الكتاب: فتوح الشام المؤلف: محمد بن عمر بن واقد السهمي الأسلمي بالولاء، المدني، أبو عبد الله، الواقدي (المتوفى: 207هـ) الناشر: دار الكتب العلمية الطبعة: الأولى 1417هـ - 1997م عدد الأجزاء: 2   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- فتوح الشام الواقدي الكتاب: فتوح الشام المؤلف: محمد بن عمر بن واقد السهمي الأسلمي بالولاء، المدني، أبو عبد الله، الواقدي (المتوفى: 207هـ) الناشر: دار الكتب العلمية الطبعة: الأولى 1417هـ - 1997م عدد الأجزاء: 2   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] المجلد الأول إقبال الجند ... بسم الله الرحمن الرحيم. {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} . إقبال الجند. الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى إله وصحبه أجمعين. قال الإمام الواقدي رحمه الله تعالى آمين: حدثني أبو بكر بن الحسن بن سفيان بن نوفل بن محمد بن ابراهيم التيمي ومحمد بن عبد الله الأنصاري وأبو سعيد مولى هشام ومالك بن أبي الحسن وإسماعيل مولى الزبير ومازن بن عوف من بني النجار كل حدث عن فتوح الشام بما كان قالوا جميعا: إنه لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف بعده أبو بكر الصديق رضي الله عنه قتل في خلافته مسيلمة الكذاب الذي ادعى النبوة وقاتل بني حنيفة وأهل الردة وأطاعته العرب فعزم أن يبعث جيشه إلى الشام وصرف وجهه لقتال الروم فجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد وقام فيهم خطيبا فحمد الله عز وجل وقال: يا أيها الناس رحمكم الله تعالى اعلموا أن الله فضلكم بالإسلام وجعلكم من أمة محمد عليه الصلاة والسلام وزادكم ايمانا ويقينا ونصركم نصرا مبينا وقال فيكم: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة: 3] واعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عول أن يصرف همته إلى الشام فقبضه الله إليه واختار له ما لديه إلا وإني عازم أن اوجه ابطال المسلمين إلى الشام بأهليهم ومالهم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنبأني بذلك قبل موته وقال: "زويت لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها" فما قولكم في ذلك فقالوا: يا خليفة رسول الله مرنا بأمرك ووجهنا حيث شئت فإن الله تعالى فرض علينا طاعتك فقال تعالى: {يَا أيها الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ منكم} [النساء: 59] ففرح أبو بكر رضي الله عليه ونزل عن المنبر وكتب الكتب إلى ملوك اليمن وأهل مكة وكانت الكتب فيها نسخة واحدة. وهي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 بسم الله الرحمن الرحيم سلام عليكم. أما بعد فاني أحمد الله الذي لا إله إلا هو وأصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وقد عزمت أن أوجهكم إلى بلاد الشام لتأخذوها من أيدي الكفار والطغاة فمن عول منكم على الجهاد والصدام فليبادر إلى طاعة الملك العلام ثم كتب: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأنفسكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 41] الآية ثم بعث الكتب إليهم وأقام ينتظر جوابهم وقدومهم وكان الذي بعثه بالكتب إلى اليمن أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فما مرت الأيام حتى قدم أنس رضي الله عنه يبشره بقدوم أهل اليمن وقال: يا خليفة رسول الله وحقك على الله ما قرأت كتابك على أحد إلا وبادر إلى طاعة الله ورسوله وأجاب دعوتك وقد تجهزوا في العدد والعديد والزرد النضيد وقد أقبلت إليك يا خليفة رسول الله مبشرا بقدوم الرجال وأي رجال وقد أجابوك شعثا غبرا وهم أبطال اليمن وشجعانها وقد ساروا إليك بالذراري والأموال والنساء والأطفال وكأنك بهم وقد أشرفوا عليك ووصلوا إليك فتأهب إلى لقائهم قال فسر أبو بكر رضي الله عنه بقوله سرورا عظيما وأقام يومه ذلك حتى إذا كان من الغد اقبلوا إلى الصديق رضي الله عنه وقد لاحت غبرة القوم لأهل المدينة قال فاخبروه فركب المسلمون من أهل المدينة وغيرهم واظهروا زينتهم وعددهم ونشروا الأعلام الإسلامية ورفعوا الألوية المحمدية فما كان إلا قليل حتى أشرفت الكتائب والمواكب يتلو بعضها بعضا قوم في أثر قوم وقبيلة في أثر قبيلة فكان أول قبيلة ظهرت من قبائل اليمن حمير وهم بالدروع الداودية والبض العادية والسيوق الهندية وأمامهم ذو الكلاع الحميري رضي الله عنه فلما قرب من الصديق رضي الله عنه أحب أن يعرفه بمكانه وقومه وأشار بالسلام وجعل ينشد ويقول: أتتك حمير بالأهلين والولد ... أهل السوابق والعالون بالرتب أسد غطارفة شوس عمالقة ... يردوا الكماء غدا في الحرب بالقضب الحرب عادتنا والضرب همتنا ... وذو الكلاع دعا في الأهل والنسب دمشق لي دوت كل الناس اجمعهم ... وساكنيها سأهويهم إلى العطب قال: فتبسم أبو بكر الصديق رضي الله عنه من قوله ثم قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: يا أبا الحسن أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا أقبلت حمير ومعها نساؤها تحمل أولادها فأبشر بنصر الله على أهل الشرك أجمعين" فقال الإمام علي صدقت وأنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أنس رضي الله عنه وسارت حمير بكتائبها وأموالها وأقبلت من بعدها كتائب مذحج أهل الخير العتاق والرماح الدقاق وأمامهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 سيدهم قيس بن هبيرة المرادي رضي الله عنه فلما وصل إلى الصديق رضي الله عنه جعل يقول: صلوا على طه الرسول: أتتك كتائب منا سرعا ... ذوو التيجان أعني من مراد فقدمنا أمامك كي ترانا ... نبيد القوم بالسيف النجادى قال: فجزاه أبو بكر رضي الله عنه خيرا وتقدم بكتائبه ومواليه وتقدمت من بعده قبائل طيىء يقدمها حارث بن مسعد الطائي رضي الله عنه فلما وصل هم أن يترجل فأقسم عليه أبو بكر رضي الله عنه بالله تعالى أن لا تفعل فدنا منه فصافحه وسلم عليه وأقبلت الأزد في جموع كثيرة يقدمها جندب بن عمرو الدوسي رضي الله عنه ثم جاءت من بعدهم بنو عبس يقدمهم الأمير ميسرة بن مسروق العبسي رضي الله عنه وأقبلت من بعدهم بنو كنانة يقدمهم غيثم بن اسلم الكناني وتتابعت قبائل اليمن يتلو بعضها بعضا ومعهم نساؤهم وأموالهم فلما نظر أبو بكر رضي الله عنه إلى نصرتهم سر بذلك وشكر الله تعالى وانزل القوم حول المدينة كل قبيلة متفرقة عن صاحبتها واستمروا فأضر بهم المقام من قلة الزاد وعلف الخيل وجدوبة الأرض فاجتمع أكابرهم عند الصديق رضي الله عنه وقالوا: يا خليفة رسول الله إنك أمرتنا بأمر فأسرعنا لله ولك رغبة في الجهاد وقد تكامل جيشنا وفرغنا من أهبتنا والمقام قد أضر بنا لأن بلدك ليست بلد جيش ولا حافر ولا عيش والعسكر نازل فإن كنت قد بدلت فيما عزمت عليه فأمرنا بالرجوع إلى بلدنا وأقبل الجميع وخاطبوه بذلك فلما فرغوا من كلامهم قال أبو بكر رضي الله عنه: يا أهل اليمن ومن حضر من غيرهم أما والله ما أريد لكم الأضرار وإنما أردنا تكاملكم قالوا: إنه لم يبق من ورائنا أحد فاعزم على بركة الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 وصية أبي بكر قال المؤلف رحمه الله تعالى: لقد بلغني أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قام من ساعته يمشي على قدميه وحوله جماعة من الأصحاب منهم عمر وعثمان وعلي رضي الله عنه وخرجوا إلى ظاهر المدينة ووقع النداء في الناس وكبروا بأجمعهم فرحا لخروجهم وأجابتهم الجبال لدوي أصواتهم وعلا أبو بكر على دابته حتى أشرف على الجيش فنظر إليهم قد ملئوا الأرض فتهلل وجهه وقال: اللهم انزل عليهم الصبر وأيدهم ولا تسلمهم إلى عدوهم: {إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 20] وكان أول من دعاه أبو بكر يزيد بن أبي سفيان وعقد له راية وأمره على ألف فارس من سائر الناس ودعا بعده رجلا من بني عامر بن لؤي يقال له ربيعة بن عامر وكان فارسا مشهورا في الحجاز فعقد له راية وأمره على ألف فارس ثم أقبل أبو بكر على يزيد بن أبي سفيان وقال له: هذا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 ربيعة بن عامر من ذوي العلا والفاخر قد علمت صولته وقد ضممته إليك وأمرتك عليه فاجعله في مقدمتك وشاوره في أمرك ولا تخالفه فقال يزيد حبا وكرامة وأسرعت الفرسان إلى لبس السلاح واجتمع الجند وركب يزيد بن أبي سفيان وربيعة بن عامر وأقبلا بقومهما إلى أبي بكر رضي الله عنه فأقبل يمشي مع القوم فقال يزيد: يا خليفة رسول الله الناجي من غضب الله من رضيت عنه لا نكون على ظهور خيولنا وأنت تمشي فأما أن تركب وأما أن ننزل فقال: ما أنا براكب وما أنتم بنازلين وسار إلى أن وصل إلى ثنية الوداع فوقف هناك فتقدم إليه يزيد فقال: يا خليفة رسول الله أوصنا فقال: إذا سرت فلا تضيق على نفسك ولا على أصحابك في مسيرك ولا تغضب على قومك ولا على أصحابك وشاورهم في الأمر واستعمل العدل وباعد عنك الظلم والجور فإنه لا افلح قوم ظلموا ولا نصروا على عدوهم: {إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال: 16] وإذا نصرتم على عدوكم فلا تقتلوا ولدا ولا شيخا ولا امرأة ولا طفلا ولا تعقروا بهيمة المأكول ولا تغدروا إذا عاهدتم ولا تنقضوا إذا صالحتم وستمرون على قوم في الصوامع رهبانا يزعمون إنهم ترهبوا في الله فدعوهم ولا تهدموا صوامعهم وستجدون قوما آخرين من حزب الشيطان وعبدة الصلبان قد حلقوا أوساط رؤوسهم حتى كأنها مناحيض العظام فاعلوهم بسيوفكم حتى يرجعوا إلى الإسلام أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون وقد استودعتكم الله ثم عانقه وصافحه وصافح ربيعة بن عامر وقال: يا عامر اظهر شجاعتك على بني الأصفر بلغكم الله آمالكم وغفر لنا ولكم قال: وسار القوم ورجع أبو بكر رضي الله عنه بمن معه إلى المدينة قال فجد القوم في السير فقال ربيعة بن عامر ما هذا السير يا يزيد وقد أمرك أبو بكر أن ترفق بالناس في سيرك فقال يزيد: يا عامر أنا أبا بكر رضي الله عنه سيعقد العقود ويرسل الجيوش فأردت أن اسبق الناس إلى الشام فلعلنا أن نفتح فتحا قبل تلاحق الناس بنا فيجتمع بذلك ثلاث خصال رضاء الله عز وجل ورضاء خليفتنا وغنيمة تأخذها فقال ربيعة فسر الآن ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم قال فأخذ القوم في السير على وادي القرى ليخرجوا على تبوك ثم على الجابية إلى دمشق قال: واتصل الخبر للملك هرقل من قوم من عرب اليمن المنتصرة كانوا في المدينة فلما صح عند الملك ذلك جمع بطارقته في عسكره وقال لهم: يابني الأصفر أن دولتكم قد عزمت على الانهزام ولقد كنتم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتقيمون الصلاة وتؤثرون الزكاة التي أمركم بها الآباء والأجداد والقسس والرهبان وتقيمون حدود الله التي أمركم بها في الإنجيل لا جرم إنكم ما قصدكم ملك من ملوك الوشاة ونازعكم على الشام إلا وقهرتموه ولقد قصدكم كسرى بجنود فارس فانكسروا على أعقابهم والان قد بدلتم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 وغيرتم فظلمتم وجرتم وقد بعث إليكم ربكم قوما لم يكن في الأمم أضعف منهم عندنا وقد رمتهم شدة الجوع إلينا وأتى بهم إلى بلادنا وبعثهم صاحب نبيهم ليأخذوا ملكنا من أيدينا ويخرجونا من بلادنا ثم إنه حدثهم بالذي سمعه من طرسيسه. فقالوا: أيها الملك نردهم عن مرادهم ونصل إلى مدينتهم ونخرب كعبتهم قال فلما سمع مقالتهم وتبين اغتياظهم جرد منهم ثمانية آلاف من أشجع فرسانهم وأمر عليهم خمسة من بطارقتهم وهم البطاليق وأخوه جرجيس وصاحب شرطته ولوقا بن سمعان وصليب بن حنا صاحب غزة وكانت هذه الخمسة البطارقة يضرب بهم المثل في الشجاعة والبراعة ثم تدرعوا واظهروا زينتهم وصلت عليهم الأمية صلاة العصر فقالوا: اللهم انصر من كان منا على الحق وبخروهم ببخور الكنائس ثم رشوا عليهم من ماء العمودية وودعوا الملك وساروا وأمامهم العرب المنتصرة يدلونهم على الطريق قال حدثني رفاعة عن ياسر بن الحصين قال بلغني أن أول من وصل إلى تبوك كان يزيد بن سفيان وربيعة بن عامر ومن معهما من المسلمين قبل وصول الروم بثلاثة أيام فلما كان في اليوم الرابع والمسلمون قد عموا بالرحيل إلى الشام إذ أقبل جيش الروم فلما رآه المسلمون أخذوا على أنفسهم وكمن ربيعة بأصحابه الألف وأقبل يزيد بأصحابه الألف ووعظهم وذكر الله تعالى وقال لهم: اعلموا أن الله وعدكم بالنصر وأيديكم بالملائكة وقال الله تعالى في كتابه العزيز: كم من: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249] وقد قال صلى الله عليه وسلم: "الجنة تحت ظلال السيوف" وأنتم أول جند دخل الشام وتوجه لقتال بني الأصفر فكأنكم بجنود الشام وإياكم أن تطمعوا تطعموا العدو فيكم وانصروا الله ينصركم فبينما يزيد يعظ الناس وإذا بطلائع الروم قد اقبلت وجيوشها قد ظهرت فلما رأوا قلة العرب طمعوا فيهم وظنوا إنه ليس ورائهم أحد فبربر بعضهم على بعض بالرومية وقالوا: دونكم من يريد أخذ بلادكم واستنصروا بالصليب فإنه ينصركم ثم حملوا وتلقاهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بهمم عالية وقلوب غير دانية ودار القتال بينهم وتكاثرت الروم عليهم وظنوا إنهم في قبضتهم إذ خرج عليهم ربيعة بن عامر رضي الله عنه بالكمين وقد اعلنوا بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير وحملوا على الروم حملة صادقة فلما عاينت الروم من خرج عليهم إنكسروا والقى الله الرعب في قلوبهم فتقهقروا إلى ورائهم ونظر ربيعة بن عامر إلى البطاليق وهو يحرض قومه على القتال فعلم إنه طاغية الروم فحمل عليه وطعنه طعنة صادقة فوقعت في خاصرته وطلعت من الناحية الأخرى فلما نظر الروم إلى ذلك ولوا الأدبار وركنوا إلى الفرار ونزل النصر على طائفة محمد المختار حدثنا سعد بن أوس عن السرية التي انفدها أبو بكر الصديق رضي الله عنه مع يزيد بن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 أبي سفيان وربيعة بن عامر قال قد اجتمعا بعساكر الروم في ارض تبوك مع البطاليق وهزمهم الله تعالى على أيدينا وكان جملة من قتل منهم الفا ومائتين ومن قتل من المسلمين مائة وعشرين رجلا قال: وأن القوم لما انهزموا قال لهم جرجيس: وهو أخو المقتول: يا ويلكم بأي وجه ترجعون إلى الملك وقد عملوا فينا عملا ذريعا وملئوا الأرض من قتلانا ولا ارجع حتى أخذ بثأر أخي أو الحق به قال: واجتمع القوم وسمعوا منه ذلك ورجع بعضهم إلى بعض وعادوا إلى القتال فلما استقروا في خيامهم بعثوا رجلا من العرب المنتصرة اسمه القداح وقالوا له: امضي إلى بني عمك وقل لهم يبعثوا لنا رجلا من كبارهم وعقلائهم حتى ننظر ما يريدون منا قال فركب القداح جواده واقبل نحو جيش المسلمين فلما رأوه مقبلا إليهم استقبله رجال من الأوس وقالوا له: ماذا تريد قال لهم: أن البطارقة يريدون رجالا من عقلائكم ليخاطبوهم فيما يريد الله من صلاح شأن الجمعين قال فأخبروا يزيد بن ربيعة بما قال المتنصر فقال ربيعة بن عامر أنا أسير إلى القوم. فقال يزيد: يا ربيعة أنا أخاف عليك من القوم لانك قد قتلت كبيرهم بالأمس فقال ربيعة {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:51] وإني أوصيك والمسلمين أن تكون همتكم عندي فإذا رأيتم القوم غدروا بي فاحملوا عليهم ثم ركب جواده وسار حتى أتى جيش الروم وقرب من سرداق أميرهم فقال القداح عظم جيش الملك وانزل عن جوادك فقال ربيعة رضي الله عنه ما كنت بالذي انتقل من العز إلى الذل ولست أسلم جوادي لغيري وما أنا بنازل إلا على باب السرداق وإلا رجعت من حيث جئت لاننا ما بعثنا إليكم بل انتم بعثتم إلينا قال فأعلم القداح الروم بما تكلم به ربيعة بن عامر فقال بعضهم لبعض صدق العربي في قوله دعوه ينزل حيث أراد قال فنزل ربيعة على باب السرداق وجثا على ركبته وأمسك عنان جواده بيده وسلاحه فقال له جرجيس: يا أخا العرب لم تكن أمة أضعف منكم عندنا وما كنا نحدث أنفسنا إنكم تغزوننا وما الذي تريدون منا فقال ربيعة نريد منكم أن تدخلوا في ديننا وأن تقولوا بقولنا وأن أبيتم تعطونا الجزية عن يد وانتم صاغرون وإلا فالسيف بيننا وبينكم فقال جرجيس فما منعكم أن تقصدوا الفرس وتدعون الصداقة بيننا وبينكم فقال ربيعة بدأنا بكم لانكم اقرب إلينا من الفرس وأن الله تعالى أمرنا في كتابه بذلك قال الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة: 123] قال جرجيس فهل لك أن تعقد الصلح بيننا وبينكم وأن نعطي كل رجل منكم دينارا من ذهب وعشرة أوسق من الطعام وتكتبوا بيننا وبينكم كتاب الصلح لا تغزون إلينا ولا نغزوا إليكم قال ربيعة لا سبيل إلى ذلك وما بيننا وبينكم إلا السيف أو اداء الجزية أو الإسلام قال جرجيس أما ما ذكرت من دخولنا في دينكم فلا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 سبيل إلى ذلك ولو نهلك عن آخرنا لاننا لا نرى لديننا بدلا واما اعطاء الجزية فإن القتل عندنا أيسر من ذلك وما انتم بأشهى منا إلى القتال والحرب والنزال لأن فينا البطارقة وأولاد الملوك ورجال الحرب وارباب الطعن والضرب قال جرجيس لأصحابه علي بأنفس صقالبة حتى يناظروا هذا البدوي في كلامه قال: وكان الملك هرقل قد بعث معهم قسيسا عظيما عارفا بدينهم مجادلا عن شرعهم قال فأتى الحاجب به فلما استقر به الجلوس قال له جرجيس: يا أبانا استخبر من هذا الرجل عن شريعتهم وعن دينهم فقال القسيس يا اخي العربي أنا نجد في عملنا أن الله تعالى يبعث من الحجاز نبيا عربيا هاشميا قرشيا علامته أن الله تعالى يسري به إلى السماء أكان ذلك أم لا قال: نعم اسري به وقد ذكره ربنا في كتابه العزيز بقوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [الاسراء: 1] قال القسيس أنا نجد في كتابنا أن ربنا يفرض على هذا النبي وأمته شهرا يصومونه يقال له: شهر رمضان قال ربيعة: نعم وقد قرأنا في القرآن العظيم شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فقال القسيس أنا وجدنا في كتابنا أن من أحسن حسنة تكتب بعشرة قال ربيعة: نعم قال الله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [الأنعام:160] قال القسيس أنا نجد في كتابنا أن الله يأمر أمته بالصلاة عليه قال ربيعة: نعم وقد قال الله في كتابه العزيز: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أيها الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] قال فعجب القسيس من كلامه وقال للبطارقة أن الحق مع هؤلاء القوم فقال بعض الحجاب أن هذا هو الذي قتل أخاك فلما سمع ذلك ازورت عيناه وغضب غضبا شديدا وهم أن يثب على ربيعة ففهم ربيعة ذلك منه فوثب من مكانه اسرع من البرق وضرب بيده إلى قائم سيفه وعاجل جرجيس بضربة فجندله صريعا قتيلا ووثب على فرسه فركبها فاسرعت البطارقة إليه وهو راكب فحمل فيهم ونظر يزيد بن أبي سفيان إلى ذلك فقال للمسلمين أن اعداء الله قد غدروا بصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدونكم وإياهم فحمل المسلمون على المشركين واختلط الجيش بالجيش وصبرت الروم لقتال العرب فبينما هم في القتال إذ أشرفت جيوش المسلمين مع شرحبيل بن حسنة كاتب وحي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما نظر المسلمون إلى أخوانهم في القتال حملوا على القوم حملة صادقة وحكمت سيوفهم في قمم الروم. قال الواقدي: لقد بلغني أن الثمانية آلاف المذكورة من الروم لم ينج منهم أحد لأن العرب التقطوهم بسبق الخيل وبعد الشام من تبوك ثم أن المسلمين أخذوا أموالهم وخيامهم ثم سلموا على شرحبيل ومن معه وجمعوا المال والغنائم فقالوا: نبعث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 الجميع إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه فرضوا بذلك وبعثوا الجميع إلا العدة والسلاح وبعثوا مع الغنائم والأموال شداد بن أوس رضي الله عنه في خمسمائة فارس ولما وصل بالمال إلى المدينة المنورة وعاين المسلمون أموال المشركين رفعوا أصواتهم بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير محمد صلى الله عليه وسلم وسمع الصديق بقدوم شداد بن أوس رضي الله عنه ومن معه من المسلمين ففرح بذلك فرحا شديدا ثم اقبلوا إلى الصديق واعلموه بالفتح بعد أن سلموا عليه فسجد لله عز وجل ثم كتب كتابا إلى أهل مكة يستدعيهم للجهاد مضمونه بسم الله الرحمن الرحيم من أبي بكر إلى أهل مكة وسائر المؤمنين فانيأحمد الله الذي لا إله إلا هو واصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. أما بعد فاني قد استنفرت المسلمين إلى الجهاد وفتح بلاد الشام وقد كتبت إليكم والى المسلمين أن تسرعوا إلى ما أمركم به ربكم تبارك الله وتعالى إذ يقول الله عز وجل: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأنفسكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ أن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة:41] وهذه الآية فيكم وانتم أحق بها وأهلها وأول من صدق وقام بحكمها من ينصر دين الله فالله ناصره ومن بخل استغنى الله عنه والله غني حميد فسارعوا إلى جنة عالية قطوفها دانية أعدها الله للمهاجرين والأنصار فمن اتبع سبيلهم كتب من الأولياء الأخيار وحسبنا الله ونعم الوكيل قال: وختم الكتاب ودفعه إلى عبد الله بن حذافة فأخذه وسار حتى وصل مكة وصرخ في أهلها فاجتمعوا إليه فدفع إليهم الكتاب فقرأوه على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما سمعوه قال سهل ابن عمرو والحرث بن هشام وعكرمة بن أبي جهل وقالوا: اجبنا داعي الله وصدقنا قول نبيه محمد صلى الله عليه وسلم فأما عكرمة فإنه قال إلى متى نبسط لأنفسنا وقد سبقنا القوم إلى المواطن وقد فاز من فاز بالصدق وأن كنا تأخرنا عن السبق فاللحاق بالسابقين يجعلنا من الفائزين ثم خرج عكرمة بن أبي جهل في بني مخزوم وخرج الحرث بن هشام معهم وتلاحق أهل مكة خمسمائة رجل وكتب أبو بكر للطائف فخرجوا في أربعمائة رجل. قال الواقدي: خرج بهم سعيد بن خالد بن سعيد بن العاص وكان غلاما نجيبا وذلك أن سعيد بن خالد أتى إلى الصديق رضي الله عنه فقال: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم إنك أردت أن تعقد لأبي خالد راية ويكون قائدا من قواد جيشك فتكلم فيه المتكلمون فعزلته حين رجع من بعثك وقد حبس نفسه في سبيل الله عز وجل ولم أزل مجيبا دعوتك في بعثك فهل لك أن تقدمني على هذا الجيش فوالله لا يراني الله وانيا ابدا ولا عاجزا عن الحرب قال: وكان سعيد بن خالد نجيبا انجب من ابيه وأفرس فعقد له أبو بكر راية ودفعها إليه وأمره على الفين من العرب قال فلما سمع عمر بن الخطاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 كلام سعيد بن خالد وانه خير من أن يكون أميرا كره لك ذلك وأقبل على الصديق رضي الله عنه يا خليفة رسول الله عقدت هذه الراية لسعيد بن خالد على من هو خير منه ولقد سمعته يقول عندما عقدتها على رغم الأعادي والله لتعلم إنه ما يريد بالقول غيري والله ما تكلمت في أبيه. قال الواقدي: فثقل ذلك على أبي بكر وكره أن لا يعقد له وكره ايضا أن يخالف عمر لمحبته له ونصحه ومنزلته عند النبي صلى الله عليه وسلم ووثب قائما ودخل على عائشة رضي الله عنها واخبرها بخبر عمر بن الخطاب رضي الله عنه وما كان من كلامه فقالت عائشة: قد علمت أن عمر ينصر الدين ويريد النصر لرب العالمين وما في قلب عمر بغض للمسلمين قال فقبل قول عائشة رضي الله عنها ثم دعا بأزد الدوسي وقال له: امض إلى سعيد بن خالد وقل له رد علينا رأيتك قال فردها وقال: والله لاقتلن تحت راية أبي بكر حيث كان فاني قد حبست نفسي في سبيل الله. قال الواقدي: ولقد بلغني أن الصديق حال تفكره فيمن يقدم طليعة الجيش قال فتقدم إليه سهل بن عمرو وعكرمة بن أبي جهل وهشام بن الحرث وقالوا: اشهدوا اننا قد حبسنا أنفسنا في سبيل الله فلا نرجع عن القتال ابدا فقال أبو بكر اللهم بلغهم أفضل ما يؤملون ثم أن أبا بكر دعا عمرو بن العاص فسلم إليه الرايه وقال قد وليتك على هذا الجيش يعني أهل مكة والطائف وهوران وبني كلاب فانصرف إلى ارض فلسطين وكاتب أبا عبيدة وأنجده إذا أرادك ولا تقطع أمرا إلا بمشورته أمض بارك الله فيك وفيهم قال فأقبل عمرو بن العاص على عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال له: يا أبا حفص أنت تعلم شدتي على العدو وصبري على الحرب فلو كلمت الخليفة أن يجعلني أميرا على أبي عبيدة وقد رأيت منزلتي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وإني أرجو أن يفتح الله على يدي البلاد ويهلك الأعداء قال عمر رضي الله عنه ما كنت بالذي اكذبك وما كنت بالذي اكلمه في ذلك فإنه ليس على أبي عبيدة أمير ولأبي عبيدة عندنا أفضل منزلة منك وأقدم سابقة منك والنبي صلى الله عليه وسلم قال فيه أبو عبيدة أمين الأمة قال عمرو ما ينقص من منزلته إذا كنت واليا عليه قال عمر بن الخطاب: ويلك يا عمرو إنك ما تطلب بقولك هذا إلا الرياسة والشرف فاتق الله ولا تطلب إلا شرف الاخرة ووجه الله تعالى فقال عمرو بن العاص أن الأمر كما ذكرت ثم أمر الناس بالمسير تحت رأيته فساروا وتقدم أهل مكة وتبعهم بنو كلاب وطيء وهوزان وثقيف وتخلف المهاجرون والأنصار ليسيروا مع أبي عبيدة بن الجراح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 وصية الصديق لعمرو بن العاص وتقدم عمرو بن العاص وسار قال أبو الدرداء كنت مع عمرو بن العاص في جيشه فسمعت أبا بكر يقول وهو يوصيه: اتق الله في سرك وعلانيتك واستحيه في خلواتك فإنه يراك في عملك وقد رأيت تقدمتي لك على من هو أقدم منك سابقة واقدم حرمة فكن من عمال الاخرة وأرد بعملك وجه الله وكن والدا لمن معك وارفق بهم في السير فإن فيهم أهل ضعف والله ناصر دينه ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون وإذا سرت بجيشك فلا تسر في الطريق التي سار فيها يزيد وربيعة وشرحبيل بل اسلك طريق أيليا حتى تنتهي إلى ارض فلسطين وابعث عيونك يأتونك بأخبار أبي عبيدة فإن كان ظافرا بعدوه فكن أنت لقتال من في فلسطين وأن كان يريد عسكرا فأنفذ إليه جيشا في أثر جيش وقدم سهل بن عمرو وعكرمة بن أبي جهل والحرث بن هشام وسعيد ابن خالد وإياك أن تكون وانيا عما ندبتك إليه وإياك والوهن أن تقول جعلني ابن أبي قحافة في نحر العدو ولا قوة لي به وقد رأيت يا عمرو ونحن في مواطن كثيرة ونحن نلاقي ما نلاقي من جموع المشركين ونحن في قلة من عدونا ثم رأيت يوم حنين ما نصر الله عليهم واعلم يا عمرو أن معك المهاجرين والأنصار من أهل بدر فاكرمهم واعرف حقهم ولا تتطأول عليهم بسلطانك ولا تداخلك نجدة الشيطان فتقول إنما ولاني أبو بكر لاني خيرهم وإياك وخداع النفس وكن كأحدهم وشاورهم فيما تريد من أمرك والصلاة ثم الصلاة اذن بها إذا دخل وقتها ولا تصل صلاة إلا بأذان يسمعه أهل العسكر ثم ابرز وصل بمن رغب في الصلاة معك فذلك افضل له ومن صلاها وحده أجزأته صلاته واحذر من عدوك وأمر أصحابك بالحرس ولتكن أنت بعد ذلك مطلعا عليهم وأطل الجلوس بالليل على أصحابك وأقم بينهم وأجلس معهم ولا تكشف استار الناس واتق الله إذا لاقيت العدو وإذا وعظت أصحابك فأوجز واصلح نفسك تصلح لك رعيتك فالإمام ينفرد إلى الله تعالى فيما يعلمه وما يفعله في رعيته وإني قد وليتك على من قد مررت من العرب فاجعل كل قبيلة على حميتها وكن عليهم كالوالد الشفيق الرفيق وتعاهد عسكرك في سيرك وقدم قبلك طلائعك فيكونوا امامك وخلف على الناس من ترضاه وإذا رايت عدوك فاصبر ولا تتأخر فيكون ذلك منك فخرا والزم أصحابك قراءة القرآن وانههم عن ذكر الجاهلية وما كان منها فإن ذلك يورث العداوة بينهم وأعرض عن زهرة الدنيا حتى تلتقي بمن مضى من سلفك وكن من الإئمة الممدوحين في القرآن إذ يقول الله تعالى: {وجعلناهم آئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات واقام الصلاة وايتاء الزكاة وكانوا لنا عبدين} قال فكان أبو بكر رضي الله عنه يوصي عمرو بن العاص وأبو عبيدة حاضر ثم قال سيروا على بركة الله تعالى وقاتلوا اعداء الله وأوصيكم بتقوى الله فإن الله ناصر من ينصره قال فسلم المسلمون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 عليه وودعوا وساروا في تسعة آلاف مع من ذكرنا يريدون أخذ فلسطين فلما كان بعدهم بيوم واحد عقد العقود والرايات إلى أبي عبيدة بن الجراح وأمره بأن يقصد بمن معه ارض الجابية وقال: يا أمين الأمة قد سمعت ما وصيت به عمرو بن العاص وودعه المسلمون فلما عاد أبو بكر والمسلمون دعا بخالد بن الوليد وعقد له راية وكانت له راية النبي صلى الله عليه وسلم وأمره على لخم وجذام وضم له جيش الزحف وكانوا شجعانا ما منهم إلا من شهد الوقائع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: يا أبا سليمان قد وليتك على هذا الجيش فاقصد به ارض العراق وفارس وارجوا الله أن ينصركم ثم إنه ودعه وسار خالد بمن معه يطلب العراق. قال حدثني ربيعة بن قيس قال كنت في الجيش الذي وجهه أبو بكر الصديق مع عمرو بن العاص إلى فلسطين وايليا وكان صاحب رايته سعيد بن خالد قال: وبعث أبو بكر مع كل جيش اميرا وهو يدعوا لهم بالنصر وأخذه القلق على المسلمين حتى عرف ذلك في وجهه فقال له عثمان بن عفان رضي الله عنه: ما هذا الغم الذي نزل بك فقال اغتممت على جيوش المسلمين وارجوا الله أن ينصرهم على عدوهم فقال عثمان والله ما خرج جيش سررت به إلا هذا الجيش الذي سار إلى الشام وهذا الذي اوصى الله نبيه به وليس في قوله خلف وأنا سنظهر على الروم وفارس ولكن ما ندري متى يكون أفي هذا البعث أو غيره ولكنأحسن الظن بالله قال: وبات الصديق فرأى في منامه كأن عمرو بن العاص وجهه طرمة هو وأصحابه ثم قصد عمرو ارضا خضرة سهلة وفرجة فحمل على فرسه ثم أتبعه أصحابه فإذا هم في ارض واسعة فنزلوا واستراحوا قال: وانتبه أبو بكر من منامه فرحا بما رأى فقال عثمان يدل على فتح إلا إنه يوشك أن يلقى عمرو في قتال المشركين مشقة عظيمة ثم يخلص منها. قال الواقدي: كانت الساقطة تنزل المدينة في الجاهلية والإسلام يقدمون بالبر والشعير والزيت والتين والقماش وما يكون في الشام فقدم بعض الساقطة إلى المدينة وابو بكر ينفذ الجيوش وسمعوا كلام أبي بكر لعمرو بن العاص وهو يقول: عليك بفلسطين وايليا قال فساروا بالخبر إلى الملك هرقل فلما سمع ذلك جمع أرباب دولته وبطارقته واعلمهم بالحديث الذي جرى وقال: يا بني الأصفر هذا الذي كنت حذرتكم منه قديما وأن أصحاب هذا النبي لا بد أن تملك ما تحت سريري هذا وقد قرب الوعد وأن خليفة محمد قد انفذ لكم الجيوش وكأنكم بهم وقد أتوكم وقصدوا نحوكم فحذروا أنفسكم وقاتلوا عن دينكم وعن حريمكم فإن تهاونتم ملكت العرب بلادكم وأموالكم قال: فبكى القوم فقال لهم: دعوا عنكم البكاء ثم قال له وزيره: أيها الملك قد اشتهينا أن تدعو بعض من قدم بهذا الخبر عليك فأمر هرقل بعض حجابه أن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 يأتي برجل من المتنصرة ممن قدم عليه بالأخبار برجل منهم فقال له الملك: كم عهدك قال منذ خمسة وعشرين يوما قال: فمن المتولي عليهم قال له رجل يقال له أبو بكر الصديق: وجه جيوشه إلى بلدك قال هل رأيت أبا بكر قال: نعم وانه أخذ مني شملة بأربعة دراهم وجعلها على كتفه وهو كواحد منهم وهو يمشي في ثوبين ويطوف بالاسواق ويدور على الناس يأخذ الحق من القوي للضعيف قال هرقل: صفه لي قال هو رجل آدم اللون خفيف العارضين فقال هرقل: وحق ديني هو صاحبأحمد الذي كنا نجد في كتبنا إنه يقوم بالأمر من بعده ونجد في كتبنا أيضا أن بعد هذا الرجل رجلا آخر طويلا كالاسد الوثاب يكون على يديه الدمدمة والجلاء قال فشهق المتنصر من قول هرقل وقال أن هذا الذي وصفته لي رأيته معه لا يفارقه قال هرقل: هذا الأمر والله قد صح وقد دعوت الروم إلى الرشد والصلاح فأبوا أن يطيعوني وأن ملكي سوف ينهدم ثم عقد صليبا من الجوهر وأعطاه قائد جيوشه روبيس وقال له: قد وليتك على الجيوش فسيروا لمنع العرب من فلسطين فإنها بلد خصب كثيرة الخير وهي عزنا وجاهنا وتاجنا فتسلم روبيس الصليب وسار من يومه إلى أجنادين واتبعه جيش الروم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 عمرو بن العاص في فلسطين قال الواقدي: لقد بلغني أن عمرو بن العاص توجه إلى ايليا حتى وصل إلى ارض فلسطين هو ومن معه قال فلما نزل المسلمون بفلسطين جمع عمرو المسلمين المهاجرين والأنصار وشاورهم في امرهم فبينما هم في المشورة إذ أقبل عليهم عدي بن عامر وكان من خيار المسلمين وكان كثيرا ما يتوجه إلى بلاد الشام وداس ارضهم وعرف مساكنها ومسالكها فلما اشرف على المؤمنين داروا به واوقفوه بين يدي عمرو بن العاص فقال عمرو بن العاص ما الذي وراءك يا ابن عامر قال: ورائي المتنصرة وجنودهم مثل النمل فقال له عمرو: يا هذا لقد ملأت قلوب المسلمين رعبا وأنا نستعين بالله عليهم فقال له: فكم حزرت القوم فقال: أيها الأمير إني قد علوت على شرف من الجبال عال فرأيت من الصلبان والرماح والأعلام ما قد ملأ الأجم وهو اعظم جبل بأرض فلسطين وهم زيادة عن مائة ألف فارس وهذا ما عندي من الخبر قال فلما سمع عمرو ذلك قال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ثم أقبل على من حضر من كبار المسلمين وقال: أيها الناس أنا وإياكم في هذا الأمر بالسواء فاستعينوا بالله على الأعداء وقاتلوا عن دينكم وشرعكم فمن قتل كان شهيدا ومن عاش كان سعيدا فماذا أنتم قائلون قال فتكلم كل رجل بما حضر عنده من الرأي فقالت طائفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 منهم: أيها الأمير ارجع بنا إلى البرية حتى نكون في بطن البيداء فانهم لا يقدرون على فراق القرى والحصون فإذا جاءهم الخبر اننا توسطنا البرية يتفرق جمعهم وبعد ذلك نعطف عليهم وهم على غفلة فنهزمهم أن شاء الله تعالى فقال سهل بن عمرو أن هذه مشورة رجل عاجز فقال رجل من المهاجرين لقد كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نهزم الجمع الكثير بالجمع القليل وقد وعدكم الله النصر وما وعد الصابرين إلا خيرا وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة: 123] قال سهل ابن عمرو أما أنا فلا رجعت عن قتال الكفرة ولا رددت سيفي عنهم فمن شاء فلينهض ومن شاء فليرجع ومن نكص على عقبيه فأنا وراءه بالمرصاد قال فلما سمع المسلمون إنه وافقه على ذلك عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قالوا: أحسنت يا أبا الفاروق قال ثم أن عمرو بن العاص عقد راية واعطاها عبد الله بن عمر بن الخطاب وضم إليه ألف فارس فيهم رجال من الطائف ومن ثقيف وأمرهم بالمسير فسار عبد الله وجعل يجد السير بقية يومه إلى الصباح وإذا بغبرة القوم قد لاحت فقال عبد الله بن عمر هذه غبرة عسكر واظنها طليعة القوم ثم وقف ووقف امامه أصحابه فقال قوم من البادية اتركنا نرى ما هذه الغبرة فقال: لا تتفرقوا من بعضكم حتى نرى ما هي فوقف الناس وإذا بالغبرة قد قربت وانكشفت عن عشرة آلاف من الروم وقد بعث معهم روبيس بطريقا من أصحابه وكانوا قد ساروا يكشفون خبر المسلمين فلما نظرهم عبد الله بن عمر قال لأصحابه: لا تمهلوهم لانهم لا بد لهم منكم والله ينصركم عليهم واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف قال فأعلن القوم بقول لا إله إلا الله محمد رسول الله فلما جهروا بها أجابهم الشجر والمدر والدواب والحجر وكان أول من حمل عكرمة بن أبي جهل وتبعه سهل بن عمرو والضحاك أيضا بالجملة وصاح في رجاله وحمل المهاجرون والأنصار معهم والتقى الجمعان وعمل السيف في الفريقين قال عبد الله بن عمر وبينما أنا في الوقعة إذ نظرت من القوم بطريقا عظيم الخلقة وهو كالحائر البليد وهو يركض يمينا وشمالا فقلت: إن يكن لهذا الجيش عين فهذا عين الجيش وصاحب الطلائع وهو مرغوب من الحرب فلما حملت عليه ومددت قناتي إليه نفر فرسه من الرمح فقربت منه واوهمته إني أريد الانهزام ثم عطفت عليه وطعنته فوالله لقد خيل لي إني ضربت بسيفي حجرا وسمعت طنين السيف حتى حسبت أن سيفي انفصل وإذا هو صريع ثم عطفت عليه واخذت لامته فلما رأى المشركون صاحبهم مجندلا داخلهم الفزع والهلع وصدمهم المسلمون في الضرب والقتال فلله در الضحاك والحرث بن هشام لقد قاتلا قتالا شديدا ما عليه من مزيد فما كان غير قليل حتى انهزم الكفار من بين ايديهم هاربين قال فرجع المسلمون واجتمع بعضهم على بعض وجمعوا الغنائم والأموال وقال بعضهم لبعض ما فعل الله بعبد الله بن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 عمر قال قائل منهم الله خبير بحسن زهده وعبادته وقال اخرون لقد أصبنا بابن عمر فما كان يساوي هذا الفتح شعرة من رأسه. قال عبد الله بن عمر وأنا مع ذلك أسمع كلامهم خلف الراية فاعلنت بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير وهززت الراية فلما نظر المسلمون الراية سارعوا إلى وقالوا: أين كنت فقلت: اشتغلت بقتال صاحبهم فقالوا: أفلح والله وجهك فهذا والله فتح قد رزقنا الله إياه ببركتك قال عبد الله: بوجوهكم ثم حازوا الأموال والغنائم والخيل وستمائة أسير وقتل من المسلمين سبعة نفر فواروهم وصلى عليهم ابن عمر وانعطف الجيش إلى عمرو بن العاص وحدثوه بما جرى ففرح وحمد الله تعالى ثم دعا بالأسرى واستنطق منهم بالعربية فما كان فيهم غير ثلاثة نفر من أنباط الشام فسألهم عن خبرهم وخبر أصحابهم فقالوا: يا معشر العرب أن هذا روبيس قد أقبل في مائة ألف فارس وقد امره الملك أن لا يدعأحدا من العرب يصل ايليا وانه بعث بهذا البطريق طليعة وقد قتل وكأنكم به فقال عمرو أن الله يقتله كما قتل صاحبكم ثم عرض عليهم الإسلام فماأحد منهم أسلم فقال عمرو للمسلمين كأنكم بصاحبهم وقد أتى يأخذ ثأرهم وهؤلاء تركهم علينا بلاء ثم أمر بضرب اعناقهم وصاح بالمسلمين استعدوا فاني أظن أن القوم سائرون فإن أتوا إلينا فهم في شدة وقوة وسنلقي منهم تعبا في القتال وأن سرنا إليهم نرجو من الله النصر والظفر بهم كما ظفرنا بغيرهم وما عودنا الله إلا خيرا قال أبو الدرداء بتنا مكاننا فلما جاء الله بالصباح رحلنا فما بعدنا غير قليل حتى اشرقت علينا عشرة صلبان تحت كل صليب عشرة آلاف فارس فلما أشرف الجيش على الجيش أقبل عمرو ورتب أصحابه وجعل في الميمنة الضحاك وفي الميسرة سعيدا وأقام على الساقة أبا الدرداء وثبت عمرو في القلب ومعه أهل مكة وأمر الناس يقرأون القرآن وقال لهم: اصبروا على قضاء الله وارغبوا في ثواب الله وجنته ثم إنه جعل يصفهم ويعبيهم تعبية الحرب ونظر روبيس بطريق الروم إلى عسكر المسلمين وقد صفهم عمر بن العاص لا يخرج سنان عن سنان ولا عنان عن عنان ولا ركان عن ركاب وهم كأنهم بنيان مرصوص وهم يقرأون القرآن والنور يلمع من نواصي خيولهم فشم منهم رائحة النصر وتبين من نفسه الجزع وعلم أن كل من معه كذلك فوقف ينظر ما يكون من المسلمين وانكسرت حميته قال: وكان أول من برز من جيش المسلمين سعيد ابن خالد رضي الله عنه وهو اخو عمرو بن العاص من امه فلما برز نادى برفيع صوته: ابرزوا يا أهل الشرك ثم حمل على الميمنة فالجأها إلى المسيرة وحمل على الميسرة فالجأها إلى الميمنة وقتل رجالا وجندل أبطالا ثم اقتحم فيهم فشوشهم وزعزع جيشهم قال فاجتمعوا عليه فقتلوه رحمة الله عليه قال فحزن المسلمون على قتله حزنا عظيما واكثرهم عمرو بن العاص وقال: واسعيداه لقد اشترى نفسه من الله عز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 وجل ثم قال: يافتيان من يحمل معي هذه الحملة حتى ننظر ما يكون من امرها وأنظر حال سعيد قال فاسرع بالإجابة ذو الكلاع الحميري وعكرمة بن أبي جهل والضحاك والحرث بن هشام ومعاذ بن جبل وابو الدرداء وعبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم اجمعين قال عبد الله وكنا سبعين رجلا وحملنا حتى دنونا من القوم وهم لا يفكرون من حملتنا لانهم جبال من حديد. قال الواقدي: رحمة الله عليه فلما رأى المسلمون ثبات الروم صاح بعضنا لبعض ابعجوا دوابهم فما هلاكهم غير ذلك قال فبعجنا دوابهم بالاسنة فتنكسوا فبعد انتكاسهم تفرق بعضهم عن بعض وحملوا علينا وحملنا عليهم وكنا فيهم كالشامة البيضاء في جلد البعير الأسود وكان شعارنا يوم فلسطين لا إله إلا الله محمد رسول الله يا رب انصر امة محمد صلى الله عليه وسلم قال أبو الدرداء: فلقد شغلني الحرب عن مناشدة الاشعار ولقد كان أحدنا لا يدري أهو يضرب أخاه أو عدوه من كثرة القتام قال فثبت المسلمون مع قتلهم وفوضوا امرهم إلى الله عز وجل وما كان أحد من المسلمين يضرب إلا وظهره ناطق بالدعاء يقول: اللهم انصرنا على من يتخذ معك شريكا قال عبد الله بن عمر بن الخطاب فلم يزل الحرب بيننا إلى وقت الزوال وهبت الرياح والناس في القتام إذ نظرت إلى السماء وقد انفرج فيها فرج وخرجت منها خيول شهب تحمل رايات خضرا أسنتها تلمع ومناد ينادي بالنصر ابشروا يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم فقد أتاكم الله بالنصر قال فلما كان غير قليل إذ نظرت إلى الروم منهزمين والمسلمون في أعقابهم لأن خيل العرب أسبق من خيل الروم قال ابن عمر فقتلنا في هذه الواقعة قريبا من خمسة عشر ألف فارس واكثر ولم نزل في آثارهم إلى الليل وعمرو بن العاص قد فرح بالنصر وقلبه متعلق بالمسلمين لاسراعهم وراء العدو وقال عمرو بن غياث فنظرت إلى عمرو بن العاص والراية في يده وقد أوفى القناة على عاتقه وهو يعركها بيده ويقول: من يرد الناس علي رد الله عليه ضالته إذ نظرت العرب قد عطفت راجعة كعطفة الأم على ولدها فاستقبلهم عمرو وهو يقول: هنيئا لهذه الوجوه التي تعبت في رضا الله تعالى أما كان لكم كفاية في أن خولكم الله حتى اتبعتم العدو فقالوا: ما أردنا الغنيمة بل القتال والجهاد قال: ولما رجع المسلمون لم يكن لهم همة إلا افتقاد بعضهم بعضا ففقد من المسلمين مائة وثلاثون رجلا ختم الله لهم بالسعادة منهم سيف بن عبادة ونوفل بن دارم والأهب بن شداد والباقي من اليمن ووادي المدينة قال فاغتم عمرو لفقدهم ثم راجع نفسه وقال قد نزل بهم خير وانت يا عمرو تأبى ذلك ثم ندب الناس إلى الصلاة كما أمره أبو بكر الصديق رضي الله عنه فصلى ما فاته كل صلاة بأذان واقامة قال ابن عمر ما صلى خلفه إلا قليل بل صلى الناس في رحالهم من تبعهم ولم يجمعوا من الغنائم إلا القليل وبات الناس فلما أصبح عمرو أذن وصلى بهم وأمر الناس بجمع الغنائم وأن يخرجوا. 2 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 إخوانهم المؤمنين من الروم فجعلوا يلتقطونهم قال فاخرجوا مائة وثلاثين رجلا ووجدوا سعيد بن خالد فلما نظر عمرو إلى ما نزل به بكى وقال رحمك الله فقد نصحت لدين الله وأديت النصيحة ثم جعله في جملة المسلمين وصلى عليهم وأمر بدفنهم وذلك قبل أن يخمس شيئا من الغنائم ثم بعد ذلك جمعها إليه وكتب إلى أبي عبيدة كتابا يقول فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 كتاب عمرو بن العاص إلى أبي عبيدة بسم الله الرحمن الرحيم من عمرو بن العاص إلى أمين الأمة أما بعد فإن يأحمد الله الذي لا إله إلا هو واصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وإني قد وصلت إلى ارض فلسطين ولقينا عساكر الروم مع بطريق يقال له روبيس: في مائة ألف فارس فمن الله بالنصر وقتل من الروم خمسة عشر ألف فارس وفتح الله على يدي فلسطين بعد أن قتل من المسلمين مائة وثلاثون رجلا فإن احتجت الي سرت إليك والسلام عليك ورحمة الله وبركاته ودفع الكتاب إلى أبي عامر الدوسي وأمره أن يسير إلى أبي عبيدة قال فأسرع أبو عامر بالكتاب فوجد أبا عبيدة وهو نازل بأرض الشام وجاهر بالدخول إليها غير إنه امره كما امره أبو بكر قال فلما وصل أبو عامر قال له أبو عبيدة: ما وراءك قال خير هذا كتاب من عمرو بن العاص يخبرك بما فتح الله على يديه ثم سلم إليه الكتاب فلما قرأه خر ساجدا فرحا بنصر الله ثم قال: والله قتل من المسلمين رجال أخيار منهم سعيد بن خالد قال أبو عامر فكان خالد والده جالسا فلما سمع بأن ولده قد قتل قال: وا ابناه وجعل يبكيه حتى بكى المسلمون لبكائه ثم أن خالدا اسرع إلى فرسه فركبها وعزم إلى ارض فلسطين لينظر إلى قبر ولده فقال أبو عبيدة: كيف تسير وتدعنا فقال إنما انظر قبر ولدي وارجو الله أن يلحقني به قال: وكتب أبو عبيدة كتابا لعمرو بن العاص يقول فيه: بسم الله الرحمن الرحيم إنما أنت مأمور فإن كان أبو بكر امرك أن تكون معنا فسر إلينا وأن كان امرك بالثبات في موضعك فاثبت والسلام عليك ورحمة الله وبركاته وطوى الكتاب وسلمه إلى خالد بن سعيد وسار مع أبي عامر إلى أن أتيا إلى جيش عمرو بن العاص فدفع له الكتاب وهو يبكي فوثب عمرو وصافح خالد ورفع منزلته وعزاه في ولده سعيد وعزاه المسلمون فقال خالد: يا أيها الناس هل اروى سعيد رمحه وسيفه في الكفار قالوا: نعم فلقد قاتل وما قصر ولقد جاهد في الدين ونصر فقال اروني قبره قال فأروه إياه فأقام على القبر وقال: يا ولدي رزقني الله الصبر عليك والحقني بك وأنا لله وأنا إليه راجعون والله أن مكنني الله لآخذن بثأرك يا ولدي عند الله احتسبتك ثم قال لعمرو بن العاص إني أريد أن أسري بسرية في طلب القوم فلعل أن أجد فيهم فرصة أو غنيمة واكون قد أخذت بثأر ولدي فقال عمرو أن الحرب أمامك يا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 ابن الأم فإذا رأيت الروم فلا تبق عليهم فقال خالد: والله لأسيرن إليهم ثم أخذ اهبته للمسير وعزم أن يسير وحده فركب معه ثلثمائة فارس من فتيان حمير فساروا يومهم ذلك اجمع وارادوا النزول في الأودية ليعلفوا دوابهم ويسيروا ليلتهم إذ نظر خالد بن سعيد إلى أشباح على ذروة جبل هناك عال منيع فقال لأصحابه: إني أرى أشباحا على ذروة هذا الجبل ونحن في هذا الوادي ثم قال كونوا في اماكنكم ثم نزل عن فرسه وتقلد سيفه والتحف بازاره وقال: اعلموا أن القوم ما علموا بنا ولو نظروا إلينا ما ثبتوا في اماكنهم فمن منكم يبذل نفسه ويصنع كما أصنع قالوا: كلنا لك قال فطافوا في الجبل حتى أشرفوا على القوم وهم في أماكنهم فعند ذلك قال خذوهم بارك الله فيكم فأسرع إليهم المسلمون فقتلوا منهم ثلاثين واسروا أربعة فسألهم خالد بن سعيد فإذا هم من انباط الشام عن حالهم فقالوا: نحن من أهل هذا البقيع والجامعة وكفار القرية وقد عظم علينا دخول العرب إلى بلادنا وقد فزعنا منهم فزعا عظيما وقد هرب أكثرنا إلى الحصون والقلاع وقد اعتصمنا نحن بهذا الجبل لانه ليس في الرستاق أحصن منه فعلونا عليه وانتم كبستمونا قال خالد: فما بلغكم عن جيش الروم قالوا: بأجنادين وهذا البطريق أقبل إلينا ليأخذ الميرة والعلوفة وقد جمعوا له الدواب والبغال والحمير تحمل الميرة وهم مع ذلك خائفون أن تلحقهم خيل العرب وهذا خبر قومنا ولا شك إنهم رحلوا من يومهم قال فلما سمع خالد بن سعيد مقالتهم قال غنيمة للمسلمين ورب الكعبة ثم قال: اللهم انصرنا عليهم ثم سأل على أي طريق سار القوم قالوا: على هذه الطريق التي انتم عليها لانها اوسع الطرق كلها واما الميرة فإنها مجموعة من حول البلاد فلما سمع خالد كلامهم قال لهم: أسلموا فقالوا له: ما نعرف إلا دين الصليب ونحن فلاحين قال فهم خالد بقتلهم فقال رجل من أصحابه دعهم يدلونا على الطريق إلى مسيرة القوم فأجابوهم إلى ذلك وساروا وهم يدلونهم إلى تل عظيم قال فتوافق القوم وهم يحملون دوابهم حول التل ومعهم ستمائة لابس من القوم فلما نظر خالد إلى ذلك قال لأصحابه: اعلموا أن الله قد وعدكم بالنصر على عدوكم وفرض عليكم الجهاد وهذا جيش العدو امامكم فارغبوا في ثواب الله تعالى واسمعوا ما قال الله عز وجل {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف:4] وها أنا أحمل فاحملوا ولا يخرج أحد عن صاحبه ثم أن خالدا حمل وحمل أصحابه قال: فلما رأونا استقبلونا وانهزم من كان مع الدواب من الفلاحين وصبرت الخيل لقتالنا ساعة من النهار قال: فبينما ذو الكلاع الحميري يشجع أصحابه ويقول: يا أهل حمير ابواب الجنة فتحت والحور العين قد تزخرفت وإذا بصاحب القوم قد لقيه خالد فعرفه بلامته وحسن زيه قال فاستقبله وصرخ فيه فأرعبه ثم قال: يا لثأر ولدي سعيد وطعنه طعنة صادقة فجندله صريعا كأنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 برج من حديد وما بقى أحد إلا قتل من الروم قال: فلما رأى الروم ذلك ولوا الأدبار وركنوا إلى الفرار وقتل منهم ثلثمائة وعشرون فارسا وولى الباقون منهزمين وتركوا الأثقال والبغال والميرة واخذ المسلمون الجميع بعون الله تعالى قال: واطلق سراح الفلاحين وعاد خالد ومن معه بالغنائم والميرة إلى عمرو بن العاص ففرح بسلامتهم وشكر فعلهم وكتب كتابا إلى أبي بكر الصديق وذكر له ما جرى مع الروم وبعث الكتاب مع أبي عامر الدوسي رضي الله عنه واخذه وقدم به المدينة وأعطاه أبا بكر الصديق رضي الله عنه فلما قرأه على المسلمين فرحوا وضجوا بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير ثم أن أبا بكر استخبر عن أبي عبيدة فقال له عامر: إنه قد اشرف على أوائل الشام ولم يجسر على الدخول إليها وانه سمع أن جيوش الملك قد اجتمعت من حول اجنادين وهم أمم لا تحصى وقد خاف على المسلمين أن يتوسط بهم عدوهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 خالد بن الوليد في الشام فلما سمع أبو بكر ذلك علم أن أبا عبيدة لين العريكة ولا يصلح لقتال الروم وعول أن يكتب إلى خالد بن الوليد ليوليه على جيوش المسلمين وقتال الروم واستشار المسلمين في ذلك فقالوا: الرأي ما تراه وكتب كتابا يقول الوليد: سلام عليك أما بعد فانيأحمد الله الذي لا إله إلا هو وأصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وإني قد وليتك على جيوش المسلمين وأمرتك بقتال الروم وأن تسارع إلى مرضاة الله عز وجل وقتال اعداء الله وكن ممن يجاهد في الله حق جهاده ثم كتب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف:10] الآية وقد جعلتك الأمير على أبي عبيدة ومن معه وبعث الكتاب مع نجم بن مقدم الكناني فركب على مطيته وتوجه إلى العراق فرأى خالدا رضي الله عنه قد اشرف على فتح القادسية فدفع إليه الكتاب فلما قرأه قال: السمع الطاعة لله ولخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ارتجل ليلا واخذ طريقه عن اليمين وكتب كتابا إلى أبي عبيدة يخبره بعزله وبسيره إلى الشام وقد ولأني أبو بكر على جيوش المسلمين فلا تبرح من مكانك حتى اقدم عليك والسلام وبعث الكتاب مع عامر بن الطفيل رضي الله عنه وكان أحد أبطال المسلمين فأخذه وتوجه يطلب الشام. وأما خالد فلما وصل إلى ارض السماوة قال: أيها الناس أن هذه الأرض لا تدخلونها إلا بالماء الكثير لانها قليلة الماء ونحن في جيش عظيم والماء معكم قليل فكيف يكون الأمر فقال له رافع بن عميرة الطائي رضي الله عنه: أيها الأمير إني أشير عليك بما تصنع فقال: يا رافع أرشدك الله بما نصنع ووفقك الله مولانا جل وعلا للخير قال: فأخذ رافع ثلاثين جملا وعطشها سبعة أيام ثم اوردها الماء فلما رويت خرم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 أفواهها ثم ركبوا المطايا وجنبوا الخيول وساروا فكانوا كلما نزلوا منزلا أخذوا عشرة من الإبل يشقون بطونها ويأخذون ما يجدون من الماء في بطونها فيجعلونه في حياض الأدم فإذا برد سقوه للخيل وأكلوا اللحم ولم يزالوا كذلك حتى تمت الإبل وفرغ الماء وقطعوا مرحلتين بلا ماء واشرف خالد ومن معه على الهلاك فقال خالد لرافع ابن عميرة: يا رافع قد اشرفنا على الهلاك والتلف أتعرف لنا ماء ننزل فيه. قال الواقدي: وكان رافع رمدت عيناه فقال: أيها الأمير أتاني رمد كما ترى ولكن إذا اشرفتم على ارض سهلة فاعلموني قال: فلما اشرفوا عليها اعلموا رافعا بذلك قال فرفع طرف عمامته عن عينيه وسار على راحلته يضرب يمينا وشمالا والناس من ورائه إلى أن أقبل على شجرة من الأراك فكبر وكبر المسلمون ثم قال: احفروا هنا قال فحفرت العرب واذ الماء قد طلع كالبحر فنزل الناس عليه وشكروا الله تعالى واثنوا عليه وعلى رافع خيرا ثم وردوا الماء وسقوا خيلهم وابلهم ثم جدوا في طلب من انقطع من المسلمين ومعهم القرب بالماء قال فسقوهم فارتجعت قوتهم ثم لحقوا بالجيش وأراحوا أنفسهم ثم في ثاني يوم جدوا في المسير إلى أن بقي بينهم وبين أركة مرحلة واحدة فبينما هم كذلك إذ اشرفوا على حلة عامرة واغنام وابل قد سدت الفضاء والمستوى فأسرع المسلمون إلى الحلة وإذا براع يشرب الخمر والى جانبه رجل من العرب مشدود قال: فتبينه المسلمون وإذا هو عامر بن الطفيل الذي أرسله خالد قال فأقبل خالد ابن الوليد مسرعا حتى وقف عليه فلما رآه تبسم وقال: يا ابن الطفيل كيف كان سبب اسرك قال عامر: أيها الأمير إني اشرفت على هؤلاء القوم في هذه الحلة وقد اصابني الحر والعطش فملت إلى هذا الراعي ليسقيني من اللبن فوجدته يشرب خمرا فقلت له: يا عدو الله أتشرب الخمر وهي محرمة فقال لي: يا مولاي إنها ليس بخمر وإنما هي ماء زلال فانزل كي تراه واستنشق ما في الجفنة فإن كان خمرا فافعل ما بدا لك فلما سمعت كلامه انخت المطية ونزلت عن كورها وجلست على ركبتي في الجفنة وإذا نا بالعبد قد طلبنا بعصا كانت إلى جانبه وضربني على رأسي فشجني شجة موضحة فانقلبت على جانبي فأسرع العبد الي وشدني كتافا واوثقني رباطا وقال لي: أظنك من أصحاب محمد بن عبد الله ولست ادعك من بين يدي أو يقدم سيدي من عند الملك فقلت له: ومن سيدك من العرب فقال القداح بن وائلة وإني عند هذا العبد كلما شرب الخمر حضرني كما ترى والقى علي فضلة من كأسه قال فلما سمع خالد بن الوليد كلام عامر بن الطفيل اشتد به الغضب ومال على العبد وضربه ضربة هائلة فجندله صريعا ونهب المسلمون المال والأغنام والإبل وقلعوا الحلة بما فيها واطلق عامرا وقال له: أين رسالتي يا عامر فقال: يا مولاي هي فى طرف عمامتي لم يعلم بها العبد فقال خالد: انطلق بها يا عامر على بركة الله تعالى قال فركب عامر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 وسار يطلب الشام وارتحل خالد من موضعه ذلك فنزل بأركة وهي رأس الأمانة لمن يخرج من العراق وكانت الروم تمسك بها القوافل وكان عليها بطريق من قبل الملك فأغار خالد عليها وأخذ ما كان فيها وتحصن أهلها بحصنها وكان يسكن فيها حكيم من حكماء الروم وقد طالع الكتب القديمة والملاحم فلما رأى المسلمين وجيشهم انتقع لونه وقال اقترب الوقت وحق ديني فقال أهل اركة وكيف ذلك قال أن عندي ملحمة فيها ذكر هؤلاء القوم وأن أول راية تشرف من خيلهم هي الراية المنصورة وقد دنا هلاك الروم فانظروا أن كانت رأيتهم سوداء واميرهم عريض اللحية طويل ضخم بعيد ما بين المنكبين واسع الهيكل في وجهه أثر جدري فهو صاحب جيشهم في الشام وعلى يديه يكون الفتح. قال: فنظر القوم وإذا الراية على رأس خالد وهي كما قال حكيمهم قال: واجتمعوا على بطريقهم وقالوا: له: أنت تعلم أن الحكيم سمعان لا ينطق إلا بالحق والحكمة وقد قال كذا وكذا والذي وصفه لنا رأيناه عيانا ونرى من الرأي أن نعقد بيننا وبين العرب صلحا ونأمن على حريمنا وأنفسنا فلما سمع ذلك بطريقهم قال أخروني إلى غد لارى من الرأي قال فانصرفوا من عنده وبات البطريق يحدث نفسه ويدبر امره وكان عارفا عاقلا خبيرا بالأمور وقال أن أنا خالفتهم خفت أن يسلموني للعرب وقد تحقق أن روبيس سار بجيش عظيم فهزمهم العرب ولم يزل يراود نفسه إلى أن أصبح الصباح فدعا قومه وقال على ماذا عولتم قالوا: عولنا على اننا نقيم الصلح بيننا وبين العرب فقا البطريق أنا واحد منكم مهما فعلتم لا أخالفكم قال فخرج مشايخ أركة إلى خالد وكلموه في الصلح فأجابهم إلى الصلح والان الكلام لهم وتلقاهم بالرحب والسعة ليسمع بذلك أهل السخنة ويبلغ الخبر لأهل قدمه وكان الوالي عليهم بطريق اسمه كوكب فجمع رعيته وقال لهم: بلغني عن هؤلاء العرب إنهم فتحوا أركة والسخنة وأن قومنا يتحدثون بعدلهم وحسن سيرتهم وإنهم لا يطلبون الفساد وهذا حصن مانع لا سبيل لاحد علينا ولكن نخاف على نخلنا وزرعنا وما يضرنا أن نصالح العرب فإن قومنا هم الغالبين فسخنا صلحهم وأن كان العرب ظافرين كنا آمنين قال: ففرح قومه بذلك وهيئوا العلوفة والضيافة حتى خرج خالد رضي الله عنه من اركة ونزل عليهم فخرجوا الهي بالخدمة وصالحهم على ثلثمائة أوقية من الذهب وكتب لهم كتابا بالصلح ثم ارتحل عنها إلى حوران وبلغ عامر بن الطفيل كتاب خالد إلى عبيدة فلما قرأه تبسم وقال: السمع والطاعة لله تعالى ولخليفة رسول الله صلى الله علبه وسلم ثم اعلم المسلمين بعزله وولاية خالد بن الوليد وكان أبو عبيدة وجه شرحبيل بن حسنة كاتب وحي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بصرى في أربعة آلاف فارس قال: فسار على فنائها وكان على بصرى بطريق عظيم الشان والقدر عند الملك وعند الروم اسمه روماس وكان قرأ الكتب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 السالفة والأخبار الماضية وكان يجتمع إليه الروم من اقصى بلادها ينظرون إلى عظيم خلقته ويسمعون الفاظ حكمته وكانت آهلة بالخلق عامرة بالناس وكان فيها ألف فارس وكان العرب يقصدونا ببضائعهم وتجارتهم من اقصى اليمين وبلاد الحجاز فإذا كان في أيام الموسم ينصب لبطريقهم كرسي ليجلس عليه ويجتمع الناس إليه ويستفيدون من علمه وحكمته فبينما هم قد اجتمعوا إليه وقعت الضجة بقدوم شرحبيل بن حسنة وعسكره فبادر إلى جواده فركبه وصاح في قومه فأجابوه وقال: لا تتحدثوا حتى نسمع كلام القوم وما عندهم ثم سار حتى قرب من شرحبيل بن حسنة وجيشه ونادى يا معشر المسلمين أنا روماس وإني أريد صاحبكم قال فخرج إليه شرحبيل فلما قرب منه قال البطريق من انتم قال شرحبيل: من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم النبي الأمي القرشي الهاشمي المنعوت في التوراة والإنجيل فقال روماس ما فعل الله به. فقال شرحبيل: قبضه الله إليه فقال البطريق فمن ولى الأمر بعده قال عتيق بن أبي قحافة بن بكر بن تيم بن مرة فقال روماس وحق ديني لقد أعلم بأنكم على الحق ولا بد لكم أن تملكوا الشام والعراق وأنا اشفق عليكم إذا بتم في جمع يسير ونحن في جمع كثير ولكن ارجعوا إلى بلادكم فأنا لا نتعرض لكم واعلم يا أخا العرب أن أبا بكر هو صاحبي ورفيقي ولو كان حاضرا ما قاتلني فقال شرحبيل لو كن وله أو ابن عمه لما عفا عنه إلا أن يكون من أهل ملته وليس له في الأمر شيء لانه مكلف وقد امره الله أن يجاهدكم ولسنا نبرح عنكم إلا باحدى ثلاث أما أن تدخلوا في ديننا أو تأدوا الجزية أو السيف فقال روماس وحق ما اعتقده من ديني لو كان الأمر الي ما أقاتلكم لاني أعلم إنكم على حق وهؤلاء طواغية الروم وقوم مجتمعون وإني أريد أن ارجع إليهم وانظر ما عندهم فقال شرحبيل ارجع إليهم فلا بد لكم بما ذكرت قال فعاد روماس إلى قومه وجمعهم وقال: يا أهل دين النصراينة وبني ماء المعمودية أن الذي كنتم تعتقدونه في كتبكم من الخروج من بلادكم ودياركم ونهب أموالكم قد قرب وهذا وقته وزمانه ولستم اعظم جيشا من روبيس سار إلى شرذمة من العرب بأرض فلسطين فقتل وقتل من معه وانهزم الباقون ولقد بلغني أن رجلا منهم قد خرج من ارض السماوة صوب العراق اسمه خالد بن الوليد وقد فتح أركة والسخنة وتدمر وحوران وهو عن قريب يحضر إليكم والصواب أن تؤدوا الجزية عن يد إلى هؤلاء العرب وينصرفون عنكم قال فلما سمع قومه ذلك غضبوا وشوشوا وهموا بقتله فقال روماس يا قوم إنما أردت أن أختبركم وأرى حمية دينكم والان دونكم والقوم وأنا في اولكم قال: فرجعت الروم إلى عددها وعديدها وتظاهروا بالدروع البيض وقادوا الجنائب وتهيئوا للحملة فلما رأى شرحبيل بن حسنة ذلك وعظ أصحابه وقال اعلموا رحمكم الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الجنة تحت ظلال السيوف وأحب ما قرب إلى الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 قطرة دم في سبيل الله أو دمعة جرت في جوف الليل من خشية الله" قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] ثم جمل وحمل المسلمون على جيش بصرى قال عبد الله بن عدى واجتمع علينا العدو وطمعوا فينا وحملوا علينا في اثني عشر ألف فارس من الروم ونحن فيهم كالشامة البيضاء في جلد البعير الأسود وصبرنا لهم صبر الكرام ولم يزل القتال بيننا وبينهم إلى أن توسطت الشمس في قبة الفلك وقد طمع العدو فينا فرأيت شرحبيل بن حسنة قد رفع يده إلى السماء وهو يقول: يا حي يا قيوم يا بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والأكرام اللهم انصرنا على القوم الكافرين قال: فوالله ما استم شرحبيل كلامه ودعاءه حتى جاء النصر من عبد الله العزيز الحكيم وذلك أن القوم داروا بنا فراينا غبرة قد اشرفت علينا من صوب حوران فلما قربت لنا رأينا تحتها سوابق الخيل فلاحت لنا الأعلام الإسلامية والرايات المحمدية وقد سبق إلينا فارسان أحدهما ينادي ويزعق يا شرحبيل يا ابن حسنة ابشر النصر لدين الله أنا الفارس الصنديد والبطل المجيد أنا خالد ابن الوليد والأخر يزعق ويقول: أنا عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق واشرفت العساكر من كل جانب قال: واشرفت راية العقاب يحملها رافع بن عميرة الطائي قال حدثنا سالم بن عدي عن ورقاء بن حسان العامري عن مسيرة بن مسروق العبسي قال. والله لقد خمدت اصوات الروم عند زعقة خالد رضي الله عنه واقبل المسملون يسلم بعضهم على بعض واقبل شرحبيل بن حسنة إلى خالد بن الوليد وسلم عليه فقال خالد: يا شرحبيل أما علمت أن هذه مينا الشام والعراق وفيها عساكر الروم وبطارقتهم فكيف غررت بنفسك وبمن معك من المسلمين قال: كله بأمر أبي عبيدة فقال خالد: أما أبو عبيدة فإنه رجل خالص النية وليس عنده غائلة الحرب ولا يعلم بمواقعها ثم أمر الناس بالراحة فنزلوا وارتاحوا من اتعابهم فلما كان في اليوم الثاني زحفت جيوش بصرى على المسلمين فقال خالد: أن الروم زحفوا لعلمهم بتعبنا وتعب خيولنا فاركبوا بارك الله فيكم واحملوا على بركة الله تعالى قال: فركب المسملون واخذوا اهبتهم للحرب فجعل من الميمنة رافع بن عميرة الطائي وجعل في الميسرة ضرار بن الأزور وكان غلاما فاتكا في الحرب وجعل على الدرك عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق ثم قسم جيش الزحف فجعل على شطره المسيب بن نجيبة الفزاري وعلى الشطر الأخر مذعور بن غانم الاشعري وأمرهم أن يزفوا الخيل إذا حملت قال: وبقي خالد في الوسط وهو يعظ الناس ويوصيهم وقد عزموا على الحملة وإذا بصفوف الروم قد انشقت وخرج من وسطها فارس عظيم الخلقة كثير الزينة يلمع ما عليه من الذهب الأحمر والياقوت فلما توسط الجمعين نادى بلسان عربي كأنه بدوي يا معشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 العرب لا يبرز لي إلا اميركم فأنا صاحب بصرى قال فخرج إليه خالد رضي الله عنه كالاسد الضرغام وقرب منه فقال له البطريق: أنت أمير القوم قال: كذلك يزعمون إني أميرهم ما دمت على طاعة الله ورسوله فإن عصيته فلا إمارة لي عليهم قال البطريق: إني رجل عاقل من عقلاء الروم وملوكهم وأن الحق لا يخفى عن ذي بصيرة واعلم إني قرأت الكتب السابقة والأخبار الماضية فوجدت أن الله تعالى يبعث قرشيا واسمه محمد بن عبد الله قال خالد: والله نبينا قال: انزل عليه الكتاب قال: نعم القرآن قال روماس البطريق أحرم عليكم فيه الخمر قال خالد: نعم من شربها حددناه ومن زنى جلدناه وأن كان محصنا رجمناه قال أفرضت عليكم الصلوات قال: نعم خمس صلوات في اليوم والليلة قال: أفرض عليكم الجهاد قال خالد: لولا ذلك ما جئناكم نبغي قتالكم قال روماس والله إني لاعلم إنكم على الحق وانيأحبكم وحذرت قومي منكم وإني خائف منكم فأبوا فقال خالد: فقل: اشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله يكون لك ما لنا وعليك ما علينا فقال: إني أسلمت واخاف أن يعجل هؤلاء بقتلي وسلبي حريمي ولكن أنا اسير إلى قومي وارغبهم فلعل الله أن يهديهم فقال خالد: وأن رجعت إلى قومك بغير قتال يكون بيني وبينك خفت عليك ولكنأحمل علي حتى لا يتهموك وبعد ذلك اطلب قومك فحمل بعضهم على بعض وأرى خالد الفريقين ابوابا من الحرب حتى أبهر روماس فقال لخالد: شدد علي الحملة حتى يرى الديرجان فاني خائف عليك من بطريق بعث به الملك يقال له الديرجان فقال خالد: ينصرنا الله عليه ثم شدد على روماس الحملة حتى إنه انهزم من بين يديه إلى قومه فلما وصل إلى قومه قالوا: ما الذي رايت من العرب قال أن العرب اجلاد ما لكم بقتالهم طاقة ولا بد لهم أن يملكوا الشام وما تحت سريري هذا فادخلوا تحت طاعتهم وكونوا مثل اركة والسخنة قال فلما سمعوا كلامه زجروه وأرادوا قتله وقالوا: له: ادخل المدينة والزم قصرك ودعنا لقتال العرب فانصرف روماس وقال لعل الله ينصر خالد ثم أن أهل بصرى ولو عليهم الديرجان وقالوا: إذا فرغنا من المسلمين سرنا معك إلى الملك ونسأله أن ينزع روماس ويوليك علينا قال الديرجان: وما الذي تريدون قالوا: نحمل ونطلب قتال العرب قال فخرج الديرجان وطلب خالدا. فقال عبد الرحمن لخالد يا أمير أنا أخرج إليه فقال دونك يا ابن الصديق فخرج عبد الرحمن وحمل على الديرجان فما لبثوا غير ساعة وقد أحس الديرجان من نفسه بالتقصير فولى منهزما وراح إلى قومه فلما رأوا ذلك منه نزل الرعب في قلوبهم وعلم خالد ما عند القوم من الفزع فحمل وحمل عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وحمل المسلمون فلما نظر أهل بصرى إلى حملة المسلمين حملوا وتلاقى الفريقان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 وضجت الرهبان بكلمة كفرهم فقال شرحبيل بن حسنة: اللهم أن هؤلاء إليك بلا إله إلا أنت وأن محمدا عبدك ورسولك إلا ما نصرت هذا الدين على اعدائك المشركين ثم حملوا حملة واحدة فلم يكن للروم ثبات مع العرب فولى المشركون الأدبار وركنوا إلى الفرار فلما حطوا داخل المدينة اغلقوا الأبواب وتحصنوا بالاسوار ورفعوا الصلبان وعولوا أن يكتبوا للملك ليمدهم بالخيل والرجال قال عبد الله بن رافع فلما تحصنوا رجعنا عنهم وافتقدنا اصحبانا فوجدنا قد قتل منا مائة وثلاثون فارسا وقتل من الأعيان بدريان قال: وغنم المسلمون الأموال وصلى خالد على الشهداء وأمر بدفنهم فلما كان الليل تولى الحرس عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق ومعمر بن راشد ومائة من جيش الزحف فبينما هم يدورون حول العسكر وإذا بروماس صاحب بصرى قد اقبل عليهم وقال لهم: أين خالد بن الوليد فاخبروه واتوا به إلى خالد فلما رآه رحب به فقال: أيها الأمير بعد أن فارقتك طردني قومي واقلوا الزم قصرك وإلا قتلناك فلزمت قصري وهو ملاصق للسور ولما وقع لهم ما وقع وانهزموا تحصنوا فلما جن الليل أمرت غلماني بحفر السور وفتحوا فيه بابا فأتيتك فارسل معي من تعتمد عليه من أصحابك تستلمون المدينة فلما سمع خالد هذا الكلام أمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يأخذ مائة من المسلمين ويسيروا مع روماس قال ضرور بن الأزور وكنت ممن دخل المدينة فلما صرنا في قصر روماس فتح لنا خزانة السلاح فلبسنا من سلاحهم وقسمنا أربعة اقسام كل جانب خمسة وعشرون رجلا وقال لنا عبد الرحمن إذا سمعتم التكبير فكبروا فلما سرنا حيث امرنا أخذنا أنفسنا بالحملة على القوم. قال الواقدي: بلغني ممن أثق به من الرواة أن عبد الرحمن لما فارق أصحابه لبس سلاحه هو وروماس يطلبون الدرج الذي عليه الديرجان وسار معهم ضرار ورافع وشرحبيل بن حسنة فقال: لا اهلا ولا مرحبا بك ومن الذي معك قال معي صديق لك ومشتاق إلى رؤياك قال: ويحك ومن هو يا روماس قال هذا بن أبي بكر الصديق فلما سمع الديرجان ذلك هم أن يقتله فلم تطاوعه نفسه فحمل عليه عبد الرحمن وهز سيفه في وجهه وضربه على عاتقه فتجندل صريعا يخور في دمه وعجل الله بروحه إلى النار قال: وكبر عبد الرحمن فأجابه روماس وسمع أصحابه التكيبر فكبروا من جوانب بصرى قال: واجابتهم الأحجار والاشجار قال: وكبر المسلمون من جوانب بصرى ووضعوا السيف في الروم وسمع خالد التكبير فصرخوا وإذا لغلمان روماس واولاده قد فتحوا لهم الأبواب فعبر خالد ومن معه من المسلمين فلما نظر أهل بصرى إلى الأبواب وقد فتحت بالسيف قهرا ضجوا بأجمعهم يقولون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 الأمان الأمان فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: ارفعوا السيف عنهم واقام خالد إلى الصباح واجتمع إليه أهلها وقالوا: يا أيها الأمير لو صالحناك ما جرى شيء من ذلك لكن نسألك بالذي ايدك ونصرك ما الذ ي فتح لك أبواب مدينتنا فاستحى خالد رضي الله عنه أن يقول: فوثب روماس وقال أنا فعلت ذلك يا اعداء الله واعداء رسوله وما فعلته إلا ابتغاء مرضاة الله وجهادا فيكم فقالوا: أولست منا فقال: اللهم لا تجعلني منهم رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبالكعبة قبلة وبالقرآن إماما وأنا اشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قال: ففرح خالد بذلك وأما أهل بصرى فغضبوا وأضمروا له شرا وعلم بذلك روماس فقال لخالد: أنا لا أريد المقام عندهم وإني أسير معك حيث سرت فإذا فتح الله على يديك الشام وصار لكم الأمر ردوني إليها لأن الوطن عزيز. قال الواقدي: حدثني معمر بن سالم عن جده قال كان روماس يجاهد معنا جهادا حسنا حتى فتح الله على ايدينا الشام فكان أبو عبيدة يكاتب به عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أيامه فولاه على بصرى فلم يلبث إلا يسيرا حتى توفي رحمه الله وخلف عقبا يذكر به قال: وأمر خالد رجالا يعينونه على أخراج رحله وماله من المدينة ففعلوا ذلك وإذا بزوجته تخاصمه وتطلب فراقه فقال لها المسلمون: ما الذي تريدين قال أريد أمير جيشكم يحكم بيننا فجاؤا بها إلى خالد فقالت له: أنا استغيث بك من روماس فقال لها خالد: وكيف ذلك فقالت: إني كنت البارحة نائمة إذ رايت شخصا ما رأيت منه وجها كأن البدر يطلع من بين عينيه وكأنه يقول: أن المدينة فتحت على يد هؤلاء القوم والشام والعراق فقلت له: ومن أنت يا سيدي قال محمد رسول الله ثم دعاني إلى الإسلام فاسلمت ثم علمني سورتين من القرآن قال فحدث الترجمان خالد بما كان منها فقال أن هذا لعجيب ثم قال خالد للترجمان: قل لها: أن تقرأ السورتين فقرأت الفاتحة وقل هو الله أحد ثم جددت اسلامها على يد خالد بن الوليد وقالت: يا أيها الأمير أما أن يسلم روماس وإلا يتركني أعيش بين المسلمين قال فضحك خالد من قولها وقال سبحان الله الذي وفقنا جميعا ثم قال للترجمان: قل لها: أن روماس اسلم قبلها ففرحت بذلك ثم أن خالدا أحضر أهل بصرى وقررهم على اداء الجزية وولى عليهم من اتفق رأيه عليه ثم كتب إلى أبي عبيدة كتابا يبشره بالفتح ويقول له: يا صاحب رسول الله قد ارتحلنا إلى دمشق فالحقنا إليها ثم كتب كتابا اخر إلى أبي بكر الصديق يخبره برحيله ويقول له: يوم كتبت إليك هذا الكتاب ارتحلت إلى دمشق فادع لنا بالنصر والسلام عليك ومن معك ورحمة الله وبركاته ثم بعث الكتابين كلاهما ثم ارتحل خالد إلى نحو دمشق حتى اشرف على موضع يقال له: الثنية فوقف هناك وركز راية العقاب فسميت بذلك ثنية العقاب ثم ارتحل منها إلى الدير المعروف الآن بدير خالد وكان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 أهل السواد قد التجئوا إلى دمشق وقد اجتمعت خلائق وامم لا تحصى من الرجال واما أصحاب الخيل فكانوا اثني عشر الفا وقد زينوا اسوارهم بالطوارق والبيارق والصلبان واقام خالد على الدير ينتظر قدوم المسلمين. قال الواقدي: ووصلت الأخبار إلى الملك هرقل وما فتح خالد من الشام وكيف قدم على دمشق فغضب وجمع البطارقة وقال: يا بني الأصفر لقد قلت لكم وحذرتكم فأبيتم وهؤلاء العرب قد فتحوا اركة وتدمر والسخنة وبصرى وقد توجهوا إلى الربوة ففتحوها فواكرباه لأن دمشق جنة الشام وقد سارت إليها الجيوش وهم اضعاف العرب ثم قال: أيكم يتوجه إلى قتال العرب ويكفيني أمرهم فإن هزمهم اعطيته ما فتحوه ملكا فقال بطريق: من البطارقة أسمه كلوس بن حنا وكان من فرسانهم وقد عرفت شجاعته في عساكر الروم والفرس أيها الملك أنا اكفيك وأردهم على اعقابهم منهزمين قال فلما سمع الملك قوله سلم إليه صليبا من الذهب وقدمه على خمسة آلاف فارس وقال له: قدم صليبك أمامك فإنه ينصرك قال فأخذه كلوس وسار من يومه من انطاكية إلى أن وصل حمص فوجدها مزينة بالسلاح فلما بلغ أهلها قدومه خرجوا إلى لقائه وقد خرجت القسس والرهبان واستقبلوه ودعوا له بالنصر وأقام بحمص يوما وليلة ثم ارتحل إلى مدينة بعلبك فخرج إليه النساء لاطمات الخدود وقلن أيها السيد أن العرب فتحوا اركة وحوران وبصرى فقال لهن كيف قدرت العرب على حوران وبصرى فقلن أيها السيد أن الذين ذكرتهم لم يبرحوا من أماكنهم وأن هذا الرجل قد أقبل من العراق وهو الذي فتح أركة فقال: وما اسمه قلن خالد بن الوليد قال في كم يكون من العساكر قلن في ألف وخمسمائة فارس فقال: وحق المسيح لاجعلن رأسه على رأس سناني ثم رحل فلم ينزل إلا بدمشق وكان واليها بطريقا من قبل الملك هرقل اسمه عزازير فلما قدم كلوس اجتمع عليه عزازير وأصحابه وقرأوا عليهم منشور الملك ثم قال لهم: أتريدون أن أقاتل عدوكم وأصده عن بلادكم قالوا: نعم فقال اخرجوا عزازير عنكم حتى أكون وحدي في هذا الأمر فقالوا: أيها السيد وكيف ينبغي أن يخرج صاحبنا من بلدنا وهذا العدو قاصد إلينا قال فغضب عزازير في وجه كلوس من كلامه وقد اتفق رأيهم على أن كل واحد يقاتل العرب يوما فثبتت عداوة عزازير في قلب كلوس. قال الواقدي: ولقد بلغني إنهم كانوا يخرجون كل يوم من باب الجابية مقدار فرسخ ينظرون قدوم أبي عبيدة بن الجراح فلم يشعروا حتى قدم إليهم خالد بن الوليد من نحو الثنية قال حدثنا يسار بن محمد قال أخبرنا رفاعة بن مسلم قال كنت في جيش خالد بن الوليد لما نزل على الدير المعروف به وإذا بجيش الروم قد زحف علينا وهو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 كالجراد المنتشر فلما نظر خالد ذلك تدرع بدرع مسلمة ثم صرخ في وجه المسلمين وقال هذا يوم ما بعده يوم وهذا العدو قد زحف بخيله فدونكم والجهاد فانصروا الله ينصركم وكونوا ممن باع نفسه لله عز وجل وكأنكم باخوانكم المسلمين قدموا عليكم مع أبي عبيدة بن الجراح ثم بعد ذلك استقبل الجيش وصرخ بملء رأسه فأرعب المشركين من صرخته وحمل شرحبيل بن حسنة وعبد الرحمن بن أبي بكر وضرار بن الأزور ومذ حمل ضرار لم يول عنهم بل قتل من الميمنة خمسة فرسان ومن الميسرة كذلك ثم حمل ثاني مرة فقتل منهم ستة فرسان ولولا سهام القوم لما رد عن قتالهم فشكره خالد بن الوليد وقال لعبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه: أحمل بارك الله فيك قال فحمل عبد الرحمن وفعل كما فعل ضرار بن الأزور وقاتل قتالا شديدا ثم حمل من بعده خالد بن الوليد ورفع رمحه ورأى العسكر من أمور الحرب حتى جزع الروم من شجاعته فلما نظر إليه البطريق كلوس علم إنه أمير الجيش وعلم إنه يقصده فتأخر كلوس إلى ورائه من مخافته فلما نظر خالد إلى قهقرة كلوس إلى ورائه حمل عليه ليرده فوقعت عليه البطارقة ورموه بالسهام فلم يلتفت إليهم خالد ولم يعبأ بهم ولم يرجع حتى قتل عشرين ثم انثنى بجواده بين الصفين وجال بجواده بين الفريقين وطلب البراز فلم يجبهأحد وقالوا: أخرجوا غيره منكم فقال: ويلكم ها أنا رجل واحد من العرب وكلنا في الحرب سواء فما منهم من فهم كلامه فأقبل عزازير على كلوس وقال أليس الملك قد قدمك علي جيشه وبعثك إلى قتال العرب فدونك حام عن بلدك ورعيتك. فقال كلوس أنت أحق مني بذلك لأنك أقدم مني وقد عزمت إنك لا تخرج إلا باذن الملك هرقل فما بالك لا تخرج إلى قتال أمير العرب فقال لهما العساكر تقارعا فمن وقعت عليه القرعة فلينزل إلى قتال أمير العرب فقال كلوس لا بل نحمل جميعا فهو أهيب لنا قال: وخاف كلوس أن يبلغ الملك ذلك فيطرده من عنده أو يقتله قال فتقارعا فوقعت القرعة على كلوس فقال عزازير اخرج وبين شجاعتك فقال كلوس لأصحابه أريد أن تكون همتكم عندي فإن رأيتم مني تقصيرا فاحملوا وخلصوني فقال لأصحابه: هذا كلام عاجز لا يفلح أبدا فقال: يا قوم أن الرجل بدوي ولغته غير لغتي فخرج معه رجل أسمه جرجيس وقال له: أنا أترجم لك فسار معه فقال كلوس اعلم يا جرجيس أن هذا رجل ذو شجاعة فإن رأيته غلبني فاحمل أنت عليه حتى نقضي يومنا معه ويخرج له غدا عزازير فيقتله ونستريح منه وأتخذك أنا صديقي فقال له: ما أنا أهل حرب وإنما أخوفه بالكلام قال فسكت وسارا حتى قربا من خالد فنظر إليهما قال فهم أن يخرج إليهما رافع بن عميرة فصاح فيه خالد قال: مكانك لا تبرح فاني كفء لهما فلما دنوا من خالد قال كلوس لصاحبه قل له: من أنت وما تريد وخوفه من. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 سطواتنا فقرب جرجيس من خالد قال له: يا أخا العرب أنا اضرب لك مثلا أن مثلكم ومثلنا كمثل رجل له غنم فسلمها إلى راع وكان الراعي قليل الجرأة على الوحوش فأقبل عليه سبع عظيم فجعل يلتقط منه كل ليلة رأسا إلى أن انقضت الأغنام والسبع ضار عليها ولم يجد له مانعا عنها فلما نظر صاحب الغنم ما حل بغنمه علم إنه لم يؤت إلا من الراعي فانتدب لغنمه غلاما نجيبا فسلمه الغنم فكان كل ليلة يكثر الطوفان حول الغنم فبينما الغلام كذلك إذ أقبل عليه السبع على عادته الأصلية واخترق الغنم فهجم الغلام على السبع وبيده منجل فضربه فقتله ولم يقرب الغنم وحش بعدها وكذلك انتم نتهاون بأمركم لانه ما كان أضعف منكم لانكم جياع مساكين ضعفاء وتعودتم أكل الذرة والشعير ومص النوى فلما خرجتم إلى بلادنا وأكلتم طعامنا وفعلتم ما فعلتم وقد بعث لكم الملك رجالا لا تقاس بالرجال ولا تكترث بالأبطال ولا سيما هذا الرجل الذي بجانبي فاحذر منه أن ينزل بك ما انزل الغلام بالاسد وقد سألني أن أخرج إليك واتلطف بك في الكلام فأخبرني ما الذي تريد قبل أن يهجم عليك هذا الفارس فلما سمع خالد منه ذلك قال: يا عدو الله والله لا نحسبكم عندنا في الحرب إلا كقابض الطير بشبكة وقد قبضتها يمينا وشمالا فلم يخرج إلا ما انفلت منه وأما ما ذكرت من بلادنا وإنها بلاد قحط وجوع فالأمر كذلك إلا أن الله تعالى ابدلنا ما هو خير منه فأبدلنا بدل الذرة الحنطة والفواكه والسمن والعسل وهذا كله قد رضيه لنا ربنا ووعدنا به على لسان نبيه وأما قولك ما الذي تريدونه منا فنريد منكم أحدى ثلاث خصال أما أن تدخلوا في ديننا أو تؤدوا الجزية أو القتال وأما قولك أن هذا الرجل الذليل الذي هو عندكم مسكين فهو عندنا أقل القليل وأن يكن هو ركن الملك فأنا ركن الإسلام أنا الفارس الصنديد أنا خالد بن الوليد أنا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 معارك الشام قال الواقدي رحمه الله تعالى: فلما سمع جرجيس كلام خالد تأخر إلى وراءه وقد تغير لونه فقال له: كلوس يا ويلك رأيتك في بدايتك تهيم كالسبع فمالك قد تأخرت فقال: وحق المسيح ما أعلم إنه الفارس الجحجاح وبطلهم الصفاح هذا صاحب القوم الذي ملأ الشام شرا فقال كلوس يا جرجيس اسأله أن يؤخر الحرب بيننا إلى غد فالتفت إلى خالد وقال له: يا سيد قومك هذا صاحبي يريد أن يرجع إلى قومه ليشاورهم فقال خالد: ويحك أتريد أن تخدعني بالكلام وأقبل برمحه في وجه جرجيس فلما نظر جرجيس ذلك انعقد لسانه وولى هاربا فلما رأى خالد ذلك طلب كلوس وحمل عليه وتطاعنا واحترز البطريق من طعنات خالد فلما نظر خالد احتراز البطريق خط يده في أطواقه وجذبه فقلعه من سرجه فلما نظر المسلمون فعل خالد كبروا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 بأجمعهم وتسابق الفرسان إلى خالد فلما قربوا منه رمى لهم البطريق وقال اوثقوه كتافا فصار يبربر بلسانه فأتى المسلمون بروماس صاحب بصري وقالوا: له: أسمع ماذا يقول: فقال لهم يقول: فقال لهم يقول: لكم لا تقتلوني فاني اجبت صاحبكم في المال والجزية فقال خالد: استوثقوا منه ثم نزل عن جواده وركب جوادا أهداه له صاحب تدمر وعزم أن يهجم على الروم فقال ضرار بن الأزور: أيها الأمير دعني أنا أحمل على القوم حتى تستريح أنت فقال: يا ضرار الراحة في الجنة غدا ثم عول خالد على الحملة فصاح به البطريق كلوس وقال: وحق دينك ونبيك إلا ما رجعت الي حتى أخاطبك فرجع خالد إليه وقال لروماس اسأله ما يريد فقال أعلمه إني صاحب الملك وقد بعثني إليكم في خمسة آلاف فارس لاردكم عن بلده وأهله ورعيته وقد تحجبت أنا وعزازير متولي دمشق وقدم الي معه كذا وكذا وأنا اسألك بحق دينك إذا خرج إليك فأقتله وأن لم يخرج إليك فاستدعه وأقتله فإنه رأس القوم فإن قتلته فقد ملكت دمشق فقال خالد لروماس: قل له: أنا لا نبقي عليك ولا عليه ولا على من أشرك بالله تعالى ثم إنه بعد ذلك الكلام حمل وهو ينشد ويقول: لك الحمد مولانا على كل نعمة ... وشكر لما أوليت من سابغ النعم مننت علينا بعد كفر وظلمة ... وأنقذتنا من حندس الظلم والظلم وأكرمتنا بالهاشمي محمد ... وكشفت عنا ما نلاقي من الغم فتمم إله العرش ما قد ترومه ... وعجل لاهل الشرك بالبؤس والنقم وألقهم ربي سريعا ببغيهم ... بحق نبي سيد العرب والعجم قال الواقدي: لقد بلغني ممن أثق به إنه لما ولي جرجيس هاربا من بين يدي خالد إلى أصحابه رأوه يرتعد من الفزع فقالوا له: ما ورءاك فقال: يا قوم ورائي الموت الذي لا يقاتل والليث الذي لا ينازل وهو أمير القوم وقد إلى على نفسه أن يطلبنا أينما كنا وما خلصت روحي إلا بالجهد فصالحوا الرجل قبل أن يحمل عليكم بأصحابه فلا يبقى منكم أحدا فقالوا له: ما يكفيك إنك انهزمت وقد هموا بقتله فبينما هم كذلك إذا أقبل أصحاب كلوس على عزازير وهم خمسة آلاف وصاحوا به وقالوا له: ما أنت عند الملك أعز من صاحبنا وقد كان بيننا وبينك شرط فاخرج أنت إلى خالد واقتله أو أسر هـ وخلص لنا صاحبنا وإلا وحق المسيح والمذبح والذبيح شننا عليك الحرب فقال عزازير وقد رجع به مكره ودهاؤه يا ويلكم أتظنون إني جزعت من الخروج إلى هذا البدوي من أول مرة ولكني ما تأخرت عن الخروج إليه وتقاعدت عن قتاله حتى يتبين عجز صاحبكم وسوف سوف ينظر الفريقان أينا أفرس واشجع وأثبت في مقام القتال إذا نحن تشابكنا بالنصال ثم إنه في الحال ترجل عن جواده ولبس لأمته وركب جوادا يصلح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 للجولان وخرج إلى قتال سيدنا خالد بن الوليد الفارس الصنديد رضي الله عنه فلما قرب منه قال: يا أخا العرب ادن مني حتى أسألك وكان الملعون يعرف العربية فلما سمع خالد ذلك قال: يا عدو الله ادن أنت على أم رأسك ثم هم أن يحمل عليه فقال على رسلك يا أخا العرب أنا أدنو منك فعلم خالد أن الخوف داخله فأمسك عنه حتى قرب منه فقال: يا أخا العرب ما حملك أن تحمل أنت بنفسك أما تخشى الهلاك فلو قتلت بقيت أصحابك بلا مقدم فقال خالد: يا عدو الله قد رأيت ما فعل الرجلان من أصحابي لو تركتهم لهزموا أصحابك بعون الله تعالى وإنما معي رجال وأي رجال يرون الموت مغنما والحياة مغرما ثم قال له خالد: من أنت فقال: أوما سمعت باسمي أنا فارس الشام أنا قاتل الروم والفرس أنا كاسر عساكر الترك فقال خالد: ما أسمك فقال أنا الذي تسميت باسم ملك الموت اسمي عزرائيل. قال الواقدي: فضحك خالد من كلامه وقال: يا عدو الله تخوفني أن الذي تسميت باسمه هو طالبك ومشتاق إليك ليرديك إلى الهاوية فقال له عزازير: وما منعك فعلت بأسيرك كلوس فقال هو موثق بالقيود والأغلال فقال له عزازير: وما منعك من قتله وهو داهية من دواهي الروم فقال خالد: منعني من ذلك إني أريد قتلكم جميعا فقال عزازير هل لك أن تأخذ ألف مثقال من الذهب وعشرة أثواب من الديباج وخمسة رؤوس من الخيل وتقتله وتأتيني برأسه فقال له خالد: هذه ديته فما الذي تعطيني أنت عن نفسك قال فغضب عدو الله من ذلك وقال: ما الذي تأخذ مني قال الجزية وأنت صاغر ذليل فقال عزازير كلما زدنا في كرامتكم زدتم في اهانتنا فخذ الآن لنفسك الحذر فاني قاتلك ولا أبالي فلما سمع خالد كلام عزرائيل حمل عليه حملة غظيمة كانه شعلة نار فاستقبله البطريق وقد أخذ حذره وكان عزازير ممن يعرف بالشجاعة في بلاد الشام فلما نظر خالد إلى عدو الله أظهر شجاعته وبراعته تبسم فقال عزازير وحق المسيح لو أردت الوصول إليك لقدرت على ذلك ولكنني أبقيت عليك لاني أريد أن أستأسرك ليعلم الناس إنك أسيري وبعد ذلك أطلق سبيلك على شرط إنك ترحل من بلادنا وتسلم لنا ما أخذت من بلاد الشام فلما سمع خالد كلام عزازير قال له: يا عدو الله قد داخلك الطمع فينا وهذه العصابة قد ملكوا تدمر وحوران وبصرى وهم ممن باعوا أنفسهم بالجنة واختاروا دار البقاء على دار الفناء وستعلم أينا من يملك صاحبه ويذل جانبه ثم أن خالد أرى البطريق ابواب الحرب قال فندم عزازير على ما كان منه من الكلام وقال: يا أخا العرب أما تعرف الملاعبة فقال خالد: ملاعبتي الضرب في طاعة الرب ثم أن الملعون هاجم خالد ولوح إليه بسيفه وضربه به فلم يقطع شيئا فذهل عدو الله من جولان خالد وثباته وعلم إنه لا يقدر عليه ولا على ملاقاته فولى هاربا وكان جواده أسبق من جواد خالد قال عامر بن الطفيل رضي الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 عنه وكنت يوم حرب دمشق في القلب وشاهدنا ما جرى بين خالد وعزازير لما ولى هاربا وقصر جواد خالد عن طلبه فوقع في قلبه الطمع وقال كان البدوي خاف مني ومالي إلا أن أقف حتى يلحقني وآخذه أسيرا ولعل المسيح ينصرني عليه فلما وقع ذلك في نفسه وقف حتى لحق به خالد وقد جلل فرسه العرق فلما قرب منه صاح عزازير وقال: يا عربي لا تظن إني هارب خوفا منك وإنما أبقيت عليك خوفا على شبابك فارحم نفسك وأن أردت الموت أسوقه إليك أنا قابض الأرواح أنا ملك الموت فعند ذلك ترجل عن جواده وسحب السيف وسار إليه كأنه الاسد الضاري. فلما نظر عزازير إلى ذلك والى ترجل خالد زاد طمعه فيه وحام حوله وهم إليه يريد أن يعلو رأسه بالسيف فزاغ خالد عنها وصاح فيه وضرب قوائم فرسه بضربة عظيمة فقطعها فسقط عدو الله على الأرض ثم ولى هاربا يريد أصحابه فسبقه خالد وقال: يا عدو الله أن الذي تسميت باسمه قد غضب عليك واشتاق إليك وها هو قد اقبل عليك يقبض روحك ليؤديك إلى جهنم ثم هجم عليه وهم أن يجلد به الأرض ونظرت الروم إلى صاحبها وهو في يد خالد فهموا أن يحملوا على خالد ويخلصوه من يده إذ قد أقبلت جيوش المسلمين وأبطال الموحدين مع الأمير أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه كان قد سار من بصرى فوجدوه وقد أخذ عزازير في تلك الساعة فلما نظرت عساكر دمشق إلى جيوش المسلمين قد أقبلت داخلهم الجزع والفزع فوقفوا عن الحملة قال حدثني عمر بن قيس عن شعيب عن عبد الله عن هلال القشعمي قال: لما قدم الأمير أبو عبيدة سأل عن خالد فقالوا: إنه في ميدان الحرب وقد اسر بطريق الروم فدنا أبو عبيدة إليه وهم أن يترجل فأقسم عليه خالد أن لا يفعل وأقبل عليه وصافحه وكان أبو عبيدة يحب خالدا لمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو عبيدة لخالد: يا أبا سليمان لقد فرحت بكتاب أبي بكر الصديق حين قدمك علي وأمرك علي وما حقدت في قلبي عليك لاني أعلم مواقفك في الحرب فقال خالد: والله لا فعلت أمرا إلا بمشورتك ووالله لولا أمر الإمام طاعة لما فعلت ذلك أبدا لانك اقدم مني في دين الإسلام وأنا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت قال: فيك أبو عبيدة أمين هذه الأمة فشكره أبو عبيدة وقدم لخالد جواده فركبه وقال خالد لأبي عبيدة: اعلم أيها الأمير أن القوم قد خذلوا ووقع الرعب في قلوبهم وأهينوا بأخذ كلوس وعزازير قال: وسار مع أبي عبيدة يحدثه بما صار من البطريقين وكيف نصره الله عليهما إلى أن أتيا الدير فنزلا هناك وأقبل المسلمون يسلم بعضهم على بعض فلما كان الغد ركب الناس وتزينت المواكب وزحف أهل دمشق للقتال وقد أمروا عليهم صهر الملك هرقل ولما أقبلوا قال خالد لأبي عبيدة: أن القوم قد انخذلوا ووقع الرعب في قلوبهم فاحمل بنا على القوم قال أبو عبيدة: افعل قال فحمل خالد وحمل أبو عبيدة وحمل المسلمون على عساكر الروم حملة عظيمة وكبروا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 بأجمعهم فارتجت الأرض من تكبيرهم ووقع القتل في الروم وجاهد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جهادا عظيما وذهلت منهم الكفار قال عامر بن الطفيل لقد كان الواحد منا يهزم من الروم العشرة والمائة قال فما لبثوا معنا ساعة واحدة حتى ولوا الأدبار وركنوا إلى الفرار وأقبلنا نقتل فيهم من الدير إلى الباب الشرقي فلما نظر أهل دمشق إلى انهزام جيشهم أغلقوا الأبواب في وجه من بقي منهم قال قيس ابن هبيرة رضي الله عنه فمنهم من قتلناه ومنهم من أسرناه فلما رجع خالد عنهم قال لأبي عبيدة: أن من الرأي أن أنزل أنا على الباب الشرقي وتنزل أنت على باب الجباية فقال أبو عبيدة: هذا هو الرأي السديد. قال: حدثنا سهل بن عبد الله عن أويس بن الخطاب أن الذي قدم مع الأمير أبي عبيدة من المسلمين من أهل الحجاز واليمن وحضرموت وساحل عمان والطائف وما حول مكة كان سبعة وثلاثين ألف فارس من الشجعان وكان مع عمرو بن العاص تسعة آلاف فارس والذين قدم بهم خالد بن الوليد رضي الله عنه من العراق ألف فارس وخمسمائة فارس فكان جملة ذلك سبعة وأربعين ألفا وخمسمائة غير ما جهز عمر بن الخطاب في خلافته وسنذكر ذلك إذا وصلنا إليه أن شا الله تعالى هذا وأن خالدا نزل بنصف المسلمين على الباب الشرقي ونزل أبو عبيدة بالنصف الثاني على باب الجابية فلما نظر أهل دمشق إلى ذلك نزل الرعب في قلوبهم ثم أن خالدا أحضر البطريقين بين يديه وهما كلوس وعزازير فعرض عليهما الإسلام فأبيا فأمر ضرار بن الأزور أن يضرب عنقيهما ففعل قال فلما نظر أهل دمشق ما فعلوا بالبطريقين كتبوا إلى الملك كتابا يخبرونه بما جرى على كلوس وعزازير وقد نزلت العرب على الباب الشرقي وباب الجابية وقد نزلوا بشبانهم وأولادهم وقد قطعوا أرض البلقاء وأرض السواد ووصفوا له ما ملك العرب من البلاد فأدركنا وإلا سلمنا إليهم البلد ثم سلموا الكتاب إلى رجل منهم وأعطوه أوفى أجرة وأدلوه بالجبل من أعلى الاسوار في ظلمة الأعتكار. قال الواقدي: وأن الرجل وصل إلى الملك هرقل وهو بأرض انطاكية فاستأذن عليه فأمر له بالدخول فلما دخل سلم الكتاب إليه فلما قرأه الملك رماه من يده وبكى ثم إنه جمع البطارقة وقال لهم: يا بني الأصفر لقد حذرتكم من هؤلاء العرب وأخبرتكم إنهم سوف يملكون ما تحت سريري هذا فاتخذتم كلامي هزوءا وأردتم قتلي وهؤلاء العرب خرجوا من بلاد الجدب والقحط وأكل الذرة والشعير إلى بلاد خصبة كثيرة الاشجار والثمار والفواكه فاستحسنوا ما نظروه من بلادنا وخصبنا وليس يزجرهم شيء لما هم فيه من العزم والقوة وشدة الحرب ولولا إنه عار علي لتركت الشام ورحلت إلى القسطنطينية العظمى ولكن ها أنا أخرج إليهم وأقاتلهم عن أهلي وديني فقالوا: أيها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 الملك ما بلغ من شأن العرب أن تخرج إليهم بنفسك وقعودك أهيب قال الملك هرقل نبعث إليهم قالوا: عليك أيها الملك بوردان صاحب حمص لانه ليس فينا مثله في القوة وملاقاة الرجال ولقد بين لنا شجاعته في عساكر الفرس لما قصدونا قال فأمر الملك باحضاره فلما حضر وردان قال له الملك: إنما قدمتك لانك سيفي القاطع وسندي المانع فاخرج من وقتك وساعتك ولا تتأخر فقد قدمتك على اثني عشر ألف فإذا وصلت إلى بعلبك فانقذ إلى من بأجنادين بأن يتفرقوا في أرض البلقاء وجبال السواد فيكونوا هناك ولا تتركوا أحدا من العرب يلحق بأصحابه يعني عمرو بن العاص رضي الله عنه فقال وردان: السمع والطاعة لك أيها الملك وسوف يبلغك الخبر إني لا أعود إلا برأس خالد بن الوليد ومن معه اهزمهم جميعا وبعد ذلك أدخل الحجاز ولا أخرج حتى أهدم الكعبة ومكة والمدينة قال فلما سمع الملك هرقل قوله قال: وحق الإنجيل لئن فعلت ذلك ووفيت بقولك لأعطينك ما فتحوه حرثا وخراجا وكتبت كتاب العهد إنك الملك من بعدي ثم سوره وتوجه وأعطاه صليبا من الذهب وفي جوانبه أربع يواقيت لا قيمة لها وقال إذا لاقيت العرب فقدمه أمامك فهو ينصرك قال: فلما تسلم وردان الصليب من وقته دخل الكنيسة وانغمر في ماء المعمودية وبخروه ببخور الكنائس وصلى عليه الرهبان وخرج من وقته فضرب خيامه خارج المدينة قال: وأخذت الروم على أنفسهم بالرحيل فلما تكاملوا ركب الملك هرقل وسار لوداعهم وصحبته أرباب دولته فوصل معهم إلى جسر الحديد بها فودعه الملك وسار إلى أن وصل إلى حماة فنزل بها وأنفذ من وقته كتابا إلى من بأجنادين من جيوش الروم يأمرهم ليتفرقوا في سائر الطرقات ليمنعوا عمرو بن العاص ومن معه أن يصلوا إلى خالد فلما سار الرسول بالكتاب جمع وردان إليه البطارقة وقال لهم: إني أريد أن أسير على حين غفلة على طريق مارس حتى أكبس على القوم ولا ينجو منهم أحد فلما كان الليل رحل على طريق وادي الحياة. قال حدثني شداد بن أوس قال لما دخل خالد بن الوليد رضي الله عنه بعد قتل البطريقين أمر المسلمين أن يزحفوا إلى دمشق قال فزحف منا الرجال من العرب وبأيديهم الحجف يتلقون بها الحجارة والسهام فلما نظر أهل دمشق إلينا ونحن قد زحفنا إليهم رمونا بالسهام والحجارة من أعلى الاسوار وضيقنا عليهم في الحصار وأيقن القوم بالدمار قال شداد ابن أوس فأقمنا على حصارهم عشرين يوما فلما كان بعد ذلك جاءنا ناوي بن مرة وأخبرنا عن جموع الروم بأجنادين وكثرة عددهم فركب خالد نحوه باب المدينة الجابية إلى أبي عبيدة يخبره بذلك ويستشيره وقال: يا أمين الأمة إني رأيت أن ترحل من دمشق إلى اجنادين ونلقى من هناك من الروم فإذا نصرنا الله عليهم عدنا إلى قتال هؤلاء القوم قال أبو عبيدة: ليس هذا برأي قال خالد: ولم ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 قال أبو عبيدة: إذا رحلنا يخرج أهل المدينة فيملكون مواضعنا فلما سمع خالد ذلك من أبي عبيدة قال: يا أمين الأمة إني أعرف رجلا لا يخاف الموت خبيرا بلقاء الرجال قد مات أبوه وجده في القتال قال: ومن هذا الرجل يا أبا سليمان قال: هو ضرار بن الأزور بن طارق قال أبو عبيدة: والله لقد صدقت ووصفت رجلا باذلا معروفا فافعل قال: فرجع خالد إلى بابه واستدعى بضرار بن الأزور فجاء إليه وسلم عليه فقال: يا ابن الأزور إني أريد أن أقدمك على خمسة آلاف قد باعوا أنفسهم لله عز وجل واختاروا دار البقاء والاخرة على الأولى وتسيروا إلى لقاء هؤلاء القوم الذين وردوا علينا فإن رأيت لك فيهم طمعا فقاتلهم وأن رأيت إنك لا تقدر عليهم فابعث إلينا رسولك فقال ضرار بن الأزور وافرحتاه والله يا ابن الوليد ما دخل قلبي مسرة أعظم من هذه فاتركني أسير وحدي قال خالد: لعمري إنك ضرار ولكن لا تلق نفسك إلى الهلاك وسر بما ندب معك من المسلمين قال فقام ضرار رضي الله عنه مسرعا فقال خالد: ارفق بنفسك حتى يجتمع عليك الجيش فقال: والله لا وقفت ومن علم الله فيه خيرا أدركني ثم ركب ضرار وأسرع إلى أن وصل إلى بيت لهيا وهو الموضع الذي كان يصنع فيه الأصنام فوقف هناك حتى لحق به أصحابه فلما تكاملوا نظر ضرار وإذا بجيش الروم ينحدر كأنه الجراد المنتشر وهم غائصون في الدروع وقد أشرقت الشمس على لأماتهم وطوارقهم. فلما نظر إليهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: لضرار أما والله أن هذا الجيش عرمرم والصواب أننا نرجع فقال ضرار والله لا زلت أضرب بسيفي في سبيل الله واتبع من أناب إلى الله ولا يراني الله مهزوما ولا أولى الدبر لأن الله تعالى يقول: {فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ*وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [الأنفال: 16] وتكلم رافع بن عميرة الطائي وقال: يا قوم وما الخيفة من هؤلاء العلوج أما نصركم الله في مواطن كثيرة والنصر مقرون مع الصبر ولم تزل طائفتنا تلقى الجموع الكثيرة والجموع اليسيرة فاتبعوا سبيل المؤمنين وتضرعوا إلى رب العالمين وقولوا كما قال قوم طالوت عند لقائهم جالوت {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} فلما سمع ضرار كلامهم وإنهم اشتروا الاخرة على الأولى كمن بهم عند بيت لهيا وأخفى أمره وجلس عاري الجسد بسراويله على فرس له عربي بغير سلاح وبيده قناة كاملة الطول وهو يوصي القوم. قال الواقدي: هكذا حدثني تميم بن أوس عن جده عمرو بن دارم قال كنت يوم بيت لهيا ممن صحب ضرار بن الأزور رضي الله عنه وهو بهذه الصفة رغبة منه في الشهادة فلما قارب العدو كان أول من برز وكبر ضرار بن الأزور قبل فأجابه المسلمون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 بتكبيرة واحدة رعبت منها قلوب المشركين وفاجئوهم بالحملة ونظروا إلى ضرار بن الأزور وهو في أول القوم وهو في حالته التي وصفناها فهالهم أمره وكان وردان في المقدمة والأعلام والصلبان مشتبكة على رأسه قال فما طلب ضرار غيره لانه علم إنه صاحبهم فحمل عليه غير مكترث به وطعن فارسا كان في يده العلم فتجندل من على فرسه قتيلا ثم إنه طعن اخر في الميمنة فارداه وحمل يريد القلب وكان قد عاين وردان والصليب على رأسه يحمله فارس من الروم والجواهر تلمع من أربع جوانبه فعارضه ضرار وطعن حامله طعنة عظيمة فخرج السنان يلمع من خاصرته قال: فسقط الصليب منكسا إلى الأرض فلما نظر وردان إلى الصليب أيقن بالهلاك وهم أن يترجل لاخذه أو يميل في ركابه ليأخذه فلما وجد لذلك سبيلا لما قد أحدق به وترجل عليه قوم من المسلمين ليأخذوه وقد اشتغل كل عن نفسه ونظر ضرار إلى من ترجل لاخذ الصليب فقال معاشر المسلمين أن الصليب لي دونكم وأنا صاحبه فلا تطمعوا فاني إليه راجع إذا فرغت من كلب الروم قال فسمع ذلك وردان وكان يعرف العربية فعطف من القلب يريد الهرب فقالت البطارقة: إلى أين أيها السيد أتفر من الشيطان فما رأينا ادنى من منظره ولا أهول من مخبره ونظر إليه ضرار وقد عطف راجعا فعلم إنه قد عزم على الهرب فصاح بقومه ثم اقتحم في أثره ومد رمحه وهمز جواده فتصارخت به الروم وعطفت عليه المواكب من كل جانب فأنشد يقول: الموت حق أين لي منه المفر ... وجنة الفردوس خير المستقر هذا قتالي فاشهدوا يا من حضر ... وكل هذا في رضا رب البشر ثم اخترق القوم وحمل عليهم وحمل المسلمون في أثره فاحدقوا بهم من كل مكان ونظروا إلى ضرار وقد قصده وردان صاحب حمص عندما علم إنه اخترق القوم فمد إليه رمحه وقدأحدقت به بطارقته وضرار يمانع عن نفسه يمينا وشمالا فما طعنأحدا إلا اباده إلى أن قتل من القوم خلقا كثيرا وهو يصرخ بقومه ويقول: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف:4] قال اكتب عليه جيوش الروم من كل جانب ومكان واشتعل الحرب بينهم ووصل همدان بن وردان إلى ضرار بن الأزور ورماه بسهم فأصاب عضده الإيمن فوصل السهم إليه فأوهنه واحسن ضرار بالألم فحمل على همدان وصمم عليه برمحه وطعنه فأصاب بالطعنة فواده فوصل السنان إلى ظهره فجذب الرمح منه فلم يخرج وإذا به قد اشتبك في عظم ظهره فخرج الرمح من غير سنان فطمعوا فيه وحملوا عليه وأخذوه أسيرا فنظر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ضرار وهو اسير فعظم الأمر عليهم وقاتلوا قتالا شديدا ليخلصوه فما وجدوا إلى ذلك سبيلا وأرادوا الهرب فقال رافع بن عميرة الطائي يا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 أهل القرآن إلى أين تريدون أما علمتم أن من ولى ظهره لعدوه فقد باء بغضب من الله وأن الجنة لها أبواب لا تفتح إلا للمجاهدين الصبر الصبر الجنة الجنة يا أهل الكتاب كروا على الكفار عباد الصلبان وها أنا معكم في أوائلكم فإن كان صاحبكم أسر أو قتل فإن الله حي لا يموت وهو يراكم بعينه التي لا تنام فرجعوا وحملوا معه. قال: ووصل الخبر إلى خالد أن ضرار قد أسر بيد الروم وانه قتل من الروم خلقا كثيرا فعظم ذلك على خالد وقال في كم العدو قالوا: اثني عشر ألف فارس فقال: والله ما ظننت إلا إنهم في عدد يسير ولقد غررت بقومي ثم سأل عن مقدمهم من يكون فقيل وردان صاحب حمص وقد قتل ضرار ولده همدان فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ثم ارسل إلى أبي عبيدة يستشيره فبعث إليه أبو عبيدة يقول له: اترك على الباب الشرقي من تثق به وسر إليهم فانك تطحنهم باذن الله تعالى فلما وصل الجواب إلى خالد قال: والله ما أنا ممن يبخل بنفسه في سبيل الله ثم أوقف بالمكان ميسرة بن مسروق العبسي رضي الله عنه ومعه ألف فارس وقال له: احذر أن تنقذ من مكانك فقال ميسرة حبا وكرامة وعطف خالد بالناس وقال له: أطلقوا الأعنة وقوموا الاسنة فإذا أشرفتم على العدو فاحملوا حملة واحدة ليخلص فيها ضرار أن شاء الله تعالى أن كانوا أبقوا عليه والله أن كانوا عجلوا عليه لنأخذن بثأره أن شاء تعالى وأرجو أن لا يفجعنا به ثم تقدم أمام القوم وجعل يقول: اليوم يوم فاز فيه من صدق ... لا ارهب الموت إذا الموت طرق لاروين الرمح من ذوي الحدق ... لاهتكن البيض هتكا والدرق عسى أرى غدا مقام من صدق ... في جنة الخلد والقى من سبق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 خولة بن الأزور فبينما خالد يترنم بهذه الأبيات إذ نظر إلى فارس على فرس طويل وبيده رمح طويل وهو لا يبين منه إلا الحدق والفروسية تلوح من شمائله وعليه ثياب سود وقد تظاهر بها من فوق لامته وقد خرم وسطه بعمامة خضراء وسحبها على صدره ومن ورائه وقد سبق أمام الناس كأنه نار فلما نظره خالد قال ليت شعري من هذا الفارس وايم الله إنه لفارس شجاع ثم اتبعه خالد والناس وكان هذا الفارس اسبق الناس المشاركين قال: وكان رافع بن عميرة الطائي رضي الله عنه في قتال المشركين وقد صبر لهم هو ومن معه إذ نظر خالدا وقد أنجده هو ومن معه من المسلمين ونظر إلى الفارس الذي وصفناه وقد حمل على عساكر الروم كأنه النار المحرقة فزعزع كتائبهم وحطم مواكبهم ثم غاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 في وسطهم فما كانت إلا جولة الجائل حتى خرج وسنانه ملطخ بالدماء من الروم وقد قتل رجالا وجندل أبطالا وقد عرض نفسه للهلاك ثم اخترق القوم غير مكترث بهم ولا خائف وعطف على كراديس الروم في الناس وكثر قلقهم عليه فأما رافع بن عميرة ومن معه فما ظنوا إلا إنه خالد وقالوا: ما هذه الحملات إلا لخالد فهم على ذلك إذ أشرف عليهم رضي الله عنه وهو في كبكة من الخيل فقال رافع بن عميرة من الفارس الذي تقدم أمامك فلقد بذل نفسه ومهجته فقال خالد: والله انني أشد إنكارا منكم له ولقد أعجبني ما ظهر منه ومن شمائله فقال رافع أيها الأمير إنه منغمس في عسكر الروم يطعن يمينا وشمالا. فقال خالد: معاشر المسلمين احملوا بأجمعكم وساعدوا المحامي عن دين الله قال فأطلقوا الأعنة وقوموا الاسنة والتصق بعضهم ببعض وخالد أمامهم إذ نظر إلى الفارس وقد خرج من القلب كأنه شعلة نار والخيل في أثره وكلما لحقت به الروم لوى عليهم وجندل فعند ذلك حمل خالد ومن معه ووصل الفارس المذكور إلى جيش المسلمين قال فتأملوه فرأوه قد تخصب بالدماء فصاح خالد والمسلمون لله درك من فارس بذل مهجته في سبيل الله وأظهر على الأعداء اكشف لنا عن لثامك قال فمال عنهم ولم يخاطبهم وانغمس في الروم فتصايحت به الروم من كل جانب وكذلك المسلمون وقالوا: أيها الرجل الكريم أميرك يخاطبك وأنت تعرض عنه اكشف عن اسمك وحسبك لتزداد تعظيما فلم يرد عليهم جوابا فلما بعد عن خالد سار إليه بنفسه وقال له: ويحك لقد شغلت قلوب الناس وقلبي بفعلك من أنت قال فلما لج عليه خالد خاطبه الفارس من تحت لثامه بلسان التأنيث وقال انني يا أمير لم أعرض عنك إلا حياء منك لانك أمير جليل وأنا من ذوات الخدور وبنات الستور وإنما حملني على ذلك إني محرقة الكبد زائدة الكمد فقال لها: من أنت قالت: أنا خولة بنت الأزور المأسور بيد المشركين أخي وهو ضرار وإني كنت مع بنات العرب وقد أتاني الساعي بأن ضرار أسير فركبت وفعلت ما فعلت قال خالد: نحمل بأجمعنا ونرجو من الله أن نصل إلى أخيك فنفكه قال عامر بن الطفيل كنت عن يمين خالد بن الوليد حين حملوا وحملت خولة أمامه وحمل المسلمون وعظم على الروم ما نزل بهم من خولة بنت الأزور وقالوا: إن كان القوم كلهم مثل هذا الفارس فما لنا بهم من طاقة ولما حمل خالد ومن معه إذا بالروم قد اضطربت جيوشهم ونظر وردان إليهم فقال لهم: اثبتوا للقوم فإذا رأوا ثباتكم ولوا عنكم ويخرج أهل دمشق يعنونكم على قتالهم قال فثبت المسلمون لقتال الروم وحمل خالد بالناس حملة منكرة وفرق القوم يمينا وشمالا وقصد خالد مكان صاحبهم وردان عند اشتباك الأعلام والصلبان وإذا حوله أصحاب الحديد والزرد النضيد وهم محدقون به فحمل خالد عليهم حملة منكرة واشتبك المسلمون بقتال الروم وكل فرقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 مشغولة بقتال صاحبها وأما خولة بنت الأزور فإنها جعلت تجول يمينا وشمالا وهي لا تطلب إلا أخاها وهي لا ترى له أثرا ولا وقفت له على خبر إلى وقت الظهر وافترق القوم بعضهم عن بعض وقد أظهر الله المسلمين على الكافرين وقتلوا منهم مقتلة عظيمة قال: وتراجعت كل فرقة إلى مكانها وقد كمدت افئدة الروم ما ظهر لهم من المسلمين وقد هموا بالهزيمة وما يمسكهم إلا الخوف من صاحبهم وردان فلما رجع القوم إلى مكانهم أقبلت خولة بنت الأزور على المسلمين وجعلت تسألهم رجلا رجلا عن أخيها فلم تر من المسلمين من يخبرهما إنه نظره أو رآه أسيرا أو قتيلا فلما يئست منه بكت بكاءا شديدا وجعلت تقول يا ابن أمي ليت شعري في أي البيداء طرحوك أم بأي سنان طعنوك أم بالحسام قتلوك يا أخي أختك لك الفداء لو إني أراك انقدتك من أيدي الأعداء ليت شعري أترى الي أراك بعدها ابدا فقد تركت يا ابن أمي في قلب أختك جمرة لا يخمد لهيبها ولا يطفأ ليت شعري لحقت بأبيك المقتول بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فعليك مني السلام إلى يوم اللقاء قال فبكى الناس من قولها وبكى خالد وهم أن يعاود بالحملة إذ نظر إلى كردوس من الروم قد خرج من ميمنة العقبان فتأهب الناس لحربهم وتقدم خالد وحوله أبطال المسلمين فلما قربوا من القوم رموا رماحهم من أيديهم والسيوف وترجلوا ونادوا بالأمان فقال خالد: اقبلوا أمانهم وائتوني بهم فأتوا إليه فقال خالد: من أنتم فقالوا: نحن من جند هذا الرجل وردان ومقامنا بحمص وقد تحقق عندنا إنه ما يطيقكم ولا يستطيع حربكم فأعطونا الأمان واجعلونا من جملة من صالحتم من سائر المدن حتى نؤدي لكم المال الذي أردتم في كل سنة فكل من في حمص يرضي بقولنا. فقال خالد: إذا وصلت إلى بلادكم يكون الصلحإن شاء الله تعالى أن كان لكم فيه أرب ولكن نحن ههنا لا نصالحكم ولكن كونوا معنا إلى أن يقضي الله ما هو قاض ثم أن خالدا قال لهم: هل عندكم علم عن صاحبنا الذي قتل ابن صاحبكم قالوا: لعله عاري الجسد الذي قتل منا مقتله عظيمة وفجع صاحبنا في ولده قال خالد: عنه سألتكم قالوا: بعثه وردان عندنا أسيرا على بغل ووكل به مائة فارس وأنفذه إلى حمص ليرسله إلى الملك ويخبره بما فعل قال ففرح خالد بقولهم ثم دعا برافع بن عميرة الطائي وقال: يا رافع ما أعلم أحدا أخبر منك بالمسالك وأنت الذي قطعت بنا المفازة من أرض السماوة وأعطشت الإبل واوردتها الماء وأوردتنا أركة وما وطئها جيش قبلنا لمفازتها وأنت أوحد أهل الأرض في الحيل والتدبير فخذ معك من أحببت واتبع أثر القوم فلعلك أن تلحق بهم وتخلص صاحبنا من أيديهم فلئن فعلت ذلك لتكونن الفرحة الكبرى فقال رافع بن عميرة حبا وكرامة ثم إنه في الحال انتخب مائة فارس شدادا من المسلمين وعزم على المسير فأتت البشارة إلى خولة بمسير رافع بن عميرة ومن معه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 طلب أخيها ضرار فتهلل وجهها فرحا وأسرعت إلى لبس سلاحها وركبت جوادها وأتت إلى خالد بن الوليد ثم قالت له: أيها الأمير سألتك بالطاهر المطهر محمد سيد البشر إلا ما سرحتني مع من سرحت فلعلي أن أكون مشاهدة لهم فقال خالد لرافع: أنت تعلم شجاعتها فخذها معك فقال له: رافع السمع والطاعة وارتحل رافع ومن معه وسارت خولة في أثر القوم ولم تختلط بهم وسار إلى أن قرب من سليمة قال فنظر رافع فلم يجد للقوم أثرا فقال لأصحابه: أبشروا فإن القوم لم يصلوا إلى ههنا ثم إنه كمن بهم في وادي الحياة فبينما هم كامنون إذا بغبرة قد لاحت فقال رافع لأصحابه ايقظوا خواطركم وانتبهوا فأيقط القوم هممهم وبقوا في انتظار العدو وإذا بهم قد أتوا وهم محدقون بضرار فلما رأى رافع ذلك كبر وكبر المسلمون معه وحملوا عليهم فلم يكن غير ساعة حتى خلص الله ضرارا وقتلوهم جميعا وأخذوا سلبهم قال: وإذا بعساكر الروم قد اقبلت منهزمة وأولهم لا يلتفت إلى آخرهم فعلم رافع أن القوم انهزموا فأقبل يلتقطهم بمن معه قال: وكان خالد لما أرسل رافع بن عميرة في طلب ضرار ليخلصه ومعه المائة فارس صدم وردان صدمة من يحب الشهادة ويبتغي دار السعادة وصدم المسلمون الروم فما لبثوا أن ولو الأدبار وركنوا إلى الفرار وكان أولهم وردان واتبعهم المسلمون وأخذوا أسلابهم وأموالهم ولم يزالوا في طلبهم إلى وادي الحياة فاجتمع المسلمون برافع بن عميرة الطائي وضرار بن الأزور وسلموا عليهم وفرحوا بضرار رضي الله عنه وهنؤوه بالسلامة قال: واثنى خالد على رافع خيرا ورجعوا إلى دمشق وفرح المسلمون بالنصر واتصل الخبر إلى الملك هرقل وأن وردان قد انهزم وقتل ولده همدان قال فأيقن بزوال ملكه من الشام فكتب إلى وردان كتابا يقول فيه: أما بعد فإني قد بلغني جياع الأكباد عراة الأجساد قد هزموك وقتلوا وادك رحمه المسيح ورحمك ولولا إني أعلم إنك فارس الحرب ومجيد الطعن والضرب وليس النصر آتيك لحل عليك سخطي والآن مضى ما مضى وقد بعثت إلى اجنادين تسعين الفا وقد أمرتك عليهم فسر نحوهم وانجد أهل دمشق وأنفذ بعضهم ليمنعوا من في فلسطين من العرب وحل بينهم وبين أصحابهم وانصر دينك وصاحبك قال: وانفذ إليه الكتاب مع خيل البريد فلما ورد عليه الكتاب وقرأه سرى عنه بعض ما كان يجده وأخذ الأهبة إلى اجنادين فسار فوجد الروم قد تجمعوا وأظهروا العدد والزرد وخرجوا إلى لقائه وسلموا عليه وتقدموا بين يديه وعزوه في ولده فلما استقر قراره قرأ عليهم منشور الملك فأجابوا بالسمع والطاعة واخذوا على أنفسهم. قال حدثني روح بن طريف قال كنت مع خالد بن الوليد على باب شرقي حين رجعنا من هزيمة وردان واذ قد ورد علينا عباد بن سعد الحضرمي وكان قد بعثه شرحبيل بن حسنة كاتب وحي رسول الله صلى الله عليه وسلم من بصرى يعلم خالدا بمسير الروم إليه من. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 اجنادين في تسعين ألف فارس فخذ أهبتك للقائهم قال فلما سمع خالد ذلك ركب إلى أبي عبيدة وقال له: يا أمين الأمة هذا عباد بن سعد الحضرمي قد بعث به شرحبيل بن حسنة يخبر أن طاغية الروم هرقل قد ولى وردان على من تجمع باجنادين من الروم وهم تسعون الفا فما ترى من الرأي يا صاحب رسول الله فقال أبو عبيدة: اعلم يا أبا سليمان أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متفرقون مثل شرحبيل بن حسنة بأرض بصرى ومعاذ بن جبل بحوران ويزيد بن أبي سفيان بالبلقاء والنعمان بن المغيرة بأرض تدمر وأركة وعمرو بن العاص بأرض فلسطين والصواب أن تكتب إليهم ليقصدونا حتى نقصد العدو ومن الله نطلب المعونة والنصر قال فكتب خالد إلى عمرو بن العاص كتابا يقول فيه: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإن إخوانكم المسلمين قد عولوا على المسير إلى اجنادين فإن هناك تسعين الفا من الروم يريدون المسير إلينا: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:8] فإذا وصل إليك كتأبي هذا فاقدم علينا بمن معك إلى اجنادين تجدنا هناك إن شاء الله تعالى والسلام عليك وعلى من معك من المسلمين ورحمة الله وبركاته وكتب نسخة الكتاب إلى جميع الأمراء الذين ذكرناهم ثم أمر الناس بالرحيل فرفعت القباب والهوادج على ظهور الجمال وساقوا الغنائم والأموال فقال خالد لأبي عبيدة: قد رأيت رأيا أن أكون على الساقة مع الغنائم والأموال والبنين والولدان والبنين والولدان وكن أنت على المقدمة مع خاصة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو عبيدة: بل أكون أنا على الساقة وأنت على المقدمة مع الجيش فإن وصل إليك جيش الروم مع وردان يجدوك على اهبة فتمنعهم من الوصول إلى الحريم والأولاد فلا يصلون إلينا إلا وانت قتلت فيهم وإلا كنت أنا ومن معي غنيمة لهم إذا كنت أنا في المقدمة فقال خالد: لست أخالفك فيما ذكرت ثم أن خالدا قال: أيها الناس إنكم سائرون إلى جيش عظيم فأيقظوا هممكم وأن الله وعدكم النصر وقرأ عليهم قوله تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249] . ثم أن خالدا أخذ الجيش وسار في المقدمة وبقي أبو عبيدة في ألف من المسلمين ونظر إلى ذلك أهل دمشق فعطفوا عليهم واقبلوا بسيوفهم وهم يظنون إنه منهزمون لأجل ما بلغهم من الجيش العظيم الذي هو بأجنادين فقال لهم عقلاؤهم: أن كانوا سائرين على طريق بعلبك فأنهم يريدون فتحا وفتح حمص وأن كانوا على طريق مرج راهط فالقوم لا شك هاربون إلى الحجاز ويتركون ما أخذوا من البلاد قال: وكان بدمشق بطريق يقال له بولص: وكان عظيما عند النصراينة وكان إذا قدم على الملك يعظمه وكان الملعون فارسا وذلك إنهم كان عندهم شجرة فرماها بسهم فغاص السهم في الشجرة من قوة ساعده ثم أن من عجبه كتب عليها أن كل من يدعي الشجاعة فليزم بسهمه إلى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 جانب سهمي وكان قد شاع ذكره بذلك ولم يحضر قتال المسلمين منذ دخلوا دمشق فلما اجتمعوا عليه قال لهم بولص: ما الذي حل بكم فأعلموه بما جرى عليهم من المسلمين وقالوا له: إن كنت تريد حياة الأبد عند الملك وعند المسيح وعند أهل دين النصرانية فدونك والمسلمين فاخرج إليهم واخطف كل من تخلف منهم وأن رأيت لنا فيهم مطمعا قاتلناهم فقال بولص إنما كان سبب تخلفي عن نصرتكم لانكم قليلوا الهمة لقتال عدوكم فتخلفت عنكم والآن لا حاجة لي في قتال العرب. فقالوا: وحق المسيح والإنجيل الصحيح لئن سرت في مقدمتنا لنثبتن معك وما منا من يولى عنك وقد حكمناك فيمن ينهزم أن تضرب عنقه ولا يعارضك في ذلكأحد قال فلما استوثق منهم دخل إلى منزله ولبس لامته فقالت له زوجته: إلى أين عزمت قال أخرج في أثر العرب فقد ولاني أهل دمشق عليهم فقالت: لا تفعل والزم بيتك ولا تطلب ما ليس لك به حاجة فاني رأيت لك في المنام رؤيا فقال لها: ومال الذي رأيتي قالت: رأيتك كانك قابض قوسك وانت ترمي طيورا وقد سقط بعضها على بعض ثم عادت صاعدة فبينما أنا متعجبة إذ أقبلت نحوك سحابة من الجو فانقضت عليك من الهواء وعلى من معك فجعلت تضرب هاماتهم ثم وليتم هاربين ورأيتها لا تضربأحدا إلا صرعته ثم إني انتبهت وأنا مذعورة باكية العين عليك فقال لها: ومع ذلك رأيتيني فيمن صرع قالت: نعم وقد صرعك فارس عظيم قال فلطم وجهها وقال: لا بشرك المسيح بخير لقد دخل رعب العرب في قلبك حتى صرت تحلمين بهم في النوم فلا بد أن أجعل لك أميرهم خادما وأجعل أصحابه رعاة الغنم والخنازير فقالت له زوجته: أفعل ما تريد فقد نصحتك قال فلم يلتفت إلى كلامها وخرج من عندها وركب وسار معه من كان في دمشق من الروم ففرضهم فإذا هم ستة آلاف فارس وعشرة آلاف راجل من أهل النجدة والحمية وسار يطلب القوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 معركة حول دمشق وكان خالد في المقدمة وأبو عبيده يمشي مع الأموال والأغنام والجمال إذ نظر رجل من أصحابه وهو يتأمل الغبرة من ورائهم فسأله أبو عبيدة عن ذلك فقال أظنها غبرة القوم فقال أبو عبيدة: أن أهل الشام قد طمعوا فينا وهذا العدو قاصد إلينا قال فما استتم كلامه حتى بدت الخيل كأنها السيل وبولص في أوائلهم فلما نظر إلى أبي عبيدة قصده ومعه الفرسان وأخوه بطرس قصد الحريم والماس فاقتطعوا منها قطعة فلما احتوى عليها رجع بها بطرس نحو دمشق فلما بعد جلس هناك لنظر ما يكون من أمر أخيه وأما أبو عبيدة فإنه لما نظر إلى ما فاجأه من الروم قال: والله لقد كان الصواب مع خالد لما قال دعني في الساقة فلم أدعه وانه قد وصل إليه بولص وقصده والأعلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 والصلبان على رأسه مشتبكة والنساء يولولن والصبيان يصيحون والألف من المسلمين قد اشتغلوا بالقتال وقد قصد عدو الله بولص أبا عبيدة واشتد بينهم الحرب ووقع القتال من أصحابه والروم وارتفعت الغبرة عليهم وهم في كر وفر على أرض سحورا قال: وقد بلى أبو عبيدة بالقتال وصبر صبر الكرام قال سهيل بن صباح وكان تحتي الجواد محجل من خيل اليمن شهدت عليه اليمامة فقومت السنان وأطلقت العنان فخرج كأنه الريح العاصف فما كان غير بعيد حتى لحقت بخالد بن الوليد والمسلمين فأقبلت إليهم صارخا وقلت: أيها الأمير أدرك الأموال والحريم فقال خالد: ما وراءك يا ابن الصباح فقلت: أيها الأمير الحق أبا عبيدة والحريم فإن نفير دمشق قد لحق بهم وقد اقتطعوا قطعة من النسوان والولدان وقد بلى أبو عبيدة بما لا طاقة لنا به قال فلما سمع خالد ذلك الكلام من سهل بن صباح قال أنا لله وأنا إليه راجعون قد قلت لأبي عبيدة: دعني أكون على الساقة فما طاوعني ليقضي الله أمرا كان مفعولا ثم أمر رافع بن عميرة على ألف من الخيل وقال له: كن في المقدمة وأمر عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق على ألفين وقال له: ادرك العدو وسار خالد في أثره ببقية الجيش. قال فبينما أبو عبيدة في القتال مع بولص لعنه الله إذ تلاحقت به جيوش المسلمين وحملوا على اعداء الله وداروا بهم من كل مكان فعند ذلك تنكست الصلبان وأيقن الروم بالهوان وتقدم الأمير ضرار بن الأزور كأنه شعلة نار وقصد نحو بولص فلما رآه عدو الله تبلبل خاطره ووقعت الرعدة في فرائصه وقال لأبي عبيدة: يا عربي وحق دينك إلا ما قلت لهذا الشيطان: يبعد عني وكان بولص قد سمع به ورآه من سور دمشق وما صنع بعسكر كلوس عزازير وسمع بفعاله في بيت لهيا فلما رآه مقبلا إليه عرفه فقال لأبي عبيدة: قل لهذا الشيطان: لا يقربني فسمعه ضرار رضي الله عنه فقال له: أنا شيطان أن قصرت عن طلبك ثم إنه فاجأه وطعنه فلما رأى بولص أن الطعنة واصلة إليه رمى نفسه عن جواده وطلب الهرب نحو أصحابه فسار ضرار في طلبه وقال له: أين تروح من الشيطان وهو في طلبك ولحقه وهم أن يعلوه بسيفه فقال بولص يا بدوي ابق علي ففي بقائي بقاء أولادكم وأموالكم قال فلما سمع ضرار قوله أمسك عن قتله وأخذه أسير هذا والمسلمون قد قتلوا من الروم مقتلة عظيمة. قال حدثني أسلم بن مالك اليربوعي عن أبي رفاعة بن قيس قال كنت يوم وقعة سحورا مع المسلمين وكنت في خيل عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال فدرنا بالروم من كل جانب وبذلنا اسيافنا في القوم وكانوا ستة كتائب في كل كتيبة ألف فارس قال رفاعة بن قيس فوالله لقد حملنا يوم فتح دمشق وانه ما رجع منهم فوق المائة ووجه خبر لضرار أن خولة مع النسوان المأسورات فعظم ذلك عليه وأقبل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 على خالد وأعلمه بذلك فقال له خالد: لا تجزع فقد أسرنا منهم خلقا كثيرا وقد أسرت أنت بولص صاحبهم وسوف نخلص من اسر من حريمنا ولا بد لنا من دمشق في طلبهم ثم أمر خالد أن يسيروا بالناس على مهل حتى ننظر ما يكون من أمر حريمنا ثم إنه سار في ألف فارس جريدة وبعث العسكر كله إلى أبي عبيدة مخافة أن يلحقهم وردان بجيوشه فسار القوم وتوجه خالد بمن معه في طلب المأسورات وقد قدم أمامه رافع بن عميرة الطائي وميسرة بن مسروق العبسي وضرار بن الأزور. قال حدثني سعيد بن عمر عن سنان بن عامر اليربوعي قال سمعت حبيب بن مصعب يقول: لما اقتطعوا من ذكرنا من نساء العرب سار بهم بطرس أخو بولص إلى أن نزل بهم إلى النهر الذي ذكرناه ثم قال بطرس أنا لا أبرح من ههنا حتى انظر ما يكون من أمر أخي ثم إنه عرض عليه النساء المأسورات فلم يعجبه منهن إلا خولة بنت الأزور أخت ضرار قال بطرس هذه لي وأنا لها لا يعارضني فيها أحد فقال له أصحابه: هي لك وانت لها قال: وكل من سبق إلى واحدة يقول: هي لي حتى قسموا الغنيمة على ذلك ووقفوا ينتظرون ما يكون من أمر بولص وأصحابه وكان في النساء عجائز من حمير وتبع من نسل العمالقة والتبابعة وكن قد اعتدن ركوب الخيل فقالت لهن خولة بنت الأزور: يا بنات حمير بقية تبع أترضين بأنفسكن علوج الروم ويكون أولادكن عبيدا لاهل الشرك فأين شجاعتكن وبراعتكن التي نتحدث بها عنكن فيأحياء العرب ومحاضر الحضر ولا أراكن إلا بمعزل عن ذلك وإني أرى القتل عليكن أهون من هذه المصائب وما نزل بكم من خدمة الروم الكلاب. فقالت عفرة بنت غفار الحميرية: صدقت ووالله يا بنت الأزور نحن في الشجاعة كما ذكرت وفي البراعة كما وصفت لنا المشاهد العظام والمواقف الجسام ووالله لقد اعتدنا ركوب الخيل وهجوم الليل غير أن السيف يحسن فعله في مثل هذا الوقت وإنما دهمنا العدو على حين غفلة وما نحن إلا كالغنم فقالت خولة: يا بنات التبابعة والعمالقة خذوا أعمدة الخيام وأوتاد الأطناب ونحمل بها على هؤلاء اللئام فلعل الله ينصرنا عليهم أو نستريح من معرة العرب فقالت عفرة بنت غفار: والله ما دعوت إلا ما هوأحب إلينا مما ذكرت ثم تناولت كل واحدة عمودا من أعمدة الخيام وصحن صيحة واحدة وألقت خولة على عاتقها عمود الخيمة وسعت من ورائها عفرة وأم أبان بنت عتبة وسلمة بنت زراع ولبنى بنت حازم ومزروعة بنت عملوق وسلمة بنت النعمان ومثل هؤلاء رضي الله عنهن فقالت لهن خولة: لا ينفك بعضكن عن بعض وكن كالحلقة الدائرة ولا تتفرقن فتملكن فيقع بكن التشتيت وحطمن رماح القوم واكسرن سيوفهن قال فهجمت خولة امامهن فأول ما ضربت رجلا من القوم على هامته بالعمود فتجندل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 صريعا والتفت الروم ينظرون ما الخبر فإذا هم بالنسوة وقد أقبلن والعمد بأيديهن فصاح بطريق يا ويلكن ما هذا فقالت عفرة: هذه فعالنا فلنضربن بالقوم بهذه الأعمدة ولا بد من قطع اعماركم وانصرام أجالكم يا أهل الكفر قال فجاء بطرس وقال تفرقوا عن النسوة ولا تبذلوا فيهن السيوف ولاأحد منكم يقتل واحدة منهن وخذوهن اسارى ومن وقع منكم بصاحبتي فلا ينلها بمكروه فتفرق القوم عليهن وحدقوا بهن من كل جانب وراموا الوصول إليهن فلم يجدوا إلى ذلك سبيلا ولم تزل النساء لا يدنوا إليهن أحد من الروم إلا ضربن قوائم فرسه فإذا تنكس عن جواده بادرت النساء بالأعمدة فيقتلنه ويأخذن سلاحه. قال الواقدي: ولقد بلغني أن النسوة قتلن ثلاثين فارسا من الروم فلما نظر بطرس إلى ذلك غضب غضبا شديدا وترجل وترجلت أصحابه نحو النساء والنساء يحرض بعضهن بعضا ويقلن متن كراما ولا تمتن لئاما وأظهر بطرس رأسه وتلهفه عندما نظر إلى فعلهن ونظر إلى خولة بنت الأزور وهي تجول كالاسد وتقول: نحن بنات تبع وحمير ... وضربنا في القوم ليس ينكر لاننا في الحرب نار تسعر ... اليوم تسقون العذاب الأكبر قال فلما سمع بطرس ذلك من قولها ورأى حسنها وجمالها قال لها: يا عربية اقصري عن فعالك فاني مكرمك بكل ما يسرك أما ترضين أن أكون أنا مولاك وأنا الذي تهابني أهل النصرانية ولي ضياع ورساتيق وأموال ومواشي ومنزلة عند الملك هرقل وجميع ما أنا فيه مردود إليك أما ترضين أن تكوني سيدة أهل دمشق فلا تقتلي نفسك فقالت له: يا ملعون ويا ابن ألف ملعون والله لئن ظفرت بك لاقطعن رأسك والله ما أرضى بك أن ترعى لي الإبل فكيف ارضاك أن تكون لي كفؤا قال فلما سمع كلامها حرض أصحابه على القتال وقال أترون عارا أكبر من هذا في بلاد الشام أن النسوة غلبنكم فاتقوا غضب الملك قال فافترق القوم وحملوا حملة عظيمة وصبر النساء لهم صبر الكرام فبينما هم على ذلك إذ أقبل خالد بن الوليد رضي الله عنه ومن معه من المسلمين ونظروا إلى الغبار وبريق السيوف فقال لأصحابه: من يأتيني بخبر القوم فقال رافع بن عميرة الطائي أنا آتيك به قال ثم أطلق جواده حتى أشرف على النسوة وهن يقاتلن قتال الموت قال فرجع وأخبر خالدا بما رأى فقال خالد: لا أعحب من ذلك انهن من بنات العمالقة ونسل التبابعة وما بينهن وبين تبع إلا قرن واحد وتبع بن بكر بن حسان الذي ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ظهوره وشهد له بالرسالة قبل أن يبعث وقال: شهدت بأحمد إنه رسول ... من الله بارىء كل النسم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 وأمته سميت في الزبور ... بأمة أحمد خير الأمم فلو مد عمري إلى عصره ... لكنت وزيرا له وابن عم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 بطولة النساء قال الواقدي: قال خالد: لا تعجب يا رافع واعلم أن هؤلاء النسوة لهن الحروب المذكورات والمواقف المشهورات وأن يكن فعلهن ما ذكرت فلقد سدن على نساء العرب إلى آخر الأبد وأزلن عنهن العار فتهللت وجوه الناس فرحا ووثب ضرار بن الأزور عندما سمع كلام رافع فقال خالد: مهلا يا ضرار ولا تعجل فإنه من تأنى نال ما تمنى أيها الأمير لا صبر لي عن نصرة بنت أبي وامي فقال خالد: قد قرب الفرج انشاءالله تعال ثم أن خالدا وثب ووثب أصحابه وقال معاضر الناس إذا وصلتم إلى القوم فتفرقوا عليهم وأحدقوا بهم فعسى أن يخلص حريمنا فقالوا: حبا وكرامة ثم تقدم خالد قال فبينما القوم في قتال شديد مع النسوة إذا أشرفت عليهم المواكب والكتائب والأعلام والرايات فصاحت خولة يا بنات التبابعة قد جاءكم الفرج ورب الكعبة ونظر بطرس إلى الكتائب المحمدية وقد اشرفت فخفق فؤاده وارتعدت فرائضه وأقبل القوم ينظر بعضهم بعضا قال فصاح بطرس يا معاشر النسوة أن الشفقة والرحمة قد دخلت في قلبي لأن لنا أخوات وبنات وأمهات وقد وهبتكن للصليب فإذا قدم رجالكن فأخبرنهم بذلك ثم عطف يريد الهرب إذ نظر إلى فارسين قد خرجا من قلب العسكرأحدهما قد تكمى في سلاحه والآخر عاري الجسد وقد أطلقا عنانهما كأنهما أسدان وكانا خالدا وضرارا فلما رأت خولة أخاها قالت له: إلى أين يا أبن أقبل فصاح بها بطرس انطلقي إلى أخيك فقد وهبتك له ثم ولى يطلب الهرب فقالت له خولة: وهي تهزأ به ليس هذا من شيم الكرام تظهر لنا المحبة والقرب ثم تظهر الساعة الجفاء والتباعد وخطت نحوه فقال قد زال عني ما كنت أجد من محبتك فقالت له خولة: لا بد لي منك على كل حال ثم اسرعت إليه وقد قصده ضرار فقال له بطرس: خذ أختك عني فهي مباركة عليك وهي هدية مني إليك فقال له الأمير ضرار: قد قبلت هديتك وشكرتها وإني لا أجد لك على ذلك إلا سنان رمحي فخذ هذه مني إليك ثم حمل عليه ضرار وهو يقول: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86] ثم همهم إليه بالطعنة ووصلت إليه خولة فضربت قوائم فرسه فكبا به الجواد ووقع عدو الله إلى الأرض فأدركه ضرار قبل سقوطه وطعنه في خاصرته فأطلع السنان من الجانب الآخر فتجندل صريعا إلى الأرض فصاح به خالد لله درك يا ضرار هذه طعنة لا يخيب طاعنها. ثم حملوا في أعراض القوم وجميع المسلمين معهم فما كانت إلا جولة جائل حتى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 قتل من الروم ثلاثة آلاف رجل قال حامد بن عامر اليربوعي لقد عددت لضرار بن الأزور في ذلك اليوم ثلاثين قتيلا وقتلت خولة خمس وعفراء بنت غفار الحميرية أربعة وقال: وانهزم بقية القوم ولم يزالوا في أدبارهم والمسلمون على أثرهم إلى أن وصلوا إلى دمشق فلم يخرج إليهم أحد بل زاد فزعهم واشتد الأمر عليهم ورجع المسملون وجمعوا الغنائم والخيل والسلاح والأموال ثم قال خالد: الحقوا بأبي عبيدة لئلا يكون وردان وجيوشه قد لحقوا به فسار ضرار والقوم وقل جعل ضرار رأس البطريق على سنان رمحه يزل القوم سائرين إلى أن لحقوا بأبي عبيدة في مرج الصفر وقد تخلف أبو عبيدة حتى اشرف المسلمون عليه فكبر وكبر خالد بن الوليد رضي الله عنه ومعه المسلمون فلما اجتمع الناس سلم بعضهم على بعض ورأوا المأسورات وقد خلصن وأخبر خالد أبا عبيدة بما فعلت خولة وعفرة وغيرهن من الصحابة فاستبشر بنصر الله وعلموا أن الشام لهم ثم دعا خالد ببولص فقال له: أسلم وإلا فعلت بك كما فعلت بأخيك فقال له: وما الذي صنعت بأخي قال قتلته وهذه رأسه ورماها ضرار قدامه فلما رأى أخيه بكى وقال له: لا بقاء لي بعد هـ حيا فألحقوني به قال فقام إليه المسيب بن يحيى الفزاري رضي الله عنه فضرب عنقه بأمر خالد ثم رحل القوم. قال الواقدي: حدثنا سعيد بن مالك قال لما بعث خالد الكتب إلى شرحبيل بن حسنة كاتب وحي رسول الله صلى الله عليه وسلم والى يزيد بن أبي سفيان والى عمرو بن العاص قرأ كل واحد من الأمراء كتابه قال فساروا بأجمعهم إلى اجنادين لعون أخوانهم وجاءوا بعددهم وعديدهم قال سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم كنت في خيل معاذ بن جبل فلما أشرفنا بأجمعنا على اجنادين كنا كلنا على سيارة واحدة في يوم واحد وذلك في شهر صفر سنة 20 من الهجرة وتبادر المسلمون يسلم بعضهم على بعض قال: ورأينا جيوش الروم في عدد لا يحصى فلما أشرفنا عليهم أظهروا لنا زينتهم وعددهم واصطفوا مواكب وكتائب ومدوا صفوفهم فكانوا ستين صفا في كل صف ألف فارس قال الضحاك بن عروة والله لقد دخلنا العراق ورأينا جنود كسرى فما رأينا أكثر من جنود الروم ولا أكثر من عددهم وسلاحهم قال فنزلنا بإزائهم قال فلما كان من الغد بادرت الروم نحونا قال الضحاك فلما رأيناهم وقد ركبوا أخذنا على أنفسنا وتأهبنا وأن خالد ركب وجعل يتخلل الصفوف ويقول: اعلموا إنكم لستم ترون للروم جيشا مثل هذا اليوم فإن هزمهم الله على أيديكم فما يقوم لهم بعدها قائمة أبدا فأصدقوا في الجهاد وعليكم بنصر دينكم وإياكم أن تولوا الأدبار فيعقبكم ذلك دخول النار وأقرنوا المواكب ومكنوا المضارب ولا تحملوا حتى آمركم بالحملة وأيقظوا هممكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 قال الواقدي: ولقد بلغني ممن أثق به أن وردان لما رأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اجتمعوا وعولوا على حربهم جمع إليه الملوك والبطارقة وقال لهم: يا بني الأصفر اعلموا أن الملك يعول عليكم وإذا إنكسرتم لا تقوم لكم بعدها قائمة أبدا وتملك العرب بلادكم وتسبي حريمكم فعليكم بالصبر ولتكن حملتكم واحدة ولا تتفرقوا واعلموا أن كل ثلاثة منا بواحد منهم واستعينوا بالصليب ينصركم فهذا ما كان من هؤلاء وأما خالد رضي الله عنه فإنه مشى على أصحابه وقال معاشر المسلمين من فيكم يحذر لنا القوم وينذرهم فقال ضرار بن الأزور أنا أيها الأمير فقال خالد: أنت لها والله ولكن يا ضرار إذا أشرفت على القوم فإياك أن تحمل نفسك ما لا تطيق وأن تغرر بنفسك وتحمل على القوم فما أمرك الله بذلك فقد قال الله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} قال فأطلق ضرار عنان جواده حتى اشرف على جيش الروم فرأى أثاثهم وخيامهم وشعاع البيض والطوارق والرايات كأجنحة الطيور قال: وكان وردان ينظر نحو جيش المسلمين إذ نظر إلى ضرار وهو مشرف على القوم فقال للبطارقة إني أرى فارسا قد أقبل ولست اشك إنه طليعة للقوم فأيكم يأتيني به فانتدب من القوم ثلاثين فارسا طلبوا ضرارا فلما نظر إليهم ضرار ولى من بين ايديهم فتبعوه وظنوا إنه قد انهزم وإنما أراد بذلك أن يبعدهم عن أصحابهم فلما بعدوا علم إنه تمكن منهم فلوى رأس جواده إليهم وصوب السنان عليهم فأول ما طعن فارسا من القوم أرداه وثنى على الآخر فأعدمه الحياة وصال فيهم صولة الاسد على الغنم ودخل رعبه في قلوبهم فولوا منهزمين فتبعهم وهو يصرع منهم فارسا بعد فارس إلى أن صرع منهم تسعة عشر فارسا. فلما رأوا ذلك وقرب هو من جيوش الروم لوى راجعا إلى خالد ومعه اسلابهم وخيولهم وأعلمه بما كان فقال له خالد: ألم اقل لك لا تغرر بنفسك ولا تحمل عليهم فقال أن القوم طلبوني فخفت أن يراني الله منهزما فجاهدت باخلاص ولا جرم أن الله ينصرنا عليهم والله لولا خوفي من ملامك لاحملن على الجميع واعلم أن القوم غنيمة لنا قال فرتب خالد عسكره ميمنة وميسرة وقلبا وجناحين فجعل في القلب معاذ بن جبل وفي الميمنة عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وفي الميسرة سعيد بن عامر وفي الجناح الايسر شرحبيل بن حسنة وفي الساقة يزيد بن أبي سفيان في أربعة آلاف فارس حول الحريم والبنات والأولاد ثم التفت إلى النسوة وهن عفراء بنت غفار الحميرية وأم أبان ابنة عتبه وكانت عروسا قد تزوج بها في هذا اليوم ابان بن سعيد ابن العاص والخضاب في يدها والعطر في رأسها وخولة بنت الأزور ومزروعة بنت عملوق وسلمة بنت زارع وغيرهن من النسوة ممن عرفن الشجاعة والبراعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 نصيحة خالد فقال لهن خالد يا بنات العمالقة وبقية التبابعة قد فعلتن فعلا أرضيتن به الله تعالى والمسلمين وقد بقي لكن الذكر الجميل وهذه أبواب الجنة قد فتحت لكن وابواب النار قد أغلقت عنكن وفتحت لاعدائكن واعلمن إني أثق بكن فإن حملت طائفة من الروم عليكن فقاتلن عن أنفسكن وأن رايتن أحدا من المسلمين قد ولى هاربا فدونكن وإياه بالأعمدة وارمين بولده وقلن له اين تولى عن أهلك ومالك وولدك وحريمك فانكن ترضين بذلك الله تعالى فقالت عفراء بنت غفار: أيها الأمير والله لا يفرحنا إلا أن نموت أمامك فلنضربن وجوه الروم ولنقاتلن إلى أن لا تبقى لنا عين تطرف والله مانبالي إذا رمينا الروم كله قال فجزاهن خيرا ثم عاد إلى الصفوف فجعل يطوف بينهم بفرسه ويحرض الناس على القتال وهو ينادي برفيع صوته يا معاشر المسلمين انصروا الله ينصركم وقاتلوا في سبيل الله واحتسبوا نفوسكم في سبيل الله ولا تحملوا حتى آمركم بالحملة ولتكن السهام إذا خرجت من اكباد القسى كأنها من قوس واحدة فإذا تلاصقت السهام رشقا كالجراد لم يخل أن يكون منها سهم صائب: {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200] واعلموا إنكم لم تلقوا بعد هذا عدوا مثله وأن هذه الفئة جملتهم وأبطالهم وملوكهم فجردوا السيوف وأوتروا القسى وفوقوا السهام ثم أن خالدا أقبل ووقف في القلب مع عمرو بن العاص وعبد الله بن عمر قيس بن هبيرة ورافع بن عميرة وذى الكلاع الحميري وربيعة بن عامر ونظائرهم قال فلما نظر ودان إلى جيش المسلمين قد زحف زحفوا وكانوا ملء تلك الأرض في الطول والعرض من كثرتهم فترامى الجمعان وتلاقى الفريقان وقد اظهر أعداء الله الصلبان والأعلام ورفع المسلمون اصواتهم بالتهليل والتكبير والصلاة والسلام على البشير النذير. فلما قرب القوم بعضهم من بعض خرج من علوج الروم شيخ كبير وعليه قلنسوة سوداء فلما قرب من المسلمين نادى بلسان عربي أيكم المقدم فليخاطبني وليخرج الي وعليه أمان قال فخرج إليه خالد بن الوليد فقال له القس: أنت أمير القوم فقال خالد: كذلك يزعمون ما دمت على طاعة الله وسنة رسوله وأن أنا غيرت أو بدلت فلا امارة لي عليهم ولا طاعة قال القس بهذا نصرتم علينا ثم قال اعلم إنك توسطت بلادا ما جسر ملك من الملوك أن يتعرض لها ولا يدخلها وأن الفرس دخلوها ورجعوا خائبين وأن التبابعة أتوها وأفنوا أنفسهم عليها وما بلغوا ما أرادوا ولكنكم أنتم نصرتم علينا وأن النصر لا يدوم لكم وصاحبي وردان قد اشفق عليكم وقد بعثني إليكم وقال إنه يعطي كل واحد منكم دينار وثوبا وعمامة ولك أنت مائة دينار ومائة ثوب ومائة عمامة وارحل عنا بجيشكم فإن جيشنا على عدد الذر ولا تظن أن هؤلاء مثل من لقيت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 من جموعنا فإن الملك ما انفذ في هذا الجيش إلا عظماء البطارقة والاساقفة قال خالد: والله ما نرجع إلا باحدى ثلاث خصال أما أن تدخلوا في ديننا أو تؤدوا الجزية أو القتال وأما ما ذكرت من إنكم عدد الذر فإن الله تعالى قد وعدنا النصر على لسان محمد صلى الله عليه وسلم وأنزل ذلك في كتابه العزيز وأما ما ذكرت من أن صاحبكم يعطي كل واحد منا دينارا وعمامة وثوبا فعن قريب أن شاء الله نرى ثيابكم وبلادكم وعمائمكم كل ذلك في ملكنا وبأيدينا فقال الراهب إني راجع إلى صاحبي أخبره بجوابك ثم لوى راجعا وأخبر وردان بما كان من جواب خالد فقال وردان: أيظن أننا مثل من لقيه من قبل وإنما هؤلاء لحقهم الطمع إذ تقاصرنا عن قتالهم والملك قد أرسل إليهم أكابر البطارقة وما بيننا وبينهم إلا جولة الجائل ثم نتركهم صرعى ثم رتب أصحابه وزحف وقدم أمامه الرجالة صفا أمام القوم والخيالة وبأيديهم المزازيق والقسي قال فصاح معاذ بن جبل معاشر الناس أن الجنة قد زخرفت لكم والنار قد فتحت لاعدائكم والملائكة عليكم قد اقبلت والحور العين قد تزينت للقائكم فابشروا بالجنة السرمدية ثم قرأ: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أنفسهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111] بارك الله فيكم الحملة فقال خالد: مهلا يا معاذ حتى اوصي الناس ومشي في الصفوف ورتبها وقال اعلموا أن هؤلاء أضعافكم فطاولوهم إلى وقت العصر فإنها ساعة نرزق فيها النصر وإياكم أن تولوا الأدبار فيراكم الله منهزمين ازحفوا على بركة الله تعالى. فلما تقارب الجمعان رمت الأروام سهامهم رمية واحدة قال فقتلوا رجالا وجرحوا أناسا وخالد قد منع الناس من الحملة فقال لضرار بن الأزور وما لنا والوقوف والحق سبحانه وتعالى قد تجلى علينا والله ما يظن أعداء الله إلا أننا قد فشلنا عنهم وجزعنا فأمرنا بالحملة حتى نحمل معك قال فأنت لها يا ضرار فخرج ضرار بن الأزور وقال: والله ما من شيء اشهى إلى قلبي من ذلك ثم حمل ضرار وقد تدرع بدرع كان لبطرس أخي بولص وألقى الزرد على وجهه وركب جواده وكان عليه يؤمئذ جبتان من جلود الفيلة كان قد أخذهما أيضا من بطرس وقد أخفى نفسه عن الروم بلباسه ذلك وقد اطلق عنانه وقوم سنانه وحمل في صفوف الروم فرشقوه بالسهام فلم يصل إليه منهم أذى وهو يخترق صفوفهم فما كان قدر ساعة حتى قتل من الروم عشرين فارسا ومثلها رجالة قال عنان بن عوف النجبي كنت ممن يعد قتلى ضرار بن الأزور وكنت كلما قتل فارسا من الروم أعده فكان جملة قتل ضرار في حملته هذه فرسانا ورجالا ثلاثين فارسا. قال عمر بن سالم هكذا حدثني نوفل بن زياد ثم إنه رمى البيضة عن رأسه والزرد عن وجهه ونادى بأعلى صوته أنا الموت الأصفر أنا ضرار بن الأزور أنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 صاحبكم أنا قاتل همدان بن وردان أنا البلاء المسلط عليكم وعلى من أشرك بالرحمن قال فلما سمعت الروم كلامه عرفوه وتقهقروا إلى ورائهم قال فطمع فيهم وحمل على أثرهم فعند ذلك انطبقت عليه الروم فقال وردان: من هذا البدوي فقالوا: أيها الملك هذا الذي بقى طول عمره عاري الجسد ومرة برمح ومرة بنبل فلما سمع ذلك وبذكر ضرار بن الأزور تنفس الصعداء وقال هذا قاتل ولدي ولقد اشتهيت من يأخذ منه بثأري وله مني ما يريد قال فبرز إليه بطريق وكان صاحب طبرية وقال لوردان أنا أخذ لك بالثأر ثم لوى عنانه وحمل على ضرار فجالا أكثر من ساعة ثم طعنه ضرار طعنة صادقة خرق بها كبد عدو الله فتجندل صريعا فقال وردان لهم: ما أتى به ولو اتى به عينا ما صدقته فإن هذا لا تطيق الانس أن تقاتله وأنا أرى لهذا غيري ثم ترجل وغير لامته وألقى عليه درعا وجعل على رأسه التاج وركب جوادا من الخيول العربية وهم أن يخرج إلى ضرار بن الأزور فتقدم إليه بطريق اسمه اصطفان وهو صاحب عمان قال وباس ركاب وردان قال: أيها السيد أن أخذ بثأرك من هذا الذميم أو أسرته لك أتزوجني ابنتك فقال له وردان: هي لك وأشهد عليه من حضر من ملوك الشام فلما سمع اصطفان بذلك خرج كأنه شعلة نار وحمل على ضرار وقال له: ويلك قد نزل بك ما لا قدرة لك به قال فلم يدر ضرار ما يقول: غير إنه أخذ ححذره منه وقد أخرج اصطفان صليبا من الذهب وجعله في عنقه في سلسلة من الفضة وجعل يقبله ويرفعه على رأسه فعلم ضرار إنه يستنصر به عليه فقال ضرار رضي الله عنه أن كنت تستنصر علي به فأنا أستنصر بالقريب المجيب الذي هو ممن دعاه قريب ثم حمل عليه وأرى الناس أبوابا من الحرب حتى ضج الناس من قتالهما فصاح خالد يا بان الأزور ما هذا التكاسل والتغافل والجنة قد فتحت لك والنار قد فتحت لاعدائك وإياك الكسل فإن الله عز وجل يعينك قال: فأيقظ ضرار نفسه وانقض من سرجه وحمل على خصمه وتصايحت الروم بصاحبها تشجعه وكلاهما في ضرب عظيم وقد حميت الشمس وتعب الجوادان فأشار البطريق إلى ضرار أن ترجل حتى نتقابل فهم ضرار أن يترجل شفقة على الجواد وإذا بصفوف الروم قد خرجت ورجل يقود جنيبا امامهم وكان ذلك غلام البطريق فلما نظر إليه ضرار صاح في جواده وقال له: اجلد معي ساعة وإلا شكوتك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال فحمحم الجواد وشمر اجنحته جريا واستقبل ضرار غلام البطريق بطعنة فقتله واخذ الجنيب فركبه واطلق جواده نحو عساكر المسلمين فتناولوه وعاد ضرار نحو البطريق فلما رآه اقبل إليه بعد ما قتل غلامه وركب جواده ايقن عدو الله بالهلاك وعلم إنه أن ولى قتله بلا محالة وأن وقف اهلكه فلما نظر ضرار إلى عدو الله علم ما عنده فهجم عليه إذ نظر إلى الروم وقد خرج منهم دوس وذلك أن وردان لما نظر إلى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 صاحبه وقد اشرف على الموت علم إنه أن لم يدركه هلك فقال لقومه يا قوم أن هذا الشيطان قد أكل من كبدي قطعة وإذا لم أقتله قتلت نفسي ولا بد لي من الخروج إليه قال فخرج في عشرة من البطارقة وهم مدرعون وفي ارجلهم أخفاف من الحديد وسواعد من الحديد وبأيديهم اعمدة من الحديد ووردان قد لبس لامته وعلى رأسه تاج عظيم فخرجوا ووردان أمامهم كأنه شعلة نار ونظر أصطفان إلى من خرج فصرخ بضرار فلم يلتفت إلى من خرج إليه إلا إنه تأهب فبينما هم كذلك إذ نظر خالد إلى القوم وخروجهم ونظر إلى التاج وهو يلمع على رأس صاحبهم فقال أن التاج لا يكون إلا على رأس الملك ولا شك إنه صاحب القوم قد خرج إلى صاحبنا فما الذي يقعدنا عن نصرته ثم قال لأصحابه: لا يخرج إلا عشرة حتى نساوي القوم فخرج خالد في عشرة أصحابه وأطلقوا الأعنة وقوموا الاسنة قال: ووصل الروم إلى ضرار فاستقبلهم بقلب اقوى من الحجر الجلمود قال فناداه خالد ابشر يا ضرار فقد اسعدك الجبار ولا تجزع من الكفار فقال ضرار رضي الله عنه ما اقرب النصر من الله وجاء خالد ومن معه والتقت الرجال بالرجال وانفرد كل واحد بصاحبه وطلب خالد وردان ولم يبرح ضرار عن خصمه اصطفان وقد كل ساعة وارتعدت فرائصه عندما نظر إلى خالد ومن معه فنظر يمينا وشمالا ليطلب الهرب فعلم ضرار منه ذلك فهجم عليه بسنانه فلما أيقن بالموت القى نفسه إلى الأرض وولى هاربا فبادر إليه ضرار والقى نفسه عن جواده وطلب عدو الله حتى لحقه وتقابضا على وجه الأرض وكان عدو الله كالصخر الجلمود وكان ضرار نحيف الجسم غير أن الله تعالى اعطاه قوة الإيمان فلما طال بهم العراك ضرب بيده إلى مراق بطنه وقلعه من الأرض بحيله وجلد به الأرض فصاح عدو الله وجعل يستنجد بوردان وقال بالرومية أيها السيد انجدني مما أنا فيه فقد هلكت فصاح وردان يا ويلك ومن ينقذني أنا من هؤلاء السباع الكاسرة فسمع خالد ذلك فطمع فيه وحمل على وردان وهم ضرار بخصمه ونظر إليهما الفريقان وأقبل صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرار