يصير خلافا وهو إذا وصل إلى المرأة التي هى محلها بعد الشرط وإنما يعتبر في الحال كون الرجل من أهل التكلم به ومن أهل اليمين لأن السبب ما يتقرر عند الوصول إلى المقصود لا ما يرتفع واليمين يرتفع بعد الحنث لأنه يبقى بعد الحنث قوله أنت طالق أو على كذا وهذا القدر لا يكون يمينا. وكذلك اليمين بالله قبل الحنث يمين منعقدة للبر وبعده يزول الانعقاد وهو كعقد قائم مفسوخ فلا يكون البيع سببا لحكم الفسخ بحال وبالفسخ يزول معنى البيع. وكذلك بعد الحنث يزول معنى اليمين المنعقدة لإيجاب البر فلا تكون المنعقدة سببا لما يتعلق ثبوته بانفساخه. قال: فالمتعلقات بشروط ليست بأسباب حكما ومعنى لما يجب عند الشرط وقد تسمى أسبابا تسوية مجازا فهذا ضرب مجاز ولكنه معتبر شرعا لأنه في الحال معتبرة أيمانا لحكم شرع اليمين له وكان عقدا صحيحا لحكم صحيح وإنما أبطلنا كونه سببا لحكم يتعلق بانفساخ العقد المنعقد في الحال. قال: وأما السبب المحض فنحو حل قيد العبد حتى أبق فإنه سبب محض ولا يضمن العبد لأن الإهلاك كان بالإباق والإباق كان باختيار من العبد لا بقوة حدثت من الحل وكذلك إذا دل سارقا على المال حتى سرق ولا يضمن المال لأن أخذ المال كان باختيار السارق لا بقوة حدثت من الدلالة. قال: ولهذا قال علماؤنا: إن الدابة إذا أتلفت زرع الإنسان لم يضمن صاحب الدابة1 لأن التلف كان بوطء أو بأكل فعلته الدابة باختيارها لا بقوة حدثت من تسبيب صاحبها وكذلك ما انفتح باب أسطبل حتى خرجت الدابة أو باب قفص حتى   1 وهو قول الحنفية انظر الهداية "4/548" وهناك من قال: يضمن ما أفسدته من الزرع ليلا دون نهار إن لم تكن يد أحد عليها وهو قول مالك والشافعي وأحمد وأكثر فقهاء الحجاز انظر المغنى "10/357". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 278 طار الطير لم يضمن1 لأن الخروج والطيران كان باختيار من الطير والدابة لا بقوة حدثت من الفتح أوجبت له الاختيار ولا بإلجاء الدابة إليه ليفسد الاختيار بالكره ولا يلزمنا على هذا المحرم إذا دل على صيد حيث يضمن لأن الدلالة سبب محض في حق جناية الأخذ ولا ضمان عليه من حيث الأخذ للصيد ولكنه يضمن من حيث أزال أمنه عن الاصطياد وقد لزمه بالإحرام أن لا يزيل أمنه فتكون الإزالة جناية عليه كما يكون ترك الحفظ من المودع جناية على الوديعة يضمن به ويضمن في مسألة الدلالة من حيث إنه جنى بالدلالة على إحرامه فإن أزال الأمن عنه لأن أمنه بسبب تواريه عن العيون فأما بعد العلم بمكانه فلا ينجيه إلا الفرار على خوف ولهذا قلنا: إن حافر البئر لا يضمن الكفارة2 ولا يحرم الإرث2 لأنهما يجبان جزاء بإزاء فعل القتل مباشرة والمباشرة من الحافر في حفره وقد انقضى قبل الاتصال بالساقط وإنما اتصل به عمق حادث بفعله فصار يشبه سقوطا للعمق الحادث بفعله إلا انه شرط لسقوطه لأنه علة لسقوطه فسقوطه سبب ثقله الذى لا يحمله الهواء والأرض كانت تحمله ولما صار العمق الحادث بفعله شرطا للتلف والكفارة جزاء علة التلف لم يضمن صاحب الشرط وأما ضمان التالف ليس بجزاء علة التلف لينعدم بعدمها بل إنما يضمن التالف لوجود تلف مضاف إليه والحكم إلى الشرط مضاف وجودا وإن لم يضف إليه وجوبا وإذا اضيف إليه ضمن إلا أنه إذا اجتمع علة التلف مع شرط التلف وصلح كل واحد منهما أن يجعل سبب ضمان كانت الإضافة إلى العلة أولى وها هنا العلة ثقله أو شبه وذاك لا يصلح سبب الضمان لأنه ليس بتعد فوجبت الإضافة إلى صاحب الشرط. قال: وكذلك زوائد الغصب المتصلة والمنفصلة أمانة3 عندنا لأن ضمان الغصب ضمان فعل خاص هو أخذ مال مملوك ولا يتصور الأخذ على هذا الجزاء إلا بإزالة يده عن الشئ وهذا الحد وجد في الأم ولم توجد في الزوائد لأنها حدثت في يدى الغاصب فلا يجب ضمان الغصب به وإن سلمنا أن البقاء تعد حكما فهو تعد غير الغصب ولما كان تعديا آخر لم يجب به ضمان الغصب فإن ادعى ضمانا آخر غير   1 وهو قول أبو حنيفة والشافعي وقال أحمد ومالك: يضمن انظر المغنى "5/447". 2 هذا هو مذهب الأحناف انظر الهداية "4/503". 3 أي الأحناف انظر الهداية "4/503". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 279 ضمان الغصب تكلمنا فيه. قال وعلى هذا يقول: إن شهود القصاص إذا رجعوا بعد ما قتل المشهود عليه بشهادتهم لا يضمنون الكفارة ولا يحرمون الإرث ويضمون الدية كالحافر سواء لأن المباشرة منهم بأداء الشهادة وقد انقضت بالفراغ عن الأداء ثم حكم الحاكم وما وجب به مضاف إليهم لأنهم ألزموا الحاكم ذلك إلا أن التلف الواقع بالحكم تلف حكمى والكفارة جزاء الإتلاف حقيقة وذلك بمباشرة الولى وهو فيه مختار غير ملجأ فنقصر فعله ولا ننتقل إلى الشهود فلا يلزمهم ضمان القتل حقيقة وكذلك الرجل تكون له امرأتان صغيرة وكبيرة فأرضعت الكبيرة الصغيرة حتى بانتا فإن الزوج يغرم للصغيرة نصف الصداق ويرجع بما غرم على الكبيرة إن تعمدت الفساد ولا يرجع إن لم تتعمد الفساد1 لأن الرضعة مسببة للفرقة وليست بصاحبه علة كالحافر سواء لأن فعلها في التمكين من الارتفاع لا غير والفرقة تتعلق بوصول اللبن في الجوف وذلك إنما يحصل بارتضاع الصغيرة وهى مختارة في غير ذلك غير أن مص الصغيرة إنما يكون ارتضاعا ببقاء أثر فعل الكبيرة وهو بقاء الثدى في فمها بإلقام كان منها ابتداء إن كان الإلقام تعديا وإن لم يكن تعديا فكذلك البقاء وهو كالحفر سواء إذا لم يكن تعديا لم يكن وجوب نصف المهر على الزوج بتعد كان منها فلا يكون سبب ضمان لأن الوجوب لا يكون فوق التلف والتلف إذا لم يكن بتعد من الحافر لم يضمن فكذلك الوجوب هاهنا وعندنا الضمان إنما يجب لإيجاب المهر لا بإتلاف ملك النكاح فإنه غير متقوم عندنا ولو شهد الشهود بالفرقة بعد الدخول. ثم رجعوا لم يضمنوا شيئا ومتى كان البقاء تعديا وارتضاع الصغيرة مباحا أضيف الإيجاب إلى ما هو تعد فوجب الضمان على ما مر من الأسباب ووجود بعض ما يتم علته بانضمام معنى آخر إليه كأخذ شطرى البيع وأخذ وصفي علة الربا فهو من الأسباب المحضة لأن الحكم لا يجب ما لم تتم العلة وذكر أن البعض من العلة لا يكون له حكم العلة. قال: وعلى هذا نقول: لا تجب صدقة الفطر عن نصف عبد2 لأن علتها الرأس فلا يكون للبعض حكم العلة وكذلك الحفنة بالحفنة لا ربا فيها لأن العلة هى الكيل وهذا بعض ما يكال وليس بمكيل وذكر أمثالا لهذا قال: وأما السبب هو علة العلة   1 انظر الهداية "1/246". 2 فإذا كان عبد بين شريكين فلا يخرج أحدهما عنه انظر الهداية "1/124". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 280 فهو السبب الموجب لأنه أوجب علة الحكم فمن حيث إنها لم توجب إلا بواسطة علة كانت سببا ومن حيث حدثت العلة الموجبة للحكم به أضيف الوجوب إليه صار موجبا ولهذا السبب حكم العلة من كل وجه لأن علة الحكم لما حدثت بالأولى صارت العلة الأخيرة مع حكمها الأول ومثاله الرمى المصيب القاتل فإنه سبب الموت لأن فعل الرمى ينقطع قبل الإصابة لكنه أوجب حركة في السهم وصل بها إلى الرمى وأوجب نقض بنيته ثم انتقاض البنية أحدث آلاما قتلته وكان الرمى سببا موجبا وله حكم حر الرقبة من كل وجه فصار الموت وسراية الآلام انتقاض البنية ونفوذ السهم إحكاما للرمى. قال: وقلنا نحن: إن شراء القريب إعتاق1 ويجوز به التكفير لا سبب موجب للعتق لأن الشراء علة الملك والملك القريب علة العتق فكان الشراء علة علة العتق فكان له حكم العلة وصار الملك مع العتق حكمين للشراء. قال: ولهذا قلنا: إن الحكم يضاف إلى آخر أوصاف العلة لأن ما مضى إنما يصير موجبا بالآخر ثم الحكم يجب بالكل فيصير الوصف الآخر كعلة العلة ومن هذه الجملة قطع حبل القنديل حتى يكسر وشق الزق حتى يسيل لأن قوامه بمسكته ومسكة القنديل بالحل ومسكة الدهن بالزق والقطع والشق علة مزيلة للمسكة وزوال المسكة علة التلف. قال: وأما السبب هو الذي علة فهو الموجب للحكم بنفسه في ثانى الحال بلا واسطة علة لكن الحكم في الحال لم يجب لعدم تمامه لا لعدم بعض ما هو علة بل لعدم وصف ما هو علة من حيث لم يوجب بنفسه حتى تم بوصفه كان سببا وطريقا إليه ومن حيث إن الحكم في الثاني يضاف إلى العلة دون وصفها لأن الأوصاف أتباع لم تكن سببا محضا بل كان سببا ابتداء وعلة انتهاء وهذا أرق وجوه الأسباب ومثاله النصاب فإنه سبب الوجوب وعلة إذا تم الحول2 لأن الزكاة تجب بسبب الغنى والغنى في النصاب دون الحول ولما لم تجب الزكاة بالنصاب نفسه علم أن معه معنى آخر على القائم به وهو أنه يوصف بأنه حولى في ملكه لأن الشرع علق الزكاة قال: نام معنى والنمو لا تكون إلا مدة فشرط صفة التفاجؤ لا يستحق النمو فصار المال المرصد للنمو أصل العلة والحول وصفا فلم   1 انظر الهداية "2/335". 2 انظر الهداية "1/103". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 يعمل أصل العلة ما لم يتم وصفه. قال: ولا يقال: إن حولان الحول عليه شرط الوجوب لأنه سبب بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا زكاة في مال حتى يحول الحول" 1 وحتى ليست بكلمة شرط إنما هى توقيت ولا يقال إن الحول أجل مانع لأن الأجل لو منع لكان رخصة لصاحب الحق فكان ينبغى أن تسقط بإسقاطه بأن يأخذ بالعزيمة ويجعل الأداء كما في صوم المسافر لما كان المانع من الوجوب أجل الله تعالى صح التعجيل بها هنا إذا عجل لا يكون فرضا. بل يكون موقوفا إلى أن تتم العلة بوصفها على ما مر بيانه علم أن عدم الوجوب لعدم تمام العلة وأن التعجيل ليس على وجه الرخصة وهذا لأن الحول متى تم واتصف النصاب بما قلنا والوصف لا يقوم بعينه. بل بالموصوف وهو المال من حين صار سببا لأنه لا يتصف المال بالحول إلا إلا إذا بقى حولا فاستند بالوصف إلى أصل المال وصار ذلك المال من أول الحول متصفا بأنه حولى كالرجل يعيش مائة سنة فيكون الموصوف بهذا البقاء ذلك الوليد نفسه لا شخص آخر فإذا استند الوصف إلى أول النصاب استند الحكم والوجوب إلى أوله أيضا فيعتبر التعجيل مؤديا بعد الوجوب فيجزئه وأما بعض العلة فلا تستند إلى ما قبله. بل تقتصر على حين وجوده لأنه ليس بتبع لما قبله وإذا اقتصر على حين التمام فيبقى الأداء قبله إذا قبل الوجوب فلا يجزئه قال: وهذا كما قيل في المريض صاحب الفراش إذا وهب جميع ماله: أنه ينفذ ويصير ملكا للموهوب له إذا سلم إليه كما لو كان صحيحا وإذا مات نقضت الهبة في العلتين لأن العلة الحاجزة عن هبة الثلثين مرض مميت لا نفس المرض. وقولنا: مميت صفة للمرض والوصف معدوم وقت الهبة فنفذت الهبة من غير حجز فلما دام المرض حتى مات تم الوصف فصار أول الوجوب متصفا بالإضافة لا آخره لأن الموت يضعف القوى وكل جزء من المرض بعده أخرج عن عداد الأصحاء يضعف بمنزلة جراح متفرقة سرت إلى الموت فإنه أضاف إلى الكل دون الأخير فتمت علة الحجر من حين أصل المرض الذى أضفناه والتصرف وجد بعده فصار محجوزا عليه فنقض عليه إذا لم يجزه صاحب الحق قال: وعلى هذا قال علماؤنا: إذا جرح رجل   1 أخرجه ابو داود: الزكاة "2/102" ح "1573" عن علي رضي الله عنه بنحوه. وابن ماجه: الزكاة "1/571" ح "1792" عن عائشة رضي الله عنها انظر نصب الراية "2/328- 330". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 282 رجلا خطأ وكفر ثم مات المجروح أجزأه بالمال والصيام جميعا لأن علة الوجوب هى القتل وذلك اسم لجرح يسرى إلى النفس فيموت والسراية صفة لأصل الجرح فعدم الوصف يمنع الوجوب ولا يمنع التعجيل موقوفا على تتمة العلة بوصفها في الثانى هذا كلام أبى زيد في أقسام سبب ذكرت أكثره وتركت بعضه والمذكور كاف لبيان أصولهم وأكثر هذا الكلام إنما هو على أوضاع لهم في أصولهم على ما زعمه هؤلاء على ما زعمه مشايخهم وأصحابهم والذى ذكر أولا أن اليمين ليست الكفارة ضيقة إنما هى السبب تسمية ومجازا فالأصل أن الشئ إذا حكم بثبوته يكون حقيقة ومن ادعى كونه مجازا فعليه الدليل وقد ذكرنا في كثير من المواضع أن الكفارة لقضاء حق الاسم وذلك في الحال الواقع بالبئر فلا يجب التكفير مع حصوله في الحال بغيره ثم إذا حنث فقد فات قضاء حق الاسم بالبر فيجب الآن قضاؤه بالكفارة ألا أن السبب لذلك هو اليمين لما بينا من قبل فإذا كفر جاز لأنه قد فعل بعد وجود سببه فإذا كان المفعول لقضاء حق الاسم وسببه قد تحقق باليمين فلا معنى لمنع الجواز وأما قوله: إن السبب ما يتقرر عند وجود حكمه فلما ارتفعت اليمين بالحنث وهو زمان وجوب الكفارة دل أنه لا يصلح سببا للكفارة. قلنا: الكفارة سببها اليمين على ما قلنا ولكن لما كان هذا الواجب كفارة فلابد من اتصال هتك باليمين ليستقيم الواجب كفارة ثم إذا اتصل الهتك باليمين باتصال الحنث بها لم يمنع تأخر اتصال الحنث باليمين من تحقيق السببية في الحال مثل الموت مع الجراح فإن تأخر الموت عن الجراح لا يمنع من تحقيق السببية في الحال حتى جازت الكفارة والمعنى ما بينا في ذلك أنها لقضاء حق الاسم عند الاستشهادية في عقد مخصوص والاسم في اليمين فكانت هى السبب. وأما ارتفاعها عند الحنث. فلا يقول بنفس الحنث ارتفع لكن إذا كفر ووقع قضاء حقها بالتكفير لم يبق لبقائها فائدة فارتفعت كالرجل يقول: والله لا أكلم فلانا يوم كذا فمضى اليوم ولا يكلم ارتفع لعدم الفائدة في بقائها فارتفعت. وأما مسألة الدابة إذا اتلفت زرع إنسان إنما أوجبنا الضمان1 إذا وجدنا بالليل قضاء النبى صلى الله عليه وسلم بإلزام أربابها الحفظ لها وإذا أمر منهم حفظها بالليل فقد ألزمهم ضمانها إذا فسدت. وأما فتح باب القفص وباب الأسطبل فهو سبب لطيران الطير   1 انظر المهذب "2/194". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 283 وسبب لخروج الدابة1 وإنما جعلنا ذلك سببا لأن السبب ما يوصل إلى شئ ونحن نعلم قطعا أن فتح الباب موصل إلى الطيران وطيران الطير هلاك له في حق مالكه وكذلك في حفر بئر عمق المكان مبطل لاستمساكه على الأرض في حال سببه الذى هو مباح له وزوال المسكة في مثل هذه الصورة مهلكا له فصار بفتح الباب مهلكا للطير بهذا الوجه وبحفر البئر مهلك للواقع من هذا الوجه وضمان الهالك واجب على المهلك سواء أكان الواجب حق الله تعالى أو حق الآدمى وهذا لأن التسبب قتل لأنه لا يمكن مباشرة إزهاق الروح فيكون تحصيله بالتسبيب إليه إلا أن التسبب إذا قوى بأن يؤدى إلى الهلاك غالبا أوجب القود وإذا ضعف بأن لا يؤى إلى الهلاك غالبا أوجب الدية وكان المعنى فيه أن القود وجب لحكمة الزجر فإذا ضعف السبب استغنى عن الزجر فسقط القود وإذا قوى السبب افتقر إلى الزجر فوجب القود وإذا ثبت أنه قتل وجبت الكفارة به. ببينة: أن بالاتفاق وجبت الدية لحق الآدمى وضمان المتلف لا يجب إلا بالإتلاف دل أن حفر البئر إذا اتصل به السقوط إتلاف وعلى هذا وجب القصاص على شهود القصاص إذا رجعوا لأنه سبب قوى يؤدى إلى التلف فصاروا متلفين. والدليل على أن فعلهم إتلاف وجوب الدية عليهم قولهم إنهم قتلة حكما لا حقيقة. قلنا: إذا كانوا قاتلين فيكونون قاتلين حقيقه وإلا لم يكونوا قاتلين ثم نقول إنما صاروا قتلة بإتيانم هلاك الشخص حقا للمشهود له وإذا جعلوا هلاكه حقا فقد أهلكوت فهذا وجه قولنا: إنهم قتلة. ثم إذا صاروا قتلة فسواء صاروا قتله حكما أو حسيا بعد أن يستند إثبات قتلهم إلى فعل حسى يوجد منهم إسقاط إيجاب القود عليهم بذلك الفعل الحسى الذى أوجب نسبة القول إليهم وهذا كالرمى والجرح المؤدى إلى هلاكه وقولهم: إن الولى يختار القتل. قلنا: اختياره للقتل لم يمنع نسبة القتل إلى الشهود حكما فلا يمنع أيضا وجوب القود عليهم وهذا لأن جهة القتل في حق الولى والشهود مختلفة فالولي صار قاتلا بمباشرته جرحا أو حز رقبة والشهود إنما صاروا قتلة بجعلهم هلاك الرجل حقا للولى وإذا اختلفت الجهة لم تمنع اختيار الولى من نسبة القتل إلى الشهود وأما مسألة ولد الغصب فنحن قد ذكرنا أن الغصب إثبات اليد بعدوان على مال الغير وهذا القدر مستقل كاف في إيجاب الضمان ولا   1 انظر المهذب "1/374". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 284 نعتبر وراءه شيئا آخر وهذا لأن ما يستقل بإيجاب الضمان بنفسه إذا وجد فلا معنى لضم شئ آخر إليه وإثبات اليد على مال الغير مستقل بنفسه لإيجاب الضمان لأن إزالته اليد التي يشيرون إليها لا يراد لعينها وإنما يراد لإثبات اليد فإذا كانت الإزالة وصلة وذريعة لم يعتبر وجودها بعد أن وجد المقصود وتمام هذا في تلك المسألة. وأما مسألة إرضاع الكبيرة الصغيرة فاعتبار وجود التعمد إلى الفساد بعد أن وجد الفساد بعيد عن مسالك الشرع والذى ذكر من قوله: إن الإلقام تعد فإثبات التعدى في إلقام الصبى الثدى متعذر إلا باعتبار إفساد النكاح متصل بهذا الفعل سواء تعمد الإفساد أم لم يتعمد وإذا اتصل الإفساد به وكانت المرأة المرضعة منشدة للنكاح فشرط قصدها التعمد أو عدم قصدها التعمد لا وجه له كالرمى فإنه لما كان تعديا بإصابته آدميا فبعد أن أصاب الآدمى وتحقق قتله باعتبار تعمده وعدم تعمده لا يكون له وجه الضمان في الحالين. وأما الذى قاله في المرض وملك النصاب فهو تكلف شديد والحق يجب للورثة قطعا بعد الموت واستناد وجوب هذا الحق إلى ابتداء المرض غير ممكن لأنه إن كان المرض سبب الموت يضعف القوى فتركيب الآدمى على طباع مختلفة وأمشاج متباينة سبب للمرض وكل العلل فإن ثبوت الاعتدال في المتباينات عسر جدا فالتركيب المختلف آيل إلى الانتفاض كما أن الضعف آيل إلى الفناء ومن دخل في أمثال هذا فلا شك أنه ينقطع عليه ويبقى فهمه حسيرا في بعض المداخل وإنما المنع من التبدع فيما زاد على الثلث من قبل الشرع يجب للورثه من بعد لا لحق واجب لهم في الحال والدليل على هذا أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس". فأشار في المنع إلى معنى بعد موته لا إلى أمر قائم في الحال. وأما النصاب فهو موجب للزكاة عند اتصال صفة النماء به والنماء يتحقق بحول الحول فهو عندنا مثل اليمين التي سبق ذكرها واتصال الحول بالمال مثل اتصال الحنث باليمين وجواز التعجيل لتبوع نفع للفقراء لكن جواز هذا مع النفع بعد وجود السبب في نفسه وإن تأخر الوجوب لتأخر الصفة وكأن الشرع لم يلغ وجود السبب واعتبر ذلك فيما يتصل بنفع الفقراء من إخراج زكاة إليهم أو صرف عتق إلى عبيد أو إطعام مساكين ومحاويج ولهذا لم يجوز الصوم في الكفارة قبل الحنث لأنه ليس بمتصل بنفع أحد والأصل أن كل معنى يمكن اعتباره في حكم ورد به السمع فإنه يعتبر ولا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 285 يعطل وإراده الشارع نفع المحتاج معتبر وعدم تعطيل السبب بعد أن تحقق يعتبر فبمجموع هذا ورد الجواز في المحل في تعجيل الزكاة وقد ورد الجواز في تعجيل الزكاة. فأما أن يعمد إنسان ويريد أن يحقق وجوب الزكاة بنفس النصاب والشرع ورد بنفى الوجوب قبل الحول ويجعل نفس ملك النصاب كافيا لوجوب الزكاة وقد وجدنا في حول الحول اتصال معنى بالنصاب يصلح مؤثرا في أيجاب الزكاة من تحقق النماء فيه فمحال وصار هذا مثل اليمين والحنث فاليمين سبب والحنث يتصل فيستقيم بناء إيجاب الكفارة على اليمين في هذه الحالة لأن المؤاخذة في سببها لابد من اعتبار هتك كما أن الزكاة مواساة فلابد من اعتبار نماء ثم هناك لم يعطل نفس السبب حتى اتصل به جواز الإخراج وإن تأخر الوجوب كذلك لا يعطل السبب في الكفارة فيتصل به جواز التكفير وإن تأخر الوجوب فهذا وجه الكلام على ما ذكره وتمام هذا مذكور في الخلافيات فلا يعدم الناظر في هذا الذى ذكرناه من مزيد فائدة على ما ذكرناه في التعاليق والمصنفات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 286 "فصل": ثم ذكر أنواع العلل المعتبرة فرعا. فقال: العلل المعتبرة أربعة: - علة موجودة اسما ومعنى وحكما. - وعلة موجودة اسما ومعنى لا حكما. - وعلة موجودة حكما لا اسما ومعنى. - وعلة موجودة اسما لا معنى ولا حكما. فأما المعتبر من كل وجه فنحو إعتاق المخاطب عبده وطلاقه امرأته وبيعه ماله ونذره لصدقة شئ وهذا ضرب لا إشكال فيه وهو الأصل قال: وأما الموجود اسما لا معنى ولا حكما فنحو طلاق المرأة إن دخلت الدار كان عقد الطلاق اسما ولم يكن معنى ولا حكما على ما مر من قبل. وأما الموجود اسما ومعنى لا حكما فهو مثل النصاب قبل الحول فإنه علة الوجوب اسما ومعنى لا حكما لأن الزكاة لا تجب إلا بعد الحول وكذلك الجرح علة القتل وقد وجدت صورة ومعنى لا حكما وكذلك البيع بشرط الخيار علة للملك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 286 اسما ومعنى لا حكما وكذلك الطلاق الرجعى علة إبانه انعقدت اسما ومعنى وحكما وأما الموجود حكما لا اسما ولا معنى فكالسفر فإنه سبب للرخصة والعلة هى المشقة فأثبتت حكم العلة وهى السقوط ولا مشقة وهى العلة على الحقيقة وكذلك الاستبراء يجب باستحداث ملك الوطء بملك اليمين وإن كانت الأمة بكرا أو اشتراها من صبى أو امرأة والعلة صيانة الماء عن الاختلاط بماء قد وجد ولا ماء في هذه المواضع وكذلك الوضوء يجب عن النوم1 وإن لم يوجد الحدث والعلة خروج النجس عندنا أو خروج شئ من المخرج على أصل غيرنا وكذلك إذا باشر امرأته وإن انتشرت آلته وليس بينهما ثوب وجب الوضوء وإن لم يخرج شئ بيقين والعلة هى الخروج وكذلك الاغتسال يجب بالتقاء الختانين وإن تيقن بعدم الماء2 والعلة خروج المنى عن شهوة والسبب يثبت بالنكاح وأصله الماء وثبت وإن لم يطأها ويعلم أنه لم يخلق من مائه وهذا لأن السفر سبب ظاهر للمشقة عادة والمشقة أمر باطن يتفاوت الناس فيها وليس لها حد معلوم ولو علق الحكم بحقيقة المشقة لتعذر الأمر علينا فعلته الشرع بسببها في العادات تيسيرا علينا فثبت الحكم وإن عدمت العلة لأن السبب حققها وصار علة شرعا وكذلك خروج الحدث حال النوم أمر باطن لو علق الحكم به لتعذر فتعلق بالسبب المؤدى إليه ظاهرا وهو النوم الذى يرخى مفاصله تيسيرا واحتياطا لأمر العبادة وكذلك الاستبراء لو علق بالماء وهو أمر باطن تعذر علينا مراعاته فتعلق بالسبب المؤدى إلى خلط المياه وهو استحداث ملك الوطء بملك اليمين لأن هذا الاستحداث يصح من غير استبراء لزم للمالك الأول فلو أتحنا للمالك الثانى بنفس الملك لأدى إلى الخلط بخلاف النكاح فإن ملك النكاح إذا زال بعد الدخول لابد من تربص من حيث البراءة فالإطلاق للثانى بنفس الملك لا يؤدى إلى الخلط وإذا كان كذلك أقيم سبب الخلط وهو التأخير بنفس الملك فقام الخلط حقيقة تيسيرا على العباد بتعليق الحكم بسبب ظاهر دون الماء الباطن. واعلم أن هذا الذى ذكره أول ما فيه أن يعمد في كل فصل يذكره إلى تقسيم مفيد بأعداد " الأربعة ولابد أن يبلغ هذا العدد ولا يزيد فيستخرج بالنقاش أقساما حتى يبلغ هذا القدر ونعلم قطعا أن هذا ليس من شأن المحقق وما بال هذا الفاضل وعدد   1 انظر الهداية "1/15". 2 انظر الهداية "1/17". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 287 الأربعة وكيف يستقيم أن يصير هذا العدد مما لابد فيه والنقصان فيه جائز متوهم والدليل على أنه لم يكن من شأنه التحقيق في هذه الفصول التي يذكرها أنه قسم العلل والأسباب وجعل أحد الأقسام قسم علة توجد حكما بلا معنى وإذا كانت العلة علة تسمية بلا معنى فكيف يبنى عليه حكم من أحكام الشرع وسبيلها أن تتبع العلل الصحيحة ولا صحة لعلة ما حتى تكون معنوية وذكر أيضا أحد الأقسام قسم علة لا حكم لها وإذا لم يكن للعلة حكم فكيف تكون علة؟ والمسائل التي ذكرها فليس على ما زعم ولأن لم تكن مشقة فهو نادر وكذلك النوم موجب خروج الحدث في الغالب فاعتبر الغالب في هذين الموضعين وأعرض عن النادر وعلى أنه قد قال بعض أصحابنا وبعض أصحابهم: إن نفس النوم حدث وهو طريق معتمد وصار نفس النوم حدثا بالنص. وأما مسألة الاستبراء فعندنا لابد من ماء حقيقة أو توهم ماء حتى لو عدم كلاهما لم يجب الاستبراء وكذلك في النكاح لا نقول: إن نفس النكاح يثبت النسب. بل النسب عندنا بتوهم الماء وهو إمكان الوطء وثبت بنفس الإمكان احتياطا للنسب. ثم الزوج إذا علم أن الولد ليس منه فقد جعل الشرع له سبيلا إلى نفيه باللعان إلا في موضوع مخصوص من شخص مخصوص على ما عرف فثبت النسب لهذا الولد الذى نقطع أنه ليس من هذا البائس ويصير ربقة في عنقه ولا سبيل له إلى التخلص منه بحال وكذلك في المواضع التي لا يرون اللعان بحال وفى الأشخاص الذين لا يرون إيجاب اللعان وهذا من الحرج والضرر الذى لا يجوز أن يطلقه حكمة الرب وبفضله على عبادة وحسن نظره لهم مثله وكيف يأخذ الشرع ولد زنا فيضعه في حجر إنسان ويلحقه به ثم لا يجعل له سبيلا في التخلص منه ولا قبح ولا فظاعة فوق هذا ولا نفرة في القلوب ولا ضرر في النفوس أشد من هذا فدل حكاية مذهبهم على بطلانها وما كانت حكايته معينة من إقامة الدليل على فساده. فنعلم قطعا خطأ تأويله ويجوز أن يقال في مثل هذه المسألة: إن قائله أخطأ ونحكم بخطئه ونقول: لو حكم حاكم بثبوت النسب في مثل هذه المواضع ينبغى ألا ينفذ حكمه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 288 فصل: ذكر انواع الشرط ... "فصل" ثم ذكر: أنواع الشرط وجعلها أقساما أربعة: فقال: شرط محض وشرط في حكم العلة وشرط هو في العلامة المحضة وشرط صورة ما له حكم. فأما الشرط المحض فما يمتنع وجود الحكم إلا بوجوده والشرط المحض بكلمة إن نحو قولك عبدى حر إن دخل الدار فإن التحرير قد انعدم حكما وامتنع وجوده حتى يوجد الشرط. قال: ووجود العتاق يضاف إلى الشرط فأما وجوبه يضاف إلى قوله: أنت حر وعلى هذا شروط العبادات فإن الوقت علة الوجوب والعلم بالخطاب شرطه فلا يوجد ابتداء الوجوب إلا بعد العلم أو ما يقوم مقامه ولكن يجب بالوقت وكذلك الأداء إنما يثبت بالفعل من قيام وقراءة وركوع ولكن الوجود شرعا يتعلق بالطهارة والنية وسائر الشروط وكذلك في المعاملات فإن عقد النكاح يكون بالإيجاب والقبول ولا يؤخذ شرعا إلا بشهود. وأما الشرط الذى هو في حكم العلة فنحو شق الزق للدهن وقطع حبل القنديل وضمن كأنه كل الدهر أو أحرقه بالسراج وإن كان الشق بمباشرة إتلاف الزق وإزالة لما يمنع سيلان الدهن فيوجد السيلان عند الشق لا به بل يكون الدهن سببا لا مانعا لكنه في حكم العلة لأن تماسك الشئ يعتبر بقدر الممكن في العادات وتماسك الدهن محفوظا عن التلف في العادة لا يكون إلا بالأوعية وكان سبب الدهن في الوعاء حفظا فيكون شق الوعاء إتلافا وذكر مثل هذا في قطع حبل القنديل لأن التعليق بالحبل حفظ وكان قطع الحبل إتلافا. قال: وهذا كالقتل فإنه مباشرة إتلاف ومعلوم أن القتل اسم لما يزيل الحياة لا لما يفيد جزءا معينا من شخص وإنما كان كذلك لأن الحياة ليست بعين يمكن أخذها بمد اليد إليها أو إتلافها بالقصد إليها بعينها ولكن علق بقاءها محفوظة بسلامة بنيته وكان نقض البنية وبها قوامه إتلافا للحياة. وأما الطلاق فما يحفظ ترك التكلم به وبه يبقى ملك الطلاق للزوج فإذا تكلم به الجزء: 2 ¦ الصفحة: 289 وعلق الشرط لم يعتبر الشرط حافظا بل اعتبر مانعا من الوقوع واعتبر الإرسال عن لسانه اتباعا وعلة فلم يكن للشرط حكم العلة. قال: وعن هذا الأصل قال أبو حنيفة في الطلاق المعلق بالولادة إذا أنكر الزوج الولادة وشهدت القابلة: لم تطلق لأن الشرط حكم العلة في إيجاب الحكم فلا يثبت وجوب الطلاق بشهادة امرأته. وأما أبو يوسف ومحمد فيقولان: الوجوب لا يضاف إلى الشرط فتبقى علامة محضة في حق الوجوب فيثبت بشهادة النساء وذكر مسائل له على هذا الأصل. قال: وأما الشرط الذى هو في حكم العلامة فالإحصان بعد الزنا فإنه يتبين بالإحصان أن الحد كان رجما فيصير ثبوت الإحصان علما على موجود واجب قبله فلا يكون لهذا الشرط حكم العلة بوجه حتى أن أربعة لو شهدوا على الزنا واثنان على الإحصان ثم رجع شهود الإحصان وحدهم لم يضمنوا شيئا. قال: وأما الشرط الذى هو شرط صورة لا معنى فالشرط الخارج عن وفاق العادة لقوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] "وقوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} [النور: 33] "وقوله: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] "لأن العادة جارية بترك نكاح الإماء إلا عند عدم الحرة والعجز عنها وليس لهذا الشرط حكم ويكون ذكره والسكوت عنه بمنزلة والفائدة في تخصيص الله تعالى هذه الحالة هى حالة الابتداء بهذه الحادثة في العادات فصارت هذه الحادثة أولى بالبيان لأن الحاجة إليها أمس. واعلم أن تقسيم هذه الشروط تقسيم باطل أيضا والشرط لا يكون شرطا حتى تكون له حقيقة وإنما يعدل إلى المجازفة بدليل وأما الفرق بينه وبين العلة فقد بيناه. وإذا ثبت الفرقان فقوله: إن من الشروط ما يكون علة باطل وأما مسألة شق الزق وقطع الحبل فإتلاف عندنا بحكم التسبب إليه وقد ذكرنا أن التسبب إتلاف. وأما مسألة طول الحرة في قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 25] . فظاهر الآية دل على أنه شرط ومن قال: ليس بشرط فعليه إقامة الدليل. وأما قوله تعالى {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء: 23] "فإنما سقط كونه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 290 شرطا بدليل قام عليه وكان ظاهر الآية تقتضى أن يكون شرطا وقد ذكر أنواع العلامة وأقسامها ولم أر في ذكرها فائدة فتركتها فهذا جملة ما ذكره في أقسام السبب والعلة والشرط. وقد ذكرنا الكلام على جميع ذلك بحسب ما أذن الله تعالى ونذكر الآن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 291 مسألة أسباب الشرائع وهى مسألة لابد من ذكرها وللفقهاء إلى ذلك حاجة شديدة لأنها تدخل في مسائل كثيرة. اعلم أن الواجبات الشرعية عندنا بالخطاب المحض من الله تعالى فكل ما وجب فوجوبه بإيجاب الشرع وكل ما حرم فحرمته بتحريم الشرع ونقول على هذا إن الإيمان وجب على العبد بإيجاب الله تعالى وكذلك الصلاة والزكاة وسائر العبادات وجوبها على العباد بإيجاب الله تعالى. قال أبو زيد في كتاب تقويم الأدلة: إن أصل الدين وفروعه من العبادات والكفارات والحدود والمعاملات مشروعة بأسباب عرفت أسبابا لها بدليل قام على ذلك. وأما الأمر فإنه لا إلزام إذا ما وجب علينا بسببه كما يقول البائع للمشترى: اشتريت فأد الثمن كان الأمر طلبا للأداء لا سببا للوجوب في الدية. قال: وعندنا أن الواجب في الذمة لا يجب نحو الوجوب بل بالطلب من مستحقه وذلك بالخطاب والوجوب بأسباب شرعية غير الخطاب وذلك لأنا نجد وجوب حقوق الله تعالى على من لا يصح خطابه نحو النائم والمغمى عليه والمجنون إذا قصر جنونه وإن قصر وقت العبادة وكذلك الصبى على أصل الشافعى يلزمه الزكاة وكفارات الإحرام وكفارة القتل وإن كان طفلا لا يتصور خطابه فعلمنا أن الوجوب بأسباب غير الخطاب حتى صحت في حقهم كما في حق غيرهم وهو كما يلزمه من حقوق العباد بمداينة الولى وكما يعتق عليه أبوه إذا ورثه لأن السبب هو الملك وقد صح في حقه. ألا ترى: وجوب الأداء لما كان بالخطاب لم يلزم واحدا من هؤلاء أداء حقوق الناس كما لم يجب أداء حقوق الله تعالى والدليل عليه أن الصلوات تجب متكررة وكذلك سائر الحقوق في الأمر بالفعل لا يقتضى التكرار بحال أطلق أو علق بوقت فإن من قال لآخر: تصدق بدرهم من مالى لم يملك إلا مرة واحدة وكذلك إذا قال حين يصبح أو يسمى أو قال لمجئ عدو لما لم يجب التكرار بنفس الأمر علمنا أن التكرار سبب موجب لتكرار الوجوب كل حين يتكرر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 292 قال: فنقول وبالله التوفيق: إن سبب وجوب أصل الدين وهو معرفة الله تعالى هو الآيات في العالم الدالة على حدث العالم1 وهى دائمة أبدا لا يمكن زوالها عنه   1 قال الشيخ الصعيدي: للفلاسفة في هذا الموضوع آراء غريبة وأقوال لا مدلول لها إلا في مخيلتهم يقولون: إن المبدأ الفياض هو الله تعالى لكونه واحدا من كل الجهات لم يصدر عنه غير شيء واحد ويستحيل أن يصدر عن غيره على قاعدتهم المشهورة "الواحد لا يعمد عنه إلا الواحد" وسموه العقل الأول ثم هذا باعتبار جهاته الوجود والوجوب بالغير والإمكان يصدر عنه أشياء ثلاثة: عفل ثان ونفس وجسم "جرم الفلك" وهكذا إلى آخر العقول العشرة ثم عن العاشر تصدر العناصر الأربعة النار والهواء والماء والأرض منها تكون المواليد الثلاثى والمعادن والنباتات والحيوانات ويسمى العنصر باعتبار تركب الجسم منه اسطقسا وباعتبار تحليله إليه عنصرا والفلكيات عندهم قديمة بموادها وصورها وأشكالها سوى الجزئى من الأوضاع والحركات والعناصر القديمة بموادها وصورها لكن بالنوع أما الصورة الشخصية لها فحادثة والمشهورة أن صورها قديمة بالجنس وهي الصورة الجسمية أعم من أن تكون فلكية أو عنصرية نارية أو هوائية أو غيرهما وأما بالنوع فحادثة أيضا فيجوز أن يكون نوع النار حادثا بسبب الحركات الفلكية عن نوع الهواء ويرد عليه بأنهم صرحوا الاسطقسان باقية في أمزجة المواليد الثلاثة وهي قديمة بالنوع عندهم بحسب تواردها أفرادها فيلزم قدم الصورة العنصرية كذلك والكون والفساد في العناصر إنما هو في الأفراد الشخصية لا النوعية. هذا ملخص مذهبهم في قدم العالم وأشهر أدلتهم عليه أن العالم جائز أن يكون محالا أو واجبا لذاته اما هو ظاهر فتعين أن يكون جائزا وعليه فإن وجد الأزل مايلزم لوجوده وجب وجوده فيه لاستحالة تخلف المعلول من علته التامة وإن لم يوجد لزم نقص الواجب وهو محال وردوا دليلنا التاي "بأن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث" بأنه غير تام لجواز أن يكون حدوثهما باعتبار الشخص وتوكن قديمة باعتبارها النوع كما هو عندهم فلا يكون ماقامت به حادثا وأجيب عن هذا بأمور منها: أن النوع كلى والكلى لا وجود له إلا في ضمن الجزئي فيستحيل أن يكون قديما مع حدوث جزئيه بل لا بد أن يكون قديما مثله وهو باطل إذ الجزئي حادث بالمشاهدة ولهم الرد على هذا بأنه يعد جعلهم الجزيئات لا نهاية لها لا يلزم قدم جزئي منها لأن تلك السلسلة الغير متناهية كافية في أن يوجد في ضمنها النوع ولا يلزم ذلك المحزور ورد دليلهم مبني على أن العالم صادر عن الله جل شأنه بطريق التعليل من غير أن يكون فيثبت حدوثه قالوا: هذا في اختيار الحادث يحتاج إلى التوجه وصرف القدرة نجو المقدرو والتهيؤ للإيجاد ومحال ذلك في اختيار الواجب وورد بالمنع وأنه يستحيل أن يكون له اختيار في إيجاد العالم مع كون وجوده مقارنا لوجوده بالضرورة وإرادة الله شأنها الترجيح والتخصيص أي وقت شاء فالله يسبق اختياره للإيجاد ولكن لايكون الإيجاد إلا في الوقت الذي شاءه فيه ولا شيء من تلك النقائض التي في الحادث هنا قطعا. = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 293 فلأن وجوب أصل الدين كذلك بحيث لا يحتمل النسخ والزوال والتبدل وإنما يسقط   = والعام حادث عند المتكلمين والدليل على أنه لا يخلو إما أن يكون أعراضا أو أعيانا فالأعراض بعضها حادث بالمشاهدة كالحركة الحادثة بعد السكون والضوء الآتي بعد الظلمة وبعضها بالدليل وهو طريان العدم كالسكون ينعدم بالحركة والظلمة بالضوء وانعدام الشيء ينافي قدمه وذلك لأن القديم إما أن يكون واجبا بذاته أو يستند إلى الواجب بذاته بطريق التعليل لا بالقصد والاختيار لأنه لا يكون إلا في الحادث على ماتقدم فيه لإإن كان واجبا بذاته فامنافاة ظاهرة وإن كان مستندا إليه على طريق الإيجاب يمتنع عدمه من حيث أنه يلزم عليه تخلف المعلوا على علته وهي الواجب لذاته والتخلف محال وما يقال من أنه لا يجوز أن يستند لشرط متعاقبة لا إلى نهاية ثم ينعدم مردود ببرهان التطبيق الآتي أما في الأول فظاهر وأما في الثاني فلأن عدم الحادث لابد أن يشترط بأمور لا نهاية لها ينقطع بعدمها فيجري في تلك الأمور البرهان أيضا. وللأشعري طريق آخر في إثبات حدوث الأعراض وهو أنها لو كانت باقية والبقاء عرض يلزم قيام العرض بالعرض وهو بديهي البطلان وسيأتي بيان ضعف هذا الدليل. وأما الأعيان فهي حادثة لأنها لا تخلو عن الحوادث وكل ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث وبيان المقدمة الأولى أن الأعيان لا تخلو إما أن تكون متحركة أو ساكنة إذا الحركة على آخر تحقيق لها كون أو في مكان ثان والسكون كذلك كون ثان في مكان أول وقيل: إن الحركة هي الكون في الحيز المسبوق بكون آخر في حين آخر والسكون مالم يكن كذلك فيشمل مالم يكن مسبوقا بكون أصلا كما في أن الحدوث بخلافه على الأول ورد ذلك بأن آن الحدوث لا لبث فيه فلا يصح جعله من السكون وخروجه عن الحركة والسكون على ماهو التحقيق ل يضر في دعوى حدوث الأعيان لأن هذا الكون حادث أيضا فعدم الخلو عنه يستلزم حدوث الأعيان وقيل: إن الحركة هي مجموع الكونين في الخبرين والسكون مجموع الكونين في الحيز ويرد عليه بأنه في صورة ما إذا حدث شيء في مكان واستقر فيه آنين وانتقل منه في الآن الثالث إلى مكان آخر يلزم أن يكون الثاني جزءا من الحركة والسكون ويكون الساكن في آن سكونه الثاني شارعا في الحركة وذلك بديهي البطلان ولأجله حمل المحققون هذا القول على غير ما يقيده ظاهره وأن الكون السابق لتوقف الحركة والسكون عليه سهل جعله جزءا منهما على طريق المسامحة والتجوز وإطلاق الجزء على هو شرط شائع كثير الوقوع. والحركة والسكون حادثان لا محالة أما أولا فلأنهما من الأعراض وقد ثبت حدوثهما ولأن الحركات لما فيها من الانتقال من حال إلى حال تقتضي المسبوقية بالحال الأول والأزلية تنافيها والسكون قابل للحركة بدلالة التماثل في التركب من الجواهر الفردة المتماثلة وأيضا فهو جائز العدم فيمتنع قدمه على ماتقدم والقول بأن قدمه بطريق التعليل لا ينافى كونه ممكنا بالنظر لذاته يبطل بأن كونه كذلك أمر يعتبره العقل وهو غير جواز وقوع العدم فإن هذا مستحيل فيه لما يلزم عليه عن علته وهذا الجواب هو مايقبله الذوق السليم وبه يندفع الشبهات الواردة في هذا المقام التي جعلت البعض في حيرة حتى ألجأته إلى أن يقول كل قديم فهو واجب لذاته حتى لا يرد هذا الاعتراض من أصله وما قاله ظاهر البطلان. وأما المقدمة الثانية فبديهية الثبوت إذ ما لايخلو من الحوادث لو كان قديما لزم قدم الحادث وهو محال انظر زبدة العقائد النسفية ص "26, 27, 28, 29, 30". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 294 الأداء في بعص الأحوال للعجز كما يسقط أداء الصلاة عن النائم مع وجوب عليه وسبب الوجوب الصلاة أوقاتها بدليل تكرر الوجوب بتكرر الوقت فإنها لو كانت شروطا لما تكرر الوجوب بتكررها بدون أسبابها ولا يعقل غير الخطاب سببا آخر للوجوب مع الوقت ولما بطل أن يكون الخطاب موجبا للتكرار بقى الوقت سببا بنفسه وصار الخطاب سببا ملزما إذا وجب في ذمته بسبب آخر ويدل عليه أنه يضاف إليه. فيقال: صلاة الظهر والعصر ومطلق إضافة الحادث إلى شئ يدل على حدوثه كما يقال: كفارة القتل وغرامة الإتلاف ووجوب هو الحادث عند وجود الوقت دل أن الوجوب كان بالوقت وقد يضاف إلى الشرط أيضا لكنه يكون على وجه المجاز كما أن الحكم وجد عنده والكلام لحقيقته إلى أن يقوم الدليل على المجاز ويدل عليه أن الله تعالى قال: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] واللام تذكر للتعليل في مثل هذه المواضع كما يقول القائل: يتطهر للصلاة وتأهب للشتاء فثبت أن السبب هو الوقت وكل جزء من الوقت سبب تام فإنه لو كانت السببية تتعلق بالجميع لوجبت بعد الوقت كالزكاة تجب بعد الحول قال: وأما الصوم فسببه الشهر لأنه يضاف إليه فيقال صوم رمضان ويتكرر بتكرره كالصلاة مع الوقت. وقال صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته" 1. كما قال تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] . وقال تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] . علق إيجاب الأداء بشهود الشهر فعلم أنه سبب الوجوب حيث استقام طلب الأداء بعده كالرجل يقول: من اشترى شيئا ليؤد ثمنه أى ليؤد الواجب بالشراء قال: وسبب وجوب الزكاة النصاب من المال الذى عرف في الزكاة بدليل تضاعف الوجوب بتضاعف النصاب في وقت واحد وبدليل الإضافة إليه. فيقال: زكاة السائمة وزكاة مال التجارة.   1 أخرجه البخاري: الصوم "4/143" ح "1909" ومسلم: الصيام "2/762" ح "18/1081". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 295 وقال عليه السلام: "لا صدقة إلا عن ظهر غنى" 1. وقال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: " أعلمهم أن الله تعالى فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم" 2. والغنى يكون بالمال. وأما الحول إنما اعتبره الشرع تيسيرا للعباد وهذا لأن المال إنما يعتبر سببا إذا أعد للنماء بسببه من تجارة أو إسامة والنمو لا يكون إلا بمدة وقام الحول مقام النمو الذى يصير به المال سببا ولما قام مقام السبب تكرر الوجوب بتكرره. قال: وسبب وجوب الجزية الرءوس3 بأوصاف معلومة لأمه لأنه يقال: خراج الرأس يتضاعف بعدد الرءوس. قال: وسبب العشر الأراضى النامية وكذلك الخراج بدليل أنه يقال: عشر الأرض وخراج الأرض. وأما الحج فسبب وجوبه البيت دون الوقت بدليل أنه لا يتكرر بتكرر الوقت ولذلك يضاف الحج إلى البيت. فيقال: حج البيت. قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] . قال: وأما الوقت فشرط في هذا الموضع عنده يجب الحج وأما الاستطاعة فصفه للعبد عندها يحل الوجوب وكان اعتبارها تيسيرا على العباد كما في السفر بلا زاد ولا راحلة من المشقة وليست الاستطاعه بصفة لما هو سبب فلم يجعل من السبب. ولهذا قيل: إذا عجل العبد الحج قبل الاستطاعة أجزأه4 وتيسير الاستطاعة بملك الزاد والراحلة وقد جاز الأداء قبل ملك ذلك دل أن السبب قد وجد كما يجوز للمسافر أن يصوم قبل الإقامة لأن السبب وهو الشهر قد وجد ولذلك لا يتجدد الوجود بتجدد ملك الزاد والراحلة لأنه ليس بسبب وأما سبب وجوب صدقة الفطر   1 أصله عند البخاري ومسلم أخرجه البخاري: الزكاة "3/345" ح "1426" عن أبي هريرة بلفظ "خير الصدقة ما كان ... " ومسلم: الزكاة "2/717" ح "95/1034" عن حكيم بن حزام بلفظ البخاري وأحمد: المسند "2/309" ح "7174" ولفظه. 2 أخرجه البخاري: الزكاة "3/307" ح "1395" ومسلم: الإيمان "1/50" ح "29/19". 3 انظر الهداية "2/452". 4 مذهب الحنفية أن العبد إذا حج قبل العتق وعتق لم يجزيه هذا عن حجة الإسلام انظر الهداية "1/147". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 296 على المسلم وأيش يلزمه مؤنته1 فولايته عليه ووقت الفطر شرط عمل السبب في الإيجاب عنده بدليل تضاعف الوجوب بتضاعف الرأس وإن كان يوم الفطر واحدا. وأما إضافة الصدقة إلى الفطر فمجاز لأنها تجب فيه لا لأنه سبب وهذا لأن الرأس ليس سبب كل حين لأن صدقة الفطر لا تجب كل حين وكل ساعة وإنما هو سبب للوجوب في وقت خاص وهو انفجار الصبح يوم الفطر فإذا لم يكن أهلا للوجوب عليه لم يجب كما لا يجب الحج على المستطيع إذا كان كافرا أو صبيا في أشهر الحج ولا فرق بينهما إلا أن ذلك الوقت ممدود وهذا الوقت مقصور فعلى هذا لا تجب صدقة الفطر على كل كافر يسلم بعد الصبح لأنه ليس بأهل للوجوب عليه. قال: وأما الكفارات فأسبابها ما أضيفت إليها كالزنا والسرقة والقذف وشرب الخمر والسكر وسبب وجوب الطهارة الصلاة لأنه يقال: طهارة الصلاة ويسقط في نفسه إذا سقطت الصلاة والشروط لا تجب إلا بما علق صفتها بها كالشهادة في النكاح واستقبال القبلة في الصلاة. وأما أسباب المعاملات فتعلق بقاء المقدور بتعاطيها وبيان ذلك أن الله تعالى خلق هذا العالم وقدر بقاء جنسه إلى القيامة من طرق التناسل ولا تناسل إلا بإتيان الذكور النساء في موضع الحرث فشرع الله تبارك وتعالى له طريقا يتأدى به ما قدر الله تعالى من غير أن يتصل به فساد وضياع وهو طريق الازدواج بلا شركة في الوطء ففى الوطء على التغالب فساد وفى الشركة ضياع النسل فإن الأب متى اشتبه عليه الولد بقى على الأم وما بها قوة كسب الكفارات في أصل الجبلة ولذلك خلق النفوس وقدر بقاءها إلى آجالها ولا طريق للبقاء غير إصابة المال بعضهم من بعض بقدر المحتاج إليه لكل شخص أن يتهيأ له إلا بأناس آخرين وعافى أيديهم فشرع لذلك أسبابا للإصابة على تراض ليكون طريقا لبقاء ما قدره الله تعالى من غير فساد ففى الأخذ بالتغالب فساد ويدل عليه أن الله تعالى خلق الدنيا دار محنة وابتلاء بخلاف هوى النفس على ما قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] . والعبادة إعمال بخلاف هوى النفوس وما خلق الدنيا دار نعيم واقتضاء شهوة للمؤمنين وإنما هو للمؤمنين في الدار الآخرة فعلمنا أن الله تعالى ما شرع لنا طريق   1 انظر الهداية "1/124". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 297 الأكل والوطء وما يسستوفي من الشهوات بالأموال لأنفسنا. بل بحكم ابتلائنا بإقامته وفى الناس مطيع يعمل لله تعالى بلا شهوة له وعاص لا يعمل فخلق الشهوات مقرونة بها ليأتيها المطيع بحق الأمر والعاصى فيتأدى بالفريقين جميعا حكم قدرة الله تعالى فيكونوا جميعا فيما فعلوا مبتلين بأمر حكمه عاملين له بخلاف هوى نفوسهم فالكافر يهوى خلاف الله تعالى فيما أمره وقدره جميعا وعلى هذا أفعال الكفرة جهلا وتعنتا لا يخرجهم من كونهم مبتلين بها من الله تعالى بخلاف هوى نفوسهم فإن الله تعالى قد قدر أن يكون للنار قوم استوحبوها بما كان منهم وكذلك قدر أن يكون للجنة خلق استوحبوها بما كان منهم جزاء وفاقا فحفت النار بالشهوات والجنة بالمكاره فصار مرتكب الشهوة مع الصابر على المكروه مبتلى بإقامة حكم الله تعالى على ما قال: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ} [الأعراف: 179] كثيرا من الجن والإنس وإنما كانوا لجهنم لما كان منهم من خلاف الأمر على سبيل الاختيار وقال تعالى: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل: 7] وقال {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 10] وقال صلى الله عليه وسلم: "كل ميسر لما خلق له" 1. فصار كل منا مبتلا بما خلق له في عاقبة أمره تقديرا أطاع الأمر وارتكب النهى إثباتا لقهر العبودية عليهم وعظمة الألوهية تبارك الله الواحد القهار فالمطيع في طاعة ربه. لأول أمر مبتلا بخلاف هوى نفسه والآخر مبتلا في طاعة نفسه لإقامة حكم الله في عاقبة أمره بخلاف هوى نفسه إلا أن ابتلاء المطيع بالأمر وابتلاء الكافر بالقدر والحكم لله الأكبر هذا كلام أبى زيد سردته بما فيه ولم أترك منه إلا الذيل الذى لا يعبأ به. واعلم أن الذى قاله خطأ واختراع ولا أظن أن أحدا قبله صار إليه وإنما الناس كانوا على أحد قولين في الإيمان فذهب أهل السنة إلى أن الوجوب بالخطاب من الشارع وذهب طائفة إلى أن الوجوب بالعقل ولم يعرف أن أحدا من الأمة قال: إن وجوب الإيمان ينصب الدلائل من رفع السماء وبسط الأرض ونصب الجبال وخلق الشمس والقمر والكواكب فإنما في هذا القول أنه خلاف الأمة ومكابرتهم باختراع قول ثالث لم يعرف. وأما سائر العبادات وكل الأوامر والنواهى الواردة من الشرع فقد قالت الأمة: إن عامتها سمعية وإنما قال من قال بإيجاب العقل وحظره في أشياء يسييره وذلك مثل شكر   1 أخرجه البخاري: لاتوحيد "13/530" ح "7551" ومسلم: القدر "4/2041" ح "9/2649". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 298 المنعم ومنع الظلم وغير ذلك. فأما العبادات المعروفة والكفارات والتحميدات وغاية الحدود فقد أجمعت الأمة أنها سمعية ومعنى قولهم نحن نقول إنها سمعية أنها وجبت بالسمع وهو خطاب الله تبارك وتعالى بالإيجاب فإن قالوا: نحن نقول: إنها سمعية على معنى أن الله تعالى وضع هذه الأسباب وجعلها موجبة. قلنا قولنا: واجبات سمعية أنها وجبت بأقوال مسموعة لأن ما لا يسمع لا يكون سمعية والسمع يختص بالأقوال وإذا كان على ما قالوا لم تكن سمعية ولا عقلية إما لا يكون سمعية لأنه لم يكن وجوبها بقول يسمع وإما لم تكن عقلية لأن ما قلتم يقتضى وجوبها على من لايعقل هذه بالأسباب في حق الكل على العموم من العقلاء وغير العقلاء. ثم يدل بدليلين واقعين في أن الوجوب بالخطاب. فنقول: أمر الله تعالى مؤثر في الإيجاب لأن الله تعالى رب الخلق والفهم والخلق عبيد له وأمر المالك مؤثر في الإيجاب على العبد مثل ما تعرفه من أمرنا على عبيدنا ومماليكنا فأما زمان يأتى ويمضى وما كان يوجد ويذهب ومال يملكه العبد ويفنى لا يعرف لها تأثير في إيجاب شئ على العبد ويعنى بالأزمان أزمان الصلوات وزمان الصوم ويعنى بالمكان ما ذكروه من البيت وأنه سبب الحج ويعنى بالمال مال النصاب فلا يعرف لهذه الأشياء تأثير في إيجاب شئ منها. نعم يجوز أن يكون الزمان علامة وأمارة وكذلك المكان. أو يقال: إن الزمان ظرف العبادة والمكان مكان العبادة والمال محل الواجب من الزكاة والكفارات والنصوص التي وردت في الكتاب والسنة تذكر هذه الأشياء فإنما هى على هذا المعنى لا غير وقد ورد النص في أن الله تعالى هو الموجب للأشياء. قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: "ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله فإن أجابوك فأعلمهم أن الله تعالى فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم" 1. والحديث الآخر حديث ضمام بن ثعلبة أنه قال: يا رسول الله إن رسولك أتانا وأخبرنا أن الله تعالى فرض علينا كذا وكذا الخبر ويدل عليه قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] . وهذا نص في أن الله تعالى هو الذى أوجبه علينا فإن قيل: نحن نقول: إن الله   1 تقدم تخريجه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 299 تعالى فرض علينا لكن على معنى أنه تعالى نصب الأسباب وهذه الأسباب للإيجاب. ثم قالوا: إن الأوامر الواردة في الشرع من قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] . وقوله عليه السلام: "صوموا شهركم وصلوا خمسكم وأدوا زكاة اموالكم طيبة بها أنفسكم وحجوا بيت ربكم" 1. مفيدة فعل الأداء فأما أصل الإيجاب فكان الذى قدمناه وهذا لأن قوله: صل وزك وصم وحج أمر بالفعل والأمر بالفعل تالى الوجوب ففذا لم يتقدم الوجوب لم يتصور الأمر بالأداء. والجواب: أنا قد بينا أن هذه الأشياء لا تصح أسبابا وأما الخطاب فصالح للسببية. وأما قولهم: إن الله تعالى جعل هذه الأشياء أسبابا للوجوب. قلنا: هذه دعوى لابد عليها من دليل ومجرد الإضافة لا تدل على السببية لأن الشئ قد يضاف إلى سببه وقد يضاف إلى شرطه ويضاف إلى محله. فإن قالوا: إن الأصل ما قلنا. قلنا: ليس كذلك لأن الإضافة لا تدل إلا على التعريف وكل ما يصلح تعريفا للشئ يصلح للإضافة التي قلتم وعلى أنه يقال: دين الله فيضاف إلى الله. فهل نقول إن الله تعالى سبب للوجوب. وأما قولهم: في الدليل على ما ادعوه بثبوت تكرره عند تكرر الوقت قلنا: هو لقيام الدليل وهذا لأن الأمر لا يدل على التكرار بنفسه. فأما عند وجود قرينة تنضم إليه يدل على التكرار فيدل عليه وعلى أنه قد قال جماعة من أصحابنا: إن الأمر المعلق بالوقت يتكرر بتكرر الوقت وهذه الأوامر معلقة بالأوقات فتكررت بتكرر الأوقات فسقط ما قالوه جملة. وأما قولهم: إن الأوامر الواردة في الكتاب والسنة إنما تدل على فعل الأداء قلنا يدل على الوجوب أولا. ثم يدل على فعل الأداء مثل السيد إذا قال لعبده: اسقنى فإنه يدلل على الوجوب عليه ويدل على فعل السقى ونحن نعلم قطعا أن وجوب السقى في هذه الصورة كان بقوله: اسقنى لا بشئ آخر فقدم عليه فعلمنا أن الأمر المجرد على الوجوب الذى يعتقدونه بالسبب ودل على الفعل أيضا وهذا فصل معتمد وقد ذكرنا في الخلافيات: أن الواجب ليس إلا أداء الفعل وهو مستفاد بخطاب   1 أخرجه الترمذي: الصلاة "2/516" ح "616" وقال: حسن صحيح أحمد: المسند "5/309" ح "22323". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 300 الشرع بالاتفاق والوجوب الذى يدعونه لا يمكن تحقيقه إلا بإيجاب الفعل وهذا لأن الصلاة فعل والصوم فعل وكذلك سائر العبادات والكفارات في نظائر هذا والخصم يورد على هذا الواجبات التي تأخر أداؤها مثل الصوم على الحائض وعلى المسافر والمريض والصوم على المغمى عليه. وأجبنا عن هذا: بأن في هذه المواضع لا نقول بالوجوب من قبل إنما يجب الصوم على الحائض إذا طهرت وأما المريض والمسافر فقد وجب الصوم عليهما والتأخير رخصة ونحن لا ننكر أن يتوجه الوجوب ثم تعترض رخصة مؤخرة وهذا قد قررناه في مسائل الفروع ولكن اخترنا في الأصول الجواب الأول وهو أحسن وأبين وأقطع للخصومة والمنازعة. وأما وجوب الزكاة والكفارات عندنا في أموال الصبيان فذاك بأمر الشرع والأصل أن كل ما أدى إليه إيجابه إلى إيقاع الصبى والمجنون في كلفة وطلبه فهو موضوع عنه رحمه من قول الله تعالى وذلك كالعبادات البدنية فأما ما يكون وجوبه في الذمة والأداء بالمال ويتأدى بفعل الغير فإيجابها عليه لا يوقعه في كلفة فيجب في ذمة بخطاب الشرع وإيجابه ثم الخطاب بالأداء يتوجه على الولى دون الصبى وهذا على ما عرف في مسألة زكاة الصبى وقد اقتصرنا في الجواب على هذا القدر لئلا يطول وفى كلامه الذى حكيناه خبط عظيم وصدقة الفطر لازمة لأنه إنما يعرف صدقة الفطر بالإضافة إلى الفطر ومع ذلك لم يجعلوا الفطر سببا وفى الجزية يقال: خراج الرأس فيبقى على هذا أن لا يتكرر كما أنهم لما قالوا: إن سبب الحج هو البيت بحكم الإضافة لا يتكرر وفيما قلناه من قبل كفاية. والله أعلم. وحين انتهى الكلام في القياس فنذكر الكلام الآن في الاجتهاد وما يتصل به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 301 القول في الاجتهاد وما يتصل به مدخل ... القول في الاجتهاد وما يتصل به وبيان قولنا: إن الحق في قول واحد من المجتهدين وأن الباقى خطأ متروك. اعلم أن الاجتهاد1 وهو بذل الجهد في استخراج الأحكام من شواهدها الدالة عليها بالنظر المؤدى إليها. وقال بعضهم: الاجتهاد هو طلب الحق بقياس وغير قياس. وقال بعضهم: ما اقتضى غالب الظن في الحكم المقصود. وقال بعضهم: طلب الصواب بالأمارات الدالة عليه2. وهذا الأخير أليق بكلام الفقهاء. ثم اعلم أن المخاطب بالاجتهاد أهله وهم العلماء دون العامة فإذا نزلت بالعالم نازلة وجب عليه طلبها في النصوص والظواهر في منطوقها إلى مفهومها ومن أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم وإقراره وفى إجماع علماء الأنصار فإن وجد في شئ من ذلك ما يدل عليه قضى به وإن لم يجده طلبه في الأصول والقياس عليها وبدأ في طلب لعلة بالنص فإن وجد التعليل منصوص عليه عمل به فإن لم يجد في النص عدل إلى المفهوم فإن لم يجد نظر في الأوصاف المؤثرة في الأصول في ذلك الحكم والمؤثر ما بيناه من قبل.   1 قال: الشيخ الفيروزآبادي: والتجاهد بذل الوسع كالاجتهاد انظر القاموس المحيط "1/286". 2 وقد عرفه العلماء بتعريفات أخرى: فعرفه الرازي بأنه: تفريغ الوسع في تحصيل المقصود انظر المحصول "2/489". وعرفه إمام الحرمين بأنه: تفريغ الوسع في تحصي المقصود انظر الكافية في الجدل ص 58. وعرفه الآمدي بأنه: استفراغ الوسع في طلب الظن بشيء من الأحكام الشرعية على وجه اليحس من النفس العجز عن المزيد فيه. انظر إحكام الأحكام "4/218". وعرفه الغزاليبأنه: بذل الجهد واستفراغ الوسع في فعل من الأفعال. انظر المستصفى "2/350". وعرفه البيضاوي بأنه: استفراغ الجهد في درك الأحكام الشرعية. انظر نهاية السول "4/524". وعرفه صاحب حاشية التلويح على التوضيح: استفراغ الفقيه الوسع لتحصيل ظن بحكم شرعي. انظر التلويح "2/117". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 302 وقد قيل: إن الاجتهاد في حق العلماء على ثلاثة أضرب: فرض على العين وفرض على الكفاية وندب. أما فرضه على الأعيان ففى حالتين: إحديهما: اجتهاده في حق نفسه فيما نزل به لأن العالم لا يجوز أن يقلد في حقه ولا في حق غيره. والحالة الثانية: اجتهاده فيما تعين عليه الحكم فيه فإن ضاق وقت الحادثة كان فرضها على الفور وإن اتسع وقتها كان فرضها على التراخى. وأما فرضه على الكفاية ففى حالتين: إحديهما: في حق المستفتى إذا نزلت به حادثة فاستفتى أحد العلماء كان فرضها متوجها على جميعهم وأخصهم بفرضها من خص بالسؤال عنها فإن أجاب هو عنها أو غيره سقط فرضه عن جميعهم فإن أمسكوا مع ظهور الصواب لهم أثموا وإن أمسكوا مع القياسة عليهم عذروا وإن كان فرض الجواب باقيا عند ظهور الصواب. والحالة الثانية: أن يتردد الحكم بين قاضيين مشتركين في النظر فيكون الاجتهاد مشتركا بينهما فأيهما انفرد بالحكم سقط فرضه عنه. وأما الندب ففى حالتين: إحديهما: فيما يجتهد فيه العالم من غير النوازل ليسبق إلى معرفة حكمه على نزوله. والحالة الثانية: أن يستفتيه سائل قبل وقوعها به فيكون الاجتهاد في الحالتين ندبا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 303 فصل: صحة الاجتهاد تكون بمعرفة الأصول الشرعية ... "فصل" وإذا عرفنا حقيقة الاجتهاد فنذكر: من يجوز له الاجتهاد. فنقول: صحة الاجتهاد تكون بمعرفة الأصول الشرعية ومعرفتها بستة شروط: أحدها: أن يكون عارفا بلسان العرب من لغة وإعراب وموضوع خطأهم في الحقيقة والمجاز ومعانى كلامهم في الأوامر والنواهى والعموم والخصوص إلى غير ذلك1   1 انظر نهاية السول "4/551, 255" سلم الوصول "4/551" انظر المحصول "2/498" إحكام الأحكام "4/225" جمع الجوامع ومعه شرح الجلال "2/379" انظر المستصفى "2/351" فتح الغفار بشرح المنار "3/34"انظر أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "4/227". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 303 لأن السمع في شرع الإسلام ورد بلسان العرب لأنه مأخوذ من الكتاب والسنة وهو ما ورد بلسان العرب قال الله تعالى في الكتاب: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 195] وقال عز من قائل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4] . فإن قيل: قد كان من تقدم من الأنبياء مبعوثا إلى قوم خاصة فجاز أن يكون مبعوثا بلسانهم ومحمد صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى جميع الأمم فلم صار مبعوثا بلسان بعضهم؟. قلنا: لا يخلو إما أن يكون مبعوثا بلسان جميعهم وهذا خارج عن العرف والمعهود من الكلام ويبعد بكل محل أن يرد كل كلمة من القرآن مكررا بكل الألسنة وإذا لم يجز هذا وكان لابد أن يكون بلسان بعضهم كان لسان العرب أحق من كل لسان لأنه أوسع وأفصح ولأنه لسان أول المخاطبين ومعرفة لسان العرب فرض على العموم في جميع المكلفين إلا أنه في حق المجتهد على العموم في إشرافه على العلم بألفاظه ومعانيه أما في حق غيره من الأمة خاص في ما ورد التقيد به في الصلاة من القراءة والأذكار لأنه لا يجوز بغير العربية. فإن قيل: إحاطة المجتهد بجميع لسان العرب ممتنع لأن أحدا من العرب لا يحيط بجميع لغاتهم وكيف يحيط؟ ولأن الإحاطة بجميعه شاغل من الاشتغال بغيره. قيل: لسان العرب وإن لم يحط به واحد من العرب فإنه يحيط به جميع العرب. كما قيل لبعض أهل العلم: من يعرف كل العلم. قال: كل الناس والذى يلزم في حق المجتهد أن يكون محيطا بأكثر كلام العرب ويرجع فيما عزب عنه إلى غيره وهو كما أن جميع السبب لا يحيط به أحذ من العلماء وإنما يحيط به جميع العلماء فإذا كان المجتهد محيطا بأكثرها صح اجتهاده ويرجع فيما عزب عنه إلى من يعلمه فكذلك ها هنا. وأما الشرط الثاني: هو أن يكون مشرفا على ما تضمنه الكتاب من الأحكام الشرعية من عموم وخصوص ومبين ومجمل وناسخ ومنسوخ بنص أو فحوى أو ظاهر أو مجمل1 ليستعمل النص فيما ورد والفحوى فيما يفيده والظاهر فيما يقتضيه والمجمل يطلب المراد منه فإذا كان عالما بأحكام القرآن هل يشترط أن يكون حافظا   1 انظر نهاية السول "4/547" انظر جمع الجوامع شرح الجلال "2/383" فواتح الرحموت "2/363" المستصفى "2/350" إحكام الأحكام "4/220" المحصول "2/497" فتح الغفار بشرح المنار "3/34" أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "4/226". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 304 لتلاوته: فذهب كثير من أهل العلم إلى أنه يلزم أن يكون حافظا للقرآن لأن الحافظ أضبط لمعانيه من الناظر فيه1. وقال آخرون: لا يلزمه حفظ تلاوته ويجوز أن يقتصر على مطالعته والنظر فيه كما في السنن2. وقال آخر: ويجب عليه أن يحفظ ما اختص بالأحكام ولا يلزمه أن يحفظ منه القصص والأمثال والزواجر. وأما الشرط الثالث: هو بعرفة ما تضمنته السنة من الأحكام وعليه فيها خمسة شروط. أحدها: معرفة طرقها من تواتر وآحاد ليكون المتواتر معلومة والآحاد مظنونه. والثاني: معرفة صحة طرق الآحاد ومعرفة رواتها ليعمل بالصحيح منه ويعدل عن ما لا يصح منه. والثالث: أن يعرف أحكام الأفعال والأقوال ليعلم بما يوجبه كل واحد منهما. والرابع: أن يحفظ معانى ما انتفى الاحتمال عنه ويحفظ ألفاظ ما دخله الاحتمال ولا يلزمه حفظ الأسانيد وأسماء الرواة إذا عرف عدالتهم. والخامس: ترجيح ما يعارض من الأخبار ليأخذ ما يلزم العمل به3.   1 ذكره الأسنوي في نهاية السول فقال: لاجرم أن القيرواني في المستوعب نقل عن الشافعي أنه يشترط حفظه جميع القرآن وهو مخالف لكام الإمام من وجهين. انظر نهاية السول "4/549". وقد علق الشيخ محمد بخيت المطيعي في حاشيته على نهاية السول فقال: أقول أي ماقاله القيرواني في المستوعب يخالف كلام الإمام من جهة اشتراط الحفظ وقد علمت أنه لا يشترط الحفظ بل يكفي معرفة الواضع ومن جهة اشتراط جميع القرآن وقد علمت أنه لا يشترط فليس ما قاله القيرواني مخالفا لكام الإمام فقط بل هو مخالف لكلام أكثر الأصوليين ممن تقدمه وممن تأخر عنه ولذلك لم يعول عليه صاحب جمع الجوامع وغيره ممن تأخر عن الأسنوي لا فرق بين الحنفية والشافعية انظر حاشية الشيخ محمد بخيت المطيعي على نهاية السول "4/549". 2 وقول الجمهور: أن يعرف ما تعلق بالأحكام وهو خمسمائة آية ولا يشترط أن يحفظها عن ظهر قلب بل يكفي أن يكون عارفا بمواقعه حتى يرجع إليه في وقت الحاجة. انظر نهاية السول "4/548" سلم الوصول "4/548" المحصول "2/497" المستصفى "2/350" فواتح الرحموت "2/363" أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "4/446". 3 ولا يشترط فيها الحفظ ولا معرفة ما يتعلق من الأخبار بالمواعظ وأحكام الآخرة. انظر نهاية السول "4/549, 550" سلم الوصول "4/549, 550" إحكام الأحكام "4/220" المحصول "2/498" فواتح الرحموت "2/363" المستصفى "2/351" أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "4/226". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 305 وقال بعض أصحابنا: إذا عرف من اللغة ما يعلم به مراد الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم من الكتاب والسنة والخطاب الوارد فيهما وعرف موارد الخطاب ومصادره من الكتاب والسنة والحقيقة والمجاز والأمر والنهى والعام والخاص والمجمل والمفصل والمنطوق والمفهوم والمطلق والمقيد وعرف الناسخ والمنسوخ وعرف أحكام النسخ فهذا القدر كاف وهذا هو الأولى في الشرائط التي سبق ذكرها. وأما الشرط الرابع: هو معرفة الإجماع والاختلاف وما ينعقد به الإجماع وما لا ينعقد به الإجماع1 وما يعتد به في الاجماع ومن لا يعتد به في الإجماع ليتبع الإجماع ويجتهد في الاختلاف. وأما الشرط الخامس: هو معرفة القياس والاجتهاد2 والأصول التي يجوز تعليلها وما لا يجوز تعليلها والأوصاف التي يجوز أن يعلل بها وما لا يجوز أن يعلل بها وترتيب الأدلة بعضها على بعض ومعرفة الأولى فيها فيقدم الأولى ويؤخر ما لا يكون أولى ويعرف وجوه الترجيح ليقدم الراجح على المرجوح وأما الشرط السادس: فهو أن يكون ثقة مأمونا غير متساهل في أمر الدين3. فإذا تكاملت هذه الشروط في المجتهد صح اجتهاده في جميع الأحكام وإن لم يوجد واحد من هذه الشروط خرج من أهلية الاجتهاد وليس يعتبر في صحة الاجتهاد أن يكون رجلا ولا أن يكون حرا ولا أن يكون عدلا وهو يصح من الرجل والمرأة والحر والعبد والفاسق وإنما تعتبر العدالة في الحكم والفتوى فلا يجوز استفتاء الفاسق وإن صح استفتاء المرأة والعبد ولا يصح الحكم إلا من رجل حر عدل فصارت شروط الفتيا أغلظ من شروط الاجتهاد بالعدالة لما تضمنه من القبول وشروط الحكم أغلظ من شروط الفتيا بالحرية والذكورية لما تضمنه من الإلزام.   1 ولا يشترط حفظ تلك المسائل انظر نهاية السول "4/550" سلم الوصول "4/550" المحصول "2/489" فواتح الرحموت "2/363" المستصفى "2/351" أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "4/226". 2 انظر نهاية السول "4/551" سلم الوصول "4/551" أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "4/226". 3 وهو من شروط قبول الفتوى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 306 واعلم أن الثقة والأمانة في أن لا يكون متساهلا في أمر الدين فلابد منه لأنه إذا لم يكن كذلك لا يستقصى النظر في الدلائل ومن لا يستقصى النظر في الدلائل لا يصل إلى المقصود وأما الذى ذكره الأصحاب أنه لا تعتبر العدالة فيجوز أن يكون المراد ما وراء هذا وأما هذا القدر فلابد منه وقد ذكر المتكلمون كلاما في شرائط الاجتهاد على غيرهذا الوجه وهذا الذى قلناه كلام االفقهاء وهو الصحيح وحين عرفنا صفة المجتهد فنذكر صفة أقوال المجتهدين إذا اختلفوا فيما بينهم. مسألة قد بينا حد الاجتهاد ويمكن أن يعبر عن ذلك فيقال هو استفراغ الوسع وبذل المجهود في طلب الحكم الشرعى. واعلم أن الأحكام ضربان: عقلى وشرعى والأولى أن يقال: أصول وفروع. فأما أصول الدين فالحق في قول واحد منهما والثانى باطل قطعا. وحكى عن عبد الله بن الحسن العنبرى أنه قال: كل مجتهد في الأصول مصيب1. وكان يقول في مثبتى القدر: هؤلاء عظموا الله. ويقول في نافى القدر: هؤلاء نزهوا الله. وقد قيل: إن هذا القول منه في أصول الديانات التي يختلف فيها أهل القبلة ويرجع المخالفون فيها إلى آيات وآثار صحيحة للتأويل كالرؤية وخلف الأفعال وما أشبه ذلك. وأما ما اختلف فيه المسلمون وغيرهم من أهل الملل كاليهود والنصارى والمجوس فإن في هذا الموضع نقطع بأن الحق فيما يقوله أهل الإسلام وينبغى أن يكون التأويل على هذا الوجه لأنا نظن أن أحدا من هذه الأمة [لا بد أن] 2 يقطع بتضليل اليهود والنصارى والمجوس وأن قولهم باطل قطعا ولأن الدلائل القطعية قد قامت لأهل الإسلام في بطلان قول هؤلاء الفرق والدلائل القطعية توجب الإعتقاد القطعى فلم   1 وهو قول الجاحظ وهما محجوجان بالإجماع انظر نهاية السول "4/558" إحكام الأحكام "4/239" البرهان "2/1316" المستصفى "2/354" فواتح الرحموت "2/376" المحصول "2/500" جمع الجوامع ومعه حاشية الجلال "2/288". 2 زيادة ليست في الأصل لابد منها لصحة الكلام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 307 يكن بد من القول بأنهم ضالون مخطئون قطعا وإذا ثبت هذا فيما يخالفنا أهل الملل فكذلك فيما يخالفنا فيه القدرية والمجسمة والجهمية والروافض والخوارج وسائر من يخالف أهل السنة لأنا نقول إن الدلائل القطعية قد قامت لأهل السنة على ما يوافق عقائدهم فثبت ما اعتقدوه قطعا فحكم ببطلان ما يخالفه قطعا وإذا حكمنا ببطلان ذلك قطعا ثبت أنهم ضلال ومبتدعة ونذكر مشروع هذا الكلام ومدخله على وجه آخر فنقول: إن الاختلاف بين الأمة على ضربين اختلاف يوجب البراءة ويوقع الفرقة ويرفع الألفة واختلاف لا يوجب البراءة ولا يرفع الألفة فالأول كالاختلاف في التوحيد. قال: من خالف أصله كان كافرا وعلى المسلمين مفارقته والتبرؤ منه وذلك لأن أدلة التوحيد كثيرة ظاهرة متواترة قد طبقت العالم وعم وجودها في كل مصنوع فلم يعذر أحد بالذهاب عنها وكذلك الأمر في النبوة لقوة براهينها وكثرة الأدلة الباهرة الدالة عليها وكذلك كل ما كان من أصول الدين فالأدلة عليها ظاهرة باهرة والمخالف فيه معاند مكابر والقول بتضليله واجب والبراءة منه شرع. ولهذا قال ابن عمر حين قيل له: إن قوما يقولون: لا قدر. فقال: بلغوهم أن ابن عمر منهم برئ وأنهم منى براء وقد استجار مثل هذا التعنيف في الفروع. وقال ابن عباس: من شاء باهلته أن الله تعالى لم يجعل في المال نصفا ونصفا وثلثا. وقالت عائشة رضى الله عنها: أبلغوا زيد بن أرقم أن جهاده مع رسول صلى الله عليه وسلم قد بطل. ونحو هذا من الآثار إلا أن هذا النوع من الوعيد ليس هو على المذهب الأول إنما هو تعنيف على التقصير في النظر وتحريض على الاجتهاد وتحريض1 على التأمل. والضرب الآخر من الاختلاف لا يزيل الألفة ولا يوجب الوحشة ولا يوجب البراءة ولا يقطع موافقة الإسلام وهو الاختلاف الواقع في النوازل التي عدمت فيها النصوص في الفروع وغمضت فيها الأدلة فيرجع في معرفة أحكامها إلى الاجتهاد ويشبه أن يكون إنما غمضت أدلتها وصعب الوصول إلى عين المراد منها امتحانا من الله سبحانه وتعالى لعباده لتفاضل في درجات العلم ومراتب الكرامة كما قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الذينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالذينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] وقال: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76] .   1 ثبت في الأصل "تخريد" ولعل ما أثبتناه هو الصواب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 308 وعلى هذا يتأول ما ورد في بعض الأخبار: "اختلاف أمتى رحمة" 1 فعلى هذا النوع يحمل هذا اللفظ دون النوع الآخر فيكون لفظا عاما والمراد به خاصا ثم أعلم أنه اختلف العلماء في حكم أقوال هؤلاء المجتهدين وذكر ذلك في ما يسوغ فيه الاجتهاد من المسائل التي اختلف فيها فقهاء الأمصار وظاهر مذهب الشافعى رحمه الله أن المصيب من المجتهدين واحد والباقون مخطئون غير أنه خطأ يعذر فيه المخطئ ولا يؤثم وقد قال بعض أصحابنا: إن هذا قول الشافعى ومذهبه ولا يعرف له قول سواه وقد ذهب إلى هذا القول جماعة من أصحاب أبى حنيفة. وقال بعض أصحابنا: إن للشافعى قولين. أحدهما: ما قلناه والآخر إن كل مجتهد مصيب وهو ظاهر قول مالك وإليه ذهب أكثر أصحاب أبى حنيفة وزعموا أن قوله هو قول المعتزلة وهو قول أبى الحسن الأشعرى وقال الأصم وابن عليه والمريسى: إن الحق في واحد من أقوال المجتهدين وما خالفه خطأ وصاحبه مأزور مأثوم2. وقال أبو زيد في أصوله: قال فريق من المتكلمين: الحق في هذه الحوادث التي يجوز الفتوى في أحد أحكامها بالقياس والاجتهاد حقوق وكل مجتهد مصيب للحق بعينه. ثم إنهم افترقوا. فقال قوم: إذا لم يصب المجتهد الحق عند الله مكان مخطئا ابتداء وانتهاء حتى أن عمله لا يصح. وقال علماؤنا: كان مخطئا للحق عند الله مصيبا في حق عمله حتى أن عمله به يقع صحيحا شرعا كأنه أصاب الحق عند الله. قال: وبلغنا عن أبى حنيفة أنه قال ليوسف بن خالد السمتى: كل مجتهد مصيب والحق عند الله واحد فتبين لك أن الذى أخطأ ما عند الله مصيب في حق عمله. وقال محمد بن الحسن في كتاب الطلاق: إذا تلاعن الزوجان ثلاثا ثلاثا فرق القاضى   1 ذكره الحافظ الجعلوني وقال: قال في المقاصد رواه البيهقي في المداخل بسند من قطع عن ابن عباس بلفظ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "مهما أوتيتم من كتاب الله فالعمل به لا عذر لأحد في تركه فإن لم يكن في كتاب الله فسنة مني ماضية فإن لم تكن سنة مني فما قاله أصحابي إن أصحابي بمنزلة النجوم في السماء فأيما أخذتم به اهتديتم واختلاف أصحابي لكم رحمة"؛ ومن هذا الوجه أخرجه الطبراني والديلمي بلفظ وفيه ضعف انظر كشف الخفا للعجلوني "1/66" ح "153". 2 انظر نهاية السول "4/560, 561" فواتح الرحموت "2/380" انظر المستصفى "2/363" إحكام الأحكام "2/246" أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "4/238, 239". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 309 بينهما نفذ قضاؤه وقد أخطأ السنة فجعل قضاؤه في حقه صوابا مع قوله إنه مخطئ الحق عند الله تعالى قال أبو زيد: وهذا هو القول المتوسط وهو بين الغلو والتقصير واعلم أن هذا القول هو القول بالأشبه وهو أن يكون المجتهد مصيبا في اجتهاده مخطئا في الحكم فإنهم جعلوا أشبه عند الله تعالى قالوا: وهو مطلوب المجتهد وذلك الذى لو نص الله سبحانه وتعالى على الحكم لنص عليه وهو الحق وما عداه خطأ. وقال: هؤلاء وما كلف الإنسان إلا إضافة الأشبه ونقل بعضهم هذا نصا عن أبى حنيفة ومحمد وقد حكى القول بالأشبه عن أبى على الجبائى وهذا القول هو اختيار المزنى وحين عرفنا هذه الأقوال على مما نقله الأصوليون. فنقول: في بيان الصحيح من الأقاويل إن الصحيح من هذه الأقاويل هو أن الحق عند الله عز وجل واحد والناس مأمورون بطلبه مكلفون أصابته فإذا اجتهدوا وأصابوا حمدوا وأجروا وإن أخطئوا عذروا ولم يأثموا إلا أن يقصروا في أسباب الطلب وهذا هو مذهب الشافعى وهو الحق وما سواه باطل. ثم نقول: إنه مأجور في الطلب إذا لم يقصر وإن أخطأ الحق ومعذور على خطئه وعدم إصابته للحق وقد يوجد للشافعى في بعض كلامه ومناظراته مع خصومه أن المجتهد إذا اجتهد فقد أصاب وتأويله أنه أصاب عند نفسه فإنه بلغ عند نفسه مبلغ الصواب وإن لم يكن أصاب عين الحق. واعلم أنه لا يصح على مذهب الشافعى إلا فيما قلناه ومن قال غير هذا فقد أخطأ على مذهبه. وقال ما قال على شهوته. احتج القائلون: بأن كل مجتهد مصيب بقوله تعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} [الأنبياء: 78] إلى أن قال: {وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} [الأنبياء: 79] فإذا كان أحدهما مخطئا لم يكن الذى قاله عن علم ولأن الصحابة اختلفوا في المسائل. وقال: كل واحد قولا وصوب بعضهم بعضا بدليل أنه ينفى بينهم تعظيم بعضهم للبعض وترك إنكار بعضهم قول البعض ولو اعتقد كل واحد منهم أن صاحبه مخطئ لأنكره لأن إنكار المنكر واجب فصار هذا دليلا من إجماعهم أنهم لم يعتقدوا تخطئة بعضهم بعضا. بل كانون على تصويب بعضهم البعض ولأنه لو كان الحق واحدا من الأقاويل وما عداه كان خطأ لكان الله سبحانه وتعالى كلفه بالعدول إلى الصواب ولو كان على الحق دليل قاطع لفسق مخالفه ولمنع المفتى من الفتوى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 310 والحاكم من الحكم به وكان ينبغى إذا حكم الحاكم به ينقض حكمه وحين لم يقل بهذا أحد علمنا أن كل مجتهد مصيب للحق وهذا دليل معتمد لهم. دليل أكثرهم قالوا: لو كان المجتهد في الفروع مخطئا لأدى إلى أقسام كلها باطلة وذلك لأنه لا يخلو إما أن يقطعوا في الجملة أن المخطئ من المجتهدين مغفور له تقصيره في النظر وإما أن لا يقطعوا بذلك فإن لم يقطعوا بذلك فهو باطل لأنهم لا يقولون به على ما زعمتم ولأن الصحابة ما كان ينكر بعضهم على بعضهم أقاويلهم في مسائل الاجتهاد إنكار فعل من يجوز أنه من أهل النار وإن كان غفران خطئه في الجملة مقطوعا به لم تخل إما أن يكون المجتهد إذا أخطأ يجوز كونه مخطئا ومخلا بنظر يلزمه فعله ولا يجوز ذلك فإن قلتم لا يجوز أن يكون مخلا بالنظر فمحال لأنه على هذا لا يصح تكليفه النظر الذى فرط فيه لأنه قاطع على أنه ما فرط في النظر ولأنه في حكم الذاهل والساهى والذاهل والساهى لا يكلف في حال ذهوله وسهوه ولا يستحق عقابا. فيقال: إنه غفر له وإن كان يجوز كونه مخطئا ومخلا ببعض النظر فلا يخلو إما أن يعلم أنه مغفور له في ذلك الحال إخلاله بما أخل به من النظر أو لا يعلم ذلك ومحال أن يعلم ذلك لأن المجتهد لا يميز المرتبة التي إذا انتهى إليها غفر له إخلاله مما بعدها من النظر وذلك أنه يعلم بأنهم إن اقتصروا على أول النظر لم يغفر له ما بعده وبعد هذا ليس مرتبة أولى من مرتبة ولا يمكن الإشارة إلى ما تتميز به بعض المراتب عن البعض مع أنه مجوز في جميع ذلك أنه مخل بنظر يلزمه فعله وبعد فلو علم المجتهد أنه مغفور له إخلاله بالنظر لكان إغراء بالمعصية لأنه يكون قد علم أنه لا ضرر عليه في تركه النظر الزائد وإن كان المجتهد المخطئ إنما يعلم في الجملة أن المخطئ من المجتهدين مغفور له إذا انتهى إلى مرتبة ما من مراتب النظر وداخل بما بعدها ولم يتعين له تلك المرتبة وجوز أن يكون أخل بالنظر الزائدما انتهى إلى تلك المرتبة التي تغفر له بما بعدها من النظر لزم أن يجوزوا كون المجتهد من المخطئين ما انتهوا إلى هذه المرتبة وفى ذلك تجويز كونهم غير مغفور لهم وأنهم من أهل العقاب وقد أجمع أهل الاجتهاد على خلاف هذا فقد بان أن القول بخطأ المجتهدين وإصابة الواحد منهم فحسب يؤدى إلى أقسام كلها فاسدة وفى القول بإصابتهم خلاص من هذه الوجوه أجمع وهذا الذى ذكرناه دليل المتكلمين. وأما أبو زيد احتج بهذا القول وقال: إن المجتهد كلف الفتوى بغالب رأيه وما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 311 كلف إلا الفتوى بالحق فلولا أنه مصيب الحق وإلا لما توجه التكليف عليه بإصابته بغالب الرأى لأن الله تعالى لم يكلف مما ليس في الوسع فدل أن كل مجتهد مصيب للحق وأن الحق حقوق لا واحد وهذا كاستقبال القبلة فإنه شرط لصحة الصلاة وهى إلى جهة واحدة حال التبين عند الاشتباه تصير الجهات كلها قبلة على ما قال الله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] حتى قالوا: إن المتحرين إذا صلوا إلى أربع جهات مختلفة أجزأتهم صلاتهم قالوا: ولا نمنع أن تكون أقوال المجتهدين كلها حقا في الحادثة الواحدة لكنه في أناس مختلفين لبعضهم الحظر ولبعضهم الإباحة وهذا كما صح في باب قبلة الصلاة حال الأشتباه إذا اختلفوا وكانت قبلة كل فريق ما أدى إليه تحريه يدل عليه أنه يجوز من الله تعالى بعث رسولين في زمان واحد إلى قومين مختلفين بحكمين مختلفين في نازلة واحدة ويكون كل واحد من الحكمين حقا عند الله فكذلك جاز بالاجتهاد مثل ذلك فيختلف عالمان في الاجتهاد ويلزم كل واحد اتباع إمامه ويكون كل واحد منهم محقا مصيبا وهذا لأن الله تعالى ابتلى عباده بهذه الأحكام ليمتاز الخبيث من الطيب ويجوز اختلاف الحكم بين الناس باختلاف الأزمان فيختلف الابتلاء لأجله فكذلك يجوز الاختلاف باختلاف الطبقات في زمان واحد ألا ترى أن مصالح الأطعمة كما تختلف باختلاف الأزمنة كذلك تختلف باختلاف الناس في زمان واحد وهذه الدلائل لهذا القول. فأما من يقول بالأشبه فسنبين الكلام فيه بعد هذا ونبين ما يكون الصواب منه. وأما دليلنا على أن الحق واحد في أقوال المجتهدين وما عدا ذلك خطأ قوله تعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ، فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 78, 79] فلو كانا مصيبين لما خص سليمان بفهم الحكم لأن داود عليه السلام قد فهم من الحكم ما فهم سليمان. فإن قيل: هذا شريعة من قبلنا ويجوز أن لم يكن داود وسليمان مصيبين وذلك شريعتهما وأما في شريعتنا فيكون كل مجتهد مصيبا. والجواب: أن الأصل أن كل ما ذكره الله تعالى في القرآن فإنما ذكره لنستفيد به في شرعنا ولم يكن ذكره على مجرد حكاية وسرد قصة وليست فائدة هذا إلا أن نعلم ما قلناه ونحن إذا جعلنا حكمنا على خلاف حكمهم بطلت هذه الفائدة وعلى أنا نقول: شريعة من قبلنا لازمة لنا على قول جماعة من أصحابنا إلا في موضع قام الدليل على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 312 خلاف ذلك. وأما الذى تعلقوا به من قوله تعالى: {وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} [الأنبياء: 79] . قلنا: لم يذكر الله تعال أنه آتى كلاهما حكما وعلما فيما حكما به في هذه الحادثة فيجوز أن المعنى من ذلك إعطاء العلم بوجوه الاجتهاد في طرق الأحكام وعلى أنه يرد عليهم ما قالوه فإنه ليس يجب إذا كانا قد أصابا أن يكون كل مجتهد مصيبا في هذه الشريعة ويدل على ذلك من جهة السنة قوله عليه السلام: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب له أجران وإن اجتهد فأخطأ له أجر واحد". فأخبر صلى الله عليه وسلم بأن منهم من يصيب ومنهم من يخطئ وإن حكم المصيب كذا ولو كانوا مصيبين كلهم لم يكن لهذا التقسيم معنى. فإن قيل: معنى قوله فأخطأ أى أخطأ النص. ثم قالوا: لو كان خطأ كما قلتم لم يستحق الأجر لأن أحسن أحوال المخطى العفو فأما استحقاق الأجر فلا. والجواب الأول: قلنا: لو كان معنى قوله فأخطأ أى أخطأ النص لكان معنى قوله: فأصاب أى أصاب النص لا يكون حينئذ للاجتهاد حكم ما والخبر ورد في موضع إثبات حكم الاجتهاد وإصابة الحق أو عدم إصابته وأيضا فإنه لا يقال: من لم يبلغه النص ولم يتمكن منه أنه مخطئ للنص كما لا يوصف من لم يبلغه شريعة النبى صلى الله عليه وسلم بأنه قد أخطأها وأيضا فإن من طلب النص واستقصى في طلبه فلم يظفر به واجتهد فهو مصيب عندكم وإن طلب فقصر في الطلب فهو مخطئ في الاجتهاد فلا يستحق الأجر عند أحد فكيف يصح الحمل على هذا الموضع وأما الأجر الذى يستحقه إذا أخطأه فهو بقصده طلب الصواب باجتهاده فيؤجر بذلك وإن كان قد فاته المقصود وسبيل هذا سبيل رجل قصد مكة للحج فسلك بعض الطريق ثم انقطع فهو على ما قطعه من الطريق مأجور وإن كان بانقطاعه عن بلوغ بلوغ البت منقوصا كمن افتتح الصلاة ثم تبين أنه لم يكن على طهارة فإنه لم يكن مأجورا وإن لم يحصل الغرض له منها وكمن أخرج درهما ليتصدق به ففعل. ثم استحق فإنه يكون مأجورا على قصده التقرب به إلى الله تعالى وإن كان لم يحصل غرضه ومقصوده والمعتمد من الدليل الإجماع من الصحابة فإنهم اتفقوا على الاجتهاد في المسائل وأنكر بعضهم على البعض وخطأ بعضهم بعضا ونصوا على الخطأ في اجتهادهم فلو كان كل مجتهد مصيبا وكانوا يعتقدون ذلك لم يصح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 313 تخطئة بعضهم على بعض ولا إنكار بعضهم بعضا ولكان لا يجوز لبعضهم إذا بلغ إليهم قول البعض أن يخالفه لأنه حينئذ يكون مخالفا للحق والصواب. وبيان ما ادعيناه من أقوال الصحابة وقول أبى بكر رضى الله عنه: أقول في الكلالة برأيى فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمنى ومن الشيطان1. ويدل عليه أن عمر رضى الله حكم بحكم. فقال رجل حضره: هذا والله الحق. ثم حكم بحكم. آخر فقال الرجل: هذا والله الحق فقال عمر: إن عمر لا يعلم أنه أصاب الحق لكنه لا يألوا جهدا. وعن عمر رضى الله عنه أنه قال: لكاتبه اكتب هذا ما رأى عمر فإن كان خطأ فمنه وإن كان صوابا فمن الله. وعن على رضى الله عنه أنه قال في قصة المجهضة: إن كانوا لم يجتهدوا فقد غشوك وإن كانوا اجتهدوا فقد أخطأوا عليك وعلى قومك الدية. وقال ابن مسعود رضى الله عنه: أقول فيها برأيي فإن كان صوابا فمن الله تعالى وإن كان خطأ فمنى ومن الشيطان2. وقال عثمان رضى الله عنه في امرأة أقرت بالزنا عند عمر رضى الله عنه: أراها تستهل كأنها لا تعلم وإنما الحد عن من علم فبين خطأه في اجتهاده. وعن على رضى الله عنه: أنه ندم على إحراق المرتدين لما بلغه قول ابن عباس رضى الله عنهما: لا يعذب بالنار إلى ربها. وبلغ أيضا عليا تحكيم الحكمين فقال في ذلك شعرا: لقد عثرت عثرة لا أتحير ... سوف أكيس بعدها وأستمر وأجمع الرأى الشتيت المنتشر وقال عبيدة السلماني [فى مسألة بيع] 3 أم الولد: رأيك مع الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك في الفرقة وهذا تعريض له أنه قد أخطأ. وروى أن عليا وزيدا وابن مسعودد خطأوا ابن عباس في ترك القول بالعول حتى قال ابن عباس: من شاء باهلته إن الذى أحصى رمل عالج عددا لم يجعل في ماله   1 أخرجه الدارمي: الفرائض "2/462" ح "2972". 2 تقدم تخريجه. 3 كشط بالأصل ولعل الصواب ما أثبتناه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 314 واحدا نصفا ونصفا وثلثا ذهب النصفان بالمال فأين موضع الثلث. وروى عن ابن عباس أنه قال: ألا يتق الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابن ولا يجعل أب الأب أبا وهذا طريق المبالغة في التخطئة وليس على طريق أنه ترك التقوى فهذا إجماع منهم على أن جميع المجتهدين ليسوا بمصيبين وأن بعضهم مخطئ وبعضهم مصيب وليس لهم أن يقولوا: إن الصحابة إنما خطأ بعضهم بعضا لأنها جوزت أن يكون غيرهم قصروا في النظر ولم يبالغوا فيه ولهذا جوزوا الخطأ وقالوا ما قالوا هذا لا يصح لأن المخالف في هذه المسائل ابن عمر أن المختلفين فيها مصيبون ولا يفرقون بين هذه المسائل وبين سائر مسائل الاجتهاد ولا يجوز أن يقال: إنهم لم يقولوا ما قالوه عن اجتهاد والكلام فيما إذا قالوا ما قالوه عن اجتهاد لأن هذا إساءة الظن بالصحابة وحمل أمرهم على أنهم قالوا ما قالوه عن جزاف وتنجيم وهذا محال ولأنهم كانوا يؤبون إلى أماراتهم التي اعتمدوها في الدلالة على الأحكام. فإن قال قائل: إن المراد بالخطأ المذكور في هذه خطأ الأشبه ونحن نقول: يجوز خطأ الأشبه. والجواب: إنما قلناه دليل قاطع على من قال: إن كل مجتهد مصيب للحق عند الله تعالى وأما القول بالأشبه فهو باطل وسنبين ذلك من بعد. وأما الذى قالوا: في حجتهم إن الصحابة كان يصوب بعضهم بعضا في الاجتهاد. قلنا: ليس كذلك بدليل ما بينا من قبل وليس نعلم أحدا منهم قال لصاحبه في اجتهاد وجد منه: أصبت في قولك. وقولهم: إنه بقى بينهم تعظيم بعضهم بعض. قلنا: إنما كان كذلك لأنهم كانوا يعتقدون أن الخطأ خطأ مغفور أو جوزوا كونه صغيرة وبارتكاب الصغائر لا يذهب تعظيم بعضهم للبعض ثم نقول: قد تناظروا فيما بينهم ومنع بعضهم البعض من الذهاب إلى ما صار إليه بقول بليغ يشبه الإنكار الشديد وقد حكينا مثال هذا عن ابن عباس وقد روى عن على أنه قال في عبد الله ابن عباس حين بلغه أنه يخالفه في مسائل: إنه رجل نابه فثبت أن إجماع الصحابة معنا في هذه المسألة وهو دليل مقطوع به لا يجوز العدول عنه بحال ومما نقل عن الصحابة من تصويب بعضهم بعضا فيجوز أن يدعى ذلك في القراءات وفى الآراء وفى الحروب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 315 أما في القرآن لأنهم اعتقدوا أن الكل بمنزلة من الله تعالى وأن الإنسان متخير في القراءة بأى آي شاء على ما ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: "نزل القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف" 1. فأما الآراء في الحروب فيجوز أن يقال: إنهم صوب بعضهم بعضا لأنهم ربما كانوا يعتقدون أن غيرهم أعلم بوجوب الحرب ومعرفة المكائد فيها أو كان يعتقد أنه كانت التجربة فيها بصاحبه أكثر منه وهذا غير مستنكر منهم. فأما تصويب بعضهم بعضا في الاجتهادات فلا يعرف ذلك بحال. واستدل الأصحاب أيضا وقالوا: إن القولين المتضادين في مسائل الاجتهاد كالتحليل والتحريم والإيجاب والإفساد لا يخلو إما أن يكونا صحيحين أو فاسدين أو أحدهما صحيحا والآخر فاسدا ولا يجوز أن يكونا فاسدين لأنه يؤدى إلى أن يكون الشئ الواحد حراما وحلالا صحيحا فاسدا وهذا محال فلم يبق إلا أن يقال: إن أحدهما صحيح والآخر فاسد وهذا الحقيقة وهو أن كل واحد من مسائل الاجتهاد إما أن يكون فيها أمارة هى أقوى من غيرها وإما أن يكون فيها أماراتان متكافئتان على قول من يجوز ذلك وإن كان فيها أمارة هي أقوى من غيرها فقد كلفت المجتهد إصابتها والظن لها والحكم بها فمتى عدل عنه فقد أخطأ وإن كانت فيه أماراتان متكافئتان فقد كلف إذا إصابة تكافئهما الظن لهما أو يحكم بالتخيير بين حكميهما فمتى عدل عن ذلك فقد أخطأ فلا بد من وجود الخطأ في كل واحد من الموضعين والدليل على أنه كلف إصابة الأمارة القوية من حيث غلبة الظن أو الإصابة لتساوى الأمارتين إن جاز تساويهما بأن المجتهد طالب وإنما هو طالب في هذا الموضع أمارة مقربة للظن ومعلوم أن المجتهد ليس يقصد باجتهاده الظفر بأضعف الأمارات ولا هو كلف ذلك فصح أنه كلف الظفر بأقواهما. فإن قيل: فهل يجوز أن تعتدل الأمارات عند المجتهد في المجتهد. قلنا: لا يجوز ذلك وإنما قلنا ما قلناه على التقدير ومذهب الفقهاء أنه لا يجوز اعتدال الأمارات بحال ولا بد أن يكون لإحدى الأمارتين ترجيح على الأخرى. وقد جوز أبو على وأبو هاشم ذلك.   1 أخرجه النسائي: الافتتاح "2/113" "باب جامع ما جاء في القرآن" وأحمد: المسند "5/52" ح "20450". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 316 وندل في هذا الموضع على أنه يجوز. فنقول: لو تعادلت الأمارتان في القوة لم يكن الحكم لإحديهما أولى من الحكم بالأخرى وفى ذلك إثبات حكميهما. أما على الجمع فذلك غير ممكن وأما على التخيير فالأمة مجمعة على أن المكلفين غير متخيرين في مسائل الاجتهاد ولأنه لو تعادلت الأمارتان أدى إلى الشك في الحكم وذلك لا يجوز. وإنما قلنا: إنه يؤدى إلى الشك لأن الرجلين المتساويين في الصدق لو أخبرها أحدهما أن النبى صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة وأخبر الآخر أنه صلى في الكعبة وأنه شاهده منذ دخلها إلى أن خرج منها وقد عرف أنه لم يدخلها إلا مرة واحده وأخبر الآخر انه رآه صلى فيها فإنها تشكك هل صلى فيها أو لم يصل فيها ولا يظن أحدهما ولا كل واحد منهما وإنما لا يظن أحدهما لأنه لا ترجيح لأحدهما على الآخر وكيف يترجح ولا دلالة في الترجيح ولا يجوز أن يظن كلاهما لأن ذلك مستحيل فإنه يستحيل أنه صلى ولم يصل وإذا عرف هذا في هذه الصورة فهكذا تكون الأمارات المستنبطة. فإن قال قائل: هلا قلتم بالتخيير إذا تعادلت الأمارتان؟ قلنا: التخيير بين النفى والإثبات لا يصح إلا على معنى الإباحة والإباحة حكم واحد فكيف يقال فيه: إنه مخير؟ فإن قالوا: إن الإباحة هى التخيير بين الفعل والكف عنه على الإطلاق وأما في هذه المواضع فإنما يقال للمكلف: افعل إن اعتقدت كون الفعل مباحا ولا تفعله إن اعتقدت حظره. الجواب أنه يقال لهم أليس إن الاعتقاد بحظره وإباحته علم فلا بد أن يقال بلى فيقال له فما الطريق إلى كون ذلك علما فإن قالوا بثبوت الأماره أو الدلالة. قلنا: وفى كل واحد من القولين أمارة ودلالة فكيف يجوز أن يقال: إن الطريق له في العلم بالإباحة أمارة أو دلالة وأنتم تجوزون ألا يعتقد الإباحة ويعتقد الحظر. فإن قالوا: إن الطريق إلى العلم بالإباحة أو العلم بالحظر أن يختار المكلف اعتقاد أحدهما. قيل: اختيار الإنسان أن يعتقد شيئا ليس بدليل على صحة معتقده فيكون اعتقاده علما ولو جاز ذلك لجاز أن يختار الاعتقادات كلها باختيارنا علوما وكيف يجوز ذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 317 مع أن الإنسان قد يختار الصحيح كما يختار الفاسد وأيضا فحسن الاختيار للاختيار تابع الاعتقاد لأنه إنما يحسن أن يختار ما هو حسن في نفسه وحسن الاعتقاد تابع للمعتقد لأنه إنما يحسن أن يعتقد بما هو صحيح في نفسه فالاختيار تابع للمعتقد وهم عكسوا القصة فجعلوا الاعتقاد تابعا للاختيار وجعلوا صحة المعتقد تابعة للاعتقاد وهذا الذى ذكرناه يقتضى أن العامى إذا أفتاه مفتى بالحظر وأفتاه آخر بالإباحة. وقلنا: إنه يجب عليه أن يجتهد فيها فإنه إذا اجتهد فيها فلا بد أن يترجح عنده أحدهما على الآخر. فإن قال قائل: هلا قلتم أنه يصير الفعل مباحا إذا تساوت الأمارتان قلنا: لو وجعلناه مباحا لكنا قد عملنا على أمارة الإبحاة مع مساواة أمارة الحظر لها وليس يجوز ذلك لأنهما إذا تساويا وجب الشك والعمل في المسائل يتبع الظن لا الشك. فإن قال قائل: أليس إن الشافعى قال بالقولين في مسائل كثيرة وهذا يدل على أنه قد جوز اعتدال الأمارة عند المجتهد بحيث لا يكون لأحدهما ترجيح على ما بينا والكلام في القولين سيأتى من بعد ويتبين بهذا الذى قلنا أن الذى صار إليه أبو حنيفة من اعتقاد الشك في سؤر الحمار والبغل باطل وهو أن ما صار إلى ذلك بدعواه أنه اعتدلت الأمارات وهى موجبة للطهارة والنجاسة من غير ترجيح ونحن قد بينا أن الترجيح عند المجتهد لا بد منه وأن الاعتدال على وجه لا يكون ترجيحا ولا ترجيح يجوز إلى هذا الموضع إن جر الكلام في هذه المسألة رجعنا إلى تمام الكلام في مسألة المجتهدين واحتج الأصحاب أيضا وقالوا لو كان المجتهدين على اختلافهم مصيبين لم يكن في مناظرة بعضهم بعضا معنى لأن كل واحد منهم يعتقد أن الآخر أدى ما كلف وأصاب في فعله فما وجه مناظرته ونحن نعلم أن كل واحد يناظر صاحبة ليرده عن ما هو عليه فلو كان مصيبا لما كان له أن يقصد رده من الصواب وهم يقولون إنما يناظره ليريه أن أماراته أقوى من أمارته فهو يناظره ليريه ذلك وإن كان فرض غيره بما هو عليه فإذا بان له أن أمارة من ناظره أقوى من أمارته تغير فرضه وصارت مصلحته أن يحكم بالأمارة التي بانت له قوتها فإن قلتم: فما الفائدة؟ فيقال: الفائدة في ذلك أنه لا يمتنع أن يكون إذا تغير فرضه ولزمه أن يحكم بالأمارة التي بان له قوتها كان ثوابه على ذلك أكثر فكذلك يتناظر الجتهدان ولأجل إن هذه المناظرة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 318 غير راجعة إلا إلى هذه الفائدة لم تجب المناظره بل يندب المتناظران إلى ذلك فحسب. واحتج أبو زيد بهذا القول. وقال: إنه ممتنع في العقول لثبوته الحظر والإباحة والصوم والفطر حقين يلزم اعتقادهما في ساعة واحدة لأنه لا يمكن العمل بهما. ألا ترى: أنه يمتنع ذلك في النصين فإن النصين إذا اختلفا وأباح أحدهما وحظر الآخر لم يجب العمل بهما بل يجب الوقفة إلى أن يظهر الرجحان لأحدهما ولأنه لو كان الحق حقوقا على ما قالوا لجاز للعامى الذى يعمل باتباع العلماء أن يختار من كل مذهب ما يهواه لنفسه كما أن الله تعالى لما أثبت الكفارة في باب اليمين أنواعا كان للعبد الخيار بينهما على ما يهواه بلا دليل من أباح هذا فقد شرع طريق الإباحة وبنى الدين على الهوى والله تعالى ما نهج الدين إلا على طريق غير الهوى من نص ثابت أو قياس شرعى على ما بينا وقرر هذا الكلام تقريرا طويلا والاعتماد على ما سبق من إجماع الصحابة والدليل الذى ذكرناه بذكر الحقيقة. فأما الجواب: قلنا: أما تعلقهم بالاية وما ذكر من أحوال الصحابة وتصويب بعضهم بعضا فقد سبق الجواب عنه. فأما قولهم: إنه لو كان الصواب في واحد من أقوال المجتهدين لوجب أن ينصب الله تعالى دليلا قاطعا عليه ليعدل إليه. قلنا: قد دلنا الله تعالى على الحكم الذى كلفناه بدلالة قاطعة لأن الله تعالى قد كلفنا العمل بأقوى العلل وأولاها وقد جعل لنا طريقا نقطع معه بان أحد الظنين أولى أن يعلق الحكم به وإنه إذا وجد في الأصل والفرع يلزمنا الحكم به في الفرع ونعنى بالدلالة القاطعة الدليل الذى ذكرناه في وجوب استعمال القياس وقد بينا وجوه التأثير من قبل. واعلم أنا إذا استنبطنا معنى من أصل وجدناه في الفرع يجب علينا أن يثبت مثل حكم الأصل في الفرع ونقطع أن الحكم في الفرع بهذه العلة لكن إذا ثبت أنه علة الأصل غير أنا لا نقطع بكونه علة الأصل وليس بممتنع أن يكون علمنا بكون العلة علة الحكم في الفرع يستند إلى ظننا أن العلة علة حكم الأصل لأنه لا يمتنع أن يقف العمل في الشئ على شرط مظنون كما علمنا لوجوب التحرير من مضرة مخصومة على الظن لنزولها بنا فيكون المعنى المستنبط علة الحكم ظنى وأما ثبوت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 319 الحكم في الفرع بذلك المعنى قطعى. وأما قولهم: لو كان على الصواب من الحق دليل من قبل الله تعالى لنقض الحكم ما عداه ولم يسع الفتوى. قلنا: ليس يجب هذا وليس مع الخصم إلا مجرد الدعوى. ببينة: أن كثيرا من المجتهدين يستدل بالقرآن في مواضع وبالنصوص في مواضع ولا شك أنه الدليل ما عداه ومع ذلك لا يفسق تارك ذلك لأن كل واحد من المجتهدين يرجع إلى دليل عنده ويصير إلى تأويل لما يتعلق به من مخالفة لذلك في الأقيسة لما كان كل واحد من القائسين يصير إلى تأثير عند نفسه وهو في الأصل الذى يسنبط منه ظنى لم يفسق من يخالف ولم ينقض الحكم الصادر مما يخالفه وساغ الفتوى والحكم به لمن يظن أنه الحق. وأما قولهم: إن القول بتخطئة بعض المجتهدين وتصويب البعض يؤدى إلى اقسام كلها فاسدة. قلنا: لا يؤدى لأنا بينا أن على الحق دليلا منصوبا من قبل الله تعالى لكن إنما يوصل إليه بطريق ظنى فما يعود إلى معرفة علة الأصل في الظنيات ميل عظيم وكل واحد يظن غير ما يظن صاحبه وليس يستقر على شئ واحد فالشرع سامح في ذلك ولم يؤاخذنا بخطأ. بل أصاب بقصد طلب الحق وبذل الجهد منه عند نفسه وغفر له ماأخطأه وجعله من المعفو عنهم وأما في الأصول الدينية فلما كان الوصول إليها بالدلائل القطعية من كل وجه شدد الله تعالى في ذلك ولم يعذر بالخطأ وفسق بالخلاف تارة وكفر أخرى وعفى مرة ولم يعف أخرى فهذا هو الفرق بين مسائل الأصول بين مسائل الفروع وهو أيضا يبين وجه قولنا: إنه مع خطأه الصواب عند الله عز وجل مغفور له. وأما قولهم: إنما قلتم يؤدى إلى تكليفه ما ليس في الوسع. قلنا: ليس كذلك لأنا أمرناه بطلب الحق وقد يجوز أن يصيبه في الجملة وإذا لم يصب لا يكون عليه مؤاخذة ولا تبعة فأين قولهم: إنه تكليف لما لا يكون في وسعه. وأما تعلقهم بفصل القبلة. قلنا: نحن نقول: إنما يكون مصيبا إذا أصاب القبلة فأما إذا لم يصيب القبلة يكون مخطئا حقيقة ويلزمه إعادة الصلاة فإن قيل: إذا اجتهد أربعة أنفس في القبلة فأدى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 320 اجتهاد كل واحد منهم إلى جهة تخالف جهة صاحبه هل يصلون على ما أدى اجتهادهم إليه. فإن قلتم: يصلون فقد صوبتموهم وإن قلتم لا يصلون فهذا منع لهم من الاجتهاد وتعطيل لصلواتهم. والجواب: أنا لا نستدل عليكم إلا بفصل القبلة فإن المجتهدين في القبلة مطلوبهم القبلة بعينها فكذلك يجب أن يكون مطلوب المجتهدين في الحوادث حكما معينا عند الله تعالى. ببينة: أن المجتهد في القبلة يعلم أن القبلة عين من الأعيان يجوز أن يكون في الجهة التي يظن بأقوى الأمارات أن القبلة فيها ويجوز أن لا يكون فيها فيقولوا في حكم المسألة هو حكم معين عند الله تعالى يجوز أن يكون هو حكم أقوى الأمارات ويجوز أن يكون غيره. وما المسألة التي ذكرتموها. قلنا: إنما جازت صلاة هى واحد منهم في الحال لجواز أن يكون المصيب هو دون غيره لكن نقطع بإصابة بعضهم وخطأ البعض ولو تبين الخطأ فإنا لا نوجب الإعادة على المخطئ. واعلم أن الذين يقولون بإصابة المجتهدين كلهم على الإطلاق يزعمون أن الدليل ليس الظن المجتهد بأمارة وكلهم في هذا الظن واحد فيكون كلهم في الإصابة واحد. قال أبو هاشم: ليس على المجتهد إلا أن يحكم بما هو أولى عنده في ظنه وفى هذا المعنى لا يجوز تخطئة البعض وتصويب البعض ونحن نقول: إن الدليل هو الكتاب والسنة والإجماع والقياس على الأصول الثابتة بأحد هذه الدلائل والدليل على هذا قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] ثم القياس دليل مستند إلى الكتاب والسنة ثم الظن الذى قالوه لا يجوز أن يكون مجرد الظن حجة لأن ذلك يوجد للعامى كما يوجد للعالم ولكن الحجة ظن بأمارة من كتاب أو سنة أو إجماع ويجوز أن يصيبه الواحد ولا يصيبه الواحد وهذا لأن العلل إنما تكون عللا صحيحة إذا كانت مؤثرة وقد بينا وجه التأثير وكيفيته ولا يتصور اعتدال المؤثرات على السواء بحيث لا يكون لجانب رجحان على الجانب وبينا أن اعتدال الأمارات والتأثيرات في حكمين مختلفين يؤدى إلى الحكم بالشك وهذ لا يجوز وإذا لم يكن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 321 بد من ترجيح إحدى الأمارتين على الأخرى ثبت أن القول بتصويب المجتهدين باطل وعندي أن هذا القول وهو القول بإصابة المجتهدين يؤدى إلى أن يعود على الإجماع بالخرق وعلى الأمة بالتخطئة لأن الاجتهاد شئ معهود من لدن أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم ورضى عنهم إلى أيامنا هذه وقد أجمعوا على تخطئة بعضهم بعضا ويرتقون عن هذه الدرجة وينسبون مخالفتهم إلى القول بالباطل واعتقاد غير الحق على الإطلاق من غير تحاش وامتناع وكذلك ما زال بعضهم يقيم على البعض الدليل ويدعوه إلى ترك قوله بقوله وإنما فعلوا ذلك لاعتقادهم بإصابتهم وخطأ صاحبتهم وظهر أيضا بين الأمة التفرق حتى انتسب كل طائفة إلى ما لا ينتسب لطائفة أخرى وادعى من إصابة الحق ما لم يعترف من إصابة صاحبه وهذا شئ مشهور لا يخفى على أحد هذا في جانب المجتهدين الطالبين الباحثين وإنما في جانب المطلوب وهو حكم الشارع في الحادثة. فنحن نعلم أيضا إذ اتدبرنا قانون الشريعة وأصولها وقواعدها أن الحق أيضا هو أن يكون الحكم في الحادثة واحدا وأنه أمر المجتهد بإصابته وطلبه وذلك لأنا نطلب الأحكام في الحوادث التي لم يرد فيها نص من الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم على منهاج الإحكام التي ورد فيها نصوص فإن موضع التعلق إما بالمعانى المؤثرة العالقة بالقلوب عند عرضها على الأصول أو الأشباه التي هى موافقة للأصول ملائمة لها ونحن نعلم قطعا أنه لا يوجد في الأحكام المنصوص عليها في الحوادث إلا القول الواحد في الحادثة ولم يعرف وجود حكمين مختلفين يتناولهما النص بحادثة ما من الحوادث بل النصوص في الكتاب والسنة تتناول الحكم الواحد في الحادثة الواحدة فينبغى أن يكون المطلوب على وفق ذلك في الحوادث التي لم يتناولها النص بل ينبغى أن يكون الحق ليكون حكم الحوادث المتفرعة عن الأصول على وفق أحكام الأصول وهذا هو الأولى. بحكمة الله تعالى أن يكون حكمه في الحادثة واحد غير مختلف وأن يجعل الناس في شرعه على السواء خصوصا في الزمان الواحد والشئ الواحد وهو الأولى أيضا عند إرادته جل جلاله لتعريض العبد للثواب وابتلائه لطلبه لأن العبد إذا اعتقد أن كل مجتهد مصيب الحق عند الله تعالى للحقه الكلال والكسل في الطلب بل يتوانى ويقصر ويعتمد على أنه إن أصاب أو أصاب صاحبه فقد أصاب الحق. وإذا علم أن الحق واحد وأن الله عز وجل كلفه الإصابة ببذل مجهوده يتكلف ويتحمل كل كد وتعب في الطلب ليصيب الحق عند الله تعالى ثم يكون التوفيق والهداية له من الهوى على قدر سعيه وكده وبذله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 322 وجهده فثبت عند التقريرات أن اللائق منهج الشرع ومحاسن الدين ومسالك الحق أن يكون الحق على ما اخترناه. ولقد تدبرت فرأيت أكثر من يقول بإصابة المجتهدين هم المتكلمون الذين ليس لهم في الفقه ومعرفة أحكام الشريعة كثير حظ ولم يقفوا على شرف هذا العلم وعلى منصبه في الدين ومرتبته في مسالك الكتاب والسنة وإنما نهاية رأس ما لهم المجادلات الوحشة وإلزام بعضهم بعضا في منصوبات وموضوعات اتفقوا عليها فيما بينهم فكل يلزم صاحبه طرد دعواه وعند عجزه يعتقد عجز صاحبه وفلح نفسه وقد رضى بهذا المقدار من غير أن يطلب النفائس أو تلج صدورا في إقامة دليل يفيد يقينا أو بصيرة وهذا هو أعم أحوالهم إلا في النازلات النادرة فنظر هؤلاء إلى الفقه ومعانيه بأفهام كليلة وعقول حسيرة فعدوا ذلك ظاهرا في الأمر ولم يعتقدوا لها كثير معانى يلزم الوجوب عليها. وقالوا: لم يكلف المجتهد إلا محض ظن يعثر عليه بنوع أمارة وليس يستقيم تكليفه سوى ذلك وليس هاهنا حق واحد مطلوب وربما عبروا عن ذلك فقالوا: إنما كلف المجتهد أن يعمل بحسب ظن الأمارة لا بحسب الدلالة وليس على أعيان الفروع أدلة أصلا وقالوا ليس مطلوب المجتهد إلا الظن للأمارة ليعمل على حسب ظنه وهذا الذى قالوه في غاية البعد وهو أن يكون مطلوب المجتهد مجرد ظن والظن قد يستوى فيه العالم والعامى وقد يكون بدليل وقد يكون لا بدليل فدل أن المطلوب حكم الله تعالى في الحادثة بالعلل المؤثرة والإشارة القوية ولابد من الترجيح لمعنى على معنى ولشبه على شبه وهذا إنما يقف عليه الراسخون من الفقهاء والذين عرفوا معانى الشرع وطلبوها بالجهد الشديد والكد العظيم حتى أصابوها فأما من ينظر إليه من بعد ويظنه سهلا من الأمر ولا يعرف إلا مجرد ظن يظنه الإنسان يعثر هذه العثرة العظيمة التي لا انتعاش عنها ويعتقد تصويب المجتهدين بمجرد ظنونهم فيؤدى قوله إلى اعتقاد الأقوال المتناقضة في أحكام الشرع وأن يكون الشئ حلالا وحراما واجبا مباحا صحيحا فاسدا موجودا معدوما في وقت واحد والكل عند الله تعالى صواب وحق ثم يؤدى قوله إلى خرق الإجماع. والخروج على الأمة وحمل أمرهم على الجهل وقلة العلم وترك الحفل1 والمبالاة بما نصبوا الأدلة لها وكدوا فيها وأسهروا لياليهم   1 أي: الجماعة. انظر القاموس المحيط "3/358". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 323 وأتعبوا فكرهم واستخراجها وإظهار تأثيراتها لما ادعوها من العلل ثم كان نهاية وصولهم عند هؤلاء الجهلة أنهم وصلوا إلى مثل ما وصل إليه مخالفوهم وأن ذلك الذى وصلوا إليه حق عند الله تعالى وضده حق وقوله صواب وقول مخالفيه صواب فيكون سعيه وكده شبه ضائع وثمرته كلا ثمرة وفائدته كلا فائدة. وبطلان مثل هذا القول ظاهر ولعل حكايته تغنى كثيرا من العقلاء عن إقامة البرهان عليه. وأما أصحاب أبى حنيفة فقد قال من قال بتصويب المجتهدين فهم أن عند الله تعالى أشبه مطلوب وأن المجتهد يجتهد ليصيبه وأنه لو ورد النص من الله سبحانه في حكم الحادثة لكان النص على ذلك. ومن قال: هذا فقد قال: إن الحق واحد وما سواه ليس بحق وهذا هو الذى يطلبه ويقيم الدلالة عليه. فإن قالوا إن العبد لم يكلف إصابته. قلنا: إذا سلمتم أن الحق واحد وأن المجتهد طالب وقد كلف الطلب فلابد أن يكون كلف الحق وإصابته. وقد قال أصحابنا: إن الله تعالى قد كلف المجتهد إصابة الحق ونصب الدليل عليه إلا أن من أخطأ لا يأثم ولا يفسق لأن طريق التأثيم والتفسيق الشرع وقد جاء الشرع بإسقاط الإثم على المجتهد على ما سبق بيانه ويحتمل أيضا أن يكون أيضا أسقط عنهم المأثم لخفاء الأدلة وكثرة وجوه الشبه فتفضل الله تعالى ورحم المجتهدين بخفى لطفه وخفى صنعه وأزال عنه الإثم وأثابه على قصده واجتهاده. وقال الأصحاب فيما إذا حكم حاكم باجتهاده إنما لا ينقضه مجتهد آخر وإن كان عنده أنه أخطأ لأنا لو صرنا إلى ذلك أدى إلى أن لا يستقر حكمه في الشرع ولا يثبت ملك لأنه متى حكم حاكم بحق أو ملك يجئ آخر وينقض ذلك ثم بعد ذلك يجئ ثالث وينقضه هكذا أبدا وهذا في نهاية القبح والفساد. وقد قال الأصحاب أيضا: على قول من قال: إن العامى يقلد من شاء من العلماء فدل أن قولهم جميعا صواب وحتى قالوا: نحن لا نسوغ التقليد لمن خالف الحق بل نقول له قلد عالما بشرط أن يكون مصيبا كما نقول له قلد عالما بشرط أن لا تخالف النص على أن لو منعنا العامى أن يقلد إلا من معه الصواب لم يجد إلى معرفة ذلك سبيلا إلا بعد أن يتعلم الفقه وفى إيجاب ذلك على كل واحدة مشقة وحرج عظيم وفساد مصاح يرجع إلى أحوالهم فسومح العامى وأمر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 324 بتقليد الأوثق عنده في نفسه وقد سمعت بعضهم يقول: إن المجتهد إذا بذل وسعه وأدى اجتهاده إلى شيء يلزمه الأخذ بذلك وإذا ترك ذم وعيب على تركه ولولا أنه قد أصاب الحق لم يلحقه ذم وعيب وقال هذا القائل أيضا: إن أدلة الأحكام في الغالب تقع متكافئة وليس فيها ما يقتضى قطعا وكل واحد من الخصمين يمكنه أن يبين تأثير مثل ما يبينه صاحبه أو يبين قوة شبهته على حسب ما بينه صاحبه فلا يظهر لأحدهما مزية على الآخر وكذلك في تأويل الظواهر من الآيات والسنة فإنه يمكن كل واحد من المستدلين أن يؤول ما تعلق به صاحبه قبل ما يؤول صاحبه ما يتعلق هو به فلا يظهر لأحدهما على الآخر رجحان ومزية. ونحن نقول على الأول إنما يلزمه حقيقة ما يؤدى إليه اجتهاده بشرط صحته وسلامته عما يبطله فإن بان خلافه لم يجز الاعتقاد بكون ما أدى إليه اجتهاده حقا وهذا كما أنه إذا اجتهد يعتقد أنه مصيب للحق بشرط أن لا يكون مخالفا للنص فإذا ظهر أنه مخالف لنص كتاب أو سنة فإنه لا يجوز له أن يعتقد ما أداه إليه اجتهاده وعلى أن الذى قالوه دليل عليهم لأنه متى أدى اجتهاده إلى شئ يلزمه أن يعتقده ولا يجوز أن يعتقد خلافه ولو كان ما يؤدى إليه اجتهاده حقا وثوابا جاز له ترك ما أدى إليه اجتهاده إلى ما أدى إليه اجتهاد صاحبه ألا ترى أن في كفارة اليمين لما كان كل الأنواع مأمورا به وكفارة عند الله تعالى تخير المكفر وكان له أن يكفر بأيهما شاء وأما كلامه الثانى فباطل أيضا لأنه إذا اجتهد المجتهدان فلا بد أن يكون لأحدهما ترجيح على صاحبه بوجه ما إما في التأثير وإما في الشبه وكذلك في الظواهر ولهذا إذا تناظر الخصمان بان أن أحدهما أظهر حجة من صاحبه وقلما تخلوا مناظرة من ذلك ويعرف ذلك من يعتقد تصويب المجتهدين كما يعرف ذلك من لا يعتقد وعلى أن هذا الذى قالوه لو كان دليلا على تصويب المجتهدين في الفروع لكان في الأصول كذلك وذلك مثل الأشعرية والمعتزلة إذا تكلموا في تخليد الفساق أو تكلموا في الصفات أو تكلموا في القدر وفى جواز الرؤية على الله تعالى فيوجد من كل واحد أيضا ما يوجد لصاحبه وإنما يفترق الخصمان على التكافئ والتساوي في التأويلات وإيراد الأدلة والشبه ومع ذلك لا يدل ذلك على أن الجميع حق والكل صواب والاعتماد على الجواب الأول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 325 باب اختلاف القولين وحين ذكرنا اختلاف الثانى من أقوال المجتهدين وأردنا حجة كل فريق على الإشباع والتمام وذكرنا الصحيح من ذلك فلا بد من ذكر القولين المنسوبين إلى الشافعى رحمه الله في المسائل وبيان الكلام فيه ووجه ذلك في الموضع الذى يصح وبيان ما لايصح من ذلك. اعلم أن الأقاويل المتناقضة لا يجوز أن يعتقدها أحد من الناس نحو أن يعتقد أن فعلا حرام عليه ثم يعتقد أن ذلك الفعل بعينه على شرطه وجهته جائز له. ويجوز اعتقاد وجوب أحد الفعلين عل البدل والتخيير مثل ما يعتقد من عليه كفارة اليمين أنه يجب التكفير عليه بأحد الأشياء الثلاثة. ويجوز أيضا في فعلين وإن كانا ضدين كما يجوز أن يعتقد أن عليه الخروج الواحد من أحد هذه الأبواب أو عليه الصلاة الواحدة في أحد هذه الأماكن أو على المرأة أن تعتد بالأطهار أو بالحيض. واعلم أن القول المختلف في الحادثة الواحدة على ضربين ضرب لا يسوغ فيه الاختلاف وضرب يسوغ فيه الاختلاف. فأما الضرب الذى لا يسوغ فيه الاختلاف كأصول الديانات من التوحيد وصفات البارى عز اسمه وهى تكون على وجه واحد لا يجوز فيها الاختلاف وكذلك في فروع الديانات التي يعلم وجوبها بدليل مقطوع به مثل الصلاة والزكاة والصوم والحج وكذلك المناهى الثابته بدليل مقطوع به فلا يجوز اختلاف القول في شئ من ذلك. فأما الذى يسوغ ففيه الاختلاف وهى فروع الديانات إذا استخرجت أحكامها بأمارات الاجتهاد ومعانى الاستنباط فاختلاف العلماء فيه مسوغ ولكل واحد منهم أن يعمل فيه مما يؤدى إليه اجتهاده فأما قول العالم الواحد فيه بقولين مختلفين فلم يعلم قبل الشافعى رحمه الله تعالى من قال بذلك تصريحا وهو رحمه الله قد ابتكر هذه العباره وذكرها في كتبه وقد أنكر ذلك كثير من مخالفيه ونسبوه إلى الخطأ في ذلك وقالوا هذا دليل على نقصان الآلة وقلة المعرفة حين لم يعرف الحق من أحد القولين فاحتاج إلى تخريج المسألة على قولين وأيضا فإنه خرق الإجماع فإنه لم يتقدم أحد يقول بقولين فى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 326 مسألة واحدة في حالة واحدة وإنما كانوا من استقر له [حق أثر] 1 ذكره أو خفى عليه فأمسك عنه وأيضا فإن اعتقاد قولين مختلفين مناقضة ويمتنع أن يكون بالشئ الواحد حلالا وحراما ويمتنع أن يكون العقد الواحد صحيحا وفاسدا أو يكون الشئ الواحد مثبتا منفيا. قالوا: وأما الروايتان عن أبي حنيفة ومالك فذلك في حالتين مختلفتين والمجتهد قد يجتهد في وقت فيؤدى اجتهاده إلى شئ ثم يجتهد في وقت آخر فيؤدى اجتهاده إلى خلافه إلا أن الثانى يكون رجوعا عن الأول ويكون الذي استقر عليه قول المجتهد هو الثانى وإن كان فتوى أو قضاء فيكون على ما قال عمر رضى الله عنه ذاك على ما قضينا وهذا على ما نقضى وإنما المستنكر اعتقاد قولين مختلفين في وقت واحد في حادثة واحدة فهذا طعن المخالفين في القولين وقد صنف بعضهم في ذلك تصنيفا مفردا ورأيت لأبى عبد الله البصرى الملقب يجعل في هذا الكتاب مفردا بل صنفه المعروف بالصاحب وهو إسماعيل بن عباد وإذا عرفت هذا فنقول: قد قسموا ما نسبوا إلى الشافعى رحمه الله من القولين أقساما وسنذكر تلك الأقسام حين نبين أن الذى قاله الشافعى ليس بموضع الإنكار والذى هو موضع الإنكار فإنه لا يقول به وهذا شئ ورد على طريق النقل فإن شيوخ المذهب أعلم بهذا من غيرهم. وقال القاضي أبو الحسن الماوردى هو على أربعة عشر قسما: أحدها: أن يقيد جوابه في موضع ويطلق في موضع آخر مثل قوله في أقل الحيض أنه يوم وليلة2 وقال في موضع آخر: أقله يوم يريد به مع ليلة وهذا معهود في كلام العرب من وجهين جاء القرآن بهما: أحدهما: حمل المطلق على المقيد في جنسه لقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وقال في موضع آخر: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] يحمل المطلق من الشهادة على ما فيه بها. والثاني: إطلاق ذكر الأيام يقتضى إضافة الليالى إليها كما قال تعالى: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود: 65] والمراد مع الليالى فعلى هذين أحد القولين يخرج من جملة الاعتراض ولا نقول أن له في المسألة قولين ومن قال أبلغ فيه   1 هكذا ثبت في الأصل "جوائر" ولعل الصواب ما أثبتناه. 2 انظر روضة الطالبين "1/134". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 327 قولين فقد وهم: والقسم الثاني: ما اختلف فيه ألفاظه مع اتفاق معانيها من وجه واختلاف معانيها من وجه فغلب بعض أصحابنا حكمها في الاختلاف ولم يغلب حكمها في الاتفاق فخرج حكم المسألة على قولين مثل قوله في المظاهر إذا منع الجماع أحببت أن يمنع القبلة والتلذذ وقال في القديم: رأيت أن يمنع القبلة والتلذذ1 وهى لفظة محتملة فيحتمل أن تحمل على الاستحباب والإيجاب فكان حملنا على ما صرح به من الاستحباب أولى من حملها على ما يجوز أن يحتمله من الإيجاب لأنه غير مذكور فإن توسع بعض الأصحاب وعدل باللفظ إلى ما يذكره في موضع الذى حمله على إيجاب الاجتناب بوجه الاعتراض عليه لكن بلا معترض على الشافعى فإن الشافعى له قول واحد والمحتمل محمول على غير المحتمل. والقسم الثالث: ما اختلف قوله فيه لاختلاف حاله فينزل به بعض أصحابه عن اختلاف الحاليين إلى اختلاف القولين. ومثاله: في الصداق إذا قدر في السر بتقدير وذكر أكثر منه في العلانية قال في موضع: الصداق صداق السر وقال في موضع الصداق صداق العلانية وليس ذلك منه لاختلاف قولين وإما هو لاختلاف حالين. فإن اختلف العقد بصداق السر فهو المستحق ويكون صداق العلانية تحملا وإن افترق العقد بصداق العلانية وهو المستحق ويكون صداق السر موعدا. فإن قيل: فيستعمل هذا في كل ما يمكن من اختلاف القولين أو لا؟ قلنا يعتبر ذلك أصول مذهبه ويوجد ذلك على ثلاثة أضرب: أحدها: أن يقتضى أصول مذهبه حكمها على اختلاف حالين فيحمل على اختلاف حالين ولا يحمل على اختلاف قولين. والضرب الثاني: يمنع أصول مذهبه من حملها على اختلاف حالين فيحمل على اختلاف قولين على ما سبق صحته. والضرب الثالث: أن تتقابل أصول مذهبه في أمرين فمن أصحابه من غلب حمله.   1 قال الإمام النووي "تكره القبلة لمن حركت شهوته ولا يأمن على نفسه وهي كراهة تحريم على الأصح والثاني: كراهة تنزيه ولا تكره لغيره ولكن الأولى تركها" انظر روضة الطالبين "2/362". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 328 على اختلاف حالين ومن أصحابه من غلب على اختلاف قولين والأول أولى لأن ما أمكن حمله على الوفاق كان أولى من حمله على الخلاف. والقسم الرابع: ما اختلف قوله فيه لاختلاف القراءة أو لاختلاف الرواية باختلاف القراءة مثل قوله تعالى: {أَوْ لمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [النساء: 43] فقرئ "أو لامستم النساء" و "لامستم" يوجب الوضوء على الملامس والملموس ولمستم يوجب على اللامس دون الملموس1. واختلاف الرواية كالمروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيان المواقيت أنه صلى العشاء الآخرة في اليوم الثاني حين ذهب من الليل نصفه وفى رواية أخرى: حين ذهب الليل ثلثه2 فلأجل اختلاف الرواية واختلاف القراءة اختلف قوله ولا يتوجه عليه في مثل هذا إنكار لأن اختلاف الدليل أوجب اختلاف المدلول فإن ترجح عنده إحدى القراءتين أو إحدى الروايتين كان مذهبه ما ترجح وإن لم يترجح أحدهما كان الترجيح مذهبا لمن ترجح عنده ولم يكن مذهبا للإمام الشافعى لأنه لم يترجح عنده ولا يجوز أن يضاف إليه مذهب هو عنده مجهول وإن كان عند غيره معلوما. وأما القسم الخامس: فهو ما اختلف قوله فيه لأنه عمل على أحد القولين بظاهر من كتاب الله تعالى ثم بلغته مسألة ثابته نقلته عن الظاهر إلى قول آخر كقول الله تعالى في صيام المتمتع: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196] فأخذ بظاهره وأوجب صيامها في أيام التشريق لأنها الظاهر من أيام الحج ثم روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن صيامها3 فعدل بهذه الرواية عما عمله به من ظاهر الكتاب وأوجب صيامها بعد إحرامه. وقيل: يوم عرفة اتباعا للسنة.   1 قال الشيخ النووي "لمس بشرة امرأة مشتهاة فإن لمس شعرا أو سنا أو ظفرا وعضوا مبانا من امرأة أو بشرة صغيرة لم تبلغ حد الشهوة لم ينتقض وضوءه على الأصح وإن لمس محرما بنسب أو رضاع أو مصاهرة لم ينقص على الأظهر وإن لمس ميتة أو عجوزا لا تشتهي أو عضوا أشل أو زائدا أو لمس بغيره شهوة أو عن غير قصد انتقض على الصحيح في جميع ذلك وينتقض وضوء الملموس على الأظهر والمرأة كالرجل في انتقاض طهرها بلمسها من الرجل ما ينقضه منها ولنا وجه شاذ أنها لاتزال نلموسة فإذا لمست رجلا كان في انتقاضها القولان وليس بشيء انظر روضة الطالبين "2/74, 95". 2 أخرجه مسلم: المساجد "1/428" ح "176/613" والترمذي: الصلاة "1/286" ح "152". 3 أخرجه مسلم: الصيام "2/800" ح "144/1141" وأبو داود: الصوم "2/332" ح "2419" والترمذي: الصوم "3/134" ح "773". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 329 ومثل هذا قال في الصلاة الوسطى ولا إنكار عليه في هذا العدول لأنه في الحالتين عمل بدليل صار الثانى منهما أولى من الأول ويكون مذهبه هو القول الثانى دون الأول وكان القول الأول مذهبا له قبل الثانى فصار كالمنسوخ بالثانى وعلى هذا نظائر كثيرة في مثل هذين القولين والمذهب في الكل هو الثاني. والقسم السادس: ما اختلف فيه قوله لأنه عمل بالقياس ثم بلغته سنته لم تثبت عند تخالف موجب القياس فجعل مذهبه من بعد ذكر السنة موقوفا على ثبوتها كالذى جاءت به السنة: من الصيام عن الميت1 والغسل من غسل الميت. رويا له من طريقين ضعيفين فقال بموجب القياس في أن الصيام على الميت ولا غسل من غسله ثم ذكر ما روى في السنة فقال: إن صح الحديث قلت به وأظهر موجب القياس وأوجب العدول عنه إن صح الحديث وقد قال كل قول قلته فثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم خلافه فأنا أول راجع عما قلته وقائل بموجب الحديث وهذا مما يجب إظهار الاختلاف فيه وإن نقول بالسنة إن ثبتت وبالقياس إن لم يثبت ويكون ومذهبه في الحالتين ما يوجبه القياس دون السنة فإن ثبت ففى أى وقت ثبت يكون مذهبا له. والقسم السابع: أن يذكر القولين لإبطال ما عداها من أقاويل كثيرة قد ذهب إليها المجتهدون أو يكون مذهبه موقوفا على ما يؤدى إليه اجتهاده من صحة أحدهما وإن لم يكن قائلا بهما في الحال ومثل هذا قد جابه الشرع والعمل: أما الشرع فقول النبى صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر: "التمسوها في العشر الأواخر في رمضان" 2 فنفى أن يكون في غير العشر الأواخر من رمضان وجعل غير الليلة موقوفة على الاجتهاد في العشر الأواخر كأنها إذا اجتهد في الكل أصابها. وأما العمل المأثور ما عمله عمر بن الخطاب رضى الله عنه في أهل الشورى فجعل الإمامة في ستة نفر ونفى بذلك طلب الإمامة من غيرهم وجعلها موقوفة على ما يؤدى إليه الاجتهاد منهم وهذا شئ انعقد إجماعهم وكان الشافعى رحمه الله مقتديا بالشرع من الرسول صلى الله عليه وسلم والعمل من الصحابة في مثله فلم يمتنع أن يبطل بالقولين ما عداهما ليكون الاجتهاد مقصورا عليهما ولا يعدوهما.   1 أخرجه البخاري: الصوم "4/227" ح "1953" ومسلم: الصيام "2/804" ح "155/1148". 2 أخرجه البخاري: ليلة القدر "4/301" ح "2016" ومسلم: الصيام "2/826" ح "216/1167". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 330 والقسم الثامن: أن يقصد بالقولين إبطال ما توسط منهما ويكون مذهبه منهما ما حكم به وفرع عليه مثل قوله في وضع الحوائج وقد قيدها مالك بوضع الثلث فقال الشافعى ليس إلا واحد من القولين إما أن يوضع جميعها أو لا يوضع شئ منها ومثل قوله في الجارية الموصى بها إذا ولدت أو وهب لها مال بعد موت الموصى قبل قبول الموصى له أنه لما جعل بعض العلماء ولدها وبعض ما وهب لها لورثة الموصى وبعضها الموصى له قال: ليس إلا واحد من القولين إما أن ملكها الموصى له بالموت فيكون قبل ذلك بحدوثه على ملكه وإما أن يملك بالقول فيكون كل ذلك للورثة بحدوثه على ملكهم وليس لتبعيضه وجه وهذا تحقيق يبطل به ما خالف القولين وليس فيها تغيير لأحد القولين وإن كل الحق لا يخرج لأحدهما فإن اقترن ما يدل على اختياره كان هو المذهب المضاف إليه دون الآخر وإن تجرد عن قرينه لم يضف إليه واحد من القولين وإن علم أن الحق لا يخرج منها لعدم ما عداهما. والقسم التاسع: أن يذكر قولين مختلفين في مسألتين منفضتين فيذكر أحد القولين في إحدى المسألتين ويذكر القول الآخر في المسألة الثانية فيخرجها أصحابه على قوله وهذا على الإطلاق غلط لأنه إذا كان بين المسألتين فرق من وجه امتنع أن يكون قوله في واحدة من المسألتين إلا ما نص عليه فيها سواء ذكر الفرق أو لم يذكر وتخريجها على قولين خطأ وإن لم يكن بينهما فرق لم يخل قولان له من أن يكون في وقت أو في وقتين فإن كان في وقتين كان كما قال في مسألة بقول ثم قال بعده فيها بقول آخر فيكون على ما سنذكره وإن كان قال لها في وقت فيكون على ما نذكره في مسألة واحدة بقولين في حالة واحدة. والقسم العاشر: ما اختلف قوله فيه لأنه أداه اجتهاده إلى أحدهما وقال إنما أداه اجتهاده إلى القول الآخر فعدل إليه وهذا غير مستنكر في الصحابة ومن بعدهم من علماء الأمصار لأنه أدل على مداومة الاجتهاد وإمعان النظر هذا عمر بن الخطاب رضى الله عنه اختلف قوله في ميراث الأخوة مع الجد فأسقطهم في أول قولهم وأشركهم معه في آخره وحكم في المشركة في العام الأول بالتشريك وفى العام الثانى بإسقاط التشريك وقال تلك على ما قضينا وهذا على ما نقضى واختلف قول على بن أبى طالب رضى الله عنه في ميراث الجد على أقاويل. وقال في بيع أمهات الأولاد اجتمع رأيه ورأى أبى بكر وعمر رضى الله عنهم على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 331 تحريم بيعهن وقد رأيت بيعهن جائز وليس أحد من الأئمة وجلة العلماء إلا وقد اختلفت الرواية عنه في كثير من أحكام الشرع فسماه أصحابهم روايات وسماه أصحاب الشافعى أقاويل وإذا كان كذلك فمذهبه القول الثانى لعدوله إليه ولا يرسل القولين إلا بعد التقييد بالجديد أو القديم والثانى يكون هو المذهب دون الأول. والقسم الحادي عشر: أن يكون قال في المسألة بقول في موضع وقال فيها بقول آخر في موضع آخر فيخرجها أصحابه على قولين وهذا وإن كان في النقل صحيحا فهو في إضافتهما إليه على التساوى غلط وينظر في اختلاف القولين فإنهما على ضربين: أحدهما: أن يتقدم أحدهما على الآخر فيكون كأنه قال بأحدهما ثم رجع عنه إلى الآخر فيكون على ما ذكرناه من قب. ل والضرب الثاني: أن يشكل المتقدم منهما من المتأخر فلا يجوز أن يضافا إليه معا لأنه لم يقل بهما في حالة واحدة فإن كانت أصول مذهبه توافق أحدهما فقد اقترن بنصه عليه دليل من مذهبه فكان هو المذهب المضاف إليه وإن لم يكن في أصول مذهبه موافقة أحدهما فإن تكرر منه ذكر أحد القولين وفرع عليه دون الآخر فالذى عليه المزنى وطائفة من أصحاب الشافعى رحمه الله أنه المتكرر وذا التفريع هو مذهبه دون الآخر لترجيحه له على الآخر وإن استويا صار مذهبه فيهما مشتبها. فإذا قلنا: إن ألحق واحد من أقوال المجتهدين على ما هو المشهور عنه لم يجز أن يضاف إليه القولان لتنافيهما ولم يجز أن يضاف إليه أحدهما لأنه لم يتعين ويقال قد أشكل مذهبه في أحد القولين وإن لم يخرج عن أحدهما. وأما إذا أضيف إليه أن كل مجتهد مصيب جاز أن يضاف إلى مذهبه القولان على الانفراد بأحدهما دون الجمع بينهما ولم يجز أن ينفى عنه أحدهما لأنه قائل بما أضيف إليه غير عادل عما نفى عنه. والقسم الثاني عشر: أن يذكر القولين حكاية عن مذهبه غيره ولا يوجب حكايته لهما أن يكون قولين لأن الحاكى يخبر عن معتقده غيره فلم يجز أن يضاف حاكيته إليه أنه يعتقده وهذا كمن حكى الكفر لا يصير كافرا ومن نقل الخلاف لا يكون مخالفا فإن أشار إليهما بالإنكار كان الحق عنده في غيرهما وإن أشار إليهما بالجواز جاز أن يكون الحق عنده فيها وفى غيرها وإن أشار إليها بالاختيار كان الحق عنده فيها ولم يكون في غيرها. والقسم الثالث عشر: أن يذكر القولين معتقدا لأحدهما وزاجرا بالآخر كما فعل في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 332 قضاء القاضى بعلمه وفى تضمين الأجير المشترك فإن مذهبه أن للقاضى أن يحكم بعلمه1 وأن لا ضمان على الأجير2. لكن ذكر الآخر زاجرا ومرهبا وقد قال الشافعى رحمة الله عليه بعد ذكر القولين فيهما ولولا خوفى ميل القضاة وخيانة الأجراء لجعلت للقاضى أن يحكم بعلمه وأسقط الضمان عن الأجير. فعلل منع القاضى بميله وضمان الأجير بخيانته فدل أن مذهبه فيمن لم يمل من القضاة جواز حكمه بعلمه وفيمن لم يخن من الأجراء سقوط الضمان عنه وإذا صح هذا فيمن أمن ميله وخيانته ثبت حكمه فيمن خيف ميله وخيانته لعموم الحكم في الجميع ولا عيب على الشافعى بمثل هذا لأن من كان ترغيما في الدين فحقيق أن يكون زاجرا. واعلم أن جميع هذه الأقسام لا يتوجه عليها المنكر القولين اعتراض بما أوضحناه في كل قسم منه. والقسم الرابع عشر: وهو المختص باعتراض منكر القولين وهو أن نقول في المسألة الواحدة في الحالة الواحدة بقولين مختلفين مجمع فيهما بين قولين متضادين فيحكم بحلية الشئ في أحدهما وتحريمه في الآخر ويوجب الشئ في أحدهما ويسقطه في الآخر فهذا على ضربين أحدهما أن يميز أحد القولين بما ينبه على اختياره. والثاني: أن يطلق ولا يميز فإن ميز أحدهما بما ينبه على اختياره فهو ثلاثة أضرب: أحدها: أن يرجح أحدهما فيقول: وبه أقول أو يقول: وهذا مما أستخير الله تعالى فيه أو يقول هذا أصح أو هو أشبه فيكون مذهبه منهما هو القول الذى أشار إلى ترجيحه. والضرب الثاني: أن يفرع على أحدهما أو يكرر ذكره ولا يكرر ذكر الآخر فقد جعل بعض أصحابنا دليلا على الترجيح وبعض أصحابنا لم يجعله دليلا على الترجيح. والضرب الثالث: أن يعمل بأحدهما دون الآخر فيكون عمله بذلك دليلا على أنه القول المختار. وأما الضرب الثاني: فهو إذا جمع بين القولين وأطلقهما ولم يميز أحدهما باختيار ولا ترجيح فهذا على ثلاثة أضرب: أحدها: أن يتوقف في القولين المتعارضين لاحتمال الأدلة وتعارضهما ويعلم أن الحق   1 انظر روضة الطالبين "11/156". 2 انظر روضة الطالبين "5/288". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 333 فى أحدهما ولم يتعين له فجمع بينهما وتوقف فيهما وأبطل بهما ما عداهما وجعل الاجتهاد مقصورا عليهما ليستوضح الحق في أحدهما بمراجعة الاجتهاد فيهما وليس بمستنكر عند العلماء التوقف عند الأشباه وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم توقف في اللعان وغيره حتى نزل القرآن وعن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: "المؤمن وقاف" وهذا أدل على الورع وأبلغ في النظر ولا إنكار في مثل هذا إذا تجاذبت الأصول وتعارضت الأدلة ويكون القصد بذكر القولين في الحال بيان أن لكل واحد منها وجها في أحدهما الاجتهاد ويكون القصد أيضا إبطال ما عداهما ويكون من بينة إعادة الاجتهاد عند الفتيا والحكم به. والضرب الثانى: أن يجمع بينهما في القول لتردد الفرع بين أصلين يحله أحدهما ويحرمه الآخر أو يوجبه أحدهما ويسقطه الآخر فيجمع بينهما في رد الفرع إليهما فيجعله حراما وحلالا واجبا ساقطا وهذا مستحيل أن يكون قائلا به. ومن المستحيل أن يجمع بين ضدين حسا فيستحيل أن يجمع بينهما حكما وهذا لا يقول به الشافعى ولا أحد من الأئمة. والضرب الثالث: أن يجمع بين القولين على التخيير في أحدهما دون الجمع بينهما لتردد الفرع بين أصلين يحله أحدهما ويحرمه الآخر ويوجبه أحدهما ويسقطه الآخر فتخير في رده إلى أى الأصلين شاء لتساوى الشبه فيهما وتعارض الأدلة. وقيل: إن مثل هذا لا يوجد للشافعى رحمه الله إلا في سبعة عشر مسألة. وقد أنكر أصحاب أبى حنيفه هذا. قالوا: لا يجوز أن يعتمد الفرع في الشبه بين أصلين متجاذبين وقالوا إنما يستحيل في الشرع التخيير بين حكمين متناقضين. وأما عندنا فهو جائز وهو قول كثير من المتكلمين وإنما جاز التخيير بينهما على وجه البدل دون الجمع لأمرين: أحدهما: أنه لا يمتنع اعتدال الفرع في الشبه بين أصلين متجاذبين لوجود ذلك عيانا كما لا يمتنع اعتدال جهتين مختلفتين في القبلة ثم كان لا يمتنع اعتدال جهتين مختلفتين في القبلة ثم كان لا يمتنع اعتدال جهتين في القبلة في التخيير في الصلاة إلى أيهما شاء أجماعا وكذلك جاز مثل هذا اعتدال فروع بين أصلين في تخيير رده إلى أيهما شاء. والثانى: أن القياس طريق إلى الأحكام كالنصوص فلا جاز ورود النص بالتخيير في الكفارة جاز أيضا أن يكون القياس موجبا للتخيير كالنص وليس بمستحيل في الشرع ورود النص بالتخيير بين حكمين متنافيين كما تخير المسافر بين الصوم والفطر زمن الإتمام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 334 والقصر وتخيير العبد بين الجمعة والظهر. واعلم أن هذا الذى يقوله هذا القائل إنما يصح عند اعتقاد الإنسان جواز تكافؤ الأدلة واعتقاد إصابة المجتهدين ونحن قد بينا أن واحدا منهما لا يصح والأولى أن يقال: إن الشافعى لم يذكر القولين في هذا المعنى أيضا على معنى أنه معتقد لهما أو مخبر وإنما ذكرهما لأن الحادثة تحتمل كلا القولين ولم يترجح عنده بعد أحدهما فذكرهما لينظر فيهما ويختار بينهما الصواب فأدركه الموت قبل البيان وليس في هذا عيب على المجتهد بل هو دليل على غزارة علم المجتهد وكمال فضله وشدة توقيه فإن طلبوا الفائدة من ذكر القولين. قلنا: قد بينا من قبل فائدة ذكر القولين وهذا الذى قلناه هو المختار وهو الأولى وعليه الاعتماد وإذا استقررنا على هذا سقط طعن الطاعن وعنت المتعنت والله الهادى إلى الصواب والمرشد فيه بمنه وطوله. "فصل" ونذكر في هذا الموضع مواضع اختلف فيها الأصحاب فيما يرجع إلى إثبات القولين أو إثبات قول واحد إذا ذكر في القديم قولا ثم ذكر في الجديد قولا بمذهبه الثانى والأول مرجوع عنه. ومن أصحابنا من قال لا يكون رجوعا عن الأول حتى يصرح بالرجوع عنه. والصحيح: هو الأول وهو مثل ما لو وجد من صاحب الشرع قولان مختلفان في وقتين مختلفين في حادثة واحدة فإنه يكون الثانى نسخا للأول كذلك هاهنا يكون القول الثانى رجوعا عن الأول. موضع آخر: إذا نص الشافعى رحمه الله في مسألتين على قولين ثم أعاد المسألتين وذكر فيهما أحد القولين كان ذلك اختيارا للقول المعاد وكذلك إذا فرع على أحد القولين كان ذلك اختيار للقول الذى فرع عليه وهو قول المزنى. ومن أصحابنا من قال: لا يكون ذلك دليلا على الاختيار. والصحيح: هو الأول لأنه لما أعاد أحد القولين أو فرع عليه فالظاهر أن مذهبه هو ذلك لأنه لو كان مقيما على القولين لأعادهما وفرع عليهما جميعا فلما أفرد أحدهما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 335 بالإعادة والتفريع دل أنه هو الذى يذهب إليه ويختاره. موضع آخر: إذا نص في مسألتين على حكم ونص في غيرهما على حكم آخر وأمكن الفصل بين المسألتين لم ينقل جواب إحديهما على الأخرى بل يحمل كل واحد على ظاهره. ومن أصحابنا من قال: ينقل الجواب إلى الآخر وتكون المسألتان على قولين. الصحيح: هو الأول لأن القول إنما يجوز أن يضاف إلى الإنسان وإذا قال أو دل عليه بما يجرى مجرى القول وأما الذى لم يقله ولم يدل عليه فلا يجوز أن ينسب إليه لأن إذا كان صاحب المذهب قد نص على المخالفة فكيف يجوز الجمع بين ما خالف فيه بل ينبغى أن يفرق إذا أمكن الفرق ولا يخترع له قول لم يقل به. موضع آخر: لا يجوز أن ينسب إلى الشافعى رحمه الله ما يخرج عنه قوله فيجعل قولا له. ومن أصحابنا من قال: يجوز ذلك. والصحيح: هو الأول كما ذكرناه في الفصل الأول. فإن قيل: أليس ينسب إلى الله تعالى والرسول صلى الله عليه وسلم ما يقتضيه قياس قولهما فكذلك يثبت إلى صاحب المذهب ما يقتضيه قياس مذهبه قوله؟ الجواب: أن ما دل عليه القياس في الشرع لا يجوز أن يقال إنه قول الله ولا قول رسوله وإنما يقال هذا من الله ومن رسوله بمعنى أن الله تعالى دل عليه وكذلك رسوله ومثل هذا لا يصح في قول الشافعى فسقط ما قالوه. موضع آخر: إذا قال الشافعى في موضع بقول ثم قال: ولو قال قائل كذا كان مذهبا لم يجز أن يجعل ذلك قولا به له وقال بعض أصحابنا يجعل ذلك قولا له. والصحيح: هو الأول لأن قوله: فلو قال قائل كان مذهبا ليس فيه دليل على أن ذلك مذهب بل هو إخبار عن احتمال المسألة وجها من وجوه الاجتهاد فلا يجوز أن ينسب إليه قول بهذا القدر فهذه المواضع لا بد من معرفتها لمن يريد أن يقف على مذهب الشافعي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 336 فصل: فى الوجوه النى يجوز معها تخريج المذهب : اعلم أن مذهب الإنسان هو اعتقاده فمتى ظننا أن اعتقاد الإنسان أو عرفناه ضرورة أو بدليل مجمل أو مفصل قلنا: إنه مذهبه ومتى لم نظن ذلك ولم نعلمه لم نقل إنه مذهبه ويدل الإنسان على مذهبه في المسألة بوجوه. منها: أن يحكم في المسألة بعينها بحكم معين. ومنها: أن تأتى بلفظ عام يشمل تلك المسألة وغيرها فيقول الشافعى رحمه الله الكل جائزا وغير جائز. ومنها: أن يعلم أنه لا يفرق بين المسألتين وينص على حكم أحدهما فيعلم أن حكم الآخر عند ذلك الحكم مثل أن يقول الشفعة لجار الدار فنعلم أن جار الدكان مثل جار الدار. ومنها: أن يعلل الحكم بعلة توجد في عدة مسائل فنعلم أن مذهبه شمول ذلك الحكم فتلك المسائل سواء قال بتخصيص العلة أو لم يقل أما إذا لم يقل بتخصيص العلة فلا يشكل ذلك وأما من قال بتخصيص العلة فإنما يقول بتخصيص العلة إذا دل على تخصيصها دلالة كالعموم وكما أن الكلام العام يدل على مذهبه فكذلك تعليله وأما إذا نص العالم في مسألة على حكم وكانت المسألة تشبه مسألة أخرى شبها يجوز أن يذهب على بعض المجتهدين فإنه لا يجوز أن يقال: قوله في هذه المسألة هو قوله في المسألة الأخرى لأنه قد لا تخطر المسألأة بباله ولم ينبه على حكمها لفظا ولا معنى ولا يمتنع لو خطر بباله لصار فيها إلى الاجتهاد الآخر وهذا قد سبق بيانه من قبل. مسألة ومما يتصل بباب الاجتهاد مسألة اختلفوا فيها وهى أنه هل يجوز أن يقال للرسول أو للعالم احكم فإنك لا تحكم إلا بالصواب فقد منع من ذلك كثير من الناس وأجازه آخرون على العموم وذهب إليه يونس بن عمران وقال بعضهم: يجوز للنبى صلى الله عليه وسلم على الخصوص ولا يجوز لغيره وهذا هو المختار وقد ذكر الشافعى في كتاب الرسالة ما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 337 يدل على هذا واستدل من منع ذلك وقال: إن الشرائع إنما تعبد الله تعالى بها لكونها مصالح. والإنسان قد يختار الصلاح وقد يختار الفساد فلو أباح الله سبحانه للمكلف أن يحكم بما اختاره المكلف لكان قد أباحه الحكم مما لا نأمن كونه فسادا واستدل من جوز ذلك بأنه إذا جوز أن يفوض الله تعالى إلى المكلف أن يختار واحدة من الكفالات جاز أن يفوض إليه الحكم بواحد من الأحكام بحسب اختياره ولأنه إذا جاز أن يتعبد الله تعالى العامى ليختار العمل على فتوى واحد من الفقهاء ويتعين ذلك باختياره جاز مثل ذلك في أصل التعبد ولأنه إذا جاز أن يكلف الله من الإنسان العمل على الأمارات مع أنها قد تخطئ جاز أن يكلف الإنسان أيضا العمل على اختياره وإن كان الإنسان قد يختار الصواب كما يختار غير الصواب. وأما من قال: يجوز للأنبياء ولا يجوز لغيرهم فاستدل على ذلك بالوجود وهو قوله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ} [آل عمران: 93] ولأن السنة مضافة إلى النبى صلى الله عليه وسلم وحقيقة الإضافة تقتضى أنها من قبله ولأن النبى صلى الله عليه وسلم قال في مكة: "لا يختلا خلاها ولا يعضد شجرها" قال العباس: إلا الإذخر يا رسول الله فإنه لقبورها وأفنيتها. قال: "إلا الإذخر" 1 ولأن النبى صلى الله عليه وسلم سئل عن الحج فقيل: أحجتنا هذه لعامنا أم للأبد فقال: "للأبد ولو قلت لعامنا لوجب -يعنى في كل سنة- وما استطعتم" 2 ولأن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "ولولا أن أشق على أمتى لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة" 3 ويدل عليه قوله عليه السلام: "عفوت عن أمتى صدقة الخيل والرقيق إلا أن في الرقيق صدقة الفطر" 4 قالوا: ولأنه روى أن موسى عليه السلام أثبت الأحكام كلها من جهته إلا تسع آيات أنزلها الله تعالى والأولى أن يتعلق في هذه المسألة بوجود وجوب الأشياء عن اختيار من الموجب وقد تحقق هذا من جانب الرسول صلى الله عليه وسلم. فأما في حق غيره فلم يوجد وهذا لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان معصوما من الخطأ فيجوز أن يقال: له احكم فإنك لا تحكم إلا بالصواب وهذا لا يوجد في حق غيره فلم يامن خطأه ولأن الله تعالى قد قال:   1 أخرجه البخاري: الصيد "4/55" ح "1833" ومسلم: الحج "2/986" ح "445/1353". 2 أخرجه البخاري: العمرة "3/709" ح "1785" ومسلم: الحج "2/883" ح "141/1216". 3 أخرجه البخاري: الجمعة "2/534" ح "887" ومسلم: الطهارة "1/220" ح "42/252". 4 أخرجه أبو داود: الزكاة "2/103" ح "1574" والترمذي: "3/7" ح "620" والنسائي: الزكاة "5/26" "باب زكاة الزرق" انظر نصب الراية "2/356". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 338 {فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10] وقال في موضع: {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] ولم يقل إلى اختيار الرجال. وأما مسألة الكفارات فالإيجاب قد كان من قبل الله تعالى فإنه قد أوجب واحدة من الكفارات على العبد وإنما يختار واجبا لا أنه يجب باختياره عليه شئ وكذلك في العامى إذا استفتى فإنما وجد منه مجرد اختيار فواجب لأنه قد وجب على العامى الرجوع إلى العالم في الأحكام. وأما هاهنا الكلام فيما ذكرناه وهو أنه يوجب باختياره فإن قال قائل: أليس من نذر شيئا فقد أوجب على نفسه باختياره. قلنا: ليس هذا من مسألتنا في شئ لأن مسألتنا هى أن يحكم بشئ ابتداء في شئ من غير دليل يرجع إليه فيوجبه على نفسه أو غيره أو يحرمه على نفسه أو غيره فيثبت شرعا مبتدأ يرجع إليه تماما النذر فأما النذر فمن باب الالتزامات وهو عقد مشروع من قبل الله تعالى للعباد يعقدونها أو يلتزمونها مثل سائر العقود وليس شرع مبتدأ من قبل العبد واعلم أن هذه المسألة أوردها متكلموا الأصوليين وليست بمعروفة بين الفقهاء وليس فيها كثير فائدة لأن هذا في غير الأنبياء لم يوجد ولا يوجد توهمه في المستقبل فأما في حق النبى صلى الله عليه وسلم فقد وجد فقلنا على ما وجد وهذا القدر كاف في هذه المسألة والله أعلم. ولما تم ما أوردناه من الكلام في الاجتهاد وذكرنا صفة المجتهد والمختار مما ينبغى أن يعتقد في أقوال المجتهدين فيكون الكلام بعد هذا في التقليد وما يتصل به وسنذكر من بعد ذلك ما يقع الحاجة إليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 339 التقليد مدخل ... [التقليد] التقليد: قبول قول المرء في الدين بغير دليل وحده بعضهم بأنه العمل على قولين من غير علم1 بصحته ولا نظر في الطريق إلى معرفته والأول حد الفقهاء ويقال إن التقليد مأخوذ من تصيير الشئ قلادة في عنق من ينسب إليه2 أو أخذ عنه ومن التقليد ما يجوز ومنه ما لا يجوز فأما اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم والتسليم لحكمه فواجب ولا نقول إنه تقليد بل هو اتباع محض وقد قال الله تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158] ولأن الدلائل قد قامت في أن قوله حجة فلا يكون قبول قوله قبول قول في الدين من قائله بلا حجة وقد قال الشافعى رحمه الله في بعض المواضع: فلا يجوز تقليد أحد سوى الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا مذكور على طريق التوسع لا على طريق الحقيقة. وقال بعضهم: إن رجوع العامى إلى قول العالم ليس بتقليد أيضا3 لأنه لا بد له من نوع اجتهاد فلا يكون تقليدا حتى لو اعترض إنسانا من غير أن يجتهد في طلب الأعلم فسأله لم يجز على الأصح بل لا بد أن يتوخى الأفضل والأشهر عند الناس في درجة العلم والأوثق عند نفسه منهم فيصير الاجتهاد في اختيار أعيان العلماء كاجتهاد العالم في اختيار أعيان الأقاويل وعلى أنا إن سمينا ذلك من العامى تقليدا فلا بأس ولعله الأولى لأنه لا يعرف حجة ما يصير إليه ويقبله فيوجد فيه حد التقليد وهو قبول القول من قائله بغير حجة. وأما تقليد الأمة إذا قالت قولا عن إطباق وإجماع فهو حجة لا يجوز مخالفتها لقيام الدليل أنها لا تجتمع إلا على حق وإذا أفتى العالم واحدا من العامة في الحادثة تنزل به جاز تقليده والأخذ به4 لأن العامة لو كلفوا الاجتهاد والاستدلال لكان فرض طلب   1 عرفه الآمدي بأنه: العمل بقول الغير من غير حجة ملزمة انظر إحكام الأحكام "4/297". وعرفه ابن السبكي: أخذ القول من غير معرفة دليله انظر جمع الجوامع ومعه حاشية الجلال "2/392" وعرفه الغزالي بأنه: قبول قول بلا حجة المستصفى "2/387". 2 انظر إحكام الأحكام "4/297". 3 عزاه إمام الحرمين والآمدي إلى القاضي. انظر البرهان "2/1358" إحكام الأحكام "4/297". 4 ذكره الأسنوي في مسألة أن من لم يبلغ رتبة الاجتهاد هل يجوز له الاستفتاء ثلاثة مذاهب: = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 340 العلم على وجه يصير به الإنسان عالما مجتهدا فرضا على الأعيان ولو كان كذلك لبطل معايش الناس ولأضر بهم ذلك ضررا بينا ولحقتهم المشقة التي لا يمكن احتمالها وقد دفع الله مثل هذا عن الأمة ووضع الإصر عنهم ولم يحملهم ما ليس لهم وسع في تحملها رحمة من الله تعالى ولطف فعله بهم وإذا لم يجب عليهم ما ذكرناه بقى فرضهم الأخذ بقول غيرهم وتقليدهم وهذا التقليد في الفروع جائز. وأما قبول خبر الواحد إذا كان ظاهر العدالة فعمل يكون تقليدا اختلف أصحابنا فيه سماه بعضهم تقليدا وامتنع بعضهم من ذلك1 وهو الأولى لأنه لا يقع التسليم لقوله إلا بعد الاجتهاد في عدالته فصار قوله مقبولا بدليل والتقليد قبول قول الغير من غير دليل فلم يكن هذا من باب التقليد والله أعلم.   = الأول: أصحها عند البيضاوي وعند الإمام وأتباعهما يجوز مطلقا بل يجب. الثاني: لا بل يجب عليه أن يقف على الحكم بطريقه وإليه ذهب المعتزلة البغدادية. الثال: قال به الجبائي يجوز ذلك في المسائل الاجتهادية. انظر نهاية السول "4/586, 587" سلم الوصول "4/586, 587" جمع الجوامع ومعه حاشية الجلال "2/389" إحكام الأحكام "4/209" أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "4/249, 250". 1 انظر نهاية السول "4/630, 631" سلم الوصول "4/630, 631" البرهان "2/1358, 1359". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 341 مسألة: لا يجوز للعالم أن يقلد العالم : ومن الناس من قال: إنه جائز وهو قول أحمد وإسحاق وعن محمد بن الحسن قال: يجوز له تقليد من هو أعلم منه ولا يجوز له تقليد مثله2 وهذا الذى قلناه يستوى فيه   2 اعلم أن الأصوليين اختلفوا في هذه المسألة على أقوال كثيرة: الأول: لا يجوز مطلقا وهو المختار للبيضاوي. الثاني: يجوز مطلقا وهو المعروف عند الإمام أحمد بن حنبل. الثالث: يجوز فيما يخص المجتهد من الأحكام ولا يجوز فيما يفتى به غيره. الرابع: يجوز إذا خاف فوات الوقت ولا يجوز إذا لم يخف فواته -وذلك فيما يخصه لا فيما يفتى به غيره. الخامس: يجوز إذا كان المفتى أعلم منه ولا يجوز إذا كان مساويا له أو أقل منه وهو مذهب محمد بن الحسن. السادس: يجوز تقليد غيره -إذا كان الغير صاحبيا أرجح في نظره من غيره ولا يجوز تقليد = الجزء: 2 ¦ الصفحة: 341 العالم من الصحابة وغير الصحابة وقد فرق بعضهم بين الصحابة وغير الصحابة. وقد قال الشافعى رحمه الله في القديم: يجوز تقليد الصحابي فيما لم يجعله له غيره فيه وإن لم يظهر قوله ولم ينتشر. وقال في الجديد: لا يجوز وقد ذكرنا هذا من قبل وقال بعضهم: يجوز تقليد الخلفاء الأربعة دون غيرهم. وقال بعضهم: يجوز تقليد أبى بكر وعمر رضى الله عنهما دون غيرهما1. وقد ورد من الأخبار ما يدل على كل واحد من هذين القولين. قال النبى صلى الله عليه وسلم في خبر: "عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي" 2. وقال عليه السلام: "اقتدوا باللذين من بعدى أبى بكر وعمر" 3. ونتكلم في المسألة على الإطلاق فنقول: احتج من جوز للعالم تقليد العالم بظاهر قوله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] قالوا: فإذا حدثت الحادثة ولم يكن عند الفقيه علم بها جازت له المسألة عنها وقبول قول العالم فيها لظاهر هذه الآية لأن العامة إنما يجوز لهم تقليد العلماء لأنهم لما يعرفون أحكام الحوادث فكذلك العلماء إذا أشكل عليهم العلم فيها نزلوا بمنزلة العوام في هذه المسألة واستووا في جواز التقليد لهم واستوى الفريقين في عدم العلم بها. قالوا: ولأن الاجتهاد يجب في فروض الكفاية فجاز أن يتكل فيه البعض على البعض كالجهاد فإنه لما كان من فروض الكفاية جاز أن يتكل فيه البعض على البعض كذلك هاهنا وقد تعلق بعض أصحاب أبى حنيفة في هذه المسألة بقصة الشورى فإن عبد الرحمن بن عوف دعا عليا إلى تقليد أبى بكر وعمر فلم يجب إلى ذلك فأما عثمان فإنه أجاب. فدل هذا من قول   = غيره -ونقل ذلك عن الشافعي. السابع: يجوز تقليد الصحابة والتابعين ولا يجوز تقليد غيرهم. الثامن: يجوز تقليد الأعلم بشرط تعذر الاجتهاد -وهو منقول عن ابن سريج. انظر نهاية السول "4/589, 590, 591" سلم الوصول "4/589, 590, 591" إحكام الأحكام "4/209" جمع الجوامع مع حاشية الجلال "2/395" أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "4/252". 1 تم تخريج هذه المسائل سابقا. 2 أخرجه أبو داود: السنة "4/200" ح "4607" والترمذي: العلم "5/44" ح "2676" وقال: حسن صحيح. وابن ماجه: المقدمة: "1/15" ح "42" وأحمد: المسند "4/156" ح "17149" انظر التلخيص "4/209" ح "14". 3 تقدم تخريجه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 342 عثمان وعبد الرحمن بن عوف أنه يجوز للعالم تقليد العالم. وقال بعضهم في تقليد الأعلم أن ألعلم له مزية لكثرة علمه وحسن معرفته لطريق الاجتهاد. وأما الاجتهاد فالإنسان نفسه له مزية من وجه آخر وهو أنه على ثقة وإحاطة من جهة الدليل وما يقتضى الحكم وليس على ثقة من اجتهاد الأعلم وإذا اجتمعا تساويا فيخير بينهما. وقالوا أيضا: إن العالم يقول ما يقول عن دليل وحجة في هذا الموضع أطلق له ذلك كذلك في الصورة الأولى. وأما دليلنا قوله تبارك وتعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] فأمر عند وقوع الاختلاف برد المتنازع فيه إلى الكتاب والسنة فوجب بحق الظاهر أن لا يرد إلى غيرهما من أقاويل الصحابة والعلماء ويدل عليه أيضا إجماع الصحابة فإنهم اختلفوا في مسائل كثيرة وتناظروا واجتهدوا ولم يعلم عن أحد منهم أنه قلد غيره أو دعا أحدا إلى تقليد نفسه وخالف أبو سلمة بن عبد الرحمن ابن عباس في مسألة فتحاكما إلى أم سلمه ولم يقل له ابن عباس لا يسوغ لك مخالفتى لأنى صحابى وانت تابع لى فتقليدك لى واجب عليك فثبت أن من جوز التقليد مع إطباق الصحابة على المنع منه فقد خالف الإجماع ويدل عليه أن الله تعالى ذم التقليد وعابه فقال تعالى حكاية عن الكفار: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23] وهذا لحقيقة وهو أن قبول قول الغير في الحكم من غير حجة مع تمكن معرفة الحكم بحجة لا يجوز لأن التقليد مذموم شرعا وعقلا. أما الشرع فقد بينا. وأما العقل فلأنه إذا أمكن في نفسه تقليد غيره فليس قول واحد أولى من قبول قول غيره إلا أنا إنما جوزنا للعامى لأجل حاجة إلى التقليد فإنه لا يمكنه أن يصل إلى معرفة الحكم بالحجة فجوز له التقليد ضرورة وهذا لا يوجد في حق العالم فلم يجز له التقليد لما بينا من قبل وأما الذى تعلقوا به من قوله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] فهو في العوام الذين لا يعرفون الدليل أو عو فيمن لا يعرف نصوص الكتاب والسنة فيرجع إلى من يعرفها وعلى هذا الجواب يخرج إن تعلقوا بقوله تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} [التوبة: 122] فالمراد من ذلك إنذار العوام أو تبليغ الكتاب إلى من لم يبلغه وإنما تقليد العوام العلماء فإنما جاز لأنا لو أوجبنا عليهم معرفة الأحكام والدلائل بالحجج لاشتدت المحنة عليهم وعظمت البلوى فيهم فإنا إذا ألزمنا الكافة النظر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 343 في الدليل أدى إلى مفسدة راجعة إلى كافة الناس لأنه لا يكون منهم من يقوم بأمر مصالح دنياهم وما يقوم به معايشهم ويفسد نظام الأحوال في الأفعال والأعمال وعلى أنا لا نخليه من نوع اجتهاد نوجبه عليه وهو بقدر طاقته واتساع باعه له هو أن يختار من أعيان العلماء أعلمهم عنده وأوثقهم في نفسه فيرجع إلى قوله ويقلده أمر دينه فليكن العالم كذلك وهو أنه يتكلف ما يطيقه ويتسع له علمه وهو مطلق للاجتهاد ومتسع علمه لذلك فلا يجوز له تركه كالعامى الذى يقدر أن يتخير من العلماء فيقلد الأعلم في نفسه والأوثق في علمه فإنه لا يجوز له ترك ذلك. وأما اعتبارهم الاجتهاد بالاجتهاد فقد أجاب بعض أصحابنا عن ذلك وقال: من سهل عليه تناول الأدلة وقرب مواضعها من فهمه فهو بمنزلة من حضر العدو وقرب مواضعه منه فلا يجوز له الاتكال على غيره في الجهاد. وأما العامى الذى تغيب عنه الأدلة فلا يعرف وجوه الاستدلال فهو يمنزلة من بعدت المسافة بينه وبين عدوه ولحقته المشقة في قطعها إليه ومن كان بهذه الصفة لا يجب عليه الجهاد فقد استوى الجانبان من حيث المعنى. وأما الذى تعلقوا به من قصة الشورى فهو محمول على أنه دعاه إلى سيرتهما والسياسة والرأى في الأمور وضبط الشرعية ومجاهدة الأعداء والقيام بالآيات1 الثابتة ويجوز أيضا أنه دعاه إلى سنتهما في ما عملا به ولم يظهر لهما مخالف فصار ذلك بمنزلة الإجماع. وأما الذى قال: إن الأعلم لاجتهاده مزية ولهذا أيضا مزية فخير بينهما. قلنا العالم والعالم وإن اختلفا في غزارة العلم وعدم غزارة العلم ولكن غزارة علم صاحبه لا تفيده علما بلا دليل والواجب هو العلم بالدليل إذا تمكن من الدليل ولأن التقليد من عمل الجهلة والاجتهاد من عمل العلماء فلا يجوز أن يترك عمل العلماء وهو علم إلى علم الجهال. وقوله: إنه يعرف أن ذلك العالم يقول ما يقوله عن دليل. قلنا: وإن كان كذلك ولكن دليله عند صاحبه لا يفيده دليلا في نفسه. واعلم أن أصحاب أبى حنيفة يفرقون بين العالم والعامى فيقولون: إن العامى يجب   1 ثبت في الأصل [بالانات] ولعل الصواب [بالآيات] أو [بالأباب] . قال في القاموس: هو في أبابه: أي في جهازه وأب به قصد قصده وأب: هزم بحملة لا مكتوبة فيها. والشيء حركه. انظر القاموس المحيط "1/35". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 344 عليه التقليد والعالم يجوز له التقليد ولا يجب عليه لكن غذا اشتبه عليه الدليل يجوز له التقليد لأنه في هذه الحالة يحتاج إلى التقليد مثل العامى وهذا ليس بشئ لأن معه آلة الاجتهاد فلا يعذر بالأشتباه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 345 مسألة1: إذا نزلت بالعالم نازلة وخاف فوت وقتها لم يجز له تقليد غيره. وقال أبو العباس بن سريج: يجوز لأنه في هذه النازلة بمنزلة العامى من حيث إنه لا يتوصل إلى معرفة حكمها بالإجتهاد ولأنه مضطر إلى التقليد فإنه إذا اجتهد فاتته العبادة عن وقتها فجاز له التقليد كالعامى أيضا وأما نحن فنقول: إن معه آلة الاجتهاد فلا يجوز له التقليد كما لو كان الوقت واسعا. بينة: أنه لو جاز له التقليد إذا خاف فوت الوقت لجاز وإن لم يخف كالعامى والحرف أن الفرض لا يتبدل لخوف الفوت وعدم الخوف وقوله إنه كالعامى في هذه النازلة قد بينا الفرق. وقوله: إن به ضرورة. قلنا: ليس كذلك لأنه إن كان ذلك الشئ مما يجوز تأخيره للغذ يكون اشتباه الحادثة عذرا له في التأخير إن كان مما لا يجوز غيره أداءه على حسب حالة ثم يعيده فلا ضرورة في التقليد له. واعلم: أن العامى يجوز له تقليد العالم في جميع الأحكام الشرعية. وقال أبو على الجبائى: لا يجوز له فيما لا يسوغ فيه الاجتهاد وقال: ما طريقه مقطوع به يصير مثل العقليات. وأما عندنا: يجوز في الكل لأنه المعنى الذى لأجله يسوغ له التقليد في مسائل الاجتهاد موجود في غيرها يدل عليه: أنه إذا أمر العامى بمعرفة الدليل وترك التقليد أدى إلى مفسدة عظيمة تعود عليهم وتشتد البلوى والمحنة بهم على ماذكرنا من قبل وقد ذكرنا من قبل أنه لا يقلد العامى إلا بعد أن يجتهد في أعيان الفقهاء وقد ذكر هذا أبو العباس بن سريج والقفال. وقد ذكر بعض أصحابنا أنه يجوز له تقليد من شاء من العلماء من غير أن يجتهد في أعيانهم2 وزعم أن في تكليفه الاجتهاد في الأحكام مشقة.   1 بياض في الأصل. 2 انظر البرهان "2/1341" انظر نهاية السول "4/609" سلم الوصول "4/609". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 345 ونحن نقول: إنه ليس عليه في هذا كثير مشقة ولا ينقطع بإيجابه عليه عن سائر مصالحه في أمر معايشه وأسبابه ويحصل له بذلك نوع ظن فإذا كان يحصل له ذلك من غير مشقة فيجئ عليه تحصيله كما يجئ على الإمام الاجتهاد في سائر الحوادث والنوازل. وعندي: أن هذا أولى والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 346 مسألة1: وأما الكلام في مسائل الأصول: فقد ذهب جميع المتكلمين وطائفة من الفقهاء أنه لا يجوز للعامى التقليد فيها ولا بد أن يعرف ما يعرفه بالدليل وقالوا: العقائد الأصولية عقلية والناس جميعا مشتركون في العقل ولأن العلم بها واجب والعلم لا يحصل للمقلد بتقليد غيره ولأن الدلائل على الأصول ظاهرة وليست غامضة فتكليف العامى ليعرف الأصول بدلائلها لا يؤدى إلى الحرج الشديد فيسقط عنهم لذلك. واعلم أن أكثر الفقهاء على خلاف هذا وقالوا: لا يجوز أن نكلف العوام اعتقاد الأصول بدلائلها2؛ لأن في ذلك المشقة العظيمة والبلوى الشديدة وهى في الغموض والخفاء أشد من الدلائل الفقهية في الفروع ولهذا خفى على كثير من العقلاء مع شدة عنايتهم في ذلك واهتمامهم العظيم فصارت دلائل الأصول مثل دلائل الفروع ولأنا نحكم بإيمان العامة ونقطع أنهم لا يعرفون الدلائل ولا طرقها وإنما شأنهم التقليد والاتباع المحض وإنما طريقهم أخذ شيئين في التقليد أحدهما أنهم عرفوا أن العلماء قد قالوا ما قالوا عن حجة ودليل فيكون اتباعهم لأقوال العلماء اعتقادا عن دليل بهذا الوجه. وأما لأن العوام يعلمون أن العلماء يقولون ما يقولون عن النبى صلى الله عليه وسلم وقد عرفوا إقامة النبى صلى الله عليه وسلم من المعجزات ما يعجز عنه البشر وتحقق في قلوبهم ثبوته بهذا الطريق وأنه يقول ما يقوله عن الله عز وجل فحصلت عقائدهم عن علم ودليل قام لهم فيها بهذا الوجه. وأما إيجاب معرفة الأصول على ما يقوله المتكلمون بعيد جدا عن اصواب ومتى أوجبنا ذلك متى يوجد في العوام يعرف ذلك وتصدر عقيدته عنه بل يكون أكثر العوام   1 بياض في الأصل ولعل الصواب ما أثبتناه. 2 انظر نهاية السول "4/596" انظر إحكام الأحكام "4/300". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 346 بحيث لو عرض عليهم تلك الدلائل لم يفهموها أصلا فضلا من أن يصيروا أصحاب دلائل ويقفوا على العقائد بالطرق البرهانية وإنما غاية العامى هو أن يتلقى ما يريد أن يعتقده ويلقى زنة1 من العلماء ويتبعهم في ذلك ويقلدهم ثم يسلمون عليها بقلوب سليمة طاهرة عن الأدغال والأهوال ثم يعضون عليها بالنواجذ فلا يحولون ولا يزودون ولو قطعوا إربا فهنيئا لهم السلامة والبعد عن الشبهات الداخلة على أهل الكلام والورطات التي تورطوا فيها حتى أدت بهم إلى المهاوى والمهالك ودخلت عليها الشبهات العظيمة وصاروا في الآخرة متحيدين عمين ولهذا لا يوجد منهم متورع متعفف إلا القليل لأنهم أعرضوا عن ورع اللسان وأرسلوا بما في صفات الله تعالى بجرأة عظيمة وعدم مهابة وحرمة ففاتهم ورع سائر الجوارح. وذهب ذلك عنهم بذهاب ورع اللسان والإنسان كالبنيان يشد بعضه بعضا وإذا خرب جانب منه تداعى سائر جوانبه للخراب ولأنه ما من دليل لفريق منهم يعتمدون عليه إلا ولخصومهم عليه الشبه القوية بل يدعون لأنفسهم مثل ذلك الدليل سواء وغاية الواحد منهم في الفلح والعلو على صاحبه بزيادة الحذق في طريقة الجدل وبينهم أوضاع يناظرون عليها ويطالبون الخصم بطردها فإذا لم يفوا بطردها سموها انقطاعا وعجزا وعلى أنا لا ننكر من الدلائل العقلية بقدر ما ينال المسلم به برد اليقين ويزداد به مشقة فيما يعتقده وطمأنينة وأنما ننكر إيجاب التوصل إلى العقائد في الأصول بالطريق الذى اعتقدوه وساموا جميع المسلمون سلوك طريقة وزعموا أنه من لم يفعل ذلك فلم يعرف الله تعالى. ثم أدى بهم ذلك إلى تكفير العوام أجمع وهذا هو الخطر الشقاء والداء العضال وإذا كان السواد الأعظم هو العوام وبهم قوام الدين وعليهم مدار رحى الإسلام ولعله لا يوجد في البلدة الواحدة التي تجمع المائة الألف والمائتين الألف ممن يقوموا بالشرائط التي يعتبرونها إلا الفذ الفادر والشاذ النادر ولعله لا يبلغ عند العشرة فمتى يجد المسلم من قبله أن يحكم بكفر هؤلاء الناس أجمع ويعتقد أنه لا عقيدة لهم في أصول الدين أصلا وأنهم أمثال البهائم والدواب المسخرة وعن ثمامة بن الأشرس وكان من أئمة المعتزلة المذكورين فيهم: أنه رأى قوما يتعادون يوم الجمعة إلى المسجد لخوفهم فوت الصلاة فقال: انظروا إلى الفقراء انظروا إلى الحمير وقال عمر بن النضر: مررت بعمرو بن عبيد فجلست إليه فذكرت شيئا فقلت ما هكذا يقول أصحابنا قال: ومن أصحابك قلت: يوسف بن عون   1 [زنة] هكذا في الأصل ولعل معناه: قليل. انظر القاموس المحيط "4/228". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 347 ويونس بن عبيد والتيمى فقال: أولئك نحانس1 أنجاس أموات غير أحياء. وقال: واعلم أن هؤلاء الأربعة الذين ذكرهم غرة أهل زمانهم في العلم والفقة والاجتهاد في العبادة وطلب المطعم وقد درجوا على ما كان عليه من قبلهم من الصحابة ومقدموا التابعين وقد اعتقد فيهم مثل هذا فكذلك تكون عقيدته وعقيدة أمثاله في غير هؤلاء. نعم فقد ذكرت طرفا من هذا صالحا النمط في كتاب الانتصار لأصحاب الحديث وذكرت الفرق بين طرق الكلام وطرق الفقه بأبين أوجه وأوضح معنى فعلى الطريقة التي ذكرتها ينبغى أن يتكلم المسلم ويعتمد عليه ولا يغتر بزخارف القول وليتبع طريقة السلف الصالح والأئمة المرضية من الصحابة ومنهج التابعين بإحسان لبيان السعادة العظمى ويصل إلى الطريقة المثلى والله تعالى يعصم ويؤيد بمنه وطوله.   1 هكذا في الأصل ولعل الصواب [أنخاس] والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 348 فصل: الإلهام ... "فصل" قد ذكر أبو زيد فصلا في إبطال التقليد ولم أجد في ذكره كبير فائدة فتركته وذكر بعده فصلا في الإلهام وسأنقل ما ذكره وأتكلم عليه في الموضع الذى ينبغى أن نتكلم عليه. قال: الإلهام ما حرك العلم بقلب يدعوك إلى العمل به من غير استدلال بآية ولا نظر في حجة. قال جمهور العلماء: إنه خيال لا يجوز العمل به ألا عند فقد الحجج كلها في باب ما أبيح عمله بغير علم. وقال بعض الجهمية: إنه حجة بمنزلة الوحى المسموع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واحتج ذلك بقوله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 7] أى عرفها بالإيقاع في القلب وبقوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} [الأنعام: 125] . وشرح الصدر بنور العلم والحرج والضيق بظلمة الجهل فالله تعالى أخبر أنه الفاعل لذلك بلا واسطة ولا صنع من العبيد وبقوله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً} [الأنعام: 122] فالحياة هى العلم والنور هو الهدى وقد أخبر أنه الجاعل لذلك فلا صنع منا بقوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30] فأخبر أن الناس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 348 قد خلقوا على الدين الحنيفي بلا صنع منهم. وقال تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [النحل: 68] فأوحى إليها أى ألهمها حتى عرفت مصالحها فلا ينكر مثل ذلك للآدمى وقال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص: 7] وكان ذلك بطريق الإلهام وقال عليه السلام: "كل مولود يولد على الفطرة" 1 أي على دين الحق وليس للمولود نظر واستدلال وقال صلى الله عليه وسلم: "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله عز وجل" 2 والفراسة شئ يقع في القلب بلا نظر في حجة. وقال صلى الله عليه وسلم لوابصة وقد سأله عن البر والإثم: " ضع يدك على صدرك فما شك فيه قلبك فدعه وإن أفتاك الناس" فقد جعل النبى صلى الله عليه وسلم شهادة قلبه بلا حجة أولى من الفتوى. وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم: "قد كان في الأمم محدثون فإن يكن في هذه الأمة أحد منهم فهو عمر" 3 أى منهم كأنه يوحى إليه ويحدثه ربه أو تحدثة الملائكة في قلبه. وقد روى عن أبى بكر رضى الله عنه أنه قال: ألقى في روعى أن ذا بطن خارجة جارية. وإلا لغى الإلهام وقد روى عن عمر رضى الله عنه أنه تكلم في أشياء فنزل الوحى بذللك وقد كان ألهم قبل. وقد كان لأنبياء بني إسرائيل إلهام يتكلمون عنه وينزل ذلك بمنزلة الوحى إلى غيرهم. وقالت الأئمة فيمن اشتبهت عليه القبلة فصلى بغير تحرى بقلبة: لا تجوز. وإن أصاب القبلة وإن صلى بتحرى قلبه تجوز صلاته وإن أصاب غير القبلة. قالوا: فثبت أن الإلهام حق من قبل الله تعالى وأنه كرامة للآدمى وأنه وحى باطن إلا أنه إذا عصى ربه وعمل بهواه يحرم هذه الكرامة ويستولى عليه وحى الشيطان قال الله تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} [الأنعام: 121] فالمطيع لا يخفى عليه وحيه عن وحى الملك إلا على سبيل الغفلة التي تعترى القلب فينزل ثم ينتبه من ساعته ولا يقر عليه. قالوا: بالقلب يمتاز له الحق من الباطل فاحتج أهل الإلهام بمثل هذه الحجج التي ذكرناها.   1 أخرجه البخاري: الجنائز "3/290" ح "1385" ومسلم: القدر "2047" ح "22/2658". 2 أخرجه الترمذي: التفسير "5/298" ح "3127" عن أبي سعيد الخدري وقال أبو عيسى: هذا حديث غريب والطبراني في الكبير "8/102" ح "7497" عن أبي أمامة وذكره الحافظ الهيثمي في المجمع "10/271" وقال: وإسناده حسن. 3 أخرجه البخاري: أحاديث الأنبياء "6/591" ح "3469" ومسلم: فضائل الصحابة "4/1864" ح "23/2398". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 349 قال: وأما حجة أهل السنة والجماعة قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى} [البقرة: 111] الآيه فألزمهم الكذب لعجزهم عن إظهار الحجة لأن الإلهام حجة باطنة فلا يمكن إظهارها وقال: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} [المؤمنون: 117] فقد وبخهم بدعوى إله غير الله لا برهان لهم به ولو كانت شهادة قلوبهم حجة لهم لما لحقهم التوبيخ فثبت أن الحجة التي يصح العمل لها ما يمكن إظهاره من النصوص والآيات التي عرفت حججا ويدل قوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53] وهذا يدل على أن العلم بالله تعالى لا يكون إلا بالآيات والآيات لا تدلنا إلا بعد الاستدلال بها عن نظر عقلى ويدل عليه قوله تعالى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية: 17] الآية وقال تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21] وقال تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2] والله تعالى أمر بالنظر والاستدلال ولم يأمر بالرجوع إلى القلب ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: "بم تقضي؟ " قال: بكتاب الله قال: "فإن لم تجد في كتاب الله؟ " قال: بسنة رسول الله قال: "فإن لم تجد بسنة رسول الله؟ " قال: أجتهد برأيى1 فلم يذكر بعد الكتاب والسنة إلهام القلب وإنما ذكر الرجوع إلى النظر والاستدلال وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار" 2 وأجمعنا على أنه يجوز ترائى النظر والاستدلال بالأصول فدل أن المراد به الرأى بلا نظر ولأن الرأى بلا نظر لو كان حجة يعمل بها كالوحى لحل كل إنسان أن يدعوا الخلق إلى ما عنده بل وجب كما وجب على نفسه العمل به وكما كان يجب على النبى صلى الله عليه وسلم قال: ومن قال هذا فقد كفر. قال: ونقول أيضا على أهل الإلهام: ما قولكم في الإلهام؟ أهو حجة بلا موافقة الشرع أو ما كان وافق أم خالف؟ فإن قال: يكون حجة وإن خالف فهذا لا يقوله مسلم وفيه رفع الإسلام وإن قال: بموافقة فلا تثبت الموافقة إلا بالنظر في أصول الشرع وأيضا فإن الإلهام قد يكون من الله تعالى وقد يكون من الشيطان وقد يكون من النفس فإن كان من الله تعالى يكون حقا   1 أخرجه أبو داود: الأقضية "3/302" ح "3592" والترمذي: الأحكام "3/607" ح "1327". 2 أخرجه الترمذي: التفسير "5/199" ح "2950- 2952" وأحمد: المسند "1/306" ح "2074" نحوه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 350 وإن كان من الشيطان أو من النفس لا يكون حقا بل يكون باطلا فإذا احتمل أن لا يكون حقا يدل أن كل إنسان1 في دعوى الإلهام مثل صاحبه فإن قال ألهمت أن ما أقوله حق وصواب فيقول الآخر إن ما تقوله خطأ وباطل. ونحن نقول لهؤلاء: إنا ألهمنا أن ما تقولنه خطأ وباطل. قالوا هذا دعوى منكم نقول ما تقولنه أيضا دعوى. فإن قالوا: إنكم لستم من أهل الإلهام نقول أيضا إنكم لستم من أهل الإلهام وبأى دليل صرتم من أهل الإلهام دوننا. قال أبو زيد: وقد ابتليت بقوم زعموا أن العبد يرى ربه بقلبه فيعرفه بلا نظر واستدلال بالآيات وهذا قول لم يكن في السلف والقلب مضغة ليس لها حاسة رؤية مثل ما ليس لسائر الأعضاء حاسة رؤية فلا فرقق بين قول من يقول رأيت ربى بقلبى وبين قول من يقول رأيت ربى بيدى أو سمعني قال وأما رؤية القلب علمه بنظره ونظره التفكير لا يتصور غيره ولهذا قال النبى صلى الله عليه وسلم: "تفكروا في الآيات ولا تتفكروا في الذات" 2 لأن الآيات محسوسة فالتفكر فيها يدلنا على الله تبارك وتعالى وأما التفكر في الذات يوجب التعطيل كنظر العين إلى ما لا يرى وإنما مثله نجار في بيت لا يرى ويخرج منه الخشب المنجورة فيقيل نظر الناظر إلى الخشب المنجورة العلم بالنجار ولا علم له بوجود النجار. فأما نفسه فلا علم له بها. وحكى لنا عن محمد بن زكريا أنه قال لأصحابه: إذا كلمكم الموحدون في الآيات فكلموهم في الذات وبه تعلق فرعون [فى] 3 محاجة موسى عليه السلام. قال: وما رب العالمين؟ فأعرض موسى عن جواب المحال وأجاب بالوصف قال رب السماوات والأرض. وما [أخطأ] 4 الحكماء الأوائل إلا بتفكرهم في الذات والماهية. قال: فأما الجواب عن تمسكهم بقوله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 8] تأويله والله أعلم عرفها بطريق العلم وهو الآيات والحجج طريق الفجور والتقوى وكذلك شرح الصدور بنور التوفيق وهو النظر والحجج وكذلك الأخبار المذكورة فى   1 ثبت في الأصل [الإنسان] ولعل الصواب ما أثبتناه. 2 من حديث ابن عمر بلفظ "تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله" أخرجه البيهقي "1/136" ح "120" وقال: وفيه نظر وذكره الحافظ الهيثمي في المجمع "1/86" وقال: رواه الطبراني في الأوسط وفيه الوازع بن نافع وهو متروك. 3 بياض في الأصل. 4 بياض في الأصل ولعل الصواب ما أثبتناه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 351 القرآن للقلب هو بنور الأدلة وبما أراه من الآيات والاهتداء للعبرة إنما يكون بهداية الله تعالى وذلك بطريق الهداية بعد جهاد العبد قال الله تعالى: {وَالذينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] "وقال تعالى: {وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [الشورى: 13] وإنها أدنى الدرجتين والأعلى بالإصطفاء والاختيار كما قال تعالى: {يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ} [الشورى: 13] وقال: {وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} [الضخى: 7] ولم يذكر جهاده. فالله تعالى يجتبى إليه من يشاء بروح القدس وكمال نور العقل وزكا الطريق والتوفيق بأداة الحجج كرامة ابتداء حتى يصير موكلا على النظر في الآيات فتبين له أنه الحق كما يتبين للكافر يوم القيامة. قال وأما الفطرة فتأويلها أن الآدمى يخلق وعليه أمانة الله التي قبلها آدم عليه السلام فيكون على فطرة الدين ما لم يخن فيما عليه من الأمانة وكان على عذر في ترك الأداء عن عجز على مابينا في باب حمل الأمانة. فأما وحى النحل فإنما أنكرنا مثل ذلك في علم خوطبنا بكسبه وابتلينا به وأما وحى أم موسى فإنا نقول به وبيانه أن أم موسى خافت على موسى القتل من فرعون لما ظهرت من سنته ومن خاف على نفسه الهلاك حل له إلقاؤه في البحر إن نجا فيه النجاة بوجه وراكب السفينة إذا ابتلى بالحريق حل له ركوب لوح في البحر ولأن من ابتلى بشرين لزمه اختيار أهونهما فقد فعلت الذى فعلت بالنظر ومعنى الوحى هو إلقاء النظر في قلبها وأما كرامة الفراسة فلا ننكرها أصلا ولكنا لا نجعل شهادة القلب لجهلنا أنها عن الله تعالى أو من إبلييس أو من نفسه وأما قول الصحابة رضوان الله عليهم فلم يثبت توحيد قول منهم بعد إلا على نظر واستدلال فهذا جملة الذى نقلته من قوله في الإلهام وقد تركت بعض ما أورده طلبا للاختصار. واعلم أن إنكار أصل الإلهام لا يجوز ويجوز أن يفعل الله تعالى بعبد بلطفه كرامة له. ونقول في التمييز بين الحق والباطل من ذلك أن كل من استقام على شرع النبى صلى الله عليه وسلم ولم يكن في الكتاب والسنة ما يرده فهو مقبول وكل ما لا يستقيم على شرع النبى صلى الله عليه وسلم فهو مردود ويكون ذلك من تسويلات التفس ووساوس الشيطان ويجب رده على أنا لا ننكر زيادة نور الله تعالى كرامة للعبد وزيادة نظر له فإما على القول الذى يقولونه وهو أن يرجع إلى قوله في جميع الأمور فلا نعرفه والله تعالى أعلم وأحكم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 352 فصل: الكلام في المفتي والمستفتي وما يتصل في ذلك ... "فصل"1: وإذا فرغنا من الكلام في الاجتهاد والمجتهد فنذكر: الكلام في المفتى والمستفتى وما يتصل في ذلك فنقول: المفتي من العلماء من استكملت فيه ثلاث شرائط أحدها: أن يكون من أهل الاجتهاد2 وقد قدمنا شروط المجتهد وصفته والشرط الثانى: ان يستكمل أوصاف العدالة في الدين حتى يثق بنفسه في التزام حقوقه ويوثق به في القيام بشروط3. والشرط الثالث: أن يكون ضابطا نفسه من التسهيل كافا لها عن الترخيص حتى يقوم بحق الله تعالى في إظهار دينه ويقوم بحق مستفتيه. وللمتسهل حالتان: إحديهما: أن يتسهل في طلب الأدلة وطرق الأحكام ويأخذ بمبادىء النظر وأوائل الفكر فهذا مقصر في حق الاجتهاد فلا يحل له أن يفتي ولا يجوز أن يستفتى وأن جاز أن يكون ما أجاب به حقا لأنه غير مستوف لشروط الاجتهاد لجواز أن يكون الصواب مع استيفاء النظر في غير ما اختلف فيه. والحالة الثانية: أن يتسهل في طلب الرخص وتأويل الشبه ومعنى النظر ليتوصل إليها وتعليق بأضعفها وهذا متجوز في دينه متعد في حق الله تعالى أو غار لمستفتيه عادل عما أمر الله سبحانه به في قوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الذينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187] وهو في هذه الحالة أعظم مأثما منه في الأولى لأنه في الحالة الأولى مقصر. وفى الثانية متعد وإن كان في الحالتين آثما متجوزا. لكن الثانى أعظم وكما لا يجوز أن يطلب الرخص والشبه كذلك لا يجوز أن يطلب التغليظ والتشديد وليعدل في الجواب إلى ما يوجبه صحه النظر من الحكم الذى تقتضيه الأدلة الصحيحة فإن دلت على التغليظ أصاب وإن دلت على الترخيص أصاب وإن كان للتغليظ وجه في الاجتهاد أمسك عن ذكره فهذه الشروط التي يجب أن يكون عليها   1 بياض في الأصل. 2 انظر نهاية السول "4/579" إحكام الأحكام "4/298". 3 انظر البرهان "2/1333" إحكام الأحكام "4/298". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 353 المفتى فإن أخل بها لم يحل للفتيا ولايحل لسائل علم بحالة أن يستفتيه. فأما إذا علم المفتى جنسا من العلم بدلائل وأصوله وقضى فيما سواه كعلم الفرائض وعلم المناسك لم يجز أن يفتى في غيره. واختلفوا في جواز فتياه في الذى اختص بعلمه فجوزه بعضهم لإحاطته بأصوله وقصره فيما سواه كعلم الفرائض وعلم المناسك لم يجز أن يفتى في غيره. واختلفوا في جواز فتياه في الذى اختص بعلمه فجوزه بعضهم لإحاطته بأصوله ودلائله ومنعه أكثرهم في الفتيا فيه لتجانس الدلائل وتناسب الأحكام امتزاجا لا يتحقق أحكام بعضها إلا بعد الإشراف على جميعها ويلزم الحاكم من الاستظهار في الاجتهاد أكثر مما يلزم المفتى ويأثم بالتسهيل وطلب الترخيص أكثر مما يأثم المفتى وإن كان كل واحد منهما مأمور بإمعان النظر واجتناب الرخص لأن في القضاء إلزاما ليس في الفتيا ويجب فيه ما لا يجب في الفتيا [فافترقا] . [مسألة] 1: وقد قال أصحابنا: إنه لا بد للقاضى أن يكون عالما عدلا2. وعند أبى حنيفة: يجوز أن يكون القاضى جاهلا فاسقا3 على معنى أنه يصلح لذلك. ويقولون إنه لا ينبغى ان يولى القاضى إلا العالم العدل. قالوا: واذا فسق بعد تقليد القضاء يجب على السلطان أن يعزله وقد ذكر الخصاف من أصحابهم في كتاب آداب القضاة أن القاضى إن ارتشى وقضى لا ينفذ قضاؤه وأن كان القضاء بحق فبعضهم قال بهذا على القول الذى اختاره أصحابنا أنه إذا فسق ينعزل. وقال بعضهم: الانعزال بالفسق ليس بمذهب وانما قاله بعض أصحابنا من غير أن نعرف أنه مذهب أبى حنيفة4 لكن على ظاهر مذهبه وإن كان لا ينعزل لكن في هذه الصورة لاينفذ قضاؤه لأنه وجب عليه القضاء لله عز وجل فإن القضاء رأس الطاعات والعبادات ولهذا لا يجوز للقاضى أن يأخذ الأجرة على القضاء فاذا ارتشى وقضى   1 بياض في الأصل. 2 روضة الطالبين "11/96". 3 انظر الهداية "3/112". 4 روضة الطالبين "11/95". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 354 صار قاضيا لنفسه فلم يكن عبادة لله تعالى فلا يكون قضاء. ببينة: أنه قضى لنفسه حيث ارتشى وقضى وقضاؤه لنفسه باطل. قالوا: واذا كان جاهلا يقضى بقول العالم كأنه يسأله ويقلده ثم يقضى به. وأما مذهبنا: فإنه لا يجوز أن يكون القاضى إلا عالما عدلا1 لأن الشهادة دون القضاء فإذا اعتبرت العدالة في الشهادة ففى القضاء أولى وكذلك الفتوى فإن الفتوى أولى من القضاء فإذا لم يجز للمفتى إلا أن يكون عالما كذلك القاضي لا يجوز إلا أن يكون عالما وقد فرقوا بين القاضى والمفتى وقالوا المفتى لا يقدر أن يفتى بعلم غيره. وأما القاضى يقدر أن يقضى بعلم غيره بأن يرجع في قضاياه إلى عالم يقضى بذلك. ونحن نقول: إن قلتم لا يمكن الفتوى بعلم غيره من حيث الصورة فليس كذلك لأنه يمكنه أن يسأل غيره ثم يفتى به كما يمكنه أن يسأل غيره ثم يقضى به وإن قلتم حقيقة ففى الموضعين واحد لأن الفتوى والقضاء كل واحد منهما ينبغى أن يكون عن علم والتقليد لا يرجع إلى علم لأنه التقليد لا يفيد علما للمقلد ولأن العلم يكون بطريق ولم يوجد طريق العلم في واحد منهما رجعنا إلى بقية الكلام في الفتوى والمستفتى. واعلم أن المفتى يجب عليه أن يفتى من استفتاه ويعلم من طلب منه التعليم فإن لم يكن في الإقليم الذى هو فيه غيره تعين عليه التعليم والفتيا وإن كان هناك غيره لم يتعين عليه لأن ذلك من فروض الكفاية وإذا قام به بعضهم سقط عن الباقين فرضه وعلى هذا نقول إن الإنسان إذا تعين لطلب العلم بإنه لم يكن في ناحيته من يصلح لطلب العلم سواه يجب عليه أن يطلبه ولا يحل له أن يتركه وهذا إذا وجد فيه شروط الطلب وشروط الطلب في الإنسان صحة حواسه ووفور عقله وسلامة اليته فإذا تكاملت فيه الية الطلب وجب عليه الطلب ويجب على المطلوب منه أن يجيب ويعلم إذا تعين لذلك والأصل فيه قوله عليه السلام: "كن عالما أو متعلما أو مستمعا أو محبا ولا تكن الخامس فتهلك" 2 وروى عن علي رضى الله عنه أنه قال: الناس ثلاث عالم ربانى ومتعلم على سبيل النجاة وهمج رعاع أتباع كل ناعق لم يستطيبوا العلم فأن   1 انظر الهداية "3/112". 2 وذكره الحافظ الهيثمي في المجمع "1/127" عن أبي بكرة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم: فذكره وقال: رواه الطبراني في الثلاثة والبزار ورجاله موثقون وانظر كشف الخفاء للعجلوني "1/167" ح "437". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 355 أمسك الطالب عن الطلب سقط الفرض عن المطلوب منه وكان الطالب بالإمساك عاصيا وإن طلب الطالب وأمسك المطلوب منه عن فرض التعليم كان المطلوب منه بالإمساك عن التعلم عاصيا وهذا إذا لم يوجد غيره وأما الطالب فقد سقط عنه فرض المطلوب. والحالة الثانية: أنه لا يتعين على الطالب فرض الطلب لوجود غيره ولا يتعين على المطلوب منه فرض التعلم لوجود غيره فيكون الطلب والتعليم ندبا في حقهما ومن فروض الكفاية في حق الكافة وإذا شرع الطالب في الطلب سقط به الفرض عن المطلوب منه وإذا أجاب المطلوب منه سقط به الفرض عن المطلوبين أعنى فرض الكفاية. والحالة الثالثة: أن يتعين على الطالب فرض الطلب لعدم غيره ولا يتعين على المطلوب منه التعلم لوجود غيره فيكون التعلم متعينا على الطلاب والتعليم ندبا في حق المطلوب منه. والحالة الرابعة: أن لا يتعين على الطالب فرض الطلب لوجود غيره ويتعين على المطلوب منه فرض التعليم لعدم غيره فيكون الطلب ندبا في حق الطالب والتعليم فرضا متعينا على المطلوب منه وإذا استفتى المفتى من لا يجد غيره وجب عليه أن يفتيه ويتعين فرض الفتيا عليه إن علم أنه يعمل بقوله ولا يجب عليه إن علم أنه لا يعمل بقوله وإن كان المستفتى يجد غيره كان فتياه ندبا ولم يكن فرضا متعينا ولا يجوز للمفتى أن يطلب على الفتوى أجرا لقوله تعالى: {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً} [البقرة: 41] أى ياخذوا عليه أجرا ويجوز أن يقبل الهدية بخلاف الحاكم لأن الحاكم يلزمه حكمه. وإن اجتهد المفتى في حادثة مرة فأجاب فيها ثم نزلت تلك الحادثة مرة أخرى فهل يجب عليه إعادة الاجتهاد؟ فيه وجهان: فمن أصحابنا من قال: يفتى بالاجتهاد الأول. ومنهم من قال: يحتاج أن يجدد الاجتهاد1 والأول أصح.   1 في هذه المسألة ثلاثة مذاهب: أحدها: لا يجب عليه تجديد الاجتهاد مطلقا. الثاني: يجب عليه تجديده مطلقا. الثالث: لا يجب عليه التجديد إن كان ذاكرا لما مضى من طرق الاجتهاد في المرة الأولى ويجب عليه التجديد إن كان ناسيا. انظر نهاية السول "4/606, 607, 608, 609" سلم الوصول "4/606, 607, 608, 609" إحكام الأحكام "4/312, 313" أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "4/256". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 356 فأما المستفتى فلا يجوز له أن يستفتى من شاء على الإطلاق لأنه ربما يستفتى من لا يعرف الفقه بل يجب أن يتعرف حال الفقيه في الفقه والأمانه ويكفيه في ذلك خبر العدل الواحد فإذا عرف أنه فقيه نظر فإن كان وحده قلده وإن كان هناك غيره فهل يجب عليه الاجتهاد؟ فيه وجهان: فمن أصحابنا من قال: يقلد من شاء منهم. وقال أبو العباس والقفال: يلزمه الاجتهاد في أعيان المفتين وهذا قد ذكرناه من قبل. وإن استفتى رجلين نظر في الجواب فإن اتفقا في الجواب عمل بما قالا وإن اختلفا فأفتاه أحدهما بالحظر والآخر بالإباحة فاختلف فيه أصحابنا على ثلاثه أوجه: منهم من قال: لا يأخذ بما شاء منهما. ومنهم من قال: يجتهد فيمن يأخذ بقوله منهما. ومنهم من قال: يأخذ بأغلظ الجوابين لأن الحق ثقيل والأولى أن يقال يجتهد ممن يأخذ بقوله منهما1. وأما الذى قال: إنه يأخذ بأغلظ الجوابين فقد يكون الحق في أخف الجوابين قال الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] وقال النبى صلى الله عليه وسلم: "بعثت بالدين الحنيفية السهلة السمحة" 2 وقد قيل يأخذ بأخف الجوابين لهذا الدليل. فإن قال قائل: هل يجوز للعامى أن يطالب العالم بدليل؟ الجواب قلنا: لا يمنعه أن يطالب به لأجل احتياطه لنفسه ويلزم العالم أن يذكر الدليل إن كان مقطوعا به لإشرافه على العلم بصحته ولا يلزمه أن يذكر له الدليل إن لم يكن مقطوعا به لافتقاره إلى الاجتهاد ويقصر عنه العامى. فإن قال قائل قد اخترتم إن يكون على العامى الاجتهاد في أعيان الفقهاء فأيش   1 في هذه المسألة ستة أوجه: أصحها: يتخير ويأخذ بقول أيهما شاء. والثاني: يأخذ بأغلظ الجوابين. وذكره السمعاني. والثالث: يأخذ بأخفهما. والرابع: بقول من يبني قوله على الأثر دون الرأي. والخامس: بقول من سأله أولا. وزاد الشيخ النووى رحمه الله سادسا وهو أن يسأل ثالثا فيأخذ بفتوى من وافقه انظر روضة الطالبين "11/105". 2 أخرجه أحمد: المسند "5/314" ح "22354" بنحوه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 357 يجب عليه من ذلك؟ الجواب: أن الذى عليه في الإخبار والاستخبار أن يعرف شواهد حاله ويسأل عنه من يثق بصدقه ويجب على من استخبر منه أن يخبر على ما عرفه من حاله فإن لم يغلب على ظنه صدق الواحد والاثنين استزاد والاحتياط أن يزيد بقدر ما يمكنه ليزداد ثقة وطمأنينة. وقد قيل: إنه إذا اجتمع عالمان على جواب وتفرد أحدهما بخلافه أخذ بقول الاثنين لأن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد" 1 وهذا إنما يأتى عند استواء الكل بعد اجتهاده منهم وأما إذا تفاضلا في العلم فلا بد أن يكون الأخذ بقول الأفضل أولى وقد قيل: يجوز الأخذ بقول المفضول2 كما يجوز للحاكم أن يقبل شهادة العدل وإن كان هناك من هو أعدل منه ولأن الصحابة قد تفاضلوا تفاضلا بينا فما منعوا من استفتاء المفضول مع وجود من هو أفضل منه. وإذا سمع المستفتى جواب المفتى لم يلزمه العمل به إلا بالتزامه فيصير العمل لازما بالانقياد ويجوز أن يقال: إنه يلزمه إذا أخذ في العمل به وقد قيل: إنه يلزمه إذا وقع في نفسه صحته وحقيقته وهذا أولى الإوجه وأذا لم يعلم المستفتى لسان المفتى فيكفى ترجمة الواحد ويجوز أن يجيب باللسان ويجوز أن يجيب بالكتبه. مسألة: ويجب على العامى أن يستفتى إذا وقعت له الحادثة: ولم يحتمل التأخير فيلزمه تعجيل السؤال وهذا في الديانات إذا توجه فرضها عليه لزمه الاستفتاء بأعجل ما يمكنه فأما في المعاملات فإن توجه الحق عليه لزمه الاستفتاء فيه وأن كان الحق له مخيرا فيه ثم ما يسأل عنه من فروض الديانات ينقسم على خمسة أقسام: أحدها: ما تعين فرضه على كل مكلف على الإطلاق وهو الإيمان ومسألة الصلاة   1 أخرجه الترمذي: الفتن "4/465" ح "2165" وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب وأحمد: المسند "1/24" ح "115". 2 ورجح ابن الحاجب جواز تقليد المفضول انظر نهاية السول "4/613" سلم الوصول "4/613" إحكام الأحكام "4/316, 317" المستصفى "2/390, 391". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 358 التى لا تسقط عمن عقلها من المكلفين ولا مهلة في تأخير العمل بها. والقسم الثانى: ما يجب على المكلف بوجود شرط ولا يجب عليه مع عدم الشرط وهوالحج الواجب بوجود الزاد والراحلة والزكاة الواجبه بوجود المزكى فلا يلزمه العمل بتفصيل أحكامها إلا بعد وجود الشرط. والقسم الثالث: ما تغير فرضه بتغير صفة المكلف وهو الحر والعبد والمسلم والكافر فيلزمهم بعد اختلاف أحوالهم أن يعلموا ما اختلف منها بانتقالهم عن أحوالهم. والقسم الرابع: ما يختلف أحكام الإنسان باختلاف أحواله كالمسافر والمقيم والطاهر والحائض فيلزمهم بعد اختلاف أحوالهم أن يعلموا ما عليهم من العزائم وهم مخيرون في استعلام ما لهم من الرخص. والقسم الخامس: فرضه على الكفاية كالجهاد وطلب العلم وغسل الموتى والصلاة عليهم فلا يلزم مع طهور الكفاية أن تعلم ويلزم العلم بها عند التعين عليه. واعلم أن فرض التعليم الذى على الآباء للأولاد وذلك إذا بلغ الولد ستة فينبغى الإب أن بذكر أن الله عز وجل خالقه ومعبوده وأن محمدا صلى الله عليه وسلم1 نبيه ورسوله وأنه على دين الإسلام وأنه لا نبى بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم2 وأنه بعث بمكة ودفن بالمدينة. ويذكر له بحيث تزول عنه الشبه ليألفه وينشأ عليه إذا بلغ سبعا وصار بحيث يؤمر وينهى عليه الطهارة ومواجبها والصلاة وما يشتمل عليها فبأمر بفعلها ولا يضربه على تركها لضعفه عن احتمال الضرب حتى يبلغ عشرا فإذا بلغ عشرا يضربه3 إن تركها لأن هذا أولى زمان البلوغ ومبادى القوة ويذكر للغلام والجارية ما يكون بلوغهما به ويذكر لهما استقرار الفرض عليهما بالبلوغ ويعلمهما ستر العورة واجتناب القبائح ويعلمهما من مصالح الدنيا ما يكون باعثا على صلاح أحوالهم ويكون التعليم بما اختص بأمور الدين فرضا وبما اختص بأمور الدنيا ندبا لأن أمور الدين محمولة على الاعتقاد وأمور الدنيا محمولة على النفل. وهذا الذى ذكرناه واجب على الآباء في مبادى التربية وتختلف مبادىء التعليم على   1 ثبت في الأصل [صلعم] وما ذكرناه أليق بمقام النبي صلى الله عليه وسلم 2 ثبت في الأصل [صلعم] وما ذكرناه أليق بمقام النبي صلى الله عليه وسلم 3 ثبت في الأصل [يضربها] وما ذكرناه أصوب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 359 قدر ما ركب الله فيهم من العقول ليثبتوا عليها فتصيرمستقرة في غرائزهم فإن لم يكن لهم آباء فعلى الأمهات فإن لم يكن لهم أمهات فعلى الأولياء الأقرب فالأقرب منهم فإن لم يكن لهم أولياء فعلى الإمام وإن اشتغل الإمام عنهم فعلى جميع المسلمين ويتوجه فرض كفايته على من علم بحاله منهم إذا كان قريب الدار ولا يلزمه من لا يعلم ولا من بعد وإن علم وإذا كانت الصغيرة ذات زوج وأبوين وجب تعليمها على الأبوين فأن عدما فالزوج أحق بتعليمها من سائر أوليائها وإن كان الصغير ذا زوجة لم يكن عليها فرض تعليمه وفى الصغيرة لها زوج يجوز أن يقال يجب على الزوج تعليمها مثل ما يجب على حق الأولياء ويجوز أن يقال إنه يكون ندبا في حق الزوج وإن كان واجبا في الأولياء وإذا كان الزوجان فقيهين وقد آلى منها وقد مضت عليها أربعة أشهر فإن اعتقدت الزوجة أنها قد بانت منه وحرمت عليه واعتقد الزوج أنها لم تبن فعلى كل واحد منهما أن يعمل بمعتقده فيلزم الزوجة منعه من نفسها وتهرب منه وللزوج أن يستمتع بها ويكرهها ويتوصل كل واحد منها إلى معتقده بما هو دون القتل والضرب يفضى إلى تلف النفس فإن أفضى إلى القتل وتلف النفس كف وكان حكمه فيما قيل حكم المكره يئول فيه المأثم عن الموطؤة لإكراهها وعن الوطىء لاعتقاده وهكذا لو أفتاهما فقيه بالجوبين المختليفين وكان جاهلين بالحكام وإذا اعتدت الزوجة لاعتقادها أنها1 قد بانت منه حل لها أن تتزوج في الباطن لغيره وحرمت في الظاهر على من يريد أن يتزوج بها وحل للأول وطئها في الظاهر كما بينا وحل للثانى وطئها في الباطن فإن حكم بينهما حاكم عدل بأحد الحكمبن تعين وثبت الحكم له وإذا تنازع اثنان في حق ودعا أحدهما صاحبه إلى الحاكم وجب على صاحبه إجابته في الظاهر والباطن وإن كان الحاكم عدلا من أهل الاجتهاد وإن كان غير عدل أو كان من غير أهل الاجتهاد لزم إجابته في الظاهر لئلا يتظاهر بشق العصا ومخالفة الولاة ولا يلزمه الإجابة باطنا فيما بينه وبين الله تعالى لأن طاعة الولاه تجب على أهل العدل منهم دون من يجوز منهم وقد قال أبو بكر رضى الله عنه: أطيعونى ما أطعتكم في الله عز وجل فإن عصيت الله فلا طاعة لى عليكم. فأن حكم غير العدل بينهما التزما في الظاهر وإن كان في الباطن غير لازم. وحكى أبو سعيد الإصطخرى أنه إذا ادعى كان له الامتناع ظاهرا وباطنا وإن أفضى الإمتناع إلى قتله وحمله على   1 ثبت في الأصل [أنه] وما ذكرناه أصوب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 360 قوله عليه السلام: "من قتل دون ماله فهو شهيد" 1 وإذا حكم العدل بين خصمين لم يخل حالهما من أن يكونا من أهل الاجتهاد أو من غير أهله فإن لم يكونا من أهل الاجتهاد لزمهما ما حكم به عليهما في الظاهر والباطن وإن استفتيا فأفتى يلزمهما أيضا حكم ما أفتى به لكن يكون حكم الحاكم ألزم من فتيا المفتى وإن كان المتحاكمان من أهل الاجتهاد ولم يخل حكمه عليهما من ثلاثة أحوال: أحدها: أن يكون حقا عندهما فعليهما إلزامه. والحالة الثانية: أن يكون باطلا عندهما فيلزمهما عملا ولا يلزمهما معتقدا ويجوز أن يقال يلزم المحكوم عليه ولا يلزمه المحكوم له لأن المحكوم له مخير والمحكوم عليه مخير. والحالة الثالثة: إن يكون عند احدهما حقا وعند الآخر باطلا فإن كان معتقدا لحق هو المحكوم له وجب له استيفاؤه وعلى المحكوم عليه أداؤه وينبغى على قول الشافعى رحمه الله أن لا يجب على المحكوم عليه أداؤه في الباطن وإن أوجب الحكم أداؤه في الظاهر وإن كان معتقدا لحق هو المحكوم عليه ومعتقد الباطل هو المحكوم له وجب على المحكوم عليه أداؤه في الظاهر والباطن واستيفاؤه وللمحكوم له استيفاؤه في الظاهر وفى استباحته له في الباطن مذهبان2 وإذا استفتى المتنازعان فقيها مع وجود الحاكم فإن التزما فتياه عملا بها وإن لم يلزما فتياه كان الحاكم أحق بالنظر بينهما ولو لم يجدا حاكما فقد قيل: يلزمهما فتيا الفقيه إذا لم يجد غيره مفتيا ولا حاكما. وقيل: لا يلزمهما حتى يلتزماها ولو وجدا غيره لزمهما من الفقهاء ولم يجدا حاكما لم يلزمهما فتيا الفقيه حتى يلتزماها ويفتيهما باقى الفقهاء بمثل فتيا الأول وإن التزما فتيا الفقيه ثم تنازعا إلى الحاكم فحكم بينهما بغيره لزمهما فتيا الفقيه في الباطن وحكم الحاكم في الظاهر. وقيل: يلزمهما حكم الحاكم في الظاهر ولو استفتيا فقيها فأفتاهما ورضى به أحدهما وامتنع الآخر لم يلزم الممتنع ولو تحاكما إلى حاكم فرضى به أحدهما وامتنع الآخر لزم الممتنع ولو اختلفا فدعا أحدهما إلى فتاوى الفقهاء ودعا الآخر إلى حكم الحاكم أجيب الداعى إلى حكم الحاكم لأن فتيا المفتى إخبار وحكم الحاكم إخبار وإذا دعى إلى حكم الحاكم أجبر وإذا كان الفقيه عدلا والحاكم ليس بعدل فأفتاهما الفقيه   1 أخرجه البخاري: المظالم "5/147" ح "2480" ومسلم: الإيمان "1/124" ح "226/141". 