فلم يمهل خصمه دون حتى برك على صدره وذبحه مثل البعير وكل واحد مشتغل عن نصرة صاحبه قال فأخذ ضرار رأس عدو الله وهو ملطخ بالدماء وركب جواده وحملت الروم على المسلمين ونادى سعيد بن زيد يا معشر الناس اذكروا الوقوف بين يدي الله الملك الجبار فإياكم أن تولوا الأدبار فتستوجبوا دخول النار يا أهل الإيمان يا حملة القرآن اصبروا قال فزاد الناس بقوله نشاطا وتزاحم الفريقان قال: وجاء وقت العصر فافترقوا وقد قتل من الروم ثلاثة آلاف وعشرة من ملوكهم ومنهم رومان صاحب الأميرة ودمر صاحب نوى وكوكب صاحب ارض البلقاء ولاوى بن حنا صاحب غزة قال ثم افترق القوم ورجع وردان إلى مكانه وقد امتلأ قلبه رعبا مما ظهر له من المسلمين من شدة صبرهم وقتالهم فجمع البطارقة وقال لهم: يا أهل دين النصرانية ما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 تقولون في هؤلاء العرب فاني اراهم غالبين علينا وقد رأيت اسيافهم قاطعة وخيلهم صابرة وسواعدكم بليدة وأن القوم أطوع منكم لربكم وما خذلتم إلا بالظلم والجور والغدر وما مرادي منكم إلا أن تتوبوا إلى ربكم فإن فعلتم ذلك رجوت لكم النصر من عدوكم وأن لم تفعلوا ذلك فائذنوا بحرب من المسيح وبهلاك أنفسكم فإن الله عاقبكم اشد عقوبة إذ سلط عليكم اقواما لا نفكر بهم ولا نعدهم لأن أكثرهم جياع وعبيد وعراة ومساكين أخرجهم إلينا قحط الحجاز وجوعه وشدة الضرر والبلاء والان قد أكلوا من خبز بلادنا وفواكه أرضنا وأكلوا العسل والتين والعنب وأعظم ذلك سبي نسائكم وأموالكم. قال الواقدي: فلما سمع القوم ذلك بكوا وقالوا: نقتل عن آخرنا ولا يصل إلينا هؤلاء القوم وأنا نرى أن نقاتلهم بالرماح قال فلما سمع وردان ذلك منهم صاح بالبطارقة وقال لهم: ما عندكم من الرأي فقال رجل منهم يا وردان اعلم إنك قد بليت بقوم لا تقوم لقتالهم وقد رأيت الواحد منهم يحمل على عسكرنا ولا يبالي منأحد ولا يرجع حتى يقتل منهم وقد قال لهم نبيهم: أن من قتل منكم صار إلى الجنة ومن قتل من الروم صار إلى النار والموت والحياة عندهم سواء وما أرى لكم من القوم مطمعا إلا أن نتحيل على صاحبهم فنقتله فإن قتلتموه ينهزم القوم وإنك لا تصل إليه إلا بحيلة توقعه فيها فقال وردان واي حيلة ندخل بها على القوم والحيل والخداع والمكر منهم. فقال له البطريق: أنا أقول لك شيئا أن صنعته وصلت به إلى أمير العرب من حيث لا يصل إليك شيء ولا اذى وذلك إنك تنتخب عشرة من الفرسان من ذوي الشدة والبأس ويكمنون في مكمن من جهة العسكر قبل خروجك إليه وبعد ذلك تخرج إليه وتشاغله بالحديث ثم اهجم عليه وأخرج قومك يبادرون من المكمن ويقطعونه اربا اربا وتستريح منه وبعد ذلك تتفرق أصحابه ولا يجتمع منهم أحد قال فلما سمع وردان ذلك من البطريق فرح فرحا عظيما وقال: ما هذا إلا رأي سديد فنعم ما اشرت به وقد أصبت فيما ذكرت غير أن هذا الأمر يعمل في جنح الليل ولا يأتي الصباح إلا وقد فرغنا مما نريد ثم أن وردان دعا برجل من العرب المتنصرة اسمه داود وكان في سكنه وقال له: يا داود أنا أعلم إنك فصيح اللسان وإني أريد أن تخرج إلى هؤلاء العرب وتسألهم أن يقطعوا الحرب بيننا وبينهم وقل لهم لا يخرجون لنا بكرة النهار حتى أخرج بنفسي إليهم منفردا عن قومي ولعلنا نصطلح مع العرب فقال داود ويحك وتخالف أمر الملك هرقل فيما أمرك به من الحرب وتصطلح أنت والعرب فإن الملك ينسبك إلى الجزع والفزع وما كنت بالذي أخاطب العرب في ذلك أبدا فيبلغ الملك إني كنت السبب في ذلك فيقتلني فقال له وردان: يا ويلك إنما دبرت حيلة على أمير العرب حتى أصل إليه بها فأقتله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 وتتفرق هؤلاء العرب عنا ثم إنه حدثه بما عزم عليه من المكر بخالد بن الوليد فقال لوردان أن الباغي مخذول في كل فعل فالق الجمع بالجمع واترك ما عزمت عليه فقال وردان: وقد غضب ويلك أنت تعاندني فيما أمرتك به دع عنك المحاججة فقال حبا وكرامة ثم إنه مضى وقال في نفسه أن وردان قد عزم أن يلحق بولده ثم اقبل حتى إنه وقف قريبا من المسلمين ونادى برفيع صوته وقال: يا معاشر العرب حسبكم من القتل وسفك الدماء فإن الله تعالى يسألكم عن سفكها وأريد أن يخرج الي أمير العرب حتى أخاطبه بما ارسلت به قال فما استتم كلامه حتى خرج إليه خالد رضي الله عنه وهو كأنه شعلة نار. فلما نظر إليه داود النصراني قال له: يا عربي على رسلك فما خرجت أحارب ولا أنا من رجال الحرب وما أنا إلا رسول فلما سمع خالد مقالته قرب منه وقال اذكر مسألتك واستعمل الصدق تنج فمن صدق نجا ومن كذب هلك فقال صدقت يا عربي أن أميرنا وردان كاره سفك الدماء وقد رأى شدتكم ولا يريد حربكم وقد نظر إلى من قتل من جماعته فكره أن يحاربكم وقد رأى أن يدفع لكم مالا ويحقن به دماء الناس لكن بشرط أن يكون بينك وبينه كتاب وتشهد عليك كبراء قومك إنك لا تتعرض له ولا لاحد من أصحابه ولا لحصن من حصونه فإن فعلت ذلك وثق بقولك وهو يسألك أن تقطع الحرب بقية يومك فإذا اصبحت فاخرج بنفسك ولا يكن معك أحد ويخرج هو أيضا منفردا فننظر ما تتفقان عليه عسى أن تحقنا دماء الناس بيننا وبينكم قال فلما سمع خالد ما نطق به داود قال له: إن كان ما أخبر به صاحبكم يريد به حيلة أو مكيدة فنحن والله جرثومة الخداع وما مثلنا يأتي بحيلة ولا بخديعة فإن كان ذلك ضميره واعتقاده فما هو إلا قرب أجله وانقطاع عمره وهلاك جموعكم والانفصال بيننا وبينكم وأن كان ذلك حقا من قوله فلست اصالحه إلا إذا أدى الجزية عن جماعته وأما المال فلست براغب فيه إلا على ما ذكرته لكم وعن قريب نأخذ أموالكم ونملك بلادكم فقال داود وقد عظم عليه كلام خالد ما يكون الأمر إلا كما ذكرت فإذا توافقتم كان الانفصال بيننا وها أنا راجع فأذكر له ما ذكرت ثم لوى راجعا وقد امتلأ قلبه رعبا من خالد وفزع منه فزعا شديدا ثم قال في نفسه صدق والله أمير العرب وأنا اعلم والله أن وردان أول مقتول ونحن من بعده وما لي إلا أن أصدق أمير العرب وأخذ لي ولاهلي منه أمانا ثم رجع إلى خالد وقال له: يا أمير إني قد أضمرت على سر وأريد أن أبديه لك لاني أعلم أن البلاد لكم أن وردان قد نوى على شيء فقال خالد: وما هو فقال خذ لنفسك الحذر وكن مستيقظا فإنه قد اضمر لك كيدا ثم أخبره بالقصة من أولها إلى اخرها ثم قال لخالد أريد منك الأمان لي ولاهلي فقال خالد: الأمان لك ولاهلك ولاولادك أن أنت لم تخبر القوم ولم تغدر قال داود لو أردت أن أغدر لما حدثتك فقال خالد: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 وأين كمين القوم قال عند كثيب عن يمين عسكرهم ثم إنه خلاه ورجع وأعلم وردان ففرح وقال: الآن ارجو أن يظفرني الصليب بهم ثم إنه دعا بعشرة من الأبطال وقال لهم: امضوا رجالة وأكمنوا وأمرهم أن يفعلوا ما دبروه وأما خالد فإنه رجع فلقيه امين الأمة أبو عبيدة فرآه ضاحكا فقال: يا أبا سليمان اضحك الله سنك ما الخبر فحدثه بما جرى فقال أبو عبيدة: على ماذا عزمت قال عزمت أن أخرج إلى القوم وحدي فقال: يا أبا سليمان لعمرك إنك لكفء ولكن ما أمرك الله أن تلقي بنفسك إلى التهلكة والله تعالى يقول: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] وقد أعد لك عشرة وهو حادي عشر وما آمن عليك من اللعين ولكن اندب له رجالة كما ندب لك رجالة ويكمنون قريبا من القوم فإذا صرخ اللعين بقومه فاصرخ أنت بقومك ونكون نحن متأهبين على خيولنا فإذا فرغت من عدو الله حملنا جميعا ونرجوا من الله النصر ثم قال: والمسلمون هم رافع بن عميره الطائي ومعاذ بن جبل وضرار بن الأزور وسعيد بن زيد وقيس بن هبيرة وميسرة بن مسروق العبسي وعدي بن حاتم حتى استتم العشرة واخبرهم خالد بما قد عزم عليه الروم من الحيلة والمكيدة التي قد دبرها وردان وقال أخرجوا رجالة بحيث لا يدري بكمأحد حتى إنكم تأتون الكثيب الذي عن يمين العسكر فاكمنوا هناك فإذا صرخت بكم فبادروا وانفروا للقوم كل واحد لواحد واتركوني لعدو الله فانني أن شاء الله تعالى كفء له فقال ضرار أيها الأمير أخاف أن يكثر عليك الجمع الكثير فلا نأمن أن يصلوا بشرهم إليك وقد كنت ادبر لك حيلة اننا نسير من وقتنا هذا إلى مكمن القوم فإذا وجدناهم رقودا قتلناهم وفرغنا منهم قبل الصباح ونكمن نحن في مواضعهم فإذا خلوت أنت بعدو الله خرجنا عليكم بغير مقالة. فقال خالد: افعل يا أبا الأزور ما ذكرت أن وجدت إلى ذلك سبيلا وخذ معك هؤلاء الذين ندبتهم وانت الأمير عليهم وارجو أن الله يبلغك ما تطلبه وخرج هو وأصحابه في جنح الليل رجالة وبأيديهم اسلحتهم وودعوا الناس وكان وقت خروجهم قد مضى ثلث الليل ثم سار ضرار حتى وصل الكثيب فأوقف أصحابه وقال على رسلكم حتى استخبر لكم خبر القوم فلما اشرف عليهم من بعيد سمع غطيطهم وهم نيام سكرى غرقوا في النوم لما نالهم من التعب والنصب وقد أمنوا من أحد ينظرهم فقال ضرار في نفسه: أن أنا دنوت من القوم لاقتلهم خشيت أن يوقظ بعضهم بعضا قال فرجع إلى أصحابه وقال لهم: ابشروا فقد أتاكم الله بما تريدون وأذهب عنكم ما تحذرون فجردوا سيوفكم وسيروا إلى القوم فاقتلوهم كيف شئتم ثم تقدم ضرار امامهم وهم في أثره إلى أن وصل بهم إليهم فوجدوهم نياما كل واحد منهم سلاحه عند رأسه فانفرد كل واحد منهم بواحد فلم يلبثوا إلا وقد فرغوا منهم عن اخرهم وأخذ كل واحد سلاح غريمه وأخذوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 كل ما معهم من الزاد وغيره فقال لهم: ضرارا أبشروا فإن هذا أول النصر أن شاء الله تعالى وأقبلوا بقيلة ليلتهم يصلون ويدعون الله أن ينصرهم على عدوهم ولم يزل كل واحد منهم في مصلاه إلى أن اضاء الفجر فصلوا صلاة الفجر فلما فرغوا من الصلاة لبس كل واحد ثياب غريمه ولباسه وغيبوا القتلى مخافة أن يرسل إليهم وردان خبرا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 معركة اجنادين قال الواقدي: فلما اصبح الصباح صلى خالد بالناس ورتب أصحابه لاهبة الحرب فبينما هم كذلك إذ خرج من القلب فارس وقال: يا معاشر العرب أريد أميركم ليخرج إلى صاحبنا وردان لننظر ما يتفقان عليه من أمر الجيشين وحقن الدماء بينهما قال فخرج إليه خالد بن الوليد فقال له الفارس: إن وردان يريد أن تنتظره حتى تتكلم معه فقال خالد: السمع والطاعة ارجع واخبره فعند ذلك خرج وردان وقد تزين بقلادة جوهر وعلى رأسه تاج فقال خالد: عندما رآه هذه غنيمة للمسلمين أن شاء الله تعالى قال فلما نظر عدو الله إلى خالد ترجل عن جواده وكذلك خالد وجلس كلاهما وقد جعل عدو الله سيفه على فخذه فقال له خالد: قل: ما تشاء واستعمل الصدق والزم طريق الحق واعلم إنك جالس بين يدي رجل لا يعرف الحيل فقال: ما تريد فقال وردان يا خالد اذكر لي ما الذي تريدون وقرب الأمر بيني وبينكم فإن كنت تطلب منا شيئا فلا نبخل به عليك صدقة منا عليكم لاننا ليس عندنا امة اضعف منكم وقد علمنا إنكم كنتم في بلاد قحط وجوع تموتون جوعا فاقنع منا بالقليل وارحل عنا فلما سمع منه خالد هذا الكلام قال له: يا كلب الروم أن الله عز وجل اغنانا عن صدقاتكم وأموالكم وجعل أموالكم نتقاسهما بيننا وأحل لنا نساءكم واولادكم إلا أن تقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله وأن ابيتم فالحرب بيننا وبينكم أو الجزية عن يد وانتم صاغرون وبالله اقسم أن الحرب اشهى لنا من الصلح أما قولك يا عدو الله لم تكن امة اضعف منا عندكم فانتم عندنا بمنزلة الكلاب وأن الواحد منا يلقي الفا منكم بعون الله تعالى وما هذا خطاب من يطلب الصلح فإن كنت ترجو أن تصل إلى بانفرادي عن قومي وقومك فدونك وما تريد. قال فلما سمع وردان مقالات خالد وثب من مكانه من غير أن يجرد سيفه وتشابكا وتقابضا وتعانقا قال فصاح عدو الله عندما وثق من خالد وقال لأصحابه: بادروا الآن الصليب قد مكنني من أمير العرب فما استم كلامه حتى بادر إليه الصحابة كأنهم عقبان يتقدمهم ضرار بن الأزور وقد رموا النشاب عنهم وجردوا سيوفهم وضرار عاري الجسد بسراويله قابض على سيفه وهو يزأر كالاسد وأصحابه من ورائه فالتفت عدو الله ونظر إلى القوم وهم يتسابقون إليه وهو يظن إنهم قومه حتى إنهم وصلوا إليه ونظر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 في أوائلهم ضرار بن الأزور فقال لخالد سألتك بحق معبودك أن تقتلني أنت بيدك ولا تدع هذا الشيطان يقتلني فقال خالد: هو قاتلك لا محالة فهز ضرار سيفه وقال: يا عدو الله اين خديعتك من خديعة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال خالد: اصبر يا ضرار حتى آمرك بقتله ثم وصل إليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهزوا سيوفهم في وجهه ومرادهم أن يقتلوه ونظر عدو الله إلى ما دهمه فوقع إلى الأرض وهو يشير باصبعه الأمان الأمان فقال لخالد: يا عدو الله لا نعطي الأمان إلا لاهل الأمان وانت اظهرت لنا المكر والخديعة {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران: 54] فلما سمع ضرار كلام خالد لم يمهله دون أن ضربه على عاتقه فخرج السيف يلمع من علائقه ثم أخذ التاج من على رأسه وقال: من سبق إلى شيء كان أولى به وقد أدركته سيوف المجاهدين فقطعوه اربا اربا وتبادروا إلى سيفه فأخذوه ثم أن خالدا قال لأصحابه: إني أريد أن تحملوا على الروم لانهم مشتاقون إلى أصحابهم قال فأخذوا رأس عدو الله وردان وتوجهوا نحو عسكر الروم فلما وصل خالد الصفوف نادى يا اعداء الله هذا راس صاحبكم وردان أنا خالد بن الوليد أنا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم إنه رمى الرأس وحمل عليهم وحمل المسلمون وحمل أبو عبيدة وقال احملوا يا أهل القرآن وحفاظ الدين وحماة المسلمين فلما رأى الروم رأس وردان ولوا الأدبار وركنوا إلى الفرار ولم يزل السيف يعمل فيهم من وقت الصباح إلى الغروب قال عامر بن الطفيل الدوسي كنت مع أبي عبيدة ونحن نتبع المنهزمين إلى طريق غزة إذ اشرف علينا خيل فظننا إنها نجدة من عند الملك هرقل فأخذنا على أنفسنا وإذا بالغبرة قد قربت منا فإذا هي عسكر من ارسلها أبو بكر الصديق وما رأواأحدا من المنهزمين إلا قتلوه ونهبوا ما معه. قال الواقدي: وكان الروم بأجنادين تسعين الفا فقتل منهم في ذلك اليوم خمسون الفا وتفرق من بقى منهم فمنهم من انهزم إلى دمشق ومنهم من انهزم إلى قيسارية وغنم المسلمون غنيمة لم يغنم مثلها واخذوا منهم صلبان الذهب والفضة فجمع خالد ذلك كله مع تاج وردان إلى وقت القسمة وقال خالد: لست اقسم عليكم شيئا إلا بعد فتح دمشق أن شاء الله تعالى وكانت الوقعة باجنادين ليلة ست خلت من جمادي الأول سنة ثلاث عشرة من الهجرة النبوية وذلك قبل وفاة أبي بكر بثلاث وعشرين ليلة ثم أن خالدا رضي الله عنه كتب كتابا إلى أبي بكر يقول فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من خالد بن الوليد المخزومي إلى خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم سلام عليك أما بعد فانيأحمد الله الذي لا إله إلا هو واصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وازيد حمدا وشكرا على المسلمين ودمارا على المتكبرين المشركين وانصداع بيعتهم وأنا لقينا جموعهم بأجنادين وقد رفعوا صلبانهم وتقاسموا بدينهم أن لا يفروا ولا ينهزموا فخرجنا إليهم واستعنا بالله عز وجل متوكلين على الله خالقنا فرزقنا الله الصبر والنصر وكتب الله على اعدائنا القهر فقاتلناهم في كل واد وسبسب وجملة منأحصيناهم ممن قتل من المشركون خمسون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 ألفا وقتل من المسلمين في اليوم الأول والثاني أربعمائة وخمسون رجلا ختم الله لهم بالمسلمين فرفع أبو بكر رأسه وقرأ الكتاب سرا فلما فهم ما فيه قرأه على عشرون والباقي من اخلاط الناس ويوم كتبت لك الكتاب كان يوم الخميس لليلتين خلتا من جمادي الاخر ونحن راجعون إلى دمشق أن شاء الله تعالى فادع لنا بالنصر والسلام عليك وعلى جميع المسلمين ورحمة الله وبركاته وطوى الكتاب وسلمه إلى عبد الرحمن بن حميد وامره بالمسير إلى المدينة المنورة على ساكنها افضل الصلاة واتم السلام وسار خالد بالمسلمين طالب دمشق. قال الواقدي: رحمة الله عليه ولقد بلغني أن أبا بكر الصديق كان يخرج كل يوم بعد صلاة الفجر إذ أقبل عبد الرحمن بن حميد فلما رآه تسابقت إليه أصحابه وقالوا له: من أين أقبلت قال من الشام وأن الله قد نصر المسلمين فسجد أبو بكر الصديق لله شكرا وأقبل عبد الرحمن ابن حميد إلى أبي بكر وقال: يا خليفة رسول الله ارفع رأسك فقد أقر الله عينك هالمسلمين فرفع أبو بكر رأسه وقرأ الكتاب سرا فلما فهم ما فيه قرأه على المسلمين جهرا فتزاحم الناس يسمعون قراءة الكتاب فشاع الخبر في المدينة فهرعت الناس من كل مكان فقرأه أبو بكر ثاني مرة وتسامع الناس من أهل مكة والحجاز واليمن بما فتح الله على أيدي المسلمين وما ملكوا من أموال الروم فتسابقوا بالخروج إلى الشام ورغبوا في الثواب والأجر وأقبل إلى المدينة من أهل مكة وأكابرهم بالخيل والرماح وفي أوائلهم أبو سفيان والغيداق بن وائل وأقبلوا يستأذنون أبا بكر في الخروج إلى الشام فكره عمر بن الخطاب بن وائل وأقبلوا يستأذنون أبا بكر في الخروج إلى الشام فكره عمر بن الخطاب خروجهم إلى الشام وقال لأبي بكر: لا تأذن للقوم فإن في قلوبهم حقائد وضغائن والحمد لله الذي كانت كلمته هي العليا وكلمتهم هي السفلى وهم على كفرهم وارادوا أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ونحن مع ذلك نقول ليس مع الله غالب فلما أن أعز الله ديننا ونصر شريعتنا اسلموا خوفا من السيف فلما سمعوا أن جند الله قد نصروا على الروم أتونا لنبعث بهم إلى الأعداء ليقاسموا السابقين الأولين والصواب أن لا نقربهم فقال أبو بكر لا أخالف لك قولا ولا أعصى لك أمرا قال: وبلغ أهل مكة ما تكلم به عمر بن الخطاب فأقبلوا بجمعهم إلى أبي بكر الصديق في المسجد فوجدوا حوله جماعة من المسلمين وهم يتذاكرون ما فتح الله على المسلمين وعمر بن الخطاب عن يساره وعلي بن أبي طالب عن يمينه والناس حوله فأقبلت قريش إلى أبي بكر فسلموا عليه وجلسوا بين يديه وتشاوروا فيمن يكون أولهم كلاما فكان أول من تكلم أبو سفيان بن حرب فأقبل على عمر بن الخطاب وقال: يا عمر كنت لنا مبغضا في الجاهلية فلما هدانا الله تعالى إلى الإسلام هدمنا ما كان لك في قلوبنا لأن الإيمان يهدم الشرك وأنت بعد اليوم تبغضنا فما هذه العداوة يا ابن الخطاب قديما وحديثا أما أن لك أن تغسل ما بقلبك من الحقد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 والتنافر وأنا لنعلم إنك أفضل منا وأسبق في الإيمان والجهاد ونحن عارفون بمرتبتكم غير منكرين قال فسكت عمر رضي الله عنه واستحى من هذا الكلام فقال أبو سفيان إني اشهدكم إني قد حبست نفسي في سبيل الله وكذلك تكلم سادات مكة فقال أبو بكر اللهم بلغهم أفضل ما يوملون وأجزهم باحسن ما يعملون وأرزقهم النصر على عدوهم ولا تمكن عدوهم فيهم: {إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26] . قال الواقدي: فما تمت أيام قلائل حتى جاء جمع من اليمن وعليهم عمرو بن معد يكرب الزبيدي رضي الله عنه يريد الشام فما لبثوا حتى أقبل مالك بن الاشتر النخعي رضي الله عنه فنزل عند الإمام علي رضي الله عنه بأهله وكان مالك يحب سيدنا عليا وقد شهد معه الوقائع وخاض المعامع في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد عزم على الخروج مع الناس إلى الشام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 كتاب أبو بكر إلى خالد قال الواقدي: واجتمع بالمدينة نحو تسعة آلاف فلما تم امرهم كتب أبو بكر كتابا إلى خالد بن الوليد يقول فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خالد بن الوليد ومن معه من المسلمين أما بعد فانيأحمد الله الذي لا إله إلا هو وأصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وأوصيكم وآمركم بتقوى الله في السر والعلانية وقد فرحت بما أفاء الله على المسلمين من النصر وهلاك الكافرين وأخبرك أن تنزل إلى دمشق إلى أن يأذن الله بفتحها على يدك فإذا تم لك ذلك فسر إلى حمص وانطاكية والسلام عليك وعلى من معك من المسلمين ورحمة الله وبركاته وقد تقدم إليك ابطال اليمن وأبطال مكة ويكفيك بن معد يكرب الزبيدي ومالك بن الاشتر وانزل على المدينة العظمى انطاكية فإن بها الملك هرقل فإن صالحك فصالحه وأن حاربك فحاربه ولا تدخل الدروب وأقول هذا وأن الأجل قد قرب ثم كتب: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185] ثم ختم الكتاب وطواه ودفعه إلى عبد الرحمن وقال له: أنت كنت الرسول من الشام وانت ترد الجواب فأخذه عبد الرحمن وسار على مطيته يطوي المنازل والمناهل إلى أن وصل إلى دمشق. قال حدثني نافع بن عميرة قال لما بعث خالد بن الوليد الكتاب إلى أبي بكر الصديق ارتحل يريد دمشق وكان أهلها قد سمعوا بقتل بطريقهم وابطالهم وانهزام جيوشهم ومن أرسلهم الملك بأجنادين فخافوا وتحصنوا بدمشق واعدوا آلة الحصار ورفعوا السيوف والطوارق وعلوا على الاسوار ونشروا الأعلام والصلبان فلما أخذوا على أنفسهم اشرف عليهم الأمير خالد بن الوليد والجيش قد زاد عمرو بن العاص في تسعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 آلاف ويزيد بن أبي سفيان في الفين وشرحبيل بن حسنة وعامر بن ربيعة في ألفين وأقبل السواد من ورائهم معاذ بن جبل في الفين فلما رأى أهل دمشق عسكر المسلمين مثل البحر الزاخر ايقنوا بالهلاك وأقبل خالد في جيش الزحف فنزل على الدير المعروف به وبينه وبين المدينة أقل من ميل فلما نزل هناك دعا بالأمراء فاحضرهم فقال لأبي عبيدة: أنت تعلم ما ظهر لنا من غدر هؤلاء القوم عند انصرافنا عنهم وخروجهم في أثرنا فامض بمن معك من أصحابك وانزل بهم على باب الجابية ولا تسمح للقوم بالأمان فيأخذوك بمكرهم ولتكن متباعدا عن الباب وابعث إليهم فوجا بعد فوج واجعل قتال الناس دولا ولا يضق صدرك من كثرة المقام ولا تبرح من مكانك واحذر من القوم الكافرين فقال أبو عبيدة: حبا وكرامة ثم إنه خرج حتى نزل بباب الجابية ونصب له بيتا من الشعر بالبعد من الباب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 حول دمشق قال الواقدي: حدثني مسلمة بن عوف عن سالم بن عبد الله عن حجاج الأنصاري قال قلت لجدي رفاعة بن عاصم وكان ممن قاتل بدمشق وكان في خيل أبي عبيدة فقلت: يا جداه ما منع أبا عبيدة أن ينصب له قبة من بعض قبب الروم مما أخذه من اجنادين ومن بصرى فقد كان عندهم الوف من ذلك فقال: يا بني منعهم من ذلك التواضع ولم يتنافسوا في زينة الدنيا وملكها حتى ينظر الروم إنهم لا يقاتلون طلبا للملك وإنما يقاتلون رجاء ثواب الله تعالى وطلب الاخرة ونصرة للدين ولقد كنا ننزل فننصب خيامنا وخيام الروم بالبعد قال فلما نزل أبو عبيدة على باب الجابية أمر أصحابه بالقتال ثم أن خالدا استدعى بيزيد بن أبي سفيان وقال له: يا يزيد خذ صاحبك وانزل على الباب الصغير واحفظ قومك وأن خرج إليكأحد لا يكون لك به طاقة فابعث الي حتى انجدك أن شاء الله تعالى ثم استدعى بشرحبيل بن حسنة كاتب وحي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: انزل على باب توما ثم توجه بقومه واستدعى بعمرو بن العاص وأمره أن يسير إلى باب الفراديس ثم استدعي بعده بقيس بن هبيرة وقال له: اذهب بقومك إلى باب الفرج ثم نزل خالد إلى الباب الشرقي ودعا بضرار بن الأزور رضي الله عنه وضم إليه ألفي فارس وقال له: تطوف حول المدينة بعسكرك وأن دهمك أمر أو لاحت لك عيون القوم فأرسل إلينا قال ثم سار ضرار واتبعه قومه وبقي خالد على الباب الشرقي ثم قدم عبد الرحمن بن حميد من المدينة بكتاب أبي بكر الصديق رضي الله عنه وعدل إلى ناحية خالد بن الوليد على الباب الشرقي وقد تقدم للقتال طائفة من أصحابه مع رافع بن عميرة فلما رفع إليه الكتاب فرح بعد أن قرأه على المسلمين واستبشر بقدوم عمرو بن معد يكرب الزبيدي وأبي سفيان بن حرب قال: وشاع الخبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 عند جميع الناس وبعث خالد كتاب أبي بكر إلى كل باب فقرىء على الناس متأهين وبات الناس متأهبين للحرب يتحارسون إلى الصباح وضرار يطوف حولهم ولا يقف في مكان واحد مخافة أن يكبس بهم العدو. قال الواقدي: ولقد بلغني أن أهل دمشق اجتمعوا إلى كبارهم من البلد وتشاوروا فيما بينهم فقال بعضهم ما لنا إلا الصلح ونعطي العرب جميع ما طلبوه منا وقال اخرون ما نحن بأكثر من جموع اجنادين فقال لهم بطريق من الروم: اطلبوا لنا صهر الملك توما نتشاور في هذا الأمر لنسمع ما يقول: ونطلب منه أن يكشف عنا ما نحن فيه فاما أن يصالحهم واما أن يحامي عنا قال فمضى القوم إلى توما وعليه رجال موكلون بالسلاح فقالوا: لهم ما الذي تريدون فقالوا: نريد صهر الملك توما نشاوره في هذا الأمر قال فأذنوا لهم فدخلوا عليه وقبلوا الأرض بين يديه فقال لهم: ما الذي تريدون فقالوا: أيها السيد انظر ما نزل ببلادنا وقد جاءنا ما لا طاقة لنا به فاما أن نصالح العرب على ما طلبوا واما أن نرسل إلى الملك فينجدنا أو يمانع عنا فقد أشرفنا على الهلاك فلما سمع ذلك منهم تبسم ضاحكا وقال: يا ويلكم أطمعتم العرب فيكم وحق راس الملك ما أرى القوم أهلا للقتال ولا هم خاطرون لي على بال فلو فتح لهم الباب ما جسروا أن يدخلوا فقالوا: أيها السيد أن أكبرهم وأصغرهم يقاتل العشرة والمائة وصاحبهم داهية لا تطاق فإن كان ولا بد فاخرج بنا لقتالهم فقال لهم توما: إنكم أكثر منهم ومدينتنا حصينة ولكم مثل هذا العدد والسلاح وأما القوم فهم حفاة عراة فقالوا له: أيها السيد أن معهم من عددنا واسلحتنا كثيرا مما أخذوه من واقعة فلسطين ومما أخذوه من بصرى ومن يوم لقائهم بكلوس وعزازير ومما أخذوه من أجنادين وأيضا أن نبيهم قال لهم: أن من قتل منا صار إلى الجنة فلاجل ذلك يبقون عراة الأجساد ليصلوا إلى ما قال لهم: نبيهم قال فضحك من قولهم وقال لهم: لاجل ذلك أطمعتم العرب فينا ولو صدقتم في الحرب والصدام لقتلتموهم لانكم اضعافهم مرارا. فقالوا: أيها السيد اكفنا مؤونتهم كيف شئت واعلم إنك أن لم تمنعهم عنا فتحنا لهم الأبواب وصالحناهم فلما سمع توما كلامهم فكر طويلا وخشي أن تفعل القوم ذلك فقال أنا أصرف عنكم هؤلاء العرب واقتل اميرهم وأريد منكم أن تقاتلوا معي قالوا: نحن معك وبين يديك نقاتل حتى نهلك عن أخرنا فقال لهم: باكروا القوم بالقتال فانصرفوا عنه وهم له شاكرون ولامره منتظرون وباتوا بقية ليلتهم على الحصن وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواضعهم ولهم ضجة بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير وخالد بن الوليد عند الدير ومعه النساء والعيال والأموال والغنائم التي غنموها من أعدائهم ورافع بن عميرة على الباب الشرقي في عسكر الزحف وغيرهم ولم يزل الناس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 في الحرس إلى أن برق الصباح وصلى كل أمير بمن معه من قومه وصلى أبو عبيدة بمن معه ثم أمر أصحابه بالزحف وقال لهم: لا تخلوا عن القتال واركبوا الخيل. حدثني رفاعة بن قيس قال سألت والدي قيسا وكان ممن حضر فتوح دمشق الشام فقلت له: أكنتم تقاتلون في دمشق خيالة أو رجالة يوم حصار المسلمين فقال: ما كان أحد منا فارسا إلا زهاء الفي فارس مع ضرار بن الأزور وهو يطوف بهم حول العسكر وحول المدينة وكلما أتى بابا من الأبواب وقف عنده وحرض أهله على القتال وهو يقول: صبرا صبرا لاعداء الله قال: وأقبل توما صهر الملك هرقل من بابه الذي يدعى باسمه وكان عندهم عابدا راهبا ولم يكن في بلاد الشرك أعبد منه ولا أزهد في دينهم وكان معظما عند الروم فخرج ذلك اليوم من قصره والصليب الأعظم على رأسه وعلا به فوق البرج وأوقف البطارقة حوله والإنجيل تحمله ذوو المعرفة قال: ونصبوه بالقرب من الصليب ورفع القوم أصواتهم وتقدم توما ووضع يده على أسطر من الإنجيل وقال اللهم أن كنا على الحق فانصرنا ولا تسلمنا لاعدائنا واخذل الظالم منا فانك به عليم اللهم اننا نتقرب إليك بالصليب ومن صلب على دينه وأظهر الايات الربانية والأفعال اللاهوتية انصرنا على هؤلاء الظالمين قال: وأمن الناس على دعائه قال رفاعة بن قيس هكذا حدثني شرحبيل بن حسنة كاتب وحي رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي فسر لنا هذا الكلام روماس صاحب بصرى وكان في جيش شرحبيل بن حسنة يقاتل على باب توما وكلما قال الروم شيئا بلغتهم فسره لنا قال ونهض شرحبيل وقصد الباب بحملته وقد عظم عليه قول توما اللعين وقال له: يا لعين لقد كذبت أن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من ترابأحياه متى شاء ورفعه متى شاء ثم أن روماس ناوشه بالقتال فقاتل توما قتالا شديدا وهشم الناس بالحجارة ورمى النشاب رميا متداركا فجرح رجالا وكان ممن جرح أبان بن سعيد بن العاص أصابته نشابة وكانت مسمومة فأحس بلهيب السم في بدنه فتأخر وحمله اخوانه إلى أن أتوا به إلى العسكر فأرادوا حل العمامة فقال: لا تحلوها فإن حللتم جرحي تبعتها روحي أما والله لقد رزقني الله ما كنت أتمناه قال فلم يسمعوا قوله وحلوا عمامته فلما حلوها شخص إلى السماء وصار يشير باصبعيه أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون فما استتمها حتى توفي إلى رحمة الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 بطولة المرأة وكانت زوجته بنت عمه وكان قد تزوجها باجنادين وكانت قريبة العهد من العرس ولم يكن الخصاب ذهب من يدها ولا العطر من رأسها وكانت من المترجلات البازلات من أهل بيت الشجاعة واليراعة فلما سمعت بموت بعلها أتته تتعثر في أذيالها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 إلى أن وقعت عليه فلما نظرته صبرت واحتسبت ولم يسمع منها غير قولها هنئت بما أعطيت ومضيت إلى جوار ربك الذي جمع بيننا ثم فرق ولاجهدن حتى الحق بك فاني لمتشوقة إليك حرام علي أن يمسني بعدك أحد وإني قد حبست نفسي في سبيل الله عسى أن الحق بك وأرجو أن يكون ذلك عاجلا ثم حفر له ودفن مكانه فقبره معروف وصلى عليه خالد بن الوليد فلما غيب في التراب لم تقف على قبره دون أن أتت إلى سلاحه ولحقت الجيش من غير أن تعلم خالدا بذلك وقالت: على أي باب قتل بعلي فقيل لها على باب توما والذي قتله هو صهر الملك قال فسارت إلى أصحاب شرحبيل بن حسنة فاختلطت بهم وقاتلت مع الناس قتالا لم ير مثله وكانت أرمى الناس بالنبل وكان قد جعل لها قوس وكنانة قال شرحبيل بن حسنة رايت يوم حصار دمشق رجلا على باب توما يحمل الصليب وهو أمام توما وهو يشير إليه اللهم انصر هذا الصليب ومن لاذ به اللهم اظهر له نضرته وأعل درجته قال شرحبيل بن حسنة وأنا دائما أنظر إليه إذ رمته زوجة ابان بنبلة فلم تخطىء رميتها وإذا بالصليب قد سقط من يده وهوى إلينا وكأني أنظر لمعان الجوهر من جوانبه فما فينا إلا من بادر إليه ليأخذه وقد استتر بالدرق وتزاحم بعضنا على بعض كل منا يسبق إليه ليأخذه ونظر عدو الله توما إلى ذلك من تنكس الصليب الأعظم واهوائه إلى المسلمين فعند ذلك كفر وعظم عليه الأمر وقال يبلغ الملك أن الصليب الأعظم أخذ مني وملكته العرب لا كان ذلك أبدا ثم إنه حرم وسطه وأخذ سيفه وقال من شاء منكم فليتبعني ومن شاء فليقعد فلابد لي من القوم عسى أن أشفي صدري ثم انحدر مسرعا وأمر بفتح الباب وكان هو أول مبادر فلما نظرت الروم إلى ذلك لم يكن فيهم إلا من انحدر في أثره لما يعلمون من شجاعته وخرجوا كالجراد المنتشر هذا والمسلمون محيطون بالصليب فلما خرج الروم ووقع صياحهم حذر الناس بعضهم بعضا فلما نظر المسلمون إلى الروم سلموا الصليب إلى شرحبيل بن حسنة وانفردا لاعدائهم وحملوا في أعراضهم وأخذهم النشاب والحجارة ومن كل مكان من أعلى الباب فصاح شرحبيل بن حسنة معاشر المسلمين تقهقروا إلى ورائكم لتأمنوا النشاب من أعداء الله العالين على الباب قال فتقهقر الناس إلى ورائهم إلى أن أمنوا من ضرب النشاب فاتبعهم عدو الله توما وهو يضرب يمينا وشمالا وحوله أبطال المشركين من قومه وهو يهدر كالجمل فلما نظر شرحبيل بن حسنة ذلك صرخ بقومه وقال معاشر الناس كونوا آيسين من آجالكم طالبين جنة ربكم وأرضوا خالقكم بفعلكم فإنه لا يرضى منكم بالفرار ولا أن تولوا الأدبار فاحملوا عليهم واقربوا إليهم بارك الله فيكم قال فحمل الناس حملة منكرة واختلط الناس بعضهم ببعض وعملت بينهم السيوف وتراموا بالنبل وتسامع أهل دمشق أن توما خرج إلى العرب من بابه وأن صليبه الأعظم سقط إليهم من كف حامله فجعلوا يهرعون إلى أن تزايد أمرهم وجعل عدو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 الله ينظر يمينا وشمالا وينظر الصليب فحانت منه التفاتة فنظر فرآه مع شرحبيل بن حسنة فلما نظر إليه لم يكن له صبر دون أن حمل وصاح هات الصليب لا أم لك فقد لحقتك بواثقة. قال ونظر شرحبيل بن حسنة إلى عدو الله وهو مقبل فرمى الصليب من يده وصادمه فلما رأى عدو الله الصليب مرميا على الأرض صرخ بأصحابه صرخة هائلة ونظرت زوجة أبان ابن سعيد إلى حملة عدو الله على شرحبيل فقالت: من هذا قيل هو صهر الملك وهو قاتل بعلك أبان بن سعيد فلما سمعت ذلك منهم حملت حملة منكرة إلى أن قاربته ورمته بنبلة وكان الروم أرهبوها فلم تلتفت إليهم دون أن حققت نبلتها على صاحبها وقالت: بسم الله وبركة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أطلقتها وكان عدو الله واصلا إلى شرحبيل إذ جاءته النبلة فأصابت عينه اليمنى فسكنت النبلة فيها فتقهقر إلى ورائه صارخا وهمت بأن ترميه بأخرى فتبادرت إليها الرجال واستتروا بالطوارق وتبادر إليها قوم من المسلمين يحامون عنها فلما أمنت من شر الأعداء أخذت ترمي بالنبل ثم إنها رمت علجا من الروم فأصابت صدره فسقط هاويا إلى الأرض وكان عدو الله أول من تقهقر ذلك اليوم هاربا من شدة حرارة النبلة وصرخ صرخة عظيمة إلى أن دخل الباب ونظر شرحبيل إلى ذلك فصرخ بأصحابه يا ويلكم دونكم وكلب الروم احملوا على الكلاب عسى أن تدركوا عدو الله قال فحمل الناس على الروم إلى أن أوصلوهم إلى الباب فحماهم قومهم من أعلى الباب بالحجارة والنشاب قال فتراجع الناس إلى مواضعهم وقد قتلوا من الروم مقتلة عظيمة وأخذوا أسلابهم وأموالهم وصليبهم ودخل عدو الله توما إلى المدينة وأغلقوا الأبواب وجاء الحكماء يعالجون في قلع النبلة من عينه فلم تطلع فجذبوها فلم تنجذب وهو يضج بالصراخ فلما طال على القوم ذلك ولم يجدوا حيلة في اخراجها نشروها وبقي النصل في عينه ولم تزل في مكانها وسألوه المسير إلى منزله فأبى وجلس داخل الباب إلى أن سكن ما به وخف عنه الألم فقالوا له: عد إلى منزلك بقية ليلتك فقد نكبنا في يومنا هذا نكبتين نكبة الصليب ونكبة عنيك كل هذا مما وصل إلينا من النبال وقد علمنا أن القوم لا يصطلي لهم بنار وقد سألناك أن نصالح القوم على ما طلبوه منا قال فغضب توما من قولهم وقال: يا ويلكم يؤخذ الصليب الأعظم وأصاب بعيني وأغفل عن هذا ويبلغ الملك عني ذلك فينسبني للوهن والعجز ولا بد من طلبهم على كل حال وآخذ صليبي وآخذ في عيني ألف عين منهم وسأوقع حيلة أصل بها إلى كبيرهم وآخذ جميع ما غنموه وبعد ذلك اسير إلى صاحبهم الذي هو في الحجاز وأقطع آثاره وأخرب دياره وأهدم مساكنه وأجعل بلده مسكنا للوحوش ثم أن الملعون سار إلى أعلى السور وهو معصوب العين وصار يحرض الناس لكي يزيل عن قلوبهم الرعب وأقبل يقول لهم: لا تفزعوا ولا تجزعوا مما ظهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 لكم من العرب ولا بد للصليب أن يرميهم وأنا الضامن لكم قال فثبت القوم من قومه وحاربوا حربا شديدا وبعث شرحبيل بن حسنة إلى خالد بن الوليد يخبره بما صنع مع القوم فقال الرسول أن عدو الله توما قد ظهر لنا منه ما لم يكن في الحساب ونطلب منك رجالا لأن الحرب عندنا أكثر من كل باب فلما سمع خالد ذلك الخبر حمدالله وقال كيف أخذتم الصليب من الروم فقال الرسول كان يحمل صليب الروم رجل وهو أمام توما صهر الملك فرمته زوجة أبان بنبلة فوقع الصليب إلينا وخرج عدو الله فرمته زوجة أبان بنبلة فاشتبكت في عين توما اليمنى. فقال خالد: أن توما عند الملك معظم وهو الذي يمنعهم عن الصلح ونرجو من الله أن يكفينا شره ثم قال للرسول عد إلى شرحبيل وقل له كن حافظا ما أمرتك به فكل فرقة مشغولة عنك ولم تؤت من قبلهم وأنا بالقرب منك وهذا ضرار بن الأزور يطوف حول المدينة وكل وقت عندك قال فرجع الرسول فأخبره بذلك فصبر وقاتل بقية يومه ووصل الخبر إلى أبي عبيدة بما نزل بشرحبيل بن حسنة من توما وبما غنم من صليبه فسر بذلك قال ولما أصبح الصباح بعث توما إلى أكابر دمشق وأبطالهم فلما حضروا بين يديه قال لهم: يا أهل دين النصراينة إنه قد طاف عليكم قوم لا أمان لهم ولا عهد لهم وقد أتوا يسكنون بلادكم فكيف صبركم على ذلك وعلى هتك الحريم وسبي الأولاد وتكون نساؤكم جواري لهم وأولادكم عبيدا لهم وما وقع الصليب إلا غضبا عليكم مما اضمرتم لهذا الدين من مصالحة المسلمين واذلالكم للصليب وأنا قد خرجت ولولا إني أصبت بعيني لما عدت حتى أفرغ منهم ولا بد من أخذ ثأري وأن اقلع ألف عين من العرب ثم لابد أن أصل إلى الصليب وأطالبهم به عن قريب فلما سمعوا كلامه قالوا له: ها نحن بين يديك وقد رضينا بما رضيت لنفسك فإن امرتنا بالخروج خرجنا معك وأن أمرتنا بالقتال قاتلنا فقال توما اعلموا أن من خاض الحروب لم يخف من شيء وإني قد عزمت على أن أهجم هذه الليلة واكبسهم في أماكنهم فإن الليل مهيب وانتم أخبر بالبلد من غيركم فلم يبق الليلة فيكم أحد حتى يتأهب للحرب ويخرج من الباب وأرجو أن لا أعود حتى تنقضي الاشغال فإذا فرغت من القوم أخذت أميرهم اسيرا وأحمله إلى الملك يأمر فيه بأمره فقالوا: حبا وكرامة فعند ذلك فرق القوم على الباب الشرقي فرقة وعلى باب الجابية فرقة وعلى كل باب جماعة وقال لهم: لا تجزعوا فإن أمير القوم متباعد عنكم وليس هناك إلا الأراذل والموالي فاطحنوهم طحن الحصيد قال ودعا بفرقة أخرى إلى باب الفراديس إلى عمرو بن العاص وخرج توما من بابه واخذ معه أبطال القوم ولم يترك بطلا يعرف بالشجاعة إلا أخذه معه ورتب على الباب ناقوسا وقال لهم: إذا سمعتم الناقوس فهي العلامة التي بيننا فافتحوا الأبواب واخرجوا مسرعين إلى اعدائكم ولا تجدوا رجالا نياما إلا وتطعون السيف فيهم فإن فعلتم ذلك فرقتم جمعهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 في هذه الليلة وانكسروا كسرة لا يجبرون بعدها أبدا قال ففرح القوم بذلك وخرجوا إلى حيث أمرهم وقعدت كل فرقة على بابها وأقاموا ينتظرون صوت الناقوس ليبادروا إلى المسلمين قال ودعا توما برجل من الروم قال له: خذ ناقوسا واعل به على الباب فإذا رأيتنا قد فتحنا الباب فاضرب الناقوس ضربة خفيفة يسمعها قومنا وقد سار توما بقطعة من جيشه عليهم الدروع وبأيديهم السيوف وتوما في أوائلهم وبيده صفيحة هندية والقى على رأسه بيضة كسروية كان هرقل قد أهداها له وكانت لا تعمل فيها السيوف القواطع حتى وصل إلى الباب ثم وقف حتى تكامل القوم فلما نظر إليهم قال: يا قوم فتحنا لكم الباب فأسرعوا إلى عدوكم وجدوا في سعيكم إلى أن تصلوا إلى القوم فإذا وصلتم إليهم فاحملوا ومكنوا السيوف فيهم ومن صاح منهم بالأمان فلا تبقوا عليه إلا أن يكون أمير القوم ومن أبصر منكم الصليب فليأخذه فقالوا: حبا وكرامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 القتال من فوق الاسوار ثم أمر رجلا من أصحابه أن يسير إلى الذي بيده الناقوس ويأمره أن يضربه ضربة خفيفة ثم فتح الباب وتبادر الرجال إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم في غفلة مما دبر القوم لهم إلا إنهم في يقظة فلما سمعوا الصوت أيقظ بعضهم بعضا وتواثبت الرجال من أماكنهم كالأسود الضارية فلم يصل إليهم العدو إلا وهم على حذر وحملوا عليهم وهم في غير ترتيب فتقاتل القوم في جنح الظلام وعمل السيف وسمع خالد بن الوليد فقام ذاهل العقل مما سمع من الزعقات فصاح واغوثاه واسلاماه كيد قومى ورب الكعبة اللهم انظر لهم بعينك التي لا تنام وانصرهم يا أرحم الراحمين وسار خالد ومن معه وهم أربعمائة فارس من أصحابه وهو بغير درع قد لبس ثوب كتان من عمل الشام مكشوف الرأس ثم جد في السير والأربعمائة فارس معه كأنهم الليوث العوابس إلى أن وصلوا إلى الباب الشرقي وإذا بالفرقة التي هناك قد هاجمت أصحاب رافع بن عميرة الطائي قال وأصوات المسلمين عالية بالتهليل والتكبير والقوم من أعلى الاسوار قد أشرفوا وتصايحوا عندما استيقظ لهم المسلمون فحمل خالد بن الوليد على الروم ونادى برفع صوته أبشروا يا معشر المسلمين أتاكم الغوث من رب العالمين أنا الفارس الصنديد أنا خالد بن الوليد وحمل في أوساط الناس بمن معه فجندل أبطالا وقتل رجالا وهو مع ذلك مشتغل القلب على أبي عبيدة والمسلمين الذين على الأبواب وهو يسمع اصواتهم وزعقاتهم قال وتصايح الروم والنصارى واليهود. قال سنان بن عوف قلت لابن عمي: قيس هل كانت إليهود تقاتلكم قال: نعم يقاتلوننا من أعلى الاسوار ويرمون بالسهام وخشى خالد على شرحبيل ابن حسنة مما وصل إليه من عدو الله توما لانه ملازما الباب وقال لقي شرحبيل بن حسنة من عدو الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 توما أمرا عظيما لم يلق أحد مثله وذلك إنه هجم عليه توما في تلك اليلة وكان أول من وصل إلى المسلمين عدو الله توما قال فصبروا له صبر الكرام وقاتل عدو الله قتالا شديدا وهو ينادي أين أميركم الذميم الذي أصابني أنا ركن الملك الرحيم أنا ناصر الصليب قال فلما سمع شرحبيل صوته قصد جهته وقد جرح رجالا من المسلمين وقال ها أنا صاحبك وغريمك أنا مبيد جمعكم وآخذ صليبكم أنا كاتب وحي رسول الله صلى الله عليه وسلم فعطف عليه توما عطفة الاسد ورأى من شرحبيل بن حسنة أمرا هائلا ولم يزالوا كذلك إلى أن زال من الليل شطره وكل قرن مع قرنه وكانت زوجة ابان مع شرحبيل وكانت في تلك الليلةأحسن الناس صبرا ورمت بنبالها وكانت لا تقع نبلة من نبالها إلا في رجل من المشركين إلى أن قتلت من الروم مقتلة عظيمة بالنبال والروم يتحايدون عنها إلى أن لاح رجل من الروم فرمته بنبلة فبقيت معلقة في نحره قال فصرخ بالروم فهاجموها وأخذوها أسيرة ومات عدو الله الذي رمته قال ولقي شرحبيل من الروم مالا يلقاهأحد وانه ضرب توما ضربة هائلة فتلقاها الملعون بدرقته فانكسر سيف شرحبيل فطمع عدو الله فيه وحمل عليه وظن إنه يأخذه اسيرا وإذا بفارسين قد أشرفا من ورائهما مع كبكبة من الفرسان فهجموا على الروم ونظروا وإذا بزوجة ابان قد خلصت وهجمت على الروم وهتفت فلحقها فارسان فبرز لهما عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأبان بن عثمان بن عفان رضي الله عنه فقتلا الرجلين ورجع عدو الله توما هاربا إلى المدينة. قال حدثني تميم بن عدي وكان ممن شهد الفتوحات قال كنت في خيمة أبي عبيدة وذلك أن أبا عبيدة كان يصلي فيها إذ سمع الصياح فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ثم لبس سلاحه ورتب قومه ودنا من القوم فنظر إليهم وهم في المعمعة والحرب وعدل عنهم ميسرة وميمنة إلى أن جاوزهم وعطف نحو الباب وكبر وكبر المسلمون فلما سمع المشركون تكبيرهم ظنوا أن المسلمين قد دهموهم من ورائهم في جمع كثير فولوا راجعين فتلقاهم أبو عبيدة وقومه واخذوا عليهم المجاز وبذل أبو عبيدة السيف فيهم. قال الواقدي: ولقد بلغني إنه ما سلم من الروم تلك الليلةأحد من الذين هم غرماء أبي عبيدة ولقد قتلوا عن آخرهم فبينما هم في القتال إذ أشرف عليهم ضرار بن الأزور وهو ملطخ بالدماء فقال له خالد: ما وراءك يا ضرار فقال أبشر أيها الأمير ما جئتك حتى قتلت في ليلتي هذه مائة وخمسين رجلا وقتل قومي ما لايعد ولا يحصى وقد كفيتكم مؤنة من خرج من الباب الصغير إلى يزيد بن أبي سفيان ثم عطفت إلى سائر الأبواب فقتلت خلقا كثيرا قال فسر بذلك خالد بن الوليد ثم ساروا جميعا حتى أتوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 شرحبيل بن حسنة وشكروا فعله وكانت ليلة مقمرة ولم يلق مثلها الناس فقتلوا في تلك الليلة ألوفا من الروم قال فاجتمع كبار أهل دمشق إلى توما وقالوا له: أيها السيد أنا قد نصحناك فلم تسمع لقولنا وقد قتل منا أكثر الناس وهذا أمير لا يطاق يعني خالد بن الوليد فصالح فهو أصلح لك ولنا وأن لم تصالح صالحنا وأنت وشأنك فقال: يا قوم أمهلوني حتى أكتب إلى الملك واعلمه بما نزل بنا فكتب من وقته وساعته كتابا يقول فيه: إلى الملك الرحيم من صهرك توما أما بعد فإن العرب محدقون بنا كاحداق البياض بسواد العين وقد قتلوا أهل اجنادين ورجعوا إلينا وقد قتلوا منا مقتلة عظيمة وقد خرجت إليهم وأصيبت عيني وقد عزمت على الصلح ودفع الجزية للعرب فاما أن تسير بنفسك واما أن ترسل لنا عسكرا تنجدنا بهم واما أن تأمرنا بالصلح مع القوم فقد تزايد الأمر علينا ثم طوى الكتاب وختمه وبعث به قبل الصباح. فلما أصبح الصباح باكرهم المسلمون بالقتال وبعث خالد لكل أمير أن يزحف من مكانه فركب أبو عبيدة ووقع القتال واشتد الأمر على أهل دمشق فبعثوا لخالد أن أمهلنا فأبى إلا القتال ولم يزل كذلك إلى أن ضاق بهم الحصار وهم ينتظرون أمر الملك واجتمع أهل البلد وقالوا: لبعضهم ما لنا صبر على ما نحن فيه من الأمر وأن هؤلاء أن قاتلناهم نصروا علينا وأن تركناهم أضر بنا الحصار فاطلبوا من القوم صلحا على ما طلبوه منكم فقال لهم شيخ كبير من الروم وقد قرأ الكتب السالفة: يا قوم والله إني أعلم إنه لو أتى الملك في جيشه جميعا لما منعوا عنكم هؤلاء لما قرأت في الكتاب أن صاحبهم محمدا خاتم المرسلين سيظهر دينه على كل دين فأطيعوا القوم وأعطوهم ما طلبوا منكم فهو وافق لكم فلما سمع القوم مقالات الشيخ ركنوا إليه لما يعلمون من علمه ومعرفته بالاخبار والملاحم فقالوا: كيف الرأي عندك فنحن نعلم أن هذا الأمير الذي على باب شرقي رجل سفاك للدماء فقال لهم: أن أردتم تقارب الأمر فامضوا إلى الذي على باب الجابية وليتكلم رجل يعرف بالعربية ويقول بصوت رفيع: يا معاشر العرب الأمان حتى ننزل إليكم ونتكلم مع صاحبكم قال أبو هريرة رضي الله عنه وكان أبو عبيدة قد انفذ رجالا من المسلمين مكثرا بالقرب من الباب مخافة الكبسة مثل الليلة التي خلت وكانت النوبة تلك الليلة لبني دوس والأمير عليها عامر بن الطفيل الدوسي قال فبينما نحن جلوس في مواضعنا من الباب إذ سمعنا اصوات القوم وهم ينادون قال أبو هريرة فلما سمعت بادرت إلى أبي عبيدة قال وبشرته بذلك فاستبشر وقال أمض وكلم القوم وقل لهم لكم الأمان قال فأتيت القوم وبشرتهم بالأمان فقالوا: من أنت. فقلت: أنا أبو هريرة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو أن عبيدا أعطوكم الأمان والذمام ونحن في الجاهلية لما غدرنا فكيف وقد هدانا الله إلى دين الإسلام قال فنزل القوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 وفتحوا الباب واذ هم مائة رجل من كبرائهم وعلمائهم فلما قربوا من عسكر أبي عبيدة تبادر إليهم وأزلوا عنهم الصلبان إلى أن وصلوا خيمة أبي عبيدة فرحب بهم وأجلسهم وقال أن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أتاكم عزيز قوم فأكرموه وتكلموا في أمر الصلح" وقالوا: أنا نريد منكم أن تتركوا كنائسنا ولا تنقضوا علينا منها كنيسة وهي الجامع الآن بدمشق فقال لهم أبو عبيدة: جميع الكنائس لا يؤمر بهدمها قال وكان في دمشق كنائس واحدة تسمى كنيسة مريم وكنيسة حنا وكنيسة سوق الليل وكنيسة انذار وهي عند دار عبد الرحمن ذرة فكتب لهم أبو عبيدة كتاب الصلح والأمان ولم يسم فيه اسمه ولا اثبت شهودا وذلك لانه لم يكن أمير المؤمنين فلما كتب لهم الكتاب تسلموه منه وقالوا له: قم معنا إلى البلد قال فقام أبو عبيدة وركب معه أبو هريرة ومعاذ بن جبل ونعيم بن عمرو وعبد الله بن عمرو الدوسي وذو الكلاع الحميري وحسان بن النعمان وجرير بن نوفل الحميري وسيف بن سلمة ومعمر بن خليفة وربيعة بن مالك والمغيرة بن شعبة وأبو لبابة بن المنذر وعوف بن ساعدة وعامر بن قيس وعبادة بن عتيبة وبشر بن عامر وعبد الله بن قرط الاسدي وجملتهم خمسة وثلاثون صحابيا من اعيان الصحابة رضي الله عنهم وخمسة وستون من أخلاط الناس فلما ركبوا وتقدموا نحو الباب قال أبو عبيدة: أريد منكم رهائن حتى ندخل معكم فأتوه برهائن وقيل أن أبا عبيدة رأى في منامه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: تفتح المدينة أن شاء الله تعالى في هذه الليلة فقلت: يا رسول الله أراك على عجل قال: لاحضر جنازة أبي بكر الصديق قال فاستيقظت من المنام. قال الواقدي: وقد بلغني أن أبا عبيدة لما دخل دمشق بأصحابه سارت القسس والرهبان بين يديه على مسرح الشعر وقد رفعوا الإنجيل والمباخر بالند والعود ودخل أبو عبيدة من باب الجابية ولم يعلم خالد بن الوليد لانه شد عليهم بالقتال قال وكان هناك قسيس من قسس الروم اسمه يونس بن مرقص وكانت داره ملاصقة للسور مما يلي باب شرقي الذي عنده خالد وكان عنده ملاحم دانيال عليه السلام وكان فيها أن الله تعالى يفتح البلاد على يد الصحابة ويعلو دينهم على كل دين فلما كانت تلك الليلة نقب يونس من داره وحفر موضعا وخرج على حين غفلة من أهله واولاده وقصد خالدا وحدثه إنه خرج من داره وحفر موضعا والآن أريد أمانا لي ولاهلي ولاولادي قال فأخذ خالد عهده على ذلك وانفذ معه مائة رجل من المسلمين أكثرهم من حمير وقال لهم: إذا وصلتم المدينة فارفعوا أصواتكم بأجمعكم واقصدوا الباب واكسروا الأقفال وأزيلوا السلاسل حتى تدخلوا أن شاء الله تعالى قال ففعل القوم ما أمرهم به خالد رضي الله عنه وساروا ومضى أمامهم يونس بن مرقص حتى دخل بهم من حيث خرج فلما حطوا في داره تدرعوا واحترسوا ثم خرجوا وقصدوا الباب واعلنوا بالتكبير قال فلما سمع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 المشركون التكبير ذهلوا وعلموا أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حطوا معهم في المدينة وأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قصدوا الباب وكسروا الأقفال وقطعوا السلاسل ودخل خالد بن الوليد ومن معه من المسلمين ووضعوا السيف في الروم وهم مختلفون بين يديه إلى أن وصل إلى كنيسة مريم وخالد بن الوليد يأسر ويقتل. قال الواقدي: والتقي الجمعان عند الكنيسة جيش خالد وجيش أبي عبيدة وأصحابه سائرون والرهبان سائرون بين ايديهم وما أحد من أصحاب أبي عبيدة جرد سيفه فلما نظر خالد إليهم ورأى أن لا أحد منهم جرد سيفه بهت وجعل ينظر إليهم متعجبا قال فنظر إليه أبو عبيدة وعرف في وجهه الإنكار فقال أبا سليمان قد فتح الله على يدي المدينة صلحا وكفى الله المؤمنين القتال. قال الواقدي: ما خاطب أبو عبيدة خالدا يوم الفتح بدمشق إلا بالأمارة فقال: أيها الأمير قد تم الصلح فقال خالد: وما الصلح لا أصلح الله بالهم وأنى لهم الصلح وقد فتحتها بالسيف وقد خضبت سيوف المسليمن من دمائهم وأخذت الأولاد عبيدا وقد نهبت الأموال فقال أبو عبيدة: أيها الأمير اعلم إني ما دخلتها إلا بالصلح فقال له خالد بن الوليد: إنك لم تزل مغفلا وأنا ما دخلتها إلا بالسيف عنوة وما بقي لهم حماية فكيف صالحتهم قال أبو عبيدة: اتق الله أيها الأمير والله لقد صالحت القوم ونفذ السهم بما هو فيه وكتب لهم الكتاب وهو مع القوم فقال خالد: وكيف صالحتهم من غير أمري وأنا صاحب رايتك والأمير عليك ولا أرفع السيف عنهم حتى افنيهم عن آخرهم فقال أبو عبيدة: والله ما ظننت أن تخالفني إذا عقدت عقدا ورأيت رأيا فالله الله في أمري فوالله لقد حقنت دماء القوم عن آخرهم واعطيتهم الأمان من الله جل جلاله وامان رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رضي من معي من المسلمين والغدر ليس من شيمنا قال وارتفع الصياح بينهما وقد شخص الناس إليهما وخالد مع ذلك لا يرجع عن مراده ونظر أبو عبيدة إلى ذلك فرأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع خالد وهم جيش البوادي من العرب مشتبكون على قتال الروم ونهب أموالهم قال فنادى أبو عبيدة واثكلاه خفرت الله ونقض عهدى وجعل يحرك جواده ويشير إلى العرب مرة يمينا ومرة شمالا وينادي معاشر المسلمين اقسمت عليكم برسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تمدوا ايديكم نحو الطريق الذي جئت منه حتى نرى ما نتفق أنا وخالد عليه فلما دعاهم بذلك سكتوا عن القتل والنهب واجتمع إليهما فرسان المسلمين والأمراء وأصحاب الرايات مثل معاذ بن جبل رضي الله عنه ويزيد بن أبي سفيان رضي الله عنه وعمرو ابن العاص رضي الله عنه وشرحبيل بن حسنة رضي الله عنه وربيعة بن عامر رضي الله عنه وعبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أجمعين ونظرائهم والتقوا عند الكنائس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 واجتمع هناك فرسان للمشورة والمناظرة فقالت طائفة من المسلمين: منهم معاذ بن جبل ويزيد بن أبي سفيان الرأي أن تمضي إلى ما أمضاه أبو عبيدة بن الجراح وتكفوا عن القتال للقوم فإن مدن الشام لم تفتح ابدا وهرقل في انطاكية كما تعلمون وأن علم أهل المدن صالحتهم وغدرتم لم تفتح لكم مدينة صلحا ولأن تجعلوا هؤلاء الروم في صلحكم خير من قتلهم ثم قالوا: لخالد أمسك عليك ما فتحت بالسيف ويعينك أبو عبيدة بجانبه واكتبا إلى الخليفة وتحاكما إليه فكل ما أمر به فعلناه فقال لهم خالد بن الوليد: قد أجبت إلى ذلك وقبلت مشورتكم فأما أهل دمشق فقد امنتهم إلا هذين اللعينين توما وهربيس وكان هربيس هو المؤمر على نصف البلدة ولاه توما حين رجع الأمر إليه فقال أبو عبيدة: أن هذين أول من دخل في صلحي فلا تخفر ذمتي رحمك الله تعالى فقال خالد: والله لولا ذمامك لقتلتهما جميعا ولكن يخرجان من الأمير أبا سليمان قوله قول وعهده عهد ولا يقول: إلا الصدق قال فانطلق توما إلى المدينة فلعنهما الله حيث سارا. قال أبو عبيدة: وعلى هذا صالحتهما قال ونظر توما وهربيس إلى خالد وهو يتنازع مع أبي عبيدة فخافا الهلاك فأقبلا على أبي عبيدة ومعهما من يترجم عنهما وقالا له ما يقول: هذا يعني خالدا قال الترجمان لأبي عبيدة ما نقول أنت وصاحبك فيه من المشاورة أن صاحبك هذا يريد غدرنا فنحن واهل المدينة دخلنا في عهدكم ونقض العهد ما هو من شيمكم وإني أسألكم أن تدعوني أن أخرج أنا وأصحابي واسلك أي طريق أردت فقال أنت في ذمتنا فاسلك أي طريق شئت فإذا صرت في أرض تملكونها فقد خرجت من ذمتنا أنت ومن معك فقال توما وهربيس نحن في ذمتكم وجواركم ثلاثة أيام أي طريق سلكنا فاذ كان بعد ثلاثة أيام فلا ذمة لنا عندكم فمن لقينا منكم بعد ثلاثة أيام وظفر بنا فنحن لهم عبيد أن شاء اسرنا وأن شاء قتلنا فقال خالد: قد اجبناك إلى ذلك لكن لا تحملوا معكم من هذا البلد إلا الزاد الذي تتقوتون به قال أبو عبيدة لخالد: هذا كلام داع لنقض العهد والصلح إنما وقع بيننا إنهم يخرجون برجالهم وأموالهم فقال خالد: سمحت لهم بذلك إلا الحلقة يعني السلاح فاني لا أطلق لهم شيئا من ذلك فقال توما لا بد لنا من السلاح نمنع به عن أنفسنا في طريقنا أن طرقنا طارق حتى نصل إلى بلدنا وإلا فنحن بين ايديكم فاحكموا فينا بما أردتم فقال أبو عبيدة: اطلق لكل واحد قطعة من السلاح أن أخذ سيفا فلا يأخذ رمحا وأن أخذ رمحا فلا يأخذ سيفا وأن أخذ قوسا فلا يأخذ سكينا فقال توما لما سمع منهم ذلك الكلام قد رضينا بذلك وما يريد كل واحد منا إلا قطعة من السلاح لا غير ثم قال توما لأبي عبيدة إني خائف من هذا الرجل اعني خالد بن الوليد فليكتب لي بذلك قال أبو عبيدة: ثكلتك امك أنا معاشر العرب لا نغدر ولا نكذب وأن الأمير أبا سليمان قوله قول وعهده عهد ولا يقول: إلا الصدق قال فانطلق توما وهربيس يجمعان قومهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 ويأمرانهم بالخروج قال وكان الملك له خزانة ديباج وهربيس يجمعان قومهما ويأمرانهم بالخروج قال وكان الملك له خزانة ديباج في دمشق فيها زهاء من ثلاثمائة حمل ديباج وحل مذهبة فعزم على اخراجها وامر توما فضربت له خيمة من القز ظاهر دمشق وأقبلت الروم تخرج الأمتعة والأموال والأحمال حتى اخرجوا شيئا عظيما فنظر خالد بن الوليد إلى كثرةأحمالهم فقال: ما اعظم رحالهم ثم قرأ قوله تعالى: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف:33] الاية ثم نظر خالد إلى القوم كانهم حمر مستنفرة ولم يلتفتأحد إلى أخيه من شدة عجلتهم فلما نظر خالد إلى ذلك رفع يديه إلى السماء وقال اللهم جعله لنا وملكنا إياه واجعل هذه الأمتعة قوتا للمسلمين آمين إنك سميع الدعاء ثم اقبل على أصحابه وقال لهم: إني رأيت أنا رأيا فهل انتم تتبعوني عليه فقالوا: نتبعك ولا نخالف لك امرا فقال خالد: قوموا بخيولكم حق القيام واحسنوا إليها ما استطعتم وانجزوا سلاحكم فاني اسير بكم بعد ثلاثة أيام في مطلب هؤلاء القوم وارجو من الله أن يغنمنا هذه الغنيمة والأموال التي رأيتموها وأن نفسي تحدثني أن القوم ما تركوا في دمشق متاعا ولا ثوبا حسنا إلا وقد أخذوه معهم. فقالوا: افعل ما تريد فما نخالف لك أمرا ثم أخذوا في اصلاح شأنهم وتوما وهربيس قد جمعوا مال الرساتيق وجميع المال فلما جمعوه جاءوا به إلى أبي عبيدة فقال لهم: وفيتم بما عليكم فسيروا حيث شئتم فلكم الأمان منا ثلاثة أيام قال يزيد ابن ظريف فلما سلموا المال لأبي عبيدة ارتحلوا سائرين كأنهم سواد مظلم وكان قد خرج مع القوم خلق كثير من أهل دمشق بأولادهم وكرهوا أن يكونوا في جوار المسلمين قال واشتغل خالد عن اتباعهم بخلاف ما وقع بينهم وبين أهل دمشق في حنطة وشعير وجدوا في المدينة منه شيئا كثيرا فقال أبو عبيدة: هو للقوم دخل في صلحهم فكادت القتنة أن تثور بين أصحاب خالد وبين أصحاب أبي عبيدة واتفق رأيهم أن يكتبوا كتابا إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه في ذلك وليس عندهم خبر إنه مات يوم دخولهم دمشق. قال عطية بن عامر كنت واقفا على باب دمشق في اليوم الذي سارت فيه الروم مع توما وهربيس ومعهم ابنة الملك هرقل قال فنظرت إلى ضرار بن الأزور وهو ينظر إلى القوم شزرا ويتحسر على ما فاته منهم فقلت له: يا ابن الأزور مالي اراك كالمتحسر أما عند الله أكثر من ذلك فقال والله ما أعني مالا وإنما أنا متأسف على بقائهم وانفلاتهم منا ولقد أساء أبو عبيدة فيما فعل بالمسلمين فقلت: يا بان الأزور ما أراد أمين الأمة إلا خيرا للمسلمين أن يحقن دمائهم وازواجهم من تعب القتال فإن حرمة رجل واحد خير مما طلعت عليه الشمس وأن الله سبحانه وتعالى اسكن الرحمة في قلوب المؤمنين وأن الرب يقول في بعض الكتب المنزلة: إن الرب لا يرحم من لا يرحم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 وقال تعالى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128] فقال ضرار لعمري إنك لصادق ولكن اشهدوا علي إني لا ارحم من يجعل له زوجة وولدا. قال حدثني عمر بن عيسى عن عبد الواحد بن عبد الله البصري عن وائلة بن الاسقع قال كنت مع خالد بن الوليد في جيش دمشق وكان قد جعلني مع ضرار بن الأزور في الخيل التي تجوب من باب شرقي إلى باب توما إلى باب السلامة إلى باب الجابية إلى باب الصغير إلى باب قيان إذ سمعنا صرير الباب وذلك قبل فتوح الشام وإذا به قد خرج منه فارس فتركناه حتى قرب منا فأخذنا قبضا بالكف وقلنا أن تكلمت قتلناك فسكت وإذا قد خرج فارس اخر قام على الباب وجعل ينادي بالذي قد أخذناه فقلنا له كلمه حتى يأتي قال فرطن له بالرومية أن الطير في الشبكة فعلم إنه قد اسر فرجع وأغلق الباب قال فاردنا قتله فقال بعضنا لا تقتلوه حتى نمضي به إلى خالد الأمير قال فأتينا به خالدا فلما نظر إليه قال له: من أنت قال له: أنا من الروم وإني تزوجت بجارية من قومي قبل نزولكم عليهم وكنت أحبها فلما طال علينا حصاركم سألت أهلها أن يزفوها علي فأبوا ذلك وقالوا: إن بنا شغلا عن زفافك وكنتأحب أن القاها ولنا في المدينة ملاعب نلعب فيها فوعدتها أن نخرج إلى الملاعب فخرجت وتحدثنا فسألتني أن اخرج بها إلى خارج المدينة ففتحنا الباب وخرجت انظر اخباركم فأخذني أصحابك فنادتني فقلت: إن الطير وقع في الشبكة احذرها منكم مخافة عليها ولو كان غيرها لهان علي ذلك فقال خالد: ما تقول في الإسلام فقال: أشهد أن لا إله إلا الله واشهد أن محمدا رسول الله فكان يقاتل معنا قتالا شديدا فلما دخلنا المدينة صلحا أقبل يطلب زوجته فقيل له إنها لبست ثياب الرهبانية فأقبل إليها وهي لا تعرفه فقال لها: ما حملك على الرهبانية قالت: حملني على ذلك إني غررت بزوجي حتى أخذته العرب وترهبنت حزنا عليه قال أنا زوجك وقد دخل في دين العرب قال فلما سمعت ذلك قالت: وما تريد قال أن تكوني في الذمة فقال وحق المسيح لا كان ذلك ابدا ومالي إلى ذلك سبيل وخرجت مع البطريق توما فلما نظر إلى امتناعها أقبل إلى خالد بن الوليد فشكا له حاله. فقال له خالد: إن أبا عبيدة فتح المدينة صلحا ولا سبيل لك إليها ولما علم أن خالدا يسير وراء القوم فقال أسير معه لعلي اقع بها وأقام خالد بدمشق إلى اليوم الرابع ثم اقبل إليه يونس الدمشقي زوج الجارية وقال: أيها الأمير قد عزمت على المسير في طلب هذين العينين توما وهربيس واخذ ما معها قال بلى فقال له: وما الذي اقعدك عن ذلك قال بعد القوم وبيننا وبينهم أربعة أيام بلياليها وهم يسيرون سير الخوف وما يمكن اللحاق بهم فقال يونس أن كان تخلفك لبعد المسافة بيننا وبينهم فأنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 أعرف الديار وأسلك طريقا فنلحقهم إن شاء الله تعالى ولكن البسوا زي لخم وجذام وهو العرب المتنصرة وخذوا الزاد وسيروا قال فسار خالد واخذ عساكر الزحف وهم أربعة آلاف فارس فامرهم أن يسيروا ويخففوا حمل الزاد ففعلوا ذلك وخالد ومن معه قد ساروا ويونس الدليل امامهم وهو يتبع آثار القوم وقد أوصى خالد أبا عبيدة على المدينة والمسلمين قال زيد بن طريف وكان يونس دليلنا قال فرأى آثار القوم وإنهم إذا سقط منهم حمل جمل تركوه وسار خالد ومن معه كلما دخلوا بلدا من بلاد الروم يظنون إنهم من العرب المتنصرة من لخم وجذام حتى أشرف بهم الدليل على ساحل البحر ونوى أن يطلب الأثر وإذا بالقوم قد عدوا انطاكية ولم يدخلوها خيفة الملك قال فوقع للدليل عند ذلك حيرة في امره فعدل إلى قرية هناك وسأل بعضا من الناس فاخبروه أن الخبر قد أتصل إلى الملك بأن توما وهربيس قد سلما دمشق للعرب فنقم عليهما ولم يدعهما يأتيان إليه وذلك إنه جمع الجيوش وأرسلها إلى اليرموك فخاف أن يتحدثوا بشجاعة العرب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتضعف قلوبهم فبعث إلى توما ومن معه أن يسيروا إلى القسطنطينية فلما علم يونس أن القوم عدلوا واخذوا في طلب التحيز فكر في ذلك وغاب عن المسلمين قوقف خالد وصلى بالناس وإذا بيونس قد اقبل وقال: أيها الأمير إني والله قد غررت بكم وبلغت الغاية في الطلب قال خالد: وكيف الأمر قال: أيها الأمير تبعثني في آثارهم في هذا المكان رجاء أن الحقهم وأن الملك منعهم من الدخول إلى انطاكية لئلا يرعبوا عسكره وامرهم أن يطلبوا القسطنطينية وقد قطع بينكم وبينهم هذا الجبل العظيم وانتم في جبل هرقل وهو يجمع عسكره ويسير إلى حربكم وإني خائف عليكم أن تركتم هذا الجبل خلف ظهوركم هلكتم وبعد هذا فالأمر إليك وكل ما أمرتني به فعلت قال ضرار بن الأزور فرأيت خالدا وقد انتقع لونه كالخضاب وكان ذلك منه جزعا وما عهدت به ذلك فقلت: يا أمير على ماذا عولت فقال: يا ضرار والله ما فزعت من الموت ولا من القتل وإنما خفت أن يؤتى المسلمون من قبلي وإني رأيت قبل فتح دمشق مناما افزعني وأنا منتظر تاويله وارجو أن يجعل الله لنا خيرا وينصرنا على عدونا فقال ضرار خيرا رأيت وخيرا يكون أن شاء الله تعالى فما الذي رايت قال رايت المسلمين في برية قفرة ونحن سائرون فبينما نحن كذلك وإذا بقطيع من حمر الوحش كثيرة عظيمة اجسامها مهزولة اخفافا وهي لا تكدم برماحنا ونحن نضربها بأسيافنا وهي لا تكترث فيما نزل بها من الأذى ولا تهلع مما ينزل فلم نزل مثل ذلك حتى اجتهدنا واجتهدت خيولنا وإني اقبلت على أصحابي وفرقتهم عليها من أربعة جوانب البرية وحملت عليهم فجفلت من أيدينا إلى مضايق وتلال واودية خصبة فلم نأخذ منها إلا اليسير فبينما نحن نطبخ ونشوي لحومها وإذا هي قد رجعت تطلب الحرب منا فلما نظرت إليها وقد طرحت المضايق والأجام صحت بالمسلمين اركبوا في طلبها بارك الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 فيكم فاستوى المسلمون على خيولهم وركبت معهم وطلبناها حتى وقعت بها وتصيدت منها بعيرا عظيما فقتلته فجعل المسلمون يقتلون ويتصيدون فما بقي منها إلا اليسير فبينما أنا فرح وأنا أريد الرجوع بالمسلمين إلى وطنهم إذ عثرت فرسي فطارت عمامتي من على رأسي فهويت لاخذها فانتبهت من منامي وأنا فزع مرعوب فهل فيكمأحد يفسره فاني اقول الرؤيا ما نحن فيه قال فصعب ذلك على القوم وجعل خالد يراود نفسه على الرجوع. فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: أما تفسير الوحوش فهؤلاء الأعاجم الذين نحن في طلبهم وأما سقوطك عن فرسك فإنه أمر تنحط عليه من رفعه إلى خفضة واما سقوط العمامة عن رأسك فالعمائم تيجان العرب وهي معرة تلحقك فقال خالد: اسأل الله العظيم أن كان ذلك تأويل ما رأيته أن يجعله من أمر الدنيا ولا يجعله من أمر الاخرة وبالله استعين وعليه أتوكل في كل الأمور قال ثم سار خالد والدليل امامهم حتى قطعوا الجبل فلما كانت الليلة التي أردنا أن نصبح فيها القوم أتى مطر كافواه القرب وكان من توفيق الله عز وعلا أن حبس القوم عن المسير قال روح بن طريف رضي الله عنه ولقد رايتنا ونحن نسير والمطر ينزل علينا كافواه القرب طول ليلتنا فلما اصبح الصباح وطلعت الشمس قال يونس أيها الأمير قف حتى أنظر القوم لانهم لا شك بالقرب منا وقد سمعت صياحهم فقال له خالد بن الوليد: أحقا سمعت صياحهم يا يونس قال: نعم أيها الأمير واريد منك أن تاذن لي بالمسير إليهم وآتيك بخبرهم قال فعند ذلك التفت خالد بن الوليد إلى رجل اسمه المفرط بن جعدة قال له: يا مفرط سر مع يونس وكن له مؤنسا واحذر أن يأخذ خبركما القوم فقال المفرط السمع والطاعة لله ولك أيها الأمير ثم انطلقا إلى أن صعدا على جبل يقال له الأبرش: والروم تسمه جبل باردة قال المفرط فلما علونا عليه وجدنا مرجا واسعا كثير الجنبات كثير النبات وفيه خضرة عظيمة وأن القوم قد اصابهم المطر حتى بل رحالهم وقد حميت عليهم الشمس فخافوا اتلافها فاخرجوها واخرجوا الديباج ونشروها في طول المرج وقد نام أكثرهم من شدة السير والتعب والمطر الذي اصابهم قال المفرط بن جعدة فلما رأيت ذلك فرحت فرحا شديدا ورجعت إلى خالد بن الوليد وتركت صاحبي يونس فلما رآني خالد وحدي اسرع الي وظن أن صاحبي كيد فقال: ما وراءك يا ابن جعدة اخبرني وعجل بالخير فقلت: الخبر والغنيمة يا أمير القوم خلف هذا الجبل وقد اصابهم المطر وقد وجدوا الراحة بطلوع لشمس وقد نشروا امتعتهم فقال بشرك الله بالخير ثم ظهر لي من وجهه الخير والفرح والسرور فبينما نحن كذلك وإذا بيونس قد اقبل فقال له خالد: خيرا فقال له: ابشر أيها الأمير فإن القوم امنوا على أنفسهم ولكن اوصى أصحابك أن كل من وقع بزوجتي فليحفظها فما أريد من الغنيمة سواها فقال له خالد: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 هي لك إن شاء الله تعالى ثم أن خالدا قسم أصحابه أربع فرق فأمر ضرار بن الأزور على ألف فارس وعلى الألف الثاني رافع بن عميرة الطائي وعلى الألف الثالث عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وبقي هو في الفرقة الرابعة وقال سيروا على بركة الله تعالى وإياكم أن تخرجوا إليهم دفعة واحدة بل يخرج كل أمير منكم بينه وبين صاحبه قدر ساعة ثم افترق القوم وحمل ضرار بن الأزور والروم مطمئنون وحمل من بعده رافع بن عميرة الطائي ثم عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق ثم خالد بن الوليد سار في اخر القوم حتى وصلوا المرج قال عبيد ابن سعيد لقد كدنا أن نفتنه من حسن منظره فزعق فينا خالد بن الوليد وقال عليكم باعداء الله ولا تشتغلوا بالغنائم ولا بالنظر إلى المرج فإنها لكم أن شاء الله تعالى. ثم عطف خالد بن الوليد رضي الله عنه على الروم وقد نظرت الروم إلى الخيل وقد خرجت عليهم وخالد امامهم فعلموا إنها خيول المسلمين فبادروا إلى السلاح وركبوا الخيل وقال بعضهم لبعض إنها خيل قليلة ساقها المسيح إليكم وجعلها غنيمة لكم فبادروا إليها قال فتبادر الروم وهم يظنون أن ليس وراء خالدأحد وإذا بضرار بن الأزور قد خرج عليهم في ألف فارس وطلع رافع بن عميرة الطائي بعده وطلع عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق بعدهم وطلبت كل كتيبة فرقة من الروم وتفرقوا من حولهم وطلبوا ما في ايديهم وقد رفعوا اصواتهم يقولون لا إله إلا الله محمد رسول الله وانصبت خيل المسلمين على الروم كأنها السيل المنحدر ونادى هربيس برجاله قاتلوا عن نعمكم فما لهؤلاء القوم حيلة ولا يخلصون من هذا المكان ابدا فانقسمت الروم طائفة معه وطائفة مع توما فكان من طلب خالدا توما وقد أحدق به خمسمائة فارس وقد رفع بين عينيه صليبا من الجوهر مقمعا بالذهب الأحمر فعدل خالد وحمل عليه وقال: يا عدو الله اظننتم إنكم تفلتون منا والله تعالى يطوي لنا البلاد وكان توما أعور عورته امرأة ابان قال فحمل عليه وطعنه في عينه الأخرى ففقأها وارداه عن جواده وحمل أصحابه على رجال توما ولله در عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه فإنه لما نظر إلى توما وقد سقط عن جواده نزل وجلس على صدره واحتز رأسه ورفعها على السنان ونادى قد قتل والله توما اللعين فاطلبوا هربيس. قال الواقدي: ففرح العرب بذلك قال رافع بن عميرة الطائي كنت في الميمنة مع خالد بن الوليد إذ نظر الي فارس زيه زي الروم وقد نزل عن جواده وهو يقاتل علجة مع نساء الروم وهي تظهر عليه مرة فدنوت انظرها فإذا هو يونس الدليل وهو يقاتل زوجته ويصارعها صراع الاسد قال رافع فدنوت أن أتقدم إليهما فاعينه فقصد الي عشرة من النساء يرمين قومي بالحجارة فخرج حجر كبير من امرأة حسناء عليها ثياب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 الديباج قال فوقع الحجر في جبهة جوادي فانكب على رأسه وكان جوادا شهدت عليه اليمامة فسقط الجواد ميتا قال فأسرعت في طلبها فهربت من بين يدي كأنها ظبية القناص وهربت النساء من وراءها فلحقتهن وقصدت قتلهن وزعقت عليهن وكنت أريد قتلهن ومالي قصد إلا الجارية التي قتلت حصاني فدنوت منها وعلوت بالسيف على رأسها فجعلت تقول الغوث الغوث فرجعت عن قتلها وأقبلت إليها وإذا عليها ثياب الديباج وعلى رأسها شبكة من اللؤلؤ فاخذتها اسيرة من النساء وأوثقتها كتافا ورجعت على أثري فركبت جوادا من خيل الروم ثم قلت: والله لامضين وانظر ما كان من أمر يونس فوجدته وهو جالس وزوجته بجانبه وقد تلطخت بدمائها وهو يبكي عليها فلما رأيتها قلت لها: اسلمي فقال: لا وحق المسيح لا اجتمعت أنا وانتم ابدا ثم اخرجت سكينا كانت معها فقتلت بها نفسها فقلت: إن الله عز وجل ابدلك ما هي اعظم منها وعليها ثياب الديباج وشبكة من اللؤلؤ وهي كأنها القمر فخذها لك بدلا عن زوجتك فقال: أين هي فقلت: ها هي معي. قال فلما نظر إليها والى ما عليها من الحلى والزينة وتبين حسنها وجمالها راطنها بالرومية وسألها عن امرها فرطنت عليه وهي تبكي فالتفت الي وقال لي أتدري من هذه قلت: لا فقال هذه ابنة الملك هرقل زوجة توما وما مثلى يصلح لها ولا بد لهرقل من طلبها ويفديها بماله قال وافتقد المسلمون خالدا فلم يجدوا له أثرا فقلقوا عليه قلقا عظيما وخالد رضي الله عنه غائص في المعركة وقصد اللعين هربيس بعد قتل توما فبينما هو يحمل يمينا وشمالا إذ نظر علجا من علوج الرومان عظيم الخلقةأحمر اللون فظن خالد إنه اللعين فأطلق جواده نحوه وطلبه طلبا شديدا ليقتله فلما نظر إليه العلج والى حملته فر هاربا من بين يديه فوكزه خالد بالرمح وإذا هو واقع على الأرض على أم رأسه فانقض عليه خالد كالاسد وهو يقول: ويلك يا هربيس أطننت إنك تفوتني وذلك العلج يعرف العربية فقال: يا عربي ما أنا هربيس أطننت إنك فابق علي ولا تقتلني فقال خالد: مالك من يدي خلاص إلا إذا كنت تدلني على هربيس فإذا دللتني عليه اطلقتك فقال له العلج: إنذا دللتك عليه تطلقني فقال خالد: نعم لك ذلك فقال العلج يا أخا العرب قم من علي صدري حتى ادلك عليه فقام خالد من على صدره فوثب العلج ونظر يمينا وشمالا قال ثم قال لخالد أترى هذا الجبل وهذه الخيل الصاعدة اقصدها فإن هربيس فيها قال فوكل خالد بالعلج واحدا وهو ابن جابر ثم اطلق خالد عنان جواده حتى لحق بهم وصرخ عليهم وقال: يا ويلكم إني لكم مني خلاص فلما سمع هربيس ذلك ظنه من بعض العرب فزعق فيه ورجع ورجعت البطارقة بالسلاح فقال لهم خالد: يا ويلكم ظننتم أن الله لا يمكننا منكم أنا الفارس الصنديد أنا خالد بن الوليد ثم طعن فارسا فرماه واخر فأرداه فما سمع هربيس كلام خالد قال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 لأصحابه: يا ويلكم هذا الذي قلب الشام على أصحابه هذا صاحب بصرى وحوران ودمشق وأجنادين دونكم وإياه قال فطمع القوم فيه لانفراده عن أصحابه وكان المسلمون في قتال الروم ونهب الأموال وكل منهم مشتغل بنفسه قال فترجلت البطارقة حول خالد لانهم في جبل كثير الوعر واحاطوا بخالد بن الوليد فعندها ترجل عن جواده واخذ سيفه وجحفته وصبر لقتالهم قال حدثني شداد بن أوس وكان ممن حضر وقعة مرج الديباج وقال خالد: قد صحت الرؤيا فلما ترجل اقبل يقاتل بنفسه واقبل إليه هربيس وهو مشتغل بالقتال وأتاه من ورائه وضرب خالدا بالسيف فوقع السيف على البيضة فقدها وقد عمامته وانقض السيف من يد هربيس وخاف خالد أن يلتفت إلى ورائه فتهجم عليه الروم وخاف أن يفلت هربيس من بين يديه فعند ذلك صاح بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير كأنه مستبشر بشيء اغاثه أو ادركه وذلك خديعة منه وحيلة يريد بها أن يتمكن من الأعلاج فبينما هو كذلك إذ سمع من المسلمين زعقات وقد أخذت الروم من ورائهم وهم يصيحون بالتهليل والتكبير وقائل يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله أتاك النصر من رب العالمين أنا عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق فلما سمع خالد صوته لم يلتفت إلى عبد الرحمن ولا إلى من معه ومضى يفرق الأعلاج ذات اليمين وذات الشمال وما أن سمع اللعين هربيس اصوات المسلمين أراد الهرب فلحقه سيدنا خالد وضربه ضربة فأرداه قتيلا وعجل الله بروحه إلى النار واستطال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحاب هربيس ونزلوا فيهم بالسيف حتى ابادوهم عن اخرهم وكان أكثرهم قتلا من يد ضرار بن الأزور فلما إنكشف الكرب عن خالد ونظر إلى ما فعل ضرار قال افلح وجهك يا ابن الأزور فما زلت مباركا في كل افعالك انجح الله اعمالك واصلح ربي حالك ثم سلم على عبد الرحمن بن ابي بكر الصديق رضي الله عنه وعلى المسلمين وقال من اين علمتم مكاني هذا فقال عبد الرحمن يا امين بينما نحن في قتال الروم وقد نصرنا الله عليهم والمسلمون قد اشتغلوا بالغنائم إذا سمعنا هاتفا من الهواء يقول: اشتغلتم بالغنائم وخالد قدأحاطت به الروم فلما سمعنا ذلك لم ندر أي مكان أنت فيه وفقدنا شخصك فدلنا عليك علج كان بيد رجل من أصحابك وقال: إن صاحبكم أنا الذي دللته على هربيس وانه معه في هذا الجبل فسرنا إليك. فقال خالد: لقد دلنا على عدونا ودل علينا المسلمين وقد وجب له الحق علينا ورجع خالد وأصحابه إلى المسلمين فلما رأوه بادروا وسلموا عليه فرد عليهم السلام ثم أن خالدا رضي الله عنه دعا بذلك العلج الذي دله على هربيس وقال له: إنك وفيت لنا ونريد أن نوفي لك بما وعدناك لانك نصحت لنا فهل لك أن تكون من أصحاب دين الصلاة والصيام وملة محمد عليه الصلاة والسلام فتكون من أهل الجنة فقال: ما أريد بديني بدلا فأطلق خالد سبيله قال نوفل بن عمرو فرأيته قد استوى على ظهر جواده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 يطلب بلاد الروم وحده ثم أن خالد رضي الله عنه أمر بجمع الغنائم والاسارى فجمع ذلك إليه فلما رأى كثرته حمد الله تعالى وشكره واثنى عليه ودعا بدليله يونس النجيب ثم قال له: ما فعلت بزوجتك فحدثه معها وما كان من امرها فعجب من ذلك فقال رافع بن عميرة أيها الأمير إني أسرت ابنة الملك هرقل وقد سلمتها إليه بدلامن زوجته فقال خالد: وأين ابنة الملك هرقل فمثلت بين يديه فنظر إلى حسنها وجمالها وما منحها الله به من الجمال فصرف وجهه عنها وقال سبحانك اللهم وبحمدك تخلق ما تشاء وتختار ثم قرأ قوله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص: 68] ثم قال ليونس أتريدها بدلا من زوجتك قال: نعم ولكني اعلم أن الملك هرقل لا بدله أن يفديها بالأموال او يخلصها بالقتال فقال خالد: خذها لك الآن فإن لم يطلبها فهي لك وأن طلبها فالله يعوضك خيرا منها فقال يونس أيها الأمير إنك في مكان ضيق ومكان صعب فاعزم على الخروج قبل أن يلحق نفير القوم فقال خالد: الله لنا ومعنا وعطف راجعا يجد في مسيره والغنائم امامه والمسلمون في أثره فرحين بالغنيمة والسلامة والنصر. قال روح بن عطية فقطعنا الطريق كلها وما عرض لنا من الرومأحد ونحن نخوض في وسط ديار القوم خوضا فلما وصلنا مرج الصغير عند قنطرة أم حكيم نظرنا إلى غبرة من وراءنا فلما عايناها إنكرنا ذلك فاسرع رجال من المسلمين إلى خالد يخبرونه بالغبرة قال: أيكم يأتيني بخبرها فبادر بالأجابة رجل من غفار يقال له صعصعة بن يزيد الغفاري: قال: أنا أيها الأمير ثم نزل عن جواده وكان بجريه يسبق الفرس الجواد لقوة عزمه فورد الغبرة واختبرها ورجع على عقبه وهو ينادي أيها الأمير ادركنا الصلبان من ورائنا وهم مصفدون في الحديد لم يبن منهم غير حماليق الحدق فدعا خالد بيونس الدليل عندما قاربته الخيل وقال: يا يونس اقصد نحو الخيل وانظر ما يريدون فقال السمع والطاعة ثم دنا من الخيل وقاربهم ثم رجع إلى خالد وقال له: ألم أقل لك أيها الأمير أن هرقل لا يغفل عن طلب ابنته وقد انفذ هذه الخيل يريدون أن يأخذوا الغنيمة من أيدي المسلمين فلما لحقوك ههنا قريبا من دمشق بعثوا رسولا يسألك في الجارية أما بيعها واما هدية فبينما خالد يتحدث إذ أقبل إليه شيخ عليه لبس المسوح فأقبل حتى دنا من المسلمين فاوقفوه أمام خالد وقال له: قل: ما نشاء فقال الشيخ أنا رسول الملك هرقل وانه يقول: لك بلغني ما فعلت برجالي وقتلت توما زوج ابنتي وهتكت حرمتي وقد ظفرت وسلمت فلا تفرط بمن معك والان ما أن تبيع ابنتي أو تهديها الي فالكرم شيمتكم وطبعكم ولا يرحم من يرحم وإني ارجو أن يقع بيننا الصلح فلما سمع خالد ذلك قال للشيخ قل لصاحبك: والله لا رجعت عنه وعن أهل ملته حتى أملك سريره وما تحت قدميه كما في علمك واما ابقاؤك علينا فلو وجدت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 إلى ذلك من سبيل فما قصرت وأما ابنتك فهي لك هدية منا ثم أن خالدا اطلق ابنة الملك هرقل وسلمها للشيخ ولم يأخذ في فدائها شيئا فلما بلغ ذلك الرسول إلى الملك هرقل وسلمها للشيخ ولم يأخذ في فدائها شيئا فلما بلغ ذلك الرسول إلى الملك هرقل قال لعظماء الروم هذا الذي اشرت عليكم فلم تقبلوه واردتم قتلي وسيكون الأمر اعظم ولكن ليس هذا منكم بل هو من رب السماء. قال الواقدي: فبكت الروم بكاء شديدا وسار خالد حتى أتى دمشق وكان المسلمون وابو عبيدة قد أيسوا من خالد ومن معه فهم في أعظم القلق والاياس إذ قدم عليهم خالد رضي الله عنه والمسلمون فخرجوا إلى لقائه وهنئوه بالسلامة وسلم المسلمون بعضهم على بعض ووجد خالد في دمشق عمرو بن معد يكرب الزبيدي ومالك بن الاشتر النخعي ومن كان معهما واقبل خالد إلى جانب ابي عبيدة وهو يحدثه بما لاقى في غزوته وابو عبيدة بتعجب من شجاعته وجسارته فلما استقر بخالد مكانه أخذ الخمس من الغنائم وفرق الباقي على المسلمين ثم أن خالدا اعطى من ماله ليونس وقال خذ هذا فتزوج به او اشتر به جارية لك من بنات الروم قال يونس والله لا أتزوج في هذا الدار الدنيا زوجة ابدا وما أريد إلا أن أتزوج في الأخرة بعيناء من الحور لعين قال رافع بن عميرة الطائي فشهد معنا القتال إلى يوم اليرموك فما كنت أراه في حرب إلا ويجاهد جهادا عظيما وقد أبلى في الروم بلاء حسنا فأتاه سهم في لبته فخر ميتا رحمه الله تعالى قال رافع فحزنت عليه واكثرت من الترحم عليه فرأيته في النوم وعليه حلل تلمع وفي رجليه نعلان من ذهب وهو يجول في روضة خضراء فقلت له: ما فعل الله بك قال غفر لي واعطاني بدلا من زوجتي سبعين حوراء لو بدت واحدة منهن فى الدنيا لكف ضوء وجهها نور الشمس والقمر فجزاكم الله خيرا فقصصت الرؤيا على خالد فقال ليس والله سوى الشهادة طوبى لمن رزقها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 كتب خالد بالفتح قال الواقدي: ولقد بلغني أن خالدا رضي الله عنه لما رجع من غزوته ومسيره غانما ظن أن الخليفة أبا بكر الصديق رضي الله عنه حي لم يقبض فهم أن يكتب له كتابا بالفتح والبشارة وما غنم من الروم وابو عبيدة لا يخبره بذلك ولا يعلمه أن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه فدعا خالد بدواة وبياض وكتب بسم الله الرحمن الرحيم لعبد الله خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم من عامله على الشام خالد بن الوليد اما بعد سلام عليك فاني أحمد الله الذي لا إله إلا هو واصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ثم أنا لم نزل في مكايدة العدو على حرب دمشق حتى انزل الله علينا نصره وقهر عدوه وفتحت دمشق عنوة بالسيف من باب شرقي وكان أبو عبيدة على باب الجابية فخدعته الروم فصالحوه على الباب الأخر ومنعني أن اسبي واقتل ولقيناه على كنيسة يقال لها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 كنيسة مريم وامامه القسس والرهبان ومعهم كتاب الصلح وأن صهر الملك توما واخر يقال له هربيس: خرجا من المدينة بمال عظيم واحمال جسيمة فسرت خلفها في عساكر الزحف وانتزعت الغنيمة من ايديهما وقتلت الملعونين واسرت ابنة الملك هرقل ثم اهديتها إليه ورجعت سالما وأنا منتظر امرك والسلام عليك وصلى الله على سيدنا محمد وعلى إله وصحبه وسلم وطوى الكتاب وختمه بخاتمه ودعا برجل من العرب يقال له عبد الله بن قرط: فدفع إليه الكتاب وسار إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم فوردها والخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقرأ عنوان الكتاب وإذا هو من خالد إلى خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر: أما عرف المسلمون وفاة ابي بكر رضي الله عنه فقال: لا يا أمير المؤمنين فقال قد وجهت بذلك كتابا إلى ابي عبيدة وأمرته على المسلمين وعزلت خالدا وما اظن أبا عبيدة يريد الخلافة لنفسه فسكت وقرأ الكتاب قال أصحاب السير في حديثهم ممن تقدم ذكرهم واسنادهم في أول الكتاب ممن روى فتوح الشام ونقلوها عن الثقاب منهم محمد بن اسحق وسيف بن عمرو وابو عبد الله بن عمر الواقدي رضي الله عنه كل حدث بما رواه وسمعه ثقة عن ثقة قالوا: جميعا في اخبارهم إنه لما قبض أبو بكر الصديق رضي الله عنه وولى الأمر بعده عمر بن الخطاب رضي الله عنه وله من العمر اثنتان وخمسون سنة بايعه الناس في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة تامة ولم يتخلف عن مبايعته أحد لا صغير ولا كبير وانقطع في امارته الشقاق والنفاق وانحسم الباطل وقام الحق وقوي السلطان في امارته وضعف كيد الشيطان وظهر أمر الله وهم كارهون ومن أمره إنه كان يجلس مع الفقير ويتلطف بالناس والمسلمين ويرحم الصغير ويوقر الكبير ويعطف على اليتيم وينصف المظلوم من الظالم حتى يرد الحق إلى اهله ولا تأخذه في الله لومة لائم وكان في امارته يدور في اسواق المدينة وعليه مرقعة وبيده درته وكانت درته أهيب من سيف الملوك وسيوفكم هذه وكان قوته في كل يوم خبز الشعير وادمه الملح الجريش وربما اكل خبزه بغير ملح تزهدا واحتباطا وترفقا على المسلمين ورأفة ورحمة لا يريد ذلك إلا الثواب من الله سبحانه وتعالى ولا يشغله شاغل عن اداء الفريضة وما اوجب الله عليه من حقوقه وسنة نبيه محمد عليه الصلاة والسلام قالت عائشة رضي الله عنها: ولقد تولى والله عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخلافة فجد في التشمر وترك عن نفسه التكبر ولقد كان أحرقه خبز الشعير والملح واراد أكل الزيت واليابس من التمر وربما أخذ شيئا من السمن ويقول: أكلت الزيت وخبز الشعير والملح والجون اهون غدا من نار جهنم من حل بها لم يمت ولم يجد فيها راحة ابدا قرارها بعيد وعذابها شديد وشرابها الصديد لا يؤذن لهم فيعتذرون جند الجنود في امارته وبعث العساكر وفتح الفتوحات ومصر الأمصار وكان يخاف عذاب النار رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 قال الواقدي رحمه الله تعالى: ولقد بلغني أن هرقل لما بلغه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد ولى الأمر من بعد ابي بكر الصديق رضي الله عنه جمع الملوك والبطارقة وارباب دولته وقام فيهم خطيبا على منبر قد نصب له في كنيسة القسيسين وقال: يا بني الأصفر هذا الذي كنت أحذركم منه فلم تسمعوا مني وقد اشتد الأمر عليكم بولاية هذا الرجل الاسمر وقد دنا موعد صاحب الفتوح المشبه بنوح والله ثم والله لا بد أن يملك ما تحت سريري هذا الحذر ثم الحذر قبل وقوع الأمر ونزول الضرر وهدم القصور وقتل القسس وتبطيل الناقوس هذا صاحب الحرب والجالب على الروم والفرس الكرب هذا الزاهد في دنياه وهذا الغليظ على من أتبع في غير ملته هواه وإني ارجو لكم النصر أن امرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر وتركتم الظلم واتبعتم المسيح في اداء المفروضات ولزوم الطاعات وترك الزنا وانواع الخطايا وأن ابيتم إلا الفساد والفسوق والعصيان والركون إلى شهوات الدنيا يسلط الله عليكم عدوكم ويبلوكم بما لا طاقة لكم به ولقد أعلم أن دين هؤلاء سيظهر على كل دين ولا يزال اهله بخير ما لم يغيروا ويبدلوا فاما أن ترجعوا إليه واما أن تصالحوا القوم على اداء الجزية فلما سمع القوم ذلك نفروا وبادروا إليه وهموا بقتله فسكن غضبهم بلين كلامه ولاطفهم وقال لهم: إنما أردت أن أرى حميتكم لدينكم وهل تمكن خوف العرب في قلوبكم أم لا. ثم استدعى برجل من المتنصرة يقال له طليعة بن ماران وضمن له مالا وقال له: انطلق من وقتك هذا إلى يثرب وانظر كيف تقتل عمر بن الخطاب فقال له طليعة: نعم أيها الملك ثم تجهز وسار حتى ورد مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكمن حولها وإذا بعمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج يشرف على أموال اليتامى ويفتقد حدائقهم فصعد المتنصر إلى شجرة ملتفة الأغصان فاستتر بأوراقها وإذا بعمر رضي الله عنه قد اقبل إلى أن قرب من الشجرة التي عليها المتنصر ونام على ظهره وتوسد بحجر فلما نام هم المتنصر أن ينزل إليه ليقتله وإذا بسبع أقبل من البرية فطاف حوله وأقبل يلحس قدميه وإذا بهاتف يقول: يا عمر عدلت فأمنت فلما استيقظ عمر رضي الله عنه ذهب السبع ونزل المتنصر وترامى على عمر رضي الله عنه فقبل يديه وقال بأبي أنت وأمي أفدى من الكائنات من السباع تحرسه والملائكة تصفه والجن تعرفه ثم أعلمه بما كان منه وأسلم على يديه. قال الواقدي: ثم أن عمر رضي الله عنه كتب كتابا لابي عبيدة بن الجراح يقول فيه: قد وليتك على الشام وجعلتك أميرا على المسلمين وعزلت خالد بن الوليد والسلام ثم سلم الكتاب إلى عبد الله بن قرط وأقام قلقا على ما يرد عليه من أمور المسلمين وصرف همته إلى الشام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 تولية ابي عبيدة قال الواقدي: حدثني رافع بن عميرة الطائي قال حدثني يونس بن عبد الأعلى وقد قرأت عليه بجامع الكوفة قال حدثني عبد الله بن سالم الثقفي عن أشياخه الثقات قال لما كانت الليلة التي مات فيها أبو بكر الصديق رضي الله عنه رأى عبد الرحمن بن عوف الزهري رضي الله عنه رؤيا قصها على عمر رضي الله عنه وكانت تلك الليلة بعينها قال رأيت دمشق والمسلمون حولها وكأني أسمع تكبيرهم في أذني وعند تكبيرهم وزحفهم رأيت حصنا قد ساخ في الأرض حنى لم أر منه شيئا ورأيت خالدا وقد دخلها بالسيف وكأن نارا أمامه وكأنه وقع على النار فانطفأت فقال الإمام علي كرم الله وجهه ورضي الله تعالى عنهم اجمعين أبشر فقد فتح الشام هذه الليلة أو قال يومك هذا أن شاء الله تعالى فبعد أيام قدم عقبة ابن عامر الجهني صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه كتاب الفتح فلما رآه قال: يا ابن عامر كم عهدك قال قلت يوم الجمعة: قال: ما معك من الخبر فقلت: خير وبشارة وإني سأذكرها بين يدي الصديق رضي الله عنه فقال قبض والله حميدا وصار إلى رب كريم وقلدها عمر الضعيف في جسمه فإن عدل فيها نجا وأن ترك أو خلط هلك قال عقبة بن عامر: فبكيت وترحمت على أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأخرجت الكتاب فدفعته إليه فلما قرأه نظر فيه وكتم الأمر إلى وقت صلاة الجمعة فلما خطب وصلى ورقى المنبر واجتمع المسلمون إليه وقرأ عليهم كتاب الفتح فضج المسلمون بالتهليل والتكبير وفرحوا ثم نزل عن المنبر وكتب إلى أبي عبيدة رضي الله عليه بتوليته وعزل خالد ثم سلمني الكتاب وأمرني بالرجوع قال فرجعت إلى دمشق فوجدت خالدا قد سار خلف توما وهربيس فدفعت الكتاب إلى ابي عبيدة فقرأه سرا ولم يخبر أحدا بموت ابي بكر الصديق رضي الله عنه ثم كتم أمره وكتم عزل خالد وتوليته على المسلمين حتى ورد خالد من السرية فكتب الكتاب بفتح دمشق ونصرهم على عدوهم وبما ملكوا من مرج الديباج واطلاق بنت الملك هرقل وسلم الكتاب إلى عبد الله بن قرط فلما ورد به إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقرأ عنوان الكتاب من خالد بن الوليد إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه إنكر الأمر ورجعت حمرته إلى البياض وقال: يا بن قرط أما علم الناس بموت أبي بكر رضي الله عنه وتوليتي أبا عبيدة بن الجراح قال عبد الله بن قرط قلت: لا فغضب وجمع الناس إليه وقام على المنبر ثم قال: يا معاشر الناس إني أمرت أبا عبيدة الرجل الأمين وقد رأيته لذلك أهلا وقد عزلت خالدا عن امارته فقال رجل من بني مخزوم أتعزل رجلا قد أشهر الله بيده سيفا قاطعا ونصربه دينه وأن الله لا يعذرك في ذلك ولا المسلمين أن أنت أغمدت سيفا وعزلت أميرا أمره الله لقد قطعت الرحم ثم سكت الرجل فنظر عمر رضي الله عنه إلى الرجل المخزومي فرآه غلاما حدث السن فقال شاب حدث السن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 غضب لابن عمه ثم نزل على المنبر وأخذ الكتاب وجعله تحت رأسه وجعل يؤامر نفسه في عزل خالد فلما كان من الغد صلى صلاة الفجر وقام فرقى المنبر خطيبا فحمد الله وأثنى عليه وذكر الرسول صلى الله عليه وسلم فصلى عليه وترحم على أبي بكر الصديق رضي الله عنه ثم قال: أيها الناس إني حملت امانة عظيمة وإني راع وكل راع مسؤول عن رعيته وقد جئت لاصلاحكم والنظر في معايشكم وما يقربكم إلى ربكم أنتم ومن حضر في هذا البلد فاني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من صبر على أذاها وشرها كنت له شفيعا يوم القيامة" وبلادكم بلاد لا زرع فيها ولا ضرع ولا ماء أوقر به الإبل لآمن مسيرة شهر وقد وعدنا الله مغانم كثيرة وإني أريدها للخاصة والعامة لأؤدي الأمانة والتوقير للمسلمين وما كرهت ولاية خالد على المسلمين إلا لأن خالدا فيه تبذير المال يعطي الشاعر إذا مدحه ويعطي للمجد والفارس بين يديه فوق ما يستحقه من حقه ولا يبقى لفقراء المسلمين ولا لضعافهم شيئا وإني أريد عزله وولاية أبي عبيدة مكانه والله يعلم إني ما وليته إلا أمينا فلا يقول: قائلكم عزل الرجل الشديد وولى الأمين اللين للمسلمين فإن الله معه يسدده ويعينه ثم نزل عن المنبر وأخذ جلد أدم منشور وكتب إلى أبي عبيدة كتابا فيه. بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى أبي عبيدة عامر بن الجراح سلام عليك فاني أحمد الله الذي لا إله إلا هو وأصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وبعد فقد وليتك أمور المسلمين فلا تستحي فإن الله لا يستحي من الحق وإني أوصيك بتقوى الله الذي يبقي ويفني ما سواه والذي استخرجك من الكفر إلى الإيمان ومن الضلال إلى الهدى وقد استعملتك على جند ما هنالك مع خالد فاقبض جنده واعزله عن امارته ولا تنفذ المسلمين إلى هلكة رجاء غنيمة ولا تنفذ سرية إلى جمع كثير ولا تقل إني أرجو لكم النصر فإن النصر انما يكون مع اليقين والثقة بالله وإياك والتغرير بالقاء المسلمين إلى الهلكة وغض عن الدنيا عينيك واله عنها قلبك وإياك أن تهلك كما هلك من كان قبلك فقد رأيت مصارعهم وخبرت سرائرهم وإنما بينك وبين الآخرة ستر الخمار وقد تقدم فيها سلفك وأنت كأنك منتظر سفرا ورحيلا من دار قد مضت نضرتها وهبت زهرتها فأحزم الناس فيها الراحل منها إلى غيرها ويكون زاده التقوى وراع المسلمين ما استطعت وما الحنطة والشعير الذي وجدت بدمشق وكثرت في ذلك مشاجرتكم فهو للمسلمين وأما الذهب والفضة ففيهما الخمس والسهام وأما اختصامك أنت وخالد في الصلح او القتال فأنت الولي وصاحب الأمر وأن صلحك جرى على الحقيقة إنها للروم فسلم إليهم ذلك والسلام ورحمة الله وبركاته عليك وعلى جميع المسلمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 وأما هديتك ابنة الملك هرقل فهديتها إلى ابيها بعد أسرها تفريط وقد كان يأخذ في فديتها مالا كثيرا يرجع به على الضعفاء من المسلمين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وطوى الكتاب وختمه بخاتمة ثم دعا بعامر بن أبي وقاص أخي سعد ودفع الكتاب إليه وقال له: انطلق إلى دمشق وسلم كتابي هذا إلى ابي عبيدة وامره أن يجمع الناس إليه واقرأه أنت على الناس يا عامر واخبره بموت ابي بكر الصديق رضي الله عنه ثم دعا عمر رضي الله عنه شداد بن أوس فصافحه وقال له: أمض أنت وعامر إلى الشام فإذا قرأ أبو عبيدة الكتاب فأمر الناس يبايعونك لتكون بيعتك بيعتي. قال الواقدي: فانطلقا يجدان في السير إلى أن وصلا إلى دمشق والناس مقيمون بها ينتظرون ما يأتيهم من خبر أبي بكر الصديق رضي الله عنه وما يأمرهم به فأشرف صاحبا عمر رضي الله عنه على المسلمين وقد طالت اعناقهم إليهما وفرحوا بقدومهما فاقبلا حتى نزلا في خيمة خالد رضي الله عنه وقال له عامر بن أبي وقاص: تركته يعني عمر بخير ومعي كتاب وانه أمرني أن اقرأه على الناس بالاجتماع فاستنكر خالد ذلك واستراب الأمر وجمع المسلمين إليه فقام عامر أبي وقاص فقرأ الكتاب فلما انتهى إلى وفاة أبي بكر الصديق رضي الله عنه ارتفع للناس ضجة عظيمة بالبكاء والنحيب وبكى خالد رضي الله عنه وقال أن كان أبو بكر قد قبض وقد استخلف عمر فالسمع والطاعة لعمر وما أمر به وقرأ عامر الكتاب إلى آخره فلما سمع الناس بما فيه من أمر المبايعة لشداد بن أوس بايعوه وكانت المبايعة بدمشق لثلاث خلت من شهر شعبان سنة ثلاث عشر من الهجرة. قال الواقدي رحمه الله تعالى: قد بلغني إنه كان على العدو بعد عزله اشد فظاعة وأصعب جهادا لا سيما في حصن أبي القدس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 ذكر حديث وقعة أبي القدس قال الواقدي رحمه الله تعالى: سألت من حدث بهذا الحديث عن حصن أبي القدس قال: ما بين عرقا وطرابلس مرج يقال له: مرج السلسلة وكان بازائه دير وفيه صوامع وفيه صومعة راهب عالم بدين النصرانية وقد قرأ الكتب السالفة وأخبار الأمم الماضية المتقدمة وكانت تقصده الروم وتقتبس من علمه وله من العمر ما ينوف عن مائة سنة وكان في كل سنة يقوم عند ديره عيد آخر صيام الروم وهو عيد الشعانين فتجتمع الروم والنصارى وغيرهم من جميع النواحي والسواحل ومن قبط مصر ويحدقون به فيطلع عليهم من ذروة له فيعلمهم ويوصيهم بوصايا الإنجيل وكان يقوم في ذلك العيد سوق عظيم من السنة إلى السنة وكان يحمل له الأمتعة والذهب والفضة ويبيعون ويشترون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 ثلاثة ايام وما كان المسلمون يعلمون بذلك ولا يعرفونه حتى دلهم عليه رجل نصراني من المعاهدين وقد اصطفاه وأمنه وأهله فلما ولى أبو عبيدة أمر المسلمين أراد ذلك المعاهد أن يتقرب إلى أبي عبيدة رضي الله عنه فعسى أن يكون فتح الدير والسوق على يديه فأقبل إليه وأبو عبيدة قد أطال الفكر فيما يصنع واي بلد من بلاد الروم يقصد فمرة يقول: أسير إلى بيت المقدس بالجيش فإنها أشرف بلدهم وكرسي مملكة الروم بها قيام دينهم ووقتا يقول: اسير إلى انطاكية وأقصد هرقل وأفرغ منه وبينما هو يفكر في أمره وقد جمع المسلمين إذ أقبل ذلك المعاهد وكان من نصارى الشام فقال: أيها الأمير إنك قد أحسنت الي وأمنتني ووهبتني أهلي ومالي وولدي وقد اتيتك ببشارة وغنيمة تغنمها المسلمون ساقها الله إليهم فإن اظفرهم الله بها استغنوه غنى لا فقر بعده فقال أبو عبيدة: أخبرنا ما هذه الغنيمة وأين تكون فما علمتك إلا ناصحا فقال: أيها الأمير إنها بازائك على دير الساحل وهو حصن يعرف بأبي القدس وبازائه دير فيه راهب تعظمه النصرانية ويتبركون بدعائه ويقتبسون من علمه وله في كل سنة عيد يجتمعون إليه من كل النواحي والقرى والأمصار والضياع والأديرة ويقوم عنده سوق عظيم يظهرون فيه فاخر ثيابهم من الديباج والذهب والفضة يقيمون عنده ثلاثة ايام او سبعة وقد قرب وقت قيام السوق فتأخذون جميع ما فيه وتقتلون الرجال وتسبون النساء والذرارى وهذه غنيمة يفرح بها المسلمون ويوهن لها عدوكم. قال الواقدي: فلما سمع أبو عبيدة ما قاله المعاهد فرح رجاء أن يكون ما قاله المعاهد غنيمة للمسلمين فقال للمعاهد كم بيننا وبن هذا الدير قال عشرة فراسخ للمجد السائر قال أبو عبيدة: وكم بقي إلى قيام السوق قال: أيام قلائل قال أبو عبيدة: فهل يكون لهم حامية يلي أمرهم ويصد عنهم قال المعاهد لسنا نعرف ما ذكرت في بلاد الملك لانه لا يصيب بعضنا بعضا لهيبة هرقل في قلوبهم فلما سمع أبو عبيدة قال هل بالقرب منه شيء من مدائن الشام قال: نعم بالقرب من السوق مدينة تسمى طرابلس وهي مينا الشام إليها تقدم المراكب من كل مكان وفيها بطريق عظيم كثير التجبر وقد أقطعه الملك إياها من تجبره وهو يحضر السوق وما كنت أعهد أن لهذا السوق حامية من الروم إلا أن يكون الآن لخوفهم منكم ولو سار إلى الدير والسوق أدنى المسلمين لرجوت لهم الفتح أن شاء الله تعالى. فقال أبو عبيدة: أيها الناس أيكم يهب نفسه لله تعالى وينطلق مع جيش ابعثه فتحا للمسلمين فسكت الناس ولم يتكلم أحد فنادى أبو عبيدة ثانية وإنما يريد خالدا بقوله واستحى أن يواجهه في ذلك لاجل عزله فقام من وسط الناس غلام شاب نبت شعر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 عارضيه واخضر شاربه وكان ذلك الشاب عبد الله بن جعفر رضي الله عنه وكانت أمه أسماء بنت عميس الخثعمية وكان ابوه جعفر رضي الله عنه قد مات في غزوة تبوك وخلف ولده عبد الله صغيرا فتزوجها أبو بكر الصديق رضي الله عنه فلما كبر وترعرع كان يقول لأمه: يا أماه ما فعل أبي فتقول يا ولدي قتله الروم وكان يقول: لئن عشت لآخذن بثأره فلما مات أبو بكر وتولى عمر رضي الله عنه جاء عبد الله إلى الشام في بعث بعثه عمر مع عبد الله بن انيس والجهني وكان فيه مشابهة من رسول الله صلى الله عليه وسلم في خلقه وخلقه وهو أحد الأصحاب الاسخياء فلما قال أبو عبيدة رضي الله عنه: أيها الناس من ينطلق إلى هذا الدير وثب عبد الله بن جعفر الطيار رضي الله عنه فقال أنا أول من يسير مع هذا البعث يا أمين الأمة ففرح أبو عبيدة وجعل يندب له رجالا من المسلمين وفرسان الموحدين وقال له: أنت الأمير يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعقد له راية سوداء وسلمها إليه وكان على الخيل خمسمائة فارس منهم رجال من أهل بدر وكان من جملة من سيره مع عبد الله أبو ذر الفغاري وعبد الله بن أبي اوفي وعامر بن ربيعة وعبد الله بن أنيس وعبد الله ابن ثعلبة وعقبة بن عبد الله السلمي ووائلة بن الاسقع وسهل بن سعد وعبد الله بن بشر والسائب بن يزيد ومثل هؤلاء السادات رضي الله عنهم أجمعين. قال الواقدي: ولما أن اجتمعت الخمسمائة فارس تحت راية عبد الله بن جعفر وةما منهم إلا من شهد الوقائع وخاض المعامع لا يولون الأدبار ولا يركنون إلى الفرار عولوا على المسير وقال أبو عبيدة لعبد الله بن جعفر: يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقدم على القوم إلا في أول قيام السوق ثم إنه ودعهم وساروا قال الواقدي: وكان في هذه السرية مع عبد الله بن جعفر وائلة بن الاسقع وكان خروجهم من أرض الشام وهي دمشق إلى دير ابي القدس في ليلة النصف من شعبان وكان القمر زائد النور قال وأنا إلى جانب عبد الله ابن جعفر فقال لي يا ابن الاسقع ما أحسن قمر هذه الليلة وأنوره فقلت: يا ابن عم أردت رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه ليلة النصف من شعبان وهي ليلة مباركة عظيمة وفي هذه تكتب الأرزاق والآجال وتغفر فيها الذنوب والسيئات وكنت أدرت أن أقومها فقلت: إن سيرنا في سبيل الله خير من قيامها والله جزيل العطاء فقال صدقت ثم اننا سرنا ليلتنا فبينما نحن سائرون إذ أشرفنا على صومعة راهب وعليه برنس اسود فجعل يتأملنا وينظر في وجوهنا فتفقدنا واحدا بعد واحد ثم جعل يطيل النظر في وجه عبد الله ثم قال اهذا الفتى ابن نبيكم فقلنا لا قال أن نور النبوة يلوح بين عينيه فهل يلحق به فقلنا هو ابن عمه فقال الراهب هو من الورقة والورقة من الشجرة فقال عبد الله أيها الراهب وهل تعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 فقال وكيف لا أعرفه واسمه وصفته في التوراة والإنجيل والزبور وانه صاحب الجمل الأحمر والسيف المشهر فقال عبد الله فلم لا تؤمن به وتصدقه فرفع يده إلى السماء وقال حتى يشاء صاحب هذه الخضراء فأعجبنا كلامه وسرنا والدليل بين ايدينا إذ أتى بنا إلى واد كثير الشجر والماء أمرنا أن نكمن فيه ثم قال لعبد الله بن جعفر إني ذاهب أجس لكم الخبر فقال له عبد الله: أسرع في مسيرك وعد إلينا بالخبر قال فانطلق مسرعا وأقام عبد الله بن جعفر يحرس المسلمين بنفسه إلى الصباح قال فلما اصبحنا صلينا صلاة الصبح وجلسنا ننتظر رجوع الرسول فلم يأت وأبطأ خبره علينا فقلق المسلمون عليه لاحتباسه وخافوا من المكيدة ووسوس لهم الشيطان وساءت بالدليل الظنون فما من المسلمين إلا من ظن بالمعاهد شرا إلا أبا ذر الغفاري رضي الله عنه فإنه قال ظنوا بصاحبكم خيرا ولا تخافوا منه كيدا ولا مكرا أن له شأنا تعلمونه قال فسكت الناس بعد ذلك وإذا بصاحبهم قد اقبل قال وائلة بن الاسقع فلما رايناه فرحنا به وظننا إنه يأمر بالنهوض إلى العدو فاقبل حتى وقف وسط المسلمين وقال: يا أصحاب محمد وحق المسيح ابن مريم إني لا أكذبكم فيما أحدثكم به وإني رجوت لكم الغنيمة وقد حال بينكم وبينها ماء. فقال له عبد الله رضي الله عنه: وكيف حيل بينا وبينها قال حال بينكم وبينها بحر عجاج وذلك إني اشرفت على السوق وقد قام فيه البيع والشراء فاجتمع فيه أهل دين النصرانية وقد دار أكثرهم بالدير دير أبي القدس واجتمع إليه القسس والرهبان والملوك والبطارقة فلما نظرت إلى ذلك لم ارجع حتى اختبرت ما السبب الذي تجمعت له الخلق زيادة على كل سنة وذلك إني مضيت واختلطت بالقوم وإذا بصاحب طرابلس قد زوج ابنته ملكا من ملوك الروم وقد أتوا بالجارية إلى الدير ليأخذوا لها من راهبهم قربانا وقد دار بها فرسان الروم المنتصرة في عددهم وعديدهم كل ذلك خوفا منكم لانهم يعلمون إنكم بأرض الشام يا معاشر المسلمين وما ارى لكم صوابا أن تصلوا إلى القوم لانهم خلق كثير وجم غفير وجمع غزير فقال عبد الله بن جعفر رضي الله عنه في كم يكون القوم وكم خررتهم فقال: أما السوق ففيه أكثر من عشرين الفا من عوام الروم والأرمن والنصارى والقبط واليهود من مصر والشام وأهل السواد والبطارقة والمنتصرة وأما المستعدون للحرب فخمسة آلاف فارس فما لكم بالقوة طاقة وأن وقع طائح في بلادهم انضاف إليهم امثالهم فإن بلادهم متصلة بهم وأما أنتم فعددكم يسير والعرب منكم بعيد. قال الواقدي: فصعب ذلك على عبد الله بن جعفر وعلى المسلمين وسقط في ايديهم وهموا بالرجوع فقال عبد الله بن جعفر معاشر المسلمين ما الذي تقولون في. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 هذا الأمر فقالوا: نرى أن لا نلقي بأيدينا إلى التهلكة كما أمر ربنا في كتابه العزيز ونرجع إلى الأمير ابي عبيدة رضي الله عنه والله لا يضيع أجرنا قال فلما سمع عبد الله قولهم قال: أما أنا فأخاف أن فعلت ذلك أن يكتبني الله من الفارين وما ارجع او أبدى عذرا عند الله تعالى فمن ساعدني فقد وقع اجره على الله ومن رجع فلاعتب عليه فلما سمعوا ذلك من عبد الله بن جعفر اميرهم وبذل مهجته استحيوا منه وأجابوه بأجمعهم وقالوا: افعل ما تريد فما ينفع حذر من قدر ففرح باجابتهم ثم عمد إلى درعه فأفرغه عليه ووضع على رأسه بيضة وشد وسطه بمنطقة وتقلد بسيف أبيه واستوى على متن جواده وأخذ الراية بيده وامر الناس بأخذ الأهبة فلبسوا دروعهم واشتملوا بسلاحهم وركبوا خيولهم وقالوا: للدليل سر بنا نحو القوم فستعاين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عجبا قال وائلة بن الاسقع رأيت الدليل قد اصفر وجهه وتغير لونه وقالوا: سيروا انتم برأيكم وما علي من امركم وخرج قال أبو ذر الغفاري فرأيت عبد الله بن جعفر يتلطف به حتى سار بين يديه يدله على القوم ساعة ثم وقف وقال أمسكوا عليكم فانكم قد قربتم من القوم فكونوا في مواضعكم كامنين إلى وقت السحر ثم أغيروا على القوم قال وائلة بن الاسقع فبتنا ليلتنا حيث امرنا ونحن نطلب النصر من الله تعالى على الأعداء فلما أصبح النهار صلي بهم عبد الله بن جعفر صلاة الصبح فلما فرغوا من صلاتهم قال: ما ترون في الغارة. فقال عامر بن عميرة بن ربيعة أدلكم على أمر تصنعونه قالوا: قل: قال اتركوا القوم في بيعهم وشرائهم واظهار امتعتهم ثم اكبسوا عليهم على حين غفلة وغرة من امرهم فصوب الناس رأيه وصبروا إلى وقت قيام السوق ثم اظهروا السيوف من أغمادها وأوتروا القسى وشرعوا لاماتهم وعبد الله بن جعفر امامهم الراية بيده فلما طلعت الشمس عمد عبد الله إلى المسلمين فجعلهم خمسة كراديس كل كردوس مائة فارس وجعل على كل مائة نقيبا وقال تاخذ كل مائة منكم قطرا من أقطار سوقهم ولا تشتغلوا بنهب ولا غارة ولكن ضعوا السيوف في المفارق والعواتق وتقدم عبد الله بن جعفر بالراية وطلع على القوم فنظر إلى الروم متفرقين في الأرض كالنمل لكثرتهم وقد أحدق منهم بدير الراهب خلق كثير والراهب قد اخرج رأسه من الدير وهو يعظ الناس ويوصيهم ويعلمهم معالم ملتهم وهم إليه شخوص بابصارهم وابنة البطريق عنده في الدير والبطارقة وابناؤهم عليهم الديباج المثقل بالذهب ومن فوقهم دروع وجواشن تلمع وبيض وهم ينظرون صيحة بين ايديهم او طارقا يطرقهم من خلفهم ونظر عبد الله إلى الدير والى ما أحدق به والى الراهب وما حول صومعته فهاله ذلك من امرهم وصاح فيهم قبل الحملة وقال: يا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم احملوا بارك الله فيكم فإن كانت غنيمة وسرور فالفتح والسلامة ويكون الاجتماع تحت صومعة الراهب وأن كان غير ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 فهو وعدنا الجنة ونلتقي عند حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الصحابة قال وطلب عبد الله الجم العظيم فغاص فيهم وجعل يضرب بسيفه ويطعن برمحه ويحمل المسلمون من ورائه وسمع الروم اصوات المسلمين مرتفعة بالتهليل والتكبير فتيقنوا أن جيوش المسلمين قد ادركتهم وكانوا لذلك منتظرين وعلى يقظة من امرهم فأما السوقة فانهم تبادروا إلى اسلحتهم والمتع عن أنفسهم وأموالهم وأخرجوا السيوف من الأغمدة وانعطفوا على قتال المسلمين عطفة الاسد الضاري وطلبوا صاحب الراية ولم يكن مع المسلمين راية غيرها فأحدقوا بالراية من كل جانب ومكان وقامت الحرب على ساق وثار الغبار وانعقد وأحدق الروم بالمسلمين فما كان المسلمون فيهم إلا كشامة بيضاء في جلد بعير اسود وما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف بعضهم بعضا إلا بالتهليل والتكبير وكل واحد مشتغل بنفسه عن غيره وقال أبو سبرة ابراهيم بن عبد العزيز بن ابي قيس وكان من السابقين والمتقدمين بايمانهم في الإسلام وصاحب الهجرتين جميعا قال شهدت قتال الحبشة مع جعفر بن ابي طالب رضي الله عنه وشهدت المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدر وفي أحد وفي حنين وقلت: إني لا اشهد مثلها فلما قبض الله صلى الله عليه وسلم حزنت عليه ولم استطع أن اقيم بالمدينة بعد فقده فقدمت مكة فأقمت بها فعوتبت في منامي من التخلف عن الجهاد فخرجت إلى الشام وشهدت اجنادين والشام وسرية خالد خلف توما وهربيس وشهدت سرية عبد الله بن جعفر وكنت معه على دير ابي القدس فانستني وقعتها ما شهدت قبلها من الوقائع بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك إني نظرت إلى الروم حين حملنا عليهم في كثرتهم وعددهم وقلنا ما ثم غيرهم وليس لهم كمين عظيم قال فرأينا اجسادهم هائلة وعليهم الدروع وما يبين منهم إلا حماليق الحدق لهم طقطقة وزمجرة عندما يحملون حتى نظرت إلى المسلمين قد غابوا في اوساطهم ولا اسمع منهم إلا الأصوات تارة يجهرون بها وتارة اقول هلكوا. ثم انظر إلى الراية بيد عبد الله بن جعفر رضي الله عنه مرفوعة بذلك وعبد الله يقاتل بالراية ويكر على المشركين ولا يثني ويجاهد على صغر سنة ولم تزل الحرب بيننا كلما طال مكثها اشتد ضرامها وعلا قتامها والتهب نارها وصار عبد الله في وسط القوم وهم حوله كالحلقة الدائرة والروم يحدقون به فجعل كلما حمل يمينا حملت يمينا وأن حمل شمالا حملت شمالا ولم نزل في الحرب والقتال حتى كلت منا السواعد وخدرت منا المناكب قال: وعظم الأمر علينا وهالنا الصبر وتثلم سيف عبد الله في يده وكادت تقع فرسه من تحته فالتجأ بأصحابه في موضع فاجتمع أصحابه إليه فنظر المسملون إلى رايته فقصدوها وما منهم إلا مكلوم من المشركين فضاق لذلك ذرعه وما نزل في نفسه مثل ما نزل بالمسلمين فألجأ إلى الله تعالى أمره وفوض إلى صاحب السماء شأنه ورفع يده إلى السماء وقال في دعائه يا من خلق خلقه وابلى بعضهم ببعض وجعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 ذلك محنة لهم أسألك بجاه محمد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ما جعلت لنا من امرنا فرجا ومخرجا ثم عاد إلى القتال وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتلون معه تحت رايته فلله در ابي ذر الفغاري رضي الله عنه فإنه نصر ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاهد بين يديه قال عمرو بن ساعدة فلقد رايته مع كبر سنه يضرب بسيفه ضربا شديدا في الروم وينتمي إلى قومه ويذكر عند حملاته اسمه ويقول: أنا أبو ذر والمسلمون يفعلون كفعلة إلى أن بلغت القلوب الحناجر وظنوا أن في ذلك الموضع قبورهم. قال الواقدي رحمه الله تعالى: حدثني عبد الله بن انيس الجهني قال كنت أحب جعفرا واجب من اولاده عبد الله فلما قبض أبو بكر رضي الله عنه وكان قائما مقام ابيه نظرت إلى أمه أسماء بنت عميس حزينة فكرهت أن انظر إليها في ذلك الحزن وايضا أن أبا بكر رضي الله عنه في المسير إلى الشام فاستأذن عبد الله بن جعفر عمر بن الخطاب رضي الله عنه في المسير إلى الشام وقال لي يا ابن انيس الجهني اشتهي أن ألحق بالشام ومعنا عشرون فارسا أكون مجاهدا أفتصحبني فقلت: نعم فودع عمه عليا رضي الله عنه وودع عمر رضي الله عنه وسار يريد الشام ومعنا عشرون فارسا حتى أتينا تبوك فقال: يا ابن انيس أتدري موضع قبر ابي فقلت: نعم فقال: أشتهي أن ارى الموضع قال فما أتينا الموضع فأريته موضع مصرع أبيه وموضع الوقعة وقبر ابيه جعفر رحمه الله تعالى وعليه حجارة فلما نظر إليه نزل ونزلنا معه وبكى وترحم فأقمنا عنده إلى صبيحة اليوم الثاني فلما رحلنا رايت عبد الله يبكي ووجهه مثل الزعفران فسألته عن ذلك فقال رأيت ابي البارحة في النوم وعليه حلتان خضراوتان وتاج وله جناحان وبيده سيف مسلول اخضر فسلمه إلى وقال: يا بنى قاتل به اعداءك فما وصلت إلى ما ترى إلا بالجهاد وكأني اقاتل بالسيف حتى تثلم قال عبد الله بن انيس وسرنا حتى أتينا عسكر ابي عبيدة رضي الله عنه بدمشق فبعثه أمير تلك السرية إلى دير ابي القدس قال عبد الله بن انيس فلما رأيت بينه وبين الروم قلت: يوشك أن يذهب عبد الله فسرت كالبرق ورجعت إلى ابي عبيدة رضي الله عنه فلما راني قال أبشارة يا ابن انيس ام لا فقلت: انفذ المسلمين إلى نصرة عبد الله بن جعفر ومن معه ثم حدثته بالقصة فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه أنا لله وأنا إليه راجعون ايصاب عبد الله بن جعفر ومن معه تحت رايتك يا أبا عبيدة وهي أول امارتك. قال الواقدي: ثم التفت خالد بن الوليد رضي الله عنه فقال له: يا أبا سليمان سألتك بالله الحق عبد الله بن جعفر فأنت المعد لها فقال خالد: أنا لها أن شاء إله وما كنت انتظر إلا أن تأمرني فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه استحيت منك يا أبا سليمان فقال والله لو أمر علي طفل صغير لاطيعن له فكيف اخالفك وانت اقدم مني إيمانا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 واسبق اسلاما سبقت باسلامك مع السابقين وسارعت بايمانك مع المسارعين وسماك رسول الله بالأمين فكيف الحقك او انال درجتك والان اشهدك إني قد جعلت نفسي حبيسا في سبيل الله تعالى لا أخالفك ابدا ولا وليت امارة بعدها ابدا. قال قال الواقدي: فاستحسن المسلمون قوله فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه يا أبا سليمان الحق اخوانك رحمك الله قال فوثب خالد رضي الله عنه كأنه الاسد وسار إلى رحلة فأفرغ عليه درع مسيلمة الكذاب الذي سلبه منه يوم اليمامة والقى بيضة على رأسه واردفها قلنسوة وتقلد بحسامه وانصب في سرجه كأنه السيل ونادى بجيش الزحف هلموا إلى جزب السيوف فأجابوه مسرعين كأنهم العقبان وبادروا إلى طاعة الرحمن واخذ خالد الراية بيده وهزها على ركابه ودار به عسكر الزحف من كل جانب وودع المسلمون بعضهم بعضا وساروا وسار خالد وعبد الله بن انيس يدلهم على الطريق قال رافع بن عميرة الطائي كنت يومئذ من أصحاب خالد بن الوليد رضي الله عنه ولم يزل مجدا في السير والله عز وجل يطوي لنا البعيد فلما كان عند غروب الشمس اشرفنا على القوم والروم كالجراد المنتشر قد غرق المسلمون في كثرتهم فقال خالد: يا ابن انيس في جانب أطلب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له: إنه واعد أصحابه أن يلتقوا عند دير الراهب او موعدهم الجنة. قال الواقدي: فنظر خالد نحو الدير فشاهد الراية الإسلامية وهي بن عبد الله بن جعفر وما من المسلمين إلا من اصيب بجرح وقد ايسو من الحياة الفانية وطعموا في الحياة السرمدية والروم تناوشهم بالحرب وتكثر الطعن الضرب وعبد الله بن جعفر يقول لأصحابه: دونكم والمشركين واصبروا لقتال المارقين واعلموا إنه قد تجلى عليكم ارحم الراحمين ثم قرأ الاية قوله تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249] فلما نظر خالد رضي الله عنه إلى صبرهم وتجلدهم على القتال اعدائهم لم يطق الصبر دون أن حمل عليهم وهز رايته وقال لأصحابه: دونكم القوم القباح فأرووا من دمائهم السلاح وابشروا بالنجاح يا أهل حي على الفلاح قال الواقدي رحمه الله تعالى: فبينما أصحاب عبد الله بن جعفر في اشد ما يكونون فيه إذ خرجت عليهم خيل المسلمين وكتائب الموحدين كأنهم الطيور وعليها الرجال كأنهم العقبان الكاسرة والليوث الضارية وهم عائصون في الحديد وقد ارتفع لهم الضجيج وبخيلهم العجيج فلما نظر عبد الله وأصحابه إلى ذلك ظنوا إنها نجدة الأعداء فأيقنوا بالهلاك والفناء وجعلوا ينظرون إلى الخيل التي رأوها هي قاصدة إليهم ففزعوا وظنوا أن كمينا من الروم قد خرج لقتالهم فعظم عليهم الأمر وقل منهم الصبر وأخذهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 البهر وقد لحق بالمشركين الدمار واتاهم حرب مثل النار والسيوف تلمع والرؤوس من الرجال تقطع والأرض قد امتلات قتلى وهم في أيدى المشركين كالأسرى والقوم في أشد القتال والسيف يعمل في الرجال إذ نادى فيهم مناد وهتف بهم هاتف خذل الأمن ونصر الخائف يا حملة القران جاءكم النصر من الرحمن ونصرتهم على عبدة الصلبان وقد بلغت القلوب الحناجر وعملت المرهفات البواتر وإذا بفارس على المقدمة كأنه الاسد الزائر او الليث الهادر ويده تشرق بالانوار كاشراف القمر فنادى الفارس باعلى صوته ابشروا يا معاشر حملة القران بالنصر المشيد أنا خالد بن الوليد فلما نظر المسلمون الرباية وسمعوا صوت خالد رضي الله عنه كانهم كانوا في لجه واخرجهم فاجابوه بالتهليل والتكبير وكانت اصواتهم كالرعد القاصف والرياح العواصف ثم حمل خالد بن الوليد رضي الله عنه بجيش الزحف الذي لا يفارقه ووضع السيف في الروم قال عامر بن سراقة فما شبهت حملته إلا حملة الاسد في الغنم ففرقهم يمينا وشمالا قال فثبت المسلمون وكل علج من الروم شديد يمانع عن نفسه وخالد يطلب أن يصل إلى عبد الله بن جعفر. ولما نظر المسلمون إلى الخيل المقبلة عليها ولم يعلموا ما هي حتى سمعوا صوت خالد بن الوليد رضي الله عنه فقال: يا أيها الناس دونكم الأعداء فقد جاءكم النصر من رب السماء ثم حمل المسلمون معه قال وائلة بن الاسقع لقد كنا ايسنا من أنفسنا وايقنا بالهلاك حتى أتتنا المعونة من الله عز وجل فحملنا بحملة اخواننا قال فما اختلط الظلام حتى نظرت إلى خالد بن الوليد رضي الله عنه والراية بيده وهو يسوق المشركين بين يديه سوق الغنم إلى المراعي والمسلمون يقتلون يأسرون فلله در ابي ذر الغفاري وضرار بن الأزور والمسيب بن نجية الفزاري لقد قرنوا المواكب وهزوا المضارب وقتلوا الروم من كل جانب والتقى ضرار بعبد الله بن جعفر رضي الله عنه فنظر إليه والدم على اكمام درعه كأكباد الإبل فقال شكر الله تعالى لك يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم والله إنك لقد أخذت بثأر ابيك وشفيت غليلك فقال عبد الله بن جعفر رضي الله عنه من الرجل المخاطب لي وكان الظلام قد اعتكر وضرار ملثم لا يبين منه إلا الحدق فلم يعرفه عبد الله فقال أنا ضرار بن الأزور صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال مرحبا بطلعتك وبأخ منا عدل لنا وقام لنصرتنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 معركة ضرار قال عبد الله بن انيس فبينما هم على ذلك إذ اقبل خالد بن الوليد رضي الله عنه وجيش الزحف فقال شكر لك الله واحسن جزاءك ثم قال عبد الله يا ضرار اعلم أن حامية الروم والبطارقة عند الدير لاجل ابنه صاحب طرابلس وما معها من الأموال وقد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 أحاط بها كل فارس من الروم فهل لك يا ابن الأزور أن تحمل معي فقال وأين هم فقال: أما تنظر إليهم فمد عينه وإذا بحامية الروم وبطريق طرابلس وقد أحدقوا بالدير يمنعون عن الجارية والنيران مشتعلة والصلبان تلمع كضوء النار وكأنهم سد من حديد فقال ارشدك الله للخيرات فنعم المرشد أنت أحمل حتى أحمل معك بحملتك قال فحمل عبد الله بن جعفر من جهته وحمل ضرار بن الأزور من جهته واتبعتهما الرجال وزعقوا في الروم وحماة المشركين وهم يمانعون عن أنفسهم وكان اشدهم منعة بطريقهم فبرز أمام القوم وهو يهدر كالبعير ويزأر زئير الاسد يصيح بكلمة الكفر ويحمل حملات الشجعان فقصده ضرار بن الأزور وباطشه في الضرب والتقت الأقران ونظر ضرار إلى العلج وعظم خلقته وتمكنه في سرجه وشدة ضربه وحسن احترازه فاخذ ضرار منه حذره واحترز منه البطريق وطلبه اشد الطلب وكل واحد منهما طامع في صاحبه فانفرد ضرار بن الأزور مع صاحب القوم وكل قرن مع قرنه وليس مع ضرار أحد المسلمين فانبسط ضرار بين ايديهم ليمكر بهم وطلبه البطريق وأصحابه وقصدوه بحملتهم فلما نظر ضرار إلى ذلك قصد موضعا يصلح لمجال الخيل فاعترضه واحد من ظلمة الليل فكبابه الجواد فسقط الأرض هاويا ثم ثار من سقطته يروم أخذ الفرس فلم يجد إلى ذلك سبيلا فوقف مكانه وسيفه وجحفته بيده وجعل يجاهدهم بسيفه وصبر لهم صبر الكرام ولم يأخذه في الله لومة لائم فخفق عليه بطريق الروم واقبل يضرب بعموده فلما لازمه ورمى العمود عليه زاغ ضرار عن الضربة ثم وثب إليه وثبة الاسد وضربه ضربة ازعجت فرس البطريق من تحته وقام على رجليه وشك بيديه وضربه الثانية فوقعت ضربة ضرار في عين جواده فانتكس الجواد إلى الأرض ووقع العلج على ظهره ولم يقدر أن يقوم لانه مزرد في سرجه فعالجه ضرار قبل وصول غلمانه إليه وضربه على حبل عانقه فنبا سيفه ولم يعمل شيئا فناهضه المعلج وقد ايكن بالهلاك وقبض عليه وكان الجبل العظيم فرماه ضرار تحته وملك صدره واستوى على نحره وكان مع ضرار سكين من صنعة اليمن لا تفارقه فاستلها من غمدها وضرب صدر عدو الله إلى سرته فسقط عدو الله قتيلا وعجل الله روحه إلى النار وبئس القرار. ثم وثب ضرار وملك جواد عدو الله واستوى في سرجه وكان على الجواد كثيرا من الذهب والفضة والفصوص التي تساوي ثمنا كثيرا فلما صار على ظهر الجواد حمل وكبر على المشركين ففرقهم يمينا وشمالا وكان ضرار لما انبسط أمام القوم ملك عبد الله بن جعفر الدير ومن فيه ومن معه من المسلمين واحدقوا به ولم ياخذوا منه شيئا حتى رجع خالد رضي الله عنه من اتباع الروم وذلك أن خالدا اتبعهم إلى نهر عظيم كان بينهم وبين طرابلس الشام والروم يعرفون مخاوضه فوقف خالد ورجع إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدهم قد ملكوا الدير وقتلوا العلج وانتشرت الناس في جمع الغنائم وما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 كان في السوق والفراش والقماش والثياب والطعام وغيره قال وائلة بن الاسقع فجعلنا نجمعه ونأكل الخيرات واخرجوا ما كان في الدير من انية الذهب والفضة والستور والمراتب واخرجوا ابنة البطريق ومعها أربعون جارية لهن حلي وحلل والمال على البراذين والبغال والحمير فانقلب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغنيمة والأموال الجسيمة. قال الواقدي: فنسبت تلك السرية لثلاث عبد الله بن جعفر صاحبها وعبد الله بن انيس مدركها وخالد بن الوليد منجدها ولقى خالد فيها مشقة وجراحا مؤلمة فلما سار واقبل خالد إلى الدير فصاح بصاحبه يا راهب فلم يكلمه فهتف به مرة اخرى وهدده فاطلع عليه وقال: ما تشاء وحق المسيح ليطالبنك صاحب هذه الخضراء بدماء من قتلت فقال خالد: كيف يطالبنا وقد امرنا أن نقاتلكم ونجاهدكم ووعدنا على ذلك الثواب ووالله لولا رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن نتعرض لكم لاتركتك في صومعتك بل كنت قتلتك اشر قتلة فسكت الراهب عنه ولم يجبه وانقلب خالد والمسلمون بالغنائم إلى دمشق وابو عبيدة رضي الله عنه فيها فشكر لهم وسلم خالد وعلى عبد الله بن جعفر رضي الله عنه ورجع إلى مكانه فخمس الغنيمة وقسمها على الناس فدفع لضرار بن الأزور فرس البطريق وسرجه وما عليه من حلى الذهب والفضة والجواهر والفصوص فأتى به ضرار إلى اخته السيدة خولة رضي الله عنها قال فرأيتها تنزع فصوص الجوهر فنفرقها على نساء المسلمين وأن الفص منها ليساوي الثمن الكثير قال وعرض السبي على ابي عبيدة رضي الله عنه وفي الجملة ابنة البطريق فقال عبد الله ابن جعفر أريدها قال أبو عبيدة: حتى استأذن أمير المؤمنين في ذلك فكتب إليه يعلمه بها وبمسألة عبد الله بن جعفر فكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه هي له فأخذها عبد الله واقامت زمانا عنده وعلمها الطبخ وكانت من قبل تعرف طبخ الفرس والروم واقامت عنده إلى ايام يزيد فأخبر بها فاستهلااها منه فاهداها له وكانت عنده وقال عامر بن ربيعة اصابني من غنيمة سوق الدير أثواب ديباج حرير فيها صور الروم وكان في كل ثوب منها صورة حسنة وهي صورة مريم وعيسى عليهما السلام فحملت الثياب إلى اليمن فبيعت بثمن كثير وكتب إلى عمي وأنا مع ابي عبيدة يا ابن اخي ابعث لي من هذه الثياب واكثر منها فإنها تنفق. قال الواقدي: فلما رجع جيش المسلمين غانما كتب أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتابا يخبره بما فتح الله على يديه وما غنم المسلمون من دير ابي القدس ويمدخ خالدا ويشكره ويثني عليه ويخبره بما قال وما تكلم به وسأله في كتابه أن يكتب إلى خالد يستشيره في المسير إلى هرقل او إلى بيت المقدس وكتب إليه ايضا أن بعض المسلمين يشربون الخمر قال عاصم بن ذؤيب العامري وكان ممن شهد قتال الروم بالشام وفتح دمشق العرب الوافدين من اليمن فأخذوا في الشرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 واستطابوا ذلك فانكر ذلك الأمير أبو عبيدة فقال رجل من العرب اظنه سراقة ابن عامر يا معاشر المسملين خلوا شرب الخمور فإنها تزيل العقول وتكسب الإثم وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن شارب الخمر حتى لعن حاملها والمحمولة إليه. وحدثني اسامة بن زيد الليتي عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف الغفاري قال كنت مع ابي عبيدة بالشام فكتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يخبره بفتح الشام وفي الكتاب أن المسلمين يشربون الخمر واستقلوا الحد فقدمت المدينة فوجدت عمر رضي الله عنه في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا وعنده نفر في الصحابة وهم عثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف يتحدثون فدفعت الكتاب إليه فلما قرأه جعل يفكر في ذلك ثم قال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلد من شربها ثم سأل عمر عليا رضي الله عنه في ذلك وقال: ما ترى في هذا فقال علي رضي الله عنه أن السكران إذا سكر هذي وإذا هذي افترى فكتب إليه عمر أن من شرب الخمر فعليه ثمانون جلدة ولعمري ما يصلح لهم إلا الشدة والفقر ولقد كان حقهم يراقبوا ربهم عز وجل ويعبدوه ويؤمنوا به ويشكروه فمن عاد فأقم عليه الحد. قال الواقدي: ق فلما ورد كتاب عمر رضي الله عنه وقراه نادى في المسلمين من من كان في نفسه حد فليعط ذلك من نفسه وليتب إلى الله عز وجل ففعل ذلك كثير من الناس ممن كان شرب الخمر واعطى الحد من نفسه ثم قال أبو عبيدة رضي الله عنه: إني عزمت على المسير إلى انطاكيا وقصد قلب الروم لعل الله يفتح فتحا على ايدينا فقال المسلمون سر حيث شئت فنحن تبع لك نقاتل اعداءك فسر بقولهم وقال: تأهبوا للرحيل فاني سائر بكم إلى حلب فإذا فتحناها توجهنا منها أن شاء الله تعالى إلى انطاكيا فاسرع المسلمون في اصلاح شأنهم وأخذوا اهبتهم فلما فرغ أبو عبيدة رضي الله عنه من جميع شغله أمر خالد بن الوليد رضي الله عنه أن يأخذ راية العقاب التي عقدها أبو بكر الصديق رضي الله عنه وامره أن يسير أمام الجيش بعسكر الزحف فسار خالد على المقدمة ومعه ضرار بن الأزور ورافع بن عمرة الطائي والمسيب بن نجيبة الفزاري والناس يتبع بعضهم بعضا وترك على دمشق صفوان بن عامر السلمي وترك عنده خمسمائة رجل وسار أبو عبيدة بالمسلمين ومعه ناس من اليمن ومصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 ذكر فتح حمص قال الواقدي: وسار أبو عبيدة على طريق البقاع واللبوة فلما وصل إلى هناك بعث خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى حمص قال: يا أبا سليمان انهض على بركة الله تعالى وعونه ونازل القوم وشن الغارة على ارض العواصم وفنسرين وأنا اسير إلى بعلبك فلعل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 الله أن يسهل علينا فتحها ثم ودعه وسار خالد رضي الله عنه بمن معه إلى حمص وتوجه أبو عبيدة رضي الله عنه إلى بعلبك إذ ورد بطريق جوسيه ومعه الهدايا والتحف وصالح المسلمين سنة كاملة وقال أن فتحتم بعلبك فانا بين ايديكم ولا نخالف لكم قولا فصالحهم أبو عبيدة رضي الله عنه على أربعة آلاف درهم وخمسين ثوبا من الديباج فلما انبرم الصلح سار أبو عبيدة رضي الله عنه يطلب بعلبك فما بعد من اللبوة إلا وقد اشرف عليه راكب نجيب فإذا هو اسامة بن زيد الطائي فقال: يا اسامة من اين اقبلت فأتاح نجيبه وسلم على ابي عبيدة رضي الله عنه وعلى المسلمين وقال أتيت من المدينة وسلم إليه كتابا من عمر بن الخطاب رضي الله عنه ففضه أبو عبيدة رضي الله عنه وإذا فيه لا إله إلا الله محمد رسول الله بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى امين الأمة سلام عليك فاني أحمد الله لا إله إلا هو واصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم اما بعد فلا مرد لقضاء الله وقدره ومن كتب في اللوح المحفوظ كافرا فلا ايمان له وذلك أن جبلة بن الأيهم الغساني كان قدم علينا ببني عمه وسراة قومه فأنزلتم واجسنت إليهم واسلموا على يدي وفرحت بذلك إذ شد الله عضد الإسلام والمسلمين بهم ولم اعلم ما كمن في الغيب وأنا سرنا إلى مكة حرسها الله تعالى وعظمها نطلب الحج فطاف جبلة بالبيت اسبوعا فوطىء رجل من فزارة ازاراه فسقط ازاره عن كتفه فالتفت إلى الفزاري وقال: يا ويلك كشفتني في حرم الله تعالى فقال والله ماتعمدتك فلطم جبلة بن الأيهم الفزاري لطمة هشم بها انفه وكسر ثناياه الأربع فأقبل الفزاري الي مستعيا على جبلة فأمرت باحضاره وقلت له: ما حملك على أن لطمت اخاك في الإسلام وكسرت ثناياه الأربع وهشمت انفه فقال جبلة إنه وطىء ازاري برجله فحله ووالله لولا حرمة هذا البيت لقتلته فقلت له: اقررت على نفسك فاما أن يعفو عنك واما أن أخذ له منك القصاص فقال: أيقتص وأنا ملك وهو من السوقة قلت: قد شملك وإياه الإسلام فما تفضله إلا بالعافية فقال أتتركني إلى غدا او تقتص مني فقلت للفزاري: اتتركه إلى غد قال: نعم فلما كان الليل ركب في بني عمه وتوجه إلى الشام إلى كلب الطاغية وأرجوا أن الله تعالى يظفرك به فانزل على حمص ولا تنفذ عنها فإن صالحك اهلها فصالحهم وأن أبو فقاتلهم وابعث عيونك إلى انطاكية وكن على حذر من المنتصرة والسلام عليك ورحمة الله وعلى جميع المسلمين. قال الواقدي: فلما قرأ أبو عبيدة الكتاب في سره جهر به مرة اخرى ثم لوى يطلب حمص وكان خالد رضي الله عنه سبقه إليها بثلث الجيش فنزل عليها يوم الجمعة من شوال سنة أربع عشرة من الهجرة النبوية وكان عليها واليا بطريق من قبل هرقل اسمه لقيطا وكان قد مات قبل نزول خالد والمسلمين رضي الله عنهم اجمعين فاجتمع المشركون في كنيستهم العظمى وقال كبيرهم اعلموا أن صاحب الملك قد مات وليس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 عند الملك خبر من هؤلاء العرب وقد نزلوا علينا وما ظننا ذلك ولقد حسبنا إنهم لا ينزلون علينا حتى يفتحوا جوسيه وبعلبك وأن انتم قاتلتوهم وكاتبتم الملك أن يسير إليكم واليا جيشا فإن العرب لا تمكن أحدا من جنود الملك أن يسير إليكم ولا يصل لكم وليس عندكم طعام يقوم بكم للحصار فقالوا: أيها السيد فما الذي ترى قال تصالحون القوم على ما أرادوا وتقولون نحن لكم وبين ايديكم أن فتحتم حلب وقنسرين وهزمتهم جيش الملك فإذا توجه القوم عنا بعثنا إلى الملك أن يمدنا بجيش عرمرم ويولي من أراد علينا ويستوثق لنا من الطعام والعدد وبعد ذلك نقاتلهم فاستصوب القوم رأيه وقالوا: دبرنا بحسن رأيك وتدبيرك فبعث البطريق إلى ابي عبيدة رضي الله عنه جاثليقا كان عندهم معظما ليعقد الصلح بينهم وبين المسلمين فخرج الجاثليق ووصل إلى ابي عبيدة رضي الله عنه وتكلم في الصلح معه بما تحدث به البطريق من أمر سير المسلمين إلى حلب وقنسرين والعواصم وانطاكية فأجابهم أبو عبيدة رضي الله عنه إلى ذلك وصالح القوم وهم أهل حمص على عشرة آلاف دينار ومائتي ثوب من الديباج وعقد الصلح مع القوم سنة كاملة اولها ذو القعدة واخرها شوال سنة أربع عشرة من الهجرة قال وانبرم الصلح وخرجت السوقة من حمص إلى عسكر المسلمين فباعوا واشتروا ورأى أهل حمص سماحة العرب من بيعهم وشرائهم وربحوا منهم ربحا وافيا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 ذكر حديث سرية خالد بن الوليد رضي الله عنه قال الواقدي: إن أبا عبيدة دعا بخالد وضم إليه أربعة آلاف فارس من لخم وجذام وطي ونبهان وكهلان وستس وخولان وقال: يا أبا سليمان شن الغارة بهذه الكتيبة واقصد بها المعرة واقرب من معرة حلب وشن بها الغارة على بلدة العواصم وارجع على أثرك ونفذ عيونك وانظر أن كان للقوم نجدة او ناصر من قومهم أم لا فاجابه خالد إلى ذلك وأخذ الراية وتقدم أمام الكتيبة وجعل ينشد يقول: أخذتها والملك العظيم ... وانني بحملها زعيم لانني كبش بني مخزوم ... وصاحب لاحمد الكريم اسير مثل الاسد الغشوم ... يا رب فارزقني قتال الروم قال الواقدي: وسار خالد بن الوليد إلى شيزر ونزل على النهر المقلوب ودعا بمصعب بن محارب اليشكري وضم إليه خمسمائة فارس وأمره أن يشن الغارة على العواصم وقنسرين وسار خالد بن الوليد إلى كفر طاب والمراه والى دير سمعان وجعلت خيل المسلمين تغير يمينا وشمالا على القرى والرساتيق ويأخذون الغنائم والاسارى فرجعوا إلى خالد بن الوليد بالاسارى فسار بهم إلى ابي عبيدة رضي الله عنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 فلما نظر إلى خالد وما معه من الغنائم والأموال فرح فرحا شديدا وإذا خلف خالد سواد عظيم قد ارتفعت أصواتهم بالتهليل والتكبير والصلاة على على المبشير النذير فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه ما هؤلاء يا أبا سليمان. فقال خالد: هذا مصعب بن محارب اليشكري وقد عقدت له راية على خمسمائة فارس من قومه ومن أهل اليمن وأنه اغار بهم على العواصم وقنسرين وقد أتى بالغنائم والسبي والأموال فالتفت الأمير أبو عبيدة فنظر إلى سرح عظيم من البقر والغنم وبراذين عليها رجال ونساء وصبيان ولهم دوي عظيم وبكاء شديد فقصدهم أبو عبيدة رضي الله عنه وإذا برجال مقرونين في الحبال وهم يبكون على عيالهم ونهب أموالهم وخراب ديارهم فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه لترجمانه قل لهم: ما بالكم تبكون ولم لا تدخلون في دين الإسلام وتطلبون الأمان والذمام لتأمنوا على أنفسكم وأموالكم فقال لهم الترجمان: ذلك فقالوا: أيها الأمير نحن كنا بالبعد منكم وكانت اخباركم تأتينا وما ظننا إنكم تبلغون إلينا فما شعرنا حتى اشرف علينا أصحابكم فنهبوا أموالنا واولادنا وساقونا في الحبال كما ترى. قال الواقدي: وكانت الأعلاج زهاء من أربعمائة علج فقال لهم الأمير: أن مننا عليكم واطلقناكم من اسركم ورددنا عليكم أموالكم واهاليكم فهل تكونون في طاعتنا وتؤدون الجزية إلينا والخراج فقالوا: اوف لنا بذلك ونحن نفعل جميع ما شرطته علينا فعند ذلك اقبل أبو عبيدة رضي الله عنه إلى المسلمين وقال لهم: قد رأيت من الرأي أن اؤمن هؤلاء من القتل وارد عليهم أموالهم وعيالهم فيكونوا عبيدا لنا ويعمروا الأرض والبلاد ونأخذ خراجهم وجزيتهم فما انتم قائلون فما كنت بالذي اقطع امرا إلا بمشورتكم فقالوا: الرأي في ذلك أيها الأمير أن رأيت صلاحا للمسلمين. قال الواقدي: ففرض على كل واحد أربعة دنانير وبذلك كتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فعند ذلك رد عليهم أموالهم واولادهم واقرهم على بلادهم وكتب اسماءهم وامرهم بالرجوع إلى اوطانهم فلما استقروا في خيامهم اخبروا من كان بالقرب منهم بحسن سيرة العرب وما عاملوهم به من الجميل وقالوا: لقد ظننا إنهم يقتلوننا ويستعبدون اولادنا والآن قد رحمونا وأقرونا في بلادنا على اداء الجزية والخراج. قال الواقدي: فسمعت الروم ذلك فأقبلوا إلى ابي عبيدة رضي الله عنه في طلب الأمان واداء الجزية والخراج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 ذكر فتح قنسرين قال الواقدي: وبلغ الخبر إلى أهل قنسرين أن الأمير أبا عبيدة يعطي الأمان من. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 قصده فأحبوا أن يأخذوا الأمان من أبي عبيدة رضي الله عنه واجمعوا رايهم على ذلك وأن ينفذوا رسولا من غير علم بطريقهم. قال الواقدي: وكان على قنسرين والعواصم بطريق من بطارقة الملك من أهل الشدة والبأس وكان أهل قنسرين يخافون منه وكان اسمه لوقا وصاحب حلب عسكره مثل عسكره وسطوته مثل سطوته وكان الملك هرقل قد دعا بهما إليه فقالا له أيها الملك ما كنا نترك ملكنا من غير أن نقاتل قتالا شديدا فشكرهما الملك هرقل على ذلك ووعدهما أن يبعث إليهما جيشا عرمرميا وكانا منتظرين ذلك من وعد الملك لهما وكان مع كل واحد منهما عشرة آلاف فارس إلا انهما لا يجتمعان في موضع واحد قال فلما سمع صاحب قنسرين ما قد عزم عليه أهل قنسرين من الصلح مع ابي عبيدة غضب غضبا شديدا وعزم أن يمكر بهم فجمع أهل قنسرين إليه وقال لهم: يا بني الأصفر ما تريدون أن اصنع مع هؤلاء العرب وكأنكم بهم وقد اقبلوا إلينا يفتحون بلادنا كما فتحو أكثر بلاد الشام فقالوا: أيها السيد قد بلغنا إنهم أصحاب وفاء وذمة وقد فتحوا أكثر البلاد بالصلح والعدل ومن قاتلهم قاتلوه واستعبدوا اهله واولاده ومن دخل تحت طاعتهم اقروه في بلده وكان آمنا من سطوتهم والرأي عندنا أن نصالح القوم ونكون آمنين على أنفسهم وأموالنا فقال لهم البطريق: لقد اشرتم بالصواب والأمر الذي لا يعاب لأن هؤلاء العرب قوم منصورون على من قاتلهم وها أنا اعقد لكم الصلح معهم سنة كاملة إلى أن توافينا جيوش الملك هرقل ونعطف عليهم وهم آمنون فنبيدهم عن آخرهم فقالوا: افعلوا ما فيه الصلاح. قال الواقدي: واتفق أهل قنسرين والبطريق على صلح المسلمين وفي قلوبهم الغدر قال وأن لوقا البطريق دعا برجل من أصحابه اسمه اصطخر وكان قسيسا عالما بدين النصرانية فصيح اللسان قوي الجنان يعرف العربية والرومية وقد عرف الدينين إليهودية والنصرانية فقال لوقا يا ابانا سر إلى العرب وقل لهم يصالحونا سنة كاملة حتى نبعد القوم بالحيلة والخداع ثم كتب الكتاب إلى الأمير ابي عبيدة رضي الله عنه فقال بعد كلمة كفره اما بعد يا معاشر العرب أن بلدنا منيع كثير العدد والرجال فما تأتونا من قبله ولو اقمتم علينا مائة سنة ما قدرتم علينا وأن الملك هرقل قد استنجد عليكم من حد الخليج إلى رومية الكبرى ونحن قد بعثنا إليكم نصالحكم سنة كاملة حتى نرى لمن تكون البلاد ونحن نريد منكم أن تجعلوا بيننا وبينكم علامة من حد أرض قنسرين والعواصم حتى إذا همت العرب بالغارة بدت العلامة تريكم حد ارضنا ونحن نصالحكم خفية من الملك هرقل لئلا يعلم فيقتلنا والسلام ثم خلع على اصطخر خلعة سنية واعطاه بغلة من مراكبه وعشرة غلمان وسار حتى وصل إلى حمص فرأى الأمير أبا عبيدة رضي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 الله عنه يصلي بالمسلمين صلاة العصر فوقف اصطخر ينظر ما يفعلون ويعجب من ذلك فلما فرغوا من صلاتهم ونظروا إلى القسيس وثبوا إليه وقالوا له: من أنت ومن اين اقبلت فقال أنا رسول ومعي كتاب فمثلوه بين يدي ابي عبيدة فهم القسيس بالسجود له فمنعه أبو عبيدة رضي الله عنه من ذلك وقال له: نحن عبيد الله عز وجل فمنا شقي ومنا سعيد: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ*خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [هود: 106, 107] فلما سمع اصطخر ذلك بهت وبقي لا يرد جوابا وهو متعجب مما تكلم به الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه فناداه خالد بن الوليد رضي الله عنه وقال له: ما شأنك أيها الرجل ورسول من أنت فقال اصطخر اانت أمير القوم فقال خالد: لا بل هذا اميرنا واشار إلى ابي عبيدة رضي الله عنه فقال اصطخر أنا رسول صاحب قنسرين والعواصم ثم اخرج الكتاب ودفعه إلى ابي عبيدة رضي الله عنه فأخذه وقرأه على المسلمين فلما سمع خالد بن الوليد رضي الله عنه ما في الكتاب من صفة مدينتهم وكثرة عددهم ورجالهم وتهديدهم بجيوش الملك هرقل حرك رأسه وقال لأبي عبيدة: وحق من ايدنا بالنصر وجعلنا من امة محمد صلى الله عليه وسلم الطاهر أن هذا الكتاب من عند رجل لا يريد الصلح بل يريد حربنا ثم قال لاصطخر: تريدون أن تخدعونا حتى إذا جاءت جنود صاحبكم ورأيتم القوم وقد جاءتكم نقضتم صلحنا وكنتم أول من يقاتلنا وأن رأيتم الغلبة لنا هربتم إلى طاغيتكم هرقل فإن أردتم ذلك فنواعدكم الحرب مواعدة من غير أن يكون صلحا سنة كاملة فإن لحق بكم جيش هذه السنة من الملك هرقل فلا بد من قتاله فمن اقام في المدينة ولم يقاتل مع الجيش فهو على صلحنا لا نتعرض له قال اصطخر قد اجبناكم إلى ذلك فاكتبوا لنا كتابا بذلك فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: أيها الأمير اكتب لهم كتابا بمواعدة الحرب سنة كاملة اولها مستهل شهر ذي القعدة سنة أربع عشرة من الهجرة النبوية قال فكتب له أبو عبيدة رضي الله عنه بذلك فلما فرغ من الكتاب قال له: اصطخر أيها الأمير حد بلادنا معروف وبازائنا صاحب حلب وبلاده بحد بلادنا ونريد أن تجعل لنا علامة فيما بيننا وبينكم حتى إذا طلب أصحابكم الغارة لا يتجاوزون ذلك. قال الواقدي: فرضني أبو عبيدة رضي الله عنه بذلك وقال أنا ابعث من يحدد لكم ذلك قال اصطخر أيها الأمير ما نريد معنا أحدا من أصحابك نحن نصنع عمودا وننصحه ويكون عليه صورة الملك هرقل فإذا رآه أصحابك لا يجاوزنه فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه افعل ذلك ثم دفع إليه الكتاب ونادى في عساكر المسلمين وأصحاب الغارات من نظر إلى عمود فلا يتعداه ولا يتجاوزه بل يشن الغارة على ارض حلب وحدها ولا يتجاوز العمود فليبلغ الشاهد الغائب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 قال الواقدي: ورجع اصطخر إلى بطريق قنسرين واعلمه بما جرى له مع خالد بن الوليد رضي الله عنه ودفع له الكتاب ففرح بذلك وقصد إلى عمود عظيم وصنع عليه صورة الملك هرقل كأنه جالس على كرسي مملكته. قال الواقدي: وكانت خيل المسلمين تضرب غارتها إلى اقصى بلاد حلب والعمق وانطاكية ويحيدون عن حد قنسرين والعواصم إلا يقربون العمود قال عمر بن عبد الله الغبري عن سالم بن قيس عن ابيه سعد بن عبادة رضي الله عنه قال كان صلح المسلمين لاهل قنسرين والعواصم على أربعة آلاف دينار ملكية ومائة اوقية من الفضة والف ثوب من متاع حلب والف وسق من طعام. قال الواقدي: حدثنا عامر قال كنا في بعض الغارات إذ نظرنا إلى العمود وعليه صورة الملك هرقل فجئنا عنده وجعلنا نجول حوله بخيولنا ونعلمها الكر والفر وكان بيد أبي جندلة قناة تامة فقرب به الجواد من الصورة وهو غير متعمد ذلك ففقأ عين الصورة وكان عندها قوم من الروم وهم غلمان صاحب قنسرين يحفظون العمود فرجعوا إلى البطريق وأعلموه بذلك فغضب غضبا شديدا ودفع صليبا من الذهب إلى بعض أصحابه وضم إليه ألف فارس من أعلاج الروم وعليهم الديباج الرومي وعليهم المناطق المجوفة وأمر اصطخر أن يسير معهم وقال له: ارجع إلى أمير العرب وقل له غدرتم بنا ولم توفوا بذمامكم ومن غدر جندل فأخذ اصطخر الصليب وسار مع ألف فارس من الروم حتى اشرف على ابي عبيدة رضي الله عنه فلما نظر المسلمون إلى الصليب وهو مرفوع اسرعوا إليه ونكسوه فاستقبل أبو عبيدة القوم وقال من انتم قال اصطخر أنا رسول صاحب قنسرين إليك وهو يقول: لك غدرتم ونقضتم العهد الذي بيننا وبينكم فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه وحق رسول الله صلى الله عليه وسلم ما علمت بذلك وسوف اسأل عنه ثم نادى يا معاشر الناس من فقأ عين التمثال فليخبرنا بذلك فقالوا: أيها الأمير أبو جندلة وسهل بن عمرو صنعا ذلك من غير أن يتعمداه فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه لاصطخر أن صاحبنا فعل ذلك من غير أن يتعمد فما الذي يرضيك منا فقالت الأعلاج: لا نرضى حتى تفقأ عين ملككم يريدون بذلك أن يتطرقوا إلى رقاب المسلمين فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه ها أنا فاصنعوا بي مثل ما صنع بصورتكم قالوا: لا نرضى بذلك إلا بعين ملككم الأكبر الذي يلي أمر العرب كلها فقال أن عين ملكنا تمنع من ذلك. قال الواقدي: وغضب المسلمين حين ذكر الأعلاج عين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهموا بقتل الأعلاج فنهاهم أبو عبيدة رضي الله عنه عن ذلك فقال المسلمون أيها الأمير نحن دون امامنا فنفديه بأنفسنا ونفقأ عيوننا دون عينه فقال اصطخر عندما نظر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 إلى المسلمين وقد هموا بقتله وقتل من معه من الأعلاج لا نفقا عين عمر ولا عيونكم ولكن نصور صورة اميركم على عمود ونصنع به مثل ما صنعتم بصورة ملكنا فقالت المسلمون أن صاحبنا فعل ذلك من غير تعمد وانتم تريدون العمد فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه مهلا يا قوم فإذا رضي القوم بصورتي فقد اجبتم إلى ذلك ولا يتحدث القوم عنا اننا عاهدنا وغدرنا فإن هؤلاء القوم لا عهد لهم ولا عقل ثم اجابهم إلى ذلك. قال الواقدي: فصوروا ابي عبيدة رضي الله عنه على عمود وجعلوا له عينين من زجاج واقبل فارس منهم حنقا ففقأ عين الصورة ثم رجع اصطخر إلى صاحب قنسرين واخبره بذلك فقال لقومه بهذا نالهم ما يريدون قال واقام أبو عبيدة على حمص يغير يمينا وشمالا ينتظر خروج السنة لينظر ما بعد ذلك. قال الواقدي: وأبطأ خبر أبي عبيدة على عمر بن الخطاب رضي الله ولم يرد عليه شيء من الكتب والفتح فأنكر عمر ذلك وظن به الظنون وحسب إنه قد داخله خبر وقد ركن إلى القعود عن الجهاد فكتب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتابا يقول فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى أمين الأمة ابي عبيدة عامر بن الجراح سلام عليك فاني أحمد الله الذي لا إله إلا هو واصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وآمرك بتقوى الله عز وجل سرا وعلانية وأحذركم عن معصية الله عز وجل وأحذركم وانهاكم أن تكونوا ممن قال الله في حقهم: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ} [التوبة: 24] الاية وصلى الله على خاتم النبيين وامام المرسلين والحمد لله رب العالمين فلما وصل الكتاب إلى أبي عبيدة رضي الله عنه قرأه على المسلمين فعلموا أن أمير المؤمنين عمر يحرضهم على القتال وندم أبو عبيدة رضي الله عنه على صلح قنسرين ولم يبق أحد من المسلمين إلا بكى من كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقالوا: أيها الأمير ما يقعدك عن الجهاد فدع أهل شيزر وقنسرين واطلب بنا حلب وانطاكية فلعل الله أن يفتحهما على ايدينا وقد انقضى اجل الصلح وما بقي إلا القليل وما البقاء إلا للملك الجليل فعزم أبو عبيدة على المسير إلى حلب وعقد راية لسهل بن عمرو وعقد راية اخرى لمصعب بن محارب اليشكري وامر عياض بن غانم أن يسير على مقدمتهم واتبعه خالد بن الوليد وسار أبو عبيدة رضي الله عنه إلى أن نزل على الرشين وصالح اهلها وسار الىحماة فخرج اهلها إليه ومعهم الإنجيل وقد رفعه الرهبان على اكفهم والقسس أمام القوم يطلبون منه الصلح والذمام فلما رآهم أبو عبيدة رضي الله عنه وقف وقال لهم: ما الذي تريدون فقالوا: أيها الأمير نريد أن نكون في صلحكم وذمامكم فأنتم أحب إلينا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 قال الواقدي: فصالحهم أبو عبيدة وكتب لهم كتاب الصلح والذمام وخلف رجالا من المؤمنين وسار حتى نزل إلى شيزر فاستقبلوه فصالحهم وقال لهم: اسمعتم للطاغية هرقل خبرا فقالوا: ما سمعنا له خبرا غير إنه اتصل بنا الخبر أن بطريق قنسرين قد كتب إلى الملك هرقل يستنجد عليكم وقد بعث بجبلة بن الأيهم الغساني من بني غسان والعرب المنتصره ومعه بطريق عمورية في عشرة آلاف فارس وقد نزلوا على جسر الحديد فكن منهم على حذر أيها الأمير فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه حسبنا الله ونعم الوكيل. قال الواقدي: واقام الأمير أبو عبيدة على شيزر وبقي مرة يقول: اسير إلى حلب ومرة يقول: اسير إلى انطاكيه فجمع امراء المسلمين إليه وقال: أيها الناس قد بلغني أن بطريق قنسرين قد نقض العهد وارسل للملك هرقل والخبر كذا وكذا فما انتم قائلون فقالوا: أيها الأمير دع أهل قنسرين والعواصم وسر بنا إلى حلب وانطاكية فقال خذوا اهبتكم رحمكم الله. قال الواقدي: وكان بقي من الصلح والعهد الذي بينهم وبين أهل قنسرين شهر او اقل من ذلك فأقام أبو عبيدة رضي الله عنه ينتظر انفصال العهد قال وكانت عبيد العرب يأتون بجراثيم الشجر من الزيتون والرمان وغير ذلك من الاشجار التي تطعم الثمار فعظم ذلك على الأمير ابي عبيدة رضي الله عنه فدعا العبيد إليه وقال: ما هذا الفساد فقالوا: أيها الأمير أن الأحطاب متباعدة منا وهذه الاشجار قريبة فقال الأمير أبو عبيدة عزيمة مني على كل حر وعبد قطع شجرة لها طعم وثمر لاجازينه ولانكلن به فلما سمع العبيد ذلك النكال جعلوا يأتون بالأحطاب من اقصى الديار قال سعيد بن عامر وكان معي عبد نجيب وكان اسمه مهجعا وقد شهد معي الوقائع والحروب وكان جريء القلب في القتال وكان إذا خرج في غارة او في طلب حطب يتوغل ويبعد فخرج هو وجماعة من العبيد ممن شهد الوقائع في طلب الحطب فأبطأ خبره على سيده سعيد بن عامر فركب جواده وخرج في طلبه وجعل يقفو أثره وإذا لاح له شخص وقد سال دمه على وجهه وصبغ سائر جسده وما كاد يمشي خطوة واحدة إلا ويهوي على وجهه قال سعيد بن عامر فنزلت إليه وقلت له: ما وراءك من الأخبار فقال هلكة ودمار يا مولاي فقلت: عليك يا ابن الأسود حدثني بخبرك قال سعيد فلم يكد يقف حتى سقط على وجهه فنضحت على وجهه ماء فسكن ما به فقال: يا مولاي انج بنفسك وإلا ادركك القوم يصنعون بك مثل ما صنعوا بي فقلت: ما القوم الذين صنعوا بك ما أرى فقال خرجت يا مولاي أنا وجماعة من الموالي لنحطتب حطبا فتباعدنا كثيرا في البر وإذا نحن بكتيبة من الخيل زهاء عن ألف فارس كلهم عرب وفي اعناقهم صلبان الذهب والفضة وهم معتقلون بالذهب والفضة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 والرماح فلما نظروا إلينا اسرعوا نحونا وداروا بنا وعزموا على قتلنا فقلت لأصحابي: دونكم وإياهم. فقالوا: ويحك ومن يقاتل وليس لنا طاقة بقتال هذه الكتيبة والخيل وما لنا إلا أن نلقي بأيدينا إلى الأسر فهو اهون من القتال فقلت: لا والله ما سلمت نفسي إليهم دون أن اقاتل قتالا شديدا فلما رأوا مني الجد فعلوا مثل فعلي فقاتلنا القوم وقاتلونا فقتلوا منا عشرة وأسروا عشرة وأما أنا فأثخنت بالجراح حتى سقطت على وجهي فرجعوا عني وبقيت كما ترى قال سعيد بن عامر الأنصاري فغمني والله ما نزل بالعبيد فأردفته ورائي ورجعت على أثري وإذا بالخيل قد طلعت من ورائي كأنها الريح الهبوب او الماء إذا اندفق من ضيق الأنبوب وإذا بخيل غسان أحدقت بالرماح الطوال وهم يقولون نحن بنو غسان من حزب الصليب والرهبان قال سعيد بن عامر فناديتهم أنا من أصحاب محمد المختار صلى الله عليه وسلم فأسرع بعضهم الي وهم أن يعلوني بالسيف فناديته يا ويلك أتقتل رجلا من قومك فقال من أي الناس أنت قلت: أنا من الخزرج الكرام فرد السيف وقال أنت طلبة سيدنا جبلة بن الأيهم وحق المسيح فقلت: ومن اين يعرفني جبلة حتى يطلبني فقال إنه يطلب رجلا من أهل اليمن من انصار محمد بن عبد الله ثم قال سر بنا طائعا وإلا سرت كرها قال سعيد بن عامر فسرت والجيش معي حتى اشرفنا على جيش عرمرم وعنده اعلام وصلبان قد رفعت فلم ازل مع القوم حتى أتوا بي إلى مضرب جبلة بن الأيهم وإذا به جالس على كرسي من ذهب أحمر وعليه ثياب الديباج الرومي وعلى رأسه شبكة من اللؤلؤ وفي عنقه صليب من الياقوت فلما وقفت بين يديه رفع رأسه الي وقال من أي عرب أنت قلت: أنا من اليمن قال اكرمت من أيها فقلت: أنا من ولد حارثة بن ثعلبة بن عمرو وبن عامر بن حارثة بن ثعلبة بن امرىء القيس بن عبد الله بن الأزور بن عوف بن مالك بن كهلان بن سبأ فقال جبلة من أي الملأ أنت نسبا فقلت: أنا من ولد الخزرج بن حارثة من انصار محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام فقال جبلة وأنا من قومك من بني غسان فقلت: أنا من القبيلة التي نسبت إليها فقال أنا جبلة بن الأيهم الذي رجعت عن الإسلام فما رضي صاحبكم عمر بن الخطاب أن يكون مثلي لهذا الدين ناصرا حتى يأخذ مني القود لعبد حقير وأنا ملك اليمن وسيد غسان فقلت: يا جبلة أن حق الله اوجب من حقك وديننا لا يقوم إلا بالحق والنصفة وأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا يخاف ولا تأخذه في الله لومة لائم فقال لي ما اسمك فقلت: سعيد بن عامر الأنصاري فقال اوطيء يا سعيد قال فجلست فقال الك عهد بحسان بن ثابت الأنصاري فقلت: شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن قال فيه المصطفى أنت حسان ولسانك حسام فقال لي كم لك منذ فارقته فقلت: عهدي به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 قريب وقد دعاني إلى دعوة صنعها وامر مولاته أن تنشد بها شعرا فيك فانشدت: لله در عصابة نادمتهم ... يوما بجلق في الزمان الأول يغشون حتى ما تهر كلابهم ... لا يسألون عن السواد المقبل بيض الوجوه كريمة انسابهم ... شم الأنوف من الطراز الأول الملحقين فقيرهم بغنيهم ... المشفقين على اليتيم الأرمل اولاد جفنة حول قبر ابيهم ... قبر ابن مارية الكريم المفضل ثم خرجنا إلى الشام وهذا آخر عهدي به قال جبلة بن الأيهم اوحفظ لي هذه المكرمة قلت: نعم قال فأمر لي بثوب من الكتان الرومي وفيه شيء من الورق وقال أنا امرت لك بالكتان كي تلبسه ولا تحرمه ثم قال لي بحق ذمة العرب ما كنت تصنع في المكان الذي اسرت فيه فقلت: إن الصدق اوفى ما استعمله الرجل أنا من أصحاب الأمير ابي عبيدة بن الجراح وقد قصدنا نريد حلب وانطاكية فقال جبلة اعلم أن الملك قد بعثني أنا وهذا البطريق صاحب عمورية حتى ننصر صاحب قنسرين فإنه قد كادكم بصلحه لكم وأنا منتظر أن يلاقينا بهذا المكان ولكن ارجع إلى صاحبك ابي عبيدة وحذره من اسيافنا وقل له يرجع من حيث قدم ولا يتعرض لبلاد هرقل وسوف ينزع من ايديكم ما قد ملكتموه من الشام قال سعيد بن عامر فركبت واردفت غلامي وسرت حتى أتيت عسكر المسلمين فأسرع الناس الي وقالو ااين كنت يا ابن عامر فأتيت خيمة الأمير ابي عبيدة رضي الله عنه وحدثته بقصتي مع جبلة بن الأيهم فقال لي لقد خلصك الله بذكرك لحسان بن ثابت الأنصاري ثم جمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم للمشورة ثم قال: أيها الناس ما ترون من قصة هذا البطريق وقد وفينا له وكادنا فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: أن البغي مصرعة وأن كادنا كان الله من ورائه بالمرصاد وسوف نكيده اعظم مكيدة وأنا اسير إلى لقائه بعشرة رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو عبيدة: أنت لها يا أبا سليمان ولكل كريهة فخذ من أحببت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: اين عياض بن غانم الاشعري اين عمرو بن سعيد اين مصعب بن محارب اليشكري اين أبو جندلة بن سعيد المخزومي اين سهل بن عمرو العامري اين رافع بن عميرة الطائي اين المسيب بن نجية الفزازي اين سعيد بن عامر الأنصاري اين عمرو بن معد يكرب الزبيدي اين عاصم بن عمر القيس اين عبد الرحمن بن ابي بكر الصديق رضي الله عنه فاجابوه بالتلبية. قال الواقدي: وكان ضرار بن الأزور رضي الله عنه رمد العينين لم يحضر هذه الوقعة فقال لهم خالد بن الوليد: هلموا فوجدوه قد تدرع بدرع مسيلمة الكذاب الذي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 استلبه منه يوم اليمامة واشتمل بلامة حربه وركب جواده وقال لعبده همام سر معي حتى ترى مني عجبا فسار معه وسار خالد بن الوليد رضي الله عنه والعشرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو عبيدة يا سعيد أما اخبرك جبلة بن الأيهم من اين يأتي البطريق صاحب قنسرين إليه فقال: نعم يا أبا سليمان اخبرني فقال له: خذنا في الطريق إلى جبلة بن الأيهم رضي الله عنه يدعو لهم بالنصر فأقبل خالد على سعيد بن عامر الأنصاري وقال حتى نكمن له فيه فإذا أتى البطريق صاحب قنسرين كدناه كما كادنا ودمرناه ومن معه فسار سعيد أمام القوم يدلهم ويجد السر طالب عسكر جبلة بن الأيهم وكان مسيرهم ليلا فلما وصلوا إلى قرب النيران وسمعوا اصوات القوم عدل بهم سعيد بن عامر إلى صوب طريق البطريق وكمن بمن معه من الرجال إلى وقت الصباح فلم يأت أحد فصلى خالد بأصحابه صلاة الفجر وهم في المكمن فبينما هم في المكمن إذ اشرف عليهم جيش جبلة بن الأيهم والعرب المتنصرة وصاحب عمورية وهم طالبون ارض العواصم وقنسرين فقال المسلمون لخالد يا أبا سليمان أما ترى هذا الجيش الذي قد اشرف علينا في عدد الشوك والشجر فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: فما يكون من كثرتهم إذا كان النصر لنا والله معنا فاختلطوا بهم انتم وكونوا في جملتهم كأنكم من جيشهم إلى أن نلتقي بالبطريق صاحب قنسرين ويفعل الله تعالى ما يشاء ويختار فعند ذلك اختلطوا بهم وصاروا في جملتهم وهم لا يفترقون قال رافع بن عميرة الطائي فلما اشرفنا على حد صلحنا ولاح لنا بلد العواصم وقنسرين إذا ببطريقها قد استقبلنا وقد رفع امامه الصليب واخرج بين يديه القسوس والرهبان وهم يقرأون الإنجيل وقد ارتفعت اصواتهم بكلمة الكفر ودنا بعضهم من بعض. وخرج البطريق أمام الصحابة ليأتي إلى جبلة بن الأيهم يسلم عليه فاستقبله خالد بن الوليد رضي الله عنه مواجها له وحوله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قرب البطريق منهم قال سلمكم المسيح وأبقاكم الصليب فقال خالد: ويا ويلك ما نحن من عباد الصليب بل نحن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد الحبيب وكشف خالد بن الوليد رضي الله عنه وجهه ونادى لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله يا عدو الله أنا خالد بن الوليد أنا المخزومي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وضرب بيده البطريق وقبض عليه واتنزعه من سرجه وبرز أصحاب رسول الله عليه وسلم وسلوا السيوف على أصحابه وارتفعت الضجة والجلبة وأعلن العدو بكلمة الكفر وضج المسلمون بكلمة التوحيد وسمع جبلة وصاحب عمورية اصوات المسلمين وقد ارتفعت بالتهليل والتبكير فانزعجوا لذلك ونظروا إلى السيوف وقد جردت والرماح وقد شرعت فبرزوا نحو أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحاطوا بهم من كل جانب ومكان فلما نظر خالد إلى ما دهمه ونزل بأصحابه الذين معه والبطريق صاحب قنسرين لا يفارقه وقد ملك قياده وهو خائف أن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 ينفلت من يديه أو تجري عليه حادثة قبل أن يقتله هم خالد أن يقتله ورفع السيف ليعلوه به فتبسم البطريق من فعاله وعجب خالد من ضحكه وقال ويلك مم ضحكك فقال البطريق لانك مقتول أنت ومن معك وتريد قتلي وأن أنت ابقيت علي فهو اصوب فتركه خالد ولم يقتله ثم صاح خالد بأصحابه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كونوا حولي واحموا عني واصبروا على ما نزل بكم ولا يكثر عليكم من أحدق بكم فإن اشد ما تخافون منه القتل والموت منية خالد في سبيل الله وإني والله اهديت نفسي للقتل مرارا لعلي ارزق الشهادة واعلموا رحمكم الله أن حجتنا واضحة ومفوضة إلى الله عز وجل وكأني بكم وقد وصلتم إلى ربكم وسكنتم دارا لا يموت ساكنها ثم قرأ: {لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر:48] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 جبلة يحارب خالدا قال الواقدي: فاجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خالد رضي الله عنه وداروا من حوله وسار عبد الرحمن بن ابي بكر الصديق رضي الله عنه عن يمينه ورافع بن عميرة عن يساره وعبده همام من ورائه وأصحابه محدقون به وسلم خالد البطريق صاحب قنسرين إلى عبده همام وقال اوثقه إلى جانبك ولا تبرح من مكانك وأبشر بالنصر من الله عز وجل. قال الواقدي: واقبلت إليهم العرب المنتصرة يقدمهم جبلة بن الأيهم في عنقه صليب من الذهب الأحمر وفيه طوق من الجوهر وعليه ثياب الديباح المزركش ومن فوقه درع مذهب الزرد وعلى رأسه بيضة من الذهب وعلى أعلاها صليب من الجوهر وفي يده رمح طويل وسنانه يضيء كالقنديل وصاحب عمورية كالبرج المشيد ومن حوله الأعلاج المدلجة وقد أحدق بهم الجيش من كل جانب فلما نظر صاحب عمورية إلى خالد بن الوليد رضي الله عنه وقد ملك صاحب قنسرين وهو في يده اسير خاف أن يعجل عليه خالد فأقبل إلى جبلة وقال له: وحق المسيح ما هؤلاء العرب إلا شياطين إلا ترى إلى هذا العربي ومعه وهم عشرة رجال وقد أحدق بهم هذا الجيش العظيم وما يفكرون فيه وقد ملكوا صاحبنا وهو معهم اسير ولا يخلص من ايديهم وإني خائف عليه أن يقتلوه وهو عزيز عند الملك هرقل فاخرج إلى هذا العربي وقل له يخلي صاحبنا ويوصله إلينا حتى نجود لهم بأنفسهم فإذا اطلقوا صاحبنا حملنا عليهم وقتلناهم عن آخرهم قال رافع ابن عميرة الطائي فبينما نحن وقوف حول خالد بن الوليد رضي الله عنه وجيش الروم والعرب المنتصرة محدقون بنا ونحن لا نفكر في كثرتهم لانا واثقون بالله عز وجل وإذا بجبلة بن الأيهم وهو ينادي برفيع صوته ويقول: من انتم من أصحاب محمد المعروفين من انتم من العرب التابعين اخبرونا من قبل أن ينزل بكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 الدمار فكان المكلم له خالد وبادره بالخطاب وقال له: بل نحن من أصحاب محمد المختار المعروفين بأهل القبلة والإسلام والأكرام والأنعام وأما سؤالك عن انسابنا فنحن الآن من قبائل شتى وقد جعل الله كلمتنا واحدة ونحن مجتمعون عليها وهي قول لا إله إلا الله محمد رسول الله زاده الله تعالى شرفا فلما سمع جبلة كلام خالد بن الوليد غضب غضبا شديدا إذ لم يفكر فيه ولا فيمن معه. فقال جبلة يا فتى أنت أمير هؤلاء العرب فقال خالد: لست أميرهم بل اخوهم في الإسلام وهم اخواني المؤمنون فقال جبلة من أنت من أصحاب محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم فقال خالدا أنا المعروف بكبش بني مخزوم أنا خالد بن الوليد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا الرجل الذي عن يميني هو عبد الرحمن بن ابي بكر الصديق رضي الله عنه وهذا الذي عن شمالي من أهل اليمن من كرام طيء وهو رافع بن عميرة الطائي صهري وفؤادي وذلك إني أخذت من كل قبيلة شجاعها المعروف وبطلها الموصوف فلا تزدر بقتلنا ولا تفرح بكثرتهم فما انتم في القتال إلا كطيور وقع عليها صائدها وهي كامنة في اوكارها فألقى القانص الشبكة عليها فما انفلت منها إلا النجيب. قال الواقدي: فزاد غضب جبلة من كلام خالد وقال له: ستعلم أن كلامك عليك ميشوم إذا دارت بك الاسنة وبقيت أنت ومن معك طعاما للوحوش في هذه الفلاة تمزقكم بكرة وعشيا فقال له خالد: ذلك لا يكثر علينا وهو سهل لدينا فأنت من العرب التي قد نسبت لعبادة الصليب فقال أنا سيد بني غسان ومن ملوك همدان أنا ملك غسان وتاجها أنا جبلة بن الأيهم فقال أنت المرتد عن دين الإسلام ومن اختار الضلالة على الهدى وسلك سبيل الغي وصل وغوى فقال جبلة لست كذلك أنا الذي اخترت العز على الذل والهوان فقال خالد: فانك على ذل نفسك حريص وإنما الكرامة غدا في دار البقاء والبعد عن دار الشقاء فقال جبلة: يا اخا بني مخزوم لا تفرط علينا في المقال فإنما بقائي عليك وعلى أصحابك بسبب هذا الأسير الذي في يدك لاني اخاف أن حملت عليكم قتلته وهو معظم عند الملك هرقل وقريب عنده في النسب فأطلقه من يدك حتى أجود عليكم بأنفسكم فقال خالد: أما اسيري فلا اطلقه من يدي حتى اقتله ولا أبالي لما صنع بي بعده وأما قولك تحمل علي وعلى من معي بهذه الجموع فما انصفت في المقال فإذا أردت النصفة في القتال فجمعكم عظيم وعددكم كثير ونحن عشرة رجال وقد فارس وهذا اميركم فإن قتلتمونا فقد خلصتم اسيركم وأن اظفرنا الله أحدقت بنا اعنت خيولكم واسنة رماحكم وطيال سيوفكم فابرزوا فارسا بكم وما النصر إلا من عند الله فما يعظم عليكم هلاك اسيركم إذا هلكت أنفسكم قبله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 قال الواقدي: فعند ذلك نكس جبلة راسه واقبل يحدث صاحب عمورية بجواب خالد بن الوليد رضي الله عنه فغضب صاحب عمورية غضبا شديدا وانتضى سيفه فلما نظر خالد بن الوليد إلى البطريق وقد جرد سيفه علم إنه يريد القتال فلما هم صاحب عمورية بالحملة امسكه جبلة ومنعه عن الحملة واوقفه تحت صليبه واقبل جبلة على خالد بن الوليد وقال: يا اخا بني مخزوم أن الحرب كما ذكرت تحتمل النصفة وهؤلاء بنوا الأصفر اعلاج الروم غنم ما يعرفون النصفة في البراز وقد حدثتهم بحديثك معي وقد رضوا منك بالمبارزة فمن أراد منكم المبارزة فليبرز قال رافع بن عميرة الطائي فعزم خالد بن الوليد أن يبرز فمنعه عبد الرحمن بن ابي بكر الصديق رضي الله عنه وقال: يا أبا سليمان وحق القبر الذي ضم اعضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وحق شيبة ابي بكر الصديق رضي الله عنه لا يبرز لهؤلاء القوم غيري وابذل المجهود فيهم فلعلي الحق بأبي بكر الصديق فتركه خالد وقال اخرج شكر الله مقالك وعرف لك مفالك قال فخرج عبد الرحمن ابن ابي بكر الصديق رضي الله عنه وهو على فرس كان لعمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان دفعه له من قسمة غنيمة وقعة اجنادين وكان الجواد من خيل بني لخم وجذام من العرب المتنصرة وكان كالطود العظيم وعبد الرحمن غارقا في الحديد والزرد النضيد وبيده قناة تامة الطول فجال عبد الرحمن بجواده بين عساكر الروم والعرب المتنصرة ودعاهم إلى القتال والبراز والنزال وقال دونكم والقتال فأنا ابن الصديق ثم جعل يقول: أنا ابن عبد الله ذي المعالي ... والشرف الفاضل ذي الكمال أبي المجيد الصادق المقال ... أدين هذا الدين بالفعال ثم طلب البراز قال رافع بن عميرة فخرج إليه خمسة فوارس من شجعان الروم فما كان يجول عبد الرحمن على الفارس إلا جولة واحدة فيصرعه قتيلا فلما قتل الخمسة فوارس توقفوا عنه فهم بالحملة على عسكر الروم فخرج إليه جبلة بن الأيهم وقد اشتد به الغضب فلما قرب من عبد الرحمن قال له: يا غلام قد تعديت علينا في فعالك وبغيت علينا في قتالك فقال عبد الرحمن وكيف ذلك وما البغي من شيمتنا قال جبلة لانك قد ملأت الأرض من قتلانا وما خرجت إليك اقاتلك لانك لست لي كفؤا في القتال وإنما خرجت إليك لأن رجلا من أصحابك قد خرج يعينك وليس هذا من شيم الأشراف والانصاف قال فلما سمع عبد الرحمن كلام جبلة تبسم وقال: يا ابن الأبهم تريد أن تخدعني وأنا تربية الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقد شهدت معه الوقائع والقتال فقال جبلة: لست مخادعا وما قلت إلا حقا فقال عبد الرحمن فأخرج بإزاء من خرج معي فارسا من قومك أن كنت صادقا في مقالتك واحمل على علي فاني كفء كريم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 قال الواقدي: فلما نظر جبلة بن الأيهم إلى عبد الرحمن وانه لا يؤتي من قبل الخداع والحيل قال هل لك يا غلام أن تلقي بيدك إلينا واغمسك في ماء المعمودية غمسة تخرج منها نقيا من الذنوب كما خرجت من بطن أمك وتكون من حزب الصليب والإنجيل وتأكل القربان وتأخذ الجائزة العظيمة من الملك هرقل وازوجك ابنتي واقاسمك نعمتي واتفضل عليك باكرامي وانعامي وأنا الذي مدحني شاعر نبيكم حيث يقول: أن ابن جفنة من بقية معشر ... لم تغذهم آباؤهم باللوم باللوم يعطي الجزيل ولا يراه بأنه ... إلا كبعض عطية المذموم لم ينسني بالشام إذ هو بارح ... يوما ولا متنصرا بالروم أن جئته يوما تقر بمنزل ... تسقي براحته من الخرطوم فأسرع إلى ما عرضته عليك لتنجو من المهالك وتكون في النعم والعيش السليم فقال عبد الرحمن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يا ويلك يا ابن اللئام أتدعوني من الهدى إلى الضلال ومن الإيمان إلى الكفر والجهالة وأنا ممن وقر الإيمان في قلبه وعرف رشده من غيه وصدق نبي الله وابغض من كفر بالله فدونك والقتال ودع عنك الخديعة والمحال وتقدم إلى ما عزمت عليه حتى أضربك ضربة أعجل بها حمامك وارغم بها انفك وتستريح العرب من أن تنسب إليك لانك كافر بالرحمن وعابد للصلبان قال فغضب ج 4 بلة من كلام عبد الرحمن جعل عليه وهم به ورفع رمحه يريد أن يطعنه فزاع عبدلارحمن من الطعنة وحمل على جبلة حملة عظيمة وتطاعنا بالرماح حتى كل عبد الرحمن من حمل قناته فرماها من يده وانتضى سيفه وتعاركا في الحرب فهجم عبد الرحمن على جبلة وضرب رمحه فبراه فرمى جبلة باقي الرمح من يده وانتضى سيفه من غمده وكان من سيوف كندة من بقايا كأنه صاعقة بارقة ما ضرب به شيءا إلا براه وحمل على عبد الرحمن رضي الله عنه حملة عظيمة قال رافع بن عميرة الطائي: فعجبنا والله من عبد الرحمن وصبره على قتال جبلة ومنازلته على صغر سنه وقلة أعوانه ثم التقيا بضربتين واصلتين فسبقه عبد الرحمن بالضربة فأخذها جبلة من حجفته فقطع الدرق ونزل السيف إلى البيضة فاثنى سيف عبد الرحمن عنها لأنها ذات سقاية عظيمة فجرحه جرحا واضحا اسأل دمه وضربه جبلة ضربة واصلة فقطع ما كان عليه من الزرد والدروع والثياب ووصلت الضربة إلى منكبه فجرحته فلما أحسن عبد الرحمن رضي الله عنه بالضربة قد وصلت إليه ثبت نفسه وارى قرينه كأن الضربة لم تصل وحرك جواده واطلق عنان فرسه حتى لحق بخالد بن الوليد رضي الله عنه وأصحابه فلما وصل إليهم قال له خالد: قد وصل إليك عدو الله بضربته فقال: نعم وأظهر له ضربته وما لحقه فأخذوه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 عن فرسه وسدوا جراحه فقال: يا ابن الصديق أن كان جبلة قد وصل إليك بضربته فوحق بيعة ابيك لافجعنهم في اسيرهم كما فجعوني بك ثم صاح خالد بعبده همام وقال قدم هذا العلج فقدمه بين يديه فضربه بسيفه فأطاح رأسه عن جسده فلما نظرت الروم إلى صاحبهم وقد قتله خالد فجعهم ذلك وغضب جبلة وقال أبيتم إلا الغدر وقتلتم صاحبنا ثم صاح في الروم والعرب المتنصرة وهموا بالحملة ونظر خالد إليهم وقد حملوا على المسلمين فقال لعبده همام قف أنت عند عبد الرحمن فامنع عنه من أراده بسوء ثم قال لأصحابه: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخرج أحد منكم عن صاحبه وكونوا حولي فما اسرع الفرج والنصر من الله عز وجل فوقف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حول خالد بن الوليد رضي الله عنه كما امرهم وما قصدهم إلا من آيس من نفسه وحملت الروم والعرب المتنصرة بأجمعهم وثبت لهم المسلمون الأخيار وعظم بينهم القتال ودارت بهم الأهوال قال ربيعة بن عامر والله لقد كان خالد بن الوليد كلما كثرت الخيل حولنا وازدحمت علينا يتقيها بنفسه ويفرقها بسيفه ولم نزل كذلك حتى أخذنا العطش والظما قال رافع بن عميرة الطائي فلما رايت ذلك قلت لخالد بن الوليد: يا أبا سليمان لقد نزل بنا القضاء فقال والله لقد صدقت يا أبا عميرة لاني نسيت القلنسوة المباركة ولم اصحبها معي. قال الواقدي: وقد عظم عليهم الأمر وعز منهم الصبر وأخذهم الانبهار ورأوا من المشركين الدمار والأرض قد ملئت من قتلى المشركين وهم بين الروم كأنهم أسرى واذ قد نادى بهم مناد وهتف بهم هاتف وهو يقول: خذل الأمن ونصر الخائف أبشروا يا حملة القرآن جاءكم الفرج من الرحمن ونصرتم على عبدة الأوثان هذا وقد بلغت القلوب الحناجر وعملت السيوف البواتر ودارت عليهم الحوافر. قال الواقدي: حدثنا بسرة عن اسحق بن عبد الله قال كنت مع ابي عبيدة رضي الله عنه فبينما نحن في شيرزة وابو عبيدة في مضربه وإذا به قد خرج في بعض الليل من مضربه وهو ينادي النفير النفير يا معشر المسلمين لقد أحيط بفرسان الموحدين قال فأسرعنا إليه من كل جانب ومكان وقلنا له ما نزل بك أيها الأمير فقال الساعة كنت نائما إذ طرقني رسول الله صلى الله عليه وسلم وجرني وقال لي معنفا يا ابن الجراح أتنام عن نصرة القوم الكرام فقم والحق بخالد بن الوليد رضي الله عنه فقد أحاط به القوم اللئام وإنك تلحق به أن شاء الله تعالى رب العالمين. قال الواقدي رحمه الله تعالى: فلما سمع المسلمون قول ابي عبيدة رضي الله عنه تبادروا إلى لبس السلاح والزرد وركبوا خيولهم وساروا يريدون خالدا ومن معه قال فبينما الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه على المقدمة في أوائل الخيل إذ نظر إلى فارس يسرع به جواده وهو أمام الخيل ويكر في سيره كرا فأمر أبو عبيدة رضي الله عنه رجالا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 من المسلمين أن الحقوا به فلم يقدروا على ذلك لسرعة جواده قال فلما كلت الخيل عن ادراكه نظر أبو عبيدة إليه وظن إنه من الملائكة قد ارسله الله امامهم غير إنه نادى به الأمير أبو عبيدة على رسلك أيها الفارس المجد والبطل المكد ارفق بنفسك يرحمك الله فوقف الفارس حين سمع النداء فلما قرب أبو عبيدة من الفارس إذا هي أم تميم زوجة خالد بن الوليد رضي الله عنه فقال لها أبو عبيدة: ما حملت على المسير امامنا فقالت: أيها الأمير إني سمعتك وانت تصيح وتضج بالنداء وتقول أن خالدا أحاطت به الأعداء فقلت أن خالدا ما يخذل أبدا ومعه ذؤابة المصطفى صلى الله عليه وسلم إذ حانت مني التقاتة إلى القلنسوة المباركة وقد نسيها فأخذتها وأسرعت إليه كما ترى فقال أبو عبيدة: لله درك يا أم تميم سيري على بركة الله وعونه قالت أم تميم: كنت في جماعة نسوة من مذحج وغيرهم من نساء العرب والخيل تطير بنا طيرا حتى اشرفنا على الغبرة والقتال ونظرنا الاسنة والصوارم تلوح في القتال كأنها الكواكب وما للمسلمين حس يسمع قالت: فانكرنا ذلك وقلنا أن القوم قد وقع بهم عدوهم فعند ذلك كبر الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه وحمل وحملت المسلمون قال رافع بن عميرة فبينما نحن قد أيسنا من أنفسنا إذ سمعنا التهليل والتكبير فلم تكن إلا ساعة حتى أحاط جيش المسلمين بعسكر الكافرين ووضعوا السيوف من كل جانب وعلت الأصوات وارتفعت الزعقات قال مصعب بن محارب اليشكري فرأيت عبدة الصلبان وهم هاربون ورأيت خالد بن الوليد رضي الله عنه وهو ثابت في سرجه متشوف إلى الأصوات من اين هي وإذا بفارس قد خرج من الغبار وهو يسوق فرسان الروم بين يديه ويهربون منه حتى أزاح من حولنا الكتائب والرجال فأسرع خالد بن الوليد إليه وقال من أنت أيها الفارس الهمام والبطل الضرغام فقالت: أنا زوجتك أم تميم يا أبا سليمان وقد أتيتك بالقلنسوة المباركة التي تنصر بها على أعدائك فخذها إليك فوالله ما نسيتها إلا لهذا الأمر المقدر ثم سلمتها إليه فلمع من ذؤابة رسول الله صلى الله عليه وسلم نور كالبرق الخاطف. قال الواقدي: وعيش عاش فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما وضع خالد القلنسوة على رأسه وحمل على الروم إلا قلب أوائلهم على أواخرهم وحملت المسلمون حملة عظيمة فما كان غير بعيد حتى ولت الروم الأدبار وركنوا إلى الفرار ولم يكن في القوم إلا قتيل وجريح واسير وكان جبلة أول من انهزم والعرب المتنصرة أثره فلما رجع المسلمون من اتباعهم اجتمعوا حول راية الأمير ابي عبيدة رضي الله عنه وأتباعه وسلموا على الأمير أبي عبيدة رضي الله عنه وعن المسلمين وشكروا الله على سلامتهم ونظر أبو عبيدة رضي الله عنه إلى خالد بن الوليد وأصحابه وهم كأنهم قطعة ارجوان فصافحه وهنأه بالسلامة وقال لله درك يا أبا سليمان قد أشفيت الغليل وأرضيت الملك الجليل ثم قال الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه يا معاشر الناس قد رأيت أن نسير من وقتنا هذا ونغير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 على قنسرين والعواصم ونقتل الرجال وننهب الأموال فقال المسلمون: نعم ما رأيت يا أمين الأمة. قال الواقدي: فانتخب أبو عبيدة رضي الله عنه فرسانا فجعلهم في المقدمة عياض بن غانم الاشعري وساروا حتى اشرفوا على قنسرين والعواصم فقال لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: شنوا الغارات فشنوا الغارات عليهم وسبوا الذراري وقتلوا الرجال فلما نظر أهل قنسرين إلى ذلك غلقوا مدينتهم واذعنوا بالصلح وأداء الجزية فأجابهم أبو عبيدة رضي الله عنه إلى ذلك وكتب لهم كتاب الصلح وفرض على كل رأس منهم أربعة دنانير وبذلك أمره عمر بن الخطاب رضي الله عنه. قال الواقدي: لما فتح أبو عبيدة رضي الله عنه قنسرين والعواصم قال لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: اشيروا علي برأيكم رحمكم الله فإن الله تعالى يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} الآية فهل اسير إلى حلب وقلاعها وانطاكية وملوكها وعساكرها او نرجع إلى ورائنا فقالوا: أيها الأمير كيف نرجع إلى حلب وانطاكية وهذه ايام انقضاء الصلح الذي بيننا وبين أهل شيزر وأرمين وحمص وجوسية ولا شك إنهم قد أخذوا الحصار وقووا بلادهم بالأطعمة والرجال ونخاف أن يتغلبوا علينا فيما أخذناه من البلاد ويغيروا علينا لا سيما بعلبك وحصنها فانهم اولو شدة وعديد ونرى من الرأي أنا نرجع إليهم ونقاتلهم فلعل الله عز وجل أن يفتح على ايدينا قال فاستصوب ورجع على طريقه فوجدوا البلاد كما قالوا: قد تحصنت بالعدد والرجال والطعام ولم يكن لابي عبيدة قصد إلا حمص فوجدها قد تحصنت بالعدد والعديد وقد بعث إليها الملك هرقل بطريقا من أهل بيته وكان من أهل الشدة والبأس ومعه جيش عرمرم وكان اسم البطريق هربيس فلما نظر أبو عبيدة إلى ذلك ترك على حمص خالد بن الوليد رضي الله عنه وسار هو إلى بعلبك فلما قرب منها وإذا بقافلة عظيمة فيها جمع من الناس ومعهم البغال والدواب وعليها من انواع التجارات وقد اقبلت من الساحل يريدون بعلبك فلما نظر أبو عبيدة رضي الله عنه إلى سوادها قال لمن حوله من الفرسان ما هذا إلا جمع كثير أمامنا فقالوا: لا علم لنا بذلك فقال علي بخبرهم فسارت الخيل إليهم وأخذت اخبارهم ورجع بعضهم بخبرها والقافلة من قوافل الروم محملة متاعا قال شداد بن عدي وكانت أحمال القافلة أغلبها سكر وكانت لاهل بعلبك فلما سمع أبو عبيدة ذلك قال أن بعلبك لنا حرب وليس بيننا وبينهم عهد فخذوا ما قد ساقه الله إليكم فإنها غنيمة من عند الله. قال الواقدي: فاحتوينا على القافلة وكان فيها أربعمائة حمل من السكر والفستق والتين وغير ذلك وأخذنا أهلها اسارى فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه كفوا عن القتل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 واطلبوا منهم الفداء فابتعناهم أنفسهم بالذهب والفضة والثياب والدواب وصنعنا من السكر العصيدة والفالوذج بالسمن والزيت ودعس المسلمون دعبنا وبتنا حيث حوتنا القافلة فلما اصبح الصباح أمرنا أبو عبيدة رضي الله عنه بالمسير إلى بعلبك والنزول عليها وكان قد هرب قوم من القافلة وأخبروا أهل بعلبك بالقافلة. قال الواقدي: وكان على بعلبك بطريق عظيم يقال له هربيس: وكان شديد البأس شجاع القلب فلما أتاه الخبر بقدوم عساكر المسلمين جمع رجاله وأهل الحرب وأمرهم بلبس السلاح والعدد وخرج بعسكره وجعل يسير وهو يعلم أن الأمير أبا عبيدة رضي الله عنه سائر إليهم بجيوش المسلمين فلما انتصف النهار وتراءى الجمعان وكان هربيس معه سبعة آلاف فارس سوى من اتبعه من سواد بلده ونظر طوالع جيش أبي عبيدة رضي الله عنه ونظر المسلمون إلى ذلك نادوا النفير فعندها تبادرت الفرسان وتقدمت الشجعان وشرعوا رماحهم وجردوا سيوفهم وصف هربيس رجاله وعباهم تعبيئة الحرب فقال له بعض بطارقته: ما الذي تريد أن تصنع مع العرب فقال اقاتلهم لئلا يطمعوا فينا فينزلوا على مدينتنا فقالوا له: الرأي عندي أن لا تقاتل العرب وارجع سالما أنت ورجالك فإن أهل دمشق الشام ما قدروا عليهم ولا ردهم عساكر اجنادين ولا جيوش فسلطين وقد بلغك ما فيه كفاية مما جرى لهم بالأمس مع صاحب قنسرين وصاحب عمورية والعرب المتنصرة وكيف ردهم هؤلاء العرب على أعقابهم منهزمين والصواب إنك تفوز بنفسك وبمن معك وأرجع. فقال هربيس لست أفعل ذلك ولا أنهزم أمام العرب وقد بلغني أن عسكرهم الكبير على حمص مع الأمير ابي عبيدة الذي كان فيها خالد بن الوليد وهذه غنيمة ساقها المسيح لنا فقال ذلك البطريق الناصح أما أنا فلست أبتع رأيك ولا أقاتل العرب ثم لوى عنان فرسه راجعا إلى بعلبك واتبعه خلق كثير من القوم واما هربيس فإنه صف رجاله وزحف يريد القتال فلما نظر أبو عبيدة رضي الله عنه ذلك وإنهم قد عولوا على الحرب صف رجاله وعساكره وقال: أيها الناس اعلموا رحمكم الله تعالى أن الله قد وعدكم وأيدكم بالنصر حتى هزم أكثر هؤلاء القوم وهذه المدينة التي أنتم قاصدون إليها وسط ما فتحتموه من البلاد وأهلها قد أكثروا من الزاد والعدد والقوة فإياكم والعجب وانتصروا وأغزوا أعداء الدين وانصروا الله ينصركم وأعلموا أن الله معكم ثم حمل الأمير أبو عبيدة وحمل المسلمون قال عامر بن ربيعة وعيش عاش فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد المرسلين ما كان بيننا وبينهم إلا جولة الجائل حتى ولوا الأدبار وطلبوا الاسوار ودخل هربيس المدينة مع أصحابه وفيه سبع جراحات فتلقاه الذي أشار عليه لا تقاتل العرب وقال له: وأين غنائم العرب التي غنمتوها فقال هربيس قبحك المسيح أتهزأ بي وقد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 قتلت العرب رجالي وقد جرحت هذه الجراحات فقال له البطريق: ألم أقل لك إنك مهلك نفسك ورجالك. قال الواقدي: ثم أن الأمير أبا عبيدة سار حتى نزل على بعلبك فنظر إلى مدينة هائلة وحصن حصين والقوم قد اغلقوا الأبواب وقد أحرزوا أموالهم ومواشيهم في جوفها واطلع المسلمون على الأموال كأنها الجراد المنتشر قال فلما نظر الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه إلى البلد وتحصينه وامتناعه وكثرة رجاله وشدة برده وذلك إنه بلد لا يزايله البرد في الشتاء والصيف فقال الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه لخواص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما الرأي في ذلك فاجتمع رأيهم على شورى واحدة وهو أن يحاصروا القوم ويضيقوا عليهم فقال معاذ بن جبل رضي الله عنه أصلح الله الأمير إني أعلم أن الروم أزدحم بعضهم ببعض من كثرتهم وأظن أن المدينة لا تسعهم وأن طاولناهم رجونا من الله النصر وأن يفتحها الله على أيدينا فقال الأمير يا ابن جبل من أين علمت أن القوم يتضايقون في مدينتهم فقال: أيها الأمير إني كنت أول من اسرع بجواده قبل واشرفت على هذه المدينة والقلعة البيضاء ورجوت أن نلحق سوابق الخيل فرأيت القوم يدخلون المدينة من جميع الأبواب مثل السيل المنحدر والمدينة مشحونة بأهل السواد والقرى والمواشي ودوابهم فيها وقد ضاقت بهم وهذه اصوات القوم في المدينة كانهم النحل من كثرتهم فقال أبو عبيدة: صدقت يا معاذ ونصحت وايم الله ما عرفتك إلا مبارك الرأي سديد المشورة. قال الواقدي: وبات المسلمون تلك الليلة يحرس بعضهم بعضا إلى الصباح ثم كتب أبو عبيدة رضي الله عنه إلى أهل بعلبك كتابا يقول فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من أمير جيوش المسلمين بالشام وخليفة أمير المؤمنين فيهم أبو عبيدة بن الجراح إلى أهل بعلبك من المخالفين والمعاندين أما بعد فإن الله سبحانه وتعالى وله الحمد أظهر الدين وأعز أولياءه المؤمنين على جنود الكافرين وفتح عليهم البلاد وأذل أهل الفساد وأن كتابنا هذا معذرة بيننا وبينكم وتقدمة إلى كبيركم وصغيركم لانا قوم لا نرى في ديننا البغي وما كنا بالذين نقاتلكم حتى نعلم ما عندكم وأن دخلتم فيما دخل فيه المدن من قبلكم من الصلح والأمان صالحناكم وأن أردتم الذمام ذممناكم وأن ابيتم إلا القتال استعنا عليكم بالله وحاربناكم فأسرعوا بالجواب والسلام على من اتبع الهدى ثم كتب: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [طه:48] وطوى الكتاب وسلمه إلى رجل من المعاهدين وأمره أن يسير به إلى أهل بعلبك ويأتيه بالجواب فأخذ المعاهد الكتاب وأتى به إلى السور وخاطبهم بلغتهم وقال: إني رسول إليكم من هؤلاء العرب فدلوا حبلا فربطه في وسطه وأخذه القوم إليهم وأتوا به إلى بطريقهم هربيس فناوله الكتاب فجمع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 هربيس أهل الحرب والبطارقة وقرأ عليهم كتاب أبي عبيدة رضي الله عنه وقال: أشيروا علي برأيكم فقال له بطريق: من بطارقته وهو صاحب مشورة الرأي. عندي أن لا نقاتل العرب لانا ليس لنا طاقة بقتالهم ومتى صالحناهم كنا في أمن وخصب ودعة كما قد صار أهل أركه وتدمر وحوران وبصرى ودمشق وأن نحن قاتلناهم وأخذونا في الحرب قتلوا رجالنا واستعبدونا وسبوا حريمنا والصلح خير من الحرب فقال هربيس لا رحمك المسيح فما رأيت اجبن منك ولا أقل جلدا يا ويلك كيف تأمرنا أن نسلم مدينتنا إلى أوباش العرب ولا سيما وقد عرفت حربهم وقتالهم واختبرت نزالهم وإني في هذه النوبة لو حملت في ميسرتهم كنت هزمتهم فقال له البطريق: نعم كانت الميسرة والقلب يخافون منك ثم تخاصما وتشاتما وافترق أهل بعلبك فرقتين فرقة يطلبون الصلح وفرقة يطلبون القتال ورمى هربيس الكتاب إلى المعاهد بعد أن مزقه وأمر غلمانه أن يدلوه إلى ظاهر المدينة ففعلوا ذلك ووصل المعاهد إلى عسكر المسلمين وأتى أبا عبيدة رضي الله عنه وحدثه بما كان من القوم وقال: أيها الأمير أن أكثر القوم عولوا على القتال فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه للمسلمين شدوا عليهم واعلموا أن هذه المدينة في وسط اعمالكم وبلادكم فإن بقيت كانت وبالا على من صالحتم ولا تقدرون على سفر ولا على غيره قال: فلبس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم السلاح والعدد ورجعوا إلى الاسوار وعطف أهل بعلبك عليهم وتراموا بالسهام والأحجار وأن هربيس قد نصب كرسيه وسريره على برج من أبراج القلعة من ناحية النملة وقد عصب جراحته ولبس سلاحه ولامته ولبس على رأسه صليبا من الجواهر وحوله البطارقة والديرجانية بالدروع المذهبة والعدد الكاملة وفي اعناقهم صلبان الذهب والجوهر وبأيديهم القسى والسهام قال عامر بن وهب اليشكري شهدت حرب بعلبك وقد زحفت المسلمون إلى سورها قال ونشاب الروم كالجراد المنتشر وكان أناس من العرب بلا سلاح فأصابهم سهام القوم قال: ورأيت القوم يتساقطون علينا من السور تساقط الطير على الحب فذهبت إلى رجل سقط لاضرب عنقه فصاح الغوث الغوث وكنا قد عرفنا من الحرب أن من قال الغوث يعني الأمان فقلت له: يا ويلك لك الأمان فما الذي القاك إلينا من سوركم فجعل يكلمني بالرومية وأنا لا أدري ما يقول: قال عامر ابن وهب اليشكري فسحبته إلى خيمة أبي عبيدة وقلت له: أيها الأمير اطلب من يعرف لغة هذا العلج فاني رايتهم يرمي بعضهم بعضا فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه لمن حضر من المترجمة اخبرنا بخبر هذا العلج وما قضيته ولم يرمي بعضهم بعضا فقال له الترجمان: يا ويلك قد اعطيناك الأمان فاصدقنا في الكلام قل لنا: لم يرمي بعضكم بعضا قال أن بعضنا لا يرمي بعضا ولكنا من أهل والقرى فلما سمعنا بمسيركم ورجوعكم عن أهل قنسرين التجأنا إلى هذه المدينة من جميع الرساتيق لنتحصن فيها لما نعلم من كثرة ما بها من الجيش فضيق بعضنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 على بعض وسددنا طرقات المدينة ومضى بعضنا إلى السور فإذا ليس لنا موضع ناوي إليه ولا مسكن نسكن فيه فجعلنا الأبراج والأسوار مسكنا لنا فلما زحفتم إلى القتال برز إليكم أهل الحرب والنزال من هذه المدينة فجعلوا يدوسوننا بأرجلهم وإذا اشتد الحرب عليهم والقتال يدفع الرجل منهم الرجل منا فيلقيه إليكم. قال الواقدي: فلما سمع الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه ذلك فرح فرحا شديدا وقال ارجو من الله أن يجعلهم غنيمة لنا قال وأخذت الحرب مأخذها وطحنت رجالها وعلا الضجيج وحمى الروم أسوارهم فلم يقدر أحد من المسلمين أن يصل إليها من كثرة السهام والحجارة قال غياث بن عدي الطائي حاربنا أهل بعلبك في أول يوم فأصيب من المسلمين اثنا عشر رجلا وأصيب من الروم على السور خلق كثير من أهل الحرب وغيرهم وانصرف المسلمون إلى رحالهم وما لهم همة إلى الطعام ولا الشراب ولا يريد أحد منا إلا الإصطلاء بالنار من شدة البرد قال فبينما نحن ليلتنا نوقد النار ونتناوب في الحرس إلى الصباح فلما صلينا الفجر نادى مناد من قبل أبي عبيدة رضي الله عنه يقول: عزيمة مني على كل رجل من المسلمين لا يبرز إلى حرب هؤلاء القوم حتى ينفذ إلى رحله ويصلح له طعاما حارا يأكله ليكون بذلك شديدا على لقاء العدو قال فابتدرنا لاصلاح أمورنا فلما نظر أهل بعلبك إلى تأخرنا عن حربهم وقتالهم طمعوا فينا وظنوا أن ذلك فشل منا وعجز فصاح هربيس في الروم وقال اخرجوا لهم بارك المسيح فيكم قال غياث بن عدي فلم يشعر المسلمون إلا والأبواب قد فتحت والخيل والرجال قد طلعت إلينا كالجراد المنتشر قال وكان بعضنا قد مد يده إلى الطعام وبعضنا ينضج له القرص وإذا بمناد ينادي يا خيل الله اركبي وللجهاد تأهبي فدونكم والقوم قبل أن يدهموكم قال حمدان بن اسيد الحضرمي وكان لي قرص خبزته وقدمت شيئا من الزيت لاجعله ادامى للقرص وإذا بالمنادي ينادي النفير النفير قال فوالله ما راعني ذلك حتى أخذت قطعة وغمستها في الزيت وهويت بها إلى فمي سمعت النفير فقمت مسرعا وركبت جوادي عريانا من دهشتي لسرعة الإجابة وضربت يدي على عمود من أعمدة الخيام وحملت على القوم فوالله ما شعرت بما صنعت ولا عقلت: على نفسي حتى صرت في الروم فجعلت أحطمهم حطما واهبرهم بالسيف هبرا قال: فنظرت إلى خيل الروم متفرقة والأمير أبو عبيدة قد نصب رايته والناس يهرعون إليها وأن أبا عبيدة رضي الله عنه ينادي برفيع صوته اليوم يوم له ما بعده قال ونظر أبو عبيدة إلى شدة ضرب الروم وصبرهم على قتال المسلمين فحمل عليهم بالخيل العربية وأحاط بالروم من كل جانب ومكان وكان في جملة خيله عمرو بن معد يكرب الزبيدي وعبد الرحمن بن ابي بكر الصديق رضي الله عنه وربيعة بن عامر ومالك بن الاشتر وضرار بن الأزور رضي الله عنه وذو الكلاع الحميري فلله درهم فلقد قاتلوا قتالا شديدا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 وابلوا بلاء حسنا فلما نظرت الروم إلى فعلهم رجعوا إلى أعقابهم طالبين الاسوار وغلقوا الأبواب ورجع المسلمون إلى عسكرهم وأضرموا نيرانهم ودفنوا من استشهد منهم وأقبلت رؤساء المسلمين إلى الأمير أبي عبيدة رضي الله عنه وقالوا: أيها الأمير ما الذي قد عزمت عليه وما عندك من الرأي يرحمك الله فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه اعلموا أن من الرأي أن نتأخر عن المدينة مقدار شوط فرسخ ليكون ذلك مجالا نحيلكم ومنعة لحريمكم والنصر من عند الله تعالى. ثم دعا أبو عبيدة رضي الله عنه بسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وعقد له راية وامره على خمسمائة فارس وثلثمائة راجل وأمرهم أن يهبطوا إلى الوادي وأن يقاتلوا القوم على الأبواب وأن يشغلوهم عن المسلمين ثم دعا ضرار بن الأزور وعقد له راية وأمره على خمسمائة فارس ومائة راجل سرحه إلى باب الشام وقال: يا بن الأزور اظهر شجاعتك على بني الأصفر فقاتل من هناك من الروم فقال حبا وكرامة قال ومضت كل فرقة إلى جهة من الجهات فلما أصبح الصباح فتحت الروم الأبواب وخرجوا في خلق كثير إلى أن تكاملوا حول بطريقهم هربيس فقال لهم البطريق: اعلموا يا معاشر النصرانية أن أهل هذا الدين من قبلكم قد فشلوا عن قتال هؤلاء العرب وعجزوا عن قتالهم ونزالهم فقالوا: أيها السيد طب نفسا وقر عينا فانا كنا نخاف من العرب قبل أن نختبرهم ونعلم قتالهم وقد علمنا إنهم إذا لاقوا حربنا لم يكونوا أصبر منا على الحرب لأن أحدهم يلقي الحرب وعليه ثوب خلق خام أو فروة خلقة ونحن علينا الدروع والزرد وقد وهبنا أنفسنا للمسيح. قال الواقدي: فلما نظر أبو عبيدة إلى كثرتهم نادى برفيع صوته يا معاشر المسلمين لا تفشلوا فتذهب ريحكم واصبروا أن الله مع الصابرين قال وأن الروم داخلهم الخوف لما كانوا قد نالوه من غرة المسلمين بالأمس فحملوا حملة عظيمة قال سهل بن صباح العبسي شهدت قتال أهل بعلبك وقد خرج إلينا أهلها في اليوم الثاني وهم أطمع مما كانوا في اليوم الأول وقد حملوا علينا حملة عظيمة شديدة منكرة وكنت في ذاك اليوم اصابني جرح في عضدي الإيمن وما أطيق أن أحرك يدي ولا أحمل سيفا فترجلت عن جوادي وجريت بين أصحابي وقلت في نفسي: إذا قصدني أحد من هؤلاء الأعلاج لم يكن لي غنى ادفع عن نفسي فطلعت إلى ذروة الجبل فعلوته واشرفت على العسكرين وجعلت انظر إلى حربهم وقتالهم وقد طمعت الروم في العرب والمسلمون ينادون بالنصر وأبو عبيدة يدعو لهم بالنصر والتحمت القبائل وافتخرت العشائر قال سهل بن صباح وأنا على الجبل من وراء حجر انظر إلى ضرب السيوف على البيض والحجف والشرر يطير من شعاعها وقد التقى الفريقان واختلط الجمعان فقلت في نفسي: ويحي وما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 عسى أن ينفع المسلمين مقام سعيد بن زيد وضرار بن الأزور على الأبواب والأمير أبو عبيدة في مثل هذا الحرب وإنهم والله على وجل أن ينكشفوا من عظم شدتهم وحربهم وهول ما يلقونه قال فأسرعت إلى جراثيم الشجر فجعلت أكسرها وأعبي الحطب بعضه على بعض وعمدت إلى زناد كان معي فأوقدت النار واضرمتها فيه وعبيت عليه حطبا اخضر ويابسا حتى علا منه دخان عظيم وكانت علامتنا إذا أردنا أن يجتمع بعضنا إلى بعض بأرض الشام في الليل وقود النار واثارة الدخان قال فما هو إلا أن علا الدخان وتصاعد إلى الافق حتى نظراليه سعيد بن زيد وأصحابه وضرار بن الأزور وأصحابه فنادى بعضهم بعضا الحقوا الأمير أبا عبيدة رحمكم الله فإن هذا الدخان ما هو إلا من شيء عظيم والصواب أن نكون بخيلنا في موضع واحد فأسرعوا بخيلهم وساروا حتى أشرفوا على المسلمين وهم في شدة الحرب وأعظم الكرب وقد بلغت القلوب الحناجر وعملت السيوف البواتر وإذا بمناد هتف بهم يا حملة القرآن جاءكم النصر من الرحمن ونصرتم على عبدة الصلبان وإذا قد اشرف عليهم سعيد بن زيد وضرار بن الأزور في أوائل خيلهم وقد شرعا سنانهما وحملا في الروم وقد أيقن الروم إنهم الغالبون إذ ظهرت عليهم رايات المسلمين وكتائب المواحدين فالتفتوا ينظرون ما الخبر وإذا بالمسلمين من ورائهم وقد حالوا بينهم وبين مدينتهم فنادوا بالويل والخراب وظنوا إنه قد أتى للمسلمين نجدة ومدد وقد غرر بهم البطريق فلما نظر البطريق إلى تبلدهم زعق فيهم وقال: يا ويلكم لا ترجعوا إلى المدينة قد حيل بينكم وبينها وهذه مكيدة من مكايد العرب فلما سمعت الروم ذلك أحاطوا ببطريقهم كالحلقة المستديرة يحمي بعضهم بعضا فعدل بهم البطريق نحو الجبل ذات الشمال وكان سعيد بن زيد وضرار بن الأزور قد اقبلا بجيشهما عن يمين الحصن وشماله فحملوا عليهم واتبعوا آثارهم حتى طلعوا إلى الجبل والتجأت الروم إلى ضيعة في الجبل حصينة خالية من أهلها فاستند الروم إليها وتحصنوا فيها وتبعهم سعيد بن زيد في الخمسمائة فارس الذين كانوا معه وذلك أن الأمير أبا عبيدة رضي الله عنه لما نظر إلى هزيمة الروم نادى في المسلمين معاشر الناس لا يتبعهم أحد ولا يفترق جمعكم لاني اخشى أن تكون هزيمة القوم مكيدة لكم حتى إذا تفرق جمعكم زحفوا عليكم قال وأن سعيد بن زيد لم يكن يسمع النداء ولو سمع النداء ما تبع القوم. قال الواقدي: لما تحصنت الروم في الضيعة قال سعيد بن زيد هذه طائفة قد أراد الله هلاكها فدوروا بهم وحاصروا في كل مكان ولا تدعوا أحدا يطلع رأسه إلى أن تلحق بكم المسلمون ويأتي إليكم أمر من الأمير أبي عبيدة ثم اقبل إلى رجل من عظماء المسلمين وقال له: اخلفني في قومي حتى انظر رأى الأمير ابي عبيدة ومن معه ثم أخذ معه زهاء من عشرين فارسا من أصحابه وسار حتى لحق بجيش المسلمين فلما نظر إليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 الأمير أبو عبيدة ومن معه قال: يا سعيد اين رجالك وما صنعت بهم قال ابشر أيها الأمير فإن المسلمين في خير وسلامة وقد حاصروا اعداء الله في ضيعة في هذا الجبل ثم اخبره بالقصة من اولها إلى آخرها فقال أبو عبيدة: الحمد لله الذي هزمهم عن اوطانهم وجعلهم اشتاتا ثم اقبل أبو عبيدة على سعيد بن زيد وعلى ضرار بن الأزور وقال لهما ما هذه المخالفة رحمكم الله الم آمركم بالإقامة على أبواب المدينة والمشاغلة للقوم فما الذي ردكم الي وقد ارعبتم قلبي وقلب من كان معي وظننت أن أهل المدينة كادوكم وهو الذي منعنا أن نتبع المنهزمين فقال سعيد بن زيد أيها الأمير والله ما عصيت لك امرا ولا خالفتك في قول وإني قد وقفت حيث أمرتني إذ رأينا دخانا قد علا قتامه ولاح لنا بيانه فقلنا والله ما هذه إلا داهية من دواهي الروم أو نفير قد استدعانا به المسلمون فأسرعنا نحوك فعندما نادى الأمير أبو عبيدة في المسلمين معاشر الناس ايكم اوقد نارا أو دخن دخانا في هذا الجبل فليجب الأمير أبا عبيدة قال سهل بن صباح فلما سمعت النداء اجبت المنادي وأتيت الأمير أبا عبيدة فقال: ما الذي جراك على ذلك فقصصت عليه قصتي فقال أبو عبيدة: لقد وفقك الله تعالى إلى الجنة فإياك بعدها أن تحدث حديثا من غير اذن أميرك. قال الواقدي: فبينما الأمير كذلك يحدث سهل بن صباح وإذا برجل من المسلمين منحدر من الجبل وهو ينادي النفير النفير يا امة البشير النذير ادركوا اخوانكم المسلمين فقد أحاط بهم الروم وهم في اشد ما يكون من القتال وانه قد دنا البطريق من المسليمن ونادى بأصحابه ورجاله وقال: يا عباد المسيح إليكم هذه الشرذمة اليسيرة والعصابة الحقيرة التي قد أحاطت بكم فاقتلوهم وادخلوا المدينة فانكم أن قتلتم القوم كسرتم بذلك حدة العرب وانصرفوا عنكم قال مصعب بن عدي وكنت في بعلبك من أصحاب سعيد بن زيد وقد جعلنا محاصرين البطريق والروم في الضيعة ونحن دون الخمسمائة رجل فما شعرنا إلا والبطريق والروم قد تبادروا إلينا من كل مكان فنادى بعضنا عضا واجتمعنا قال والله لقد كبوا علينا الخيل واحاطوا بنا بعد ما كنا أحطنا بهم وكان شعارنا في ذلك اليوم الصبر الصبر قال فبينما نحن كذلك في اشد الحرب واعظم الكرب إذ سمعنا صوتا عاليا قد ملأ الجبل ومناديا ينادي ويقول: أما من رجل يهب نفسه في الله ويسنفر المسلمين فانهم بالقرب منا ولا يعلمون ما نزل بنا قال مصعب بن عدي فلما سمعت الصوت همزت جوادي بكعبي وكان جواد عتيقا يسبق الريح الهبوب او الماء إذ انسكب من ضيق الأنبوب وكأنه الطود العظيم والله لقد خرج من تحتي كأنه البرق ولم تلحق منه الروم إلا الغبار بعد ما قتلت منهم رجلين ولقد نظرت إلى فرسي وهو يشب الصخرة ويسلك الوعرة حتى اشرفت على عساكر المسلمين فناديت النفير النفير يا أمة البشير النذير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 فلما سمع أبو عبيدة ذلك صاح بالرماة فأجابه خمسمائة رام من أصحاب القسي العربية فضمهم إلى سعيد بن زيد وقال له: اسرع يرحمك الله والحق بأصحابك قبل أن يأتي العدو إليهم ثم نادى بضرار بن الأزور وأصحابه وقال له: أدرك أخاك سعيد بن زيد قال فسار المسلمون مثل الجراد المنتشر حتى علوا على قلة الجبل واشرفوا على الروم وهم محدقون بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أبو زيد بن ورقة بن عامر الزبيدي وكنت ممن شهد القتال على الضيعة مع أصحاب سعيد بن زيد وقد أحاطت بنا الروم وقد صبرنا لهم صبر الكرام وقد صرع منا سبعون رجلا مابين جريح وقتيل ونحن في اشد ما يكون من القتال والجراح وقد طمعت الروم فينا حتى سمعنا التهليل والتكبير ولحقنا النفير فلما اشرفت علينا راية المسلمين رجعت الروم على أعقابهم مدبرين إلى الضيعة راجعين ولحقنا من تأخر منهم وكثر فيهم القتل والجراح لكثرتهم وتحصن القوم في الضيعة فأحطنا بهم من كل جانب وما تركنا منهم أحدا يخرج رأسه من كثرة النبل وورد الخبر إلى الأمير ابي عبيدة رضي الله عنه بمن استشهد من المسلمين ومن قتل من الكافرين وأن القوم قد لزمهم الحصار وأن لا زاد عندهم ولا ماء فقال أبو عبيدة: الحمد لله ثم قال للمسلمين معاشر الناس ارجعوا إلى أموالكم واضربوا خيامكم حول المدينة فإن الله عز وجل كاد عدوكم وهو منجز لنا ما وعدنا من نصره قال فعندنا رجع المسلمون إلى أموالهم ومواضعهم التي كانوا فيها أول مرة وضربوا خيامهم وانفذوا طوالعهم وارسلوا إلى المرعى خيولهم وابلهم وسرحوا إلى الحطب عبيدهم واضرموا النيران في عسكرهم وذهب منهم الخوف وأتاهم الأمان وأن أهل بعلبك افترقوا على السور وجعلوا يضربون على وجوههم ويصيحون بلغتهم فقال الأمير أبو عبيدة لبعض التراجمة ما يقول: هؤلاء فقال له الترجمان: أيها الأمير إنهم يقولون يا ويلهم ويا عظم ما أصابهم ويا خراب ديارهم ويا فناء رجالهم حتى ظفرت العرب ببلادهم. قال الواقدي: فلما دنا المساء ارسل الأمير أبو عبيدة إلى سعيد بن زيد يقول له: يا بن زيد الحذر الحذر على من معك من المسلمين واجتهد رحمك الله أن لا يفوتك من الروم أحد ولا تفسح لهم قدما واحدا فيخرج منهم واحدا فيتبع اولهم آخرهم فتكون كمن حصل في يده شيء فاضاعه فلما وصل الرسول إلى سعيد بن زيد بهذه الرسالة أمر المسلمين أن يحيطوا بالضيعة من كل جانب وأن لا يخرجوا إلى الحطب إلا مائة بالسلاح ففعلوا ذلك واضرموا نيرانهم وباتوا طول ليلتهم يهللون ويكبرون وبالضيعة يطوفون فلما نظر البطريق هربيس إلى ذلك اقبل على أصحابه ورجاله وقال لهم: يا ويلكم لقد ايسنا من التدبير وأخطأنا الرأي وما لنا مدد ولا نجدة ولا نصير ولو اجتهدنا لما اجتهدت العرب على أن يحبسونا في هذه الضيعة والآن قد حبسنا أنفسنا في. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 حبس ليس فيه طعام ولا شراب وأن دام علينا هذا يوما ثانيا أو ثالثا ضعف قوينا ومات ضعيفنا وبطلت حيلتنا وسلمنا أنفسنا كارهين فنقتل عن آخرنا فقالت البطارقة: فما الذي ترى أيها السيد فقال قد رأيت من الرأي أن اخدع العرب واحتال عليهم واسألهم الصلح لنا ولاهل مدينتنا كما قد طلبوا وأضمن أن افتح لهم المدينة ونكون في ذمامهم فإذا دخلنا المدينة حاربناهم على سورنا ولعلنا نرسل إلى صاحب عين الجوز والى صاحب جوسية فلعلهما يقدمان إلى نصرتنا فيكونان لقتال العرب من خارج المدينة ونحن من اعلى الاسوار ويكفينا المسيح هذه النوبة. فقالت البطارقة: اعلم أيها السيد أن صاحب جوسية لا يجيبك إلى نجدة ابدا لانه مشتغل بنفسه وربما يكون محاصرا مثل حصارنا هذا فلقد بلغنا قبل نزول هؤلاء العرب علينا إنهم صالحوهم القدرة وألقوه أن يقاتلوا العرب واما أصحاب عين الجوز فانهم في تجارتهم متفرقون في اقصى الشام وما اظن إلا إنهم في صلح العرب فانظر لنفسك ورعيتك ما فيه الصلاح فلما سمع البطريق هربيس قولهم اجابهم إلى ذلك فلما اصبح الصباح طلع البطريق على جدار الضيعة ونادى برفيع صوته يا معاشر العرب أما فيكم رجل يعرف كلامي أنا هربيس البطريق فلما سمعه بعض التراجمة اقبل على سعيد بن زيد وقال له: يا مولاي أن هذا العلج هو هربيس صاحب القوم وهو يستدعي كلامك فقال له سعيد بن زيد: ادن منه وانظر ماذا يريد وما يقول: قال فدنا الترجمان منه فقال له: ما الذي تريد قال أريد أن يؤمنني أميركم هذا في ذمامه وذمام أصحابه ويدنو مني حتى أخاطبه بما يعود صلاحه على الفريقين فقال الترجمان ذلك لسعيد بن زيد فقال سعيد بن زيد لا كرامة له حتى أدنو منه وأمشي إليه حتى يخاطبني فإن كان له حاجة فليأت الي خاضعا ذليلا صاغرا حتى أسمع كلامه وأعلم مراده قال فأعلم الترجمان هربيس بكلام سعيد بن زيد فقال هربيس فكيف انزل إليه وأنا محارب له فأنا اخاف أن يقتلني فقال له الترجمان: أنا أخذ لك منه الذمام فإن العرب لا تخون إذا أمنت فقال البطريق: نعم قد تناهت إلينا أخبارهم ولكني أريد أن استوثق لنفسي ولأصحابي واهل بلدي لانهم قوم قد لحقهم الحقد علينا وقد اصبنا منهم دما كثيرا وإني أريد أن ارسل له شخصا يأخذ لي منه أمانا فقال الترجمان أنا أعرفه ذلك ثم اقبل الترجمان على سعيد بن زيد وقال له: إن البطريق هربيس يريد أن يوجه إليك رجلا من أصحابه يأخذ له منك أمانا فقال سعيد بن زيد دعه يوجه من يريد وأعلمه أن رسوله منا في أمان حتى يرجع إليه قال فأعلمه الترجمان بذلك فأقبل البطريق على رجل من عظماء أصحابه وقال له: ترى ما قد نزل بنا وكيف قد ملك العرب علينا الطريق وأن بلاد الشام قد أذن المسيح بخرابها وقد نصرت العرب علينا وأنا في شدة شديدة وأن لم نأخذ من القوم الأمان وإلا هلكنا وهلكت خيلنا وبعد ذلك يتحكمون في اولادنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 وحريمنا ويقتسمون أموالنا وذرارينا وليس لنا نجدة لأن كل بلدة مشتغل بنفسه عن نصرتنا فأنزل إلى هؤلاء العرب وخذ لنا منهم أمانا واستوثق لنا منهم حتى أنزل أنا إليهم فلعلنا نجري بينهم صلحا ولعلي أمكر بهم حتى نرجع إلى المدينة ولعلي ارغب صاحبهم في شيء من المال فلعله يرغب وينصرف عنا إلى أن نرى ما يكون بينهم وبين الملك هرقل. قال الواقدي: فنزل الرجل ووقف أمام الأمير سعيد بن زيد وهم الرجل أن يسجد له فمنعه من ذلك وتبادرت إليه المسلمون فأمسكوه ففزع الرجل وقال لم تمنعوني أن أعظم صاحبكم فقال الترجمان ذلك لسعيد بن زيد فقال انما أنا وهو عبدان لله تعالى ولا يجوز السجود والتعظيم إلا لله الملك المعبود القديم فقال الرجل بهذا نصرتم علينا وعلى غيرنا من الأمم فقال سعيد بن زيد فما الذي جاء بك قال جئت لآخذ منك أمانا لبطريقنا أن لا تنقض لنا عهدا فقال سعيد بن زيد ليس من اخلاق الأمراء ومن يقود الجيوش أن يغدر بعد الأمان ولسنا بحمدالله ممن ينقض عهدا وقد أعطيت صاحبك أمانا ولمن معه ممن القى السلاح وخرج يطلب الأمان مستسلما فقال الرجل نريد منك الأمان ومن أميرك وممن معك فقال سعيد لكم ذلك فعند ذلك رجع الرجل إلى البطريق وأعلمه بجواب سعيد وقال له: اخرج وإياكم والغدر فإنه يهلك صاحبه وأن هؤلاء العرب لا يخونون أمانهم وعهدهم. قال الواقدي: ولقد بلغني أن البطريق هربيس خلع ما كان عليه من الثياب والديباج والقى السلاح ولبس ثياب الصوف وخرج حافيا حاسرا ذليلا ومعه رجال من قومه حتى وقف بين يدي سعيد بن زيد فخر سعيد لله ساجدا وقال: الحمد لله الذي أزال عنا الجبابرة وملكنا بطارقتهم وملوكهم ثم اقبل عليه وقال له: ادن مني فدنا إلى أن جلس إلى جانبه وقال له: أهذا لباسك دائما أم غيرته فقال: لا وحق المسيح والقربان ما لبست الصوف ابدا غير الحرير والديباج وما لبست هذا إلا في وقتي هذا فاني ما أريد حربكم ولا قتالكم ثم قال لسعيد هل لك أن تصالحني على أصحابي هؤلاء وعلى أهل المدينة ومن فيها فقال سعيد أما أصحابك هؤلاء فاني أوفيهم على شرط أن من دخل في ديننا فله ما لنا ومن اختار الإقامة على دينه والقى السلاح كان آمنا من القتل وعليه العهد إنه لا يحمل علينا سلاحا ولا يكون لنا حربا ابدا واما المدينة فالأمير أبو عبيدة عليها وقد فتحها أن شاء الله تعالى ثم قال: أن أحببت أن تسير معي إلى أبي عبيدة حتى يسمع كلامك وتصالح عن قومك فسر وانت في ذمامي فإن اتفق بينكما الأمر وإلا رددتك إلى موضعك هذا ومن أراد الرجوع معك من رجالك إلى أن يحكم الله وهو خير الحاكمين فقال البطريق أنا أفعل ذلك فعندها دعا سعيد بن زيد سعد بن ابي وقاص بن عوف العدوى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 وقال: يا ابن أبي وقاص كن بشيرا للأمير أبي عبيدة بما سمعت واسرع بالجواب قال فأسرع ابن أبي وقاص بن عوف وركب جواده وكان حصانا شديد العدو وجعل يسير سيرا حثيثا حتى اشرف على الأمير أبي عبيدة رضي الله عنه ووقف بين يديه وسلم عليه وقال: أصلح الله تعالى شأن الأمير أبشرك بأن البطريق هربيس قد أخذ الأمان من سعيد بن زيد وهو يريد أن يقبل به عليك يسألك الصلح والأمان له ولاهل مدينته فلما سمع الأمير ذلك سجد لله شكرا ورفع رأسه وقال: أيها الناس تقدموا الآن إلى قتال أهل المدينة وأظهروا أسلحتكم عليها وكبروا تكبيرة واحدة لكي ترعبوا بها القوم قال ففعل المسلمون ذلك فارتجت المدينة وفزع أهل بعلبك وتداعوا للقتال وأحاط المسلمون بالمدينة من كل جانب وكان أول من سبق إلى المدينة واعطاهم خبر البطريق المرقال ابن عتبة وقال حصنوا أنفسكم وأولادكم وأموالكم بالصلح فإن ابيتم ذلك فقد وعدنا الله تبارك وتعالى على لسان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أن يفتح لنا بلادكم وأمصاركم وغيرها وأن الله تعالى منجز أمره فلما سمع أهل بعلبك ذلك فزعوا فزعا شديدا واغبرت وجوههم ورعبت قلوبهم وكلت من الحرب أيديهم وقالوا: أهلكنا البطريق وأهلك نفسه ولو كنا صالحنا العرب من قبل أن يوجد بنا هذا الحصار لكان خير لنا قال وشدد المسلمون عليهم القتال. قال الواقدي: فلما علم أبو عبيدة أن نيران الحرب قد اضرمت على المدينة أرسل إلى سعيد بن زيد يقول له: أسرع بالبطريق إلينا وله الأمان الذي أمنت أنت فنحن لا ننقض لك عهدا فلما ورد رسول أبي عبيدة على سعيد بن زيد استخلف على الضيعة رجلا من أصحابه وسار سعيد مع البطريق حتى وردا على الأمير أبي عبيدة رضي الله عنه فلما وقف البطريق بين يديه ونظر إلى زيه وزي من معه وشهد قتالهم وعظم ما تلقى المدينة من حربهم وقتالهم حرك البطريق رأسه وعض على أنامله فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه لترجمانه ما لهذا يحرك رأسه ويعض أنامله كأنه يتأسف على شيء فاته قال فأعلمه الترجمان بذلك فأقبل على الترجمان وقال له: وحق المسيح وما مسح وحق البيعة والمذبح لقد ظننت إنكم أكثر عددا من الحصى وأكثر مددا ولقد كان يخيل لنا عند حربكم وشدة ما نلقى منكم إنكم على عدد الحصى والرمل من كثرتكم ولقد كنا نرى خيلا شهبا وعليها رجال وبأيديهم رايات صفر وعليهم ثياب خضر فلما صرت بينكم لم أر من ذلك شيئا وما أراكم إلا في قلة عدد وما ادري ما فعل جمعكم أبعثتموه إلى عين الجوز او إلى جوسيه أو مكان آخر فأخبر الأمير الترجمان بذلك فقال أبو عبيدة: للترجمان قل له: يا ويلك نحن معاشر المسلمين يكثرنا الله تعالى في أعين المشركين ويمدنا بالملائكة كما فعل بنا يوم بدر وبذلك فتح الله تعالى بلادكم وحصونكم علينا وأذل ملوككم فلما سمع البطريق كلام أبي عبيدة رضي الله عنه على لسان الترجمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 قال: لقد وطئتم الشام الذي عجزت عنه ملوك الفرس والترك والجرامقة وما ظننا أن يكون ذلك ابدا وأما مدينتنا فهي حصينة لا تعبأ بالحصار لانها مدينة ليس بالشام مثلها بناها سليمان بن داود عليهما السلام لنفسه وعملها دار مقامه وخزانة لملكه ولولا ما سبق من تفريطنا وخروجنا عنها إليكم وانحرافنا عنها ما صالحناكم ابدا ولا هالنا حربكم ولو اقمتم علينا مائة سنة والان فقد كان ذلك فهل لكم أن تصالحونا حتى نصالحكم فتعدل فينا فهو اقرب رشدا لنا ولكم فوحق المسيح والإنجيل الصحيح لئن فتحنا لكم هذه المدينة لا يصعب عليكم في الشام حصن ولا مدينة قال فلما أخبر الترجمان الأمير أبا عبيدة رضي الله عنه بما قاله قال أبو عبيدة للترجمان: قل له: الحمد لله تعالى الذي ملكنا أرضكم ودياركم فلا بد أن تؤدوا الجزية وقد ظننت لنفسك أمانا كاذبا حتى أراك الله الذل والصغار بعد العز والإقتدار ولا بد لنا أن نملك مدينتكم أن شاء الله تعالى ونقتل الرجال ونأسر الأبطال فمن أراد حربنا وقتالنا فلا يدخل في صلحنا أبدا ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فقال البطريق لما سمع ذلك على لسان الترجمان لقد تيقنت أن المسيح قد غضب على أهل هذه المدينة إذ بعث بكم إليها وملككم عليها وقد اجتهدت في حربكم ومكرت بكم وما نفع مكرى واجتهادي لانكم قوم مسلطون وإنما طلبت منكم السلم وألقيت يدي في أيديكم بعد جهد مني لا شفقة مني على نفسي ولا بقاء مني على ملكي ولكن أردت صلاح البلاد لأن الله تعالى لا يحب الفساد والان فهل لكم أن تصالحوا على المدينة وما فيها وعلى أصحابي هؤلاء فقال له الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه: فما الذي تبذل لنا في صلحك قال له البطريق: أيها الأمير انظر ما الذي تريد فقال الأمير أبو عبيدة لو أن الله فتح على المسلمين من الصلح على هذه المدينة بملئها ذهبا وفضة ما كان أحب الي من سفك دم رجل واحد لكن الله تعالى اعطى الشهداء في الآخرة أكثر من ذلك فقال البطريق أنا أصالحكم على ألف أوقية من الفضة البيضاء وألف ثوب من الديباج. قال الواقدي: فتبسم الأمير أبو عبيدة من كلامه واقبل على المسلمين وقال لهم: أما تسمعون ما يقول: هذا البطريق قالوا: نعم قال فما رأيكم فيما شرط على نفسه فقالوا: يزيد عليه وشرطه يرضينا فأقبل الأمير على البطريق وقال له: أنا أصالحكم على ألفي أوقية من الذهب الأحمر وألفي أوقية من الفضة البيضاء وألفي ثوب من الديباج وخمسة آلاف سيف من مدينتكم وسلاح أصحابك الذين هم في الضيعة محاصرون ولنا عليكم خراج أرضكم في العام الآتي واداء الجزية في كل عام وأنتم بعد ذلك لا تحملون علينا سلاحا ولا تكاتبون ملكا ولا تحدثون حدثا ولا كنيسة وترون النصح للمسلمين فلما سمع البطريق ذلك من شرط الأمير أبي عبيدة رضي الله عنه قال لك ذلك كله علينا إلا إني أريد أن أشرط عليك وعلى أصحابك شرطا فقال له الأمير أبو عبيدة: وما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 شرطك فقال: لا يدخل إلينا من أصحابك أحد وتنزل صاحبك الذي تستخلفه علينا خارج المدينة بأصحابه ويكون له الخراج والجزية وتدعني أنا من داخل المدينة من قبل الإصلاح بين الناس والنظر في أحوالهم ونحن نخرج إلى من تخلفه علينا من أصحابك سوقا يكون فيه من جميع ما في مدينتنا ولا يدخلون إلينا مخافة أن يغلظوا بكلامهم على كبرائنا ويفسد الأمر بيننا وبينكم ويكون سببا للغدر ونقض العهد قال أبو عبيدة: فإذا صالحناكم نجاهد عدوكم لانكم تصيرون في ذمتنا ويكون الرجل الذي نخلفه عليكم مثل الواسطة والسفير بيننا وبينكم قال البطريق هربيس يكون خارج المدينة ويفعل ما يشاء أن يفعله من المحاماة فقال أبو عبيدة: لكم ذلك وما لنا في الدخول إلى مدينتكم من حاجة فقال البطريق تم الصلح على ذلك ثم سار البطريق إلى المدينة وأبو عبيدة معه فلما وصل إلى الباب حسر البطريق عن رأسه ورطن عليهم بلغه الروم فعرفوه عند ذلك فقالوا له: وأين أصحابك ورجالك فقص عليهم قصته وأخبرهم بخبره وخبر أصحابه وأعلمهم بالصلح فبكى القوم وقالوا: تلفت النفوس وذهبت الأموال فقال لهم البطريق: يا قوم وحق المسيح ما صالحتم ولي وجه غير الصلح فقالوا له: اذهب أنت وصالح عن نفسك وأما نحن فلن نصالح العرب أبدا ولن ندع أحدا منهم يملكنا ولا يدخل بلادنا ومدينتنا وهي أحصن مدينة في الشام وكان الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه قد أعلم المسلمين بمصالحة البطريق وأمرهم أن يكفوا عن القتال والحرب فلما سمع الترجمان كلام أهل بعلبك لبطريقهم أخبر الأمير أبا عبيدة رضي الله عنه بذلك فأقبل البطريق فقال له أبو عبيدة: هات ما عندك وإلا نرد الحرب كما كان فقال البطريق دعني والقوم فوحق الإنجيل الصحيح وعيسى المسيح لو لم يقبلوا مني لادخلنك بالكثرة إليهم فتضع السيف فيهم وتقتل رجالهم وتسبي نساءهم وتنهب أموالهم لاني خبير بعورات بلدهم وبطرقاتها قال أبو عبيدة رضي الله عنه: ما شاء الله كان قال وكان الروم على سورهم يسمعون كلام البطريق لابي عبيدة رضي الله عنه فدخل الرعب في قلوبهم فعند ذلك اقبل البطريق على الروم وقال لهم: ما تقولون في صلح العرب فاني اسير في أيديهم ورجالهم وبنو عمكم في قبضتهم فإن لم تصالحوا العرب وإلا يقاتلونا جميعا ويرجعوا إليكم من بعدنا. فقالوا: أيها السيد أنا لا نطيق هذا المال فقالوا: يا ويلكم علي وحدي ربع ما طلبوا فطابت قلوبهم بذلك وقالوا: أنا لا نفتح الباب إلا لك وحدك ولا يدخل معك أحد من العرب حتى نصلح مدينتنا ونرفع رحالنا ونخفي حريمنا فقال البطريق ويحكم فإني قد صالحت القوم على أن لا يدخل مدينتكم أحد منهم وأن الرجل الذي يخلفونه عليكم يكون هو وأصحابه خارج المدينة وتخرجون إليه سوقا يتسوقون منه قال ففرحت الروم بذلك وفتحوا له الباب فدخل إليهم وبعث الأمير أبو عبيدة إلى سعيد بن زيد أن يخلي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 عن الرجال الذين هم في الضيعة يحاصرون فخلى سعيد بن زيد سبيلهم وجاء بهم عند الأمير ابي عبيدة وأخذ سلاحهم وتركهم عنده رهائن على المال الذي عندهم لانه خاف أن تركهم أن يرجعوا إلى المدينة ويغدروا بالمسلمين فتركهم عنده في عساكره هذا والبطريق في المدينة يجبي المال بعد اثني عشر يوما وهم مع ذلك يحملون إلى عسكر المسلمين الزاد والميرة والعلوفة حتى كملت الأموال والثياب والسلاح وحملها البطريق إلى ابي عبيدة رضي الله عنه وقال له: تسلم الأموال على ما وافقتك عليه وخل عن الرجال وانظر إلى من تخلفه علينا من أصحابك فأحضره لنا حتى نشرط عيله بحضرتك أن لا يجوز علينا ولا يطالبنا بما لا نطيق ولا يدخل مدينتا قال فدعا أو عبيدة برجل من سادات قريش اسمه رافع ابن عبد الله السهمي وقال له: يا رافع بن عبد الله استعملتك على هذه المدينة وضم إليك خمسمائة فارس من بني عمك وعشيرتك وأربعمائة فارس من اخلاط المسلمين وإني آمرك بما أمرك الله به فاتق الله حق تقاته ولا تكن إلا من الولاة العادلين وإياك والظلم والجور فتحشر مع الظالمين واعلم أن الله تعالى سائلك عنهم ومطالبك بما تصنع بغير الحق واعلم إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أن الله تبارك وتعالى أوحي إلى موسى بن عمران عليه السلام أن يا موسى لا تظلم عبادي أخرب بيتك من نفسك" فأقم الأرصاد في أطراف البلاد فانك بين أعدائك وبعد هذا ما عرفتك إلا استيقاظا وأحذرك من السواحل وشن الغارة عليهم ولتكن غارتك في المائة والمائتين ولا تمكن أحدا من المدينة يختلط بأصحابك في غارة حتى يطمع عدوكم فيه وأحسن معاملة من ساعدك وأصلح بينهم وأمرهم بالعدل وكن بينهم كأحدهم وأمر أصحابك ومن معك أن يكفوا أيديهم عن الفساد والظلم للرعية والله تعالى خليفتي عليك والسلام عليك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 ذكر حديث نزول المسلمين على حمص قال الواقدي: ثم هم أبو عبيدة رضي الله عنه بالرحيل إلى حمص واذ قد ورد عليه صاحب عين الجوز يطلب منه الصلح فصالحه على نصف ما صالحه عليه أهل بعلبك وولى عليهم سالم بن ذؤيب السلمي وأوصاه بمثل ما أوصي به رافع بن عبد الله ورحل الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه يطلب حمص فلما وصل إلى بين الرأس والكفيلة لاقاه صاحب الجوسية ومعه هدية كثيرة فقبلها منه وجدد معه صلحا وسار الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه حتى نزل على حمص. قال الواقدي: حدثنا حبان بن تميم الثقفي قال كنت فيمن اقام مع رافع بن عبد الله السهمي في جملة أصحابه وذلك اننا نصبنا بيوت الشعر على العمد واقمنا خارج المدينة لا يدخل إليها أحد منا ونحن مع ذلك نشن الغارة على سواحل الروم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 ونكبس على العرب التي لم تكن في صلحنا وكنا إذا خرجنا في سرية نبيع الغنائم في بعلبك ففرح أهلها ببيعنا وشرائنا ووجدونا قوما ليس فينا كذب ولا خيانة ولانريد ظلم أحد وطابت قلوبهم وربحوا في تلك المدة اليسيرة مالا عظيما فلما نظر البطريق هربيس إلى ما ربح أهل بعلبك منا في تجارتهم ورخص ما يشترونه منا جمعهم إليه في كنيسة المدينة وهي الجامع اليوم وكان ذلك بميعاد وعدهم فيه الاجتماع فلما اجتمعوا عنده اقبل عليهم وقال للتجار والباعة والسوقة لقد علمتم إني قد اجتهدت في أموركم واحرصت على سلامة نفوسكم واهاليكم واولادكم وانتم تعلمون ما ذهب مني من المال وأنا اليوم واحد منكم وقد سلمت مالي وسلاحي وقتل أكثر غلماني ورجالي وبنو عمي وأنتم قوم قد أصبتم مع هؤلاء العرب خيرا كثيرا في هذه التجارات وقد أديت وحدي ربع المال فقالوا: صدقت أيها البطريق وقد عرفنا كل ما وصفت فما الذي تريد الآن فقال: يا قوم انما كنت قبل هذا اليوم بطريقكم وأنا اليوم واحد منكم وأريد أن تردوا علي بعض ما بذلت من المال للعرب فقالوا: أيها البطريق وإني لك بذلك فقال البطريق يا قوم الست أكلفكم أن تخرجوا من أموالكم ولا مما حوته منازلكم شيئا وإنما أريد أن تجعلوا في هذه البيوع والأشربة العشر مما تأخذون وتعطون قال فاضطرب القوم اضطرابا شديدا لذلك وعظم عليهم واقبل بعضهم على بعض وقالوا: يا قوم هذا رجل منا وصاحب ملكنا وقد اجتهد في امورنا وحامى بماله ونفسه عنا وما عسى يصيب منا في مالنا قال فأجابوه إلى ذلك وجعلوا له عليهم العشر فنصب عليهم من قبله عشارا يأخذ منهم أعشارهم ويجمعها ويحملها إليه فأقام على ذلك أربعين يوما فلما نظر هربيس إلى كثرة ما قد اجتمع له من المال العشر قال أنا أعلم أن هذه المدينة في كسب عظيم وتجارة رابحة ما رأى أهل بعلبك مثل هذا أبدا ثم جمعهم في الكنيسة مرة ثانية وقال لهم: يا قوم قد علمتم ما بذلت من المال على صلحكم وهذا الذي تعطوني إياه من العشر ليس يحزنني فإن أردتم أن تردوا علي مالي وتجعلوني كأحدكم فاجعلوا إلى الربع في أموالكم حتى يرجع الي مالي سريعا وإلا فمتى أخلف من هذا العشر مالي وسلاحي وغلماني. قال الواقدي: فأبى القوم وضجوا عليه واشهروا عددهم ووقفوا في الطريق بغلمانه فقطعوهم اربا اربا وارتفع ضجيجهم فجزع المسلمون لذلك وهم لا يعلمون بالقصة فاجتمعوا إلى أميرهم رافع بن عبد الله السهمي وقالوا: أيها الأمير أما تسمع اصوات هؤلاء القوم في مدينتهم فقال: يا قوم قد سمعت كما سمعتم فما عسى أن أصنع بهم ولا يحل لنا الدخول إليهم وبهذا جرى الشرط بيننا وبينهم ونحن أحق بمن أوفى بعهد الله تعالى فإن هم خرجوا إلينا وأعلمونا بأمرهم صالحنا بينهم ونظرنا في أمورهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 قال الواقدي: فما استتم الأمير رافع بن عبد الله كلامه حتى خرج أهل بعلبك يهرعون إليه فلما وقفوا بين يديه قالوا: أنا بالله وبك أيها الأمير ثم اعلموه بقصتهم وما فعل البطريق بهم أول مرة وما فعل بهم ثاني مرة قال رافع بن عبد الله أنا لا نمكنه من ذلك فقالوا: أيها الأمير أنا قد قتلناه وجميع غلمانه فصعب ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم رافع: فما الذين تريدون فقالوا: نريد أن تدخلوا إلى المدينة فإنا قدأطلقنا لكم الدخول إليها فقال رافع بن عبد الله أنا لا أقدر أن ادخل المدينة إلا باذن الأمير أبي عبيدة لانه ما أذن لي بذلك ثم كتب رافع بن عبد الله إلى الأمير ابي عبيدة يعلمه بالقصة وبحديث البطريق وبحديثهم الذي قالوه فكتب له بالدخول إلى المدينة كما قد أذنوا له فدخل رافع وأصحابه. قال الواقدي: حدثنا موسى بن عامر قال حدثنا يونس بن عبد الله قال حدثنا سالم بن عدي عن جده عبد الرحمن بن مسلم الربيعي وكان ممن حضر فتوح الشام اوله وآخره قال لما فتح الله بعلبك على يد المسلمين وترك أبو عبيدة رافع بن عبد الله وتوجه إلى حمص للحوق بخالد بن الوليد فلما قرب من حمص موضع يقال له الزراعة: وجه على مقدمة جيشه ميسرة بن مسروق العبسي وعقد له راية سوداء معلمة بالبياض وضم إليه خمسة آلاف فارس من المسلمين فلما سار ميسرة حتى وصل إلى حمص خرج خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى لقائه وسلم عليه وعلى من معه من المسلمين ثم بعث أبو عبيدة بعده ضرار بن الأزور في خمسة آلاف فارس وبعث بعده عمرو بن معد يكرب الزبيدي وقدم أبو عبيدة رضي الله عنه ببقية الجيش فلما اشرف أبو عبيدة على حمص قال اللهم عجل علينا فتحها وأخذل من فيها من المشركين واستقبلهم المسلمون فلما استقر به القرار كتب إلى أهل حمص وبطريقها الجديد وهو هربيس كتابا يقول فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من أبي عبيدة عامل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه على الشام وقائد جيوشه أما بعد فإن الله تعالى قد فتح علينا بلادكم ولا يغرنكم عظم مدينتكم وتشييد بنيانكم وكثرة رجالكم فما مدينتكم عندنا إذا أتاكم الحرب إلا كالبرمة قد نصبناها في وسط عسكرنا والقينا اللحم فيها وجميع العساكر يتوقع الأكل منها وقد داروا بها ينتظرون نضجها واكل ما فيها ونحن ندعوكم إلى دين ارتضاه لنا ربنا عز وجل فإن اجبتم إلى ذلك ارتحلنا عنكم وخلفنا عندكم رجالا منا يعلمونكم أمر دينكم وما فرض الله تعالى عليكم وأن أبيتم الإسلام قررناكم على اداء الجزية وأن أبيتم الإسلام والجزية فهلموا إلى الحرب والقتال حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين ثم طوى الكتاب وسلمه إلى رجل من المعاهدين وكان ذلك الرجل يحفظ بالعربية والرومية وقال له: انطلق إلى حمص وائتنا بالجواب فأخذ المعاهد الكتاب وسار حتى وصل إلى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 السور فهم أهل حمص أن يرموه بالسهام والحجارة فقال لهم بالرومية: يا قوم أمسكوا عليكم فأنا رجل معاهد وقد جئتكم بكتاب من هؤلاء العرب. قال الواقدي: فدلوا له حبلا فربط وسطه به وشالوه إليهم وأتوا به إلى بطريقهم فلما وقف بين يديه خضع له وناوله الكتاب فقال له البطريق: ارجعت عن دينك إلى دين هؤلاء العرب قال: لا ولكن في ذمتهم وعهدتهم أنا واولادي وأهلي ومالي وما رأينا من القوم إلا خيرا والصواب عندي أن لا تقاتلوهم فإن القوم اولو بأس شديد لا يخافون ولا يرهبون الموت قد تمسكوا بدينهم والموت عندهم أفضل من الحياة وقد اقسم بدينهم لا يبرحون عن مدينتكم حتى تسلموها إليهم أو يفتحها الله على أيديهم وحق ديني إنكم أحب الي من العرب وأريد النصر لكم دون القوم ولكني خائف عليكم من بأسهم وسطوتهم فسلموا تسلموا ولا تخالفوا تندموا. قال الواقدي: فلما سمع البطريق هربيس كلامه غضب غضبا شديدا وقال وحق المسيح والإنجيل الصحيح لولا إنك رسول لامرت بقطع لسانك على جراءتك علينا فلما قرأ الكتاب وعلم ما فيه أمر كاتبه أن يكتب إلى الأمير أبي عبيدة بجواب كتابه فكتب كلمة الكفر ثم قال: يا معاشر العرب إنه وصل إلينا كتابكم وعلمنا ما فيه من التهديد والوعد والوعيد ولسنا كمن لاقيتم من أهل الشام ولم يزل الملك هرقل يستنصر بنا على من عاداه وعلى من قصد إليه من العساكر والآن فلا بد لنا من الحرب والقتال فإن سورنا شديد وأبوابنا حديد وحربنا عتيد والسلام وطوى الكتاب وسلمه إلى المعاهد وأمر غلمانه أن يدلوه بالحبال من السور وسار حتى وصل إلى الأمير أبي عبيدة وسلمه الكتاب ففضه وقرأه فلما سمع المسلمون ما فيه عولوا على الحرب والقتال وقسم الأمير أبو عبيدة عسكر المسلمين أربع فرق فبعث فرقة مع المسيب بن نجية الفزاري فنزل بهم على باب الجبل مما يلي باب الصغير وبعث فرقة أخرى مع المرقال بن هشام بن عقبة بن أبي وقاص فنزل بهم على باب الرستق وبعث فرقة أخرى مع يزيد بن أبي سفيان فنزل على باب الشام ونزل الأمير أبو عبيدة وخالد بن الوليد على باب الصغير وزحف المسلمون إليهم من كل مكان وقاتلوهم بقية يومهم هذا وسهام الروم تصل إليهم فيتلقونها بالحجف ونبال العرب تصل إليهم والى من بأعلى السور فأثرت لاجل ذلك ضرا فانفضوا عند المساء فلما كان الغد جمع خالد بن الوليد كل عبد كان في عسكر المسلمين وأمرهم أن يتقلدوا بالسيوف ويتنكبوا بالحدف ويزحفوا إلى سور حمص ويضربوا السور بأسيافهم ويتلقوا السهام بحجفهم فقال الأمير أبو عبيدة وما عسى أن يغني عنا هذا يا أبا سليمان فقال خالد رضي الله عنه: على رسلك أيها الأمير ولا تخالفني فيما صنعت فاني عزمت أن أقاتلهم بالعبيد ونعلمهم أن ليس لهم عندنا من القدر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 شيء فما نقاتلهم بأنفسنا إلا أن يخرجوا إلينا فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه: افعل ما شئت فالله تعالى يوفقك فعند ذلك أمرهم خالد بن الوليد رضي الله عنه بالزحف على الأسوار وكانوا أربعة آلاف عبد وأمر خالد الفا من العرب أن تترجل معهم ففعلوا ذلك وزحفوا على السور وقد استتروا بالحجف والعرب من ورائهم فرموا بالنبل وضربوا بسيوفهم فمنها ما تثلم ومنها ما إنكسر. قال الواقدي: واشرف عليهم هربيس صاحب حمص وقد دارت بطارقته وأصحاب الرتب فجعلوا يتأملون إلى أفعالهم فقال هربيس يا معاشر البطارقة وحق المسيح ما ظننت أن العرب بهذه الصفة وإذا هم كلهم سودان فقال له بعض من لحقه بأجنادين وسائر المواطن: لا أيها السيد بل هؤلاء عبيدهم وهذه من بعض مكايد العرب في الحرب وقد قدم هؤلاء السودان والعبيد إلى حربنا وقتالهم معنا وأن ليس لنا عندهم من القدر أن يلقونا بأنفسهم أو نخرج إليهم فقال هربيس وحق المسيح أن هؤلاء أشد من العرب بأسا وأقوى مراسا واعلموا إنه ما لزق قوم بسور مدينتنا ولا دنوا منها إلا وقد هان عليهم أمرها واقترب على ايديهم فتحها. قال الواقدي: ولقد بلغني أن العبيد قاتلوا يومهم قتالا شديدا وهجموا على الأبواب مرارا ولم يزالوا بقية يومهم حتى اقبل الليل ورجعت الموالي إلى عسكر المسلمين وبعث هربيس من ليلته رسولا إلى الأمير أبي عبيدة رضي الله عنه فأقبل الرسول والظلام معتكر فأحس جيوش المسلمين به فهموا به فقال أنا رسول من البطريق هربيس صاحب حمص وأريد الجواب عن هذا الكتاب فسلم إليهم كتاب هربيس فأخذه أبو عبيدة رضي الله عنه وقرأه فإذا فيه يا معاشر العرب أنا ظننا أن عندكم عقلا تدبرون به الحرب وتستعينون به على الأمور وإذا انتم بخلاف ذلك لانكم في أول حربكم لنا تفرقتم على الأبواب فقلنا هذا اشد ما يكون من الحصار وأعظم ما يقدرون عليه من الأضرار. فلما كان الغد تأخرتم عن حربنا وبعثتم هؤلاء المساكين إلى حربنا يقطعون أسيافهم ويكسرون سلاحهم فيا ليت شعري هل تصبر سوفهم على فساد سورنا وقد بان لنا عجز رايكم وتدبيركم في القتال وملاقاة الرجال والآن فأنا اشير عليكم بأمر فيه الصلاح لنا ولكم وهو أن تسيروا إلى الملك هرقل وتفتحوا ما بين أيديكم كما فتحتم ما وراءكم وإياكم واللجاج والبغي فانهما قاتلان لمن أتبعهما وراجعان على من بدأ بهما أو نحن نخرج إليكم صبيحة هذه الليلة والله ينصر من يشاء منا ومنكم ممن على الحق قال فلما قرأ الأمير أبو عبيدة كتاب هربيس صاحب حمص استشار المسلمين فيما يصنع وكان قد حضر عنده رجل كبير من أكابر خثعم وسيد من ساداتهم اسمه عطاء بن عمرو الخثعمي وكان كبير السن قديم الهجرة سديد الرأي قد قاد الرجال وولى أمر الجيش وحزم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 العساكر فلما سمع كتاب هربيس وثب قائما على قدميه وقال للأمير أبي عبيدة رضي الله عنه اقسمت عليك أيها الأمير برسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما سمعت مقالي فإن فيه صلاحا للمسلمين فالله وفقني لمقالة أريد المسلمين بها قال أبو عبيدة رضي الله عنه: قل: يا أبا عمرو فأنت عندنا ناصح للمسلمين قال فدنا من الأمير ابي عبيدة وسارره وقال له: اصلح الله الأمير اعلم أن خبرك عند هؤلاء منذ نزلت على هؤلاء اللئام وهذا البطريق اشد منعة واعظم جولة ممن كان قبله وقد علم بفتوح بعلبك وإنك لا بد أن تنزل على حصارها وقد استدعى بالطعام والعلوفة وآلة الحصار وقد شحنا بالرجال وما ترك في رساتيقها وقراها طعاما إلا وقد خزنوه عندهم ما يكفيهم أعواما وأن نحن حاصرناهم يطول الأمر كما طال أمرنا على دمشق والرأي عندي أن تخدعهم بخديعة وتحتال عليهم بحيلة فإن تمت لنا عليهم الحيلة فتحنا المدينة عن قريب أن شاء الله تعالى قال أبو عبيدة رضي الله عنه: وما الحيلة عندك يا ابن عمرو فقال الرأي عندي أن نكتب إلى هولاء القوم أن يجبرونا بالزاد والعلوفة ونضمن لهم أن نرتحل عنهم إلى أن يفتح الله تعالى عليك غير مدينتهم ونرجع إليهم وقد قل: زادهم وانتشروا في سوادهم وتفرقوا في امصارهم وتجاراتهم ونشن عليهم غارة فنملك ما ظهر منهم ويهون عليك أمر من بقي في حمص مع قلة الزاد والعلوفة فقال أبو عبيدة: اصبت بالرأي يا ابن عمرو إني سوف افعل ما ذكرته ونرجوا من الله التوفيق والعون. ثم دعا أبو عبيدة رضي الله عنه بدواة وبياض وكتب جواب الكتاب يقول فيه: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فاني رأيت في قولك صلاحا لنا ولكم ولسنا نريد البغي على أحد من عباد الله عز وجل وقد علمت أن عسكرنا كثير وخيلنا وابلنا كثير فإن أردتم أن نرتحل عنكم فابعثوا لنا ميرة خمسة ايام وانتم تعلمون أن الطريق الذي امامنا بعيد وما نلقي بعدكم إلا كل حصن منيع وابواب حديد فإذا مونتمونا رحلنا عنكم إلى بعض مدائن الشام فإذا فتح الله علينا بعض مدائن الشام رجعنا عنكم كما زعمتم فإن فعلتم ذلك كان صلاحا لكم وطوى الكتاب وسلمه إلى الرسول وسار إلى حمص فلما قرأ هربيس الكتاب فرح بذلك وجمع الرؤساء والرهابين وقال لهم: اعلموا أن العرب قد بعثوا يطلبون منكم الزاد والميرة حتى يرحلوا عنكم فإن العرب مثلهم كمثل السبع إذا وجد فريسته لم يرجع إلى غيرها وهم قد لحقهم الجوع في مدينتكم وإذا اشبعناهم انصرفوا عنا فقالوا: أيها الأمير نخاف من العرب أن يأخذوا الزاد والعلوفة ولا يرحلوا عنا فقال أنا نأخذ لكم عليهم العهود والمواثيق إنكم إذا امرتموهم يرحلون عنكم فقالوا: افعل ما بدا لك واستوثق لنا ولك قال فبعث هربيس واحضر القسوس والرهبان وامرهم أن يخرجوا إلى الأمير أبي عبيدة رضي الله عنه ويأخذوا عليهم العهود والمواثيق إذا أمرناهم يرحلون عنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 قال فخرجوا وقد فتح لهم باب الرستن فساروا حتى وصلوا إلى الأمير ابي عبيدةة وأخذوا عليهم ميثاقا وعهدا أن يرحلوا عنهم إذا هم ماروهم ولا يرجع عليهم حتى يفتح الله على يديه مدينة من مدائن الشام شرقا او غربا سهلا كان او جبلا فقال الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه قد رضيت بذلك وتم الصلح على ذلك وأخرج لهم أهل حمص مما كانوا قد ادخروه من الزاد والعلوفة شيئا عظيما له ولعسكره ما يكفيهم مدة خمسة أيام فأقبل أبو عبيدة عليهم وقال: يا أهل حمص قبلنا ما حملتموه لنا من الزاد والعلوفة فإذا رأيتم الآن أن تبيعوا من الزاد والعلوفة فقالوا: نحن نفعل ذلك فعندها نادى الأمير أبو عبيدة بشراء الزاد والعلوفة ولتكثروا من ذلك فإن قدامكم طريقا واسعا قليل الزاد والعلوفة فقالوا: أيها الأمير بماذا نشتري الزاد وعلى أي شي نحمله فقال أبو عبيدة: من كان معه شيء من الذي غنمتموه من الروم فليشتر به الزاد والعلوفة قال حسان بن عدي الغطفاني خفف الله عن أبي عبيدة الحساب كما خفف عنا ما كنا نحمله من البسط والطنافس مما كان قد أثقلنا واثقل دوابنا فأخذنا به الزاد والعلوفة من القوم وكانت العرب تسمح لهم في البيع والشراء ويشتري منهم أهل حمص ما يساوي عشرين دينارا بدينارين ورغب أهل حمص في شراء الرخيص ولم يزل أهل حمص كذلك ثلاثة أيام وأهل حمص فرحون برحيل العرب عنهم قال وكان للروم في عسكر العرب جواسيس وعيون يأخذون لهم الأخبار فلما نظرت الجواسيس إلى أهل حمص وقد فتحوا مدينتهم وهم يميرون العرب ظنوا إنهم دخلوا في طاعتهم فسارت الجواسيس إلى انطاكية طالبين وجعلوا كلما اجتازوا ببلد من البلد أو حصن من الحصون يقولون أن أهل حمص قد دخلوا في طاعة العرب وفتحوا مدينتهم صلحا فكان يعظم ذلك على الروم ويزيدهم خوفا ورعبا وكان ذلك توفيقا من الله عز وجل للمسلمين وكانت الجواسيس أربعين رجلا فدخل ثلاثة رجال منهم إلى شيزر فأشاعوا ذلك وأشيع فيها ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 ذكر فتح الرستن قال الواقدي: وسار الأمير أبو عبيدة بالعسكر حتى نزل على الرستن فرآها حصنا منيعا وماؤها غزير وهي مشحونة بالرجال والعدد العديد فبعث إليهم رسولا يأمرهم أن يكونوا في ذمته فأبوا ذلك وقالوا: لا نفعل حتى نرى ما يكون من أمركم مع الملك هرقل وبعد ذلك يكون ما شاء الله تعالى فقال الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه فانا متوجهون إلى قتال الملك هرقل ومعنا رجال وامتعة وقد أثقلتنا واشتهينا أن نودعها عندكم إلى وقت رجوعنا قال فأتى أهل الرستن إلى بطريقهم وكان اسمه نقيطاس وشاوروه في ذلك فقال: يا قوم ما زالت الملوك والعساكر يودع بعضهم بعضا وما يضرنا ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 ثم بعث إلى الأمير أبي عبيدة يقول له: مهما كان لك من حاجة فنحن نقضيها ونريد منكم المراعاة لاهل سوادنا حتى نرى ما يكون من امركم مع الملك هرقل فقال الأمير أبو عبيدة ونحن نفعل أن شاء الله تعالى. قال الواقدي: عن ثابت بن قيس بن علقمة قال كنت ممن حضر عند ابي عبيدة رضي الله عنه فعند ذلك دعا أهل الرأي والمشورة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لهم: أن هذا حصن شديد منيع ليس لنا إلى فتحه سبيل إلا بالحيلة والخديعة وأريد أن أجعل منكم عشرين رجلا في عشرين صندوقا وتكون الأقفال عندهم من باطنها فإذا صاروا في المدينة فثوروا على اسم الله تعالى فانكم تنصرون على من فيها من المشركين فقال خالد بن الوليد: فإذا عزمت على ذلك فلتكن الأقفال ظاهرة ويكون اسفل الصناديق انثى في ذكر من غير شيء يمسكها فإذا حل أصحابنا في حصن من هؤلاء القوم يخرجون جملة واحدة ويكبرون فإن النصر مقرون بالتكبير فأجابه أبو عبيدة إلى ذلك وأخذ صناديق الطعام المنتخبة عند الروم ففض أسافلها وجعلها ذكرا في انثى فأول من دخل في الصناديق ضرار بن الأزور والمسيب أبن نجيبة وذو الكلاع الحميري وعمرو بن معد يكرب الزبيدي والمرقال وهاشم بن نجعة وقيس بن هبيرة وعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق ومالك بن الاشتر وعوف بن سالم وصابر بن كلكل ومازن بن عامر والأصيد بن سلمة وربيعة بن عامر وعكرمة بن أبي جهل وعتبة بن العاص ودارم بن فياض العبسي وسلمة بن حبيب والفازع بن حرملة ونوفل بن جرعل وجندب بن سيف وعبد الله بن جعفر الطيار وجعله أميرا عليهم وسلموا الصناديق إلى الروم فلما حطت الصناديق في الرستن القاها نقيطاس في قصر امارته وارتحل الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه وسار حتى نزل في قرية يقال لها: السودية فلما أظلم الليل بعث خالد بن الوليد رضي الله عنه بجيش الزحف إلى الرستن ينظر ما يكون من أصحابه وما فعلت الصحابة رضي الله عنه فسار خالد بن الوليد برجاله حتى وصل القنطرة وإذا بالصياح قد علا والتهليل والتكبير من داخل مدينة الرستن. قال الواقدي: كان من أمر الصحابة إنه لما تركهم نقيطاس في دار امارته ركب إلى البيعة مع بطارقته وأهل مدينته ليصلوا صلاة الشكر لاجل رحيل المسلمين عنهم وارتفعت اصواتهم بقراءة الإنجيل وسمع اصواتهم أصحاب رسول الله صلى الله عليهم وسلم فخرجوا من الصناديق وشدوا على أنفسهم وشهروا سلاحهم وقبضوا على امرأة نقيطاس وحريمه وقالوا: نريد مفاتيح الأبواب فسلمتها إليهم فلما حصلت المفاتيح في أيديهم رفعوا أصواتهم بالتهليل والتكبير والصلاة والسلام على البشير النذير وكبس القوم على أبواب مدينتهم فلم يجسروا عليهم لانهم بدون عدة وسلاح وبعث عبد الله بن جعفر الطيار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 ربيعة بن عامر والأصيد بن سلمة وعكرمة ابن ابي جهل وعتبة بن العاص والفارع بن حرملة وسلم إليهم المفاتيح وقال افتحوا الأبواب وارفعوا أصواتكم بالتهليل اخوانكم المسلمين من حول المدينة كاملون فتبادر الخمسة إلى الباب القبلي وهو باب حمص وفتحوه ورفعوا اصواتهم بالتهليل والتكبير ودخلوا المدينة وإذا هم بعسكر الزحف وعلى المقدمة خالد بن الوليد رضي الله عنه فأجابوهم بالتهليل والتكبير ودخلوا المدينة وسمع أهل الرستن أصوات أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلموا إنهم في قبضتهم وأن مدينتهم قد أخذت من ايديهم فاستسلموا جميعا وخرجوا إليهم وقالوا: لهم أنا لا نقاتلكم ونحن الآن اسرى لكم فاعدلوا فينا فأنتم أحب إلينا من قومنا. قال فعرض خالد بن الوليد رضي الله عنه الإسلام عليهم فأسلم منهم كثير وبقي الأكثر يؤدون الجزية واما أميرهم نقيطاس فإنه قال: لا أريد بديني بدلا فقال له خالد بن الوليد: الآن فاخرج باهلك عنا وحدث قومك بعدلنا فأخرجوه من الرستن فتوجه بأهله وأمواله إلى حمص وأعلم أهلها بفتح الرستن فصعب ذلك على أهل حمص وعلموا أن العرب تصبحهم أو تمسيهم بالغارة وبعث عبد الله بن جعفر الطيار إلى أبي عبيدة يخبره بالفتح والنصر فسجد لله شكرا وبعث إليهم ألف رجل من اليمن ووصاهم بحفظ الرستن وأمر عليهم هلال بن مرة اليشكري فلما استقروا بالرستن رحل خالد بن الوليد رضي الله عنه وعبد الله بن جعفر وأهلهم وعساكرهم وتوجهوا إلى حماة وكان أهل حماة في صلح المسلمين كما ذكرنا وكذلك أهل شيزر إلا أن بطريق أهل شيزر مات وبعث إليهم الملك هرقل بطريقا عاتيا جبارا اسمه نكس ففسخ الصلح وأذاق أهل شيزر ضرا وشرا وكان يصادرهم ويأخذ أموالهم ويحتجب عنهم لاهيا في أكله وشربه فلما بلغ الخبر الأمير أبا عبيدة بعث خيلا جريدة إلى شيزر فغارت الخيل على بلدهم ووقعت الضجة بشيزر وسمع البطريق نكس الضجة فنزل إليهم من قلعته واظهر لهم بعض حجابه وجلس في بيعتهم المعظمة عندهم وجمع الرؤساء منهم وقال لهم: يا أهل شيزر أنتم تعلمون أن الملك هرقل قد استخلفني عليكم أحفظ مدينتكم وامنع عن حريمكم وأموالكم ثم فتح خزانة السلاح وفرق عليهم العدد وامرهم بالحرب والقتال فبينما القوم كذلك إذ أشرف عليهم خالد بن الوليد في أصحابه ومعه جيش الزحف فنزلوا بأزائهم واشرف بعده يزيد بن أبي سفيان بأصحابه فنزل عليهم واشرف بعد الأمير أبو عبيدة في عساكره جميعهم فلما نظر أهل شيزر تلاحق العساكر بهم هالهم ذلك وعظم عليهم وحارت أبصارهم. قال الواقدي: فلما نظر أبو عبيدة رضي الله عنه كتب إلى أهل شيزر كتابا يقول فيه: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد يا أهل شيزر فإن حصنكم ليس بأمنع من حصن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 بعلبك ولا من الرستن ولا رجالكم أشجع فإذا قرأتم كتابي هذا فادخلوا في طاعتي ولا تخالفوني فيكون وبالا عليكم وقد بلغكم عدلنا وحسن سيرتنا فكونوا مثل سائر من صالحنا ودخل في طاعتنا من سائر بلاد الشام والسلام وطوى الكتاب وسلمه إلى رجل من المعاهدين وبعثه إليهم فلما وصل الكتاب إليهم أعطوه بطريقهم نكس فقرىء عليه فلما فهم ما فيه قال: ما تقولون يا أهل شيزر فيما ذكرت العرب فقالوا: صدقت العرب أيها البطريق الكبير فإن حصننا ليس بأمنع من الرستن ولا بعلبك ولا دمشق ولا بصرى وأنت اعلم شدة أهل حمص وحدة شجاعتهم وقد صالحوا العرب وكذلك أهل فلسطين ومدنها والأردن وحصنها فكيف تمنع عنهم شيزر وهي حصن لطيف فإن عصيت هؤلاء العرب فانك معول على هلاكنا وخراب مدينتنا. قال الواقدي: وكثر فيهم الخطاب وعلا الكلام واقبل البطريق نكس بسبب أهل شيزر وامر غلمانه بضربهم فلما نظر أهل شيزر ذلك غضبوا واظهروا سلاحهم عليه وعلى غلمانه ووقع القتال بين الفريقين فعرف المسلمون ذلك وقالوا: اللهم اهلكهم ببأسهم ولم يزل أهل شيزر في القتال حتى نصروا على البطريق وعلى غلمانه وقتلوهم عن آخرهم ثم اخرجوا إلى الأمير أبي عبيدة رضي الله عنه رجالا إلى لقائه بغير سلاح فلما وقفوا بين يدي الأمير أبي عبيدة سلموا عليه وقالوا: أيها الأمير أنا قتلنا بطريقنا في محبتكم قال: يا أهل شيزر بيض الله وجوهكم وادر رزقكم فقد كفيتمونا الحرب والقتال ثم قال للمسلمين إلا ترون إلى حسن طاعة هؤلاء الروم وفعالهم ببطريقهم في محبتكم والدخول في طاعتكم وقد رأيت من الرأي أن أحسن إلى القوم وانعم عليهم فقال المسلمون: نعم ما رأيت حتى يصل ما تصنع إلى غيرهم ويفتح الله علينا البلاد أن شاء الله تعالى. قال الواقدي: فأقبل على أهل شيزر وقال أبشروا فاني لست اكره أحدا منكم فمن أحب منكم الدخول في ديننا فله ما لنا وعليه ما علينا والخراج موضوع عنكم سنتين ومن اقام على دينه فعليه الجزية وقد وضعنا عنه الخراج سنة كاملة ففرح الروم بذلك وقالوا: أيها الأمير سمعنا واطعنا وهذا قصر بطريقنا فأنت أحق بما فيه وهو هدية منا إليك فدونك وإياه وما فيه من الرجال والآنية والأموال فأخرج أبو عبيدة رضي الله عنه منها الخمس وقسم الباقي على المسلمين بالسوية ونادى أبو عبيدة رضي الله عنه يا معاشر المسلمين قد فتح الله على ايديكم هذه المدينة ايسر فتح واهونه وقد خرج أهل حمص من ذمتكم ووفيتم لهم ما عاهدوكم عليه فارجعوا بنا عليهم رحمكم الله تعالى قال الواقدي: فركب المسلمون ظهور خيولهم وهموا بالمسير واذ قد لاح لهم غبرة مرتفعة من وراء النهر المقلوب وهي منقلبة من طريق انطاكية وقد أخذت عرضا فاسرعت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 خيل المسلمين إليها فإذا معها قسيس كبير من قسوس الروم ومعه مائة برذون موسوقة بالأحمال ومن حولها مائة علج من علوج الروم يحفظونها. قال الواقدي: ولم يكن للقسيس خبر بنزول المسلمين على شيزر فصاح بهم خالد بن الوليد رضي الله عنه وكبر المسلمون معه واحدقوا بهم من كل جانب وأخذوا العلوج اسرى وأخذوا البراذين واقبل خالد على القسيس وقال له: يا ويلك من اين اقبلت بهذه الأحمال قال فرطن القسيس بالرومية فلم يدر خالد ما يقول: هذا القسيس الميشوم فبدا إليه رجل من أهل شيزر وقال: يا أيها الأمير إنه يذكر إنه من القسوس المعظمة عند الملك هرقل وقد بعثه وبعث معه إلى هربيس هذه الأحمال فيها ديباج أحمر منسوج بقضبان الذهب وعشرة أحمال مملوءة دنانير وباقي الأحمال مملوءة من الثياب والدنانير فأخذوها واخرجوا منها مالا عظيما وغنم المسلمون غنيمة غظيمة لم يغنموا مثلها وساق خالد بن الوليد الأحمال إلى الأمير أبي عبيدة رضي الله عنه فوجده على النهر المقلوب مما يلي شيزر وتحته عباءة قطوانية وعلى رأسه مثلها تظله من حر الشمس فأقبل خالد بن الوليد رضي الله عنه بالقسيس فأوقفه بين يديه فقال أبو عبيدة: ما هذا يا أبا سليمان فقال خالد: إنهم قوم من انطاكية ومعهم هدية لهربيس صاحب حمص من ملك الروم هرقل. قال الواقدي: وعرض عليه الغنيمة ففرح الأمير أبو عبيدة بها فرحا شديدا وقال: يا أبا سليمان لقد كان فتح شيزر علينا مباركا ثم دعا بترجمان كان معه لا يفارقه وقال اسال هؤلاء عن ملك الروم الطاغية هرقل هل هو في جمع كثير أم لا فكلم الترجمان القسيس ساعة فقال القسيس قل للامير: أن الملك هرقل قد بلغه إنكم فتحتم دمشق وبعلبك وجوسية وأنكم لم تنزلوا على حمص فبعث معي هذه الهدية إلى هربيس البطريق وكتب إليه يأمره بقتالكم ويعده بالنجدة وقدوم العساكر إليه لأن الملك هرقل قد استنجد عليكم كل من يعبد الصليب ويقرأ الإنجيل فأجابته الرومية والصقالبة والافرنج والأرمن والدقس والمغليط والكرج واليونان والعلف والغزنة وأهل رومية وكل من يحمل صليبا والعساكر قد وصلت إلى الملك هرقل من كل جانب ومكان قال فحدث الترجمان الأمير أبا عبيدة رضي الله عنه بكل ما أعلمه القسيس به فعظم ذلك على الأمير أبي عبيدة وعرض على القسيس الإسلام فقال القسيس للترجمان قل للامير: أبي عبيدة إني البارحة رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وقد أسلمت على يديه ففرح الأمير أبو عبيدة بذلك وعرض على الأعلاج الإسلام فأبوا ذلك فضربت رقابهم ورحل أبو عبيدة رضي الله عنه متوجها إلى حمص وقد سير الخيل جريدة في مقدمته فما يشعر أهل حمص إلا والخيل قد أغارت عليهم فرجع القوم إلى المدينة وقد غلقوا الأبواب وقالوا: غدرت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 العرب وحق المسيح قال: ونزل المسلمون حول حمص وداروا بها من كل جانب ومكان وقد نفذ الزاد من المدينة واكثر اهلها قد خرجوا إلى تجارتهم وفي طلب الميرة وقد تفرقوا في البلاد فلما نزل الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه على حمص دعا بالعبيد والموالي وأمرهم أن يتفرقوا على الطرقات والمحارس وقال لهم: كل من وجدتموه قد رجع إلى حمص بزاد أو تجارة فاتوني به ففعل العبيد ذلك وصعب على هربيس صاحب حمص وكتب إلى الأمير أبي عبيدة كتابا يقول فيه: أما بعد يا معاشر العرب فانا لم نخبر عنكم بالغدر ولا بنقض العهد ألستم صالحتمونا على الميرة فمرناكم فطلبتم منا البيع فابتعناكم فلم نقضتم ما عاهدناكم عليه فكتب الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه يقول: أريد أن ترسل إلى القسوس والرهبان الذين أرسلتهم الي حتى أوقفهم على ما عاهدتهم عليه ليعلموك أننا لم نغدر ولا مثلنا من يفعل ذلك أن شاء الله تعلى فلما قرأ هربيس الكتاب أحضر القسوس والرهبان وبعث بهم إلى الأمير أبي عبيدة فخرجوا إليه وفتح لهم باب حمص وساروا إلى أن وصلوا للأمير ابي عبيدة فسلموا عليه وجلسوا بين يديه فقال لهم أبو عبيدة رضي الله عنه: ألم تعلموا إني عاهدتكم وحلفت لكم إني منصرف عنكم حتى افتح مدينة من مدائن الشام سهلا كان أو جبلا ثم يكون الرأي لي أن شئت رجعت إليكم او سرت إلى غيركم فقالوا: بلى وحق المسيح فقال لهم: أن الله تعالى قد فتح علينا شيزر والرستن في اهون وقت وقد غنمنا الله مال بطريقهم نكس وغيره مما لم نؤمله في هذه المدة اليسيرة والآن فلا عهد لكم عندنا ولا صلح إلا أن تصالحونا على فتح المدينة وتكونوا في ذمتنا وأمانتنا فقال القسوس والرهبان لقد صدقت أيها الأمير ليس عليكم لوم وقد وفيتم بذمتكم وقد بلغنا فتحكم شيزر والرستن والخطا كان منا إذ نستوثق لأنفسنا والآن الأمر بيد بطريقنا ونحن نرجع إليه ونعلمه بذلك ثم رجعوا إلى مدينتهم ودعا الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه بالرجال والأبطال وأهل الحرب وقال خذوا أهبتكم فإن القوم بلا زاد ولا مدد يأتي إليهم من عند طاغيتهم ولا نجدة فاستعينوا بالله وتوكلوا على الله. فلبس المسلمون السلاح والعدد ورجعوا إلى الأبواب والاسوار واجتمع أهل أحمص ببطريقهم هربيس وقالوا: ما عندك من الرأي في أمر هؤلاء العرب فقال الأمر عندي أن نقاتلهم ولا نريهم منا ضعفا قالوا: فإن الزاد قد نفد من مدينتنا وقد أخذه القوم منا وما سمعنا بمثل هذه الحيلة فقال هربيس ما لكم تعجزون عن حرب عدوكم وما قتل منكم قتيل ولا جرح منكم جريح ولم تصبكم شدة ولا جوع وإنما اصابوا منكم على غرة ولو دخلوا المدينة لما قدروا عليكم وأقل الرجال على السور يكفيكم إياهم وعندي من الزاد في قصري ما يعم كثيركم المدة الطويلة وما أحسب أن الملك هرقل يغفل وسيبلغه خبركم ويوجه العساكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 قال الواقدي: وكان عند البطريق هربيس في قصره جب عظيم مملوء طعاما ففتحه وفرق الطعام على أهل حمص فسكنت بذلك نفوسهم وجعل البطريق يفرق على كبيرهم وصغيرهم بقية يولمهم ذلك وقد انحصر أهل حمص جميعهم فنفذ ذلك اليوم نصف ما في الجب وقال لهم: اقنعوا بما أعطيتكم ثلاثة ايام وابرزوا إلى حرب عدوكم ثم أخذوا أهبة الحرب وعرض عسكره وانتخب منهم خمسة آلاف فارس من أولاد الزراوزة والعمالقة لا يساويهم غيرهم فيهم ألف مدبجة ملكية وفتح خزانة جده جرجيس وفرق عليهم الدروع والجواشن والبيض والمغافر والقسى والنشاب والحراب واقبل يحرضهم على القتال ويوعدهم بالمدد والنجدة من الملك هرقل ثم دعا بالقسوس والرهبان وقال لهم: خذوا أهبتكم وادعوا المسيح أن ينصرنا على العرب فإن دعاءكم لا يحجب ولا يرد قال فدخلوا كنيستهم المعظمة عندهم وهي كنيسة جرجيس وهي الجامع اليوم ونشروا المزأمير وضجوا بالتهمير واقبلوا يبتهلون بكلمة الكفر وباتوا بقية ليلتهم على مثل ذلك فلما كان الصباح دخل هربيس إلى البيعة وتقرب وصلوا عليه صلاة الموتى فدخل قصره وقدم له خنوص مشوي فاكله حتى أتى على آخره وقدم بين يديه باطية الذهب والفضة فشرب حتى انقلبت عيناه في أم رأسه ثم لبس ديباجا محشوا بالفرو والزرد الصغار المضعف العدد ولبس فوقها درعا من الذهب الأحمر وعلق في عنقه صليبا من الياقوت وتقلد بسيف من صنعة الهند وقدم له مهر كالطود العظيم فاستوى على ظهره وخرج من قصره طالبا باب الرستن فأحاطت به بطارقته من الروم من كل جانب ومكان وفتحت أبواب حمص وخرجت الروم من كل جانب ومكان في عددهم وعديدهم وراياتهم وصلبانهم وبين يدي هربيس خمسة آلاف فارس من علوج الروم وهم بالعدد العديد والزرد النضيد فصفهم هربيس أمام المدينة كأنهم سد من حديد او قطع الجلمود وقد وطنوا نفوسهم على الموت دون أموالهم وذراريهم فتبادر المسلمون إليهم مثل الجراد المنتشر وحملوا عليهم حملة عظيمة والعلوج كأنهم حجارة ثابتة ماولوا عن مواضعهم ولا فكروا فيما نزل بهم فعندها صاح البطريق هربيس على رجاله وزجرهم فتبادرت الروم وصاح بعضهم ببعض وركب المسلمون وحملوا عليهم ورشقوا الرجال بالسهام واشتبكت الحرب واختلط الفريقان واقتتلوا قتالا شديدا ما عليه من مزيد إلا أن المسلمين رجعوا القهقري وقد فشا فيهم القتال والجراح. فلما نظر الأمير أبو عبيدة إلى ذلك من هزيمة المسلمين عظم عليه وكبر لديه وصاح فيهم بصوته يا بني القرآن الرجعة الرجعة بارك الله فيكم فهذا يوم من ايام الله تعالى فاحملوا معي بارك الله فيكم فتراجع الناس وحملوا على أهل حمص حملة عظيمة وشدوا عليهم الحملة وحمل خالد بن الوليد رضي الله عنه في جمع كثير من بني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 مخزوم وجعلوا يضربون فيهم بسيوفهم ويطعنون برماحهم حتى طحنوهم طحن الحصيد ووضع المسلمون فيهم السيف وحمل ابن مسروق العبسي في طائفة من قومه من بني عبس وقد رفعوا أصواتهم بالتهليل والتكبير وصدموا الروم صدمة عظيمة فتراجعت الروم إلى الاسوار وقد فشا فيهم القتل فبربرت الروم بلغاتها وتراجعت على المسلمين واحاطوا بهم من كل جانب ومكان ورشقت العلوج بالنشاب وطعنوا في المسلمين بالحراب وقد استتروا بالدرق والطوارق قال فلما نظر خالد بن الوليد إلى ذلك برز باللواء وكان هو صاحب اللواء يوم حمص وصاح خالد بأصحابه وقال شدوا عليهم بالحملة بارك الله فيكم فإنها والله غنيمة الدنيا والآخرة قال فبينما خالد بن الوليد يحرض أصحابه على القتال إذ حمل عليه بطريق من عظماء الروم وعليه لامة مانعة وهو يهدر كالاسد فحمل خالد بن الوليد عليه وضربه على رأسه فوقع سيفه على البيضة فطار السيف من يد خالد بن الوليد وبقيت قبضته في يده فطمع العلج فيه وحمل عليه ولاصقه حتى حك ركابه بركاب خالد وتعانقا جميعا بالسواعد والمناكب فضم خالد العلج إلى صدره واحتضنه بيده وشد عليه بقوته فطحن أضلاعه وأدخل بعضها في بعض فارداه قتيلا وأخذ خالد سيف العلج وهزه في يده حتى طار منه الشرر ووضع رأسه في قربوس سرجه وحمل وصاح في بني مخزوم فحملوا حملة عظيمة وهاجوا في أوساطهم وخالد بن الوليد رضي الله عنه يفرقهم يمينا وشمالا وهو ينادي برفيع صوته. أنا الفارس الصنديد أنا خالد بن الوليد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يزالوا في القتال الشديد الذي ما عليه من مزيد حتى توسطت الشمس في كبد السماء وحمى الدرع على خالد بن الوليد رضي الله عنه فخرج من المعركة وبنو مخزوم يتقاطرون من خلفه والدم يسيل ملء درعهم وسواعدهم كأنها شقائق الأرجوان وخالد بن الوليد رضي الله عنه في أوائلهم وهو يقول: ويل لجمع الروم من يوم شغب ... إني رأيت الحرب فيه تلتهب وكم لقوا منا مواقع النصب ... وكم تركت الروم في حال العطب قال فناداه الأمير أبو عبيدة لله درك يا أبا سليمان لله ربك لقد جاهدت في الله حق جهاده فلما نظر المرقال بن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص إلى غفلة الروم صاح في بني زهرة وحملوا في ميمنة الروم وحمل ميسرة بن مسروق العبسي في قومه وحمل عكرمة بن أبي جهل وحوله جمع كثير من بني مخزوم وحمل المسلمون بأجمعهم وقد اطلعوا على الشهادة وأيقنوا بالعناية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 معركة حمص قال الواقدي: فلم يكن يوم حمص أشد حربا ولا اقوى جلدا من بني مخزوم غير أن عكرمة بن ابي جهل كان أشدهم بأسا واقداما وهو يقصد الاسنة بنفسه فقيل له اتق الله وارفق بنفسك فقال: يا قوم أنا كنت اقاتل عن الأصنام فكيف اليوم وأنا أقاتل في طاعة الملك العلام وإني أرى الحور متشوقات الي ولو بدت واحدة منهن لاهل الدنيا لاغنتهم عن الشمس والقمر ولقد صدقنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما وعدنا ثم سل سيفه وغاص في الروم ولم يزدد إلا اقداما وقد عجبت الروم من حسن صبره وقتاله فبينما هو كذلك إذ حمل عليه البطريق هربيس صاحب حمص وبيده حربة عظيمة تضيء وتلتهب وهزها في كفه وضربه بها فوقعت في قلبه ومرقت من ظهره فانجدل صريعا وعجل الله تعالى بروحه إلى الجنة فلما نظر خالد بن الوليد إلى ابن عمه وقد وقع صريعا اقبل حتى وقف عليه وبكى وقال: يا ليت عمر بن الخطاب نظر إلى ابن عمي صريعا حتى يعلم أنا إذا لاقينا العدو ركبنا الاسنة ركوبا قال ولم يزالوا في الأهوال الشديدة حتى هجم الليل عليهم وتراجعت الروم إلى مدينتهم وغلقوا الأبواب وطلعوا على الاسوار ورجعت المسلمون إلى رحالهم وخيامهم وباتوا ليلتهم يتحارسون فلما اصبح الصباح قال الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه يا معاشر المسلمين ما بالكم قد صدكم هؤلاء القوم وبعد الطمع فيهم ما بالكم هزمتم وجزعتم منهم والله ألبسكم عافية مجللة وسلامة سابغة وأظفركم على بطارقة الروم وفتح لكم الحصون والقلاع فما هذا التقصير والله تعالى مطلع عليكم. فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: هؤلاء فرسان الروم اشد الرجال ليس فيهم سوقة ولا جبان وقد تعلم إنهم يكونون اشد في الحرب لانهم يمنعون عن الذراري والنسوان فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه فما الرأي عندك يا أبا سليمان يرحمك الله فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: أيها الأمير قد رأيت من الرأي اننا ننكشف للقوم غدا وندع لهم سوائمنا وابلنا فإذا تباعدنا عن مدينتهم وتبعتنا خيلهم وتباعدوا عن مدينتهم وصاروا معنا عطفنا عليهم ومزقناهم بالاسنة ونقطع ظهورهم لبعدهم عن مدينتهم فقال أبو عبيدة: نعم الرأي ما رأيت يا أبا سليمان ولقد اشرت واحسنت قال وتواعد المسلمون على أن ينكشفوا بين أيدي الروم وأن يتركوا لهم سوائمهم فلما اصبح الصباح فتحت أبواب حمص وخرجت الروم من جميع الأبواب وزحفوا يريدون القتال فسألهم العرب كفوا القتال واروهم التقصير والخوف واطمعوهم في أنفسهم وجعلوا ينحرفون عن قتالهم حتى تضاحى النهار وانبسطت الشمس وطاب الحرب وطمعت الروم في المسلمين لما بان لهم من تقصيرهم فشد الروم بالحملة عليهم فانهزمت العرب من بين أيديهم وتركوا سوائمها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 قال نوفل بن عامر حدثنا عرفجة بن ماجد النميمي عن سراقة النخعي وكان ممن حضر يوم حمص قال لما انهزمت العرب أمام الروم وتبعنا هربيس البطريق في خمسة آلاف اشهب وكانوا اشد الروم قال سراقة بن عامر وانهزمنا أمام القوم كاننا نطلب الزراعة وجوسية وأدركتنا البطارقة وبعضهم مال إلى السواد طمعا في الزاد والطعام. قال الواقدي: وكان بحمص قسيس كبير السن عظيم القدر عند الروم قد حنكته التجارب وعرف أبواب الحيل والخداع وكان عالما من علماء الروم وقد قرأ التوراة والإنجيل والزبور والمزأمير وصحف شيث وابراهيم وأدرك حواري عيسى ابن مريم عليه السلام فلما أشرف ذلك القسيس ونظر إلى العرب وقد ملك الروم سوادهم جعل يصيح ويقول وهو ينادي: وحق المسيح أن هذه خديعة ومكر ومكيدة من مكايد العرب وأن العرب لا تسلم اولادها وابلها ولو قتلوا عن آخرهم قال وجعل القسيس يصيح وأهل حمص قد وقعوا في النهب وليس يغنيهم سوى الزاد والطعام والبطريق هربيس قد الح في طلب المسلمين في خمسة آلاف فارس فلما أبعدوا عن المدينة صاح الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه برفيع صوته اعطفوا على الروم كالسباع الضارية والعقبان الكاسرة فردوا عليهم كردوسا واحدا حتى أحاطوا بالبطريق وأصحابه من كل جانب وداروا بهم مثل الحلقة المستديرة واحدقوا بهم كاحداق البياض بسواد العين وبقيت الروم في اوساطهم كالشامة السوداء في الثور الأبيض فعند ذلك نصبت العلوج نشابها على العرب والمسلمون يكرون عليهم مثل الأسود الضارية ويحومون عليهم كما تحوم النسور ويضربونهم بالسيوف ويصرعونهم يمينا وشمالا حتى إنكسر أكثرهم. قال عطية بن فهر الزبيدي فلما نظرت الروم إلى فعلنا بهم تكالبت علينا فلما حميت الحرب ابتدر خالد بن الوليد رضي الله عنه من وسط العسكر وهو على جواد اشقر وعليه جوشن مذهب كان لصاحب بعلبك اهداه له يوم فتح بعلبك وكان خالد بن الوليد رضي الله عنه قد عمم نفسه بعمامة حمراء وكانت تلك العمامة عمامته في الحرب وجعل يهدر كالاسد الحردان وقد انتضى سيفه من غمده وهزه حتى طار منه الشرر ونادى برفيع صوته رحم الله رجلا جرد سيفه وقوى عزمه وقاتل أعداءه فعندها انتضب المسلمون سيوفهم وصدموا الروم صدمة عظيمة ونادى الأمير أبو عبيدة يا بني العرب قاتلوا عن حريمكم ودينكم واموالكم فإن الله مطلع عليكم وناصركم على عدوكم قال وكان معاذ بن جبل قد انفرد في خمسمائة فارس إلى السواد والأموال وانقض على الروم فما شعرت الروح والعلوج ممن انغمس في الغارة وحمل الزاد والرحال والأمتعة إلا والطعن قد أخذهم بأسنة الرماح من كل جانب كأنها ألسنة النار المضرمة ونادى مناد يا فتيان العرب اطلبوا الباب لئلا ينجوا أحد من الروم برحالنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 وأولادنا فجعل المسلمون يطلبون الأبواب وكانت علوج الروم قد غرقت في رحال المسلمين فلما نظروا إلى معاذ وقد حمل عليهم في رحاله عادت وقد رمت الرحال وطلبت الهرب فانفلت منهم ما انفلت وقتل من قتل قال صهيب بن سيف الفزاري فوالله ما انفلت من الخمسة آلاف الذين كانوا مع هربيس صاحب حمص إلا ما ينوف عن مائة فارس قال واتبعنا القوم إلى الأبواب فكان اعظم المصيبة قتلنا إياهم على الأبواب لأن أكثر الرجال من العواصم وغيرهم كانوا في المدينة قال سعيد بن زيد شهدت يوم حمص وكنت ممن أولع بعدد القتلى فعددت خمسة آلاف وستة غير أسير وجريح فدنوت من الأمير أبي عبيدة رضي الله عنه وقلت البشارة: أيها الأمير فاني عددت خمسة آلاف وستة غير اسير وجريح فقال الأمير أبو عبيدة بشرت بخير يا سعيد يا ابن زيد فهل ترى قتل بطريقهم هربيس فقال سعيد بن زيد أيها الأمير إذا كان قتل بطريقهم هربيس فما قتله غيري فقال الأمير أبو عبيدة وكيف علمت إنه قتيلك يا سعيد فقال سعيد بن زيد أيها الأمير إني رأيت فارسا عظيم الخلقة طويلا ضخما أحمر اللون وبيده سيف وعليه لامة حربه صفتهما كذا وكذا وهو في وسط الروم كأنه البعير الهائج فحملت عليه وقلت في حملتي: اللهم إني اقدم قدرتك على قدرتي وغلبتك على غلبتي اللهم اجعل قتله على يدي وارزقني اجره فقال له أبو عبيدة: إما أخذت سلبه يا سعيد قال: لا ولكن علامتي فيه نبلة من كنانتي أثبتها في قلبه فخر يهوي عن جواده ونفرت عنه أصحابه فلحقته فضربته بسيفي ضربة فصرمت حقوته ونبلتي في قلبه قال أبو عبيدة رضي الله عنه: أدركوه رحمكم الله وسلموا سلبه إلى سعيد ففعلوا ذلك. قال الواقدي: فلما أخذت الحرب اوزارها أخذ المسلمون الإسلاب والدروع والشهابي ومثلوا الجميع أمام الأمير أبي عبيدة رضي الله عنه فأخرج منها الخمس لبيت مال المسلمين وقسم الباقي على المجاهدين قال ووقع الصياح والبكاء في حمص على من قتل منهم من فرسان الكفار ورجالهم قال واجتمع مشايخ حمص ورؤساؤهم إلى بيعتهم وتحدثوا مع القسوس والرهبان على أن يسلموا حمص إلى المسلمين وخرج علماء دينهم ورؤساؤهم إلى أبي عبيدة رضي الله عنه وصالحوه على تسليم المدينة إليه وأن يكونوا تحت ذمامه وأمانة فصالحهم أبو عبيدة رضي الله عنه وقال لست أدخل مدينتكم حتى نرى ما يكون بيننا وبين الملك هرقل وأراد أهل حمص أن يكرموا المسلمين بالإقامة والعلوقة فنهاهم الأمير أبو عبيدة عن ذلك ولم يدخل أحد من المسلمين إلى حمص إلا بعد وقعة اليرموك كل ذلك ليتقرب المسلمون إلى الروم بالعدل وحسن الصحبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 قال جرير بن عوف حدثنا حميد الطويل قال حدثني سنان بن راشد اليربوعي قال حدثنا سملة بن جريج قال حدثنا النجار وكان ممن يعرف فتوح الشام قال لما صالحنا أهل حمص بعد قتل هربيس خرج أهل حمص ودفنوا قتلاهم فافتقدنا القتلى الذين استشهدوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدنا من استشهد من المسلمين مائتين وخمسة وثلاثين فارسا كلهم من حمير وهمدان إلا ثلاثين رجلا من أهل مكة وهم عكرمة بن أبي جهل وصابر بن جرىء والريس بن عقيل ومروان بن عامر والمنهال بن عامر السلمي ابن عم العباس رضي الله عنه وجمح بن قادم وجابر بن خويلد الربعي فهؤلاء من المسلمين الذين استشهدوا يوم حمص والباقون من اليمن وهمدان ومن اخلاط الناس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 ذكر وقعة اليرموك قال الواقدي: واتصلت الأخبار إلى الملك هرقل أن المسلمين قد فتحوا حمص والرستن وشيزر وقد أخذوا الهدية التي بعثها إلى هربيس البطريق فبلغ ذلك منه دون النفس وأقام ينتظر الجيوش والعساكر من أقصى بلاد الروم لانه قد كان كاتب كل من يحمل الصليب فما مضى عليه إلا أيام قلائل حتى صار أول جيوشه عنده بانطاكية وآخرها في رومية الكبرى وانه بعث جيشا إلى قيسارية ساحل الشام يكون حفظه على عكاء وطبرية وبعث بجيش آخر إلى بيت المقدس وأقام ينتظر قوم ماهان الأرمني ملك الأرمن وقد جمع من الأرمن ما لا يجمعه أحد من أهالي الملك هرقل وبعد أيام قدم على الملك هرقل للقائه في أرباب دولته فلما قرب منه ترجل ماهان وجنوده وكفروا بين يديه ورفعا اصواتهم بالبكاء والنحيب مما وصل إليهم من فتح المسلمين بلادهم فنهاهم عن ذلك وقال: يا أهل دين النصرانية وبني ماء المعمودية قد حذرتكم وخوفتكم من هؤلاء العرب ولم تقبلوا مني فوحق المسيح والإنجيل الصحيح والقربان ومذبحنا المعمدان لا بد لهؤلاء العرب أن يملكوا ما تحت سريري هذا والآن البكاء لا يصلح إلا للنساء وقد اجتمع لكم من العساكر ما لم يقدر عليه ملك من ملوك الدنيا وقد بذلت مالي ورجالي كل ذلك لاذب عنكم وعن دينكم وعن حريمكم فتوبوا للمسيح من ذنوبكم وانووا للرعية خيرا ولا تظملوا وعليكم بالصبر في القتال ولا يخامر بعضكم بعضا وإياكم والعجب والحسد فانهما ما نزلا بقوم إلا ونزل عليهم الخذلان وإني أريد أن أسألكم وأريد منكم الجواب عما أسألكم عنه فقالت العظماء من الروم والملوك: اسأل أيها الملك عما شئت. قال إنكم اليوم أكثر عددا وأغزر مددا من العرب وأكثر جمعا وأكثر خياما وأعظم قوة فمن أين لكم هذا الخذلان وكانت الفرس والترك والجرامقة تهاب سطوتكم وتفزع من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 حربكم وشدتكم وقد قصدوا إليكم مرارا ورجعوا منكسرين والآن قد علا عليكم العرب وهم أضعف الخلق عراة الأجساد جياع الاكباد ولا عدد ولا سلاح وقد غلبوكم على بصرى وحوران وأجنادين ودمشق وبعلبك وحمص قال فسكت الملوك عن جوابه فعندها قام قسيس كبير عالم بدين النصرانية وقال: أيها الملك أما تعلم لم نصرت العرب علينا قال: لا وحق المسيح فقال القسيس أيها الملك لأن قومنا بدلوا دينهم وغيروا ملتهم وجحدوا باجابة المسيح عيسى ابن مريم صلوات الله وسلامه عليه وظلموا بعضهم وليس فيهم من يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر وليس فيهم عدل ولا احسان ولا يفعلون الطاعات وضيعوا أوقات الصلوات وأكلوا الربا وارتكبوا الزنا وفشت فيهم المعاصي والفواحش وهؤلاء العرب طائعون لربهم متبعون دينهم رهبان بالليل صوام بالنهار ولا يفترون عن ذكر ربهم ولا عن الصلاة على نبيهم وليس فيهم ظلم ولا عدوان ولا يتكبر بعضهم على بعض شعارهم الصدق ودثارهم العبادة وأن حملوا علينا لا يرجعون وأن جملنا عليهم فلا يولون وقد علموا أن الدنيا دار الفناء وأن الآخرة هي دار البقاء. قال الواقدي: فلما سمع القوم والملك هرقل ما قاله القسيس قالوا: وحق المسيح لقد صدقت بهذا نصرت العرب علينا لا محالة وإذا كان فعل قومنا ما ذكرت فلا حاجة لي في نصرتهم وإني قد عولت أن أصرف هذه الجيوش والعساكر إلى بلادها وآخذ أهلي ومالي وأنزل من أرض سورية وأرحل إلى أسبوك يعني القسطنطينية فأكون هناك آمنا من العرب قال فلما سمع القوم ذلك من الملك صفوا بين يديه وقالوا: أيها الملك لا تفعل ولا تخذل دين المسيح فيطالبك بذلك يوم القيامة وتعيرك الملوك بذلك ويستضعفون رأيك وأيضا تشمت بنا أعداؤنا إذا أنت خرجت من جنة الشام وسكن بعدنا فيها العرب وقد اجتمع لنا مثل هذا الجيش الذي ما اجتمع لملك من ملوك الدنيا ونحن نلقى العرب ونصبر على قتالهم ولعل المسيح أن ينصرنا عليهم فاعزم وقدم من شئت واتركنا ننهض إلى قتال العرب. قال ففرح الملك هرقل بقولهم ونشاطهم وعول على أن يبعث الجيش مع خمسة ملوك من الروم فأول ما عقد لواء من الديباج المنسوج بالذهب الأحمر وعلى رأسه صليب من الجوهر وسلمه إلى قناطير ملك الروسية وضم إليه مائة ألف فارس من الصقالبة وغيرهم وخلع عليه وتوجه ومنطقه وسوره ثم عقد لواء آخر من الديباج الأبيض فيه شمس من الذهب الأحمر وعلى رأسه صليب من الزبرجد الأخضر وسلمه إلى جرجير وهو ملك عمورية وملورية وخلع عليه وسوره ومنطقه وضم إليه مائة ألف فارس من الروم والفردانة ومن سائر الأجناس الرومية ثم عقد لواء ثالثا من الدستري الملون عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 صليب من الذهب الأحمر وسلمه إلى الديرجان صاحب القسطنطينية وضم إليه مائة ألف فارس من المغليط والإفرنج والقلن وخلع عليه ومنطقه وسوره. ثم عقد لواء رابعا مرصعا بالدر والجوهر عليه قبضة من الذهب وعليه صليب من الياقوت الأحمر وسلمه إلى ماهان ملك الأرمن وكان يحبه محبة عظيمة لانه كان من أهل الشجاعة والتدبير وقد قاتل عساكر الفرس والترك وهزمهم مرارا فلما عقد له لواء خلع عليه الثياب التي كانت عليه وتوجه وسوره ومنطقه وقلده بالقلائد التي لا يتقلد بها إلا الملوك الاكابر وقال له: يا ماهان قد وليتك على هذا الجيش كله ولا أمر على أمرك ولا حكم على حكمك ثم قال لقناطير وجرجير والديرجان وقورين وهم ملوك الجيش اعلموا أن صلبانكم تحت صليب ماهان وأمركم إليه فلا تصنعوا أمرا إلا بمشورته ورأيه واطلبوا العرب حيث كانوا ولا تفشلوا وقاتلوا عن دينكم القديم وشرعكم المستقيم وافترقوا على أربع طرق فانكم أن أخذتم على طريق واحدة لم تسعكم وتهلكوا الأرض ومن عليها ثم خلع على جبلة بن الأيهم الغساني وضم إليه العرب المتنصرة من غسان ولخم وجذام وقال لهم: كونوا في المقدمة فإن هلاك كل شيء بجنسه والحديد لا يقطعه إلا الحديد ثم أمر القسوس أن يغمسوهم في ماء المعمودية ويقرءوا عليهم ويصلوا عليهم صلاة الموتى. قال: حدثنا نوفل بن عدي عن سراقة عن خالد قال: أخبرنا قاسم مولى هشام بن عمرو ابن عتبة وكان ممن حضر فتوح الشام كله قال فكانت جملة من بعث الملك هرقل إلى اليرموك من العساكر ستمائة ألف فارس من سائر طوائف أهل الكفر ممن يعتقد الصليب. قال: وحدثنا جرير بن عبد الله عن يونس بن عبد الأعلى أن جملة من بعث الملك هرقل سوى جيش انطاكية إلى اليرموك سبعمائة ألف فارس قال راشد بن سعيد الحميري كنت أحضر اليرموك من أوله إلى آخره فلما اشرفت علينا عساكر الروم باليرموك نحونا صعدت على محل من الأرض مرتفع واقبلت الروم بالرايات والصلبان فعددت عشرين راية فلما استقرت الروم باليرموك بعث الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه روماس صاحب بصرى ليحزر عدد القوم قال فتنكر روماس وغاب عنا يوما وليلة ثم عاد إلينا فلما رأيناه اجتمعنا عنده وسأل أبو عبيدة روماس عن ذلك فقال: أيها الأمير سمعت القوم يذكرون أن عددهم ألف ألف فلا أدري أهم يتحدثون بذلك ليسمع جواسيسنا ويحدثوا بذلك أم لا فقال أبو عبيدة: يا روماس كم عهدك بهم وكم يكون تحت كل راية من عساكر الروم فقال: أيها الأمير أما ما عهدت في عساكر الروم فتحت كل راية خمسون ألف فارس فلما سمع أبو عبيدة ذلك قال الله أكبر أبشروا بالنصر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 على الأعداء ثم قرأ الآية: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249] . قال الواقدي: ثم أن الملك هرقل لما قلد أمر جيوشه ماهان ملك الأرمن وأمره بالنهوض إلى قتال المسلمين ركب الملك هرقل وركب الروم وضربوا بوق الرحيل وخرج الملك هرقل ليتبع عساكره على باب فارس وسار معهم يوصيهم وقال لقناطير وجرجير والديرجان وقورين ليأخذ كل رجل منكم طريقا وأمر كل واحد منكم نافذ على جيشه فإذا لقيتم العرب فالأمر فيكم لماهان ولا يد على يده واعلموا إنه ليس بينكم وبين هؤلاء إلا هذه الوقعة فإن غلبوكم فلا يقنعوا ببلادكم بل يطلبونكم حيث سلكتم ولا يقنعون بالمال دون النفس ويتخذون حريمكم واولادكم عبيدا فاصبروا على القتال وانصروا دينكم وشرعكم. قال الواقدي: ثم وجه قناطير بجيشه على طريق جبلة واللاذقية وبعث جرجير على طريق الجادة العظمى وهي أرض العراق وسومين وبعث قورين على طريق حلب وحماة وبعث الديرجان على أرض العواصم وسار ماهان في أثر القوم بحيوشه والرجال أمامه ينحتون له الأرض ويزيلون من طريقهم الحجارة وكانوا لا يمرون على بلد ولا مدينة إلا اضروا بأهلها ويطالبونهم بالعلوفة والاقامات ولا قدرة لهم بذلك فيدعون عليهم ويقولون لاردكم الله سالمين قال وجبلة بن الأيهم في مقدمة ماهان ومعه العرب المتنصرة من غسان ولخم وجذام. قال الواقدي: حدثني من أثق به أن الطاغية هرقل لما بعث جيوشه إلى قتال المسلمين وكان للأمير أبي عبيدة في جيوش الروم عيون وجواسيس من المعاهدين يتعرفون له الأخبار فلما وصل جيش الروم إلى شيزر فارقتهم عيون أبي عبيدة وساروا طالبين عسكر المسلمين فلم يجدوهم على حمص فسألوهم عنهم فأخبروهم إنهم رحلوا لأن الأمير أبا عبيدة رضي الله عنه لما فتح حمص ترك عندهم من يأخذ الخراج والذي تركه عندهم رجال من أهل حمص من كبرائهم ورؤسائهم وجعل الجواسيس يسيرون حتى وصلوا إلى الجابية وحضروا بين يدي الأمير أبي عبيدة رضي الله عنه واخبروه بما رأوه من عظم الجيوش والعساكر فلما سمع أبو عبيدة ذلك عظم عليه وكبر لديه وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وبات قلقا لم تغمض له عين خوفا على المسلمين فلما طلع الفجر أذن فصلى بالمسلمين فلما فرغ من صلاته أقسم على المسلمين أن لا يبرحوا حتى يسمعوا ما يقول: ثم قام فيهم خطيبا وحمد الله تعالى وأثنى عليه وذكر النبي صلى الله عليه وسلم وترحم على أبي بكر الصديق رضي الله عنه ودعا للمسلمين بالنصر وقال: يا معاشر المسلمين اعلموا رحمكم الله أن الله ابتلاكم ببلاء حسن لينظر كيف تعملون وذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 عندما صدقكم الوعد وأيدكم بالنصر في مواطن كثيرة واعلموا أن عيوني أخبروني أن عدو الله هرقل استنجد علينا من كبار بلاد الشرك وقد سيرهم إليكم وأثقلهم بالزاد والسلاح: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:8] واعلموا إنهم قد ساروا إليكم في طرق مختلفة ووعدهم طاغيتهم أن يجتمعوا بازائكم على قتالكم واعلموا أن الله معكم وليس بكثير من يخذله الله تعالى وليس بقليل من يكون الله تعالى معه فما عندكم من الرأي رحمكم الله تعالى ثم قال لبعض عيونه قم وأخبر المسلمين بما رأيت فقام الرجل وأخبر الناس بما رأى من الجيوش الثقيلة وعددها وعديدها فعظم ذلك على المسلمين وداخل قلوب رجال منهم الهيبة والجزع وجعل بعضهم ينظر إلى بعض ولم يرد أحد منهم جوابا فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه ما هذا السكوت عن جوابي رحمكم الله فاشيروا على أيديكم فإن الله عز وجل يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران: 159] . قال الواقدي: فتكلم رجل من أهل السبق وقال: أيها الأمير أنت رجل لك رفعة ومكان وقد نزلت فيك آية من القرآن وانت الذي جعلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أمين هذه الأمة فقال عليه السلام "لكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة رضي الله عنه عامر بن الجراح" أشر أنت علينا بما يكون فيه الصلاح للمسلمين فقال الأمين أبو عبيدة رضي الله عنه انما أنا رجل منكم تقولون وأقول وتشيرون وأشير والله الموفق في ذلك فقام إليه رجل من أهل اليمن وقال: أيها الأمير الذي نشير به عليك أن تسير من مكانك وتنزل في فرجة من وادي القرى فيكون المسلمون قريبا من المدينة والنجدة تصل إلينا من الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وإذا طلب القوم أثرنا وأقبلوا إلينا كنا عليهم ظاهرين فقال الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه اجسلوا رحمكم الله فقد أشرتم بما عندكم من الرأي وإني أن برحت من موضعي هذا كره لي عمر بن الخطاب ذلك وأخذ يعنفني ويقول: تركت مدائن فتحها الله على يديك ونزحت عنها وكان ذلك هزيمة منك ثم قال: أشيروا علي برأيكم رحمكم الله تعالى. فقام إليه قيس بن هبيرة المرادي وقال: يا أمير المؤمنين لاردنا الله إلى أهلنا سالمين أن خرجنا من الشام وكيف ندع هذه الأنهار المتفجرة والزروع والأعناب والذهب والفضة والديباج ونرجع إلى قحط الحجاز وجد به وأكل خبز الشعير ولباس الصوف ونحن في مثل هذا العيش الرغد فإن قتلنا فالجنة وعدنا ونكون في نعيم لا يشبه نعيم الدنيا فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه صدق والله قيس بن هبيرة وبالحق نطق ثم قال: يا معاشر المسلميي أترجعون إلى بلاد الحجاز والمدينة وتدعون لهؤلاء الأعلاج قصورا وحصونا وبساتين وأنهارا وطعاما وشرابا وذهبا وفضة ما لكم مع ما لكم عند الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 عز وجل في دار البقاء من حسن الطعام ولقد صدق قيس بن هبيرة في قوله لنا ولسنا ببارحين منزلنا هذا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين قال فوثب قيس بن هبيرة وقال صدق الله قولك أيها الأمير وأعانك على ولايتك ولا تبرح من مكانك وتوكل على الله وقاتل أعداء الله فإن فاتنا فتح عاجل فما يفوتنا ثواب آجل فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه شكر الله فضلك وغفر لنا ولك والرأي رأيك وتتابع قول المسلمين بحسن رأيهم إلا خالد بن الوليد رضي الله عنه فإنه ساكت لا يقول شيئا فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه يا أبا سليمان أنت الرجل الجريء والفارس الشهم ومعك رأي وعزم فما تقول فيما قال قيس بن هبيرة فقال خالد رضي الله عنه: نعم ماأشار به قيس إلا أن الرأي عندي غير رأيه ولكن لا اخالف المسلمين فقال أن كان عندك رأي فيه صلاح فائت به وكلنا لرأيك تبع فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: اعلم أيها الأمير إنك أن أقمت في مكانك هذا فانك تعين على نفسك لأن هذه الجابية قريبة من قيسارية وفيها قسطنطين ابن الملك هرقل في أربعين ألف فارس وأهل الأردن قد اجتمعوا إليه خوفا منكم والذي أشير به عليكم أن ترحلوا من منزلكم هذا وتجعلوا أذرعات خلف ظهوركم حتى ينزلوا اليرموك ويكون المدد من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قريبا منكم متلاحقا بكم وأنتم على فتح لقتال عدوكم وهي أرض واسعة لمجال الخيل قال فلما نطق خالد بن الوليد بهذا الكلام قال المسلمون: نعم ما أشار به خالد وقال أبو سفيان بن حرب أيها الأمير افعل برأي خالد بن الوليد رضي الله عنه وابعثه إلى ما يلي الرمادة فيكون بين عساكرنا وعساكر الروم المقيمة بالأردن لئلا ندهي منهم عند رحيلنا فإنه سيكون لرحيلنا ورحيل عسكرنا بين هذه الاشجار ضجة عظيمة وجلبة هائلة فيداخل عدوكم فيكم الطمع فإن اقبلوا يريدون غارة ومكيدة لقيهم خالد بن الوليد رضي الله عنه بمن معه فقال خالد بن الوليد: والله يا ابن حرب لقد نطقت عن ضميري وهكذا الرأي عندي. فعند ذلك أمر أبو عبيدة الناس بالرحيل من الجابية فرحلوا ودعا أبو عبيدة بجيش خالد بن الوليد الذي أقبل به من أرض العراق وهو جيش الزحف وهو يومئذ أربعة آلاف فارس وأمر خالد بن الوليد رضي الله عنه أن يسير بهم ويكون على طلائع المسلمين وحرسهم من وراء ظهورهم قال ووقعت الضجة للمسلمين عند رحيلهم حتى سمع ضجيجهم من مسيرة فرسخين وطلبوا اليرموك وسمع الروم المجتمعة بالأردن ضجة المسلمين عند رحيلهم فظنوا إنهم هاربون إلى الحجاز لما بلغهم من جيش هرقل فطمعوا فيهم وهموا بالغارة على أطرافهم فلقيهم خالد بن الوليد رضي الله عنه فصاح في رجاله وقال دونكم والقوم فهذه علامة النصر قال فانتضى المسلمون السيوف ومدوا الرماح وحمل خالد بن الوليد رضي الله عنه وحمل ضرار بن الأزور رضي الله عنه والمرقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 وطلحة بن نوفل العامري وزاهد بن الأسد وعامر بن الطفيل وابن أكال الدم وغير هؤلاء من الفرسان المعدودين للبراز فلم يكن للروم طاقة بهم فولوا منهزمين والمسلمون يقتلون ويأسرون حتى وصلوا إلى الأردن فغرق منهم خلق كثير ورجع خالد بن الوليد رضي الله عنه وأما الأمير أبو عبيدة فإنه نزل باليرموك وجعل أذرعات من خلفه وكان هناك تل عظيم فعمد أبو عبيدة رضي الله عنه إلى نساء المسلمين وأولادهم فأصعدهم على ذلك التل وأقام الحراس والطلائع على سائر الطرقات فلما وصل خالد بن الوليد رضي الله عنه بالأسارى والغنائم فرح أبو عبيدة رضي الله عنه فرحا شديدا وقال أبشروا رحمكم الله تعالى هذه علامة النصر والظفر وأقام المسلمون باليرموك وهم مستعدون لقتال عدوهم كأنهم ينتظرون وعدا وعدوا به وبلغ الخبر إلى قسطنطين ابن الملك هرقل بأن المسلمين قد نزلوا باليرموك وأن ملوك الروم سائرون لقتالهم فبعث رسولا إلى الملوك يستضعف رأيهم في ابطاء أمرهم ويحثهم على قتال المسلمين فلما ورد رسوله إلى ماهان دعا بالملوك والبطارقة وقرأ عليهم كتاب قسطنطين ابن الملك هرقل وأمرهم بالمسير فسارت جيوش الروم يتلو بعضها بعضا لا يمرون ببلد من مدائن الشام التي فتحها المسلمون إلا ويعنفون أهلها ويقولون لهم يا ويلكم تركتم أهل دينكم وملتكم وملتم إلى العرب فيقولون لهم أنتم أحق بالملامة منا لانكم هربتم منهم وتركتمونا للبلاء فصالحنا عن أنفسنا فيعرفون الحق فيسكتون ولم يزالوا سائرين حتى وصلوا إلى اليرموك فنزلوا بدير يقال له دير الجبل وهو بالقرب من الرمادة والجولان وجعلوا بينهم وبين عسكر المسلمين ثلاثة فراسخ طولا وعرضا فلما تكاملت الجيوش باليرموك أشرفت سوابق الخيل على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان جبلة بن الأيهم في المقدمة في ستين ألف فارس من العرب المتنصرة من غسان ولخم وجذام وهم على مقدمة ماهان فلما نظر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كثرة جيوش الروم قالوا: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم قال عطية بن عامر فوالله ما شبهت عساكر اليرموك إلا كالجراد المنتشر إذا سد بكثرته الوادي قال ونظرت إلى المسلمين قد ظهر منهم القلق وهم لا يفترون عن قول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وأبو عبيدة رضي الله عنه يقول: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 250] قال وأخذ المسلمون أهبتهم ودعا الأمير أبو عبيدة بجواسيسه من المعاهدين وأمرهم أن يدخلوا عساكر الروم يجسون له خبر القوم وعددهم وعديدهم وسلاحهم وقال أبو عبيدة رضي الله عنه: أنا أرجو من الله تعالى أن يجعلهم غنيمة لنا. قال الواقدي: فلما نزل ماهان بعساكره بإزاء المسلمين على نهر اليرموك اقام اياما لا يقاتل ولا يثير حربا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 جبلة بن الأيهم قال الواقدي: وكان تأخير ماهان لامر وذلك أن رسولا ورد عليه من الملك هرقل يقول له: لا تنجز الحرب بينك وبين المسلمين حتى نبعث إليهم رسولا ونعدهم منا كل سنة بمال كثير وهدايا لصاحبهم عمر بن الخطاب ولكل أمير منهم ويكون لهم من الجابية إلى الحجاز فلما وصل الرسول إلى ماهان قال هيهات هيهات أن كانوا يجيبون إلى ذلك أبدا فقال له جرجير وهو من بعض ملوك الجيش وما عليك وما عليك في هذا الذي ذكره الملك هرقل من المشقة فقال ماهان: اخرج أنت إليهم وادع منهم رجلا عاقلا وخاطبه بالذي سمعت واجتهد في ذلك قال فلبس جرجير ثياب الديباج وتعصب بعصابة من الجوهر وركب شهباء عالية بسرج من الذهب الأحمر المرصع بالدر والجوهر وخرج معه ألف فارس من المدبجة وسار حتى أشرف على عساكر المسلمين أوقف جرجير أصحابه وقرب من المسلمين ووقف بازائهم وقال: يا معاشر العرب أنا رسول من الملك ماهان فليخرج الي أميركم والمقدم عليكم حتى نعرض عليه مقالنا ولعلنا نصطلح ولا نسفك دم بعضنا قال فسمعه المسلمون فأعلموا الأمير أبا عبيدة رضي الله عنه بذلك فخرج بنفسه إليه وعليه ثوب من كرابيس العراق وعلى رأسه عمامة سوداء وهو متقلد بسيفه وسار إلى أن وصل إلى جرجير ورفس فرسه حين التقت عنق فرسيهما والناس ينظرون إليهما فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه يا أخا الكفر قل: ما أنت قائل واسأل عما تريد فقال جرجير: يا معاشر العرب لا يغرنكم أن تقولوا هزمنا عساكر الروم في مواطن كثيرة وفتحنا بلادهم وعلونا أكثر أرضهم فانظروا الآن ما قد أتاكم من العساكر فإن معنا من سائر الأجناس المختلفة وقد تحالف الروم أن لا يفروا ولا ينهزموا وأن يموتوا عن آخرهم وليس لكم على ما ترون من طاقة فانصرفوا إلى بلادكم وقد نلتم ما نلتم من بلاد الملك هرقل وقد عول الملك أن يتعود الأحسان إليكم وهو يهب لكم ما أخذتم من بلادهم منذ ثلاث سنين وقد أخذتم السلاح والذهب والفضة وقد كنتم من الهالكين فقال الأمير أبو عبيدة أما ما ذكرت من عساكر الروم وإنهم لا يفرون ولا ينهزمون فلو رأت الروم شفار سيوفنا هربت ناكصة على أعقابها وأما تهويلك لنا بكثرة عددكم فقد رأيت قلتنا وضعف أجسامنا وكيف لقينا جموعكم وكثرتها وعظم عددها وسلاحها وأحب الاشياء إلينا يوم مشاجرتكم بالحرب والقتال حتى يعرف من الذي يثبت للحرب فلما سمع جرجير كلام الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه التفت إلى رجل من أصحابه يقال له بهيل فقال: يا بهيل: الملك هرقل كأنه أعرف بهؤلاء العرب منا ثم لوى رأس جواده ورجع إلى ماهان واخبره بما قال أبو عبيدة: فقال له ماهان: دعوتهم إلى الموعد فقال: لا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 وحق المسيح إني لم أفاتحه في شيء من ذلك لكن أبعث لهم بعض العرب المتنصرة فإن العرب يميل بعضهم إلى بعض قال فعندها دعا ماهان بجبلة بن الأيهم الغساني وقال: يا جبلة اخرج إلى هؤلاء وخوفهم من كثرتنا وتواتر عددنا وألق في قلوبهم الرعب وأحط بهم مكرك قال فخرج جبلة بن الأيهم وسار حتى قرب من عساكر المسلمين ونادى برفيع صوته يا معاشر العرب ليخرج الي رجل من ولد عمرو بن عامر لاخاطبه بما أرسلت به. فلما سمع الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه كلام جبلة بن الأيهم قال قد بعث إليكم القوم بأبناء جنسكم يريدون الخديعة بصلة الرحم والقرابة فابعثوا إليه رجلا من الأنصار من ولد عمرو بن عامر فأسرع إليه بالخروج عبادة بن الصامت الخزرجي رضي الله عنه وقال لأبي عبيدة: أيها الأمير أن أخرج إليه وأنظر ماذا يقول: فأجيب عنه ثم خرج عبادة نحوه بجواده إلى أن وقف أمام جبلة بن الأيهم فنظر جبلة إلى رجل أسمر طويل شديد السمرة كأنه من رجال شنوءة فهابه ودخل الرعب في قلبه من عظم خلقته وكان عبادة بن الصامت من الخطاط رضي الله عنه فقال له جبلة: يا فتى من أي الناس أنت فقال عبادة أنا من من ولد عمرو بن عامر فقال جبلة حييت فمن أنت فقال عبادة بن الصامت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسأل عما تريد فقال جبلة يا ابن العم انما خرجت إليكم لاني أعلم أن أكثركم من الرحم والقرابة فخرجت إليكم ناصحا ومشيرا واعلم أن هؤلاء القوم الذين قد نزلوا بازائكم معهم جنود لا قبل لكم بها وخلفهم عساكر وحصون وقلاع وأموال ولا تقولوا كسرنا وهزمنا عساكر الروم وأعلم أن الحرب دول وسجال وأن هزمكم هؤلاء القوم لا يكون لكم ملجأ غير الموت وهؤلاء القوم أن انهزموا يرجعون إلى بلادهم وعساكرهم والخزائن والحصون وما قد نلتم نيلا فخذوه وامضوا إلى بلادكم سالمين. قال عبادة بن الصامت: يا جبلة أما علمت ما لقينا من جموعكم المتقدمة باجنادين وغيرها وكيف نصرنا الله عليكم وهرب طاغيتكم ونحن نعلم من بقي من جموعكم قد تيسر علينا أمره ونحن لا نخاف ممن يقدم علينا من جموعكم وقد ولغنا في الدماء فلم نجد أحلى من دماء الروم وأنا يا جبلة أدعوك إلى دين الإسلام وأن تدخل مع قومك في ديننا وتكون على شرفك في الدنيا والآخرة ولا تكون تابع علج من علوج الروم تفديه بنفسك من المهالك وأنت رجل من سادات العرب وملوكهم وأن ديننا ظهر أوله وآخره يظهر كما ظهر أوله فاتبع سبيل من أناب إلى الحق وصدق به فقل لا إله إلا الله محمد رسول الله اللهم صل عليه وعلى إله وصحبه وسلم. قال الواقدي: فغضب جبلة بن الأيهم من كلام عبادة بن الصامت وقال لست مفارقا ديني فقال عبادة بن الصامت فإن أبيت إلا ما أنت عليه من الكفر فإياك أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 تلقاني في الموعد الأول فإن لنا وقعة عظيمة فإن أخذتك شفار سيوفنا فلا تخلص من شفارها ودعنا وعساكر الروم فهم أهون علينا فإن أبيت إلا ما أنت عليه حل بك مثل ما حل بهم. قال الواقدي: فغضب جبلة بن الأيهم وقال لماذا تخوفني من سيوفكم أما نحن عرب مثلكم رجل لرجل فقال عبادة بن الصامت قد علمنا إنك أنما خرجت إلينا مخادعا ومعينا ولسنا كأنتم يا ويلكم نحن على قلتنا نوحد ربنا ونتبع سنة نبينا محمد وأن ورائنا عسكرا يعلوا الأقطار ويسد القفار فقال جبلة لست أعرف وراءكم جيشا غير هذا الجيش ولا من ينصركم غيرهم فقال عبادة بن الصامت كذبت والله يا أبن الأيهم في قولك وأن وراءنا رجالا انجادا وأبطالا شدادا يرون الموت مغنما والحياة مغرما كل واحد بنفسه يلقي جيشا حافلا يا ويلك أنسيت عليا وسطوته وعمر وشدته وعثمان وبراعته والعباس وطلعته والزبير مع ما يجتمع إليهم من فرسان المسلمين من مكة والطائف واليمن وغير ذلك قال فلما سمع جبلة ذلك من كلام عباة بن الصامت قال: يا أبن العم أنا ما خرجت إلا أريد النصحية لكم فإن أبيتم ذلك فاسال قومك يجيبونا إلى الصلح فقال عبادة بن الصامت لا صلح بيننا إلا باداء الجزية أو الإسلام أو السيف وهو حكم بيننا وبينكم والله لولا أن الغدر يقبح بنا لعلوتك بسيفي هذا فلما سمع جبلة كلام عبادة وانه قد حاف عليه في الكلام لم يرد عليه جوابا غير إنه ثنى رأس جواده وأتى إلى ماهان فزعا مرعوبا وقد امتلأ قلبه رعبا من كلام عبادة بن الصامت فلما وقف بين يدي ماهان تبين في وجهه الجزع والفزع فقال لجبلة ما وراءك فقال: أيها الملك إني خوفت وأرعبت ومنيت فكان ذلك كله عندهم بالسواء وقالوا: ما بيننا إلا الحرب والقتال فقال له ماهان: فما هذا الفزع الذي أراه في وجهك وهم عرب مثلكم وأنتم عرب مثلهم وقد بلغني إنهم ثلاثون ألف فارس وأنتم ستون ألف فارس أما يقاتل الرجلان منكم الرجل الواحد منهم دونك يا جبلة فسر أنت وابناء عمك من العرب المتنصرة إلى قتالهم وأنا وراءكم فإن ظفرتم بهم كان الملك مشتركا بيننا وبينكم وتكون أقرب الناس إلينا ويسلم إليكم ما فتحه العرب من بلاد الشام. قال الواقدي: وجعل ماهان يرغب جبلة في العطاء ويلينه ويحرضه على القتال في المسلميي حتى أجابه إلى ذلك وأخبر قومه وبني عمه من بني غسان ولخم وجذام وغيرهم من العرب المتنصرة وأمرهم بأخذ الأهبة للحرب والقتال ففعل القوم ذلك وركبوا في سابغ الحديد والزرد النضيد وهم ستون ألف فارس ما يخالطهم من غير العرب أحد يقدمهم جبلة بن الأيهم وعليه درع من الذهب الأحمر متقلد بسيف من عمل التبابعة وعلى رأسه الراية التي عقدها له الملك هرقل فسار جبلة نحو الصحابة في ستين ألف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 فارس حتى أشرف على عساكر المسلمين وأبو عبيدة يتحدث مع عبادة بن الصامت بما جرى بينه وبين جبلة بن الأيهم إذ أشرفت عليهم العرب المتنصرة فلما رآهم المسلمون صاح بعضهم على بعض يا معاشر المسلمين قد أقبلت عليكم العرب المتنصرة لقتالكم فما أنتم قائلون. قالوا: نقاتلهم ونرجو من الله تعالى الظهور عليهم والمعونة وعلى غيرهم وهموا بالحملة فصاح عليهم خالد بن الوليد رضي الله عنه وقال اصبروا رحمكم الله ولا تعجلوا حتى اكيدهم بمكيدة يهلكون بها وقال لابي عبيدة رضي الله عنه: أيها الأمير أن القوم قد استعانوا علينا بالعرب المتنصرة وهم اضعاف عددنا وأن نحن نقاتلهم بجمعنا كله كان ذلك وهنا منا وضعفا وأريد أن أبعث لهم رسولا من بني عمهم يكلمهم في شأن ردهم عنا فإن فعلوا كان ذلك كسرا لهم وللمشركين ووهنا عظيما وأن أبوا إلا الحرب والقتال خرج منا نفر يسير يردونهم على أعقابهم بعزة الله عز وجل قال فتعجب أبو عبيدة رضي الله عنه وقال: يا أبا سليمان افعل ما تريد. فعند ذلك دعا خالد بن الوليد بقيس بن سعد وعبادة بن الصامت الخزرجي وجابر بن عبد الله وأبي أيوب بن خالد بن يزيد رضي الله عليهم أجمعين فلما وقفوا بين يديه قال لهم: يا أنصار الله تعالى ورسوله هؤلاء العرب المتنصرة يريدون قتالكم وهم غسان ولخم وجذام وهم بنو عمكم في النسب فاخرجوا إليهم وخاطبوهم واجتهدوا في ردهم عن حربكم وقتالكم فإن فعلوا ذلك وإلا أخذهم السيف منا ومنكم وكنا لقتالهم كفؤا. قال الواقدي: فخرج أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العرب المتنصرة فوجدوا جبلة بن الأيهم قد نزل بإزاء المسلمين يريد حربهم وقتالهم فلما قربوا من بني غسان نادى جابر ابن عبد الله وقال: يا معاشر العرب من لخم وغسان وجذام اننا بنو عمكم ونريد الدنو إليكم قال فأذن لهم جبلة بالدنو إليه فدخلوا عليه فإذا هو في مضرب من الديباج وقد فرش بالحرير الأصفر وهو جالس وحوله ملوكه وملوك جفنة فحيوه بتحية ملوك العرب فرفع جبلة أقدارهم وأدنى مزارهم وقال: يا بني العم أنتم من الرحم ومن القرابة وإني خرجت إليكم من جهة هذا الجيش الذي يرهقكم فخرج الي رجل منكم فأفرط علي في المقال فما الذي أتى بكم الي فكان أول من كلمه جابر بن عبد الله وقال: يا ابن العم لا تؤاخذنا فيما تكلم به صاحبنا فإن ديننا لا يقوم إلا بالحق والنصيحة وأن النصيحة لك منا واجبة لانك ذو قرابة ورحم وقد أتينا إليك ندعوك إلى دين الإسلام وتكون من أهل ملتنا ويكون لك ما لنا وعليك ما علينا فإن ديننا شريف ونبينا ظريف فقال وما أحب ذلك ولا غيره انني ضنين بديني وأنتم يا معاشر الأوس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 والخزرج رضيتم لأنفسكم أمرا ونحن رضينا لأنفسنا أمرا لكم دينكم ولنا ديننا فقال له الأنصاري: إن كنت لا تحب أن تفارق دينك الذي أنت عليه فاعتزل عن قتالنا لتنظر من تكون العاقبة والغلبة فإن كانت لنا وأردت الدخول في ديننا قبلناك وكنت منا وأخانا وأن أقمت على دينك قنعنا منك بالجزية وأقررناك على بلدك وعلى مواطن كثيرة لآبائك وأجدادك. فقال جبلة أخشى أن تركت حربكم وقتالكم وكانت الدائرة للقوم لا آمن أن يتقووا على بلدي لأن الروم لا ترضى مني إلا أن أكون مقاتلا لكم وقد رأسوني على جميع العرب وأنا لو دخلت دينكم كنت دنيئا ولا اتبع فقال الأنصاري فإن أبيت ما عرضناه عليك فإن ظفرنا بك قتلناك فاعتزل عنا وعن سيوفنا فإنها تفلق الهام وتبري العظام فتكون الوقعة بغيرك أحب إلينا من الوقعة بك وبمن معك قال وكانت الأنصار يريدون بهذا الكلام تخويفه وترغيبه كي ينصرف عنهم وجبلة يأبى ذلك فقال وحق المسيح والصليب لا بد أن أقاتل عن الروم ولو كان لجميع الأهل والقرابة فقال له قيس بن سعد: يا جبلة أبيت إلا أن يحتوي الشيطان على قلبك فيهوى بك في النار فتكون من الهالكين وإنما أتينا لندعوك إلى دين الإسلام لأن رحمك متصلة برحمنا فإن أبيت فستعاين منا حربا شديدا يشيب فيه الطفل الصغير ثم وثب قيس بن سعد وقال لقومه انهضوا على بركة الله تعالى وعونه وحسن طاعته فبعدا له وسحقا فقام جبلة فاستعد للقتال بعدته قال فركب الأنصار خيولهم ورجعوا إلى الأمير أبي عبيدة وخالد بن الوليد رضي الله عنه وأعلموهما بمقالة جبلة وأنه ما يريد إلا القتال فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: أبعده الله تعالى فوعيش عاش فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد المرسلين لينظرن منا جبلة ما ينظر. ثم قال خالد بن الوليد رضي الله عنه: اعلموا معاشر المسلمين أن القوم في ستين ألف فارس من العرب المتنصرة وهم حزب الشيطان ونحن ثلاثون ألف فارس من حزب الرحمن ونريد أن نلقي هذا الجمع الكبير فإن قاتلنا جبلة بجمعنا كله كان ذلك وهنا منا ولكن ينتدب منا أبطال ورجال إلى قتال هؤلاء العرب المتنصرة فقال أبو سفيان صخر بن حرب لله درك يا أبا سليمان فلقد أصبت الرأي فاصنع ما تريد وخذ من الجيش ما أحببت فقال إني قد رأيت من الرأي أن نندب من جيشنا ثلاثين فارسا فيلقى كل واحد ألفي فارس من العرب المتنصرة. قال الواقدي: فلم يبق أحد من المسلمين إلا عجب من مقالة خالد بن الوليد رضي الله عنه وظنوا إنه يمزح بمقالته وكان أول من خاطبه في ذلك أبو سفيان صخر بن حرب وقال: يا ابن الوليد هذا كلام منك جد أو هزل فقال خالد بن الوليد رضي الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 عنه: لا وعيش عاش فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قلت إلا جدا فقال أبو سفيان فتكون مخالفا لامر الله تعالى ظالما لنفسك وما أظن أن لك في هذه المقالة مساعدا ولو قاتل الرجل منا مائتين كان ذلك أسهل من قولك يقاتل الرجل منا ألفين وأن الله عز وجل رحيم بعباده فرض رجلا منا تلقى الستين ألف فارس فما يجيبك أحد إلى ذلك وأن أجابك رجل لما قلته فإنه ظالم لنفسه معين على قتله فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: يا أبا سفيان كنت شجاعا في الجاهلية فلا تكن جبانا في الإسلام وانظر لمن أنتخب من رجال المسلمين وأبطال الموحدين فإنك إذا رأيتهم علمت إنهم رجال قد وهبوا أنفسهم لله عز وجل وما يريدون بقتالهم غير الله تعالى ومن علم الله عز وجل ذلك من ضميره كان حقا على الله أن ينصره ولو سلك مفظعات النيران فقال أبو سفيان يا أبا سليمان الأمر كما ذكرت وما أردت بقولي إلا شفقة على المسلمين فإذا قد صح عزمك على ذلك فاجعل القوم ستين رجلا ليقاتل الرجل منهم ألف فارس من العرب المتنصرة. فقال الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه: نعم ما أشار به أبو سفيان يا أبا سليمان فقال خالد بن الوليد رضي الله عن والله: يا أيها الأمير ما أردت بفعلي هذا إلا مكيدة لعدونا لانهم إذا رجعوا إلى أصحابهم منهزمين بقوة الله عز وجل ويقولون لهم من لقيكم فيقولون لقينا ثلاثون رجلا يداخلهم الرعب منا ويعلم ماهان أن جيشنا كفء له فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه أن الأمر كما ذكرت إلا إنه إذا كان ستون رجلا منا يكونون عصبة ومعينا بعضهم بعضا فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: أنا أنتدب من المسلمين رجالا أعرف صبرهم وقرارهم واقدامهم في الحرب وأعرض عليهم هذه المقالة فإن أحبوا لقاء الله ورغبوا في ثواب الله عز وجل فإنهم يستتجيبون إلى ذلك وأن أحبوا الحياة الدنيا والبقاء فيها ولم يكن فيهم من تطيب نفسه للموت فما بخالد إلا أن يبذل مهجته لله عز وجل والله الموفق لما يحبه ويرضاه. قال أبو عبد الله حدثنا عمرو بن سالم عن جده برعي بن عدي قال كنت بين يدي خالد بن الوليد رضي الله عنه فدعا بستين رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأول ما دعا خالد بن الوليد قال: أين عمر التميمي اين شرحبيل بن حسنة كاتب وحي رسول الله صلى الله عليه وسلم أين خالد أبن سعيد بن العاص أين يزيد بن أبي سفيان الأموي أين صفوان بن أمية الجمحي أين سهل ابن عمرو العامري أين ضرار بن الأزور الكندي أين رافع بن عميرة الطائي أين زيد الخيل أبيض الركابين أين حذيفة بن اليمان أين قيس بن سعد أين كعب بن مالك الأنصاري أين سويد بن عمرو الغنوي أين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 عبادة بن الصامت أين جابر بن عبد الله أين أبو أيوب الأنصاري أين عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهم أجمعين أين عبد الله ابن عمرو بن الخطاب العدوي أين رافع بن سهل أين يزيد بن عامر أين عبيد بن أوس أين مالك بن نصر أين نصر بن الحرث أين عبد الله بن ظفر أين أبو لبابة بن المنذر أين عوف أين عابس بن قيس أين عبادة بن عبد الله الأنصاري أين رافع بن عجرة أين عبيد بن عبد الله أين معقب بن قيس أين هلال أين الصابرون يوم أحد وقد ذكرهم الله تعالى في كتابه: {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 66] أين أسيد الساعدي أين كلال بن الحرث المازني أين حمزة بن عمر الاسلمي أين يزيد بن عامر. قال الواقدي: وقد سمى خالد بن الوليد رضي الله عنه الرجال الذين دعاهم لقتال جبلة بن الأيهم إلا إني اختصرت في ذكرهم وقدمت ذكر الأنصار رضي الله عنه لأن خالد بن الوليد رضي الله عنه انتخب أكثر الرجال من الأنصار فلما كثر النداء فيهم قالت الأنصار: إن خالدا اليوم يقدم ذكر الأنصار ويؤخر المهاجرين من ولد المغيرة بن قصي ويوشك إنه يختبرهم أو يقدمهم للمهالك ويشفق على ولد المغيرة. قال الواقدي: فلما سمع خالد بن الوليد رضي الله عنه ذلك من قولهم أقبل يخطو بجواده حتى توسط جميع الأنصار وقال لهم: والله يا أولاد عامر ما دعوتكم إلا لما ارتضيته منكم وحسن يقيني بكم وبايمانكم فأنتم ممن رسخ الإيمان في قلبه فقالوا: إنك صادق في قولك يا أبا سليمان ثم صافحه القوم. قال الواقدي: فلما انتخب خالد بن الوليد من فرسان المسلمين ستين رجلا كل واحد منهم يلقى جيشا بنفسه قال لهم خالد بن الوليد رضي الله عنه: يا أنصار الله ما تقولون في الحملة معي على هذا الجيش الذي قد أتى يريد حربكم وقتالكم فإن كان لكم صبر وأيدكم الله بنصره مع صبركم وهزمتم هؤلاء العرب المتنصرة فاعلموا إنكم لجيش الروم غالبون فإذا هزمتم هؤلاء العرب وقع الرعب في قلوبهم فينقلبون خاسرين فقالوا: يا أبا سليمان افعل بنا ما تريد والق ما تشاء فوالله لنقاتلن أعداءنا قتال من ينصر دين الله ونتوكل على الله تعالى وقوته ونبذل في طلب الآخرة مهجنا فجزاهم خالد بن الوليد رضي الله عنه خيرا وكذلك الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه وقال لهم: تأهبوا رحمكم الله وخذوا أسلحتكم وعدتكم وليكن قتالكم بالسيف ولا يأخذ أحد منكم رمحا فإن الرمح خوان ربما زاغ عن الطعن ولا تأخذوا السهام فإنها منايا منها المخطىء ومنها المصيب والسيف والحجف عليهما تدور دوائر الحرب واركبوا خيولكم السبق النواجي ولا يركب الرجل منكم إلا جواده الذي يصبر به وتواعدوا أن الملتقى عند قبر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 المصطفى صلى الله عليه وسلم قال فقدموا على أهاليهم وودعوهم فأما ضرار بن الأزور فإنه عمد إلى خيمته ليستعد بما يريد ويسلم على أخته خولة رضي الله عنها بنت الأزور فلما لبس لأمة حربه قالت له أخته خولة: يا أخي مالي أراك تودعني وداع من أيقن بالفراق اخبرني ماذا عزمت عليه فأخبرها ضرار بما قد عزم عليه وانه يريد أن يلقى العدو مع خالد بن الوليد رضي الله عنه فبكت خولة وقالت: يا أخي افعل ما تريد أن تفعل والق عدوك وانت موقن بالله تبارك وتعالى فإنه لكم ناصر وأن عدوك لا يقرب إليك أجلا بعيدا ولا يبعد عنك أجلا قريبا فإن حدث عليك حدث أو لحقك من عدوك نائبة فوالله العظيم شأنه لا هدأت خولة على الأرض أو تأخذ بثأرك فبكى ضرار بن الأزور لبكائها واعد آلة الحرب وكذلك الستون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يناموا طول ليلتهم حتى ودعوا أولادهم وأهاليهم وباتوا في بكاء وتضرع وهم يسألون الله تعالى النصر على الأعداء إلى أن أصبح الصباح فصلى بهم الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه صلاة الفجر فلما فرغ من صلاته كان أول من أسرع إلى الخرج خالد بن الوليد رضي الله عنه وحرض أصحابه على الخروج وهو ينشد ويقول: هبوا جميع اخوتي أرواحا ... نحو العدو نبتغي الكفاحا نرجو بذاك الفوز والنجاحا ... إذا بذلنا دونه أرواحا ويرزق الله لنا صلاحا ... في نصرنا الغدو والرواحا قال الواقدي: وأنشد بيتا آخر لم أدر ما هو وخرج أمام المسلمين وأصحابه يقدمون إليه واحدا بعد واحد حتى اجتمع إليه الستون رجلا الذين انتخبهم وكان آخر من أقبل عليه الزبير بن العوام رضي الله عنه ومعه زوجته أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها وهي سائرة إلى جانب أيها عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وهي تدعو لهم بالسلامة والنصر وتقول لاخيها يا أخي لا تفارق ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ووقت الحملة اصنع كما يصنع ولا تأخذكم في الله لومة لائم قال وودع المسلمون الستين أصحابهم وساروا بأجمعهم وخالد بن الوليد رضي الله عنه في أوساطهم كأنه أسد قد احتوشته الأسود ولم يزالوا حتى وقفوا بازاء العرب المتنصرة. قال الواقدي: ونظرت العرب المتنصرة إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أقبلوا نحوهم وهم نفر يسير فظنوا إنهم رسل يطلبون الصلح والمواعدة فصاح جبلة بالعرب المتنصرة وحرضهم ليرهب المسلمين ونادى يا آل غسان أسرعوا إلى نصرة الصليب وقاتلوا من كفر به فبادروا بالإجابة وأخذوا الأهبة للحرب ورفعوا الصليب واصطفوا للقتال وقد طلعت الشمس على لأمة الحرب فلمع شعاعها على الحديد والزرد والبيض كأنها شعل نار ووقفوا يبصرون ما يصنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن قاربوا صلبان العرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 المتنصرة ونادى خالد بن الوليد رضي الله عنه يا عبدة الصلبان ويا أعداء الرحمن هلموا إلى الحرب والطعان فلما سمع جبلة كلام خالد رضي الله عنه علم إنهم ما خرجوا رسلا وإنما خرجوا للقتال فخرج جبلة من بين أصحابه وقد اشتمل بلامة حربه وهو يقول: أنا لمن عبدوا الصليب ومن به ... نسطو على من عابنا بفعالنا ولقد علونا بالمسيح وأمه ... والحرب تعلم إنها ميراثنا أنا خرجنا والصليب أمامنا ... حتى تبددكم سيوف رجالنا ثم قال جبلة من الصائح بنا والمستنهض لنا في قتالنا فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: أنا فاخرج إلى حومة الحرب فقال جبلة نحن قد رتبنا أمورنا لحربكم وقتالكم وأنتم تتربصون عن قتالنا فوحق المسيح لا أجبناكم إلى الصلح أبدا فارجعوا إلى قومكم وأخبروهم اننا ما نريد إلا القتال قال فأظهر خالد التعجب من قوله وقال له: يا جبلة أتظن أننا خرجنا رسلا إليك فقال جبلة أجل فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: لا تظن ذلك أبدا فوالله ما خرجنا إلا لحربكم وقتالكم فإن قلتم اننا شرذمة فإن الله ينصرنا عليكم فقال جبلة يا فتى قد غررت بنفسك وبقومك إذ خرجت إلى قتالنا ونحن سادات غسان ولخم وجذام فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: لا تظن ذلك واننا قليلون فقتالكم رجل منا لالف منكم وتخلف منا رجال أشهى إليهم الحرب من العطشان إلى الماء البارد فقال جبلة يا أخا بني مخزوم لقد كنت أفضلك في عقلك وأروم بك مرام الأبطال حتى سمعت منك هذا الكلام إنك أنت والستين رجلا ترومون قتالنا ونحن سادات غسان وأبطال الزمان ها أنا أحمل بهذه الستين ألف فارس فلا يبقى منكم أحد ثم صاح جبلة بقومه يا آل غسان الحملة. فلما سمعوا كلام سيدهم حملت الستون ألف فارس في وجه خالد بن الوليد والستين رجلا فثبت لهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتبك الحرب بينهم فما كنت تسمع إلا زئير الرجال وزمجرة الأبطال ووقع السيف على البيض الصقال حتى ما ظن أحد من المسلمين ولا من المشركين أن خالدا ومن معه ينجو منهم أحد فبكى المسلمون وأخذهم القلق على أخوانهم وجعل بعضهم يقول: لقد غرر خالد بن الوليد بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهلكهم والروم تقول أن جبلة أهلك هؤلاء القوم فهلاك العرب حاصل بأيدينا لا محالة ولم يزل القوم في الحرب والقتال حتى قامت الشمس في كبد السماء قال عبادة بن الصامت فلله در خالد بن الوليد رضي الله عنه والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه والفضل بن العباس وضرار بن الأزور وعبد الله بن عمر بن الخطاب رضوان الله عليهم اجمعين لقد رأيت هؤلاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 الستة قد قرنوا مناكبهم في الحرب وقام بعضهم بجنب بعض وهم لا يفترقون وزادت الحرب اشتعالا وخرقت الأسنة صدور الليوث حتى بلغت إلى خزائن القلوب لانقطاع الآجال ولم يزالوا في القتال الشديد الذي ما عليه من مزيد قال عبادة بن الصامت فحملت معهم وكنت في جملتهم وقلت: يصيبني ما يصيبهم ونادى خالد بن الوليد وقال: يا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ههنا المحشر وقد أعطى خالد القلب مناه فلما حمى بينهم القتال حمل خالد بن الوليد وهاشم والمرقال وتكاثرت عليهم الرجال فلله در الزبير ابن العوام والفضل بن العباس وهم ينادون أفرجوا يا معاشر الكلاب وتباعدوا عن الأصحاب نحن الفرسان هذا الزبير بن العوام وأنا الفضل بن العباس أنا أبن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عبادة بن الصامت رضي الله عنه فوحق رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد أحصيت للفضل بن العباس عشرين حملة يحملها عن خالد بن الوليد حتى أزال عنه الرجال والأبطال وحملوا على المشركين حملة عظيمة ولم يزالوا في القتال يومهم إلى أن جنحت الشمس إلى الغروب والمسلمون قد جهدهم القلق على اخوانهم أما الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه فإنه صاح بالمسلمين وقال: يا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هلك خالد بن الوليد ومن معه لا محالة وذهبت فرسان المسلمن فاحملوا بارك الله فيكم لننظر ما كان من أر اخواننا فكل اجاب إلى قوله واشارته إلا أبا سفيان صخر بن حرب رضي الله عنه فإنه قال للأمير أبي عبيدة رضي الله عنه لا تفعل أيها الأمير فإنه لا بد للقوم أن يتخلصوا ونرى ما يكون من أمرهم قال فلم يلتفت أبو عبيدة رضي الله عنه إلى كلامه وهم أن يحمل وقد أخذه القلق فبينما هو كذلك وإذا جيش العرب المتنصرة منهزمون وأصوات الصحابة رضي الله عنهم قد ارتفعت بالتهليل والتكبير كل ينادي أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله والعرب المتنصرة منهزمة على أعقابهم كأنما صاح بهم صائح من السماء فبدد شملهم وأقبل خالد بن الوليد من وسط المعمعة يلتهب بما لحقه من التعب وكذا أصحابه الذين كانوا معه. قال وأن خالد بن الوليد افتقد أصحابه الستين رجلا فلم يجد منهم إلا عشرين فجعل يلطم على وجهه وهو يقول: أهلكت المسلمين يا ابن الوليد فما عذرك غدا عند الرحمن وعند الأمير عمر بن الخطاب رضي الله عنه فبينما هو متحير في ذلك إذ أقبل عليه الأمير أبو عبيدة رضي الله عنه وفرسان المسلمين وأبطال الموحدين فنظر أبو عبيدة رضي الله عنه إلى خالد بن الوليد وما يصنع بنفسه وقد اشتغل عن متابعة المشركين فقال أبو عبيدة: يا أبا سليمان الحمد لله على نصر المسلمين ودمار المشركين فقال خالد بن الوليد: اعلم أيها الأمير أن الله قد هزم الجيش ولكن أعقبتك الفرحة ترحة فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه وكيف ذلك فقال خالد: أيها الأمير فقدت أربعين رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم الزبير بن العوام ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 الفضل بن العباس وجعل خالد بن الوليد رضي الله عنه يسمي فرسان المسلمين واحدا بعد واحد حتى سمى أربعين رجلا فاسترجع أبو عبيدة رضي الله عنه وقال: لاحول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وقال لخالد لا بد لعجبك يهلك المسلمون فقال سلامة بن الأحوص السلمي أيها الأمير دونك والمعركة فاطلب فيها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن رأيتموهم وإلا فالقوم أسرى أو قد تبعوا المشركين فأمر أبو عبيدة فأتوا بهوادى النيران وكان الظلام قد اعتكر فافتقدوا المعركة بين القتلى فإذا قتل من العرب المتنصرة خمسة آلاف فارس وسيدان من ساداتهم وهما رفاعة بن مطعم الغساني والآخر شداد بن الأوس ووجدوا من قتل المسلمين عشرة رجال منهم اثنان من الأنصار أحدهما عامر الأوسي والآخر سلمة الخزرجي فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه يوشك أن بعض الصحابة قد تبع المشركين فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه اللهم ائتنا بالفرج القريب ولا تفجعنا بابن عمة نبيك الزبير بن العوام ولا بابن عمه الفضل ابن العباس ثم قال أبو عبيدة: معاشر المسلمين من يقفو لنا أثر القوم ويتعرف خبر الصحابة واجره على الله عز وجل فكان أول من أجابه خالد بن الوليد رضي الله عنه فقال له الأمير أبو عبيدة: لا تفعل يا أبا سليمان لانك تعبت من شدة الحرب فقال خالد: والله لا يمضي في طلبهم غيري ثم غير جواده بفرس من خيول المسلمين وهو فرس حازم بن جبير بن عدي من بني النجار فركبه خالد ابن الوليد رضي الله عنه وطلب آثار القوم وتبعه جماعة من المسلمين فما سار خالد بعيدا حتى سمع خالد التهليل والتكبير فأجابهم بمثله فأقبل القوم وفي أوائلهم الزبير بن العوام والفضل ابن العباس وهاشم والمرقال فلما نظر خالد إليهم فرح فرحا شديدا ورحب بهم وسلم عليهم وقال خالد بن الوليد رضي الله عنه للفضل بن العباس: يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان أمركم. فقال: يا أبا سليمان هزم الله المشركين وردهم على أدبارهم خائبين فتبعنا آثارهم وأن رجالا منا أسروا فرجونا خلاصهم فلم نرهم ولا شك إنهم قتلوا فقال خالد رضي الله عنه: أن القوم في الأسر لا محالة فقال الزبير بن العوام من أين علمت ذلك يا أبا سليمان فقال خالد رضي الله عنه: أنا لم نجد في المعركة غير عشرة رجال ونحن عشرون وأنتم خمسة وعشرون وقد أسر خمسة رجال لا محالة وكان الأسرى رافع بن عميرة وربيعة بن عامر وضرار بن الأزور وعاصم بن عمرو ويزيد بن أبي سفيان فعظم ذلك على المسلمين ورجعوا إلى أبي عبيدة رضي الله عنه فلما نظر إلى الفضل بن العباس والى الزبير بن العوام والمرقال بن هاشم وقد رجعوا سالمين فرحين بما نصرهم الله على الكافرين سجد على قربوس سرجه شكرا لله تعالى فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: معاشر المسلمين لقد بذلت مهجتي أن أقتل في سبيل الله تعالى فلم أرزق الشهادة فمن قتل من المسلمين كان أجله قد حضر ومن أسر كان خلاصه على يدي إن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 شاء الله تعالى قال وباتت الفرسان في فرح وسرور وبات الروم في نوح عظيم حين كسرت حامية عسكرهم. قال الواقدي: حدثني من أثق به أن الأمير أبا عبيدة رضي الله عنه لما نظر إلى عساكر الروم معولة على قتاله كتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتابا يقول فيه: بسم الله الرحمن الرحيم إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب من أبي عبيدة عامر بن الجراح عامله سلام عليك فاني أحمد الله الذي لا إله إلا هو وأصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وأعلم يا أمير المؤمنين أن كلب الروم هرقل قد استفز علينا كل من يحمل الصليب وقد سار القوم إلينا كالجراد المنتشر وقد نزلنا باليرموك بالقرب من أرض الرماة والخولان والعدو في ثمانمائة ألف مقاتل غير التبع وفي مقدمتهم ستون ألف من العرب المنتصرة من غسان ولخم وجذام فأول من لقينا جبلة بن الأيهم في ستين ألف فارس وأخرجنا إليه ستين رجلا فهزم الله تعالى المشركين على أيديهم {وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم} وقتل من أصحابنا عشرة رجال وهم راعلة وجعفر بن المسيب ونوفل بن ورقة وقيس بن عامر وسلمة بن سلامة الخزرجي وأسر منهم خمسة رجال وهم رافع بن عميرة وربيعة بن عامر وضرار بن الأزور وعاصم بن عمرو ويزيد بن أبي سفيان ونحن على نية الحرب والقتال فلا تغفل عن المسلمين وأمدنا برجال من الموحدين ونحن نسأل الله تعالى أن ينصرنا وينصر الإسلام وأهله والسلام عليك وعلى جميع المسلمين ورحمة الله وبركاته وطوى الكتاب وسلمه إلى عبد الله بن قرط الأزدي وأمره أن يتوجه إلى مدينة يثرب قال عبد الله بن قرط فركبت من اليرموك يوم الجمعة في الساعة العاشرة بعد العصر وقد مضى من شهر ذي الحجة اثنا عشر يوما والقمر زائد النور فوصلت يوم الجمعة في الساعة الخامسة والمسجد مملوء بالناس فأنخت ناقتي على باب جبريل عليه السلام وأتيت الروضة وسلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه وصليت فيها ركعتين ونشرت الكتاب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال فضجت المسلمون عند رؤيته وتطاولت إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقبلت يديه وسلمت عليه فلما فتح عمر الكتاب انتقع لونه وتزعزع كونه وقال أنا لله وأنا إليه راجعون فقال عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب والعباس وعبد الرحمن بن عوف وطلحة وغيرهم من الصحابة يا أمير المؤمنين أطلعنا على ما في هذا الكتاب من أمر اخواننا المسلمين فقام عمر رضي الله عنه ورقى المنبر خطيبا وقرأ الكتاب على الناس فلما سمعوا ما فيه ضجوا بالبكاء شوقا إلى اخوانهم وشفقة عليهم وكان أكثر الناس بكاء عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وقال: يا أمير المؤمنين ابعث بنا إليهم ولو قدمت أنت إلى الشام لشدت بك ظهور المسلمين فوالله ما أملك إلا نفسي ومالي وما ابخل بهما على المسلمين قال: فلما سمع عمر بن الخطاب كلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 عبد الرحمن بن عوف ونظر إلى اشفاق المسلمين وجزعهم على إخوانهم أقبل على عبد الله وقال: يا بن قرط من المقدم على عساكر الروم فقلت: خمسة بطارقة أحدهم ابن أخت الملك هرقل وهو قورين والديرجان وقناطير وجيرجير وصلبانهم تحت صليب ماهان الأرمني وهو الملك على الجميع وجبلة بن الأيهم الغساني مقدم على ستين ألف فارس من العرب المتنصرة فاسترجع عمر وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ثم قرأ عمر: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:8] . ثم قال: ما تشيرون به علي رحمكم الله تعالى فقال له علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ابشروا رحمكم الله تعالى فإن هذه الوقعة يكون فيها آية من آيات الله تعالى يختبر بها عباده المؤمنين لينظر أفعالهم وصبرهم فمن صبر واحتسب كان عند الله من الصابرين واعلموا أن هذه الوقعة هي التي ذكرها لي رسول الله صلى الله ليه وسلم التي يبقى ذكرها إلى الأبد هذه الدائرة المهلكة فقال العباس علي من هي يا أبن اخي فقال: يا عماه علي من كفر بالله واتخذ معه ولدا فثقوا بنصر الله عز وجل ثم قال لعمر يا أمير المؤمنين اكتب إلى عاملك أبي عبيدة كتابا وأعلمه فيه أن نصر الله خير له من غوثنا ونجدتنا فيوشك إنه في أمر عظيم فقام عمر ورقى المنبر وخطب خطبة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون وذكر فضل الجهاد ثم نزل وصلى بالمسلمين فلما فرغ من صلاته كتب إلى أبي عبيدة كتابا يقول فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى أمين الأمة أبي عبيدة بن الجراح ومن معه من المهاجرين والأنصار سلام عليكم فاني أحمد الله الذي لا إله إلا هو واصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أما بعد فإن نصر الله خير لكم من معونتنا واعلموا إنه ليس بالجمع الكثير يهزم الجمع القليل وإنما يهزم الجمع القليل وإنما يهزم بما أنزل الله من النصر وأن الله عز وجل يقول: {وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 19] وربما ينصر الله العصابة القليل عددها على العصابة الكثيرة وما النصر إلا من عند الله وقد قال تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} [الأحزاب: 23] رالآية يا طوبى للشهداء ويا طوبى لمن يتكل على الله فالق العدو بمن معك من المسلمين ولا تيأس بمن صرح من المسلمين فقد رأيت من صرع بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما عجزوا عن عدوهم في مواطن كثيرة حتى قتلوا في سبيل الله ولم يهابوا لقاء الموت في جنب الله تعالى بل جاهدوا في سبيل الله حق جهاده: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ*فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:148] . فإذا ورد عليك كتابي هذا فاقرأه على المسلمين وأمرهم أن يقاتلوا العدو في سبيل الله عز وجل واقرأ عليهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200] والسلام عليك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 ورحمة الله وبركاته ثم طوى الكتاب وسلمه إلى عبد الله بن قرط وقال له: يا ابن قرط إذا اشرفت على المسلمين وقد استوت الصفوف فسر بين صفوف الموحدين وقف على أصحاب الرايات منهم وخبرهم إنك رسولي إليهم وقل لهم أن عمر بن الخطاب يسلم عليكم ويقول لكم: يا أهل الإيمان أصدقوهم الحرب عند اللقاء وشدوا عليهم شد الليوث وأضربوا هاماتهم بالسيوف وليكونوا عليكم أهون من الذباب فانكم المنصورون عليهم أن شاء الله تعالى ثم اقرأ عليهم: {أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المائدة: 56] قال عبد الله بن قرط قلت له: يا أمير المؤمنين ادع الله تعالى لي بالسلامة والسرعة في السير. فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه اللهم احمه وسلمه واطو له البعيد إنك على كل شيء قدير قال عبد الله بن قرط وخرجت من المسجد من باب الحبشة فقلت في نفسي: لقد أخطأت في الرأي إذ لم أسلم على قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فما أدري أراه بعد اليوم أم لا قال عبد الله فقصدت حجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعائشة رضي الله عنها جالسة عند قبره وعلى بن ابي طالب كرم الله وجهه والعباس جالسان عند القبر والحسين في حجر علي والحسن في حجر العباس رضي الله عنه وهم يتلون سورة الأنعام وعلي رضي الله عنه يتلو سورة هود فسلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال علي رضي الله عنه يا ابن قرط عولت على المسير إلى الشام فقلت: نعم يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أظن أن أصل إليهم إلا والجيش قد التقى والحرب دائرة وإذا أشرفت عليهم لا يرون معي مدادا ولا نجدة خشيت عليهم أن يهنوا ويجزعوا وكنت أحب أن أصل إليهم قبل التقائهم بعدوهم حتى أعظهم وأصبرهم فقال علي رضي الله عنه فما منعك أن تسأل عمر بن الخطاب أن يدعو لك أما علمت يا أبن قرط أن دعاءه لا يرد ولا يحجب وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيه: "لو كان نبي ثان بعدي لكان عمر بن الخطاب" أليس هو الذي يوافق حكمه حكم الكتاب حتى قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: "لو نزل من السماء إلى الأرض عذاب ما نجا منه إلا عمر بن الخطاب" أما علمت أن الله تعالى انزل فيه آيات بينات أما هو الزاهد التقى أما هو العابد أما هو المشبه بنوح النبي فإن كان هو قد دعا لك فقد قرن دعاؤه بالإجابة فقال عبد الله بن قرط ما ذكرت شيئا إلا وأنا عارف به من فضل عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولكني أردت الزيادة من دعائك ودعاء العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا سيما عند قبر الرسول المعظم المكرم قال فرفع العباس رضي الله عنه عند يديه وعلي رضي الله عنه كذلك وقالا: اللهم أنا نتوسل بهذا النبي المصطفى والرسول المجتبى الذي توسل به آدم فأجبت دعوته وغفرت خطيئته إلا سهلت على عبد الله طريقه وطويت له البعيد وأيدت أصحاب نبيك بالنصر إنك سميع الدعاء ثم قال: سر يا عبد الله بن قرط فالله تعالى اكرم من أن يرد دعاء عمر وعباس وعلي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 والحسن والحسين وأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد توسلوا إليه بأكرم الخلق عليه قال عبد الله بن قرط فخرجت من الحجرة وأنا فرح مستبشر واستويت على كور المطية وركبت الفلاة وأنا فرح بدعاء علي والعباس وعمر رضي الله عنهم أجمعين قال عبد الله خرجت من المدينة بعد العصر من يومي ذلك الذي دخلت فيه المدينة وأنا أرقب الطريق فلما اختلط الظلام وأسبل الليل سجفه أرخيت زمام المطية فحسبت إنها تطير بي ولم أزل سائرا ثلاثة أيام فلما كانت صلاة العصر من اليوم الثالث أشرفت على اليرموك وسمعت ضجيج أذان المسلمين قال عبد الله فقصدت خيمة الأمير أبي عبيدة رضي الله عنه وأنخت ناقتي وسلمت عليه وكان لي منذ فارقته عشرة أيام فأخبرته بدعاء عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب والعباس والحسن والحسين رضي الله عنهم فقال أبو عبيدة: صدقت يا أبن قرط وإنهم لكرام على الله عز وجل وأن دعاءهم لا يرد ثم قرأ الكتاب على المسلمين فطابت قلوبهم بذلك وقالوا: أيها الأمير ما منا إلا من يطلب الشهادة فالله تعالى يبلغنا إياها. قال الواقدي: حدثني عمرو بن العلاء قال حدثنا ماجد عن الثقات قال لما سار عبد الله ابن قرط من المدينة يوم الجمعة فلما كان يوم السبت وقد صلينا الصبح خلف عمر بن الخطاب ونحن نقرأ من القرآن ما تيسر إذ سمعنا ضجة عظيمة وجلبة هائلة ففزعت قلوبنا فخرجنا مبادرين وإذا نحن بقوم من اليمن من صدوان وأرض سبأ وحضرموت واجتمعوا للجهاد وهم ستة آلاف يقدمهم جابر بن خول الربعي فترجلت ساداتهم وسلموا على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأمرهم بالنزول فلما أقل الظلام جاء ألف فارس من مكة والطائف ووادي نخلة وثقيف يقدمهم سعيد بن عامر وسلموا على عمر ونزلوا بأزاء أهل اليمن فلما كان يوم الأحد حمل عمر ضعيفهم وزودهم وعقد راية حمراء على قناة تامة وسلمها إلى سعيد بن عامر قال سعيد بن عامر فهممت بالمسير فقال عمر على رسلك يا ابن عامر حتى أوصيك ثم أقبل عمر بن الخطاب يمشي راجلا ومعه عثمان بن عفان والعباس وعلي بن أبي طالب وعبد الرحمن بن عوف فلما قربوا من الجيش وقف عمر والناس حوله وقال لسعيد بن عامر يا سعيد إني وليتك على هذا الجيش ولست بخير رجل منهم إلا أن تتقي الله فإذا سرت فأرفق بهم ما استطعت ولا تشتم أعراضهم ولا تحتقر صغيرهم ولا تؤثر قويهم ولا تتبع سواك ولا تسلك بهم المفاوز واقطع بهم السهل ولا ترقد بهم على جادة الطريق والله تعالى خليفتي عليك وعلى من معك من المسلمين فقال له علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: اسمع وصية أمامك أمير المؤمنين الذي ختم الله تعالى به الأربعين وسميت به الأمة مؤمنين وهو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن تطيعوه تهتدوا وترشدوا" فسر يا سعيد وإذا وصلت إلى أبي عبيدة والتقى بكم الجيش الذي لا تلقون مثله وصعب عليكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 أمره فاكتبوا إلى أمير المؤمنين عمر حتى يوجهني إليكم حتى أقلب أرض الشام على من فيها من المشركين أن شاء الله تعالى قال فسار بن عامر وهو يقول: نسير بجيش من رجال أعزة ... على كل عجعاج من الخيل يصبر إلى شبل جراح وصحب نبينا ... لننصره والله للدين ينصر على كل كفار لعين معاند ... تراه على الصلبان بالله يكفر قال وسار يجد السير قال سعيد بن عامر وكنت عارفا ببلاد الشام وطرقه وكنت أسير إليه في السنة مرة أو مرتين عسفا من غير جادة طريق اسير على الكواكب فلما سرت من المدينة وأنا بين يدي المسلمين سلكت بهم على طريق بصرى فضللت عن الطريق وعدلت عن الجادة وأنا محترز من العدو وخائف على المسلمين فجعلت أحيد عن العمارات وأسلك الفلاة توفيقا من الله واكراما ولطفا بعباده المؤمنين فلما ضللت أشكل علي الطريق كأني ما سلكته يوما قط فوقفت حائرا حتى تلاحق بي المسلمون فلم أعلمهم بأمري ولا إني ضللت عن الطريق وأنا أقول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فسرت يومين وليلتين وأنا أتيه بالناس والمسلمون يسألونني عن ذلك وأنا أقول لهم إني على طريق فلما كان في اليوم العاشر من مسيرنا من المدينة لاح لي جبل عظيم فنظرت إليه وحققته فلم أعرفه فقلت: غررت والله بالمسلمين وأنا أقول في نفسي أترى هذا جبل بعلبك وقد سهل علينا الطريق وكان الجبل قد لاح لنا من بعيد من أول النهار وما أدركناه إلا والليل قد أقبل فلما صرنا بقربه اعترضنا واد عظيم فيه شجرة عظيمة كبيرة قال فلما تاملت الشجرة عرفتها وقلت لأصحابي: أبشروا فقد وصلنا إلى بلاد الشام وفتح المسلمين ودخلنا الوادي وإذا به وعر ليس فيه جادة ولا طريق فلحق المسلمين من هوله تعب عظيم قال سعيد بن عامر وكان أكثر المسلمين رجالة وإنما كان يحمل بعضهم بعضا ويتعقبون على ظهور الخيل والإبل. فلما نظرت المسلمون إلى وحشة ذلك الوادي ووعورة مسلكه قالوا: يا سعيد أنا نظنك إنك قد أخطأت الطريق وسلكت بنا غير طريقنا فأرحنا في هذا الوادي قليلا فقد اضر بنا المسير قال فأجبتهم إلى ذلك وكان في الوادي عين ماء غزيرة فنزل المسلمون عليها فشربوا وسقوا خيلهم وابلهم ورعت الخيل والجمال ورق الشجر ونام أكثر الناس وبعضهم يصلي على محمد قال سعيد بن عامر وكنت جلست في آخر الناس أحرسهم وأنا أتلوا القرآن العظيم وأدعو الله لنا بالسلامة إذ غلبتني عيني فنمت فرأيت في منامي كأني في جنة خضراء كثيرة الاشجار والثمار وكأني آكل من ثمرها وأشرب من أنهارها وأجني من ثمرها وأنأول أصحابي وهم يأكلون وأنا فرح مسرور فبينما أنا كذلك إذ خرج من بين تلك الشجر أسد عظيم فزأر في وجهي وهم أن يفترسني. وأنا من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 ذلك فزع مرعوب إذ خرج على الأسد أسدان عظيمان فصرعاه في موضعه فسمعت له خوارا عظيما فانتبهت من نومي وحلاوة ذلك الثمر في فمي الأسود تتمثل بين يدي قال سعيد بن عامر ففسرتها إنها غنيمة يأخذها المسلمون ويمنعنا منها مانع ونظفر به فقلت في نفسي الجنة هي الشهادة قال سعيد بن عامر ولم أزل جالسا أتلو القرآن وأنا قلق إذ سمعت هاتفا يهتف بي عن يمين الوادي وهو يقول: يا عصبة الهادي إلى الرشاد ... لا تفزعوا من وعر هذا الوادي ما فيه من جن ولا معادي ... ستعلمون معشر العباد لطف الذي يرفق بالأولاد ... ويطرح الرحمة في الاكباد سيصنع الله بكم رشاد ... وتغنموا المال مع الأولاد قال سعيد بن عامر فلما سمعت شعر الهاتف وما يشير به من الغنيمة سجدت لله تعالى شكرا واستيقظ المسلمون لصوت الهاتف قال سعيد بن عامر وكنت قد حفظت من الهاتف بيتا وحفظ سماح ثلاثة أبيات وأنشدني إياها وفرح المسلمون بما سمعوا من الهاتف وطابت قلوبهم بالغنيمة وأقام المسلمون في الوادي حتى أصبح الصباح وصلى بهم سعيد بن عامر صلاة الفجر فلما طلعت الشمس خرج المسلمون من الوادي وحققت تلك الأرض والجبل وإذا به جبل الرقيم فلما رأيته عرفته فرفعت صوتي بالتكبير وقلت: الله أكبر وكبرت المسلمون لتكبيري وقالوا: ما الذي رأيت يا ابن عامر فقلت: وصلنا إلى بلاد الشام وهذا جبل الرقيم قال سعيد وأكثر من معي طماعو العرب قالوا: يا سعيد وما الرقيم أما تعرفه فحدثتهم بحديث الرقيم قال سعيد فعجبوا من ذلك ثم أقبلت بهم إلى الغار فصلوا فيه ثم سرنا حتى أشرفنا على بلاد عمان قال سعيد بن عامر فعدلت إلى قرية هناك يقال لها الجنان فنظرت إلى دهاقين القرية وهم خارجون منها ومعهم الأهل والأولاد فلما رآهم المسلمون حملوا عليهم من غير اذن لهم وأخذوا بعضهم أسارى فرجع القوم إلى القرية وكان فيها حصن منيع فتحصنوا فيها منا قال سعيد بن عامر فقربت من الحصن وصحت بهم وقلت: يا ويلكم ما بالكم كنتم خارجين من قريتكم فرجعتم فأشرف علي واحد منهم وقال لي يا معاشر العرب أعلموا أننا كنا خارجين من المدينة ففزعنا منكم وذلك أن صاحب عمان بعث إلينا وأمرنا بالمسير إلى عمان لنكون من تحت كنفه في عمان والآن يا معاشر العرب هل لكم أن نكون في ذمامكم وأمانكم قال سعيد: نعم فوقع الصلح بيننا على عشرة آلاف دينار وكتبت لهم كتاب الصلح فلما هممت بالمسير قالوا: يا معاشر العرب قد صالحناكم ونحن خائفون من قومنا وأعلموا أن نقيطاس صاحب عمان لا بد أن نلقى منه شدة عظيمة فلو ظفرتم به لكان خيرا لنا ولكم فقلت: فكيف نظفر به فقالوا: إن الملك ماهان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 مقدم العساكر قد بعث بذلك إليه وأن أنتم ظفرتم بصاحب عمان ملكتم غنيمة جسيمة فقال سعيد بن عامر رضي الله عنه وفي كم يكون جيش عمان فقالوا: في خمسة آلاف فارس ولكن قد وقع خوفكم في قلوبهم فلن يفلحوا إذا أبدا فقال سعيد بن عامر يا معاشر المسلمين ما تقولون في لقاء هذا البطريق صاحب عمان وأخذ غنيمته فقالوا: افعل ما تريد فإن قتله الله على أيدينا كان ذلك صلاحا للمسلمين ووهنا على المشركين فقال سعيد بن عامر لاهل القرية على أي طريق يأتي القوم فقالوا: على هذا الطريق. قال فدلونا على طريق عمورية فسرنا إلى واد عظيم وكمنا فيه يوما وليلة فلم يأتنا أحد فلما أصبح الصباح قال سعيد يا معاشر المسلمين أن الذي وجهنا إليه عمر بن الخطاب من نجدة أبي عبيدة والمسلمين أفضل من مقامنا هنا فاخرجوا رحمكم الله فانا إذا أشرفنا على المسلمين في سبعة آلاف فارس كان ذلك وهنا على المشركين وذلة للكافرين فقال المسلمون يا ابن عامر أن قلوبنا توقن بالغنيمة فلا تحرمنا ذلك قال فبينما هم في المحاورة إذا أشرف عليهم جماعة من القسوس والرهبان وعليهم ثياب الشعر وفي أيديهم الصلبان وقد حلقوا أوساط رؤوسهم فابتدر المسلمون إليهم وأخذوهم وأوقفوهم بين يدي سعيد بن عامر فقال لهم: من أنتم وكان فيهم قس كبير فكلم سعيدا وقال نحن رهبان هذه الأديرة والصوامع ونريد أن نصل إلى قسطنطين ولد الملك هرقل حتى ندعو للعساكر بالنصر قال سعيد فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال فما وراءكم من الأخبار قالوا: وراءنا صاحب عمان في خمسة آلاف فارس من فرسان النصرانية وعباد الصليب فقال سعيد اللهم اجعلهم غنيمة لنا ثم قال سعيد للقسيس الذي خاطبه أسمع أيها الشيخ أن نبينا أمرنا أن لا نتعرض لراهب حبس نفسه في صومعة ولولا إنكم تنذرون العدو لخلينا سبيلكم ثم أمر المسلمين أن يؤثقوهم كتافا فأوثقوهم بزنانيرهم التي في أوساطهم فبينما نحن كذلك إذ أشرف علينا جيش عمان والرجالة أمامهم يعزلون لهم الحجر من الدروب فلما أشرفوا علم المسلمين حمل عليهم المسلمون من غير أهبة ورفعوا أصواتهم بالتهليل والتكيبير ووضعوا فيهم السيف فقتلوا الرجالة عن آخرهم فأخبر صاحب عمان بذلك فلما نظر إلى صنع المسلمين أمر أصحابه بالحملة فحملوا عليهم حملة عظيمة واقتتلوا قتالا شديدا قال سعيد بن عامر ونظرت إلى المسلمين وهم يقتلون الروم قتلا ذريعا ويضجون بالتهليل والتكبير فلما نظر البطريق صاحب عمان ما صنع المسلمون بأصحابه ولى منهزما طالب عمان وتبعه قومه وتبعهم المسلمون وبعضهم مال إلى الغنيمة والبطريق نقيطاس صاحب عمان في الهرب وكان قد سبق فوقف حتى تلاحق به المنهزمون من قومه قال فبينما هم كذلك إذ أشرف عليهم خيل من ورائهم تسرع بركابها وقد اطلقوا الأعنة وقوموا الأسنة وهم زهاء من ألف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 فارس يقدمهم فارسان كأنهما أسدان أحدهما الزبير بن العوام والآخر الفضل بن العباس فحملوا على الروم فقتلوهم قتلا ذريعا وحمل الزبير بن العوام على نقيطاس بطريق عمان وهو واقف تحت الصليب فطعنه الزبير فقلبه عن جواده وعجل الله بروحه إلى النار وأقبل الفضل بن العباس يجندل الفرسان وينكس الأبطال قال وأشرف سعيد بن عامر على الموضع فرأى الحرب قائمة فظن إنه وقع بينهم الخلف فلما قربوا منهم سمعوا التهليل والتكبير فقالوا: هذه دعوة الحق لمن قالها فاقتحم سعيد ابن عامر المعركة فسمع الفضل بن العباس وهو ينتمي باسمه ويقول: أنا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال سعيد بن عامر فوالله ما أنفلت من القوم أحد فقلت له: لله درك يا ابن العباس ومن معك من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال معي الزبير بن العوام ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال سعيد بن عامر فوالله ما انفلت من القوم أحد إلا بين أسير وقتيل وغنم المسلمون غنيمة عظيمة وسلم بعضهم على بعض وأقبل الزبير على سعيد بن عامر وقال: يا ابن عامر ما الذي حبسك عن المسير جهتنا وقد جاءنا سالم بن نوفل العدوي وأخبرنا بمسيرك إلينا وقد ساءت بك ظنوننا فأرسلنا أبو عبيدة لنغير على عمان والحمد لله على سلامة المسلمين ودمار المشركين ثم أمر الزبير برؤوس القتلى فسلخت وحملتها العرب على أسنة الرماح فكانت الرؤوس أربعة آلاف رأس والأسرى ألف أسير قال وأطلق سعيد بن عامر الرهبان وسار المسلمون حتى اشرفوا على أبي عبيدة رضي الله عنه ورفعوا أصواتهم بالتهليل والتكبير واجابهم حيش المسلمين بمثل ذلك فانزعجت قلوب الروم لذلك ونظروا إلى ثمانية آلاف فارس والرؤوس معهم على الأسنة فبهتوا لذلك وحدث سعيد بن عامر أبا عبيدة بالنصر وغنيمتهم من الروم فسجد شكرا لله عز وجل وأمر بالألف أسير فضربت أعناقهم والروم ينظرون إليهم قال قطبة بن سويد واخبرت الروم إنه لم ينج أحد من جيش عمان. قال الواقدي: لما أسر الخمسة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اغتم لفقدهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أكثرهم غما أبو عبيدة بن الجراح وأقبل على البكاء والتضرع يدعو لمن أسر بالخلاص وأما الخمسة فانهم مثلو بين يدي ماهان لعنه الله تعالى وغضب عليه فلما نظر إليهم استحقر شأنهم وقال لجبلة بن الأيهم من هؤلاء قال: أيها الملك هؤلاء قوم من جيش المسلمين وقد كانوا ستين رجلا فقتلت أكثرهم وأسرت هؤلاء وما بقي في عسكرهم من تخاف غائلته الأرجل واحد وهو الذي يثبتهم ويرمي بهم كل المرامي وهو الذي فتح أركة وتدمر وحوران وبصرى ودمشق وهو الذي كسر عساكر أجنادين وتبع توما وهربيس وقتلهم في مرج الديباج وأسر ابنة الملك هرقل وهو خالد بن الوليد قال فلما سمع ماهان ذلك قال: لا بد لي أن أحتال على هذا الرجل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 حتى أحصله عندي وأقتله مع هؤلاء الخمسة الأسرى ثم دعا ماهان برجل من الروم اسمه جرجة وكان حكيما فاضلا عند الروم فصيحا بلسان العرب فقال: يا جرجة أريد أن تمضي إلى هؤلاء العرب وتقول لهم يبعثوا لنا رسولا وليكن هذا الرسول الرجل المسمى بخالد قال فركب جرجة وسار نحو عساكر المسلمين فالتقى بخالد بن الوليد فقال له: ما الذي تريد فقال أن الملك ماهان قد بعثني إليكم حتى تبعثوا رجلا منكم فلعل الله أن يحقن دماءنا ودماءكم فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: أنا أكون الرسول إليه وأوقف رسول الروم بين يديه ويدي أبي عبيدة رضي الله عنه وأخبره إنه يريد المسير إلى ماهان فقال أبو عبيدة: امض يا أبا سليمان سلمك الله تعالى فلعل الله تعالى أن يهديهم أو يدعونا للصلح واداء الجزية فتحقن الدماء على يدك فحقن دم رجل واحد أحب إلى الله تعالى من أهل الشرك جميعا فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: أنا أطلب من الله تعالى العون. ثم وثب خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى خيمته ولبس خفين حجازيين وتعمم بعمامة سوداء وشد وسطه بمنطقة من الأديم وتقلد سيفه الذي استلبه من مسيلمة الكذاب يوم اليمامة وأمر عبده عمان أن يأخذ قبته الحمراء وكانت من الأديم الطائفي وفيها شمعات من الذهب الأحمر وحليتها من الفضة البيضاء وكان خالد قد أشتراها من أمرأة ميسرة بن مسروق العبسي بثلثمائة دينار فحملها على بغل وركب خالد جواده فلما هم بالمسير قال له أبو عبيدة: يا أبا سليمان خذ معك رجالا من المسلمين يكونون لك عونا فقال خالد: أيها الأمير أحب ذلك ولكن لا اكراه في الدين وليس لي عليهم طاعة فأمر من شئت فلما سمع المسلمون كلام خالد بن الوليد رضي الله عنه قال معاذ بن جبل يا أبا سليمان إنك من أهل الفضل ولو أمرتنا بأمر امتثلناه لانك سائر في طاعة الله تعالى ورسوله. قال الواقدي: فاستركب معه مائة فارس من المهاجرين والأنصار منهم المرقال بن عتبة بن أبي وقاص وشرحبيل بن حسنة وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل العدوي وميسرة بن مسروق العبسي وقيس بن هبيرة المرادي وسهل بن عمرو العامري وجرير بن عبد الله البجلي والقعقاع بن عمرو التميمي وجابر بن عبد الله الأنصاري وعبادة بن الصامت الخزرجي والأسود بن سويد المازني وذو الكلاع الحميري والمقداد بن الأسود الكندي وعمرو بن معد يكرب الزبيدي رضي الله عنهم أجمعين ولم يزل خالد ينتخب مثل هؤلاء السادات رضي الله عنهم حتى كمل منهم مائة فارس كل فارس منهم يرد جيشا وحده فاخذوا زينتهم واشتملوا بلباس الحرب وتوشحوا بالأبراد وتعمموا بالعمائم وتمنطقوا بالخناجر وتقلدوا بالسيوف وركبوا الخيل العتاق وسار خالد بن الوليد رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 وعن يمينه معاذ بن جبل وعن شماله المقداد بن الأسود الكندي والمائة فارس محدقون به قال معاذ بن جبل رضي الله عنه وسرنا ونحن نعلن بالتهليل والتكبير قال نصر بن سالم المازني فنظرت إلى أبي عبيدة رضي الله عنه حين سار خالد بمن معه يقرأ آية من القرآن ودموعه جارية على خده فقلت: أيها الأمير ما يبكيك فقال: يا بن سالم هؤلاء والله أنصار الدين فإن أصيب رجل منهم في امارة أبي عبيدة فما يكون عذري عند رب العالمين وعند أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه. قال الواقدي: فلما اشرف خالد بن الوليد رضي الله عنه ومن معه على عساكر الروم نظر المسلمون إلى عساكر الروم وهم خمسة فراسخ في العرض وعن نوفل بن دحية أن خالد بن الوليد لما ترجل عن جواده وترجل المائة جعلوا يتبخترون في مسيرهم ويجرون حمائل سيوفهم ويخترقون صفوف الحجاب والبطارقة ولا يهابون أحدا إلى أن وصلوا إلى النمارق والفراش والديباج ولاح لهم ماهان وهو جالس على سريره فلما نظر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما ظهر من زينته وملكه عظموا الله تعالى وكبروه وطرحت لهم الكراسي فلم يجلسوا عليها بل رفع كل واحد منهم ما تحته وجلسوا على الأرض فلما نظر ماهان إلى فعلهم تبسم وقال: يا معاشر العرب لم تأبون كرامتنا ولم أزلتم ما تحتكم من الكراسي وجلستم على الأرض ولم تستعملوا الأدب معنا ودستم على فراشنا قال فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: أن الأدب مع الله تعالى افضل من الأدب معكم وبساط الله اطهر من فرشكم لأن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قال جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ثم قرأ قوله تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه:55] . قال حدثني عاصم بن رواح الزبيدي قال حدثنا بن عبد الله الشيباني قال حدثنا طرفة بن شيبة الخولاني عن عمه جرير وكان محالفا لخالد بن الوليد رضي الله عنه قال لم يكن بين خالد وماهان ترجمان يبلغ عنهما بل كانا يتحدثان كلاهما فقال خالد: يا ماهان إني اكره أن أبداك بالكلام فتكلم أنت بما تريد فاني لست ابالي بما تتكلم ولكل كلام جواب فإن شئت فتكلم وأن شئت بدأتك قال ماهان أنا أبدؤكم الحمد لله الذي جعل سيدنا الروح المسيح كلمته وملكنا أفضل الملوك وأمتنا خير الأمم قال فعظم ذلك على خالد بن الوليد وقطع خالد كلامه فقال الترجمان لا تقطع كلام الملك يا أخا العرب واستعمل حسن الأدب فأبى خالد أن يسكت بل قال خالد: الحمد لله الذي جعلنا نؤمن بنبينا ونبيكم وجميع الانبياء وجعل أميرنا الذي وليناه أمورنا كبعضنا لو زعم إنه يملك علينا لعزلناه فلسنا نرى أن له فضلا علينا إلا أن يكون أتقى لله عز وجل منا وقد جعل الله أمتنا تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر وتقر بالذنب وتستغفر منه وتعبد الله تعالى وحده لا شريك له قال فاصفر وجه ماهان وسكت قليلا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 ثم قال الحمد لله الذي أبلانا وأحسن البلاء إلينا وعافانا من الفقر ونصرنا على الأمم وأعزنا ومنعنا من الضيم ولسنا فيما خولنا الله فيه من نعيم الدنيا بطرين ولا باغين على الناس وقد كان يا معاشر العرب طائفة منكم يغشوننا ويلتمسون نائلنا ورفدنا وجوائزنا ونحن نحسن إليهم ونكرمهم ونكرم ضعيفهم ونعظم قدرهم ونتفضل عليهم ونفي لهم بالوعد وكنا نظن أن العرب كلها تعرف لنا ذلك من جميع القبائل وتشكرنا عليه لما أسدينا من عطايانا الجميلة لهم فما شعرنا حتى جئتمونا بالخيل والرجل وظننا إنكم تطلبون منا طلب اخوانكم فإذا انتم على خلاف رأي أولئك جئتم تقتلون الرجال وتسبون النساء وتغنمون الأموال وتهدمون الأطلال وتطلبون أن تخرجونا من أرضنا وتغلبونا على بلادنا وقد طلب منا ذلك من كان قبلكم ممن هو أكثر منكم عددا واكثر أموالا وسلاحا وظهرا فرددناهم خائفين وجلين خائبين بين قتيل وجريح وطريد وطريح فأول ما فعلنا ذلك بملك فارس فرده الله على عقبيه بالخيبة والذل وكذلك فعلنا بملك الترك وملك الجرامقة وغيرهم وانتم لم يكن في أمة من الأمم أصغر منكم مكانا ولا أحقر شانا لانكم أهل الشعر والوبر والبؤس والشقاء وإنكم مع ذلك تظلمون في بلادكم وبلادنا وحوالينا أمة كثيرة العدد وشوكتنا شديدة وعصبتنا عظيمة وإنما قبلتم علينا لانكم خرجتم من جدوبة الأرض وقحط المطر فانجليتم إلى بلادنا وأفسدتم كل الفساد وركبتم مراكب ليست كمراكبكم ولبستم ثيابا ليست كثيابكم وتمتعتم ببنات الروم البيض الأوانس فجعلتموهن خدما لكم واكلتم طعاما ليس كطعامكم وملئت أيديكم من الذهب والفضة والمتاع الفاخر ولقد لقيناكم الآن ومعكم أموالنا وما غنمتموه من قومنا وأهل ديننا وقد تركناه لكم لا نطالبكم به ولا ننازعكم فيه ولا نعتب عليكم فيما تقدم من فعالكم والآن فاخرجوا من بلادنا فإن أبيتم الانصراف عنا عزمنا عليكم عزمة فنترككم كأمس الدابر وأن جنحتم للصلح نأمر لكل واحد من عسكركم بمائة دينار وثوب ولاميركم أبي عبيدة بألف دينار ولخليفتكم عمر بن الخطاب بعشرة آلاف دينار وعلى إنكم تحلفون لنا أن لا تعودوا إلى حربنا. قال الواقدي: وماهان يرغب تارة ويرهب اخرى وخالد مطرق لا يتكلم حتى فرغ ماهان من كلامه فقال خالد: أن الملك قد تكلم فأحسن وسمعنا كلامه ونتكلم ويسمع كلامنا ثم قال خالد بن الوليد رضي الله عنه: الحمد لله الذي لا إله إلا هو فلما سمع ماهان ذلك مد يده إلى السماء وقال: نعم ما قلت: يا عربي فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المرتضى ونبيه المجتبى صلى الله عليه وسلم فقال ماهان ما أدري أمحمد رسول الله أم لا ولعله كما تقول وتزعم وتذكر فقال خالد رضي الله عنه: حسب الرجل دينه ثم قال أفضل الساعات وخيرها الساعات التي يطلع فيها الله رب العالمين فالتفت ماهان إلى قومه وقال بلسانه إنه رجل عاقل يتكلم بالحكمة فقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 خالد: ما الذي قلت لقومك: فأخبره بمقالته فقال خالد: أن كنت أوتيت العقل فالله تعالى المحمود على ذلك وقد سمعنا نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم يقول: "لما خلق الله تعالى العقل وصوره وقدره قال أقبل فأقبل ثم قال له: أدبر فادبر فقال الله تعالى وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أحب الي منك بك تنال طاعتي وتدخل جنتي" فقال ماهان اذا كنت بهذا العقل والفهم فلم جئت بهؤلاء معك قال خالد بن الوليد رضي الله عنه: جئت بهم لاشاورهم قال ماهان وأنت مع جودة عقلك وحسن رأيك وبصيرتك تحتاج إلى مشورة غيرك قال خالد: نعم بهذا أمر الله عز وجل نبينا محمدا صلى الله عنه فقال الله تعالى في كتابه العزيز: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران: 159] وقال صلى الله عليه وسلم: "ما ضاع امرؤ عرف قدره ولا ضاع مسلم استشار" فأنا وأن كنت ذا رأي وعقل كما تزعم وكما بلغك فاني لا استغني عن رأي ذي رأي ومشورة أصحابي قال ماهان وهل في عسكركم من له رأي مثل رأيك وحزم مثل حزمك قال: نعم أن في عسكرنا أكثر من ألف فارس لا يستغني عن رأيهم ولا عن مشورتهم فقال له ماهان: ما كنا نظن ذلك فيكم وإنما كان يبلغنا عنكم إنكم طماعون جهال لا عقول لكم بغير بعضكم على بعض وينهب بعضكم أموال بعض فقال له خالد رضي الله عنه: ذلك كان شأن أكثرنا حتى بعث الله عز وجل فينا نبينا محمدا صلى لاله عليه وسلم فهدانا لرشدنا وعرفنا سبيلنا وفهمنا الخير من الشر والهدى من الضلال فقال ماهان يا خالد إنك قد أعجبتني بما أراه من رأيك وبصيرتك وقد أحببت أن اؤاخيك فتكون أخي وخليلي فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: وافرحاه أن تمم الله مقالتك فتكون إذا سعيدا ولا نفترق فقال ماهان وكيف ذلك قال خالد: تقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله الذي بشر به عيسى ابن مريم فإذا فعلت ذلك كنت أخي وكنت أخاك وتكون خليلي وأكون خليلك ولا نفترق إلا لامر يحدث فقال ماهان أما ما دعوتني إليه من الترك لديني والدخول في دينكم فمالي إلى ذلك من سبيل فقال خالد بن الوليد: وكذلك أيضا لا سبيل إلى مؤاخاتي لك وأنت مقيم على دينك دين الضلال قال ماهان أريد أن ألقى الحشمة بيني وبينك وأكلمك كلام الأخ لاخيه فأجبني عن كلامي الذي دعوتك إليه حتى أسمع ما تقول. قال خالد: أما بعد فانك تعلم أن الذي ذكرته مما فيه قومك من الغنى والعز ومنع الحريم والظهور على الأعداء والتمكن في البلاد فنحن عارفون به وكل ما ذكرته من انعامكم على جيرانكم من العرب فقد عرفنا ولكن انما فعلتم ذلك ابقاء لنعمتكم ونظرا منكم لأنفسكم وذراريكم وزيادة لكم في مالكم وعزا لكم فتستكثرون جموعكم وتلقون الشوكة على من أرادكم وأما ما ذكرته من فقرنا ورعينا الإبل والشاة فما منا من لم يرع وأكثرنا رعاة ومن رعى منا كان له الفضل على من لم يرع وأما قولك بأننا أهل فقر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 وفاقة وبؤس وشقاء فنحن لا ننكر ذلك وإنما ذلك من أجل أنا معاشر العرب أنزلنا الله تعالى منزلا ليس فيه أنهار ولا أشجار ولا زرع إلا قليل وكنا أهل جاهلية جهلاء لا يملك الرجل منا إلا فرسه وسيفه وأباعره وشياهه ويأكل قوينا ضعيفنا ولا يأمن بعضنا بعضا إلا في الأربع الاشهر الحرم نعبد دون الله الأصنام والأوثان التي لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ونحن عليها مكبون ولها حاملون فبينما نحن كذلك على شفا حفرة من النار من مات منا مات مشركا وصار إلى النار ومن بقى منا كان كافرا بربه قاطعا لرحمه حتى بعث الله لنا نبيا نعرف حسبه ونسبه هاديا مهديا رسولا نبيا واماما تقيا اظهر الإسلام بدعوته ودحض المشركين بكلمته جاءنا بقرآن مبين وصراط مستقيم ختم الله تعالى به النبيين وأمرنا بعباده رب العالمين نعبده ولا نشرك به شيئا ولا نتخذ من دونه وليا ولا نجعل لربنا صاحبة ولا ولدا لا شريك له ولا ضد ولا ند له ولا نسجد للشمس ولا للقمر ولا للنور ولا للنار ولا للصليب ولا للقربان ولا نسجد إلا لله وحده لا شريك له ونقر بنبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى إله وصحبه انزل الله عليه كلامه الذي هدانا به مولانا فاستجبنا له واطعنا أمره فكان مما أمرنا به أن نجاهد من لا يدين بديننا ولا يقول: بقولنا ممن كفر بالله واتخذ معه شريكا جل ربنا وتعالى عن ذلك لا تأخذه سنة ولا نوم فمن اتبعنا كان اخانا وصار له ما لنا وعليه ما علينا ومن ابى الإسلام كانت عليه الجزية يؤديها إلينا عن يد وهو صاغر فإذا اداها حقن بها ماله ودمه وولده ومن أبى الإسلام وأن يؤدي الجزية فالسيف حكم بيننا وبينه حتى يقضي الله جل جلاله بحكمه وهو خير الحاكمين ونحن ندعوكم إلى هذه الخصال الثلاث ليس غيرها اما أن تقولوا نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله أو الجزية في كل عام على كل محتلم من الرجال وليس على من لم يبلغ الحلم جزية ولا على امرأة ولا على راهب منقطع في صومعته قال ماهان فهل بعد قول لا إله إلا إله غير هذا فقال خالد: نعم أن تقيموا الصلاة وتؤتوا الزكاة وتحجوا البيت الحرام وتجاهدوا من كفر بالله تعالى وتأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكر وتوالوا في الله تعالى وتعادوا في الله فإن أبيتم ذلك فالحرب بيننا وبينكم حتى يورث الله أرضه من يشاء والعاقبة للمتقين قال ماهان فافعل ما تشاء فاننا لا نرجع عن ديننا ولا نؤدي الجزية وأما ما ذكرت من أن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده فلقد صدقت فإنها لم تكن لنا ولا لكم بل كانت لقوم غيرنا وغيركم فقاتلناهم عليها حتى ملكناها منهم والحرب بيننا وبينكم فابرزوا على اسم الله تعالى فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: ما أنتم بأشهى منا إلى الحرب وكأني بحيوشكم وقد انهزمت والنصر يقدمنا وتساق أنت والحبل في عنقك ذليلا حقيرا وتقدم بين يدي عمر بن الخطاب فيضرب عنقك قال فلما سمع ماهان كلام خالد بن الوليد غضب غضبا شديدا قال فلما نظرت البطارقة والحجاب والهرقلية والقياصرة إلى غضب ماهان هموا بقتل خالد إلا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 أنهم صبروا ينظرون امره فقال ماهان لخالد: وقد اسشاظ غضبا وحق المسيح لاحضرن أصحابك الخمسة الأسارى وأضربن أعناقهم وأنت تنظر إليهم فقال له خالد: اسمع ما اقول لك يا ماهان أنت أقل وأذل وأحقر من ذلك واعلم أن هؤلاء الذين في يدك هم منا ونحن منهم فوحق الدعوة المستجابة وحق بيعة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وخلافة عمر بن الخطاب لئن قتلتهم لاقتلنك بسيفي هذا ويقتل كل رجل منا من قومك بعددهم وزيادة ثم وثب خالد رضي الله عنه من موضعه وانتضى سيفه من غمده وفعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كفعله وهو يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله وجردوا سيوفهم وهاجوا كالجمال أو كالسباع الضواري واستقتلوا وأيقنوا بالشهادة في ذلك المكان. قال الشيخ أبو عبد الله محمد الواقدي مؤلف هذا الكتاب والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة ما اعتمدت في أخبار هذه الفتوح إلا الصدق وما نقلت: أحاديثها إلا عن ثقات وعن قاعدة الحق لاثبت فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهادهم حتى أرغم بذلك أهل الرفض الخارجين عن السنة والفرض إذ لولاهم بمشيئة الله لم تكن البلاد للمسلمين وما انتشر علم هذا الدين فلله درهم لقد جاهدوا في الله حق جهاده ونصروا دينه وثبتوا للقاء الأعداء وبذلوا جهدهم ونصروا الدين حتى زحزحوا الكفر عن سريره وتقهقر لا جرم وقد قال فيهم الملك المقتدر: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} [الأحزاب: 23] . قال الواقدي: حدثني مسلم بن عبد الحميد عن جده رافع بن مازن قال كنت مع خالد يوم سرنا إلى ماهان وكنا في سرادقة فلما جذبنا السيوف وهممنا بالقوم وما في اعيننا من جيوش الروم شيء وقد ايقنا بالحشر من ذلك الموضع. قال الواقدي: فلما رأى ماهان الحقيقة منا ومن خالد وتبين الموت في شفار سيوفنا نادى ماهان مهلا يا خالد لا تكن بهذه العجلة تهلك وأنا أعلم إنك ما قلت ذلك القول إلا إنك رسول والرسول يحمل ولا يقتل وأنا انما تكلمت بما تكلمت لاختبركم وانظر ما عندكم والآن فما أواخذك فارجع إلى عسكرك واعزم على القتال حتى يعطي الله تعالى النصر لمن يشاء فلما سمع ذلك أغمد سيفه وقال: يا ماهان ما تصنع في هؤلاء الأسرى فقال ماهان أطلقهم كرامة لك وأخلي سبيلهم فيكونون عونا لك ولن تعجزونا في الحرب غدا ففرح خالد بذلك وأمر ماهان بتخلية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فاطلقوا من وثاقهم وهم خالد بالمسير فقال ماهان يا خالد إني كنت أحب أن يصلح الأمر بيني وبينكم وإني أسألك حاجة فقال خالد: سل ما تريده فقال أن قبتك هذه الحمراء قد أعجبتني وإني أريد أن تهبها لي وانظر في عسكري ما أعجبك من شيء فأهبه لك فقال خالد: والله لقد فرحتني إذ طلبت ما أملكه وهي موهوبة لك وأما ما عرضت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 علي من عسكرك فلا حاجة لي فيه فقال ماهان: لله درك أنت تكرمت وأجملت فقال خالد رضي الله عنه: وأنت أيضا قد تكرمت علينا بما صنعت من اطلاق أصحابي من الأسر ثم انثنى خارجا من عند ماهان وأصحابه من حوله وقدم له جواده فركبه وركب أصحابه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر ماهان أصحابه وحجابه أن يسيروا معهم حتى يبلغوهم قال ففعل القوم ذلك ووصل خالد وأصحابه إلى الأمير أبي عبيدة رضي الله عنهم أجمعين وسلموا عليه وفرح المسلمون بخلاص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحدث خالد أبا عبيدة بكل ما جرى لهم ثم قال خالد: وحق المنبر والروضة ما كان ماهان ليطلق لنا أصحابنا إلا فزعا من سيوفنا. فقال أبو عبيدة: حين سمع ما مر لخالد ولماهان من الخطاب والجدال هذا رجل حكيم إلا أن الشيطان غلب على عقله فعلام افترقتم قال على أننا نلتقي معهم ويعطي الله النصر لمن يشاء فلما سمع أبو عبيدة رضي الله عنه ذلك جمع عظماء المسلمين وقام فيهم خطيبا فحمد الله تعالى وأثنى عليه وذكر النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرهم أن العدو يصبحهم بالقتال في غداة غد وأمرهم بالأهبة وأقبل فرسان المسلمين يحرض بعضهم بعضا وأقبل خالد على أصحابه وهم عسكر الزحف وقال لهم: علموا أن هؤلاء الكفرة الذين نصركم الله عليهم في المواطن الكثيرة قد حشدوا لكم جموع بلادهم وإني دخلت إلى عسكرهم ونظرت إليهم فكانهم النمل ولكنهم أصحاب عدة بلا قلوب ولا لهم من ينصرهم عليكم وهذه الوقعة بيننا وبينهم وقد أيقنا أن القتال في غداة غد وانتم أهل البأس والشدة فما عندكم رحمكم الله تعالى قال فتكلم أصحاب خالد وقالوا: أيها الأمير القتال بغيتنا والقتل في سبيل الله تعالى مسرتنا ولا نزال نصبر لهم على الحرب والطعن والضرب حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين ففرح خالد بقولهم وقال لهم: وفقكم الله تعالى وأرشدكم. قال الواقدي: فلم يبق أحد منهم تلك الليلة إلا وقد أخذ عدته واهبته واستعد بآلة الحرب والقتال وباتوا فرحين بالجهاد والثواب وخائفين من العقاب فلما أصبح القوم ولاج الفجر أذن المؤذنون في عسكر المسلمين حتى ارتفعت لهم جلبة عظيمة بالتوحيد واسبفوا الوضوء لصلاتهم خلف أبي عبيدة فلما صلوا ركبوا خيولهم إلى قتال عدوهم وعبوا صفوفهم للقتال وكانوا ثلاثة صفوف متلاصقة أول الصف لا يرى آخره وأقبل خالد بن الوليد على أبي عبيدة رضي الله عنه وقال: أيها الأمير من تجعل في الميسرة قال كنانة بن مبارك الكناني أو قال عمرو بن معد يكرب الزبيدي والله أعلم أيهما كان فولاه الميسرة وأمره أن يكون مكانه في الميسرة ففعل وضم إلى كنانة قيسا قال فسار لما أمره أبو عبيدة رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 قال الواقدي: حدثني فضالة بن عامر قال حدثني موسى بن عوف عن جده يوسف بن معن قال كان هذا الغلام كنانة عارفا بالحرب صاحب شجاعة وغارة وقد ذكر إنه كان من شجاعته وشدة فراسته إنه كان يخرج من حي قومه بني كنانة وحده ويسير حتى يأتي أحياء العرب المعادين له فإذا أشرف عليهم صرخ بهم وانتمى باسمه فتثور الرجال على أعناق الخيل فلا يزال يقاتلهم ويقاتلونه فإن ظفر بهم كان مراده وأن رأى منهم غلبة وعظم عليه أمرهم نزل عن جواده وسعى بين أيديهم فلا يلحقون منه إلا الغبار. قال الراوي لما ولاه أبو عبيدة رضي الله عنه وقف حيث أمره والتفت أبو عبيدة إلى خالد وقال: يا أبا سليمان قد وليتك على الخيل والرجل فول أمر الرجالة من شئت فقال خالد ابن الوليد رضي الله عنه: سأولي أمرهم رجالا لا يؤتي المسلمون من قبلهم ثم نادى بهاشم بن عتبة ابن أبي وقاص وقال له: ولاك الأمير على الرجالة فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه انزل يا هاشم وكن معهم رحمك الله وأنا أوافقك. قال الواقدي: ورتب أبو عبيدة صفوف المسلمين وعبأهم قال خالد بن الوليد رضي الله عنه: ابعث الآن إلى أصحاب الرايات وقل لهم يسمعوا مني فدعا أبو عبيدة رضي الله عنه بالضحاك بن قيس وقال له: يا بن قيس اسرع إلى أصحاب الرايات وقل لهم أن الأمير أبا عبيدة يأمركم أن تسمعوا لخالد وتطيعوا أمره ففعل الضحاك ذلك وجعل يدور على أصحاب الرايات حتى انتهى إلى معاذ بن جبل وقال له: مثل ذلك قال معاذ بن جبل سمعا وطاعة ثم اقبل معاذ على الناس وقال: أما إنكم قد امرتم بطاعة رجل ميمون الغرة مبارك الطلعة فإن أمركم بأمر فلا تخالفوه فيما يأمركم به فما يريد غير صلاح المسلمين والأجر من رب العالمين قال فقلت لمعاذ بن جبل: إنك لتقول في خالد قولا عظيما فقال: ما أقول إلا ما قد عرفته فالله رده وقال الضحاك فرجعت إلى خالد واخبرته بما تكلم به معاذ بن جبل وبما أثنى به عليه فأثنى وقال هو أخي في الله تعالى ولقد سبقت له ولأصحابه سوابق لا يفعلها خالد بن الوليد فمن يناله قال الضحاك فرجعت إلى معاذ بن جبل وأخبرته بما قال خالد: وبما أثنى به عليه وما ذكره من أمره وبما أورده من علي شأنه فقال معاذ والله إني أحبه في الله تعالى وأرجو من الله أن يكون قد اثابه بحسن نيته ونصيحته للمسلمين. قال الواقدي: فلما وصى الضحاك بن قيس أصحاب الرايات بقول أبي عبيدة بالطاعة لخالد بن الوليد رضي الله عنه جعل خالد يسير بين الصفوف ويقف على كل راية ويقول: يا أهل الإسلام أن الصبر قد عزم أن شاء الله تعالى على صحبتكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 والفشل والجبن سببان من أسباب الخذلان فمن صبر كان حقا على الله نصره على عدوه لأن الله معه ومن صبر على حد السيوف فإنه إذا قدم على الله تعالى أكرم منزلته وشكر له فعله وسعيه الله يحب الشاكرين قال وما زال خالد رضي الله عنه يقول: هذا الكلام لأهل كل راية حتى مر بجماعة الناس ثم أن خالدا جمع إليه خيل المسلمين من أهل الشدة والصبر ومن شهد معه الزحف فقسمهم أربعة ارباع فجعل على أحدهم قيس بن هبيرة المرادي وقال له: أنت فارس العرب فكن على هذه الخيل واصنع كما أصنع وجعل على الربع الآخر ميسرة بن مسروق العبسي وأوصاه بمثل ذلك ودعا عامر بن الطفيل على الربع الثالث وأوصاه بمثل ذلك ووقف خالد مع عسكر الزحف. قال الواقدي: فلم تطلع الشمس إلا وقد فرغوا من تعبية صفوفهم للحرب وأما ماهان الأرمني فإنه أمر الروم بالزينة والأهبة للحرب ففعلوا ذلك إلا أن المسلمين كانوا اسرع في التعبية قال وزحف الروم إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ونظر الروم إلى تعبيتهم فكان عسكر المسلمين صفوفا كالبنيان المرصوص وكان الطير تظلهم والصفوف متلاصقة والرماح مشرعة مشتبكة قال فلما رأى الروم ذلك داخلهم الفزع والجزع وألقى الله الرعب في قلوبهم ثم أن ماهان عبى عسكره فجعل العرب المتنصرة من غسان ولخم وجذام في مقدمة الصفوف وجعل عليهم جبلة وقدم أمامهم صليبا من الفضة وزنه خمسة أرطال وهو مطلي بالذهب وفي أربعة أركانه أربع جواهر تضيء كأنها الكواكب. قال الواقدي: حدثني سنان بن أوس الربعي قال حدثني عدى بن الحرث الهمداني وكان ممن حضر الفتوح من أولها إلى آخرها قال وكانت الصفوف التي صفها ماهان ثلاثين صفا كل صف منها مثل عسكر المسلمين كله وقد أظهر ماهان بين الصفوف القسوس والرهبان وهم يتلون الإنجيل ويترنمون وأكثر من الرايات والأعلام والصلبان فلما تكاملت صفوفهم وإذا ببطريق عظيم الخلقة قد برز وعليه درع مذهب ولامة حرب مليحة وفي عنقه صليب من الذهب مرصع بالجوهر وتحته فرس أشهب وكان البطريق من عظماء الروم ممن يقف عند سرير الملك فلما برز جعل يرطن بكلام الروم بصوت كالرعد فعلم المسلمون إنه يطلب البراز فتوقف المسلمون عن الخروج إليه فصاح خالد وقال: يا أصحاب رسول الله هذا العلج الأغلف يدعوكم لقتاله وأنتم تتأخرون فإن لم تخرجوا إليه وإلا خرج خالد وهم بالخروج وإذا بفارس قد خرج من المسلمين على برذون أشهب عظيم الخلقة يشبه برذون المشرك وعلى المسلم لامة حسنة وعدة سابغة وقصد نحو البطريق فلم يكن في رجال خالد من يعرف الفارس الذي خرج فقال خالد لهمام مولاه: أخرج إلى هذا الفارس وانظر من هو من المسلمين ومن أي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 العرب هو ومن قومه فمضى همام يهتف به وقد هم أن يقرب من البطريق فصاح به من أنت يا ذا الرجل من السلمين رحمك الله فقال أنا روماس صاحب بصرى فلما أخبر خالد به قال: اللهم بارك فيه وزد في نيته فلما صار بازاء العلج كلمه بلسانه فقال الرومي وقد عرفه يا روماس كيف تركت دينك وصبأت إلى هؤلاء القوم فقال روماس هذا الدين الذي دخلت فيه دين جليل شريف فمن تبعه كان سعيدا ومن خالفه فقد ضل. ثم حمل روماس على العلج وحمل العلج على روماس وتقاتلا ساعة حتى عجب الجمعان منهما فوجد العلج من روماس غفلة فضربه ضربة أسال دمه قال فأحس روماس بالضربة وقد وصلت إليه فانثنى راجعا نحو المسلمين فأتبعه العلج طالبا له لا يقصر عن طلبه وكاد أن يدركه فصاح به فرسان المسلمين من الميسرة والميمنة فقوي قلب روماس وداخل العلج الجزع والخوف من صياحهم والهلع وقصر عن طلبه ودخل روماس عسكر المسلمين والدم على وجهه فائر فأخذه جماعة من المسلمين فشدوا جراحه وشكروه على فعله ووعدوه بالغفران من الله تعالى وهنئوه بالسلامة قال: ولما رجع روماس منهزما أعجب العلج بنفسه وأظهر عناده وأغلظ في كلامه وطلب البراز فهم أن يخرج إليه ميسرة بن مسروق العبسي فقال له خالد: يا ميسرة أن وقوفك في مكانك أحب الي من خروجك إلى هذا العلج وانت شيخ كبير وهذا علج عظيم الخلق والشاب شجاع ولا أحب أن تخرج إليه فإنه لا يكاد الشيخ الكبير يقاوم الشاب الحدث ولا سيما أن شعرة من مسلم أحب إلى الله تعالى من جميع أهل الشرك فرجع ميسرة إلى مكانه وهم أن يخرج إليه عامر بن الطفيل وقال: أيها الأمير إنك قد عظمت قدر هذا الرومي الذميم وادخلت في قلوب المسلمين منه الرعب فقال خالد: أن الفرسان تعرف أكفاءها في الحرب وما يخفى علي ما هو فيه من الشجاعة والشدة وأنت لا تقاومه لانه ما برز بين أصحابه وبين شجاعته إلا وهو فارس في قومه فقف في مكانك فوقف عامر بن الطفيل في مكانه ولم يخالف قال والعلج يدعو إلى البراز والحرب فأقبل إلى خالد الحرث بن عبد الله الأزدي فلما وقف بين يديه قال: أيها الأمير اخرج إليه قال خالد لعمري: أن لك جسارة وقوة وشدة وما علمتك إلا شهما فإن شئت أن تخرج فاخرج على اسم الله واعزم فاخذ الأزدي أهبته وهم أن يخرج فقال خالد رضي الله عنه: على رسلك يا عبد الله حتى أسألك فقال أسأل قال خالد: هل بارزت أحدا قبله قال: لا قال فارجع يا ابن أخي ولا تخرج فانك غير مجرب الحروب وهذا فارس قد جرب الحرب وجربته وعرف مصادرها وما أحب أن يخرج إليه إلا رجل مثله بصير بالحروب وجعل خالد يقول: ذلك وينظر إلى قيس بن هبيرة فقال: يا أبا سليمان إني أظنك تعرض بي واياي تعني أنا ابرز إليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 قال خالد: ابرز على اسم الله تعالى فانك كفء والله تعالى يعينك عليه وخرج قيس بن هبيرة واجرى جواده حتى لين عريكته وكسر حدته ثم سرحه نحو البطريق وهو يقول: بسم الله وعلى بركة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرب من البطريق فلما نظر العلج إلى فعاله علم إنه فارس شديد من فرسان المسلمين فعدل نحوه وقصد إليه وتحاملا قال فبادره قيس بن هبيرة وضربه على هامته فتلقاها العلج في حجفته فقد سيف ابن هبيرة الحجفة ووصل إلى البيضة فاشتبك فيها وهم أن يخرج سيفه فامتنع عليه وضرب العلج قيس بن هبيرة على حبل عاتقه فثبت للضربة والتقيا بعد الضربتين فطرح العلج نفسه عليه يريد أسره وهو جبار من الجبابرة وكان قيس بعد رجوعه من قتال أهل الردة قد عود نفسه الصيام والقيام وهو نحيف الجسم فلما نظر قيس إلى العلج وقد ظهر عليه انجذب من يده وبعد عنه وجعل ينظر إليه شزرا ويضمه له مكرا إلى أن سيفه قد خرج من يده فثنى عنان فرسه يريد عسكر الملسمين ليأخذ سيفا ويعود إلى القتال وقد ايس من نفسه فلما عطف راجعا صاح العلج في أثره وسعى في طلبه فقصر قيس بن هبيرة في سيره وقال في نفسه أنت مرادك الشهادة وتهرب من هذا العلج فرجع إلى العلج فصاح به خالد يا قيس سألتك بالله ورسوله إلا رجعت وتركت حدتها علي فقال: قيس يا خالد لقد اقسمت علي بعظيمين ولكن أن رجعت إليك أتزيد في أجلي قال: لا قال فلم اختار الفرار وأكون من أصحاب النار بل أصبر وافوز بالغفران من الله تعالى ثم عطف على قرنه وليس في يده سيف بل استل خنجرا كان معه على وسطه قال ونظر خالد إلى قيس بن هبيرة وليس في يده سيف فقال من يأخذ هذا السيف ويدفعه إلى قيس أبتغاء ثواب الله تعالى قال عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنا يا أبا سليمان. فقال خالد: أنت والله لها يا ابن الصديق ثم أخذ عبد الرحمن سيفه ولحق قيس بن هبيرة يريد أن يناوله السيف فلما نظرت الروم إلى عبد الرحمن وقد لحق بقيس ظنوا إنه يريد أن يعاون قيسا لى صاحبهم فخرج عليه بطريق آخر وأقبل إلى صاحبه ووقف بإزائه قال فدفع عبد الرحمن السيف إلى ابن هبيرة ووقف معه وجعل البطريق الاخر يتكلم بكلام لا يفهمه عبد الرحمن فقال عبد الرحمن يا ويلك ما الذي تقول فما نعرف كلامك فخرج إليه ترجمان وقال له: يا معشر العرب ألستم ذكرتم إنكم أصحاب نصفة وحق قال عبد الرحمن بلى وقال الترجمان فما رأينا من نصفتكم شيئا يخرج فارسان إلى فارس قال عبد الرحمن إنما خرجت لاعطي صاحبي هذا السيف وارجع ولو خرج إلينا منكم مائة لواحد ما كبر علينا ولا عظم لدينا وها أنتم ثلاثة وأنا واحد وأنا لكم كفء قال فأخبر الترجمان صاحبه بذلك فجعل ينظر إليه شزرا فقال عبد الرحمن يا قيس قد تعبت فقف وتفرج علي وانظر ما يكون مني ومنهم ثم حمل عبد الرحمن بن أبي بكرالصديق رضي الله عنه على الذي كان يخاطبه فطعنه في نحره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 فأخرج السنان يلمع من ظهره فوقع منجدلا ونظر العلجان إلى صاحبهما مجندلا فحملا على عبد الرحمن وقصداه فأراد قيس بن هبيرة أن يعاونه عليهما فقال له عبد الرحمن: سألتك برسول الله صلى الله عليه وسلم وبحق أبي بكر إلا تركت عبد الرحمن يصطلي بهما فإن قتلت فأنت شريكي في الثواب وأقرىء عائشة مني السلام وقل لها أخوك قد لحق ببعلك وأبيك فتأخر قيس عنه وقد عجب من فعاله فحمل عبد الرحمن على أحد العلجين وهو الأول فطعنه برمحه فاشتبك السنان في درعه فرمى عبد الرحمن الرمح من يده وانتضى سيفه وقام في الركاب وضرب العلج بسيفه ضربة طرحه بها نصفين ونظر العلج الثالث الىعبد الرحمن وجراءته فبقى حائرا متعجبا من حاله ونظر إلى البطريق وهو متحير باهت فبانت له فيه غفلة فقال: ما يوقفك يا قيس وحمل على البطريق وضربه ضربة هشم بها هامته فسقط إلى الأرض صريعا فلما نظرت الروم إلى أصحابهم قال بعضهم لبعض ما هؤلاء العرب إلا شياطين. قال الواقدي: وأخبر ماهان بفعالهم فقال لقومه أن الملك كان أخبر بهؤلاء القوم وحق المسيح لقد أعلم أن لكم أمرا فإن لم تحملوا عليهم بكثرتكم وإلا فما تقوم لكم قائمة قال فأتاه بطريق من البطارقة وسارر ماهان في اذنه طويلا ثم انزاح عنه وقد اصفر وجه ماهان وسكت كأنه اخرس فاستخبروا ماهان عما حدثه البطريق فلم يخبرهم قال فحدث من رأى ذلك إنه سأل جبلة بن الأيهم فقال لما أخبر ماهان بخبر الثلاثة وفيهم البطريق الأول قال ماهان إنهم منصورون عليكم فقال له البطريق في اذنه: أيها الملك الحق ما قلت: أعلم إني رأيت البارحة في منامي كأن رجالا نزلوا من السماء إلى الأرض وهم على دواب بلق وشهب وعليهم كامل السلاح واحدقوا بهؤلاء العرب ونحن قيام بازائهم لا يخرج أحد من عسكرنا إلا قتلوه حتى أتوا على أكثرنا وأظن إنهم هؤلاء الذين نراهم في اليقظة لأن واحدا منهم قتل ثلاثة منا وما هم إلا منصورون علينا من السماء قال فكسر بهاذا قلب ماهان فلم يرد جوابا فاجتمع القوم يسألونه عما قاله البطريق فلم يخبرهم فلما أكثروا عليه السؤال تكلم فيهم كالخطيب وقال: يا أهل هذا الدين إنكم أن لم تقاتلوا كنتم من الخاسرين وغضب عليكم المسيح وأن الله عز وجل لم يزل لدينكم ناصرا ومظهرا وأن لله الحجة عليكم إذ بعث فيكم رسولا وانزل عليه كتابا ولم يتبع رسولكم الدنيا وأمركم أن لا تتبعوها وفي كتابه لا تظلموا فإنه لا يحب الظلم ولا الظالمين فلما اتبعتم الدنيا وظلمتم وخالفتم نصر اعداؤكم عليكم فما عذركم عند خالقكم وقد تركتم أمر نبيكم وما انزل عليكم في كتاب ربكم وهؤلاء العرب بازائكم يريدون قتل فرسانكم وسبي ذراريكم ونسائكم وأنتم على المعاصي والذنوب ولا تخافون من علام الغيوب فإن نزع الله سلطانكم من ايديكم واظهر عدوكم عليكم فذلك بحق منه وعدل لانكم لا تأمرون بالمعروف ولا تنهون عن المنكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 قال الواقدي: وكان ماهان لما سمع كلام البطريق الذي رآه في المنام أمره أن يكتمه واما قيس بن هبيرة وعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق فأخذا سلاحهم واسلابهم ورجعا إلى المسلمين فدفعا السلب إلى أبي عبيدة فقال هو لكما ومن قتل فارسا فله سلبه فكذا عهد إلينا عمر بن الخطاب فأخذا السلب ووقف قيس في موضعه الذي اقامه خالد فيه ورجع عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق إلى ميدان الحرب فجال بين الصفين وكان قد ركب اشهب البطريق الذي قتله فرآه لا ينبعث تحته كما عهد من خيل العرب فرجع وغيره من تحته بفرس غيره وحمل على ميمنة الروم فشوش صفوفهم وقتل منهم فارسين ورجع فحمل على القلب ثم انثنى على الميسرة فرشق بالسهام فرجع حتى وقف في صدر الجيش وجعل يفزع الروم باسمه ويدعوا إلى البراز فخرج إليه علج من علوج الروم فما جال غير ساعة حتى قتله فخرج إليه آخر فقتله فقال خالد: اللهم ارعه بعينك واحفظه فإن عبد الرحمن قد اصطفى اليوم الحرب بنفسه ثم أن خالدا صاح به يا عبد الرحمن بحق شيبة ابيك وبيعته إلا رجعت إلى مكانك فرجع حين أقسم عليه قال حزام بن غنم قلت لرجل ممن شهد اليرموك: أكانت النساء معكم مشاهدات القتال قال: نعم أحداهن أسماء بنت أبي بكر زوجة الزبير بن العوام وخولة بنت الأزور ونسيبة بنت كعب وأم أبان زوجة عكرمة بن أبي جهل وعزة بنت عامر بن عاصم الضمري مع زوجها مسلمة بن عوف الضمري ورملة بنت طليحة الزبيري ورعلة وأمامه وزينب وهند ويعمر ولبنى وأمثالهن رضي الله عنهن فلقد كن يقاتلن قتالا يرضين به الله ورسوله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 نساء المسلمين في المعركة قال الواقدي: حدثني عبد الملك بن عبد الحميد وكان قد شهد وقعة اليرموك وقال أولها شرر نار وآخرها ضرام الحرب وأن كل يوم يأتي من القتال اصعب من اليوم الآخر قال عمرو بن جرير فشهدنا في اليوم الأول حربا يسيرا وذلك أن ماهان أمر عشرة من الصفوف أن تحمل على المسلمين بعد أن قتل عبد الرحمن من قتل وحمل المسلمون عليهم فالتقت الرجال بالرجال فنظر أبو عبيدة وكان واقفا إلى ماهان ولم يحمل على المسلمين فعلم أن الأمر يصعب فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وجعل يتلون قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ أن النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقالوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173] قال ولم يزل الحرب بين الفريقين من قيام الشمس في قبة السماء إلى أن همت بالغروب ولم ينفصل الجمعان حتى فرق الليل بينهم فحينئذ افترق الجمعان وهم ما يعرفون إلا ب الشعار وخرج كل قوم من العرب يهتفون بشعارهم وينادون بأنسابهم ورجعت كل فئة إلى مكانها واستقبل المسلمين نساؤهم فصارت تجعل المرأة مرطها تمسح به عن وجه زوجها وتقول له أبشر بالجنة يا ولي الله وبات المسلمون في خير وسرور وأوقدوا النيران وذلك أن القتل في أول يوم لم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 يتبين في الفريقين بل قتل من الروم يسير ومن المسلمين عشرة رجلان من حضرموت أحدهما يقال له مازن: والثاني يقال له: صارم وثلاثة من عسفان رافع ومجلي وعلي وواحد من الأنصار وهو عبد الله بن الأخرم وثلاثة من بجيلة وواحد من مراد وهو سويد أبن أخي قيس بن هبيرة فحزن عليه قيس لما فقده فعلم إنه في القتلى فخرج قيس وخرج معه رجال من قومه حتى أتوا موضع المعركة وفتشوا عليه فلم يروه فلما هم بالرجوع نظر إلى نار قد أقبلت من جهة الروم يطلبون مكان الوقعة وهم يطلبون بطريقا كان معظما عندهم فقال قيس لجماعته أخمدوا ناركم فوالله لآخذن بثأر ابن أخي من هؤلاء القوم قال فأخمدوا نارهم ورقدوا بين القتلى وتأهبوا للقتال وإذا بالروم قد أتوا وهم نحو مائة وهم في زينة عظيمة وآلة وعدة وكان مع قيس سبعة من قومه فقالوا له: إن القوم مائة ونحن سبعة وقد تولانا التعب فقال قيس ارجعوا أنتم وإني والله أطلب الموت لا أريد غيره وأجاهد في الله حق جهاده فعجبوا من قوله ووقفوا معه وقفة الكرام وأقبلت الأعلاج يريدون المعركة ويدورون بين القتلى وقد وقفوا بالعلج وهو الذي برز أولا وقتله ابن أبي بكر الصديق فلما احتملوه وولوا يريدون عسكرهم صاح فيهم قيس من ورائهم وتابعه أصحابه بالصياح فذهلوا ورموا البطريق ووضع المسلمون السيف فيهم وجعلوا يقتلونهم قتلا ذريعا وكان قيس إذا ضرب فيهم يقول: هذا عن ابن اخي قال فقتل منهم ستة عشر رجلا وقتل أصحابه أكثر القوم وانفلت الباقون فلما فرغ قيس من القوم عاد يطلب ابن اخيه نحو عسكر الروم فسمع انينا فأقبل نحوه فإذا هو ابن اخيه سويد بن بهرام المرادي فلما عرفه بكى فقال: ما أبكاك يا ابن اخي فقال: يا عماه إني تبعت القوم فرجع الي واحد منهم وطعنني في صدري وإني لاعالج منها أمرا عظيما وهؤلاء الحور العين في حذائي ينتظرون خروج روحي قال فبكى قيس وقال: يا ابن اخي لكل أجل كتاب ولعل أن يكون في أجلك طول فقال هيهات والله يا عم أفتقدر أن تحملني إلى عسكر المسلمين فأموت هناك قال أجل قال ثم احتملته على ظهري وأقبلت به إلى عسكر المسلمين وقصدت به إلى رحله وسجيته وسمع أبو عبيدة بمجيء قيس فأتى إليه ورأى الغلام يجود بنفسه فجلس عند رأسه وبكى وبكت المسلمون فقال له أبو عبيدة: كيف تجدك يا ابن اخي فقال بخير والله وغفران وجزى الله محمدا عنا خيرا ولقد صدقنا في قوله وهذه الحور تنادي وتشخص فمات قال فما برحنا حتى واريناه بالتراب قال وخبره قيس بمن قتل في تلك الليلة من المشركين ففرح فرحا شديدا وعلم أن ذلك علامة النصر قال وبات الناس في ليلتهم يقرأون القرآن ويصلون ويسألون المعونة والنصر. قال وأما ماهان فإنه لما رجع إلى عسكره اجتمع إليه البطارقة والرهبان والقسوس فقدموا له طعاما ومدوا له سماطا فلم يأكل منه شيئا مما وقع في نفسه من الرؤيا التي رآها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 البطريق وكان ماهان يود لو ترك الأمر وصالح على أداء الجزية ولكنه كان مغلوبا على أمره وأقبلت الملوك والقسوس والبطارقة والرهبان على ماهان وقالوا: ما بال الملك امتنع من الطعام فإن كان ذلك من غمه على من مات وعلى ما جرى عليه من الحرب فإن الحرب سجال فيوم لك ويوم عليك واعلم أيها الملك أن القوم بنا ظافرون وما نملكهم إلا أن نحمل عليهم فلا يبقى منهم أحد قال ماهان ما أظنكم غير منصورين إلا من تغير اديانكم والجور في سلطانكم فبهذا نصرت العرب عليكم فقام إليه رجل وقال: أيها الملك عشت الدهر وأنا رجل من أهل دينكم وكان لي مائة رأس من الغنم وكان فيها ولدي يرعاها فضرب عظيم من عظماء أصحابك الفسطاط إلى جانبها ثم إنه عدا عليها فأخذ منها حاجته وأخذ بقيتها أصحابه فجاءته زوجتي تشكو إليه انتهاب غنمي فلما رآها أمر بها فأدخلت إليه فطال مكثها عنده فلما رأى ولدها ذلك دنا من الفسطاط فإذا هو يجامع أمه فصاح الغلام فأمر البطريق بقتل الغلام فقتل فأتيت أريد خلاص ولدي وزوجتي فامر بي فضربت بالسيف فتلقيت الضربة بيدي فقطعها ثم إنه أخرج يده فإذا هي مقطوعة قال فغضب ماهان عند ذلك غضبا شديدا وقال للمعاهد أتعرف هذا البطريق الذي فعل بك ذلك قال: نعم هو هذا وأومأ بيده إلى بطريق من البطارقة فنظر إليه ماهان مغضبا قال فغضب البطريق وغضب البطارقة لغضبه ومالوا على المعاهد فضربوه بأسيافهم حتى قطعوه وماهان ينظر إليهم فزاد غضبه وقال خذلتم وهلكتم وحق المسيح يا ويلكم ترجون النصر وأنتم تفعلون هذا الفعال أما تخافون القصاص غدا وأن الله ينتقم منكم وينزع منكم صالح ما أعطاكم ويعطيه غيركم ممن يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر فوالله انتم الآن عندي كالكلاب وسوف ترون عاقبة هذا كله والي أي مصير مصيركم يكون قال ثم إنه قام وتركهم فلما انصرف القوم ولم يبق عنده إلا بطريق واحد قال له: أيها الملك والله أن القوم لكما تقول وما أظن إلا أننا مغلوبون وأعلم إني رأيت في منامي كان رجالا نزلوا من السماء على خيل شهب فاحدقوا بهؤلاء العرب وعليهم كامل السلاح ونحن وقوف بازائهم فنظرت إليهم ولا يخرج منا أحد إلا قتلوه حتى أتوا على أكثرنا وذكر له كما قال ذاك الأول فأقبل ماهان يفكر طول ليلته فيما يصنع في أمر المسلمين فلما اصبح الصباح عبى المسلمون صفوفهم ونظروا إلى عسكر الروم وإذا فيه ارتعاد وانزعاج فعلموا أن لهم أمرا. قال أبو عبيدة: دعوهم ولا تبقوا عليهم فإن الباغي مخذول قال واجتمعت البطارقة والملوك الأربعة إلا ماهان وهم قناطر وجرجير والديرجان وقورين وهم أصحاب الجيش يستأذنونه في الحرب فقال ماهان وكيف لي أن أقاتل بقوم يظلمون أن كنتم احرارا فقاتلوا عن سلطانكم وامنعوا عن حريمكم فقالوا: الآن أحببنا الحرب فوحق المسيح لا نفارقهم حتى ننفيهم من الشام إلى بلادهم أو يقتلونا أو نقتلهم فثق بقولنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 وانهض بنا إليهم فإذا عزمت على القتال فدع كل واحد منا يقاتل يوما حتى تعرف منا من هو أفرس وأشد ويضجر المسلمون من المطاولة ونجمع عيالنا وأطفالنا وأموالنا فإن كانت على العرب رددنا كل شيء إلى مكانه وأن كانت للعرب علينا الحقوا ببلادهم وقومهم ويكون الأمر بيننا وبينهم في يوم واحد أو يومين فقال له: ماهان لعنه الله هذا هو الرأي أمهلوا إلى أن أكتب إلى الملك بمثل ذلك ثم إنه كتب إلى هرقل أما بعد فأسأل الله لك أيها الملك ولجيشك النصر ولاهل سلطانك العز والنصر وإنك بعثتني فيما لا يحصى من العدد وإني قدمت على هؤلاء العرب فنزلت بساحتهم وأطمعتهم فلم يطمعوا وسألتهم الصلح فلم يقبلوا وجعلت لهم جعلا على أن ينصرفوا فلم يفعلوا وقد فزع جند الملك منهم فزعا شديدا وإني خشيت أن يكون الفشل قد عمهم والرعب قد دخل في قلوبهم وذلك لكثرة الظلم فيهم وقد جمعت ذوي الرأي من أصحابي وذوي النصيحة للملك وقد أجمع رأينا على النهوض إليهم جميعا في يوم واحد ولا نزايلهم حتى يحكم الله بيننا فإن اظهر الله عدونا علينا فارض بقضاء الله واعلم أن الدنيا زائلة عنك فلا تأسف على ما فات منها ولا تغتبط منها بشيء في يدك والحق بمعاقلك وبدار ملكك بالقسطنطينية وأحسن إلى رعيتك يحسن الله إليك وارحم ترحم وتواضع لله يرفعك الله فإنه لا يحب المتكبرين ولقد عملت حيلة في احضار أميرهم خالد ومنيته ورغبته فما أجاب ورأيته على الحق مقيما فأردت أن أفتك به وأمكر فخفت عاقبة المكر والغدر وما نصر هؤلاء إلا بالعدل واتباع الحق بينهم والسلام ثم طوى الكتاب وبعث به مع أصحابه من العلوج. قال الواقدي: وبقي ماهان سبعة أيام اخر بعد الوقعة الأولى لم يقاتل المسلمين ولم يقاتلوه وبعث أبو عبيدة برجل من عيونه ينظر ما الذي أخر الروم عن القتال فغاب الرجل يوما وليلة ثم عاد وأخبر أبا عبيدة أن ماهان قد كاتب الملك وهو منتظر الجواب فقال خالد ابن الوليد: ما تأخر ماهان عن قتالنا إلا وقد وقع الفزع في قلبه فازحف بنا إليهم فقال أبو عبيدة: رضي الله عنه لا تعجل فإن العجلة من الشيطان. قال الواقدي: وكان أبو عبيدة رجلا لين العريكة يحب الرفق فلما كان في اليوم الثامن نظر ماهان إلى تلهف أصحابه على الحرب والقتال فعزم أن يلقى بهم المسلمون وقد فرح بنشاطهم فدعا برجل من المتنصرة من لخم وقال له: اذهب فادخل هؤلاء العرب وتجسس لي أخبارهم وانظر ما عندهم قال فمضى اللخمي حتى دخل عسكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقام فيهم يوما وليلة يطوف في عسكرهم وليس أحد من المسلمين ينكره وهم آمنون وليس لهم همة إلا اصلاح شأنهم والصلاة والقرآن والتسبيح وليس فيهم عدوان ولا ظلم ولا أحد يتعدى على أحد وقصد الموضع الذي فيه أبو عبيدة رضي الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 عنه فنظر إليه كأنه أضعف ضعيف في العرب ساعة يجلس على الأرض وساعة ينام عليها فإذا كان وقت الصلاة قام واسبغ الوضوء وأذن المؤذنون وصلى بالناس ونظر المتنصر إلى المسلمين وهم يصنعون كصنعه فقال المتنصر أن هذه طاعة حسنة ويوشك إنهم ينصرون قال فرجع إلى ماهان وحدثه بما رأى من القوم وما عاينه وقال: أيها الملك إني جئتك من قوم يصومون النهار ويقومون الليل ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر رهبان في الليل ليوث بالنهار ولو سرق واحد منهم ولو كان كبيرهم قطعوه ولو زنا رجموه لا يغلب هواهم على الحق بل الحق عندهم غالب وأميرهم كاضعف من فيهم إلا إنه مطاع عندهم أن قام قاموا وأن قعد قعدوا مناهم القتال وشهوتهم النزال ومرادهم أن يموتوا شهداء في قتالكم وما تأخروا عن قتالكم إلا ليكون البغي منكم إذا بدأتموهم فقال ماهان هؤلاء القوم منصورون غير إني قد وجدت حيلة أعملها عليهم فقال المتنصر ما الحيلة أيها الملك. فقال ماهان ألست زعمت إنهم لا يبدأون بالقتال حتى نقاتلهم فنكون نحن الباغين قال: نعم قال فانا لا نطلب الحرب بل نطول بيننا وبينهم وندهمهم على حين غفلة دون عدة منهم ولا أخذ حذرهم فعسى أن نظفر بهم قال ثم أن ماهان جمع الملوك وجعل يعقد لهم الرايات والصلبان حتى عقد ستين ومائة صليب تحت كل صليب عشرة آلاف وكان أول صليب عقد لقناطر وكان نظيره في الرتبة وأمره أن يكون في الميمنة ثم عقد صليبا للديرجان وضم إليه الأرمن والنجد والنوبة والروسية والصقالبة ثم عقد لابن أخت الملك صليبا على الافرنج والهرقلية والقياصرة والير والدوقس وعقد لجبلة بن الأيهم عقدا وضم إليه المتنصرة من لخم وجذام وغسان وضبة وأمره أن يكون على المقدمة وقال أنتم عرب وأعداؤنا عرب والحديد لا يقطعه إلا الحديد ثم فرق الأعلام في أجناد عسكره فما انفجر الفجر وبان الصباح وأضاء بنوره ولاح حتى فرغ من تعبية جيوشه وترتيب طلائعه وأمر بمضرب له فضرب على كثيب عال على جانب اليرموك يشرف منه على العسكرين وأوقف عن يمينه ألف فارس عتاة حماة الروم شاكين السلاح وعن يساره كذلك وهم الملكية وأصحاب السرير وأمرهم باليقظة وقال: أي كرب يكون على العرب أعظم من هذه فانكم على تعبية وهم على غير أهبة فإذا طلعت الشمس ورأيتم المسلمين على غير تعبية فاحملوا عليهم من كل جانب ومكان فما هم في عسكرنا إلا كالشامة البيضاء في جلد الثور الأسود هكذا سمعت اياد بن غالب الحميري يذكر وكان من المعمرين قال حدثني جواد ابن أسيد السكاسكي عن ابيه أسد بن علقمة فلما انشق الفجر أذن المؤذن وتقدم أبو عبيدة وصلى بالناس وهو لا يعلم بمكيدة ماهان فقرأ في أول ركعة: {وَالْفَجْرِ*وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 1, 2] حتى قرأ: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:14] إذ هتف بهم هاتف وهم في الصلاة وهو يقول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 ظفرتم بالقوم ورب العزة وما يغني عنهم كيدهم شيئا وما أجرى الله هذه الآية على لسان أميركم إلا بشارة لكم فلما سمع المسلمون كلام الهاتف عجبوا مما سمعوا ثم قرأ في الركعة الثانية: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس:1] إلى قوله: {فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا*وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا} [الشمس: 14] وإذا بالهاتف يقول: تم الفال وصح الزجر وهذه علامة النصر فلما فرغ أبو عبيدة من صلاته قال: يا معاشر المسلمين هل سمعتم الهاتف قالوا: نعم سمعنا قائلا يقول: كذا وكذا فقال أبو عبيدة: والله هذا هاتف النصر وبلوغ الأمل فابشروا بنصر الله ومعونته فوالله لينصرنكم الله وليرسلن عليهم سوط عذاب كما أنزل على القرون الأول ثم قال أبو عبيدة: معاشر القوم إني رأيت الليلة في منامي رؤيا تدل على النصر على الأعداء والمعونة من الملأ الأعلى فقالوا: أصلح الله شأن الأمير فما الذي رأيت. قال رأيت كأني واقف بازاء اعدائنا من الروم إذ حف بنا رجال وعليهم ثياب بيض لم أر كهيئتها حسنا لبياضها اشراق ونور يغشى الأبصار وعلى رؤوسهم عمائم خضر وبأيديهم رايات صفر وهم على خيول شهب فلما اجتمعوا حولي قالوا: تقدموا على عدوكم ولا تهابوهم فانكم غالبون فإن الله ناصركم ثم دعوا برجال منكم وسقوهم بكاس كان معهم فيه شراب وكأني أنظر عسكرنا وقد دخل في عسكر الروم فلما رأونا ولوا بين أيدينا منهزمين فقال رجل من المسلمين أصلحك الله أيها الأمير وأنا رايت الليلة رؤيا فقال أبو عبيدة: خيرا تكون أن شاء الله تعالى ما الذي رايت يرحمك الله فقال رأيت كأنا خرجنا نحو عدونا فصاففناهم الحرب وقد انقضت عليهم من السماء طيور بيض لها أجنحة خضر ومخاليب كمخاليب النسور فجعلت تنقض عليهم كانقضاض العقبان فإذا جاءت للرجل ضربته ضربة فيقع قطعا قال ففرح المسلمون بتلك الرؤيا وقال بعضهم لبعض ابشروا فقد امنكم الله وأيدكم بالنصر وأمدكم بملائكته تقاتل معكم كما فعل بكم يوم بدر قال فسر أبو عبيدة بذلك وقال هذه رؤيا حسنة وهي حق تأويلها النصر وإني أرجو من الله تعالى النصر وعاقبة المتقين فقال رجل من المسلمين أيها الأمير ما وقوفنا عن هؤلاء الكلاب الأعلاج وما انتظارك للحرب وعدو الله يريد كيدنا بمطاولته وما تأخر عنا إلا لبلية يريد أن يوقعنا بها قال أبو عبيدة: أن الأمر أقرب مما تظنون قال سعيد بن رفاعة الحميري فبينما نحن كذلك إذ سمعنا الأصوات قد علت والزعقات قد ارتفعت من كل جانب يهتفون بالقتال وأن الروم قد زحفت إلينا فظن أبو عبيدة أن المسلمين قد كبسوا في وجه السحر فقام ليرى وكان على حرس المسلمين تلك الليلة سعيد بن زيد وعمرو بن نفيل العدوي رضي الله عنهما إذ أقبل سعيد وهو ينادي النفير النفير حتى وقف أمام أبي عبيدة ومعه رجل من المتنصرة فقال: أيها الأمير ماهان كاد المسلمين بتخلفه عن الحرب وها هو قد عبى عساكره وصف جيوشه وزحف علينا زحف من يريد الكبسة بنا ونحن على غير أهبة ولا عدة وهذا الرجل قد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 أقبل إلينا راغبا في الإسلام محذرا لنا من بأسه ويزعم أن ماهان قد قدم إلينا حماة البطارقة وقد أتفق رأيهم على أن يقاتلنا كل ملك من ملوكهم بمن معه وهذا أصعب القتال ونظر المسلمون إلى رايات الروم تقرب منهم والصلبان تدنو فقال أبو عبيدة: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ثم قال: أين أبو سليمان خالد بن الوليد فأجابه بالتلبية فقال له: أنت لي يا أبا سليمان فابرز في أبطال المسلمين وصد عن الحريم إلى أن تأخذ الرجال صفوفها وتستعد بآلات حربها فقال حبا وكرامة. فنادى خالد اين الزبير بن العوام أين عبد الرحمن بن أبي بكر أين الفضل بن العباس أين يزيد بن ابي سفيان أين ربيعة بن عامر أين ميسرة بن مسروق العبسي اين ميسرة بن قيس أين عبد الله بن أنيس الجهني أين صخر بن حرب الأموي أين عمارة الدوسي أين عبد الله بن سلام أين غانم الغنوي أين المقداد بن الأسود الكندي اين أبو ذر الغفاري اين عمرو بن معد يكرب الزبيدي أين عمار بن ياسر العبسي أين ضرار بن الأزور أين عامر بن الطفيل أين أبان بن عثمان بن عفان وجعل خالد يدعوهم رجلا بعد رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل رجل منهم يلقى جيشا فاجتمعوا إلى خالد بأجمعهم واشتغلوا بالحرب واشتغل أبو عبيدة بترتيب الصفوف وتعبية العساكر فأقبل أبو سفيان إلى ابي عبيدة وقال له: أيها الأمير مر نساءنا أن يعلون على هذا التل قال: نعم الرأي ما رأيت فأمرهن بذلك ففعلن وعلون على التل وحصن أنفسهم وأولادهن ومعهن الأطفال والأولاد فقال لهن أبو عبيدة خذن بأيديكن أعمدة البيوت والخيام وأجعلن الحجارة بين ايديكن وحرضن المؤمنين على القتال فإن كان الأمر لنا والظفر فكن على ما أنتن عليه وأن رأيتن أحدا من المسلمين منهزما فاضربن وجهه بأعمدتكن واحصبنه بحجارتكن وارفعن إليه أولادكن وقلن له قاتل عن أهلك وعن دين الإسلام فقال النساء أيها الأمير أبشر بما يسرك. قال الواقدي: فلما حصن أبو عبيدة النساء على التل أقبل يعبي جيشه وقد والعدة وقسم الخيالة ثلاثة فرق فجعلها في الثلاثة صفوف واستعمل عليهم ثلاثة من وابتدر الناس القتال بعدما عباهم ميمنة وميسرة وقلبا وجناحين وقدم أصحاب الرايات وكانت راية المهاجرين صفراء وفيها ابيض وأخضر واسود وسائر القبائل ايضا راياتهم مختلفة وجعل المهاجرين والأنصار في القلب واظهر المسلمون العدة والسلاح وجعل عسكره ثلاثة صفوف فصف فيه النبلة من أهل اليمن وصف فيه أصحاب الخيل المسلمين أحدهم غياث بن حرملة العامري والثاني مسلمة بن سيف اليربوعي والثالث القعقاع بن عمرو التميمي ووقف المسلمون تحت راياتهم ووقف أبوعبيدة تحت رايته التي عقدها له أبو بكر الصديق رضي الله عنه يوم مسيره إلى الشام وهي راية رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفراء التي سار بها يوم خيبر قال ومع خالد راية العقاب وكانت سوداء وجعل على الرجالة شرحبيل بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 حسنة وعلى الجناح الإيمن يزيد بن ابي سفيان وعلى الايسر قيس بن هبيرة فلما ترتبت الصفوف سار أبو عبيدة بين الصفوف وجعل يحرض المؤمنين على القتال ويقول: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7] والزموا الصبر فإن الصبر منجاة من الكرب ومرضاة للرب ومقمعة للعدو فلا تزايلوا صفوفكم ولا تنقضوا نيتكم ولا تخطوا خطوة إلا وأنتم تذكرون الله ولا تبدأوهم بالقتال حتى يبدأوكم وشرعوا الرماح واستتروا بالدرق والزموا الصمت إلا من ذكر الله ولا تحدثوا حدثا حتى آمركم ثم رجع إلى مقامه من القلب فوقف فيه ثم خرج من بعده معاذ بن جبل فطاف على الناس محرضا لهم يقول: يا أهل الدين ويا أنصار الهدي والحق اعلموا رحمكم الله تعالى أن رحمة الله لا تنال إلا بالعمل والنية ولا تدرك بالمعصية والتمني بغير عمل مرضي ولا تدخل الجنة إلا بالأعمال الصالحة مع رحمة الله ولا يؤتي الله الرحمة والمغفرة الواسعة إلا الصابرين والصادقين ألم تسمعوا قوله جل من قائل: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55] واستحيوا من الله أن يراكم في فرار من عدوكم وأنتم في قبضته ليس لكم ملجا من دونه ولم يزل معاذ يقول: ذلك إلى أن رجع إلى مقامه ثم خرج سهل بن عمرو فمشى بين الصفوف وهو شاكي السلاح وراكب فرسه متقلد سيفه وهو يقول: مثله ثم رجع وخرج من بعده أبو سفيان فطاف بين الصفوف وهو شاكي السلاح راكب فرسه متقلد سيفه معتقل رمحه وهو يقول: معاشر العرب الكرام السادة العظام قد أصبحتم في ديار الأعلاج منقطعين عن الأهل والأوطان ووالله لا ينجيكم منهم إلا الطعن الصائب في أعينهم والضرب المتدارك في هاماتهم وبذلك تبلغون أربكم وتنالون الفوز من ربكم واعلموا أن الصبر في مواطن البأس مما يفرج الله به الهم وينجي به من الغم فاصدقوا القتال فإن النصر ينزل مع الصبر فإن صبرتم ملكتم بلادهم وأمصارهم واستعبدتم ابناءهم ونساءهم وأن وليتم فليس بين ايديكم إلا مفاوز لا تنقطع إلا بالزاد الكثير والماء الغزير ولا ترجعوا إلى دور ولا إلى قصور فامنعوا بسيوفكم وجاهدوا في الله حق جهاده ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون قال ثم خرج من بين الصفوف واقبل على النساء وهن على التل وفيهن المهاجرات وبنات الأنصار وغيرهن من نساء المسلمين ومعهن أولادهن فقال لهن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم والجنة أمامكم والشيطان والنار وراءكم واقبل حتى وقف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 مكانه ولم تغن مكيدة ماهان شيئا ورجعت الروم إلى ورائها حين نظروا خالدا زحف إليهم في خمسمائة فارس فخافوا لذلك ورجعوا حتى اصطفت الصفوف وعبى المسلمون كتائبهم فقال ماهان: ما يوقفكم عن قتالهم فازحفوا إليهم فزحف الروم إلى المسلمين فنظر خالد إلى جيش عرمرم قال: وكان ماهان قد انفذ ثلاثين ألفا من عظمائهم فحفروا لهم في الميمنة حفائر ونزلوا فيها وشدوا ارجلهم بالسلاسل واقترن كل عشرة في سلسلة التماسا لحفظ عسكرهم وحلفوا بعيسى بن مريم والصليب والقسيسين والرهبان والكنائس الأربع أن لا يفروا حتى يقتلوا عن آخرهم فلما نظر خالد إلى ما صنعوا قال لمن حوله من جيش الزحف هذا يوشك أن يكون يوما عظيما ثم قال اللهم أيد المسلمين بالنصر ثم أقبل على أبي عبيدة وقال: أيها الأمير أن القوم قد اقترنوا في السلاسل وزحفوا إلينا بالقواضب ويوشك أن يكون على الناس يوما عظيما فقال لهم: أن العدو عدده كثير وما ينجيكم إلا الصبر ثم قال لخالد فما الذي ترى من الرأي يا أبا سليمان. قال الواقدي: وكان ماهان قدم من الروم من عرفت شجاعته وعلمت براعته واشتهر بالثبات في بلادهم وهم مائة ألف فلما نظر خالد إليهم شهد لهم بالفروسية وإنهم من أهل الشدة وقال لابي عبيدة: أن الرأي عندي أن توقف في مكاننا الذي أنت فيه سعيد بن زيد وتقف أنت من وراء الناس في مائتين وفي ثلثمائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا علم الناس إنك من ورائهم استحيوا من الله ثم منك أن يفروا قال فقبل أبو عبيدة مشورته ودعا سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة فأوقفه أبو عبيدة مكانه ثم انتخب أبو عبيدة مائتي فارس من اليمن وفيهم رجال من المهاجرين والأنصار ووقف بهم من وراء الجيش بحذاء سعيد بن زيد. قال حدثني ورقة بن مهلهل التنوخي وكان صاحب راية أبي عبيدة يوم اليرموك قال وكان أول من فتح باب الحرب يوم اليرموك في جيش السلاسل غلام من الأزدحدثا كيسا فقال لابي عبيدة: أيها الأمير إني أردت أن أشفي قلبي واجاهد عدوي وعدو الإسلام وابذل نفسي في سبيل الله تعالى لعلي أرزق الشهادة فهل تأذن لي في ذلك وأن كان لك حاجة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرني بها قال فبكى أبو عبيدة وقال اقرىء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره أنا وجدنا ما وعدنا ربنا حقا قال ثم دفع الغلام الأزدي جواده وحمل يريد الحرب فخرج إليه علج من الروم قام من الرجال على فرس اشهب فلما رآه الغلام قصد نحوه وقد احتسب نفسه في سبيل الله تعالى فلما قرب منه قال: لا بد من طعن وضرب صائب ... بكل لدن وحسام قاضب عسى أنال الفوز بالمواهب ... في جنة الفردوس والمراتب قال وبعد شعره حمل كل منهما على صاحبه وابتدأ الغلام الأزدي الرومي بطعنة فجندله صريعا وأخذ عدته وجواده وسلم ذلك لرجل من قومه وعاد إلى البراز فخرج إليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 آخر فقتله وثالث ورابع فقتلهم فخرج إليه خامس فقتل الأزدي فغضبت الأزد عند ذلك ودنت من صفوف المشركين فعندها أقبلت الروم وزحفت كالجراد المنتشر حتى دنا طرفهم من ميمنة المسلمين فقال أبو عبيدة: أن أعداء الله قد زحفوا عليكم فنكلوهم واعلموا أن الله معكم وثبتوا نفوسكم بالصبر والصدق واللقاء والنصر من الله ثم رمق إلى السماء بطرفه وقال اللهم إياك نعبد وإياك نستعين ولك نوحد ولا نشرك بك شيئا وأن هؤلاء أعداؤك يكفرون بك وبآياتك ويتخذون لك ولدا اللهم زلزل أقدامهم وأرجف قلوبهم وأنزل علينا السكينة والزمنا كلمة التقوى وآمنا عذابك يا من لا تخلف الميعاد اللهم انصرنا عليهم يا من قال في كتابه العزيز: {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج: 78] قال فبينما هو يدعو بهذه الدعوات إذ حملت الروم على ميمنة المسلمين وكان فيها الأزد ومذحج وحضرموت وخولان فحملت عليهم الروم حملة منكرة فصبروا لهم صبر الكرام وقاتلوا قتالا شديدا وثبتوا ثباتا حسنا وحملت عليهم كتيبة ثانية فصبروا صبرا جميلا وحملت عليهم كتيبة ثالثة فأزالوا المسلمين عن الميمنة فابتدر منهم عمرو بن معد يكرب الزبيدي وهو المقدم على زبيد والأمير عليهم وهم يعظمونه لما سبق من شجاعته في الجاهلية وكان يوم اليرموك قد مر له من العمر مائة وعشرون سنة إلا أن همته الشجاعة فلما نظر إلى قومه وقد إنكشفوا صاح في قومه يا آل زبيد يا آل زبيد تفرون من الأعداء وتفزعون من شرب كاس الردى أترضون لأنفسكم بالعار والمذلة فما هذا الأنزعاج من كلاب الأعلاج أما علمتم أن الله مطلع عليكم وعلى المجاهدين والصابرين فإذا نظر إليهم وقد لزموا الصبر في مرضاته وثبتوا لقضائه أمدهم بنصره وأيدهم بصبره فأين تهربون من الجنة أرضيتم بالعار ودخول النار وغضب الجبار قال فلما سمعت زبيد كلام سيدهم عمرو بن معد يكرب رجعوا إليه وعطفوا عليه عطفة الإبل على أولادها فاجتمعوا حوله زهاء من خمسمائة فارس وراجل وشدوا على القوم شدة واحدة وحملت معهم حمير وحضرموت وخولان وحملوا حملة صعبة فازالوا الروم عن أماكنهم وحملت دوس مع أبي هريرة وهز رايته وهو يحرض قومه على القتال ويقول: أيها الناس سارعوا إلى معانقة الحور العين في جوار رب العالمين وما من موطن أحب إلى الله من هذا الموطن إلا وأن الصابرين قد فضلهم الله على غيرهم الذين لم يشهدوا مشهدهم فلما سمعت دوس كلامه طافوا به وحملوا على الروم حملة منكرة ودارت بينهم الحرب كما تدور الرحى وتكاثرت جموع الروم على ميمنة المسلمين فعادت الخيل تنكص باذنابها راجعة على أعقابها منكشفة كانكشاف الغنم بين أيدي الاسد ونظرت النساء خيل المسلمين راجعة على أعقابها فنادت النساء يا بنات العرب دونكن والرجال ردوهم من الهزيمة حتى يعودوا إلى الحرب قالت سعيدة بنت عاصم الخولاني: كنت في جملة النساء يؤمئذ على التل فلما إنكشفت ميمنة المسلمين صاحت بنا عفيرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 بن غفار وكانت من المترجلات البازلات ونادت يا نساء العرب دونكن والرجال واحملن اولادكن على ايديكن واستقبلنهم بالتحريض فأقبلت النسوة يرجمن وجوه الخيل بالحجارة وجعلت ابنة العاص بن منبه تنادى قبح الله وجه رجل يفر عن حليلته وجعل النساء يقلن لازواجهن لستم لنا ببعولة أن لم تمنعوا عنا هؤلاء الأعلاج قال العباس بن سهل الساعدي كانت خولة بنت الأزور وخولة بن ثعلبة الأنصارية وكعوب ابنة مالك بن عاصم وسلمى ابنة هاشم ونعم ابنة فياض وهند ابنة عتبة بن ربيعة ولبنى ابنة جرير الحميرية متحزمات وهن أمام النساء والمزاهر معهن وخولة تقول هذه الأبيات: يا هاربا عن نسوة ثقات ... لها جمال ولها ثبات تسلموهن إلى الهنات ... تملك نواصينا مع البنات أعلاج سوق فسق عتاة ... ينلن منا أعظم الشتات قال ورجعت الفرسان تحرض الفرسان على القتال فرجع المنهزمون رجعة عظيمة عندما سمعوا تحريض النساء وخرجت هند ابنة عتبة وبيدها مزهر ومن خلفها نساء من المهاجرين وهي تقول الشعر الذي قالته يوم أحد وهو هذا: نحن بنات طارق ... نمشي على النمارق مشي القطا الموافق ... قيدي مع المرافق ومن أبى نفارق ... أن تغلبوا نمالق أو تدبروا نفارق ... فراق غير واثق هل من كريم عاشق ... يحمي عن العواتق قال ثم استقبلت خيل ميمنة المسلمين فراتهم منهزمين فصاحت بهم إلى أين تنهزمون اين تفرون من الله ومن جنته وهو مطلع عليكم ونظرت إلى زوجها ابي سفيان منهزما فضربت وجه حصانه بعمودها وقالت له: إلى أين يا أبن صخر ارجع إلى القتال وابذل مهجتك حتى تمحص ما سلف من تحريضك على رسول الله صلى الله ليه وسلم قال الزبير بن العوام فلما سمعت كلام هند لابي سفيان ذكرت يوم أحد ونحن بين يدي رسول الله عليه وسلم قال فعطف أبو سفيان عندما سمع كلام هند وعطف المسلمون معه ونظرت إلى النساء وقد حملن معهم وقد رأيتهن يسابقن الرجال وبأيديهن العمد بين ارجل الخيل ولقد رأيت منهن امراة وقد اقبلت إلى علج عظيم وهو على فرسه فتعلقت به وما زالت به حتى نكسته عن جواده وقتلته وهي تقول هذا بيان نصر الله المسلمين قال الزبير بن العوام وحمل المسلمون حملة منكرة لا يريدون غير رضا الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 ورسوله وقاتلت الأزد مع أبي هريرة وفشا فيهم القتل واصيب منهم خلق كثير لانهم تلقوأ الصدمة الأولى بأنفسهم واستشهد منهم ما لم يستشهد من غيرهم قال سعيد بن زيد كان القتال في الميمنة شديدا وكان المسلمون ينهزمون تارة ويعودون مرة وساعة نصبر وساعة نتأخر قال ونظر خالد بن الوليد إلى الميمنة وقد وصلت إلى القلب فصاح بمن معه من الخيل ومال عليهم فمالوا وكانوا زهاء ستة آلاف فكبر وحمل على الروم فنكى بهم نكاية عظيمة حتى كشف أعداء الله عن الميمنة والقلب إلى أن ردت إلى مواضعها ووقف خالد أمامهم يطارد من كان قريبا للمسلمين قال فانكسر الروم أمام خالد ونظر خالد إلى فرسانه فرآهم متبددين فنادى يا أهل الإسلام والإيمان ويا حملة القرآن ويا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قد تبينت في الروم الكسرة العظيمة ولم يبق عند القوم من الجلد والقتال إلا ما رأيتم وقد كسر الله حدثتهم فردوا عليهم الكسرة وشدوا عليهم الكرة رحمكم الله فوالذي نفس خالد بيده إني لارجو أن يمنحكم الله اكتافهم فنادى المسلمون من كل جانب احمل حتى نحمل معك قال فانتضى خالد سيفه وحمل وحملت أصحابه معه قال عبد الرحمن بن الحميدي الجمحي كنت ممن حمل مع خالد فوالله لقدانكشفت الروم بين أيدينا وولت كما تولي الغنم بين يدي الاسد وتبعهم المسلمون وكانت الحملة على ميمنة الروم فانكشفوا إنكشافا قبيحا وأما المسلسلة فما برحوا من مواضعهم وكانوا يرمون بالسهام وهم حماة القوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 الشعار قال عبد الرحمن وكان خالد أمامنا في حملته ونحن من ورائه وكان شعارنا يا محمد يا منصور أمتك أمتك فلم يزل خالد في حملته ونحن من ورائه حتى وصل إلى الديرجان وكان قائما في موضعه الذي أقامه فيه ماهان معه صليب من الجوهر ومعه أصحابه ينتظرون حملته فيحملون معه فلما وصلت خيل خالد إلى موضعه قال له البطارقة: أيها الملك أما أن لك أن تحمل نحمل معك أو تولي فقد خالطتنا خيل العرب فقال لأصحابه: اعلموا أن يوم السوء لا أحبه ولا أحب أن أراه ولا أحضره وقد أحضرني الملك إلى هذا الموقف وأنا كارهه ولكن لفوا وجهي ورأسي في هذا الثوب حتى لا ارى الحرب قال فلفوا وجهه ورأسه في ثوب ديباج والناس يقتتلون حتى انهزمت الروم بين أيدي المسلمين ووصلوا إلى الديرجان وهو ملفوف الرأس فحمل عليه ضرار بن الأزور فقتله. قال الواقدي: وكان أحسن صنع الله تعالى بالمسلمين أن جرجير وقناطر اختلفا وتنازعا وكان جرجير في الميمنة مع الأرمن وقناطر في الميسرة تحته فقال جرجير لقناطر احمل على العرب فما هذا وقت الوقوف فقال قناطر تأمرني أن أحمل وكيف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 لا تحمل أنت فقال جرجير لقناطر وكيف لا آمرك وأنا أمير عليك فقال قناطر كذب أنت أمير وأنا أمير عليك وفوقك وأنت مأمور لي بالطاعة فاختلفا وغضب جرجير من قول قناطر فحمل على المسلمين حملة شديدة وكانت حملته على كنانة وقيس وخثعم وجذام وقضاعة وعاملة وغسان وهم يؤمئذ فيما بين الميسرة والقلب فكشف الروم المسلمين حتى زالت عن مصافهم ولم يبق منهم إلا أصحاب الرايات فقاتلوا من يليهم قتالا شديدا وركب الروم اكتاف المسلمين المنهزمين إلى أن دخلوا معهم إلى معسكرهم فاستقبلهم النساء بالعمد يضربن وجوه الخيل ويرمين وجوهها بالحجارة وينادين بهم إلى أين تنهزمون يا أهل الإسلام عن الأمهات والأخوات والبنين والبنات أتريدون أن تسلمونا للاعلاج قال منهال الدوسي فلقد كانت النساء أشد علينا غلظة من الروم فرجع المسلمون عن الهزيمة ونادى بعضهم بعضا: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 3] وعطفوا على الروم عطفة عظيمة قال وكان قتامة بن أيشم الكناني أمام المسلمين يضرب في عراض المشركين تارة بالسيف وتارة بالرمح حتى كسر ثلاثة رماح وهو يقول: ساحمل في الروم الكلاب النوابح ... وأضربهم ضربا بحد الصفائح وأرضي رسول الله خير مؤمل ... نبي الهدى للدين أشرف ناصح قال الواقدي: ثم حمل حتى كسر سيفين وجعل كلما كسر رمحا أو سيفا يقول: من يعيرني سيفا أو رمحا في سبيل الله وأجره على الله ثم نادى يا معاشر قيس خذوا نصيبكم من الأجر والصبر فإن الصبر في الدنيا عز ومكرمة وفي الآخرة رحمة وفضيلة ف {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200] قال فاجابه قومه ونشطوا للقتال قال قتامة بن أيشم الكناني فما رأيت مثل حملة قناطر وقومه ولقد اختلطوا بنا واختلطنا بهم قال ورجع خالد من دهمته ومعه ألفان من أصحابه وقد وضعوا السيوف في الروم وقتلوهم قتلا ذريعا والقتل لا يبين فيهم لكثرتهم واقبل خالد على الناس من كرته فرأى الناس يقولون جزى الله قتامة بن الايشم خيرا عن الإسلام فشكره وجزاه خيرا قال وأقبلت ذرعه ابنة الحرث منحدرة عن التل وهي تقول ما فعل خالد حتى وقفت بين يديه وقالت: يا ابن الوليد أنت من العرب الكرام وإنما الرجال بامرائها فإن ثبتوا ثبتت الرجال معهم وأن انهزموا انهزمت الرجال معهم فقال لها خالد: ما كنت من المنهزمين وما كنا إلا نقاتل في الأعلاج فقالت: قبح الله وجه عبد نظر إلى أميره ثابتا وهو منهزم عنه. قال الواقدي: ونظر ماهان لعنه الله إلى الميمنة من عسكره وقد عركت عراك الأديم فبعث إليهم يحرضهم على القتال فعندها خرج علج من الروم وعليه درع سابغ السلاح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 كأنه قطعة جبل وهو على شهباء عظيمة الخلقة فبرز بين الصفين وجال على شهبائه وسال القتال فخرج إليه غلام من الأزد فما جال معه جولة حتى قتله العلج ثم دعا بالبراز فهم أن يخرج إليه معاذ بن جبل فقال أبو عبيدة: يا معاذ سألتك بحق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما ثبت مكانك ولزمت رايتك ولزومك الراية أحب الي من برازك إلى هذا العلج فوقف معاذ بالراية ونادى يا معاشر المسلمين من أراد فرسا يقاتل عليه في سبيل الله فهذا فرسي وسلاحي فجاءه ولده عبد الرحمن فقال أنا يا ابت وكان غلاما لم يحتلم قال فلبس السلاح وركب الجواد وقال: يا أبت أنا خارج إلى هذا العلج فإن صبرت فالمنة لله علي وأن قتلت فالسلام عليك وأن كان لك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجة فاوصني بها فقال له معاذ: يا بني أقرئه مني السلام وقل له جزاك الله عن أمتك خيرا ثم قال: يا بني أخرج وفقك الله لما يحب ويرضي فخرج عبد الرحمن بن معاذ إلى العلج كأنه شعلة نار وحمل على العلج وضربه بالسيف فمال عنه العلج ومال إليه وضربه على رأسه فقطع العمامة وشجه شجة فاضحة أسالت دمه فلما رأى العلج ذلك الدم ظن إنه قتل فتأخر إلى ورائه لينظر كيف يسقط عن جواده فلما نظر عبد الرحمن إلى العلج وقد تأخر عنه انثنى راجعا إلى المسلمين فقال له معاذ: ما بك يا بني قال قتلني العلج قال له: ما الذي تريد من الدنيا يا بني ثم إنه شد جرحه قال فعندها صال العلج وحمل فردته الأزد قال أبو عبيدة: فمن له منكم فخرج إليه عامر بن الطفيل الدوسي وكان من أصحاب الرايات ممن شهد اليمامة مع خالد بن الوليد وكان قد رأى يوم اليمامة في منامه في قتال مسيلمة الكذاب كأن امرأة لقيته ففتحت له فرجها فدخل فيه ونظر إليه ابنه فأسرع ليدخل مكانه ثم استيقظ وقص ذلك على المسلمين فلم يدر أحد ما تأويله فقال ابن الطفيل أما أنا فأعرف تأويلها قالوا: وما تأويلها يا أبن الطفيل قال تأويله إني أقتل لأن المرأة التي أدخلتني فرجها هي الأرض وابني سيصيبه جراح ويوشك أن يلتقي بي قال فقاتل يوم اليمامة وابلى بلاء حسنا وسلم ولم يلحقه أذىلا فلما كان يوم اليرموك شهد فيه الحرب وخرج إلى قتال العلج وهو كأنه شعلة حريق أو صاعقة وطعن البطريق وكانت قناته قد شهدت معه المشاهد فاندقت بين يديه وانتضى سيفه وهزه وضرب به العلج على عاتقه فخالط أمعاءه فتنكس العلج صريعا عن جواده وأسرع عامر بن الطفيل فرمى به إلى المسلمين وسلمه إلى ولده وانثنى راجعا نحو الروم وحمل على الميمنة وعلى الميسرة وعلى القلب. ثم قصد المتنصرة فقتل منهم فارسا ودعا للبراز وخرج إليه جبلة بن الأيهم وعليه درع من الديباج المثقل بالذهب وتحتها درع من دروع التبابعة وعليه بيضة تلمع كشعاع الشمس وتحته فرس من نسل خيول عاد فلما خرج جبلة إلى عامر بن الطفيل قال له: من أي الناس أنت قال أنا من دوس قال جبلة إنك من القرابة فابق على نفسك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 وارجع إلى قومك ودع عنك الطمع فقال له عامر: قد أخبرتك من أنا ومن قبيلتي فأنت من أي العرب قال أنا من غسان وأنا سيدها جميعها أنا جبلة بن الأيهم الغساني وإنما خرجت إليك حين نظرت إليك وقد قتلت هذا البطريق الشديد وهو نظير ماهان وجرجير في الشجاعة فعلمت إنك كفؤ فخرجت لاقتلك وأحظى عند ماهان وهرقل بقتلك فقال عامر بن الطفيل أما ما ذكرت من شدة القوم وعظم خلقهم فالله أشد منعة وهو مهلك الجبابرة وأما قولك إنك تحظى بقتلي عند مخلوق مثلك فاني أريد أن أحظى بجهادي عند رب العالمين بقتلك وحمل عامر على جبلة بن الأيهم والتقيا بضربتين فخرجت ضربة عامر بن الطفيل غير ممكنة وخرجت ضربة جبلة ممكنة فقطعت من قرنه إلى كتفه فسقط عامر قتيلا فجال جبلة على مصرعه ووقف يعجب بنفسه وبما صنع وطلب البراز فخرج إليه ولد المقتول وهو جندب بن عامر بن الطفيل وكانت معه راية أبيه فاقبل إلى ابي عبيدة وقال: أيها الأمير أن أبي قد قتل وأريد أن أخذ بثأره أو أقتل فادفع رايتك لمن شئت من دوس فأخذ أبو عبيدة الراية ودفعها لرجل من دوس فحملها وخرج جندب إلى قتال جبلة بن الأيهم وهو ينشد ويقول: سأبذل مهجتي أبدا لاني ... أريد العفو من رب كريم وأضرب في العدا جهدي بسيفي ... وأقتل كل جبار لئيم فإن الخلد في الجنات حق ... تباح لكل مقدام سليم قال ودنا من جبلة وقال له: اثبت يا قاتل أبي لاقتلك به فقال جبلة ومن أنت من المقتول قال ولده قال جبلة ما الذي حملكم على قتل نفوسكم وأولادكم وقتل النفوس محرم قال جندب أن قتل النفس في سبيل الله محمود عند الله وننال به الدرحة العالية فقال له جبلة: إني لا أريد قتلك فقال جندب وكيف أرجع وأنا المفجوع بأبي والله لا رجعت أو أخذ بثأر أبي أو الحق به ثم حمل على جبلة وجعلا يقتتلان وقد شخصت نحوهما الأبصار ونظر جبلة إلى الغلام وما أبدى من شجاعته فعلم إنه شديد الباس صعب المراس فأخذ منه حذره وغسان ترمق صاحبها فرأت الغلام جندبا وقد ظهر على صاحبهم وقارنه في الحرب فصاح بعضهم على بعض وقالوا: إن هذا الغلام الذي برز إلى سيدكم غلام نجيب وأن تركتموه ظهر عليه فانجدوه ولا تدعوه فتأهب غسان للحملة ليستنفذوه ونظر المسلمون إلى جندب وما قد ظهر منه ومن شجاعته وشدته ففرحوا بذلك ونظر الأمير أبو عبيدة إلى ذلك وما فعل فبكى وقال هكذا يكون من يبذل مهجته في سبيل الله اللهم تقبل له فعله. قال جابر بن عبد الله شهدت قتال اليرموك فيما رأيت غلاما كان أنجب من جندب بن عامر بن الطفيل حين قاتله جبلة وبعد ذلك حمل على جبلة وضربه ضربة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 أوهته بها وضربه جبلة فقتله وعجل الله بروحه إلى الجنة وتحقق منام ابيه عامر بن الطفيل وجال جبلة على مصرعه وطلب البراز فصاح به قومه ارجع إلينا فقد قضيت ما يجب عليك فرجع وهو معجب بنفسه حتى وقف تحت صليبه قال وبعث إليه ماهان يشكره وأصيب المسلمون بعامر بن الطفيل وولده جندب قال فعندها صاحت دوس الجنة الجنة خذوا بثأر سيدكم عامر وساعدتها الأزد وكانوا احلافهم وحملوا على غسان ولخم وجذام وتناشدوا الاشعار فصاح أبو عبيدة بالمسلمين وقال: أيها الناس: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ} [آل عمران: 133] الآية ومعانقة الحور العين في جنات النعيم فما من موطن أحب إلى الله من هذا الموطن إلا وأن الصابرين فضلهم الله على غيرهم ممن لم يشهد مشهدهم هذا ولما سمعت الأزد ذلك حملت مع دوس وكان شعارهم يؤمئذ الجنة الجنة. قال الواقدي: حدثني موسى بن محمد عن عطاء بن مراد قال سألت رجالا عدة ما كان شعار المسلمين يوم اليرموك فأخبرت أن شعار ابي عبيدة أمت أمت وشعار عبس يا لعبس وشعار اليمن من أخلاط الناس يا أنصار الله وشعار خالد ومن معه يا حزب الله وشعار حمير الفتح وشعار دارم والسكاسك الصبر الصبر وشعار بني مراد يا نصر الله أنزل فهذه كانت شعار المسلمين يوم اليرموك قال فلما حملت دوس تبعها الأزد وقصدت العرب المتنصرة وطلبت صليبهم وفرقتهم تفريقا صعبا حتى وصلوا إلى الصليب فطلب رجل منهم حامل العلم الذي لفسان فأرداه عن فرسه ووقع الصليب من يده منكوسا وقتل من الأزد ودوس رجال إلا إنهم كانوا مثل الشامة البيضاء في جلد البعير الأسود ثم كرت غسان تريد أخذ صليبهم فاقتتلوا عنده قتالا شديدا حتى قتلوا خلقا كثيرا. قال الواقدي: حدثني هسام بن عمارة عن ابي الجريري عن نافع عن جبير بن الحويرث عن عبد الله بن عدي قال شهدت اليرموك فكان المسلمون خمسة وعشرين ألفا فغضب الحويرث وقال كذب من حدثك بهذا الحديث فإن المسلمين كانوا يوم اليرموك أحدا وأربعين ألفا وقد أديت إليك ما سمعته ممن أثق به من الرواة. قال الواقدي: وهذا اثبت الأقاويل لأن المسلمين كانوا يوم أجنادين اثنين وثلاثين ألفا وجاءت الأمداد بعد ذلك. قال الواقدي: حدثني ابن أبي نمرة عن عبد الحميد بن سهل عن جده قال لما حملت الأزد يوم اليرموك ودوس ودوخت المشركين دوخة عظيمة وحمل المشركون حملة هائلة إنكشف المسلمون وكان صاحب لوائهم عياض بن غنم الاشعري فولى منهزما واللواء بيده فصاح به الناس إنما ثبات القوم وأهل الحرب بألويتهم فابتدر لأخذه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 عمرو بن العاص وخالد بن الوليد كلاهما يتسابق إليه فأخذه عمرو ولم يزل يقاتل به حتى انهزمت الروم وفتح الله على أيدي المسلمين وكان اليوم الثالث من اليرموك يوما شديدا انهزمت فيه فرسان المسلمين ثلاث مرات كل مرة تردهم النساء بالحجارة والعمد ويلوحون بالأطفال إليهم فيرجعون إلى القتال ولم يزل القتال قائما إلى أن اقبل الليل بسواده ورجعت الروم إلى مواضعها والقتل فيهم كثير وفي المسلمين قليل إلا أن الجراح فيهم فاشية من النشاب فلما دخل الليل بسواده رجعت كل فرقة إلى أماكنها وباتوا تحت السلاح قال وأما المسلمون فما كانت همتهم إلا الصلاة وبعد ذلك شدوا الجراح وصلى أبو عبيدة رضي الله عنه وقال: أيها الناس إذا عظم البلاء فانتظروا الفرج فإنه يأتي من عند الله فاضرموا نيرانكم وتحارسوا وأظهروا التهليل والتكبير وقام أبو عبيدة يمشي في الناس هو وخالد بن الوليد يتفقدان الجرحى ويقولان أيها الناس أن عدوكم يألم كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وباتا طول ليلهم كله وهما طائفان على المسلمين إلى أن أصبح الصباح قال وانحازت الروم إلى جانب اليرموك مع ماهان الأرمني فجمع بطارقته ووبخهم وزجرهم وقال لهم: قد علمت أن هذا يكون منكم وقد رأيت فشلكم وخوفكم وجزعكم من هؤلاء العرب الضعاف قال فاعتذروا إليه وقالوا: غدا نبارزهم فإن فينا فرسانا وشجعانا لم يقاتلوا أصلا وغدا نصدقهم الحرب فتكون لنا العاقبة قال فسكت عن توبيخهم وأمرهم أن يتأهبوا لذلك وبات الفريقان يتحارسون وقد رعبت الروم من كثرة القتل فيهم واما المسلمون فانهم أقوى قلوبا لشدة دينهم ويقينهم. قال فلما أصبح الصباح صلى بهم أبو عبيدة صلاة الخوف وإذا بالصلبان قد بدت وبرايات القوم قد طلعت في عدد الشوك والشجر كأنهم لم يلاقوا قتالا قط فوقفوا في مصافهم ونصب ماهان سريره على الكثيب الذي كان عليه بالأمس وهو يشرف منه على العساكر فامرهم أن يعبوا مصافهم فلما نظر أمير المؤمنين إلى سرعة الروم صاح كل أمير برجاله وحرضهم على القتال فانقلبوا من الصلاة إلى خيولهم ولبسوا السلاح وركبوا خيولهم ورجع كل أمير إلى مكانه وهو يعظ أصحابه ويوصيهم ويعدهم من الله بالنصر وسار أبو عبيدة بين الصفوف وهو يصف لهم فضل الجهاد وما أعد الله للمجاهدين الصابرين وخلف على الذرارى والنساء والأموال والأولاد عمرو بن سعيد ابن عبد الله الأنصاري وجعل من الرماة خمسمائة في الميسرة وخمسمائة في القلب وطاف أبو عبيدة عليهم وقال لهم: معاشر الرماة الزموا مراكزكم فإن رأيتم القوم زحفوا إلينا فارشقوهم بالنبل واذكروهم عند رميكم ولا تتركوها مفرقة ولتخرج سهامكم كأنها من كبد قوس واحدة فإن هم زحفوا إليكم فاثبتوا مكانكم حتى يأتيكم امري ففعلوا ما امرهم به الأمير وتقدم أبو سفيان إلى ولده يزيد والراية في يده وحوله أصحابه وقد عزم على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 الحملة والجهاد فقال: يا بني أن احسنت أحسن الله إليك عليك بتقوى الله والصبر فاتق الله حق تقاته وانصر دين الله وشرع نبيه صلى الله عليه وسلم وإياك والجزع فما قضاه ربنا قد أمضاه فاصبر مع أصحابك صبر أولى العزم وإياك ثم إياك أن يراك الله منهزما فتبوء بغضب من الله قال يزيد سأصبر جهدي وطاقتي والله أسأله أن يكون معينا لي وناصرا. ثم صاح يزيد برجاله وهز الراية وندبهم إلى القتال وحمل على من يليه من الروم فقاتلوا قتالا عظيما ولم يزالوا حتى إنكوا العدو نكاية عظيمة وأبلوا بلاء حسنا وكان قتالهم من جانب القلب ولم يزالوا كذلك حتى برز إليهم بطريق من البطارق وبيده رمح عظيم وعليه صليب من الذهب وحوله زهاء من عشرة آلاف فارس من الروم فحملوا على الميمنة وكان فيهم عمرو بن العاس ومن معه فرجعوا على أعقابهم منهزمين حتى دخلت الروم في أوائل عسكر المسلمين مما يلي عمرا ومن معه وهم يتراجعون على الرجال فيكرون تارة ويرجعون تارة حتى تكاثرت عليهم الروم فكشفوهم حتى الصقوهم بالتل الذي عليه النساء وأحاطوا بالتل فصاحت امرأة اين أنصار الدين اين حماة المسلمين وكان الزبير ابن العوام جالسا عند زوجته أسماء بنت أبي بكر الصديق يداوى عينه وكان ارمد فلما سمع صوت المرأة وهي تنادي أين انصار الدين قال: يا أسماء ما لهذه المرأة تصيح اين انصار الدين فقالت له عفرة ابنة عثمان: يا ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم انهزمت ميمنة المسلمين حتى الجاهم الروم إلينا وأحاط بنا الأعلاج وهذه نساء الأنصار مستصرخة بانصار الدين فقال الزبير والله إني أنا من انصار الدين ولا يراني الله جالسا في مثل هذا الوقت قال ثم طرح الخرقة عن عينه واستوى جالسا على متن جواده فأخذ قناته وتسمى باسمه وقال في حملته أنا الزيبر بن العوام أنا ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل يطعن فيهم طعنا متداركا حتى ردهم على أعقابهم وخيلهم تنكص بأذنابها قال ليث بن جابر فلله در الزبير بن العوام لقد رد الروم بنفسه وحده إذ حمل عليهم وما كان معه من العرب أحد حتى ردهم إلى عسكرهم وتراجعت خيل عمرو ورجاله وهو ينادي الرجعة الرجعة الحزم الحزم يا أهل الإسلام الصبر الصبر فتراجعوا بعد أدبارهم. قال الواقدي: وحمل جرجير الأرمني في ثلاثين ألفا من الأرمن على شرحبيل ابن حسنة كاتب وحي رسول الله صلى الله عليه وسلم فانكشف أصحاب شرحبيل بن حسنة ولم يثبت غيره لقتال الروم في عصبة من قومه دون الخمسمائة فجعل شرحبيل يحمل على الأرمن وهو يقول: يا أهل الإسلام لا فرار من الموت الصبر الصبر قال فتراجع أصحابه إليه وحملوا على الأرمن فردوهم على أعقابهم وجعلوا يضربون فيهم حتى أصابوا من الأرمن ما لم يصبه الأرمن منهم فرجع شرحبيل إلى مكانه ودار به أصحابه فجعل يعنفهم بالقتال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 ويقول لهم: ما الذي أصابكم حتى انهزمتم أمام هؤلاء الكفرة وأنتم الحماة البررة وأهل القرآن وعباد الرحمن أما سمعتم قوله عز وجل: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال:16] وقال وقال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111] وأنتم تهربون فقالوا: يا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم زلة من الشيطان مثل يوم أحد وحنين وها نحن معك فاحمل حتى نحمل معك فجزاهم خيرا ووقف مكانه وكان موقفه مما يلي سعيد بن زيد وقد لزموا مواقفهم لم يتحركوا التماسا للحفيظة ونظر قيس بن هبيرة إلى خيل شرحبيل وقد تراجعت فحمل بمن معه ونادى هو وأصحابه بشعارهم وكان شعارهم يا نصر الله انزل يا منصور أمت أمت وكان هذا شعارهم يوم بدر وأحد وحمل خالد بن الوليد بمن معه ذات اليمين وحمل قيس من ذات الشمال فقاتلوهم قتالا شديدا ولله در الزبير بن العوام وهاشم بن المرقال وخالد بن الوليد لقد حملوا حملة عظيمة حتى قربوا من سرادقات ماهان وتواقعت الروم على سرادقات ماهان وخيامه فلما نظر ماهان إلى ذلك نزل عن سريره هاربا وصاح بالروم وعنفهم فتراجعوا يطلبون القتال وصاح أبو عبيدة بسعيد بن زيد فحمل بمن معه وهو ينادي لا إله إلا الله يا منصور أمت أمت فأقبلوا يقتلون في الروم قتلا ذريعا فبينما المسلمون في حملتهم إذ سمعوا قائلا يقول: يا نصر الله انزل يا نصر الله اقرب أيها الناس الثبات الثبات قال عامر بن أسلم فتأملنا الصارخ فإذا هو أبو سفيان وتحت رايته ابنه يزيد قال وشدت الأمراء بأجمعهم على من يليهم وقاتلوا قتالا شديدا ولم يكن في الروم اثبت من أصحاب السلاسل فانهم ثبتوا في أماكنهم يمنعون من أتاهم وأما الرماة وهم مائة ألف رام فكانوا إذا رشقوا سهامهم نحو العرب يسترون الشمس فلولا النصر والمعونة من الله لكان المسلمون هلكوا وانفصل المسلمون فرحين مستبشرين والمشركون قد هلك أكثرهم وبرز علج من أعلاج الروم كأنه نخلة باسقة وعليه درع مذهب وعلى رأسه بيضة مذهبة وعليها صليب من ذهب مرصع بالجوهر وهو راكب على شهباء وعليه زرد من حديد وبيده رمح فجال وأشهر نفسه وسأل البراز فنظر المسلمون إلى عظم خلقته وهول جثته فجعلوا ينظرون إليه فقال أبو عبيدة: لا يهولنكم ما ترون من خلقته فكم رأيتم من هو عظيم خلقة ولا قلب له فمن له منكم يخرج إليه واستعينوا بالله عليه. قال فخرج إليه عبد من عبيد العرب وبيده سيفه وحجفته وهو زاجل فلما أراد أن يدنو من العلج صاح به مولاه ذو الكلاع الحميري فلما رجع خرج إليه ذو الكلاع وجال عليه وكان ذو الكلاع من أهل الشدة والبأس فتواقعا وكل منهما رامح فتطاعنا طعنا شديدا أشد من الجمر ثم انهما تجاذبا سيوفهما والتقيا فضرب ذو الكلاع العلج ضربة وضرب العلج ضربة وكان سيف العلج قاطعا وساعده قويا فقطع سيفه درقة ذي الكلاع وسيفه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 ودرعه وما تحته من الثياب ووصلت الضربة إلى عضده الايسر فجرحته جرحا بليغا وثقلت: يده فلما نظر ذو الكلاع إلى ما لحقه من العلج عطف بجواده يريد المسلمين ونظر العلج إلى ذي الكلاع سابقا فلم يلحقه حتى لحق بالمسلمين فاتى قومه والدم يفور من جرحه فاجتمع فرسان قومه فقال لهم: يا فرسان حمير إياكم أن تتكلوا في قتالكم على السلاح ومنعته ولكن اتكلوا في قتالكم على الله عز وجل قالوا: وكيف ذلك أيها السيد قال: لاني رددت عبدي عن القتال شفقة عليه إذ ليس معه لامة حرب وقلت: إني أفرس منه وأجود عدة ولامة فصنع بي هذا الأغلف ما ترون والله ما لحقني قبلها في حرب مثلها قط فشدوا جرحه ووقف مكانه ثم إنه صاح بقومه يا رجال حمير أن كان سيدكم قد رجع كلالا فما منكم من يأخذ بثأره فانتدب فارس من فرسان حمير وعليه صبائغ اليمن من الأبراد والحبر كأنه جمرة نار وحمل نحو العلج مصمصما وجال جولة عظيمة وطعنة طعنة أثبتها في صدره فأرداه قتيلا وعجل الله روجه إلى النار فهم الحميري أن ينزل عن جواده ويأخذ سلبه فحمل عليه كردوس من الروم ليكشفوه عنه فردهم الحميري صاغرين ثم رجع إليه وأخذ سلسة وأقبل به على أبي عبيدة فأعطاه إياه فدفع السلب إلى قومه ورجع