2 انظر روضة الطالبين "11/153". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 361 بحكم وحكم الحاكم بغير لزمهما في الباطن أن يعملا بفتيا الفقيه ولزمهما في الظاهر أن يعملا بحكم الحاكم. هذه جملة مسائل على الوجه الذى سردتها لا بد من معرفتها في فروع المفتى والمستفتى أوردتها في هذا الموضع فليغتنمها الناظر عليها فإنها عزيزة الوجود جدا وقل ما يجدها الإنسان في المذهب وليس ما يقع عنها الغنية للفقيه الفقيه والله أعلم بالصواب [] 1. اعلم أنه قد ذكر بعض الأصوليين في فصل المفتى والمستفتى كلمات أحببت أن أذكرها هاهنا ويوجد في أثنائها فوائد لم تدخل فيما قد ثناه ذكر فصلا في كيفية فتوى المفتى وقال: لا يجوز للمفتى أن يفتى بأحكام عن غيره بل إنما يفتى باجتهاده لأنه إنما سئل عنه ولم يسأل عن قول غيره وإن سئل أن يحكى قول غيره جازت حكايته ولو جاز للمفتى أن يفتى بالحكاية جاز للعامى أن يفتى بما يجده في كتب الفقهاء وذكر أنه إذا أجاب الفقيه في مسألة ثم وقعت تلك المسألة قال: لا يجب لاجتهاد إذا كان ذاكرا لذلك القول وذاكرا لطريقة الاجتهاد لأنه كالمجتهد في الحال وإن لم يذكر طريقة الاجتهاد فهو في حكم من لا اجتهاد له فالواجب عليه تجديد فتواه وهذا حسن جدا فينبغى أن يكون المختار هذا الوجه لأننا قلناه من قبل. ثم قال: إذا لم يجز للمفتى أن يفتى فتواه السابق فأولى أن لا يأخذ بفتوى من مات قال:: وإذا أفتى المفتى باجتهاده ثم تغير اجتهاده لم يلزمه تعريف المستفتى تغاير اجتهاده إذا كان قد عمل به وإن لم يكن عمل به فينبغى أن يعرفه إن تمكن منه لأن العامى إنما يعمل به لأنه قول المفتى ومعلوم أنه ليس قوله [ .... ] 2 الذى يريد أن يعمل فينبغى أن يخيره بذلك. قال: وإذا أفتاه بقول مجمع عليه لم يخيره في القبول منه وإن كان مختلفا فيه خيره بين أن يقبل منه أو من غيره وهذا لا شبهة فيه على قول من يقول كل مجتهد مصيب وعلى قول من قال: إن الحق واحد. يكون هكذا أيضا لأنه ليس بأن يجب عليه الآخر بقول أحد من المفتين بغير حجة بأولى من الآخر فإن كان التخيير معلوما من قصد المفتى لم يجب عليه أن يخيره لفظا بل يذكر له قوله فقط وليس كذلك الحكم لأن الحاكم منصوب لقطع الخصومات فلو كان الخصم مخيرا بين الدخول تحت حكمه وترك الدخول لم تنقطع الخصومة أبدا.   1 بياض في الأصل. 2 بياض بمقدار أربع كلمات في الأصل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 362 قال الإمام: وعندمى أنه لا يجب عليه أن يبين له تخيره لأنا بينا أنه لا بد للمستفتى في الاجتهاد في أعيان العلماء وإذا وجب عليه ذلك فاختار أحد العلماء باجتهاده واستفتاه فقد صار في هذه المسألة بمنزلة مجتهد والمجتهد لا يتخير بين الأخذ بقول غيره أو باجتهاده بل يلزمه الأخذ باجتهاد فكذلك العامى يلزمه الأخذ بقول هذا العالم ولا يجب تخييره. واعلم أن جماعة من المعتزلة منعوا العامى تقليد العالم أصلا1. وقالوا: إن العامى لا يأمن أن يكون من قلده لم ينصح له في الاجتهاد فيكون فاعلا مفسدة ومع توهم المفسدة لا يجوز الرجوع وقاسوا أيضا التقليد في الفروع على التقليد في الأصول. وقالوا: إذا لم يجز في أحدهما لا يجوز في الآخر قالوا: ولأنه إذا قلده في مسائل الاجتهاد وقلتم إن الحق في واحد فلا يؤمن أن يقلده في شىء يكون الحق بخلافه. وعلى هذا قال أبو على الجبائى: يجوز للعامى تقليد العالم في مسائل الاجتهاد لأن كل مجتهد مصيب فأما فيما ليس من مسائل الاجتهاد إذا قلنا: إن العامى يقلد فيه الحق واحد فلا نأمن أن يكون قلده فيما هو خلاف الحق وقال: هؤلاء لا يجوز أن يأخذ العامى بقول العالم إلا بعد أن يبين له حجته ونحن نقول إن هذا غلط عظيم وخطأ فاحش فأن الصحابة والأمة من بعدهم دليل على خلافه فإن الصحابة ومن بعدهم ما زالوا يفتون العوام في غوامض الفقه ولم يرو عن أحد أنه عرف العامى أدلته ولا نبه على ذلك ولا أنكروا عليهم اقتصارهم على مجرد الأقاويل من غير أن يستخبروا عن الأدلة ولأن العامى إذا حدثت له حادثه فلا بد أن يكون مستعبدا شىء فإن ألزمناه التعلم عند بلوغه خفى فيصير مجتهدا وأوجبنا هذا على كل أحد يؤدى إلى إهمال أمور الدنيا أجمع لأنهم إذا اشتغلوا بذلك فلا بد أن يتعطل أمر الدنيا وأمر مصالحها فإن قالوا: لا يلزمه الاجتهاد لكن العالم يبين له الدلائل يجوز هذا في آية يتلوها عليه أو خبر يذكره عن النبى صلى الله عليه وسلم. فأما القياس إنما يكون حجة ويجوز للأنسان أن يتوصل به إلى معرفة الحكم الشرعى مقدما فلا يتصور حصولهما لهذا العامى بخبر يخبره العالم له عن ذلك فلا ندرى كيف وقع هذا السهو [ .... ] 2 ولكن قد بينا أن من لا يكون من أهل الفقه يقع لهم السهو   1 انظر المعتمد "2/260". 2 بياض في الأصل بقدر كلمتين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 363 الكبير والأولى بالمتكلمين أن يدعوا هذا الفن للفقهاء وأن يقتصروا على الخوض فيما انتصبوا له مع أنهم لو تركوا ذلك أيضا كان أولى بهم وأسلم لدينهم يدل أنه إذا وقع للأنسان حادثه في صلاته أو صيامه فإذا لم يرجع إلى العالم في الجواب عنها فلا بد أن يسلك طريقا يصير به عالما مجتهدا وذلك بالابتداء بالتفقه والحادثه وحكمها كيف تحتمل هذا التأخير إلى أن يصير هذا الرجل فقيها ومن يضمن له أنه يصير مجتهدا وأكثر طالبى العلم قد قطع الطريق بهم وبقوا مقلدين وإنما يصير الشاذ النادر مجتهدا ويكون بحيث يسلم له النظر وإن قال في الحال يذكر له الدليل فقد بينا أنه لا بد من مقدمات كثيرة ومعرفة طرق وأسباب ووجوه وترتيبات تضل عنها فهوم المتبحرين مثل الفقهاء فكيف يدركه العامى بمجرد ذكره له حتى يصير عالما ويكون وصوله إلى الحكم بعلم نفسه واجتهاده. وأما قولهم: إنه ربما لا ينصح له. قلنا: هذا باطل فمن روى خبرا في حكم يلزمه الأخذ به لا يقال إنه ربما كذب له ولأنه إذا كان قد اجتمع في المجتهد شرائط الاجتهاد فيمنع ذلك التوهم وهذا كالراوى إذا كان عدلا فإن عدالته تمنع هذا التوهم. وأما التقليد في الأصول فقد بينا من قبل وقد قال جماعة من أصحابنا الذين يمنعون التقليد في الأصول في الفرق بين الموضعين: إن العامى إنما يلزمه النظر في مسائل مخصوصة في التوحيد وسائل الصفات وإثبات القضاء والقدر وبيان النبوات وما يتصل لها ومدار1 هذه الأشياء أكثرها عقلية وإنما يحتاج العاقل فيها إلى تنبيه يسير فلا يؤدى إلى أن يستغرق ذلك عمره وتعطل عليه مصالحه. وأما الحوادث الطارئة من الفروع بغير إحصاء ولا عد فالاجتهاد فيها لا يمكن إلا بأمور شرعية لا يمكن ضبطها والاستدلال بها إلا في الزمان الأطول فيؤدى إلى ما قدمنا من دخول المفاسد في أمور عامة الناس. وأما الذى قاله أبو على الجبائى فضعيف لأن ذلك إنما يكون بأن يلزم العامى أن يعرف مسائل الاجتهاد مما ليس في مسائل الاجتهاد وإذا فعلنا ذلك فقد ألزمناه أن يكون من أهل الاجتهاد لأن ذلك لا يميز إلا أهل الاجتهاد وفى ذلك من المفاسد ما قدمناه وذكر فصلا في شرائط المستفتى وما يجب عليه إذا أفتاه أهل الاجتهاد قال أما شرائط الاستفتاء أن يغلب على ظن المستفتى أن من يستفتيه من أهل الاجتهاد مما يراه من انتصابه للفتوى بمشهد من أعيان الناس ويرى أخذ الناس عنه   1 ثبت في الأصل: [وأدار] ولعل الصواب ما أثبتناه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 364 وأن يظنه من أهل الدين بما يرى من اجتماع الجماعات على سؤاله واستفتائه فيما يراه من سمات الستر والدين والأشبه أنه ليس للعامى أن يستفتى من يظنه غير عالم ولا متدين وإنما أخذ عليه ذلك [ .... ] 1 الظن لأن ذلك القدر ممكن له وأما ما يجب على العامى إذا أفتاه أهل الاجتهاد هو أنهم إن اتفقوا يجب على المستفتى أن يصير إلى الفتوى التي اتفقوا عليها وإن اختلفوا وجب عليه الاجتهاد في أعلمهم وأدينهم لأن ذلك طريق قوة ظنه وهو ممكن له فجرى مجرى قوة ظن مجتهد في المسائل التي يجتهد فيها وقد ذكرنا أن قوما من أصحابنا وغيرهم أسقطوا عنهم الاجتهاد لأن العلماء في كل عصر لم ينكروا على العامة ترك النظر في أحوال العلماء والأول أحسن فإن اجتهد واستوى عنده علمهم ودينهم كان مخيرا في الأخذ بأى أقاويلهم شاء فأيها اختاره وجب عليه كما بينا وإن كان عنده أن واحد من هؤلاء المفتين أدين فيجب عليه اتباع الأدين لأن الثقة تكون بقوله أقوى وكذلك إذا كان في ظنه أن أحدهما أعلم وجب عليه الأخذ بقول الأعلم لأن النفس إليه أسكن ويجرى التفاضل في العلم بمنزلة التفاضل في الدين وأما إذا كانا عالمين دينين وأحدهما أدين إلا أن أدينهما أنقصهما علما فإنه يحتمل أن يقال هما سواء والأولى أن يرجع قول الأعلم بزيادته فيما يعين على الاجتهاد والوقوف والصواب. قال: ومثل هذا النظر لا يخفى على العوام فهو كتدبير أمور الدنيا لا يخفى عليهم فلا يسقط عنهم ونذكر مسألة تقليد العالم العالم. وقال: وإن اكثر الفقهاء منعوا من ذلك وذلك لأن الصحابة لم يقلد بعضهم بعضا بل ناظروا ولو جاز ذلك لفعلوا ولم يكن لمناظرتهم في المسائل فائدة وأيضا فإن المجتهد متمكن من الإجتهاد لتكامل الآلة فلم يجز مع تمكنه من العمل على اجتهاده أن يصير إلى قول غيره كما لم يجز أن يصير إلى قول غيره في العقليات لما تمكن من النظر والاستدلال عليها ولأن المجتهد لو أداه إلى خلاف قول عالم آخر وإن كان أعلم منه لا يجوز له بالاجماع ترك رأيه والأخذ بقول الأعلم فيجب أن يجوز له ذلك وإن لم يجتهد لأنه لا يأمن لو اجتهد أن يؤديه اجتهاده إلى خلاف ذلك القول. قال: ولأن التقليد دون الاجتهاد فإذا تمكن من الاجتهاد لم يجز له العدول إلى ما دونه كما لا يجوز للمتمكن من العلم أن يعدل إلى الظن وأيضا فإن المجتهد متعبد   1 بياض في الأصل بقدر ثلاث كلمات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 365 بالاجتهاد وعلمه بحسبه ويكون بذلك مطيعا لله عز وجل وهذا لأن الله تعالى ما نصب الأمارة إلا وقد أراد من المجتهد أن يجتهد فيها وليس بعض المجتهدين بذلك أولى من البعض ولا يجوز إثبات بدل هذا التعليل الواجب إلا بدلالة عقلية أو سمعية ولا دليل يدل عليه فوجب نفيه واعتمد هذا الذى أوردنا كلامه وهذا بالدليل ثم ذكر احتجاج المخالفين في تقليد الصحابة بقول صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدى" 1 وبقوله عليه السلام: "اقتدوا باللذين من بعدى أبى بكر وعمر" 2 رضى الله عنهما. وأجاب وقال: هذه أخبار آحاد لا يكون [ .... ] 3 العلم على أن أكثر هذه الأخبار خطاب مواجهة لمن كان في ذلك العصر فمن لم يكن صحابيا أن يتبع الصحابة ومن لم يكن صحابيا في ذلك العصر لم يكن من أهل الاجتهاد فجاز له التقليد وعلى انه يجوز أن يكون المراد به الأمر بالاقتداء بهم في رويتهم لأنه يقال لمن اتبع رواية غيره إنه اقتدى به أى اقتدى بروايته ثم قال: "اقتدوا باللذين من بعدى" وقوله: "عليكم بسنتى" وما يشبه هذه الألفاظ أمر والأمر للإيجاب وليس يجب التقليد إلا على العامى فدل أن المراد به هو العامى دون العالم. وأما الدعاء الذى قاله لعمر وعلى فيجوز أن يكون ذلك في شىء مخصوص والدليل عليه أن سائر الصحابة اجتهدوا وأفتوا بما أدى إليه اجتهادهم ولم يرجعوا إلى قولهم معتقدين أن ما قالوه هو الحق والصواب دون غيره فإن قالوا: أليس أنه روى أن عمر رجع إلى قول على ومعاذ رضى الله عنهما حين قال له ذلك برأيه وأن سألهما عن وجه الحجة فدل أنه كان محض تقليد. قلنا: مجهول على التنبيه على وجه الدليل وحين ينبهان على ذلك ننتبه. فقال ما قال لهذا المعنى ويجوز أنه خطر له وجه قولهما حين سمع كلامهما فرجع إلى ذلك لهذا ويكون على هذا عمله بعلمه واجتهاده لا بتقليدهما يبين ذلك أن الإنسان إذا تردد بين رأيين في الحدث ثم صمم على أحدهما فقال له قائل: ليس هذا بصواب إنما الصواب كذا وكذا فقال له: صدقت فهم الحاضرون أنه صدقه لأنه   1 تقدم تخريجه. 2 تقدم تخريجه. 3 بياض في الأصل بقدرثلاث كلمات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 366 تنبه على وجه الرأي إما من ذلك الكلام أو من غيره. واحتج ايضا لهم وقال: إن المجتهد مصيب صواب وقوله صواب فجاز اتباعه. قلنا: قولك له: صواب دعوى ويجوز أنه خطا وهذا لأنا نقول إن الصواب في قول واحد من المجتهدين فالذى يظن أنه الصواب بعينه يجوز أنه الخطأ بعينه فهذا حكاية ما نقله في أصوله ذكرته مع اقتصار على البعض وأفردته لأنه اشتمل على فوائد في هذه المسائل المذكورة وهذه المسائل وإن دخلت فيما أوردناه من قبل فقد تضمن نقله تقرير للصحيح المختار من الأقوال والله تعالى يهدى إلى الصواب ويرشد بمنه إليه. وقد أتينا على ما أورده أصحابنا من الكلام في الأصول وذكرنا المختار من ذلك وأوردنا الدلائل الصحيحة في ذلك على ما يوجبه التحقيق ويصلح لتثبيت الأصول التي بنينا عليها الفروع في مسائل الخلاف وبلغنا النهاية في الإيضاح وكان قصدنا بذلك إن شاء الله سنبين الحق من الباطل ولم نقصد قصر الميل إلى جانب دون جانب وخلينا سرد كثير مما قاله أصحابنا حين لم نجد على ذلك دليلا قويا يعتمد عليه فاخترنا في الكل ما أمكن تحقيقة وإثباته بطريق الزمان ولم نقنع بمحض الجدل والله تعاله يجعل سعينا في ذلك لوجهه وطلب مرضاته والأولى أن نقنع بالكفاف لا لنا ولا علينا وفيه الربح العظيم والنجاة من الخسارة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 367 فصل: مسألة النسبة إلى الإمام الشافعي ... "فصل"1: وقد بقيت علينا مسألة النسبه إلى الإمام المطلبى الشافعى رحمه الله: وهذا أمر يعرف باستقراء المسائل والنظر في دلائلها فإن المجتهد لا يقنع بمجرد التقليد والنسبة من غير معنى وقد ذكرت في كتاب الاقتصار طرفا من تقديم أصحاب الحديث على أصحاب الرأى وقد ذكرنا دررا من فضل الشافعى رحمة الله وذكرت أيضا في الكتاب الذى سميته البرهان المسائل من أصول المخالفين يأتى على تشنيعات عليهم في أشياء اختاروها لا يصح ذلك على أصول الشرع وسردت ذلك سردا من أول كتاب الطهارة إلى آخر الكتب فلم أحب إعادته في هذا الموضع وأيضا فإن سائر أصحابنا قد اعتنوا في ذلك وصنفوا الكتب وقد بالغوا ولم يقصروا وعلى الجملة نقول إن الانتساب إلى الشافعى استنان فإن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "الأئمة من قريش" 2. وقال في موضع آخر: "الناس تبع لقريش في هذا الأمر أبرارهم تبع لأبرارهم وفجارهم تبع لفجارهم" 3 فذكر أنهم الأصل وأن باقى الناس تبع لهم ولا بد للمتبع من مقتدى به في الجملة والتقليد وإن لم نجوزه للعالم ولكن لأجل حرمة ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن بد من أمام ينتسب إليه لنكون ممتثلين لقول صاحب الشرع صلوات الله وسلامه عليه: "الناس تبع لقريش" فاخترنا الأمام المطلبى محمد بن إدريس الشافعى رحمه الله ورضوان الله عليه لأنا لم نجد في الأئمة الذين مهدوا الأصول وفرعوا التفريعات وتكلموا في المسائل على ما توجبه الأصول والاجتهاد الصحيح المبتنى على القواعد الصحيحة أحدا من قريش سوى الشافعى رحمه الله والباقون لا مطعن عليهم وقد تحروا الحق وطلبوه بجهدهم لكن العالم الذى لا يجوز له التقليد وإنما يطلب الانتساب المحض بوجه الاستنان بقول الرسول صلى الله عليه وسلم فتعين الانتساب إلى الشافعى رحمه الله لما بينا من قبل. وأما العامى الذى يقلد ويطلب الانتساب إيضا فالأولى له وبه أن ينتسب إلى هذا   1 بياض في الأصل بمقدار كلمتين. 2 أخرجه أحمد: المسند "3/255" ح "12905" والطبراني في الكبير "1/252" ح "725". 3 أخرجه البخاري: المناقب "6/608" ح "3495" ومسلم: الإمارة "3/1451" ح "1/1818" بنحوه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 368 الإمام لأن القرشى إمام مقتدى به بقول صاحب الشرع مؤيد بزيادة لا توجد في غيره وهو قوله عليه السلام: "رأى رجل من قريش مثل رأى رجلين من غير قريش" يعنى في إصابة الصواب فيكون أبو حنيفة ومالك وغيرهما على النصف من الشافعى في إجابة الحق فيتعين لهذا أيضا الانتساب إلى مثل هذا الإمام ثم بعد هذا إذا نظر العالم إلى المسائل وأصولها وفروعها وجد أصول الشافعى رضى الله عنه موافقة للكتاب والسنة مؤيدة بهما مستمرة على الإخبار إذا وجدها استمرارا صحيحا مستقيما ويتبع الصحيح منها ويدع الرأى حين يجده فلا يأمر بعرض حديث على قياس ولكن يأمر بعرض القياس على الأحاديث فإن وجدها معترضا على خبر من ذلك حكم برده وقدم الحديث ويقول بطرح المراسيل والمناكير ويعرض عن رواية المجاهيل ولا يفرع إلا على أصل صحيح وفى القياس يطرد القياس طردا ولا يدعه باستحسان ولا يمنع أيضا في موضع يمكنه استعماله فيه ويطلب المعانى المؤئرة والأشباه الصحيحة ويطلب المعانى المؤثرة في العلل ليكون برىء الجانب. مسألة1: من المناقضة الموحشة وفى كلام كثير وخطب عظيم لكنا اقتصرنا على هذا القدر وأشرنا إلى طرف منه والله ولى التسديد بمنه وعونه ويتلوه إن شاء الله ذكر مسائل وفصول اختصر أبو زيد بإيرادها في أوصله والكلام عليها والله المعين. واعلم أنا قد أتينا على مقصودنا من الكلام في أصول الفقه على ما ذكره الصحابة وأوردنا الصحيح من ذلك على سبيل التحقيق لا على سبيل المجاز والتجوز على ما يفعله كثير من المتفقهة وحين فرغنا من ذلك فقد ذكر القاضى أبو زيد الدبوسى في آخر كتابه الذى صنفه في أصول الفقه وسماه تقويم الأدلة فصولا لا توجد في سائر الأصول وللفقهاء حاجة إليها خصوصا في الطريقه التي هى معهودة الوقت فأحببت إيراد ذلك والكلام عليه في المواضع التي يجب الكلام عليها فيكون مخالفا لأصولنا التي تبنى عليها التفريعات لنزول حيرة السامع لذلك حين يسمعه ويعرف وجه الكلام عليه إذا احتاج إليه ونسأل الله تعالى المعونة في ذلك والتأييد بمنه بدأ يذكر [فصلا] 2 في خبر أهلية الآدمى لوجوب الحقوق الشرعية وهى الأمانة التي حملها الإنسان قال: لا خلاف أن الآدمى يخلق وهو أهل لإيجاب الحقوق عليه فإنه يخلق وعليه عشر الأرض   1 بياض في الأصل بمقدار كلمتين. 2 بياض في الأصل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 369 وخراجها بالإجماع وعليه الزكاة على قول أهل الحجاز واختلفوا فيما سقط عنه بعذر الصبى كما يسقط بعذر الحيض عن الحائض لا أنها ليست بأهل للإيجاب عليها فإن الصوم قد لزمها وهذا لأن الآدمى أهل الوجوب عليه بالذمة فمحل الوجوب هو الذمة. يقال: وجب في ذمته كذا ولا يضاف الوجوب إلى غيرها والآدمى كما خلق خلق وله ذمة أترى أن الطفل إذا انقلب على مال إنسان فأتلفه يلزمه ضمانه بخلاف البهيمة وكذلك يلزمه مهر أمراته وسائر حقوق الناس وإنما عرف وجوهها بالشرع ولأن الذمة عبارة عن العهد فالله تعالى لما خلق الإنسان ليتحمل أمانته أكرمه بالعقل والذمة حتى صار أهلا لوجوب الحقوق له وعليه فثبت له حق العصمة والحرية والمالكية بأن حمل حقوقه وثبتت عليه حقوق الله تعالى التي سماها أمانة كما إذا عاهدنا الكفار وأعطيناهم الذمة ثبت لهم وعليهم حقوق المسلمين في الدنيا والآدمى لا يخلق إلا وله هذا العهد والذمة فلا يخلق الا وهو أهل لوجوب حقوق الشرع عليه كما لا يخلق إلا وهو حر مالك لحقوقه ولأن هذه الحقوق الشرعية التي تلزم الآدمى بعد البلوغ تجب بلا اختيار منه جبرا وشاء أو أبى وإذا لم يتعلق الوجوب عليه بتمييزه واختياره لم يفتقر الوجوب إلى قدرة العمل ولا قدرة التمييز. ألا ترى: أن الصلاة تلزم النائم والمجنون على أصلنا إذا كان الجنون أقل من يوم وليلة ثم قال: لا يجوز أن يقال: إن وجوب الحقوق بالخطاب بل الوجوب بالأسباب التي جعلها الشرع أسبابا للوجوب وليس بالأمر والخطاب والأسباب هى ملك النصاب للزكاة والأراضى العشرية للعشر والأراضى الخراجية للخراج والبيت للحج والأوقات للصلوات وشهر رمضان للصوم والآيات الدالة على الله تعالى للإيمان والنكاح للمهر والشراء للثمن والقرابه للنفقة ويجوز ذلك ثم الخطاب بعد ذلك لطلب أداء الواجب بسببه نحو قولك لغيرك اشتريت عبدا بألف درهم فأد ثمنه فيكون وجوب الثمن في الذمة بالشراء لا بقولك أد الثمن. بل قولك أد الثمن طلب للخروج عن الواجب بالأداء إلى مستحقه فكذا قول الله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] أي: ليؤد الواجب عليه بشهود الشهر وقوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة: 43] أي: أدوا ما يلزمكم بأوقاتها وهذه الأسباب قائمة في حق البالغ والصبى على السواء فلا ينبغى أن يقع الفرق بينهما في صحة الوجوب فعلمنا أن سقوط ما سقط عن الصبى كان بعذر يسقط بمثله بعد البلوغ تيسيرا علينا لأنه ليس بأهل له وإنما يفارق الصبى الذى لا يعقل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 370 العاقل في وجوب أداء ما لزم ذمته بأن تعلق من صاحب الحق بالأمر والخطاب وغير العاقل ليس من أهله فلا يلزمه الأداء إلا على ما نذكر بعد هذا وهذا كما قيل إن النائم يلزمه حقوق الله تعالى ولا يلزمه أداؤها حتى يستيقظ لأنه لا يقدر عليه ولا يعلم به وهذا لأن الأداء إنما يكون بفعل منا على سبيل الاختيار فلا بد من العلم به ثم القدرة عليه. فأما الوجوب في الذمة فصحيح بدون اختيارنا فلم يكن من شرط صحته إلا قدرتنا ولا علمنا به. قالوا: ولا يجوز أن يقال: إن الوجوب للأداء لا لنفسه فلا يجوز الإيجاب على من لا يقدر على الأداء فإن الوجوب بالأداء لا يتعين حال الوجوب بل يجوز بعده بزمان إما أداء وإما قضاء فصح الإيجاب على ما من حالة قدرة الأداء والقضاء في الجملة والصبى من تلك الجملة كالنائم والمغمى عليه. فإن قيل: وأى واجب علينا في باب العبادات البدنية سوى الأداء قلنا: قال: الوجوب حكم إيجاب الله تعالى بسببه والواجب اسم ما لزمه في ذمته بالإيجاب والأداء فعل العبد الذى يسقط الواجب عنه وإنما هذا بمنزلة رجل استأجر خياطا ليخيط له ثوبا بدرهم فليلزم الخياط فعل الخياطة نفسها وبها يقع تسليم ما لزمه بالعقد والأداء بالخياطة وكان الفعل المسمى واجبا في الذمة غير المؤدى حالا بالقميص وكذلك دراهم مؤداة عينا بدراهم في الذمة فيكونان غيرين لا محالة فإن قيل: أرأيت لو مات الولد قبل أن يعقل حتى لم يقدر على الأداء لم نجعله أنه أمانة الله سبحانه وتعالى واستحقاق الجزاء في الآخرة. قلنا: اختلفوا في هذه المسألة روى عن أبى حنيفة أنه توقف في جواب هذه المسألة. وحكى عن محمد أنه قال: إنما أنا أعلم أن الله تعالى لا يعذب أحدا بغير ذنب وقد جاءت الأخبار بأن الأطفال يكونون شفعاء لآبائهم يوم القيامة فأما الخلاف بينهم في وقوع الحمل عليهم على ما مر اختلافهم في الجزاء لا يدل على خلافهم في الحمل فالجزاء يقابل الأداء لحمل الأمانة فإنها تقع عليها بإيجاب الله تعالى شئنا أو أبينا كما بعد البلوغ لا يجب الجزاء لوجوب الصلاة علينا بل الأداء. ويحتمل أن يقال: بأن الله تعالى لما حمل الأطفال أمانته بالإيجاب عليهم أهلهم لذلك باستحقاق الجزاء ولم يؤاخذهم بتركهم الأداء وأنابهم كرما وألحق غير المؤدى بالمؤدى بعذر العجز بمنزلة البالغ يدركه وقت الصلاة وهو لا يجد ما يتطهر به فإنه يلزمه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 371 الصلاة ولا يؤاخذ إذا مات قبل الأداء ويثاب وهذا لأن الإيجاب شرعا بنى على ظاهر الحال لا على ما يكون في الغيب ولظاهر الحال كل صبى ممن يرجى منه الأداء أرأيت طفلا له أرض عشرية ولا ولى له أليس يلزمه العشر أو الخراج إن كانت خراجيه وإن مات قبل أن يلى عليه أحدا ويقدر بنفسه وكم من بالغ يلزمه حقوق الله تعالى ثم لا يقدر على الأداء فيسقط عنه. فإن قيل: قد قال النبى صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة عن الصبى حتى يحتلم" 1 الخبر قلنا: رفع القلم لا يدل على رفع الوجوب في الذمة وإنما يدل على سقوط أداء الوجوب لأن القلم للحاسب والحساب على ترك ما عليه من الأداء لا على الوجوب في ذمة فإن الواجب إذا تأجل لم يؤاخذ العبد به والوجوب قائم ألا ترى: أنه قرنه بالنائم والنائم يلزمه الصلاة في ذمته ولا يلزمه الأداء حتى يستيقظ فكذلك الصبى هذا كلامه في هذا الفصل أوردته على الوجه. واعلم أن هذا الفصل الذى زعمه وهو أن وجوب العبادات لا يكون بالخطاب بل إنما يكون بالأسباب قد بينا من قبل أن هذا خطأ عظيم وإنما الوجوب بالأمر والأوقات المذكورة علامات وأمارات للوجود وذكرنا الدليل على ذلك بأوضح مما يكون فلا معنى للإعادة. فإن قالوا: نحن نقول إن الموجب هو الله تعالى لكن بهذه الأسباب لأن هذه الأسباب مجعولة أسبابا من قبل الله تعالى. قلنا: إذا اعترفتم أن الأسباب من قبل الله تعالى فيكون الأمر أدل على الإيجاب من السبب فيكون إحالة الإيجاب عليه اولى من إحالته على السبب وهذا لأن أمر الرب تبارك وتعالى مؤثر في الإيجاب على العبد لأن للموالى أن يستعملوا عبيدهم في أوامرهم فإما وقت يمضى ومكان يتغير وبيت يبنى ولا يعرف لهذه الأشياء تأثير في إيجاب شئ على أحد والذى ذكر من كون الذمة محل الوجوب. قلنا: بلى ولكن بالأمر والخطاب لا غير. وقولهم: إن الأمر بالصلاة إنما يقتضى الأداء فحسب. قلنا: يقتضى الأداء ويقدم الوجوب كما بنيا في أمر السيد وعبده وإذا ثبت أن   1 أخرجه أبو داود: الحدود "4/139" ح "4403" والدارمي: الحدود "2/225" ح "2296" وأحمد: المسند "1/175" ح "1187". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 372 والوجوب بالخطاب فكل من ثبت في حقه الخطاب ثبت الوجوب ومن لم يثبت في حقه الخطاب لم يثبت في حقه الوجوب إما بصغر أو جنون أو نوم. ونقول على هذا في النائم والمغمى عليه والحائض إنما يجب عليهم كما يجب بعد اليقظة والإفاقة والطهر من الحيض. وهذا لأن القضاء يجب بأمر جديد لا بالأمر السابق فاستقام أن يجب على هؤلاء هذه العبادات بعد زوال الأسباب المانعة في الخطاب ووجوبه باسم القضاء لا يدل على أن الوجوب ثبت عليهم في حال النوم والإغماء وحال الحيض لما بينا أنه وجب بأمر جديد لا بالأمر الأول غير أنه لولا الأمر الأول وامتناعه بالعوارض المعلومة لم يجب شئ بهذا الأمر الثانى. فمن هذا الوجه سمى قضاء فيمكن أن يقال: إن الإيجاب ليس إلا إيجاب الأداء فإذا سلموا بثبوت الأداء بالخطاب فقد سلموا أن أصل الوجوب بالخطاب لأنه لا يعرف الوجوب إلا وجوب الأداء وقد قررنا هذا في الخلافيات وهذا لأن الأمر لا يكون إلا لفائدة ولا فائدة للإيجاب إلا الأداء فدل أن الإيجاب ليس إلا أيجاب الأداء ويقال لهم: أيش وجب عليه؟ ولا يمكنهم أن يحققوا وجوب شئ عليه بأى معنى ذكروا سوى فعل هذه الأشياء أصلا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 373 فصل: في حين الخطاب شرعا ... "فصل"1: ثم ذكر بعد هذا الكلام في حين الخطاب شرعا قال: لا خلاف أن حين الخطاب شرعا حين البلوغ عن قدرتين: قدرة فهم الخطاب بالعقل وقدرة العمل وهو بالبدن بدليل قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] ولا وسع إلا بعدها بين القدرتين وقال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] أى ضيق. وقال تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ} [الأعراف: 157] أى الثقل فدل رفع الحرج والإصر على رفع ما لا يطاق بطريق الأولى فدلت آية الوسع أنه لا تكليف. لأول حال الأدمى لأنه لا قدرة له أصلا ودلت الآية الثانية على سقوطه لأول ما يعقل لأنه يخرج للفهم بأدنى عقله ويثقل عليه الأداء إلى أن يعتدل عقله وقدرته فيشق عليه الفهم والعمل به ثم وقت الاعتدال متفاوت في جنس بنى آدم فلا يمكن الوقوف عليه إلا بعد تجربة وتكليف عظيم فوقت الله تعالى بحال تعتدل لديه العقول في الأغلب على سلامة الفطرة من الآفات وهو البلوغ فقام البلوغ شرعا مقام اعتدال العقل فتوجه لديه   1 بياض في الأصل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 373 الخطاب وإن لم يعتدل وسقط قبله وإن اعتدل دفعا للحرج الذى كان يلحقنا بالوقوف على الاعتدال بالتجربة لكل صبى. قال: وقد بينا إقامة الأسباب مقام العلل وتعطيل العلل في أنفسها تيسيرا. قال: وقد أيد هذا القول قول النبى صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة" الخبر والقلم لا يكون إلا للحساب ولا حساب إلا بعد الخطاب على ما قلنا أن الحساب لا يكون إلا على الوجوب في الذمة بل هو بعد طلب الأداء بالخطاب ونحن نقول هذا الذى ذكره هذا الفاضل تكليف عظيم ولا حاجة إلى هذا التكليف أصلا لأنا قد بينا أن الوجوب بالخطاب والخطاب وجد من الشرع بعد البلوغ لا قبل البلوغ ويجوز أن يقال: إن العمل إنما يكمل بعد البلوغ. فأما قبل البلوغ فلا. فاعتبرنا ما يغلب وجوده في بناء الخطاب عليه وسقط ما يندر وجوده. وأما العشر والخراج والزكاة على أصلنا فنحن نقول: إن الإيجاب على الصبى اعتبار نيابة الولى عنه وهذا ممكن في العبادات المالية لجريان النيابة فيها فأما في العبادات البدنية فلا يمكن لأن النيابة لا تجرى فيها وفى هذه الأشياء المالية يكون أيجاب فعل الشئ وأيفائه إلا أنه يستقيم بما يتأدى في حق الصبيان والمجانين بالطريق الذى بينا ومثل هذا لما لم يسقم في العبادات البدنية قلنا إنها تسقط أصلا ثم ذكر بعد ما حكيناه فصلا في بيان ما أسقط من الحقوق بعذر الصبى رحمة أما الأول أمره فللعجز الحقيقى وفيه الحكمة وأما بعد ما عقل فللحرج وأنه رحمة وأنه بمنزلة ديون على معسر فيكون أصل الحق على الغريم وحق الأداء ساقط إلى أن ينقضى الأجل الثابت بالعشر ولأن سقوط الخطاب بالأداء يدل على سقوط وجوب الأداء فإن الوجوب في الذمة لا يوجب الأداء عقيبة بحال. ألا ترى أن من باع عبدا بألف درهم وجب الألف ولا يجب الأداء إلا بعد الطلب وكذلك إذا استأجر رجلا ليخيط له ثوبا بدرهم وجب عليه ولا يجب الأداء في الحال حتى ينقضى مطالبه فكذلك حق الله علينا فإن قيل: أليس لا يحل تأخير المغرب1 عن أول الوقت ولا تأخير العصر2 إلى آخره ولا عن الوقت؟ قلنا: ثبت ذلك بخطاب غير   1 ذكر ابن قدامة المقدسي أن المغرب لا خلاف في استحباب تأخيره في غير حال العذر وأنه قول أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم قاله الترمذي انظر المغنى "1/403". 2 صلاة العصر تعجيلها مستحب بكل حال عند عمر وابن مسعود وعائشة وأنس وابن المباركوأهل المدينة والأوزاعي وروى عن أبي قلابة وابن شبرمة أن تأخيرها أفضل انظر المغنى "1/402". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 374 الوجوب عليه بدخول الوقت. ألا ترى أن الفقهاء اختلفوا في التأخير بقدر بما ثبت عندهم من الدلائل مع اتفاقهم على أصل الوجوب بدخول الوقت وأما التأخير عن الوقت فتفويت لعين الوجوب إلى ذيله وتفويت الحق تعدى زائد عن ترك الأداء فيحرم كإتلاف عين الغير عنده ولهذا لا يأثم الصبى ولا يحاسب وكذلك إذا استوصف الله تعالى في حال صباه فلم يصف لا يكون كفر بعد البلوغ لأن الوصف أداء لفرض الإيمان ولا أداء عليه حال الصبا ولذلك إذا لم يستدل بالإيمان حتى بقى على جهله وإن كان في حكم المسلمين كالذى لا يعقل. فإن قيل: إذا أسلمت امرأة الصبى الكافر عرض عليه الإسلام عندكم وإذا أبى فرق بينهما. قلنا: ذلك السقوط الذى ذكرناه في حق الله تعالى رحمة منه دون حق العبد لأن النظر واجب لخصمه كما وجب له فمتى سقط عنه الأداء لحق الصبى تضرر به ألاخر فلم يسقط ونحن نقول في هذا الذى ذكره أن هذا كله بناء على الأصل الذى زعمه في الابتداء وقد تكلمنا عليه وعلى أنه يجوز أن يقال إن الخطاب سقط عن الصبى رحمة لكن الفرق بين البدنية والمالية بما سبق من قبل. وقد تبين مناقضة في ابتداء كلامه فإن عندهم إن ردة الصبى صحيحة مثل ما يصح إسلامه ثم قالوا في الصبى إذا استوصف الإسلام فلم يصف لا يحكم بكفره. وقالوا في البالغ في مثل هذه الصورة يكفر فعندهم ترك وصف الإسلام ردة بدليل البالغ ومع ذلك لم يكن ردة من الصبى. وقولهم: إن الأداء ساقط عنه لعذر الصبى. قلنا: إذا سقط فعل الإسلام عن الشخص لا يبقي عليه واجب آخر لأن الواجب لم يكن إلا فعل الإسلام ثم من وجب عليه الإسلام ثم لا يؤمر بالإسلام هذا مما لا يعقل ولا يتصور وجوده ولا نفيه. ثم ذكر فصلا في بيان ما يسقط من حقوق الله تعالى بأصله قال: حقوق الله تعالى أربعة: النظر في الآيات الدالة على الله تعالى ثم الاعتقاد على ما توجبه الدلائل ثم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 375 العبادات ثم الأجزية وقال علماؤنا: وجوب الأجزية والعبادات ساقط عن الصبى أصلا1 ووجوب النظر في الآيات والاعتقاد حقا لله تعالى غير ساقط وإنما الساقط عنه الأداء وقال الشافعى وجوب البدنى ساقط عنه ووجوب المالى غي ساقط عنه وتفسير الاعتقاد ما يتأتى بفعل القلب كأصل الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وتفسير العبادة ما يتأدى بفعل البدن تعظيما لله تعالى بطاعته إياه وتعتبر الأجزية ما شرع جزاء على أفعال محظورة في الجملة والبدنى من العبادات والأجزية ما لا يتأدى إلا بالبدن والمالى منها ما لا يتأدى إلا بالمال. أما الشافعى رحمه الله احتج وقال: أجمعنا على أن العشر يلزمه وفيه معنى العبادة حتى لم يجب على الكفار وكذلك صدقة الفطر حتى تؤدى من ماله ولا يلزمه الصلاة2 والصوم3 لأن الجنس الأول بدنى والثانى مالى ولأنا ذكرنا أن الصبى أهل للوجوب عليه بذمته وإنما سقط لعجزه عن الأداء ما لم يعقل ويقدر ولو لم يسقط عنه الواجبات في مدة الصبا وهى مدة مديدة ثم كان يلزمه القضاء بعد البلوغ لكان يخرج والله تعالى ما جعل عليكم في الدين من حرج فأسقطهما عنه أصلا نفيا للحرج كما أسقط الصلاة عن الحائض بعذر الحيض لأنها تحيض كل شهر عادة والصلاة تتكرر كل يوم فلو لم يسقط القضاء بقى عليها أبدا فكانت تخرج في القضاء ولما كان السقوط بسبب العجز عن الأداء اقتصر السقوط على البدنى دون المالى لأنه يتأدى بالنيابة فلا يقع العجز عنه لقيام ولى الشرع مقام ولى ثبت بأمره بعد البلوغ فقال يلزمه الزكاة وكفارة القتل وكفارات ارتكاب محظورات الإحرام وكل ما صح سببه في حق الصبى وأما كفارة اليمين فإنه لا يلزمه لأن سببها اليمين ويمينه باطلة شرعا بخلاف إحرامه فإنه صحيح شرعا. وقال: إسلام لا يصح لأنه بدني والشرع إنما علق بالإسلام ما علق من الأحكام بإسلامه واجب شرعا ولا وجوب قبل البلوغ لأنه وجب بدنيا وكذلك الردة لا تصح من الصبى لأن الردة قد تعلق أحكامها بترك الإسلام الواجب ولا وجوب في حق الصبى فلم يعتبر في حق أحكام الدنيا ولا يلزمنا إذا صلى الظهر ثم بلغ في الوقت أو أحرم بالوقت ثم   1 وهو قول أهل العلم لا خلاف انظر المغنى "10/581". 2 انظر المغنى "1/409". 3 انظر المغنى "/90". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 376 بلغ قبل الوقوف أنه يقع عن الفرض لأنا أسقطنا عنه الوجوب رحمة ونظرا له دفعا للحرج عنه والنظر له في هذه الحالة أن لا يسقط الوجوب لأن الفرض لزمه لما بلغ قبل مضى الوقت وكذلك فرض الحج يلزمه الوقوف إذا بلغ الوقوف بعرفة فمتى جعل الوجوب عليه من حال صباه [يزفه] 1 بالسقوط عنه بما أدى ومتى لم يجعل على الوجوب بقى تحت عهدة الوجوب إلى أن يؤدى ثانيا وهذا كما قلتم في المعاملات أن قبوله للهبة يصح وهبته لا تصح لأن في الهبة ضررا وفى قبوله نفعا. وقلنا: نحن: إن صدقته باطلة ووصيته بالصدقة صحيحة لأن الصدقة في حال الحياة مضرة في الحال ومنفعته بعد الممات لأن الملك يزول بالموت لولا الصدقة. وقلنا جميعا: إن نفل الصلاة مشروع في حقه دون الفرض لأن شروع النفل نفع محض أن فعل ينتفع به وإن ترك لم يؤاخذ به والفرض مضرة من وجه وهو المؤاخذة على الترك ولا يلزمنى إبطال قبول هبته لأن الشرع لما جعل ذلك النظر مسوقا له من قبل الولى وقعت الغنيمة به عن ترك الأصل المجتهد في بابه فإنه لاستيفائه النظر له كما لا يجوز بيعه ما ساوى درهما بألف درهم وفيه نفع لأنه مما استوفى له ذلك بالولى. قال: والحجة لعلمائنا أنه لما سبق ثبت أن الصبى مثل البالغ في أهلية الوجوب وأن السقوط عنه بعذر الحرج كما في البالغ لم يسقط إلا ما احتمل أن لا يكون مشروعا حقا لله تعالى كالصلوات الخمس والفروع التي تحتمل النسخ والتبديل وثبوتها مشروع بعد البلوغ في وقت دون وقت وأما معرفة الله تعالى بصفاته لا أن لا يكون ثابتا مشروعا حقا لله تعالى. ألا ترى أنا لا نجد شيئا من العبادات والأجزية إلا ويسقط بعذر ما بعد البلوغ فكان السقوط بعذر الصبا أولى لأنه رأس الأعذار لأنه في أول أمره لا يقدر أصلا ولا يتم قدرته ما لم يعتدل قوامه ولأن سقوط ما سقط عن الصبى لم يكن إلا للعجز عن الأداء دفعا للحرج عنه حتى لا يتضاعف عليه القضاء بعد البلوغ ووجوب أصل الإيمان عليه لحال الصبا لا يوجب تضاعف الأداء بعد البلوغ ولأن الصبى مثل البالغ في صحة الوجوب عليه متى تقرر سبب الوجوب في حقه. والدليل عليه حقوق العباد وهذا لأن السبب لا يعتبر صحيحا شرعيا بنفسه وإنما يعتبر   1 هكذا في الأصل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 377 صحيحا بحكم فإذا وجب صحيحا لا بد أن يكون حكمه فإنه متى تخلف عنه حكمه أصلا لم يكن السبب سببا وإذا عرف هذا والآيات الدالة على الله تعالى لا يتصور أن لا يكون أنه على [ .... ] 1 العالم للمستدلين ولا حدث العالم لم يتصور إلا يكون دلالة على محدث وكذلك ما يتعلق بها في وجوب النظر فيها علينا ولا يجوز أن لا يكون ساقطا بحال وإن كان يسقط الأداء عنا لعقد شرط الأداء من القدرة فأما وقت الصلاة فيجوز أن لا يكون سببا للوجود ولم يكن كذلك قبل الشرع فجاز أن لا يثبت شيئا في حق الصبى وكل معذور سقط عنه الوجوب وكذلك أسباب الأجزية ما صارت أسبابا إلا شرعا ولولا الشرع ما كانت أسبابا ولا عللا في نفسها فثبت أن الصبى إنما يسقط عنه وجوب ما يحتمل أن لا يكون في نفسه حقا لله تعالى واجبا دون ما لا يحتمل ثم المالى والبدنى من العبادات سواء وكذلك الجزية لأن العبادة اسم لنوع فعل ابتلى الآدمى بفعله تعظيما لله تعالى مختارا لطاعته على خلاف هوى نفسه لا على سبيل الإكراه والجبر لأنه يجازى على وفاق فعله ولا جزاء يستقيم في الحكم مع الجبر فإنه لا فعل للمجبر على الحقيقة فلا يستحق الجزاء. ألا ترى أن الحقوق التي تجب يستحقها فيما بيننا بإزاء الأفعال لا يثبت إلا لمن يفعله مختارا بنفسه أو نائب عنه يثبت نائبا بأمره واختياره إلا أنا في البدنى ابتلينا بفعل يتأدى بالبدنى وفى المالى ابتلينا بفعل يتأدى بالمال إما فعل لسان نحو الإعتاق أو فعل يد كالإعطاء إلا أن المالى مرة يتأدى بمباشرة الإنسان وتارة بغيره ولا بد أن يكون الفعل مضافا إليه على سبيل الاختيار ولا يتصور الاختيار عن الإنسان إلا أن يكون الولى عنه بأمره فأما إذا ثبت شرعا لا بالاختيار من الإنسان فيكون كإعطاء الإنسان خيرا فلا يكون عبادة. قال: والخصم ذل خاطر قلبه عن اختيار الصدقه الاختيارية وأما الأجزية فلا تجب إلا على ارتكاب ما يلزم العبد الانتهاء عنه حقا لله تعالى والانتهاء أداء حق النهى كالائتمار أداء حق الأمر وقد ذكرنا أن الصبى غير مخاطب بحقوق الله تعالى لا ائتمار ولا انتهاء ولهذا لا يأثم بالإجماع ولا تقام عليه العقوبات البدنية وإذا لم يكن عليه الانتهاء لم يلزمه ما شرع من الجزاء على مخالفته واعتبره بإثم الآخرة ولهذا لا يحرم الصبى القاتل الميراث لأنه شرع جزاء على قتل محظور كالكفارة على ما قلنا فى   1 بياض في الأصل بمقدار كلمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 378 موضعه لأن هذه الأجزية مما يحتمل النسخ ولم تكن مشروعة على هذا الوجه قبل شرعنا والصبى مما يلحقه بوجوبها ضرر فيسقط عنه بعذر الصبا كالعبادات رحمة عليه ولهذا قلنا: إن الصبى إذا أحرم يصح في حقه أن يثاب عليه ولا يجب الكف عن محظوراته ولا يلزمه الكفارة ويمكنه نقضه لأن اللزوم في الإحرام حكم ثبت شرعا ويحتمل [أن يكون] 1 ويحتمل أن لا يكون ولأنه مما يزول بعد البلوغ بالإحصار والرق والنكاح وكذلك الكفارة سقطت عندكم بعذر [الإكراه] 2 والنسيان فلأن تسقط بعذر الصبا أولى ولهذا قلنا: إن الصبى إذا أحرم ثم ترك وجامع لم يلزمه القضاء3 كما قال الشافعى في البالغ المتطوع إذا أحصر فتحلل ولأن اللزوم حق ثبت لله تعالى شرعا ويجوز أن لا يكون فلا يثبت في حق الصبى. قال: ولا يجوز أن ينوب عن الفرض ما أداه في الصبا لأن الوجوب شرع في حقه حال البلوغ فيكون بمنزلة رجل صلى أربع ركعات قبل الزوال ثم ترك ثم شرع في الظهر بعد ذلك فإنه لا ينوب عن الشروع بعد الأداء ما سبق وتكلم في مسألة وصية الصبى. وقال: إنها باطلة لأنها تمليك بعد الموت بلا عوض فإنه في عوضه ضرر كما لو وهب في حال الحياة وإنما انقلبت نفعا باتفاق حالة الموت فلم تعتبر وأما قبول الهبة تصح في الصبى إذا عقل القبول لأن الحجر بعد معرفته التصرف ما ثبت إلا نظرا له كيلا يخدع في ماله ونفسه ولا يغبن وليس في قبول الهبة مخافة غبن فلا يثبت الحجر في حقه وصار قبول الهبة محض نظر. قال: ولهذا قلنا: يصح إسلامه لأن الوجوب كان ثابتا على ما مر أنه لا يحتمل السقوط فإذا جاء الأداء كما وجب كان عن الواجب لا محالة وأن لم يكن مخاطبا بالأداء كالصلاة لأول الوقت والصوم في السفر والدين المؤجل وما للأداء في الشرع حد الصحة إلا أن يعتقد وحدانية الله تعالى عن معرفة ويشهد بلسانه أنه كما اعتقد والخلاف في صبى يتصور منه ذلك مثل ما يتصور إذا كان بالغا قال: وعلى هذا ردة الصبى فصح أيضا وزعم أن ما يحتمل ألا يكون إلا حقا مستحقا لله تعالى فلا يعتبر فيه المضرة والمنفعة بل يكون مشروعا في حق البالغ والصبى على السواء وإنما يختلفان في وجوب أداء الشرع فإن   1 زيادة ليست في الأصل 0 2 ثبت في الأصل "المره". 3 مسألة: إذا فسد حج الصبي هل عليه قضاء قولان عند الشافعية أظهرهما: نعم لأنه إحرام صحيح فوجب بإفساده القضاء كحج التطوع انظر روضة الطالبين "3/122". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 379 الأداء يلزم دون الصبى إذا صار الإسلام مشروعا وجوبه حقا لله تعالى على الصبى لأنه يحتمل غير ذلك وكذلك وجوب حرمة الردة لا يحتمل غير ذلك فاستوى فيه الصبى والبالغ فصح ذلك في الصبى كما يصح منه الإسلام إلا أنه لا يلزمه الجزاء المشروع في الدنيا على الردة لأن الجزاء المتعجل في الدنيا يحتمل أن لا يكون مشروعا على أن القتل في حق المرتد مشروع لصيرورته حربيا كافرا حتى لا تقتل المرأة لأنها ليست في أهل الحرب والصبى بمنزلتها وأما حرمان الإرث وفساد النكاح فليس بجزاء فعل الردة لا محالة فإنهما يثبتان بالكفر الأصلى. فإن قيل: أليس أن الصبى يؤدب إذا أساء فعله. قلنا: التأديب لا يقام جزاء على ما مضى بل تقويما في المستقبل. ألا ترى: أن الدابة تراض وتقوم تقويما وإصلاحا وتسوية الأخلاق بمنزلة الدواء لطلب الشفاء وبمنزلة الحجامة. فإن قيل: أليس يسترق الصبى وأنه عقوبة شرع جزاء للكفر. قلنا: الاستيلاء على المباح شرع سببا للملك كما في حق الصيود وأهل الحرب ما بهم عصمة فلا يكون ملكهم بسبب الاستيلاء عقوبة كما في حق البهائم وإنما لم يملك عندهم بالاستيلاء العصمة ثبتت لهم من الله تعالى كرامة فيكون زوال العصمة بالكفر حقيقة أو تبعا لأبوية بمنزلة زوال نعمة فلا يكون يكون عقوبة واجبة على [ .... ] 1 زوال الصحة والحياة وسائر الكرامات. قالوا: وأما صدقة الفطر فتجب على الأب بسبب ولايته على رأس الصبى ومؤنته كما تجب على المولى بسبب رأس العبد حتى أوجبنا في العبد الكافر وأما جواز الأداء من مال الصبى فلأن وجوبها وجوب المؤنة عن رأسه والمؤنة تتأدى بولية جبرية كالخراج والعشر ولأنه شبهة لا في هذه المسألة وقد خالف محمد أستاذه فيه فأما العشر فمؤنة الأرض كالخراج ولهذا لا يجتمعان وإذا كان العشر في حقوق الله تعالى صح تأدية بولاية جبرية على ما عليه الحق صح أخذ القاضى من البالغ كرها ولا يكون لمن أخذ منه ثواب فعل العبادة وإنما يكون له ثواب ذهاب ماله في وجه الله تعالى بمنزلة ثواب المصاب. فأما إذا كان الحق لله تعالى صار الأصل فيه الفعل فإن العبادة فيه اسم للفعل ولا بد أن يكون فعله على وجه الاختيار ليثاب عليه ولا يجوز بدون فعل منه على اختياره. قال: ولهذا لا يجوز للسلطان أن يأخذ الزكاة من صاحبها كرها كما يأخذ   1 كشط بقدر كلمتين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 380 ديون الناس. قال: ولهذا قلنا إنه لا يؤخذ من تركته بعد موته بدون الوصية بخلاف العشر وسائر حقوق الناس فصار المعنى الذى اعتبره الخصم للفرق بين المالى والبدنى حال عجز الصبى عن الأداء بنفسه معتبرا في حقوق غير الله تعالى والمالى بينهما يلزم الصبى دون البدنى. فأما الذى يجب لله تعالى فالمالى والبدنى فيه سواء وسقط عن الصبى ما يحتمل السقوط ولا يسقط عنه ما لا يحتمل وأما الأداء ساقط في الأحوال كلها هذا كلامه في هذا الفصل. ونحن نقول: إن أصل هذا الكلام مبنى على مسألة الأسباب وقد سبق الكلام عليه وقد اشتمل كلامه الذى ذكره على مسائل منها مسألة زكاة الصبى وهو جعل حرفه في سقوط الزكاة عن الصبى دعواه أن الزكاة عبادة والعبادة لا تتأدى إلا بولاية اختيارية ولا تتأدى بولاية جبرية ويدخل عليه صدقة الفطر والعشر فإنهما عبادتان ومع ذلك قد تأدتا بولاية جبرية من غير اختيار أو علم يوجد لمن عليه وعذرهم عن المسلمين في نهاية الضعف لأنه إذا قال في صدقة الفطر أنها تجب على الولى لا الصبى فينبغى أن لا يجوز إعطاؤها من مال الصبى. والذى ذكر أن محمدا لا يجوز وقد خالف أستاذه فهذا ليس بجواب والإلزام على أبى حنيفة وهو أستاذهم الكبير فحين يضيق بهم الخناق لا يترك لهم ترك مذهبه. وأما العشر فلازم أيضا. والذى قالوا: إنه مؤنة الأرض. فيقال أيضا: إن الزكاة مؤنة المال والعشر مثل زكاة سائر الأموال لأنه زكاة وزكاه وكل دليل كون سائر أنواع الزكاة عبادة فكذلك يدل على كون العشر عباده. وعلى الجملة لا يتضح لهم فرق صحيح بين صدقة الفطر والعشر وزكاة المواشى هذا على أصلهم وأما على أصلنا فنقول: إن هذه الحقوق حقوق الفقراء وهى لهم ومعنى العبادة تبع فيكون حكمه مثل سائر حقوق بنى آدم وهذا فصل قد أحكمناه في الخلافيات ودللنا عليه بدلائل معتمدة وعلى أنا إن قلنا: إن الزكاة عبادة فيستقيم إيجابها على الصبيان والمجانين لأنها وإن كانت عبادة لكنها مالية والنيابة فبها جارية وكما يقوم فعل الولى مقام فعل الصبى فيقوم اختياره مقام اختيار الصبى وهذا لأن العبادة في الفعل لا في الاختيار الذى زعموه ومع ذلك صح إقامة فعل النائب مقام فعل من عليه وكان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 381 الفعل عبادة ممن عليه كذلك يصح إقامة نيته واختياره مقام نية من عليه واختياره وكان ذلك عبادة ممن عليه وهذا لأن الوجب حق مالى فاعتبر تصور أدائه من المال وتصور أدائه من مال الصبى مثل تصور الأداء من مال البالغ ونقصان المال في الموضعين على وجه واحد والابتلاء والاختيار يوجد إما باعتبار حال البلوغ إن لم يكن اتصل الأداء بالمال فيؤمر بالأداء بعد البلوغ أو بإقامة فعل الولى مقام على ما سبق بيانه. وعندي: أن الأول هو قولنا: إن الزكاة حق الفقراء وهو منزل منزلة سائر حقوق الآدميين ومعنى زيادة فيها تبع وإنما ابتنى فيها معنى العبادة لأن الله تعالى أوجبها ابتداء من غير أن سبق من العبد فيه شئ فيكون فيها مصلحة شكر نعمة المال مثل ما أوجبنا الصلاة والصوم فيكون فيها معنى شكر نعمة البدن فهذا الوجه أحد معانى العبادة لكن هذا المعنى تبع والأصل حق الفقراء لأنها واجب مالى والله تعالى خلق المال لنفع العباد وكلما وجب في المال لا بد أن يبقى فيه المعنى الذى خلق له أصل المال وذلك نفع العبد فلهذا أوجب الزكاة للفقراء نفعا لهم وإذا أوجب لنفعهم كان حقا لهم وعلى هذا وقع الفرق بين هذا وبين العبادة البدنية لأنها لم تجب لنفع أحد من الآدميين فتمحض حقا لله تعالى. وأما مسألة إسلام الصبى فقد بيناها أيضا وعلى وجوب الإيمان ينصب الدلالات وهذا ليس بصحيح بل وجوب الإيمان بإيجاب الله تعالى ولا إيمان يجب على الصبيان لأن الله تعالى لم يوجبه عليهم وقوله إن الإيمان لا يحتمل أن لا يجب. قلنا: على المكلفين فأما على غير المكلفين فيحتمل أن لا يجب عليهم ببينة أنه كما لا يحتمل أن لا يكون غير مشروع في الأصل فلا يحتمل أن يكون مشروعا في حق شخص ثم لا يجب عليه فعله ثم قد بينا في مسألة إسلام الصبى وجه عدم صحته من الصبى من طريقين مخيلين مؤثرين فمن أراد الوقوف عليه فليراجع تلك المسألة ولم تجب الإعادة هاهنا لوقوع الغنيمة عن ذلك بذكره في الفروع والأولى فيما يرجع إلى الأصول أن نبين أن الوجوب لا يثبت في حق الصبى أصلا لأنه بالخطاب يكون الوجوب والخطاب عنه ساقط وإذا سقط الخطاب سقط الوجوب وأما الوجوب بما نصب من الآيات والعلامات فلا يجوز لأن الآيات والدلالات توجد قبل وجود الشرع ولا وجوب. فإن قالوا: يجب قبل ورود الشرع فالدليل على فساده ما سبق ولأن الأمة اختلفت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 382 على قولين في هذه المسألة فقال بعضهم يجب الإيمان بالفعل. وقال بعضهم: يجب بالسمع ولم يعرف قول ثالث والذى قالوه إحداث قول ثالث في هذا أنه وجب بالآيات والعلامات فيكون خلافا للأمة فلا يسلم لقائله ذلك ثم ذكر فصلا في حيز صحة عبارات الصبى شرعا وقال لا خلاف أن عباراته فاسدة قبل أن يعقل ويميز لأن الكلام وضع للتمييز بين السمعيات ولن يتصور ذلك إلا بعد المعرفة عن عقل ولهذا لم يتعلق بكلام النائم والمجنون والمغمى عليه حكم ولا خلاف أنه إذا ميز وعقل يصح كلامه حتى إذا قال: أنا جائع سمع منه وأطعم وكذلك إذا دعا ربه أثيب عليه ويصح أذكاره في صلاته كما لو كان بالغا وإنما اختلفوا فيما أفسد عليه شرعا نظرا ورحمة كما لا يصح منه فرض العبادات نظرا له. قال علماؤنا: عباراته في الأصل صحيحة لا فيما يضره ويتوهم لحوق الضرر به. وقال الشافعي رحمه الله: عباراته فاسدة شرعا فيما صار موليا عليه فيها فأما فيما لم يصر فثابت له إلا أن الشرع حجره عن الاستيفاء نظرا له حتى لا يخدع كما سقط عنه الفرض نظرا له فلم يثبت الحجر فيما يتمحض نفعا كما لم ينعدم الشرع في حق نوافل العبادات التي تتمحض نفعا فعلى هذا لا يصح قبول هبة منه لأنه مولى عليه فيها وهى نفع محض لأن الملك يزول إلى خلف له وهو الثواب وإذا وقعت الفرقة بين الأبوين وقد بلغ سبع سنين خير وعمل باختياره أيهما اختاره لأنه يعرف الذى هو أرق له وأعطف عليه وهذا الاختيار نفع محض والشرع لم يجعله موليا عليه فيه. وقال: لا تصح عباراته في البيع لا لنفسه ولا لغيره لأنه مولى عليه فيها ولا يصح طلاقه وإقراره لأنه ضرر. قال: ولعلمائنا أن كون الإنسان فاسد العبارة من أعظم النقصان لأنه امتاز عن غيره من سائر الحيوانات بصحة العبارات حتى قيل إن المرء بالتعزية بقلبه ولسانه. وقيل: لسان الفتى نصف ونصف فؤداه فلا يجوز أن نفسد على الصبى بعد إصابته شرط الصحة إلا على سبيل النظر له وذلك في دفع ما يتعلق به في المضار عنه وإذا ثبت هذا الأصل. قلنا: لا ضرر عليه في صحة قبول الهبة والصدقة والوصية فيصح كما قال الخصم في صحة وصيته بالصدقة. وأما قوله: إن كونه موليا عليه ينافى ثبوت الولاية له فليس كذلك لما مر في باب حقوق الله تعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 383 قال: فلا يصح هبته ولا صدقته لأنها من المضار وكذلك بعد الموت لا يصح أيضا لما بينا وكذلك لا يصح اختياره في الحضانة لأنه يتضرر بين ضر ونفع ولربما يختار الذى يضره لعاقبة أمره بل يميل إليه لا محالة لأن طبعه ينفر عمن يؤدبه ويحمله على التخلق بآداب الشرع والمروءة ويميل إلى من يدعه للهو وارتكاب الهوى فكانت عبارته في هذا الباب كعبارته في باب التجارة التي تتردد بين ضر ونفع فلا يجب العمل بها. وقال علماؤنا: يصح إسلامه لأنه نفع محض فإن العصمة في الدارين بحق الإسلام وكرامات الآدميين كلها لحق الدين ولا شك أن الخير فيه فوق ما في نوافل العبادات. فإن قيل: ولربما يبتنى عليه حرمان الإرث وفساد النكاح. قلنا: لا عبرة لهذه الزوائد التي ليست من أحكام أصل الدين بل تثبت بواسطة أخرى وحالة يتفق بدلائل تفسد إسلامه وإن تعلق به الإرث وصحة النكاح نحو أن كانت أسلمت امرأة الصبى الكافر وعمه مسلم لا وارث للعم غيره فإنه بالإسلام يعصم نكاحه ويرث عمه وعلى أن حرمة النكاح والإرث حرمة تثبيت مضافة إلى كفر الكافر منهما على ما بينا في موضعهما. قال: وتنعقد التصرفات كلها بعباراته كما تنعقد بعبارة البالغ وينفذ إذا كان وكيلا عن أهلها لأنه لا ضرر عليه في انعقاد التصرف نحو الوكالة لأنه لا عهدة تلزمه ونفس فساد العبارة ضرر على مابينا فلا تثبيت الحجة في حقها. وإذا ثبت أنها تصح في حال الغير بإذن الولى صحت كذلك في حال نفسه بإذن الولى من طريق الأولى لأنهما لا يفترقان إلا فيما يلزمه إذا كان في ماله وهذا اللزوم جعل من الصالح إذا حضره رأى الولى بدليل أن الولى لو فعله بنفسه أو أمر به غيره صح وما أثبت له ذلك إلا مصلحة للمولى عليه نظرا له وقد مر أن الفساد لا يجوز أن يثبت من طريق أنه مولى عليه بل لما جعل موليا عليه لماله من النفع في تصرف الولى عليه بذلك ولا ضرر في صحة عبارته في ماله وكان النظر آن يكون صحيح العبارة مع ثبوت الولاية للمولى ليثبت له نفعها من طريقين فثبت أن ما قلناه أولى الوجهين. فإن قيل لو شهد الصبى لم تقبل1 وكانت العبارة فاسدة وإن لم يلزمه بها حكم. قلنا: العبارة صحيحة ولكن مع هذا لا يكون حجة على غيره كما لو شهد العبد أو شهد الكافر على مسلم وهذا لأن الشهادة بمنزلة الولاية على غيره وإنما يتعلق بكمال الحال   1 انظر روضة الطالبين "11/222". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 384 في ولاية مع صحة العبارة هذا كلامه في هذا الفصل وهذا الفصل أكثر كلام فيه يتصل بتصرفات الصبى وقد وضع هذا الرجل لأصحابنا كلاما وتكلم عليه ونحن قد بينا هذه المسألة في خلافيات الفروع وذكرنا طريق سلب أهلية التصرفات وكان اعتمادنا في ذلك على نقصان عقل الصبى واعتمدنا على ثبوت النظر له من قبل الشرع ومن النظر له أخراجه عن أهلية التصرفات الدائرة بين النفع والضر حتى يكمل عقله ويعلم خيره من شره ونفعه من ضره على التمام وقد ذكرنا تقرير هذا بحيث يشفى الصدور ويزيل الإشكال. وأما كونه موليا عليه في هذه التصرفات فهو كلام حسن لكن ليس بما يستدل ابتداء في هذه المسألة ولكنه يدخل في أثناء الكلام لتقرير الكلام والله أعلم. ثم ذكر فصلا في حين لزوم ما يتجدد بالشرع من الأحكام. قال: حكم الشرع إنما يلزم بعد بلوغنا إيانا لما مر أن الله تعالى لم يكلف نفسا إلا وسعها ولا وسع إلا بعد العلم فسقط أصلا ضرر ما يحتمل النسخ لقصور الخطاب دفعا للحرج كما سقط بالصبا وقد روى أن أهل قباء كانوا يصلون إلى بيت المقدس بعد ما حول القبلة إلى الكعبة فأتاهم آت وهم في الصلاة فأخبرهم أن القبلة قد حولت إلى الكعبة فاستداروا كهيئتهم ولم ينكرها عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم1 وقد شرب جماعة الخمر بعد التحريم قبل العلم به فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93] وهذا فصل لا خلاف فيه ثم البلوغ نوعان حقيقة إسماع وحلم لشيوع في قومه فإن النبى صلى الله عليه وسلم أمر بتبليغ الناس القرآن كافة وما أمكنه التبليغ إلى كافة الناس وإنما بلغ أكابر كل قوم في جماعتهم وكان مؤديا بذلك حكم الأمر فيكون الأمر بقدر الوسع وعلى سبيل لا حرج فيه ولأن الخطاب متى شاع أمكن كل إنسان العمل به متى لم يقصر في الحجة من قومه وإذا لم يطلب حتى جهل كان بتقصير منه ولم يصر ذلك الجهل له عذر أو صار كأنه علم ثم لم يعمل. ألا ترى أن الواحد منا لو لم يعلم الشرائع وجهلها لم يعذر ويلزمه كلها لشيوعها في دار الإسلام وكذلك الذى إذا أسلم وهو لم يعلم بالصلاة لزمته ولو أسلم الحربى في دار الحرب ولم يعلم بها لم يلزمه قضاء ما فات منها لأن الخطاب غير شائع فيها. قال: وهذا كما قال علماؤنا فيمن أذن   1 أخرجه البخاري: الصلاة "1/603" ح "403" ومسلم: المساجد "1/375" ح "13/526" بنحوه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 385 لعبده في التجارة وشاع إذنه ثم حجر عليه لم يثبت الحجر في حق أهل السوق حتى يحجر حجرا عاما ولهذا قالت الأمة في الحربى يتزوج أختين معا أو على التعاقب ثم فارق إحديهما ثم أسلم بقى نكاح الباقية صحيحا وإن كانت الأخيرة هى الباقية لأن خطاب التحريم قاصر عنهم فبقوا على الحال الثابت قبل الخطاب وكذلك لو تزوج وثنيا ثم فارق الأولى منهن ثم أسلم بقين على الصحة ولو وقع فاسد في الأصل لم ينقلب صحيحا بالإسلام وكذلك لو تزوج في عدة من كافر أو تزوج بغير شهود. وقال أبو حنيفه: لو تزوج الكافر محرما ودخل بها لم يسقط إحصانه وكان بمنزلة ما لو تزوج مجوسية. وكذلك الجواب في أهل الذمة في مسائل الجمع والنكاح بغير شهود بلا خلاف لأن أهل الذمة وإن كانوا في دار الإسلام فالخطاب قاصر عنهم لأن الخطاب إنما يصح بعد ثبوت الرسالة وهم ينكرون الرسالة فلا يصير حجة عليهم بحق الشرع بل يقدر ما عهدوا عليه ولأن الخطاب من الله تعالى بأن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعوة الكافر إلى الإيمان بالله ورسوله فإن أبوا فبأى الذمتين فيمن جعل لهم الذمة وأى دين يتدينون؟ إلا ما استثنى عليهم فإذا دعاهم إلى الذمة بشرطها فقد بلغهم خطاب الشرع في حقهم فلا يلزمهم ما يتبدل من أحكام الله بهذا الشرع إلا ما كانوا فيها على الفساد وإن كانت صحيحة عند الله تعالى ولهذا لا يحدون على شرب الخمر وإذا تبايعوا فيما بينهم ثم أسلموا على ملك الأثمان لم تتفرع الأثمان من أيدى متملكيها بالعقود ولم تنقض تلك البيوع ولو وقعت فاسدة لأبطلت عليهم الإسلام وصاروا بحيث لا يقرون على الفاسد كما لو أربوا ثم أسلموا قال: وقال علماؤنا إذا أتلف مسلم عليهم الخمر ضمن لهم كما لو أتلف الخل لبقاء الخمر في حقهم على ما كان قبل التحريم قال: وإنما قال الشافعى لا يضمن لأن الحرمة ثابتة في حق المسلم وديانتهم لا تكون حجة على المسلم ولا قصور الخطاب في حقهم يبدل حكم الخطاب في حق من بلغه وكذلك إذا أتلف الذمى على ذمى [فتحاكموا إلى] 1 قاضيا لا يلزم قاضيا الحكم بما عندهم. قال: وجوابنا أن الحكم بما عندنا وعندنا أنه مال متقوم في حقهم وقال أبو حنيفة: لا يفسد نكاحهم المحرم بمراجعه أحدهم لأن دليله المراجع لا يكون حجة على الآخر هذا كلام وهذا فصل يأتى في مسائل كثيرة من الخلافيات وقد ذكرها وذكرناها ونحن   1 بياض في الأصل ولعل الصواب ما أثبتناه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 386 نقول: إن الخطاب المبتنى على شرع الإسلام بأجمعه قد لزم الكفار إلا في مواضع يسيرة أخرجها الشرع من الخطاب لدلائل قامت على ذلك فقد دللنا على هذا الأصل من قبل. وأما قوله: إن الخطاب قاصر عنهم فهو لفظ باطل والبلوغ إنما هو ببلوغهم رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم وقيام الدليل على صحتها وثبوتها وقد تظاهرت الدلائل القاطعة على ثبوت نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ولهذا لم يبق لأحد عذر في العالم بترك قبول الإسلام ولأجل قيام الحجج وتظاهر البراهين والأدلة ينزل جميع الكفار منزلة المعاندين المكابرين ولولا أن الأمر على هذا الوجه لعذروا بالجهل وقد اجتمعت الأمة أنه لا عذر لأحد في شئ من الإسلام وشرعه وإن تعلق متعلق بتقريرهم على كثير من الأشياء فذلك من حكم الوفاء بالعهد لا من حيث قصور الخطاب عنهم في شئ ما وإن تعلق متعلق بالأنكحة فصحتها كان يعارض دليل لا من حيث إن خطاب الشرع قصر عنهم أو لم يبلغهم بل إنما حكمنا بصحتها لأنا لو لم نحكم بصحتها أدى إلى مفسدة عظيمة تعود إلى الإنسان وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم ولد كافر وكذلك عامة الصحابة رضى الله عنهم فإذا قلنا إن أنكحتهم لا تصح إذا عقد على غير شرط الشرع كان يؤدى ذلك إلى اعتقادنا أن النبى صلى الله عليه وسلم وسائر الصحابة خلقوا من أنساب فاسدة محرمة وكان يؤدى ذلك إلى القدح والطعن في أنسابهم وقد ورد الشرع بإثبات نكاحهم نصا. قال الله تعالى: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [المسد: 4] فقد أثبت [كونها زوجته] 1 وقال النبى صلى الله عليه وسلم: "ولدت من نكاح ولم أولد من سفاح" 2 وقال صلى الله عليه وسلم: "أنا ابن عبد المطلب" 3 وقال: "نحن بنو النضر بن كنانة" 4 فلمثل هذه الدلائل حملتنا الضرورة على الحكم بصحة أنكحتهم ولم   1 بياض في الأصل. 2 ذكره ابن حجر في التلخيص وقال: رواه الطبراني والبيهقي من طريق أبي الحويرث عن ابن عباس وسنده ضعيف ورواه الحارث بن أبي أسامة ومحمد بن سعد من طريق عائشة وفيه الواقدي ورواه عبد الرزاق عن ابن عيينة عن جعفر بن محمد عن أبيه مرسلا بلفظ "إني خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح" ووصله ابن عدي والطبراني في الأوسط من حديث أنس وإسناده ضعيف انظر التلخيص "3/200, 201" ح "4". 3 أخرجه البخاري: الجهاد "6/81" ح "2864" ومسلم: الجهاد "3/1400" ح "78/1776". 4 أخرجه ابن ماجه: الحدود "2/871" ح "2612" وفي الزوائد: هذا إسناد صحيح رجاله ثقات. لأن عقيل بن طلحة وثقة ابن معين والنسائي وذكره ابن حبان في الثقات وباقي رجال الإسناد على شرط مسلم وأحمد: المسند "5/250" ح "21898". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 387 يكن ذلك لقصور الخطاب عنهم. وأما سقوط حكم الشرب فلم يكن لهذا أيضا بل إنما كان لأن الكافر شرب الخمر معتقدا إباحته فشرب الخمر باعتقاد إباحتها كفر والكفر لا يوجب الجلدات بحال ولأنه قد أعطى عوض الحقن عن إباحته الثابتة نسب الكفر وهو الجزية فلا يجب عليه شئ آخر. وأما قصة أهل قباء فنحن لا ننكر مثل ذلك في ابتداء الخطاب ولأنه لا يثبت إلا بالسماع فأما في حق الكفار فقد وجد البلوغ قطعا من حيث البلوغ لأنهم قد كفروا بخروج نبى يدعو إلى الله بشريعة مخصوصة والدليل [أنهم] 1 على لزومهم ذلك ولم يبق لهم عذر أصلا والدليل على هذا [الجماع الأمثل] 2 إجماع الأمة على تأثيمهم في [كل ما خالفوا] 3 من الذى جاء به النبى صلى الله عليه وسلم ولو قصر الخطاب عنهم أو لم يحكم ببلوغهم ذلك لم يتصور الإثم والدليل على ما ذكرنا أيضا إقامة الحدود على أهل الذمة في أرتكاب المحرمات على ما يوافق شرع الإسلام فدل أن الخطاب قد بلغهم وأن اللزوم قد ثبت في حقهم وأن اعتقاد قصور الخطاب وعدم البلوغ اعتقاد باطل وشئ مخترع لا يمكن إقامة دليل عليه مستقيم على أصول الشرع وقواعده والله الموفق للصواب. ثم ذكر فصلا في الأعذار المسقطة للوجوب بعد البلوغ. قال: هذه الأعذار أربعة أنواع الجنون والعته نوع وهو عذر عدم العقل ونقصانه. والنوم ولإغماء نوع وهو العجز عن استعمال نور العقل بفترة عارضة مع قيام أصوله. والنسيان والخطأ والكره والجهل بأسباب الوجوب ونحوها من الأعذار الطبيعية نوع فإن العقل ينعدم معها بسبب الترك مختار. والرابع قسم الرق والحيض فإنه مما ينعدم به شرع بعض العبادات حكما فيثبت العجز شرعا لا طبعا وقد قال بعضهم: الأعذار الاثنا عشر. النوم والاغماء والاكراه والصبا والجنون والعته والسكر والحيض والنفاس وهما واحد والمرض وعدم السماع والنسيان والخطأ. قال أبو زيد: أما الجنون فهو بمنزلة الصبى قبل أن يعقل الصبا إذا طال الجنون وبمنزلة النوم إذا قصر والعتة بمنزلة الصبى بعد ما عقل الصبى لأن المعتوه هو الذى اختلط   1 بياض في الأصل. 2 هكذا ثبت في الأصل. 3 بياض في الأصل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 388 كلامه فكان بعض كلام العاقل بعض كلام الغافل بعض كلام المجنون وكان ذلك الاختلاط لنقصان عقله كما يكون في حق الصبى إلا في حق العبادات فإنا لم نسقط به العبادات. وأنا أقول: إن هذا الكلام باطل لأن العته نوع جنون إلا أنه يعقل قليلا وهو في التأثير في العقل أكثر من الصبى بعد أن عقل فإذا كان ذلك يمنع وجوب العبادات فالعته أولى بالمنع. وقولهم: إن الجنون إذا قصرت مدته يكون كالنوم كلام باطل أيضا لأن العقل قائم في النائم زائل في المجنون رجعنا إلى كلامه. قال: وأما السفه بعد البلوغ فلا يوجب الحجر لأن السفه ليس بنقصان العقل وإنما هو مكابرة العقل بغلبة الهوى وقد نهاه الشرع عن اتباع الهوى فلا يصير اتباعه الهوى بخلاف موجب العقل عذرا لم يوجب الحجر نظرا له ولم يجعل السفيه وإن كان مغلوبا هو له كالمكروه الذى هو مغلوب لغيره لأن ذلك عذر عند الله تعالى وهذا لم يجعل عذرا عند الله تعالى لقدرته لا محالة على الدفع ولو لم تساعده نفسه وإنما يصير مغلوبا بالمساعدة للهوى مختارا ونحن قد أجبنا عن هذا في مسألة المحجور عليه بالسفه ذكرنا طريقة توجب الحجر على السفيه. قال: وأما النوم والإغماء فنوع واحد وهو فترة بعارض منع من أستعمال العقل مع قيامه وحكم النوم تأخير حكم الخطاب في حق العمل به لا سقوط الوجوب أصلا على ما قال عليه السلام: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها" 1 ولما ذكرنا أن نفس العجز لا يسقط الوجوب أصلا وإنما يسقط وجوب العمل إلى حين القدرة إلا أن يطول فيسقطه دفعا للحرج والنوم لا يمتد عادة بحيث يخرج العبد في قضاء ما يفوته في حال نومه لأنه عادة لا يمتد مع الليل يوما كاملا إلا يستيقظ فيه وإنما يكون بالليالي والإغماء بمنزلته إلا في حق الصلاة فإذا كان مدة ست صلوات سقط القضاء لأن الصلاة تتكرر إذا كانت ستا وفى ذلك حرج والإغماء يمتد هذا القدر من المدة فيجعل مسقطا لوجوب الصلاة دفعا للحرج. بمنزلة الجنون وكان الإغماء كالنوم في حق الصوم والزكاة لأنه لا يمتد في العادات شهور وسنين وفى الصلاة كما ذكرنا. فإن قيل: إن السكر بمنزلة الإغماء ولم يتأخر به الخطاب.   1 أخرجه البخاري: المواقيت "2/48" "597" ومسلم: المساجد "1/477" ح "315/684" بنحوه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 389 قلنا: إن السكر يحصل بسبب هو معصية وهو شرب الخمر المسكر واجتماع ذلك الحرام في معدته لم يجعل عذرا شرعا على ما عرف في غير هذا الموضع وأما باب النسيان فيتعلق به انعدام فعل ما أمر به لعدم القصد إليه. بسبب النسيان للعجز. إلا أن القصد لا يتصور منا إلى فعل بعينه قبل العلم به كقصده ديار زيد لا يتصور بدون زيد وقصد صوم رمضان قبل العلم به لا يتوصر وكذلك قصد استعمال الماء لا يتصور إلا بعد العلم به فصار في حكم العجز وإن نفيت القول الغريزية معه وصار أيضا في حكم النوم لأنه آفة مخلوقة جبلية كالنوم وقد قرن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين نسيان الصلاة والنوم عنها على ما مر ذكره إلا أن يكون نسيانا عن لهو أو لعب فيؤاخذ به كالنوم عن سكر ولهذا قلنا: إن من نسى الماء في رحله وهو مسافر فتيمم يجزئه لأنه عجز عن استعماله بالنسيان كما يعجز بعدم الماء فيسقط به خطاب استعمال الماء إلى الخطاب بالتيمم. قال: وأما كلام الناس إنما يبطل الصلاة لأن أصل حظرية الكلام لا ترتفع بالنسيان وإنما بما ينبنى في الحرمة فحسب حتى لا يأثم إلا أن فعل الكف عن الكلام شرط لصحة الصلاة فلا يتأدى بدونه كما لو نسى الطهارة وصلى بدونها لم يأثم ولا تجوز صلاته. قال: ونقول أيضا: أن القياس أن يفسد الصوم بأكل الناسى وكذلك الخطأ في حكم النسيان بدليل أن المخطئ لا يأثم ولهذا استثنى الله تعالى الخطأ من الحظر في قوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً} [النساء: 52] وقوله: {وَمَا كَانَ} للتحريم وقد استثنى منه ما يكون خطأ فثبت أنه في حكم المباح في حق الفاعل. قال: ونقول إن كلام المخطئ صحيح مثل كلام العامد فإن يمين المخطئ صحيحة مثل يمينه وكذلك نكاح المخطئ وطلاقه وعتاقه ونذره وكل ما لا يبطل بالهزل لا يبطل بالخطأ لأن الموجب لصحة كلامه شرعا قائم مع الخطأ وأما البيع خطأ فلا ينبغى أن يلزم الهزل والكره لأن الشرع بنى لزومه على التراضى مع صحة المعاقدة ولا رضى إلا بعد قصد صحيح. [قلنا] 1: عقد يلزمنا حكمه بلا شرط رضى وبقى الخيار لعدم الرضى نفسه. قال: ولنا إذا أسلم الشفعة خطأ بطلت الشفعة لا بالتسليم فإنه يخطئ غير راض به ولكن يترك الطلب كما لو سلمت لوم يلزم ولهذا لم يلزم القاتل الخطأ الكفارة وتحريم الإرث ولو سقط بالخطأ حرمة القتل أصلا ما لزمه حكم القتل المحظور وكذلك الكره   1 بياض في الأصل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 390 بمنزلة الخطأ أو دونه لأن المكره محظور بما فعله قاصد إياه لأنه عرف الشرين فاختار أهونهما عليه عن علم وقصد إلا أنه قصد فاسد لأنه قصد لا راضيا به [وتفويته إتيانه] 1 بل أوقع الشر عن نفسه فلا يحكم إلا بالفساد ولعدم القصد ولا يقع هدرا وإنما يبطل به ما يتعلق لزومه بالرضى كالبيع والإجارة وما لا يلزم مع استثناء الخيار أوقع الهزل وأما يمين المكره ونكاحه وطلاقه وعتاقه فلازم وكذلك الكلام مكرها في الصلاة يبطلها وكذلك الأكل في الصوم مكرها أو سبق الماء إلى حلقه خطأ يفسده. قلنا: لم يهدر حكم وكذلك من ارتكب محظورا من محظورات الحج خطأ أو مكرها لزمته الكفاره فإن قيل: أليس المكره على القتل لا يقتل عندكم. قلنا لم يهدر حكم الفعل فإن القصاص واجب به لكن لم يجب على الفعل كرها بحكم انعدام الفعل منه فإنه جعل المكره الذى حمله عليه كأنه قبض على يديه وقتل بيده إنسانا على ما بينا في موضعه وكذلك وجب على الذى أكرهه لأن الفعل أضيف إليه ومتى انعدم الفعل لم يكن عدم حكمه بالكره لكن بعدم القتل كما لو لم يفعل بغير كره. وأما فعل لا يستقيم أن نجعل المكره المباشرة آلة للمكره فالفعل لا ينقل عنه وبقى مقتصرا عليه على ما بينا في موضعه وإذا بقى عليه وصار فاعلا لزمه حكمه إلا ما يبطله الهزل والأقوال كلها لا يمكن أن يجعل الفاعل عن كره آلة فيه للآمر إذا أمر ولا يمكنه التكلم بلسان غيره وأما القتل فيمكن بيد غيره والأكل والزنا مثل الأول وسائر الإتلافات مثل الثاني. قال: وأما الجهل فمثل الخطأ والنسيان لأن الجهل بالحق لا يكون للجهل بدليله وسبب وجوبه فيكون الإعراض عن إقامته لا عن قصد العصيان والخلاف بل كما يكون من المخطئ والناسى ويكون الجاهل عاجزا حكما كالناسى ويكون الجهل عذرا يؤخر حكم الخطاب ولا يسقط الوجوب أصلا كالخطأ والنسيان ولهذا قيل: إن العبد إذا عمل باجتهاده في حادثة لا نص فيها عنده ثم بلغه نص بخلاف رأيه لم يأثم على ما مضى ولزمه نقض ما مضى باجتهاده ولو سقط أصلا بالجهل ما لزمه النقض كما لو ترك النص بعد رأيه في زمن الوحى. هذا كلامه في هذا الفصل نقلته على ما كان في أصله.   1 كلمتين غير مقروءتين في الأصل ولعل الصواب ما أثبتناه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 391 ونحن نقول في هذه المسائل على خلاف ما ذكروا أما النوم فلا يسقط الفرض بحال1 لأنه لا يزيل العقل ويجوز أن يقال إن الواجب عليه بعد اليقظة ولا يجب في حال النوم جريا على ظاهر الخبر وأما الإغماء فإنه يسقط الفرض لأنه مما يزيل العقل. فإن قالوا: كيف يقال إنه يزيل العقل وهو جائز على الأنبياء. قلنا: جاز على الأنبياء لأنه يزول في مدة يسيرة وذلك لا يخل بأمرهم فأما إذا طال ووصف بالجنون فلا يجوز لأنه يخل بأمرهم وأما الفرق الذى قالوا في الصلاة وإنه إذا استوعب ست صلوات سقط وإذا لم يستوعب لم يسقط. ففرق لا يعرف وإنما هو محض تحكم على الشرع والحرج الذى قالوه ليس بشئ لأنه لا حرج في قضاء ست صلوات والمراد في نفى المذكور في القرآن [ ... ] 2 شيئا لم يجعل لهم من ذلك مخرجا. فأما الناسى فلا خطاب عليه في حال النسيان وقد بينا أن الكلام [الناسى] 3 يبطل الصلاة وأكل الناسى لا يبطل الصوم وكذا في كل موضع وجد النسيان فيه فإنه مؤثر في إسقاط الخطاب وطرد [ ..... ] 4 هذا الشافعى رحمه الله وهو صحيح على قواعد الشرع. وأما مسألة التيمم إذا رأى الماء في رحله وأنه لم يجز تيممه لأن الله تعالى علقه بالعدم وهناك هو واجد لأنه إذا كان الماء موضوعا في رحله غير أنه نسى موضعه فهو واجد له غير أنه غفل موضعه ولأن رحل المسافر موضع الماء ولو طلب وجد وأى عذر له في ترك الطلب وإن لم يتذكر كما لو كان في قرية عامرة وعدم الماء مكانه ونسى أن يطلب فتيمم فإنه لا يجوز لأن القرية معدن الماء ولو طلب وجد فلما كان العجز بسبب هو قصر فيه لم يجعل عذرا وأما الإكراه فهو عندنا معدم للرضى والرضى شرط في كل العقود ليلزم حكمها لأن هذه الحقوق إنما تلزم بإلزامه إياها فلا بد من رضاه بلزومها ليلزم وقد بينا صحيح هذه الطريقة في طلاق المكره وأجبنا عن فصل الخيار. وأما الذى ادعوه في مسألة الإكراه على القتل وقوله إن المكره آلة وهذا أيضا أصل باطل لأن المكره عاقل بفعل ما يفعله عن قصد صحيح فلا يتصور أن يكون آلة لأحد   1 انظر المغنى "1/411". 