إلى مقامه في القتال فخرج إليه آخر فقتله وآخر فقتله فخرج إليه علج رابع فقتل الحميري ونزل ليأخذ سلب الحميري فرماه رجل من رماة الأنصار بنبلة فوضعها في لبته فجندله صريعا وعجل الله بروحه إلى النار قال فأنقلبت الروم على وجوهها وهابوا جميع المسلمين وكان ذلك البطريق الذي قتل بالنبلة من عظمائهم ويقال إنه كان صاحب نابلس فصاح بهم ماهان وسكنهم عن اضطرابهم وخرج إلى القتال ملك اللان واسمه مريوس وعليه لامة الملوك وعليه ديباجة وفي وسطه منطقة مرصعة بالجوهر فجال بين الصفين وشهر نفسه وقال أنا ملك اللان فلا يبرز لي إلا أميركم فخرج إليه شرحبيل بن حسنة كاتب وحي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيده لواؤه وعليه درع من حديد وهو ممنطق بمنطقة من الأديم وهو على جواده فقال أبو عبيدة: من هذا الذي خرج قالوا له: شرحبيل بن حسنة فبعث إليه أبو عبيدة يقول له: ادفع الراية لمن شئت واخرج من غير راية فلما سمع ذلك سلم الراية لرجل من قومه وقال له: قف بها موضعي فإن قدر علي فسلم الراية إلى الأمير أبي عبيدة يدفعها لمن يريد وأن رجعت أخذتها فأخذها الرجل وخرج شرحبيل كاتب وحي رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو ملك اللان وهو يقول: سأحمل في اللئام بني الأعادي ... بكل مثقف لدن حداد فيا بؤسا لقيصر يوم نأتي ... وجمع الروم شرد في البلاد قال فسمع البطريق شعر شرحبيل فلم يفهمه وكان يفهم قليلا بالعربية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 فقال له: يا عربي ما الذي تقول قال أقول كلاما تقوله العرب عند الحرب تشجع به نفوسها وتثق بوعد الله الذي وعد به نبينا فقال ملك اللان وما الذي وعدكم به نبيكم فقال شرحبيل وعدنا الله أن يفتح لنا الأرض في الطول والعرض ونملك الشام ونكون من الظافرين بنصر الله لنا قال ملك اللان أن الله لا ينصر من يبغي وأنتم تبغون علينا وتطلبون ما ليس لكم بحق فقال شرحبيل نحن قوم أمرنا الله أن نفعل ذلك والأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين وإني أراك تعرف كلام العرب فلو تركت ما أنت عليه من عبادة الصليب ودخلت في دين الإسلام كنت من أهل الجنة وسعدت فقال ملك املان ما أترك دين المسميح أبدا فإن دينه حق فقال شرحبيل لا تقل إنه إله معبود ولا تقل صلب وقتل فإن الله سبحانه وتعالى احياه في الأرض ما شاء ثم رفعه إلى السماء ثم قال ملك اللان لن أرجع عن قولي ثم استخرج صليبا من عنقه فرفعه ووضعه على عينه وأقبل يستنصر به فغضب شرحبيل من فعاله فقال له: يا ويلك تبا لك ولمن معك ولمن يقول بقولك ثم حمل عليه وأخذا في القتال وجالا جولانا عظيما فرمقتهما الأبصار وجعل المسلمون يدعون لشرحبيل بالنصر والمعونة ونظر شرحبيل إلى شدة الكافر ففر بين يديه كأنه منهزم فتبعه عدو الله فلما علم شرحبيل إنه قد قاربه ثنى عنان جواده فطعنه بقناته يريد أن يجعلها في نحره فزاغ المشرك عن الطعنة ونجا منها سالما ثم قال معاشر العرب أنتم لا تدعون الخديعة والمكر فقال شرحبيل ويلك أما علمت أن الحرب خدعة والمكر رأسها فقال العلج فما الذي نفعك من حيلتك قال فتضاربا حتى انقطع السيفان في أيديهما فاعتنقا معانقة شديدة وكان المشرك أعظم جثة وأشد منعة وكان شرحبيل نحيف الجسم من كثرة الصيام والقيام فضغط عليه المشرك ضغطة أوجعه بها وهم أن يقتله في سرجه والفريقان ينظران إليهما قال ضرار بن الأزور فداخلني والله الغيظ فقلت في نفسي: ويحك يا ضرار يقتل هذا العلج كاتب وحي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت تنظر إليه فما يمنعك من نصرته. قال الواقدي: فخرج ضرار نحوهما يسعى على قدميه كالظبية الخمصاء حتى قرب منهما ولا يعلمان به جميعا وكان في يده خنجر فضرب به العلج من ورائه فأطلع الخنجر من قلبه فسقط العلج قتيلا وخلص شرحبيل من الضغطة قال فلما سقط العلج عن ظهر جواده نزل إليه شرحبيل وسلب ما كان عليه من لامة حربه وركب ضرار جواده وانثنى راجعا هو وشرحبيل نحو المسلمن فهنأ المسلمون شرحبيل وشكروا ضرارا على فعله قال ثم أن شرحبيل أخذ سلب العلج فنازعه ضرار فيه فقال السلب لي وأنا قتلته وقال شرحبيل أنا أخذ السلب فأتيا أبا عبيدة فخاف أبو عبيدة أن يحكم بينهما فلا يرضون بحكمه فكتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: يا أمير المؤمنين أن رجلا خرج إلى البراز وقاتل علجا من الأعلاج وبلغ معه الجهد جهيد فخرج آخر من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 المسلمين فأعان الرجل وقتل العلج قال ولم يسم أبو عبيدة الرجلين فلمن السلب منهما فجاء الجواب من عمر بن الخطاب أن السلب للقاتل فأخذ السلب أبو عبيدة من شرحبيل وأعطاه ضرارا فقال: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة: 54] . قال الواقدي: ولما قتل ضرار ملك اللان غضبت الروم فخرج فارس شجاع وطلب البراز فخرج إليه الزبير بن العوام رضي الله عنه فقتله وأخذ سلبه وخرج إليه ثان وثالث ورابع فقتلهم وأخذ أسلابهم فقال خالد لأبي عبيدة: أن الزبير قد تجرد للروم وبذل نفسه لله ولرسوله وأخاف عليه من التعب فصاح عليه أبو عبيدة وأقسم عليه فرجع الزبير إلى مقامه قال وخرج من الروم بطريق فخرج إليه خالد بن الوليد وكان ملك الروسية فقتله خالد وكان زوج بنت ملك اللان فقوم سلبه وتاجه ومنطقته وصليبه ودرعه بخمسة عشر ألفا قال فأخبر ماهان بذلك فغضب وقال سيدان منا قتلا في يوم واحد وإني أظن أن المسيح لا ينصرنا ثم أمر الرماة أن يرموا عن يد واحدة فرموا سهامهم وأطلقوا نحو المسلمين دفعة واحدة مائة ألف سهم فكان النشاب يقع في عساكر المسلمين كسقوط البرد من السماء فكثرت الجراح في الناس وأعور من المسلمين سبعمائة عين فسمى ذلك اليوم يوم التعوير وكان ممن أصيب بعينه المغيرة ابن شعبة وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل التميمي وأبو سفيان صخر بن حرب وراشد بن سعيد وكان الرجل بعد ذلك يلقي الرجل فيقول له: ما الذي أصاب عينك فيقول الآخر: لا تقل مصيبة بل هي محنة من الله قال وعظم وقع السهام في عسكر المسلمين حتى ما كنت تسمع إلا من يصيح واعينا وابصراه واحدقتاه وعظم اضطراب المسلمين من ذلك قال فجذبت العرب أعنة خيولها راجعة قال ونظر ماهان اللعين إلى اضطراب جيش المسلمين فحرض الرماة والروم وصاح برجاله وزحفت المسلسلة نحو المسلمين فهالهم ذلك وحمل جرجير وقناطر وقورين وقال ماهان اثبتوا على الحملة وارموا العرب بالنشاب فزادت الرماة في رميها وزحفت على ساق وأخذ المسلمون على أنفسهم اشفاقا مما نزل بهم ووصل إليهم من قلع الأحداق قال عبادة بن عامر فنظرت إلى جيش الشرك وهو نحونا سائر وفرسان المسلمين متأخرة وخيولهم ناكصة فقلت: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم اللهم انزل علينا نصرك الذي نصرتنا به في المواطن كلها ثم صحت في رجال حمير تهربون من الجنة إلى النار ما هذا الفرار أما تخافون العار أما أنتم بين يدي الجبار أما هو عالم الأسرار فررتم من الكفار قال فما أجابني والله أحد كأنهم صم لا يسمعون قال فقلت: كان قبيلتك خرست عن الجواب فجعلت أهتف بقبائل العرب فكل قد شغل بنفسه عن اجابتي فجعلت أكثر من قولا لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فما كان غير بعيد حتى نزل النصر من الله وذلك أن المسلمين قد انقلبوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 راجعين نحو تل النساء ولم يثبت غير أصحاب الرايات قال عبد الله بن قرط الاسدي شهدت القتال كله فلم أر قتالا أشد من يوم التعوير ورجعت الخيل على أذنابها وقاتلت الأمراء بأنفسها والرايات بأيديهم حتى كان أبو عبيدة ويزيد بن أبي سفيان وعمرو بن العاص والمسبب بن نجيبة الفزاري وعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق والفضل بن العباس يقاتلون قتالا شديدا قال عبد الله بن قرط فقلت في نفسي: وكم مقدار ما يقاتلون هؤلاء وهم نفر يسير حتى ساعدتنا النساء اللاتي شهدن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشاهد يداوين الجرحى ويسقين الماء ويبرزن إلى القتال ولم أر امرأة من نساء قريش قاتلت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في اليمامة مع خالد مثل ما قاتلت نساء قريش يوم اليرموك حين دهمهن القتال وخالط الروم المسلمين فضربن بالسيوف ضربا وجيعا وذلك في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان قد انضم النساء المهاجرات لغيرهن وقامت الحرب على ساق وتنادى النساء بأنسابهن وأمهاتهن والقابهن وجعلن يقاتلن قتال الموت ويضربن وجوه الخيل بالعمد ويلوحن بالأطفال وجعل النساء بعضهن يقاتل المشركين وبعضهن يقاتل المسلمين حتى رجعوا إلى قتال المشركين وبعضهم يسقي الماء وبعضهن يشد الجراح قال فبينما هن يقاتلن وقد هجمت الرجال إذ انهزمت نساء لخم وجذام وخولان فخرجت خولة بنت الأزور وأم حكيم ابنه حكيم بنت الحرث وسلمى بنت لؤي وجعلهن يضربن في وجوههن ورؤوسهن بالعمد ويقلن اخرجن من بيننا فانتن توهن جمعنا قال فرجعت نساء لخم وجذام يقاتلن قتال الموت وقاتلت أم حكيم بنت الحرث أمام الخيل بالسيف وما نسمع يومئذ صوت واحدة من النساء غير صوت واعظة تعظ وأما أم حكيم فإنها جعلت تنادي يا معاشر العرب احصدوا الغلف بالسيوف وأما أسماء بنت ابي بكر فإنها قرنت عنانها بعنان زوجها الزبير ابن العوام فما كان يضرب إلا ضربت مثله قال فتراجع المسلمون إلى القتال حين رأوا النساء يقاتلن قتال الموت ويقول الرجل لمن يليه: أن لم نقاتل نحن هولاء وإلا فنحن أحق بالخدور من النساء فلله در نساء قريش يوم اليرموك. قال الواقدي: حدثني عبد الرحمن بن الفضل عن يزيد بن أبي سفيان عن مكحول قال كانت وقعة اليرموك في رجب سنة خمس عشرة من الهجرة قال أبو عامر وحملت خولة بن الأزور على علج من الأعلاج كان قد حمل علينا فاستقبلته وجعلت تشالشه بالسيف فضربها العلج بسيفه على قصتها فأسال دمها وسقطت إلى الأرض فصاحت عفيرة بن عفان حين نظرتها صريعة ونادت فجع والله ضرار في أخته فأخذت راسها على ركبتها والدم قد صبغ شعرها كالشقائق فقالت لها: كيف تجدك قالت: أنا بخير أن شاء الله تعالى ولكني هالكة لا محالة فهل لك على بأخي ضرار فقالت عفيرة: يا ابنة الأزور ما رأيته فقالت خولة: اللهم اجعلني فداء لاخي ولا تفجع به الإسلام قالت عفيرة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 فجهدت أن تقوم معي فلم تقم فحملناها إلى أن أتينا بها موضعها فلما كان الليل رايتها وهي تدور تسقي الرجال وكان ليس بها ألم قط ونظر إليها أخوها والضربة في رأسها فقال لها: ما بك فقالت: ضربني علج قتلته عفيرة فقال لها: يا أختاه ابشري بالجنة فقد أخذت لك بثأر الضربة مرارا وقتلت منهم أعدادا قال ولم يزل الحرب من أول النهار وكلما قرب الليل يزيد ويشتعل ضرامها وأبو عبيدة يقاتل برايته والأمراء يفعلون كفعله إلى أن فصل بينهما الظلام وقد قتل من الروم يوم التعوير أربعون ألفا أو يزيدون ونقل عن خالد إنه انقطع في يده ذلك اليوم تسعة أسياف ولقد أخبرنا عن خالد بن الوليد ممن حضر قتال اليرموك وشاهده قال كان يعد قتال خالد بمائة رجل من شجعان الرجال قال حازم بن معن وبرز من المشركين في قلب الوقعة أصحاب الديباج والحرير والتجافيف على الخيول الشهب والبلق كأنها من الجبال الراسيات فلما برزوا غاصوا في القلب وكروا كرة واحدة ورفعوا في وسطهم صليبا من الجوهر وحملت ميمنتهم على ميسرتنا وميسرتهم على ميمنتنا وقد شردوا إلى النساء والنساء يضربن وجوههم فجعلن يصحن بهم الله الله لا تغموا الإسلام بهزيمتكم واتقوا ربكم قال كان بين يدي ابي عبيدة رجل من محرز أسمه نجم بن مفرح وكان من خطباء العصر وأفصح العرب لسانا واجرئها جنانا وكان رفيع الصوت حسنه جدا فقصده العرب والفصحاء يسمعون ما ينطق به من نظمه ونثره. قال الواقدي: حدثني عبد الملك بن محمد عن ابيه عن حسان بن كعب عن عبد الواحد عن عوف عن موسى بن عمران اليشكري قال رأيت نصر بن مازن وهو بجامع النيل يحدث عن وقعة اليرموك قال مارد الناس عن الهزيمة بعد قضاء الله إلى نصرة الإسلام إلا غلام رجل من بني محارب يقال له: نجم بن مفرح وكان لا يتكلم إلا بالسجع يؤلفه بحسن نظمه ولقد حفظنا منه يوم اليرموك ما نحن نذكره عنه ولقد بلغني أن البلغاء الفصحاء المتأخرين مثل الأصمعي وأبي عبيدة اللغوي ينسجان على منواله في حسن كلامه فكان من جملة ما وعظ به المسلمين يوم اليرموك وقت هزيمتهم أيها الناس هذا يوم له ما بعده وقد عاينتم قربه من بعده ولن تنال الجنة إلا بالصبر على المكاره وتالله لا ينالها من هو للجهاد كاره وينشد: ولله في عرض السموات جنة ... ولكنها محفوفة بالمكاره واعلى الدرجات درجة الشهادة فارضوا عالم الغيب والشهادة وهذا الجهاد قد قام على ساقه وكسد النفاق في أستواقه وأخفى نفاقه في نفاقه وأنتم أصحاب نبي العصر فأيستم من الثبات والنصر بشروا روح المصطفى بثباتكم وقوموا العزم بصفاء نياتكم وإياكم أن تولوا الأدبار فتستوجبوا عذاب النار وغضب الجبار فوالذي قدر الأقدار وأدار الفلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 الدوار وكل شيء عنده بمقدار لقد تزينت لكم الحور العين بأيديهن أباريق وكأس من معين فمن طلب دار البقاء هان عليه ما يلقى فحققوا حملتكم تنالوا بغيتكم واطعنوا الصدور تنالوا الحور وشرعوا الاسنة تنالوا الجنة واغتنموا الصبر يكتب لكم الأجر بشروا المؤمنين بحسن عملكم وإياكم أن تضلوا عن سبيلكم لا توافقوا الكفار في جهنم واعدلوا عن طريق قولهم ووافقوا من سلف من أسلافكم في فعلهم واسمعوا ما نزل في القرآن من أجلهم. : {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55] سيروا فقد سبق المفردون واجتهدوا فقد فاز المجتهدون: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] قال وحمل خالد بن الوليد بعصابة حمراء وهو يفزع الروم باسمه ويقول: أنا خالد ابن الوليد فبرز إليه بطريق يقال له النسطور وعليه الديباج فأقبل يدعو خالد ويهمهم وخالد في القتال لا يشعر به ولا يدري ما يقول: فعندما سمعه يرطن عطف عليه فاقتتلا قتالا شديدا فبينما هما في أشد القتال إذ كبا بخالد الجواد فوقع الفرس على يديه وهوى خالد على أم رأسه فقال الناس لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. قال الواقدي: وخالد يقول: حي حي فعلا البطريق على ظهر خالد في عثرته وقد سقطت قلنسوته من رأسه فصاح قلنسوتي رحمكم الله فأخذها رجل من قومه من بني مخزوم وناوله إياها فأخذها خالد ولبسها فقيل له فيما بعد يا أبا سليمان أنت في مثل هذا الحال من القتال وأنت تقول قلنسوتي فقال خالد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حلق راسه في حجة الوداع أخذت من شعره شعرات فقال لي ما تصنع بهؤلاء يا خالد فقلت: أتبرك بها يا رسول الله واستعين بها على القتال قتال أعدائي فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم لا تزال منصورا ما دامت معك فجعلتها في مقدمة قلنسوتي فلم ألق جمعا قط إلا انهزموا ببركة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ثم شدها بعصابة حمراء وحمل على النسطور وضربه على عاتقه أخرج السيف من علائقه وانسر من بقي من ملوكهم وكرهوا البراز بعد ذلك فكان يدعوهم إلى البراز فلا يخرج إليه أحد ولم يزل يضرب فيهم بسيفه حتى كل فاشفق عليه الحرث بن هشام المخزومي فقال لأبي عبيدة: أيها الأمير لقد قضى خالد ما يجب عليه وأدى السيف حقه فلم لا أمرته أن يريح نفسه قال فمشى أبو عبيدة إليه وجعل يعزم عليه أن لا يتقدم ويسأله أن يريح نفسه فقال خالد: أيها الأمير أما والله لأطلبن الشهادة بكل وجه فإن أخطاتني فالله يعلم نيتي وحمل فلم يرجع عن حملته حتى جلاها وذلك أن كل المسلمين استعفوه في حملته وأقبلوا على القتال من بعد هزيمتهم والنساء أمام الرجال ولم يزل الحرب بين الفريقين حتى انقلب الروم على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 أعقابها وقد قتل منهم ألوف عديدة وأما أصحاب السلاسل فانحطم أكثرهم ووطئتهم الخيل بحوافرها ولم يزل القتال بينهم حتى مالت الشمس بغروبها وانفصل الجمعان وقد جرت الدماء بينهم وفرشت الأرض بالقتلى والجراح فاشية في الجمعين لكن في الروم أكثر ورجع كل قوم إلى اصلاح شأنهم ومداواة جرحاهم واما النساء فأصلحن الطعام وشددن الجروح وداوين السقام ولم يقل أبو عبيدة لاحد من المسلمين من يكون الليلة على حرس المسلمين لما عندهم من التعب بل إنه تولى الحرس بنفسه ومعه جماعة من المسلمين قال فبينما هو يدور إذ راى فارسين قد لقياه وهما يدوران بدورانه فكلما قال: لا إله إلا الله قالا محمد رسول الله فقرب أبو عبيدة منهما فإذا هما الزبير بن العوام وزوجته أسماء بنت أبي بكر الصديق فسلم عليهما وقال: يا أبن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما الذي أخرجكما قال الزبير نحرس المسلمين وذلك أن أسماء قالت لي: يا ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المسلمين مشتغلون بأنفسهم في هذه الليلة عن الحرس بما لحقهم من التعب في الجهاد طول يومهم فهل لك أن تساعدني على حرس المسلمين فأجبتها إلى ذلك فشكرهما أبو عبيدة وعزم عليهما أن يرجعا فلم يفعلا ولم يزالا كذلك إلى الصباح. قال الواقدي: حدثني أبو عبيدة عن صفوان بن عمرو عن عبد الرحمن ابن حبيران أبا الجعيد كان رئيسا من رؤساء أهل حمص فلما اجتمعت الروم على المسلمين في اليرموك دخلوا على حمص ونزلوا في بلدة تسمى الزراعة وكان أبو الجعيد هذا قد جعلها مسكنه لطيب هوائها ومائها وانتقل من حمص إليها فنزل عسكر الروم على الزراعة عنده وكان فيها عرس لابي الجعيد وزوجته تزف عليه في تلك الليلة قال فتكلف أبو الجعيد بضيافة الروم وأكرمهم وأطعمهم وسقاهم الخمر فلما فرغوا من أمورهم قال هات امراتك إلينا فأبى ذلك وسبهم فأبوا إلا أخذ العروس فلما شنع عليهم بذلك عمدوا إلى العروس واخذوها كرها منه وعبثوا بها بقية ليلتهم فبكى أبو الجعيد من حزنه ودعا عليهم فقتلوا أولاده وكان له ولد من زوجة غيرها قال فأقبلت أم الفتى فأخذت رأس ولدها في خمارها وأقبلت به إلى مقدم ذلك الجيش ورمت الرأس إليه وشكت حالها وقالت له: انظر ما صنع أصحابك بولدي فخذ بحقي فلم يعبأ بكلامها فقالت له أم الفتى: والله لتنصرن العرب عليكم ورجعت وهي تدعو عليه فما كان إلا يسير حتى هلكوا في أيدي المسلمين قال فلما كان يوم اليرموك بعدها قتل النسطور أتى أبو الجعيد إلى عساكر المسلمين وقال لخالد أعلم أن هذا الجيش النازل بازائكم جيش عظيم ولو سلموا أنفسهم إليكم للقتل لما فرغتم من قتلهم إلا في المدة الطويلة فإن كدتهم لكم في هذه الليلة مكيدة تظفرون بها عليهم ماذا تعطوني قالوا: نعطيك كذا وكذا تؤدي جزية أنت وولدك وأهل بيتك ونكتب لك بذلك عهدا إلى آخر عقبك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 قال الواقدي: فلما استوثق منهم لنفسه مضى إلى الروم وهم لا يعلمون وأتى إلى واد عظيم مملوء ماء فأنزل الروم إلى جانبه وقال لهم: أن هذا المنزل به العرب وأنا سأكيد لكم العرب بمكيدة يهلكون بها قال وجعل الناقوصة فيما بين الروم والعرب ولم يعلم أحد من الروم ما عمقها قال فلما كان يوم التعوير وعلم أبو الجعيد أن النصر للعرب وأن العرب هم المنصورون جاء أبو الجعيد إلى أبو عبيدة فوجده يطوف تلك الليلة هو وجماعة من المسلمين المهاجرين فقال لهم: ما قعودكم قالوا: وما نصنع قال إذا كان ليلة غد فأكثروا من النيران ثم رجع إلى الروم لينصب عليهم حيلة فلما كانت الليلة الثانية أوقد المسلمون أكثر من عشرة آلاف نار فلما اشتعلت النيران أقبل إليهم أبو الجعيد فقالوا: قد أشعلنا النيران كما أردت فما بعد ذلك قال أريد منكم خمسمائة رجل من أبطالكم حتى أشير عليهم بما يصنعون. قال الواقدي: فاختار من المسلمين خمسمائة رجل من جملتهم ضرار بن الأزور وعياض ورافع وعبد الله بن ياسر وعبد الله بن أوس وعبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر وغانم بن عبد الله ومثل هؤلاء السادات فلما اجتمعوا سار بهم أبو الجعيد على غير المخاضة وقصدبهم عسكر الروم فلما كادوا يخالطونهم أخذ أبو الجعيد منهم رجالا ودلهم على المخاضة ولم يكن يعلم بها أحد سواه ممن سكن اليرموك وقال لهم: ناوشوهم الحرب ثم انهزموا ودعوني وإياهم ففعلوا ذلك وصاحوا فيهم وحملوا ثم انهزموا قدامهم نحو المخاضة فعند ذلك صاح أبو الجعيد برفيع صوته يا معاشر الروم دونكم ومن انهزم فهؤلاء المسلمون قد اوقدوا نيرانهم وعولوا على الحرب قال فأقبلت الروم على حال عجلة يظنون أن ذلك حق فبعضهم ركب جواجه عريانا وبعضهم راجل وساروا في طلب المنهزمين وأبو الجعيد يعدو بين أيديهم إلى أن اوقفهم على الناقوصة وقال لهم: هذه المخاضة دونكم وإياهم فاقبلوا يتساقطون في الماء كتساقط الجراد حتى هلك في الماء ما لا يعد. ولا يحصى عددا ولا يدركه جنان فسمتها العرب الناقوصة لنقص الروم قال الواقدي: هذا ما جرى للروم ولا يعلم الأول بما جرى للآخر حتى أصبحوا فنظروا المسلمين في أماكنهم فعلموا إنهم قد دهموا في الليل وقل عددهم وتبدد شملهم فقال بعضهم لبعض من كان الصائح في ليلتنا قال الرجل الذي عبثتم بزوجته وقتلتم ولده وقد أخذ بثاره منكم قال فلما أصبح ماهان وعلم الحقيقة وعلم ما نزل بأصحابه علم إنه هالك لا محالة وأن العرب ظافرون عليه فبعث إلى قورين فقال: ما ترى أن أصنع وقد ظهرت العرب علينا وأن حملوا علينا حملة لم ينفلت منا أحد فهل لك أن تسألهم أن يأخروا القتال حتى نفعل الحيلة في خلاص أنفسنا قال قورين أفعل ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 قال: فدعا ماهان برجل من لخم وبعثه إلى المسلمين يقول لهم: اعلموا أن الحرب سجال والدنيا زوال وقد مكرتم بنا فلا تبغوا فالبغي له مصرع واخروا الحرب عنا يومنا هذا فإذا كان غد يكون الانفصال بيننا وبينكم قال فأقبل اللخمي إلى أبي عبيدة وبلغه الرسالة فهم أبو عبيدة أن يجيبهم إلى ذلك فمنعه خالد من ذلك وقال له: لا نفعل أيها الأمير فما عند القوم خير بعد ذلك فقال أبو عبيدة: ارجع إلى صاحبك وقل له لا نؤخر عنك القتال وأنا على عجل من أمرنا فرجع الرسول إلى ماهان فأعلمه بجواب أبي عبيدة فعظم عليه وكبر لديه وكفر وتجبر وقال لقد كنت أتربص بنفسي عن العرب أرجو بذلك الصلح فوحق الصليب لا يبرز لهم غيري ثم صرخ بالروم وأصحاب سرير الملك ومن كان يتكل عليه في الشدائد وأمرهم أن يأخذوا الأهبة فاستعدوا وخرج ماهان في مقدمة الجيش والصليب أماه وإذا بالمسلمين أخذوا مصافهم للقتال وذلك أن أبا عبيدة صلى بالمسلمين صلاة الفجر وأمرهم بالسرعة للقتال وأخذوا مواضعهم للحرب ففعلوا وقد ايقنوا إنهم منصورون على عدوهم وصف أبو عبيدة أصحاب الرايات ووقف هو وخالد في الخيل المعروفة بخيل الزحف وطلعت الشمس وخرج جرجير هو وبعض ملوك الروم ودعا بالبراز وقال: لا يبرز لي إلا أمير العرب فسمعه أبو عبيدة فسلم الراية إلى خالد وقال أنت للراية يا أبا سليمان فإن عدت من قتاله فالراية لي وأن هو قتلني فامسك رايتك حتى يرى عمر رأيه فقال خالد: أنا لقتاله دونك فقال أبو عبيدة: لا هو طلبني ولا بد لي من الخروج إليه وأنت شريكي في الأجر فخرج أبو عبيدة وما أحد من المسلمين إلا وهو كاره لذلك فأقبلوا يسألونه فلج في الخروج فتركوه ورأيه فلما قرب أبو عبيدة من جرجير وعاينه قال له: أنت أمير هذا الجيش فقال أبو عبيدة: أنا ذلك وقد أجبتك إلى ما طلبت من أمر البراز فدونك وعرض الميدان فأما هزمتكم أو قتلتك واقتل ماهان بعدك فقال جرجير امة الصليب تغلبكم وحمل جرجير على أبي عبيدة وحمل أبو عبيدة على جرجير وطال بينهما القتال وبقي خالد ينظر إلى أبي عبيدة ويدعو له بالسلامة والنصر وجميع المسلمين يدعون له قال وفر جرجير أمام أبي عبيدة وأخذ في عرض الجيش وطلب في فراره جيش المشركين في الميمنة وتبعه أبو عبيدة على أثره فعندها عطف عليه جرجير وخرج كأنه البرق والتقيا بضربتين فكان أبو عبيدة أسبق فوقعت الضربة على عاتق جرجير فخرجت من علائقه فكبر عند ذلك أبو عبيدة وكبر المسلمون ووقف أبو عبيدة على مصرع جرجير وجعل يتعجب من عظم جثته ولم يأخذ من سلبه شيئا فناداه به خالد لله درك أيها الأمير ارجع إلى رايتك فقد قضيت ما يجب عليك فلم يرجع أبو عبيدة فاقسم عليه المسلمون أن يرجع فرجع وأخذ الراية من يد خالد ونظر ماهان إلى جرجير فعظم ذلك عليه وكبر لديه لانه كان ركنا من أركانهم فهم بالهزيمة ثم قال في نفسه ماذا يكون عذري عند هرقل ولا بد أن أبرز إلى الحرب فإن قتلت فقد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 استرحت من العار وأن سلمت كان لي عند الملك عذر أحسن من أن أولي الأدبار ثم إنه أعلم رجاله إنه يريد المبارزة بنفسه وأخذ عدته ولبس زينته وخرج كأنه جبل ذهب يلمع ثم جمع إليه البطارقة والقسوس والرهبان وقال لهم: أن الملك هرقل كان أعلم منكم بهذا الأمر وانه أراد الصلح فخالفتموه فها أنا أبرز إليهم بنفسي فتقدم إليه بطريق من بطارقة السرير وكان فيه نسك ودين وكان يعظم الكنائس والرهبان ويتبع ما فرض عليه في الإنجيل وكان يقرب من جرجير في النسب فلما علم بقتله عظم عليه وقال وحق الصليب لابرزن إلى المسلمين وآخذ بالثأر فاما أن الحق به واما أن أقتل قاتله. ثم قال ماهان قد تعين علي الجهاد وأنا أؤدي فرض المسيح ولا بد لي من المبارزة قال فتركه ماهان فخرج وكان أسمه جرجيس وكان عليه درع وعلى الدرع ثوب حديد متقلد بسيفه ومعه فنطارية وعوذته القسوس وبخروه ببخور الكنائس واقبل إليه راهب عمورية وأعطاه صليبا كان في عنقه وقال هذا الصليب من أيام المسيح يتوارثه الرهبان ويتمسحون به فهو ينصرك فأخذه جرجيس ونادى البراز بكلام عربي فصيح حتى ظن الناس إنه عربي من المتنصرة فخرج إليه ضرار بن الأزور كأنه شعلة نار فلما قاربه ونظر إليه والى عظم جثته ندم على خروجه بالعدة التي أثقلته فقال في نفسه وما عسى يغني هذا اللباس إذا حضر الأجل ثم رجع موليا فظن الناس إنه ولى فزعا فقال قائل منهم أن ضرار قد انهزم من العلج وما ضبط عنه قط إنه انهزم وهو لا يكلم أحدا حتى صار إلى خيمته ونزع ثيابه وبقي بالسراويل واخذ قوسه وتقلد بسيفه وجحفته وعاد إلى الميدان كأنه الظبية الخمصاء فوجد مالكا النخعي قد سبقه إلى البطريق وكان مالك من الخطاط إذا ركب الجواد تسحب رجلاه على الأرض فنظر ضرار فإذا بمالك ينادي العلج تقدم يا عدو الله يا عابد الصليب إلى الرجل النجيب ناصر محمد الحبيب فلم يجبه العلج لما داخله من الخوف منه قال: فجال عليه وهم أن يطعنه فلم يجد للطعنة مكانا لما عليه من الحديد فقصد جواده وطعنه في خاصرته فأطلع السنان يلمع من الجانب الآخر فنفر الجواد من حرارة الطعنة وهم مالك أن يخرج الرمح فلم يقدر لانه قد اشتبك في ضلوع الجواد وهو على ظهره لم يقدر أن يتحرك لانه مزرر في ظهر الجواد بزنانير إلى سرجه فنظر المسلمون إلى ضرار وقد أسرع إليه مثل الظبية حتى وصل إليه وضربه بسيفه على هامته فشطرها نصفين واخذ سلبه فأتاه مالك وقال: ما هذا يا ضرار تشاركني في صيدي فقال: ما أنا بشريكك وإنما أنا صاحب السلب وهو لي فقال مالك: أنا قتلت جواده فقال ضرار رب ساع لقاعد آكل غير حامل فتبسم مالك وقال خذ صيدك هناك الله به قال ضرار انما أنا مازح في كلامي خذه إليك فوالله ما أخذ منه شيئا وهو لك وأنت أحق به مني ثم انتزع سلب العلج وحمله على عاتقه وما كاد أن يمشي به وهو يتصبب عرقا قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 زهير بن عابد: ولقد رايته وهو يسير به وهو راجل ومالك فارس حتى طرحه في رحل مالك فقال أبو عبيدة: بأبي وأمي والله قوم وهبوا أنفسهم لله وما يريدون الدنيا قال فلما قتل البطريق قص جناح ماهان فصاح بقومه وجمعهم إليه وقال لهم: اسمعوا يا أصحاب الملك وبلغوه عني إني ما تركت جهدي في نصرة هذا الدين وحاميت عن الملك وقاتلت عن نعمته وما أقدر أن أغالب رب السماء لانه قد نصر العرب علينا وملكهم بلدنا والآن مالي وجه ارجع به إلى الملك حتى أخرج إلى الحرب وأبرز إلى مقام الطعن والضرب وعزمت أن أسلم الصليب إلى أحدكم وأبرز إلى قتال المسلمين فإن قتلت فقد استرحت من العار ومن توبيخ الملك لي وأن رزقت النصر وأثرت في المسلمين أثرا ورجعت سالما علم الملك إني لم أقصر عن نصرته فقالوا: أيها الملك لا تخرج إلى الحرب حتى نخرج نحن إلى القتال قبلك فإذا قتلنا فافعل بعدنا ما شئت قال فحلف ماهان بالكنائس الأربع لا يبرز أحد قبله قال فلما حلف أمسكوا عنه وعن مراجعته ثم إنه دعا بابن له فدفع إليه الصليب وقال: قف مكاني وقدم لماهان عدة فأفرغت عليه. قال الواقدي: وبلغنا أن عدته التي خرج بها إلى الحرب تقومت بستين ألف دينار لأن جميعها كان مرصعا بالجوهر فلما عزم على الخروج تقدم له راهب من الرهبان فقال: أيها الملك ما أرى لك إلى البراز سبيلا ولا أحبه لك قال ولم ذلك قال: لاني رأيت لك رؤيا فارجع ودع غيرك يبرز فقال ماهان لست أفعل والقتل أحب الي من العار قال فبخروه وودعوه وخرج ماهان إلى القتال وهو كأنه جبل ذهب يبرق وأقبل حتى وقف بين الصفين ودعا إلى البراز وخوف باسمه فكان أول من عرفه خالد بن الوليد فقال هذا ماهان هذا صاحب القوم قد خرج ووالله ما عندهم شيء من الخير قال وماهان يرعب باسمه فخرج إليه غلام من الأوس وقال والله أنا مشتاق إلى الجنة وحمل ماهان وبيده عمود من ذهب كان تحت فخذه فضرب به الغلام فقتله وعجل الله بروحه إلى الجنة قال أبو هريرة رضي الله عنه فنظرت إلى الغلام عندما سقط وهو يشير باصبعه نحو السماء ولم يهله ما لحقه فعلمت أن ذلك لفرحه بما عاين من الحور العين قال: فجال ماهان على مصرعه وقوي قلبه ودعا إلى البراز فسارع المسلمون إليه فكل يقول: اللهم اجعل قتله على يدي وكان أول من برز مالك النخعي الاشتر رضي الله عنه وساواه في الميدان فابتدر مالك ماهان بالكلام وقال له: أيها العلج الأغلف لا تغتر بمن قتلته وإنما أشتاق صاحبنا إلى لقاء ربه وما منا إلا من هو مشتاق إلى الجنة فإن أردت مجاورتنا في جنات النعيم فانطق بكلمة الشهادة أو أداء الجزية وإلا فانت هالك لا محالة فقال له ماهان: أنت صاحبي خالد بن الوليد قال: لا أنا مالك النخعي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ماهان: لا بد لي من الحرب ثم حمل على مالك وكان من أهل الشجاعة فاجتهدا في القتال فأخرج ماهان عموده وضرب به مالكا على البيضة التي على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 رأسه فغاصت في جبهة مالك فشترت عينيه فمن ذلك اليوم سمي بالاشتر قال: فلما رأى مالك ما نزل به من ضربة ماهان عزم على الرجوع ثم فكر فيما عزم عليه فدبر نفسه وعلم أن الله ناصره قال والدم فائر من جبهته وعدو الله يظن إنه قتل مالكا وهو ينظره متى يقع عن ظهر فرسه وإذا بمالك قد حمل وأخذته أصوات المسلمين يا مالك استعن بالله يعينك على قرينك قال مالك فاستعنت بالله عليه وصليت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وضربته ضربة عظيمة فقطع سيفي فيه قطعا غير موهن فعلمت أن الأجل حصين فلما احسن ماهان بالضربة ولى ودخل في عسكره. قال الواقدي: ولما ولى ماهان بين يدي مالك الاشتر منهزما صاح خالد بالمسلمين يا أهل النصر والباس احملوا على القوم ما داموا في دهشتهم ثم حمل خالد ومن معه من جيشه وحمل كل الأمراء بمن معهم وتبعهم المسلمون بالتهليل والتكبير فصبرت لهم الروم بعض الصبر حتى إذا غابت الشمس وأظلم الافق إنكشف الروم منهزمين بين أيديهم وتبعهم المسلمون يأسرون ويقتلون كيف شاءوا فقتلوا منهم زهاء من مائة ألف وأسروا مثلها وغرق في الناقوصة منهم مثلها وأمم لا تحصى وتفرق منهم في الجبال والأودية وخيول المسلمين من ورائهم يقتلون ويأسرون ويأتون من الجبال بالاسارى ولم يزل المسلمون يقتلون ويأسرون إلى أن راق الليل فقال أبو عبيدة: أتركهم إلى الصباح فتراجعت المسلمون وقد امتلأت أيديهم من الغنائم والسرادقات وآنية الذهب والفضة والزلازل والنمارق والطنافس. قال الواقدي: ووكل أبو عبيدة رجالا من المسلمين بجمع الغنائم وبات المسلمون فرحين بنصر الله حتى اصبحوا فإذا ليس للروم خبر ووقع أكثرهم في الناقوصة في الليل. قال عامر بن ياسر حدثني نوفل بن عدي عن جابر بن نصر عن حامد بن مجيد قال أراد أبو عبيدة أن يحصى عدد المشركين فلم بقدر أن يحصي ذلك فأمر بقطع القصب من الوادي وجعل على كل قتيل قصبة ثم عدوا القصب فإذا القتلى مائة ألف وخمسة آلاف والاسارى أربعون الفا غير من غرق في الناقوصة وقتل من المسلمين أربعة آلاف ووجد أبو عبيدة رؤوسا في اليرموك فلم يعلم أهم من العرب أم من الروم قال ثم إنه صلى على قتلى المسلمين وسار في طلبهم إلى الجبال والأودية وإذا هم براع قد استقبلهم فسألوه هل مر بك أحد من الروم قال: نعم مر بي بطريق ومعه زهاء من أربعين ألفا. قال الواقدي: وكان ذلك ماهان لعنه الله فاتبعهم خالد بن الوليد وجعل يقفو أثرهم ومعه عسكر الزحف فأدركهم على دمشق ولما أشرف عليهم كبر وكبر المسلمون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 وحملوا ووضعوا فيهم السيف فقتل مقتلة عظيمة وكان ماهان قد ترجل عن جواده وقيل إنه ترجل ينكر نفسه ويسلم من القتل فأتاه رجل من المسلمين فحامى عن نفسه فقتله الرجل وكان قاتله النعمان ابن جهلة الأزدري وعاصم بن خوال اليربوعي وقد اختلفوا في أيهما قتل ماهان. قال الواقدي: وخرج أهل دمشق إلى لقاء خالد وقالوا له: نحن على عهدنا الذي كان بيننا وبينكم قال خالد: أنتم على عهدكم ومضى في طلب الروم يقتلهم حيث وجوهم حتى انتهى إلى ثنية العقاب وأقام تحتها يوما ثم مضى إلى حمص ونزل بها وبلغ ذلك أبا عبيدة فسار حتى لحق به فيمن معه قال والأمراء في طلب الروم من كل جهة من الشام ثم اجتمعوا وعادوا إلى دمشق وجمع أبو عبيدة الغنائم واخرج منها الخمس وكتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتاب البشارة والفتح بسم الله الرحمن الرحيم وصلوات الله على نبيه المصطفى ورسوله المجتبي صلى الله عليه وسلم من أبي عبيدة عامر بن الجراح أما بعد فأنا أحمد الله الذي لا إله إلا هو وأشكره على ما أولانا من النعم وخصنا به من كرمه ببركات بني الرحمة وشفيع الأمة صلى الله عليه وسلم وأعلم يا أمير المؤمنين إني نزلت اليرموك ونزل ماهان مقدم جيوش الروم بالقرب منا ولم ير المسلمون أكثر جمعا منه فأقصى الله تلك الجموع ونصرنا عليهم بمنه وكرمه وفضله فقتلنا منهم زهاء من مائة ألف وخمسة آلاف وأسرنا منهم أربعين ألفا واستشهد من المسلمين أربعة آلاف ختم الله لهم بالشهادة ووجدت في المعركة رؤوسا مقطوعة لم أعرفها فصليت عليها ودفنتها وقتل ماهان على دمشق قتله عاصم بن خوال وقد كان قبل وقعة الانفصال نصب عليهم رجل منهم يقال له أبو الجعيد: من أهل حمص حيلة فالقاهم في موضع يقال له الناقوصة فغرق منهم ما لا يحصى عددهم إلا الله تعالى وأما من قتل من المشركين في الأودية والجبال من المنهزمين وغيرهم وأخذت عدتهم فتسعون الفا وقد ملكنا أموالهم وخيولهم وحصونهم وبلادهم وكتبنا إليك هذا الكتاب بعد الفتح ونزلنا في دمشق والسلام عليه ورحمة الله وبركاته وعلى جميع المسلمين وطوى الكتاب وختمه ودعا بحذيفة بن اليمان ودفع الكتاب إليه وضم إليه عشرة من المهاجرين والأنصار وقال لهم: سيروا بكتاب الفتح والبشرى إلى أمير المؤمنين وبشروه بذلك وأجركم على الله فأخذ حذيفة الكتاب وسار هو والعشرة من وقتهم وساعتهم يجدون السير ليلا ونهارا حتى قربوا من المدينة. قال الواقدي: قال عبد الله بن عوف المالكي عن أبيه قال لما هزم الله الروم في اليرموك وكان من أمرهم ما كان رأى عمر بن الخطاب ليلة هزيمة الروم رسول الله صلى لله عليه وسلم جالسا في الروضة ومعه أبو بكر الصديق رضي الله عنه وكان عمر يسلم عليهما ويقول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 يا رسول الله أن قلبي مشغول على المسلمين وما يصنع الله بهم وقد بلغني أن الروم في ألف ألف وستين ألف فقال: يا عمر أبشر فقد فتح الله على المسلمين وقد انهزم عدوهم وقتل كذا وكذا ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً} [القصص: 83] الآية قال فلما كان من الغد صلى عمر بالناس صلاة الفجر وأعلم الناس بما رأى في منامه قال فاستبشر المسلمون وفرحوا وعلموا أن الشيطان لا يتمثل بالنبي صلى الله عليه وسلم وأرخوا تلك الليلة فكانت كما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم فسجد عمر لله شكرا ووصله الكتاب فقرأه عمر على الناس فارتفعت أصوات المسلمين بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير ثم قال: يا حذيفة فهل قسم أبو عبيدة الغنائم فقال: يا أمير المؤمنين هو منتظر كتابك وأمرك فدعا عمر بدواة وقرطاس وكتب إلى أبي عبيدة كتابا يقول فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر بن الخطاب إلى عامله بالشام سلام عليك أما بعد فاني أحمد الله الذي لا إله إلا هو وأصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وقد فرحت بما فتح الله على المسلمين من نصرتهم وانهزام عدوهم فإذا وصل إليك كتابي هذا فاقسم الغنيمة بين المسلمين وفضل أهل السبق وأعط كل ذي حق حقه واحفظ المسلمين واكلأهم واشكرهم على صبرهم وفعالهم وأقم بموضعك حتى يأتيك أمري والسلام عليك وعلى جميع المسلمين ورحمة الله وبركاته وطوى الكتاب وسلمه لحذيفة ابن اليمان فأخذه حذيفة وسار حتى ورد على أبي عبيدة فوجده على دمشق فسلم عليه وعلى المسلمين وناوله الكتاب فلما قرأه على المسلمين قسم الغنائم فاصاب الفارس أربعة وعشرون ألف مثقال من الذهب الأحمر والراجل ثمانية آلاف وكذلك من الفضة وأعطى الفرس الهجين سهما والفرس العتيق سهمين وألحق القادمين على الخيل بالعراب فلما فعل أبو عبيدة ذلك قال أصحاب الحمر الحقنا بالعراب فقال أبو عبيدة: إني قسمت عليكم بما قسم النبي صلى الله عليه وسلم الغنيمة بين أصحابه فلم يقبلوا قوله فكتب إلى عمر بذلك يعلمه باختلاف الناس في الخيل والهجين والعراب فكتب إليه عمر يقول: أما بعد فقد عملت بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تتعد حكمه فاعظ الفرس العربي سهمين والهجين سهما واعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرب العربين وهجن الهجين يوم خيبر فجعل للهجين سهما وللعربي سهمين فلما ورد الكتاب على أبي عبيدة وقرأه على المسلمين قال: ما أراد أبو عبيدة أن يحقر رجلا منكم ولكن تبعت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الواقدي: فلما قسم أبو عبيدة الغنائم على المسلمين قال له خالد بن الوليد: إن رجلا من المسلمين تشفع بي إليك أن تلحق فرسه الهجين بفرسه العتيق العربي وتعطيه سهمين فابى أبو عبيدة وقال والله أن سف التراب أحب الي من ذلك وروى عثمان أن ابن الزبير قال شهدت جدي الزبير بن العوام يوم اليرموك ومعه فرسان يتعقب عليهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 للقتال يركب هذا يوما وهذا يوما فلما كان وقت قسم الغنائم أعطاه أبو عبيدة ثلاثة أسهم له سهم ولفرسه سهمان فقال الزبير أما تصنع بي كما صنع بي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر كان معي فرسان فأسهمني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر خمسة أسهم لفرسي أربعة وأعطاني سهما وقال المقداد ابن عمرو كنت أنا وأنت يوم بدر ومعنا فرسان لا غيرهما فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم سهمين سهمين للفرسين قال أبو عبيدة: إنك لصادق يا مقداد أنا أتبع فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطي الزبير وأقبل جابر بن عبد الله الأنصاري فشهد عند أبي عبيدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى الزبير يوم خيبر خمسة أسهم فلما فعل ذلك أتى رجال من رجال العرب لكل واحد منهم أربعة أفراس وخمسة أفراس فقالوا: الحقنا بالزبير قال فاستأذن عمر في ذلك فقال صدق الزبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعطاه يوم خيبر خمسة أسهم فلا تعط غيره مثله. وروى عروة عن أبي الزبير قال لقي الزبير غلاما كان قد وقع بيده يوم غنيمة عمان فهرب منه فلما كان يوم اليرموك قبل قسم الغنائم عرفه فقبض عليه وأخذ بيده فقال له الموكل على حفظ الغنيمة: لست أدعك فبينما هما في المحاورة إذ أقبل أبو عبيد فقال: ما بالكما فقال الزبير أيها الأمير هذا غلامي وصل إلي من غنيمة عمان وهرب مني وقد رأيته الآن فلا بد لي منه فقال أبو عبيدة: صدق ابن عمه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو له وأنا سلمته له من غنيمة عمان فسلمه إليه فاخذه الزبير قال زيد المرادي هربت منا جارية إلى العدو وظفرنا بها يوم اليرموك في قسم الغنائم فكلمنا أبا عبيدة فيها فكتب إلى عمر فرد إليه الجواب أن كانت جارية حربية ففيها السهام وإلا فلا سبيل إليها وأن كانت لم تجر فيها السهام فردوها فكان القوم لا يرضون بهذا من ابي عبيدة فقال أبو عبيدة: والله الذي لا إله إلا هو هذا كتاب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يحكم بما أمرتكم فقبل قوله ودفع الجارية إلى القسم. قال الواقدي: حدثني لؤي بن عبد ربه عن سالم مولى حذيفة بن اليمان عن القاسط بن سلمة بن عدي بن عاصم عمن حدثه عن فتوح الشام قال لما هزم الله الروم باليرموك على يد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغ الخبر إلى هرقل بهزيمة جيشه وقد قتل ماهان وجرجير وغيرهما قال علمت أن الأمر يصل إلى هنا ثم اقام ينتظر ما يجري من المسلمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 ذكر فتح مدينة بيت المقدس قال الواقدي: واما ما كان من المسلمين فانهم اقاموا على دمشق شهرا فجمع أبو عبيدة امراء المسلمين وقال لهم: أشيروا علي بما أصنع وأين أتوجه فاتفق رأي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 المسلمين أما إلى قيسارية وأما إلى بيت المقدس فقال فما الذي ترون منهما فقالوا: أنت الرجل الأمين وما تسير إلى موضع إلا ونحن معك فقال معاذ بن جبل اكتب إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فحيث أمرك فسر واستعن بالله فقال أصبت الرأي يا معاذ فكتب إلى أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب يعلمه إنه قد عزم على قيسارية أو إلى بيت المقدس وانه منتظر ما يأمره به والسلام وأرسل الكتاب مع عرفجة بن ناصح النخعي وأمره بالمسير فسار حتى وصل المدينة فأرسل الكتاب لعمر رضي الله عنه فقرأه على المسلمين واستشارهم في الأمر فقال علي رضي الله عنه يا أمير المؤمنين مر صاحبك أن يصير إلى بيت المقدس فيحدقوا بها ويقاتلوا أهلها فهو خير الرأي وأكبره وإذا فتحت بيت المقدس فاصرف جيشه إلى قيسارية فإنها تفتح بعد أن شاء الله تعالى كذا أخبرني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال صدقت يا أبا الحسن فكتب إليه بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر بن الخطاب إلى عامله بالشام ابي عبيدة أما بعد فاني أحمد الله الذي لا إله إلا هو وأصلي على نبيه وقد ورد علي كتابك وفيه تستشيرني في أي ناحية تتوجه إليها وقد اشار ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسير إلى بيت المقدس فإن الله سبحانه وتعالى يفتحها على يديك والسلام عليك ثم طوى الكتاب ودفعه إلى عرفجة وأمره أن يعجل بالمسير فسار حتى قدم على على أبي عبيدة فوجده على الجابية فدفع الكتاب إليه فقرأ على المسلمين ففرحوا بمسيرهم إلى بيت المقدس فعندها دعا أبو عبيدة بخالد بن الوليد وعقد له راية وضم إليه خمسة آلاف فارس من خيل الزحف وسرحه إلى بيت المقدس ثم دعا بيزيد بن أبي سفيان وعقد له راية على خمسة آلاف وأمره أن يلحق بخالد إلى بيت المقدس وقال له: يا ابن أبي سفيان ما علمتك إلا ناصحا فإذا أشرفت على بلد ايلياء فارفعوا أصواتكم بالتهليل والتكبير واسألوا الله بجاه نبيه ومن سكنها من الأنبياء والصالحين أن يسهل فتحها على أيدي المسلمين فأخذ يزيد الراية وسار يريد بيت المقدس فسار ثم دعا شرحبيل بن حسنة كاتب وحي النبي صلى الله عليه وسلم وعقد له راية وضم إليه خمسة آلاف فارس من أهل اليمن وقال له: سر بمن معك حتى تقدم بيت المقدس وانزل بعسكرك عليها ولا تختلط بعسكر من تقدم قبلك ثم دعا بالمرقال بن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص وضم إليه خمسة آلاف فارس مع جمع من المسلمين وسرحه على أثر شرحبيل ابن حسنة وقال له: انزل على حصنها وانت منعزل عن أصحابك ثم عقد راية خامسة فسلمها للمسيب ابن نجية الفزاري وأمره أن يلحق بأصحابه وضم إليه خمسة آلاف فارس من النخع وغيرهم من القبائل وعقد راية سادسة وسلمها إلى قيس بن هبيرة المرادي وضم إليه خمسة آلاف فارس وسيره وراءه ثم عقد راية سابعة وسلمها إلى عروة بن مهلهل بن يزيد الخيل وضم إليه خمسة آلاف فارس وسيره وراءهم فكان جملة من سرحه أبو عبيدة إلى بيت المقدس خمسة وثلاثين الفا وسارت السبعة أمراء في سبعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 أيام في كل يوم أمير وذلك كله يرهب به اعداء الله فبقي كل يوم ينزل عليهم أمير بجيشه. فكان أول من طلع عليهم بالراية خالد بن الوليد فلما أشرف عليهم كبر وكبر أصحابه فلما سمع أهل بيت المقدس ضجيج اصواتهم انزعجوا وتزعزعت قلوبهم وصعدوا على أسوار بلدهم فلما نظروا إلى قلة المسلمين استحقروهم وظنوا أن ذلك جميع المسلمين فنزل خالد ومن معه مما يلي باب أريحاء واقبل في اليوم الثاني يزيد بن أبي سفيان وفي اليوم الثالث شرحبيل بن حسنة وأقبل في اليوم الرابع المرقال وأقبل في اليوم الخامس المسيب بن نجيبة وأقبل في اليوم السادس قيس بن هبيرة فنزل وأقبل في اليوم السابع عروة بن مهلهل بن زيد الخيل فنزل مما يلي طريق الرملة قال عبد الله بن عامر بن ربيعة الغطفاني ما نزل أحد من المسلمين علىبيت المقدس إلا وكبر وصلى ما قدره الله عليه ودعا بالنصر والظفر على الأعداء ويقال أن خالدا كان هو وأبو عبيدة قال فلما مضى العسكر قام أبو عبيدة وخالد وبقية المسلمين والذراري والسواد والغنم وما أفاء الله على المسلمين من المواشي والأموال فلم يبرحوا من مكانهم قال واقام العسكر على بيت المقدس ثلاثة أيام لا يبارزهم حرب ولا ينظرون رسولا يأتي إليهم ولا يكلمهم أحد من أهلها إلا إنهم قد حصنوا أسوارهم بالمجانيق والطوارق والسيوف والدرق والجواشن والزرد الفاخرة قال المسيب بن نجية الفزاري ما نزلنا ببلد من بلاد الشام فرأينا أكثر زينة ولا أحسن عدة من بيت المقدس وما نزلنا بقوم إلا وتضعضعوا لنا وداخلهم الهلع وأخذتهم الهيبة إلا أهل بيت المقدس نزلنا بازائهم ثلاثة أيام فلم يكلمنا منهم أحد ولا ينطقون غير أن حارسهم شديد وعدتهم كاملة فلما كان في اليوم الرابع قال رجل من البادية لشرحبيل بن حسنة أيها الأمير كأن هؤلاء القوم صم فلا يسمعون أو بكم فلا ينطقون أو عمي فلا يبصرون ازحفوا بنا إليهم فلما كان في اليوم الخامس وقد صلى المسلمون صلاة الفجر كان أول من ركب من المسلمين من الأمراء لسؤال أهل بيت المقدس يزيد بن أبي سفيان فشهر سلاحه وجعل يدنو من سورهم وقد أخذ معه ترجمانا يبلغه عنهم ما يقولون فوقف بازاء سورهم بحيث يسمعون خطابه وهم صامتون. فقال لترجمانه قل: لهم أمير العرب يقول لكم: ماذا تقولون فيإجابة الدعوة إلى الإسلام والحق وكلمة الإخلاص وهي كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله حتى يغفر لكم ربنا ما سلف من ذنوبكم وتحقنون بها دماءكم وأن أبيتم ولم تجيبونا فصالحوا عن بلدكم كما صالح غيركم ممن هو أعظم منكم عدة واشد منكم وأن أبيتم هاتين الحالتين حل بكم البوار وكان مصيركم إلى النار قال فتقدم الترجمان إليهم وقال لهم: من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 المخاطب عنكم فكلمه قس من القساوسة عليه مدارع الشعر وقال أنا المخاطب عنهم ماذا تريد فقال الترجمان أن هذا الأمير يقول: كذا وكذا ويدعوكم إلى أحدى هذه الخصال الثلاث أما الدخول في الإسلام او اداء الجزية واما السيف قال فبلغ القس من وراءه ما قال الترجمان قال فضجوا بكلمة كفرهم وقالوا: لا نرجع عن دين العز والقبول وأن قتلنا اهون علينا من ذلك فبلغ الترجمان ذلك ليزيد قال فمشى إلى الأمراء وأخبرهم بجواب القوم قال لهم: ما انتظاركم بهم فقالوا: إن الأمير أبا عبيدة ما أمرنا بالقتال ولا بحرب القوم بل بالنزول عليهم ولكن نكتب إلى أمين الأمة فإن امرنا بالزحف زحفنا فكتب يزيد بن ابي سفيان إلى ابي عبيدة يعلمه بما كان من جواب القوم فما الذي تأمر فكتب إليهم أبو عبيدة يأمر بالزحف وانه وأصل في أثر الكتاب فلما وقف المسلمون على كتاب ابي عبيدة فرحوا واستبشروا وباتوا ينتظرون الصباح. قال الواقدي: ولقد بلغني أن المسلمين باتوا تلك الليلة كأنهم ينتظرون قادما يقدم عليهم من شدة فرحهم بقتال أهل بيت المقدس وكل أمير يريد أن يفتح على يديه فيتمتع بالصلاة فيه والنظر إلى آثار الأنبياء قال فلما أضاء الفجر أذن وصلت الناس صلاة الفجر قال فقرأ يزيد لأصحابه: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا} [المائدة: 21] الآية فيقال أن الأمراء أجرى الله على ألسنتهم في تلك الصلاة أن قرأوا هذه الآية كأنهم على ميعاد واحد فلما فرغوا من الصلاة نادوا النفير النفير يا خيل الله اركبي قال فأول من برز للقتال حمير ورجال اليمن وبرز المسلمون للحرب كأنهم أسود ضارية ونظر إليهم أهل بيت المقدس وقد انشرحوا لقتالهم فنشطهم ورشقوا المسلمين بالنشاب فكانت كالجراد فجعل المسلمون يتلقونها بدرقهم فلم تزل الحرب بينهم من الغد إلى الغروب يقاتلون قتالا شديدا ولم يظهروا فزعا ولا رعبا ولم يطمعوهم في بلدهم فلما غربت الشمس رجع الناس وصلى المسلمون ما فرض الله عليهم وأخذوا في اصلاح شأنهم وعشائهم فلما فرغوا من ذلك أوقدوا النيران واستكثروا منها لأن الحطب عندهم كثير فبقي قوم يصلون وقوم يقرأون وقوم يتضرعون وقوم نائمون مما لحقهم من التعب والقتل فلما كان الغد بادر المسلمون إليهم وذكروا الله كثيرا وأثنو عليه وصلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقدمت رماة النبل وأقبلوا يرمون ويذكرون الله وهم يضجون إلى الله بالدعاء. قال الواقدي: ولم يزل المسلمون على القتال عدة أيام وأهل بيت المقدس يظهرون الفرح وانه ليس على قلوبهم من هم ولا جزع فلما كان اليوم الحادي عشر أشرفت عليهم راية أبي عبيدة يحملها غلامه سالم ومن ورائها فرسان المسلمين وابطال الموحدين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 وقد أحدقوا بأبي عبيدة وخالد عن يمينه وعبد الرحمن بن أبي بكر عن يساره وجاءت النسوان والأموال وضج الناس ضجة واحدة بالتهليل والتكبير فاجابتهم القبائل ووقع الرعب في قلوب أهل بيت المقدس فانقلب كبارهم وعظماؤهم وبطارقتهم إلى البيعة العظمى عندهم وهي الغمامة فلما وقفوا بين يدي جئليقهم وكانوا يعظمونه ويبجلونه فلما سمعوا تلك الضجة دخلوا عليه ووقفوا بين يديه وخضعوا له وقالوا: يا ابانا قد قدم أمير القوم إلينا ومعه بقية المسلمين وهذه الضجة بسببه فلما سمع بتركهم وجائليقهم تغير لونه وتغير وجهه وقال هي هي قالوا: ما ذلك أيها البترك والاب الكبير قال وحق الإنجيل أن كان قدم اميرهم فقد دنا هلاككم والسلام قالوا: وكيف ذلك قال: لانا نجد في العلم الذي ورثناه عن المتقدمين أن الذي يفتح الأرض في الطول والعرض هو الرجل الاسمر الأحور المسمى بعمر صاحب نبيهم محمد فإن كان قد قدم فلا سبيل لقتاله ولا طاقة لكم بنزاله ولا بد لي أن اشرف عليه وانظر إليه والى صورته فإن كان إياه عمدت إلى مصالحته واجبته إلى ما يريد وأن كان غيره فلا نسلم إليه قط لأن مدينتنا لا تفتح إلا على يد من ذكرته لكم والسلام ثم إنه وثب قائما والقسوس والرهبان والشمامسة من حوله وقد رفعوا الصلبان على رأسه وفتحوا الإنجيل بين يديه ودارت البطارقة من حوله وصعد على الصور من الجهة التي فيها أبو عبيدة فنظر إلى المسلمين وهم يسلمون عليه ويعظمونه ثم يرجعون إلى القتال كأنهم الاسد الضارية فناداهم رجل ممن كان يمشي بين يدي البترك فقال: يا معاشر المسلمين كفوا عن القتال حتى نستخبركم ونسألكم قال فأمسك الناس عن القتال فناداهم رجل من الروم بلسان عربي فصيح اعلموا أن صفة الرجل الذي يفتح بلدنا هذا وجميع الأرض عندنا فإن كان هو أميركم فلا نقاتلكم بل نسلم إليكم وأن لم يكن إياه فلا نسلم إليكم أبدا. قال الواقدي: فلما سمع المسلمون ذلك أقبل نفر منهم إلى ابي عبيدة وحدثه بما سمعوه قال فخرج أبو عبيدة إليهم إلى أن حاذاهم فنظر البترك إليه وقال ليس هو هذا الرجل فابشروا وقاتلوا عن بلدكم ودينكم وحريمكم فلما سمعوا قوله رفعوا أصواتهم وأعلنوا بكلمة كفرهم وأقبلوا يقاتلون القتال الشديد وعاد البترك إلى القمامة ولم يخاطب أبا عبيدة بكلمة واحدة بل أمر قومه بالحرب والقتال وعاد أبو عبيدة إلى أصحابه فقال خالد: ما كان منك أيها الأمير فقال: لا علم لي غير إني خرجت إليهم كما رايت وأشرفت علي شيطان من شياطينهم الذي يضلهم فما هو غير أن نظر لي وتاملني حتى ضجوا ضجة واحدة وولى عني ولم يكلمني فقال خالد: يوشك أن يكون لهم في ذلك تأويل ورأي فنقف عليه ونعلم نبأه ثم قال شدوا عليهم الحرب والقتال فشد عليهم المسلمون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 قال الواقدي: وكان نزول المسلمين على بيت المقدس في أيام الشتاء والبرد وظنت الروم أن المسلمين لا يقدرون عليهم في ذلك الوقت قال: وزحف المسلمون إليهم وبرزت النبالة من أهل اليمن وصمم أصحاب القسي ورشقوهم بالنبل وكانوا غير محترزين من النبل لقلة أكتراثهم به حتى رأوا النبل ينكسهم على رؤوسهم من وراء ظهورهم وهم لا يشعرون قال مهلهل لله در عرب اليمن فلقد رأيتهم يرمون بالنبل الروم فيتهافتون من سورهم كالغنم فلما رأوا ما صنع بهم النبل احترزوا منه وستروا السور بالحجف والجلود وبما يرد النبل قال ونظرت الروم إلى ضرار بن الأزور وقد اقبل نحو الباب الأعظم وعليه بطريق كبير وعلى رأسه صليب من الجوهر وحوله غلمان وعليهم الطوارق وبأيديهم القسي الموترة والعمد وهو يحرص القوم على القتال قال عوف بن مهلهل إلى ضرار وقد قصد نحوه وهو يختفي ويستتر إلى أن قرب من البرج الذي عليه البطريق ثم أطلق إليه نبلة قال عوف فنظرت الىالنبلة مع علو هذا الجدار وقد خرجت من قوس ضرار والبرج عال رفيع فقلت: وما تكون هذه النبلة مع علو هذا الجدار وما الذي تصنع في هذا العلج وعليه هذه اللامة اللامعة فاقسم بالله لقد وقعت هذه النبلة في فيه فتردى إلى أسفل برجة فسمعت للقوم ضجة عظيمة ورجولة هائلة فعلمت إنه قتل قال ولم يزل أبو عبيدة ينازل بيت المقدس أربعة أشهر كاملة وما من يوم إلا ويقاتلهم قتالا شديدا والمسلمون صابرون على البرد والثلج والمطر فلما نظر أهل بيت المقدس إلى شدة الحصار وما نزل بهم من المسلمين قصدوا القمامة ووقفوا بين يدي بتركهم وسجدوا بين يديه وعظموه وقالوا له: يا ابانا قد دار علينا حصار هؤلاء العرب ورجونا أن يأتينا مدد من قبل الملك ولا شك إنه اشتغل عنا بنفسه من أجل هزيمة جيشه وإنهم أشهى منا للقتال وإنهم من يوم نزلوا علينا لم نخاطبهم بكلمة واحدة ولم نجبهم احتقارا منا لهم والآن قد عظم علينا الأمر وأنا نريد منك أن تشرف على هؤلاء العرب وتنظر ما الذي يريدون منا فإن كان أمرهم قريبا أجبنا إلى ما يريدون ويطلبون وأن كان صعبا فتحنا الأبواب وخرجنا إليهم فاما أن نقتل عن آخرنا واما أن نهزمهم عنا فأجابهم البترك إلى ذلك واشتمل بلباسه وصعد معهم على السور وحمل الصليب بين يديه واجتمع القسوس والرهبان حوله وبايديهم الأناجيل مفتحة والمباخر حتى اشرف على المكان الذي فيه أبو عبيدة فنادى منهم رجل بلسان فصيح العربية يا معاشر العرب أن عمدة دين النصرانية وصاحب شريعتها قد أقبل يخاطبكم فليدن منا أميركم فأخبروا أبا عبيدة بمقالهم فقال والله إني لاجيبه حيث دعاني ثم قام أبو عبيدة وجماعة من الأمراء والصحابة ومعه ترجمان فلما وقف بازائه قال لهم الترجمان: ما الذي تريدون منا في هذه البلدة المقدسة ومن قصدها يوشك أن الله يغضب عليه ويهلكه فأخبره الترجمان بذلك فقال قل لهم: نعم إنها شريفة ومنها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 أسرى بنبينا إلى السماء ودنا من ربه كقاب قوسين أو أدنى وإنها معدن الأنبياء وقبورهم فيها ونحن أحق منكم بها ولا نزال عليها أو يملكنا الله إياها كما ملكنا غيرها قال البترك فما الذي تريدون منا قال أبو عبيدة: خصلة من ثلاث أولها أن تقولوا: لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله فإن أجبتم إلى هذه الكلمة كان لكم ما لنا وعليكم ما علينا قال البترك إنها كلمة عظيمة ونحن قائلوها إلا أن نبيكم محمدا ما نقول إنه رسول قال أبو عبيدة: كذبت يا عدو الله إنك لم توحد قط وقد أخبرنا الله في كتابه إنكم تقولون: المسيح ابن الله لا إله إلا الله سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا قال: البترك هذه خصلة لا نجيبكم إليها فما الخصلة الثانية فقال أبو عبيدة: تصالحوننا عن بلدكم أو تؤدون الجزية إلينا عن يد وأنتم صاغرون كما أداها غيركم من أهل الشام. قال البترك: هذه الخصلة أعظم علينا من الأولى وما كنا بالذي يدخل تحت الذل والصغار أبدا فقال أبو عبيدة: ما نزال نقاتلكم حتى يظفرنا الله بكم ونستعبد أولادكم ونساءكم ونقتل منكم من خالف كلمة التوحيد وعكف على كلمة الكفر فقال البترك: فأنا لا نسلم مدينتنا أو نهلك عن آخرنا وكيف نسلمها وقد استعددنا بآلة الحرب والحصار وفيها العدة الحسنة والرجال الشداد ولسنا كمن لاقيتم من أهل المدن الذين أذعنوا لكم بالجزية فإنهم قوم غضب عليهم المسيح فأدخلهم تحت طاعتكم ونحن في بلد من إذا سأل المسيح ودعاه أجاب دعوته فقال أبو عبيدة: كذبت والله يا عدو الله: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} [المائدة: 75] فقال: أنا أقسم بالمسيح إنكم لو أقمتم علينا عشرين سنة ما فتحتموها أبدا وإنما تفتح لرجل صفته ونعته في كتبنا ولسنا نجد صفته ونعته معك أبدا فقال أبو عبيدة: وما صفة من يفتح مدينتكم قال البترك: لا نخبركم بصفته لكن نجد في كتبنا وما قرأناه من علمنا إنه يفتح هذه البلدة صاحب محمد اسمه عمر يعرف بالفاروق وهو رجل شديد لا تأخذه في الله لومة لائم ولسنا نرى صفته فيكم قال: فلما سمع أبو عبيدة ذلك من كلام البترك تبسم ضاحكا وقال فتحنا البلد ورب الكعبة ثم أقبل عليه وقال له: إذا رأيت الرجل تعرفه قال: نعم وكيف لا أعرفه وصفته عندي وعدد سنينه وأيامه قال أبو عبيدة: هو والله خليفتنا وصاحب نبينا فقال البترك أن كان الأمر كما ذكرت فقد علمت صدق قولنا فاحقن الدماء وابعث إلى صاحبك يأت فإذا رأيناه وتبيناه وعرفنا صفته ونعته فتحنا له البلد من غير هم ولا نكد وأعطينا الجزية فقال أبو عبيدة: فاني أبعث إليه بأن يقوم علينا أفتحبونا القتال أم نكف عنكم فقال البترك معاشر العرب إلا تدعون بغيكم أنخبركم باننا قد صدقناكم في الكلام طلبا لحقن الدماء وانتم تأبون إلا القتال قال أبو عبيدة: نعم لأن ذلك اشهى إلينا من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 الحياة نرجو به العفو والغفران من ربنا قال فأمر أبو عبيدة بالكف عنهم وانصرف البترك. قال الواقدي: فجمع أبو عبيدة الأمراء والمسلمين إليه وأخبرهم بما قال البترك فرفع المسلمون أصواتهم بالتهليل والتكبير وقالوا: افعل أيها الأمير واكتب إلى أمير المؤمنين بذلك فلعله يسير إلينا ويفتح هذا البلد علينا فقال شرحبيل بن حسنة اصبر حتى نقول لهم أن الخليفة معنا ويتقدم خالد إليهم فإذا نظروا إليه فتحوا الباب وكفينا التعب وكان خالد اشبه الناس بعمر بن الخطاب رضي الله عنه فلما أصبح الصباح قال له الترجمان: قد جاء الخليفة وكان قد قال أبو عبيدة لخالد: فركبوا جميعا وقالوا: قد جاء الرجل الذي تطلبونه فعرفوا البترك فأقبل إلى أن وقف على السور وقال له: قل له: يتقدم بحيث نراه عيانا فتقدم خالد فتبينه وقال وحق المسيح كأنه هو ولكن باقي العلامات ما هي فيه فبحق دينك من أنت فقال أنا من بعض أصحابه فقال البترك يا فتيان العرب كم يكون هذا الخداع فيكم وحق المسيح لئن لم نر الرجل الموصوف ما نفتح لكم ولا يرجع أحد منا يكلمكم ولو أقمتم علينا عشرين سنة ثم ولى ولم يتكلم فقال المسلمون عند ذلك اكتبوا إلى أمير المؤمنين وعرفوه بذلك فعسى أن يأتي ويتشرف بهذه البقعة فكتب أبو عبيدة كتابا يقول فيه: بسم الله الرحمن الرحيم إلى عبد الله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب من عامله أبي عبيدة عامر بن الجراح أما بعد السلام عليك فأني أحمد الله الذي لا إله إلا هو واصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وأعلم يا أمير المؤمنين أنا منازلون لاهل مدينة ايلياء نقاتلهم أربعة أشهر كل يوم نقاتلهم ويقاتلوننا ولقد لقي المسلمون مشقة عظيمة من الثلج والبرد والأمطار إلا إنهم صابرون على ذلك ويرجون الله ربهم فلما كان اليوم الذي كتبت إليك الكتاب فيه اشرف علينا بتركهم الذي يعظمونه وقال إنهم يجدون في كتبهم إنه لا يفتح بلدهم إلا صاحب نبينا واسمه عمر وانه يعرف صفته ونعته وهو عندهم في كتبهم وقد سألنا حقن الدماء فسر إلينا بنفسك وانجدنا لعل الله أن يفتح هذه البلدة علينا على يديك ثم إنه طوى الكتاب وختمه وقال: يا معاشر المسلمين من ينطلق بكتابي هذا وأجره على الله فأسرع بالإجابة ميسرة بن مسروق العبسي وقال أنا أكون الرسول وأرجع مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن شاء الله تعالى. قال أبو عبيدة: فخذ الكتاب بارك الله فيك فأخذه ميسرة واستوى على ناقة له كوماء ولم يزل سائرا إلى أن دخل المدينة فدخلها ليلا وقال والله لا نزلت عند أحد من الناس فأناخ ناقته على باب المسجد وعقلها ودخل المسجد وسلم على قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى قبر أبي بكر الصديق رضي الله عنه ثم أتى مكانا في المسجد فنام وكان له ليال عدة لم ينم فأخذته عيناه فما استيقظ إلا على أذان عمر وكان يغلس في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 الأذان فلما أذن دخل المسجد وهو يقول: الصلاة رحمكم الله قال ميسرة فقمت وتوضأت وصليت خلف عمر صلاة الفجر فلما انحرف عن محرابه قمت إليه وسلمت عليه فلما نظر الي صافحني واستبشر وقال ميسرة ورب الكعبة ثم قال: ما وراءك يا ابن مسروق قلت: الخير والسلامة يا أمير المؤمنين ثم ناولته الكتاب فقراه على المسلمين فاستبشروا به فقال: ما ترون رحمكم الله فيما كتب به أبو عبيدة فكان أول من تكلم عثمان بن عفان رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين أن الله قد أذل الروم وأخرجهم من الشام ونصر المسلمين عليهم وقد حاصر أصحابنا مدينا ايلياء وضيقوا عليهم وهم في كل يوم يزدادون ذلا وضعفا ورعبا فإن أنت اقمت ولم تسر إليهم رأوا إنك بأمرهم مستخف ولقتالهم مستحقر فلا يلبثون إلا اليسير حتى ينزلوا على الصغار ويعطون الجزية فلما سمع عمر ذلك من مقال عثمان جزاه خيرا وقال هل عند أحد منكم رأي غير هذا فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه نعم عندي غير هذا الرأي وأنا ابديه لك رحمك الله فقال عمر وما هو يا أبا الحسن قال أن القوم قد سألوك وفي سوالهم ذلك فتح للمسلمين وقد اصاب المسلمين جهد عظيم من البرد والقتال وطول المقام وإني ارى إنك أن سرت إليهم فتح الله هذه المدينة على يديك وكان في مسيرك الأجر العظيم في كل ظمأ ومخمصة وفي قطع كل واد وصعود جبل حتى تقدم إليهم فإذا أنت قدمت عليهم كان لك وللمسلمين الأمن والعافية والصلاح والفتح ولست آمن أن يياسوا منك ومن الصلح ويمسكوا حصنهم ويأتيهم المدد من بلادهم وطاغيتهم فيدخل فلا يتخلفون عنه والصواب أن تسير إليهم أن شاء الله تعالى قال ففرح عمر بن الخطاب بمشورة علي رضي الله عنه وقال: لقد أحسن عثمان النظر في المكيدة للعدو وأحسن علي المشورة للمسلمين فجزاهما الله خيرا ولست أخذ إلا بمشورة علي فما عرفناه إلا محمود المشورة ميمون الغرة ثم أن عمر رضي الله عنه أمر الناس بأخذ الأهبة للمسير معه والاستعداد فأسرع المسلمون إلى ذلك واستعدوا وتأهبوا وأمر عمر أن يكونوا خارج المدينة ففعلوا ذلك وأتى عمر المسجد فصلى فيه أربع ركعات ثم قام إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم عليهم وعلى ابي بكر رضي الله عنه واستخلف على المدينة علي بن أبي طالب وخرج من المدينة وأهلها يشيعونه ويودعونه. قال الواقدي: وخرج عمر من المدينة وهو على بعير له أحمر وعليه غرارتان في أحداهما سويق وفي الأخرى تمر وبين يديه قربة مملوءة ماء وخلفه جفنة للزاد وخرج ومعه جماعة من الصحابة قد شهدوا اليرموك وعادوا إلى المدينة منهم الزبير وعبادة بن الصامت وسار عمر نحو بيت المقدس فكان إذ نزل منزلا لا يبرح منه حتى يصلي الصبح فإذا انفتل من الصلاة أقبل على المسلمين وقال الحمد لله الذي أعزنا بالإسلام واكرمنا بالإيمان وخصنا بنبيه عليه الصلاة والسلام وهدانا من الضلالة وجمعنا بعد الشتات على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 كلمة التقوى وألف بين قلوبنا ونصرنا على عدونا ومكن لنا في بلاده وجعلنا اخوانا متحابين فاحمدوا الله عباد الله على هذه النعمة السابغة والمنن الظاهرة فإن الله يزيد المستزيدين الراغبين فيما لديه ويتم نعمته على الشاكرين ثم يأخذ الجفنة فيملؤها سويقا ويصف التمر حولها ويقرب للمسلمين ويقول: كلوا هنيئا مريئا فياكل ويأكل المسلمون معه ثم يرحل فلم يزل كذلك في مسيره قال عمرو بن مالك العبسي كنت مع عمر بن الخطاب حين سار إلى الشام فمر على ماء لجذام وعليه طائفة منهم نزول والماء يدعى ذات المنار فنزل بالمسلمين عليه فبينما هو كذلك وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حوله إذ أقبل إليه قوم من جذام فقالوا: يا أمير المؤمنين أن عندنا رجلا له أمرأتان وهما أختان لاب وأم قال فغضب عمر وقال علي به فاتى بالرجل إليه فقال له عمر: ما هاتان المرأتان قال الرجل زوجتاي قال فهل بينهما قرابة قال: نعم هما اختان قال عمر فما دينك ألست مسلما قال بلى قال عمر وما علمت أن هذا حرام عليك والله يقول في كتابه: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 23] فقال الرجل ما علمت وما هما علي حرام فغضب عمر وقال كذبت والله إنه لحرام عليك ولتخلين سبيل أحداهما وإلا ضربت عنقك قال الرجل افتحكم علي قال: أي والله الذي لا إله إلا هو فقال الرجل أن هذادين ما اصبنا فيه خيرا ولقد كنت غنيا عن أن أدخل فيه قال عمر ادن مني فدنا منه فخفق راسه بالدرة خفقتين وقال له: أتتشاءم بالإسلام يا عدو الله وعدو نفسه وهو الدين الذي ارتضاه الله لملائكته ورسله وخيرته من خلقه خل يا ويلك سبيل أحداهما وإلا جلدتك جلدة المفثري فقال الرجل كيف اصنع بهما وإني أحبهما ولكن اقرع بينهما فمن خرجت القرعة عليها كنت لها وهي لي وأن كنت لهما جميعا محبا فأمر عمر فاقترع فوقعت القرعة على أحداهما فأمسكها وأطلق سبيل الثانية ثم أقبل عليه عمر وقال له: اسمع يا ذا الرجل وع ما أقول لك إنه من دخل في ديننا ثم رجع عنه قتلناه فإياك أن تفارق الإسلام وإياك يبلغني أن قد اصبت أخت أمرأتك التي فارقتها فانك أن فعلت ذلك رجمتك. قال الواقدي: وسار عمر حتى مر على حي من بني مرة فإذا بقوم منهم قد أقاموا في الشمس يعذبون فقال لهم عمر: ما بال هؤلاء يعذبون فقيل عليهم خراج فهم يعذبون قال فما يقولون قال يقولون ما نجد نؤدي فقال عمر دعوهم ولا تكلفوهم ما لا يطيقون فاني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تعذبوا الناس في الدنيا يعذبكم الله يوم القيامة" فخلى سبيلهم ثم سار حتى إذا كان بواد القرى أخبروه أن شيخا على الماء وله صديق يوده فقال له صديقه: هل لك أن تجعل لي في زوجتك نصيبا وأكفيك رعي أبلك والقيام عليها ولي فيها يوم وليلة ولك فيها يوم وليلة قال له الشيخ: قد فعلت ذلك ورضي فلما أخبر عمر بذلك أمر بهما فأحضرا فقال ويلكما ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 دينكما قالا الإسلام قال عمر فما الذي بلغني عنكما قالا وما هو فأخبرهما عمر بما سمعه من العرب فقال الشيخ قد كان ذلك يا أمير المؤمنين فقال عمر أما علمتما أن ذلك حرام في دين الإسلام قالا لا والله ما علمنا ذلك فقال عمر للشيخ وما دعاك أن صنعت هذا القبيح قال أنا شيخ كبير ولم يكن لي أحد أثق به ولاأتكل عليه فقلت: يا هذا أتكفيني الرعي والسقي وتعينني على دوابي وأنا أجعل لك نصيبا في امرأتي والآن علمت إنه حرام فلا أفعله فقال لي عمر خذ بيد امرأتك فلا سبيل لي عليها ثم قال للشاب إياك أن تقرب منها فإنه أن بلغني ذلك ضربت عنقك ثم ارتحل عمر يريد بيت المقدس حتى دنا من أول الشام وأشرف عليه قال أسلم ابن برقان مولى عمر فلما أشرفنا على الشام واشرف عليه المسلمون نظرنا إلى طائفة من خيل المسلمين فقال عمر للزبير اسرع وانتظر ما هذه الخيل فأسرع الزبير إليها فلما قرب منها وإذا هي خيل من اليمن قد بعث بها أبو عبيدة يأخذون له خبر عمر رضي الله عنه قال الزبير فسلموا علي وقالوا: يا فتى من أين أقبلت فقلت: من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: كيف خلفت أهلها قلت بخير قالوا: فما فعل عمر هل قدم علينا أم قال الزبير من أنتم قالوا: نحن من عرب اليمن قد وجهنا أبو عبيدة لنأخذ له خبر عمر قال فرجع الزبير إلى عمر وحدثه قال أصبت يا أبا عبد الله فاقبل علينا جمع آخر فسلموا علينا وسألونا عن عمر فقال لهم: ها أنا عمر فما تريدون قالوا: يا أمير المؤمنين قد ذرفت العيون وطالت الأعناق بطول قدومك فلعل الله أن يفتح بيت المقدس على يدك. قال الواقدي: ثم رجعوا على اعقابهم حتى أشرفوا على عسكر المسلمين وابي عبيدة ونادوا بأصواتهم أبشروا يا مسلمون بقدوم عمر قال فأرتج الناس وهموا أن يركبوا لاستقباله بأجمعهم فقال لهم أبو عبيدة: عزيمة على كل رجل أن لا يخرج من مركزه ثم سار أبو عبيدة في أناس من المهاجرين والأنصار حتى أشرف بمن معه على عمر قال ونظر عمر إلى أبي عبيدة وهو لابس سلاحه متنكب قوسه وهو راكب على قلوصه مغطى بعباءة قطوانية وخطام قلوصة من شعر فلما نظر أبو عبيدة إلى عمر رضي الله عنه أناخ قلوصه وأناخ عمر بعيره وترجل كلاهما ومد أبو عبيدة يده فصافح عمر وتعانقا جميعا وسلم بعضهما على بعض واقبل المسلمون يسلمون على عمر ثم ركبا جميعا وجعلا يسيران أمام الناس وهما يتحادثان ولم يزالا كذلك حتى نزلا ببيت المقدس فلما نزل صلى عمر رضي الله عنه بالمسلمين صلاة الفجر ثم خطبهم خطبة حسنة فقال في خطبته الحمد لله الحميد المجيد القوي الشديد الفعال لما يريد ثم قال أن الله تعالى قد أكرمنا بالإسلام وهدانا بمحمد عليه أفضل الصلاة والسلام وازاح عنا الضلالة وجمعنا بها الفرقة والف بين قلوبنا من بعد البغضاء فاحمدوه على هذه النعمة تستوجبوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 منه المزيد فقد قال الله تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [ابراهيم: 7] ثم قرأ {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً} قال فلما تلا عمر ذلك قام قس من النصارى كان حاضرا بين يديه فقال أن الله لا يضل أحدا فلما كررها قال عمر انظروا أن عاد إلى قوله فاضربوا عنقه فعرف القس ما قال عمر فأمسك ومضي عمر في خطبته فقال: أما بعد فاني أوصيكم بتقوى الله عز وجل الذي يبقي ويغني كل شيء سواه الذي بطاعته ينفع أولياءه وبمعصيته يفني أعداءه أيها الناس أدوا زكاة أموالكم طيبة بها قلوبكم وأنفسكم لا تريدون بها جزاء من مخلوق ولا شكورا أفهموا ما توعظون به فإن الكيس من احرز دينه وأن السعيد من اتعظ بغيره إلا أن شر الأمور مبتدعاتها وعليكم بالسنة سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم فالزموها فإن الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة والزموا القرآن فإن فيه الشفاء والثواب أيها الناس إنه قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كقيامي فيكم وقال الزموا أصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يظهر الكذب حتى يشهد من لم يستشهد ويحلف من لم يحلف فمن أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة وتعوذوا من الشيطان ولا يخلون أحد منكم بامرأة فانهن من حبائل الشيطان ومن سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن والصلاة الصلاة فلما فرغ من خطبته جلس فجعل أبو عبيدة يحدثه بما لقي من الروم وعمر باهت فتارة يبكي وتارة يهدأ فلم يزل كذلك إلى أن حضرت صلاة الظهر فقال الناس يا أمير المؤمنين اسأل بلالا أن يؤذن لنا وكان بلال مقيما ببلد فلما بلغه أن عمر قد وصل سار مع أبي عبيدة حتى سلم على عمر فعظم قدره فلما حضرت صلاة الظهر وسأل المسلمون عمر أن يسأل بلالا فقال له: يا بلال أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسالون أن تؤذن لهم وتذكرهم اوقات نبيهم صلى الله عليه وسلم فقال بلال نعم فلما قال الله أكبر خشعت جلودهم واقشعرت أبدانهم قال فلما قال: أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله بكى الناس بكاء شديدا حتى كادت قلوبهم أن تتصدع عند ذكر الله ورسوله فلما فرغ بلال من أذانه وجلس قال بلال: يا أمير المؤمنين أن أمراء المسلمين وأجناد الشام يأكلون لحوم الطيور والخبز النقي وما لا يلحق ضعفاء الناس وما لاتناله أيديهم وأن الكل يفني وما له إلى التراب ومصيرنا إليه فقال له يزيد بن أبي سفيان: إن سعر بلادنا هذه رخيص وأنا لنصيب ما قاله بلال ههنا مثل ما كنا نقوت به أنفسنا مدة من الزمان في الحجاز فقال عمران الأمر كما ذكرت فكلوا هنيئا مريئا ولست أبرح من مكاني حتى تجمعوا الي من في المنازل وأن تكتبوا إلى فقراء المسلمين ممن في المدن والقرى فأفرض لكل أهل بيت ما يجزيهم من البر والشعير والعسل والزيت وما يحتاجون إليه ولا بد لهم منه ثم قال عمر هذا لكم من أمرائكم غير ما يأتيكم مني من بيت مال المسلمين فإن قطعت عنكم أمراؤكم فأمروني حتى أعزلهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 عنكم ثم أمرهم بالرحيل فلما هم بالركوب على بعيره وعليه مرقعة من صوف وفيها أربع عشرة رقعة بعضها من أدم. قال الواقدي: بلغني ممن أثق به إنها كانت مرقعة من صوف فقال له المسلمون: يا أمير المؤمنين لو ركبت بدل بعيرك جوادا ولبست ثيابا بيضا قال ففعل قال الزبير احسب إنها كانت من ثياب مصر تساوي خمسة عشر درهما وطرح على عاتقه منديلا من كتان ليس جديدا ولا بالخلق دفعه إليه أبو عبيدة وقدم إليه برذون أشهب من براذين الروم فلما صار عمر على ظهره جعل البرذون يهملج به فلما نظر عمر إلى البرذون وفعاله نزل عنه مسرعا وقال: أقيلوا عثرتي اقال الله عثرتكم يوم القيامة فقد كاد اميركم أن يهلك بما دخل من العجب والكبر وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من الكبر" ولقد كاد أن يهلكني ثوبكم الأبيض وبرذونكم المهملج ثم أن عمر رضي الله عنه نزع ما كان عليه ثم عاد إلى لبس مرقعته. قال الواقدي: كنا يوم نقرأ فتوح الشام وفتوح بيت المقدس عند قبر أبي حنيفة وكان الفتوح يقرأ على عبادة بن عوف الدينوري وكان من أهل الفضل وكان يسجع كلامه فلما وصل إلى ما ذكرناه من لبس عمر لمرقعته قال قد سمح خاطري بما أنا قائله. قال الواقدي: قلت: قل: ولا تخف الصدق فتهوى في النار وأن الصدق أمانة والكذب خيانة قال لما لبس عمر مرقعته وجعل يتميز في شمائل فقره والكائنات تتعجب من زهده وصبره عندما تزينت له الدنيا بملابسها وتراءت له في حلل أمنيتها بواسطة حدثان مشيئتها وقد جعلت أشباح شهواتها على قمة رأس مرآتها وأقبلت رافلة في حلة مراودته مطلقة عند الطمع في طلب زوال مجاهدته معرضة بملابس جمالها على سوق معارضته في سناء قبلة مرآة تبهرجها في عين مشاهدته واقفة على قدم الاستدراج إلى ترك خدمته جاعلة ودادها ذريعة إلى وصلته وعمر قد أمسك عرا طاعته بيد عصمته فلما نصبت له حبائل بلاها ولم تره وقع في أشراك هواها اسمعت في معناها قد شغفها حبا أنا لنراها وقالت: يا عمر قد وليت أرضي فلا بد من القيام بفرضي فالولاية لا تقوم إلا بالملابس الهنية والمآكل الشهية والظلم في الرعية فقال عمر اذهبي فلست من رجالك ولا ممن يقع في حبالك ولا في أوحالك أما علمت إني قد تجردت لمعاندتك ولا حاجة لي في مشاهدتك وها أنا على قدم تجردت لاقامة دعوة سيد الأمم حتى افتح بلاد الروم والعجم ثم اظهر في وجهها صارم اجتهاده من معنى قوله: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج: 78] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 قال الواقدي: فاستحسنت هذا الكلام والحقت ما قاله في هذا الموضع بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من البيان لسحرا" قال وأن عمر سار يريد العقبة ليصعد منها إلى بيت المقدس فلقيه قوم من المسلمين وعليهم ثياب الديباج مما أخذوه من اليرموك فأمر عمر أن يحثوا التراب في وجوههم وأن تمزق عليهم ولم يزل على ذلك حتى أشرف على بيت المقدس فلما نظر إليها قال الله أكبر اللهم افتح لنا فتحا يسيرا واجعل لنا من لدنك سلطانا نصيرا ثم سار واستقبلته العشائر والقبائل وأصحاب العقود وسار عمر حتى نزل بالموضع الذي كان فيه أبو عبيدة وضربت له خيمة من شعر وجلس فيها هناك على التراب ثم قام يصلي أربع ركعات. قال الواقدي: وعلت للمسلمين ضجة عظيمة وصياح مزعج بالتهليل والتكبير فسمع أهل بيت المقدس الضجة والجلبة فقال لهم البترك: يا ويلكم ما شأن العرب قد ارتفعت لهم جلبة من غير شيء فاشرفوا عليهم وانظروا ما شأنهم. قال الواقدي: فأشرف عليهم رجل ممن يعرف العربية فقال: يا معاشر العرب أخبرونا ما قصتكم قالوا: إن أمير المؤمنين عمر قد قدم علينا من مدينة نبينا وهذه الضجة من فرح المسلمين به قال فرجع وأعلم البترك فأطرق إلى الأرض ولم يتكلم فلما كان الغد وصلى عمر بالناس صلاة الفجر قال لابي عبيدة: يا عامر تقدم إلى القوم وأعلمهم إني قد أتيت قال فخرج أبو عبيدة وصاح بهم وقال: يا أهل هذه البلدة أن صاحبنا أمير المؤمنين قد ورد فما تصنعون فيما قلتم قال فاعلموا البترك فخرج من كنيسته وعليه المسوح وترجل الرهبان والقسوس والاساقفه معه وقد حمل بين يديه صليب لا يخرجونه إلا في عيدهم وسار معه البطاليق الوالي عليهم وهو يقول للبترك: يا ابانا أن كنت تعرفه معرفة حقيقية وإلا فلا تفتح له ودعنا وهؤلاء العرب فاما أن بنيدهم واما أن يبيدونا قال البترك أنا أفعل ذلك ثم صعدا على الصور ووقف البطاليق إلى جانبه والصليب أمامهم واشرف على أبي عبيدة وقال: ما تشاء أيها الشيخ الباهي قال أبو عبيدة: هذا أمير المؤمنين عمر وليس عليه أمير قد أتى فاخرجوا إليه واعقدوا معه الأمان والذمة واداء الجزية فقال البترك يا ذا الرجل أن كان صاحبك الذي ليس عليه أمير قد أتى فدعه يدن منا فانا نعرفه بنعته وصفته وأفردوه من بينكم وليقف بازائنا حتى نراه فإن كان صاحبنا الذي نعته في الإنجيل نزلنا إليه وعقدنا معه الأمان وأقررنا له بالجزية وأن كان غير الذي نجد نعته في الإنجيل وصفته فما لكم عندنا غير القتال قال فرجع أبو عبيدة إلى عمر واخبره بما قاله البترك فهم عمر بالقيام فقال له أصحابه: يا أمير المؤمنين تخرج إليهم منفردا وليس عليك آلة حرب غير هذه المرقعة وأنا نخشى عليك منهم غدرا أو مكرا فينالون منك فقال عمر: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:51] ثم أمر ببعيره فقدم إليه فاستوى في ركوبه عليه وعليه مرقعة ليس عليه غيرها وعلى رأسه قطعة عباءة قطوانية وقد عصب بها رأسه وليس معه غير أبي عبيدة رضي الله عنه وهو سائر بين يديه حتى قرب من السور ووقف بازاء السور والبترك والبطاليق عليه فتكلم أبو عبيدة وقال: يا هؤلاء هذا أمير المؤمنين قد أتى فمسح البترك عينه ونطر إليه وزعق بأعلى صوته هذا والله الذي نجد صفته ونعته في كتبنا ومن يكون فتح بلادنا على يديه بلا محالة ثم إنه قال لأهل بيت المقدس: يا ويحكم انزلوا إليه واعقدوا معه الأمان والذمة هذا والله صاحب محمد بن عبد الله. قال الواقدي: فلما سمعت الروم كلام البترك نزلوا مسرعين وكانوا قد ضاقت أنفسهم من الحصار ففتحوا الباب وخرجوا إلى عمر بن الخطاب يسالونه العهد والميثاق والذمة ويقرون له بالجزية فلما نظر إليهم عمر على تلك الحالة تواضع لله وخر ساجدا على قتب بعيره ثم نزل إليهم وقال ارجعوا إلى بلادكم ولكم الذمة والعهد إذ سألتمونا واقررتم بالجزية قال فرجع القوم إلى بلدهم ولم يغلقوا الأبواب ورجع عمر إلى عسكره فبات فيه ليلة فلما كان الغد قام فدخل إليها وكان دخوله يوم الاثنين واقام بها إلى يوم الجمعة وخط بها محرابا من جهة الشرق وهو موضع مسجده فتقدم وصلى هو وأصحابه صلاة الجمعة فهمت الروم بغدرهم وكان أبو الجعيد الذي احتال على الروم باليرموك ببيت المقدس هو وأهله وماله فقالوا: ما ترى في غدر هؤلاء العرب إذا هم اشتغلوا بصلاتهم وليس معهم آلة حرب ولا ما يحترزون به من الضرب والقتل فقال لهم أبو الجعيد: يا قوم لا تفعلوا ولا تغدروا بهم فإن فعلتم ذلك أخبرتهم بما تريدون أن تفعلوا بهم فقالوا: وما الذي نصنع فقال أبو الجعيد اظهروا للعرب ما لكم من الزينة ومتاع الدنيا فإن متاع الدنيا وما فيها لا يصبر صاحبهما عنهما فإن طلبوهما بغدر فشأنكم وما تريدون قال فأقبل القوم على ما كانوا يقدرون عليه من المال والمتاع الحسن فاظهروه وصفوه في طريق المسلمين وشوارعهم فجعل المسلمون ينظرون إلى ذلك في دخولهم وخروجهم وهم يعجبون منهم ولم يمل أحد منهم إليه ولم يلمسه وهم يقولون الحمد لله الذي أورثنا ديار قوم مثل هذا ولو ساوت الدنيا عند الله جناح بعوضة لما سقي كافرا منها شربة ماء قال عوف بن سالم فوالله ما من المسلمين من جعل يده على شيء من متاعهم ولا لمسه فقال لهم أبو الجعيد: هؤلاء القوم الذين وصفهم الله في التوراة والإنجيل وإنهم لا يزالون على الحق ولا يقر بهم أحد ما داموا على ما هم عليه. قال الواقدي: واقام عمر في بيت المقدس عشرة ايام قال شهر بن حوشب سمعت كعب الأحبار يقول: أن عمر بن الخطاب لما صالح أهل بيت المقدس ودخلها أقام فيها عشرة أيام فاقبلت إليه وكنت في قرية من فلسطين وتقدمت إليه لأسلم عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 وأسلم على يديه وذلك أن ابي كان أعلم الناس بما أنزل الله على موسى بن عمران وانه كان لي محبا وعلي مشفقا ولم يكتم علي شيئا إلا أعلمني إياه مما كان يعلم الناس فلما حضرته الوفاة دعاني إليه وقال لي يا بني إنك تعلم إني ما ادخرت عنك شيئا مما كنت أعلمه لاني خشيت أن يخرج بعض هؤلاء الكاذبين وتتبعهم وقد جعلت هاتين المورقتين في هذه الكرة التي ترى فلا تتعرض لهما ولا تنظر فيهما إلى أن تسمع بخبر نبي يبعث في آخر الزمان اسمه محمد فإن يرد الله بك خيرا فأنت تتبعه ثم مات بعد وصيته اياي قال كعب فدفنته فما كان شيء أحب الي بعد انقضاء العزاء من النظر في الورقتين وقراءة ما فيهما ففتحهما فإذا فيهما لا إله إلا الله محمد رسول الله خاتم النبيين لا نبي بعده مولده بمكة ودار هجرته طيبة ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب أمته الحامدون الذين يحمدون الله على كل حال ألسنتهم رطبة بالتهليل والتكبير وهم منصورون على كل من عاداهم من أعدائهم أجمعين يغسلون وجوههم ويسترون اوساطهم أناجيلهم في صدورهم تراحمهم بينهم تراحم الأنبياء بين الأمم وهم أول من يدخل الجنة يوم القيامة من الأمم قال كعب الأحبار فلما قرأت ذلك. قلت في نفسي: وهل علمني أبي شيئا أعظم من هذا ثم مكثت بعد وفاة والدي ما شاء الله إلى أن بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم الموصوف قد ظهر بمكة وهو يظهر مرة بعد اخرى فقلت هو والله لا محالة ولم أزل أبحث عن أمره حتى قيل إنه خرج ونزل بيثرب فجعلت أترقب أمره حتى غزا غزوات ونصر على أعدائه فتجهزت أريد المسير إليه فبلغني إنه قد قبض صلى الله عليه وسلم وانقطع الوحي فقلت في نفسي لعله ليس الذي كنت أنتظره حتى رايت في منامي كان أبواب السماء قد فتحت والملائكة تنزل زمرة بعد زمرة وقائل يقول: قد قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وانقطع الوحي عن أهل الأرض فرجعت إلى دار قومي وجاءنا الخبر إنه تقدم امته خليفة اسمه أبو بكر فقلت أقدم عليه فلم البث حتى جاءتنا جنوده إلى الشام ثم جاءتنا وفاته ثم قيل إنه استخلف عليهم رجل اسمه عمر فقلت لا أدخل هذا الدين حتى أحققه ولم أزل متوقفا حتى قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه ببيت المقدس وصالح أهلها ونظرت إلى وفائهم بعهدهم وما صنع الله بأعدائهم وقلت إنهم أمة النبي الأمي فحدثت نفسي بالدخول في هذا الدين فوالله إني كنت ذات ليلة على سطحي وإذا أنا برجل من المسلمين يقول. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} [النساء:47] . قال كعب فلما سمعت هذه الآية خفت والله أن لا أصبح حتى يحول وجهي فما كان شيء أحب الي من الصباح أن يرد فلما أصبحت غدوت من منزلي وسألت عن عمر فقيل لي إنه ببيت المقدس فقصدت إليه وإذا به قد صلى بأصحابه صلاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 الفجر عند الصخرة فاقبلت إليه وسلمت عليه فرد علي السلام وقال لي من أنت فقلت له: أنا كعب الأحبار وانني جئت أريد الإسلام والدخول فيه فاني وجدت صفة محمد صلى الله عليه وسلم وأمته في الكتب المنزلة وأن الله عز وجل أوحى إلى موسى عليه السلام إني ما خلقت خلقا أكرم علي من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ولولاه ما خلقت جنة ولا نارا ولا سماء ولا ارضا وأمته خير الأمم ودينه خير الأديان بعثته آخر الزمان أمته مرحومة وهو نبي الرحمة وهو النبي الأمي التهامي القرشي الرحيم بالمؤمنين الشديد على الكافرين سريرته مثل علانيته وقوله لا يخالف فعله القريب والبعيد عنده سواء أصحابه متراحمون متواصلون فقال عمر أحقا ما تقول يا كعب قال: أي والله والله يسمع ما أقول ويعلم ما تخفي الصدور فقال عمر الحمد لله الذي أعزنا وأكرمنا وشرفنا ورحمنا برحمته التي وسعت كل شيء وهدانا بمحمد صلى الله عليه وسلم فهل لك يا كعب في الدخول في ديننا فقال كعب يا أمير المؤمنين في كتابكم الذي انزل إليكم في أمر دينكم ذكر أبراهيم فقال عمر نعم وقرأ: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ*أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:133] ثم قرأ: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً} [آل عمران: 67] ثم قرأ أفغير دين الله يبغون وله أسلم الآية ثم قرا: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] الآية ثم قرأ: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً} [الأنعام: 161] الآية ثم قرأ: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج: 78] الآية قال كعب فلما سمعت هذه الآيات قلت: يا أمير المؤمنين أن أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ففرح عمر باسلام كعب الأحبار ثم قال هل لك أن تسير معي إلى المدينة فنزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم وتتمتع بزيارته فقلت: نعم يا أمير المؤمنين أنا أفعل ذلك قال: وارتحل عمر بعد أن كتب لاهل بيت المقدس كتابا أي عهدا وأقرهم في بلدهم على الجزية وسار بمن معه من العساكر إلى الجابية فأقام بها ودون الدواوين وأخذ الخمس الذي لله مما أفاء الله على المسلمين ثم قسم الشام قسمين فأعطى أبا عبيدة من حوران إلى حلب وما يليها وأمره بالمسير إلى حلب وأن يقاتلوا أهلها إلى أن يفتحها الله على يديه وأعطى أرض فلسطين وارض القدس والساحل ليزيد بن ابي سفيان وجعل أبا عبيدة واليا عليه وأمر يزيد أن يحارب أهل قيسارية إلى أن يفتحها الله على يديه وكان قد اعطى أكثر الاجناد لابي عبيدة مع خالد وسير عمرو بن العاص إلى مصر واستعمل على قضاء حمص عمرو بن سعيد الأنصاري ثم سار عمر رضي الله عنه يريد مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم وأخذ كعب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 الأحبار معه وكان أهل المدينة يظنون أن عمر يقيم بالشام لما يرون من كثرة خيرها وطيب فواكهها ورخص أسعارها ولما يخبرون عنها إنها بلاد الأنبياء وهي الأرض المقدسة وفيها المحشر فبقى الناس يتطاولون نحوه ويخرجون في كل يوم ينظرونه حتى قدم عمر رضي الله عنه فارتجت المدينة يوم قدومه واستبشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه برؤيته وسلموا ورحبوا به وهنئوه بما فتح الله على يديه فأول ما بدأ بالمسجد سلم على قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى ابي بكر الصديق رضي الله عنه ثم صلى ركعتين وعاد بكعب الأحبار وقال حدث المسلمين بما رايت في الوقتين فازداد الناس إيمانا. قال أبو عبد الله محمد بن عمر الواقدي حدثنا أحمد بن الحسين بن العباس المعروف بأبي سفيان النحوي قال حدثنا أبو جعفر بن أحمد بن عبيد الناسخ قال حدثني عبد الله بن أسلم الزهري وعبد الله بن يحيى الزرقي عمن حدثه ممن تقدم ذكرهم واسماؤهم أول الكتاب وحديث القوم قريب بعضه من بعض والله يعيذنا من الزيادة والنقصان لأن الصدق أمانة والكذب خيانة والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة ما اعتمدت في خبر هذه الفتوح إلا على الصدق وما حدثت حديثه إلا على قاعدة الحق لاثبت فضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهادهم حتى أرغم بذلك أهل الرفض الخارجين على أهل السنة إذ لولاهم بمشيئتة الله تعالى لم تكن البلاد للمسلمين وما انتشر علم هذا الدين فلله درهم لقد جاهدوا في الله حق جهاده لا جرم وقد قال فيهم الملك المقتدر: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} [الأحزاب: 23] . قال الواقدي: وذلك إنه لما بعث عمر بن الخطاب أبا عبيدة رجعله أمير الشام وأمره بالمسير إلى حلب وانطاكية والمفرق وما يليهم من الحصون بعث عمرو بن العاص إلى مصر ويزيد بن أبي سفيان إلى ساحل الشام فنزلوا قيسارية وهي آهلة بالخلق كثيرة الجند وكان عليها قسطنطين إلى أن نزل يزيد وقسطنطين هذا ابن الملك هرقل وكان معه ثمانون ألف من الروم والعرب المتنصرة والروسية فلما نظر قسطنطين إلى نزول يزيد بن أبي سفيان عليه بعث إلى ابيه يستنجده فبعث إليه هرقل بصاحب مرعش وعشرين ألفا من أبطال الروسية وأنفذ له المراكب بالزاد والعلوفة فلما نظر يزيد إلى ذلك وأن لا قدرة له على ذلك كتب إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يقول: بسم الله الرحمن الرحيم من يزيد بن أبي سفيان العامل على بعض الشام إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه إني نازلت أهل قيسارية وهي مدينة آهلة بالخلق كثيرة الجند وليس إليها سبيل وأن قسطنطين قد استنجد بأبيه وقد انجده بصاحب مرعش وعشرين ألفا والمراكب ترد عليه كل يوم بالعلوفة والزاد واريد النجدة والسلام وبعث الكتاب مع عمرو بن سالم بن حميد النخعي فلما ورد المدينة وسلم الكتاب إلى عمر بن الخطاب قال عمر من أين هذا الكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 قال من عاملك يزيد بن أبي سفيان فقرأه فلما أتى على آخره تفكر في أمر يزيد وما وقع له حتى دخل عليه علي بن ابي طالب كرم الله وجهه فأراه كتاب يزيد من قيسارية الشام يطلب من نجدة فقال علي لا تغتم على المسلمين فإن الله يفتحها على يديك رغما فأنجد يزيد وانفذ إليه الكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 ذكر فتح مدينة حلب وقلاعها قال الواقدي: كان مع ابي عبيدة عشرون ألفا ومع يزيد وعمرو بن العاص عشرة آلاف. قال الواقدي: فلما وصل كتاب عمر إلى أبي عبيدة أنفذ إلى يزيد ثلاثة آلاف فارس مع حرب بن عدي وبقي أبو عبيدة في سبعة عشر ألفا وأكثرهم من اليمن وكان أبو عبيدة قد صالح أهل قنسرين والعواصم على خمسة عشر ألف مثقال من الذهب ومثلها من فضة والف ثوب من اصناف الديباج وخمسمائة وسق من التين والزيت فلما تم الصلح وجاءوا بما ضمنوه من مدينتهم كتب لهم كتاب وشرط فيه الشروط ودخل أبو عبيدة وخالد في رجال من المؤمنين وسادات المسلمين فحطوا بها مسجدا فبلغ ذلك أهل حلب من الصلح لقنسرين ومسير العرب فاضطربوا اضطرابا شديدا وكان عليهم رئيسان أخوان لاب وأم وكانا يسكنان في القلعة ولم تكن القلعة محيطة بالمدينة بل كانت المدينة منفردة بذاتها وكان البطريقان يقال لأحدهما: يوقنا والآخر يوحنا وكان أبوهما ملك البلد وأعماله وضياعه ورساتيقه إلى حدود الضروب والى حدود الفرات وقد ملك حلب سنين لا ينازعه فيها منازع وكان هرقل طاغية الروم يهابه ويوقره ولا يحاربه كل ذلك لبقاء ملكهم واجتماع كلمتهم لانه كان قد انتزع من رومية إلى أقصى البلاد لئلا يجيش عليه أحد جيشا ولا ينازعه في ملكه لكثرة شره وتدبيره وشدة بني عمه فلما نزل بالعواصم استخلص لنفسه قلعة حلب وبناها وحصنها ومكن في البلاد فلما هلك آل الأمر بعده لولده يوقنا وكان الكبير وكان شجاعا بطلا جامعا للأموال مقداما للحروب لا يصطلي له بنار ولا يدفع شره وكان أخوه يوحنا دينا قد نزع يده من الرياسة وترهب وكان أعلم الناس في أهل زمانه وانه لما بلغهم الخبر أن أبا عبيدة قد قصد إليهم قال لأخيه: يوقنا على ماذا عولت قال على قتال العرب ولا أدعهم يقربون من أرضنا وبلادنا حتى يرى العرب إني لست كمن لقوا من بطارقة الشام ولا من غيرها وكان يوحنا قد درس الإنجيل وقرأ المزامير وليس له همة إلا عمارة الكنائس والأديرة وتشييد المواضع وكثرة الشمامسة والقسوس والرهبان والقيام بأمورهم فلما بلغ هذين الأخوين فتح العواصم عنوة وقنسرين صلحا وأن العرب نازلون عليها وأن خيلهم تضرب إلى الفرات والعواصم والبقاع فأقبل يوحنا على أخيه الأكبر يوقنا وقال: يا أخي أريد أن أختلي بك الليلة واشاورك وأطلعك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 على سري ورأيي وأشرف على سرك ورأيك قال: نعم فلما اجتمعا في الليل في دار كانت لأبيهما في القلعة وجلسا للمشورة أقبل يوقنا على أخيه يوحنا وقال: يا أخي إلا ترى ما نزل بنا من العرب الجياع الأكباد العراة الأجساد وما حل بأهل الشام منهم من القتل والنهب وأخذ الأموال وإنهم لا ينزلون مدينة من مدن الشام إلا فتحوها وملكوا أهلها فما ترى أن تصنع في أمر هؤلاء فكأني بهم وقد اشرفوا علينا. قال الواقدي: فقال يوحنا يا اخي إذ قد استشرتني في أمرك فاني أنصحك ولا أغشك إذا قبلت النصيحة وأن كنت أصغر منك سنا فاني أعلم منك بصيرة فوحق المسيح والقربان لئن قبلت مشورتي ليعلون أمرك ويسلم لك مالك ونفسك فقال يوقنا يا أخي ما علمتك إلا ناصحا فما عندك من الرأي فقال الرأي عندي أن ترسل رسولا إلى العرب وتبذل لهم ما شاءوا وتسألهم الصلح وتتفق معهم على معلوم يدفع لهم في كل عام ما دامت الغلبة لهم فلما سمع يوقنا ذلك من كلام أخيه يوحنا اقبل عليه وقد استوثق منه الغضب وقال قبحك المسيح ما أعجز رايك ما ولدتك أمك إلا راهبا أو قسيسا ولم أقلدك لا ملكا ولا محاربا ولا مقاتلا والرهبان ليس لهم قلوب لاكلهم العدس والزيت والبقل ولا يأكلون اللحم ولا يعرفون النعيم وليس لهم بالقتال بصيرة ولا بملاقاة الرجال خبرة وأما أنا فملك ابن ملك وليس بيني وبينهم إلا الحرب ولا ترى الملوك العجز ويلك كيف نسلم ملكنا العرب ونعطيهم القياد من أنفسنا من غير حرب ولا قتال قال فلما سمع يوحنا ذلك من أخيه تبسم من كلامه وتعجب كل العجب وقال: يا أخي وحق المسيح أن أجلك قد اقترب لانك صاحب بغي تحب سفك الدماء وقتل النفس وما أظن جموعك أكثر من جموع الملك هرقل التي جمعها باليرموك مع ماهان ويوم أجنادين وهؤلاء القوم قد ايدهم الله علينا فاتق الله ولا تسع في قتل نفسك فلما سمع يوقنا كلام أخيه داخله الغضب وقال له: قد أكثرت وأطلت في مدحك العرب وإني لست كمن لا قوه من هذه الجموع التي ذكرتها ولا أقاس بهم ومع ذلك اعلم أن كل من ذكرت من أهل المدن وغيرها أسلم بلده عنوة أو صلحا قبل أن يقاتل بلا عذر في القتال ويبذل المجهود عن نفسه وإنما جمعت الأموال من قبل إلى الآن لادفع بها الأذى عن نفسي وإني مجمع على قتال العرب ومحاربتهم فإن أظفرني الصليب بهم وأعانني المسيح عليهم طلبت العرب إلى أن أدخل خلفهم الحجاز وأسود على سائر الملوك وأرجع إلى الشام ملكا فلا يقدر هرقل أن ينازعني وأن هزمتني العرب طلعت إلى قلعتي هذه ولزمتها فاني قد عبيت فيها من الزاد والأطعمة ما يكفيني طول دهري وأكون فيها عزيزا إلى أن أموت ولا ألقي يدي إلى العرب ولا ابذل أموالي من غير طلب فلا تعارضني في شيء من أمر العرب ولا تدعني إلى الصلح وإلا بطشت بك قبلهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 قال الواقدي: واحتوى الشيطان على قلب يوقنا وقد سولت له نفسه العمل فلما سمع يوحنا من أخيه يوقنا هذا المقال قال له: كلامك علي حرام أبدا حتى ترجع إلى رأيي ونعود إلى قولي ثم قام عنه مغضبا فلما كان من الغد جمع يوقنا إليه جميع من التجأ إليه من العسكر من الأرمن والمتنصرة وغيرهم وعرضهم على نفسه فمن أراد سلاحا أعطاه وفرق فيهم الأموال وجعل يهون العرب عليهم ويقول: انما هم قليل ونحن أكثر منهم لأن جموعهم قد تفرقت منها جماعة على قيسارية ومنهم من توجه إلى مصر. قال الواقدي: وعزم على قتال ابي عبيدة قبل أن يصل إليه والى بلده ثم عمد إلى بطريق من بطارقته يقال له كراكس وضم إليه ألف فارس ووكله بحفظ بلده وسار يوقنا بمن معه يريد أن يلقي جيش ابي عبيدة والمسلمين هو وقومه في اثني عشر ألف مدرع غير من كان معه بغير درع ونشرت أمامه الأعلام والصلبان وكان فيها صليب من الذهب والجوهر ومن حوله ألف غلام عليهم ثياب الديباج المنسوج بالذهب قال ابن ثعلبة الكندي فأقام أبو عبيدة على مدينة قنسرين بعد أن فتحها بالصلح وبعد أن أتاه يزيد بكتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأمره أن يبعث إلى يزيد بن أبي سفيان طائفة من جيشه فبعث له بثلاثة آلاف فارس لابسين السلاح الكامل وعول أبو عبيدة على المسير إلى حلب فدعا برجل من بني ضمرة وكان بطلا مجربا بشدة البأس وكان إذا ثبت على وجه الأرض للقتال لا يهاب الجحافل قلت: او كثرت فضم إليه ألف فارس وسيره على مقدمته وقال: يا كعب لا تقاتل جيشا لا تطيقه واختبر أمر هذا العلج واعرف خبره وأنا راحل من ورائك فسار كعب بن ضمرة يريد حلب وكان يوقنا قدم أمامه عيونا يأتون بالأخبار فأتته جواسيسه يخبرونه أن خيول العرب قد أتت تريد بلده وقتاله فقال لهم: في كم أتت العرب قالوا: في ألف فارس وهم على ستة أميال من بلدك نزول قال فكمن يوقنا كمينا ثم سار إليهم بجيوشه وبطارقته فلما أشرف عليهم وهم نزول على نهر يسقون خيلهم ويتوضئون فبينما هم كذلك إذ أشرف عليهم يوقنا بجيوشه وبطارقته والصليب أمامه فنادى المسلمون بعضهم بعضا واستووا على متون خيولهم وورد كعب بن ضمرة على فرسه وسبق في أول الخيل وأشرف على جيش يوقنا فحزره إنه في خمسة آلاف فارس وكان يوقنا قد قسم عسكره شطرين النصف معه والنصف مع الكمين فلما نظر كعب إلى يوقنا وجيشه انقلب إلى أصحابه وقال: يا أنصار دين الله إني نظرت عسكر عدوكم وحزرته فهو في خمسة آلاف وهم لكم مغنم ويقاتل الواحد منكم خمسة قالوا: بلى والله واقبل أصحابه يشجع بعضهم بعضا فقربت الفئة من الفئة وصاح يوقنا بأصحابه ورجاله وغلمانه وعبيده وبطارقته وأمرهم بالحملة على المسلمين فحملوا بأجمعهم حملة صعبة وحمل عليهم المسلمون والتقى الجمعان واشتبك الحرب وقاتل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 الجمعان قتال الموت وقد أيقن المسلمون بالظفر والغنيمة فطلع عليهم الكمين من ورائهم واكبوا عليهم جميعا. قال مسعود بن عون العجي شهدت الخيل التي بعثها أبو عبيدة طلائع مع كعب بن ضمرة وكنت فيها يوم التقى الجمعان وقد خرج علينا الكمين ونحن في القتال ونحن لا نظن أن لهم كمينا يطلع من ورائنا وإذا بأصوات حوافر الخيل أكبت علينا وأيقنا بالهلكة بعدما كنا موقنين بالغلبة وصرنا في وسط عسكر الكفار فلم يكن لنا بد من القتال فافترقت المسلمون ثلاث فرق فرقة منهم منهزمة وفرقة قصدت قتال الكمين وفرقة مع كعب بن ضمرة قصدت قتال يوقنا ومن معه قال مسعود بن عون فلله در كندة يؤمئذ لقد قاتلوا قتالا شديدا وأبلوا بلاء حسنا ووهبوا أنفسهم لله تعالى حتى قتل منهم ذلك اليوم مائة رجل في مقام واحد وعمل أهل الكمين عملا عظيما وكعب بن ضمرة قلق على المسلمين فجاهد عنهم وهو يجول بالراية وينادي يا محمد يا محمد يا نصر الله انزل معاشر المسلمين اثبتوا انما هي ساعة ويأتي النصر وأنتم الأعلون فاجتمع المسلمون عليه والجراح فيهم فاشية وقتل من المسلمين مائة وسبعون رجلا من الأعيان منهم عباد بن عاصم النخعي وزفر بن أم راضي وحازم ابن شهاب المقري وسهل بن اشيم ورفاعة بن محصن وغانم بن برد وسهيل بن مفلج وكان ممن شهد يوم السلاسل وتبوك بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهد قتال اليمامة مع خالد بن الوليد قال مسعود بن عون والله لقد تأسفنا على قتله ووجدنا فيه أربعين ضربة كلها في مقدمه رضي الله عنه ولم نجد واحدة في ظهره وكان الأعيان أربعين رجلا لأن الرجل منا ما قتل حتى قتل عددا من المشركين فلما نظروا إلى ثبات المسلمين مع قلتهم وما هالهم ممن قتل منهم هم المشركون أن ينهزموا فثبتهم يوقنا وقال: ويلكم ما العرب إلا مثل الذئاب أن صدمت ولت وأن تركت طمعت ولما نظر كعب بن ضمرة إلى من قتل تحت رايته أغتم لذلك غما شديدا فنزل عن فرسه ولبس درعا من فوق درعه وشد وسطه بمنطقة ومسح وجه فرسه ومنخره وقبله بين عينيه وكان قد شهد معه المواطن وجاهد معه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قد سماه الهطال فقال: يا هطال هذا يومك المحمود عاقتبه فاثبت للقتال في طاعة الله ولما استوى على متنه وقف أمام المسلمين وجعل ينظر إلى القتلى وهو متفكر في امره والراية بيده وهو ينتظر من ابي عبيدة جيشا يقبل عليه أو طليعة تنجده فلم ير لذلك أثرا. وذلك أن أبا عبيدة ما قطعه من المسير إليه إلا قدوم أهل حلب عليه وذلك إنه لما سار يوقنا إلى حرب المسلمين اجتمع مشايخ أهل حلب والروسية بعضهم إلى بعض وقالوا: يا قوم تعلمون أن هؤلاء العرب قد أطاعهم أهل دين النصرانية والصليب ودخلوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 في دينهم ومنهم من رجع إلى دينهم ومنهم من قاتلهم فأما الذي فاتلهم فخسر فهل لكم أن تسيروا إلى أمير المؤمنين ونسأله الصلح ونصالح عن مدينتنا وندفع إليه ما أحب من أموالنا فإن ظفر المسلمون بالبطريق يوقنا نكن نحن آمنين غير وجلين منهم ونقر عينا من بأسهم وأن صالح يوقنا القوم نكن نحن قد سبقناه إلى الصلح وأن غلب ورجع سالما لم نبلغه ولم نعلمه واستوى رايهم على ذلك فخرج منهم ثلاثون رجلا من رؤسائهم وسلكوا طريقا غير طريق يوقنا حتى اشرفوا على عسكر المسلمين فنادوا الغوث الغوث وكان العرب قد علمت أن الغوث بالرومية هو الأمان وقال لهم الأمير: فمن سمعتموه يقولها فلا تعجلوا عليه بالقتل لئلا يطالبكم الله يوم القيامة وعمر بريء منه فكان العرب يعرفونها فلما سمع المسلمون منهم ذلك أسرعوا إليهم واوقفوهم بين يدي أبي عبيدة فقال خالد: يوشك أن هؤلاء يطلبون الصلح والأمان لأنفسهم وهم أهل حلب قال أبو عبيدة: أرجو ذلك أن شاء الله تعالى وأن صالحوني صالحتهم وهو لا يعلم ما أصابه من الحرب الشديد والقتل العتيد وكان قدومهم عليه ليلا والنيران تضرم بين يديه وكان في العسكر رجال قيام في صلاتهم يتلون القرآن فجعل بعضهم يقول لبعض: بهذه الفعال ينصرون علينا فلما سمع الترجمان مقالهم أخبر أبا عبيدة بما قد تناجوا بينهم فقال أبو عبيدة: أنا قوم قد سبقت لنا العناية من ربنا وأنا رجال لا نريد من الله ورسوله بدلا ولن نجزع من قتال الأعداء فأخبرهم الترجمان بذلك ثم قال لهم: من أنتم قالوا: نحن سكان حلب من تجارها وسوقتها ورؤسائها وقد جئنا نطلب منكم الصلح فقال أبو عبيدة: فكيف نصالحكم وقد بلغنا أن بطريقكم قد صمم على قتالنا وقد حصن قلعته وجعل فيها ما يقوته سنين واتخذ الجند وأكثر من ذلك وما لكم عندنا صلح فقالوا: أيها الأمير أن صاحبنا قد خرج من عندنا يريد حربكم وقتالكم قال أبو عبيدة: ومتى خرج قالوا: خرج سحر ونحن من بعده وسلكنا طريقا غير طريقه وأنا نرجوا إنه هالك لا محالة لانه ركب البغي ولم يرض بالصلح وقد أطاع هواه فقد وقع في شرك الردى فلما سمع أبو عبيدة بخروج البطريق خاف على طليعته منه فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم هلك والله كعب ومن معه أنا لله وأنا إليه راجعون ثم اطرق إلى الأرض فقالوا: لبعض مشايخ أهل حلب كلم لنا الأمير في الصلح قال فكلمه فقال أبو عبيدة: بضجر لا صلح لكم عندنا قال فخاف الشيوخ على أنفسهم وقالوا: أنا قد اجتمع عندنا من القرى والرساتيق خلق كثير فإن صالحتمونا عمرنا لكم الأرض وكنا لكم عونا على عمارتها وعشنا في ظلكم ايام عدلكم وأن أنتم أبيتم ذلك فر الناس عنكم وطلبوا أقصى البلاد وشاع الخبر عنكم إنكم لا تصالحون فلا يبقى حولكم أحد قال فأعلمه الترجمان بما قالوا: فجعل ينظر إليهم وإذا قد برز من القوم وصاح رجل احمر الوجه وكان من حكماء الروم فصيحا بلسان عربي فقال: أيها الأمير اسمع ما ألقيه إليك من العلم الذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 أنزل الله في الصحف على الأنبياء قال أبو عبيدة: قل: لنسمع فإن كان حقا علمناه وأن كان غير حق لا نسمعه ولا نعمل به وكان اسمه دحداح فقال: أيها الأمير أن الله سبحانه وتعالى أنزل على انبيائه يقول: أنا الرب الرحيم خلقت الرحمة وأسكنتها في قلوب المؤمنين وإني لا أرحم من لا يرحم من أحسن أحسنت إليه ومن تجاوز تجاوزت عنه ومن عفا عفوت عنه ومن طلبني وجدني ومن أغاث ملهوفا أمنته يوم القيامه وبسطت له في رزقه وباركت له في عمره وأكترث له أهله ونصرته على عدوه ومن شكر المحسن على احسانه فقد شكرني وأنا قد أتيناك ملهوفين خائفين فأقل عثراتنا وآمن روعاتنا وأحسن إلينا. قال فبكى أبو عبيدة من قوله وقرأ: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195] ثم قال اللهم صل على محمد وعلى جميع الأنبياء فبهذا والله أرسل نبينا أرسله الله إلى جميع الخلق والحمد لله على هدايته لنا ثم أقبل على المسلمين وهم حوله وفيهم الرؤساء من المهاجرين والأنصار وقال لهم: الحمد لله على هدايته ثم قال أن هؤلاء أهل متجر وسوقة وضياع وهم مستضعفون وقد رأينا أن نحسن إليهم ونصالحهم ونطيب قلوبهم ومتى كانت المدينة في أيدينا والسوقة معنا فانهم يميروننا بالعلوفة ويعلموننا بما يعزم عليه عدونا ويكونون عونا لنا عليه فقال رجل من المسلمين أصلح الله الأمير أن مدنية القوم بالقرب من القلعة ولا نأمن أن القوم يدلون على عوراتنا ويخبرون بأحوالنا وما أنى القوم ليخدعونا إلا ترى إلى بطريقهم وقد خرج يبغي قتالنا وحربنا فكيف يطلب هؤلاء الصلح منا ولا شك إنهم مكروا بكعب بن ضمرة ومن معه من المسلمين فقال أبو عبيدة: أحسن ظنك بالله وثق بالله فإن الله ينصرنا ولا يسلط علينا عدونا فرحم الله من قال خيرا أو صمت وإذا أشرط عليهم النصيحة في صلحهم للمسلمين ثم اقبل على القوم وقال إني أريد أن تبذلوا في صلحكم ما بذله أهل قنسرين 2 فقالوا: أيها الأمير أن قنسرين اقدم من مدينتنا وأكثر جمعا ومدينتنا خالية من السكان لجور صاحبنا لانه قد أخذ أموالنا وغلاتنا وأصعد الكل إلى قلعته وما بقي عندنا إلا الضعفاء ومن لا ماله له وأنا نسألك الترفق بنا والعدل فينا والأحسان إلينا فقال أبو عبيدة: فما الذي تريدون أن تبذلوا في صلحكم قالوا: نعطي نصف ما أعطى أهل قنسرين فقال أبو عبيدة: قد قبلت منكم ذلك على أننا إذا نزلنا بصاحبكم اعنتمونا بالميرة والعلوفة وتبيعون وتشترون في عسكرنا ولا تكتموا عنا خبرا تكونون تعلمونه من أعدائنا ولا تتركوا جاسوسا يتجسس علينا وأن رجع إليكم بطريقكم منهزما تمنعوه أن يصل إلى القلعة فقالوا: أيها الأمير أما قولك هذا أن نمنع البطريق أن لا يصعد إلى القلعة فما نجد إلى ذلك من سبيل ولا نقول لك ما لا نفعله ما لنا به طاقة ولا بمن معه من أعوانه وجندوه قال أبو عبيدة: فلا تمنعوه من الصعود إلى القلعة وعليكم عهد الله وميثاقه والإيمان المؤكدة الغليظة أن لا تقولوا: هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 القول وأن توفوا لنا كل شرط تم عليكم ثم حلفهم بالإيمان التي يعرفونها فحلف القوم عن آخرهم وصالحوا عن رجالهم ودوابهم وابنائهم ونسائهم وعبيدهم وسائر أهاليهم وانتهوا على ذلك فقال أبو عبيدة: إنكم قد حلفتم وقد قبلنا قولكم وايمانكم فإن أصبنا أحدا قد اخلف أو علم من البطريق علما ولم يعلمنا به فقد وجب عليه القتل واخذ ماله وولده حلال لنا لا يطلبنا الله بذمته ومتى نقضتم ما شرطنا عليكم فلا عهد لكم عندنا ولا ذمة لكم علينا ولنا عليكم الجزية في العام المقبل قال سعيد بن عامر التنوفي: فرضي أهل حلب بما شرطه عليهم أبو عبيدة وأخذوا عهدهم وكتب أسماءهم وعزم القوم على الانصراف إلى ديارهم وقال لهم أبو عبيدة: على رسلكم حتى أبعث معكم من يسير معكم إلى مأمنكم فقد وجب علينا حفظكم إلى أن تعودوا سالمين إلى بلدكم فقال له الدحداح: أيها الأمير اننا نرجع من الطريق الذي جئنا منه وما نريد أحدا يسير معنا فتركهم أبو عبيدة وبات بقية ليلته قلقا على كعب بن ضمرة ومن معه. قال الواقدي: ورجع القوم من ليلتهم إلى حلب وانفجر الصبح ولم يصلوا فلما أشرفوا على حلب نظر إليهم بعض أعلاج البطريق وهم راجعون فأقبل إليهم وسألهم من أين أقبلتم وما صنعتم فظنوا إنه من أهل حلب فأخبروه بصلحهم مع أبي عبيدة فتركهم ومضى وأن القوم استقبلهم أهل حلب فسالوهم فأخبروهم بالصلح ففرحوا بذلك واقبل العلج حتى اشرف على عسكر يوقنا وهو نازل على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أحاط بهم وهو يظن إنه قد ملكهم وهو يتوقع الصباح إذ أتى عليه العلج فقال له: أيها البطريق إنك غافل عما نزل بك ودهمك قال له: وما ذاك يا ويلك قال له: إن أهل بلدك قد صالحوا العرب وكأنك بهم وقد ملكوا القلعة وأخذوا الأموال والنسوان فلما سمع يوقنا ما أخبر به العلج خشي على قلعته أن يملكوها في غيبته فانعكس عليه ما كان يؤمل أن يفوز به من الظفر بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قد قتل من المسلمين نيف وعن المائتين وكعب قد اجهد نفسه في الحرب وايقنوا إنهم هالكون لا محالة قال كعب بن ضمرة وكنت ذلك اليوم صاحب القوم وأنا أثبتهم في الحرب والى الحرب أنهضهم بهمتي وأدفع عنهم بمهجتي فإذا أجحفني القتال وركبني الحرب التجأت إلى أصحابي وأنا مع ذلك أتوقع فرجا من الله تعالى واترقب راية أبي عبيدة أن تطلع فبعد علينا ذلك ولم تزل الحرب بيننا يوما وليلة إلى الصباح من اليوم الثاني فأقسم بالله أن كان أحدنا ليصلي ولا حصل له زاد يأكله ولا ماء يشربه وأنا بين اليأس والرجاء أترقب طريق قنسرين أن تطلع منه علينا راية الإسلام فما أرى لها أثرا فرايت عند الصباح جيش العدو وقد اضطرب من جوانبه وقد علت لهم ضجة عظيمة من جميع جوانبه فقلت: ما هذا إلا مدد لحقهم من البلد أو من الملك فالتجأت إلى كلمة الشدائد وهي لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم قال كعب بن ضمرة فوعيش رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قلت: الكلمة حتى رأيت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 جيش العدو وقد إنكشف عنا على عقبة فقلت: الحمد لله حمد الشاكرين وإني أظن أن صائحا صاح بهم من السماء فبددهم أو ملائكة نزلت عليهم كيوم بدر فلم ار لهم أثرا قال كعب فهممت أن اتبعهم فصاح المسلمون إلى اين يا كعب أما كفاك ما نحن فيه انزل بنا إلى الأرض وارض بما نحن فيه من التعب والنصب ونؤدي فرضنا ونريح خيولنا فما رد الله هؤلاء القوم إلا بمشيئته وقدرته قال فنزل كعب وشربوا الماء واسبغوا الوضوء وصلوا ما فاتهم وأكلوا زادهم واستقبلوا الراحة. قال الواقدي: وابطأ خبر كعب على أبي عبيدة فلما صلى الصبح انفتل من صلاته وأقبل على المسلمين وخاطب من بينهم خالدا وقال: يا أبا سليمان أن أخاك أبا عبيدة ما رقد الليلة غما وانه كان يجب علينا الشكر بما فتح الله علينا وأن نفسي تحدثني بأن الذين مع كعب ابن ضمرة قد قتلوا لما أخبرني هؤلاء الذين يسالون الصلح أن صاحبهم يوقنا قد سار إليهم ولم أر أثرا وأظن إنه صادف أصحابنا وقتلهم وأفناهم عن آخرهم فقال خالد: والله إني ما نمت مثلك من الغم عليهم فما الذي عزمت أن تصنع قال الرحيل ثم أمر الناس بالرحيل وارتحلوا وساروا يريدون حلب وعلى المقدمة خالد بن الوليد وعلى الساقة أبو عبيدة فما كان غير بعيد حتى أشرف على المسلمين خالد بن الوليد وهم نيام وقد اقاموا لهم من الديدبان من يحرسهم فلما أشرف عليهم خالد والراية في يده رفعها فوق راسه فلما رآها الديدبان صاح النفير يا أنصار الدين فثاروا عن مضاجعهم كأنهم أسد ثائرة واستووا في متون خيولهم واستقبلوا صاحب الراية فعرفوه فصاح بعضهم ببعض هذه والله راية الإسلام والمسلمين فنزل خالد وسلم عليهم واتصلت بهم الساقة واقبل أبو عبيدة فلما نظر كعب بن ضمرة حمدالله وأثنى عليه ونظر إلى موضع القتلى مطروحين وما كان من المسلمين ورأوهم فلما نظروا إلى ذلك عاد فرحهم ترحا واسترجعوا وقالوا: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم أنا لله وأنا إليه راجعون وسأل كعبا كيف قتل أصحابك هؤلاء ومن قتلهم فأخبره كعب بقتال يوقنا وانه أشرف هو وقومه ومن كان معه على الهلاك حتى لم يبق فيهم حركة ونمنا ليلتنا هذه فلما أصبحنا وإذا هم قد صاحوا وانقلبوا راجعين عنا من غير قتال فقال أبو عبيدة: فسبحان مسبب الاسباب ليت أبا عبيدة قتل أمامهم ولم يقتلوا تحت رايته ثم أمر بدفن المسلمين بعدما جمعهم زمرا زمرا وصلى عليهم ودفنوهم باسلابهم ودمائهم ثم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يحشر الله الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله يوم القيامة ودماؤهم على أجسادهم اللون لون الدم والريح ريح المسك والنور يتلألا عليهم ويدخلون الجنة" فلما واروهم في حفرهم قال لخالد أن كان عدو الله يوقنا رجع إلى القوم وعلم بصلحهم لنا فيلقون منه تعبا عظيما فألحق بهم فقد وجب علينا أن نذب عنهم لانهم تحت ذمتنا وارتحل أبو عبيدة يريد حلب فلما وصل إليها رأى البطريق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 وجنوده قد أحدقوا بأهل البلد وهم يريدون قتلهم ويقال لهم: يا ويلكم صالحتم العرب عن أنفسكم وصرتم عونا لهم علينا قالوا: قد فعلنا ذلك وإنهم قوم منصورون فقال: يا ويلكم أن المسيح لا يرضى بفعلكم فوحق المسيح لاقتلنكم عن آخركم أو تخرجون معي إلى قتالهم وتنقضون ما بينكم وبينهم من العهد والميثاق فأخبروني بمن بدأ بهذا الأمر حتى أبدا به قال فلم يطيعوه على ذلك فقال لعبيده ادخلوا عليهم وأئتوني بهم لاقتلنهم فقد اخبرني فلان إنه لقيهم وعرفني بهم فهجم العبيد عليهم وجعلوا يقتلونهم على فرشهم وأبواب منازلهم فسمع أخوه يوحنا الضجة في البلد وهم في القلعة فنظر إلى أخيه وهو يقتل في الناس وقد قتل من أهل البلد ثلثمائة فصاح بهم وبأخيه على رسلك لا تفعل فإن المسيح يغضب عليك وقد نهانا أن نقتل عدونا فكيف بمن هو على ديننا فقال يوقنا لاخيه إنهم صالحوا العرب عن البلد وصاروا لهم عونا علينا فقال يوحنا وحق المسيح لا ابقت عليك العرب أبدا وأن لهم من يقتص منك. قال: ومن يقتص مني قال المسيح يقتلك كما قتلتهم بغير ذنب فقال يوقنا أنت حملتهم على ذلك وأنت أول من أبطش به ثم عمد إلى أخيه وقبض عليه وجرد سيفه ليعلوه به فلما نظر يوحنا إلى أخيه وقد جرد سيفه وعلم إنه هالك رفع رأسه إلى السماء وقال اللهم أشهد على إني مسلم وإني مخالف لدين هؤلاء القوم وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ثم قال لأخيه: اصنع ما أنت صانع فإن كنت قاتلي فاني صائر إلى جنات النعيم فورد على يوقنا من اسلام اخيه مورد عظيم ومن أهل بلده ومن فزعه من المسلمين فحمله الغيظ على أن يرمي براس أخيه عن جسده والتفت إلى أهل البلد فوجدهم يستغيثون فلا يغاثون ويسألونه فلا يجيبهم ولا يكف عنهم فكثر منهم الضجيج وعلت الجلبة وقد أخذوا عليهم البلد من سائر جوانبها وقد أيس أهل حلب من نفوسهم وإذا بالفرج وقد أتى والمعونة وقد ادركتهم واشرفت عليهم رايات المسلمين وأبطال الموحدين وهم ينادون بكلمة التوحيد ويقدمهم خالد بن الوليد فلما نظر خالد إلى أهل حلب ولهم ضجيج بالصياح والبكاء قال لابي عبيدة: أيها الأمير هلك والله أهل صلحك وذمامك كما ذكرت فصاح بجواده وحملة الراية وزعق في القوم وقال افرجوا معاشر الأعلاج عن أهل صلحنا ثم أجاد فيهم الطعن وحمل المسلمون معه وبذلوا السيف في الأعلاج فلما نظر يوقنا إلى ذلك انهزم إلى القلعة ومعه بطارقته قال محصن بن عترة فرج الله عن أهل البلد بقتل الأعلاج يوم حلب في البلد فمن لجأ إلى القلعة سلم ومن طلب الهرب قتلناه قال محصن فكان جملة من قتل يوقنا من أهل صلحنا ثلثمائة وقتلنا نحن من أصحابه ثلاثة آلاف او يزيدون فكانت وقعة عجيبة ففرح المسلمون بها فلما قتل من قتل وفرج الله عن أهل حلب ما يجدون اخبروا أبا عبيدة كيف قتل يوقنا أخاه يوحنا وبالقصة جميعها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 قال الواقدي: فلما سمع يوقنا سيوف المسلمين صعد القلعة هو ومن معه من جنده واستعد للحصار ونصب المجانيق ونشر السلاح على الاسوار وكثر آلة الحصار وأما أهل حلب فانهم أخرجوا لعساكر المسلمين أربعين أسيرا من البطارقة فقال لهم أبو عبيدة: لأي سبب أسرتم هؤلاء قالوا: لانهم من أصحاب يوقنا هربوا إلينا فلم نر أن نخفيهم منك لانهم ليسوا منا ولا معنا في الصلح قال فعرض عليهم الإسلام فأسلم منهم سبعة وأما الباقون فابوا فضرب رقابهم وقال لهم: لقد نصحتم في صلحكم وسترون منا ما يسركم وصار لكم ما لنا وعليكم ما علينا وهذا بطريقكم قد تحصن في هذه القلعة فهل تعرفون لها عورة تدلونا عليها حتى نقاتلهم منها فإن فتحها الله 8 علينا جعلناها لكم غنيمة مع ما غنمتم من قومكم حتى نكافئكم بفعلكم الجميل فقالوا: أيها الأمير والله ما نعرف لها عورة وأن يوقنا قد شحن طرقاتها وقطع مسالكها ووعر فجاجها وهذا ما نعلمه ولولا إنه قتل يوحنا لكان أخذها سهلا لكم فقال أبو عبيدة: وما جرى له فأخبروه بخبره وحديثه مع أخيه وانه أسلم بعدما رفع يديه إلى السماء وما ندري ما قال غير اننا سمعنا طرف كلامه وهو يقول: اللهم إني أشهد أن لا إله إلا أنت وأن عيسى عبدك ورسولك ومحمدا عبد ورسولك ختمت به الأنبياء وجعلته سيد المرسلين ولا دين أعلى من دينه فاصنع ما أنت صانع فلما اسلم قتله قال فلما سمع أبو عبيدة ذلك قال في أي موضع قتله ثم وثب وأخذ خالدا معه وجماعة من المسلمين وأتوا إلى موضع قتله وهو راس سوق الساعة فوجده ملقى على ظهره وكأنه البدر ليلة تمامه مشيرا بأصبعه إلى السماء وقد مات وأصبعه قائمة فأخذه أبو عبيدة وكفنه وصلى عليه ودفنه في مقام ابراهيم فلما واروه أتى إلى ابي عبيدة رجل من المسلمين فقال أصلح الله الأمير انظر إلى هؤلاء القوم فإن كانوا من حزبنا نصحوا ودلونا على عورات قومهم فقال: لا والله ما يفعلون ذلك أبدا فعندها اقبل أبو عبيدة على المسلمين وقال: أشيروا علي رحمكم الله فقال له: ذلك الرجل وكان اسمه يونس بن عمرو الغساني وكان رجلا بصيرا بالشام وجباله ومدنه وجميع أرضه وعارفا بطريق الشام أصلح الله الأمير انظر إلى ما أعرف من البلد وما عندي من الرأي. قال أبو عبيدة: تكلم يا ابن عمرو فأنت عندنا ناصح للمسلمين فقال أن الله قد فتح على يدك الشام وسهله وجبله وحزنه ووعره وقتل طاغية الكفر وحاميته وأما بقايا عساكرهم فهي من وراء الدروب وهي جبال وعرة ومضايق والقوم قد رعبت قلوبهم مما أباد الله منهم وليس لهم قلوب يقاتلون بها المسلمين فحاصر هذه القلعة وبث الخيل وشن الغارات وفي بقايا البلاد وشاطى الفرات فما لهم زاد يقوم بهم فتبسم خالد من كلام الغساني وقال هذا والله هو الراي وأنا اشير عليكم بمشورة أخرى أن نزحف نحو القلعة فلعل الله أن يفتحها في وقتنا هذا فاني أخشى أن طال بنا المقام أن تعطف علينا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 جيوش الروم من جهة أخرى فيحولوا بينها وبيننا قال أبو عبيدة: يا أبا سليمان لقد أشرت فأحسنت وقلت: فصدقت ثم أمر أبو عبيدة بالزحف إلى القلعة فترجلت الفرسان عن خيولهم وتجردت من ثيابهم واختلط العبيد والسادات وافتخرت القبائل وانبثت العشائر وتجابوا بالاشعار وتداعوا بالأنساب قال مسروق بن مالك فوالله ما رايت في قتال حصون الشام يوما كان أعظم من ذلك اليوم لاننا كنا نشبه دوران الحرب كدوران الرحى تهشم ما دارت عليه وقد برزنا إليهم في أول حربهم وتبادرت ابطال اليمن وسادات ربيعة ومضر يتلو بعضهم بعضا وجعلوا يطلبون القلعة من حيث لا طريق عليها فإذا دنوا منها أخذتهم الحجارة من كل جانب ورموهم بالمجانيق والغرازات وكنت أنا وأصحابي أقرب الناس إلى الأرض ففزعنا راجعين على أعقابنا يدفع بعضنا بعضا لا نظن أن ينجو منا أحد فوقعت الخذلة في المسلمين وقد شدخت منا الحجارة خلقا كثيرا فقتلت بعضنا وبعضنا رمته فكان من جملة من قتل يوم حصار قلعة حلب بالحجارة عامر بن الأصلع الربعي ومالك بن خزعل الربعي وحسان بن حنظلة ومروان بن عبد الله وسليمان بن فارغ العامري وعطاف بن سالم الكلابي وسراقة بن مسلم بن عوف العدوي ورجال من أهل اليمن من آل عامر ومن بني كلاب وغيرهم وسبعة من بني عبد الله قال مرزوق بن مالك فلقد كنا نرى بعد ذلك بسنين خلقا كثيرة عرجا من يوم حصار قلعة حلب فعندها نصب أبو عبيدة رايته خارج المدينة وجعل ينادي بالمسلمين فاجتمعوا إليه فقال: أيها الناس إنكم قاتلتم اليوم على غرة فادفنوا الشهداء وشدوا كل من أصابه جرح فانتدب المسلمون إلى ذلك وفرح الروم بهزيمة المسلمين وما قد نزل بهم فقال لهم يوقنا: أن العرب لا تدنوا من القلعة بعد هذا اليوم ابدا وأن حاصرونا فلاكيدنهم ولاهبطن إلى عسكرهم. قال الواقدي: ولقد حدثني عبد الله بن سليمان الدينوري وكان ممن نقل أخبار الشام وفتوحه عن ثقات المسلمين قال حدثني عمرو أن يوقنا انتخب ألفين من خيار بطارقته وابطاله وقال لهم: انزلوا مسرعين وليحذر بعضكم بعضا وميلوا على طرف عسكر المسلمين إذا خمدت نيرانهم واغتنموا غرتهم وأمر عليهم وزيره فنزلوا ليلا من القلعة وجعلوا يدورون حول العسكر إلى أن أتوا إلى مكان وقد خمدت نيرانهم وكان القوم بادية من أهل اليمن مثل مراد وبني كلاب وعبيدهم قال عبد الله بن صفوان البكي كنا تلك الليلة غادين من عدونا آمنين لكثرتنا وقد غفل حرسنا فلم نشعر إلا وجماعة الروم قد هجموا علينا وهم ينادون بلغتهم وقد أعلنوا التبهرج بزينتهم فلا نعلم ما يقولون ووضعوا السيف فينا فكان النجيب منا من استوى على جواده وطلب النجاة وهو لا يعلم من أين هي ولا كيف يتخلص وقد وقعت الجندلة في أبطال المسلمين وعساكرهم والقوم ينادون النفير النفير دهينا ورب الكعبة وهم يسرعون إلى خيمة أبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 عبيدة وينادون أيها الأمير كبسنا يوقنا فعندها ركب الأمير في بعض الرجال وجعل يدور حول العسكر فنظر صاحب الروم إلى العرب وقد لحقته فصاح بأصحابه من كان أخذ شيئا فليتركه ويطلب نجاة نفسه قال عبد الله بن صفوان أخذوا من رجالنا نحو خمسين رجلا من أخلاط الناس واكثرهم من ربيعة ومضر ومضوا يجمع بعضهم بعضا ويطلبون القلعة فلما نظر خالد إلى ذلك حمل في أصحابه واقتطع من الروم زهاء من مائة رجل ووضع فيهم السيف فقتلهم عن آخرهم فلما وصل أصحاب يوقنا إلى القلعة فتح لهم وأدخلهم فلما أضاء الفجر وطلعت الشمس دعا يوقنا بالمسلمين الخمسين رجلا وهم موثقون بالحبال فقربهم إلى موضع ينظرهم المسلمون ويسمعون اصواتهم وهم يقولون لا إله إلا الله محمد رسول الله حتى قتلوا عن آخرهم فلما نظر أبو عبيدة إلى ذلك أمر مناديا ينادي في عسكره عزيمة من الله ورسوله ومن الأمير أبي عبيدة على كل رجل لا يكل حرسه إلى غيره ولكن كل رجل منكم حارس نفسه ولا يتكلم بعضكم مع بعض قال فأخذ القوم حذرهم وأعدوا حرسهم وأقبل يوقنا يدبر أمره في مكيدة أخرى ليكيد بها المسلمين إذ علم إنهم محاصرون ومع ذلك جواسيسه تأتيه بالأخبار في الليل والنهار وكان أعظم جواسيسه من متنصرة العرب لأنهم كانوا يحسنون لسان الرومية. قال فبينما يؤقنا ذات يوم جالس في قلعته والبطارقة من حوله وقد أضر بهم الحصار وأشد ما كان عليهم من أهل المدينة لأنهم لا ينظرون إلى رجل من أصحابه يعرفونه إلا أخذوه وسلموه للمسلمين وإذا بجاسوس قد اقبل وهو من عيونه فقال له: أيها السيد أن أردت أن تكيد العرب فهذا وقتك فقال له: يوقنا وكيف ذلك وما الذي عندك من الخبر قال: أن العلافة منهم قد خرجوا إلى وادي بطنان وقد صالحوا أهله وعلوفة العرب ميرتهم منه وقد رأيت منهم جمالا وبغالا ومعهم طائفة منهم وعليهم القمصان الخلقة وبأيديهم الرماح المشبعة وهم يقصدون القرى في طلب الميرة وهم قليلون وليس هم في كثرة فلما سمع يوقنا ذلك من جاسوسه اختار ألفا من أصحابه وقال لهم: أصلحوا شأنكم فوحق المسيح لأضيقن على العرب مسالكهم ولاقطعن عليهم طرقاتهم فلما أقبل الليل فتح لهم الباب وسار الجاسوس أمامهم حتى استقاموا على الجادة وجعلوا يسيرون تحت جنح الليل فبينما هم كذلك إذ هم براع ومعه سرح من البقر يريد بها بلده وقد خرج بها من بلد آخر وهو يسير بها سيرا عنيفا فلما نظروا إليه أسرعوا نحوه وقالوا: احسست بأحد من العرب قد عبر عليك قال: نعم والشمس عند الغروب قد اصفرت وهم نحو مائة رجل على خيول وهم مسرعون ومعهم جمال وبغال وهم يريدون الميرة من هذا الوادي من الذين هم في صلحهم ولسنا نخاف منهم فقال له: المقدم عليهم الآن قد القيت علينامن صلح أهل هذا الوادي ما لم يكن عندنا منه خبر فبحق المسيح أخبرنا بأي طريق ذهبت العرب فقال من ههنا وأومأ بيده إلى الشرق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 فصار البطريق بمن معه ولم يعرفوا أن صاحب البقر منهم حتى إذا قرب الصبح أشرفوا على خيل المسلمين وكان الأمير عليها يقال له مناوش فلما نظر مناوش إلى خيل الروم قد اقبلت أقبل على أصحابه وقال: يا بني العرب هذا بطريق من بطارقة الروم قد أقبل إلينا فدونكم إياه والجهاد والصبر على الشدة تنالوا الجنة ثم حمل وحمل معه أصحابه فحملت عليهم الروم فثبت لهم المسلمون واقتتلوا قتالا شديدا وقتل مناوش بن الضحاك والغطريف بن ثابت ومنيع بن ثابت ومنيع بن عاصم وكهلان بن مرة فقتل من المسلمين ثلاثون رجلا كلهم من طيء وانهزم الباقون وملكت الروم ما كان مع المسلمين من الإبل والبغال وعاد المسلمون منهزمين فعند ذلك أقبل البطريق على أصحابه وقال ارموا الأحمال عن هذه الدواب واعقروها وسوقوا بقية الدواب بما عليها فإنها لنا ميرة واطلبوا الجبل واختفوا عن أعين العرب وإلا ففي هذه الساعة تطلع علينا خيول العرب كالرياح تهزمكم فأكمنوا حتى إذا جاء الليل طلبنا القلعة واعتصمنا بها ففعلوا ذلك وقتلوا الجمال وساقوا الدواب والتجؤا في الجبل إلى قرية فأقاموا بقية يومهم يرقبون الليل ليرجعوا إلى القلعة وأقاموا لهم ديدبانا قال عوف صباح الطائي كنت في الخيل لما قتل عمي مناوش ونحن في قلة وقد دهمتنا الخيل فلما نظرنا إلى كثرة الروم وشدة بأسهم مع قلتنا أخذنا على أنفسنا وأتينا المسلمين فبادر إلينا أبو عبيدة وقال لنا ما وراءكم قلنا الحرب والطعان قتل منا مناوش وقتل معه خلق كثير من فرساننا وأخذ ما كان معنا من الزاد والدواب. فقال أبو عبيدة: وما الذي دهاكم وقد حاصر الله الروم ما يجسر أحد أن يخرج منهم قالوا: لا علم لنا غير أنا رأينا بطريقا عظيما قد أشرف علينا وهو في عدة حصنة وخيول كثيرة مستعدين للقتال لا نعلم عددهم ولا من اين أتى مددهم فهجموا علينا ونحن سائرون فاصيب أميرنا وقتل رجالنا وأخذوا ما كان معنا من الدواب والزاد فلما سمع أبو عبيدة ذلك دعا بخالد بن الوليد إليه وقال: يا أبا سليمان أنت لها والمعد لمثلها وأنا واثق بالله ثم بك مع إني أستخير الله في أموري سر على بركة الله تعالى وخذ معك من المسلمين من أردت لعلك أن تقفوا القوم وتعاني موضع أثر الوقعة وتتبع آثارهم عسى الله أن يوقعنا بهم واطلبهم أينما كانوا وحيث ساروا لعلك تأخذ بثأر المسلمين وأعلم اننا صالحنا أهل الوادي واننا لا ننقض عهدنا ولا نحول عن قولنا إلا أن يكون القوم قد مكروا بنا فنجد إلى قتالهم سبيلا فاتق الله فيهم سر يرحمك الله قال فأسرع خالد إلى خيمته ولبس سلاحه واستوى على متن جواده وهم بالمسير وحده فقال له أبو عبيدة: إلى أين يا أبا سليمان قال له: اسارع إلى ما أمرتني به فقال له: خذ من أردت معك من المسلمين فقال خالد: أنا أمضي وحدي وما أريد أحدا فقال له أبو عبيدة: كيف تمضي وحدك وعدوك في عدد كثير قال خالد: لو كانوا في ألف أو ألفين القاهم بمعونة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 الله تعالى فقال له أبو عبيدة: إنك كذلك ولكن خذ معك رجالا قال فاخذ ضرارا وأمثاله وسار حتى أتى إلى موضع الوقعة فراى القتلى مطروحين ورأى حولهم أهل الوادي وهم يبكون خوفا من المسلمين على أنفسهم وذراريهم وأن العرب تطالبهم بهم فلما طلع عليهم خالد ومن معه كأنهم شعلة نار تصارخ القوم في وجهه والقوا أنفسهم بين يديه فقال لهم خالد: من هؤلاء القوم الذين قتلوا أصحابنا قالوا: أنا نحن بريئون من دماء أصحابكم ونحن في صلحكم فاستحلفهم خالد إنهم لا يعلمون من قتلهم فحلفوا له فقال لهم: من الذي أوقع بأصحابي فقالوا: بطريق بعثه يوقنا من القلعة ومعه ألف فارس من أشد قومه وأن لهم في عسكركم عيونا يخبرونه بما أنتم فيه كل ساعة فقال لهم: وفي أي طريق قصدوا قالوا: في هذا الطريق فقال خالد: أو ما حلفتم أن ما عندكم علم بهم قالوا: هذا الذي يخبرك من أهل حلب قد أتى يشتري طعاما ولولا إنك أقبلت في هذه الساعة ما كنا عرفنا من قتلهم فقال له خالد: أعلى هذا الطريق أخذوا فقال له الرجل: نعم ورأيتهم يطلبون الجبل فقال خالد لأصحابه: أن القوم علموا إنهم لا بد لهم من خيل تطلبهم وتتبعهم وقد عدلوا عن طريقنا حتى إذا هجم عليهم الليل رجعوا إلى قلعتهم فعولوا على المسير في طلبهم ثم إنهم ارخوا الأعنة وخالد يقدمهم وقد أخذ معه رجالا من المعاهدين يقفون بهم أثر الطريق والقوم فلما حصلوا على الطريق قال خالد لواحد من المعاهدين: ألهم طريق إلى قلعتهم غير هذا؟. قال: نعم ولكن كن ههنا فانك تفوز بهم أن شاء الله تعالى فنزل خالد ومن معه في الوادي وهم يرقبون الطريق فما مضى من الليل إلا قليل إذ سمع وقع حوافر الخيل والبطريق أمامهم والخيل من ورائه وهو يزجرهم ويحثهم على المسير فلما توسطوهم صاح خالد صيحة شديدة ووثب خالد كأنه الاسد وخرج عليهم هو وأصحابه فما كان قصد خالد غير البطريق وظن إنه يوقنا فضربه ضربة رماه نصفين وقد وضعوا السيف فيهم وجعلوا يطلبونهم وهم في الهرب فلم ينج منهم إلا من أطال الله أجله وحازوا جميع ما معهم وأتوا برأس البطريق إلى أبي عبيدة على رأس رمح فوجدوه متلهفا على قدومهم فلما أشرف خالد بمن معه من الاسارى والإسلاب والدواب هللوا وكبروا فأجابهم العسكر بالتهليل والتكبير قال: وأتى خالد ومن معه بالرأس والإسلاب والاسارى فكانوا أزيد من ثلثمائة اسير ورؤوس القتلى سبعمائة فعرضوا عليهم الإسلام فابوا وقالوا: نحن نعطيك الفداء فقال خالد: نضرب رقابهم قبال القلعة لنوهن بذلك عدو الله قال فضربت رقابهم قبال القلعة فقال خالد: أنا كنا نظن أنا محاصرون القوم وإذا نحن بخلاف ذلك وهم يرقبون غفلتنا وينتظرون غرتنا وقد قتلوا جمالنا والدواب والصواب أن نجعل عليهم حرسا في كل طريق يمكننا ولا نمكنهم أن يخرجوا من قلعتهم ونضيق عليهم ما استطعنا قال أبو عبيدة: جزاك الله خيرا يا أبا سليمان ما ابصرك بالأمور فلما كان من الغد وصلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 أبو عبيدة بالناس صلاة الفجر دعا بعبد الرحمن بن أبي بكر وبضرار بن الأزور وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وقيس بن هبيرة وميسرة بن مسروق ففرقهم حول القلعة ومعهم من اختاروا وأمرهم أن يمسكوا الطريق والمسالك على يوقنا حتى لو طار طائر منها أو إليها اقتنصوه وأقام القوم على ذلك مدة فلما طال عليهم ذلك ضجر أبو عبيدة لطول مقامه فأمر الناس بالرحيل عنهم وعزم أن يتباعد عنهم أي عن القلعة لعل أن يجد منهم غفلة فينتهزها قال فبعد عن المدينة فنزل بقرية بقرب منها يقال لها النيرب وهو يريد حيلة يصل بها إلى يوقنا قال: ويوقنا لا ينزل من القلعة ولا يفتح بابها ففكر أبو عبيدة غاية الفكرة وقال لخالد يا أبا سليمان أن جواسيس عدو الله تكشف أخبارنا وتوصلها إليه وتخوفه فاني أقسم عليك يا أبا سليمان إلا ما جلت في عسكرنا جولة واختبرت أمر الناس فلعلك تقع بأحد من جواسيسه قال فركب خالد وأمر الناس أن يدوروا في عسكرهم وأن يقبضوا على كل من إنكروه قال فبينما خالد في طوافه إذ نظر إلى رجل من العرب المتنصرة وبين يديه عباءة يقلبها فجعل خالد يرقبه فاستراب الرجل منه فناداه وقال من أي الناس أنت يا أخا العرب قال أنا رجل من اليمن قال من أيها قال فأراد أن يقول: وينتمي إلى غير قبيلته فجرى الحق على لسانه فقال أنا من غسان فلما سمع خالد كلامه قبض عليه وقال له: يا عدو الله أنت عين علينا لعدونا قال: ما أنا متنصر وأنا مسلم فأتى به إلى أبي عبيدة وقال: أيها الأمير قد رابني أمر هذا لأنني ما رأيته قط إلا يومي هذا وقد ذكر إنه من غسان ولا شك إنه من عباد الصليب فقال أبو عبيدة: اختبره يا أبا سليمان قال: وكيف أختبره قال اختبره بالقرآن والصلاة فإن أجابك وإلا فهو كافر فقال له خالد: فصل ركعتين واجهر بالقراءة فيهما فلم يدر ما يقول: فقال له خالد: أنت يا عدو الله عين علينا ثم استخبره عن شأنه فأخبره وأقر إنه عين عليهم فقال له خالد: أنت وحدك قال: لا ولكنا ثلاثة أنا أحدهم والاثنان قد ذهبا إلى القلعة ليخبرا يوقنا بخبركم وأنا قد تخلفت لأنظر ما يكون من أمركم. فقال أبو عبيدة: أخبرني أيما أحب إليك القتل أو الإسلام فليس بعدهما شيء فقال الغساني أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ثم رجع أبو عبيدة إلى حلب وما زالت القلعة محاصرة أربعة أشهر وقيل خمسة اشهر وابطأ خبر أبي عبيدة على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فكتب إلى ابي عبيدة يقول: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر إلى عامله أبي عبيدة سلام عليك فاني أحمد الله الذي لا إله إلا هو واصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم واعلم يا أبا عبيدة أن بانقطاع كتابك وابطاء خبرك يكثر قلقي ويضني جسدي على إخواني المسلمين وما لي ليل ولا نهار إلا وقلبي عندكم ومعكم فإذا لم يأت منك خبر ولا رسول فإن عقلي طائر وفكري حائر وكأنك لا تكتب الي إلا بالفتح أو الغنيمة واعلم يا أبا عبيدة أنني وأن غائبا عنكم فإن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 همتي عندكم وإني داعي لكم وقلقي عليكم كقلق الوالدة الشفوقة على ولدها فإذا قرأت كتابي هذا فكن للاسلام والمسلمين عضدا والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعث الكتاب إلى أبي عبيدة فلما ورد عليه وقرأه عليهم قال معاشر المسلمين إذا كان أمير المؤمنين داعيا لكم وراضيا عنكم في فعالكم فإن الله ينصركم على عدوكم ثم كتب جواب الكتاب يقول: بسم الله الرحمن الرحيم إلى ابي عبد الله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب من عامله بالشام أبي عبيدة سلام عليك وإني أحمد الله تعالى وأصلي على نبيه وبعد يا أمير المؤمنين فإن الله تعالى له الحمد قد فتح على أيدينا قنسرين وقد شننا الغارة على العواصم وقد فتح الله علينا مدينة حلب صلحا وقد عصت علينا قلعتها وبها خلق كثير مع بطريقها يوقنا وقد كادنا مرارا وذكر له ما جرى له مع أخيه يوحنا وأنه قتل منا رجالا ورزقهم الله الشهادة على يديه ثم إنه ذكر له من قتل والله تعالى من ورائه بالمرصاد وقد أردنا الحيلة عليه فلم نقدر وأردت الرحيل عنه وعن محاصرته إلى البلاد التي بين حلب وانطاكية وأنا منتظر جوابك والسلام عليك وعلى جميع المسلمين وبعث الكتاب مع عبد الله بن قرط وجعدة بن جبير فسار إلى أن أخذا في طريق هيشت العتيقة وجدا في السير حتى قطعا أرض الجفار إلى صكاصكة وهي حصن العرب قريبة من تيما فلما وصلا إليها عارضهما فارس وعليه درع سابغ وعلى رأسه بيضة تلمع وهو معتقل برمح كأنه قد برز إلى عدوه أو قاصد إلى قتال فلما نظر إليهما قصدهما فقال عبد الله بن قرط لجعدة ابن جبير يا ويلك أما ترى هذا الفارس وقد عارضنا في مثل هذا المكان على مثل هذه الحالة فقال له جعدة: وما عسى أن نتخوف من فرسان العرب ورجالها وليس في هذا الموضع من رفع عمودا أو ضرب وتدا إلا واصبح معنا ودخل تحت طاعتنا وفي شريعتنا فلما قرب الفارس منا سلم علينا وقال من أين أقبلتما والى اين قاصدان فقالا له نحن رسولان من الأمير أبي عبيدة إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فمن أنت أيها الرجل قال أنا هلال بن بدر الطائي فقالا له ما لنا نرى عليك آلة الحرب قال إني خرجت في طوائف من قومي وجماعة من أصحابي نريد الشام للجهاد لكتاب ورد علينا من عمر بن الخطاب فلما رأيتكما في بطن الوادي قصدتكما لأنظر ما قصتكما ولي أصحاب من ورائي مقبلون. ثم سلم عليهما وولى فركضا مطيهما وسارا وإذا بالخيل قد أشرفت والإبل قد اقبلت تتبع هلال بن بدر ارسالا يتبع بعضها بعضا إلى أن لحقوه فأخبرهم بقصة صاحبي رسول الله صلى الله عليه وسلم ففرحوا بذلك وساروا يريدون الشام وأما عبد الله بن قرط وجعدة بن جبير فانهما وصلا المدينة ودخلا المسجد وسلما على عمر بن الخطاب وعلى المسلمين ودفعا له الكتاب فلما قرأه استبشر ورفع كفيه إلى السماء وقال اللهم اكف الناس شر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 كل ذي شر ثم أمر مناديا في الناس الصلاة جامعة فلما اجتمع الناس قرا عليهم كتاب أبي عبيدة فلما قرأه قدم عليه من حضرموت واقاصي اليمن من همدان ومدان وسبا ومارب يسألونه أن ينفذهم إلى الشام فقال لهم عمر: في كم أنتم بارك الله فيكم قالوا: نحن زهاء من أربعمائة فارس وثلثمائة مطية مردفين ومعنا أناس يمشون على أقدامهم لا ركاب لهم فإن كان عند أمير المؤمنين ما يحملهم عليه حتى نصل إلى عدونا فقال لهم عمر: وكم يبلغ الرجال الذين معكم قالوا: أربعين ومائة رجل فقال لهم: عرب أو موال قالوا: عرب وموال أذن لهم ساداتهم في الجهاد والمسير إلى الأعداء فعندها دعا عمر بعبد الله ابنه رضي الله عنه وقال أمض إلى مال الصدقات فأت القوم بسبعين راحلة ليعتقبوا عليها ويحملوا زادهم وميرتهم على ظهورها فأسرع عبد الله بن عمر وأتى بسبعين بعيرا وسلمها إليهم وقال لهم: جدوا رحمكم الله إلى اخوانكم المسلمين واسرعوا إلى حرب عدوكم ثم كتب إلى ابي عبيدة أما بعد فقد ورد علي كتابك مع رسلك فسرني ما سمعت من الفتح والنصر على اعدائكم ومن قتل من الشهداء وأما ما ذكرته من انصرافك إلى البلاد التي بين حلب وانطاكية وتترك القلعة ومن فيها فهذا رأي غير صواب تترك رجلا قد دنوت من دياره وملكت مدينته ثم ترحل فيبلغ إلى جميع النواحي إنك لم تقدر عليه ولم تصل إليه فيضعف ذكرك ويعلو ذكره ويطمع من يطمع ويجترىء عليك أجناد الروم خاصتهم وعامتهم وترجع إليه الجواسيس وتكاتب ملوكها في أمرك فإياك أن تبرح عن مجاهدته حتى يقتله الله او يسلم إليك أن شاء الله تعالى أو يحكم الله وهو خير الحاكمين وبث الخيل في السهل والوعر والضيق والسعة وأكناف الجبال والأودية وشن الغارات في حدود المفازات ومن صالحكم منهم فاقبل صلحه ومن سالمك فسالمه والله خليفتي عليك وعلى المسلمين وقد انقذت كتابي إليك ومعه عصبة من حضرموت وغيرهم وأهل مشايخ اليمن ممن وهب نفسه لله تعالى ورغب في الجهاد في سبيل الله وهم عرب وموال فرسان ورجال والمدد يأتيك متواترا أن شاء الله تعالى والسلام وختم الكتاب وسلمه لعبد الله بن قرط وجعدة وجعل القوم يجدون في سيرهم ومع ذلك يسألون عبد الله بن قرط وصاحبه عن بلاد الشام وفتح البلاد وقتل الروم إلى أن سألوهما عن مستقر العسكر فقال لهم عبد الله: أن جميع المسلمين وأميرهم محاصرون بقلعة حلب وفيها عظيم من عظماء الروم ومعه أعلاج من أصحابه وقد تحصنوا في رأس قلعته فقالوا له: يا ابن قرط ما لهؤلاء لا يدخلون في جملة من صالح من أصحابهم فقال لهم: يا معاشر العرب أنا لم نر بعد وقعة اليرموك رجالا أشجع من هذا فلقد قتل رجالا وجندل أبطالا وأنه ليغير على أطراف العسكر في وقت صلاتهم فيقتل رجالهم وينهب أموالهم ويرجع إلى قلعته وربما إنه يستتر في سواد الليل في طلب العلافة فيقع بهم فيأمر بهم ويأخذ دوابهم وجميع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 زادهم وميرتهم ثم يعود إلى قلعته ونحن لا نعلم به وأن المسلمين له محاصرون ومنه خائفون حذرون. قال: وكان فيمن سمع كلامه وفهمه مولى من موالي بني طريف من ملوك كندة ويقال له دامس: ويكنى بأبي الأهوال مشهور باسمه وكنيته وكان اسود كثير السواد بصاصا كأنه النخلة السحوق إذا ركب الفرس العالي من الخيل تخط رجلاه بالأرض وأن ركب البعير العالي تقارب ركبتاه رجلي البعير وكان فارسا شجاعا قويا قد شاع ذكره ونما أمره وعلا قدره في بلاد كندة وأودية حضرموت وجبال مهرة وارض الشحر وقد أخاف البادية ونهب أموال الحاضرة وكان مع ذلك لا تدركه الخيل العتاة وكان إذا ادركته العرب في باديتها تعجبت من صولته وشجاعته وبراعته فلما سمع دامس أبو الهول بذكر يوقنا وما فعل بالمسلمين كاد أن يتمزق غيظا وحنقا وقال لعبد الله ابن قرط أبشر يا أخا العرب فوالله لأجتهدن في أن يخذله الله على يدي فلما سمع عبد الله كلامه جعل ينظر إليه شزرا وقال: يا ابن السوداء لقد حدثتك نفسك آمالا لا تبلغها وأشياء لا تدركها يا ويلك ألم تعلم أن فرسان المسلمين وأبطال الموحدين بأجمعهم له محاصرون ولأصحابه محاربون ومع ذلك لا يقدر أحد له على شر وقد كاد ملوكا وقهرها فلما سمع دامس كلام عبد الله بن قرط غضب وقال: والله يا عبد الله لولا ما يلزمني لك من أخوة الإسلام لبدأت بك قبله فاحذر أن تزدري بالرجال وأن أحببت أن تعرفني فسل عني من حضر من أهلي وما قد تقدم من فعلي الذي من ذكره تطيش العقول وتضيق الصدور كم من عساكر قتلتها وجموع فرقتها ومحافل بددتها وغارات شننتها ولا يضام لي جار ولا يلحقني عار وبحمدالله أنا فارس كرار غير فرار ثم تركه مغضبا وسار أمام الناس وأن قوما من العرب قالوا: لعبد الله بن قرط يا أخا العرب ارفق بنفسك فانك وايم الله تخاطب رجلا يقرب إليه البعيد ويهون عليه الصعب الشديد وانه لجليد فريد لا تهوله الرجال ولا تفزعه الأبطال أن كان في حرب كان في أولها لا يدركه من طلب ولا يفوته من هرب فقال عبد الله لقد كثر وصفكم وأطنبتكم في ذكركم وأرجو أن يجعل الله فيه خيرا وفرجا للمسلمين قال ثم أخذ القوم في جد السير حتى قدموا حلب إلى أبي عبيدة وهو منازل أهل قلعة حلب ومحاصرها وقد أحاط المسلمون بالقلعة من كل جانب فلما أشرف القوم عليهم أخذوا في زينتهم وجردوا سيوفهم وأشهروا سلاحهم ونشروا راياتهم وكبروا بأجمعهم وصلو على نبيهم فاجابهم أهل العسكر بالتكبير من كل جانب واستقبلهم أبو عبيدة وسلم عليهم وسلموا عليه ونزل كل قوم عند بني عمهم وعشيرتهم ويوقنا ما زال في كل ليلة ينشط إليهم برجاله ويناوشهم وذلك إنه كان لا يقاتلهم إلا قليلا ولا يظهر من القلعة نهارا ابدا وكان أكثر خروجه في وقت خروج الناس فلما بات المسلمون القادمون في تلك الليلة ونظرت طيء وسنيس ونبهان وكندة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 وحضرموت إلى شدة الحرس وعظم حرسهم وحذرهم اقبل دامس أبو الهول على اهله الذين نزل عليهم من طريف وكندة فقال لهم دامس: والله ما أنتم محاصرون لا محالة فقالوا له: وكيف لك قال: لان العدو في راس قلعة وانتم قدام العدو من الأرض لقربكم ولا عسكر بازائكم تخافونه فما هذا الخوف قالوا: يا أبا الهول أن صاحب هذه القلعة علج ميشوم يرتقب غفلتنا ويغير على أطرافنا ويأتينا من امننا فبينما دامس يخاطب القوم وإذا بالضجة قد وقعت في طرف عسكر المسلمين ولها جلبة عظيمة فوقف دامس منتضيا حسامه متنكبا حجفته وطلب الناحية التي سمع منها الصوت حتى بلغ إليها وإذا بيوقنا في خمسمائة رجل أبطال أنجاد وليوث شداد وقد وجد غرة من القوم فلما نظر دامس إلى الروم وقع في وسطهم وجعل يقول: أنا أبو الهول واسمي دامس ... أكر في جمعهم مداعس ليث هزبر بطل ممارس ... مدمر كل عدو ناكس قال: وجعل يضرب في أعراضهم بسيفه ومعه طائفة من بني طريف من شجعانهم وفرسانهم فلما نظر يوقنا ما نزل به تقهقر إلى ورائه وقد قتل من رجاله مائتان ودامس يكر عليهم ويتبعهم إلى رأس درب القلعة وكندة من ورائه فناداهم أبو عبيدة عزيمة مني عليكم أن لا يتبعهم منكم أحد في ظلمة هذا الليل فقال الناس يا أبا الهول أن الأمير يعزم علينا وعليك بالرجوع فارجع رحمك الله فرجع دامس إلى رحله وتراجع القوم إلى رحالهم وقد أبليت كندة بلاء حسنا والناس قد خرجوا فلما أصبح الناس اجتمعوا للصلاة مع أبي عبيدة فلما قضيت الصلاة تفرقوا ولم يبق إلا نفر يسير من أمراء المسلمين فجعلوا يذكرون ليلتهم فقال خالد: أصلح الله الأمير لقد رأيت كندة وقد ابليت بلاء حسنا وقد تقدمت رجالها وثبتت ابطالها وما زالت تضرب حتى أزالت عنا حامية الكفر والعدو فقال أبو عبيدة: صدقت والله يا أبا سليمان والله لقد أسعدت الناس كندة بثباتها والله لقد سمعتم يقولون أحسن دامس وأجاد أبو الهول فقام إلى ابي عبيدة رجل من رؤساء كندة يقال له سراقة بن مرداس بن يكرب فقال: أصلح الله الأمير دامس هو أبو الهول وهو مولى طريف قدم مع هذا الوفد الذي ورد بالأمس وهو رجل يفجر ويهول على الأبطال ويفضح الشجعان وبذل الأقران لا يهوله جمع ولا يصعب عليه غارة فقال أبو عبيدة: لخالد أما تسمع كلام سراقة في عبدهم دامس فقال خالد: يوشك أن يكون صادقا في قوله ولقد سمعت بذكره وحديثه وشجاعته وبراعته ولقد أخبرني رجل يقال له النعمان بن عشيرة المهري: إن دامسا هذا أغار وحده وهم على ساحل البحر في سبعين رجلا من أهل مهرة وكان دامس هذا يطلبهم لأجل ثأر كان له عند القوم وكانوا يخافون منه ومن شره وبأسه فكانوا مع ذلك يفتدون بأموالهم ودوابهم ويهربون إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 أطراف الجبال وسواحل البحر حذرا منه وكان مع ذلك يسال عن أخبارهم ويطلع على آثارهم فلما اصبح عند نزولهم على ساحل البحر استصرخ قومه للغزو فتشاغلوا ولم ينفر منهم أحد معه وكان خبيرا بالبلاد سهلها ووعرها برها وبحرها فلما ايس من قومه دخل إلى خبايته واحتمل رزمة على عاتقه فأتاه اناس من قومه وقالوا له: إلى اين تريد وما هذا الذي معك فقال: يا قوم أنا أريد الغارة على بني الشعر وآخذ بالثار واكشف العار فقال له مشايخ الحي: ما رأينا أعجب من أمرك وأنت تعلم أن بني الشعر سبعون فمن يريد أن يغير عليهم وحده ويأخذ منهم بالثأر وما سمعنا بهذا ابدا وأنا نرى أن تقصد جواد وكانت جواد هذه امة لبني حياس من الحضارمة وكانت بقرية من قرى حضرموت يقال لها: أسفل وكان دامس هذا يهواها وكل ما يأخذه من الأموال والخيل والإبل يدفعه إليها ولا يعظم عليه كثرته وكان لا يرضى لها بالقليل ولا يشبع لها بالكثير فظن القوم إنه مضى إليها وقصد نحوها بحملته التي معه من رزمته فقال لهم: وايم الله إني بطل فما تظنون وسوف تعلمون أن ما أفعله الحق واليقين قال فرجع قومه وتركوه وسار إلى أن أتى إلى مرعى قومه فأخذ راحلته من ابلهم ورحلها واخذ سيفه وحجفته وجعل الرزمة تحته وسار بقية يومه وليلته حتى إذ كان آخر الليل عطف بالراحلة إلى بعض الأودية فأبركها وحل رحلها وعقلها ودورها ترعى معقولة ثم كمن بين حجرين وكان قريبا من القوم ويخاف أن يدوروا به فلما مضى عليه نهاره واقبل ليله أتى إلى راحلته وأبركها ورحلها واستوى في كورها وسار حتى اشرف على نار القوم فعدل بناقته حتى اشرف على الحي وكان في ذلك الشرف شجر من الطلح فأبرك ناقته وزم شدقها لئلا ترغو فيسمع القوم رغاءها ثم عمد إلى رزمته فحلها واستخرج منها الثياب واتى إلى تلك الشجرة فجعل على كل عود منها مثل عمامة الرجل ويأتي بالعود ينصبه ويسنده بالحجارة ويطرح عليه الأزار ولم يزل حتى أقام أربعين عودا على هذه الصفة وجعل عليه حلة حمراء أرجوانية وهبط من ذلك الشرف الذي عليه الثياب وقصد الحي ودار حول بيوتهم وتفكر في أمره وكيف يحتال وقد مضى أكثر الليل ثم صبر إلى أن طلع الفجر وسار نحو الساحل فلما قرب منهم صاح فيهم وقال دنا أجلكم أنا أبو الهول ولقد أصبحتم بالويل وأخذتم من البر والبحر وجعل ينادي يا لثار طريف يا آل طريف يا آل كندة فلما وقع صوته في أسماعهم ذهلت رجالهم وتصارخت نساؤهم وفزع القوم بين يديه من البيوت هاربين والى الساحل نحو الجبل طالبين وهو من خلفهم فلما رأوه وحده شجع بعضهم بعضا ورجعوا إليه يقاتلونه وطمعوا فيه لما رأوه وحده ولم يروا أحدا من ورائه وأخذوا في طلبه فجعل يكر عليهم ويرجع عنهم ويقتل رجلا بعد رجل فلما نظروا إلى شدة بأسه وعظم مراسه وهول صولته وشدة حملته أرادوا أن يسبقوه إلى الشرف ليأتوا إليه من ورائه فلما علم إنهم قد قاربوا الأعواد التي عملها وعليها الثياب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 خاف أن ينظروا إليها ويعلموا ما فعله من المكر فسبقهم إلى الشرف وسار أمامهم وأقبل على الأعواد مخاطبا لها كأنه يخاطب الرجال وهو يقول: يا أهل كندة يا أهل طريف إياكم والقوم قد أتتكم الرجال فلا تحملوا عليهم وأنا أفديكم بنفسي فإن رأيتم علي الحيف فاحملوا على القوم فمد القوم ابصارهم إليه فوجدوا عنده الثياب على الأعواد في انشقاق الفجر فلم يشكو إنهم رجال فانقلبوا راجعين نحو البحر وجعل دامس ينادي إلا يا قوم أقسمت عليكم أن لا تبرحوا من أماكنكم وأنا أكفيكم مؤنة القوم وحدي فرجعت بنو مهرة ناكصين على أعقابهم هذا قد أردف زوجته وهذا أولاده وهذا أمته وهذا أخذ ما قدر عليه من أثاثه ورجع أبو الهول إلى الحي فلم يصادف فيه إلا العبيد والصبيان والمشايخ والعجائز فأمر العبيد أن يوقروا الجمال فحملوها وكتفهم وساق الجميع قدامه وعاد وأخذ الثياب من على الأعواد ولحقهم وأتى بهم ديار قومه فعجبوا منه ومن فعاله فلما سمع أبو عبيدة ذلك من خالد أقبل على سراقة وقال له: ادع لي عبدكم حتى أنظر إليه واسمع كلامه فأتى به سراقة فقال له أبو عبيدة: أنت دامس قال: نعم أصلح الله الأمير فقال له: بلغني عنك عجائب وأنت وايم الله أهلها لأنك جزل من الرجال وأعلم إنك وقومك تقاتلون في بلاد سهلة لا تأتون الجبال ولا القلاع ولقد اقتحمت البارحة أثر القوم اقتحاما منكرا فارفق بنفسك واحذر من هذا البطريق يوقنا فقال له دامس: أصلح الله الأمير لقد غزوت مهرة وأخذت أموالها وأن جبالها منيعة شامخة رفيعة ذات وعر وحجر وما هذه بامنع من تلك الجبال فقال أبو عبيدة: أنا أراك نجيبا فهل حدثتك نفسك من أمر هذه القلعة بشيء فقال دامس أصلح الله الأمير إني لما قدمت عليك في هذا الوقت كنت رأيت في نومي رؤيا فقال أبو عبيدة: وما الذي رأيت أراك الله الخير قال رأيت كأني سائر في وطاة من الأرض وإني مجد أطلب قومي فبينما أنا في مسيري إذ أشرفت عليهم وهم حائرون لا يتقدمون ولا يتأخرون فناديتهم يا قوم ما شأنكم وأي شيء عرض لكم في طريقكم فقال لي القوم ما ترى هذا الجبل كيف قد عرض لنا في آخر هذا الطريق وليس لنا فيه مسلك ولا مطلع فقلت: على رسلكم إلا ترون هذه الفجوة في هذا الجبل فقالوا: هيهات ليس لنا فيه منقذ ولا مطلع فقلت: ولم ذلك قالوا: لأن فيه ثعبانا عظيما لا يمر به أحد إلا وأهلكه وقد قتل رجالا وجندل أبطالا فقلت: يا قوم إلا تهجمون عليه بأجمعكم قالوا: لا نقدر على ذلك لأن النار تخرج من أنفاسه وليس لنا عليه من سبيل فقلت لهم: فالتمسوا لكم طريقا من وراء ظهره فقالوا: لا نقدر على ذلك من عظم جثته فتركتهم والتمست لي طريقا فلم أجد إلا طريقا صعبا حرجا فاقتحمته فما سلكته إلا بعد المشقة وأتيت إلى الثعبان من ورائه فقتلته ثم أشرفت على قومي فاتبعوني فما وصلوا إلا بعد جهد جهيد وهم آمنون من عدوهم ثم استيقظت فرحا مسرورا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 فقال أبو عبيدة: خير رأيت وخيرا يكون يا دامس أما رؤياك هذه فإنها للمسلمين بشارة ولعدونا خسارة ثم قال له: اجلس مكانك وأمر أبو عبيدة أن ينادي المسلمين فحضر رؤساء المسلمين وأعيانهم فلما حضروا قال أبو عبيدة: الله أكبر فتح الله ونصر وحبانا بالظفر وخذل من كفر ثم قال: يا معاشر المسلمين اسمعوا رؤيا أخيكم دامس فإنها عبرة لمن اعتبر وموعظة لمن افتكر قال فأقبلوا يسمعون له فعندها قام أبو عبيدة على قدميه وقال الحمد لله وصلى الله على رسوله وسلم ثم قال: يا معاشر الناس أن الله سبحانه وتعالى له الحمد قد وعدنا في كتابه على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم الغلبة على أعدائنا والظفر بمرادنا وما كان الله ليخلف وعده وإني نذرت أن فتح الله هذه القلعة على يدي أصنع من البر ما استطعت والآن قد هجس في نفسي ووقع في قلبي أنا ظافرون بهذه القلعة ومن فيها أن شاء الله تعالى ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم لأنه قد دلني على ذلك رؤيا هذا الغلام ثم قبض بكفه على زند أبي الهول وقال له: رحمك الله حدث اخوانك بما رأيت في منامك فقام دامس قائما وقال اعلموا إني رأيت في منامي كذا وكذا وجعل يقص على الناس رؤياه من أولها إلى آخرها فلما فرغ منها أقبل المسلمون على أبي عبيدة وقالوا له: أيها الأمير قد سمعنا قوله وحفظنا شرحه فما تأويل رؤياه قال أبو عبيدة: أعلموا رحمكم الله أما الجبل الذي رآه عاليا شامخا شديد الأمتناع بين الشعاب والقلاع فذلك دين الإسلام بلا شك وسنة محمد صلى الله عليه وسلم وأما الثعبان الذي رآه وقد منع الناس وقد هجم عليه بسيفه فأمر حسن هو أن يفرج الله على يديه على المسلمين ففرح الناس بتأويل أبي عبيدة وقالوا: أيها الأمير فما الذي تأمرنا به فقال آمركم بتقوى الله سرا وجهرا ثم المكيدة على الأعداء طوعا وصبرا فارجعوا إلى رحالكم حفظكم الله واصلحوا شأنكم وآلة حربكم وما تحتاجون إليه فاني أقدمكم غداة غد إلى أعاديكم إلى أن يحدث لي رأي غير هذا فاني لست أدع الاجتهاد في الرأي والمشاورة لمن أثق به وبرأيه من المسلمين فقالوا: بأجمعهم وفق الله رأيك أيها الأمير وظفرك بأعدائك إنه سميع عليم فعال لما يريد ومضوا إلى رحالهم فجعل هذا يحد سيفه وهذا يصلح آلة حربه وفرسه وهذا يتفقد درعه وهذا قوسه ونشابه وما زالوا كذلك بقية يومهم فلما اصبحوا دعا أبو عبيدة بدامس فقال له: أيها الولد المبارك ماذا ترى في أمر هذه القلعة وما عندك من الحيلة فقال دامس اعلم أيها الأمير إنها قلعة منيعة شامخة حصينة تعجز اتوافد وتمنع القاصد في أهلها محاصرة ولا تضيق صدورهم من قتال غير إني أفكر في حيلة احتالها أو بلية اعملها وأرجو من الله أن يتم ذلك عليهم فيكون تبديدهم ونملك بمشيئة الله ديارهم ونقلع آثارهم فقال أبو عبيدة: يا دامس وما هي فقال أصلح الله الأمير أنت تعلم ما في اذاعة عة الأسرار من الشر والأضرار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 ومن كتم سره كانت الخيرة فيما لديه ويقال أن دامسا هذا أول من تكلم بهذه الكلمة فصارت مثلا فقال أبو عبيدة: فما الذي تشير إليه وما الذي تعتمد عليه. قال تزحف بعسكرك وجملة من معك من أصحابك حتى تنزلوا بازاء القلعة ليظهر لهم منك الحرص والهيبة واعلم أن في ذلك من الحيل ما أرجو من الله أن يتمها أن شاء الله تعالى ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فأمر أبو عبيدة عسكره بالرحيل فارتحلوا ونزلوا تحت القلعة وهللوا وكبروا وأظهروا سلاحهم وارهبوا أعداء الله تعالى قال فأشرف عليهم الروم ونظروا إلى جمعهم فهابوهم وألقى الله الرعب في قلوبهم حتى إنهم اضطربوا في قلعتهم وماجوا وجعل كبراؤهم يستشيرون فيما بينهم فقال قوم نقاتلهم وقال قوم بل نقعد في قلعتنا فانهم لا يقدرون علينا ثم اجتمع رأيهم على القتال من فوق القلعة وقعدوا على الأبراج والبنيان وجعلوا يرمون المسلمين بالحجارة والسهام وقد أقاموا على ذلك ليلا ونهارا ودامس مع ذلك يعمل حيله يصل بهم إليهم بسوء قال فلما كان بعد السبعة والأربعين يوما أقبل دامس على أبي عبيدة وقال له: أيها الأمير قد عجزت وأنا أعمل حيلا فما صدر من يدي في حقهم شيء وقد افتكرت في شيء وأرجو من الله أن يكون به الظفر والظهور على أعداء الله فقال أبو عبيدة: وما الذي دبرت قال تضيف الي من صناديد الرجال ثلاثين رجلا وتامرهم بالطاعة وترك المخالفة والأعتراض علي فيما آمرهم به وأفعله وأراه فقال أبو عبيدة: سأفعل ذلك ثم ضم إليه ثلاثين رجلا من الشجعان حتى إذا اجتمعوا قال لهم أبو عبيدة: معاشر المسلمين إني قد أمرت دامسا عليكم وأمرتكم بالطاعة والقبول لأمره واعلموا رحمكم الله إني ما أمرته عليكم لكونه أجل منكم حسبا ونسبا ولا أعظم موكبا ولا أشد بأسا ولا أكثر مراسا فلا يقل أحدكم إني قد أمرت عليكم عبدا احتقارا بكم وبالله أحلف مجتهدا لولا ما يلزمني من تدبير هذا العسكر لكنت أول من ينطلق معه في جمعكم وأنا أرجو من الله أن يفتح على يديكم فأقبلوا عليه بجمعهم وقالوا: أصلح الله الأمير ما نشك في أعظامك لنا ومعرفتك بسابقتنا ولقد كان كلامك الأول أثر في نفوسنا وها نحن لك وبين يديك ولو أمرت علينا علجا اغلف لم نخرج لك من أمر ولا رأي إذ علمنا إنك لا تريد إلا نصحا للدين وحياطة فالسمع والطاعة لله ثم لك ثم لمن وليته علينا من قبلك كائنا من الناس أجمعين قال ففرح أبو عبيدة بما قالوه ووثق بكلامهم وجزاهم خيرا وقال لهم: اعلموا رحمكم الله تعالى أن نفسي تحدثني أن الله تعالى يفتح هذه القلعة على يد هذا العبد المقبل لأنه دقيق الحيلة حسن البصيرة فسيروا معه وثقوا بالله وتوكلوا عليه وقد تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولى قوادا على سادات العرب من المسلمين والأشراف من عشيرته ثم اقبل على دامس فقال له: يا دامس ما الذي تحب بعد هذا قال ترحل أنت بجيشك من وقتك هذا فتكون منا على مسيرة فرسخ فتنزل بالعسكر وتأمرهم بقلة الحركة وأن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 يختفوا ما استطاعوا او يكون لك رجال تثق بشدتهم ونصحهم للمسلمين يتجسسون عن أخبارنا وآثارنا من غير أن يعلم بهم وبنا أحد ويكونون بغير سلاح سوى الخناجر فإذا عاينوا منا الظهور على أعدائنا والظفر بهم لحقوك وبشروك بذلك فتلحق بنا أن شاء الله تعالى وليكونوا متفرقين في موضع واحد فإن ذلك اسلم لهم وأبلغ لما يريدون من أمورهم والله المستعان في جميع الأمور والأحوال. فعلم أبو عبيدة إنه نصيح من الرجال صاحب رأي وبصيرة ثم أن دامسا اقبل على رفاقه الذين ولى عليهم وقال لهم: يا فتيان العرب انهضوا بنا بارك الله فيكم حتى نكمن في بعض هذا الوادي ما دام الناس عازمين على الرحيل لئلا تشرف الروم فينظروا إلى رحيلنا فلا يتفق لنا أن نطلب لنا مكمنا إذا أشرفوا من أعلى حصنهم وليكن مع كل رجل منكم سيفه وحجفته وخنجره لا غير ففعلوا ذلك فلما تكاملوا لبس دامس لامة حربه وجعل خنجره تحت أثوابه واخذ جماعته وخرج بهم حتى إذا فارق العسكر جعلوا يخفون آثارهم واشخاصهم وهو سائر بهم حتى أتى بهم كهفا في الجبل فأمرهم بالدخول إليه وجلس على بابه قال: واما أبو عبيدة فإنه أمر الناس بالرحيل بعد ما رتب الرجال كما وصاه أبو الهول فارتحل العسكر واشرف عليهم أهل القلعة فرأوهم يرحلون ففرحوا بذلك وسروا سرورا عظيما وصاروا يصيحون على المسلمين من أعلى القلعة وقالوا: لبطريقهم أيها السيد افتح لنا الباب حتى نخرج وراء العرب فلعل أن نقتل أحدا أو ناسره فنهاهم عن ذلك قال: وداموا بقية يومهم إلى العشاء فقال دامس لأصحابه من فيكم ينهض إلى تحت القلعة ويأتينا بخبر منها إذ يقدر على رجل يأسره فيأتينا به فنأخذ منه خبرا فلم يجبه أحد فقال أنا أعلم أن ما في هذه الجماعة إلا من هو ضنين نفسه كاره للموت وأنا لكم الفداء فانظروا كيف تكمنون ثم تركهم دامس ومضى فغاب عنهم ساعة وإذا به قد أتى ومعه علج وقال لهم: يا فتيان العرب دونكم هذا فاسألوه فسألوه فلم يفقهوا قوله فقال على رسلكم فغاب غير بعيد وأتى بثلاثة أخر فلم يكن فيهم من يفهم بلغة العرب فقال دامس لعن الله هؤلاء ما أفظع لغتهم واكثر طمطمتهم ثم أوثقهم كتافا وغاب إلى أن مضى من الليل نصفه ولم يأت فقلق عليه أصحابه قلقا شديدا واغتموا عليه وقال بعضهم لبعض أنا أقول أن دامسا قد فطن به فقتل أو أسر وماجوا في ذكره وهموا أن يرجعوا إلى العسكر فبينما هم في ذلك إذ دخل إليهم دامس وهو يقود رجلا من الروم فتواثبوا إليه وقبلوه بين عينيه وسألوه عن ابطائه وقالوا له: يا دامس لقد حدثتنا نفوسنا بالعظائم وصعب علينا ابطاؤك عنا فقال اعلموا رحمكم الله تعالى إني لما فارقتكم سرت إلى قريب من سور القلعة وكمنت لهم وهم يمرون علي وهم يرطنون بلغتهم وأنا لا أتعرض للقوم كل ذلك وأنا أطلب من يتعرض للعربية ويتكلم بها فلم أر أحدا حتى أيست وهممت بالرجوع خائبا إذ سمعت هدة شديدة قد وقعت من أعلى السور فأسرعت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 إليها لأنظر إليها ما هي فإذا أنا بهذا الرجل وقد ألقى نفسه من القلعة إلى أسفل السور فبادرت إليه وأخذته وأتيت به إليكم فانظروا ما هو فدنوا إليه وخاطبوه فلم يكلمهم إلا بلغته وإذا به قد انفتحت جبهته فقال لهم دامس: اعلموا أن له شأنا وأي شأن وإني أظنه هاربا من القوم وليس فيكم من يفهم ما يقول: ولكن على رسلكم فأنا آتيكم بمن يتكلم بلسانه وبالعربية ثم اسرع دامس من عندهم فلم يكن إلا قليل وإذا به قد عاد ومعه رجل قد نزلت عمامته في رقبته وهو يقوده حتى مثله عندنا فقالوا له: من المدينة أنت أم من القلعة فقال له دامس: ممن أنت تكون أمن الروم أم من العرب المتنصرة قال: ولكني مع العرب المتنصرة فقالوا: يا هذا هل لك أن تطلعنا على عورات القلعة أو عورة من عوراتها ونحن نطلق سبيلك ولا يتعرض إليك أحد بسوء فقال: يا هؤلاء لست أعرف لهذه القلعة عورة ولا طريقا ولو عرفت لما وسعني في ديني ولا رأيت أن أدلكم عليها وحق المسيح قال فانغاظ منه دامس وقال له: اسأل هؤلاء الاسارى هل فيهم أحد من أهل الربض فإن بيننا وبينهم صلحا قال فسألهم فلم يجد فيهم أحدا من أهل الربض بل كلهم من أهل القلعة وأنا أعرفهم. فقال له دامس: فاسأل هذا الرجل لم طرح نفسه من السور وما دعاه إلى ذلك فسأله فقال له: إنه يقول: أن الملك يوقنا غضب على أهل الربض لأجل صلحهم لكم وبعث يتهددهم فلما انصرفت العرب نزل يوقنا فجمع رؤوسهم واصعدهم إلى القلعة وأنا في جملتهم وطلب منا من الأموال ما لا طاقة لنا به ولا نقدر عليه فلما رأيت ما قد نزل بنا هربت والقيت نفسي من القلعة اطلب الفرج وأنجو من العقوبة فلم أشعر إلا وأنت قد قبضت علي وأنا من أهل الربض فإن كنتم من العرب فأنا في ذمتكم وأمانكم فلا تنكثوا ولا تغدروا وأن كنتم من غيرهم فاطلبوا مني ما أردتم من الفداء فاني قد هربت من العقوبة فقال له دامس: قل له: نحن من العرب ولا بأس عليك ولا خوف ولا ينالك منا سوء وأراد دامس أن يرى الربض ما يفعل بأعدائه فأخرج الروم والمتنصرة وضرب رقابهم ولم يدع غير الربض ثم أطلقه واستمروا إلى الليل وعمد دامس إلى مزوده فاستخرج منه جلد ماعز والقاه على ظهره وأخرج كعكا يابسا وقال لأصحابه: بسم الله استعينوا بالله وتوكلوا عليه واخفوا نفوسكم وقدموا الحزم في اموركم فاني معول على فتح هذه القلعة أن شاء الله تعالى فقالوا: سر على بركة الله تعالى فقاموا مسرعين وتقدم دامس وبعث رجلين من أصحابه يعلمان أبا عبيدى بشأنهم ويقولان له ابعث الخيل عند طلوع الفجر قال فانطلق الرجلان وصعد دامس ومن معه تحت الظلام ودامس على المقدمة يمشي على أربعة والجلد على ظهره وكلما أحس بشيء قرض في الكعك كأنه كلب يقرض عظما وهم من ورائه يقفون أثره وهم يستترون بين الأحجار فلا زالوا كذلك حتى لاصقوا السور وسمعوا اصوات الحرس وزعقات الرجال من أعلى القلعة والحرس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 شديد فلم يزل دامس دائرا بهم حول السور إلى أن أتى إلى مكان لم يجد به حسا وإذا بحرسه قد ناموا وراء المكان ولم يروا في السور أقرب منه فقال دامس لأصحابه أنتم ترون هذه القلعة وعلوها وتحصينها وليس فيها حيلة لشدة الحرس ويقظة القوم فما الذي ترون من الرأي أن نصنع بها وكيف الحيلة في الصعود إليها إلى أن نحصل في وسطها فقالوا: يا دامس أن الأمير أمرك علينا وأنت أدرى منا وأجرا جنانا ونحن لك بين يديك فمهما رأيت فيه الصلاح للمسلمين فلا نتأخر عنه ووالله أن قتل نفوسنا وذهاب أرواحنا اسهل علينا من الرجوع بغير فائدة فمنك الأمر ومنا السمع والطاعة فليس منا من يتأخر عنك ولا نموت إلا تحت ظلال السيوف وفي طاعة الله ونصرة دين الإسلام فقال دامس شكر الله فضلكم ورزقكم النصر على اعدائكم فإن كانت هذه نيتكم فالتصقوا بنا إلى هذا المكان قال: وكانوا ثمانية وعشرين رجلا وأثنان كانوا ارسلوهم إلى الأمير يعلمانه بأن يأتي إليهم في الصبح. فقال لهم دامس: أفيكم من يقدر على الصعود على هذه القلعة فقلنا له يا أبا الهول وكيف لنا أن نرقى إليها وعلى أي شيء نصل إلى أعلاها بغير سلم فقال على رسلكم ثم إنه اختار منا سبعة رجال كالاسد الضواري لو كلفوا حمل ذلك البرج على مناكبهم لما عظم ذلك عليهم ثم جلس على قرافيصه وقال لأحد السبعة: اجلس على منكبي وارم بحيلك إلى الجدار واجلس كما أنا جالس ففعل الرجل ما أمر به وأمر آخر أن يفعل ويصعد على منكبي الآخر وأن يرمي بقوته على الجدار قال ففعل ثم إنه لم يزل يصعد واحد بعد واحد إلى أن صعد الثامن بقوته على الجدار وهم متمسكون به فعند ذلك أمر الأعلى أن يقوم قائما وأن يطرح حيله على الجدار فقام الأول وقام الثاني ثم قام الثالث ثم قام الرابع والخامس والسادس وكل واحد منهم قد طرح نفسه على الجدار ثم قام دامس آخرهم فإذا الأعلى قد وصل إلى شرافة السور وتعلق بها فاستوى على السور ونظر إلى حارس ذلك المكان فوجده نائما وهو ثمل من الخمر فأخذ بيده ورجله ورماه فلما وصل إلى الأرض قطعوه وأخفوا جسده ووجد من أصحابه اثنين سكارى وهم رقود فذبحهم بخنجره ورمى بهم ثم أرخى عمامته لصاحبه ونشله إليه فإذا هو معه على السور وكان دامس قد أعطاه حبلا فبقوا ينشلون به بعضهم إلى أن تكاملوا على السور واصعدوا من بقي معهم على الأرض وكان آخر من صعد أبو الهول فقال لهم: مكانكم حتى أقفوا الخبر واكشف لكم الأثر ثم إنه أتى إلى دار البطريق وهو في وسط القلعة وإذا عنده سادات البطارقة وأكابرهم وهم جلوس وبين ايديهم بواطى الخمر ويوقنا جالس في وسطهم على بساط من الديباج منسوج من الذهب وعليه بدلة من اللؤلؤ ومعصب بعصابة من الجوهر والقوم يشربون والمسك والبخور يفوح عندهم فعاد دامس إلى أصحابه وقال أعلموا أن القوم خلق كثير وأن هجمنا عليهم فلا نأمن الغلبة من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 كثرتهم ولكن ندعهم فيما هم فيه فإذا كان وقت السحر هجمنا على يوقنا ومن معه من الملوك نقتلهم بسيوفنا فإذا ظفرنا بهم وذلهم الله لنا وعلى ايدينا فهو الذي نريد وأن كان غير ذلك فيكون الصباح قد قرب ولا شك أن الرجلين من أصحابنا قد أعلما خالد بن الوليد فيأتينا فقالوا: ما نخالف لك امرا ونحن قد صرنا في قلعة هؤلاء الأعداء وليس ينجينا إلا صدق جهادنا والعزم والشدة من قوتنا فقال لهم: مكانكم فلعل أن يفتح الباب قال: وكان للقلعة بابان وبينهما دهليز والبوابون داخلهما والرجال تنام عندهم بالنوبة فلما وصل دامس إلى الباب وجده مغلقا وإذا بالقوم رقود من السكر فعاجلهم بالذبح ثم فتح البابين وتركهما مردودين ورجع إلى أصحابه وقد قرب الفجر فقال لهم: ابشروا فاني قد فتحت البابين وقتلت من كان وراءهما فدونكم والباب فاسبقوهم إليه وخذوه عليهم فقد بقي القوم حصيدا بأسياف المسلمين أن شاء الله تعالى قال: وأرسل من يستعجل خالدا ويبشره بذلك ثم أرسل خمسة من أصحابه يمسكون الباب وأخذ الباقين ومشى نحو دار يوقنا فصاحوا عليه ووقع الصياح في القلعة فرجعوا بأجمعهم إلى الباب وأخذ كل واحد منهم مكانا يحميه فعندها جاءت الأبطال وصاحت الروم ويلاه كيف تمت علينا هذه الحيلة وصرخ يوقنا بأصحابه فأتوا من كل جانب فعندها كبر المسلمون ونادوا بلسان واحد الله أكبر فخيل للروم أن القلعة ملآنة منهم قال ابن أوس وقاتلت الروم قتالا شديدا وأما المسلمون فكانوا كالاسد الضارية فما رأيت أقوى بأسا ولا أشد مراسا من دامس أبي الهول في ذلك اليوم فلقد عددنا في بدنه بعد ما انفصلنا ثلاثة وسبعين جرحا كلها في مقدم بدنه قال فبينما نحن في أشد القتال ونحن يحمي بعضنا بعضا وقد بقي منا ثلاثة وعشرون وقتل منا أربعة وهم أوس بن عامر الحزمي من بني حزم وأبو حامد بن سراقة الحميري والفارع بن مسيب التميمي وفزارة بن مراد العوفي. قال الواقدي: لقد حدثني نوفل بن سالم عن جده غويلم بن حازم وكان ممن صحب دامسا في قلعة حلب قال لما قتل من قتل منا وقد قتل أيضا ملاعب بن مقدام بن عروة الحضرمي وكان ممن حضر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديبية وتبوك ومرارة بن ربيعة العامري وهلال بن أمية وهو ابن أخي كعب الذي تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبوك وأنزل الله فيه ما أنزل قال: وبقينا عشرين رجلا وتكاثرت الروم علينا في أزيد من خمسة آلاف وهم سد من حديد قال: ونحن قد أيسنا من الحياة إذ دخل علينا خالد بن الوليد ومعه جيش الزحف فوجدنا ونحن في أشد ما يكون من القتال فلما دخلوا علينا صاح فيهم خالد فجفلت الروم عنا قال أوس فلما رأيناهم كذلك وانفرج عنا ما كنا فيه اشتدت قلوبنا فعندها كبرت المسلمون ودخل ضرار وأمثاله يضربون رقابهم فلما رأى الروم ذلك وعلموا إنهم لا طاقة لهم بما وقع بهم ألقوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 السلاح ونادوا الغوث الغوث وكفوا أنفسهم عن القتال فكفت المسلمون أيديهم عنهم فبينما هم كذلك إذ أقبل أبو عبيدة ومعه عساكر الإسلام فأخبروه أن الروم يطلبون الأمان وأن المسلمين قد رفعوا عنهم القتل إلى أن تأتي وترى فيهم رأيك فقال أبو عبيدة: قد وفقوا وسددوا فأمر باحضار رجالهم ونسائهم وعرض عليهم الإسلام فكان أول من أسلم بطريقهم يوقنا وجماعة من ساداتهم قال فردج عليهم أموالهم وأهاليهم واستبقى منهم الفلاحين وعفا عنهم من القتل والأسر وأخذ عليهم العهود أن لا يكونوا إلا مثل أهل الصلح والجزية وأخرجهم من القلعة قال ثم أخرج المسلمون من الذهب والأواني ما لا يقع عليه عدد فأخرج منه الخمس وقسم الباقي على المسلمين وأخذ الناس في حديث دامس وحيله وعجائبه وعالجوا جراحته حتى برأت قال: وأعطاه أبو عبيدة سهمين ثم أن أبا عبيدة طلب أمراء المسلمين واكابرهم وشاورهم في أمره وقال أن الله وله الحمد قد فتح هذه القلعة على أيدي المسلمين وما بقي لنا موضع نخافه فهل نقصد انطاكية وهي دار الملك وكرسي عزهم وفيها بقية ملوكهم مع هرقل فما ترون من الرأي قال فعندها قام البطريق يوقنا وتكلم بلسان عربي فصيح وقال: أيها الأمير أن الله تبارك وتعالى قد ايدكم واظفركم بعوكم ونصركم وما ذاك إلا أن دينكم هو الدين القويم والصراط المستقيم ونبيكم هو المشهور في الإنجيل وهو لا محالة الذي بشر به المسيح ولا شك فيه ولا مراء وهو الفاروق الذي يفرق بين الحق والباطل وهو النبي الكريم اليتيم الذي يموت أبوه وأمه ويكفله جده وعمه فهل كان ذلك أم لا أيها الأمير فقال أبو عبيدة: نعم هو نبينا صلى الله عليه وسلم وإني يا يوقنا قد حرت في أمرك وانت بالأمس تقاتلنا ومرادك أن تكسر عسكرنا وتقطع الطريق على علوفتنا واليوم تقول مثل هذا القول وقد بلغني إنك لا تفهم بالعربية شيئا فمن اين لك حفظها فقال: لا إله إلا الله ومحمد رسول الله وإنك تعجب أيها الأمير من هذا الأمر قال: نعم قال له: اعلم أيها الأمير إني كنت البارحة مفكرا في أمركم وقد وصلتم إلى قلعتنا ونصرتم علينا وانه لم يكن عندنا أمة أضعف منكم وتوسوست في ذلك فلما نمت رأيت شخصا ابهى من القمر وأطيب رائحة من المسك الأذفر ومعه جماعة فسألت عنه فقيل لي هذا محمد رسول الله فكأني اقول أن كان نبيا حقا فليسأل ربه أن يعلمني العربية وكان يشير الي وهو يقول: يا يوقنا أنا محمد الذي بشر بي المسيح وأنا لا نبي بعدي وأن أردت فقل لا إله إلا الله وأبي محمد رسول الله فأخذت يده فقبلتها وأسلمت على يديه واستيقظت وفمي من تلك الليلة كالمسك الأذفر وأنا أتكلم بالعربية ثم إني قمت إلى منزل أخي يوحنا وفتحت خزانة كتب فوجدت في بعض الكتب صفة محمد صلى الله عليه وسلم وما يكون من أمره ووجدت كل الصفات صحيحة وأن أبغض الخلق إليه إليهود أكان ذلك أيها الأمير أم لا؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 فقال أبو عبيدة: نعم كانت إليهود تطلبنا اشد الطلب حتى نصرنا الله عليهم وأخذنا حصونهم وقتلنا أبطالهم قال يوقنا وجدت هذا في سيرته وجملة أخباره وأن الله تعالى كان يوصيه بأصحابه وبالمسلمين وبالايتام والمساكين أكان ذلك أم لا قال أبو عبيدة: نعم أما وصيته من الله على أصحابه فقد قال الله تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:215] وقال في حق اليتيم والمسكين: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ*وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} [الضحى:10] فقال يوقنا كيف قال: {وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} [الضحى:7] فما معنى وصفه بالضلال وهو عند الله كريم فقال له معاذ بن جبل رضي الله عنه: وجدناك ضالا في تيه صحبتنا فهديناك إلى مشاهدتنا وايضا سهل لك الوصول إلى سبل المكاشفة ووفقك للوقوف في مقام المشاهدة ووجدك ضالا في بحار الطلب على مركب العطب فهداك إلى سواحل الحق وقربك إلى ظل حقائق الصدق لتكون بقلبك مائلا عن الأغيار أو تهيم في قيعان الإختيار متمنيا ساعات الوصول والتلاق وليس لك منا خبر ولا معك منا أثر ألحنا لك لوائح الرضا وكشفنا لك عن واضح القضا أما علمت يا يوقنا إنه لا شيء عند المؤمن أوفى من العلم ولا أربح من الحلم ولا حسب اوضح من الدين ولا قرين أزين من العقل ولا رفيق اشر من الجهل ولا شيء أعز من التقوى ولا شيء أوفى من ترك الهوى ولا عمل أفضل من الفكر ولا حسنة أعلى من الصبر ولا سيئة أخرى من الكبر ولا دواء الين من الرفق ولا داء أوجع من الخرق ولا رسول أعدل من الحق ولا دليل أنصح من الصدق ولا فقر أذل من الطمع ولا غنى أشقى من الجمع ولا حياة أحسن من الصحة ولا معيشة أهنا من العفة ولا عبادة افضل من الخشوع ولا زهد خير من القنوع ولا حارس أحفظ من الصمت ولا غائب أقرب من الموت فلما سمع يوقنا هذا الكلام من معاذ تهلل وجهه وقال هكذا قرأته في كتب أخي يوحنا وهو مذكور في الإنجيل والتوراة ثم خر ساجدا وقبل الأرض شكرا وقال الحمد لله الذي هداني إلى هذا الدين ووالله لقد رسخ هذا الدين في قلبي وعلمت إنه الحق وسأقاتل في الله كما كنت اقاتل في طاعة الشيطان ووالله لأنصرن هذا الدين حتى الحق بأخي يوحنا ثم إنه بكى بكاء شديدا على ما فرط في أمر أخيه فقال له أبو عبيدة: قال الله في حق اخوة يوسف: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 92] وقال له: إن اخاك في عليين مع الحور العين وأما أنت فساعة اسلمت خرجت من ذنوبك كيوم ولدتك أمك فبكى لذلك وقال: أشهد علي المسلمين إني كلما جاهدت وقتلت من المشركين فثوابه في صحيفة أخي يوحنا ولا بد أن أقاتل في سبيل الله وأمحو ما سلف من الفعال فقال أبو عبيدة: يا عبد الله دلنا أين نسير فقال يوقنا أعلم أيها الأمير أن حصن عزاز حصن منيع وهو قوي بالرجال والعدد والزاد وفيه ابن عم لي اسمه دراس بن جوفناس وهو ذو شدة وبأس وقوة ومراس جلد في الحرب قوي عند الطعن والضرب وأن أنتم تركتموه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 ومضيتم إلى نحو انطاكية أغار على حلب وقنسرين وأذاقهم شرا فقال أبو عبيدة: يا عبد الله قد أنطق الله لسانك بالحق والصواب فما عندك من الحيلة. فقال يوقنا عندي من الرأي أن أركب جوادي وتضم الي مائة فارس من المسلمين ولنكن على زي الروم ولباسهم وأتقدم بهم ثم يتقدم أمير من العرب ومعه ألف فارس على خفاف الخيل وأنا في المقدمة بالمائة فارس على مقدار فرسخ كأننا هاربون منكم وأوائل الخيل الألف في طلبنا فإذا أشرفنا على عزاز نلقي الصوت فإذا نظر إلينا صاحبها دراس لا بد أن ينزل إلينا ويلقانا فإذا سألني أخبرته إني أسلمت زورا ثم هربت فخرجت العرب في طلبي فإذا سمع مني ذلك يصعد بنا إلى حصنه وليكن مقدم الألف بالقرب منا في قرية هناك فإذا كان نصف الليل سرنا في وسط الحصن ونضع السيف في أعدائنا فإذا كان عند صلاة الفجر يأتينا أمير العرب بالألف الذي معه فلما سمع أبو عبيدة ذلك استنار وجهه واستشار خالدا ومعاذا في ذلك فقالا يا أمين الأمة رأي سديد أن لم يغدر هذا الرجل ويرجع إلى دينه فقال أبو عبيدة: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} فقال يوقنا أنا والله رجعت عن ديني إلى دينكم بعدما كنت أعظم من تلك الصور والصلبان وما بقي في قلبي سوى محبة الرحمن ومحمد سيد ولد عدنان والجهاد عن افضل الأديان والله على ما أقول وكيل وحق الذي لا إله إلا هو وحق محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم الذي رأيته وعاينته في المنام أن كنتم تظنون في غير ذلك فلا تتركوني أفعل شيئا مما ذكرته لكم فقال أبو عبيدة: يا عبد الله أن أنت نصحت للمسلمين ولم تغدر بهم كان الله لك معينا في كل ما تحاوله فأتبع الصدق تنج به فإن ديننا مبني على الصدق وأتبع سنن أخوانك المؤمنين وأعلم أن المؤمن الصادق قوته ما وجد ولباسه ما ستر ومسكنه ما وجد فلا يحزنك ما تركت من ملكك وحكمك وامارتك فإن الذي تركته فإن والذي تطلبه باق لأن نعمة الدنيا فانية والآخرة خير وابقى واعلم إنك في يومك هذا عار من الشرك واعلم أن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر والمؤمن يتيقن أن القبر مضجعه والخلوة مجلسه والأعتبار فكره والقرآن حديثه والرب أنيسه والذكر رفيقه والزهد قرينه والحزن شأنه والحياء شعاره والجوع ادامه والحكمة كلامه والتراب فراشه والتقوى زاده والصمت غنيمته والصبر معتمده والتوكل حسبه والعقل دليله والعبادة حرفته والجنة داره وأعلم يا يوقنا أن المسيح قال عجبت لمن ليله غافل وليس بمغفول عنه ومؤمل دنيا والموت يطلبه وبان قصرا والقبر مسكنه وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم من أعطى أربعا أعطي أربعا وتفسير ذلك في كتاب الله تعالى من أعطى الذكر ذكره الله عز وجل لأن الله تعالى يقول. : {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152] ومن أعطى الدعاء أعطى الإجابة لأن الله تعالى يقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] ومن اعطى الشكر أعطى الزيادة لأن الله تعالى يقول: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 [ابراهيم: 7] ومن اعطى الاستغفار أعطى المغفرة لأن الله تعالى يقول: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} [نوح: 10] . قال الواقدي: حدثني عامر بن قبيصة اليشكري قال حدثني يونس ابن عبد الأعلى قراءة عليه قال شهر بن حوشب عن جده عامر بن زيد قال كنت ممن شهد فتوح الشام وكنت في فتوح قنسرين وحلب مع ابي عبيدة وكنت كثيرا ما أصحب الروم الذين دخلوا في ديننا فلم أر منهم أشد أجتهادا ولا أخلص أعتقادا ولا أعظم نية ولا أحسن في الجهاد حمية ولا أبلغ في قتال الروم من يوقنا ولقد نصح والله للمسلمين وجاهد في الكافرين وأرضى رب العالمين ولقد فعل في الروم ما لم يقدر أحد عليه من أبناء جنسه من بعد ما قاسى المسلمون منه على قلعة حلب وما تركهم ينامون ولا يقرون ليلا ولا نهارا وما قتل من المسلمين رضي الله عنهم أجمعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 ذكر فتح عزاز قال الواقدي: لما وعظ أبو عبيدة يوقنا وفرغ من وعظه ضم إليه مائة فارس وألبسهم زي الروم قال: وكان كل عشرة من قبيلة قال: وهم من طيء وفهر وخزاعة وسنيس ونمير والحضارمة وحمير وباهلة وتميم ومراد وجعل على كل عشرة نقيبا فأما نقيب طيء فخزعل بن عاصم وعلى فهر فهر بن مزاحم وعلى خزاعة سالم بن عدي وعلى سنيس مسروق ابن سنان وعلى نمير أسد بن حازم وعلى الحضارمة ماجد بن عميرة وعلى حمير ملكهم ذو الكلاع الحميري وعلى باهلة سيف بن قادح وعلى تميم سعد بن حسن وعلى مراد مالك بن فياض فلما كملوا قال لهم أبو عبيدة: أعلموا رحمكم الله إني مرسلكم مع هذا الرجل الذي وهب نفسه لله ورسوله وكل طائفة منكم عليها نقيب وقد وليته عليكم فاسمعوا له وأطيعوا ما دام مرضاة الله عز وجل قال فلبسوا وركبوا وساروا معه فلما بعدوا بفرسخ أرسل وراءهم ألف فارس وأمر عليهم مالكا الاشتر النخعي وقال له: سر في أثر القوم وانظر ما يكون من أمر هذا العبد الصالح فإذا قربت من هذا الحصن فأكمن إلى وقت السحر ثم تظاهر لاخوانك سر وفقك الله وأرشدك فسار مالك يقدم قومه فساروا بقية يومهم فلما جن عليهم الليل كمنوا في قرية بالقرب من الحصن وهي خالية من السكان وأما ما كان من يوقنا فإنه أخذ على غير طريق وسار طالبا عزاز. قال الواقدي: حدثني سليمان بن عبد الله اليشكري حدثني الشديد بن مازن عن جده خزعل بن عاصم قال كنت في خيل يوقنا لما وجهنا أبو عبيدة معه قال لما شارفنا عزاز قال لنا يوقنا أعلموا يا فتيان العرب أنا قد شارفنا هذا العدو فإياكم أن يتكلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 أحد منكم فإن لغتكم لا تخفى على الروم وأنا المترجم عنكم وكونوا على يقظة من أمركم فإذا رأيتموني وقد بطشت بصاحب الحصن فثوروا على اسم الله تعالى ثم ساروا وليس عنده خبر من تواتر القدر. قال الواقدي: حدثني سليمان بن عبد الله اليشكري قال حدثني عبد الرحمن المازني وكان ممن يكتب فتوح الشام قال حدثني الأكوع بن عباد المازني قال كنت مع مالك الاشتر من جملة الألف حين سرنا في أثر يوقنا صاحب حلب حتى إذا كنا في تلك القرية ونحن ننتظر الصباح وإذا نحن بجيش من ورائنا من غربي القرية فسار مالك الاشتر وقصد الحصن فغاب عنا غير بعيد وعاد ومعه رجل من العرب المتنصرة وقد أقبل به فلما صار بيننا قال: يا فتيان اسمعوا ما يقول: هذا الرجل فقلنا وما الذي يقوله قال أسألوه فإنه يخبركم فسألناه وقلنا من أي الناس أنت قال من غسان من بني عم جبلة بن الأيهم فقال له مالك: ما اسمك قال أسمي طارق بن شيبان فقال له: يا طارق بحق ذمة العرب لا تكتمنا أمرا تعرفه من أعدائنا قال: والله لا أكتم أمرا أعرفه ولكن خذوا على أنفسكم قبل قدوم عدوكم قال مالك وكيف ذلك قال: لانا البارحة ورد علينا جاسوس من عندكم وهو منا أسمه عصمة بن عرفجة وكان يسمع ما تناجيتم به من الحيلة التي أرادها يوقنا على صاحب عزاز فلما سمع الجاسوس منكم ذلك كتب رقعة وربطها تحت جناح طير كان معه وأطلقه إلى صاحب عزاز فلما قرأها أرسلني إلى صاحب الراوندات لوقا بن شاس يستنجده عليكم فمضيت إليه بالرسالة وهو قادم في خمسمائة فارس وكانكم بهم وقد هجموا فخذوا حذركم. قال الواقدي: وأما ما كان من أمر يوقنا فإنه سار حتى وصل إلى الحصن فوجد صاحبه قد تجهز بنفسه ومعه أصحابه وهو خارج الحصن وكان اللعين يركب في ثلاثة آلاف فارس من الروم والف من العرب المتنصرة غير من التجأ إليه من السواد فلما قدم عليه يوقنا لم يوهمه في شيء من أمره بل استقبله وترجل إليه وأقبل كأنه يقبل ركابه وكان في يده سكين أمضى من القضاء فقطع به حزام فرس يوقنا وجذبه إليه وإذا به قد وقع على أم رأسه فأطبق الأربعة آلاف على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يمهلوهم حتى أخذوهم قبضا بالكف وشدوهم كتافا وبصق دراس في وجه يوقنا وقال لقد غضب عليك المسيح والصليب إذ فارقت دينك ودخلت في دين أعدائك وحق المسيح لا بد لي أن أبعثك إلى الملك الرحيم هرقل يصلبك على باب انطاكية بعدما أضرب رقاب هؤلاء العرب ثم إنه أصعدهم إلى الحصن. قال الواقدي: ومن خيرة الله للمسلمين أن الجاسوس لم يكتب لصاحب عزاز في مكاتبته بسير مالك الاشتر قال: وأن مالكا الاشتر لما سمع كلام المتنصر أيقظ أصحابه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 وربط المتنصر عنده واقاموا ينتظرون صاحب الراواندات فلما راق الليل سمعوا وقع حوافر الخيل فلم يكلمهم مالك حتى توسطوا الكمين وأطبقوا عليهم فكل اثنين ربطوا واحدا من الروم واخذوهم بالكف ولم ينفلت منهم أحد ولبسوا ثيابهم ورفعوا رأيتهم وصليبهم كما كانت ثم أن مالكا قال للمتنصر هل لك أن ترجع إلى دين الله عز وجل ودين نبيه محمد صلى الله عليه وسلم فيمحو عنك ما سلف من الكفر بالإيمان وتبقى لنا من جملة الأخوان فقال أن قلبي ولبي عندكم فلا جزي الله من ألجانا إلى الدخول في هذا الدين خيرا وأنا والله من الطائفة التي هي أول من اسلم على يد عمر بن الخطاب وقد سمعنا عن محمد صلى الله عليه وسلم إنه قال: "من بدل دينه فاقتلوه" فقال له مالك: لقد صدقت في قولك ولكن انسخ هذا الحديث بقول لا إله إلا الله فقد قال الله تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70] الآية وقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم توبة وحشي قاتل عمه حمزة فأنزل الله فيه الآيات فلما سمع الغساني ذلك فرح وقال أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله والآن والله يا مالك قد طاب قلبي وانجبر كسري أخذ الله بيدك وأنقذك الله يوم القيامة قال ففرح مالك باسلامه وقال له: وفقك الله وثبت ايمانك ثم قال له: يا عبد الله إني أريد أن تمحو ما سلف منك بما تفعله فقال: وما تريد أيها الأمير قال تمضي إلى صاحب عزاز وتبشره بقدوم صاحب الراوندات إلى نصرته فقال أفعل ذلك أن شاء الله تعالى وأن كنت في شك من أمري فأرسل معي من تثق به حتى يسمع ما أقول فإن الليل قد تنصف والحرس شديد وباب الحصن مقفول وأنا أخاطبهم من شفير الخندق قال فأرسل معه مالك ابن عم له يقال له راشد بن مقبس: ووصاه أن يكون مستيقظا فسارا جميعا إلى أن وصلا إلى الحصن فوجدا الحرس شديدا والروم تضرب بوقاتها والصوت عال في وسط الحصن فقال طارق لابن عم مالك ما هذا وحق ابي الأقتال وضرب وحرب فانصتا فإذا هو كما قال طارق. قال الواقدي: وكان السبب في ذلك أن ابن صاحب عزاز شاب شجاع يقال له: لاوان كان أبوه دراس في وقت يرسله إلى يوقنا بالهدايا والتحف لما بينهم من القرابة وكان يقيم عنده أشهرا في أعز مكان وانه حضر عنده في بعض المرات في عيد الصليب في البيعة التي هي اليوم الجامع وكان يدخل في كل وقت فرأى يوما ابنة يوقنا وهي بين جواريها وخدمها وحشمها فوقع بقلبه حبها فكتم أمرها وعاد إلى عزاز وشكا حاله إلى أمه وما كان لأبيه ولد غيره وهي تجد له محبة عظيمة فقالت له: أنا أخاطب أباك في ذلك والزمه أن يرسل ليخطبها من ابيها ويزوجك بها ونبذل له من المال ما أراده وطلبه واشتغل قلب الشاب بحب الجارية وفي اثناء ذلك جاءت العرب إلى بلادهم واشتغلت خواطرهم فلما وقع يوقنا في يد أبيه كان وكان من أمره ما كان وقبض عليه وعلى المائة من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 المسلمين وحبسهم جميعا في دار ولده لاوان ووصاه بحفظهم فقال لاوان في نفسه: وحق ديني أن ابن عمنا يوقنا أعلم من ابي بالأديان ولولا إنه رأى الحق مع هؤلاء العرب ما تبعهم بعدما قاتلهم أشد القتال وايضا أن جيوش الملك ما ساوتهم وأن الله قد نصرهم على ضعفهم وأنا قلبي متعلق بابنته وإني أرى من الرأي السديد أن أحل هؤلاء القوم من الوثاق وارجع إلى دينهم بعد أن أثق من ابن عمي أن يزوجني ابنته فإنه على الحق وأنال ما أطلب بعدها وأتزوج ابنته فلما حدثته نفسه بذلك اقبل يوقنا وجلس بين يديه وقال له: يا عم إني عولت على أن أحل وثاقك أنت وأصحابك وقد اخترتك على أهلي وأبي وملكي وأنت تعلم أن فراق الأهل صعب واخترت الإيمان على الكفر وقد علمت أن دين هؤلاء صحيح ولكن لي عليك شرط أن تزوجني ابنتك ومهرها عتقك أنت وهؤلاء الناس الذين معك فقال يوقنا يا بني ما لك إلى زواجها من سبيل إذا كنت تدخل فيه لأجل غرض الدنيا وليكن دخولك فيه خالصا من قلبك حتى أن الله يأجرك على ما تفعله وأنا أن شاء الله تعالى أبلغك ما ترومه وتنال عز الدنيا والآخرة فقال: لا وأنا اشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمد رسول الله ثم حل وثاق يوقنا وأعطاه سلاحه وحل المائة وأعطاهم سلاحهم وقال لهم: كونوا على أهبة وأنا أمضي إلى أبي وهو ممل بالخمر فأقتله وثورا على بركة الله تعالى في رضا الله فعندها قال يوقنا للمائة أشهدوا علي إني زوجته أبنتي وجعلت صداقها عتنقا فقبل منه ومضى إلى دار أبيه فوجد أباه مقطوع الرأس واخوته عنده فقال لهم: من فعل هذا بأبي قالوا: نحن قال: ولم ذلك قالوا: أردنا بذلك وجه الله وقد سمعناك وما تحدثت به مع يوقنا وأصحابه فخفنا عليك أن لا يتم لك هذا الأمر ويتكاثر الجمع على القوم ويبلغ ابانا خبرك فيقتلك فبطشنا به قبلك قال ففرح لاوان بذلك ورجع إلى يوقنا وأصحابه وأعلمهم بما جرى فخرجوا من دار لاوان وتوسطوا الحصن ورفعوا أصواتهم بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير والسراج المنير ووضعوا السيف في الروم قال: ووقع الصائح في الحصن كما وصفنا وتبادرت الروم لقتال المسلمين وفي تلك الساعة قدم طارق ورفيقه قال فسمعنا الأصوات قال فرجعنا إلى مالك وأعلمناه بما سمعناه فقال مالك لأصحابه اركضوا لأصحابكم فركضوا خيولهم وخلف منهم مائة يحفظون الأسرى فلما قربوا من الحصن وكان يوقنا قد قال للاوان أن نجدة من المسلمين تأتينا فأتى لاوان فراى المسلمين قد أتوا ففتح لهم باب الحصن من باب السر وأدخلهم فلما حصل مالك الاشتر في حصن عزاز نادى هو ومن معه الله أكبر فتح الله ونصر وخذل من كفر فلما رأى أهل الحصن ذلك رموا سلاحهم ونادوا الغوث الغوث فرفعوا عنهم السلاح وأخذوهم أسارى وشكروا ليوقنا ومن معه قال فحدث يوقنا مالكا الاشتر بحديث الغلام لاوان فقال مالك إذا أراد الله أمرا هيأ أسبابه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 قال الواقدي: حدثني قيس عن عقبة عن صفوان عن عمرو بن عبد الرحمن عن جبير عن أبيه قال سألت أبا لبابة بن المنذر وكان ممن حضر فتوح الشام كيف كانت فتوح عزاز وقتل دراس فإن نفسي تنكر هذا وأريد صحته فقال لما وضعت الحرب أوزارها وجمع مالك الاشتر الاسارى والمال والثياب والذهب والفضة والآنية وأمر باخراج ذلك من الحصن ووكل به قيس بن سعد وكان ممن حضر وأصابه سهم فعوره وكذلك أبو لبابة بن المنذر وكلاهما حضر بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يبق أحد في عزاز ثم قام مالك فمشى في الحصن وتقعد دراسا فوجده مقتولا فقال من قتل هذا اللعين فقال لاوان: قتله أخي لوقا وهو أكبر مني سنا فأمر مالك باحضاره وقال لم قتلته وهو أبوك وما سمعنا ولدا قتل أباه من الروم سواك فقال حملني على ذلك محبة دينكم لأن في بيعة هذا الحصن قسا من المعمرين وكنأ نقرأ عليه الإنجيل ويعلمنا بعلم الروم وإني كنت في بعض الايام في البيعة أنا وهو وليس عندنا أحد وكان اسمه أبا المنذر فقلت له: يا أبا المنذر إلا ترى إلى بلاد الشام كيف استولت عليها العرب وملكوا أكثرها وهزموا جيوش الملك وما كنا نظن أن العرب تقدر على ذلك لانه ليس في الأمم أضعف منهم وأن الله تعالى نصرهم على ضعفهم فهل قرأت ذلك في كتب الروم أو ملاحمهم أو ملاحم اليونانيين فقال: يا بني نعم إني قرأت ذلك ولقد أخبرنا الملك هرقل بذلك قبل وقوع هذا الأمر وجمع إليه الملوك والاساقفه والبطارقة وغيرهم وأخبرهم أن العرب لا بد أن يملكوا ما تحت سريري هذا ولقد بلغنا عن نبي القوم إنه قال زويت لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها فقلت له: يا أبانا فما تقول في نبي القوم قال له: يا بني أن في كتبنا أن الله تعالى يبعث نبيا بالحجاز وقد بشر به عيسى المسيح بن مريم ولا ندري أهو هذا أم لا فعلمت إنه كتم عني امره مخافة أن اذيع سره فكتمت ما قال لي البارحة فلما رأيت يوقنا وأصحابه اسرى قلت: هذا يوقنا قد قتل أخاه يوحنا وعاند العرب وقاتلهم ثم إنه رجع إلى دينهم وما ذاك إلا إنه قد علم الحق معهم فقلت: أنا لنفسي قم أنت واقتل أباك وخلص يوقنا وأصحابه وارجع إلى دين هؤلاء فهو الدين الحق لا شك فيه فلما نام ابي بعدما شرب الخمر وسكر قتلته وسرت إلى خلاص يوقنا ومن معه فوجدت أخي لاوان قد سبقني إلى ذلك فقال له مالك: يا غلام لم فعلت ذلك قال: محبة في دينكم وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فقال له مالك: قبلك الله ووفقك ثم خرج مالك من الحصن وولاه سعيد بن عمرو الغنوي وترك معه المائة الذين كانوا مع يوقنا وقدموا إليه صاحب الراوندات ومن معه فعرض عليهم الإسلام فابوا فضرب رقابهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 قال الواقدي: حدثني عبد الملك بن محمد عن ابيه حسان بن كعب عن عبد الواحد عن عبد الله بن قرط الأزدي أن فتح عزاز كان هكذا والذي ذكر أن بنات دراس وزوجته قتلنه لم يصح والله اعلم ثم أن مالكا الاشتر أراد أن يرحل فعرض عليه سبي عزاز فكان ألف رجل من الشباب والبنات ومائتين وخمسة وأربعين رجلا من الشيوخ والرهبان والفي امرأة من النساء والبنات ومائة وثمانين عجوزا ونظر إلى شيخ من الرهبان مليح الشبيبة واضح الهيبة فقال أن صدقت الفراسة فهذا القس الذي اخبرني به لوقا واخوه لاوان فدعا بهما وقال هذا هو القس الذي اخبرني به لوقا فقال: نعم فقال له: يا شيخ إذا كنت من علماء أهل الكتاب فكيف تكتم الحق عن مستحقيه فقال: والله ما كتمت الحق عن مستحقيه ولكن خفت من الروم أن يقتلوني لأن الحق ثقيل وقد قتلوا الأبناء والأخوة وذلك لأجل الحق فكيف أنا فقال له مالك: افتدخل في ديننا. فقال لست أدخل فيه إلا إذا سألتكم عن مسائل وجدتها في الإنجيل فقال له مالك: هات ما عندك فلما أراد القس أن يتكلم وقع الصياح في الحصن فارتاع الناس ووثب مالك لينظر ما خبر الناس وظن أن الروم قد غدرت بهم وإذا بأناس من المسلمين الذين بالحصن يقولون أيها الأمير خذوا حذركم فانا نرى غبرة على طريق منبج وبزاعة ولا ندري ما هي فركب مالك ومن معه ووقفوا ينتظرون ما ذاك وإذا قد لاح من تحتها خيول الإسلام وهم يسوقون السبايا والأموال والرجال وهم مشددون في الحبال ووراءهم ألف فارس من المسلمين وأميرهم الفضل بن العباس رضي الله عنه وكان قد أرسله أبو عبيدة حتى غازى منبج والباب وبزاعة فوقع الكثير في الفريقين وسلم بعضهم على بعض وسأل الفضل مالكا عن قصته فحدثه أن الله قد فتح عزاز وأذل من فيها وحدثه بما كان من حديث يوقنا وانني ما منعني من الرحيل إلا هذا القس وسؤاله فقال له الفضل: أيها القس قل: ما أنت قائل فقال القس أخبرني عن أي شيء خلقه الله تعالى قبل خلق السموات والأرض فقال الفضل أول ما خلق اللوح والقلم ويقال العرش والكرسي ويقال الوقت والزمان ويقال العدد والحساب ويقال أول ما خلق الله جوهرة فنظر إليها فصارت ماء ثم خلق العرش ياقوته وكان عرشه على الماء وانه نظر إلى الماء فاضطرب وارتعد وصعد منه دخان فخلق الله منه السماء ثم خلق الأرض وقيل خلق أولا العقل لأنه أراد أن ينتفع به الخلق وقيل أول ما خلق الله نورا وظلمة ثم دعاهما إلى الإقرار فانكرت الظلمة وأقر النور فخلق منه الجنة لرضاه عنه وخلق النار من الظلمة لسخطه عليها وخلق أرواح السعداء من النور وأرواح الاشقياء من الظلمة فلاجل ذلك كل منهم يرجع إلى مستقره ويقال أول ما خلق الله نقطة فنظر إليها بالهيبة فتضعضعت وسالت ألفا فجعلها مبدأ كتابه العزيز فسبحان من ألف كتابه من نقطة وخلق خلقه من نقطة ثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 يميتهم بقبضة ويحييهم بنفخة فلما سمع القس ذلك من كلام الفضل ابن العباس قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله هذا هو العلم الذي استأثر به انبياء الله تعالى فلما نظر أهل عزاز إلى قسهم وقد أسلم اسلموا عن آخرهم إلا قليلا منهم والله أعلم. قال الواقدي: حدثني عامر بن يحيى عن أسد بن مسلم عن دارم بن عياش عن جده قال لما أسلم أهل عزاز باسلام قسهم الذي كان معتقدهم عول الفضل ومالك على المسير إلى حلب فقال يوقنا أنا والله ما لي وجه أقابل به المسلمين لأني كنت قلت: قولا ودبرت أمرا فلم يتم لي وإني سائر إلى انطاكية فلعل الله أن يظفرني بالأعداء وينصرني عليهم فقال له الفضل: إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم ليس لك من الأمر شيء فلا تحمل قلبك هما فقال: ودين الإسلام لا أرجع إلا بأمر يبيض الله به وجهي عند اخواني المسلمين فنظر وقد صحبه مائتان من بني عمه ممن قد رسخ في قلوبهم الإيمان ولهم عيال وأولاد في حلب فاخذهم يوقنا وسار يريد انطاكية فلما قرب من ارضها أخذ منهم أربعة وأمر الباقي أن يتعوقوا خلفه أربعة ايام ثم يأتوا كأنهم هاربون من العرب ليتم ما دبره في خاطره وسار هو والأربعة على طريق حارم والباقي على طريق أرناح وقال لهم: الميعاد بيننا أنطاكية ففعلوا ذلك وساروا وسار هو إلى أن اشرف على دير سمعان المشرف على البحر فوجد هناك خيلا ورجالا يحفظن الطرقات فلما رأوا يوقنا والأربعة معه بادروا إليهم واستخبروهم عن حالهم فقال لهم يوقنا: أنا صاحب حلب وقد هربت من العرب فوكل بهم صاحب الدرك جماعة وأمرهم أن يسيروا بهم إلى الملك فأخذتهم الخيل وأتوا بهم إليه فوجدوه في كنيسة الفتيان يصلي فوقفوا حتى فرغ من صلاته فاوقفوا يوقنا بين يديه وقالوا: أيها الملك أن بطرس صاحب الحرس الذي عند دير سمعان قد وجه بهذا ومن معه إليك ويزعم إنه صاحب حلب فلما سمع هرقل ذلك قال له: يا يوقنا ما الذي أتى بك وقد بلغني إنك دخلت في دين العرب فقال: أيها الملك لقد بلغك الحق وذلك إني ما اسلمت إلا لمكيدة القوم حتى أتخلص من شرهم ومن كراهة منظرهم ونتن رائحتهم وإني قلت لهم: اسلم إليكم حصن عزاز واقتل صاحبها واخذت منهم مائة سيد من ساداتهم وسرت بهم وأمرت أن ينفذ ورائي ألف حتى إذا صاروا داخل الحصن اقبض عليهم وارسلهم إليك فعجل دراس علي ولم يفهم ما أضمرته ووثق بكلام جاسوسه ولم يثق بكلامي فقبض علينا فأتت العرب ووضعت السيف في أهلها وذلك أن لوقا قتل أباه رجل من العرب وأنا من جملتهم فلما اشتغلوا بالقتال والنهب هربت أنا وهؤلاء الأربعة وجئنا إليك ولولا محبتي في ديني ما كنت قتلت أخي يوحنا وصبرت على قتال العرب وحصارهم سنة كاملة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 قال الواقدي: فاعانته البطارقة والملوك الذين كانوا حاضرين وقالوا: صدق يوقنا أيها الملك وسيظهر لك فعله وعمله وجهاده فانبش وجه الملك لذلك وخلع عليه من لباسه الذي هو عليه وسوره ومنطقه وتوجه وقال له: إن كانت حلب أخذت منك فاني وليتك على انطاكية وأعطاه وظيفة دمستقها وسكندرها يعني واليها. قال الواقدي: فسمع يوقنا له ودعا له فبينما هو كذلك إذ أتى إليه الموكل بجسر الحديد واخبر الملك إنه قد قدم عليهم مائتا بطريق من فرسان حلب وهم يزعمون إنهم من بيت واحد من الرومية من بني عم يوقنا وإنهم قد هربوا من العرب فلما سمع ذلك قال ليوقنا أيها الدمستق والكندر قم واركب واشرف على هؤلاء القوم فإن كانوا من بني عمك فأهل بهم وضمهم إليك ليكونا عسكرك وأن كانوا غير ذلك فات بهم لأرى فيهم ما أرى وإياك أن يكونوا من قبل العرب ممن رجع إلى دينهم من أهل سيجر وحماة والرستن وجوسية وبعلبك ودمشق وحوران فقال: نعم أيها الملك فركب وركبت معه الفرسان من الملكية والسريرية وأتوا إلى جسر الحديد وأمر أصحاب الدرك أن يأتوا بالمائتين فلما رآهم يوقنا رحب بهم ونظروا إليه وهو في ذلك الزي والحشمة وخلعة الملك عليه فترجلوا وقبلوا ركابه فقال لهم: كيف خلصتم من أيدي العرب فقالوا: أيها السيد أننا خرجنا منع أمير من امرائهم وأغرنا على منبج وبزاعة فلما رجعنا نريد حلب أخذنا على عزاز فوجدناهم قد ملكوها فلما كان الليل تركناهم وأتينا. قال الواقدي: وهذا كله وحجاب الملك يسمعون فلما حضروا أخبروا الملك بذلك ودخل يوقنا بهم على الملك فخلع عليهم وأنزلهم وأمرهم أن يكونوا في خدمة يوقنا وأعطاه دارا بازاء قصره فقال يوقنا أيها الملك أنت تعلم أن هذه الدار لا يدوم نعيمها وأن السيد المسيح شبهها بالجيفة وطلابها بالكلاب يتجاذبونها كما روى عن المسيح إنه رأى طائرا حسنا مزينا بكل زينة فنزع جلده فرآه أقبح ما يكون منظرا فقال له: من أنت قال اناالدنيا ظاهري مليح وباطني قبيح وإنما ضربت لك هذا المثل أيها الملك لتعلم إنه ما خلا جسد من حسد وإذا أقبلت الدنيا على أحد كثرت حساده وأنا أخاف من الحساد أن يتكلموا في عند الملك ويرموني بالبهتان وبما لا أفعله فإن كان الملك ينفر مني فليول هذه الوظائف غيري وأنا ما ابرح على ركابك ثم إنه بكى فقال له الملك: أيها الدمستق ما وليتك هذا الأمر إلا وقلبي وخاطري وأثق بك من تكلم فيك بشيء سلمته إليك تفعل به ما تريد فشكره يوقنا وأراد الخروج إلى وظيفته التي ولاه إياها وإذا بخيل البريد قد أقبلت من مرعش وهم رسل ابنته زيتونة وإنها خائفة من العرب وهي تريد القدوم عليك حتى ترى ما يئول من الأمر وإنها تسألك أن ترسل لها جيشا يوصلها إليك فلما سمع الملك ذلك قال ليس لهذا الأمر إلا الدمستق يوقنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 فقبل الأرض وقال السمع والطاعة لأمرك فضم إليه ألف فارس ومائتين من أصحابه من المدبجة والقياصرة. قال الواقدي: فسار بالألفين والمائتي فارس وقد رفع الصليب فوق رأسه وجنبت الجنائب وعليها الرخوة المذهبة وسار يجد السير إلى أن وسل إلى مرعش وأخذ زيتونة بنت هرقل وهي الصغرى وكان الملك قد ولاها على تلك البلاد وزوجها بنوسطير بن حارس وكانوا يسمونه سيف النصرانية لشجاعته وكان قد قتل على اليرموك من جراحات أصابته. قال الواقدي: فلما أخذ يوقنا ابنة الملك وعاد يطلب بها انطاكية أخذ على الجادة العظمى لعله يلقي أحدا من جواسيس المسلمين أو يرى معاهدا فيرسله ليعلم أبا عبيدة إنه قد تمكن من الملك ومن البلد فلما وصل مرج الديباج وكان ليلا وإذا بخيله التي على مقدمته قد أتته وهم مذعورون فقال لهم: ما بالكم فقالوا له: أيها السيد الدمستق أن هناك عسكرا نازلا فقربنا منهم فإذا هم عرب وهم نيام ولا شك إنهم مسلمون فقال لهم: خذوا أهبتكم وأيقظوا خواطركم وانصحوا لدينكم وجاهدوا عدوكم وقاتلوا عن أبنة الملك ولا تسلموها إلى اعدائها وكونوا خير جند قاتل عن نعمة صاحبه وإذا تمكن الحرب بيننا وبينهم فاعتمدوا على الأسر وإياكم والقتل واعلموا أن العرب وأميرهم لا بد لهم أن يقصدوا الملك ومن معه فإن اسروا منا أحدا يكن عندنا الفداء فقد وجدت في كتاب حرفناس الحكيم أن من نظر في عواقب زمانه توشح بوشاح أمانه ومن أهمل أمره خاف حذره ومن أكثر الغدر حل به الأمر سيروا على بركة الله. قال الواقدي: فشرعوا الأعنة وقوموا الاسنة وقصدوا ذلك العسكر فلما احسوا بهم بادروا إليهم واستقبلوهم وهم ينادون بعيسى بن مريم والصليب المفخم من أنتم فقال لهم يوقنا: ومن انتم فقالوا: نحن أصحاب جبلة بن الأيهم فلما سمع يوقنا ذلك ترجل عن دابته وسلم عليه وسلمت العرب المتنصرة على الروم فقال جبلة من أين جئتم فقال له مرعش: ومعي ابنة الملك وانتم من أين جئتم فقال جبلة من العمق وقد أتينا بميرة أهلها فلما رجعت ووصلت إلى مرج دابق لقيت كتيبة من فرسان المسلمين وهم زيادة عن مائتي وهم لابسون زينا فلما وصلنا إليهم ابتدرونا بعزم شديد وحرب عتيد وإذا مقدمهم لا يصطلي له بنار فلقد أباد منا رجالا وجندل منا ابطالا ونحن في ألفي فارس وهم مائتان وكان فينا كالنار المحرقة فما زلنا نقاتلهم حتى أسرناهم بعدما قتل الفارس منهم الفارس والاثنين والثلاثة منا وبقي أميرهم إلى آخر الناس فقصدنا جواده بالسهام حتى قتلناه ووقع فهجمنا عليه وأخذناه أسيرا فاذ هو من أصحاب محمد وهو ضرار بن الأزور ونحن قاصدون بهم إلى الملك هرقل ليرى فيهم رأيه فاظهر لهم يوقنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 الفرح وقال: وحق ديني لقد فزت بالفخر بأسرك لهؤلاء وهذا الغلام فلقد بلغني عنه ما فعل بأبطال الشام وفرسان الروم ثم سار القوم جميعا يطلبون أنطاكية. قال الواقدي: حدثني الشريد بن عاصم عن شروان بن مجزل عن قادم ابن بشر عن زائدة بن معمر قال حدثنا بشار عن عوف عن صالح عن عبد الله عن جده مسروق قال المؤلف وحدثني هذا الحديث عباد بن عاصم عن عمران بن حصين قال لما فتح المسلمون حصن عزاز وترك مالك الاشتر عليها سعيد بن عمرو الغنوي والتقى بالفضل بن العباس ورجعا بالغنائم إلى حلب استبشر أبو عبيدة بسلامة الناس وبفتوح عزاز فسأل مالكا عن يوقنا فحدثه فيما بينه وبينه سرا وأنه قصد أنطاكية ليدخل على كلب الروم بحيلة ولم يكن له وجه يعود إليك به فقال أبو عبيدة: الله ينصره ويظفره ويغفر له فلقد ظهر لنا منه ما لم يكن لنا في حساب ثم إنه كتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتابا يقول فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من ابي عبيدة عامر بن الجراح إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب سلام عليك فاني أحمد الله الذي لا إله إلا هو وأصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أما بعد فإن الله سبحانه له المنة علينا التي يستوجب بها الحمد من جميع المسلمين إذ فتح علينا مستصعب قلاع الكفر وحصونه وأذل لنا ملوكهم وأورثنا ارضهم وديارهم وأن سبحانه قد فتح علينا قلعة حلب وأردفها بحصن عزاز وأن البطريق يوقنا صاحب حلب قد أسلم وحسن اسلامه وقد صار عونا للمسلمين على الكافرين من بعد ما قاسينا منه ما الله عالم به فالله يجازيه فلقد نصر الله به الدين ونصح للمسلمين وأباد المشركين وقد دخل انطاكية يدبر حيلة على كلب الروم وقد ألقى بنفسه إلى الهلاك في طاعة الله ورسوله ولقد كتبت هذا الكتاب ونحن معولون على المسير إلى أنطاكية نقصد طاغية الروم فما بقي حصن سواه لأعدائنا قريبا منا ونحن طامعون في أخذه وأخذ سريره وكنوزه كما وعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فزودنا بالدعاء منك فإنه سلاح المؤمنين ودمار الكافرين والسلام عليك وعلى من معك من المسلمين ورحمة الله وبركاته ثم إنه أخرج الخمس وسلمه إلى رباح بن غانم اليشكري وضم إليه مائتي فارس من المسلمين فيهم قتادة وسلمة بن الأكوع وعبد الله بن بشار وجابر بن عبد الله ومثل هؤلاء رضي الله عنهم فأخذوا الخمس وساروا ثم أن أبا عبيدة دعا بضرار بن الأزور وضم إليه مائتي فارس وأمره أن يشن الغارة فركب ضرار وكان معهم سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يزل ضرار سائرا هو ومن معه ومعهم رجال من المعاهدين يدلونهم على الطرق حتى وصلوا إلى مرج دابق وكان وقت السحر فقال لهم المعاهد: ارفقوا على خيولكم فنزلوا وأراحوها بقية يومهم وليلتهم حتى إذا كان وقت السحر فما شعروا إلا وجبلة كبسهم فلما وقع الصياح ركب ضرار وركب معه نحو مائة فارس وأما المائة الأخرى فقد دهمتهم خيول المتنصرة فلم يتمكنوا من الركوب فقاتلوا رجالا فنفرت خيولهم ووصل إليهم عدوهم حتى إنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 قتل كل واحد خصمه وتكاثرت عليهم الخيل فأسروا المائة وأما ضرار فإنه صاح بالمائة الثانية وقال: يا فتيان العرب أن أعداءكم قد هاجموكم على حين غفلة منكم وهم عرب مثلكم وهذه أفضل الساعات عند الله فقووا عزمكم ولا تفشلوا فانتم تعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الجنة تحت ظلال السيوف" وقد قال الله تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249] قال ميسرة بن عامر وكان من جملة من حضر معنا في مرج دابق ربيعة بن معمر بن أبي عوف وهو ابن عمر بن ربيعة الشاعر وكان ربيعة من فصحاء العرب لا يتكلم إلا بالسجع كلامه ينظم بحسن مقاله وكنا نصغي إليه إذا سجع ونحفظ منه فلما سمع ضرارا وهو يحرضنا قال: يا فتيان العرب لن تنالوا الجنة إلا بالصبر على المكاره والله لن يدخلها من هو للجهاد كاره: ولله في عرض السموات جنة ... ولكنها محفوفة بالمكاره وأعلى الدرجات درجة الشهادة فارضوا علم الغيب والشهادة فهذا الجهاد قد قام على ساقه وكسد النفاق في أسواقه واختفى بنفاقه في انفاقه أما انتم أصحاب نبي العصر ولم يئستم من الثبات والنصر بشروا روح المصطفى بثباتكم وقووا العزم بصفاء نياتكم وإياكم أن تولوا الأدبار فتستوجبوا غضب الجبار واعلموا أن النصر والثبات جندان منصوران فمن طلب دار البقا هان عليه الملتقى فصححوا طلبتكم تنالوا رحمة ربكم وحققوا حملتكم تنالوا بغيتكم واطعنوا النحور تنالوا الحور وتسكنوا القصور وقوموا الاسنة تنالوا الجنة واعتمدوا على الصبر تنالوا النصر وإياكم أن توافقوا الكفار في حالهم واعدلوا عن طريق قولهم قال العالم بحالهم وفعلهم. : {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور: 55] قال سمرة ابن غانم والله لقد دهشت أنفسنا بقوله وحملنا على المتنصرة وضرار ينشد. إلا فاحملوا نحو اللئام الكواذب ... لترووا سيوفا من دماء الكتائب وردوا عن الدين المعظم في الورى ... وأرضوا إله العرش رب المواهب فمن كان منكم يبتغي عتق ربه ... من النار في يوم الجزا والمآرب فيحمل هذا اليوم حملة ضيغم ... ويرضي رسولا في الورى غير كاذب قال الواقدي: ثم حمل ضرار ونحن من ورائه وبذلنا نفوسنا وروينا سيوفنا ورماحنا من المتنصرة وجرى الحرب بما لا يوصف وضرار فيهم كانه النار في الحطب اليابس وجبلة بن الأيهم يتعجب من حملاته وضرباته فأمر قومه أن يقصدوا جواده بسهامهم ففعلوا ذلك فانصرع الجواد ووقع ضرار فتكاثروا عليه وأخذوه أسيرا وأخذوا بقية أصحابه وساروا يريدون أنطاكية فالتقوا بيوقنا وأبنة الملك كما ذكرنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 قال الواقدي: ولقد حدثني معمر بن رواحة عن القاسم عن خزامة بن عمرو وعن أبي المنذر أن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في حرب ضرار بن الأزور اسيرا فلما كان الليل انطلق هاربا يلتمس الوصول إلى ابي عبيدة فإذا هو بأسد عارضه فقال سفينة يا أبا الحرث أنا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان من أمري كيت وكيت فقرب منه وهو يبصبص بذنبه حتى وقف إلى جانبه واشار إليه برأسه 8 أن سر فسرت وهو إلى جانبي حتى أتى بي إلى بلد من صلحنا فتركني ومضى. قال الواقدي: فلما وصل سفينة الجيش حدث الناس باسر ضرار ومن معه فصعب ذلك على المسلمين وبكى أبو عبيدة وخالد بن الوليد على أسرهم وقالا لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وبلغ ذلك أخته خولة فقالت: أنا لله وأنا إليه راجعون يا بن أمي ليت شعري في السلاسل أوثقوك أم بالحديد قيدوك أم في البيداء طرحوك أم بدمائك خضبوك وأنشدت تقول: إلا مخبر بعد الفراق يخبرنا ... فمن ذا الذي يا قوم اشغلكم عنا فلو كنت ادري إنه آخر اللقا ... لكنا وقفنا للوداع وودعنا إلا يا غراب البين هل أنت مخبري ... فهل بقدوم الغائبين تبشرنا لقد كانت الايام تزهو لقربهم ... وكنا بهم نزهو وكانوا كما كنا إلا قاتل النوى ما أمره ... واقبحه ماذا يريد النوى منا ذكرت ليالي الجمع كنا سوية ... فقرقنا ريب الزمان وشتتنا لئن رجعوا يوما إلى دار عزهم ... لئمنا خفافا للمطايا وقبلنا ولم انس إذ قالوا: ضرار مقيد ... تركناه في دار العدو ويممنا فما هذه الايام إلا معارة ... وما نحن إلا مثل لفظ بلا معنى أرى القلب لا يختار في الناس غيرهم ... إذ ما ذكرهم ذاكر قلبي المضنى سلام على الأحباب في كل ساعة ... وأن بعدوا عنا وأن منعوا منا قال الواقدي: ولقد بلغني عن وأصل بن عوف إنه قال اجتمعت النساء من العربيات ممن كان لهم أسير مع ضرار عند خولة ومن جملتهم مزروعة بنت عملوق الحيرية وكانت من فصحاء زمانها وكان ولدها صابر بن أوس فيمن أسر مع ضرار فجعلت تندب ولدها وتقول: أيا ولدي قد زاد قلبي تلهبا ... وقد أحرقت مني الخدود المدامع وقد أضرمت نار المصيبة شعلة ... وقد حميت مني الحشا والأضالع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 وأسأل عنك الركب كي يخبرونني ... بحالك كيما تستكن المدامع فلم يكن فيهم مخبر عنك صادقا ... ولا منهم من قال إنك راجع فيا ولدي مذ غبت كدرت عيشتي ... فقلبي مصدوع وطرفي دامع وفكري مقسوم وعقلي موله ... ودمعي مسفوح وداري بلاقع فإن تك حيا صمت لله حجة ... وأن تكن الأخرى فما العبد صانع فقالت لهم سليمى بنت سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وكانت من الزاهدات العابدات أبهذا أمركن الله انما امركن بالصبر ووعدكن على ذلك الأجر أما سمعتن ما قال الله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ*أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:157] فاصبرن تؤجرن فسكتن عن البكاء قال الواقدي: ولما ورد الخمس على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكتاب أبي عبيدة مع رباح بن غانم اليشكري وقع الصائح في المدينة بقدومه فاجتمع الناس إلى المسجد ليسمعوا ما تجدد من أمر المسلمين فلما دخل رباح المسجد بدأ بالسلام على قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى قبر أبي بكر وصلى ركعتين وأتى عمر وقبل يده وعرض عليه الكتاب فقرأه على المسلمين فضجوا بالتهليل والتكبير وصلوا على البشير النذير واخذ الخمس وكتب إلى ابي عبيدة يأمره بالمسير إلى انطاكية ولا يصده عن ذلك شيء ورد الجواب مع رباح اليشكري. قال الواقدي: اخبرني مازن بن عبد ربه عن مالك بن أسيد عن جده مروان بن الجرير أن الجواب لما ورد على أبي عبيدة سار من يومه يطلب انطاكية قال: وأما ما كان من أمر يوقنا رحمه الله تعالى وجبلة بن الأيهم لعنه الله فانهم ساروا إلى انطاكية وسبق البشير إلى الملك هرقل بقدوم ابنته مع يوقنا وقدوم يوقنا ومعه المائتا أسير من المسلمين فأمر بتزيين البلد والبيع فاظهرت الروم زينتها ودفعت الصدقات إلى الفقراء وأخرج موكب الروم إلى لقائهم مع ابن اخيه في زينة عظيمة ودخل القوم وهم في زيهم وحشمهم وكان يوما مشهودا وقد ترجلت الملكية والسريرية بين يدي ابنة الملك وخرج كل من بانطاكية وقدموا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أمامها وهم مشدودون والروم تشتمهم وتبصق عليهم وقد دارت بهم الرجال والبطارقة ودخلت ابنة الملك إلى قصر أبيها. قال الواقدي: ودخل جبلة بن الأيهم يوقنا على الملك فخلع عليهما وعلى كبار أصحابهما ثم إنهم احضروا الصحابة وأوقفوهم بين يديه وهم في الحبال فلما وقفوا صاحت بهم الحجاب اسجدوا إلى الأرض تعظيما للملك فلم يلتفتوا إلى قولهم ولا اعتنوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 به فقال لهم الحاجب الكبير: ما منعكم أن تعظموا الملك بالسجود بين يديه فقال لهم ضرار: لا يحل لنا أن نسجد لمخلوق وقد نهانا نبينا صلى الله عليه وسلم عن ذلك. قال الواقدي: حدثني سهل بن برقان رضي الله عنه عن السائب بن جازم عن الحكم بن مازن قال لما وقف ضرار والصحابة بين يدي هرقل خاطبهم من غير ترجمان وأراد الملك أن يسمع بطارقته وحجابه بما كان يحدثهم به حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم وذلك إنه جمعهم إليه لما بلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ظهر وقال هذا هو النبي المبعوث الذي بشر به عيسى بن مريم وهو صاحب الوقت ولا بد لدينه أن يظهر حتى يملأ المشرق والمغرب ثم أن هرقل دعاهم لأداء الجزية فأرادوا قتله فأراد ذلك اليوم أن يبين لهم حقيقة قوله وانه أراد بذلك الإصلاح لهم ولجالهم فقال لضرار ومن معه من يخاطبني منكم عما أسأله من العلم فأشاروا إلى قيس بن عاصم الأنصاري رضي الله عنه وكان شيخا معمرا وكان شاهد جميع أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعجزاته وغزواته فلما أشاروا إليه قال للملك قل: ما أنت قائل أيها الملك قال هرقل: كيف نزل علي نبيكم الوحي أول مبتدأ أمره فقال قيس ابن عاصم سأل هذا السؤال لنبينا صلى الله عليه وسلم رجل من مكة يقال له الحرث بن هشام: فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يأتيك الوحي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يأتيني أحيانا مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فينفصم عني وقد وعيت عنه وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول" قال قيس: ولقد كان ينزل عليه في اليوم الشديد البرد فينفصم عنه وأن جبينه ليرفض عرقا فأول ما بدىء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه أي يتعبد الليالي ذوات العدد فلم يزل كذلك حتى جاءه الملك وقال له: اقرأ فقال لست بقارىء قال فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم ارسلني وقال لي أرسلي اقرأ فقلت: ما أنا بقاريء فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ , خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ , اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ , الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ , عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف بهافؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فقال زملوني زملوني فزملوه حتى ذهب عنه الروع فأخبر خديجة وقال لها: لقد خشيت على نفسي فقالت له خديجة: كالا لا يخزيك الله أبدا إنك تصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقوي الضعيف الضعيف وتعين على نوائب الدهر والحق وذكر الحديث بطوله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري فإذا أنا بالملك الذي جاءني بحراء وهو جالس على كرسي بين السماء والأرض فخشيت منه رعبا فرجعت إلى خديجة فقلت: دثروني دثروني فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ*قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر: 1, 2] الاية ثم حمى الوحي وتتابع ولقد كنت معه يوما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 في المسجد إذ دخل رجل ومعه بعير له فأناخه بالباب وعقله ودخل وقال السلام عليكم فرددنا عليه السلام فقال: أيكم محمد فقلنا هذا الأبيض الوجه فقال له الرجل: يا ابن عبد المطلب قد أتيت أسألك مشددا عليك فلا تجد علي في نفسك فقال له: سل عما بدا لك فقال بربك ورب من قبلك الله أرسلك إلى الناس كلهم كافة قال: اللهم نعم قال انشدك بالله الله أمرك أن تصلي الصلوات الخمس في اليوم والليلة قال اللهم نعم قال: أنشدك بالله الله أمرك أن تصوم هذا الشهر من السنة فقال اللهم نعم فقال أنشدك بالله الله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا فقال اللهم نعم فقال الرجل: آمنت بما جئت به وأنا رسول من ورائي من قومي أنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر فقال هرقل: بحق دينك ما الذي رأيت من معجزاته قال كنت معه في سفر فأقبل إليه أعرابي فدنا منه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أتشهد أن لا إله إلا الله وإني محمد رسول الله" قال الأعرابي: ومن يشهد بما تقول فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هذه الشجرة" ثم أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الشجرة وهي بشاطىء الوادي فأقبلت إليه وهي تخط الأرض حتى قامت بين يديه فاستشهدها ثلاث مرات فقالت: أنت محمد رسول الله ثم أمرها فرجعت إلى منبتها فقال هرقل: أنا نجد في كتابنا أن الرجل من أمته إذا عمل السيئة كتبت عليه واحدة وأن عمل الحسنة كتبت له عشرا قال قيس بن عاصم هذا في كتابنا قال الله تعالى. : {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} [الأنعام: 160] فقال هرقل: أعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم الذي بشر به عيسى المسيح هو الشاهد على الناس يوم القيامة فقال قيس هوة نبينا قال الله تعالى في كتابه العزيز: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً*وَدَاعِياً} الآية أما شهادته في العقبي فهو قول ربنا في كلامه القديم: {وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء: 41] فقال هرقل: إن الذي وصفته لك هو الذي يأمر العباد أن يمضوا إليه في حياته ويصلوا عليه في حياته وبعد وفاته فقال قيس هو نبينا صلىالله عليه وسلم قال الله تعالى في كتابه العزيز: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] قال هرقل: إن الذي وصفه المسيح يعرج به إلى السماء ويخاطبه العلي الأعلى فقال قيس هو والله نبينا صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى في حقه: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الاسراء: 1] . قال الواقدي: وكان في ذلك الوقت بترك الروم وهو رأس دينهم جالسا يستمع هذا الكلام فالتفت هذا البترك إلى الملك وقال له: أيها الملك أن الذي ذكره عيسى لم يبعث بعده ولا قبله بل هي تآويل كاذبة فقال ضرار بن الأزور كذبت في وجهك وكذبت هذه اللحية الملعونة المخزية يا كلب الروم أنت من أمثالك من يكذب عيسى عليه السلام وينكر بعث نبينا محمد عليه الصلاة والسلام أما تعلم أن عيسى قرأه في الإنجيل وموسى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 قرأه في التوراة وقرأه داود في الزبور وأن نبينا المبعوث بخير الأديان المشهود له بالنبوة والرسالة في كتاب الله العزيز وجميع الكتب المنزلة على الأنبياء من قبله وهو نبينا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب المكي ولكن حجاب الكفر منعكم عن معرفته فلما أن سمع هرقل من ضرار هذا الكلام قال له: لقد أسأت الأدب في المجلس إذ خرقت بعمدة دين النصرانية فمن أنت فقال له قيس بن عامر: هذا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا ضرار بن الأزور لا تتكلم في حقه بكلام قبيح فقال الملك: هذا الذي بلغني عنه أنه يقاتل مرة راجلا ومرة فارسا ومرة عاريا مرة لابسا؟ قال: نعم فعندها سكت ولم يتكلم. قال الواقدي رحمه الله تعالى ورضي عنه: ولقد بلغني أن البترك لما سمع خرق ضرار به أبدى الغضب بعد الابتسام ولحقه غيظ شديد ما عليه من مزيد وقام من حضرة الملك قال: وغضب البطارقة والحجاب لغضب البترك فلما رأى الملك غضبهم خاف على نفسه منهم فقال: قطعوه بسيوفكم وامحوا أثره قال فنزلوا عليه بالسيوف وضربوه ضربات شديدة وكانت عدة تلك الضربات مائة وأربع عشرة ضربة إلا أنها غير قاتلة لما يريده الله من لطفه الخفي في حياته ونجاته فلما رأى البترك هذه الفعال سكن غضبه وقال: اقطعوا لسانه فلما أن رأى يوقنا ذلك الأمر وتحقق هذا الكلام منهم قال في نفسه والله لا أترك هذا اللعين يتمكن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقدم إلى الملك وقبل الأرض ودعا بدوام الملك والنعم وقال: أيها الملك: إن هذا ليس بصواب وإن من الرأي السديد عندي أن تترك هذا الغلام حتى يصح فإذا عاد إلى صحته أخرجناه إلى باب المدينة وصليناه لبشفى صدور الروم لأنه قد أثر فيهم كلامه وقد قتل من آبائهم وإخوانهم وأيضا يبلغ الخبر إلى المسلمين بإهانته وضربه بذلك. قال الواقدي رحمه الله تعالى ورضي عنه: إنما أراد يوقنا بذلك أن يخلص ضرارا منه وقال في نفسه إذا بات تلك الليلة انكسرت حدة الغيظ من الملك فيطلقه فقال الملك ليوقنا: خذه واحفظه إلى غد فأخذه يوقنا إلى داره وافتقد جراحاته فإذا بها كلها سليمة ما قطع له عصب ولا عرق وذلك من لطف الله الخفي ولما أن رأى يوقنا جراحاته خاطها وداواها وأطعمه وأسقاه ففتح عينيه فرأى يوقنا وولده ولم يكن عنده علم بأن يوقنا قد أتى إلى هذا المحل ليحتال على الملك فلما أن رآهما قال لهما: إن كنتما كافرين فقد سخركما الله لي حتى داويتماني وإن كنتما مؤمنين فمرحبا بكما وهنيئا لكما ولعل الله ببركتكما يجمع شملي بعجوز في الحجاز قد أعلها البكاء والعويل ليلا ونهارا من أجلي وأجل أختي خولة وهي في العسكر ولقد كانت تحسب هذا الحساب لأنني بقية من مضى لها من الأحباب ولقد خفي عليها خبري وأمري فإن قدرتما أن تبلغاها سلامي وتعلماها مقامي وكيف كان للكافرين كلامي فهي ترسل وتعلم أمي وتكاتبها بأمري فلما استراح في الليل قال بالله عليكما اكتبا عني ما أقول لكما فكتب عنه ابن يوقنا وهو يملي له ويكتب حرفا بحرف شعرا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 ألا أيها الشخصان بالله بلغا ... سلامي إلى أهلي بمكة والحجر بلقيتما ما عشتما ألف نعمة ... بعز وإقبال يدوم مع النصر ولا ضاع عند الله ما تصنعانه ... فقد خف عني ما وجدت من الضر بصنعكما لي نلت خيرا وراحة ... كذلك فعل الخير بين الورى يجري وما بي وأيم الله موتي وإنما ... تركت عجوزا في المهامة والقفر ضعيفة حال ما لها من جلادة ... على نائبات الحادثات التي تجري تعودها حب القفار مقيمة ... على الشيح والقيصوم والنبت والزهر وكنت لها ركنا تعد رحاله ... وأكرمها جهدي وأن مسني فقري وأطعمها من صيد كفى أرانبا ... من الوحش واليربوع والظبي والصقر من الضب والغزلان والبهت بعد ... مع البقر والوحش المقيمات في البر وأحمي حماها أن تضام ولم أزل ... لها ناصرا في موقف الخير والشر وإني أردت الله لا شيء غيره ... وجاهدت في جيش الملاعين بالسمر وأرضيت خير الخلق أعني محمدا ... لعلي أنال الفوز في موقف الحشر فمن خاف يوم الحشر أرضى الهه ... وقاتل عباد الصليب بني الكفر كذا جلت يوم الحرب في كل كافر ... وجندلته بالطعن في الكر والفر تقول وقد حان الفرات لحينه ... ألا يا أخي ما لي على البين من صبر ألا يا أخي هذا الفراق فمن لنا ... بحسن رجوع قادم منك بالبشر إذا سافر الانسان عن أرض أهله ... فاما رجوع أو هلاك مدى الدهر إلا بلغاها عن أخيها تحية ... وقولا غريب مات في قبضة الكفر جريح طريح بالسيوف مشرح ... على نصرة الإسلام والطاهر الطهر إلا يا حمامات الأراك تحملي ... رسالة صب لا يفيق من السكر حمائم نجد بلغي قول شائق ... إلى عسكر الإسلام والسادة الغر وقولي ضرار في القيود مكبل ... بعيد عن الأوطان في بلد وعر حمائم نجد اسمعي قول مفرد ... غريب كئيب وهو في ذلة الأسر وأن سألت عني الأحبة خبري ... بأن دموعي كالسحاب وكالقطر حمائم نجد خبري الأخت انني ... قتلت بحد المرهفات من البتر حمائم نجد عددي عند موطني ... وقولي ضرار قد يحن إلى الوكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 وقولي لهم إني أسير مقيد ... له علة بين الجوانح والصدر له من عداد العمر عشر وسبعة ... وواحدة عند الحساب بلا نكر وفي خده خال محته مدامع ... على فقد أوطان وكسر بلا جبر مضى سائرا يبغي الجهاد تطوعا ... فوافاه أبناء اللئام على غدر إلا فادفناني بارك الله فيكما ... إلا واكتبا هذا الغريب على قبري إلا يا حمامات الحطيم وزمزم ... إلا خبرا أمي ودلا على أمري عسى تسمح الايام منا بزورة ... لقلب غريب لا يرام من الفكر قال الواقدي: لما كتب ابن يوقنا هذه الأبيات كتب أبوه يوقنا إلى أبي عبيدة يعلمه بما يريد أن يدبره وسلمه إلى رجل يثق به وبعثه إلى المسلمين. قال المؤلف حدثني جابر بن عمران الدوسي ونحن في أرض يقال لها البلاط: إذ جاء معن بن أوس من آل مخزوم ولقد تركه أبو عبيدة في المقدمة فجاء برجل من الروم فقال لأبي عبيدة: خذ هذا إليك فهو يزعم إنه رسول فاستخبره أبو عبيدة في السر فقال أنا رسول إليك بكتاب فقال ممن قال من يوقنا ومن أسير لكم بانطاكية يقال له: ضرار بن الأزور فأخذ أبو عبيدة الكتاب وقرأه على من يعز عليه فبكوا من أبيات ضرار وبلغ الخبر أخته فأتت أبو عبيدة وقالت: يا أمين الأمة اسمعني أبيات أخي فقرأ البعض عليها ولم يتمها فاسترجعت وقالت: أنا لله وأنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فوالله لآخذن بثأره أن شاء الله تعالى وحفظ الناس أبيات ضرار وتداولوها بينهم فكان أشد الناس عليه حزنا خالد بن الوليد. قال الواقدي: حدثنا عبد الملك بن محمد عن أبيه حسان ابن كعب عن عبد الواحد بن عون عن موسى بن عمران اليشكري عن عامر بن يحيى عن أسد بن مسلم عن دارم بن عياش أن أهل حازم فتحوا قلاعا كثيرة وحصونا منها الراوندات وما سواها من قورص وباسوطا ولم يزل أبو عبيدة سائرا بالمسلمين إلى أن نزل على جسر الحديد وبلغ الخبر هرقل فتمكن الخوف من قلبه وأمر بطارقته بالتأهب للقتال ونصب سرادقاته مما يلي جسر الحديد وضربت الملوك خيامها وفتح الملك هرقل خزائن السلاح وفرقها على رجاله وأبطاله وخلع على يوقنا وقال له: أيها الدمستق قد وليتك على جيشي هذا كله فكن أنت مدبره وسلم إليه صليبا كان في بيعة القيسان لا يخرجونه إلا في الايام العظام عندهم وقال له: أيها الدمستق قدم هذا الصليب بين يديك واعتمد على نصرته فهو ينصرك فأخذه وسلمه إلى ولده وأمره أن يحمله بين يديه فعندها ركب الملك هرقل إلى كنيسة القيسان ومعه الملوك والحجاب حتى يصلي صلاة النصر فلما وصلوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 وصلى الملك جلس وأمر باحضار المائتين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقربهم قربانا فقبل يوقنا يده وقال له: يا عظيم الروم ما ولاك الله على البلاد والعباد إلا وقد علم أن عقلك يسع ذلك وقد قال ديسقور الحكيم أن العقل مرقى جليل وصاحبه نبيل لأنه عز الانسان ومصباح الانام وأعلم أيها الملك أن العرب قد قصدتنا بعددها وعديدها وقد نزلوا على جسر الحديد ولا بد لنا من القتال والمصاف معهم ولا ندري على من تكون الدائرة فإن قتلت هؤلاء الأسرى ووقع أحد منا بأيديهم فانهم لا يبقون عليه والصواب تركهم إلى أن نرى ما يئول من أمرنا فإن أسروا من أصحابنا أحدا أو من أعياننا نفاديه فقال أرباب الدولة صدق الدمستق في قوله قال البترك أيها الملك أحضرهم إلى هذه الكنيسة فإنها أحسن كنائس بلدنا وأمر النساء والبنات يتزين ويحضرن هنا فإذا هم نظروا إلى نسائنا وحسنهن وجمالهن وطيب رائحتهن مالت أنفسهم إليهن فيرجعون إلى ديننا فيكون ذلك وهنا على المسلمين. قال فأمر بذلك فلما حضروا رفعت القسوس أصواتهم بقراءة الإنجيل فرفع المسلمون أصواتهم بالتهليل والتكبير وقالوا: كذب الجاحدون وضلوا ضلالا بعيدا ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله وكان في الأسرى رجل من اليمن من فضلائهم وعلمائهم ممن علم علم الحميرين وقرأ الكتب السالفة وكان اسمه رفاعة بن زهير يقول: الشعر وينظم الكلام وانه لما نظر الكنيسة ملآنة بأهل الكفر ورآهم يعظمون الصلبان ويسجدون للصور قال الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله كذب العادلون عن الله أصحاب الشيطان وإلا إله إلا الله الواحد الرحمن الذي ليس له أب محسوب وانه فرد صمد لا إلى شيء منسوب ليس له ضد ولا ند ولا حد أوجد الموجودات وصور المخلوقات وخلق الكائنات ودبر الأرض والسموات أول لا افتتاح لوجوده وآخر لا عدم لشهوده لا يموت ولا يفنى ولا يزول ولا يبلى لا شريك له ولا وزير له ولا صاحب له ولا مشير له ليس كمثله شيء وهو السميع البصير قال فاضطربت الكنيسة لقوله ومالت القسوس بعكاكيزها إليه فأشارت الحجاب إليهم أن لا يكموه ويتركوه فتفرقوا عنه فقال له الملك هرقل: ما اسمك يا أخا العرب قال: أيها الملك وما تريد من اسمي ولست من جنسكم فتستخبروني فقال البترك صدق أيها الملك ليس هو من جنسنا ولا له علم ولا خبرة فعلام تسأله انما هو بدوي يعلم بسكنى القفار وصحبة الاشرار والحكمة من بلادنا ظهرت وفي حكمائنا اشتهرت لأنها نبعت من اليونانيين ووعاها جدودنا السريانيون من أين للعرب حكمة يتوارثونها وعلوم يتدارسونها والفضائل كلها من علمائنا والعدل في ملوكنا الاسكندر وبطليموس وموريق ويوسطنيوس وأرمويل وانطاميس وأرجاس وجرجس واسطوس واسطانيس وسارغورس النوصيدي وهو الذي بنى انطاكية وسفليوس واريسا وكان نبيا ملكا ويلينوس وهو الذي بنى الرها ومنبج واسطبس وكان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 كاهنا وهو الذي اخبر ملك زمانه إنه قد ولد مولود يخاطب الرب ويكون له شأن ونبأ عظيم يهلك على يديه أفلاطون وهو فرعون ومنافسطين الحكيم ومنا فجر العلوم ومنا منتهو وهو الذي بنى رومية الكبرى وباسمه ومناسطاليوس وهو الذي وضع الكتاب الأول الذي فيه حوزة الأرض بجبالها وبحارها وبنائها وصوانها ووصف أمة كل اقليم بألوانها وخواصها ووصف ما في كل اقليم من معدن ذهب أو فضة أو جوهر وأحصى عيون الأرض جميعها بأسمائها وجبالها وأوديتها وشعابها وغدرانها وعجائبها ومنا ايردروس القلنسب الرومي وهو الذي يقول: حشرني الله مع الذين يقال لهم: في الميعاد أدبروا مع ابليس وجنوده إلى النار الم تطهر نفسك أيها المسكين الناظر في كتابي القاري الآبي من ادناس الدنيا وشهواتها المظلمة للنفوس المعوقة للحس الروحاني النوراني أن ترقى إلى عالم عليين فانظر في الحكمة فإنها سلم العالم الروحاني فمن عدمها فقد عدم القرب إلى بارئه ومصوره ومنشئه. قال الواقدي: انما تكلم البترك بهذا الكلام بين يدي الملك هرقل وهو يظن إنه يطعن في العرب ليسمع جبلة بن الأيهم حكمته وكان جبلة وولده حاضرين وكان بين البترك وبينه عداوة سببها أن البترك كان بنى له ديرا عظيما وجعل له عيدا في السنة تقصده الروم من كل مكان بالنذور والأموال والستور والشموع وكان ذلك كله برسم البترك قال فاعطى الملك لجبلة تلك الأرض التي فيها الدير فتغلب جبلة على الدير وبنى حوله مدينة وسماها باسمه وهي جبلة هذه. حدثنا سليمان بن عامر عن منصور الجوني قال حجاج بن جريج أخبرني يحيى بن عمارة ابن ابي الحسن قال لما سمع رفاعة بن زهير كلام البترك تبسم من قوله وقال: أيها البترك لقد مدحت أقواما ليس لهم إلى الفضل سبيل ولا فيهم فاضل ولا نبيل ولا من وحد الملك الجليل الذي ليس له مثيل ولا عديل وما الفضل إلا لولد اسمعيل بن ابراهيم الخليل الذي لهم البيت الحرام وزمزم والمقام والمشعر الحرام ومنهم التبابعة والأقيال والحماة والاشبال الذين ملكوا الأرض في الطول والعرض ومنهم الملك الصعب الاسكندر الذي ملك قرني الأرض ودخل الظلمات ودخل في طاعته أهل الأرض وبلغ مطلع الشمس ومغربها وأذل ملوكها وجعل له منهم جندا وأعوانا وسماه الله ذا القرنين ومنهم سبأ بن يعرب بن قحطان وشداد بن عاد وشديد بن عاد وعمرو ذو الأذقان وهو ابن سكسك والهدهد بن عاد ولقمان بن عاد وشعبان بن اكسير بن تنوخ وعباد بن رقيم وهاديل بن عتبان وكان يتكلم بالحكمة ومناجاة موسى بن جلهمة بن سياسة بن عجلان بن ياقد بن رخ وثمود بن كنعان ومنا سبأ بن يشجب وهو أول متوج منا ثم ولى بعده حمير ثم منا تبع وهو متوج ومنا وائل بن حمير متوج ومنا عاد بن حمير متوج ومنا بني الله حنظلة ابن صفوان من أهل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 الرس ومنا نفيل بن عبد المدان بن خشدم بن عبد ياليل بن جرهم بن قحطان بن هود عليه السلام عاش خمسمائة سنة وهو الذي بني المصانع واستخرج الكنوز وقاد الجيوش وورثه الله علم نبيه حنظله بن صفوان وقد ختم الله شرفنا ورفع قدرنا إذ جعل محمدا صلى الله عليه وسلم منا فنحن السادة وأنتم العبيد. حدثنا سفيان عن عبد ربه قال أخبرنا رحيم قال حدثنا الوليد بن زيادة عن حزام ابن حكيم قال بلغني أن هذا الرجل يعني رفاعة بن زهير بن زياد بن عبيد بن سرية الجرهمي كان عالما بأنساب العرب وأخبارهم وملوكهم وكان طالع كتب هود وصالح وحنظله عليهم السلام فلما تكلم بحضرة الملك هرقل بهذا الكلام أراد البترك أن يعجزه بسؤال يلقيه عليه فقال: يا ذا الهمم العلية والقرائح الذكية بم تصل القلوب إلى نسيم العقل الروحاني وترقى إلى ملكوت اللاهوت والطيور الخفية الغائبة عن الأبصار بالأقطار وترقى في رياضات الألباب المصفاة من الأدناس والافكار النورانية بصفو اكدار الأخلاف المحيطة بالافكار من الهياكل الجسمانية فعند الصفو من مفارقة الكدر تعيش الأرواح عيشة الأبد الذي لا يصل إليه انحلال ولا اضمحلال فحينئذ يختلط العنصر بالعنصر ويطفو الصفو بالصفو ويرسب الكدر إلى الكدر فقال رفاعة بن زهير ما اصبت أيها البترك في مقالتك فقال: ولم قال رفاعة كيف تدل القلوب إلى علام الغيوب وقد حجب عنها صواب المصيب أم كيف يتخلص الصفو من الكدر بغير تهذيب من الكفر وكيف تحلى الافكار من غوامض الأسرار وهي في حجب الإغترار إذا تناهت الأهوال إلى مفازلتها وقربت الهمم من مواضعها وعادت الفكر إلى عناصرها وعادت متحركات الفكر إلى مساكنها وغاليات الأذهان إلى اماكنها فانحازت الاشكال عن الاشكال بلطف تاثير الهوى فيها وانكبت مشرفة عن هياكلها من اقطار عناصرها قال: أيها البترك هذا كلام العرب الذي زعمت أن الحكمة ليست من أخلاقهم ولا تباع في اسواقهم ولقد كان ملك من ملوك اليمن اسمه سيف بن ذي يزن الذي بشر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يتكلم بغوامض العلوم الحكمية ووشح بوشاح شكر النعمة ومن جملة ما قال فصيح من فصحائنا اسمه قيس بن ساعدة هذه الأبيات: إلا اننا من معشر سبقت لهم ... اياد من الحسنى فعوفوا من الجهل ولم ينظروا يوما إلى ذات محرم ... ولا عرفوا إلا التقية في الفعل وفينا من التوحيد والفعل شاهد ... عرفناه والتوحيد يعرف بالعقل نعاين ما فوق السماء جميعها ... معاينة الاشخاص بالجوهر المجلى ونعلم ما كنا ومن أين بدؤنا ... وما نحن بالتصوير في عالم الشكل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 وأنا وأن كنا على مركز الثرى ... فارواحنا في عالم النور تستجلي وما صعدت كي تستريح وإنما ... حقيقة ممثول وجلت عن المثل قال الواقدي: قال أبو سعيد حدثنا شيبة بن أبي عبد الله بن عيسى عن لقية بن هند عن عبد الله بن ربيعة قال قلت لرفاعة بن زهير: لما خلص من قبضة الروم يا عم كيف كان البترك يفهم ما تقول وتفهم ما يقول فقال: يا بني ما رأيت أفصح من اللعين بلسان العربية ولقد سألت عن ذلك من عبد الله يوقنا فقال: أما علمت أن ملوك الروم والبطارقة لا يستقيم ملكهم إلا أن يتعلموا لسان العربية قال: ولما حدث رفاعة المسلمين بمناظرة البترك كتبها كثير من الناس. قال الواقدي: وكان لرفاعة بن زهير الجرهمي ولد جاهل قال: وكان أسر معه قال: وكان قلبه يميل إلى الكفر وكان رفاعة يدعو عليه فلما حضر الاسارى في كنيسة القيسان واشتغل رفاعة مع البترك بالمناظرة أقبل ولد عامر يحدق بنظره إلى البيعة وزينتها وصورها وصلبانها ويتأمل نسار الروم وزينتهن فبادر إلى تقبيل الصلبان والاشراك بالرحمن فلما رآه أبوه رفاعة بكى وقال: يا ويلك أكفرت بعد الإيمان يا ويلك طردت عن باب الرحمن يا ويلك كفرت بالملك الديان يا طريد القدرة يا من بعد عن الحضرة فيا ولدي ما بكائي على فراقك وإنما إذا سلكت أنا في طريق وأنت في طريق إذا مضيت أنت إلى دار الأبالسة وحشرت مع الرهبان والشمامسة وتكون في طبقة النار السادسة وأنا أمضي مع محمد إلى دار فيها الأرواح مستأنسة يا بني لا تطلب حياة الدنيا يا بني لا تختر شهوتها على الآخرة واخجلني من فعالك إذا وقفت بين يد العزيز الجبار يا بني لقد فضحت شيبة ابيك إذ كفرت بعالم السر والنجوى يا بني لقد خاب أملي فيك والرجاء يا بني كيف طاب قلبك أن تتبرأ من محمد المصطفى يا بني ممن تطلب الشفاعة غدا يا بني غرتك الحياة فصرت تكفر بالعليم يا بني صرت إلى الشقاء من بعد كونك في النعيم يا بني أما تخشى العذاب في الجحيم أما تستحي من أحمد يوم القيامة أما تعلم أن اباك قد غدا من أجل كفرك في هموم اين المفر إذا دعاك الله في اليوم العظيم ويقول: يا عبدي كفرت بواحد فرد يا بني أنت في عيش ذميم أما ابوك فإنه يبقى بعز مقيم أسألك يا ولدي بما قد كان في الزمن القديم من حنوي وتعطفي حال الرضاعة والفطام إلا رجعت إلى الذي غطاك بالستر العميم قال فقيل له أن ولدك قد أغلق الباب عليه وأرخى الحجاب فأمر به البترك فحل من الوثاق وأمر به إلى جرن ماء المعمودية فغمسوه فيه ودارت به القسوس والشمامسة وبخروه ووقعت عليه الخلع منن البطارقة والملوك ووهب له البترك مركبا وجارية ومنزلا وضمه إلى عسكر جبلة بن الأيهم ثم قال البترك يا هؤلاء ما منعكم أن تدخلوا في ديننا كما فعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 صاحبكم قالوا: منعنا من ذلك صحة ديننا وثبات يقيننا وما نحن من الذين يبدلون أيمانهم بالكفر ولو قتلنا فقال لهم البترك: طردكم المسيح عن بابه وابعدكم عن جنابه. فقال له رفاعة: الله يعلم أينا المطرود ومن هو عن رحمة ربه مبعود فقال هرقل: يا معاشر العرب قد وصل إلينا أن خليفتكم وأميركم يلبس مرقعة وقد وصل إليه من أموالنا وذخائرنا ما يكل عنه الوصف فما منعه أن يتزيا بزي الملوك فقال رفاعة يمنعه من ذلك طلب الآخرة والفزع من جبار الجبابرة فقال هرقل: ما صفة دار أمارته فقال رفاعة مبنية بالطين خالية من الحجاب آنسة بالفقراء والمساكين قال فما بساطه قال العدل والتمكين قال فما سريره قال العقل واليقين قال فما بدلة ملكه قال الزهد والدين قال فما خزائنه قال الثقة برب العالمين قال فمن جنده قال أبطال الموحدين أما علمت أيها الملك أن جماعته قالوا له: يا عمر قد ملكت كنوز القياصرة وذللت البطارقة والأكاسرة فهلا لبست ثيابا فاخرة قال أنتم تريدون زينة الحياة الظاهرة وأنا أريد رب الدنيا والآخرة فلما ابدى هذا القول وأضمر أشار إليه منادي القدرة وبشر: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج: 41] قال ثم أن الملك هرقل أمر بهم إلى السجن الذي هو في كنيسة القيسان وخرج إلى عسكره ليشرف على الخيام فرأى السرادقات قد ضربت لأن البطارقة ضربت سرادقاتها عند خيامه ونونيا الملوك قد نصبت بازاء كل نونية كنيسة من الخشب المدهون بسائر الأصانيع والنواقيس على ابوابها وكان زي الروم ذلك وهذه البيع والخشب كانوا يتنافسون فيها وفي صنعتها وتكون معهم في أسفارهم وعساكرهم وطاف هرقل على عسكره جميعه وأراد الدخول إلى انطاكية وإذا بفوارس تركض إليه فقالت لهم: الحجاب وأصحاب السرير ما وراءكم قالوا: ملك جسر الحديد منا وقد حصلت العرب منا على داخل الجسر قال فأيقن الملك بزوال ملكه وقال: وكيف ملكت العرب الجسر والبرجين وفيها ثلثمائة من البطارقة الشداد قالوا: أيها الملك أن المقدم الذي على الأبراج هو الذي سلمهم. قال الواقدي: ومن حسن لطف الله بالمسلمين أن صاحب الملك كان في كل يوم يمضي إلى الجسر ويوصي من في البرجين باليقظة والحرس الشديد وانه مضى في بعض الايام على عادته فوجدهم يشربون الخمر وليس عندهم حفظ ولا حرس فأخذهم وضرب كبراءهم وهم بقتل مقدمهم ثم إنه أمسك عنه خوف الملك فعمل الحقد في قلوبهم فجاءهم يوقنا في بعض الايام يتجسس ليدبر فيه حيلة فرآهم حنقين من صاحب الملك فسألهم فانكروا منه فقال لهم: اطلعوني على خبركم فقالوا له: أتعطينا منك أمانا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 فأعطاهم فقالوا: نحن نسلم هذا الجسر للعرب فلما صح عنده ذلك قال لهم: ما مرادكم قالوا: نأخذ أمانا من المسلمين فقال يوقنا أنا أكتب لكم كتابا إلى أميرهم بأن يعطيكم أمانا وأن دخلتم في دينهم فهو خير لكم فقالوا له: وكيف أنت دخلت في دينهم ثم رجعت فقال حاش الله وإنما أتيت أدبرهم على تسليم انطاكية لهم فلما صح عندهم ذلك قالوا: ونحن نسلم إليهم الجسر فلما وافقهم على ذلك كتموا أمرهم فلما قدم المسلمون مضى إليهم صاحب الجسر من غير أن يعلم به أحد وأخذ له ولمن معه أمانا وناوله كتاب يوقنا ففرح المسلمون بذلك بأن يأخذوا جسر الحديد من غير قتال فأعطوا للمقدم أمانا فلما وصل عسكر المسلمين إلى الباب الذي على الجسر فتح لهم فدخلوا فلما سمع هرقل بذلك أمر الناس أن يتأهبوا للحرب قال ففعلوا ذلك. قال الواقدي: حدثنا ياسر بن عبد الرحمن عن منازل بن نزاف الصيدلاني وكان أعرف الناس بفتوح الشام قال بلغني إنه لما صار المسلمون بأرض انطاكية قال أبو عبيدة لخالد: يا أبا سليمان قد صرنا بأرض انطاكية بلد كلب الروم والساعة يأتينا عسكره فما ترى من الرأي قال خالد: أن الله قال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] الآية فأمر أصحابك أن يتأهبوا ويظهروا زينة الإسلام وقوة الإيمان وسير كل أمير بجيشه ولتكن الكتائب والمواكب يتلو بعضها بعضا قال ففعل أبو عبيدة ذلك وأول من سير سعيد بن زيد أحد العشرة ومعه ثلاثة آلاف فارس فيهم المهاجرون والأنصار وجعله على مقدمة الجيش وسير وراءه رافع بن عميرة الطائي ومعه ألف فارس وسير وراءه ميسرة بن مسروق العبسي في ثلاثة آلاف فارس وسار وراءه خالد في جيش الزحف وسار وراءهم أبو عبيدة في بقية العسكر وكان معه عمرو بن معد يكرب الزبيدي وذو الكلاع الحميري وعبد الرحمن بن أبي بكر وعبد الله بن عمر وابان بن عثمان ابن عفان والفضل بن العباس وأبو سفيان صخر بن حرب وراشد بن ضمرة وسعيد بن رافع وزيد ابن عمرو ومثل هؤلاء السادات وراءهم النساء اللاتي لهن الأسرى وفيهم خولة بنت الأزور وعفيرة ابنة عفان ومروعة ابنة عملوق وأم ابان بنت عتبة وليس فيهم أشد حزنا من خولة بنت الأزور. قال الواقدي: ومما بلغني إنها قالت: في أسر أخيها من المراثي المبكيات: ابعد أخي يلذ الغمض عيني ... فكيف ينام مقروح الجفون سأبكي ما حييت على شقيق ... أعز علي من عيني اليمين فلو إني لحقت به قتيلا ... لهان علي إذ هو غير هون وكنت إلى السلو أرى طريقا ... وأعلق منه بالحبل المتين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 وأنا معشر من مات منا ... فليس يموت موت المستكين وإني أن يقال مضى ضرار ... لباكية بمنسجم هتون وقالوا: كم بكاؤك قلت مهلا ... أما أبكى وقد قطعوا وتيني قال فسار أبو عبيدة في مواكبه كما ذكرنا فبينما الروم في خيامها وعسكرها إذ وقع فيهم الصائح بقدوم العرب فركزوا خيولهم وصفوا صفوفهم فأول من أشرف عليهم برايته سعيد بن زيد وبعده المسيب بن نجيبة الفزازي وبعده ميسرة بن مسروق العبسي وبعده أتى خالد بن الوليد وبعدهم أبو عبيدة في مواكبه فنزل كل أمير بقومه فلما نظر هرقل إليهم وإنهم قد نزلوا بفنائه وبنائه ترك على حفظ جيشه صاحبه الأكبر نسطاروس بن روميل وكان من شجعان الروم ودخل إلى كنيسة القيسان وجمع الملوك والبطارقة والسريرية والحجاب وقام هرقل فيهم خطيبا وقال: يا أهل يدين النصرانية ويا بني المعمودية قد قرب ما حذرتكم منه من زوال ملككم وذهاب عزكم من أرض سورية وقد كنت حذرتكم من زوال ملككم ومن هذا المقام فلم تقبلوا مني وأردتم قتلي وهؤلاء القوم قد دخلوا بدار ملككم ورياح عزكم فقاتلوا عن حريمكم وأموالكم وأنفسكم وإياكم والفشل لا يلحقكم في الجهاد فقد جاهدت عنكم جهدي وأتلفت أموالي وخزائني ورجالي عن دينكم وملككم فلم تصادفني مساعدة ولا أدركت من القوم فائدة فإن أنتم فشلتم وتقاعستم ولم تجردوا لهؤلاء العرب سيوف العزم وإلا كان العار عليكم والذلة تصل إليكم أين أبناؤكم ومن سلف من آبائكم ماتوا كراما غير لئام وسكنت ديارهم العرب اللئام وكنائسهم صيروها جوامع وأخربوا البيع والصوامع وأذلوا ملوككم واستعبدوا ابناءكم ونساءكم وملكوا قلاعكم واستولوا على حصونكم ومدائنكم وقد مضى ما مضى فاستأنفوا الأمر وقاتلوا فكم هلك من الأمم قبلكم على ممالكهم وعلى الغيرة على حريمهم ولقد كانت حكمتي أنتجت لكم أن تنسجوا على منوال المصحالة بينكم وبين هؤلاء العرب فأبيتم ذلك لأن ظلمة جهلكم قد أطفأت نور الحكمة أما علمتم إنه قد وجد لوح من الحجر على قبر طفيماون تلميذ اقيانوس وفيه مكتوب الحكمة سلم العالم الأعلى من عدمها فقد عدم القرب إلى بارئة الحكمة حياة القلوب وبغية الأذهان نزهة النفوس ونور العقول من لم يكن حكيما لم يزل سقيما من تدبر نظر ومن نظر عرف ومن عرف عمل ومن عمل انفتح ذهنه وعقله ومن انفتح عقله صفت نفسه فقام إليه جبلة بن الأيهم وقال: يا عظيم الروم انما قتال هؤلاء العرب بقتل خليفتهم عمر بالمدينة فلو أنت أرسلت إليه رجلا من آل غسان يقتله فيكون سبب فشلهم وانتزاع الشام من أيديهم فقال هرقل: هذا شيء لا يصح امله ولا ينقضي أجله لأن الآجال مقدرة والأنفاس مقررة ولكن هو شيء تطيب النفس عند الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 سماعه فافعل ما أردت قال فأرسل جبلة من قومه رجلا يقال له واثق بن مسافر الغساني وكان جريئا مقداما في الحروب فقال له: انطلق إلى يثرب فلعلك تقتل عمر فإن أنت فعلت ذلك فانا اعطيك ما أردته من الأموال قال فانطلق واثق بن مسافر حتى دخل المدينة ليلا فلما كان الغد صلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالناس صلاة الصبح ودعا وخرج إلى ظاهر المدينة يتنسم اخبار المجاهدين بالشام قال فسبقه المتنصر وجلس له بأعلى شجرة من حديقة بن الدحداح الأنصاري واستتر بأغصانها ثم أن عمر قام عن ظاهر المدينة حين حميت الرمضاء وعاد وهو وحده فقرب من الحدية ودخلها ونام في ظلها فلما نام هم المتنصر بالنزول من الشجرة وجرد خنجره وإذا هو بأسد أقبل وهو بقدر البقرة الكبيرة وطاف حول عمر وجلس عند قدميه يلحسهما واقام حتى استيقظ فعندها نزل المتنصر وقبل يد عمر قال له: يا عمر قد عدلت فأمنت بأبي والله من الكائنات تحفظه والسباع تحرسه والملائكة تصفه والجن تعرفه ثم حدثه بأمره وأسلم على يديه. قال الواقدي: وكانت هذه الفعلة قبل نزول المسلمين على انطاكية. حدثنا أبو محمد قال أخبرني ابي عن حسان عن السدي عن يحيى الواقدي عن شهر بن عباس البيروتي أن عمر حدثه عن نزول أبي عبيدة بالمسلمين على انطاكية قال: وعظ هرقل قومه بكنيسة القيسان واستحلفهم إنهم لا ينهزمون أو يموتوا عن دم واحد فحلفوا وخرجوا مع الملك إلى عسكره وقد رفعت الصلبان وقرأت القسوس والرهبان وارتفع الضجيج من أهل الكفر والطغيان واصطفوا للقتال وكان المسلمون قد رتبوا صفوفهم وأوقفوا كل أمير في مكانه ونشرت الرايات والأعلام وأشار أبو عبيدة إلى ربيعة بن معمر الشاعر وكان لسنا فصيحا لا يتكلم إلا بالكلام المنظوم فقال له: يا ربيعة فوق سهام لفظك ووعظك إلى المجاهدين وحرض المسلمين على قتال المشركين قال فتقدم ربيعة أمام الصفوف وكان جهوري الصوت يسمعه القريب والبعيد فقال: أيها الناس إلى متى هذه المهلة فتاهبوا للحملة فهذه طيور الأرواح قد عولت على فراق أقفاص الاشباح وقد ارتاحت إلى باريها وأجابت صوت مناديها وها هي تخاطبنا بلسان اشارتها عن نطق عبارتها ما هذا الوقوف على بذل أنفسكم وقد اشتراها مؤيدكم افركنتم إلى حب الحياة الفانية والأنفس الدانية وهذه أوقاتكم بالنصر مؤيدة وهمتكم عن طلب زينة الدنيا متحيدة والمواعظ الصادقة بكلام الحق مقيدة اينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وهذه طوالع سعودنا بالأقبال طالعة وشجرة آمالنا بالتأييد يانعة فلله درهم فلقد ظهرت زهرة نجوم المحبة في أفلاك راياتهم وتبلج فجر العشق في سماء سماتهم واشرقت شموس المعرفة في مشارق عشقهم فلما هموا بالحملة بأجمعهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 واصطفوا وقدموا همم النفوس في رضا الملك القدوس واستبقوا وزاحموا بعضهم بعضا ولم يرفقوا نودوا من صفاء اسرارهم: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا} [الأحزاب: 23] . قال الواقدي: رحمه الله حدثني زيد بن اسماعيل الصائغ عن جعفر بن عون عن عياش ابن ابان عن جابر بن أوس قال كنت حاضرا في مصاف أبي عبيدة على انطاكية حين وعظنا بسجعه ربيعة بن معمر فكان أول من خرج من الروم للبراز شجاع الروم نسطاروس بن روبيل وهو كأنه برج من حديد فلما توسط الميدان طلب البراز فخرج إليه دامس أبو الهول مولى بني طريف فاتح قلعة حلب وهو يومئذ فارس غطريف فحملا على بعضهما فلما اشتعلت نار الحرب بينهما عثر جواد دامس فسقط على ظهره فانقض عليه نسطاروس وأخذه أسيرا وقاده ذليلا ورجع إلى الميدان فخرج عليه الضحاك بن حسان الطائي وكان يشبه خالدا في حملاته وخفته فلما برز قال قائل من الروم ممن شاهد قتال خالد في المواطن وعرفه هذا فارس الشام والمسلمين الذي فتح بلادنا فصار كل من في انطاكية ينظر إليه وهم يظنون إنه خالد فازدحمت خيل المشركين من كثرة النظر إليه فقطعت حبال السرادقات التي لنسطاروس وغيروا سريره فخاف الغلمان على أنفسهم وسرادقاته على ذلك وإذا رآها على تلك الحالة قتلهم ولم يجدوا أحدا يعينهم على رفع السرادق لأن كل من في العسكر مشغول بالفرجة على نسطاروس مع خصمه فاتفق اثنان من الفراشين وكانوا ثلاثة على حل دامس أبي الهول وقالوا له: نحن نحلك من وثاقك وتعيننا على شيل عمود هذا السرادق ونعيدك إلى الوثاق فإذا جاء البطريق نشفع فيك فإنه يخلي سبيلك فقال: نعم فحلوه من وثاقه فعندها قبض على الاثنين كل واحد بيد وضرب واحد بواحد فصرعهما فماتا فهجم على الثالث فقتله وفتح صندوقا من الصناديق فوجد فيه ثياب نسطاروس فلبسها وركب من الطوالة جوادا من خيارها وأخذ بيده قنطارية وسيفا ولثم وجهه وقصد عسكر المتنصرة ووقف إلى جانب حازم بن عبد يغوث وهو ابن عم جبلة وكان قدمه على عسكر المنتصرة وجبلة وولده وبنو عمه في موكب الملك. قال الواقدي: ولم يزل القتال بين نسطاروس والضحاك بن حسان إلى أن كل الجوادان ولم يقدر أحد منهما على صاحبه فافترقا وعاد نسطاروس إلى سرادقاته ليستريح فوجد السرادق على الأرض والفراشين قتلى ولم ير دامسا فعلم أن المصيبة من قبله فمضى إلى الملك وأعلمه بذلك فقال: وحق المسيح ما هؤلاء العرب إلا شياطين قال: وهرج العسكر بصنع أبي الهول فقال الملك هو الآن في عسكرنا وما رأيناه خرج وما هو إلا مختف في عسكر المتنصرة لأنه من جنسهم فلما رأى دامس هرج عسكر الروم وأن ذلك بسببه انتضى سيفه على حين غفلة وضرب به حازم بن عبد يغوث فرمى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 رأسه عن بدنه فبهتت المتنصرة من فعله وأمسك الله عنه ايديهم ودهشوا لذلك وأطلق جواده وطلب عسكر المسلمين فلما راوه صاحوا بالتهليل والتكبير فأتى إلى ابي عبيدة وأخبره بما وقع له مع القوم فقال: لا شلت يداك قال: وبلغ الخبر جبلة من قتل ابن عمه حازم فغضب وأتى إلى هرقل وصقع له وقال: يا عظيم الروم أنا لا أقدر على الصبر ولا بد لنا من الحملة على هؤلاء الذين قد تعدوا طورهم وجهلوا قدرهم فاراد الملك أن يأمرهم بالحملة وإذا قد اقبلت عليه خيل تركض فقال لهم: ما وراءكم قالوا: أيها الملك إنه قد قدم إلى نصرتك فلنطانوس بن سطانيوس بن أرمونيا صاحب المدائن ورومية الكبرى وباسم جده سميت وكان قدج وضع فيها هيكلا عظيما يسمى أبا سرفيا وكان به صورة من نحاس مطلية بالذهب الأحمد ولذلك الهيكل سبعة أبواب من الذهب على كل باب هيكل مدور على رأسه شخص آدمي وبيده عدة الواح من الذهب وفي كل عام يعلق منها لوح على الهيكل تلقاء الشمس ثم ينظر كاهن ذلك الهيكل في ذلك اللوح فيعلم ما يجري في الإقليم المختص بذلك اللوح وكان كل لوح مختصا بأقليم من الأقاليم السبعة وكذلك لكل هيكل من تلك السبعة هياكل فيعلم أهل رومية الكبرى ما يجري في العالم بما وضعه حكماؤهم الأقدمون وفي وسط تلك السبعة هياكل قبة مثمنة على ثمانية عمد من نحاس اصفر مطلية بالذهب محوط به سور مرقط ببياض وفيه بابها الأعظم وعلى رأسها صورة من حجر لا يعلم ما هو بل الحجر أسود فإذا كان استواء الزيتون في مشارق الأرض ومغاربها يسمعون من تلك الصور صوتا هائلا تكاد القلوب تتفطر منه فإذا كان الغد تأتي من آفاق الأرض زارزيرها وكل زرزور حامل ثلاث زيتونات واحدة في منقاره واثنتان في رجليه فيلقونها على رأس تلك الصورة فلا تزال كذلك حتى يمتلىء ذلك المكان العظيم قال فيعصرون منه زيتهم وما يأكلون من العام إلى العام وكان في داخل الهيكل الأعظم بيت مقفل لم يفتح منذ بنيت رومية ولما أراد فلنطانوس الملك النهوض إلى نصرة هرقل احتاج إلى مال يصرفه على عسكره فأتى إلى ذلك البيت المقفل وهم بفتحه فقال له عظماؤه وعطماوس وهو القيم على أمر الهياكل كلها أيها الملك أن هذا البيت منذ أقفل تاريخه سبعمائة سنة وذلك من قبل ظهور المسيح بمائة سنة وسبعين وما أحد من أجدادك تعرض إليه ولا أحد ممن ولى أمر هذه الكنيسة إلا ويوصي على هذا البيت أن لا يفتح فلا تزل حكمة اسسها من كان قبلك من الحكماء والملوك وقد بنى هذه المدينة وأسس هذا الهيكل وهذا البيت وهو بيت جدك رسيوي بن قطاوس وبقي في ملكه على ما بلغنا ثلثمائة وسبعين سنة ووصي كوصية أبيه وتولى عليه أحد أجدادك حتى وصل إليك هذا الملك ولك فيه مائة سنة فلا تزل حكمة أجدادك اجدادك الذين اسسوها وطلاسم وضعوها قال فأخذه اللجاج في فتحه فلما فتحه لم يجد فيه شيئا إلا إنه رأى في البيت صورة القدس مدن الشام وصفة ملوكهم وعددهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 وفي آخرهم صورة ليطن وهو هرقل كأنه ينظر في اللوح مكتوب باليونانية يا طالب العلم عليك بكثرة القراءة فإنه كلما تكرر مرور النكت على مسامع من يتعلمها كان ذلك أشد لثبوته وأحكم لتصريفه إذ العلوم كلها انما تستخرج بالعقل والقياس وإنما يكون بكثرة الرياضة والعلم مطية التدبير والتدبير موضع العلم والعلم موضع العقل هذا هو المتمم لاشكال العلوم وقد رأينا في الحكم والأسرار الخفية أن صاحب الغمامة إذا خيمت على صفحة الأرض وحلت الضلالة خرج مصباح الهداية من أرض تهامة فيذهب بظلام الجهل المظلم للحس ويدعو الناس بدينه إلى توحيد الصانع وهو صاحب الجمل الأورق فيذهب بالأديان والملك يضيق لدعوته السهل والجبل فإذا غلب نوره على كل كثيف انتقل إلى العلم الروحاني وولى بعده رجل نحيف الصورة قلبه منور بنور الصدق يشيد ملته ويصدق شريعته وويل للشام مما يحل بها من الرجل الأحور الذاهب بملك قيصر وهو الرجل الكثيف صولته الربعة صورته العدل صفته والحق منقبته جبته مرقعة وسيفه درته في أيامه تذهب الدول وتتحول وتضمحل وتزول وأوانه إذا فتح هذا البيت المصور بالحكمة المحفوظ بحفظ النعمة فطوبى لمن رسخت الحكمة في قلبه وأشرقت مصابيحها في لبه وأتبع الحق وعرفه وجانب الباطل وخالفه قال فلما قرأ فلنطانوس ما في اللوح أخذه العجب وقال لعطماوس قيم الهياكل أيها الأب الشفيق ما تقول في هذه الحكمة قال: أيها الملك وما عسى أن أقول في حكمة وضعتها العظماء وعلمت بها الحكماء وإنما العلوم غامضة يصل إليها الخبر الجوهري بنور العقل وإنما أرى أن دولة هرقل وهي عز دولتها وانهدت أركان ملكه من أرض سوريا وانتقل ملك الروم إلى ارض اسطور يعني قسطنطينية وبذلك أخبر مهراييس الحكيم في كتابه العزيز الذي وضعه وسماه اسلاوس يعني جواهر الحكمة ومن جملته إذا ظهر نور اليتيمة المصفاة من الأدناس من جبال ثاران تصفت الأذهان بنور حكمته وانصرفت الظلمة المتكاثفة في سماء الجهل بقوة عزيمته ودعا الناس إلى لطيف دعوته وقادهم بأزمة لطافته فيعلو على الافلاك فويل لأرض ايليا من صولة صاحبه المتوشح بوشاح الهيبة المتوج بتاج العقل صاحب فتوح الأرض ومذل ملوكها العدل فسطاطه والمرقعة لباسه في زمانه ينكسر الصليب وتخرج الهياكل وتندرج المذابح ويذوب ماء المعمودية فلا نجاة من صولته إلا باتباع شريعته وصاحبه قال فلما سمع ذلك فلنطانوس من القيم على الهياكل كتم الأمر في نفسه وقال: لا بد لي من النظر إلى العرب والمسير إليهم والى نصرة الملك هرقل وقد وصل إلى كتاب البترك وندبني إلى نصرة دين المسيح فإن تأخرت حرمني ثم إنه اختار من جيشه في رومية ثلاثين ألفا وهم الكرجية وولى في موضعه ولده استفليوس وهو مثلث النعمة واستخرج من بيت الحكمة رايات الاسكندر اليوناني وكانت منسوجة بالذهب واللؤلؤ التي نشرها يوم فتحت الواحات من أرض باليوس وكانت لا تنشر إلا في يوم واحد في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 السنة ببيعة أيا صوفيا وهو يوم عيد الصليب والشعانين قال فلما رفعت على رأس فلنطانوس سار حتى ورد انطاكية ونزل على باب هاوس ومعناه باب فارس قال: وركب الملك هرقل في موكبه إلى لقائه وضربت سرادقاته بازاء سرادقات هرقل وفرحت الروم وتفاءلت بالنصر وضربت النواقيس ووقعت ضجة عظيمة في جيوشهم وارتفعت أصواتهم وجاءت عيون المسلمين فاخبروهم بقدوم صاحب رومية فرفع أبو عبيدة كفه إلى السماء وقال اللهم أن أعداءك يستنصرون علينا بكثرة عددهم وتزايد مددهم فشتت كلمتهم ودمر جيوشهم وزلزل أقدامهم وعسر ايامهم واجعل كلمتنا العليا وكلمتهم السفلى وانصرنا كنصر نبيك في يوم الأحزاب اللهم رد كيدهم في نحرهم وانصرنا عليهم قال: وأمنت المسلمون على دعائه. قال الواقدي: حدثنا ابراهيم بن العلاء عن أبي يوسف الكندي عن ابي جعفر الدارمي عن الربيع بن أنس عن جعفر بن ميسرة قال قال لي عمي لما قدم صاحب رومية بجنوده خاف المسلمون ولكن ثبتهم الله وبعث أبو عبيدة معاذ بن جبل ومعه ثلاثة آلاف وقال له: يا صاحب رسول الله أن الروم قد تجمعت من سواحل البحر لنصرة دينها فانهض وشن الغارات على بلاد السواحل واحتفظ أن تؤتي المسلمون من قبلك قال ففعل ذلك معاذ وسار إلى جبلة واللاذقية فاحتوش أموالها وأخذ غنائمها ووجد على باب جبلة عنان بن جرهم الغساني ابن عم جبلة بن الأيهم ومعه ألف دابة محملة برا وشعيرا لعسكر الكفر وقد جمعها من طرابلس وعكا وصور وصيدا وقيسارية وقد بعث بها قسطنطين بن هرقل إلى ابيه فلما وصلت مدينة جبلة سلمها العرب المتنصرة لابن عم جبلة وعادوا فوقع بها معاذ رضي الله عنه فأخذها ورجع قافلا إلى عسكر المسلمين فلما رأوها رفعوا اصواتهم بالتهليل والتكبير فسأل هرقل عن ذلك فاخبروه بما وقع فغضب على أخذ الميرة التي تتقوت بها عسكر أعدائه فقال لبطارقته ما بقي بيننا وبين هؤلاء إلا المصاف ويعطي الله النصر لمن يشاء ثم إنه أمر عساكره بالأهبة للقتال ثم إنه ركب والى جانبه فلنطانوس صاحب رومية وصاحب مرعش وصاحب قلعة اسكبادنيس وهي قلعة الروم وصاحب طرطوس وصاحب مصيصه وصاحب قونية وصاحب ماصر وصاحب اقصرا وصاحب قيسارية الروم الأقصى وصاحب قوماط وصاحب انطرانه وصاحب طبرزند وجبلة ابن الأيهم. قال الواقدي: واقبل يوقنا يرتب الصفوف في الحرب فلما وقف كل ملك بجيشه وكل بطريق بأصحابه أراد فلنطانوس ملك رومية أن يتقرب إلى هرقل بمبارزة العرب فصقع له على قربوس سرجه وقال: أيها الملك ما تركت ملكي واتيت إلى خدمتك من مائتي فرسخ إلا حتى ارضي المسيح وأخدمه بين يديك وأن كل عسكرك قد قاتلوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 وجاهدوا وأريد أن ابرز في هذا اليوم إلى هؤلاء المحمديين واشفي فؤادك وفؤادي منهم فاراد الملك أن يطيب قلبه فقال له: الزم مكانك ولا تخرق بحرمتك وحشمتك حشمة الملوك فأنت أقدم مني في المملكة فدع غيرك يكون لهذا الأمر فما بلغ من شأن العرب أن تخرج أنت إليهم بنفسك فقال فلنطانوس أيها الملك وأي حشمة بقيت لنا مع هؤلاء وقد أهملوا عزنا وأذلوا أعز ديننا والجهاد مفروض على كبيرنا وصغيرنا أما علمت أيها الملك إنه من نظر إلى الدنيا بعين المحبة جذبته الشهوات إلى الغلو في محبتها والتعلق بزخارفها فإذا فعل ذلك ركب غيم كثافه الجهل على صفحة صدره فمنعه ذلك عن طلب معاده ومن سارع إلى طاعة خالقه بترك شهواته ارتقى إلى دار دائرة القدس في محل الانس ولما علم القديم الأزلي بركون أنفسكم المحجوبة بحجاب الغفلة إلى طلب ما يفني سلط عليكم أضعف أمة قد أخرجتكم من دياركم وأبعدتكم عن أوطانكم وما ذاك إلا لخلودكم إلى الأهواء الجاذبة إلى مهاويكم والى ادراك المهالك لأنكم حكمتم بغير الحق واجترأتم على الرعية بطلبكم منهم ما ليس لكم بحق والجور في أخذ أموالهم وفساد أحوالهم وكثرة الزنا وأتباع الخنا فلاجل ذلك لم تنصروا ودارت دائرة السوء عليكم قال ثم تكلم صاحب الملك هرقل الكبير واسمه سروند وصاح عليه وقال له: أيها السيد لا تحمل على قلب الملك من كلامك ما لا يطيق في مثل هذه الساعة فقد وعظه من هو أكبر منك فلم يسمع قوله قال فغضب فلنطانوس من صياح الحاجب عليه وكتم أمره إلى الليل فلما مضى من الليل ربعه طلب حجابه وخواصه وقال لهم: ارضيتم أن يزعق علي حاجب هرقل ويوبخني بين الملوك وأنتم تعلمون أن بيتي أعظم من بيته ونسبه أدنى من نسبي وملكي أقدم من ملكه ولقد قال قسيس حكيم بلاد الذكر المشهور بحكمته وهو الذي وضع المنار الأعظم في يوم كبير كان بين بلاد الجرامقة وبلاد الانجار وهي مسيرة أثني عشر يوما ولا يصل إلى أرضها إلا بعد عناء كبير فاحتفر لها بئرا ووضع في وسطها عمودا على راس حجر يدور من صنعة حكمتها يسمع له من حده النداء من حوله ويرشح له بقدر ما يملأ ذلك الجرن العظيم فإنه قال: لا تسع بقدمك إلى من يراك دونه فتصغر عنده واجعل عز نفسك في مقابلة كبرياء عجبه فإن عزه النفوس تقابل جاه الملوك ولا تصنع صنيعك لغير مستحقه لانها تجلب عليك السوء من قبل ذلك فإن ذلك الأحسان لا يزكو إلا عند ذوي الأصول فإنه يندسج عند السفهاء والأرذال لا تصنع إليهم النصيحة فانك أنت تطلب منفعته وهو يريد هوى نفسه بأذيتك وقد جئنا من مائة فرسخ واكثر إلى خدمة رجل يرى أننا قد قصدنا داره وتاج عزه واننا نحن من جملة خدمه وأن نور العقل المجوهر للحس يمنعني من اتباع الجهل المظلم للحواس وأن نفسي تابى ذلك والعز محل جليل ومقام نبيل والذل وبيل وصاحبه قليل وقد عولت أن أسير إلى هؤلاء العرب وأختبر ملتهم فإنها هي المله الواضحة بالحق المؤيدة بالصدق ومن كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 عليها أمن في معاده من الهول الأكبر فما أنتم قائلون قالوا: أيها الملك وكيف تطيب نفسك بترك دينك وملكك وعزك وتتبع هؤلاء وهم لا فضل لهم ولا عندهم حكمة فقال فلنطانوس أما الحكمة البالغة فعندهم مقرها وفي نفوسهم موطنها لأن نور توحيدهم صفى أذهانهم ونور ايمانهم ببركة صاحبهم المسمى في علوم الغيوب لأن مغناطيس حكمته الربانية جذب جوهر عقولهم إلى متابعته والإقتداء بشريعته ومن أراد أن يلقى عالم عليين فلا يقعد على صفحة أرض الجهل أما علمتم أن النور أنور من الظلمة والموت نهار الحياة قال فلما سمعوا قوله قالوا: أيها الملك نحن ما نمنعك من عز دائم يخرجنا من الذل ومهابة الغلبة فإذا كنت تطلب بنا طريقا يؤدي إلى البقاء ويذهب بالشقاء فالحق اتباع الحق ونفي الباطل فنحن لك وبين يديك قال فخذوا على أنفسكم فإذا كانت ليلة غد ركبنا كأنا نطوف حول البيت نحرسه ونطلب جيش العرب قال ففعلوا ذلك وأخذ فلنطانوس في أمره قال ابن وهب وابن صالح عن أبي موسى الاشعري قال لما عزم أن يسير إلى جيش المسلمين أتى إليه يوقنا برسالة الملك هرقل فلما ادى الرسالة وهم بالقيام قال له فلنطانوس: من أنت من الحجاب قال أنا يوقنا صاحب حلب قال: وكيف تركت بلدك قال استولت عليها العرب وحدثه بحديثه فقال فلنطانوس وما الذي ظهر لك من هؤلاء العرب قال: أيها الملك إني دخلت في دينهم واطلعت على أمرهم وكشف سرهم فرأيت القوم لا يستمعون إلى الباطل ولا يحيدون عن الحق ولا ينامون الليل من كثرة اجتهادهم ولا يتكلمون بغير ذكر ربهم ينصفون المظلوم من الظالم ويواسي غنيهم فقيرهم الأمراء منهم في زي المساكين والعزيز والذليل عندهم سواء فقال له فلنطانوس: فإذا وقفت على سرهم ورأيت فضلهم فما منعك أن تقيم عندهم وبينهم فقال يوقنا منعني من ذلك صحة ديني وصحبة قومي لاني لم أر فراقهم. قال فلنطانوس أن النفوس الزكية الباقية إذا رأت الحق جذبها جاذب اليقين إلى حضرة طلب الإخلاص من المعيشة الذميمة إلى أن ترقى إلى أعلى عليين قال فخرج يوقنا وقد رسخ كلام فلنطانوس في قلبه فقال: والله ما تكلم بشيء إلا وهو منقوش على صفحة صدري وكلامه يشهد بقبول عقله لصحة دين الإسلام وأقام يوقنا على قلق من ذلك حتى اقبل الليل فأتى إلى فلنطانوس فرآه وهو على نية الركوب إلى ما ذكرناه فلما وقف بين يديه صقع له فقال له فلنطانوس: باي حجاب حجب الله الظالمين عن اتباع سبيل المتقين فالحق واضح لمن طلبه والباطل خفي عمن اتبعه فقال يوقنا أيها الملك ما معنى هذا الكلام الذي اشرت إليه فقال لو إنك رأيت بعين البصيرة لما رجعت عن ملتهم ولا أردت بدلا غيرهم وإنما أنت طلبت نعيما يئول إلى الزوال إلى النكال قال فسكت يوقنا وخرج من عنده وجعل يتجسس عليه ومضى ووقف على الطريق الذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 يمضي إلى المسلمين فركب فلنطانوس وخرج من سرادقة فوجد بني عمه قد أخذوا أهبتهم وهم أربعة آلاف فارس وقدموا عزمهم وساروا يدا واحدة يطلبون جيش الموحدين وقد تركوا عزهم وفارقوا دينهم فلما قربوا من جيش المسلمين ظهر لهم يوقنا وبنو عمه المائتان فقال يوقنا لفلنطانوس أيها الملك عولت على أن تكبس المسلمين فقال: لا والقديم الأزلي وإنما أنا قاصد إليهم وداخل في دينهم وملتهم وأكون من جملتهم فمن نظر إلى الدنيا بعين الفناء عمل للآخرة فما الذي يمنعك يا يوقنا مما نحن عولنا عليه فقال يوقنا أيها الملك لقد جذبك جاذب الحق عن طريق الضلال ثم إنه حدثه بحديثه وانه عازم على أن يغدر بالروم فقبله فلنطانوس وفرح بمقالته وقال له: كيف تقدر على ذلك وما أرى معك إلا نفرا يسيرا فقال: أيها الملك أن في داخل بيتي مائتين من المسلمين من أكابر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقام عشرين ألفا من الروم ولقد رأيت أن تعود أنت وقومك ولا تستعجل ونبعث رجلا إلى أمير المسلمين يخبره بما نحن معولون عليه فإذا كان غدا تقف أنت وجيشك حول الملك هرقل وأدخل أنا البلد واطلق المائتي اسير واعطيهم سلاحا ويحمل جيش العرب وتحمل أنت وعسكرك على مركب هرقل وتقصده بنفسك فتقبض عليه وتكون قد جاهدت وأسير أنا ومن معي في داخل البلد فنملكها أن شاء الله تعالى وأن أردت أن ترجع إلى دار ملكك ويكون أمرك مكتوما علينا فحول أمر جيشك لمن تثق به من بني عمك قال فلنطانوس ما فعلت هذا ولي نية في ملكي ولا في ملك الدنيا بل إذا قضى هذا الأمر ونصر الإسلام قصدت مكة فأحج وأزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم ثم أرجع إلى بيت المقدس فأقيم فيه إلى أن أموت فمن يذهب إلى أمير العرب برسالتي ويخبرهم بما قد عولنا عليه فقال له: يوقنا اعلم أن لهم عندنا عيونا وجواسيس ممن هو تحت ذمتهم وأنا أعلمهم بما قد وقع قال فبينما هم في الكلام تحت ستر الليل وإذا بشيخ قصد إليهما فتأمله يوقنا فاذ هو عمرو بن أمية الضمري ساعي رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم على يوقنا وعلى من معه وقال ليوقنا أن الأمير أبا عبيدة يقول لك: جزاك الله خيرا عن الإسلام وانه راى في المنام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بما كان من أمر صاحب رومية وما تحدثتما به وما وقع له مع قومه وما عزمتم عليه وبشره بأن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تاخر وقد تفتح انطاكية ويزول عز الروم عنها وينتزع ملك صاحبها. قال الواقدي: فتهلل وجه فلنطانوس فرحا وازداد ايمانا وقال الحمد لله الذي هدانا للاسلام والإيمان. قال الواقدي: وذلك أن أبا عبيدة رضي الله عنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم وهو يقول: يا أبا عبيدة ابشر برضوان الله ورحمته وغدا تفتح أنطاكية صلحا وأن صاحب رومية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 المدائن الكبرى قد جرى من أمره كيت وكيت هو يوقنا صاحب حلب وهما بالقرب منك فأنفذ إليهما بنجاز الأمر قال فاستيقظ أبو عبيدة وقص رؤياه على خالد وأنفذ عمرو بن أمية كما ذكرنا قال فلما سمع فلنطانوس ذلك اقشعر جلده وارتعدت فرائصه وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله وأشهد أن هذا الدين هو الحق اليقين ثم إنهم عادوا وطافوا بجيش الملك كأنما يحرسون فبينما يوقنا قد ذهب بأصحابه من عند صاحب رومية وقد قوي عزمهم على ما ذكرنا من أمر كبسهم الملك وإذا بالحاجب قد لقيه والمشاعل بين يديه وقد خرج من انطاكية ومعه ضرار بن الأزور ورفاعة بن زهير والمائتا اسير وقد عول على قتلهم وأن يرمي غدا برؤوسهم إلى المسلمين فلما سمع يوقنا ذلك ضاقت الدنيا عليه وقال له: أيها الحاجب الكبير أنت تعلم أن المصاف غدا واقع بيننا وبينهم فإن أنتم قتلتم هؤلاء ورميت برؤوسهم إلى المسلمين فانهم لا يقعون بأحد منا فيبقون عليه فاتق الله ولا تعجل بذلك ودعهم عندي وراجع الملك في امرهم إلى أن نرى ما يئول أمرهم إليه قال فتركهم الحاجب عند يوقنا ومضى إلى الملك وأخبره بما قال يوقنا فقال له: دعهم عند الدمستق فرجع إليه وقال له الملك: يقول لك: احتفظ عليهم فأمرهم لك فاخذهم يوقنا وسار بهم إلى خيمته وصعب عليه اخراجهم من انطاكية لأنه كان قد عول على أن يملك بهم البلد فلما حلوا في خيمته حلهم من الوثاق وسلم إليهم العدد وأخبرهم بما قد عزم عليه هو وصاحب رومية من القبض على الملك هرقل فقال ضرار والله لأرضين الرب غدا بجهادنا وكانت قد ختمت جراحاته لأنه كان في الأسر ثمانية أشهر وفرقتم مع بني عمه. قال الواقدي: حدثنا أبو محمد عن سعيد بن ابي مريم عن يحيى بن ايوب عن عبد الله بن مسعود أن الذي أمر باخراج الأسرى لم يكن هرقل وإنما كان مملوكه الخاص واسمه تاليس بن رينوس وكان قد البسه تاجه ومنطقته وكان اشبه الخلق به وقال له: كن غدا مكاني فاني أريد أن أكيد العرب وأكمن خلفهم وما ذاك إلا إنه رأى في نومه كأن شخصا قد نزل من السماء وقلبه عن سريره وكأن تاجه قد طار من على رأسه وكأن شخصا يقول له: قد قرب ما بعد وقد زال ملكك من سورية وقد ذهبت دولة الشقاق والنفاق وجاءت دولة الوفاق وكأن ذلك الشخص قد نفخ في عسكره فأوقد نارا فاستيقظ مرعوبا وفسر منامه على نفسه بزوال ملكه وكان قبل نزول العرب قد عبى خزائنه وجمع ما يخاف عليه من التحف ووضعها في المراكب من حيث لا يعلم بذلك أحد من دولته وعبى الزاد والماء ثم إنه ارسل أهل بيته في تلك الليلة بعدما رأى في المنام ولم يدع من حريمه وأولاده وعياله أحدا وبعده أمر مملوكه تاليس بن رينوس بما أمره أن يفعله قال فلما ركب تاليس فما كان من أمره إلا أن قال للحاجب اخرج الاسارى واضرب رقابهم فأخرجهم وأخذهم يوقنا كما وصفنا قال حدثنا ياسر عن سليمان بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 عبد الواحد عن صفوان بن بشر عن عروة بن مذعور عن محمد بن علي عن عدي عن شعبة عن قتادة عن ابي الصديق الناجي عن ابن سعد قال: ما خرج هرقل من انطاكية إلا وهو مسلم وذلك إنه كتب إلى عمر بن الخطاب في السر عن قومه أن بي صداعا لا يسكن فانفذ الي بدواء أتداوى به فأرسل إليه قلنسوة فكان إذا وضعها على راسه سكن صداعه وإذا رفعها عاد إليه فتعجب من ذلك وأمر بفتحها فإذا فيها مكتوب بسم الله الرحمن الرحيم فقال هرقل: ما أكرم هذا الاسم وأعزه حيث شفاني الله به وكانوا قد توارثوا هذه القلنسوة إلى أن وصلت إلى صاحب عمورية فلما كان يوم المعتصم ونزل عليها عرض للمعتصم صداع فارسل إليه صاحب عمورية بالقلنسوة فلما وضعها على رأسه سكن ما به فأمر المعتصم بفتحها فإذا فيها الرقعة ومكتوب فيها بسم الله الرحمن الرحيم. قال الواقدي: وأما ما كان من أمر تاليس فلما أصبح ركب ورتب عساكر الروم عن آخرها ودارت المواكب حول تاليس بن رينوس وكان كل من رآه يظن إنه هرقل ولا يشك فيه ودار بمواكبه عسكر فلنطانوس صاحب رومية وركب يوقنا ومن معه وهم متنكرون تحت السلاح فكان أول من حمل خالد بن الوليد بجيش الزحف قال: وتبعه سعيد بن زيد وتبعه قيس بن هبيرة وتبعه ميسرة وبعده عبد الرحمن بن ابي بكر الصديق وذو الكلاع الحميري وأمثالهم وأطبق الناس بعضهم على بعض فلما اشتبكت الحرب هجم يوقنا ومن معه وحمل ضرار فلله دره لقد أعطى السيف حقه وأخذ بثاره من الروم وكلما قتل واحدا صاح واثارات أسر ضرار بن الأزور وكان قد قصد عسكر المتنصرة هو وأصحابه ورفاعة بن زهير يشجعهم ويوبخهم ويقول: خذوا بثاركم ممن اسركم واحملوا وإياكم أن تفشلوا واعلموا أن الجنة قد فتحت أبوابها وزينت حورها وقصورها وأشرق بنيانها ومرح ولدانها وتجلى ديانها ثم صاح يافتيان العرب أيكم يرغب في زواج الحور فإن يذل النفوس هي المهور ومن يريد عرسا في الجنان ويقوم في خدمته الولدان من يرغب فيما قال الملك الديان: {مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} [الرحمن:76] أين من شهد بدرا وحنين مع سيد الكونين أين من يزيل عن قلبه حجاب الغفلة والرين وافقوا قوما صارت هممهم إلى دار الأزل فأناخوا بباب من لم يزل محبوبهم فأراد الحق أن يوقفهم على منازلهم ليزيدوا في حسن أفعالهم فكشف عن سرائرهم فرأوا دارا بناؤها النور قواعدها من الرحمة حيطانها من الذهب ملاطها المسك ماؤها من الحيوان حصباؤها الدر والجوهر ترابها الكافور والعنبر سورها المجيد اللطيف ستورها الكرم أشجارها لا إله إلا الله أغصانها محمد رسول الله ثمارها سبحان الله والحمد لله عرضها السموات والأرض سقفها عرش الرحمن فلما كشف لهم عن هذه الأسرار اشتاقوا إلى سكنى الدار قيل لهم لن تصلوا إليها إلا ببذل النفوس في رضا الملك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 القدوس ثم خلع عليهم خلع الأحسان وتوجهم بتيجان الرضوان ونشر على رؤوسهم رايات الغفران مرسوم على طرازها بقلم السر المكنون: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169] لقد بذلوا النفوس في رضا القدوس. قال الواقدي: فبينما ضرار يحمل في الأعداء ويذيقهم شراب الردى وإذا هو بفارس يطحطح الكتائب ويفرق المواكب ويصيح واثارات ضرار بن الأزور فتأمله فإذا هو أخته خولة فناداها دارك يا بنت الأزور أنا والله أخوك فاقبلت لتسلم عليه فقال لها: إليك عني ما هذا وقت سلام وأن قتال الكفر أفضل من كلامك يا بنت الأزور فاجعلي عنانك مع عناني وسنانك مع سناني وجاهدي في سبيل الله فإن قتل أحدنا فالملتقى في الحشر عند حوض سيد البشر فبينما هم في ذلك إذ نظر إلى جيوش الروم وقد تقهقرت وفرسانهم قد انهزمت وكان السبب في ذلك أن صاحب رومية رحمه الله لما رأى الحرب قد اضرمت نيرانها وعلا دخانها حمل بأصحابه وقصد تاليس بن رينوس فقبض عليه وهو يظن إنه هرقل فصاح الصائح أن الملك هرقل قد قبض عليه فلنطانوس ملك رومية وغدر به فولت الروم الأدبار وقتل المسلمون منهم مقتلة عظيمة لم يقتل مثلها إلا بأجنادين واليرموك وقتل من العرب المتنصرة زهاء من أثني عشر ألفا وطلب جبلة ولده فلم ير لهم خبرا فقيل إنهم وأكابر قومهم ركبوا مع الملك هرقل في المراكب وكان جملة من هرب من سادات المتنصرة مع جبلة وابنه خمسمائة من جملتهم ابن عمه قرظة وعروة بن واثق ومرهف بن واثق وهحام بن سالم وشيبان بن مرة قال فسكنوا جزائر البحر فمن نسلهم هذه الافرنج قال: وأخذ المسلمون ما كان من السرادقات والخيام والديباج والمتاع والخزائن واسروا ثلاثين ألفا وقتلوا من الروم سبعين ألفا وولت العرب المتنصرة منهزمين فمنهم من أخذ نحو الدروب ومنهم من طلب قيسارية إلى قسطنطين بن هرقل فلما وضعت الحرب أوزارها وخمدت نارها جمعوا الأموال والأثقال: والأسرى بين يدي ابي عبيدة فلما نظر إلى ذلك سجد لله شكرا وسلم المسلمون بعضهم على بعض وجاء ضرار وأصحابه ويوقنا وفلنطانوس وأصحابه وسلموا على المسلمين وفرحوا بهم فلما وصل فلنطانوس قام إليه المسلمون وقال كبار الصحابة سمعنا نبينا صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا أتاكم كريم قوم فاكرموه" قال فنظر فلنطانوس إلى تواضعهم وحسن سيرتهم وكثرة عبادتهم فقال هؤلاء والله القوم الذين بشر بهم عيسى عليه السلام قال فأسلم بنو عمه عن آخرهم وجاهدوا في الكفار إلى أن فتحوا جميع الأمصار وبعدها مضى فلنطانوس إلى مكة فحج وزار قبر النبي صلى الله عليه وسلم المختار وسلم على عمر رضي الله عنه فلما رآه وثب إليه قائما وصافحه هو وجميع المسلمين وعاد إلى بيت المقدس فجلس يعبد الله فيه حتى أتاه اليقين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 قال الواقدي: ونظر أبو عبيدة إلى جيش أنطاكية وقد تحصنوا فيها وهم لا يحصون فقال اللهم اجعل لنا إلى فتحها من سبيل وافتح لنا فتحا مبينا قال: وكان على انطاكية بطريق اسمه صليب بن مرقس وكان جاهلا في رايه فعزم على القتال من داخل السور فاجتمع أكابر البلد إلى البترك في الليل وقالوا له: اخرج إلى هؤلاء العرب وصالح بيننا وبينهم على ما تقدر عليه قال فخرج البترك إلى أبي عبيدة وحدثه في الصلح فأجابه إلى ذلك فكان جملة ما صالح عليه أهل انطاكية ثلثمائة ألف مثقال من الذهب فلما تقرر الصلح قال له أبو عبيدة: احلف لنا إنكم لا تغدرون بنا فإن مدينتكم مانعة كثيرة الجبال والوعر فقال خالد: ومن يحلفه فقال أبو عبيدة: يوقنا قال فوضع يوقنا يده على راس البترك فوق يده وقال قل: والله والله والله أربعين مرة وإلا قطعت زناري وكسرت صليبي ولعنتني الشمامسة والديرانيون وخلعت دين النصرانية وذبحت الجمل في جرن ماء المعمودية ونجستها ببول مولود من أولاد إليهود وقتلت كل الشهود وإلا خرقت شدائد مريم وعصبت رأسي وإلا ذبحت القسوس وصبغت بدمائهم ثوب عروس وإلا جعلت مريم زانية به وإلا جعلت في المذبح حيضة يهودية وإلا أطفأت قنايل بيعه جرجيس وجعلت عزيرا في مقام كالوس وإلا تزوجت يهودية طامثة لا تلقي ابدا وإلا غسلت أثوابي صبيحة يوم الجمعة وهدمت الكنائس والبيع وأحللت الأعياد والجمع وإلا عبدت اللاهوت وجحدت الناسوت وإلا أكلت لحم الجمل يوم الشعانين وإلا صمت رمضان عاطشا وكنت للحم الرهبان ناهشا وإلا صليت في ثياب إليهود وقلت: إن عيسى دباغ الجلود اننا لا نغدر بكم ولا كنا إلا معكم. قال الواقدي: فعندها قام أبو عبيدة ودخل انطاكية وكان دخوله لخمسة أيام مضين من شعبان سنة سبع عشرة من الهجرة فدخله وبين يديه اللواء الذي عقده له أبو بكر الصديق رضي الله عنه وعن يمينه خالد بن الوليد وعن يساره ميسرة بن مسروق ودخلها والقراء بين يديه يقرأون سورة الفتح فلن يزل سائرا حتى وصل إلى باب الجنان فنزل هناك وخط هناك مسجدا وأمر ببنائه وبه يعرف إلى يومنا هذا قال ميسرة بن مسروق فنظرنا إلى بلد رطب طيب الهواء كثير الماء والخيرات فاستطابه المسلمون ووددنا لو أقمنا فيه شهر لنستريح فما تركنا أبو عبيدة فيه غير ثلاثة ايام ثم إنه كتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه سلام عليك وإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو واصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وأشكره على ما فتح علينا ورزقنا من الغنيمة والنصر وأعلمك يا أمير المؤمنين أن الله عز وجل قد فتح على المسلمين كرسي النصرانية مدينة انطاكية وكسر الله عسكرها ونصرنا الله عليهم وهرب هرقل في البحر وإني لم أقم بها لطيب هوائها وإني خشيت على المسلمين أن يغلب حب الدنيا على قلوبهم فيقطعهم عن طاعة ربهم وإني معول على المسير إلى حلب وإني منتظر أمرك فإن أمرتني أن اسير إلى داخل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 الدروب فعلت وأن أمرتني بالمقام أقمت واعلم يا أمير المؤمنين أن العرب قد نظرت إلى بنات الروم فدعتهم أنفسهم إلى التزوج فمنعتهم من ذلك وإني أخشى عليهم الفتنة إلا من عصمه الله فعجل الي بأمرك والسلام عليك وعلى جميع المسلمين وطوى الكتاب وختمه وقال معاشر المسلمين من يسير بكتابي هذا إلى أمير المؤمنين فاسرع بالإجابة زيد بن وهب مولى عمير بن سعيد مولى عمرو بن عوف فقال أنا أيها الأميرأوصله أن شاء الله تعالى فقال أبو عبيدة: يا زيد أنت لست مالك نفسك وإنما أنت مملوك فإن أردت المسير فسل مولاك أن يأذن لك في ذلك فاسرع زيد إلى مولاه عمير فانكب على يديه يقبلهما فمنعه من ذلك وذلك أن عميرا كان رجلا زاهدا في الدنيا راغبا في الآخرة ما يملك من الدنيا سوى سيفه ورمحه وفرسه وبعيره ومزادته وقصعته ومصحفه وكان الذي يصيبه من الغنائم لا يدخر منه ولا يأخذ إلا ما يقوته وكان يفرق الباقي على قرابته وقومه فإن فاض شيء يرسله إلى عمر رضي الله عنه يفرقه على فقراء المسلمين المهاجرين والأنصار قال فلما أراد زيد أن يقبل يد سيده منعه وقال له: ما الذي تريد فقال: يا مولاي تأذن لي أن أكون رسولا للمسلمين بشيرا إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال عمير بن سعيد تريد أن تكون بشيرا للمسلمين وأمنعك من ذلك إني إذا لآثم امض فأنت حر لوجه الله تعالى وأرجو بعتقك أن يجيرني الله من النار. قال ففرح زيد بذلك وعاد إلى ابي عبيدة فاخبره أن ببركة كتابه صار حرا فسر أبو عبيدة وسار زيد على نجيب من نجب اليمن دفعه إليه وكان سابقا قال فجعل زيد يطلب اقرب الطرق حتى قدم المدينة ودخلها وإذا بها ضجة عظيمة ولاهلها ضجيج وهم يهرعون نحو البقيع وقباء فقلت لنفسي: إن لهم أمرا فتبعتهم لأرى ما شأنهم وأنا أحسب إنهم يريدون حربا فرأيت رجلا فعرفته فسلمت عليه فعرفني وقال أنت زيد قلت: نعم قال الله أكبر ما وراءك يا زيد قلت: البشارة والغنيمة والفتح قلت: ما فعل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب قال إنه خارج يريد الحج ومعه ازواج النبي صلى الله عليه وسلم يحج بهن والناس يشيعونه قال زيد بن وهب فأنخت بعيري وعقلته وأسرعت مهرولا حتى وقفت بين يدي عمر رضي الله عنه وهو يمشي راجلا ووراءه مولاه يقود بعيرا وقد رحله بعباءة قطوانية وزاده وجفنته عليه والهوادج بين يديه سائرة وعن يمينه علي بن ابي