2 بياض في الأصل بمقدار خمس كلمات. 3 بياض في الأصل ولعل الصواب ما أثبتناه. 4 بياض في الأصل بمقدار ست كلمات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 392 وتنزيل عاقل بالغ منزلة خشبة يستعملها في أفعاله محال. وأما قولهم: إنه يحمل عليه من قبل المكره ويفسد قصده. قلنا: فساد القصد لا يعرف ولا يعقل والقصد عمل القلب وهو في المحسوس كأعمال الجوارح فتكون صحتها بوجوبها وهذه كلمات أحكمناها في خلافيات الفروع فلا معنى لإعادتها في هذا الموضع. ثم ذكر فصلا في الحيض والرق فقال: إن الحيض لا يوجب حجرا من حيث ذهاب قدرة القلب بعلمه وعقله أو قدرة البدن ولكنه يوجب عجزا حكميا من حيث فوات الشرط بالأداء في الصوم والصلاة وهو دون العجز الذى يثبت بالنوم وكان القياس أن لا يسقط أصل الوجوب بل يؤخر. إلا أنا أسقطنا الوجوب به بشرع ورد به وذلك بغلبة الحرج فإن الحيض تعتاده النساء في كل شهر والصلوات تتكرر في كل يوم فلو أمرناها لتضاعف الوجوب عليها ولحرجت في ذلك فسقط بسبب ذلك الحرج كما يسقط بالجنون الممتد وهذا المعنى معدوم في حق الصوم فلم يسقط. والرق من هذا القبيل لأنه مما ينعدم به شرط بعض العبادات كالكفارات المالية فإن ملك المال شرط لأدائها وهو لا يملك المال ما دام رقيقا وكذلك وجوب الحج يسقط عنه أصلا لا لعدم ملك الزاد والراحلة فإن الفقير إذا أدى جاز وكان فرضا بخلاف العبد ولكن إنما لم يجب على العبد لعدم ملك المنافع التي يتأدى بها الحج فإنها عبادة بدنية ومنافعة قد صارت لمولاه إلا ما استثنى الله تعالى في باب الصوم والصلاة ولم يستثنى في باب الحج لأنه لا وجوب بلا زاد ولا راحلة ولما لم يستبن صارت للمولى فلا يعود إليه [ ..... ] 1 كما لا يملك منافع غيره ولا سائر الأموال بتمليك المؤن ولا يصح الأداء بمنافع [ ..... ] 2 كما لا يصح التكفير بمال المولى وكذلك يسقط بالرق إباحة نكاح الأربع من النساء والحدود التي تحتمل التنصيف [ ..... ] 3 وكذلك [ ..... ] 4 العدة والتطليقات وحق القسم وتبطل الولاية وما يبتنى على الولاية من الإرث والشهادة وهذا الكلام الذى قال في الابتداء لا بأس به ونحن نقول بذلك وأما الذى قال في آخر كلامه في التنصيف بالرق فنحن   1 بياض في الأصل بمقدار كلمتين. 2 بياض في الأصل بمقدار كلمة واحدة. 3 بياض في الأصل بمقدار كلمة واحدة. 4 كشط بمقدار كلمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 393 نقول: إن الرق منصف لما يقبل التنصيف وهذا صحيح في كل ما يتبعض ويتنصف. فأما الذى لا يقبل التنصيف من الحل فنقول إن الحل في الأمة نكاحا مثل الحل في الحرة ولا ينصف لأنه لا يقبل التنصيف ولأن الرق يفتح باب الحل في محل الرق وما لا يوجد في محل الحرية فلأن يؤثر في الحل الذى يوجد قى محل الحرية أولى وهذا فصل في مسألة طول الحرة ومسألة الطلاق بالرجال والنساء وقد ذكرنا وجه قولهم في ذلك ووجه جوابنا عنه ثم ذكر فصلا في الكفر. فإن قال قائل: فإنكم لم تذكروا قسم الكفر. قلنا: الكفر ليس من جملة الإعذار ولأنه غير مسقط للخطاب عند أهل الكلام وهو مذهب الشافعى من الفقهاء ومذهب عامة مشايخنا من أهل العراق. وذكر مسألة خطاب الكفار بالشرعيات واحتج من الجانبين وقد سبق ذكرنا لها وأوردنا حجة الفريقين على التمام والكمال فاستغنينا عن الإعادة وهذا جملة ما ذكروه من الأعذار العامة في أحكام الشرع وقد أوردنا هذا على ما ذكروه وتكلمنا عليه بحيث ما يسر الله تعالى والله أعلم. ثم ذكر القول في الحجج العقلية قال: وقد أجمع العقلاء على إصابة المطلوبات الغائبة عن الحواس بدلائل العقول كإجماعهم على إصابة الحاضرة بالحواس حتى أنك لا تكاد تجد أحدا خاليا عن الاستدلال بها لجديرا به وعقله حتى لم يكن السمع حججا إلا باستدلال عقلى ولا يقع الفرق بين المعجزة والمخرقة والنبى والمتنبئ إلا بنظر عن عقل وكذلك تعرف النار مرة ببصرك ومرة بدخانها مستدلا عليها بعقلك لا طريق للعلم إلا طريق الحواس أو الاستدلال بنظر عقلى في المحسوس ليدرك ما غاب عنه. قالوا: ولا خلاف في هذا بين العقلاء وإنما اختلفوا بعد ذلك. وقال بعضهم: لا يعرف الله تعالى بمجرد دلائل العقول حتى تتأيد بالشرع. وقال بعضهم: يعرف ويجب الاستدلال قبل الشرع. وقال بعضهم: لا يستقل بهذا لأن الله تعالى لم يدعنا والعقول فلا معنى للاشتغال بها. قال: وقال علماؤنا: من لم تبلغهم الدعوة من الكفار لا يقاتل إلا بعد الدعوة وإن قوتلوا أو قتلوا لم يجب شيء. وقال الشافعي: يضمن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 394 وقال أيضا: إنهم يعذبون في الآخرة فجعلهم كأطفال المسلمين. قال ولا نص عن علمائنا في المبسوط إلا ما ذكرنا من هدر الدماء وأنه لا يدل على التزام الكفر بترك الاستدلال فإن المسلم منافيهم عندنا ما يهدر دمه ما لم يجوز نفسه بدار الإسلام. قال: قال علماؤنا: إن الصبى إذا أسلم وعقل صح إسلامه ولو لم يستدل بعقله ولم يجر كلمة الشهادة على لسانه لم يحكم بكفره وإن امتنع بعد الاستنصاب بل كان في حكم المسلم ما لم يبلغ ولو امتنع بعد البلوغ كفر لأن خطاب الشرع بالأداء ساقط قبل البلوغ فصار معذورا. قال: واحتمل مثل هذا بعد البلوغ قبل أن تبلغه دعوة أحد فلا نحكم بكفره لجهله بالله تعالى وغفلته عن الاستدلال بالآيات ويحكى عن أبى حنيفه أنه قال: لا عذر لأحد في الجهل بالخالق لما يرى في العالم من آثار الخلق فيحتمل أن يكون ذلك بعد ورود السمع بذلك. فقد حكينا أنهم عذروا الصبى لجهله. قالوا: وأما الذى قالوا إن الله تعالى لا يعرف بدون الشرع فقد ذهبوا في ذلك إلى أن العقلاء أجمعوا أن الأداء لا يجب إلا بعد ورود الشرع ولو كان العقل حجة كافية وجب قبل الشرع ولأنا نرى العقلاء مختلفين في إثبات القديم مع شدة تأملهم واشتهارهم بالحكمة ولا يعرف واحد منهم إصابة ما يتبين بالشرع ولو كان بالعقل كفاية لما اختلفوا فإن اختلفوا يجب أن يكون فيهم من أصابه وحين لم يعرف أن أحدا ممن طلب الحق بعقله أصابه على ما عرف بالشرع علمنا أنه لا يعرف بدون الشرع. قال: وأما الذين قالوا: إنه تقع الكفاية بالعقل ذهبوا إلى أن إبراهيم عليه السلام قال لأبيه: {إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 74] ولم يقل [أوحى إلى] فثبت أن العقل بنفسه يهدى ولذلك الله تعالى أخبر أن إبراهيم عليه السلام استدل بالنجوم فعرف ربه عز وجل وكان استدلاله حجة على قومه فقال تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} [الأنعام: 83] وليس في الآية من باب الوحى ذكر وقال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53] ولم يقل نسمهم ونوحى إليهم. وقال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} [المؤمنون: 117] ولم يقل بعدما أوحى إليه أو بلغته الدعوة فثبت أن العذر ينقطع بالعقل وحده ولو لم يكن فيه كفاية لما انقطع العذر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 395 قال: وقول من قال: إن الله تعالى لم يدعنا والعقول فذلك رحمة من قبل الله تعالى وتفضل منه وربما يقولون بعث الرسول لبيان تتمة الدين. ببينة: أن الله تعالى لم يدعنا ورسولا واحدا وقد كانت الحجة قائمة لرسول واحد منهم. قالوا: وأما اختلاف العقلاء فقد وجد اختلاف العقلاء بعد دعوة الرسل أيضا على أن من لم ينل ذلك لتقصير في اجتهاده والمقصر في اجتهاده لا ينال كان الحقيقة وكذلك الغالى يتعداها وإذا جاء الوحى والعصمة عن التقصير والغلو صار الدين واحدا. وأما الذين قالوا: إن الاستدلال لا يجب قبل الشرع فقد احتجوا بالشرع والعقل. أما الدليل من قبل الشرع قول الله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15] وقال تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام: 130] وقال: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} [النساء: 165] الآية وقال: {أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} وقال عقيب قوله: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام: 130] {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} [الأنعام: 131] فأخبر أن الإهلاك كان ظلما وهذه الآيات دالة على أن العذر لا ينقطع بمجرد العقل لأن الهوى غالب على الإنسان وطرق هوى الدين محضة تحت غالبة الهوى ومنام القلب والغفلة في دلائل العقل وفى تنبهه عن مؤلم الغفلة بالشرع حرج عظيم أكثر مما يحرج الصبى العاقل بسبب نقصان عقله لإدراكه ما يدركه البالغ من الخطاب المسموع. وقد أخبر الله تعالى لأن لا حرج في الدين وقد ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الخطاب ساقط عن الصبى مع وجود العقل ويمكنه من الاستدلال فكذلك بعد البلوغ يسقط أيضا بمجرد العقل لأنه لا تفرقة بين الحالين من حيث العقل. ألا ترى: أن العبادات كما سقطت بعذر الصبى سقطت بعذر الجهل عمن أسلم في دار الحرب ولا يعلم بالعبادات ولأن النفس بهواها غالبة [ ..... ] 1 في أول الفطرة وإذا حدثت حدثت مغلوبة إلا من شاء الله من الخواص وإذا كانت مغلوبة بقيت العبرة للراجح وبقى الحكم على ما كان قبل العقل حتى يتأيد العقل بالوحى فيرجح على الهوى حينئذ فلا يجوز في الحكمة التزام العمل حسا والعامل مغلوبا بالمانع حسا فكذلك لا يحسن إلزام العمل بالحجة والحجة   1 بياض في الأصل بمقدار خمس كلمات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 396 مغلوبة مدفوعة بغيرها. قال: وهذا القول قول بين القولين من التقصير والغلو فقصر من أنكر وجود الله تعالى بدلالات العقول وحدها وغال من التزم بالاستدلال بالوحى ولم يعذر بغلبة الهوى وهو من الله تعالى وقرب من الإنصاف من قال: إن الله تعالى يعرف بدلالات العقول وحدها ولكن لا يجب فعل الاستدلال إلا بشرع والحق بالشرع ونفس العقل لا يميز بين امرأة عقلت وحاضت لتسع سنين وصبى عقل وبلغ أربع عشرة سنة ونصف بل حال الصبى أكمل من حال البالغة بحيضها بالتسع سنين. ببينة: أن العاقل لا يرى بناء إلا عرف لها بانيا ولا يعرف نقشا إلا عرف له ناقشا ولا يعرف صورة إلا عرف لها مصورا فكيف يعذر بعد رؤية الصورة في جهله بمصورها وإذا لم يعذر فلا بد أن تقع المعرفة بفاعل الصورة فقد تنبه بعقله وكيف ينكر هذا والله تعالى يقول حاكيا عن الكفرة: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25] وكذلك لا ترى أحدا من الكفار إلا وهو يخبر عن الصانع إنما كفرهم كان لوصفهم الله تعالى بما لا يليق به من الولد والشريك وكان كفر بإنكارهم البعث بعد الموت للجزاء وكلامنا في نفس الجاهل للصانع عن ذكره وكيف يعذر والجهل جاء من استخفافه بالحجة بعدما لاحت له بلا تمثل فالبناء شاهد على البانى بلا تمثل في العقول والاستخفاف بالحجة فوق الغفلة عن سكر يقع بالخمر وأنه لم يعذر فهذا أولى بخلاف أول حالة العقل لأنه لأول حالة لا يتنبه لما يتنبه له الكبير ألا بجهد وحرج كالنائم يتنبه فلا يدرك لأول مرة ما يدركه بعد مدة فانتبه قام أن يعذره الله تعالى رحمة ثم قدر مدة العذر ولا يعرف ذلك بالعقل. قال: والدليل على أن التنبيه لا يقع لأول العقل قوله تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} [فاطر: 37] ولم يذكر العقل وقال: {وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر: 37] وقيل: إنه السبب. وقال: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [الروم: 8] ولم يذكر الوحى بل عايبهم على ترك التفكر. وقال: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53] أخبره أنه يريهم الآيات حتى يتبين لهم أنه الحق فثبت أن اللبس لا يقع إلا بالاستخفاف بالحجة كما يكون بعد دعوة الرسل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 397 قال: وأما قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الزمر: 71] وهو كلام توبيخ فيكون بأظهر الأمور وأعلاها وأما قوله تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] أي حجة نفاذ ولا حجة تقبل وكذلك أخذ الله تعالى الميثاق لقطع حجة نفاد وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ} [هود: 117] أى: لم يهلكهم بظلمهم حتى أرسل الرسول وظهر تعنتهم ولو أهلك لكان عدلا ولكنا أمهلنا إلى حين [ ..... ] 1 عذاب الآخرة أى أخرنا عنهم العذاب إلى بعثة الرسل تأكيدا عليهم كما جعلناه بعد الحساب والشهود تأكيدا عليهم ثم نذكر أقسام دلائل العقل الموجبة فقال: منها ما يدرك بدلائل العقول كحدث العالم ودلالة [ ..... ] 2 ما لا يكون دلالة إلا بجد تأمل ونظر كدلالة العالم على صانع هو الله تعالى ولهذا اختلف العقلاء في ذلك لا لاختلافهم في استعمال النظر ولم يختلف في حدث العالم المحسوس. ومنها: ما لا يكون دلالة إلا بتجربة كمعرفة الأدوية والأغلبة ولكن إذا دق المطلوب اختلف فيه الشبة. ومنها: ما لا يكون دلالة إلا بمعرفة الحس كالنجوم على الطرق والجبال والأميال حتى شاركت البهائم العقلاء في هذه المعرفة لمشاركتها إيانا فيما يدرك بالحواس. واعلم أننا بينا المذهب الصحيح من قبل وقد ذكرنا أن العقل لا يوجب بنصه شيئا ولا يحرمه والذى ذكره فيه ضبط عظيم لأنه إذا اختار أن الله تعالى يعرف بمجرد العقل فيكون قد ناقض وارتكب مالا تتجه صحته لأنه إذا عرف بمجرد العقل وقد أعطاه العقل ولا يحتمل أن يكون واجبا على الخلق فوجب أن يجب عليه إذا كان قد أصاب العقل الذى هو طريق معرفة الله تعالى ولأنه إذا حقق دلائل العقول بنفسها فيجب شكر المنعم والنظر المؤدى إلى معرفة الله تعالى على ما قاله أهل الكلام وقد مهدوا لهذا قواعد لا بد لمن عرف بها أن يحكم بأن العقل بنفسه يوجب ولم أحب ذكر ذلك ولأنه ليس مما يتصل بهذا الكتاب والقول بين القولين إنما يستحب اختياره وسلوك طريق بين الغالى والمقصر إنما يكون أولى إذا أمكن تمشيته فأما إذا لم يمكن تمشيته فلا وعلى أنه قد ذكر أن الموجب للإيمان ليس هو الله تعالى إنما الموجب للإيمان   1 بياض في الأصل بمقدار ثمان كلمات. 2 بياض في الأصل بمقدار سبع كلمات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 398 هو الدلالات التي نصبها في العالم من رفع السماء وبسط الأرض ونصب الجبال وخلق المنيرين والكواكب وغيرها وقد ذكرنا فساد هذه المقالة بل الصحيح والذى يليق بحكمة البارى تعالى ولطفه بخلقه أنه لا يجب الإيمان إلا بعد بعث الرسل وختم الأمر بالوحى الصادق إلى ما نصب من الدلائل الدالة عليه ثم بوجود معونته عليه وتوفيقه له فإن معرفة الله تعالى بصفاته التي هو عليها من أشق المعارف وأعسرها ولهذا ارتبك فيها أكثر الناظرين وتحيروا والتبس عليهم هذا الأمر بحقيقته وأيضا فإن عقلهم مشوب بالهوى وتنبههم غير تام لاستيلاء الغفلة عليهم وفجورهم راجح على تقوتهم فيكون نظرهم بهذه الأسباب مدخولا وفكرهم وارتيابهم معلولا ولهذا لم يخل العبد وعقولهم ولهذا لم يوجد أحد يهتدى إلى الحق على ما هو به بمجرد عقله وظهر لنا أن الحكمة الشرعية مقتضية على ما مهده واستنه ووضعه وهو إعطاء العقل آلة الإدراك ونزول الوحى الصادق بالأمر الصادق والتكليف ثم المعونة من الله تعالى من غير أن يخليه وأمره ويغنيه عن نفسه فإن أغناه عن نفسه فيما كلفه وأمره ويخليه ومحض معقوله لهلك بل هو مخالف بما عرف من تفضل الخالق مع خلقه وجوده وكرمه معهم ونظره لهم وهو الذى قلناه أيضا لا يعرف بمجرد العقل بلا لا يبصر إلا من أيده الله إليه بنوره ورفع بيده من ارتكابه في الظلمات ونجاه من المهاوى والمهالك التي هى [ ..... ] 1 ويسأل الله مما لا وجود له إلا به ولا وصول إليه إلا بمعونته ومنه. ثم ذكر فصلا في موجبات العقل دينا وقال يعنى بالوجوب: الوجوب في الذمة حقا لله تعالى لوقوعه علينا لا وجوب الأداء والتسليم إلى الله تعالى وذكر أن هذه الواجبات أربعة: معرفة نفسه بالعبودية ومعرفة الله تعالى بالإلهية ومعرفة العبيد للابتلاء إلى حين الموت بطاعة الله تعالى للجزاء الوفاق ومعرفة الدنيا وما فيها بالعبيد المبتلين بضرب يقع يعود إليهم فيها وذكر في هذا قصة طويلة وكلاما كثيرا فلم أر في ذكرها كبير فائدة فيما يرجع إلى أصول الفقة ثم ذكر محرمات العقل وجعلها أربعة أيضا: الجهل والظلمة والعته والسفه وزعم أن الجهل إنما يكون بترك الاستدلال بنور عقله والعاقل ما ركب فيه العقل إلا ليقف به على مصالح لا تنال غايتها بالحواس وبه غلب على ما في البر والبحر واستسخرها وادعى لنفسه كل شئ منها فيحرم بالعقل ما يفوت به أغراض العقلاء كما يحرم به ترك الأكل الذى فيه حياته وكما يحرم بالعقل ترك البصر   1 بياض في الأصل بمقدار سبع كلمات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 399 بالعين عند إرادة الشئ إلى موضع يحتاج إليه ويحرم إطفاء السراج مع إرادته سلوك طريق لا يهتدى إليه بالسراج وإذا حرم الجهل حرمة الظلم لأن حقيقة الظلم وضع الشئ في غير موضعه فيكون الظلم مكابرة لما رأى بنور عقله ويكون الأول تركا للرؤية كالذى لم يفتح عينيه حتى وقع في بئر فيقبح منه ذلك والذى فتح فرأى البئر ثم أوقع نفسه فيها قصدا كان الفعل منه أقبح ومثاله من باب الشرع من بلغته الدعوة والمعجزة فلم يتأمل وكفر كان قبيحا والذى تامل وعرف ورد تعنتا كان أقبح نحو كفر إبليس وفرعون وقارون حيث جحدوا بعدما اشتدت منة أنفسهم وأما العبث فيحرم أيضا لأنه اسم لفعل يخلو عن الفائدة لأن نفس الفعل وإن قل ففيه أدنى مشقة فلا يحتمل عقلا إلا لفائدة أولى. ومنها السفه لما أوجب مضرة كان أقبح من الأول لوجوب معنى الأول فيه من فوت الفائدة وزيادة من ضرر فكان السفه من العبث كالظلم من الجهل ثم ذكروا أربعة أخرى تحرم بالعقل وقال هى الإيمان بالطاغوت وكون الخلق للحياة الدنيا واقتضاء الشهوات فيه والإنكار بالصانع والإنكار بالعبث للجزاء. وذكر أن الطاغوت كل ما عبد من دون الله وأورد في هذا فصلا بعباراته ونحن نقول إن الفعل بمجرده لا يوجب شيئا ولا يحرم شيئا ولا يفصل فيها تفصيلا بوجه ما والأصل أن كل ما ينال بفعله أو كل ما ينال بالانتهاء عنه السعادة الأبدية. قلنا: لايثبت سببا من الأمر به أو النهى عنه إلى مجرد العقل لما ذكرنا فلا نعيد. ثم ذكر فصلا في مباحات العقول وهذا قد سبق الكلام فيه وهى المسألة المعروفة أن الأشياء أصلها على الحظر والإباحة أو على التوقف عن غير اعتقاد حظر ولا إباحة وهذه المسألة سبقت بجوانبها وحواشيها فلا نعيد ثم ذكر في آخره فصلا في أحوال قلب الآدمى قبل العلم وأحواله بعد العلم. قال: يولد الإنسان وهو بصير كالمجنون في عدم العقل ليس معه قدرة التمييز الذى بها خواطب الإنسان بهذه العلوم وضده العاقل لا العالم ثم يصير غافلا [ ..... ] 1 عن نور في الصدر يبصر به القلب الأمور الغائبة عن الحواس إذا نظر الحجج كما أن العيين إنما تبصر مع نور الهواء إذا نظر فيصير الإنسان إذا عقل قادرا على البصر لكنه على جهل ما لم يبصر وضد الجهل العلم ثم ينظر نظرا ضعيفا فيصير شاكا والميل والشك   1 بياض في الأصل بمقدار كلمتين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 400 ضد اليقين وذلك كالشئ يبدو للعين إذا نظر إليه بدرا غير قوى فلا يميز الناظر إليه بين حقيقة وجود الشئ وبين خيال يميل العين ثم يبصر بعد ذلك نظرا فوق ذلك غير تام فيصير ظانا والظن في اعتقاد العلم احد وجهى الشك برجحانه على الآخر بهوى لا بدليل هو دليل على الحقيقة وضد الظن الحق على ما قال الله تعالى: {وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} [النجم: 28] ثم إذا صار النظر على وجهه وميز بين الدليل وما ليس بدليل وطلب الرجحان لأحد وجهى الشك بالحجة ورجح ومال القلب إليه من غير تعلم فذلك مبدأ العلم فغالب الرأى والعلم الذى يقع بالمقاييس والاجتهادات التي تحتمل الخطأ وأخبار الآحاد ونحوها من الأدلة المجوزة وهذا يسمى علما لكنه على المجاز لقيام شبهة الخطأ واحتماله مع هذا الدليل واسمه على الخصوص من الحق لأنه ثبت عن دليل وضده الظن وإذا ثبت لا عن دليل لكن بهوى النفس ثم إذا جد في النظر وقعت الإصابة وزالت الشبهة من كل وجه صار عالما فصار حكم العلم رؤية للقلب المنظر فيه كرؤية العين المنظور إليه فالعلم للقلب صفة خاصة كالرؤية للعين وقد تستبعد الرؤية عن العين للقلب كالرؤية إنما تكون بتبدى المنظور إليه وكذلك العلم يتبدى المنظور فيه للقلب. قالوا: واللاعتقاد صفة زائدة للقلب بعد العلم يعلم ثم يعتقد الإنسان بقلبه على ما رأى. قال: وقد كان إبليس عالما بالله ولم يكن معتقدا والاعتقاد بالقلب كالطاعة للبدن يعلم بوجوب الصلاة ثم حمل بها فيكون الاعتقاد تصديقا بقلبه على ما علم وإن ترك الاعتقاد كان تكذيبا لقلبه. قال: ثم العلم الأول ما يقع للقلب يكون رؤية بالقلب فإذا دامت الرؤية وزال الاضطراب صار العلم معرفة كالغريب إذا دخل بلدة وصحب أهلها تثبت بينهم المعرفة وإن كان قد ثبت العلم باول رؤية ولهذا يقال للبهائم عرفت كذا ولا يقال علمت كذا لأنها لا تعرف شيئا إلا بالعيان الذى يزيل كل اضطراب والعلم ما يكون [إلا] 1 بنظر القلب والاستدلال الذى هو دون العيان حتى إذا زال الاضطراب بدوام الصحبة قبل المعرفة وضد المعرفة نكرة وضد العلم الجهل ويقال علمت فلانا ولكنه ليس من معارفى إذا لم يكن بينهما صحبة فعلمنا أن المعرفة فوق العلم بزيادة صفة   1 زيادة ليست في الأصل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 401 للصحبة للقلب لا زيادة درجة الثبوت فإنهما سببان في اليقين ثم العلم بعدما يصير معرفة يتنوع إلى ضربين: علم الظاهر دون المعنى والباطن الذى فيه الحكمة وعند تأيد القلب به يصير معقولا له ويجرى مجرى الطبيعة فمتى نظر بدلالة عقلية وقف على الباطن [وتأيد] 1 القلب به بعد ما اطمأنت إليه [ ..... ] 2 فقهاء والفقه على ضربين ضرب علم أصيب باستنباط المعنى وضد الفقيه صاحب الظاهر وهو الذى يعمل بظاهر النصوص من غير تأمل في معانيها ولا يرى القياس حجة ولو كان العلم والفقه سواء لكان ضد الفقيه هو الجاهل لا عالم يعلم نوعا من العلم فإلى هذا تناهى حد العلم فيرى القلب أول ما يرى بغالب أنه من غير يقين فيميل إليه ثم تزول الشبهة فيصير علما حقيقة ثم ينزل علمه فيصير معرفة ثم ينظر في معناه وحكمته فيقف عليها فيصير فقها وقد فسر عبد الله بن عباس الحكمة بالفقه في جميع القرآن ولهذا نص بهذا الاسم العلماء الذين يرون القياس حجة لأن القياس لا يكون إلا بالوقوف على المعانى الباطنة غير أن الله تعالى يوصف بالعلم ولا يوصف بالمعرفة والفقه لأن العلم يبتدى المعلوم للعالم على حقيقته والله تعالى لا يخفى عليه شئ فكان عالما والفقه والمعرفة اسمان إلى العلم على ما مر ذلك وليس لله تعالى أحوال في صفاته وأسمائه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ولا علم لنا إلا عن دليل والدليل قد يكون حسيا وقد يكون عقليا فالحسيات تشارك البهائم الأدميين في المعرفة الواقعة بها فإنها تعرف أولادها وأحبائها ومراحها ومسرحها لأن لها حواس كما في الآدميين إنما يفارق الآدمى غيره فيما لا يعرف إلا بدلائل العقل إلى آخر ما ذكره. وهذه الكلمات لا بأس بها وقد تمهدت لنا أصول وقواعد في الديانات بفروعها فما استقام عليها قبلناها وما لا يستقيم عليها رددناها والله الموفق للأرشد والأصوب. وذكر بعضهم فصلا في تباين ما خص الله تعالى الآدمى بها. قال: ومنها: الذمة اختص بها الآدمى من بين سائر الحيوانات وسميت رقبة الآدمى الحر ذمة وإنما سميت رقبته ذمة لأن الذمة عبارة عن العهد والحرية ولهذا سمى الكافر المعاهد ذميا لأنه ذو عهد وحرمة والله تعالى جعل الآدمى ذا حرمة عظيمة وشرفه على سائر الحيوانات ولما صارت رقبة الآدمى الحر محترمة كانت محلا لوجوب الحقوق له   1 كلمة غير مقروءة بالأصل ولعل الصواب ما أثبتناه. 2 بياض في الأصل بمقدار كلمتين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 402 وعليه من الحقوق فيقال: وجبت الحقوق في ذمته وذكروا على هذا في مسألة الميت المفلس وعندي أن هذه القاعدة ليست بشئ والرقبة لا تكون ذمة وإنما الذمة عبارة عن محل الوجوب فحسب وقد جعل الله تعالى الآدمى بمحل أن يجب له وعليه ثم عبر عن محل الوجوب بالذمة ولا يمكن أن يعبر بأكثر من هذا ومما وراء هذا القدر كله فضول من الكلام. قال: ومنها الملك اختص الآدمى بملك الأموال وبملك النكاح من بين سائر الحيوانات فإنه ليس بشئ من الحيوانات يملك سوى الآدمى وهو نوع شرف للآدمى حتى التحق بسبب تلك الحرمة بالأحرار والملوك في الآخرة وإن كان عبدا خلقه والملك عبارة: عن قدرة حكمية. يقال: ملك فلان أكل الطعام وملك الشئ إذا قدر عليه وهذه القدرة الحكمية هي القدرة على التصرفات المشروعة المباحة والملك صفة الملك على الحقيقة وقد يوصف به المملوك أيضا يقال لفلان ملك في هذه العين وإنما وصف المملوك به لأن الملك ثبت للمالك لمعنى في المملوك وهو المالية فاتصف المملوك به لكونه سببا. ومنها: الولاية وهى عبارة عن القدرة الحكمية وهى القدرة على التصرفات وهى قدرته على أداء الشهادات وتعبد الأحكام وفعل العقود فمتى كان الإنسان أهل الولاية على غيره بالأسباب التي جعلها الشرع أسبابا وتلك الأسباب السلطنة والقرابة وغير ذلك والولاية حق المولى لأن المولى عليه هو المتنفع بها. ومنها [ ..... ] 1 فإن الآدمى يدا حكمية كما له يد محسوسة وهى عبارة عن القدرة على الحفظ يقال هذا الشئ في يد فلان أى هو القادر على حفظه. قال: ومنها ملك اليد وهى عبارة عن ثبوت ولاية الحفظ فللمرتهن ملك اليد وكذلك المودع لأن لكل واحد منهما ولاية الحفظ. قال: العبد أليس له ملك يمين وله ملك نكاح وهذا التفريق بالشرع لأن ملك اليمين يثبت للحاجة ولا حاجة للعبد إلى إثبات الملك له فلا يثبت وله حاجة إلى إثبات ملك النكاح فثبت وهو أيضا قدرة شرعية مخصوصة تثبت بسبب مخصوص. قالوا: وأما الرق عبارة عن الضعف الحكمى الذى به يصير الآدمى محلا للتملك وما هو بعقوبة لكنه سبب يحمل الكافر على الإسلام لأن حرمان القوة الحقيقة لا تثبت عقوبة وكذلك حرمان القوة الحكمية لا تكون عقوبة ولهذا نقول: إن الرق لا يدخل   1 بياض في الأصل بمقدار كلمتين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 403 تحت الملك لأن الضعف الحقيقى لا يتصور دخوله تحت الملك كذلك الضعف الحكمى ولهذا يجوز استرقاق الصبى والمجنون وهما لا يعاقبان في الدنيا. وقول من قال: إنهما يسترقان ليس بصحيح لأن الاتباع في العقوبة غير مشروع فلا يمكن أن يقال: إنهما يعاقبان به. قال: وأما الكافر فله ملك يمين وملك نكاح وله جميع الولايات في حق الكفار لمساس الحاجة إليها وهو مرقوق مال فإنه غرضه التمليك بالأسباب كالصيود والجمادات. وأما المالية فهى غير الملك والرق وهى عبارة عن منافع ذات غير العين وكل عين ينفع به غير الآدمى الحر فهو مال لأن الله تعالى جعل الآدمى مالك الأموال يستحيل أن يكون مالا ولهذه الأشياء التي لا يمكن الانتفاع بها بنفسها وهو مما لا يضمن بها كحبة حنطة وشعير وكسرة خبز وقطرة ماء. قال: وأما الأشياء التي حرمها الشرع ومنع الناس من الانتفاع بها إن كان شيئا يرغب الناس في إمساكه للانتفاع به في حالة يباح الانتفاع يكون مالا كالخمور وجلود الميتات فإن الناس يضنون بها لينتفعوا بها في [ثانى] 1 الحال فيكون مالا لأن المال ما يميل طباع الناس إليه ولهذه سمى مالا وطباع الناس تميل إلى هذه الأشياء لمنافع تظهر لها في ثانى الحال فيكون مالا مثل الأطفال والجحوش للحمر والمهر للأفراس وأما الميتات والعذرات وما لا يقصد الناس إلى إمساكه فليس بمال وأما الحر فهو مال في حق الكفار وأما في حق المسلمين يجب أن لا يكون مالا وأما الصيود في البرارى فهى مال وهذه كلمات تكلمنا عليها في الخلافيات. وعندنا الرق والمالية بمعنى واحد إلا أن المالية والملك في الآدمى يسمى رقا ولأن الرق يدخل تحت الاستحقاق ويدخل تحت الإثبات عن الآدمى ويدخل تحت الإسقاط بالعتق فيكون حقا ثابتا لبنى آدم مثل سائر الحقوق والباقى قد تكلمنا عليه. ثم ذكر فصلا في انعقاد العقود الشرعية وحكى عن بعضهم أن الانعقاد هو أن [يأتى] 2 أحد العاقدين بكلام [ ..... ] 3 وهو كلام البائع بكلام المشترى في الشراء وسائر العقود من حيث الشرع.   1 ثبت في الأصل [حال] ولعل الصواب ما أثبتناه. 2 بياض في الأصل ولعله ما أثبتناه. 3 بياض في الأصل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 404 وقال بعضهم: انعقاد العقد هو اعتبار الكلام من حيث الشرع في الحكم الموضوع للعقد شرعا وبنى على هذا مسألة توقف العقد [ ..... ] 1 الانعقاد موجود في حق المتعاقدين ثم ذكر فصلا في بقاء العقد وقال: زعم بعضهم أن العقد يبقى بعد الفراغ. وقال بعضهم: لا يبقى واحتج من قال لا يبقى بأنه كلام مضى وانقضى لا يتصور بقاؤه والأصل أن ما لا يبقى حقيقة لا يبقى [ ..... ] 2 بدليل قاطع والأصح أنه يبقى لحاجة الإنسان إلى بقائه وأعرض على هذا وقال: لا حاجة بالناس إلى بقاء العقد لأن الحكم لا يبقى بلا بقاء السبب لأن ما وجد يبقى إلى أن يوجد ما يقطعه. ويجاب عن هذا فيقال: في البقاء حاجة لأن الحاجة تقع إلى فسخ العقد كما تقع إلى نفس فعله وفسخ الحكم لا يمكن إلا بعد فسخ العقد لأن الحكم غير منعقد حتى يمكن فسخه وتقضه فأما الحكم فيثبت شرعا فكيف يتصور نقضهما له ولأن العاقدين ينصان على فسخ العقد لا على فسخ حكمه ولذلك القاضى يفسخ عقودا كثيرة بأسباب شرعية وما لا يتحقق بقاؤه لا يتصور فسخه ولأن التولية صحيحة من العاقد وما لم يبق العقد لا يصح التولية. قال: والحكم يبقى العقد ببقاء المحل. والأصل أن ما ثبت في المحل يبقى ببقاء المحل ولهذا نقول: إن الزيادة في الثمن والمثمن في حال قيام المعقود عليه يكون جائزا لقيام المحل حتى إذا هلك المحل ارتفع العقد لأنه لا يتصور بقاء العقد من غير محل يتعلق به. قال: ويبتنى على هذا جواز تغيير العقد من وصف إلى وصف لبقائه وذلك في مسألة زيادة الثمن وذكر اختلافهم في توريث العقد فزعم بعضهم أنه يورث العقد لبقائه حكما وتعلقه بالمحل. وزعم بعضهم أنه لا يورث لأنه كلام قائم بالمتكلم فلا يورثه وذكر مسألة خيار الشرط أنه هل يورث أو لا؟ واستدل في أنه لا يورث3 بأن الإرث إنما يكون فيما يبقى بعد الموت ومن له الخيار يعجز عن التصرف بحكم الخيار في آخر جزء من أجزاء حياته فيبطل خياره ويبرم العقد لأن الأصل أن من له الخيار متى عجز عن التصرف بحكم   1 بياض في الأصل بمقدار ثلاث كلمات 2 بياض في الأصل بمقدار ثلاث كلمات 3 وهو مذهب الأحناف انظر الهداية "3/34". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 405 خياره يبطل خياره ويبرم العقد ولأن الخيار ليس إلا تخيره في إثبات حكم العقد في مدة الخيار وتخيره قائم به وما يقوم بالمورث لا يورث ونحن نقول: إن العقد قائم والفسخ يتناوله والإرث ثابت فيه وثابت في الخيار المتعلق به1 وقد تكلمنا في هذا بما فيه الغنية ثم ذكر فصلا في الانفساخ العقود الشرعية. قال: والانفساخ ضد الانعقاد فعند بعضهم يكون الانفساخ انفساخ الكلامين. وعند بعضهم: يكون الانفساخ هو خروج الكلام من كونه معتبرا في حق الحكم المشروع له قال: ومن العقود ما يقبل الفسخ بالإجماع كالبيع والهبة والإجارة والصرف والسلم والرهن والوديعة والعارية ومنها: ما لا يقبل الفسخ وهو الطلاق والعتقا والخلع والصلح عن دم العمد فإن العقد لا يبقى في هذه المواضع بعد وجوده [ ..... ] 2 ثم الذى يقوم به عقد الطلاق وهو ملك النكاح وحل المحلية فإن الطلاق يسقط وملك النكاح وحل المحلية [ ..... ] 3 النكاح وحل المحلية لا يبقى بعد السقوط والمعقود عليه الذى يقوم به عقد العتاق وهو ملك المال وذلك باطل [ ..... ] 4 والباطل غير باق وكذلك المنتهى غير موجود بعد الانتهاء والمعقود عليه في الخلع أيضا ما هو المعقود عليه في الطلاق والمعقود عليه الذى يقوم به الصلح عن دم العمد هو ملك القصاص وذلك يسقط ولا يبقى فيما لم يبق المعقود عليه في هذه المواضع لم يبق [ ..... إذا] 5 لم يبق العقد لم يمكن فسخه وأما النكاح: قال: عندنا لا يقبل الفسخ وعند الشافعى رضى الله عنه يقبل لأن العقد قائم لقيام المعقود عليه وهو منافع البضع فيقبل الفسخ كالإجارة. قال: وأما عندنا لا يقبل الفسخ لأن عقد النكاح إنما انعقد باعتبار الحاجة مع وجود ما ينافى العقد وهو الحرمة لأن الحرمة تنافى انعقاد سبب الملك وتنافى الأملاك فيكون النكاح منعقدا فيما فيه حاجة ولا يكون منعقدا فيما لا حاجة فيه ولا حاجة إلى الانعقاد في حق الفسخ.   1 وهو مذهب الشافعية انظر روضة الطالبين "3/441". 2 بياض في الأصل بمقدار ست كلمات. 3 بياض في الأصل 4 بياض في الأصل بمقدار سبع كلمات. 5 بياض في الأصل بمقدار ثلاث كلمات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 406 قال: وفى الأمة إذا أعتقت يثبت الخيار ولا يكون ذلك فسخا بل العقد غير منعقد في نصف الملك فقد كان العقد منعقدا في نصف الحل ولم يكن منعقدا في النصف فلا ينعقد في هذا النصف إلا برضاها. وقال في حق الصغير والصغيرة إذا بلغا ذلك العقد غير منعقد في حق صفة الملك وهو صفة التمام واللزوم وكانت ولاية هؤلاء ناقصة غير تامة وكان العقد كذلك فعند البلوغ برضاهما ينعقد في حق الوصف فكان لهما أن لا يرضيا بالانعقاد في حق الوصف ولا يبطل في الأصل لعدم الانعقاد في حق الوصف لأنه لو بطل في حق الأصل لصار تبعا للوصف في البطلان وهذا لا يجوز. ثم ذكر أن العقد ينفسخ تارة ويرتفع تارة وينتهى أخرى. قال: وهى ثلاثة أشياء: انفساخ وارتفاع وانتهاء. وكل واحد غير صاحبه فالانفساخ والانتفاض نظيران والإرتفاع والفوات نظيران والإجارة تمضى مدتها تنتهى وكذلك النكاح بموت أحد الزوجين أو بموتهما ينتهى وكذلك البيع بهلاك المعقود عليه بعد القبض ينتهى والبيع إذا انتهى بالموت أو النكاح انتهى بالموت لا يبقى كما النمو إذا انتهى ببلوغه غايته لا يبقى النمو. قال: وأما إقالة البيع فهى فسخ في حق العاقدين مع جديد في حق غيرهما وكذلك الرد بالعيب بعد القبض بالتراضي. وأما الرد بالعيب قبل قبض المبيع فهو فسخ في حق كافة الناس وكذلك إذا [قضى] 1 القاضى بالرد بالعيب فهو فسخ على العموم سواء كان قبل القبض أو بعد القبض وهذا كله مذهبه. فأما عندنا فالإقالة2 فسخ3 في حق الناس كافة وذلك لأن العاقدين بالإقالة يعضدان فسخ العقد وفسخ العقد مملوك لهما فثبت الفسخ في حق الناس كافة كما إذا كان قبل القبض أو كان الفسخ بقضاء القاضى.   1 ثبت في الأصل [أقضى] ولعل الصواب ما أثبتناه. 2 الإقالة هي أن يقول المتبايعان: تقايلنا أو تفاسخنا أو يقول أحدهما: أقلتك فيقول الآخر: قبلت وما أشبهه انظر روضة الطالبين "3/594". 3 ومسألة: كون الإقالة فسخا أو بيعا قولان عند الشافعية. أظهرهما فسخ وقيل: القولان في لفظ الإقالة انظر روضة الطالبين "3/495". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 407 والدليل على أن الفسخ مملوك لهما ثبوت الفسخ في حقهما وقد ذكر هذا الرجل كلام أصحابه في أن الإقالة فسخ [ ..... ] 1 على أنفسهما ولا ولاية لهما على غيرهما وقد وجد تناقل الملك بالتراضى وكان [ ..... ] 2 وأما قبل القبض فلا يمكن بجعله بيعا جديدا فلا بد أن يكون فسخا في حق الناس [ ..... ] 3 لأن له ولاية على الناس كافة فلا يمكن أن يجعل فسخا في حق [ ..... ] 4. وأما عندنا فنقول: يعتبر قصد المتعاقدين فماذا [ ..... ] 5 وإذا قصد الفسخ يكون فسخا [ ..... ] 6 فصل صحيح يشهد له كل الأصول فإن العقود والفسوخ مرتبة على [ ..... ] 7 والفاسخين وأما التفريق بين المتعاقدين وغير المتعاقدين شئ عجب لا يعرف لذلك معنى بحال. وأما الذى قال أن لهما ولاية على أنفسهما. قلنا: [إن حكم] 8 العقود والفسوخ راجعة إلى المتعاقدين وإن رجع إلى غير المتعاقدين فذلك يكون على النادر وإذا كان المعقود فسخا في حق المتعاقدين فلا بد أن يكون فسخا في حق غيرهما. وحين انتهينا إلى هذا الموضع تم المقصود في هذا الفصل الذى أوردنا فيه كلام الخصوم في المسائل التي أشرنا إليها وتكلمنا عليها بما سنح له الوقت وجاد به الخاطر وتمام ذلك في خلافيات الفروع وقد ذكرنا أكثر ذلك في المصنف الذى صنفناه فيه فمن أراد أكثر مما قلنا فليرجع إليه فيه والله تعالى المعين على ذلك والمرشد إلى الصواب والحق وهو خير معين.   1 بياض في الأصل بمقدار عشر كلمات. 2 بياض في الأصل بمقدار ثمان كلمات. 3 بياض في الأصل بمقدارخمس عشرة كلمة. 4 بياض في الأصل بمقدار عشرين كلمة. 5 بياض في الأصل بمقدار ثمان كلمات. 6 بياض في الأصل بمقدار كلمتين. 7 بياض في الأصل بمقدار خمس كلمات. 8 بياض في الأصل ولعل الصواب ما أثبتناه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 408 وتم الكتاب المبارك بحمد الله تعالى ومنه وصلواته على محمد خير خلقه وأله وصحبه أجمعين على يد أضعف العباد وأحوجهم أحمد بن عبد الله المصرى تعليقا بحسب الطاقة بتاريخ خامس عشر ذى الحجة الحرام من شهور سنة خمس عشر وثمان مائة أحسن الله عاقبتها وغفر للكاتب وللقارئ وللمجتهد ولجميع المسلمين أجمعين آمين1.   1 وقد انتهينا بفضل الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد من تحقيق وضبط هذا النص بعد عمل دام سنة ونصف فخرج على هذا النحو الضعيف الحقير فنسأل الله العفو والعافية. طالب العلم: أبو عبد الله محمد حسن محمد حسن إسماعيل الشافعي الشهير بـ[محمد فارس] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 409