طالب وعن يساره العباس ابن عبد المطلب ومن ورائه المهاجرون والأنصار وهو يوصيهم بالمدينة قال زيد بن وهب فلما وقفت بين يديه ناديت السلام عليك يا أمير المؤمنين أنا زيد بن وهب مولى عمير بن سعيد أتيتك بشيرا قال عمر بشرك الله بخير فما بشارتك قلت: هذا كتاب من عاملك أبي عبيدة يخبرك أن الله قد فتح على يديه أنطاكية قال فلما سمع عمر بذكر أنطاكية وأن الله فتحها خر لله ساجدا يمرغ خديه على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 التراب ثم إنه رفع راسه من سجوده وقد تترب وجهه وشيبته من التراب وهو يقول: اللهم لك الحمد والشكر على نعمك السابغة ثم قال هات الكتاب رحمك الله فناولته إياه فلما قرأه بكى فقال له علي كرم الله وجهه: مم بكاؤك قال مما صنع أبو عبيدة بالمسلمين وبما استعقب رأيه في الموحدين ثم قال أن النفس لامارة بالسوء ودفع الكتاب إلى علي فقرأه على المسلمين إلى آخره قال زيد بن وهب ثم رأيت عمر قد هدا من بكائه وقد زاد فرحه وأقبل علي وقال: يا زيد إذا عدت فأمعن النظر في اتيانها وأعنا بها واحمد الله كثيرا فقلت: يا أمير المؤمنين ليس هذا أوانه قال ثم جلس عمر على الأرض ودعا بدواة وقرطاس وكتب إلى أبي عبيدة كتابا يقول فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر إلى عامله بالشام أبي عبيدة عامر ابن الجراح سلام عليك وإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو وأصلي على نبيه وأشكره على ما وهب من النصر للمسلمين وجعل العاقبة للمتقين ولم يزل بنا لطيفا معينا وأما قولك لم نقم بانطاكية لطيبها فإن الله عز وجل لم يحرم الطيبات على المؤمنين الذين يعملون الصالحات فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً} [المؤمنون: 51] وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا الِلَّهِ} [البقرة: 172] الآية فكان يجب عليك أن تريح المسلمين من تعبهم وتدعهم يرغدون في مطعمهم ويريحون أبدانهم من نصب القتال مع من كفر بالله وأما قولك إنك منتظر أمري فالذي آمرك به أن تدخل وراء العدو وتفتح الدروب فإنك الشاهد وأنا الغائب وقد يرى الشاهد ما لا يراه الغائب وأنت بحضرة عدوك وعيونك تأنيك بالأخبار فإن رأيت أن دخولك إلى الدروب بالمسلمين صواب فابعث إليهم بالسراية وادخل معهم إلى بلادهم وضيق عليهم المسالك ومن طلب منك الصلح فصالحهم ووف لهم بما تقدر وأما قولك أن العرب أبصرت نساء الروم فرغبت في التزوج فمن أحب ذلك فدعه أن لم يكن له أهل بالحجاز ومن أراد أن يشتري الأماء فدعه فإن ذلك أصون لفروجهم واعف لنفوسهم وما تحتاج أن أوصيك في أمر فلنطانوس صاحب رومية اوسع عليه في النفقة وعلى من معه فإنه قد فارق أهله وملكه وأمره ونهيه والسلام عليك وعلى جميع المسلمين وطوى الكتاب ودفعه لزيد بن وهب وقال له: انطلق رحمك الله وأشرك عمر في ثوابك فأخذ زيد الكتاب وهم أن يسير فأمره أن يقف وقال له: على رسلك حتى يزودك عمر من قوته ثم أن عمر أناخ راحلته وأخرج له تمرا وأعطاه صاع تمر وصاع سويق وقال: يا زيد اعذر عمر فهذا ما أمكنه ثم أن عمر قبل راس زيد بن وهب فبكى زيد وقال: يا أمير المؤمنين أو بلغ من قدري أن تقبل راسي وأنت أمير المؤمنين وصاحب سيد المرسلين وقد ختم الله بك الأربعين فبكى عمر وقال أرجو أن يغفر الله لعمر بشهادتك قال زيد بن وهب فاستويت على كور ناقتي وهممت بالمسير فسمعته يقول: اللهم احمله عليها بالسلامة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 واطو له البعيد وسهل له القريب إنك على كل شيء قدير قال زيد بن وهب ففرحت بدعوة عمر رضي الله عنه وعلمت أن الله لا يرد دعوته إذ كان لربه طائعا ولنبيه تابعا فجعلت اسير والأرض تطوي لي تحت اخفاف مطيتي فكنت والله في اليوم الثالث عند أبي عبيدة وقد رحل عن انطاكية وقد نزلت على حازم قال زيد فلما وصلت إلى عساكر المسلمين سمعت ضجة وجلبة وقد ارتفعت الأصوات فسألت رجلا من أهل اليمن ما سبب ذلك قال فرحا بما فتح الله على المسلمين وهذا خالدج قد أتى وكان قد ضرب على شاطىء الفرات وأغار بخيله وقد صالحه أهل منبج وبزاعة وبالس وأتى برجالهم وأموالهم وافتتحها صلحا وقد فتح منبج وبزاعة وبالس وقلعة نجم في العشر الأوسط من المحرم سنة ثماني عشرة من الهجرة وصالحهم بعد رد أموالهم على مائة ألف وخمسين ألف دينار وأخذها بعد أن نزل صاحبهم جرفناس وسار بأمواله وعبيده وخيوله إلى بلاد الروم وولى على منبج عباد ابن رافع التيميي وعلى الجسر نجم بن مفرج وولى على بزاعة اوس بن خالد الرابعي وعلى بالس بادر بن عوف الحميري وبنى له بها قلعة إلى جانب بالس من الشرق وسماها باسمه وعاد خالد بالأموال والأثقال يوم قدوم زيد بن وهب قال فأتيت أبا عبيدة وهو جالس وخالد إلى جانبه وقد قدم مال الصلح فانحت ناقتي وسلمت عليهم ودفعت الكتاب إلى ابي عبيدة ففضه وقراه على المسلمين فلما سمعت المسلمون ما فيه قال أبو عبيدة: معاشر المسلمين أن أمير المؤمنين قد جعل أمر الدخول إلى الدروب الي وقال أنت الشاهد وأنا الغائب وأنا لا أفعل شيئا إلا برأيكم فما تشيرون علي أن أفعل رحمكم الله فلم يجبه أحد وأعاد القول ثانيا فلم يجبه أحد والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 المجلد الثاني ذكر غزوة مرج القبائل داخل الدروب ... بسم الله الرحمن الرحيم {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} ذكر غزوة مرج القبائل داخل الدروب فقال ابو عبيدة معاشر المسلمين هذا الشام قد ملكتموه وملككم الله إياه واخرج عدوكم منه بالذل والهوان وأورثكم أرضهم وديارهم كما قال الله تعالى في كتابه العزيز فما تشيرون به علي اندخل في هذه الدروب وراء اعدائنا فلم يجبه احد فأعاد الكلام ثم قال: ما هذا السكوت أفشل بكم بعد الشجاعة أم كسل بعد النشاط أم قد انتقيتم من الحسنات ولم يبق عليكم من الذنوب وإن الحسنات لكم كثيرة ولم يبق عليكم خطيئة فالرغبة إلى الله أن يعينكم على الجهاد فهو خير لكم من الدنيا وما فيها قال فكان أول من تكلم ميسرة بن مسروق العبسي فقال: أيها الأمير أنا لم نسكت لجزع لحقنا ولا لفزع رهقنا وإنما بعضنا ينتظر بعضا اجلالا وأدبا وأعلم أيها الأمير أنه ما لنا تجارة ولا عمل غير الجهاد في أعداء الله وها نحن لك وبين يديك ومنك الأمر ومنا الطاعة لله ولرسوله ولك وأما أنا فلا أملك إلا نفسي فوجهني حيث شئت تجدني طائعا فقال أبو عبيدة معاشر المسلمين من له راي وحضرته مشورة فليقلها ويظهر ما عنده فقال خالد: أيها الأمير أن إقامتنا عن طلب القوم وهن وعجز منا في ديننا وطلبهم هو الغنيمة والنصر من عند الله والذي أشير به أيها الأمير أن تبعث الجيوش في كل درب من هذه الدروب فإن ذلك يوهن العدو وتقر به أعين المسلمين قال فجزاه أبو عبيدة خيرا وقال: يا أبا سليمان إني قد رأيت أن أعقد لميسرة عقدا واسير معه رجالا لانه هو أول سارع إلى هذا الأمر وأشار به فيفتح الله لهم الدروب ويغير على ما من قرب من البلاد ويرجع فيخبرنا عن خبر البلاد فنعمل على حسب ما نرى. فقال خالد: هذا الصواب فعقد لميسرة وانتخب له من القبائل ثلاثة آلاف فارس من الشجعان وألف عبد من السودان وجعل من كل قبيلة نقيبا وجعل على العبيد دامسا أبا الهول قال فلبسوا اكمل السلاح وكل منهم يقول أنه يلقي الكتيبة وحده وجعل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 3 أمير القوم ميسرة وقال أبو عبيدة يا أبا الهول كن انت بجماعتك في أوائل العسكر ولا تخالف ميسرة فيما اشار به فإنه مبارك الطلعة فقال سمعا وطاعة قال: وجهز القوم ثم أن خالدا قال: أيها الأمير أرسل معهم أدلاء يعرفونهم الطريق ويكونون لهم عيونا على أعدائهم فطلب لهم من أهل حلب من المعاهدين من يكون ناصحا لهم فاختاروا لهم اربعة واعطاهم أبو عبيدة واحسن إليهم وطرح عنهم الجزية وقال لهم: في أي درب يكون دخول المسلمين في طلب العدو فاجتمع رأيهم على أن يدخلوا في الدرب الاعظم من بلد قورص. ثم إنهم قالوا: أيها الأمير أن هذه الدروب ليست كمثل البلاد التي فتحتموها بل هي بلاد شديدة البرد كثيرة الشجر والمدر والحجر وفيها مضايق وشعاب وأودية وكهوف وعقبات فقال أهل اليمن سيروا أنتم أمامنا فإنكم ترون منا عجبا فسار أبو الهول والمعاهدون أمامه وسار ميسرة في أعقابهم بعدما ودعوا الناس ومضوا وهم بالتهليل والتكبير وقراءة القرآن والمسلمون يدعون لهم بالنصر والسلامة قال عطاء بن جعيدة وسرنا والدليل أمامنا حتى أتينا عقبة حنداس فقطعناها وعبرنا نحو الساجور وأتينا قورص فنزلنا فيها وبتنا فلما أصبحنا ودخلنا الدروب وجدنا بها ارضا وعرة وأشجارا ومياها جارية ومضايق ليس للفرس فيها مجال فهالنا وحشة ذلك المكان إذ ليس للعرب فيه مجال ولا فسحة فقلت في خاطري أن طالت علينا هذه الاودية خشيت على المسلمين أن يظفر بهم عدوهم والادلاء أمام المسلمين وقد تعلقوا في جبال شامخة صعبة الصعود فلم يبق أحد إلا وترجل عن فرسه قال: ومشينا حتى تقطعت نعالنا وسال الدم من أرجلنا فلم نزل على ذلك ثلاثة أيام والادلاء يقولون لنا كونوا على يقظة فإن أخذ عليكم المجاز هلكتم فلما كان في اليوم الرابع خرجنا إلى أرض واسعة وكان دخولنا إلى بلاد الروم في أول الصيف ونحن مخففون من الثياب ولما دخلنا إلى تلك الأرض وجدنا بردا كثيرا ونظرنا إلى الثلج وهو على الجبال عن يميننا وشمالنا قال: وكان دامس أبو الهول يأخذ معه ثيابا تدفئه فحصل له من البرد فقال: يا أبا الهول ما لي اراك ترتعد فقال أخذني البرد وليس معي ما يدفئني فدفع إليه فروة فلبسها فدفىء فقال كساك الله من ثياب الجنة. قال الواقدي: وساروا إلى أن وصلوا إلى أرض طيبة كثيرة المياه قليلة الشجر فنزلوا فيها ثم إنهم ساروا فلم يروا احدا لأن الروم كانوا قد نزحوا عن البلاد لحذرهم من المسلمين فلما كان في اليوم الخامس ونحن سائرون إذ لاحت لنا قرية فقصدها المسلمون وإذا هي خالية بل سمعوا أصوات الديوك والغنم فدخلوها فلم يجدوا عندها مانعا ولا دافعا فعرفنا انهم تواروا عنا فصاح ميسرة وقال خذوا حذركم فإن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 4 القوم قد انهزموا فدخل الناس إلى القرية فأخذوا ما كان فيها من طعام وأثاث ومتاع قال سعيد بن عامر فرأيت أبا الهول وهو يحمل على عاتقه ثلاثة اكسية وقطعتين قال فقلت له يا أبا الهول ما هذا فقال استعد به لبرد هذه البلاد الخبيثة فما أنساها أبدا قال: وأخذوا ما كان في القرية من طعام وعلوفة وساروا إلى أن وصلوا إلى مرج ي قال له: مرج القبائل وهو مرج واسع فانبثت الخيل فيه يمينا وشمالا ونزل الجيش هناك وميسرة يراود نفسه في الرجوع إلى حلب وذلك أن أبا عبيدة كان قد أمره أن لا يبطىء عنه وإن يكون حذرا فبينما هو كذلك والخيل منبثة والناس آمنون من عدو يدهمهه إذ أقبل بعض الخيالة ومعه علج يقوده فلما وصل إلى ميسرة قال له: ما شأن هذا ومن أين أخذته فقال اعلم أيها الأمير إني سبقت اصحابي فرايت شخصا يلوح مرة ويختفي مرة فأسرعت إليه فإذا هو هذا فأتيته وسقته اليك قال فتقدم إليه رجل من المعاهدين فسأله فحدثه فاطال معه الكلام والناس سكوت فلما أطال قال ميسرة ويلك ما الذي يقول هذا العلج. فقال: أيها الأمير انه يقول أن الملك هرقل لما ركب البحر وخرج من انطاكية ووصل إلى قسطنطينية قصدته الروح من كل مكان من المنهزمين وغيرهم وبلغه أن انطاكية قد فتحت صلحا وإنه قتل من كان فيها من المقاتلة فصعب عليه وبكى ثم قال السلام عليك يا أرض سوريا إلى يوم اللقاء وقد تجمع عنده من البطارقة والحجاب وغيرهم خلق كثير فقال لهم: إني أخاف من العرب أن ترسل في طلبنا ثم إنه جهز ثلاثين ألفا مع ثلاثة بطارقة وأمرهم أن يحفظوا له الدروب فقال له ميسرة: قل له كم بيننا وبينهم قال يقول لكم فرسخان قال فلما سمع ذلك ميسرة أطرق إلى الأرض لا يرد جوابا ولا يبدي خطابا فقال له رجل من آل سهم يقال له: عبد الله بن حذافة السهمي وكان من أبطال الموحدين وشجعانهم وكان له عمود من حديد وكان يقاتل به لا يقله في الحرب سواه وكان ذميم الخلقة فقال لميسرة بن مسروق ما لي اراك أيها الأمير مطرقا إلى الأرض أطراق الحصان لصلصلة اللجام والرجل منا يقابل ألفا من الروم. فقال: والله يا عبد الله ما أطرقت خوفا ولا جزعا ولكن خوفا على المسلمين أن يصابوا تحت رايتي وهي أول راية دخلت الدروب فيلومني عمر بن الخطاب وكل راع مسؤول عن رعيته فقال المسلمون والله ما نبالي بالموت ولا نفكر في الفوت لاننا قد بعنا أنفسنا بجنة ربنا ومن يعلم انه ينقل من دار الفناء إلى دار البقاء فلا يبالي بما وصل إليه من الكفار ثم إنه قال: أيها الناس أترون أن نلقاهم في موضعنا هذا أو نسير إليهم فسألوا المعاهد وقالوا: أن كان موضعهم افسح من هذا رحنا إليهم فقال: ليس من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 هذه البلاد بعد عمورية أفسح من هذا المكان فإن عولتم على لقائهم فاثبتوا مكانكم وإن عدتم إلى ورائكم كان خيرا لكم من قبل أن يشرف عليكم عدوكم قال فعرض ميسرة على العلج الإسلام فأبى وكانوا كالجراج المنتشر وكان قد مضى النهار فأضرمت النيران فلما أصبح الصبح صلى ميسرة بالناس صلاة الفجر فلما فرغ قام في الناس خطيبا فقال: أيها الناس هذا يوم له ما بعده وإن رأيتكم هذه اول راية فضرب عنقه فبينما هم على ذلك إذ أشرفت عليهم الروم فنزلوا بازائهم ما لا يحصل لغيره فقال قبح الله تلك البلاد فإذا كان هذا البرد عندهم في الصيف فكيف يكون في الشتاء وجعل يرتعد فرآه ميسرة دخلت الدروب واعلموا أن اخوانكم مطاولون لفعلكم واعلموا أن الدنيا دار ممر ولآخرة دار مقر واسهوا ما قال نبينا صلى الله عليه وسلم: "الجنة تحت ظلال السيوف" ولا تنظروا إلى قلتكم وكثرة أعدائكم فقد قال تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249] فقال المسلمون اركب بنا يا ميسرة على بركة الله والقهم بنا وانا لنرجو من الله النصر عليهم قال فاستبشر بقولهم وركبوا وانفصلت العبيد من العرب ووقفوا تحت راية أبي الهول وأخذوا على أنفسهم قتال عدوهم واستنصروا بربهم وهو يوصيهم وجعل على الميمنة عبد الله بن حذافة السهمي وعلى الميسرة سعد بن أبي سعيد الحنفي وقدم العبيد مع أبي الهول فلم ينطق بكلمة وركب جيش الروم ومدوا سفوفهم ثلاثة صفوف كل صف عشرة آلاف وأمامهم الصلبان وهم في عددهم وعديدهم فلما استوت الصفوف خرج رجل من الروم من المتنصرة وقرب من المسلمين وقال أن الباغي بغية يرديه أما كفاكم ما ملكتموه من الشام العظيم حتى اقتحمتم هذه الجبال وإنما ساقتكم الآجال وهنا ثلاثون ألف عنان وقد حلفوا بالصلبان أن كلا منهم لا ينهزم وإن وقع ميتا فإن اردتم أن نبقي عليكم فاستسلموا للاسر حتى يحكم الملك هرقل فيكم بما يريد فخرج ابو الهول والراية بيده وقال له: صدقت في قولك أن الباغي يرديه بغيه وأما قولك انا نلقى اليكم بأيدينا لتبقوا علينا فأنت إذا باغ بقولك هذا إذ نطقت بغير تجربة منكم وها أنا عبد من عبيد العرب لا قدر لي ولا قيمة عند ذوي الرتب فاقرب مني حتى أجندلك صريعا تخور في دمك ثم أن دامسا همز حصانه إليه وطعنه فأرداه عن فرسه قتيلا ثم جال على فلوه وهز رايته وقال: الله واكبر فتح الله ونصر وجاءنا بالظفر ونظرت الروم إلى أبي الهول وقد قتل صاحبهم وكان من شجعانهم فغضبوا لذلك فخرج إليه آخر فما تركه يقرب منه حتى طعنه في نحره فاخرج السنان من ظهره ونظر الروم إلى ذلك فقالوا: هذا عبد من عبيد العرب قد فعل ما ترون قال فلم يجسر احد أن يخرج إليه فأغار عليهم وقتل من القلب واحدا ورجع قال فحمل عليه صف من الصفوف وهم عشرة آلاف ودهموه بالخيل فحملت العبيد وحملت المسلمون والتقى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 الجمعان قال ميسرة فالله در العبيد لقد ابلوا بلاء حسنا واستنقذوا أبا الهول من عين الهلاك وهم يقولون نحن عبيد العباد الله وضربنا مثل الحريق في سبيل الله ونقتل من كفر بالله قال: ولم يزل الحرب بينهم حتى قامت الشمس في قبة الفلك وحمي عليهم الحر وافترق الجمعان قال: وإن المسلمين موقنون بالظفر والنصر والمشركون قد ايقنوا بالهلاك وقد قتل منهم خلق كثير واسر من الروم تسعمائة وقتل منهم زهاء من ألف فلما أنفصل الجمعان افتقد المسلمون أبا الهول فلم يجدوه فقال ميسرة: أن كان أبي الهول قد قتل أو اسر فقد اصبنا به وإلى الله تعالى اشكو ما اصبنا من فقد أبي الهول واسر من المسلمين عشرة ثم أن ميسرة قال من فيكم يكشف لنا خبرهم وإذا بالروم قد عادوا للقتال وحملوا بأجمعهم فقاتلوا قتالا شديدا فكان الرجل من المسلمين يجتمع عليه العشرة والعشرون والخمسون إلى أن يقتلوه أو يأسروه وكانت العرب في أربعة آلاف والروم في ثلاثين الفا فعظم بينهم الحرب وهاج الطعن والضرب فلله در ميسرة بن مسروق العبسي لقد جاهد في الله حق جهاده وهو مع ذلك ينادي أيها الناس اذكروا الدار الآخرة واعلموا أنها اقرب لاحدكم من رجوعه لأهله فاستقبلوها استقبال الوالدة لولدها ولا تولوا الادبار عنها فإن اصاب القوم منا فإني اخشى أن ذلك وهن بنا ثم إنه نادى أحطموا أجفرة سيوفكم فذلك طريق النجاة. قال زيد بن وهب فلم يبقى احد من المسلمين حتى رمى بجفير سيفه فلما رأت الروم ذلك فعلوا مثلنا ورمى كل منهم بجفير سيفه وسميت تلك الواقعة باسمين وقعة مرج القبائل ووقعة الحطمة لأجل حطم أغمدة السيوف قال: واقتتلوا حتى أن الرجل يقول أن سيفه ما بقي يقطع والمسلمون يبتهلون إلى الله والكفار تعج بكلمة كفرهم قال: وإن المسلمين يطلبون الفرج من الله والسودان تقاتل قتال الموت وكان شعار العرب في ذلك اليوم النصر النصر وشعار السودان يا محمد يا محمد قال ابن ثابت وكنت قد أخذني القلق على المسلمين ونحن في ركب عظيم إذ سمعت في الروم ضجة هائلة وإذا بهم يقاتلون اناسا من ورائهم وهم في وسط عسكرهم والزعقات منهم قد علت وسمعت قائلا يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله فقلت هذه أصوات الملائكة فاتبعت الصوت فإذا هو صوت دامس أبي الهول وهو بارك تحت حجفته ومعه العشرة المأسورين وهم يقاتلون معه ويحمون بعضهم إلى أن خلصوا من بيتهم وسمعته يقول هذه الابيات: يوثقني الاعداء في الحديد ... وناصري وسيدي المبيد مهلك عاد وبني ثمود ... أغاثني بعونه الشديد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 محمد الطاهر الرشيد ... فحل عني القيد والحديد ذاك رسول الملك المجيد ... صلى عليه الناصر الحميد قال: فحملت المسلمون وكشفوا عنهم فخرجوا وكأنهم قد غرقوا في بحر دم ووالله ما قتل من المسلمين اكثر من خمسين رجلا بواحد أو باثنين وقتل من المشركين نيف عن ثلاثة آلاف غير ما قتله أبو الهول واصحابه في وسط عسكر الكفر فلما نظر ميسرة إلى دامس أراد أن يترحل إليه فأقسم عليه أن لا يفعل وافترق الجيشان فضم ميسرة دامسا إلى صدره وقبله بين عينيه وقال له: كيف كان أمركم قال اعلم أيها الأمير أن الروم كانوا قد تكاثروا على فرسي فقتلوه ووقعت فأخذوني أسيرا وجعلوني في الحديد وفعلوا بأصحابي مثلي وقد ايسنا من أنفسنا فلما جن الليل رايت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: "لا بأس عليك يا دامس اعلم أن منزلتي عند الله عظيمة" ثم إنه أمر يده الكريمة على الحديد فسقط مني وفعل ذلك مع أصحابي وقال لنا: "ابشروا بنصر الله فأنا نبيكم محمد رسول الله" وقال لي: "أقرىء عني ميسرة السلام وقل له جزال الله خيرا" ثم غاب عني فانتبهت فوجدت الموكلين بنا نياما مما لحقهم من التعب وقد رموا سلاحهم فأخذنا سيوفهم وطوارقهم وقتلناهم وحملنا فيهم ونصرنا الله عليهم ببركة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلنا منهم من قتلناوخرجنا من بينهم سالمين وهذا حديثنا قال فضج المسلمون بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 النجدة قال الواقدي: ثم أن بطريق الروم كان اسمه جارس فلما رأى ما قد حل بأصحابه قال: وحق المسيح خاب ملك أنتم حماته فإن لم تقاتلوا بعزم وشدة والا قتلتكم قال فتحالفوا أن لا ينهزموا أو يقتلوا عن آخرهم فلما وثق منهم أمر أن تضرم الينران على شواهق الجبال وأمر أن ينفذ النفير إلى البلاد باسرها قال فأتت إليه الروم من كل جانب فأتى إليه عشرون ألفا ولكن المسلمين لم يكترثوا بذلك فلما كان الغد صلى ميسرة بالمسلمين صلاة الخوف وهو أول من صلاها داخل الدروب وأول راية دخلت كانت رايته فلما فرغ من صلاته قام في الناس خطيبا فحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه وقال: أيها الناس اثبتوا لما نزال بكم فالصبر عند نزول المصائب وهذه رحمة من الله لنا إذ نحن في صدور الاعداء وقد دارت بنا هذه الجيوش ونحن لا نقاتل إلا بنصر الله لنا وإن الأمير أبا عبيدة كان قد أمرني أن لا أبعد بكم عنهم ولنا منهم الآن سبعة أيام وما يظن أبو عبيدة أننا نلاقي جيشا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 فقال له سعيد بن زيد: يا ميسرة ما الذي تريد بهذا الكلام أن كنت تريد إنك تحرضنا فنحن أشوق إلى لقاء الله من الظمآن إلى الماء البارد فقال ميسرة ما أردت بذلك إلا مشورتكم وقد رايت أن ننفذ إلى أمير المسلمين رجلا نعلمه بما قد بلينا به وإن مدد القوم يزيد فلعله ينجدنا باخواننا فقال سعيد نعم ما قد أشرت به فدعا برجل من الاربعة المعاهدين ووعده بكل خير وأمره أن يأخذ معه آخر وإن يسير إلى أبي عبيدة ويعلمه أن نفير القوم قد لحقنا من الحصون والقرى وسائر البلاد وقد نزلوا بازائنا وإن يحدثه بما قد رأى قال فسار المعاهد والرجل إلى حلب وأجهدا نفسيهما في السير في طرق يعرفانها إلى أن وصلا جيش المسلمين فسقطا كأنهما البغال الهرمة من شدة السير والتعب فأمروا أن يرش عليهما الماء فلما افاقا قال لهما ما وراءكما أهلكت الكتيبة قالا لا والله ولكن نفر عليهم العدو من كل مكان وأخبراه بما كان من الحرب والقتال وكيف حطموا أجفرة سيوفهم وكيف أسر أبو الهول وكيف خلص وما هم فيه فقلق أبو عبيدة عند ذلك وقام مسرعا وأتى قبة خالد بن الوليد فوجده يصلح درعه فلما رآه قام إليه قائما وقال له: خيرا أيها الأمير فأخذ بيده وسار به إلى أن أتى رحله وقال للرجلين قوما فحدثا الأمير بما عاينتما فحدثاه بما كن من أمر المسلمين فقال خالد: أن الله سبحانه وتعالى منذ نصرنا ما خذلنا فله الحمد على ذلك وقد أمرنا بالصبر على الشدائد فقال عز من قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} [آل عمران: 200] وقال: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153] وأما خالد فقال أحبس على الجهاد في سبيل الله ولا أبخل على الله ورسوله فلعل الله أن ينجيني من النار ويرزقني الشهادة. ثم أسرع إلى خيمته ولبس لامته وقلنسوته المباركة وركب جواده فوقع النفير في الناس قال فاقبلوا من كل جانب فلولا أن منعهم أبو عبيدة كانوا ساروا بأجمعهم فانتخب منهم ثلاثة آلاف فارس واردفهم بألفين آخرين أخبرنا أحمد بن هشام عن عياض عمن حدثه قال: لما سار خالد بالجيش لمعونة ميسرة بن مسروق ومن معه رفع خالد يديه إلى السماء وقال: اللهم اجعل لنا إليهم سبيلا واطو لنا البعيد ويسر لنا كل صعب شديد وسار نحو الدروب قال: وأما ميسرة ومن معه فإنهم دارت بهم الروم من كل جانب وهم يقاتلون في كل يوم أشد القتال إلى أن يقبل الظلام فيفترقون وفي كل يوم يزيد عددهم ومددهم وقد لحق المسلمون من التعب والجراح ما لحقهم ولكن من غير فشل وكأنهم قوم قد حجب عنهم الموت بأذن الله تعالى. قال الواقدي: حدثنا عمر بن راشد عن الزبيدي قال لما سار خالد ليلحق ميسرة وينجده إلى داخل الدروب سجد أبو عبيدة سجدة أطال فيها وقال: اللهم إني أسألك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 بمن جعلت اسمه مع اسمك وعرفت فضله لانبيائك ورسلك إلا طويت لهم البعيد وسهلت لهم كل صعب شديد والحقتهم باصحابهم يا قريب يا مجيب قال: وميسرة ومن معه منتظرون من الله فرجا يأتيهم ونصرا ينزل عليهم قال عبد الله بن الوليد الانصاري حدثني ثابت بن عجلان عن سليمان بن عامر الانصاري قال كنت مع ميسرة في وقعة مرج القبائل ويوم حطمنا أغمدة السيوف والروم تقبل من كل جانب ومكان إلى المسلمين ونحن بناكر القتال ونروح رواحا قال سليمان ين عامر فخرج يوما من الايام بطريق من الروم قد لبس درعين وعليه سواعد من الحديد وعلى رأسه بيضة تلمع فوقها صليب من الجوهر وبيده عمود من الحديد كانه ذراع بعير فجال بين الصفوف وطلب البراز وكان أحد الثلاثة المقدمين على الثلاثين ألفا قال قال فجعل يدعو إلى البراز ويطمطم فقال ميسرة للترجمان ما يقول هذا الأغلف؟ قال انه يذكر انه فارس شديد ويطلب شجعانكم وأبطالكم فقال ميسرة من يبرز إليه فأسرع إليه رجل من المسلمين من قبيلة النخع وعليه درع من دروع الروم وثياب من ثيابهم فقلنا انه من المتنصرة وقد عاد إلى الإسلام فجعل العلج يتكلم وهو يظن أنه يفهم كلامه فلما رآه لا يبرز إليه حمل عليه وضربه بعموده فزاغ النخعي عنها وعطلها عليه فوقع العمود على رأس جواده فصرع الجواد براكبه وسار النخعي على قدميه فناداه ميسرة يا اخا النخع أرجع فرجع القهقري والعج يطلبه والنخعي راجل والعلج فارس فسار إليه عبد الله بن حذافة السهمي وصاح بالعلج فادهشه فالتفت إليه وسار النخعي إلى أن وصل عسكر المسلمين وحمل عبد الله بن حذافة على العلج وحمل العلج عليه وصعب بينهما المجال صار عبد الله كلما ضرب العلج لا يقطع فيه شيئا والعلج كلما ضرب عبد الله يأخذها بحجفته فتوهن ساعده من ثقل العمود وطال بينهما القتال والتقيا بضربتين فبادره عبد الله بالضربة تحت لحيته فطلب بها نحره فلحق رأس سيفه رقبة العلج فطار رأسه عن بدنه وأراد الفرس أن يرجع إلى عسكر الروم فاخذه عبد الله ونزل إليه وأخذ سلبه ورجع إلى المسلمين فعظم ذلك على الروم وكان عندهم معظما وعند الملك قال فبرز بطريق آخر وقال هذا صاحب الملك قد قتل ولا بد لي من أخذ ثأره من الذي قتله اما بقتله أو اسره وأبعث به إلى الملك يصنع به ما يريد ثم إنه أتى البطريق المقتول ورأسه طائح عن بدنه فبكى عليه وقال بلسان فصيح معاشر العرب لا شك أن الله سيهلككم ببغيكم علينا وفعالكم بنا فليبرز الي قاتل هذا البطريق حتى آخذ منه بثاره. فلما سمع عبد الله بن حذافة هم بالخروج فمنعه ميسرة شفقة عليه لأجل راحته فإنه قد تعب واراد ميسرة أن يلقاه بنفسه فقال عبد الله يدعوني ايها الأمير باسمي وأتخلف أنني إذا لعاجز فقال له ميسرة: انني أشفق عليك فقال عبد الله اتشفق علي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 من تعب الدنيا ولا تشفق علي من حر النار وعيش عاش فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يبرز إليه غيري ثم برز إليه وتحته فرس المقتول وما غير من لامته شيئا وبيده سيفه وحجفته فلما التقيا ورأى البطريق فرس صاحبه علم أنه قاتله فما أمهله حتى نفد إليه وحمل عليه عبد الله كأنه جبل قد انهد من علو وتشبث به وجذبه فاخذه أسيرا وذهب به إلى قومه وقال أوثقوه بالحديد واحملوه على خيل البريد واذهبوا به إلى الملك في هذا الساعة قال ففعلوا ذلك وساروا به ورجع البطريق إلى الميدان وهو يفتخر بما صنع فاراده ثلاثة من المسلمين كل منهم يريد أن يخرج إليه فقال ميسرة ما يخرج لهذا اللعين غيري واستدعى سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وسلم الراية إليه وقال له: كن للراية حافظا حتى أخرج إلى هذا اللعين فإن عدت أخذتها وإن قتلني فأجري على الله فأخذ سعيد الراية وخرج ميسرة إلى البطريق وهو يقول: قد علم المهيمن الجبار ... بأن قلبي قد كوي بالنار على الفتى القائم بالاسحار ... سيعلم العلج اخو الاشرار أني منه آخذ بالثار قال: وحمل عليه وتجاولا طويلا وعظم الأمر بينهما وتدانيا وتقاربا وتباعدا وغابا عن الابصار تحت الغبار وكل فرقة تنظر إلى صاحبها وتدعو له ثم انكشفا وهما للتفرق اقرب منهما للتقارب فقال العلج لميسرة بحق دينك ما هذه الراية التي طلعت من وراء عسكركم فلم يلتفت إلى كلامه بل قال له: {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [ابراهيم:20] فقال: وحق ديني ما قلت لك إلا حقا قال: وهو يحلف كاذبا فالتفت ميسرة لحرصه أن يأتي الله بالفرج وينظر لحقيق ما قاله اللعين فحمل البطريق عليه ومكن يده منه ليأخذه أسيرا وإذا قد طلعت راية خالد بن الوليد وهي مشرقة بالنور وهي في يد خالد ابن الوليد وكبر المسلمون يدا واحدة فمن عظم تكبيرهم ارتجت يد العلج عن ميسرة والتفت البطريق ليرى ما الخبر فقبض عليه ميسرة وهم أن يقلعه فلم يقدر لانه كان مرفلا في السرج فجعل يجذبه فلم يقدر وقرب خالد منهم فرفع سيفه يريد أن يضرب به ميسرة ليطلقه من يده فحاد السيف عن ميسرة ووقع على يد العلج الشمال فقطعها وانتخع ميسرة وانثنى البطريق إلى اصحابه ويده مقطوعة وهو يئن فالتقى به غلمانه فأخذوه وكووه وأما خالد فإنه التقى بميسرة وتسالما وحدثه بما وقع له مع الروم وكيف اسروا عبد الله بن حذافة السهمي فتاسف خالد واسترجع وقال يؤسر مثل عبد الله بن حذافة والله لا يفارقهم خالد أو يخلصه أن شاء الله تعالى وأقام خاد بقيد ذلك اليوم فلما كان من الغد أتاهم من جيش الروم شيخ وعليه مسوح السواد حتى وقف بازائهم وأومأ بالسجود فمنعه خالد وقال: ما الذي تريد؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 قال أن كبير هؤلاء القوم يريد صلحكم ويطلق اسيركم ويدفع ما تريدون وترجعون فقال: ما نرجع إلا على انفصال وأما الاسير فإذا لم تطلقوه طوعا أطلقتموه كرها قال أنت أمير هؤلاء قال: نعم قال أن رايت أن تؤخر القتال بقية يومنا هذا وليلتنا فافعل لندبر ما بيننا وبينكم ويبرد وجع هذا البطريق ونجيبكم إلى ما تريدون قال له: أجبناكم إلى ذلك فرجع الشيخ إلى قومه وقال البطريق قد أجابوا ووضعت الحرب أوزارها ونزل خالد والمسلمون بازائهم في أماكنهم وأضرم الروم النيران وزادوا فيها وحملوا أثقالهم وساروا من أول الليل فلما كان الغد ركب المسلمون فلم يجدوا للروم أثرا فعلموا أنهم قد ولوا الأدبار فتأسف خالد على ما فاته فأراد أن يتبعهم فمنعه ميسرة وقال له: أنها بلادهم وهي وعرة وإن الصواب رجوعنا إلى عسكر المسلمين قال فأخذوا ما تركه الروم ورجعوا منصورين ولكنهم حزينون على أسر عبد الله بن حذافة السهمي وساروا حتى أتوا حلب فلقيهم أبو عبيدة وفرح بسلامتهم وأقبل ميسرة يحدثه بما جرى لهم وكيف أسر عبد الله بن حذافة فتأسف عليه وقال: اللهم اجعل له من أمره فرجا ومخرجا وكتب إلى عمر بن الخطاب يخبره بما وقع له من أمر السرية إلى الدروب وما كان من المسلمين وأخبره بأسر عبد الله بن حذافة وبعث الكتاب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 كتاب عمر فلما وصل إلى عمر بن الخطاب فرح بسلامة المسلمين واغتم على عبد الله بن حذافة واسره لانه كان يحبه حبا شديدا فقال: وعيش رسول الله لاكتبن إلى هرقل بأن يرسل عبد الله بن حذافة فإن لم يفعل والا سرت إليه بالجيوش والعساكر ثم إنه كتب بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولدا وصلى الله على نبيه محمد المؤيد من عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين أما بعد فإذا وصل اليك كتابي هذا فابعث الي بالاسير الذي عندك وهو عبد الله بن حذافة فإن فعلت ذلك رجوت لك الهداية وإن أبيت بعثت اليك رجالا وأي رجال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله والسلام على من أتبع الهدى وخشى عواقب الروى ثم إنه طوى الكتاب وبعث به إلى أبي عبيدة وأمره أن ينفذه إلى هرقل فلما وصل الكتاب إلى هرقل قال له: من أين كتابك هذا قال من أمير المؤمنين أمير العرب فقرأه فإذا هو من عند عمر بن الخطاب قال فدعا بعبد الله بن حذافة إليه قال عبد الله بن حذافة فدخلت عليه والتاج على رأسه والبطارقة حوله فلما وقفت بين يديه قال لي: من أنت. قلت رجل من المسلمين من قريش قال أنت من بيت نبيك قلت لا أنا من بني عمه قال هل لك أن تتبع ديننا وأزوجك أبنة بطريق من بطارقتي وأجعلك من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 أخصائي فقلت لا والله الذي لا إله إلا هو لا فارقت دين الإسلام أبدا وما جاء به محمد عليه السلام فقال أجب إلى ديننا وأنا أعطيك المال كذا وكذا ومن الغلمان كذا وكذا ومن الجواري كذا وكذا قال عبد الله ثم دعا بسفط من الجوهر وقال إذا دخلت في ديني أعطيتك إياه فقلت لا والله لو أعطيتني ملكك وملك قومك ما فارقت دين الإسلام أبدا ولو أعطيتني كل ما تملكه فقال إذا لم ترجع إلى ديني قتلتك شر قتلة فقلت لست أفعل ولو قطعتني قطعا ولو أحرقتني بالنار لا رجعت عن ديني فاصنع ما أنت صانع قال فغضب من كلامي وقال: اسجد لهذا الصليب سجدة وأخلي سبيلك فقلت لست أفعل قال فكل من لحم الخنزير وأنا أطلقك قلت حاشى لله ما كنت بالذي أفعل قال فاشرب من هذا الخمر شربة واحدة وأطلقك قلت لا والله لا أشرب أبدا قال: وحق ديني لتأكلن وتشربن قهرا ثم أمر بي فجعلني في بيت وجعل عندي من ذلك اللحم والخمر وقال: إذا أضر به الجوع والظمأ أكل وشرب وأغلقوا علي الأبواب. قال: حدثنا عامر بن سهل عن يوسف بن عمران عن سفيان بن خالد عمن يثق به أن هرقل كان قد مات بعد هزيمته من انطاكية بأيام قلائل مما دخل على قلبه من القهر ويقال أنه مات مسلما والذي فعل ذلك بعبد الله بن حذافة ولده نسطيوس وكانوا لقبوه باسم هرقل قال فلما كان في اليوم الرابع طلب عبد الله بن حذافة وقال للغلمان ما فعل قالوا: لم يأكل شيئا ولم يشرب وهو على حاله فقال له وزيره: أيها الملك أعلم أن هذا الرجل شريف في قومه لا يرى الذل فكل ما تفعله في هذا الرجل تفعله المسلمون إذا قبضوا على ملك منا قال: فاستدعاه وقال له: ما فعلت باللحم قال هو على حاله فقال: ما منعك أن تأكل قال فزعا من الله ورسوله وأيضا انه قد حل لي بعد ثلاثة أيام ولكن ما أردت أن تشمت بي الملحدون وورد كتاب عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فلما قرأه أعطى عبد الله مالا كثيرا وثيابا وأعطاه لؤلؤا كثيرا هدية لعمر بن الخطاب وبعث معه خيلا إلى أن أخرجوه من الدروب ووصل إلى حلب ولقي المسلمين ففرحوا به ثم إنه سار إلى عمر بن الخطاب فلما رآه سجد لله شكرا وهنأه بالسلامة وحدثه بما كان من هرقل وأخرج له اللؤلؤ فلما رآه عمر عرضه على التجار فقالت التجار له هذا ما يقوم ومن جاءك به فقالت الصحابة خذه اليك بارك الله لك فيه فقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله إذا كنتم قد جعلتموني منه في حل فكيف أصنع بمن غاب من المسلمين ومن في بطون الامهات واصلاب الرجال من أولاد المهاجرين والانصار والمجاهدين في سبيل الله ولا طاقة لعمر بمطالبتهم يوم القيامة ثم باعه وجعل ثمنه في بيت المال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 حدثنا عمر بن سالم عن عبد الله بن غانم عن أبي بكر بن عمر عن عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله قالوا جميعا: انه لما فتح أبو عبيدة انطاكية صلحا وكان من أمر سرية ميسرة بن مسروق ما ذكرناه أقام أبو عبيدة بحلب ينتظر ما يأتي إليه من عمرو بن العاص لما مضى إلى قيسارية في خمسة آلاف من المسلمين فيهم عبادة بن الصامت وعمرو بن ربيعة وبلال بن حمامة وربيعة بن عامر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 ذكر فتح قيسارية الشام بساحل البحر قال سبيع بن ضمرة الحراني كنت مع عمرو بن العاص حين سار إلى قيسارية فدخلنا قرية من قرى الشام وكان البرد شديدا ونظرنا إلى كرومها ونظرت إلى كرمة في دار من دور القرية وفيها عناقيد مدلاة أكبر ما يكون فأخذنا منها وأكلنا فبردنا ولحقنا البرد الشديد من شدة برد ذلك العنقود فقلت قبح الله هؤلاء الملاعين بلدهم بارد وعنبهم بارد وماؤهم بارد وأنا أخاف الهلاك من شدة برد بلادهم قال فسمعنى رجل من أهل البلد فأراد أن يقرب الي لاداعبه فقال لي: يا أخا العرب أن كنت تجد البرد من العنب فاشرب من مائه قال سبيع ثم إنه دلنا على دن كبير فيه خمر فشربت أنا وجماعة من عرب اليمن فسكرنا فجعلنا نتمايل سكرا فأخبر بذلك عمرو ابن العاص فكتب إلى أبي عبيدة يعلمه بذلك فكتب إليه أبو عبيدة أما بعد فمن شربها فحده عليها وأقم حدود الله كما أمر ولا تخش لومة لائم فلما وصل الكتاب إلى عمرو دعا بسبيع ابن ضمرة وأصحابه فجلدهم بالسياط قال سبيع فلما ضربني عمرو وأوجعني قلت والله لأقتلن العلج الذي دلنا على الخمر حتى شربناها وأكلنا الحد فأخذت سيفي ودخلت القرية أطلب العلج فلما رأيته ووقعت عيني عليه أردت قتله فولى هاربا فتبعته وهو يقول ما ذنبي عندك فقلت أنت دللتني على ما يغضب الله حتى أكلت الضرب فقال: والله ما علمت أنه محرم عليكم قال فناداني عبادة بن الصامت وقال: يا سبيع إياك أن تقتله فإنه تحت الذمة قال فتركته ومضى العلج وأتى الي بتين وجوز وزبيب وقال كل هذا بذاك فإنه يدفئك قال فاكلته فوجدته طيبا فقلت لحاك الله أين هذا كان قبل أن أضرب بالسياط. قال الواقدي: ثم أن عمرا ارتحل فنزل بموضع ي قال له: محل وبلغ الخبر فلسطين بن هرقل وكان قد أتاه المنهزمون من عسكر أبيه ولجئوا إليه واكتمل جيشه في ثمانين ألف ثم إنه دعا برجل من المتنصرة وقال له: امض واحزر لي عسكر العرب واكشف لي أخبارهم فوصل إليهم لجأ إلى قوم من اليمن وهم يصطلون حول النار فجلس بينهم يسمع حديثهم فلما أراد القيام عثر في ذيله فقال باسم الصليب كلمة أجراها الله على لسانه فلما سمعوا قوله علموا أنه متنصر جاسوس للروم فوثبوا إليه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 وقتلوه ووقع الصائح في العسكر فسمع عمرو الضجة فقال: ما الخبر قيل أن قوما من اليمن وقعوا بجاسوس من الروم فقتلوه قال فغضب عمرو وطلبهم وقال: ما حملكم على قتل الجاسوس وهلا أتيتموني به لأستخبره فكم من عين تكون علينا ثم إنها ترجع فتصير لنا لأن القلوب بيد الله يقلبها كيف شاء ثم إنه نادى في جيشه من وقع بغريب أو جاسوس فليات به إلى قال: وإن فلسطين استبطأ الجاسوس فعلم بقتله فأرسل غيره فأشرف على القوم من فوق شرف عال وحزرهم وعاد إليه فأخبره أنهم في خمسة آلاف إلا انهم كالأسود الضارية أو كالعقبان الكاسرة يرون الموت مغنما والحياة مغرما فلما سمع ذلك قال: وحق المسيح والقربان لا بد من قتالهم فأما أن أبلغ المراد أو أموت صبرا ثم إنه جمع عسكره واختار منهم عشرة آلاف فارس شدادا وولى عليهم بطريقا اسمه بكلاكون وهو صاحب جيشه وقال سر بهؤلاء فأنت طليعة جيشي فسار من ساعته ثم إنه عقد صليبا آخر وسلمه إلى دمستق العسكر واسمه جرجيس بن باكور وضم إليه عشرة آلاف وقال له: الحق بصاحبك فسار في أثره فلما كان في اليوم الثاني خرج فلسطين ببقية الجيش وترك ابن عمه قسطاس في قيسارية يحفظها وترك عنده عشرة آلاف قال بشار بن عوف فبينما نحن نازلون إذ أشرف علينا البطريق الأول في عشرة آلاف فارس فلما قربوا منا رأيناهم فحزرناهم فإذا هم عشرة آلاف قال ففرحنا وقلنا نحن خمسة الاف وعدونا في عشرة آلاف فكل رجل منا يقاتل اثنين فبينما نحن كذلك إذ أشرف علينا البطريق الثاني في عشرة آلاف فقال عمرو رضي الله عنه اعلموا أن من أراد الله واليوم الآخر فلا يرتاع من كثرة العدو ولو تزايد المدد فإن الجهاد أوفر متجر وأعز قدرا وأي فخر عند الله ممن يقتل في سبيل الله وصفوف الكفار ويكون حيا عند الله يرتع في مروج الجنة وينال من الله سابغ النعمة والمنة فقد قال الله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ*فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ} [آل عمران: 169, 170] الآية ولو أن الجاسوس الذي قتلتموه لم تعجلوا عليه لأخبرنا بمسير هذا الجيش الينا وكثرته وكنا قد أخذنا حذرنا على أنفسنا واحتطنا ولكن أمر الله لا يرد ثم إنه جمع أبطال الموحدين وقال: قد رأيت أن تنفذ إلى أبي عبيدة نعلمه ليمدنا بالخيل والرجال فإن هذا جيش عظيم ثم قال: أيها الناس من يركب ويسير إلى الأمير أبي عبيدة ويعلمه بما قد صرنا إليه فلعله أن ينجدنا كما أنجد يزيد بن أبي سفيان وهو محاصر قنسرين وأجره على الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 المعارك في فلسطين فقال له ربيعة بن عامر: يا عمرو الق بنا العدو وتوكل على الله فإن الذي نصرنا في مواطن كثيرة ونحن في قلة ينصرنا اليوم على بقية القوم الكافرين قال فقنع عمرو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 بكلام عامر بن ربيعة وقال: والله لقد صدقت وأمر الناس بالتأهب إلى لقاء العدو فركب المسلمون ورفعوا أصواتهم بالتهليل والتكبير فأجابتهم الجبال والتلال والأوعار والأشجار والأحجار ومن في تلك الأرض من العمار وقالوا: الهنا ومولانا انا نسمع أصواتا موحدة غير مشركة ولا ملحدة في التوحيد وقد أسمعتنا كلام التوحيد وأريتنا وجوه أهل التمجيد التحميد الهنا ما أطيب سماع ذكرك ومن لنا أن نوفي بشكرك قال: وضجت الوحوش والسباع إلى مولاها شاكرة لما أعطاها وأولادها ونادت عالم سرها ونجواها يا من جمع الوحوش راضية بما آتاها أخرج رزقها ومرعاها تغدو خماصا وتروح بطانا إلى باب سيدها ومولاها يا من لو توارت دودة تحت الارضين السبع لرآها ولو كانت في غلس الظلمات تحت اليم المظلم حبة لرزق عبد لبلغه إياها الهنا انا سمعنا أصوات توحيدك في هذه الأرض وما كنا عهدناها ونسمع آيات ما كنا عرفناها ولا سمعناها سبحانك يا من قدرته لا ننساها ويا من احسانه وفضله لا يتناهي قال فهتف بهم هاتف من الجو كم لله من مسبح في الجبال وذراها تحت تخوم الأرض وثراها وفي فلوات البراري المقفرات وفي قعور البحار الزاخرات وماها قال فارتاع عسكر الكفار لما سمعوا في الجو هذه الأصوات وكأنما الأرض وأقطارها وأهلها تجاوبهم وكان فلسطين قد أتى وسمع ذلك ونظر إلى جيش العرب وقد زاد في عينيه أضعافا فقال: وحق ديني لما اشرفت على القوم ما كانوا في هذه الكثرة وما كانوا أكثر من خمسة آلاف وقد زاد الآن عددهم وتزايد مددهم ولا شك أن الله قد أمدهم بالملائكة ولقد كان أبي هرقل على بصيرة من أمر هؤلاء العرب وليس جيشي هذا بأعظم من جيش ماهان الأرمني لما لقيهم باليرموك في ألف ألف ولقد ندمت على خروجي إليهم ولكن سوف أدبر حيلة على هؤلاء العرب ثم إنه دعا بقس عظيم القدر عند النصرانية وهو قس قيسارية وعالمها وقال له: اركب إلى هؤلاء القوم وكلمهم بالتي هي أحسن وقل لهم أن ابن الملك يسالكم أن تنفذوا إليه أفصحكم لسانا وأجرأكم جنانا فابعثوا به ولا يكون من طغام العرب. قال فركب القس وعليه ثوب من الديباج الأسود وعليه برنس من الشعر فركب بغلة شهباء وأخذ بيده صليبا من الجوهر وسار حتى وصل إلى المسلمين فوقف بحيث يسمعون كلامه فقال: يا معشر العرب إني رسول اليكم من الملك فلسطين بن هرقل يسألكم أن تنفذوا إليه أفصحكم لسنا وأجرأكم جنانا وإنه والله يريد صلحكم ولا يبغي قتالكم لأنه عالم بدينه بصير بأموره وليس يحب سفك الدماء ولا فساد الصور فلا تبغوا علينا فالباغي مقهور والمبغى عليه منصور وقد قال لنا المسيح لا تقاتلوا إلا من بغى عليكم وإن الملك يريد أن تبعثوا إليه رجلا من أفصحكم لسانا وأجرئكم جنانا ثم سكت قال فلما سمع عمرو كلامه قال: أيها الناس قد سمعتم ما قاله هذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 الأغلف فمن منكم يبادر إلى مرضاة الله تعالى ورسوله وينظر ما يتكلم به مع ملك الروم؟ فتقدم إليه بلال بن حمامة مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان غلاما أسود طويلا من الرجال لكأنه النخلة السحوق بصاص من السواد عيناه جمرتان كأنهما العقيق جهوري الصوت فقال: يا عمرو أنا أسير إليه فقال: يا بلال إنك قد حطمك الحزن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وايضا إنك من جنس الحبش ولست من العرب لأن العرب لهم الكلام الجزل والخطب والفصاحة فقال بلال بحق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تركتني أمضي إليه فقال عمرو لقد أقسمت علي بعظيم اذهب واستعن بالله ولا تهبه في الخطاب وأفصح في الجواب وعظم شرائع الإسلام فقال بلال ستجدني أن شاء الله حيث تريد قال فخرج بلال نحوهم وهو كالنخلة السحوق عريض المنكبين كأنه من رجال شنوءة وكان من عظم خلقته إذا نظر إليه أحد يهابه وكان لابسا يومئذ قميصا من كرابيس الشام وعلى رأسه عمامة من صوف متقلدا بسيف ومزوده على عاتقه وبيده عصا قال فلما برز بلال من عسكر المسلمين ونظر إليه القس أنكره وقال أن القوم قد هنا عليهم فانا دعوناهم نخاطبهم فبعثوا الينا بعبيدهم لصغر قدرنا عندهم ثم قال: أيها العبد أبلغ مولاك وقل له أن الملك يريد أميرا منكم حتى يخاطبه بما يريد فقال بلال أيها القس أنا بلال مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومؤذنه ولست بعاجز عن جواب صاحبك فقال له القس: قف مكانك حتى أعلم الملك بأمرك وعاد القس إلى الملك وقال له: أيها الملك أنهم قد بعثوا بعبد من عبيدهم يخاطبك وما ذاك إلا استصغارا لأمرنا عندهم وهو عبد أسود قال فأرسل له رجلا يقول له أيها العبد أبلغ مولاك وقل له أن الملك أيما يريد أميرا منكم حتى يخاطبه فقال له بلال: أيها الرجل أنا بلال بم حمامة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولست بعاجز عن جواب صاحبكم فقال فلسطين ارجع إليهم وقل لهم بعث اليكم ملك النصرانية أيليق أن تبعثوا له بعبد من عبيدكم. فرجع الترجمان إلى بلال وقال له: يا أسود أن الملك يقول لك: لسنا ممن نخاطب العبيد بل يأتينا صاحب جيشكم أو المؤمر عليكم فرجع بلال وهو منكسر وأخبر عمرا بذلك فقال لشرحبيل أنا أمضي إليه فقال شرحبيل يا عبد الله إذا مضيت أنت فلمن ندع المسلمين فقال عمرو: الله لطيف بعباده وهو أرحم الراحمين بخلقه ولكن خذ الراية واخلفني في قومي فإن غدر الروم فالله الخليفة عليكم فوقف شرحبيل في مقام عمرو وأخذ الراية وخرج عمرو نحو القوم وعليه درعه ومن فوقه جبة صوف وعلى رأسه عمامة من صنع اليمن مصبوغة صفراء قد أدارها على رأسه كورا وأرخى لها عذبة وفي وسطه منطقة وقد تقلد سيفه واعتقل رمحه وسار عمرو حتى وقف بازاء الترجمان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 الذي أرسله فلسطين بن هرقل فلما رآه الترجمان ضحك فقال مم تضحك يا أخا النصرانية قال من دناءة رؤيتك وحملك هذا السلاح ما الذي تصنع به ولم تحمله معك وما نريد حربا فقال عمرو أن العرب حمل السلاح شعارهم ووطاؤهم ودثارهم وإنما حملت السلاح معي استظهارا ولعلي أن ألقي عدوا فيكون ذلك حصنا من عدوي وأحامي به عن نفسي قال الترجمان شيمتكم أيها العرب الغدر والمكر فكن مطمئن الجانب ثم عطف الترجمان إلى فلسطين بن هرقل وأخبره بما سمع من مقالة عمرو بن العاص وقال: أيها الملك أن أمير العرب قد قدم علينا وعليه من اللباس كذا وكذا فتبسم الملك من قول القس وقال قل له يتقدم الينا قال فلما قدم أخذ الملك في التأهب لقدوم عمرو عليه وزين ملكه واوقف القسوس عن يمينه وشماله والحجاب بين يديه وأقبل على الترجمان وقال له: يا أخا العرب قد أذن لك الملك فسار عمرو على جواده وعسكر قيسارية تتعجب منه ومن زيه إلى أن وقف على قبة الملك ثم ترجل ومشت الحجاب أمامه حتى وقعت عينه على عين فلسطين فأدناه ورحب به وبش في وجهه وقال مرحبا بأمير قومه وأراد أن يجلسه على السرير فامتنع عمرو من ذلك وقال بساط الله أطهر من بساطك لأن الله تعالى جعل الأرض بساطا وأباحنا إياها فنحن فيها سواء وما أريد أن أجلس إلا على ما أباحه الله ثم جلس على الأرض باركا وترك رمحه أمامه وسيفه على فخذه الأيسر فقال له فلسطين: ما اسمك؟ قال اسمي عمرو وأنا من العرب الكرام أرباب الحزم المعظمين في القوم قال فلسطين إنك لفتى كريم من عرب كرام يا عمرو أن كنت من العرب فنحن من الروم وبيننا قرابة وأرحام متصلة ونحن وأنتم في النسب متصلون ومن يكونون متصلين في النسب ما لهم يسفك بعضهم دم بعض فقال عمرو أن أنسابنا لاحقة من أبينا ونسبنا الأعلى هو دين الإسلام وإذا كان أخوان قد اختلفا في الدين كان حلالا أن يقتل أحدهما أخاه وقد انقطع النسب بيننا وقد ذكرت أن نسبك لاحق بنا فكيف يكون نسبك ونسبنا واحدا ونحن قريش الكرام وأنتم بنو الروم قال: يا عمرو أليس أبونا آدم ثم نوحا ثم ابراهيم وعيصو بن اسحق واسحق أخو اسماعيل وكلاهما ولد ابراهيم ولا ينبغي للأخ أن يبغي على أخيه بل يجود عليه فقال إنك لصادق في قولك الذي قلت وإن عيصو ونحن بنو أب واحد وأبونا نحن اسمعيل صلوات الله عليه وإن كان نوح عليه السلام قسم الأرض شططا حين غضب على ولده حام وعلم أن أولاد حام لن يرضوا بها فاقتتلوا عليها زمانا وهذه الأرض التي أنتم فيها ليست لكم وهي أرض العمالقة من قبلكم لأن نوحا عليه السلام قسم الأرض بين أولاده الثلاثة سام وحام ويافت وأعطى ولده ساما الشام وما حوله إلى اليمن إلى حضرموت والى غسان والعرب كلهم ولد سام وهو قحطان وطسم وحديث وعملاق وهو أبو العمالقة حيث كانوا من البلاد وهم الجبابرة الذين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 كانوا بالشام فهذه العرب العاربة لأن لسانهم الذي جبلوا عليه العربية وأعطى حاما الغرب والساحل وأعطى يافث ما بين المشرق والمغرب: {إِنَّ الْأرض لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128] ونريد أن نرد هذه القسمة فنأخذ ما في أيديكم من العمارة والأنهار عوضا عما نحن فيه من الشوك والحجارة والبلد القفر فلما سمع فلسطين كلام عمرو بن العاص علم أنه رجل ماكر فقال له: صدقت في قولك إلا أن القسمة قد جرت فإن نقضتموها كنتم من الباغين علينا واعلم أنه ما حملكم على ذلك وأخرجكم من بلادكم إلا الجهد العظيم فقال له عمرو: أيها الملك أما زعمت أن الجهد أخرجنا من بلادنا فنعم كنا نأكل خبز الشعير والذرة فإذا راينا طعامكم واستحسناه فلن نبارحكم حتى نأخذ البلاد من أيديكم وتصيروا لنا عبيدا ونستظل تحت أصول هذه الشجرة العالية والفروع المورقة والأغصان الطيبة الثمار فإن منعتمونا مما ذقناه من بلادكم من لذيذ العيش فما عندنا إلا رجالا أشوق إلى حربكم من حبكم الحياة لآنهم يحبون القتال كما تحبون أنتم الحياة قال: وأفحم فلسطين عن جوابه فرفع رأسه إلى قومه وقال أن هذا العربي صادق في قوله وحق الكنائس والقربان والمسيح والصلبان ما لنا معهم ثبات قال عمرو فوجدت إلى وعظهم سبيلا وقلت معاشر الروم أن الله عز وجل قد قرب عليكم ما كنتم تطلبون أن كنتم تريدون بلدكم فادخلوافي ديننا وصدقوا قولنا فإن الدين عند الله الإسلام. قال فلسطين يا عمرو انا لا نفارق ديننا وعليه مات آباؤنا وأجدادنا قال عمرو فإن كرهت الإسلام فاعطنا الجزية منك ومن قومك وأنتم صاغرون قال فلسطين لا أجيبك إلى ذلك لأن الروم لا تطاوعني إلى أداء الجزية ولقد قال لهم: أبي ذلك من قبل فأرادوا قتله فقال هذا ما عندي من الأعذار ولقد حذرتكم ما استطعت ولم يبق بيننا حكم إلا السيف والله يعلم أني دعوتكم إلى أمر فيه النجاة فعصيتموه كما عصى أبوكم عيصو عن أمه فخرج من الرحم قبل أخيه يعقوب وأنتم تزعمون أنكم أقرباؤنا في النسب وأنا لبراء إلى الله عز وجل منكم ومن قرابتكم إذ أنتم تكفرون بالرحيم أنتم من والد عيصو بن اسحق ونحن من ولدا اسمعيل بن ابراهيم عليه السلام وإن الله تعالى اختار لنبينا خير الأنساب من لدن آدم إلى أن أخرج من صلب أبيه عبد الله فجعل خير الناس من ولد اسماعيل فتكلم بالعربية وتكلم اسحق على لسان أبيه فولد اسمعيل العرب ثم جعل خير الناس كنانة ثم جعل خير العرب قريشا وخير قريش بني هاشم ثم جعل خير بني هاشم بني عبد المطلب وخير بني عبد المطلب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فبعثه رسولا واتخذه نبيا وأهبط عليه جبريل بالوحي وقال له: طفت مشارق الأرض ومغاربها فلم أر أفضل منك قال فخضعت جوارح القوم حين ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجلت قلوبهم ودخلت الهيبة في قلب فلسطين حين سمع كلام عمرو فقال صدقت في قولك كذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 الأنبياء تبعث من خير بيوت قومها على لسان ربها ثم قال له: يا عمرو وهل في أصحابك رجل بين كلامه سريع الجواب إذا سئل فقال له: اعلم إني والله أحب أن أمضي وآتيك بهم لتقف على صحة قولي ثم وثب وسار إلى عسكره وركب وأتى جيشه فحمدوا الله المسلمون على سلامته وباتوا يتحادثون فلما صلى عمرو بالناس صلاة الفجر أمرهم بالركوب إلى قتال عدوهم قال فأسرعوا إلى ذلك واستووا على متون خيولهم واصطفوا للحرب والقتال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 المعركة قال الواقدي: حدثنا عروة بن زيد عن موسى مولى الحضرميين عن موسى بن عمران وابن الصباح لما كان يوم الحرب صف فلسطين جيشه ثلاثة صفوف وقدم المشاة وعدل الميمنة والميسرة ورفع الصليب أمامه وتقدم أمام الجيش فنظر عمرو إلى فلسطين وقد رتب عساكره وعزم على الحرب فهيأ المسلمين وصفهم صفا واحدا وجعل في الميمنة الحماة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعهم شرحبيل بن حسنة كاتب الوحي وصابوب بن جباية الليثي عن شماله وكان أحد فرسان المسلمين فبينما الناس كذلك إذ خرج فارس من الروم وعليه ديباج ودرع وجوشن وفي عنقه صليب من الذهب فحمل حتى خطى برمحه من الميمنة إلى الميسرة ومن الميسرة إلى الميمنة ثم إلى القلب ثم وقف بازاء جيش المسلمين وركز رمحه بازائه وأخذ القوس بيده وفوق سهمها ورمى رجلا من الميمنة فاثبت السهم فيه فجرحه ورمى آخر من الميسرة فقتله فنظر إليه عمرو وما قد صنع فصاح بالمسلمين إلا ترون هذا العلج اللعين وما يصنع بقوسه فمن يكفينا أمره ويزيل عن المسلمين شره فخرج إليه رجل من ثقيف وعليه بردة دنسة وبيده قوس عربية قد فوق سهمها وخرج إلى العلج يريده فنظر إليه العلج وليس عليه شيء من الحديد يستره إلا فروة دنسة وما معه من السلاح غير القوس فازدرى به وبلبسه وأطلق سهما من كبد قوسه فوقع سهمه في صدره فاشتبك في الفروة ووقع غير مصيب وكان اللعين أرمى أهل زمانه ما رمى قط شيئا إلا نفذ فيه فغضب لذلك وهم أن يرميه بسهم ثان فامتعط الثقفي نبلة ورمى بها نحوه فلم يرها لصغرها وخفاء موقعها فاشتبكت النبله في حلق العلج فخرجت من قفاه فما تمالك العلج إلا أن وقع صريعا فأسرع الثقفي إلى جواده فأخذه واستوى على متنه ونزع بيضة المشرك عن راسه وجعل يسحبه نحو جيش المسلمين فاستقبله ابن عم له وكلمه فلم يجبه من فرحه بما صنع ثم اقبل إلى عمرو فاعطاه إياه فنظرت الروم إلى فعل الثقفي فغاظهم ذلك وجعلوا يشيرون إلى السماء فلعلمنا أنهم يقولون أن الملائكة تنصرنا قال: ونظر فلسطين إلى ذلك فعظم عليه وقال لبعض البطارقة اخرج إلى هؤلاء العرب وحام عن دينك فخرج البطريق وعليه ديباجة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 خضراء ودرع حصين ومن تحت الدرع جوشن منيع وفي عنقه صليب من الذهب الأحمر ومعه غلام من ورائه يجنب جنيبه وعليه سيفه ودرقته فخرج حتى وقف بين الصفين فجعل يسال القتال فلما نظر المسلمون إليه أقبلوا إليه ينظرون ولا يخرج إليه أحد. فقال عمرو معاشر العرب من يخرج إليه ويهب نفسه لله عز وجل فخرج إليه رجل من العرب وهو يقول أنا أكون ذلك فقال عمرو بارك الله فيما تريد وحمل صاحب المسلمين عندما خرج مصمما واستقبله البطريق وجعلا يتجاولان ساعة وهما يتعانقان بالسيوف إلى أن خرجت لهما ضربتان فسبقه البطريق بالضربة فاخذها الرجل بالدرقة فقدها نصفين وكانت جلد بعير بطانة واحدة فلم يصل إليه من الضربة شيء وضربه الرجل ضربة في أثرها فقطعت البيضة وسلكها فتقهقر البطريق إلى ورائه ولم يصل إليه أذى فلما رجعت إليه روحه حمل على المسلم وضربه فجرحه جرحا فاحشا فألوى إلى اصحابه فصاح به رجل من العرب من وهب نفسه لا يرجع من بين يدي عدوه فقال الرجل أما كفاك هذه الضربة حتى توبخني أن الله ليلومني بأن ألقي بيدي إلى التهلكة ثم شد جراحه وعظم عليه ما قال ابن عمه فلما خرج قال له ابن عمه الذي خاطبه: ارجع فخذ هذه البيضة واجعلها على رأسك فقال ثقتي بالله أعظم من حديدك ثم دلق نحو البطريق وهو يقول: يقول لي عند الخروج للقا ... دونك هذا الترس فاجعله وقا من علج سوء قد بغى وقد طغى ... أقسمت بالله يمينا صادقا لأتركن البيض فوق المرتقى ... وأدخل الجنة دار الملتقى قال فدعا له المسلمون بالنصر وقالوا: اللهم أعطه ما تمنى وحمل على البطريق وضربه ضربة هائلة فوقعت على عاتقه وخرجت من علائقه ثم حمل في جيش الروم فقتل رجلا وجندل أبطالا ولم يزل كذلك حتى قتل رحمه الله تعالى فقال عمرو هذا رجل اشترى الجنة من الله بنفسه اللهم أعطه ما تمنى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 البطريق قيدمون قال الواقدي: وكان هرقل حين بعث ولده فلسطين إلى قيسارية بعث معه بطريقا من البطارقة وكان اسمه قيدمون وكان من أفرس الروم ويقال انه خال فلسطين وقد كان لقي عسكر الفرس وعسكر الترك وعسكر الجرامقة قال: وكان اللعين يحفظ سائر اللغات فقال فلسطين لا بد لي من قتال العرب قال: وخرج وعليه لامة وخرج مبارزا فلما رآه المسلمون قد خرج وكأنه جبل قد انهد من أعلاه إلى أسفله وهو يلمع من بريق الجوهر ضج المسلمون بقول لا إله إلا الله فلما وقف في الميدان أقبل يرطن بلغته ويطلب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 البراز فاقبل العرب يهرعون إليه من كل جانب ومكان يريدون قتاله لأجل ما عليه فقال عمرو ثواب الله خير لكم مما عليه فلا يخرج أحد لطلب سلبه فيكون خروجه لأجل ذلك وإن قتل مات في سبيل ما خرج إليه وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه" قال فخرج غلام من اليمن ومعه أمه وأخته يريدون الشام وأخته تقول له يا ابن أمي جد بنا في السير لنصل إلى الشام فنأكل من خيره ونعمه. فقال لها أخوها إنما أذهب لأقاتل لمرضاة الله عز وجل وقد سمعت معاذ بن جبل يقول أن الشهداء عند ربهم يرزقون فقالت له أخته: كيف يرزقون وهم أموات قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أن الله تعالى يجعل ارواحهم في حواصل طيور الجنة فتأكل تلك الطيور من ثمار الجنة وتشرب من أنهارها فتغدوا أرواحهم في حواصل تلك الطيور فهو الرزق الذي جعله الله لهم" فلما كان قتال قيسارية خرج ذلك الغلام إلى القتال بعد أن ودع أمه وأخته وداع الموت وقال لهم: نجتمع على حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خرج وبيده قناة وهي موصولة كثيرة العقد وتحته جواد هجين. فلما خرج الغلام حمل على البطريق من ساعته وطعنه بسنانه قال فاشتبك السنان في درع البطريق فلم يقدر على انتزاعه فضرب البطريق قنا الغلام بسيفه فقطعها وحمل على الغلام وضربه على هامته فشطرها فوقع الغلام ميتا رحمه الله وجال قيدمون على مصرعه ثم طلب البراز فخرج إليه ابن قثم فقتله البطريق فلما نظر إلى ذلك شرحبيل بن حسنة رضي الله عنه اقبل يعاتب نفسه ويقول تتفرجين على قتل المسلمين ثم خرج والراية بيده التي عقدها له ابو بكر رضي الله عنه يوم خروجه إلى الشام فلما رآه عمرو قد عول على الخروج قال: يا عبد الله اركز الراية لئلا تشغلك فركزها شرحبيل فوقفت كالنخلة وغاصت في حجر كأنها منه فتفاءل بالنصر وخرج إلى لقاء قيدمون والمسلمون يدعون له بالنصر على عدوه فلما رآه البطريق ضحك من زيه وكان للملعون صوت عال وهو ضخم من الرجال وكان شرحبيل نحيف الجسم من كثرة الصيام والقيام بالليل والبطريق في ميدانه فحمل كل واحد منهما على صاحبه واختلفا بضربتين وكان السابق شرحبيل فلم يعمل السيف في لامة البطريق شيئا وثبت السيف في بيضته وحمل قيدمون على شرحبيل فشجه ثم تجاولا على الجوادين قال سعيد بن روح وكان ذلك اليوم كثير البرد والسحاب فبينما هما في المعركة إذ نزل المطر كافواه القرب قال فنزلا عن الجوادين وجالا يتصارعان في وسط الطين وذلك أن قيدمون حمل على شرحبيل فضرب يده في مراق بطنه فاقتلعه من الأرض ورمى به على ظهره ثم استوى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 على صدره وهم أن ينحره فنادى شرحبيل يا غيات المستغيثين فما استتم كلامه حتى خرج إليه فارس من الروم وعليه لامة مذهبة ومن تحته جواد من عتاق الخيل فقصد موضع البطريق وشرحبيل فظن قيدمون أنه إنما خرج ليعطيه جواده ويعينه فلما قرب منهما ترجل وأمال البطريق برجليه عن صدر شرحبيل وقال: يا عبد الله قد أتاك الغوث من غيات المستغيثين فوثب شرحبيل قائما ينظر إليه متعجبا من قوله وفعله وكان الفارس متلثما ثم جرد سيفه وضرب البطريق ضربة قطع رأسه وقال: يا عبد الله خذ سلبه فقال شرحبيل والله ما رأيت أعجب من أمرك وإني رايتك جئت من عسكر الروم فقال أنا الشقي المبعد أنا طلحة ابن خويلد الذي ادعى النبوة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذب على الله وزعم أن الوحي كان ينزل عليه من السماء فقلت له يا أخي: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56] وقد وسعت رحمته كل شيء ومن تاب وأقلع وأناب قبل الله توبته وغفر له ما كان منه والنبي صلى الله عليه وسلم يقول التوبة تمحو ما قبلها أما علمت يا ابن خويلد أن الله سبحانه وتعالى لما انزل على نبيه: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156] طمع فيها كل شيء حتى ابليس فلما نزل قوله تعالى: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [الأعراف: 156] قالت اليهود نحن نؤتى الزكاة ونتصدق فلما نزل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 156] قالت اليهود نحن مؤمنون بما أنزل الله في الصحف والتوراة فأراد الله أن يعلمهم أنها خاصة بأمة محمد صلى الله عليه وسلم بقوله: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} [الأعراف: 157] فقال طلحة بن خويلد مالي وجه أرجع إلى الإسلام وهم أن يسير على وجهه فمنعه شرحبيل وقال له: يا طلحة لست أدعك تمضى بل ترجع معي إلى العسكر قال: ما يمنعني من المسير معك إلا الفظ الغليظ خالد بن الوليد وإني أخاف أن يقتلني فقلت يا أخي انه ليس معنا وهذا الجيش لعمرو بن العاص قال فرجع معي فلما قربنا من المسلمين تبادروا الينا وقالوا: يا شرحبيل من هذا الرجل معك فلقد صنع معك جميلا قال: ولم يعرفوه لانه كان متلثما بفضل عمامته فقلت هذا طلحة بن خويلد الذي ادعى النبوة فقالوا: او تاب ورجع إلى الله فقال أنا تائب إلى الله سبحانه وتعالى قال شرحبيل فاتيت به إلى عمرو بن العاص فسلم عليه وبش في وجهه ورحب به. قال: حدثنا حسان بن عمر لربعي عن جده أن طلحة بن خويلد لما ادعى النبوة وجرى له ما جرى من الحرب مع خالد بن الوليد رضي الله عنه وسمع أن خالدا قتل مسيلمة الكذاب وقتل الاسود العنسي ايضا لانه قال انه نبي فخاف طلحة على نفسه من خالد فهرب بالليل ومعه زوجته للشام واستجار برجل من آل كلب فأجاره الكلبي وأنزله في داره وكان الكلبي مؤمنا وبقي عنده مدة أيام إلى أن استخبره عن حاله فحدثه طلحة بجميع أحواله مع خالد بن الوليد ووقائعه معه وكيف ادعى النبوة فغضب الكلبي لكلامه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 وطرده من جواره فأقام طلحة بالشام وقد تاب من أمره فلما بلغه أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قد قبض قال ذهب من جردت السيف في وجهه فمن ولي بعده قالوا: عمر بن الخطاب قال الفظ الغليظ وهاب أن يمضي إليه وفزع من خالد بن الوليد أن يراه بالشام فيقتله فقصد قيسارية ليركب في المراكب ويطرح نفسه في بعض جزائر البحر فلما نظر إلى جيش فلسطين قد خرج إلى قتال العرب قال أسير مع هذا الجيش فلعلي انكب نكبة واغسل بها شيئا من أوزاري وتكون لي قربة إلى الله تعالى والى المسلمين فلما نظر شرحبيل في عين الهلكة قال: لا صبر لي عنه فخرج واستنقذه كما ذكرناه فلما وقف بين يدي عمرو بن العاص شكره وبشره بقبول التوبة فقال: يا عمرو إني أخاف من خالد بن الوليد أن يراني بالشام فيقتلني فقال عمرو فإني أشير اليك بشيء تصنعه وتأمن به على نفسك في الدنيا والآخرة قال: وما هو؟ قال أكتب معك كتابا بما صنعت وشهادة المسلمين فيه وتنطلق به إلى عمر ابن الخطاب وتدفعه إليه وأظهر التوبة فإنه يقبلها وسيندبك إلى الفتوح وقتال الروم فتمحو عنك ما سلف من خطاياك فأجابه طلحة إلى ذلك فكتب له عمرو كتابا إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بما صنع وأخذ. طلحة ومشى به إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجد عمر في المدينة وقيل له: هو بمكة فمضى حتى وردها فوجد عمر متعلقا بأستار الكعبة فتعلق معه وقال: يا أمير المؤمنين اتي تائب إلى الله عز وجل وحق رب هذا البيت مما كان مني قال عمر من أنت قال أنا طلحة ابن خويلد قال فنفر عمر عنه وقال: يا ويلك أن أنا عفوت عنك فكيف الأمر غدا بين يدي الله عز وجل بدم بن محصن الاسدي قال طلحة يا أمير المؤمنين عكاشة رجل اسعده الله على يدي وشقيت أنا بسببه وارجو أن يغفر الله لي بما عملته قال عمر وما عملت فأخرج له كتاب عمرو بن العاص فلما قرأه عمر وفهم ما فيه فرح به وقال أبشر فإن الله غفور رحيم وأمره عمر أن يقيم بمكة حتى يرجع إلى المدينة فأقام معه أياما فلما رجع عمر إلى المدينة وجه به إلى قتال أهل فارس. قال الواقدي: رجعنا إلى الحديث قال لما قتل البطريق قيدمون على يد طلحة ونجا شرحبيل مما كان قد لحقه ورجع إلى عمرو وكان المطر شديدا فقطع الناس القتال ولحق الناس الاذى لأن أكثرهم بلا أخبية ولا بيوت والتجئوا إلى الجابية وتستروا بدورها وكان من رحمة الله بالمسلمين أن وقع في قلب فلسطين الفزع والرعب لما قتل قيدمون البطريق وكان ركنه ودعامته فشاور أصحابه في الرجوع إلى قيسارية وقال: يا معاشر الروم أنتم تعلمون أن جيوش اليرموك ما ثبتت لهؤلاء العرب وإن أبى قد ولى إلى القسطنطينية من خوفهم وقد ملكوا الشام جميعه وما بقي غير هذا الساحل وإني أخاف أن ندهي من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 قبلهم ويملكوا قيسارية والرحيل أوفق من المقام ههنا فأجابوه إلى ذلك فلما كان الليل ارتحل القوم والمطر ينزل قال سعيد بن جابر الاوسى وكان ذلك كله رحمة للمسلمين من الله عز وجل قال فلما كان في اليوم الرابع ارتفع المطر وطلعت الشمس فخرجنا من الجابية نطلب قتال الروم فلم نر لهم أثرا فوالله لقد فرحنا بطلوع الشمس أكثر من فرحنا برحيل الروم فكتب عمرو بذلك إلى أبي عبيدة كتابا يقول فيه بسم الله الرحمن الرحيم من عمرو بن العاص السهمي إلى أمير جيوش المسلمين أبي عبيدة عامر بن الجراح سلام عليك ورحمة الله وبركاته أما بعد فيا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن فلسطين بن هرقل قد أخرج إلى لقائنا ثمانين ألفا من الروم وكان لقاؤنا معهم على موضع ي قال له: نخل وأخذ شرحبيل ابن حسنة وكان الذي ملك اسره قيدمون ابن خالة هرقل ثم خلصه الله على يد طلحة بن خويلد الاسدي وقتل قيدمون ابن خاله هرقل ثم وجهته بكتاب إلى عمر بن الخطاب وقد انهزم عدو الله فلسطين وأنا منتظر جوابك والسلام عليك وعلى من معك من المسلمين ورحمة الله وبركاته وبعث الكتاب مع جابر بن سعيد الحضرمي فلما قرأ ابو عبيدة الكتاب فرح بسلامة المسلمين وسير الجواب وقال إذا قرأت كتابي فانزل على قيسارية وأنا في اثر الكتاب معول على السير إلى صور وعكاء وطرابلس والسلام ثم سلم الكتاب إلى جابر بن سعيد وأمره بالرجوع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 ذكر فتح صور وعكاء وطرابلس الشام وقيسارية قال: وعول أبو عبيدة على النهوض إلى الساحل فقام إليه عبد الله يوقنا وقال: أيها الأمير اعلم أن الله عز وجل قد اباد المشركين ورفع علم الموحدين وإني أريد أن أسير قبلك إلى الساحل لعلي أفوز من القوم بغزوة فقال: يا عبد الله أن أنت عملت شيئا يقربك إلى الله تجده بين يديك فافعل فوثب يوقنا قائما وأخذ اصحابه وكان قد انضاف إليه من كان يخدمه بحلب وكلهم رجعوا إلى الإسلام وكانوا أربعة آلاف وفي عسكر العرب ايضا ممن اسلم من البطارقة ما يزيد عن ثلاثة آلاف فارس من البطارقة المعدة وعليهم وال يقال له جرفاس: ولما انهزم فلسطين إلى قيسارية وتحصن بها بعث إلى أهل طرابلس أن يبعثوا له بنجدة فبعثوا له بثلاثة آلاف فارس قال: وساروا يطلبون قيسارية فلما كانوا بالقرب منها نزلوا في مرج ليعلقوا على خيولهم فبينما هم كذلك إذ اشرف عليهم يوقنا وأصحابه وكان قد صحبهم فلنطانوس صاحب رومية وأصحابه وكانوا معولين على زيارة بيت المقدس والمقام بها فلما أشرفوا على المرج وهم بزيهم ما غيروا منه شيئا ورآهم جرفاس ركب بنفسه يختبر حالهم فلما قرب منهم سلم عليهم ورحب بهم وقال من أنتم قالوا: نحن الذين لجأنا إلى هؤلاء العرب واستكفينا شرهم وظننا أنهم على شيء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 فإذا هم طغاة لا دين لهم فهربنا بديننا ونحن اصحاب حلب وقنسرين وعزاز ودارم وانطاكية ونحن قاصدون إلى الملك هرقل لنكون في جنابه فلما سمع جرفاس من القوم ذلك فرح بهم وأنس لكلامهم وقال انزلوا عندنا كي تستريحوا ساعة من التعب فلا شك إنكم سرتم الليل والنهار وخافت أنفسكم من العرب قال يوقنا اين انتم سائرون قال بعث الينا فلسطين لنكون في طرابلس فقال يوقنا تيقظوا لأنفسكم فإن أمير العرب أبا عبيدة تركناه على نية القدوم إلى الساحل فقال جرفاس وماذا ينفع حذرنا ودولتنا قد اضمحلت وأيامنا قد ولت ولسنا نرى الصليب يغني عن أهله شيئا. قال الواقدي: فنزلوا عندهم ساعة وقدموا لهم من أزوادهم فاكلوا ثم ركبوا وهم جرفاس أن يركب لركوبهم فقال يوقنا اشتغل باصحابك والبسهم أفخر ثيابهم فإن ذلك مما يظهر الرعب في قلوب أعدائكم. قال الواقدي: حدثني سليم بن عامر عن نوفل بن عبد الله عن جرير بن البكاء وكان أعرف الناس بفتوح الشام قال: ما دخل إلى ساحل البحر حتى أتقن الحيلة وذلك أنه قد نزل فيه الحرث بن سليم من بني عمه يرعون ابلهم وكانوا في مائتي بيت من العرب فأغار عليهم يوقنا وأخذهم وشدهم كتافا ودخل بهم إلى بلاد الساحل فلما جن الليل جمعهم إليه وقال: لا تظنوا إني رجعت عن الإسلام وإنما فعلت بكم هذا كي تسمع الروم بسواحلها إني غدرت بالعرب وأخذتهم قال فاطمأنت العرب إلى كلامه وقالوا له: أن كنت تريد اقامة دين الله فالله ينصرك وبالاعداء يظفرك قال: ووكل يوقنا رجالا تسوق الاموال وإنما اطمأن جرفاس وأصحابه إلى يوقنا لما رأى الأسرى من العرب والجمال والانعام فلما ركب يوقنا وأصحابه ورأى أنهم طالبون لساحل البحر نكب عن طريق طرابلس وكمن في الليل على طريق القوم قال: وإن جرفاس فرق خزائنه التي كانت عنده على أصحابه وقعد حتى جن الليل وأكلت الخيل عليقها ثم ركبوا واستقاموا على الطريق فلما توسطوا أطبق عليهم يوقنا واصحابه وداروا بهم ولم يمهلوهم بالقتل وأخذوهم أخذا بالكف وانتشرت الخيل في تلك الأرض لئلا يكون قد انفلت من الروم أحد فلما حصلوا في قبضتهم وتحت أسرهم أرادوا أن يطلقوا الحرث بن سليم وأصحابه فقال الحرث إني أرى من الرأي أن تتركونا على حالنا فإن ثواب الله قد حصل وصبحوا بنا بلاد العدو فإنكم ما تشرفون على بلد من بلاد الساحل إلا فتحه الله لكم قال يوقنا هذا راي صحيح ثم أمر اصحابه أن يستوثقوا من الأسرى وكمن ألفين من أصحابه وأصحاب فلنطانوس مع الأسرى وهم ثلاثة آلاف فارس وقال إذا جاءتكم رسلي فاقدموا ثم ألبس اصحابه زي الروم مثل اصحاب قيسارية الذين أخذوهم وساروا نحو طرابلس فلما خرج كل من في البلد إلى لقائهم كان كتاب فلسطين قد وصل إليهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 إني قد بعثت اليكم بثلاثة آلاف فارس مع جرفاس بن صليبا ودخل يوقنا مع أصحابه حتى استقر قراره في دار الامارة ودخل عليه شيوخ طرابلس والبطارقة وأهل الحشمة منهم فلما حصلوا عنده أمر بهم وقبض عليهم وقال: يا أهل طرابلس أن الله سبحانه وتعالى قد نصر الإسلام وأهله وقد كنا في عيش مظلم نسجد للصلبان ونعظم الصور والقربان ونجعل لله زوجة وولدا حتى بعث لنا هؤلاء العرب فهدانا وألحقنا بهم ببركة نبيهم صلى الله عليه وسلم وهو النبي المبعوث الذي ذكره الله في التوراة وبشر به عيسى المسيح وإن الإسلام حق وقوله الصدق ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وينطقون بالحق ويتبعون الصدق ويوحدون الله وينزهونه عن الصاحبة والولد ويجاهدون في سبيله وهو الذي أمر به أنبياءه ورسله فإما أن ترجعوا إلى دين الإسلام أو تؤدوا الجزية والا بعثتكم عبيدا للعرب وهذا ما عندي والسلام. قال فلما سمعوا كلامه علموا أن يوقنا اجتاز عليهم وأخذ أصحاب الملك في الطريق فقالوا: أيها السيد نحن نفعل ما أمرتنا به فمنهم من أسلم ومنهم رضي بالجزية وعدل يوقنا فيهم وبعث إلى اصحاب الكمين فحلوا الأسرى فعرض عليهم الإسلام فأبقوا فأمر بحبسهم وبعث إلى أبي عبيدة بالخبر وما جرى له وبعث الكتاب مع الحرث بن سليم من وادي بني الأحمر وقال: يا عبد الله كن للأمير مبشرا بهذا الفتح قال سافعل ذلك أن شاء الله تعالى وسار بالكتاب حتى وصل إلى أبي عبيدة وسلم عليه وناوله الكتاب فلما قرأه وعلم معناه فرح وقال للحرث بن سليم ألم تستأذني أن تسير أنت وبنو عمك إلى وادي بني الأحمر فمن أوصلك إلى طرابلس قال أوصلني القضاء والقدر وذلك أن يوقنا أغار علينا وأخذنا أسرى وحدثه بحديثهم فعجب من ذلك أبو عبيدة وقال: اللهم ثبتهم وايدهم بنصرك. قال: حدثني عامر بن أوس قال اخبرني ابن سالم قال: حدثني موسى بن مالك قال أن عمرو بن العاص لما ارتفع المطر رحل من الجابية ونزل على أبواب قيسارية وأما ما كان من أمر يوقنا فإنه لما ملك طرابلس واحتوى عليها واستوثق من سورها وأبوابها ترك أصحابه على الأبواب وقال: لا تدعو أحدا يخرج من الأبواب وكان في المرسى مراكب كثيرة فرفع آلاتها وأخذها كل ذلك ولا يعلم أحد من أهل الساحل بما صنع وقال: وبعد ايام جاءت مراكب كثيرة زهاء من خمسين مركبا فتركهم يوقنا حتى نزل أكثرهم إلى المدينة فأمر بهم إليه فاستخبرهم عن حالهم وقال من أين جئتم قالوا: جئنا من جزيرة قبرص ومن جزيرة أقريطش وقالوا: معنا العدد والسلاح مضروبة لملك فلسطين فاراهم الفرح والسرور وسلم عليهم وقال إني أريد أن اسير معكم ثم أمر بهم إلى دار الضيافة وبعث إلى قواد المراكب فأنزلهم وقدم لهم السماط فلما أكلوا قال إني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 أريد أن اسير اليكم الزاد والعلوفة وعدة السلاح إلى خدمة الملك ولكن تقيمون عندي ثلاثة ايام فقالوا: أيها البطريق انا على عجل من أمرنا نخاف من لوم الملك ولسنا نقدر على ذلك ولم يزل بهم حتى اذعنوا له. فقال أريد أن تنزلوا الشراعات والمقاذيف فتكونوا في المدينة ليطمئن قلبي بذلك ففعلوا وألصقوا المراكب بالسور ونزل كل من في المراكب وما بقي في المراكب إلا ثلاثة رجال فلما دبر هذا التدبير قبض على الجميع فلما كان الليل سلم طرابلس لبني عمه وللحرث بن سليم وفلنطانوس وعمر المراكب برجاله وهم بالصعود اليها وإذا عند غروب الشمس قد أقبل خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه في ألف فارس من أصحابه فلما رآهم يوقنا سجد لله شكرا وسلم على خالد بن الوليد وسلم له المدينة وحدثه بما جرى له وما قد عزم عليه فقال نصرك الله وايدك ثم أن يوقنا ركب من ليلته وسار وكان على سور دمشق جيش فلسطين وهو أرمويل بن نشطة ومعه اربعة آلاف فما أصبح يوقنا إلا وهو في مدينة صور فأمر بالبوقات فضربت والرايات فنشرت ووقف الدمستق يختبر خبرهم فعاد صاحب البحرالية فقال هؤلاء أهل قبرص وجزيزة اقريطش قد أقبلوا بالعلوفات والطعام والعدد يريدون قيسارية في خدمة الملك ففرح أهل صور بذلك وأمروهم بالنزول فنزل يوقنا واصحابه وكان جملة من نزل معه تسعمائة رجل وكان قد استخلصهم لنفسه فصنع لهم الدمستق طعاما ومد لهم سماطا عظيما وأحضر لقوادهم الخلع ويوقنا ينتظر الليل حتى يثور باصحابه وكان جملة من نزل معه تسعمائة رجل كما ذكرنا وترك الباقين في المراكب وقال أن لم يتم لنا ما نريد ولم نظفر بهم فلا تبرحوا من مراكبهم وأنقذ إلى خالد وأخبره بالقصة. قال الواقدي: ما سمع بأعجب من هذه القصة ولقد حدثنى ابن مزاحم عن الارقط بن عامر عن عمار بن ياسر الربعي قال لما حصل يوقنا والتسعمائة بمدينة صور وأكلوا سماط الملك وخلع على كبرائهم أقبل عليهم في السر رجل من بني عم يوقنا ممن استحكمت الضلاله في قلبه واحتوى الكفر على أقانيم جسده فأقبل إلى الدمستق وحدثه بأمر يوقنا وما قد عزم عليه وإنه مسلم وإنه يقاتلكم مع العرب وقد فتح طرابلس وأخذ البطريق جرمانس صاحب الملك فلما سمع الدمستق ذلك لم يكذب خبرا دون أن ركب بأصحابه وقبض على يوقنا وأصحابه ووقع الصياح وكثر الضجيج وسمع بذلك اصحاب يوقنا فعلموا أن ذلك بسبب أصحابهم وإنه قبض عليهم فاغتموا لذلك غما شديدا وأخذوا على أنفسهم من عدو يقبل عليهم قال فلما استوثق عليهم الدمستق أرمويل بن نشطة وكل بهم ألف رجل وقال سيروا بهم إلى الملك يفعل فيهم ما يريد وأقبلوا يعنفون يوقنا واصحابه ويقولون لهم ما الذي رأيتم في دين العرب حتى تبعتموهم وتركتم دينكم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 ودين آبائكم قد طردكم المسيح عن بابه وأبعدكم عن جنانه فلما هموا أن يسيروا بهم وقع الصياح من الأبواب ونفر أهل القرى ومن كان بالقرب من صور فسألوهم عن أخبارهم فقالوا: قدمت العرب عليكم. قال الواقدي: وكان عمرو بن العاص لما نزل على قيسارية وجه يزيد ابن أبي سفيان في ألفي فارس إلى صور فلما سمع الدمستق أمر بالأبواب فأغلقت وصعدت الرجالة على الاسوار وعمروا الابراج ونصبوا المجانيق وأدخل الدمستق يوقنا إلى قصر صور واستوثق منهم لئلا يتم عليه أمر منهم وبات القوم يحرسون وأضرموا نيرانهم على الاسوار فأقبلوا يرقصون ويشربون طول ليلتهم فلما كان الغد أشرف عليهم يزيد بن أبي سفيان نظر إليهم الدمستق فلما رآهم قليلا استحقرهم وطمع فيهم وقال: وحق المسيح لا بد لي من الخروج إليهم وهزم هذه الشرذمة اليسيرة ثم لبس الدمستق اللباس وأمرهم بالخروج وترك على حفظ يوقنا واصحابه ابن عمه باسيل قال: وكان باسيل هذا من قرأ الكتب السالفة والاخبار الماضية وكان قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم في دير بحيرا الراهب وكان باسيل قد مضى إلى زيارة بحيرا فلما قدمت عير قريش وجمال خديجة بنت خويلد وفيها رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر بحيرا إلى القافلة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في وسطها والسحابة على رأسه تظله من حر الشمس فلما تبينه قال: والله هذه صفة النبي الذي يبعث من تهامة ثم انتظروا وإذا بالركب قد نزل ورسول الله صلى الله عليه وسلم نزل وحده تحت شجرة يابسة واستلقى اليها فأورقت الشجرة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما عاين بحيرا ذلك صنع طعاما لقريش واستدعاهم فدخلوا الدير وبقي هو مع الابل ليرعاها فلما نظر بحيرا إليهم ولم يره في جملتهم قال: يا معشر قريش هل بقي منكم أحد قالوا: نعم بقي فينا من تخلف لحفظ القافلة ورعي الابل قال: ما اسم من يرعى الابل قالوا: محمد بن عبد الله قال هل مات أبوه وأمه قالوا: نعم قال هل كفله جده وعمه قالوا: نعم قال: يا قريش هو والله سيدكم وبه يعظم في الدنيا مجدكم قالوا: من أين علمت ذلك قال لما أشرفتم علي من البرية لم يبق صخر ولا مدر إلا خر له ساجدا. قال الواقدي: فبقي باسيل في حيرة من أمرهم وكتم سره وعلم أن بحيرا لا يتكلم إلا بالحق فلما وقع يوقنا وأصحابه ووكله الدمستق على حفظهم قال أن الإسلام هو الحق وقد بشر به بحيرا الراهب ولعل الله يغفر لي إذا حللت هؤلاء القوم. قال الواقدي: من حسن تدبير الله لعباده المؤمنين أنه لما خرج الدمستق إلى لقاء يزيد ابن أبي سفيان لم يتأخر أحد من شباب المدينة لا صغير ولا كبير إلا وخرج معه وبقيت العوام ينتظرون على الاسوار ما يكون بينهم وبين العرب فلما نظر باسيل إلى المدينة وخلوها واشتغل أهلها بالحرب أخذ رايه على خلاص يوقنا ومن معه فأقبل إليهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 بالليل والتفت إلى يوقنا وأصحابه وقال: أيها البطريق كيف تركت دين آبائك وأجدادك من قبل وعولت على دين هؤلاء العرب وما الذي رأيت من الحق حتى تبعتهم وقد كانت الروم تتخذك عصدا لها وعونا قال له يوقنا: يا باسيل ظهر لي من الحق ما ظهر لك من الحق فعرفته وقد هتف بي هاتف يقول لي أن الذي هداك إلى دينه يخلصك وبشرني بالخلاص على يديك قال فلما سمع زاد ايقانه وتحقق إيمانه وقال ليوقنا لقد انطق الله لسانك بالحق وإن الله تعالى كشف حجاب الغفلة عن قلبي منذ رايت نبي هؤلاء القوم بدير بحيرا الراهب وهو في قافلة لاهل مكة ورأيت من دلائله أنه لا يسير على الأرض إلا والشجر تسير إليه والسحابة على رأسه تظلله ولقد استند إلى شجرة يابسة فأورقت في الحال وأنبأني بحيرا الراهب أنه وجد في العلم أن جماعة من الانبياء استندوا اليها وجلسوا حولها فلم تورق فلما استند بظهره اليها أورقت أغصانها وأينعت فعجبت من ذلك وسمعت بحيرا يقول هذا والله الذي بشر به المسيح فطوبى لمن تبعه وآمن به وصدقه فلما عدت من زيارة بحيرا سافرت إلى القسطنطينية بتجارة وطفت في بلاد الروم وأقمت ما شاء الله ثم عدت إلى قيسارية فرأيت الروم في هرج ومرج فسألت عن أحوالهم فقيل قد ظهر نبي في الحجاز اسمه محمد بن عبد الله وقد أخرجه قومه من مكة وقد أتى إلى المدينة التي بناها تبع وقد ظهر على قومه ونصر عليهم فما زلت أسأل عن أخباره وهي في كل يوم تنمو وتزيد حتى مات ثم ولى صاحبه أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وأنفذ جيوشه إلى الشام فلم يلبث إلا يسيرا ثم مات وولى هذا الرجل عمر بن الخطاب ففتح بلادنا وهزم جيوشنا وأنا مع ذلك أنتظر قدومهم إلى هذا الساحل حتى أتى الله بهم فقال له يوقنا: وما الذي عزمت عليه قال عزمت والله أن أفارق قومي وأتبعكم فإن الحق بين ثم حل يوقنا وأصحابه وسلم إليهم العدد والسلاح وقال ليوقنا اعلم أن مفاتيح أبواب المدينة عندي والعسكر خارج المدينة مشتغل بقتال العرب وليس في المدينة من يخاف جانبه فانهض على اسم الله فقال يوقنا جزاك الله خيرا فلقد هداك الله إلى دينه وسلك بطل طريق النجاة وختم لك بخير ويجب الآن علينا أن نظهر أنفسنا ونبعث في المراكب حتى ينزلوا الينا ونكون نحن يدا واحدة. فقال باسيل سأفعل ذلك ثم إنه خرج في حال الخفاء وفتح باب البحر ومعه رجل من بني عم يوقنا وركبا زورقا حتى وصلا إلى البحر والمراكب وحدثاهم بما قد كان فأقبل كل مركب برجاله إليهما وساروا إلى أن نزل الجيمع وحصلوا داخل المدينة أعني مدينة صور وأعمى الله أبصار الكفار فلما هموا أن يثوروا قال يوقنا ليس هذا من الرأي وأين من يهب نفسه لله عز وجل ويخفي أمره ويخرج من الباب ويدور إلى عسكر المسلمين ويتوصل إلى أميرهم ويعلمه بما كان منا ويكون على أهبة وإذا سمع بنا أحد لا يهوله وليصدم جيش العدو فقال رجل من القوم أنا أكون ذلك الرجل ثم خرج متنكرا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 واغلق باسيل خلفه ووصل إلى يزيد بن أبي سفيان وحدثه بالأمر على حقيقته وبما كان من أمر يوقنا فسجد لله شكرا وبعث من ساعته إلى المسلمين ليأخذوا على أنفسهم في الكبة على القوم ففعلوا ذلك. وأما يوقنا رحمه الله فلما علم أن الخبر وصل إلى المسلمين قال لاصحابه: ليصعد منكم خمسمائة رجل إلى السور ويقتلوا من عليه قال باسيل ليس هذا رايا فإن العوام لا اعتبار لهم ولعل الله أن يهديهم إلى الإسلام ولكن مر أصحابك أن يلزموا مطالع السور حتى لا ينزل أحد منهم ويزعقوا بالامان قال فاستصوب رايه ووكل الرجال بالمطالع ثم زعق يوقنا وأصحابه بصوت مزعج وقالوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله فسمع كل من في المدينة ومن على السور ذلك فعلموا أن يوقنا وأصحابه تخلصوا من الاسر ووثبوا في المدينة وطارت عقولهم وانزعجت أفئدتهم على أولادهم وأهإليهم فبقوا في حيرة فسمع يزيد بن أبي سفيان الضجة فعلم أن المسلمين قاموا في المدينة فكبر وكبرت المسلمون وهلل الموحدون فسمع الدمستق الضجة من المدينة فعلم أن يوقنا وأصحابه تخلصوا من الاسر وهم الذين فعلوا ذلك فوقع الرعب في قلوبهم ونظروا إلى النيران قد اشتعلت في عسكر المسلمين وتاهبوا للحملة عليهم فلم يبق لهم صبر وقد انقطعت قلوبهم من أجل أموالهم وأولادهم الذين في داخل المدينة وقيسارية محاصرة وليس لهم مدد من ولد الملك فولوا الادبار واتبع المسلمون آثارهم وملكوا خيامهم وما كان فيها فلما أصبح الصباح فتح يوقنا باب المدينة ودخل يزيد بن أبي سفيان ومن معه من المسلمين واحتووا على أموال الروم ونادى من كان على السور الغوث الغوث فأمنهم المسلمون ونزلوا بأجمعهم فقال لهم: يزيد أن الله عز وجل قد فتح لنا مدينتكم عنوة وأنتم الآن لنا عبيد فما شئنا حكمنا فيكم ولكن نحن إذا عاهدنا وفينا وإذا قلنا صدقنا وقد أعطيناكم الامان من أنفسنا ولكن عليكم الجزية على من لم يدخل في ديننا ومن اسلم منكم فله مالنا وعليه ما علينا فاجاب القوم إلى ذلك وأسلم أكثر القوم وبلغ الخبر إلى فلسطين بأن صور قد فتحت فعلم أنه لا بقاء له فأخذ الفرصة وانهزم وأخذ خزائنه وأمواله وذخائره وخدمه واركبهم في المراكب بالليل وقلع يريد اللحوق إلى قسطنطينية فلما نظر أهل قيسارية إلى ذلك خرجوا إلى عمرو بن العاص وصالحوه على أن يسلموا له المدينة فصالحهم على مائة ألف درهم وما ترك الملك من خزائنه ورجاله فأجابوه إلى ذلك وكتب لهم كتاب الصلح فعندها دخل عمرو بن العاص إلى قيسارية وأخذ بقية ما ترك الملك وضرب الجزية عليهم من السنة الآتية كل رجل أربعة دنانير وبذلك أمرهم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وبعث عمرو جيشا إلى صور مع ياسر بن عمار بن سلمة وكان شيخا كبيرا قد شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينا والنضير وقتل أخوه يوم حنين قتله مالك بن عون النضيري فبعثه عمرو إلى صور ومعه رجل من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 أصحابه وصالح عمرو بن العاص أهل قيسارية على مائة ألف درهم وما خلفه فلسطين من بقية ذخائره قال: ودخلها يوم الأربعاء في العشر الاول من رجب الفرد سنة تسع عشرة من الهجرة ووصل الخبر إلى الرملة وعكاء وعسقلان ونابلس وطبرية فعقدوا كلهم صلحا مع المسلمين وكذلك أهل بيروت وجبلة واللاذقية وملك الله الشام كله للمسلمين ببركة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 ذكر فتوح مصر بسم الله الرحمن الرحيم وهو حسبي قال زياد بن عامر قال شام بن عبد الله العنبري حدثنا سالم مولي عروة بن نعيم اليشكري قال لما فتح عمرو بن العاص قيسارية صلحا كان لعمر في الخلافة أربعة أعوام وستة اشهر وبلغ الخبر إلى أهل الرملة وعكاء وبلقاء وعسقلان وصيدا وغزة ونابلس وطبرية فأتي كبراؤهم إلى أبي عبيدة وأصلحوا أمرهم معه على مال لا يحصى وكذلك أهل بيروت وجبلة واللاذقية وأنفذ ابو عبيدة لعمرو بن العاص أن يسير إلى مصر بأمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه وملك المسلمون اقاصي البلاد ببركة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعظم وكرم قال: وسكنها العرب وتفرقوا في البلاد والمدن ودانت لهم العباد وكل يوم يزدادون فلم يبق في الشام وأعمالها مركز من مراكز الروم إلا أخذ المسلمون وتوالدوا وتناسلوا وكثروا ببركة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. يقال محمد بن اسحق الاموي رحمه الله تعالى قال: حدثنا يونس بن عبد الاعلى قراءة عليه بالخضراء بمدينة عسقلان قال أخبرنا الليث بن سعد قال: حدثنا نوفل بن عامر قال أخبرني يحيى بن ساكن المدني قراءة عليه يوم الجمعة ونحن عند منبر يونس بن متى قال لما فتح الله ساحل الشام على المسلمين في سنة تسع عشرة من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم كتبوا بذلك إلى أمير جيوش المسلمين أبي عبيدة عامر بن الجراح بسم الله الرحمن الرحيم من عمرو ابن العاص إلى أمين الامة أما بعد فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو وأصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وإن الله جل وعلا قد فتح ما كان قد بقي من الساحل وأخذنا قيسارية صلحا وهرب منها فلسطين بن هرقل بأمواله وعياله ونحن بها ننتظر أمرك والسلام وكتب أيضا يزيد بن أبي سفيان بما تم ليوقنا في صور وإن الله قد عضد الدين ووصل الكتابان إلى أبي عبيدة وقد رحل من حلب يريد طبرية فوصل إليه الخبر وهو نازل على الزراعة فلما قرأ الكتابين تهلل وجهه فرحا وضج المسلمون بالتهليل والتكبير وكتب من وقته وساعته إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يبشره بما فتح الله على المسلمين وبما فعله يوقنا ووجه الكتاب مع عرفجة بن مازن فركب ناقته وسار حتى وصل المدينة قال عرفجة بن مازن وعلي من ديباج الروم قباء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 فاخر وعلى رأسي مطرف خز مذهب قال فلما أتيت المدينة ودخلتها يوم الجمعة أول ليلة من شهر رمضان قبل مغيب الشمس وعمر رضي الله عنه قد أتى يريد المسجد فلما أبركت ناقتي وعقلتها وجئته لأسلم عليه نظر الي شزرا وقال من الرجل قلت عرفجة بن مازن فقال: يا ابن مازن أما كان لك برسول الله اسوة حسنة وإن هذه ثياب الجبارين ومن جعل الله لهم الدنيا جنة وهذا الديباج حرام على الرجال منا ولا يصلح إلا للنساء وهذا الذي عليك تصدق به على فقراء المدينة أما والله لقد دخلت يوما على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نائم على سرير مرمل بشريط وليس بين جلده وبين الشريط شيء وقد أثر الشريط في نعومة جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رايت ذلك بكيت. فقال لي: "يا عمر ما الذي ابكاك" فقلت يا رسول الله أن كسرى وقيصر يعيشان في ملك الدنيا وأنت رسول الله بهذه المثابة. فقال: يا عمر أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة قال عرفجة فسلمت إليه الكتاب فلما قرأه تهللت أسارير وجهه قال عرفجة ثم نزلت على خالتي عفراء بنت أبي أيوب الانصاري وبت عندها ليلتي فلما أصبحت لم اقدر أن أقابل عمر بذلك الزي فأعطيت الثوب والعمامة لخالتي فباعتهما وتصدقت بثمنهما على فقاء المدينة قال: وسرت إلى عمر وعلى ثوب من كرابيس الشام كان تحت ثيابي فلما رآني تبسم في وجهي وقال: يا ابن مازن ما فعلت بديباجتك قلت يا أمير المؤمنين باعتها خالتي وتصدقت بثمنها على المسلمين فقرأ عمر: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} [البقرة: 197] ثم إنه كتب إلى أبي عبيدة يقول بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر ابن الخطاب إلى أبي عبيدة عامر بن الجراح أما بعد فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو وأصلي علي نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وقد فرحت بما فتح الله على المسلمين وما وعدنا به رسول الله من كنوز قيصر وسيفتح علينا من كنوز كسرى والحمد لله على ذلك كثيرا وقد بلغني أن بادية الاعراب قد استلذوا الدنيا وزينتها وقد نصبت لهم شباك محبتها وقد تمسكوا بذيل غرورها ونسوا نعيم الجنة وقصورها ورفلوا في ثياب الديباج والخز وأكلوا الحلواء وخبز الحنطة لهاهم ذلك عن الآخرة وقد بلغني يا ابن الجراح أنهم قد تهاونوا بالصلاة ونسوا المفترضات فجرد عليهم عتاق الخيل ذوات الهمم وأغلظ عليهم ولا تكن لهم حاملا فيطمعوا فيك ومن أخل منهم بشيء مما فرض عليهم فأقم فيهم حدود الله وأعلم بأنك راع مسئول عن رعيته قال الله عز وجل: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج: 41] وقد قال فيك رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبو عبيدة أمين هذه الأمة" فأعط الامانة حقها ومن ترك صلاته فأضربه عليها ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا ونحدثه فإذا حضرت الصلاة فكأنه لم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 يعرفنا ولم نعرفه اشتغالا بالصلاة وبعظمة الله وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال أن الله عز وجل يقول أن بيوتي في الأرض المساجد وإن زواري فيها عمارها بالعبادة فطوبى لعبد تطهر في بيته ثم زارني فحق على المزور أن يكرم زائره وقال صلى الله عليه وسلم: "جميع المفترضات افترضها الله علي في الأرض إلا الصلاة فإن الله افترضها علي في السماء" وإذ قرأت كتابي هذا فأمر عمرو بن العاص أن يتوجه إلى مصر بعسكره ويقدمهم عامر بن ربيعة العامري ومشايخ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يفضي بهم عند مشورته وأنفذ من قدرت عليه إلى أرض ربيعة وديار الجد بن صالح والله أسأل أن يكون لكم عونا ومعينا والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وسلم الكتاب إلى عرفجة بن مازن وأمر له بنفقة من بيت المال. قال عرفجة فأخذت الكتاب وسرت به على طريق تيماء فلقيت عند بيت لحم ركبا من أهل وادي القرى فسألتهم عن أبي عبيدة فأخبروني أنه على غباغب وهو طالب طبرية قال عرفجة أطلب الغور والجولان وأقصد طبرية قال فالتقيت بأبي عبيدة على الأردن فسلمت عليه وناولته كتاب عمر رضي الله عنه فما قرأه جمع المسلمين وقرأه عليهم فلما فرغ قال: ما من رجل ترك الصلاة أو أخل بشيء مما افترضه الله عليه إلا جلدته ومن الغد أتى خالد بن الوليد من طرابلس فقرأ عليه الكتاب وأنفذه إلى عمرو بن العاص أرسل يحثه على المسير إلى أرض مصر فلما وصل الكتاب إلى عمرو أخذ على نفسه بالمسير وسار معه يزيد بن أبي سفيان وعامر بن ربيعة العامري وجماعة من الصحابة وسار معه يوقنا في أربعة آلاف من أصحابه وقد وهبوا أنفسهم لله ورسوله فسار عمرو على البيداء من وراء العريش قال: وكانت أرض مصر وريفها عامرة بالديور والصوامع وكان دير الزجاج في مملكة القبط وكان ملكهم يومئذ المقوقس ابن راعيل وكان هذا الملك من أهل الرأي والتدبير والفضل والحكمة وكان تلميذ الحكيم أعاشادمون وهو الذي لما غلبت الحيات على أرض مصر واخربتها صنع لها جلجلا وكان أن حركه سمع صوته من مقدار ميل قال فتخرج الحيات من حجرتها فمن هربت نجت ومن وقعت هلكت وكان المقوقس من أعلم أهل زمانه وكانت القبط معه في عيشة مرضية وكان يتوقع ظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان حكيم ذلك الزمان بمصر يقال له عطماوس: وهو الذي صنع دواليب الريح ورحى الهواء وكان عمر في الأجيال واطلع على مكنون الحكم والأسرار وعرف عمل صنعة الاكسير وعمل الذهب والفضة والجوهر والحركات المتحركة من نفسها بهبوب الريح وأجناس الأهوية في أجسامها وكان يجد في عمله أن الله يبعث نبيا من أرض تهامة ينشر دينه وتعلو كلمته وتملك أصحابه البلاد فعمل في أيام راعيل أبي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 المقوقس هيكلا عظيما على أعمدة من نحاس بمكان يعرف بعين شمس وجعل عليه أشخاصا مجوفة وجعل وجهها إلى جهة مصر وكتب عليها بالقبطية إذا دارت هذه الأشخاص إلى جهة الحجاز فقد قرب ملك العرب قال فبينما المقوقس راكب في بعض الأيام للصيد وقت هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد انتهى سيره إلى عين شمس إذ هو سمع أصواتا من الأشخاص قد علت ثم إنها حولت وجهها نحو الحجاز فأيقن بتلف ملكه وزواله فعاد من ركوبه وهو قلق ودخل قصر الشمع وجلس على سريره وجمع القسوس والرهبان وكبراء القبط وقال لهم: يا أهل دين النصرانية اعلموا أن زمانكم قد مضى وهذا النبي المبعوث لا شك فيه وهو آخر الأنبياء ولا نبي بعده وقد بعث بالرعب ولا بد لرجل من أصحابه أن يملك ما تحت سريري هذا فانظروا إلى ملككم وأصلحوا ذات بينكم وارفقوا برعيتكم ولا تجوروا في حكمكم وأمنوا ضعفاءكم وإياكم واتباع الظلم فإن الظلم وبيل ومرتعه وخيم وأعطوا الحق من أنفسكم ولا يستطل قويكم على ضعيفكم وما دامت الدنيا لأحد من قبلكم حتى تدوم لكم وكما ملكتموها ممن كان قبلكم كذلك يأخذها منكم من كان بعدكم فاصلحوا نياتكم فيما بينكم وبين خالقكم فإن فعلتم ذلك رجوت لكم النصر على أعدائكم ومن يريدكم وإن اتبعتم أهواءكم تبين هلاككم. قال: حدثنا ابن اسحق عن عبد الملك عن أبيه عن حسان بن كعب عن عبد الواحد بن عوف عن موسى بن عمران عن حميد الطويل عن أبي اسحق الراوي المغازي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة وبايعه الأوس والخزرج كتب إلى ملوك الأرض وفي الجملة كتابا إلى المقوقس ملك مصر وكان الذي كتب الكتاب إليه أبو بكر الصديق رضي الله عنه ونسخةى الكتاب بسم الله الرحمن الرحيم من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صاحب مصر أما بعد فإن الله أرسلني رسولا وأنزل علي كتابا قرآنا مبينا وأمرني بالانذار والاعذار ومقاتلة الكفار حتى يدينوا بديني ويدخل الناس فيه وقد دعوتك إلى الاقرار بوحدانية الله تعالى فإن أنت فعلت سعدت وإن أنت أبيت شقيت والسلام ثم طوى الكتاب وختمه بخاتمه قال أنس بن مالك فاستخرجه رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصبعه وكان فصه عليه ثلاثة أسطر السطر الأول محمد السطر الثاني رسول السطر الثالث الله ولا نقش أحد على خاتمه كنقشه قال سمرة بن عوف قلت لحميد الطويل أكان لخاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم فص أم لا قال: لا أدري قال: وسأل رجل جابر بن عبد الله الأنصاري فقال له: في أي يد كان يتختم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال في يده اليمنى ويقول: "اليمنى أحق بالزينة من الشمال" وفص الخاتم في يمينه وقال عبد الله بن عباس رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتختم في يمينه ثم حوله إلى يساره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 حدثنا أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتختم في يساره وحدثنا جعفر بن محمد عن أبيه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي والحسن والحسين رضي الله عنهم جميعا يتختمون في اليسار. قال الراوي: فلما طبع الكتاب بخاتمه قال: "أيها الناس أيكم ينطلق بكتابي هذا إلى صاحب مصر وأجره على الله" قال فوثب إليه حاطب بن أبي بلتعة القرشي وقال أنا يا رسول الله فقال له: "بارك الله فيك يا حاطب" قال فأخذت الكتاب من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم وودعته واصحابه وسرت إلى منزلي وشددت راحلتي وودعت أهلي واستقمت على الطريق إلى نحو مصر فلما بعدت عن المدينة بثلاثة ايام أشرفت على ماء لبني بدر فأردت أن أورد ناقتي الماء وإذا على الماء رجلان ومعهما ناقتان ومعهما رجل آخر راكب على جواد أدهم فلما رأيتهم وقفت وإذا بالفارس أتى الي وقال لي: من أين أقبلت وأين تريد فقلت يا هذا لا تسأل عما لا يعنيك فتقع فيما يحزنك ويخزيك أنا رجل عابر سبيل وسالك طريق فقال: ما إياك أردنا ولا نحوك قصدنا نحن قوم لنا دم وثأر عند محمد بن عبد الله وقد جئت أنا وهذان الرجلان وتحالفنا على أن ندهمه على غفلة فلعلنا نجد منه غرة فنقتله قال حاطب والله لقد أمكنني الله منهم فلأجعلن جهادي فيهم ولو بالخديعة فقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الحرب خدعة". فبينما أنا أخاطب الفارس وإذا بالراكبين قد وصلا الي وقالا لي بغلظة وفظاظة ويحك لعلك من أصحاب محمد فقلت لهما لقد كاد أن يتبدل لكما الطريق عن سبيل التحقيق وإني رجل مثلكما أطلب ما تطلبون وأنا قاصد يثرب وقد عولت علي صحبتكم لأكون معكم ولكن سمعت في طريقي هذا ممن أثق به أن محمدا أنفذ رسولا من أصحابه إلى مصر بكتاب فلعله في هذا الوادي فإن وقعنا به قتلناه فقال صاحب الفرس أنا أسير معك ثم إنه تقدم أمامي وتركنا صاحبيه واقفين ينتظران قال حاطب فلما بعدت به عن أصحابه وغبنا عنهما قلت ما اسمك قال اسمي سلاب بن عاصم الهمداني قلت يا سلاب اعلم أنه لا يقدر أن يدخل على يثرب إلا من كان له جنان وقلب وغدر ومكر لأن بها سادات الأرض وأبطالها مثل عمر وعلي ولكن كيف سيفك قال سيفي ماض قلت أرني إياه فاستله من غمده وسلمه الي فأخذت السيف من يده وهززته وقلت سيف ماض ثم قلت: سيوف حداد يالؤي بن غالب ... مواض ولكن أين للسيف ضارب فقال: ما معنا هذا الكلام قلت يا ابن عاصم أن سيفك هذا من ضرب قوم عاد من ولد شداد وما ملكت العرب سيفا مثله ولا أمضى من هذا السيف ولكن وجب علي أكرامك وأريد التقرب اليك بحيلة أعلمك إياها تقتل بها عدوك فقال بذمة العرب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 افعل ذلك فقال حاطب إذا كنت في مقام حرب وقتال وخصمك بين يديك وتريد قتله فهز هذا السيف حتى يهتز هكذا وتلتئم مضاربه واضرب عدوك بحرفه فإنه أسرع للقتل والقطع وملت بالسيف على عنقه وإذا برأسه طائر عن بدنه فنزلت إليه وأمسكت الجواد لئلا ينفلت فينذر أصحابه وتركته مربوطا إلى شجرة وأسرعت إلى صاحبيه وإذا هما ينتظراننا فلما رأياني أقبل أحدهما الي فقال: ما وراءك وأين سلاب فقلت أبشر بأخذ الثأر وكشف العار واعلم بأننا وجدنا رجلين من أصحاب محمد وهما نائمان وقد وجهني سلاب بأن يمضي أحدكما حتى نتمكن منهما ويقف أحدكما ههنا فإن هذا الوادي ما خلا ساعة من اصحاب محمد فقال: نعم الرأي الذي قد اشرت به وسار معي فلما غيبته عن صاحبه قلت ما اسمك قال عبد اللات قلت كن رجلا وإياك والخوف فإنك إذا رأيتنا وقد هجمنا على الرجلين فاستيقظ فقال: لا بد أن أفعل ذلك فقلت له إني أرى غبرة ولا شك أن تحتها قوما ممن صبأ إلى دين محمد فجعل يتأمل كأنه الواله الحيران فعاجلته بضربة على غفلة فرميت رأسه عن بدنه وعدت إلى الثالث فلما رآني وحدي تيقن بالشر فقارعني وقارعته وصدمني وصدمته إلا أن الله أعانني عليه فقتلته وأخذت الراحلتين والفرس وأسلابهما ووضعت الجميع عند رجل من أصحابي وكان رفيقا لي من زمن الجاهلية وهو من عبد شمس ثم توجهت أريد مصر ولم أزل إلى أن أتيتها فلما وصلت إلى باب الملك قالوا: من اين جئت قلت أنا رسول إلى ملككم فقالوا: من عند من قلت من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما سمعوا بذلك أحاطوا بي وأوصلوني إلى قصر الشمع بعد أن استأذنوا لي وأوقفوني على باب الملك فأمرهم باحضاري بين يديه فعقلت راحلتي وسرت معهم عند المقوقس وإذا هو في قبة كثر الجوهر في حافتها ولمع الياقوت من أركانها والحجاب بين يديه فأومأت بتحية الإسلام فقال حاجبه يا أخا العرب أين رسالتك قال فأخرجت الكتاب فأخذه الملك من يدي بيده قال فباسه ووضعه على عينيه وقال مرحبا بكتاب النبي العربي ثم قرأه وزيره الباكلمين فقال له: اقرأه جهرا فإنه من عند رجل كريم فقرأه الوزير إلى أن أتى إلى آخره فقال الملك لخادمه الكبير هات السفط الذي عندك فأتى به ففتحه واستخرج نمطا ففتح ذلك النمط وإذا فيه صفة آدم وجميع الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين وفي آخره صفة محمد صلى الله عليه وسلم فقال لي: صف صاحبك حتى كأنني أراه قال حاطب ومن يقدر أن يصف عضوا من أعضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا بد من ذلك قال فوقفت بعدما كنت جالسا وقلت أن صاحبي وسيم قسيم معتدل القامة بعيد الهامة بين كتفيه شامة وله علامة كالقمر إذا برز صاحب خشوع وديانه وعفة وصيانة صادق اللهجة واضح البهجة اشم العرنين واضح الجبين سهل الخدين رقيق الشفتين براق الثنايا بعينيه دعج وبحاجبيه زجج. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 وصدره يترجرج وبطنه كطي الثوب المدبج له لسان فصيح ونسب صحيح وخلق مليح قال: والملك ينظر في النمط فلما فرغت قال: صدقت يا عربي هكذا صفته فبينما هو يخاطبني إذ نصبت الموائد وأحضروا الطعام فأمرني أن أتقدم فامتنعت فتبسم وقال قد علمت ما أحل لكم وحرم عليكم ولم أقدم لك إلا لحم الطير فقلت إني لا آكل في هذه الصحاف الذهب والفضة فإن الله قد وعدنا بها في الجنة قال فبذلوا طعامي في صحاف فخار فاكلت فقال: أي طعام أحب إلى صاحبك فقلت الدباء يعني القرع فإذا كان عندنا شيء منه آثرناه على غيره فقال ففي أي شيء يشرب الماء فقلت في قعب من خشب قال: أيحب الهدية قلت نعم فإنه قال صلى الله عليه وسلم: "لو دعيت إلى كراع لأجبت ولو أهدى الي ذراع لقبلت" قال: أيأكل الصدقة قلت لا بل يقبل الهدية ويأبى الصدقة وقد رأيته إذا أتى بهدية لا يأكل منها حتى يأكل صاحبها فقال الملك ايكتحل قلت نعم في عينه اليمنى ثلاثا وفي اليسرى اثنتين وقال من شاء اكتحل اكثر من ذلك أو أقل وكحله الأثمد وينظر في المرآة ويرجل شعره ويستاك فقال المقوقس إذا ركب ما الذي يحمل على رأسه فقلت راية سوداء ولواء ابيض وعلى اللواء مكتوب لا إله إلا الله محمد رسول الله فقال إله كرسي يجلس عليه أو قبة قلت نعم له قبة حمراء تسع نحو الأربعين قال فما الذي يحب من الخيل قلت الأشقر الأرتم الأغر المحجل في الساق وقد تركت عنده فرسا يقال لها المرعد قال فلما سمع كلامي انتخب من خيله فرسا من أفخر خيول مصر الموصوفة وأمر به فأسرج وألجم فأعده هدية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فرسه المأمون وأرسل معه حمارا ي قال له: عفير وبغلة يقال لها دلدل وجارية اسمها بريرة وكانت سوداء وجارية بيضاء من أجمل بنات القبط اسمها مارية وغلام اسمه محبوب وطيب وعود وند ومسك وعمائم وقباطي وأمر وزيره أن يكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا يقول فيه باسمك اللهم من المقوقس إلى محمد أما بعد فقد وصل الي كتابك وفهمته وأنت تقول أن الله أرسلك رسولا وفضلك تفضيلا وأنزل عليك قرآنا مبينا فكشفنا يا محمد خبرك فوجدناك أقرب داع إلى الله وأصدق من تكلم بالصدق ولولا أنثى ملكت ملكا عظيما لكنت أول من آمن بك لعلمي إنك خاتم النبيين وامام المرسلين والسلام عليك ورحمة الله وبركاته مني إلى يوم الدين قال: وسلم الكتاب والهدية الي وقبلني بين عيني وقال بالله عليك قبل بين عيني محمد عني هكذا ثم بعث معي من يوصلني إلى بلاد العرب والى مأمني قال فوجدنا قافلة من بلاد الشام وهي تريد المدينة فصحبتها إلى أن وردت المدينة فأتيت المسجد وأنخت ناقتي ودخلت وسلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنشأت أقول: أنعم صباحا يا وسيلة أحمد ... نرجو النجاة غدا بيوم الموقف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 إني مضيت إلى الذي أرسلتني ... أطوي المهامه كالمجد المعنف حتى رأيت بمصر صاحب ملكهم ... فبدا إلي بمثل قول المنصف فقرا كتابك حين فك ختامه ... فأطل يرعد كاهتزاز المرهف قال البطارقة الذين تجمعوا ... ماذا يروعك من كتاب مشرف قال اسكتوا يا ويلكم وتيقنوا ... هذا كتاب من نبي المصحف قالوا: وهمت فقال لست بواهم ... إني قرأت بيان لفظ الأحرف وبكل سطر من كتاب محمد ... خط يلوح لناظر متوقف هذا الكتاب كتابه لك جامعا ... يا خير مأمول بحبك نكتفي قال الراوي: ورجعنا إلى الفتوح قال: حدثني أحمد بن عبيد عن عبد الله بن عمر السلمي عن محمد الزهري عن عبد الله بن زيد الهذلي عن أبي اسحق الأموي وهو المعتمد عليه في فتوح مصر وأرض ربيعة والفرس. حدثنا عمر بن حفص ولم ينفرد بهذه الرواية سواه وكان أصحاب السير قد اشتغلوا بوقائع العراق وفتوحه وما تجدد من سعد بن أبي وقاص وبني كسرى أنوشروان وتركوا فتوح الشام وأرض مصر فيما بعد وكان قد ارتحل عنهم فتركوه لأجل الزيادة والنقصان فيه وإنما انفرد ابن اسحق لأنه انفرد عن مشايخ ثقات قد وثق بهم من آل مخزوم اجتمع بهم في الرملة بعد الفتوح أحدهم نوفل بن ساجع المخزومي وكان عمه خالد بن الوليد وكان من المعمرين شهد تبوك مع النبي صلى الله عليه وسلم وشهد بعدها الحديبية وشهد يوم اليمامة ومسيلمة وكان مع عمرو بن العاص بأرض مصر في جميع فتوحها والثاني فهد بن عاصم بن عمرو بن سهل بن عمرو المخزومي وغيرهما من الثقات ممن شهد فتوح أرض مصر والوقائع كلها قالوا: جميعا ومنهم من قال أن عمرو بن العاص لما انفصل من ساحل الشام وكتب الله سلامة المسلمين وسار متوجها يريد أرض مصر فلما كان بمكان ي قال له: رفح قال له يوقنا: يا عمرو أنت تريد أن تدهم مصر على حين غفلة من أهلها وأنا ممن يمكني ذلك لأن ثواب الله أجل غنيمة فإن قلبي ملوث بحب الدنيا وإني كنت ممن أشرك بالله سواه وأنا أجتهد في الخلاص وأقاتل من كنت انصره على الكفر وعباده الصلبان والسجود للصور من دون الله وقد أخذت الإسلام بنية وقبول لأنه الحق وأريد أن أتقدم إلى أرض مصر فلعلي أجد لكم بالحيلة سبيلا فقال عمرو وفقك الله وأعانك وحفظك وصانك قال: فسار يوقنا ليلا من رفح يطلب الفرماء ولم يقرب من العريش ولا القاربا وكلها حصون عامرة وقد سكنها أقوام من العرب المختلطة وكانوا يؤدون المال إلى الملك المقوقس بن راعيل وسنذكر فتوحها فيما بعد إن شاء الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 تعالى قال: وإن يوقنا اشرف على الفرماء وكان بها وال من قبل المقوقس اسمه الرندبان والفرماء على جانب بحيرة تنيس من الشرق فرأى يوقنا خياما منصوبة وقبابا مضروبة فلما رأوا يوقنا وقع الصائح فركب من كان هناك وكانت الأخبار ترد عليهم كل وقت بما صنع الصحابة فلما بلغهم أن قيسارية فتحت اغتموا لذلك لأنه كان فلسطين بن هرقل قد تزوج بابنة المقوقس ارمانوسة وكان قد جهزها أبوها وأرسلها مع غلمانها وأموالها إلى بلبيس ثم إنها وجهت حاجبها تميلاطوس إلى الفرماء في ألفى فارس لحفظ ذلك المكان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 الاستعداد حدثنا ابن اسحق أخبرنا موسى بن محمد بن ابراهيم بن الحرث التيمي عن أسامة ابن زيد بن أسلم قال ابن اسحق: حدثني رجل من القبط رأيته وقد دخل في دين الإسلام فقربت إليه وسألته فاخبرني أنه من قبط مصر من جند المقوقس فقلت له كيف كان من أمركم لما سمعتم بقدوم المسلمين من الشام وكسر جيوش هرقل قال لما بلغنا ذلك بعث المقوقس رسله إلى جميع اطراف بلاده مما يلي الشام بأن لا يتركوا أحدا من الروم ولا غيرهم يدخل أرض مصر كل ذلك لئلا يتحدثوا بما صنع المسلمون بجنود هرقل فيدخل الرعب في قلوب قومه فلأجل ذلك أنه لما دخل يوقنا أرض مصر لم يعلم به أحد فلما ركبوا إلى لقائه ورأوا حشمه وعسكره وكانوا بزي الروم سالوه عن مكانه وكان قد أخبر في طريقه من حصن كيفا وأعلموه بابتعاد فلسطين عن زوجته أرمانوسة وإن اباها قد جهزها وهي على مدينة بلبيس فقال يوقنا ومتى تزوجها قالوا: تزوجها والمسلمون على حصن حلب. فقال لهم: انه قد ركب في البحر وترك قيسارية وقد أرسلني حتى آخذها في المراكب من دمياط ومضى يوقنا يقول أنا قد جئت رسولا من الملك فلسطين إلى الملك المقوقس حتى يرسل معي ابنته إلى زوجها فلما سمعوا كلامه قالوا: أن الملكة في بلبيس وقد أنفذها إليه وما منعها من المسير إلا خوف العرب وهروب فلسطين من قيسارية فسار يوقنا حتى قرب من بلبيس فنزل هناك وسار حاجبها اليها وعرفها بما قاله يوقنا فقالت علي به فأتى إليه الحاجب وأمره بالمسير فركب وركب اصحابه وهم بأحسن زي وأتوا إلى عسكر أرمانوسة وإذا به عسكر كبير أكثر من عشرة آلاف قال فترجل يوقنا وترجل قومه ووقفوا على باب قصرها واستأذنوا عليها فأذنت لهم بالدخول فلما وقفوا بين يديها خضعوا لها فأمرت لهم بكراسي فوضعت لهم فأمرتهم بالجلوس فجلسوا ووقفت الحجاب والمماليك والخدم فقالت الملكة أرمانوسة له من غير ترجمان كم لكم عن الملك فقال شهر فقالت أكان رحل من المراكب أم قبل رحيله فقال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 يوقنا: بل قبل رحيله وحين ركب منهزما ولما وصلت إلى غزة بلغني أنه سار وقد قال لي في السر بيني وبينه لا طاقة لنا بقتال هؤلاء العرب فإن أبي هرقل ترك أنطاكية وذهب وقد قاتلهم بجميع جنوده واستنصر عليهم بجيمع دين النصرانية وأنفذ إليهم ماهان الأرمني إلى اليرموك في ألف ألف فهزموه وقتلوه وإني اريد أن آخذ خزائني وأطلب القسطنطينية ثم إنه وجهني اليك أيتها الملكة لتركبي في المركب إليه. قال فلما سمعت ذلك أطرقت برأسها إلى الأرض ثم رفعت رأسها وقالت إني لا أقدر أن أصنع شيئا إلا بأمر الملك أبي وإني مرسلة إليه قال فقام يوقنا وصقع لها ودعا ثم خرج من عندها فوجد غلمانه قد ضربوا خيامه فنزل بها وارسلت إليه العلوفة والضيافة قال ابن اسحن الأموي رضي الله عنه ولقد بلغني انه لما جن الليل أتت اليها الجواسيس وأعلموها بفتح قيسارية ومدائن الساحل جميعها وبتوجه عمرو بن العاص إلى مصر وبحديث يوقنا صاحب حلب وحذروها منه وعرفوها بجميع الأخبار مفصلة وإنه هو الذي فتح طرابلس وصور وجبلة قال فلما سمعت ذلك دخل في قلبها الرعب وعلمت انه محتال فطلبت حاجبها وقالت له: مر العسكر بلبس السلاح وإن يكونوا مستيقظين فقد جرى من الأمر كذا وكذا ثم إنها أوقفت مماليكها وغلمانها وقالت لهم إذا دخل هذا الرجل وخواصه فاقبضوا عليهم فإذا نحن ملكناهم انخذل عسكر المسلمين فلما رتبت هذا أرسلت تطلب يوقنا فذهب حاجبها إليه وقال له: أيها البطريق الكبير أن الملكة تطلبك لتوصيك بما تقوله لأبيها فقال له: السمع والطاعة ها أنا راكب وأصحابي فذهب القاصد فقال يوقنا لأصحابه اعلموا أن الملكة شعرت بنا والقوم قد عولوا على قتلنا فإن حصلنا في أيديهم قتلونا لا محالة وتضرب بنا الأمثال لمن يأتي بعدنا فموتوا كراما ولا تلقوا بأييديكم إلى القتل بايدي الكفار وكونوا نصرة لدين الإسلام وما عسى نرجو من هذه الدنيا الغدارة التي ما صفت لأحد إلا وغيرته بالكدر فاعمروا دار البقاء وجاهدوا في سبيل الله حق جهاده فلعلكم ترضونه بذلك قال فأخذ القوم على أنفسهم وأشتدوا وركبوا وتوكلوا على الله في جميع أمورهم. حدثنا ابن اسحق قال لقد بلغني أن الملكة أقامت تنتظر قدومهم لتقبض عليهم فاستبطأتهم فبعثت رسولا ثانيا تستحثهم فقال له يوقنا: ارجع إلى صاحبتك وقل لها ما جرت بذلك عادة الملوك يبعثون يطلبون الرسل إلا لأمر يحدث وقد كنت عندها فما الذي تريده نصف الليل مني فعاد الرسول وأخبرها بما قاله فركبت من وقتها وتقدمها حاجبها وأمرت الجيش كله أن يركب ودارت بيوقنا وأصحابه ولم تحدث بشيء إلى الصباح فأقبل صاحب الملكة إليهم وقال: ما حملكم أن تركتم دين آبائكم وهجرتم دين المسيح وأمه وقد جئتم تحتالون علينا إلا وإن المسيح قد غضب عليكم فقال يوقنا: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 إن المسيح عبد من عبيد الله لا يقدر على شيء لانه مأمور مكلف وقد أنطقه الله بذلك وهو في المهد فقال: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} [مريم: 30] وقال: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً*وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً} [مريم:33] ومن يؤمر بالصلاة والزكاة ويموت فليس باله إنما هو عبد الله مكلف بالعبادة مثل واحد منا وإن الله لا يتشبه بأحد منا وإن الله لا يشبهه شيء ولا يتشبه بأحد ولقد أضلكم من صدكم عن ذلك وزاغ بكم عن طريق الحق بقوله على الله والمسيح ولقد كنا مثلكم نسجد للصلبان ونعظم القربان ونسجد للصور ونجعل مع الله الها آخر إلى أن تبين لنا دين محمد صلى الله عليه وسلم فشفانا بعد العمى وشرح صدورنا للهدى ودين الإسلام هو الدين الواضح وكنا نقول مثل قولكم أن المسيح ابن الله وإن ابراهيم واسحق كانا نصرانيين فكذبنا الله بقوله في كتابه: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران:67] وقال سبحانه: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85] وها نحن قد جئناكم لنجاهدكم اما أن تقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله واما الجزية واما القتال قال فلما سمع الحاجب كلامه قال لقومه دونكم وهؤلاء فقد جاءوا يريدون قتلكم وأخذ أموالكم وأولادكم وحريمكم قال فحملوا على يوقنا وأصحابه وعمل السيف بينهم بقية يومهم فلما كان من الغد ركبوا وداروا بهم وتصايحت عليهم القبط ودارت بهم الخيل والرجال فبلى يوقنا ومن معه بما لا طاقة لهم به وقتل منهم جماعة وقتلوا هم من القبط خلقا كثيرا ولكنهم صبروا لأمر الله وقالوا: والله لا نسلم أنفسنا أو نموت كلنا فقد حصل لنا ما كنا نطلب من رضا ربنا قال ابن اسحق. حدثنا سيف بن شريح عن يونس بن زيد عن عبد الله بن عمر بن حفص عن عبد الله بن الحرث قال لما أخرت الجواسيس أرمانوسة بقصة يوقنا أنفذت كتابا إلى ابيها المقوقس تعلمه بذلك وإنها مغلوبة معهم وإن العرب متوجهون مع رجل يقال له عمرو بن العاص: وأنا منتظرة جوابك قال فلما وصل الكتاب إليه دعا أرباب دولته وقال لهم: قد تم من الأمر علي كذا وكذا فما تشيرون به علي قالوا: أيها الملك نرى لك من الأمر أن تنفذ جيشا إلى الملكة ينصرها على عدوها وتنفذ إلى جلباب ملك البرية تستنصر به على هؤلاء العرب وتنفذ إلى مازع بن قيس ملك البجاوة ينفذ لك جيشا وتنفذ إلى من بالاسكندرية يأتون والى من بالصعيد يأتون فإذا اجتمعت اليك هذه الأمم فالق بهم العرب ولا تأمن لهم فيطمعوا فيك فقال: يا أهل دين النصرانية اعلموا أن الملك محتاج إلى سياسة ومن ملك عقله ملك رأيه ومن ملك رأيه أمن من حوادث دهره وليست الغلبة بالكثرة وإنما هي بحسن التدبير والله لقد كان قيصر أكثر مني جندا وأوسع بلادا وأعظم عدة وقد جمع من بلاد الروم إلى اليونانية ومن اقاليمه ومن القسطنطينية ومن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 سائر البلاد وبلاد الاندلس واستنصر بنا وبغيرنا فما أغنى عنه جمعه شيئا ولا قدر أن يرد القضاء والقدر عنه واعلموا أن العقل اساس الآدمي المخاطب المكلف المفضل به على سائر ما خلق على الأرض فمن ملك أمره ومن لم يجد منه حظا كان بجهله ارضيا ولن تنال الحكمة إلا بالعقل. قال الحكيم ماسوسي: أن الحكمة مرقى جليل وطالبها نبيل وتاركها ذليل لانها غذاء الارواح وقوت القلوب واعلموا أني لست أتكلم إلا بالصدق وأنتم تعلمون أن محمدا في ايامه بعث الينا يدعونا إلى دينه فاستدليت على صدق قوله بكتابه وما ظهر من معجزاته وقد سمعتم أنه لما بعث ما سمع أحد بذكره إلا وخاف منه وقد سمعتم أن القمر انشق له والذراع المسموم كلمه وقال: يا رسول الله أني مسموم فلا تأكلني وقد كلمه الضب والحجر والشجر والمدر وعرج به إلى السماء وركب أوج الماء وأول من تغلب عليه قومه وحاربه عشيرته حين أنكروا قوله وفعله فنصر عليهم وقهرهم وقد تبين لهم الحق فاتبعوه ونصروه وهم هؤلاء الذين فتحوا الشام وما أنكرت من أمرهم شيئا فإنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون حدود الله التي أمر بها وما في كتابهم شيء إلا وفي الانجيل مثله وقد اضلكم بولس وأغواكم حين غر بكم وبدل شرعكم وسماكم باسم لا يليق بكم وكيف وقد عاد بكم من الطريق الواضح وأحل لكم جيمع ما حرم عليكم من قبل وهذا هو عين المحال وداعية العمى أن تتعدوا ما قال نبيكم وكيف نبغي لروح الله عيسى بن مريم أن يكلمكم بما لم يرسله الله اليكم ثم أن بولص قال لكم انه أحل لكم الخنزير وشرب الخمر وارتكاب المعاصي ما ظهر منها وما بظن فاطعتم أمره وصدقتم قوله وحاشا المسيح أن يفعل ذلك وما كان أحد من الانبياء إلا على ما جاء به محمد وهؤلاء الحكماء الأولون ما منهم إلا من يتكلم بوحدانية الله تعالى وهذا الحكيم دمونا الذي صنع في براري اخيم ارصادا وجعلها مثلا للامم الآتية وذكر فيها من يأتي من الامم والاجيال إلى آخر الزمان وصور الحكماء منفردة به والنسر يعقد رأس الحمل والنسر يقيم في كل برج ثلاثة آلاف سنة كما قدر بالمقدار الحكيمي وكأن قدر صور صورة وكتب على رأسها بقلم اليونانية أربعة اسطر الاول من خاف الوعيد سلم مما يريد الثاني من خاف ما بين يديه صان دموعه بما في يديه الثالث أن كنت تريد الجزيل فلا تنم ولا تقيل الرابع بادر قبل نزول ما تحاذر فمن كان هذا كلامهم فكيف صنع سواهم وهذه فريضة هؤلاء القوم المحمديين قال فأطرقوا برؤوسهم إلى الأرض غيظا على الملك قال: وما تلكم المقوقس بهذا الكلام حتى أوقف عنده من مماليكه الف غلام فوق رأسه بالسيف لانه كان قد سمع ما جرى لقيصر وهرقل مع بطارقته لما جمعهم ونصحهم فوثبوا عليه وارادوا قتله أما المقوقس فإنه استوثق بمماليكه حتى لا يطمع فيه قال فلما تكلم بذلك قال له وزيره: أيها الملك رأيك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 راجح وأنا أول من يؤمن بما تقول فقال للوزير اكتب إلى ابنتي كتابا تأمرها فيه أن تتلطف بالقوم وتعطيهم الامان وتنفذهم الينا حتى نخلع عليهم وتطيب قلوبهم ويكونوا معنا يقاتلون من يريد قتالنا وما أراد بذلك إلا أن يسلم مثل يوقنا وأصحابه إذ هم على الحق قال فكتب الوزير إلى الملكة كتابا بما قاله أبوها فلما وصل الكتاب اليها وقرىء عليها أمرت أصحابها أن يرجعوا عن قتل يوقنا ومن معه فرجعوا وأرسلت إلى يوقنا تعلمه بكتاب أبيها وأرسلت إليه الكتاب فلما قرأه قال لرسولها امض اليها حتى استخبر الله تعالى في ذلك. فقال يوقنا لاصحابه أن الله قد كشف حجاب الغفلة عن قلب هذا الملك وقد ظهر له ما ظهر لنا من الحق فما الذي ترون من الرأي قالوا: نحن نسمع من رأيك فقال دعوني هذه الليلة قال فلما جن عليه الليل قام يصلي وأمر أصحابه أن لا ينزلوا عن خيولهم مخافة من غدر القوم فبينما هو يصلي وإذا بشخص قد دخل عليه فارتاع منه ثم تأمله فإذا هو عمر بن أمية الضمري ساعي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآه يوقنا فرح وكان قد رآه مرارا فقال له: مرحبا يا عمرو من أين فقال أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بعثني إلى عمرو بن العاص لأحثه على المسير إلى مصر فوجدته قد وصل وها هو منك قريب وقد أرسلني اليك لأعرفه خبرك فأخبره بما وقع له وقال له: امض يا عمرو ودعه يعجل بالمجيء يعيننا على هؤلاء القوم وحدثه بجميع ما جرى علينا فرجع عمرو مسرعا إلى عمرو بن العاص واعلمه بقصة يوقنا قال فترك عمرو بن العاص الاثقال ومعها من يحفظها وركب وسار بجرائد الخيل وترك مع الاثقال عامر بن ربيعة العامري فما كان قبل طلوع الفجر إلا وهو عند يوقنا فدار بالقوم فلما أحس بهم يوقنا كبر هو ومن معه ورفع الجميع أصواتهم بالتهليل والتكبير ووضعوا السيف في القبط فما طلعت الشمس إلا وقد قتل من القبط أكثر من ألف وأسر منهم خلق كثير وولى الباقي منهزمين وأخذت ارمانوسة ابنة الملك وجميع ما معها من الاموال والرجال والجواري والغلمان. فقال عمرو بن العاص لاصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل يزيد بن أبي سفيان وهاشم بن سعيد الطائي والقعقاع بن عمرو التميمي وخالد بن سعيد وعبد الله بن جعفر الطيار وصفوان وأمثالهم أن الله سبحانه وتعالى قد قال: {هَلْ جَزَاءُ الْأِحْسَانِ إِلَّا الْأِحْسَانُ} [الرحمن:60] إلا الاحسان وهذا الملك قد علمتم أنه كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث هدية ونحن أحق بمن كافأ عن نبيه صلى الله عليه وسلم هديته وكان يقبل الهدية ويشكر عليها وقد رأيت أن ننفذ إلى المقوقس ابنته وما أخذنا معها ونحن نتبع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سمعته يقول: "ارحموا عزيز قوم ذل وغني قوم افتقر" فاستصوبوا رأيه فبعث بها مكرمة مع جميع ما معها مع قيس بن سعد رضي الله عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 ذكر فتح مدينة مصر قال بن اسحق الاموي رضي الله عنه لما ورد المهزمون على الملك وأخبروه بما تم عليهم وعلى ابنته ضاق صدره وبقي متفكرا فيما يصنع وليس له نية في القتال مع الصحابة فبينما هو متفكر إذ جاءه البشير بقدوم بنته وما معها فخف عنه بعض ما كان يجده فلما دخل عليه قيس رفع مجلسه فوق الملوك والحجاب وأرباب دولته وكانوا قد اجتمعوا يهنئونه بابنته فلما حضر قيس بن سعد ساله الملك عن أشياء لعل اصحابه أن تلين قلوبهم إلى الإسلام فقال: يا اخا العرب اخبرني عن صاحبكم ما الذي كان يركب من الخيل قال الاشقر الارتم المحجل في الساق وكان اسمه المترجل فقال لقد بلغنا أنه كان لا يركب إلا الجمال فقال قيس أن الله أكرم الابل وشرفها قال لها كوني فكانت وأخرج ناقة من الصخر وخص بها العرب من دون غيرهم من بني آدم وكان يركبها لكونها قد جعلها الله مباركة تقنع بما تجد وتصبر على الحمل الثقيل والسير الشديد وتصبر عن الماء اياما وقد ذكرها ربنا في قوله في كتابه العزيز فقال: {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 27] وقال: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [الحج: 36] . ولما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزواته غزوة بدر كان معه مائة ناضح من الأبل وكان معه فرسان يركب أحدهما المقداد بن الاسود الكندي ويركب الاخر مصعب بن عمير وانا لقينا قريشا في عددها وعديدها فهربوا ببركة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان اصحابه يتعاقبون في الطريق وكان عليه الصلاة والسلام وعلي بن أبي طالب ومرثد بن أبي مرثد حليف حمزة بن عبد المطلب وغيرهم يتعاقبون شامخا وكان أيها الملك يركب الحمار الذي أهديته إليه ويردف وراءه معاذ بن جبل وعلى الحمار ركاب من ليف وخطامه ليف واعلم يا ملك القبط أنه كان يخصف نعله ويرقع ثوبه ويقول: "من رغب عن سنتي فليس مني" وكان قميصه من القطن قصير الطول والكمين ليس له ازرار ولقد أهدى إليه ذويزن حلة اشتراها له قومه بثلاثة وثلاثين بعيرا فلبسها رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة واحدة وأهدى له جبة من الشام فلبسها حتى تخرقت وخفين فلبسهما حتى تخرقا وكان له رداء طوله أربعة أذرع وعرضه ذراعات ونصف وكان له ثوب خز يلبسه للوفد إذا قدموا عليه وكان افصح الناس إذا تكلم بكلمة يرددها ثلاثا وكلما راى قوما سلم عليهم ورأيته كلما تحدث تبسم في حديثه وكان إذا اجتمع إليه اصحابه واراد أن ينهض قال سبحانك اللهم وبحمدك اشهد أن لا إله إلا انت استغفرك واتوب اليك قلنا يا رسول الله أن هذه الكلمات اتخذتهن عادة قال امرني بهن جبريل واخرجت لنا زوجته لما قبض كساء وازارا غليظين وقالت قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فوق هذين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 فقال المقوقس هذه والله أخلاق الانبياء فطوبى لمن اتبعه فإن أمته هي الامة الموصوفة في الانجيل فقال بعض من حضر أيها الملك ما تكون أمة عند الله افضل من هذه الامة وهم نحن فغضب الملك من قوله وقال: وبأي شيء أنتم أفضل عند الله أبأكلكم الحرام وارتكابكم الآثام وصنعكم المنكرات وتجنبكم الحسنات وظلمكم في الرعية وميلكم إلى الدنيا أين أنتم من قوم عبر عليهم الاسكندر فرآهم ليس بينهم قاض ولا حاكم ولا أمير قائم عليهم ولا فيهم من يختص بالغنى دون أخيه بل هم سواء في كل ما هم فيه أكلهم وشربهم واحد غير متناف ولامتضاد وملبسهم غير متناف ولا متباعد فتعجب الاسكندر منهم وسأل الأكابر منهم عما رآه من أحوالهم فقالوا: أيها الملك انا وجدنا جمجمة وعليها مكتوب يا ابن آدم ما خلقت إلا من التراب وقد خلوت بما قدمت اما صالحا فيسرك واما طالحا فيضرك فتندم حيث لا ينفعك الندم ولم يكن لك إلى الدنيا مرجع فطوبى للكيس العاقل الذي ليس ببليد ولا غافل يتزود إلى ما إليه يصير ولا يلقي الاتكال على التقصير فبادر إلى الخير قبل الموت واغتنم حياتك قبل الفوت وكأنك بالحي وقد هلك وترك كل ما ملك فلما قرأنا هذا اعتبرنا أيها الملك بهذه الموعظة البالغة ولبسنا أثوابها السابغة فقال: ما بال مساجدكم شاسعة نائية وقبوركم دانية فقالوا: أما مساجدنا فبعيدة ليكثر الاجر بكثرة الخطا وقبورنا قريبة لنذكر الموت فننتهي عن الخطأ فقال مالي أرى أبوابكم بغير غلاق قالوا: لأننا ما فينا خائن ولا سرق فقال: ما لي لا أرى فيكم أميرا ولا حاكما فقالوا: لاننا ما فينا معتد ولا ظالم. فقال: ما لي لا أرى فيكم معسرا ولا فقيرا قالوا: لأن رزق الله فينا الكبير والصغير ثم إنهم أخرجوا له جمجمتين عظيمتين فقالوا: أيها الملك هذه جمجمة رجل عادل سالم وهذه جمجمة رجل ظالم وكلاهما صار إلى هذا المصير ولم يغن عنهما الجمع والتدبير أما العادل فمسرور ريان وأما الظالم فنادم حيران فاز المتقي وخسر الشقي فاختر ما تراه قبل الحين أيها الملك لأنك قد ملكت النواصي ونفذ أمرك في الداني والقاصي واستخلفك الله في الأرض وأمرك بالقيام بالنفل والفرض فتذكر مرجعك ورمسك واعمل لنفسك واعلم أنه لا ينفعك جدك إذا قبضت روحك واشتمل عليك لحدك فاترك أوامر الشيطان ودواعيه وخذ بأوامر الرحمن ونواهيه ولا يغرنك النعيم فتبوء بالاثم العظيم اذكر أيها الملك ما فعل الشيطان بأبيك حين نصب له مكيدته وأدار عليه حيلته فنصب له فخ العداوة وغره فيه بحبة البر فقال قيس أيها الملك أتدري من أولئك قال: لا قال هم قوم مؤمنون قال الله عنهم في كتابه: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف:181] وقد رآهم نبينا صلى الله عليه وسلم ليلة عرج به فلما عاد أخبر أصحابه بهم قالوا: يا رسول الله أهم قوم مؤمنون بما أنزل عليك فأراد أن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 يعلمهم أن أمة محمد أفضل منهم فأنزل الله: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف:181] فقال المقوقس لقيس بن سعد يا أخا العرب ارجع إلى أصحابك وأخبرهم بما سمعت وبما رايت وانظر فيما يستقر عندكم وبينكم فقال قيس أيها الملك لا بد لنا منكم ولا ينجيكم منا إلا الإسلام أو أداء الجزية أو القتال فقال المقوقس أنا اعرض ذلك عليهم واعلم أنهم لا يجيبون لأن قلوبهم قاسية من أكل الحرام. حدثنا ابن اسحق رضي الله عنه حدثنا عبد الله بن سهل عن عدى بن حاطب عن سليمان ابن يحيى قال أن الملك المقوقس كان من عادته أنه في شهر رمضان لا يخرج إلى رعيته ولا يظهر لأحد من أرباب دولته ولا أحد منهم يعلم ما كان يصنع وكانت مخاطبته لقيس بن سعد في أواخر شعبان سنة عشرين من الهجرة فخرج قيس من عنده ومضى إلى عمرو بن العاص وحدثه بما كان منه قال ابن اسحق: وكان ولي عهد الملك ولده اسطوليس وكان جبارا عنيدا وإنه لما سمع ما تحدث به أبوه رأى ميله إلى الإسلام وعلم انه لا يقاتلهم وربما أسلم وسلم إليهم ملكه صبر إلى أن دخل أبوه إلى خلوته التي اعتاد أن يدخلها ويختلي فيها كل سنة فجمع أرباب الدولة في الخفية لئلا يدري به أحد فيعلم أباه وقال لهم: اعلموا أنكم قد ملكتم هذا الملك وإن أبي يريد أن يسلمه إلى العرب لانني فهمت من كلامه ذلك فقالوا: أيها الملك أنت تعلم أن هذا الأمر مرجعه اليك وأنت ولي عهده فاعمل أمرا يعود صلاحه عليك وعلينا قال فطلب صاحب شراب ابيه وأعطاه ألف دينار ووعده بكل جميل وأعطاه سما وقال له: ضعه في شرابه قال ففعل الساقي ما أمر به وسقي الملك فمات فأتى الساقي إلى أرسطوليس وأعلمه أن أباه قد مات فذهب إليه ودفنه في الخفية وقتل الساقي وجلس على سرير الملك كأنه نائب عن أبيه إذا غاب كعادته في كل عام ولم يعلم أحد بموته هذا ما كان منه وأما عمرو بن العاص فإنه ارتحل من بلبيس ونزل على قليوب وبعث إلى أهل البلاد والقرى وطيب خواطرهم وقال لهم: لا يرحل أحد من بلده ونحن نقنع بما توصلونه الينا من الطعام والعلوفة فاجابوا إلى ذلك وارتحل من قليوب ونزل على بحر الحصى فارتجت بنزولهم اليها ووقع التشويش فيهم وعلا الضجيج وأغلقوا الدروب والدكاكين ووقف أهل كل درب على دربهم بالسلاح ليحموا حريمهم قال: وأما عمرو بن العاص فإنه أمر أهل اليمن ومن معه من العربان أن يحدقوا بالبلد وإن أهل البلاد أقبلت إليهم بالعلوفة والطعام والخيرات وهم يردون عليهم من كل فج. ثم أن عمرو أراد أن يرسل إلى صاحب مصر رسولا وكان عنده غلام له من أهل الرملة وكان اسمه وردان وكان يعرف سائر الألسن فقال له عمرو: يا وردان إني اريد أن أرسلك إلى هؤلاء القبط فإنك تعرف بلسانهم ولا تظهر لهم إنك تعرفه فقال: سمعا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 وطاعة فقال اريد أن أكتب معك كتابا وهم أن يكتب وإذا برسول أرسطوليس قد أقبل وقال: يا معاشر العرب أن ولي عهد الملك يريد منكم أن تبعثوا له رجلا منكم ليخاطبه بما في نفسه فلعل الله أن يصلح ذات بينكم فقال عمرو ليزيد بن أبي سفيان ولهاشم الطائي ولعبد الله بن جعفر الطيار وللنعمان بن المنذر ولسعيد بن وائل اعلموا أني قد ضربت على ملوك الروم ولست أرى من يتكلم مثلي وما يسير إلى هؤلاء إلا أنا فإني اريد أن ارد القوم وأنظر حالهم وما هم فيه من القوة وإن لا يخفى علي شيء من أمرهم فقالوا: يا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قوى الله عزمك وما عندنا إلا النصيحة للدين والنظر في مصالح المسلمين فافعل ما أردت تعان فقال لشرحبيل قد قلدتك أمور المسلمين فكن مكاني حتى أمضي إلى القوم وآتيكم بما فيه فقال له شرحبيل: الله يوفقك ويسددك. قال فلبس عمرو ثوبا من كرابيس الشام وتحته جبة صوف وتقلد بسيفه وركب جواده وسار ومعه غلامه وردان وسار الثلاثة إلى قصر الشمع وإذا هم بالمواكب مصطفة والعساكر واقفة وهم بالدروع والجواشن والعدد وقد أظهروا ما أمكنهم من القوة فلما وصلوا إلى قصر الملك أخبروا ارسطوليس أن رسولك أتى بواحد من العرب فأمرهم باحضاره فدخل عمرو راكبا وهو متقلد بسيفه فاراد الحجاب أن ينزلوه عن جواده فابى وإن يأخذوا سيفه فأبى وقال: ما كنت بالذي أنزل عن حصاني ولا أسلم سيفي فإن أذن صاحبكم أن أدخل على حالتي والا رجعت من حيث أتيت فاننا قوم قد اعزنا الله بالإيمان ونصرنا بالإسلام فما لنا أن ننزل لأهل الشرك والطغيان وأنتم طلبتمونا ونحن لم نطلبكم فأعلموا الملك بما قاله فقال أرسطوليس دعوه يدخل كيف شاء فخرجوا إليه وقالوا له: ادخل كيف اردت فدخل عمرو وهو راكب حتى وصل إلى قبة الملك ورأى السريرية والحجاب وقوفا والبطارقة وهم في زينة عظيمة فلما رأى عمرو ذلك تبسم وقرأ: {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الشورى:36] قال: وكان قصر الملك قد بناه الريان بن الوليد بن أرسلاووس وهو الذي استخلف يوسف على مصر بعد العزيز ثم خرب وأقام خرابا خمسمائة سنة وما بقي إلا اثره فلما بعث عيسى وانتشرت دعوته ورفعه الله إليه وافترقت أمته فرقا وادعوا فيه ما ادعوا من الالهية وتقول الكذب ولي مصر رجاليس بن مقراطيس فبنى ذلك القصر الخراب وهو في وسط قصر الشمع وإنما سمي قصر الشمع لانه لا يخلو من شمع الملوك فلما بناه أحضر الحكماء الذين كانوا قد بنوا في برية الحميم وكان المقدم عليهم قربانس فقال لهم: إني قد قرأت كثيرا من الكتب التي أنزلت على الانبياء من الله وقرأت صحف موسى ورايت أن الله يبعث نبيا قوله حق ودينه صدق واخلاقه طاهرة وشريعته ظاهرة وقد بشر به المسيح فما تقولون فيه فقال قربانس الحكيم أن الذي قرأته هو الصحيح قال فثم من يخالف ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 قالوا: نعم قال الحكيم أريد أن أصنع تمثالا من الحكمة ونجعله بيتا للعبادة ونجعل على هيكلها تماثيل يكون وجوهها مما يلي التمثال باعلى قصرك فإذا جاء وقت مبعث هذا النبي يحول كل تمثال وجهه عن صاحبه وأما الذي يجعل على الكنيسة فإنه عند مبعث النبي العربي يقع على وجهه ويكون موضع عبادة القوم واقامة شرعهم قال فأخذوا في عمل الحكمة واقاموا التماثيل على ما ذكرنا فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم حول كل شخص وجهه عن صاحبه وسقط الذي كان على سطح الكنيسة وهو الجامع اليوم وأما التمثال العالي فبقي على حاله بأعلى القصر فلما دخل عمرو بجواده سمعوا من التمثال صوتا عظيما ثم إنه سقط على وجهه فارتاع له الملك وأرباب دولته وصكوا وجوههم ودخل الرعب في قلوبهم وقالوا بلسانهم: ما وقع هذا التماثل إلا عند دخول هذا العربي وما جرى هذا إلا لأمر عظيم ولا شك أنه هو الذي يقلع دولتنا ويأخذ ملكنا فأمروا عمرا أن ينزل عن جواده فنزل وترجل وجلس حيث انتهى به المجلس وأمسك عنان جواده بيده ويده اليسرى على مقبض سيفه ونظر إلى زينتهم وزخرفة قصرهم فقرأ. : {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ، وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ، وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 33, 35] ثم قال اعلموا أن الدينا دار زوال وفناء والآخرة هي دار البقاء أما سمعتم ما كان من نبيكم عيسى وزهده وورعه كان لباسه الشعر ووساده الحجر وسراجه القمر وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم: "إن الله اوحى إلى عيسى أن نح على نفسك في الفلوات وعاتبها في الفلوات وسارع إلى الصلوات واستعمل الحسنات وتجنب السيئات وابك على نفسك بكاء من ودع الأهل والاولاد وأصبح وحيدا في البلاد وكن يقظان إذا نامت العيون خوفا من الأمر الذي لا بد أن يكون" فإذا كان روح الله وكلمته خوف بهذا التخويف فكيف يكون المكلف الضعيف وأول من تكلم في المهد قال إني عبد الله فإذا كان أقر لله بالعبودية فلم تنسبون إليه الربوبية تعالى الله ما اتخذ صاحبة ولا ولدا ولا أشرك في حكمه أحدا جل عن الصاحبة والاولاد والشركاء والاضداد لا صاحبه له ولا ولد ولا شريك له ولا وزير ليس لأوليته ابتداء ولا لآخريته انتهاء ولا يحويه مكان ليس بجسم فيمس ولا بجوهر فيحس لا يوصف بالسكون والحركات ولا بالحلول والكيفيات ولا تحتوي عليه الكميات ولا المنافع ولا المضرات ثم إنه قرأ: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً، لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً، وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم: 93, 95] فقال له الوزير: أصح عندكم معاشر العرب أن المسيح تكلم في المهد قال: نعم قالوا له: فهذه فضيلة قد انفرد بها عن جميع الأنبياء فقال عمرو قد تكلم في المهد أطفال منهم صاحب يوسف وصاحب جريج وصاحب الأخدود وغيرهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 فقالوا: يا عربي أتكلم نبيكم بغير العربية قال: لا قال الله في كتابه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [ابراهيم: 4] قالوا: أبعث الله منكم أنبياء غير نبيكم قال: نعم قالوا: من قال صالح وشعيب ولوط وهود قال فلما سمعوا كلام عمرو وفصاحته وجوابه الحاضر قالوا بالقبطية للملك: أن هذا العربي فصيح اللسان جريء الجنان ولا شك أنه المقدم على قومه وصاحب الجيش فلو قبضت عليه لانهزم أصحابه عنا قال: وغلام عمرو وردان يسمع ذلك فقال الملك انه لا يجوز لنا أن نغدر برسول لا سيما ونحن استدعيناه الينا فقال وردان بلسان آخر: ما قالوه ففهم عمرو كلامه. ثم أن الملك قال: يا أخا العرب ما الذي تريدون منا وما قصدنا أحد إلا ورجع بالخيبة وانا قد كاتبنا النوبة والبجاوة وكأنكم بهم قد وصلوا الينا فقال عمرو اننا لا نخاف من كثرة الجيوش والأمم وإن الله قد وعدنا النصر وإن يورثنا الأرض ونحن ندعوكم إلى خصلة من ثلاث اما الإسلام واما الجزية واما القتال فقالوا: انا لا نبرم أمرا إلا بمشورة الملك المقوقس وقد دخل خلوته ولكن يا أخا العرب ما نظن أن في اصحابك من هو أقوى منك جنانا ولا افصح منك لسانا فقال عمرو أنا ألكن لسانا ممن في صحابي ومنهم من لو تكلم لعلمت أني أقاس به فقال الملك هذا من المحال أن يكون فيهم مثلك فقال أن أحب الملك أن آتيه بعشرة منهم من يسمع خطابهم فقال الملك ارسل فاطلبهم فقال عمرو لا يأتون برسالة وإنما أن أراد الملك مضيت وأتيت بهم فقال الملك لوزرائه إذا حضروا قبضنا عليهم والأحد عشر أحسن من الواحد ووردان يفهم ذلك ثم أن الملك قال لعمرو امض ولا تبطىء علي فوثب عمرو قائما وركب جواده فقال الملك بالقبطية لاقتلنهم أجمعين فلما خرج من مصر قال له وردان: ما قاله الملك فلما وصل إلى الجيش أقبلت الصحابة وسلموا عليه وهم يقولون والله يا عمرو لقد ساءت بك الظنون فأقبل يحدثهم بما وقع له معهم وبما قالوه وبما قاله وردان فحمدوا الله على سلامته وكان أقبل الليل فلما أصبح صلى عمرو بالناس صلاة الفجر وأمرهم بالتأهب للقتال وإذا برسول الملك قد أقبل وقال له: أن الملك ينتظرك أنت والعشرة فقال عمرو أن الغدر يهلك أصحابه وأهله وإن على الباغي تدور الدوائر يا ويلكم ينفذ صاحبكم يطلب منا رسولا فلما أتيته أراد أن يقض علي وقال كذا وكذا فأنت يا ويلك ما الذي يمنعني عنك إذا أردت قتلك ولسنا نحن ممن يخون ويغدر ارجع إليه وقل له إني فهمت ما قاله وما بقي بيننا وبينه إلا الحرب قال ابن اسحق: رحمه الله ورضي عنه هكذا وقع له مع القبط وكان عمرو إذا ذكر ذلك يقول لا والذي نجاني من القبط قال: وعاد الرسول وأخبر الملك بما قاله عمرو فعند ذلك قال أريد أن أدبر حيلة أدهمهم بها فقال الوزير اعلم أيها الملك أن القوم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 متيقظون لأنفسهم لا يكاد أحد أن يصل إليهم بحيلة ولكن بلغني أن القوم لهم يوم في الجمعة يعظمونه كتعظيمنا يوم الاحد وهو عندهم يوم عظيم وأرى لهم من الرأي أن تكمن لهم كمينا مما يلي الجبل المقطم فإذا دخلوا في صلاتهم يأتي إليهم الكمين ويضع فيهم السيف قال فأجابه الملك إلى ذلك وأقاموا ينتظرون ليلة الجمعة قال: وأما عمرو فإنه ارسل يوقنا إلى القرى التي صالحوها ليأتيه منها بما يأكلونه ويعلفون به خيلهم قال فركب يوقنا إلى القرى التي صالحوها وسار في عسكره وبني عمه إلى ما يأتي به ومضى نحو الجرف وكان معهم جواسيس الملك في عسكرهم فاتوا إلى الملك وأخبروه بما جرى من المسلمين فعندها دعا بابن عمه ماسيوس وهو المقدم على جيوش مصر وقال له: اختر من جيوشنا أربعة آلاف وأمض بهم وأكمن وراء عسكر المسلمين من جهة الجبل وإياك أن يظهر عليكم أحد وليكن لكم ديدبان فإذا دخل القوم في صلاتهم فاحملوا عليهم وضعوا فيهم السيف قال ففعل ماسيوس ما أمره به الملك ومضى في الليل من نحو مغارة السودان ولم يعلم بهم أحد فلما كان وقت صلاة الجمعة أتاهم الديدبان وأعلمهم أنهم دخلوا في الصلاة وكانوا قد أخذوا بغالا ودواب وحملوها برا وشعيرا وكان قد قال لهم: إذا أردتم أن تحملوا عليهم فقدموا الحمول أمامكم فإنهم يأمنون ويحسبون أنها هي التي مضى صاحبهم يأتي بها قال ففعلوا ذلك. حدثنا ابن اسحق حدثنا عمارة بن وهب عن سعيد بن عامر سليمان بن ناقد عن عروة عن جابر عن محمد بن اسحق قال هكذا دبر عليهم القبط وكان بين القوم وبينهم نصف ميل وليس عند المسلمين خبر ما صنع المشركون وكان سعيد بن نوفل العدوي يقول لعمرو أيها الأمير ما الذي يمسكنا عن قتال هؤلاء القبط فيقول والله ما تأخري جزع وإنما قد علمتم قصد هذا الملك المقوقس وما عليه من الدين والعقل وهو مقر بنبوة نبينا وقد دخل إلى خلوته التي سنها لنفسه في هذا الشهر المعظم وقد بقي منه خمسة أيام ويظهر ونبعث إليه رسولا ونرى ما يكون جوابه فإما الصلح واما القتال قال فبينما هم يتحادثون في ذلك إذ أتاهم رسول من عند أرسطوليس بن المقوقس وقال لهم: معاشر العرب أن ولي عهد الملك يسلم عليكم ويقول لكم أني لا أقدر أن أحدث أمرا حتى يخرج الملك من خلوته وقد بقي له خمسة ايام وهو يدبر في رعيته بما يشاء فقال له عمرو: قد علمنا ذلك ولولا الملك وما نعلم منه أنه يحب نبينا وإنه مؤمن به ما أمهلناكم طرفة عين فمضى الرسول قال ابن اسحق: وما بعث هذا اللعين هذا الرسول إلا ليطمئن المسلمون وليقضي الله أمرا كان مفعولا وإذا جاء القدر لا ينفع الحذر وإذا أراد الله أمرا هيأ أسبابه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 قال الراوي: فكان المسلمون قد أطمأنت قلوبهم بذلك الخبر وقربت الصلاة فقام عمرو وخطبهم خطبة بليغة حذر فيها وأنذر فلما فرغ اقيمت الصلاة وأقاموا موإليهم يرقبون مخافة العدو أن يكبسهم في صلاتهم قال صابر بن قيس ونحن لا نرى أحدا من أهل مصر لا فارسا ولا راجلا قال فاصطففنا خلف عمرو للصلاة وليس بينا لنا عدو نخافه فلما أحرمنا وقرأ عمرو ركعنا وأومأنا للسجود إذ أشرفت الدواب والبغال وعلى ظهورها الأحمال والعسكر من ورائها وهم أهل الكمين الذي أكمنه أعداء الله وهم على عدد أصحابنا الذين مع يوقنا فلما رآهم موالينا ظنوا أنهم اصحابنا وقد أقبلوا بالعلوفة فرفعوا أصواتهم بالفرح وقالوا: جاء يوقنا وأصحابه ولم يكلمهم العدو حتى أتونا ونحن في الصلاة ووضعوا السيف فينا ونحن ساجدون السجدة الأخيرة ونحن بين يدي الله تعالى قال: وإذا بالسيوف تقرقع في لحومهم وما أحد منهم قام من سجوده وكان القتل في آخر صف من المصلين والصف الذي يليه وهم من اليمين ومن بجيلة ومن وادي القرى ومن الطائف ومن وادي نخلة ثم قال ابن عتبة وكنت قد شهدت وقائع الشام وحضرموت واليرموك فوالله ما قتل منا في وقعة من الوقائع مثل ما قتل منا يوم بحر الحصى في أرض مصر بالحيلة التي دبرها عدو الله علينا وقال: والله ما منا من انحرف عن صلاته ولا حول وجهه عن ربه وقد أيقنا بالهلاك عن آخرنا حتى أشرف علينا يوقنا باصحابه فلما نظروا ما حل بالمسلمين صاحوا ورموا ما على رؤوسهم من العمائم وقال يوقنا لبني عمه والله من قصر منكم عن عدوه فالله يطالبه به يوم القيامة وما أرى إلا أن الاعداء قد غدروا وكبسوا المسلمين فدوروا من حولهم وضعوا السيوف فيهم واحذروا أن ينفلت منهم أحدا فحملوا وأطبقوا على القبط فدفعوهم عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يزل القتال بينهم حتى فرغ عمرو من الصلاة ومن معه وثاروا ثوران الاسد وركب عمرو ومعاذ وسعيد بن زيد وجميع الصحابة وحملوا في العدو وطحنوهم طحنا قال جابر بن أوس وحلنا بينهم وبين الوصول إلى مصر فوالله ما نجا منهم أحدا وبقوا كأنهم طيور وقعت عليهم شبكة صياد فلما وضعت الحرب أوزارها هنأ المسلمون بعضهم بعضا بالسلامة وشكروا الله على ما أولاهم من نصره واثنوا على يوقنا خبرا وافتقدوا قتلاهم فكانوا أربعمائة وستة وثلاثين قد ختم الله لهم بالشهادة قال: واتصل الخبر إلى أرسطوليس بقتل ابن عمه ومن معه وانهم لم ينج منهم أحد فصعب عليه ذلك وأيقن بهلاكه فدعا ببطارقته وأرباب دولته وشاورهم في أمره فقالوا: أيها الملك أنت تعلم بأن الدنيا ما دامت لأحد ممن كان قبلك حتى تدوم لك وما زالت الملوك تنكسر وتعود وما أنت بأكثر ممن انهزم من ملوك الأرض وقد سمعنا أن داونوس بن اردين بن هرمز بن كنعان بن يزحور الفارسي هزمه الاسكندر الرومي سبعين مرة فاخرج إلى لقاء القوم واضرب معهم مصاف ولا تيأس وهؤلاء القسوس والرهبان والشمامسة والمطران والبترك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 يدعون لك بالنصر قال فعول على لقاء المسلمين وفتح خزائن أبيه وأنفق على الجند وأعطاهم السلاح وطلب شباب مصر وأمرهم بالخروج وبعث يستنجد بملك النوبة وملك البجاوة وأقام مدة ينتظر قدومهم. قال: حدثنا محمد بن اسحق القرشي عن عقبة بن صفوان عن عبد الرحمن بن جبير عن أبيه قال لما كان من أمر المسلمين ما ذكرنا مما قد قدره الله عليهم من كبسة عدوهم كتب بذلك عمرو بن العاص الىعمر بن الخطاب رضي الله عنه بسم الله الرحمن الرحيم من عمرو ابن العاص إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب سلام عليك وإني أحمدج الله اليك وأصلي على نبيه أما بعد فقد وصلت إلى مصر سالما وجرى لنا على بلدة بلبيس مع ابنة المقوقس كذا وكذا ونصرنا الله عليهم ورحلنا إلى بحر الحصى وقد كنا صالحنا قوما من أهل قرى بلاد مصر ببلاد يقال لها الجرف حتى يعينونا بالعلوفة والميرة ويجلبوا الينا الطعام وإني أرسلت عبد الله يوقنا ليشتري لنا منهم طعاما ومضى في خيله وسرت بنفسي رسولا إلى مخاطبة القوم فهموا بالقبض علي ونجاني الله منهم وانهم أكمنوا لنا كمينا من الليل واشغلونا برسول والكمين كان من الليل فلما استوت صفوفنا للصلاة كبسوا علينا ونحن في الصلاة فلم نشعر حتى بذلوا فينا السيف وقتلوا منا اربعمائة وستة وثلاثين رجلا والاعيان منهم ستون ختم الله لهم بالشهادة ونحن الآن في بحر متلاطم أمواجه من كثرة القوم والعساكر فانجدنا يا أمير المؤمنين وأدركنا بعسكر ليعيننا على عدونا والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وختم الكتاب واعطاه عبد الله بن قرط فسار من ساعته وجد في السير إلى أن وصل المدينة فقدمها في العشر الاوسط من شوال سنة اثنين وعشرين من الهجرة فأناخ مطيته بباب المسجد ودخل فرأى عمر بن الخطاب عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ابن قرط فدفعت الكتاب إليه فنظر الي وقال عبد الله قلت نعم قال من أين أتيت قلت من مصر من عند عمرو بن العاص قال مرحبا بك يا ابن قرط ثم فك الكتاب وقرأه وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ثم قال من ترك الحزم وراء ظهره تباعدت عنه فسيحات الخطأ ووالله ما علمت عميرا إلا حازم الرأي مليح التدبير ضابط الأمر حسن السياسة ولكن إذا نزل القضاء عمي البصر ثم إنه كتب كتابا إلى أبي عبيدة وذكر له ما جرى لعمرو بن العاص بمصر وأمره أن ينفذ إليه جيشا عرمرما وانفذ الكتاب مع سالم مولى أبي عبيدة قال عبد الله بن قرط فاقمت في المدينة يومين واستأذنته في المسير فزودني من بيت المال وكتب الىعمرو يقول بسم الله الرحمن الرحيم من عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص أما بعد فإني أحمد لاله الذي لا إله إلا هو وأصلي وأسلم على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وقد بلغني ما جرى لكم بمصر من غدر عدوكم كما سبق في أم الكتاب وكان يجب عليك يا بن العاص أن لا تطمئن إلى عدوك ولا تسمع منه حيلة وما كنت أعرفك إلا حسن الرأي والتدبير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا فاستعمل النشاط في أمرك ولا تامن لعدوك واستعمل الحذر فإن الامام ما يكون إلا على حذر والله يعيننا وإياك على طاعته وقد أنفذت إلى أبي عبيدة أن يرسل اليكم جيشا والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وختمه وسلمه لعبد الله ابن قرط قال فأخذته وسرت وأنا أجد السير حتى أتيت مصر ودفعت الكتاب لعمرو بن العاص فقرأه على المسلمين ففرحوا بذلك وأقاموا ينتظرون اخوانهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 كبسة الجيش . حدثني ابن اسحق حدثني سهل بن عبد ربه عن موسى عبد الرزاق قال لما كبس ابن المقوقس جيش المسلمين ورجعت دائرة السوء عليه وقتلوا عن آخرهم وبلغه الخبر بكى على ابن عمه وحلف بما يعتقده من دينه انه لا بد له أن يأخذ بثأرهم ثم إنه أمر أرباب دولته أن يجتمعوا بالكنيسة المعلقة في داخل قصر الشمع فاجتمعوا فجلس على سرير عند المذبح وقام فيهم خطيبا فقال: يا أهل دين النصرانية وبني ماء المعمودية اعلموا أن ملككم عقيم وبلدكم عظيم وهذه بلاد الفراعنة ممن كان قبلكم وقد ملكها عدة ملوك ممن احتوى على الاقاليم وملكها مثل الملك المعظم من آل حمير ومثل مستفان والبستق والملحان وهو يأتي هذه الاهرام ونمرود ابن كنعان ولقمان بن عاد وذي القرنين الملك العظيم وانقضى ملكهم منها ورجع إلى سبأ وأرضها وحضرموت وقصر عمان ثم تولى هذه الأرض القبط من آبائكم وأجدادكم اطسليس وبلينوس والريان بن الوليد وهو الذي استخلص يوسف لنفسه والوليد وهو المكنى بفرعون وبعدهم طبلهاوس ثم جدي راعيل ثم أبي المقوقس وجميع ملوك الأرض تحسدنا على ملك مصر وهؤلاء العرب الطماعة وليس في العرب أطمع منهم فإني أراكم قد كسلتم وفشلتم عن لقائهم فطمعوا فيكم وفي ملككم كما طمعوا في ملك الشام وانتزعوه من أيدي القياصرة فقاتلوا عن أموالكم وحريمكم وأولادكم وأما أنا فواحد منكم وأعلموا أن الملك المقوقس قد أمرني بلقاء هؤلاء العرب وقال انه لا يظهر إليهم حتى أرى ما يظهر من قومي وأرباب دولتي فما تقولون وما الذي اجتمع عليه رأيكم فقالوا: أيها الملك إنما نحن عبيد هذه الدولة وغلمانها فإنها قد استعبدت رقابنا بنعمتها واحسانها ونحن نقاتل لمحبتها فإما أن نرزق النصر من المسيح واما أن نموت فنستريح قال فشكر قولهم وخلع على أكابرهم وقال لهم: اخرجوا واضربوا خيامكم ظاهر البلد مع القوم وطاولوهم بالمبادرة إلى أن يأتي الينا نجدة من ملك النوبة والبجاوة فأجابوا إلى ذلك وأمروا غلمانهم بأن يضربوا الخيام خارج البلد فضربوها مما يلي النور والرصد. قال ابن اسحق: وفي ليلتهم تلك جاءتهم الأخبار بأنه وقع بين ملك النوبة وملك البجاوة حرب وإنه ما يجيبكم منهم أحد وأخرجوا للملك ارمطوليس سرادقا معظما وسط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 جيش القبط قال: وأخذ المسلمون على أنفسهم واقبلوا يخرصون بعضهم ويحرسون قومهم بالنوبة فكان عمرو في أول الليل يطوف حول العسكر ومعاذ إذا انتصف الليل ويزيد بن أبي سفيان في آخر الليل والنور على عسكرهم والإيمان لائح عليهم وأصواتهم مرتفعة بالقرآن وبذكر الله وبالصلاة على نبيه صلى الله عليه وسلم قال ابن اسحق: فلما وصل كتاب عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة وقرأه على المسلمين قال لخالد بن الوليد يا أبا سليمان ما ترى من الرأي فقال إذا كان أمير المؤمنين أمرك أن تنجد عمرو بن العاص فانجده فقال أبو عبيدة أن الطريق إلى مصر بعيد وإن أنا ارسلت جيشا كبيرا خفت عليه من بعد الطريق ومن المشقة فقال خالد: كم جهدك أن ترسل قال أربعة آلاف فارس فقال خالد: أن الله كفاك ذلك قال: وكيف ذلك يا أبا سليمان قال أن عزمت على ما ذكرت فابعث أربعة من المسلمين فهم مقام أربعة آلاف فارس فقال أبو عبيدة من الأربعة قال خالد: أنا أحد الأربعة والمقداد بن الاسود وعمار بن ياسر ومالك بن الحرث فلما سمع أبو عبيدة ذلك تهلل وجهه وقال: يا أبا سليمان أفعل ما تراه فدعاهم خالد وأعلمهم بما عزم عليه فقالوا: سمعا وطاعة فقال خذوا أنفسكم فنحن نسير هذه الليلة قال فلما صلى أبو عبيدة بالناس صلاة المغرب قدم الثلاثة إلى قبة خالد فركبوا وودعوا أبا عبيدة والمسلمين وأخذوا معهم دليلا يدلهم على الطريق إلى وادي موسى والشوبك وأخذوا معهم ما يحتاجون إليه وساروا يريدون مصر فما زالوا يجدون إلى أن قربوا من عقبة ايلة وإذا هم بخيل ومطايا تزيد على الف فارس فأسرعوا إليهم فإذا هم من ثقيف وطي ومرداس قد وجههم عمر بن الخطاب إلى مصر مع رفاعة بن قيس وبشار بن عون قال فلما رأوهم سلموا عليهم ورحبوا بهم واستبشروا بالنصر لما رأوا خالد وعمارا والمقداد ومالكا وارتفعت أصواتهم بالتهليل والتكبير وساروا بأجمعهم. قال: حدثنا يوسف بن يحيى عن دارم عن منصور بن ثابت قال كنت في جملة الوفد الذي وجهه عمر رضي الله عنه مع رفاعه وبشار والتقينا بخالد بن الوليد وأصحابه عند عقبة أيلة وسرنا معهم حتى وصلنا أرض مصر وقربنا وبقي بيننا وبينها يومان فبينما نحن نسير في بعض الليالي وكانت ليلة مظلمة لا يكاد الرجل أن يرى من شدة الظلام إذ سمعنا حسا بالبعد منا فوقفنا فقال خالد: أيكم يأتينا يا فتيان العرب بخبر هؤلاء الذين في هذا الجيش قال نصر بن ثابت وكنت راكبا فقفزت من ظهر الراحلة وسعيت على قدمي وأخفيت حسي إلى أن تبين لي جيش كثير فتحققت أمرهم فإذا هم جيش من العرب المتنصرة وهم يزيدون على ثلاثة آلاف وهم ركبان المطايا والخيل فقلت والله لاعدت إلى أصحابي إلا بالخبر اليقين قال فاتبعت أثرهم لأسمع ما يقولون وما يتحدثون فمشيت معهم قليلا فاسمعهم يقولون أذل الصليب أعداءنا فإنا قد أصابنا التعب ولحقنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 الجهد ومن وقت خروجنا من مدين لم نجد أحد ومصر قد قربنا منها فانزلوا لنأخذ راحة ونريح مطايانا ونعلق على خيلنا وإذا بمقدمهم يقول وحق المسيح ما بغيتنا إلا في الخلع والأموال من ملك مصر ولكن إذ عولتم على الراحة فانزلوا قال فنزل القوم على ماء يعرف بالغدير واقبلوا يجمعون الشيح ويصنعون لهم الزاد وعلقوا على خيولهم وتركوا ابلهم ترعى قال نصر بن ثابت فعلمت أن القوم من متنصرة العرب فتركتهم وأتيت إلى أصحابي وحدثتهم بذلك فحمدوا الله كثيرا واثنوا عليه وقالوا لخالد: ما الذي ترى فقال أرى أن تركبوا خيلكم الآن وتستعدوا للحرب ونسير إليهم ونكبسهم فإنهم قد أتوا لنصرة صاحب مصر وما أتوه إلا بمكاتبة لهم يستنجد بهم على أصحابنا قال فلبسوا سلاحهم وركبوا الخيل وتركوا موإليهم مع المطايا والرجال وساروا خيلا ورجالا إلى أن قربوا من نيران القوم فصبروا حتى خمدت وناموا فتسللوا عليهم كتسلل القطاة فقال خالد: دوروا بالقوم ولا تدعوا أحد منهم ينفلت من ايديكم فيثير عليكم عدوكم قال فداروا بهم كدوران البياض بسواد الحدق وأعلنوا بالتهليل والتكبير ووضعوا فيهم السيف فما استيقظ أعداء الله إلا والسيف يعمل فيهم ووقعت الدهشة في القوم وهم في أثر النوم فقتل بعضهم بعضا ووقف ابن قيس ومعه جماعة على البعد منهم وبشار ورفقته وكل من انهزم أخذوه فلما أصبحنا راينا القتلى منهم ألفا وأسرنا منهم ألفا فعرضوهم على خالد فقال: حدثوني من أين جئتم والى أين مقصدكم. فقالوا: أنا قوم من المتنصرة العرب وكلنا كنا أصحاب الشام فلما هزمتم الملك هرقل رحلنا من أرض الشام ونزلنا أرض مدين ونحن على خوف منكم وكاتبنا صاحب مصر وهو المقوقس لعله أن يأذن لنا أن نكون من أصحابه ونكون له عونا عليكم فلما أجابنا إلى ذلك بعثنا الخيل العربية إلى ولي عهده وصاحب الأمر من بعده فلما كان في هذه الايام جاءتنا خلعة ورسالة بالدخول إلى مصر فرحلنا إليهم فوقعتم بنا فلما سمع خالد منهم ذلك قال من حفر لمسلم قليبا أوقعه الله فيه قريبا ثم عرض عليهم الإسلام فابوا فأمر بقتلهم فقتلناهم عن آخرهم وقسمنا رحالهم وما كان معهم ووجدنا معهم الخلع التي وجهها إليهم ابن المقوقس ففرقها خالد على المسلمين وفيها خلعة سنية وكانت لمقدم القوم فأعطاها رفاعة وساروا حتى قربوا من الجبل المقطم فرأوا جيش القبط فأرسل خالد رجلا من قبله وهو نصر بن ثابت وقال له: امض إلى هذا الملك وقل له أن العرب أصحاب مدين قد أتوا لنصرتك قال فمضى الرجل إلى أن وصل إلى عسكر القبط فأخذه الحرس وقالوا له: من أنت قال أنا مبشر الملك بقدوم العرب المتنصرة إلى نصرته قال ابن اسحق: فأخذوا نصر بن ثابت وأتوا به إلى سرادق الملك قال فلما وقفت بين يديه ناداني الحجاب أن اسجد للملك ففعلت وأنا أسجد لله تعالى حتى لا ينكروا علي وكان قد صح عندهم أنه من امتنع من السجود فهو مسلم قال فلما رفعت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 رأسي قال لي الوزير: يا أخا العرب أوصل أصحابك إلى نصرة الملك فقلت نعم وها هم في دير الجبل المقطم قال فلما سمع الملك ذلك أمر من حجابه اناسا أن يمضوا إلى لقائهم وسرت في جملتهم وأخذوا معهم الجنائب وأظهروا زي الفراعنة وخلع على نصر بن ثابت عوض بشارته وساروا إلى لقاء المتنصرة. قال: حدثنا عسكر بن حسان بن رفاعة بن وس عن موسى بن عون عن جده نعيم بن مرة قال كنت فيمن وجه عمر بن الخطاب من أهل نخلة وكان خالد يحبني ويقربني لأن أبي كان يسافر له ببضاعة إلى سوق بصرى قال فلما رأى خالد أصحاب الملك قد أتوا قال لي خالد: يا ابن مرة أريد أن أوصيك فقلت بماذا قال اعلم أن العدو قد أرسل يلاقينا وهو يظن أننا من متنصرة العرب ولا شك أن عمرو بن العاص ومن معه تجفل قلوبهم منا وأريد أن تنزل عن فرسك وتكمن خلف هذه الحجارة فإذا خلا لك الطريق فانسل نحو عسكر المسلمين وحدثهم بأمرنا وما قد عزمنا عليه من غدر القوم فإن عمر لا يطمئن لغيرك وأقرئه سلامي وقل له يكن على أهبة فإذا سمع تكبيرنا يأمر أصحابه أن يرفعوا أصواتهم بالتهليل والتكبير فإن ذلك مما يزيد في رعب أعدائنا فقال: نعم قال: وفعلت كما أمرني خالد ونزلت عن فرسي وأسلمتها لغلامي دارم ومضيت نحو الجبل وكمنت بين الأحجار. قال الراوي: وإن خالد أمر أصحابه بلبس الخلع التي أرسلها لهم ابن المقوقس فلبسوها فوق دروعهم ولبس رفاعة بن قيس وبشار بن عون أحسنها وغير خالد زيه والمقداد وعمار ومالك الاشتر قال فلما وصل مقدم جيش القبط قال خالد لرفاعة وبشار: ترجلوا له واصقعوا بين يديه وصلبوا على وجوهكم فليس عليكم في ذلك حرج واحلفوا بالمسيح والسيدة مريم وإياكم والغلط بأن تذكروا محمدا صلى الله عليه وسلم فيظن القوم بنا واجعلوا الجهاد نصب أعينكم وتوكلوا على الله في جميع أموركم قال ففعلوا ما قال لهم خالد: وترجلوا عند رسول القبط وصقعوا. قال: حدثنا نصر بن عبد الله عن عامر بن هبار قال: يا عم اعلم أن الله إذا أراد أمرا هيأ أسبابه وذلك أننا لما أشرفنا على اول ديار مصر نزلنا على دير يقال له دير مرقص: وكان ديرا عامرا بالرهبان فلما نزلنا عليه أشرف علينا أهله وقالوا: من أنتم قلنا نحن من أصحاب الملك هرقل ملك الشام وقد جئنا لنصرة صاحبكم فإنه قد أرسل الينا يستنفرنا لأجل هؤلاء العرب قال ففرحوا بنا ودعوا لنا وكان كبيرهم والمقدم عليهم في دينهم شيخا كبيرا وكان من قسوس الشام وكان من أعلم القوم بدينهم وأعرف الناس بآل غسان وكانت الضيحا قد أقطعها هرقل للملك جبلة ابن الأيهم وكان قد جعل على جبايتها ولد هذا القس وكان اسمه نونلس وإن المسلمين لما فتحوا بعلبك وحمص هرب هذا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 القس بأمواله وأولاده إلى طرابلس وركب البحر في مركب وتوصل إلى مصر وبلغ خبره المقوقس فأحضره وسأله عن حاله فحدثه بأمره فخلع عليه وجعله قيما في الكنيسة المعلقة التي في قصر الشمع وصار من أصحاب سكناه في دير مرقص ولا يدخل مصر إلا في أمر مهم فلما نزل عمرو بمن معه عليهم وقتل ابن المقوقس اباه احتاج إلى رأي البترك فارسل إليه وأنزله في الكنيسة وولي البترك مكان هذا القس نونلس بن لوقا فكان في الدير فلما نزل خالد بن الوليد ومن معه على الدير قال عامر بن المبارك الثعلبي فأشرف علينا وتأملنا وكان أعرف الناس بخالد ابن الوليد لانه رآه في مواطن كثيرة من الشام وكان صاحب حمص قد أرسله رسولا إلى أبي عبيدة ليصالحوهم قال فجعل يتفقدهم وينظر في وجوههم ثم قال: وحق المسيح ما أنتم من آل غسان وما أنتم إلا من عرب الحجاز وقد جئتم لتحتالوا علينا فإني رأيت أمامكم الذي فتح الشام وقتل ملوكها وسوف أكاتب الملك بقصتكم ليقبض عليكم فقالوا: ما عندنا خبر من الذي تقوله وقد خيل لك ذلك أما علمت أن المسلمين ما خلوا لنا حالا وقد نهبونا وأصبحنا بالذل بعد العز والفقر بعد الغنى وقد كتب الينا ملك مصر بأن نجيء إليه فأرسل الينا بالخلع وطيب قلوبنا قال عامر فضحك اللعين من قولي وقال لي: أن آل غسان أكثرهم يعرف بكلام الروم وحق ديني ما أنتم منهم وقد صح قولي إنكم مسلمون فقلنا له يا ويلك لو كنا من الذين تقول عنهم ما كنا نأتيكم بالنهار وكنا نكمن ونسير في الليل حتى نصل إلى أصحابنا وأنك استحقرت المسيح إذ جعلتنا من أصحاب محمد فقد وقعت في ذنب عظيم ثم اننا بالقرب منهم فقال أصحابه يا أبانا ليس هؤلاء القوم ممن ذكرت فلوا كانوا مسلمين ما جسروا أن يدخلوا أرض مصر في ضوء النهار ولا يقربوا العمران فقال: وحق ديني أنا أعرف الناس بهم وانهم مسلمون بلا شك فامتنعوا منهم ولا تخرجوا لهم طعاما ولا ماء وسأنفذ خبرا للملك بذلك فيكون منهم على حذر قال عامر بن هبار وكان من لطف الله بنا أن الرهبان الذين بالدير لما سمعوا كلامه قال بعضهم لبعض يجب علينا أن نأخذ لنا منهم صلحا فنكون آمنين من غائلتهم ولا نبرح من ديرنا هذا فقال أكبرهم أن أنتم فعلتم ذلك فاننا لا نعلم من ينصر من الفريقين أصحابنا أم العرب فإن كان النصر لأصحابنا خفنا من هذا القس أن يعلم بنا الملك أننا صالحنا المسلمين بغير أمره فإنه يقتلنا وإن هذا اللعين تعلمون أنه على غير مذهبنا وهو في كل يوم يكفرنا لانه نسطوري ونحن يعقوبية فإن أنتم أردتم صلح هؤلاء العرب فدونكم وهذا القس فاقبضوا عليه وسلموه لهم وخذوا منهم أمانا قال ففعلوا ذلك وقبضوا عليه وأشرفوا علينا وقالوا لنا بحق ما تعتقدون من دينكم أنتم من أصحاب محمد أم لا فانا قد قبضنا على هذا اللعين ونريد أن نسلمه لكم وإنكم تعطوننا أمانا فأنا قوم لا نعرف حربا ولا قتالا فقال لهم مالك الاشتر: يا هؤلاء اما ما زعمتم من صلحنا فانا نصالحكم وما كان أمرنا بالذي يخفى ولا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 نرضى بالكذب فإنه أشنع شيء عندنا ولا سيما أن الإسلام يمنعنا من استعماله ولو أن السيف على رأس أحدنا إذا سئل عن دينه أجاب به وتكلم بوحدانية الله تعالى ونحن من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ولكم الأمان وهذا أمان الله ورسوله. قال فلما سمع الرهبان من مالك ذلك نزلوا وفتحوا الباب وسلموا لنا القس فقال له خالد: يا عدو الله أردت أمرا وأراد الله خلافه ثم إنه عرض عليه الإسلام فأبى وقال أنا هربت منكم من الشام ثم أوقعني المسيح في أيديكم وما أظن إلا أن المسيح مسلم فافعل ما أردت فضربوا عنقه قال عامر بن هبار وخرج الينا أهل الدير بأجمعهم ومعهم الطعام والعلوفة فأكلنا وأقمنا عندهم إلى الليل فقال شيخهم الذي اشار عليهم بقبض القس الرومي لخالد أيها السيد إني قد تفرست فيك الشجاعة فبالله من أنت من أصحاب محمد فقال: أنا خالد بن الوليد المخزومي فقال: أنت وحق ديني الذي فتحت بلاد الشام وأذللت ملوكها وبطارقها وإن صفتك عندي ثم إنه دخل الدير وأتى ومعه سفط ففتحه وإذا فيه بين أوراقه ورقة وفيها صفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وزيه وصورته وصورة أبي عبيدة وصورة خالد بن الوليد والسيف في يده مشهور قال: ما زلت أسمع أخبارك كلها فلم عزلك عمر بن الخطاب وولى غيرك فقال خالد: أعلم أن عمر هو الامام وهو الخليفة ومهما أمرنا فلا نخالفه فإن الله أمرنا بذلك في كتابه فقال تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] فطاعته فرض علينا لانه يحكم بالعدل ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وانا قد وجهنا إليه خمس الغنائم من الفتوح كلها من الأموال فما ازداد في الدنيا إلا زهدا ولا آثر الدنيا على الآخرة بل مجلسه على التراب ولباسه المرقعة ويمشي في سوق المدينة متواضعا راجلا فالتواضع لباسه والتقوى أساسه والذكر شعاره والعدل في الرعية دثاره وما زال يعطف على اليتيم ويرفق بالأرملة والمسكين ويرفد أبناء السبيل فظ في دين الله غليظ على أعداء الله قائم بشعائر الله لا يستحي من الحق ولا يداهن الخلق فقال القس أكانت له الهيبة على عهد نبيكم قال خالد: نعم سمعت سعد بن أبي وقاص يقول استأذن يوما عمر فأذن له فدخل ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك فقال عمر أضحك الله سنك يا رسول الله قال: "عجبت من هؤلاء اللواتي كن عندي فلما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب" فقال عمر أنت أحق أن يهبنك وقال لهن يا عدوات أنفسكن أتهبنني ولا تهبن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلن نعم أنت فظ غليظ دون رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكا فجا إلا سلك فجا غيره" قال فلما سمع القس ذلك قال بركة نبيكم عادت على امامكم وعليكم فقال خالد: وما يمنعك من الدخول في دينننا فقال حتى يشاء صاحب هذه الخضراء ثم قال لخالد أريد أن أعطيكم من صلبان هذا الدير حتى تكمل حيلتكم قال: وأخرج لهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 صلبانا كثيرة فأخذها خالد ودفعها لرفاعة بن قيس وبشار بن عون وتزيوا بزي الذين قتلوهم من آل غسان وارتحل خالد بعد ما وكل بالدير عشرة من أهل وادي القرى لئلا يخرج أحد بأخبارهم ويقربوا للملك بذلك قال: وعدنا إلى سياق الحديث فلما أشرف أصحاب ابن المقوقس عليهم راوهم وقد لبسوا خلع الملك وعلقوا الصلبان وشدوا الزنانير ورفعوا صليبا من فضة كان قد أخرجه لهم القس فلما صقعوا للحجاب ركبوا وساروا حتى وصلوا إلى سرادق الملك فترجلوا وقد أخذوا لهم اذنا فأذن لهم فدخلوا ودخل أولهم رفاعة وبشار ومن معه وخدموا الملك وسجدوا له ولم يدخل خالد ومن معه ووقفوا مع بقية العرب خارج السرادق وإن الملك لما رآهم قال لهم: يا معاشر العرب أنتم تعلمون محبتنا لكم وتقريبنا لكم وقد طلبتم أن تكونوا لنا عونا على هؤلاء العرب فإن نصحتم لنا في دولتنا شاركناكم في مملكتنا وقاسمناكم في ملكنا ونعمتنا فقال له رفاعة: أبشر أيها الملك سوف ترى ما نبذله في محبتك يوم الحرب قال فخلع عليه وخرج من عنده وأمرلهم بخيام تضرب في عسكرهم. قال: حدثنا عامر بن أوس عن جرير بن صاعد عن نوفل بن غانم عن سهل بن مسروق قال لما قدم الجيش الذي وجه عمر بن الخطاب مع رفاعة وبشار وكان من أمرهم ما ذكرناه ونظر إليهم عمرو بن العاص ومن معه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اقبلوا ينظرون إليهم والى زيهم فقال معاذ لعمرو ما هؤلاء من المتنصرة وإن نفسي تأبى ذلك فقال عمرو والله يا أبا عبد الرحمن لقد نظرت بنور الله وانني نظرت فيهم واحدا واحدا ورأيتهم بزي وادي القرى وزي الطائف فقال شرحبيل بن حسنة وأنا نظرت أعجب من ذلك أني رأيت خالد بن الوليد في جملتهم ولاحت لي عمامته وقلنسوته وثيابه التي كانت عليه يوم دخول طرابلس فقال يزيد بن أبي سفيان أنا والله رأيت مالكا الاشتر النخعي وعرفته بطول قامته وركبته على فرسه ثم قالوا: لا بد أن ينكشف لنا خبرهم على جليته فهم في الحديث إذ قد اتاهم نعيم بن مرة فلما رأوه تهللت وجوههم فرحا وسرورا فلما وصل إليهم وسلم عليهم وحدثهم بالحديث كله سجدوا لله شكرا وقال بعضهم لبعض ايقظوا هممكم وكونوا على يقظة من أمركم فإذا سمعتم التكبير في عسكر العدو فبادروا إليهم قال ابن اسحق: ولله في خلقه تدبير وذلك أنه لما جن الليل جمع أرسطوليس بن المقوقس أرباب دولته وقال لهم: قد ضاق صدري من هؤلاء العرب وقال لهم: قد غلا السعر عندنا لأن أهل البلاد قد أجلت من خوفهم وإن خيلهم تضرب إلى الريف من هذا الجانب والى الصعيد من هذا الجانب والنوبة والبجاوة ما يأتينا منهما أحد للفتنة التي هي بينهم والرأي عندي أن نحارب هؤلاء العرب صبيحة عيدهم قالوا: أيها الملك هذا هو الرأي فقال أخرجوا السلاح وفرقوه على من ليس معه سلاح هذا ما جرى عنده وليس عنده خبر بما جرى في قصره بعد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 نتائج المعركة قال ابن اسحق: وكان من حسن تدبير الله تعالى لعباده المؤمنين انه كان للمقوقس أخ شقيق واسمه ارجانوس وكانا متحابين وكان المقومس لا يقطع أمرا دونه وكانا إذا ركبا لا يفترقان وإذا جلسا يجلسان معا على السرير وكان المقوقس قد دخل في خلوته التي ذكرنا وكان أخوه من محبته قد رتب هناك من يعرفه لما يخرج من خلوته فلما كان في هذه النوبة استبطأه فأتى إلى ابن أخيه فرآه على السرير فقال له: ما فعل الملك فقال: انه في خلوته إلى الآن وقد رأى أن طالعه ضعيف مع هؤلاء العرب وقد أمرني أن أكون مكانه حتى يرى ما يريد من قتالهم أو صلحهم قال فكتم ارجانوس الأمر في نفسه وعلم أن أخاه قد قتل وكان ارجانوس ممن يعتقد نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ويعلم أن دعوته تطوف المشرق والمغرب وإن الملوك تضمحل في أيام أصحابه وسينزلون على البلاد فترك أرجانوس الأمر موقوفا ولم يبد ما في نفسه لآحد فلما خرج ابن أخيه مع العسكر جمع ارجانوس الذين تركهم ابن أخيه لحفظ البلد في قصر الشمع وقال لهم: اعلموا أن العقل هو عمدة قوى ابن آدم لأن الله قد خصه به دون سائر المخلوقات وإن أخي قد قتله ولده لا محالة وقد كان محبا لكم ومشفقا عليكم واعلموا أن هؤلاء العرب قد كان قدامهم من ملكه أعظم من ملككم وما ثبت بين ايديهم وليس بين دولتكم وبين أن تزول وتضمحل إلا أن يلتقي هذان الجيشان وإن ظفر بكم هؤلاء العرب قتلوكم ونهبوكم وسكنوا في مساكنكم وأيتموا أولادكم فقالوا: أيها الملك فما يكون عندك من الرأي وما تفعل قال إني أرى من الرأي أن تستيقظوا لأنفسكم وتغلقوا أبواب هذا القصر ولا تدعوا أحدا يدخل عليكم من جند الملك ولا هو نفسه فإنهم لا يقدرون أن يقاتلوكم والعرب من ورائهم وإنه يعدي إلى الجانب الغربي ويمضي الي اسكندرية ونعقد لنا صلحا مع هؤلاء العرب على أنفسنا وأولادنا وحريمنا ونسلم لهم بعد ذلك فمن أراد يتبعهم ومن أراد يعطيهم الجزية قال فاستصوبوا رأيه واعلموا أنه نطق بالحق كان أرجانوس له في سرايته ألف مملوك قال فاحتوى على قصر الملك وأخذ الخزائن والأموال وغلق أبواب قصر الشمع وفعل ما فعل وليس عند ابن أخيه خبر إلى أن ذهب من الليل نصفه أو أكثر فجاء إليه بعض خدمه وأخبره بما فعل عمه فأيقن بتلفه وخروج ملك مصر منه قال فبينما هو في حيرة في أمره إذ كبر خالد بن الوليد ومن معه في وسط عسكره فسمع عمرو وأصحابه التكبير فكبروا ووقعت الخذلة على الكفار وحملت فيهم المسلمون ووضعوا فيهم السيوف فلما نظر أرسطوليس إلى ما نزل به والكبسة التي وقعت بعسكره لم يكن له دأب إلا أن ركب وأحدقت به مماليك أبيه وأرباب دولته وطلبوا الهزيمة وقصدوا البحر وعدوا الجانب الغربي وطلبوا اسكندرية فحازوا على مدينة مريوط وفيها الموبذان الساقي ومعه ثلاث آلاف من عسكره فلما صاح الصائح في مصر بأن الملك انهزم وما ثبت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 أحد من عسكر القبط وولوا والسيف يعمل فيهم وغرق منهم في البحر خلق كثير ونصر الله المسلمين وانهزموا. قال ابن اسحق: حدثني من أثق به أنه قتل في تلك الليلة من عسكر القبط خمسة آلاف وغنم المسلمون أثقالهم وما كان فيها من الأموال فلما أقبل الصباح اجتمع خالد بالمسلمين وسلم بعضهم على بعض وهنوهم بالسلامة ودخلوا مصر وملكوا دورها وأحاطوا بقصر الشمع فأشرف عليهم أرجانوس بن راعيل أخو المقوقس وقال لهم: يا فتيان العرب اعلموا أن الله قد أمدكم بالنصر وقد فعلت في حقكم كذا وكذا ولولا حيلتي على ابن اخي لما انهزم منكم وقد ظفرتم الآن ونحن نسلم اليكم على شرط أنكم لا تتعرضون لنا ولا تمدون أيديكم لنا بسوء ومن أراد منا أن يبقى على دينه يؤدي الجزية ومن أراد أن يتبعكم يتبعكم فقال له معاذ بن جبل: قد نصرنا الله على الكفار بصدق نياتنا وصلح أعمالنا واتباعنا للحق وانا ما قلنا قولا إلا وفيناه ولا استعملنا الغدر ولا المكر وأنتم لكم الأمان على أنفسكم وأموالكم وحريمكم وأولادكم ومن بقي منكم على دينه فلن نكرهه ومن اتبع ديننا فله ما لنا وعليه ما علينا فلما سمع أرجانوس ذلك نزل إليهم بالمفاتيح فأمنوه وأمنوا من كان معه في القصر وجمعوا أكابر مصر ومشايخها وقالوا: لهم أن الله قد نصرنا عليكم وقد انهزم ملككم منا وأنتم الآن في قبضتنا وقد صرتم مماليكنا ومن أسلم منكم قبلناه ومن أبي استعبدناه فقالوا: أيها الملك ما هكذا بلغنا عنكم قال: وما الذي بلغكم عنا قالوا: سمعنا عنكم أن الله قد أسكن الرحمة في قلوبكم وأنتم تعفون عمن ظلمكم وتحسنون إلى من أساء اليكم وأنت تعلم أننا قوم محكوم علينا ولو كان الأمر الينا لاتبعناكم فارفقوا بنا وانظروا في أحوالنا فقال عمرو لأصحابه وللأمراء ما ترون من الرأي في أمر هؤلاء القوم. فقال شرحبيل ابن حسنة اصنع ما أمر الله به من العدل فيهم وأحسن إليهم وطيب خواطرهم فاننا إذا قصدنا غير هذه المدينة وسمع أيها الأمير عنك أهل المدينة الأخرى بما فعلته مع أهل مصر يسلمون بغير منازعة ولا حرب فقال معاذ بن جبل وخالد بن الوليد والمقداد وعمار ومالك وربيعة ويزيد القول الذي قاله كاتب وحي رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المعمول به فقال عمرو لأهل مصر قد أمناكم على أنفسكم وأولادكم وحريمكم منه منا عليكم وقد وضعت عنكم جزية هذه السنة وفي السنة الآتية نأخذ منكم الجزية من كل محتلم أربعة دنانير ومن أسلم منكم قبلناه قال فلما سمع أرجانوس ابن راعيل كلام عمرو قال لقد أنصفت وإن الله بهذا نصركم وقد وقفت الآن على صحة دينكم وأنا أشهد أن الله وحده لا شريك له وإن محمدا عبده ورسوله واشهدوا على أن كل ما تركه أخي من الأموال والأصول والثياب والمتاع هو هبة مني اليكم بما فعلتم مع أهل بلدي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 قال: فلما نظر أهل مصر إلى أرجانوس وقد أسلم دخل أكثرهم في الإسلام وعمد عمرو إلى الكنيسة وعملها جامعا وهو المعروف به إلى يومنا هذا وجمع الأموال التي أخذها من وراء القبط المنهزمين ومن منازلهم وما كان في قصر الملك وأخرج الخمس وأعطى كل ذي حق حقه ثم كتب كتابا إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عليه وبعث الخمس والكتاب مع علم بن سارية وسلم المال والكتاب له وسير معه مائة فارس وأمره بالمسير إلى المدينة فاستلم الخمس وسار حتى قدم المدينة وسلم المال والكتاب لعمر بن الخطاب رضي الله عنه فلما قرأه سجد لله شكرا وأمر بالمال إلى بيت المال فقال علم بن سارية يا أمير المؤمنين أن عمرا يسلم عليك ويقول لك أن القبط كانوا استسنوا سنة في نيلهم في كل سنة وذلك أنهم كانوا إذا أبطأ عليهم الوفاء في النيل يأخذون جارية من أحسن الجواري ويزينونها بأحسن زينة ويرمونها في البحر فيأتي الماء ويفي النيل وقد قرب ميقات ذلك ولا يفعل عمرو شيئا إلا باذنك قال فكتب عمر بن الخطاب بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى نيل مصر أما بعد فإن كنت مخلوقا لا تملك ضرا ولا نفعا وأنت تجري من قبل نفسك وبأمرك فانقطع ولا حاجة لنا بك وإن كنت تجري بحول الله وقوته فاجر كما كنت والسلام وأمره أن يدفعه لعمرو بن العاص يرميه فيه وقت الحاجة إليه ثم إنه كتب بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فالسلام عليك وانى أحمد الله اليك وأصلي على نبيه وإذا وصل اليك كتابي فأطلب أعداء الله حيث كانوا وإياك أن تلين جانبك لهم وانظر في أحوال الرعية واعدل فيهم ما استطعت وأطلب العفو بالعفو عن الناس وأجر الناس على عوائدهم وقوانينهم وقرر لهم واجبا في دواوينهم وأعل رسوم العافية بالعدل فإنما هي أيام تمضي ومدة تنقضي فإما ذكر جميل واما خزي طويل ثم إنه سلم الكتاب إلى علم بن سارية فسار هو ومن معه إلى أن قدموا مصر وسلم الكتاب إلى عمرو فأما كتابه فقرأه على المسلمين وأما كتاب النيل فإنهم قد كانوا عدوا ليالي الوفاء وتوقف النيل عن الوفاء وقد يئس الناس من الوفاء في تلك السنة فمضى عمرو إلى النيل وخاطبه ورمى فيه كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال فلما رماه فيه هاج البحر وزاد فوق الحد ببركة عمر بن الخطاب وانقطعت عن أهل مصر تلك السنة السيئة ببركة عمر رضي الله عنه. حدثنا محمد بن يحيى بن سالم عن عدي بن يحيى بن عوف قال لما بلغنا أن عمرو افتح مصر وأتى إلى الكنيسة المعظمة عندهم وجد في مذبحها بيتا مغلقا وإذا فيه صورة من الفضة وأمام الصورة شخص آخر وفي يده أعلام وهي على صفة الصورة التي وجدها النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة لما فتح مكة فدعا عمرو بالقسوس وقال لهم: ما هذه الصورة قالوا له: هذه صورة إبراهيم وأبيه آزر فتبسم عمرو وقال: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران:67] فقال معاذ بن جبل لما قدمت من اليمن سمعت أبا هريرة يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول. "يلقي ابراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجهه قترة فيقول له ابراهيم ألم أقل لك لا تعصني فيقول آزر اليوم لا أعصيك فيقول ابراهيم يا رب إنك وعدتني أن لا تخزني يوم يبعثون فأي خزي أخزى من هذا فيقول الله حرمت الجنة على الكافرين ثم يقول له يا ابراهيم انظر إلى ما تحت قدميك فينظر إلى الريح وقد أخذت اباه فتلقيه في النار" قال ثم أمر عمرو بالصورتين فكسرتا وعبر عسكر المسلمون إلى الجانب الغربي وقد تقدم خالد فترجل إلى نحو الاسكندرية وتقدم على مقدمته عبد الله يوقنا وسار يوما وليلة هو وبنو عمه وهم بزي الروم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 ذكر فتوح مدينة مريوط قال ابن اسحق: وكان قد بلغ المربذان الذي مع الثلاثة آلاف وهم في مدينة مريوط وقد حصنها ما حصل فلما قدم عليه يوقنا قال له الموبذان: ما الذي أقدمك علينا فقال يوقنا أن المسلمين وجهوني اليك وهم يحرضونك على خلاص نفسك ويأمرونك بتسليم هذه المدينة إليهم ولك الأمان على نفسك وأهلك ومالك ومن أردت ولك الخيار في المقام تحت يد الإسلام أو الانفصال فإن اخترت المقام فلا مانع يمنعك وإن اردت المسير أوصلناك إلى أي موضع أردت فلما سمع الموبذان ذلك قهقه ضاحكا وقال: وحق ديني أن الغدر شعاركم والمكر دثاركم فلا فلح من آمن لكم وأما أنا فلا أخون الملك في بلده وأنا وهو في أرض واحدة وسوف أبعث إليه بأن أقدم إليه وأساعده عليكم جزاء بما عملتموه من الخديعة وستعلمون على من تدور الدائرة ومن يكون المغبون في الآخرة وأنت يا معشر الروم قد كفرتم بالمسيح وجحدتم السيدة أم النور وخرجتم من ملة الحواريين وأردتم هؤلاء العرب الجياع الاكباد العراة الاجساد ولن يغنوا عنكم شيئا ووحق المسيح لأبعثن بكم إلى الملك فيقتلكم على كفركم وكان يوقنا قد ترك جماعته ومضى في عشرين رجلا منهم لعله يعمل عليه حيلة فلما دخل عليه أنزله في دار الضيافة فوضعوا سلاحهم فلما أكلوا الطعام وتحادثوا وكان قد فطن بهم وأمر غلمانه أن يكونوا على حذر وإن يهجموا عليهم فيقبضوهم يريد بذلك أن يرسلهم إلى الملك إلى الاسكندرية ورماهم في بيت مظلم في دار امارته وأقام ينتظر غفلة من عسكره وكانوا قد أحاطوا بالبلد ووكل بهم جارية اسمها رينا وهي أخت مارية التي أرسلها المقوقس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكانت أختها شقيقتها وسلم اليها المفاتيح لمعزتها عنده وقال لها احفظي عليهم لأرى ما أنظر فيهم قال فلما جن الليل واشتغل عدو الله الموبدان بالشراب قال فصبرت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 رينا إلى أن غرق في سكره هو ومن معه وناموا وأمنت على نفسها فأتت إلى الباب وفتحت على يوقنا وأصحابه وقالت لهم أبشروا لا خوف عليكم فإن الله قد جعل رحمتكم في قلبي وأنا أخت مارية التي أهداها المقوقس لنبيكم وإني أريد منكم أن توصلوني عند أختي مارية فقال لها يوقنا أبشري بما يسرك ولكن أخاف عليك من عدو الله فما ترين فقالت والله ما جئتكم حتى سكر ونام فقال يوقنا فعرفينا الطريق التي نسلكها إلى قومنا قالت أن هذا المكان فيه سرب يخرج إلى ظاهر البلد وهو مبني من قديم الزمان وبابه الخارج مبني عليه قبة على أعمده وتحتها قبر بين المقابر فكل من رآه يظن أنه قبر وإن الذي بنى هذه المدينة امرأة يقال لها فمعمان بنت عاد وصنعت هذه المقابر التي وراء التل وهي كأنها قصور مشيدة وكان فيها أناس سكنوها فقال يوقنا افعلي بنا ما يقربك إلى الله تعالى ورسوله ولعلك أن تنزلينا من هذا السرب حتى نذهب إلى أصحابنا ونأتي بهم من هذا ما دام الموبذان سكران وهو نائم فقالت سأفعل ذلك أن شاء الله تعالى غير أني أريد أن افتح لكم باب السرب قبله حتى لا تتعوقوا. قال الراوي: وقد مضت رينا أخت مارية وأشرفت على الموبذان فإذا هو ومن معه صرعى من الخمر فتركتهم وعادت إلى باب السرب لتفتحه وإذا هي تسمع وراءه حسا ففزعت ووقفت تسمع. قال: حدثني عبد الرزاق بن يحيي عن سليمان بن عبد الحميد عن سفيان الأعمش عن أوس بن ماجد وكان ممن شهد فتوح مصر والاسكندرية قال لما نزل خالد بن الوليد على مريوط بجيشه تفقد يوقنا وقال لأصحابه: انه من وقت أن بعثته برسالتي إلى مريوط للموبذان ما عاد قالوا: أيها الأمير انه من وقت ما دخل إليه ما خرج ونحن في انتظاره فعلم خالد أن يوقنا مقبوض عليه فبات مهموما من أجله وكان خالد صاحب همة وعزيمة لا ينام من خوفه على المسلمين وكان معه جواسيس قد أخذهم معه من كل أقليم وقد اصطفاهم لنفسه وهو يحسن إليهم وأينما ذهب يكونوا معه ليأتوه بالأخبار فبينما هو في غم بسبب يوقنا وإذا هو بواحد منهم قد دخل عليه وأعلمه أن ولد الموبذان قد أتى من اسكندرية من عند أرسطوليس ومعه خلع وهدايا لأبيه ومعه خمسمائة فارس وقد بلغه أنكم محاصرون أباه فترك العسكر وما معه بالبعد وانفرد ومعه خادمان وأتى وما نعلم ما يريد قال فلما سمع خالد ذلك قام وأخذ معه غلامه هماما وأربعة ممن يعتد بهم وأبعد وقعد على سفح التل من نحو اسكندرية ونظروا إلى التل وإذا بولد المؤبذان ومعه الخادمان قصدوا إلى وراء التل عند تلك المقابر التي وصفتها رينا ليوقنا وقصدوا القبة فمشى خالد وراءهم وفرق جماعته من أربع جهات القبة وكبسهم وإذ هم قد فتحوا طبقا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 في وسط القبة فأخذهم خالد فلما رآه الموبذان ارتعدت فرائصه وخاف فقال خالد: إن صدقتموني أمنتكم وإن لم تصدقوني رميت رقابكم فقال الغلام: أنا أصدقك أنا ولد الموبذان وكنت عند الملك في اسكندرية وقد أنفذ معي خمسمائة فارس عونا لأبي وحفظا لهذه المدينة فنحن في الطريق وإذ قد جاءتني الجواسيس بأنكم نازلون على البلد فأوقفت العسكر وأتيت إلى هذه القبة فقال له خالد: وما الذي تريد من هذه القبة ألكم فيها سلاح أم مطلب فيه مال قال: لا قال فما تريد منها قال الغلام أن أمنتني قلت لك الحق. فقال له خالد: قد أمنتك على نفسك فقبل يده وقال: يا مولاي أريد أمانا لأبي ومن يلوذ به فأعطاه فقال اعلم أن هذه القبة على سرب والسرب ينتهي إلى دار الامارة ودار الامارة في وسط المدينة قال فلما سمع خالد ذلك تهلل وجهه فرحا وسرورا وقبض على الغلام وعلى الخادمين وأمرهما مع واحد آخر ممن معه أن يفتحوا السرب ففتحوه فأرسل هماما إلى العسكر وأمره بأن يأتي بهم في السرب وإن يأتوا معهم بالنار والزيت والقناديل وإن يسرع بذلك وكان ذلك التل عاليا والذين في المدينة لا ينظرون ما وراءه فلما أقبل همام بما طلبه خالد أوقدوا المسارج ونزلوا في السرب وابن الموبذان أمامهم فوصلوا إلى الباب وإذا برينا عند الباب تريد فتحه ليوقنا ومن معه فلما سمعت حسهم قالت من أنتم فقال خالد لابن الموبذان: كلمها فقال أنا فلان بن الموبذان افتحي ولا تعلمي أبي قال: فلم يبق لها بد أن تفتح الباب ففتحت فصعد خالد ومن معه فقبضوا على رينا فقالت لهم يا قوم دعوني فإني أردت أن أخلص أصحابكم وجئت لأفتح لهم هذا الباب وأنذلهم اليكم وتملكوا هذه المدينة من ههنا وقد أتى بكم رب العالمين وأنا رينا أخت مارية زوجة نبيكم فلما سمع خالد فرح وقال لها وأين أصحابنا فأتت بهم عندهم فحلوا وثاقهم وأتوا إلى دار الامارة فوجدوا الموبذان لا يشعر بنفسه من الخمر فوكل به جماعة وأمر الباقي أن يملكوا السور وقبضوا على الحرس ونزلوا إلى الأبواب وكان لها بابان فكسروا أقفالهما وفتحوهما وأرسل إلى بقية العسكر فدخلوا المدينة والكل في حالك الليل فلما أصبح الصباح استيقظ الموبذان ومن معه وإذا بالمسلمين حولهم وكل من في المدينة قد أسر فقال له خالد: يا عبد الله لولا أني أعطيت ولدك الأمان كنت قتلتك شر قتلة ولكن خذ أهلك وانصرف فاننا قوم إذا قلنا قولا نعمل به وفهم الموبذان أن ولده قد دلهم على السرب فلما خرج الموبذان بأهله قال ولده لخالد: يا مولاي أن أنا مضيت معه قتلني ولست أريد بغيركم بدلا وأنا أقول أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله فقال له خالد: أن قصر أبيك وما فيه لك وعرض خالد الإسلام على أهل مريوط فأسلم أكثرهم ثم أن خالدا قال ليوقنا رحمه الله أبشر من الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 بالرضوان والغفران والثواب فبصبرك على الشدائد فتح الله علينا هذه المدينة فقال: والله ما فتحها إلا بفضله وببركة نبيه صلى الله عليه وسلم فكتب إلى عمرو بن العاص يبشره بفتح مريوط ونحن معولون على الدخول إلى اسكندرية وأرسل الكتاب إليه. قال ابن اسحق: وأقام خالد بمريوط لأجل ذي الكلاع الحميري لانه مرض معه وكان مرضه شديدا فجلسوا عنده شهرا ولم يفارقه خالد فقدر الله له بالوفاة فحزنوا عليه حزنا شديدا عظيما فكان ذو الكلاع ملك حمير وكان قبل دخوله في الإسلام يركب له اثنا عشر ألف مملوك سود سوى غيرهم قال أبو هريرة الدوسي رضي الله عليهم ولقد رأيته بعد تلك الحشمة يمشي في سوق المدينة وعلى كتفه جلد شاة لما قدم من اليمن إلى الجهاد في أيام أبي بكر الصديق رضي الله عنه فلما مات رثاه ولده تنوخ بما رثى به حمير أباه سبأ بن يشجب في الزمن المتقدم وهو. عجبت ليومك ماذا فعل. ... وسلطان عزك كيف انتقل. وسلمت ملكك ذا طائعا. ... وسلمت للامر لما نزل. فيومك يوم رفيع النزال. ... ودورك في الدهر دور رحل. فلا يبعدنك فكل امرىء. ... سيدركه بالسنين الاجل. لئن صحبت نائبات الزمان. ... وشت مع الدهر وجه الامل. لقد كنت بالملك ذا قوة. ... لك الدهر بالعز عان وجل. بلغت من الملك أقصى المدى. ... نقلت وعزك لم ينتقل. فطحطحت آفاقه والمدى. ... وجئت من العرب حول الدول. حويت من الدهر اطلاقه. ... ونلت من الملك ما لم ينل. وحملت عزمك ثقل الامور. ... فقام بها حازم واستقل. صحبت الدهور فهنأتها. ... وما مر عيشك فيما فعل. بنيت القصور كمثل الجبال. ... ذهبت فلم يبق إلا الطلل. نعمنا بأيامك الصالحات. ... ومشربنا بك وبل وطل. تؤمل في الدهر أقصى المنى. ... ولم تدر بالامر حين نزل. فزالت لعزمك شم الجبال. ... ولم يك حزمك فيها هبل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 ذكر فتوح اسكندرية . قال: وعول خالد على المسير إلى اسكندرية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 حدثنا زياد بن أوس الطائي عن معمر بن الرشيد قال لما نزل خالد بعد رحيله عن مريوط قال له عيونه: انه لما انهزم ابن المقوقس وأتى إلى اسكندرية وبلغه فتح مصر صعب عليه قال: وكانت اسكندرية عامرة كان فيها الخلق كثيرا والمراكب فأرسل مراكب وعمرها بالرجال وأمرهم أن يكبسوا سواحل بلاد الشام على المسلمين فقالوا: سمعا وطاعة ومضوا إلى ساحل الرملة فوجدوا بالليل نيرانا كثيرة فسألوا من كان خبيرا بالبلاد فقالوا: هذه نيران المسلمين النازلين ههنا فقالوا: هذه حاجتنا التي جئنا في طلبها فنزلوا وقصدوها وإذا بها حلل من حلل دوس بني عم أبي هريرة وكان معهم طائفة من بجيلة وفي جملتهم ضرار بن الازور وهو مريض وأخته خولة معه تمرضه وكان أبو عبيدة أمرهم بالنزول هناك لأجل كثرة المرعى وهم آمنون مطمئنون من الروم وغيرهم لأن دولة الروم قد انصرمت وأيامهم قد ولت فما فطن القوم إلا وقد كبسهم القبط في جندس الليل ووضعوا فيهم السيف فقتلوا منهم رجالا وأخذوا منهم أسارى ومن جملتهم ضرار وأخته وأخذوا ما قدروا على حمله وأتوا بهم المراكب وكان جملة من أسروه من الرجال والنساء والاولاد والعبيد ألف ومائة فوضعوهم في المراكب وأقلعوا بهم من ليلتهم وسارا طالبين اسكندرية. قال ابن اسحق: وكان أبو عبيدة قد استوطن طبرية لكونها في وسط البلاد وهي قريبة من الاردن والشام والسواحل وإن أبا هريرة قد أتى ليزور قومه في تلك الايام ويسأل عن حال ضرار وكانوا يحبونه لشجاعته فأتى أبو هريرة ومعه حليف له من بني بجيلة فأصبحنا تلك الليلة في الحي وإذا بهم قد أخذهم القبط وبيوتهم مطروحة والرجال مقتولة وآثارهم منبوذة ووجدوا من الذين انهزموا أناسا مجروحين فسالوهم فقالوا: ما عندنا خبر حتى كبسنا قوم نصارى وما نعلم من أي الطوائف هم ولم نفق حتى وقعوا فينا بالسيوف فقتلوا ما ترون وأسروا الباقين وأخذوهم في مراكبهم فقال أبو هريرة لا حول ولا قوة إلا بالله العظيم وساروا إلى ساحل البحر فلم يروا لهم أثرا فلما عولوا على الرجوع إذا بلوح من ألواح المراكب تلعب به الامواج وعليه شخص فوقفوا له حتى أقبل وخرج الرجل وإذا به أمير دوس وحيان ابن عم أبي هريرة فلما رآه ترجل له وعانقه وهنأه بالسلامة وقال له: يا ابن عم ما وراءك فقال هجم العدو علينا ليلا وأسرونا وساروا فلما توسطنا البحر بعث الله بريح فغرقت مركبنا وقد نجاني الله على هذا اللوح فقال له: ومن أعداؤكم قال من قبط مصر وإني سمعتهم يذكرون اسكندرية كثيرا قال فرجع أبو هريرة يطلب طبرية وأتى ابن عمه إلى مكان الحلة حتى يلم شعث الناس ويداوي المجروحين فجمع ما تركوه وأتى بهم إلى الرملة وأما أبو هريرة فأتى أبا عبيدة وأخبره بما جرى فاسترجع وبكى وقال أعوذ بالله من الساعات الرديئة ثم قال: والله لئن وصلوا إلى اسكندرية ما يبقيهم صاحبها طرفه عين ويموت ضرار ويمضي دمه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 هدرا وكتب إلى عمرو بن العاص يعلمه بذلك ويحذره من صاحب الاسكندرية وإنه أسر الفا ومائة من جملتهم ضرار وأخته وكانت تداويه وهي عنده فإذا وصل اليك كتابي هذا فاجتهد في خلاصهم وإن وقع في أيديكم أحد من القبط ففادوهم به ودفع الكتاب لزيد الخيل وأمره أن يسير إلى مصر فلما قدم زيد الخيل إلى مصر دفع الكتاب لعمرو بن العاص فلما قرأه صعب عليه وكان يحب ضرارا فأرسل الكتاب إلى خالد بن الوليد وكتب إليه يحثه بالمسير إلى اسكندرية وإنه يفتقد حال الأسرى فلما وصل الكتاب إلى خالد وقرأه صعب عليه أمر ضرار وأخته خولة. حدثنا ابن اسحق قال: حدثنا عاصم بن منصور عن أحمد المروزي عن سلمة عن عبد الله ابن المبارك عن عبد العزيز عن أبيه قال لما أخذت النصارى حلل دوس وضرار واخته وعصفت عليهم الريح وغرق أحد المراكب ووصل الباقي إلى اسكندرية أوقفوهم أمام ابن المقوقس فأراد قتلهم فقال له: أرباب دولته أيها الملك لا تعجل عليهم واعلم أن العرب متوجهة اليك ولا بد لنا من قتالهم فإن أسر أحد منا ممن يعز عليك يكون عندنا من نفادي به ولعل أن نصالح العرب فاستصوب رايهم وقال ادفعوا هؤلاء الأسرى إلى دير الزجاج وأرسل معهم ألفي فارس يوصلونهم إلى الدير فجاءت عيون خالد وأخبروه بما وقع فقام وأخذ معه أصحابه وسار يطلب دير الزجاج فوصل خالد إلى الدير قبل وصول الأسارى ومن معهم فلما أحدقوا بالدير أشرف عليهم راهب كبير السن وكان اسمه مباحا وكان تلميذا لبحيرا راهب بصرى وكان مؤمنا بالله وبأنبيائه فقال له خالد: يا راهب كيف ترى الدنيا قال تنحف البدن وتجدد الامل وتقرب المنية وتقطع الامنية قال فما حال أهلها قال من نال منها شيئا نفضته ومن فاته منها شيء حسرته قال فما خير الاصحاب فيها قال العمل الصالح والتقي قال فما شر الاصحاب فيها قال اتباع النفس والهوى قال خالد: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: "الحكمة ضالة المؤمن يأخذها حيث وجدها" ثم قال كيف طابت لك الوحدة قال ألفتها قال فهل نلت منها فائدة قال: نعم الراحة من مداراة الناس قال فما أحسن هذا الاعتقاد لو كان في دين الإسلام والتوحيد قال فما أعرف غيره قال فما تقول في محمد ابن عبد الله صلى الله عليه وسلم. قال سيد الرسل وخاتم الانبياء وصفى الاصفياء وحجة الجبار على الورى قال فلم لا تكون في بلاد الإسلام فهي أصلح لك من ههنا قال قلبي ملوث بحب الدنيا قال خالد: أعندك خبر بالعرب الأسرى الذين أرسلهم الملك هنا قال: لا والله ولكن مر بي البارحة بطريق وأسقف واستقيا ماء من بئر هذا الدير فسالتهما من أين أتيتهما فقالا من الاسكندرية واننا رسل الملك كيماويل صاحب أرض برقة وإنه أرسلنا إلى ملك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 القبط يسأله أن يرسل له أسرى من عرب المسلمين حتى يراهم ويسمع كلامهم فأجاب أنه يرسل منهم جماعة وإنا ماضون نعلم صاحب برقة بذلك فقال لخالد لعلكم من المسلمين الذين فتحوا بلاد الشام قال خالد: نحن هم فقال الراهب أن أخباركم عندي في كل وقت وأعلمك أن رأيت نبيكم صلى الله عليه وسلم وهو في قافلة قريش وأنا عند بحيرا فلما مات بحيرا انتقلنا إلى هذا الدير واعلموا أنه ما بقي من أرض الكنائس ولا بأرض العقبة ولا بأرض الرمادة أحد ولا ديار من راهب ولا قس إلا وقدم لزيارتي ويسألني عنكم وعن نبيكم ويقولون لي أنت كنت على طريقهم ورأيت نبيهم وشرحت لهم دينكم وأوصلتهم إلى ما ظهر من معجزات نبيكم صلى الله عليه وسلم ولقد جرى بيني وبين راهب منهم بالقرب مناظرة وقال لي: أن النبي الذي بشر به عيسى المسيح ابن مريم ليس هذا فقلت له بلى هو والله النبي العربي فقال لي: اننا سمعنا في العلم أن الرسول الذي يظهر من أرض الحجاز يعرج به إلى السماء وماسمعنا أن هذا عرج به فقلت بلى والله أنا سمعت بأنه عرج به إلى السماء وخاطب العلي الاعلى وأصبح فأعلم بذلك قريشا ثم قال لخالد اعلم أن في وسط هذا الجبل ديرا يقال له دير المسيح: وقد استوى عليه بطريق ومعه جماعة وهو يقطع الطريق على قوافل العرب وإنه منذ زمان قطع الطريق على قافلة وفيها شخص من بلادكم وهو مسلم فأخذ القافلة وعرى أهلها وأطلقهم وقبض على ذلك المسلم وأخذ ماله ووضعه عنده في العذاب الشديد والرجل يستجير فلا يجار ويقول له ما أطلقك حتى تكفر بالرحمن وتسجد للصلبان ثم إنه يأتيه بصورة من نحاس وعلى رأسه عمامة سوداء ويقول له هذه صفة نبيكم وينصبه قباله ويصب فضلة كأسه على رأس هذه الصورة وذلك الرجل يستجير من فعاله قال فلما سمع خالد ذلك أخذ معه شرحبيل بن حسنة وعامر بن ربيعة ويزيد بن أبي سفيان وهاشم بن سعيد والقعقاع ورفاعة وترك بقية العسكر محيطة بالدير ومضوا إلى وسط الجبل فوجدوا الدير فوصلوا إليه وإذا بالبطريق قد اقبل ومعه وحش مذبوح وقد قصد إلى شجرة بالقرب من الدير وتحتها عين فنزل على العين وصاح بغلمانه فأتوا إليه وأضرموا النار وجعلوا يشوون له وهو يأكل ويشرب الخمر وقال لهم: هاتوا المحمدي فاتوه برجل قد ركبه الذل وغلبه القهر فلما رآه قال له: أنت قد غلبتني بتجلدك على العذاب وحق ديني لا أرفع عنك العقوبة حتى ترجع عن دينك إلى ديني فقال له: اصنع ما بدا لك فإني أعلم أن الكل بمشيئتة الله وبارادته وإني صابر على مر البلاء وما أرجع عن دين محمد المصطفى قال فهم أن يقوم إليه يضربه فصاح به خالد بن الوليد وحمل عيه وطعنه فاخرج السنان من ظهره وقتلوا غلمانه وخلصوا المسلم ونزلوا على العين ولم يكن لأهل الدير شرب إلا من تلك العين فأشرف عليهم الرهبان من أهل الدير وقالوا: ما نحن أهل سيف حتى نقاتلكم وقد نهاكم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 نبيكم عن قتل الرهبان فقال خالد: سلموا لنا مال هذا البطريق وعياله وأطفاله ونحن نترككم في ديركم ففتحوا لهم وسلموا لهم جميع موجوداته وأخذوا الاسير وساروا وسأله خالد بن الوليد من أين أنت فقال أنا أمية بن حاتم أخو عدى وقد أخذني هذا في أواخر ايام أبي بكر الصديق رضي الله عنه فإني كنت طالب برقة مع قافلة ومعي بضاعة فأخذها وأخذني وكان أمر الله قدرا مقدورا قال فرجعوا عند أصحابهم ولم يأتوا القبط فما لحقوا أن ينزلوا عن خيولهم إلا والراهب صاح وقال لهم: استعدوا للقاء عدوكم فإنهم قربوا منكم فتجهزوا للقاء العدو وإذا بهم قد أقبلوا وضجيج الاطفال وبكاء الناس وأنين الرجال وصراخ المأسورات وصياح القبط عليهم يسوقونهم من ورائهم وزئير الفرسان وهفيف الصلبان والعربيات تنادي بالويل والهوان وخولة بنت الأزور على مقدمة الأسارى وهي تقول. جل المصاب وزاد الويل والحرب. ... وكل دمع من الاجفان ينسكب. ومادت الأرض مما قد بليت به. ... حتى توهمت أن الأرض تنقلب. جالت يد القبط فينا عند غفلتنا. ... واستحكم القبط لما زالت العرب. لهفي على بطل قد كان عدتنا. ... فيه العفاف وفيه الدين والادب. قد كان ناصرنا في وقت شدتنا. ... أعني ضرار الذي للحرب ينتدب. فيه الحمية والاحسان عادته. ... فيه التعصب والانصاف والحسب. لو كان يقدر أن يرقى مراكبه. ... كان العدو فني والحرب تلتهب. أو كان خالد فينا حاضرا وطنا. ... لزال عنا الذي نشكو وننتحب. لو كان يسمع صوتي صاح بي عجلا. ... مهلا فقد زال عنك البؤس والعطب. قال فلما سمع خالد نداءها قال لبيك يا بنت الأزور قد جاءك الفرج وذهب عنك الحرج فاطبقوا على القبط فما كان ببعيد حتى قتلوا منهم سبعمائة وأسروا الفا وثلمائة وخلصوا الأسرى وسلموا على ضرار وهنئوه بالسلامة وودعوا الراهب بعدما كتب له خالد كتابا بأن له من طعام الاسكندرية صاعا ولكل من سكن الدير من أهله وقبيلته ثم إنهم ساروا طالبين الاسكندرية وهم سائقون الأسرى من القبط بين أيديهم قال: وكان الملك أرسطوليس لما سمع بأن العرب قد أتوه أخرج عسكره وضرب خيامه خارج باب السدرة قال فلما قدم المسلمون وقع الصايح بقدومهم ووقع الخوف في قلب الملك وعسكره وقالوا له: أيها الملك ما الذي تدبر في أمر هؤلاء العرب قال: وما عسى أن أدبر والخوف قد ملأ قلوبكم وهم طمعوا فيكم ورأوا أنكم تنهزمون ولا تخافون العار وإذا قاتلتموهم كانت قلوبكم متفرقة وأهواؤكم غير متفقة وقد أسروا رجالا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 ولم يرهبوا قتالكم ولا مانع يمنعهم ولو أن أصحابهم الذين أرسلتهم إلى دير الزجاج عندي لكنت صالحتهم باطلاقهم ودفعناهم عنا وقد فرطنا أيضا في الألفين الذين أرسلتهم معهم فلو كان فينا لقاتلوا معنا فقال له وزيره: أيها الملك هل لك أن ترسل إليهم وتتحدث معهم في أمر الصلح ونحن نسلم إليهم أصحابهم فقال: إنهم لن يقبلوا منكم رسولا منذ صبأنا عليهم ببحر الحصى فبينما هم في ذلك وإذا بصاحب البحر قد أتى إليه وهو الموكل بالنار وأخبره أنه رأى مركبا قد ظهر من قبل الغرب ولا أعلم من أين أتى فقال: لا شك أنه من صاحب برقة الملك كيماويل وقد أنجدنا فأقبل المركب ورمى مراسيه ونزل منه شيخ مهيب مليح الشيبة ظاهر الهيبة وعليه ثياب من الصوف الاسود ونزل معه عشرون شخصا من القسوس والرهبان فلما نزلوا إلى البر جاءتهم الخيول بالمراكب المذهبة والغلمان والحجاب وعظموا شأنهم وأركبوهم وساروا بين أيديهم إلى أن أوصلوهم إلى الملك وأدخلوهم عليه فقام لهم وعظم شأنهم وأجلس ذلك الشيخ معه على السرير. قال الراوي: وكان أرسطوليس قد أرسل هدية إلى الملك صاحب برقة وأرسل إليه يعلمه بما فعله العرب في مدة قيصر وانهم قد أتونا ومن جملة ما أرسل له يقول أيها الملك اعلم أن الدنيا دار زوال وانتقال فما وهبت إلا واستردت ولا فرحت إلا وأحزنت فالمغرور من تشبث بذيلها واطمأن اليها والسعيد من لبس ثياب الحذر منها وعمل لدار المقر أما ترى أيها الملك إلى هرقل ملك الشام كيف هرب وزال ملكه وذلك عند ما رمته الدنيا بمصائبها وشتتته بسهام نكائبها بعدما كانت في وجهه مشرقة والا يخطر له هم الاعداء على بال وما ضربت لك هذا المثال إلا لعلمي أن الدنيا لا تبقى على حال وهؤلاء العرب قد استولوا على البلاد وأذلوا بسيوفهم العباد وقد أقاموا لهم شرعا بالسيوف الحداد وقد ملكوا القياصرة وقد جاءت طائفة الينا وأخذوا مصر منا وأخذوا ملكنا وحكموا على بلادنا بعدنا ولا بد لهم منك ولا غنى لهم عنك والصواب أن تشمر لهم عن الهمم وتنجدنا على من بغى وأجرم فنحن جيرانك وكلنا جندك وأعوانك والسلام. قال الواقدي: فلما وصلت الهدية والكتاب عرضه على أرباب دولته وقال لهم: ما ترون فيما كاتبكم به صاحب مصر والاسكندرية فقالوا له: أيها الملك ما زالت الملوك يستنصر بعضها ببعض والذي أشار إليه هو الحق وإن العرب إذا ملكت ملك القبط فلا بد لهم منا والعبور إلى بلادنا فابعث إليه بنجدة ونكون نحن وهو يدا واحدة فالمسيح يعطي النصر لمن يشاء فاجابه إلى ذلك وأمر ابن أخيه اسطفانوس أن يمضي في أربعة آلاف وأمره أن يسير لمعاونة صاحب اسكندرية ثم إنه أرسل خادمه إلى عالم أرضهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 والمشار إليه في علم النصرانية وهو البترك واسمه سطيس وكان عمره مائة وعشرين سنة وكان تلميذ زيروسا وزيروسا تلميذ مرقس ومرقس تلميذ يوحنا ويوحنا أحد حواري عيسى المسيح وكان هذا البترك سطيس مؤمنا بالله وموحدا وسمع بأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعجزاته وهو مؤمن من قبل مبعثه وظهوره حتى بلغته أخباره صلى الله عليه وسلم وإنه مات فبكى لموته ولزم زاوية الحزن ولم يظهر خبره لاحد مدة من الزمان وقد بنى له صومعة وانفرد بها وجعلها على قارعة الطريق فما مرت به قافلة إلا واستخبرها عنه ويسأل عمن جلس بعده للمسلمين خليفة فقالوا: أبو بكر الصديق وبلغه موته وولاية عمر ثم بلغه فتوح الشام وقدوم الصحابة إلى مصر وفتحها فلما أرسل صاحب مصر يستنجد صاحب برقة وأرسل أخاه أرسل هذا البترك في مركب يبشره بقدوم اسطفانوس إلى نصرته فلما وصل إليه وبشره فرح بذلك وقال: يا أبانا أريد من انعامك أن تسير إلى هؤلاء العرب وتختبر دينهم ونبيهم وتدعوهم إلى الصلح وتعلمهم أن في أيدينا جماعة منهم أخذناهم من ساحل الرملة وقد أنفذت بهم إلى دير الزجاج فإن أرادوا أصحابهم أطلقناهم لهم ونعطيهم شيئا من مالنا واعقد لنا ولهم الصلح بأنهم لا يرجعون الينا ولا يتعرضون لنا فقال البترك سافعل ذلك وإني قد قرأت في الكتب السالفة فوجدت فيها أن الله يبعث نبيا من أرض تهامة تعرض عليه مفاتيح الأرض وكنوزها فلا يلتفت اليها ولا يعيرها نظره ولا يختار إلا الفقر على الغنى وإن أصحابه يتبعون سنته وأنا استخبر حالهم قبل سيري إليهم فقال الملك وكيف تستخبر حالهم يا أبانا قال: أيها الملك أرسل بغلة من مراكبك وعليها مركب من ذهب وهو مرصع بالمعادن وتأمر غلمانك أن يسيروا بها ويرسلوها نحو عسكر المسلمين فإن أخذوها فنعلم أنهم يحبون الدنيا ولا يريدون الآخرة وإن ردوها فنعلم انهم يطلبون ما عند الله قال ففعلوا ذلك وأرسلوها وكانوا في حندس الليل وكان في الحرس شرحبيل بن حسنة فلما رأى البغلة وما عليها من الزينة ضحك وقال أن أعداء الله يريدون اختبارنا ومعرفة أحوالنا أن كنا نطلب الدنيا أو الآخرة فوالله ما منا من يميل إلى ما يفنى وإنما يغيتنا فيما يبقى ثم قرأ: {أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد: 20] ثم أمسك بعنان البغلة وأطلقها نحو عسكر القبط قال فلما رأوها صلبوا على وجوههم وقال الملك والله بهذا نصروا وخذلنا والله أن أبي كان على بصيرة من أمرهم ثم أمر البترك سطيس أن يتوجه إليهم فمضى فلما قرب منهم رأى أقواما قد هجروا الدنيا فمنهم القارىء ومنهم الذاكر لباسهم الصوف صغيرهم يوقر كبيرهم وكبيرهم يرحم صغيرهم وصوت أحدهم لا يعلو على الآخر الذكر كلامهم والقرآن شعارهم والتقوى لباسهم والخوف من الله أنيسهم فلما دخل على عسكرهم سأل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 عن أميرهم وصاحبهم فدلوه على موضع خالد فقصده فلما وصل إليه وجده في ذكر الدين والقيامة فنزل عن بغلته ووقف أمامه وأومأ إليه بالسجود فمنعه خالد فقال له: أنت أمير هؤلاء القوم قال كذا يزعمون إني أميرهم ما دمت على الحق واتباع العدل والانصاف والخوف من الله محسنا للمحسنين منهم شدادا على المسيئين منهم فمتى حدت عن هذه الاشياء فلا امارة لي عليهم فقال البترك أنتم والله القوم الذين بشر بكم عيسى ابن البتول وإن الحق معكم لا يفارقكم قال فأمره خالد بالجلوس فجلس وقال: يا معاشر العرب أخبروني عن نبيكم فقال خالد: أن الله اختار من ولد آدم العرب واختار من العرب مضر واختار من مضر كنانة واختار من كنانة قريشا واختار من قريش بني هاشم واختار من بني هاشم عبد المطلب واختار من عبد المطلب عبد الله محمدا صلى الله عليه وسلم وقال: "كنت نبيا وآدم بين الماء والطين" وقال لما خلق الله العرش كتب عليه لا إله إلا الله محمد رسول الله فلما وقع آدم في الزلة رأى على ساق العرش لا إله إلا الله محمد رسول الله فقال: يا رب من هذا قال: ولدك يا آدم الذي لولاه ما خلقتك قال: يا رب فبرحمة هذا الولد ارحم هذا الوالد فقال: يا آدم لو تشفعت الينا بمحمد في أهل السموات والارضين لشفعناك ثم أن الله جعل اسمه مقرونا باسمه وذكره مع ذكره ورسمه بما وسم به نفسه فقال: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 143] وقال في حقه: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128] وقال: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] وقال: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6] وقال: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67] وإن الله عز وجل رفع ذكره وعظم فخره وأعز قدره فقال تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:4] وهذا غاية الشرف والتعظيم والتبجيل والتكريم وقال: يا محمد لا أذكر حتى تذكر فمن أحبك فقد أحبني ومن سبك فقد سبني ومن جحدك فقد جحدني ومن أنكر نبؤتك فما عرفني وها أنا أشهد على نبؤتك فقال عز من قائل: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الرعد: 43] قال في موضع آخر: {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} [النساء: 79] محمد رسول الله قال فلما سمع البترك ذلك من خالد فرح وقال لقد نجا من اتبعه وخسر من فارقه ثم جدد إسلامه على يد خالد وحدثهم بأمره من أوله إلى آخره ثم حذرهم من أخي صاحب برقة وإنه واصل ومعه أربعة آلاف فارس وإني قد سبقته في البحر وهذا الملك القبطي يريد صلحكم ويقرر لكم على إنكم تصالحونه أن يعطيكم شيئا من المال ويسلم اليكم قوما من أصحابكم قد أخذوهم من ساحل الرملة فقال خالد: أن أصحابنا قد فك الله أسرهم وجمع بنا شملهم وقد نصرنا الله على القبط الألفين الذين كانوا مع الاسارى فاننا أخذنا ألفا وثلثمائة أسير وقتلنا سبعمائة ثم إنه عرضهم عليه وعرض الإسلام عليهم فأبى أكثرهم وأسلم بعضهم فأمر خالد بضرب رقابهم بين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 العسكرين ثم أن البترك عاد إلى صاحب اسكندرية وقال له: هؤلاء لا نملك غرتهم لانهم حذرون من أعدائهم وعرفة بقصة اصحابه وانهم هؤلاء الذين ضربوا رقابهم قبالك فقال له: يا أبانا ومن اين هؤلاء قال قد وقعوا بهم وخلصوا اصحابهم واسروا من أصحابك ألفا وثلثمائة وقتلوا سبعمائة قال فلما سمع ابن المقوقس ذلك سقط في يده وايقن باتلاف ملكه وقال لأرباب دولته وعسكره: خذوا أهبتكم للقتال وكأنكم بعسكر الملك كيماويل صاحب برقة وقد اقبل عليكم ونقاتل هؤلاء العرب بقلوب قوية وأسرار نقية ويعطي الله النصر لمن يشاء وباتوا وهم معولون على القتال. قال ابن اسحق: ولقد بلغني أن الملك نام بقية ليلته فرأى في منامه كان شخصا أشقر عريض الصدر قد خرج من حمام ومعه شخص آخر مليح الوجه حسن الخلق وسيم قسيم في عينيه دعج وله نور يسطع كأنه قمر فقال ابن المقوقس للاشقر من أنت قال ابن العذراء البتول أنا المسيح بن مريم وهذا الذي بشرت به من قبل مبعثه هذا محمد رسول الله العربي الامي من آمن به فقد اهتدى ومن جحد نبوته فقد اعتدى وقد جئنا لنصرة أصحابه ومقامنا على القبة. قال ابن اسحق: ولقد بلغني أن برج القبة مما يلي باب البحر وذلك أن الاسكندرية لما بني الاسكندرية وسماها باسمه كان الخضر وزيره وهو الذي بنى الباب الأخضر وصنع تلك القبة باسمه ورسمه وكان يأوي اليها فصار ذلك الباب مشتهرا به إلى ي ومنا هذا قال ثم أن عيسى عليه السلام قال للملك في نومه أن كنت من أمتي فاتبع شريعة هذا النبي وذهب عنه فلما أصبح حدث أرباب دولته بما رأى في نومه فقالوا: أيها الملك هذه أضغاث أحلام وما كان عيسى المسيح يماشي العربي وهو عدوه وإنما الشيطان قد خيل لك ذلك فلا تلتفت إليه قال فأصغى الملك إلى كلامهم ثم إنه أمر عسكره بالقتال فركبوا وصافوا المسلمين وأما الملك فإنه نظر إلى برج القبة وإذا بالقبة يسطع منها نور فدخل الوهم في قلبه مما رأى في منامه وقال: والله ما هذا النور إلا نور المسيح ومحمد وإن هذا هو الحق لا شك فيه. حدثنا ابن اسحق حدثنا عامر بن بشر عن الأحوص قال كنت في خيل خالد بن الوليد يوم قتالنا على اسكندرية قال لما وقفنا في ميدان الحرب وقف يقاتلنا فارس وهو بطريق عظيم الخلقة وعليه لبس يلمع وتحته جواد عربي فنادانا بالعربية بلسان فصيح وقال: يا عرب انصرفوا عنا فانا لا نريد حربكم وقد ملكتم منا مصر والصعيد وأكثر الريف وقد بقي في أيدينا هذه الجهة وما نحن منازعونكم فيما أخذتموه منا ونحن لا نقلدكم في البغي ونصالحكم صلحا نعود منه عن ظلم أنفسنا ونعدل في رعيتنا وإن أبيتم صلحنا لقيناكم بأسرار نقية وقلوب للجهاد قوية فنردكم على أعقابكم منهزمين وفي أذيال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 الذل متعثرين لأنه ما عدا أحد على أهل هذا الدين إلا ذلك وانهزم لاننا قوم لنا الكنائس الأربع والصوامع والبيع والقسوس والرهبان والمذابح والقربان والانجيل والصلبان ثم سكت عن كلامه. قال الراوي: وكان هو الملك بن المقوقس فكان أول من بادر إلى رد جوابه شرحبيل بن حسنة كاتب وحي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: لقد افتخرت بما يؤدي صاحبه إلى البوار ويعقبه سوء الدار يا ويلكم أفتفتخرون علينا بالشرك والطغيان وعبادة الصلبان والكفر بالرحمن ونحن أولو التقى والإيمان والفوز والرضوان والقبلة والقرآن والحج والاحرام والصلاة والصيام والاجتهاد والاحترام ديننا أفضل الاديان ونبينا المبعوث بالمعجزات والبيان وبالآيات والبرهان والمنزل عليه القرآن ومن اتبعه نال من ربه الغفران ومن جحد صحبته باء بغضب الملك الديان الذي كان ولا مكان ولا دهر ولا زمان ولا وقت ولا أوان شهد لنفسه بالربوبية ولصفاته بالأزلية ولذاته بالأحدية ولملكه بالأبدية سلطانه قاهر وكرمه ظاهر وتدبيره محكم وقضاؤه مبرم وعرشه رفيع وصنعه بديع وليس بوالد ولا مولود ولا لذاته حد محدود ولا لبقائه أجل معدود خضعت الأعناق لعظمته وخشعت الاصوات لهيبته وعنت الوجوه لعزته وذلت الاقوياء لقوته لا يحصى نواله ولا يفني كماله ولا تبيد نعمه وافضاله يا ويلكم كيف طاب لكم الكفر بالهيته والاشراك بربوبيته وإن تجعلوا له ولدا من خلقه وبريته وتسجدون للصلبان في دار مملكته ولا تفزعون من عظمته ثم إنه قرأ: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ، حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [فصلت: 19, 21] ثم قال شرحبيل أن لله عبادا لو أقسموا على الله أن يدكدك لهم هذا السور لفعل وكانت اشارته إلى سور المدينة فغار السور في الأرض وبانت المنازل والدور قال فارتعدت فرائص الملك لما عاين ذلك من عظيم القدرة فلوى عنان جواده إلى عسكره وأفئدتهم قد طارت وأفكار القبط قد حارت فلما جن الليل أخذ الملك خزائنه وأمواله وحريمه وعياله وركب في المراكب وسار يريد جزيرة أقريطش فلما أصبح الصباح وقع الصايح بالمدينة بأن الملك قد انهزم فاجتمع الأكابر وقالوا: أن الملك قد انهزم وما لنا من يدفع هؤلاء العرب قال: فخرجوا بأجمعهم إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ووقفوا بين يدي خالد وقالوا: أن الله قد نصركم بحق وأيدكم بصدق وإنا نريد منكم أن تعاملونا بالنصفة وتنظروا الينا بعين الرحمة والعدل سنة من كان قبلنا معكم من الروم فقال خالد: ما فعل ملككم قالوا: وانهزم بأهله وماله في البحر فقال قوم: قد أسكن الله الرحمة في قلوبنا وبصرنا بمعالم ديننا وأظهرنا على أعدائنا وفضلنا على سائر من كان قبلنا من الأجناس فقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] ونحن نجريكم على أحسن عوائدنا مع سائر من فتحنا بلادهم وقد أمسكنا عنكم ولو أردنا أن نملك البلد بالسيف لهان علينا ولكن خير الناس من قدر وعفا ونريد منكم مائة ألف مثال ذهبا صلحا عن أنفسكم وأهاليكم وندعوكم بعد ذلك إلى الإسلام فمن أجاب منكم كان له ما لنا وعليه ما علينا ومن عدل عن ذلك أخذنا منه الجزية عن السنة الآتية من كل رجل وغلام بلغ الحلم أربع دنانير ونشرط عليكم شروطا أن لا تركبوا دابة ولا تعلموا دوركم على دور المسلمين ولا ترفعوا أصواتكم عليهم ولا تبنوا كنيسة ولا صومعة ولا ديرا ولا تجددوا ما دثر وتلقوا المسلمين بالذل والانكسار وتسارعوا في قضاء حوائجهم وما يريدون في اصلاح شأنهم لا تعدلوا عن تعظيم أهله ومن أذنب منكم ذنبا حددناه ومن ارتد عن قولنا قتلناه وإن تشدوا الزنانير على خصوركم اظهارا لدينكم وإن لا تظهروا ناقوسا ولا صليبا ولو آمنتم بالله ورسوله لكان خيرا لكم فقالوا: فقالوا: أيها الأمير مانترك ديننا فقرأ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ، وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ، وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ، نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} [لقمان: 21, 24] فقالوا: أيها الأمير نريد أن تولي علينا رجلا منا حتى يجمع المال الذي تقرر علينا فيلمه بالعدل وليمكن معه رجل منكم من اصحابكم فقال خالد: أني لا أعرف أحدا من أجاويدكم فاختاروا لأنفسكم برضاكم من أوليه عليكم فأشاروا إلى رجل منهم اسمه شيعا بن شامس وكان مقدما في القبط فولاه خالد على جمع المال ورياسة البلد وندب معه قيس بن سعد وأوصاهم وقال خذوا من كان واحد ما يحتمل حاله ومن كان معسرا ضعيفا فدعوه واحسنوا أن الله يحب المحسنين ولا تظلموا يتيما ولا فقيرا ولا أرملة فتعجب القبط من حسن وصيته وكلامه فدخل القوم واجتمعوا في دار الامارة وبعث شيعا غلمانه يجمعون الناس. قال: حدثنا جرير بن عاصم عن نعيم بن موسى الداراني عن سليمان بن عوف عن جده مازن بن سعيد قال: وقع القسط على أهل اسكندرية فكان أكبرهم في الحشمة وأغزرهم في المال يزن عشرة قراريط وأوسطهم حالا يزن قيراطين ولقد أتى برجل من أغنيائهم اسمه براس لا يدري ما يملك من المال والدبش والغنم وكان أبخل أهل زمانه فقال له شيعا: قد وجب عليك في هذا المال دينار قال: وحق المسيح ما أنا بالذي يؤديه ولو مت وإن تصدقت به كان أفضل من عطيتي للعرب فقال له قيس بن سعد: أن في الذي نأخذه منكم صونا لأنفسكم وحفظا لدمائكم ونحن ما نأخذه على وجه الصدقة منكم بل نأخذه حلالا لا حراما يا ويلك لو دخلنا مدينتكم بالسيف ألست كنت أنت أول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 من قتل ومالك أول ما نهب وقال له شيعا: خذلك الله ولعنك كل من في اسكندرية يعلم إنك كنت أولا فقيرا لا تقدر على شيء من أمور الدنيا وقد آتاك الله من فضله ووسع عليك رزقه فقال الست ورثته عن آباء كرام وأجداد عظام وما لله علي من فضل قال فغضب قيس وقام إليه وقمعه بمقرعة كانت معه وقال له: كذبت يا عدو الله ورسوله الفضل والحمد والمنة لله لأنه رزقنا من فضله وأسبغ علينا من نعمه: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [النحل: 18] ثم قال قيس اللهم أنه جحد نعمتك فأزلها عنه قال فوالله ما مضى يومه حتى جاء الخبر بان أغنامه قد هلكت جميعا وبساتينه يبست ودياره قد تهدمت وأمواله ذهبت قال قيس الله أكبر هذا والله حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو هريرة بجانبي قال: "أن ثلاثة من بنى اسرائيل كان أحدهم أبرص والآخر أقرع والآخر أعمى فبعث الله إليهم ملكا فأتى الأبرص فقال له: أي شيء أحب اليك فقال الجلد الحسن والابل فأتى الأقرع فقال له: أي شيء أحب اليك قال الشعر الحسن والغنم وأتى الثالث فقال له: أي شيء أحب اليك فقال النظر والبقر قال ثم أن الملك مسح بيده على جلد الأبرص فعاد أحسن جلدا وأعطاه ناقة عشراء فبارك الله له فيها حتى ضاقت بابله الديار وأما الأقرع فأتاه ومسح بيده على رأسه فأنبت الله له شعرا حسنا وأعطاه نعجة عشراء فتوالدت إلى أن ضاقت بها تلك الديار ثم أتى الأعمى ومسح بيده على عينيه فعادتا أحسن عينين وأعطاه بقرة عشراء فتوالدت إلى أن ضاقت بها تلك الديار قال ثم أتاهم ليمتحنهم فأتى الأبرص فقال له: كنت أبرص فقيرا لا تملك شيئا فأعطني مما آتاك الله من هذه الابل ناقة أتسبب عليها فقال له: ما كنت فقيرا ولا أبرص وإنما ورثت هذا المال من آبائي قال فذهب إلى الأقرع وقال له: مثل ما قال للأبرص فقال مثل ما قال الأبرص فذهب إلى الثالث وقال له: مثل ما قال لصاحبيه فاجاب وقال بسم الله والله لقد صدقت فاذهب إلى هذا البقر فاقسمها بيني وبينك فقال له: بارك الله لك في مالك وقد رد الله صاحبيك كما كانا فانهما كفرا نعمة الله". قال الراوي: وجمعوا المال ومضوا به إلى خالد وبنى فيها المساجد وأخذ كنيستهم العظمى فجعلها جامعا وترك لهم أربع كنائس وكتب إلى عمرو بن العاص يعلمه بفتح اسكندرية ففرح وركب وترك موضعه أباذر الغفاري وذهب إلى الاسكندرية وبني فيها جامعا في الربض وهو معروف بجامع عمرو إلى يومنا هذا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 ذكر فتح مدينة دمياط وما والاها . قال الراوي: وأتت إليه أهل رشيد وفوة والمحلة ودميرة وسمنود وجرجة ودمنهور وابيار والبحيرة وصالحوه على بلادهم ثم إنه بعث المقداد ومعه أربعون فارسا وهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 ضرار وشاكر ونوفل وراجح وعاصم وفارس وعروة وسهل وعمير وكعب وسعيد ويزيد وصعصعة وغيرهم وأمرهم بالمسير إلى دمياط وأمر عليهم المقداد بن الأسود الكندي فساروا إلى البرلس ودمياط كان بها خال الملك المقوقس وكان عسكره اثني عشر ألفا وكان قد حصن البلد وجمع فيها من آلة الحصار من الزاد وغيره قال فلما أشرف عليه الصحابة ونظر إلى قلتهم ضحك وقال أن قوما ينفذون الينا منهم أربعين ليملكوا بلدنا لفي عجز وقلة عقل قال: وكان ولده الأكبر فارسا مشهورا في جميع بلاد النيل وكان اسمه هريرا وكان يثق به وبشجاعته وبراعته وليس في عينيه الفرسان شيئا فلما رأى الصحابه وهم أربعون قفز إليهم وهو لابس لامة حربه وطلب البراز فخرج إليه ضرار بن الازور وحمل عليه فطعنه فقتله وحمل على عسكر دمياط فالجأهم إلى حيطان البلد وهو كأنه النار في الحطب فاستعاذ منه الجيش ثم أن خال الملك وكان اسمه البامرك اجتمع بأرباب دولته وقد صعب عليه قتل ولده وكان عندهم حكيم يثقون به وبرأيه ويعتمدون على عقله فأحضروه وقالوا له: أيها الحكيم العالم ما الذي تشير به علينا في أمر هؤلاء العرب. فقال: أيها الملك أن جوهر العقل لا قيمة له وما استضاء به أحد إلا هداه إلى سبيل نجاته وقاده إلى معالم مصالحه وهؤلاء القوم لا تذل لهم راية ولا تلحق لهم غاية قد فتحوا البلاد وأذلوا العباد واشتهر أمرهم وعلا ذكرهم وفشا خبرهم وعلت كلمتهم وطافت الأرض دعوتهم فما أحد يقدر عليهم ولا يصل إليهم وما نحن باشد من جيوش الشام ولا امنع بلدا وهؤلاء القوم قد أيدوا بالنصر وغلبوا بالقهر وإن الرحمة في قلوبهم فعاهدهم فما عاهدوا عهدا وخانوا وما حلفوا يمينا فكذبوا وقد بلغك ما هم عليه من الدين والصيانة والصدق والأمانة والرأي عندي أن تصالحهم لتنال بذلك الأمن وحقن الدماء وصون الحريم ودفع الأمر العظيم ونكون قد صالحناهم ودفعناهم بشي من مالنا قال فلما سمع البامرك ذلك من الحكيم أمر بضرب عنقه فلما عرف الحكيم أن المنية قد غشيته قال: اللهم إني بريء مما يشركون بك لا شريك لك ولا ولد ولا صاحبة لك وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وإن محمدا رسول الله قال فلما سمع البامرك كلامه ضربه فقتله وأمرهم بأن يأخذوا على أنفسهم للحرب فلما كان الغد خرجوا إلى ظاهر دمياط ونصبوا خيامهم قال: وكان للحكيم ولد ورث فضائل أبيه وكان فيه فطنة وعقل وتدبير فلما قتل أبوه أظهر الفرح والدعة للملك البامرك وقال لقد أراحني الملك منه ومن شره فبلغ البامرك ما قاله ابن الحكيم فأرسل إليه وخلع عليه وطيب قلبه فلما كان الليل قال: والله لآخذن بثأر أبي من هذا اللعين ومن أولاده وكانت داره ملاصقة للسور فنقب نقبا واسعا وخرج منه وقصد الصحابة فلما رأوه قالوا له: من أنت قال أن أبي قد قتل من أجلكم وقد نقبت نقبا وخرجت منه فقوموا على. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 بركة الله وعونه حتى تملكوا المدينة منه فقال له ضرار: يا ويلك وإن الذي بعثك بهذه الحيلة أراد قتلك أما علمت أن الحذر شعارنا واليقظة دثارنا وهم بقتله فقال له المقداد: أمهل يا ضرار وفقك الله إلى الخير وةوقاك الألم والضير ثم قال المقداد إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وهو يشير إلى شخص بين يديه وكأنما يقول على زي هذا الغلام وكأنما أتأمل إلى هذا الغلام فرأيته على ما هو عليه الآن وكان على وسطه منطقة من الأديم وفيها حلق فضة وهي تحت أثوابه ثم أن المقداد قال: يا غلام اكشف عن أثوابك فكشف عن أثوابه وإذا المنطقة بعينها فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام المسلمون فصافحوه ومضى الغلام أمامهم إلى أن دخل بهم النقب ووسعوه بأيديهم حتى دخلت خيولهم ثم ردوا الحجارة والطين والبناء على حاله وأعمى الله أبصار القوم عنهم فلما كان الغد نظر أعداء الله فلم يروا للصحابة أثرا ولا خبرا فضجوا بكلمة كفرهم وماجوا وقالوا: هربت العرب ووقع الصائح في العسكر فظهر أهل البلد ليقفوا على صحة الخبر ولم يبق في البلد سوى النساء والاطفال قال ابن اسحق: وكان للحكيم بنو عم ثمانون رجلا وإن ولده طاف عليهم بالليل وأعلمهم بما فعل فأقبلوا معه وأسلموا عن آخرهم فلما كان الغد وخرج كل من في البلد بادر بنو عم الحكيم واخوته إلى الأبواب فأغلقوها وأعلنوا بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير فوقعت الخمدة على النساء والصبيان واستوثق القوم من المدينة بالثمانين رجلا فأمسكوهم الأبواب وخرج الصحابة رضي الله عنهم ورفعوا أصواتهم يكبرون ويدعون الله عز وجل فلما نظر لهم أهل البلد علموا أنهم قد ملكوها وإن الذي فعل ذلك بنو عم الديرجان الحكيم وقد أغلقوا الأبواب وقفلوها وملكوا السور فوقف الملك ينظر إلى ما فعله الصحابة وعلم أن المدينة أخذت منهم وكان في أولاده ولد عاقل لبيب كامل الذات والصفات وافر العقل وكان منذ نشأ يتبع العلماء ويجالسهم ويطلب العلم ومنذ ملك عقله ما أكل لحم خنزير ولا كشف ذيله على محرم ولا سجد لصورة ولا لصليب وكان هم أن يبني صومعة وينفرد فيها فلم يمكنه أبوه من فرط محبته له وكان لا يستطيع فراقه وهذا الغلام اسمه شطا وكان يحب أن يسمع أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبحث عنها فلما نظر إلى الصحابة وقد ملكوا منه البلد وشطا عن يمين أبيه نظر شطا إلى الصحابة والى زيهم والى نور الإيمان وهو ساطع منهم. قال فشخص شطا نحو السماء ببصره وصاح وسقط عن قربوس فرسه بوجهه قال فارتاع أبوه وجميع عسكره من تلك الصيحة فلما أفاق قال له أبوه: يا بني ما وراءك قال ظهر الله والحق وبان وقد تبينت لي حقيقة الإيمان وقد نظرت إلى عسكر هؤلاء العرب وعليهم نور عظيم ومعهم رجال عليهم ثياب خضر وهم على خيول شهب وبينهم قبتان معلقتان في الجو بلا علاقة من فوقها ولا دعامة من تحتها وفيها رجال ما رأيت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 أحسن من وجوههم ولا شك أنهم الشهداء ورأيت في احدى القبتين حورا لو برزن لاهل الدنيا لماتوا شوقا اليهن وإن الله تعالى ما كشف عن بصري وأراني ذلك إلا وقد اراد لي الخير وما كنت بالذي بعد هذه الرؤيا أبقى على الضلال ولا أتبع المحال وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وإن محمدا رسول الله وحرك جواده وقال من أحبني من رجالي وغلماني فليتبعني قال فتبعه القوم الف رجل ولحقوا ما فعل ولده شطا قال: والله ما فعل ولدي شطا ذلك إلا وقد رأى الحق ولست أشك في عقله ودينه ثم إنه أسلم ولحق بولده فلما نظر أرباب دولته ذلك قالوا: إذا كان الملك وولده قد أسلما فما وقوفنا نحن فاسملوا جميعا على يد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخلوا المدينة فمن أسلم تركوه ومن أبى أخرجوه إلى بلاد الارياف قال: وفتح المقداد النقب الذي دخلوا منه وأمر ببنائه بابا فسماه باب اليتيم وهو ابن الحكيم وترك عندهم المقداد رجلا من الصحابة يعلمهم شرائع الإسلام وهو يزيد بن عامر رضي الله عنه ورجع المقداد وأصحابه إلى اسكندرية وحدثوا عمرا بما فتح الله عليه من دمياط ففرح بذلك وكتب كتابا إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بفتح مريوط والاسكندرية ودمياط ورشيد وفوة والمحلة ودميرة وسمنود وجرجة ودمنهور وابيار والبحيرة وبعث الكتاب مع عامر بن لؤى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 ذكر فتح جزيرة تنيس . قال: حدثني زياد عن حميد الطويل عن يونس بن الصامت عن نصر بن مسروق قال لما فتحت دمياط وكان من أمرها ما كان قال البامرك لولده يا بني أن الله قد أنقذنا من نار الجحيم وقد هدانا إلى الصراط المستقيم وذلك لسابقة سبقت لنا في القدم وهذه تنيس بالقرب منا وهي جزيرة ولا يمكن التوصل اليها إلا في المراكب والصواب أننا نكاتب صاحبها أبا ثوب وندعوه إلى الله والى دين نبيه فإن أجاب والا قصدناه والله ينصرنا فقال شطا هذا هو الرأي وأنا أكون الرسول إليه بنفسي فقال: يا بني اعزم على بركة الله وعونه قال فركب شطا في مركب وأخذ معه أربعة من غلمانه الخواص فلما نظر يزيد بن عامر إلى ذلك قال: وأنا أسير معك إلى صاحب تنيس فإنه لو سألك عن ديننا ومعالمه لم يكن عندك به علم بأن تكلمه ونحن بحمد الله ما فينا من يتكبر ولا من يتجبر وما طلبتنا إلا الآخرة والعمل بما يقربنا إلى الله ثم سار معه يزيد ابن عامر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وصلوا إلى جزيرة تنيس وفيها رجال يحفظونها فلما نظروا إلى شطا وغلمانه وبينهم رجل بدوي قالوا: من أنتم قال لهم: شطا أنا ابن الملك البامرك صاحب دمياط ومعنا هذا الرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جئناكم رسلا قال فارسلوا منهم واحدا يستأذن لهم فأذن لهم أبو ثوب قال فنزلوا في الزورق وإذا به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 قد أرسل لهم دوابا ليركبوها فامتنع يزيد من الركوب ووافقه شطا على ذلك وساروا كلهم رجالا إلى أبي ثوب فاستأذنوا عليه فأذن لهم فلما دخلوا قصر أبي ثوب وإذا به في حشمه وخدمه وزينته والحجاب والغلمان بين يديه وهو في مرتبه امارته وكان قد تكبر وتجبر منذ نزل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على مصر ومنع المال والخراج أن يؤديه للمقوقس وولده وقد اجتمع عنده مال عظيم فلما دخل عليه يزيد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وشطا وغلمانه ونظروا إلى أبي ثوب وغلمانه وتجبره بدأ يزيد بالسلام فقال السلام على من اتبع الهدى: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [طه:48] . قال الواقدي: حدثنا ابن سالم عن جرير بن أحمد عن أبيه عبينة عن ابن جرير وكان أعلم الناس بقصة فتوح مصر والمغرب قال كان أبو ثوب هذا من أرض العريش من متنصرة العرب من آل غسان وهو قريب جبلة وكان صاحب مال ورجال وإنه لما وقعت الهزيمة على الروم وفتح الشام وانهزم الملك هرقل وهرب معه جبلة هرب معهم أبو ثوب هذا بماله وأهله واخوته إلى أرض الجفار ونزل في البرية ما بين العريش ورفح وإن المقوقس خرج في بعض الايام يريد الصيد في عسكره فانتهى في سرحته إلى أرض العريش فانطرد قدامهم وحش كبير فطلبه الملك وتبعه ولم يتبعه أحد من عسكره وهو وراءه وحده إلى أن رماه في حلل العرب في حلة أبي ثوب فقام إليه وعظمه وبجله وعلم أنه الملك فامسك ركابه وأنزله في بيته وذبح له الاغنام ووضع له الطعام وتلاحق الجيش قال فأضافهم أبو ثوب ثلاثة أيام فلما كان في اليوم الرابع ركب في خدمة الملك وشيعه وعاد فلما دخل المقوقس إلى مصر أمر وزيره بأن يكتب إلى أبي ثوب بولاية تنيس وأعمالها وأرسل له الخلع والاموال والمماليك والغلمان فلما وصل إليه منشور الملك وخلعه فرح أبو ثوب وركب وسار إلى الفرمة وركب منها في المراكب إلى تنيس فلما مكث في ولايته بعث إلى أهله واخوته فأتوا إليه فولى أخاه أباسيف على جزيرة الصدف وولى أخاه الثاني أبا شق على جزيرة الطير وولى ولده على دنيوز فلما طال عليه الامر طغى وتجبر ومرت الأيام والليالي حتى قدم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض مصر فمنع دفع الخراج إلى مصر وإلى المقوقس وولده ورأى نفسه في تلك الجزيرة فتحصن بها وقال: ما أحد يقدر أن يصل الي فلما قدم شطا ويزيد بن عامر ونظر إليهم أبو ثوب أظهر الاعجاب والتكبر ولم يلتفت إليهم ولم يجسر أحد من جماعته أن يأذن لهم بالجلوس فلما نظر إلى ذلك يزيد بن عامر قرأ: {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128] وجلس إلى جانبه شطا ونظر يزيد إلى سرير أبي ثوب فإذا هو من الذهب ووفيه صورة النخلة ومن تحتها صورة مريم والمسيح في حجرها فقرأ: {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً، وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً، فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً} [مريم: 24 , 26] إلى قوله: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً، وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً، وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً، وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً} [مريم: 30 , 33] قال فلما سمع أبو ثوب كلام يزيد التفت إليه بغضب وحنق وقال: ما هذا الكلام الذي نطقت به قال يزيد هذا كلام الله جل جلاله الذي أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم الذي لا تفنى عجائبه ولا تنفذ غرائبه ولا تبدل كلماته ولا تمل آياته فقال: ما معنى الذي ذكرت ونطقت به وما تفسيره فقال يزيد أما قول الله اخبارا عن عيسى حين قال: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} فإنه يعلم الخلق أنه عبد الله وليس بولد جل الواحد الأحد الفرد الصمد وأما قوله: {آتَانِيَ الْكِتَابَ} فمعناه أعلمكم الاحكام وأعرفكم الحلال والحرام وأما قوله: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ} فمعناه أني مأمور بالطاعة والخدمة والزكاة مثلكم فإن في مالي حقا لله وأما قوله: {وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ} فيعلمهم أنه يموت ومن يموت لا يكون له العزة والجبروت وأما قوله: {وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً} فيعلمهم أنه وإياهم مبعوثون في يوم القيامة وقوف يوم الحشر والندامة ولو كانا الهين لكان لهما ارادتان ووقع الخلف بينهما وإن الحكمة غير ذلك وهي على وحدانيته شاهدة قال فلما سمع أبو ثوب من يزيد بن عامر هذا المقال قال لقد مثلتم بالاباطيل وغرقتم في بحر الاضاليل فقال يزيد الله أعلم من هو تائه في تيه المحال مشرك بالملك المتعال الذي لا سماء تظله ولا أرض تقله ولا ليل يؤويه ولا نهار يأتيه ولا ضياء يظهره ولا ظلام يستره ولا يقهره سلطان ولا يغيره زمان كل يوم هو في شان أما لكم بصائر أما منكم من ينظر ويعتبر في قدرة الله القادر اما منكم من يعظ نفسه بذهاب النهار واقبال الليل اما أن لكم أن تنزهوه أما أن لكم أن توحدوه أما سمعتم ممن تعبدونه وتبرؤن إليه وتعظمونه فإن المسيح قد أقر له بالعبودية وتبرأ من دعوى الربوبية وقال إني عبد الله ولقد بشر بنبينا قبل مبعثه وعرف بني اسرائيل بقربه من الحق وكرامته أما سمعتم بمعجزاته وما ظهر من دلالاته أما انشق له القمر أما كلمه الضب والحجر أما خاطبه البعير والشجر أما هو من أطيب بيت من مصر قال فعجز أبو ثوب عن رد الجواب ولم يكن له ما يزيل حجته إلا أن قال ليزيد بن عامر: لقد علمنا ما فعل ولكنه كان ساحرا وإن كان قولك هذا حقا فادع الله وتوسل إليه بمحمد أن يسقينا الغيث فإن جاء الغيث علمنا أن قولك ليس فيه شك ونؤمن بالله ونصدق برسالة محمد صلى الله عليه وسلم قال يزيد بن عامر أن الله يقدر على ما ذكرت فإن الله على كل شيء قدير أن العبد المخلص إذا دعاه أجاب دعوته ولكنه يفعل ما يشاء وأنا أتوسل إلى الله بخير خلقه وصفيه وهو الفعال لما يريد ثم أن يزيد قام وخرج من. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 مجلس أبي ثوب فقال له: إلى أين قال أدعو الذي لو شاء أنزل عليكم رجزا من السماء ثم قرأ: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [الروم:29] . قال: حدثنا عاصم عن رويم عن ابن جبير قال إنما طلب أبو ثوب الغيث واقتصر عليه لانه كانت له مزرعة بالبعد من النيل ولا يقدر أن يسقيها ولا يصل اليها ماء وكانت قد أشرفت على الهلاك واليبس وكانت منه ببال وكان قد غرس فيها من جميع الثمار والاشجار وصنع لها مصانع تمتلىء بماء المطر فيسقيها وقت الحاجة اليها وكان المطر قد أمسك عنها والمصانع نشفت فلما خرج يزيد إلى البحر توضأ وصلى ركعتين ثم رفع رأسه نحو السماء وقال: اللهم إنك قد أمرتنا بالدعاء ووعدتنا بالاجابة فقلت وأنت أصدق القائلين: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فإني قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186] وقد دعوت كما أمرت فاستجب كما وعدت يا ذا المعروف الذي لا ينقطع أبدا ولا يحصيه غيرك قال ابن جبير لقد بلغني ممن أثق به أن يزيد بن عامر ما برح يدعو حتى ارتفع السحاب من الجو ووقف وقفة الخاضع ورفع جناح السائل المتواضع وارتفعت سحابة وتألقت والرعد يصول حولها صولة الغاضب وهو لها بصوت البرق يزجر بصلصلة وقعقعة وهرير وهو على ذلك سيره ومسيره وقد أحاطت بالسحابة ملائكة الرحمة متمنطقة بنطاق الخدمة يسوقونها من خزائن رحمته ويجذبونها بأزمة القهر إلى ملك ابديته وهو واضع أجنحة عبوديته موسوم بوسم: {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ} [الرعد: 13] والركام يسري ويسرع اسراع الوجل يسبح من يسجد لجلاله: {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} [النور: 43] فإذا هي أشرفت وتكاملت بالماء ووسقت والبروق من أركانها قد انشقت وهبت عليها رياح قدرته من مواضع خزائن رحمته: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [الأعراف: 57] فعندها تفتح مغاليق أبوابها وترفع ستر حجابها فهمت بدموع أشجانها على أيدي خزانها فتستبشر الأرض عند ورودها وتنتظم عقود الزهر عند ورودها في جيد وجودها وتخرج كنوز ذخائرها: {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم: 50] قال: ونزل المطر يسكب بقية يومهم وليلتهم فلما كان من الغد حضر يزيد بن عامر مجلس أبي ثوب وقال لهم: كيف رأيت صنع الله الصانع المتكفل بأرزاق العبيد قال فضحك أبو ثوب وقال أن سحركم لعظيم وإن مكركم لجسيم وإن سحركم يفعل أكثر من هذا فقال إنما ذلك رحمة من الله قد أبر من أقسم باسمه عليه فلما رأى نزول المطر وظهرت بركات صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال على سبيل المكر الآن تحققت أن دينكم الحق وقولكم الصدق وأنا مؤمن بالله ومصدق برسالة رسول لله صلى الله عليه وسلم وسوف أعرض دين الإسلام على أهل جزيرتي وأصحابي وأهلي وأبني المساجد وآمر بالمعروف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 وأنهي عن المنكر فقال يزيد أن أنت فعلت ذلك رشدت وإن نافقت فإن ربك لبالمرصاد ثم خرج من عنده هو ومن كان معه شطا وغلمانه ومضوا إلى دمياط إلى البامرك وحدثوه بما كان من أبي ثوب فقال: والله لقد خدعكم بخديعته ورماكم بسهم مكيدته فقال يزيد بن عامر: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران:54] فما لبثوا اياما قلائل حتى وصل الخبر أن أبا ثوب جمع من سائر الجزائر وهو قادم عليهم فلما سمع البامرك بذلك قال ليزيد بن عامر: ما الذي ترى من الرأي في أمر هذا العدو فقال يزيد نستعين بالله ونتوكل على الله ومن قاتلنا قاتلناه. قال بن اسحق وإن البامرك أرسل ولده شطا إلى البرلس ودميرة وطناح ومن تحت يده يطلبهم فجاؤا من كل جهة وكتب يزيد إلى عمرو بن العاص يعلمه أن أبا ثوب قد جمع الجموع فلما وصل إليه الكتاب أرسل إليهم هلال بن أوس بن صفوان بن ربيعة أحد بني لؤى ومعه الف فارس وأمره بالمسير إلى دمياط وذلك في العشر الاول من شعبان سنة عشرين من الهجرة وكان لعمر بن الخطاب في الخلافة أربع سنين ونصف أما ما كان من أبي ثوب فإنه لما نفر إليه العساكر أخرجهم بظاهر تنيس فكانوا عشرين ألفا من الرجال ومن الخيل خمسمائة فارس من القبط ومتنصرة العرب وعداهم في المراكب وأتوا نحو دمياط فخرج شطا بن البامرك فقتل رجالا وجندل ابطالا وإنه اشترى الجنة من الله بنفسه ولم يزل يقاتلهم بقية يومه ثم إنه عاد من قتال اللئام إلى الصلاة والصيام ولم يزل على قدم الخوف والوجل وهو منكس الرأس من الخجل من الله تعالى عز وجل فلما مضى أكثر الليل وطلع نجم سهيل اضطجع فلما كان وقت الغلس وقرب الصبح وتنفس استيقظ شطا وهو باكي العين فقال له أبوه: يا بني ما الذي أبكاك فقال رأيت شيئا في منامي أبصرته وسمعت منه كلاما وعاينته وحفظته وحررته والدنيا هي طالق وإني بعون ربي واثق ولا شك أني لك مفارق فقال أبوه أعوذ بالله يا بني ما هذا الكلام ولعل ذلك أضغاث أحلام. فقال: لا والله ما هي أضغاث أحلام لكنه أمر من الملك العلام الذي أجرى الاقلام وخلق الضياء والظلام وبعث سيد الانام بشرائع الإسلام وإني رايت في منامي كأن أبواب السماء قد فتحت وأنوار الهداية قد سطعت ولمعت ثم تفتحت أبواب السماء الثانية ثم رأيت ملائكتها سجودا على جباههم لا يقومون وركعا لا ينتصبون وقياما من هيبة ربهم لا يقعدون وباكين لا تجف لهم دموع ثم كذلك رايت سماء بعد سماء إلى السماء السابعة ثم رأيت قبة من زمرد أخضر وفيها قناديل من الجوهر وهي تسرج من الانوار وتوقد من غير نار وفيها أربعون حوراء عليهن حلل ما رأيت قط مثلها ولا ابصرت شكلها بوجوه تفتن الانس وفي أرجلهن نعال الياقوت الأحمر يطأن بها على النمارق والزرابي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 فصاحت بي احداهن وهي كبيرتهن وقالت يا مفتونا بدار الدنيا أما أن لك أن تذكرنا فقد خلقناالله لك منذ خلقك وجعل مهرنا منك الجهاد في مرضاة رب العباد وقد الفت الجفاء وما هكذا صنع أهل الوفاء انظر إلى ما أعد لك وللشهداء قال فنظرت وإذا بقباب معلقة حيث لا يدرك لها نهاية بعدد النجوم وقطرات الغيوم وقد نفد الميقات وانقضت الساعات والاوقات فتيقظ في المنام وارحل إلى دار السلام وقالت في كل قبة مثل ما رأيت فقلت ما هذه القباب فقالت هذه قباب قوام الليل والشهداء يأوون اليها في جنة المأوى ثم إنها جعلت تقول: أنت يا مفتون دواما. ... في الدنا ثم المنام. ... فدع النوم وبادر. ... مثل فعل المستهام. وابك بالوجد دواما. ... بدموع وانسجام. ... ثم نح ياذا كثيرا. ... في نهار وظلام. ايها اللائم دعني. ... لست أصغي للملام. ... في عروس قد تبدت. ... فاقت البدر التمام. طرفها يرشق باللحظ. ... مصيبا كالسهام. ... ولها صدغ منير. ... مثل نون تحت لام. احسن الاتراب قدا. ... في اعتدال وقوام. ... مهرها أن قام ليلا. ... وهو باك في الظلام. ياعمادي ورجائي ... ومنائي والمرام ... فاستمع مني قولي ... ثم فكر في النظام وغداً بادر لحرب ... وإلى ضرب السهام ... مسرعا تاتي الينا. ... بعد ترحال الظلام. فقال أبوه اعلم يا ولدي أن من المنام ما يصدق وما يكذب فلا تشغل نفسك بما رأيت فقال: لا والله يا أباه ما بقي لي في الدنيا طمع ولم يزل باقي ليلته يبكي ويتضرع ويقوم على أقدام الخشوع ويخضع وأجفانه بالدوام تدمع إلى أن أصبح الصباح وأشرق بحيائه ولاح فودع شطا اباه وأهله وخرج إلى الحرب فتعلق به أبوه وقال له: يا بني بحقي عليك لا تبلني بفراقك فقال شطا دع عنك العتاب فقد قرب لقاء الأحباب فعندها قامت على ابيه المواسم وانهل الدمع الساجم ودنا الفراق وقامت الاشواق وجرى دمع كل عين وأقبل البامرك يودع ولده ويقول يا بني أن صح منامك وضربت في دار السلام خيامك فاذكرنا بحسن طريقة الوفا وأقرىء سلامي على النبي المصطفى فبرز شطا إلى الحرب ودعا للبراز فخرج إليه واحد فقتله وثان وثالث حتى قتل اثني عشر فارسا. قال ابن اسحق: فلما رأى أبو ثوب ما فعل شطا بفرسانه لم يطق الصبر دون أن خرج إليه بنفسه وكان من الفرسان المذكورة فلما سار شطا في الميدان قال له: يا شطا كيف تركت الدين المستقيم وعدلت عنه وصغيت إلى هؤلاء اللئام واتبعت دين الإسلام لقد عمل فيك القوم واستوجبت العتب واللوم يا فتى عد إلى الدين الصحيح والقول الرجيح وهو دين المسيح فأي شيء رايت من هؤلاء المساكين حتى تبعت دينهم فلما سمع شطا كلام أبي ثوب أقبل عليه مغضبا وقال له: يا لئيم أتأمرني أن أدع الدين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 المستقيم الذي كان عليه الخليل والكليم وإني لي بذلك وقد رأيت الليلة مالي من الكرامة عند الله وقد طلقت الدنيا ثلاثا فلما سمع أبو ثوب كلامه حمل عليه ومد سنانه إليه فتلقاه بقلب قوي وجنان جري وعزم مضي وحسام سري وتقاتلا نصف نهار فعطش شطا فأراد الله أن يطيب قلبه فكشف عن بصره فرأى القبة التي رآها في المنام والحوراء التي أنشدته الأبيات وفي يدها كأس من شربها لا يفنى ولا يسقم وفيه من الرحيق المختوم وهي تقول يا شطا هذا شراب من شرب منه لا يسقم ولا يفيق والساعة تصل الينا وتقدم علينا قال فلما نظر شطا إلى ذلك وسمع منها ما قالت صاح الله أكبر: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يّس: 52] وأخذه الدمع والبكاء خوفا من الله فقال له ابو ثوب: مم بكاؤك قال رأيت كذا وكذا فضحك أبو ثوب من كلامه وحمل عليه فتقاتلا قتالا شديدا أعظم من الأول إلا أن أبا ثوب سبق شطا بطعنة في صدره فاطلع السنان من ظهره فخر صريعا فلما نظر البامرك إلى ولده مطروحا لم يأخذه صبر دون أن حمل عليه هو وأصحابه قال: وأظلمت آفاق تلك الأرض من الغبار وترادف القتار فوقعت الهزيمة على البامرك وأصحابه فالجأهم إلى أبواب دمياط وطمع فيهم عدو الله أبو ثوب وإذ قد أتاهم هلال بن أوس بن صفوان بن ربيعة فوضعوا أيديهم في أبي ثوب وأصحابه وهم ينادون بالتهليل والتكبير وتحامي أصحاب البامرك وحملوا من قبلهم قال: وأما ابو ثوب وأصحابه فإنهم أيسوا من أنفسهم قال فهم في ذلك إذ التقى يزيد بن عامر بأبي ثوب فقال له: يا عدو الله أما اتعظت بآيات الله أما ظهر لك الحق من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأطبق عليه فأخذه أسيرا وصاح الصائح أن أبا ثوب أسر فاستسلم قومه للقضاء فأخذوهم عن آخرهم بعد ما قتل منهم خلق كثير ثم إنهم عزوا البامرك في ولده شطا فقال احتسبته عند الله فقال له يزيد بن عامر أن في الجنة درجات لاينالها إلا الصابرون قال الله تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155, 157] . قال ابن اسحق: ودفنوا شطا في ثيابه بعد ما صلوا عليه ودفنوه في موضع قتله قال فلما كان الغد أقبل البامرك إلى يزيد بن عامر وقال رايت الليلة ولدي في النوم وهو في القبة والحور بين يديه فقلت ما فعل الله بك قال قبلني بأحسن قبول وجاد علي وأنزلني بجوار الرسول. حدثنا ابن اسحق حدثنا عمر بن الأسقع عن جده عامر بن خويلد قال قتل شطا في ليلة نصف شعبان فجعل له تلك الليلة موسما في كل سنة وذلك انه لما يبق أحد إلا زرا قبره تلك الليلة وإن هلال بن أوس نزل وأحضر أبا ثوب وعرض عليه الإسلام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 فاسلم وأسلم من الأسرى أناس وابى منهم أناس وبقوا على دينهم وقرروا عليهم الجزية ودخل المسلمون في المراكب إلى تنيس وبنوا موضع الكنيسة جامعا وبنوا في جميع الجزائر جوامع وأخرج ابو ثوب الخمس من ماله وأموال قومه وبعثوه إلى عمرو بن العاص مع أموال من قتل وإن هلال بن أوس نزل على التل الأحمر بظاهر تنيس واقر أهل الجزائر في أماكنهم فقالوا: أيها الأمير قد أمنتنا من جانبك وبقي علينا الخوف من جانب آخر قال هلال من أين قالوا: من أصحاب القلعة المسماة الفرماء قال: وأين هي قالوا: على جانب بحيرة تنيس مما يلي شرقها وفهم أقوام وعليهم الصامت ابن مرة من آل مرداس فلما سمع هلال بن أوس ذلك مضى اليها وبجميع من معه فلما وصلوا اليها اشرف عليهم الصامت بن مرة وأمر أصحابه أن يرموهم وكان بها ألف رجل وغالبهم رماة النبل فرموا عن قوس واحد ألف سهم فسمعتها العرب من الفرماء فأقام عليها هلال بن أوس عشرين يوما فلم يقدر عليها فبعث إلى عمرو يعلمه بما وقع ويستنجده فارسل إليه المقداد ابن الأسود الكندي في خمسمائة من عسكر الإسلام وأرسل معه ثلاثة آلاف ممن أسلم من القبط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 ذكر فتوح الفرماء والبقارة والقصر المشيد . قال فلما نزل المقداد على الفرماء تأهب أهلها للقتال فنزل بالصامت بن مرة ما نزل به فعلم أنه بيد القوم لأنه ليس له ناصر ولا معين فصالح المقداد على أن يؤدي لهم اربعة آلاف مثقال من الذهب وأربعمائة ناقة وألف رأس من الغنم وإن يمهلوه إلى تمام السنة فإن شاء دان إلى الإسلام والا ارتحل بأمانه فأجابه المقداد إلى ذلك وارتحل المقداد وهلال بن أوس ونزلوا على البقارة وكان عليها بن الأشرف فاسلم هو ومن معه ومضوا إلى القصر المشيد ففتحوه صلحا ثم ارتحلوا ونزلوا على الوردة وكان اسمها الواردة فسلمها أهلها وارتحلوا إلى العريش فصالحهم أهلها وكذلك أهل رفح وبيدا ومياس ونخلة وعسقلان. قال ابن اسحق: حدثني يوسف بن عبد الأعلى قراءة عليه بجامع الرملة سنة مائتين وعشرين من الهجرة قال: حدثني موسى بن عامر عن رفاعة عن جده عبد العزيز بن سالم عن أبي يعلي العبدي عن طاهر المطوعي عن أبي طالب الفشاري عن وهبان بن بشر بن هزان قال سمعت الشرح كله من محمد بن عمر الواقدي وهو يؤمئذ قاضي بغداد في الجانب الغربي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 ذكر فتوح ديار بكر وأرض ربيعة . حدثنا عدنان بن يحيى الخرثي عن معمر الجوني ومن طريق آخر عن ابن عمير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 التميمي والابتداء عن المهلب وطلحة ومحمد قالوا: جميعا أو من قال منهم أنه لما فتح الله الشام على يد أبي عبيدة عامر بن الجراح وعلى يد خالد بن الوليد وفتح أرض مصر على يد عمرو بن العاص بن وائل السهمي كتب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة يقول له بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى عامر بن الجراح سلام عليك فإني أحمد اليك الله الذي لا إله إلا هو واصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أما بعد فقد أجهدت نفسك في قتل الكفار وسارعت إلى رضا الجبار وقدمت لك ما تجده يوم عرضك ولم نر منك يوما معرضا عن أداء فرضك وقمت بسنة نبيك وجاهدت في الله حق جهاده تقبل الله منا ومنك وغفر لنا ولك فإذا قرأت كتابي هذا فاعقد عقدا لعياض بن غنم الأشعري وجهز معه جيشا إلى أرض ربيعة وديار بكر وإني أرجو من الله سبحانه وتعالى أن يفتحها على يديه وأوصيه بتقوى الله والجهاد والاجتهاد في طاعته ولا يلحقه التواني في الجهاد ويتبع سنن المؤمنين المجاهدين وما أمر به سيد المرسلين مما أنزل عليه رب العالمين: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} [التوبة: 73, التحريم: 9] والسلام عليك وعلى جميع المسلمين ورحمة الله وبركاته ثم كتب كتابا آخر إلى عياض بن غنم بالولاية والمسير إلى أرض ربيعة الفرس وديار بكر قال: وبعث بالكتاب مع ساعدة بن قيس المرادي وزوده من بيت مال المسلمين وأمره بالمسير فسار إلى أن ورد على أبي عبيدة في طبرية فسلم إليه كتاب عمر وسلم الكتاب الثاني إلى عياض بن غنم الأشعري فلما قرأه ابو عبيدة قال السمع والطاعة لله ولأمير المؤمنين وهيأ عياضا بمسيره إلى الجهاد وعقد له عقدا على ثمانية آلاف منهم ألف صحابي من جملتهم خالد بن الوليد والنعمان بن المنذر وضرار بن الازور بن سابق وضمرة وعمرو بن ربيعة وذو الاداغير بن قيس والحكم بن هشام اليسع بن خلف وطلحة وعامر بن بهرام والمقداد بن الاسود وعمار بن ياسر وعبد الله بن يوقنا وكانوا قد قدموا على أبي عبيدة بعد فتوح مصر وكان قدومهم في شهر شوال سنة ست وعشرين من الهجرة وسار عياض بن غنم من طبرية في ثمانية آلاف يريد الجزيرة وعلى مقدمته خيل سهل ابن عدي فلم يزل سائرا حتى نزل على بالس وكان خالد قد فتحها صلحا فأقام عليها وسرح سهيل ابن عدي إلى الرقة فنزل على حصارها وكان عليها بطريق اسمه يوحنا وكان من قبل صاحب رأس العين وكان قد استعد للحرب وعبى آلة الحصار فلما رآي أهل الرقة أن صاحبهم معول على الحصار اجتمع بعضهم ببعض وقالوا: أي شيء أنتم بين أهل الشام وأهل العراق ولا مقام لكم بين يدي هؤلاء القوم قال فمشوا إلى عياض بن غنم بالصلح فرأى أن يقبل منهم فبعث إلى سهيل بن عدي أن يصالحهم على ما وقع عليه الاتفاق وارتحل عياض بن غنم عن بالس ونزل على الرقة البيضاء وفي ذلك قال سهيل بن عدي. وصادفنا الغزاة غداة سرنا ... بجود الخيل والاسل الطوال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 أخذنا الرقة البيضاء لما. ... رأتنا الشهب نلعب بالتلال. وأزعجت الجزيرة بعد خفض. ... وقد كانت تخوف بالزوال. سنقصد رأس عين بعد عين. ... أجد بحملتي جيش الضلال. قصدك يا سهيل تبيد جيشا. ... وتقتل في البطارق لا تبالي. فنحن أولو التقية والمعالي. ... ونحن الصابرون لكل حال. صحابة أحمد خير الموالي. ... رقي العلياء والرتب العوالي. إلى رب السماء دنا علوا. ... وخاطبه شفاها بالمقال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 ذكر فتح القلعتين زبا وزلوبيا قال الواقدي: لما فتحت الرقة صلحا عول عياض بن غنم على المسير إلى رأس العين وكان يملك يومئذ الجزيرة ملك من ملوك الروم يقال شهر ياض بن فرون وكان جيشه مائة ألف وتحت يده وفي عمالة من العرب المتنصرة السلطان بن سارية التغلبي وهبيرة وهم ثلاثون الفا من الأبطال وانهم لما اتصلت بهم الاخبار بفتح الرقة وإن المسلمين قاصدون إليهم مع عياض بن غنم وخالد والمقداد أتو إلى الملك شهر ياض برأس العين وقالوا له: اعلم أيها الملك أن اصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قد أتو ديارنا وقصدوا نحونا ونحن علينا الطلب أكثر منكم ومطلب القوم أننا ندخل في دينهم فاضرب خيامك بظاهر البلد واظهر بجيش حتى نلقاهم فإما لنا وأما علينا فأجابهم إلى ذلك وقال غير أني أخاف أن تنهزموا عني فأعطوا رهائن استوثق منهم ورتب آلة الحصار وأخرج الخزائن والأموال ورتب الحرس على الأسوار وزاد في عمق الخندق وعرضه وأرسل إلى جملين وكفرتوتا ودارا وماردين وحران والرها وتل مرزة والسن والموزر وأقام ينتظر عياض بن غنم. قال: حدثنا عبد الله بن أسلم عن عاصم بن عبد الله عن ابن اسحق الأموي عن يزيد ابن أبي حبيب عن راشد مولاه قال لما عول عياض بن غنم الأشعري على المسير إلى رأس العين إلى قتال الملك شهر ياض بعث قبل مسيره أشعث بن عويلم وعبد الله بن غسان إلى القلعتين المعروفتين بزبا وزلوبيا فقال عبد الله يوقنا لعياض بن غنم اعلم أيها الأمير أن هاتين القلعتين اللتين ذكرتهما حصينتان منيعتان إحداهما من الجانب الشرقي والأخرى من الجانب الغربي وهما كانتا تحت ولايتي وإن صاحبهما كان من قبلي وهو أحد بني عمي واسمه اشفكياص بن مارية كني باسم أمه وكنت قد زوجته ابنتي فأخذت في صداقها الحصن الشرقي من الفرات وقد رأيت إنك تأمرني بالتقدم على هذين الحصنين حتى أحل في القلعة الغربية فإن فتحتها كانت الأخرى في قبضتنا فقال له: لله درك يا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 عبد الله لقد نصحت الإسلام وأهله فجزاك الله خيرا أحسن ما جازى بهأولياء سر على بركة الله وعونه فإذا استقر بك المكان ثلاثة أيام أنفذت اليك شعيبا وعبد الله ومن معهما من المسلمين وبعد الفتح أن شاء الله تنزلون الينا فقال يوقنا استعنا بالله وتوكلنا عليه ثم إنه أخذ معه من صناديد جماعته مائة ولم يأخذوا معهم ثقلا سوى جنيب من الخيل واحد وسار من أول الليل وترك عياض بن غنم علي الباسل فجدوا السير بقية ليلتهم فلما كان قبل الفجر أشرفوا على الخانوقة فوجدوا فيها ألفا من الأرمن وهم بالعدة الكاملة فلما أشرف عليهم يوقنا ومن معه وهم يتحدثون بلغة الروم أنسوابهم وسألوهم عن خبرهم فقالوا: هذا البطريق المعظم يوقنا صاحب حلب قد هرب من العرب وأقبل لنصرة صاحب هذه القلعة فلما سمعوا بذلك فرحوا وصقعوا بين يدي يوقنا وأرسل المقدم عليهم خيالا وأمره بالسرعة ليبشر اشفكياص بقدوم يوقنا إليه وهروبه من العرب وإنه يستأذن عليه فمضى الرجل وأخبر اشفكياص فأطرق إلى الأرض ثم قال لوزيره وحق المسيح والأنجيل ما جاء إلا لينصب علينا ويملك هاتين القلعتين منا كما فعل بطرابلس وصور وما أنا بالذي يأمن فما ترى أيها الوزير. قال ابن اسحق: ولقد بلغني أن هذا الوزير كان من أهل القراءة وكان أديبا عاقلا لبيبا ممن قرأ الكتب السالفة والأخبار الماضية وقرأ ملاحم دانيال وكان منذ بعث النبي صلى الله عليه وسلم يسكن في دير مترهبا وهو ما بين السر 3 وحلب فتعبد فيه زمانا طويلا حتى شاع ذكره بين أهل دين النصرانية ثم بعد ذلك أخبر الروم بأنه قد وقع بحافر من حوافر حمار المسيح فكانت الروم ينذرون له النذور والصدقات وشاع خره وسما ذكره فسمي ذلك الدير بدير حافر وإنه في بعض الايام خرج من ديره إلى مزرعة له هناك وإذا برجل من البدو قد عبر وهو راكب على ناقة وكان الحر قد اشتد فأوى إلى ظل حائط الدير وأناخ ناقته وعقلها ونام والراهب ينظر إليه فلما غرق في نومه أتت حية من مزرعة الراهب وفي فمها باقة نرجس فجعلت تروح عليه حتى استفاق وذلك الراهب ينظر إليه فلما أفاق أتى إليه وسلم عليه وقال له: من أي الناس أنت قال من العرب قال الراهب قد علمت ذلك وإنما أسألك عن دينك قال ديني الإسلام الذي كان عليه أنبياء الله كلهم عليهم أفضل الصلاة والسلام فقال لعلك على دين هذا الرجل الذي في أرض الحجاز قال: نعم. قال ابن اسحق: وكان البدوي ورقة بن الصامت الهذلي ابن أخت رواحة الانصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان حضر غزوة تبوك وحضر يوم السلاسل وكان أديبا ليبيا شاعرا لا يتكلم إلا بسجع وكان أبو عبيدة قد وجهه لما كانوا في حصار قلعة حلب إلى صاحب الرقة يدعوه إلى الإسلام فقال الراهب وكان اسمه شوجوان بن كربان قد بلغني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 أنكم تقولون ما خلق الله خلقا أعظم ولا أكرم ولا أرحم من محمد وتركتم آدم ونوحا وابراهيم واسحق ويعقوب والاسباط وموسى وداود وسليمان وعيسى فأريد أن تبين لي حقيقة ذلك فقال ورقة بن الصامت اسمع ما أقول ولا تتبع الفضول أما علمت أن عالم الملائكة اجتمعوا بالبيت المعمور ووقع بينهم الجدل في تصاريف الامور وافتخر الكروبيون على الروحانيين والمسبحون على المقربين فزاحمهم ابليس بدقة عبادته ومشيد مباني زهادته فقال أنا المخلوق من ضرام النار البارع في خدمة العزيز الجبار اين أنتم من وقوفي على أقدام الاهتمام مائة ألف عام وتعبدي في السموات وأكنافها وبروجها واعرافها وأوساطها وأطرافها وجبال الأرض وأكنافها فعارضه جبريل بالامتحان والابتداء وصرفه عن حجة الافتخار والادعاء وقال له: ما أنت في الافتخار إلا في الحضيض المحضوض أن لله نبيا في عالم الملكوت محجوبا قد طال اشتياقنا إليه ووردنا الخبر فيما يريد وجعل نهاية عبادتنا الصلاة عليه فأيقن من المفاخر بالنزول ومن اطلاق شمس ادعاء بالأفول وقال رب فهل إلى لقائه من سبيل والى الوصول إليه من دليل فقال جبريل اقطع مسافة الامنية وخض بحر الاعتراف بعز الربوبية وثق بحبال العز المكين فإنك لخدمة من كون من نور التكوين عليه منقوش بقلم التمكين: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [يّس:3] فخلع ابليس لباس العمل واستعمل أجنحة الامل وألقى قلادة الادعاء ونكس تاج الكبرياء واستعد لقوادم الطلب وداخله من قول جبريل غاية العجب وجعل همة عزمه تحصيل السبب وحذر من سوء المنقلب. وقال: يا للعجب أنا مع صدق طويتي في المعاملة والانابة وخلوص سريرتي في طلب الزيادة هل يكون أحد مثلي او يبلغ درجة فعلي وكيف ذلك وإذا رفعت رأسي بالتسبيح أعاين ما حول العرش وإذا سجدت لعظمة الله أنظر ما تحت الفرش فنودي أتفتخر علينا بجواهر طاعتك وتوفر أسباب بضاعتك ونحن وفقناك لطاعتنا ومعاملتنا وأريناك أطراف ارضنا وسمواتنا من قواك على خدمتي من جعلك معلما لملائكتي وعزتي وجلالي لولا أحمد ما خلقت ملكا ولا أجريت فلكا ولا أنرت قمرا ولا أمضيت قدرا ولا أسرجت شمسا ولا أقررت عرشا ولا بسطت فرشا ولا خلقت جنة ولا نارا ولا فجرت أنهارا ولا بحارا ولا جعلت النجوم طوالع ولا غوارب ولا الدنيا مشارق ولا مغارب ولكن طر بأجنحة عجل في طلب الايثار حتى يميتك الله بين الجنة والنار قال فسار بفلك طلب النجوم على قدم مطايا التفريد حتى اخترق ما بين العرش والكرسي واختبر كل جني وانسي وكلما مر بمغني من المغاني راى معنى من المعاني وذلك أنه لما رأى أصنافا من الملائكة على اختلاف الأحوال من الاجتهاد والطاعة والأعمال وجميع عباد الله الشاكرة موقوفة على خدمة سيد الدنيا والآخرة وعلم معنى عبادتهم وتحقق آثار ارادتهم زاد به الاعجاب فاستعظم وجود ذلك في عالم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 التراب وقال: أي رب أين أجده وأناديه أم كيف التوصل إلى سبيل ناديه فقال اطلب نهر السلسبيل فهناك تجد إلى نظره سبيل فسار تحت مشيئة القدر إلى أن وصل إلى النهر فرأى ضوءا يلوح واسراره بصفات ما فيه تبوح ودار به المقربون والروحانيون والمسبحون والصافون والراكعون والساجدون وقطب عبادتهم دائرة على الاستغفار لأنه صاحب الافتخار وكلما سبحوا وسجدوا يستغفرون للذين آمنوا به قال فانتظم في سلكهم واسلك سبيل مسلكهم لتفوز بالنظر في جملة من حضر وإذا بنور أحمد قد تعلى ومن سرادقات قصره تجلى فسجدت الملائكة له بمعنى عظيم وقالوا: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] فرد لما غشيه النور الوارد ونطق لسان حسده بما في جسده من ذا الذي ملأ الأكوان بعبادته وافتخر على الملائكة بخالص مجاهدته وإذا بالنداء معاشر الملائكة دعوا النظر إلى المغاني وحققوا النظر إلى الفضائل والمعاني فاحدقت الملائكة نحو القصر بالأعين وإذا في جوانبه أربعة أعين فقالوا: يا رب العزة قد تركنا المغني فما حقيقة هذا المعنى قال هذه العيون عيون أنهاره وسيوف أنصاره ومعالم سنته بحساب نسبته وأبواب علمه ومقر حكمه وزينة دينه وأعلام يقينه وأول عين هي عين التصديق والعين الثانية هي عين العدل والتحقيق والعين الثالثة هي عين النور والحياء والتوفيق والعين الرابعة عين العلم والتشريق فعين التصديق لصديقه وعين العدل لفاروقه وعين الحياء لصهره ورفيقه وعين العلم لأخيه وشقيقه فانظروهم بعين التبجيل والوقار وأكثروا لهم الدعاء والاستغفار فأنا الذي قلت فيهم: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} [آل عمران:17] . فلما علم شوجوان كلام ورقة بن الصامت لم يرد عليه جوابا ولا أبدي له خطابا غير أنه عرف الحق فكتمه ولم يزل شوجوان في الدير حتى أخذ المسلمون حلب فانتقل إلى اشفكياص فاستوزره قال فلما استشاره في أمر يوقنا قال له: اعلم أيها الملك أن يوقنا من الملوك وأبناء الملوك وقد قرأ الكتب وأخوه كان أفضل منه في الدين وقد صحب هؤلاء العرب واطلع على سرائرهم ونظر إلى دينهم وربما أنه علم عند النظر أن دين المسيح افضل من دين هؤلاء العرب وقد هرب من أيديهم اليك فإن كان الرجل قد أتى بغير حمل ولا ثقل فاعلم أنه هارب من القوم اليك فيجب عليك أن تخرج إلى لقائه وتعظم شأنه وترفع مكانه فلما سمع اشفكياص ذلك خرج بعسكره للقائه وبقي الوزير في القلعة قال فسمعت ابنة يوقنا أن اباها قد أتى فنزلت تسبح فس سرب لها تحت الأرض مع جواريها وخدمها وقصدت القلعة الثانية فوجدت اشفكياص قد خرج للقاء أبيها والوزير شوجوان في مرتبة وزارته فقام اليها وصقع بين يديها وخدمها فجلست تتحدث معه فقال لها خذي على نفسك الحذر فإن الملك قد خرج وأخاف أن يبطش هذا اللعين بأبيك وأعلمي أنه ما تبع هؤلاء العرب إلا وقد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 تحقق عنده أن دينهم الحق وقولهم الصدق فقالت له الجارية: فما تقول أنت في دين القوم قال هو والله الحق والدين الصدق وإني كنت كاتم هذا السر فلما سمعت ذلك تبسمت وقالت والله لقد رضيت لنفسي ما رضيه أبي ولكن أنت أكتم هذا عني. قال الواقدي: وإن اشفكياص لقي عبد الله يوقنا وسلم بعضهما على بعض وترجل كل منهما لصاحبه وشكا كل واحد منهما ما يجده من الشوق ثم ركبا وسارا إلى القلعة فنزل يوقنا فيها ومن معه وأتت ابنته وسلمت عليه وبكت وبكى وأما اشفكياص فإنه معول على القبض على يوقنا وقال له: أيها الملك كيف رأيت هؤلاء العرب في دينهم وعدلهم وسياستهم في ملكهم فقال يوقنا أن القوم يزعمون أنهم لا يريدون ملك الدنيا وإنما يريدون ملك الآخرة ومع هذا قد ملكوا الشام وأرض مصر وما تغيروا عن طباعهم وأنفسهم الدنيئة وأول الأمر وآخره أنهم أظهروا الناموس حتى ملكوا البلاد ولما كشفت أسرارهم وتحقق أخبارهم ورأيت بيان ما هم عليه هربت منهم وبعدت عنهم بعد أن ظننت أنهم على الحق ونصحت لهم وملكتهم طرابلس وصور وغيرهما وانطاكية وقد علمت أن المسيح قد غضب علي إذ تركت دينه وما أمر به من القربان وما أوصى به يوحنا المعمدان ولست اظن أن لي تطهيرا من دون الذنوب ومساوي العيوب ثم إنه أظهر البكاء والتوجع والشكوى فلما عاين اشفكياص ما فعله وسمع كلامه انطلى عليه وقال له: ايها الملك إذا كنت قد ندمت على قبيح فعالك ورجعت إلى الدين الصحيح بقلبك فابشر بقبول التوبة وزوال الحوبة واعلم أن باب التوبة مفتوح وعلم القبول لأهل الندامة يلوح وقد قرب عيد الصليب وبقي له عشرون يوما وهذا مرقس الراهب بدير السكرة وهو من أعظم أهل دين النصرانية فسر إليه ليغمسك في ماء المعمودية فتخرج نقيا من الذنوب فقال يوقنا أفعل ذلك ولكن من يضمن أن يعيش فعندها قامت ابنته وصقعت وقالت والله يا أبت ما أدعك تمضي حتى أتملى منك بالنظر وقبلت يد أشفكياص وقالت يا سيدي أريد أن تأذن لأبي أن يسير معي إلى حصني فقال هو الليلة عندي وليلة غد يكون عندك فعلم يوقنا أنه لا بد من الاكل معه ولا بد في سماطه من لحم خنزير ولا بد من الخمر فقال: أيها السيد أينما كنت فأنا في نعمتك وخيرك فقال شوجوان لاشفيكاص اعلم أيها الملك أن الملك يوقنا كثير الشوق إلى ابنته ولهما زمان ما رأيا بعضهما وما يخفى عليك ذلك والصواب أن يكون الليلة عندها وليلة غد يكون عندك فقال افعلوا ذلك قال فأخذت أباها ونزلت في السرب إلى القلعة الشرقية وعبر أصحابه إليه في المركب فلما جن الليل قالت الجارية لأبيها يا أبت كيف تركت العرب بعد صحبتك لهم ونصحك لدينهم أرأيت أن القوم على باطل وإن دينك الاول أفضل منه فرجعت إليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 فقال يوقنا أي بنية والله ما أتيت اليك إلا من شفقتي عليك وقد افترقنا في الدنيا وأخاف أن يكون الفراق في الآخرة أيضا وقد علمت وتيقنت أن هذين الحصنين نصب أعين المسلمين وأنت تعلمين أن قلعتي كانت أمنع من كل قلعة بالشام وقد ملكتها العرب ونزعت ملوكها عن أرضهم وبلادهم فاتقي الله يا بنية في نفسك واعملي لخلاص نفسك من الزبانية والجحيم الحامية والخلود في الهاوية وأرجعي إلى الله من قريب واكفري بدين الصليب فوالله ما ثم دين أفضل من دين الإسلام وعليه كان المسيح والانبياء عليهم الصلاة والسلام وإنما غرر بالنصارى وحيدهم عن طريق الحق رجل يقال له بولص: كان من اليهود أضلهم عن الطريق المستقيم وشرع لهم الضلال القديم حتى كفروا بما جاء به الخليل ابراهيم وهؤلاء العرب قد اتبعوا ما أمر الله به وأمر نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ولديهم القول الراجح والفضل الصالح وانهم طلقوا الدنيا ثلاثا وطلبوا بعد لاجتماع شتاتا فارضي لنفسك ما رضي أبوك لنفسه فقالت والله ما قلت شيئا إلا وأنا به عارفة وقد رضيت لنفسي ما رضيت لنفسك وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله قال ففرح بإسلامها ثم قال: أي بنية ما الذي نصنع في أمر هذا الكافر اللعين الفاجر قالت والله لقد قال لي الوزير شرجوان: انه مصر على قبضك وقال إنك ما أردت إلا لتنصب عليه فقال يوقنا إذا كان الامر كذلك فاصنعي لنا سماطا وسيري إليه واستدعيه هو وخواصه فأنا آمر أصحابي أن يقبضوا عليهم وعليه إذا اشتغلوا بالطعام والشراب فإذا فعلنا ذلك كانت القلعتان في قبضتنا ونسلمهم إلى أصحاب نبينا ثم إني أريهم أننا هربنا منهم إلى أن نحصل في قرقيسيا فلعل الله أن يفتحها على أيدينا وهذا هو الرأي. قال الواقدي: فلما ذهب الليل وأتى النهار أمرت جماعتها بصنع الطعام والحلويات وغيرها فلما صنعوا ذلك وصفوا الموائد وعليها من كل حار وبارد نزلت في السرب وقصدت اشفكياص في قلعته ووقفت بين يديه وصعقت له فقام لها اعظاما وقال لها كيف الملك يوقنا وأحواله فقالت أيها الملك انه ما نام الليل وهو متفكر في القيامة وأحوالها والجحيم ومآلها ولقد أراد اليوم المسير إلى مدينة قرقيسيا وإن يقصد الراهب المعظم قرياقوس وقد أخرته إلى أن تحضروا معه على السماط وتمضي أنت وهو إلى جرجيس حتى يرجع إلى دينه وقد جئت اليك لتحضر سماطي وضيافتي أنت وأصحابك وخواصك وتأكلوا من طعامي وتشربوا من شرابي وتمضي أنت وهو إلى جرجيس حتى يرجع إلى دينه وقد جئت اليك لتحضر سماطي وضيافتي أنت وأصحابك وخواصك وتاكلوا من طعامي وتشربوا من شرابي ومدامي والكل من فضلك وانعامك واحسانك وتجبر خاطري قال فأبى اشفيكاص مما دخل على قلبه من يوقنا إذ لم يبت عنده وخاف أن يقبضه فقال له الوزير شرجوان: أيها الملك ليس هذا برأي وإذا امتنعت نفر قلبه منك وما يدريك أيها الملك أنه ندم على ما سلف منه وقد أقر بالذنب واعترف وانك إذا أكلت على سماط ابنته ودعوتهم أنت إلى سماطك فافعل بعد ذلك فيهم ما شئت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 قال: وكان هذا الكلام من شرجون لاشفكياص سرا من ابنة يوقنا فقام عند ذلك وقال لوزيره احفظ مكاني حتى أعود اليك ولم يكن له ولد يرثه في الملك قال فأخذ معه خواصه من قومه وحجابه وبني عمه ونزل في السرب والجارية أمامهم وجواريها بين يديه بالشمع وقد علم الوزير أنه ما بقي يعود إليه بعدها فلما حصل اشفكياص في قلعة زلوبيا وثب للقائه يوقنا وأصحابه وكان قد أوصاهم بما يفعلونه فلما وقعت العين على العين أقبل يوقنا إليه ليعانقه وضمه إلى صدره وقبض عليه قبضة الاسد على فريسته وفعل أصحابه كما فعل وضربوا في الحال رقابهم ولم ينتطح فيها شاتان ولم يعلم بما فعلوه أحد ثم نزلوا من فورهم من السرب ومضوا إلى زبا فوجدوا شرجوان ينتظرهم فلما رآهم تبسم وأعلن بكلمة التوحيد وقال لله درك يا عبد الله فقد شرح الله صدرك للإيمان وأرضيت الملك الديان فجزاه يوقنا خيرا وملك قلعة اشفكياص وجعل يدعو بالرجال ويعرض عليهم الإسلام فمن اسلم تركه وضمن بعضهم بعضا حتى لا ينهزم أحد منهم ويروح إلى صاحب قرقيسيا ويخبره بما صنع يوقنا وبعد أيام أشرف عليهم عبد الله بن غسان وسهيل بن عدى في ألفي فارس فأراهم يوقنا التمنع والاعراض وناشبهم القتال خمسة أيام وقد عرفوا أن ذلك منه حيلة وأرسل يعلمهم في السر أن القلعتين في يده والليلة أسلمهما اليكم وأظهر الهرب إلى قرقيسيا فلعل الله أن يفتحها على يدي فلما كان من الليل أمر شرجون أن يسلمهما إليهم ثم أن المسلمين أعلنوا بالتهليل والتكبير ووقع الصائح من كل جانب وشهروا القواضب وكان في يومه هذا قد وصل الرسول من صاحب قرقيبسيا بالهدايا والتحف إلى يوقنا يهنئه بالسلامة والخلاص من العرب والرجوع إلى دينه فقبل يوقنا الهدية وأنزل الرسول في خيام أصحابه وكانوا قد ضربوا لهم وطاقا في الجانب الشرقي فلما صار أصحابه المسلمين في قلعة أبا أظهر يوقنا الفزع والهلع وقال: وحق ديني ما هؤلاء العرب إلا شياطين ثم إنه أخذ بعض ثقل ابنته في الليل وساروا يطلبون قرقيسيا ففي ذلك قال طريف أحد بني ربيعة بن مالك وهو سائر صحبة المسلمين الصحابة رضي الله عنهم هذه الابيات: اتينا إلى أرض الفرات مع الزبا. ... ونحن نروم الروم من كل فاجر. وقد أمنا ليث الحروب وسهمها. ... همام شجاع قاتل كل كافر. وأعني بيوقنا عليه تحية. ... يناصب للاعدا حيلة غادر. وقاتل أبناء الصليب وحزبهم. ... بحد حسام ماضي الصفح باتر. وصاح على الملعون قوم زلوبيا. ... فأورده في الحال سكنى المقابر. وملكنا في القلعتين كلاهما. ... بسعد وأقبال ونصرة قادر. سيحظى غداة البحث يوم معاده. ... بروح وريحان وحور قواصر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 حدثنا سيف بن عمرو التميمي قال: حدثنا الأنصاري عن الملهب عن طلحة عن محمد ابن أبي الدقيلي بن ميسور قال لما كان من أمر يوقنا واشفكياص ما ذكرناه وأرى من نفسه الهرب سار مع ابنته وأصحابه والرسول معهم يرومون قرقيسيا وهم منهزمون فوصلوها مساء ودخلوا معه على شهرياض وأعلموه بأخذ القلعتين وكيف فعل معهم العرب فأيقن بهلاكه وأخذ بلاده فقال له يوقنا: أيها السيد لا تخف فنحن نقاتل بين يديك حتى نموت وإن نزلت العرب علينا يريدون حصارنا لأرينك العجب بقتالهم ولن يصلوا اليك بسوء فوثق بقوله وخلع عليه وطيب قلبه وأنزله بدار جواره وبعث شهرياض من ليلته إلى خاله وهو يومئذ ملك أرض ربيعة براس العين فأرسل يستنصر به على العرب ويعلمه أن العرب قد أخذوا قلعتي زبا وزلوبيا وإن الرجل المعظم يوقنا ملك حلب قد هرب منهم بعد خدمته لهم وهو عندي فسار الرجل الرسول إلى دير مريع ومنه إلى المجدل إلى راس العين فوجد رسول شهر ياض الملك بأعظم تحصين قد أعد آلة الحصار وزاد في عرض خندقها ونصب خيامه ومضاربه على مغاربها وعلى طريق النقب وهو معول على لقاء عياض بن غنم ومن معه وقد جمع عنده سائر عرب الجزيرة من بني تغلب وغيرهم وقد صنع لهم سماطا واستدعى بأمرائهم وهم نوفل بن مازن والفريد بن تغلب بن عاصم والأشجع بن وائل وميسرة بن وائل وميسرة بن عاصم وخرام بن عبد الله بن الاصم وقال لهم. يا فتيان العرب لم نزل نرعى صغيركم وكبيركم وحريمكم وعبيدكم وقد أبحناكم أرضنا ترعون في حزنها وسهلها ونرضى منكم بما تؤدون الينا من أوباركم فأنتم آمنون وهؤلاء بنو عمكم قد ملكوا الشام ومعاقله وأرض مصر وما معها ولم يكفهم ذلك حتى أقبلوا الينا يريدون أن يزاحمونا على ملكنا ويخرجونا من أرضنا وقد علمتم أن القوم أن ظفروا بكم لا يبقون عليكم ولا يرضون منكم إلا أن تدخلوا في دينهم أو تقاتلوا عن دينكم وأهلكم وأموالكم فكونوا يدا واحدة لا ينفصل منكم شيء كما كان جبلة بن الأيهم وآل غسان مع الملك هرقل فإن نحن نصرنا على القوم فالأرض لنا ولكم على السواء وإن كانت الأخرى فنموت على دين واحد ويبقى ذكرنا إلى الابد قال فاجابوه إلى ذلك وتحالفوا وتعاقدوا أن يموتوا على سيف واحد فأعطاهم الاموال والعدد والسلاح وساروا معه قال ثم أن رسول صاحب قرقيسيا قدم عليه وأعطاه كتاب ابن أخته شهر ياض فلما قرأه وفهم ما فيه وإنه يطلب منه النجدة أرسل إليه يوريك الارمني وهو الذي بنى تل المؤزر والسن وتل عرب وعابدين والسوائد فأرسله ومعه أربعة آلاف فلما قدم الارمني ومعه أربعة آلاف فارس إلى قرقيسيا وكانوا قد قطعوا جسرهم الذي كان على الخابور وكان الجسر على أعمدة من حديد وعليها سلاسل وعلى السلاسل أرماح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 وكذلك ايضا من ناحية الفرات وحفورا حول مدائنهم خندقا عميقا عريضا وحصنوا مدائنهم غاية التحصين واقاموا ينتظرون عسكر الصحابة رضي الله عنهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 ذكر فتح قرقيسيا ولما ملك عبد الله بن غسان القلعة الغربية حين سلمها إليه شرجون بأمر يوقنا وترك يوقنا العرب وهرب إلى قرقيسيا دلهم الراهب شرجون على الطريق نحو السرب إلى القلعة الشرقية فملكوها واحتووا على ما كان لأشفكياص فيها وبعثوا إلى عياض بن غنم وأرسلوا يعلمونه في السر بما صنع يوقنا فدعا له المسلمون وشكروه وارسل يقول لعبد الله بن غسان ولسهل بن عدي احتفظا على ما في القلعة الثانية ولا تأخذا منها قيمة الدرهم الواحد حتى يسلمه يوقنا لبنته واتركا في القلعة من يحفظها واطلبا قرقيسيا وأنزلا عليها والسلام قال فلما وصل الكتاب إليهما فعلا ما أمرهما به عياض ووليا على القلعة الغربية الأحوص بن عامر ومعه مائة فارس وعلى الشرقية زياد بن الاسود في مائة فارس ومضى عبد الله بن سهل إلى قرقيسيا فحال بينهم وبينها الفرات فدلهم بعض السكان تلك الأرض على المخاضة فعبروا في الليل واصبحوا على أرض واحدة مع أعداء الله وأرسلوا إلى ماجن والمحولة والبديل والصور وبعثوا إليهم الامان وأقروهم في منازلهم وقالوا: أن كانت لنا فقد أحسنا فيكم الصنيع وإن كانت علينا انصرفنا عنكم مشكورين على عدلنا فيكم قال فاجاب القوم إلى ذلك وباعوا عليهم الميرة. قال: حدثنا هلال بن عاصم عن يحيى بن جبير عن سوار بن زيد قال لما بعث عبد الله بن غسان إلى أهل تلك القرى وطيب قلوبهم بعث بعد أيام سهل بن اساف التميمي وكان من الصحابة الاول ومعه مائة من المسلمين ليأتوهم بالطعام والعلوفة من ناحية ماسكين فسار سهل ومن معه فلما وصلوا إلى السمسانية شن عليها الغارة واستاق أموالها فخرج عليه نوفل بن مازن في خمسمائة فارس واستخلصوا منهم ما أخذوه ووقع بينهم القتال فحملوا بأسرار صافية ونيات سامية وأفعال نامية وقلوب تنزهت بالإيمان وألسنة تنطق بذكر الرحمن ولم يزالوا في قتال إلى أن قتل من المسلمين ثلاثون وانهزم سبعة وأربعون واسر سبعة وعشرون من جملتهم سهل بن اساف بن عدى وحدثوا أصحابهم بما كان من المتنصرة ومنهم فعظم ذلك عليهم. قال الراوي: حدثني نوفل بن عامر عن سالف بن عاصم عن سالم عن الدوسي قال كنت مع سهل بن اساف حين قدمنا على السمسانية وخرج علينا نوفل بن مازن فقال: والله لقد قاتلنا قتالا شديدا ما شهدنا مثله حتى كان من أمر الهزيمة ما كان قال سالم بن عبد الله لما أسرهم نوفل بن مازن شدهم في الحبال وقرن بعضهم إلى بعض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 ورجلهم عن خيولهم وسار بهم يطلب راس العين فأخبروه أن الملك شهرياض على مرج الطير من جانب النقب فقصد إليه ومعه من بني عمه أربعون رجلا وساقوا أصحاب رسول الله إلى أن أوقفوهم بين يديه وحدثوه بأمرهم فأمر بضرب رقابهم وكان آخر من بقي أميرهم سهل بن أساف وكان أحسن الرجال وجها قال فشفع فيه بعض البطارقة فوهبه له وكان ذلك البطريق اسمه توتا بن لورك وهو صاحب كفرتوتا فأخذه وأتى به إلى قصره في كفرتوتا قال فنظرت إليه ابنته فسالت اباها عنه فقال: أي بنية أن المسيح قد طرح رحمة هذا الشاب في قلبي فسألت الملك فيه فوهبه لي فخذيه اليك فأخذته وأدخلته في بستان قال فلما كان بعض الايام دخلت البستان فنظرت إلى سهل بن اساف وهو يقرأ: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح: 29] فلما سمعت قراءته أخذت بمجامع قلبها فقالت ما افصح هذا الكلام وأطيبه وألينه للافهام فقال لها هذا كلام الملك العلام الذي أنزله على سيد الانام فقالت الجارية أما محمد فهو نبيكم لا محالة فيه فمن هؤلاء الذين قال فيهم: {وَالَّذِينَ مَعَهُ} قال هو صاحبه ووزيره أبو بكر الصديق رضي الله عنه: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} هو صاحب هذه الفتوح ومجهز هذه الجيوش عمر بن الخطاب: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} هو كاتبه وصهره عثمان بن عفان: {تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً} هو أخوه ابن عمه وصاحب سيفه علي بن أبي طالب فقالت له الجارية: وكان اسمها ابريتا وكانت تكتب بقلم التوراة والانجيل وتتكلم بكلام العرب وكثيرا ما كانت تسأل علماء دينهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يعطيها أحد منهم خبرا حتى وقع بيدها سهل بن أساف فقالت من هؤلاء الذين ذكرت قال هم الذين قالوا: وصدقوا وقاتلوا فحققوا وركبوا نجب السوابق فوفقوا وساروا في بادية الطلب فلم يرفقوا فحققوا وركبوا نجب السوابق فوقفوا وساروا في بادية الطلب فلم يرفقوا وكلما لاح لهم علم الافاضل تشوقوا ونودوا في سرائرهم رجال صدقوا ثم أنشد يقول. رجال من الاحباب تاهت نفوسهم. ... ينادونه خوفا ويدعونه قصدا. وقاموا بليل والظلام مغلس. ... إلى منزل الاحباب فاستعملوا الكدا. يحثون حث الشوق نحو مليكهم. ... وقصدهم الفردوس كي يرزقوا الخلدا. أولئك قوم في العبادة أخصلوا. ... فتاهوا به شوقا وماتوا به وجدا. فقالت له الجارية: لقد سمعت من نيسا راهب دير قنا أن الله ينشر دعوه نبيكم في المشرق والمغرب ويملك المشرق والمغرب وأنهم يفضلونه على الآباء والامهات والاخوة والاخوات وأنهم بعد موته يسيرون إليه وإذ ذكر يكثرون الصلاة عليه فقال لها سهل بن اساف أما علمت أنه كان في حياته يدعو لهم ويستغفر لهم ولمن دخل في دينه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 وأقر به ولقد كانت زوجته عائشة رضي الله عنها تقول كانت ليلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما مضى الثلث الاول منها والفلك يدور بالنجوم والسماء تزهو بالكواكب والمردة تحرق بالشهب الثواقب وسرادق الله قد مد جناحه وأحال الظلام بادلهامه فبينما أنا في وادي الوتين ساكنة وبجانبي افضل مرسل وأكرم من ابتهل وتوسل وإذا به قد قبضني وبكلامه الشريف ايقظني وهو يقول ايتها العين المتكحلة بعين السبات الغافلة عن موارد الهبات هبي من منامك واعملي ليوم حمامك فقدم قام أولو الالباب ومرغوا خدودهم على الاعتاب وفي التراب قالت فقمت معه للخدمة ووقفنا نشفع للأمة إلى أن برق بارق الصباح وانفلق فلق الأصباح فقال هلمي للصلاة والاستغفار وطلب العفو من العزيز الفغار قالت فوافقته على ما أراد وبلغنا القصد والمراد فلما سكت من تسبيحه وفاح طيب ريحه رايته وهو يتنفس ويقرع بسبابته جوهر سنه فقلت يا سيد الوجود وطيب الآباء والجدود أن العرب لا تقرع سنها إلا لأمر مهم أو لشأن ملم قال تذكرت حال العصاة من أمتي والمخلصين في محبتي وذكرت قوله تعالى: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود: 119] فقلت يا رسول الله أما أنزل عليك قوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] فوالله ليغفرن لك ولآمتك لقوله: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:5] أنت الذي خلقت السموات والأرضين والعرش والكرسي من أنوارك وأنت الذي ربط براق القرب ببابك أنت الذي اخترقت معالم الملكوت وحملت إلى حضرة القرب والجبروت وأنت الذي أوتيت ليلة القدر وأنت صاحب البطحاء والحرم ولانت لك الاحجار وسلمت عليك الاشجار وانشق لك القمر ليلة الابدار وأنزل عليك: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ} أنت صاحب عرفات ومنى والمخصوص بالشكر والثنا وسوف يبلغك الله من أمتك المنى أما وعدك الله المقام المحمود واللواء المعقود والحوض المورود والكرم والجود وسرادق السعود على أمتك ممدود وسحاب التوفيق عليهم يجود ولواء اصحابك بجواهر قبولك منضود وعليه مرقوم عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا فكيف تخاف على أمتك نزول البأس وقد فضلوا على سائر الناس بقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] يا سيدي أنت تعلم أن أباك آدم تشفع بك فتاب الله عليه ونوح سأل بك فنجاه الله من الغرق وابراهيم مع علو قدره بك انجاه الله من النار والحرق وموسى مع تقربه ومكانته بك سأل ربه أن يشرح صدره وييسر أمره. قال الراوي: وما ذكر سهل للجارية هذه المناقب إلا لأن ترجع إلى دين الإسلام قال فلما سمعت كلامه قالت فما جزاء من يدخل في دينه ويقول بقوله فقال يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه وتمحى عنه سيئاته ويكون جزاؤه الرضوان في الجنان ثم قرأ قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 [النساء:110] فلما سمعت الجارية ما تكلم به سهل وقع بقلبها وصغت إليه بلبها وقالت أنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وإن محمدا عبده ورسوله ففرح سهل بإسلامها فقالت له: أكتم أمرك إلى الليل حتى أخلصك وأسير معك إلى عسكر الإسلام. قال الراوي: حدثنا صاعد بن عدي النميري عن أبيه انه سمعه وهو يحدث الناس بالمدينة وقد أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأموال رأس العين وخزائن الملك شهرياض قال: وإن الجارية مضت واستدعت بجواريها وأخذت من مال أبيها ألف دينار فلما جن الليل فتحت باب السر بعدما تجسست فرأت كل من في قصر أبيها نياما فأتت إلى سهل وحلته من وثاقه وقالت له: قم على اسم الله وبركة نبيه فقام سهل بن أساف إلى الباب وأعطته لأمة حرب ولبست هي مثلها وخرجا من الباب وإذا هما بجوادين فركبا وخرجا وسارا مقدار فرسخين عن كفرتوتا وإذا هم بحس الخيل وراءهم فقالت أن كانوا من الروم فعلى مخاطبتهم وإن كانوا من العرب المتنصرة فعليك مخاطبتهم قال فوقفوا غير كثير وإذا بالقوم عدتهم ثلاثة وعشرون فارسا وعليهم ثياب خضر وهم على خيول شهب قال فتأملهم سهل وذا هم أصحابه الذين قتلوا بحضرة الملك قال فدنا منهم سهل وسلم عليهم وقال سبحان الله ألم أشاهد قتلكم قالوا: نعم أما علمت أن الشهداء أحياء لا يموتون وإنما هي نقلة من دار إلى دار وإن الله قد بعث بأرواح الشهداء في هذه الليلة لتزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم وكانت تلك الليلة ليلة النصف من شعبان فقال لهم: إني أريد المسير معكم وفي صحبتكم قالوا: إنك لا تقدر على ذلك وقد بقي من عمرك احدى وأربعون ليلة وتلحق بنا وأما هذه الجارية فقد أعد الله لها في الجنة ما أعد لأوليائه وقد بنى لها قصرا من الجوهر والياقوت الأحمر على شاطىء نهر الكوثر ستوره معلقة وبالانوار مرونقة وقبابه مزوقة وأسرته موصولة وفرشه مرفوعة واباريقه مصفوفة وزواياه محفوفة وحلله منسوجة وحواشيه بحسن الوفاء مسروجه على أبوابه مكتوب بقلم السر المكنون: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32] فلما سمعت الجارية قولهم قالت فبم استوجبت هذا النعيم قالوا: بتوحيدك الرب العظيم وتصديقك النبي الكريم قال فصاحت صيحة فإذا هي ميتة قال سهل فنزلت فدفنتها وغاب الشهداء عني وسرت إلى المسلمين فحدثت عبد الله بن غسان وسهل بن عدى بذلك فازداد المسلمون يقينا بذلك وعاش سهل بعدها أحدا وأربعين يوما ومات. حدثنا صفوان ابن عامر عن خويلد بن ماجد عن عبد الرحمن بن النعمان عمن حدثه عن فتوح الشام وأرض ربيعة الفرس قال لما نزل عسكر المسلمين على قرقيسيا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 مع عبد الله وسهل قال خندق المسلمون على أنفسهم خندقا وتركوا لهم موضعا يدخلون منه ويخرجون قال: واتصلت الأخبار بعياض بن غنم وهو بجانب الرقة وهو يتروى فيمن يبدأ بحربه بشهرياض وجنوده أو بحران والرها فقال له خالد: بن الوليد رضي الله عنه أتترك جيشا قد تهيأ واحتفل لقتالك وتمضي لسواه والرأي أن تلقي هذا العدو فإذا أنت هزمته وأوقعت الهيبة هناك فاقصد ما شئت من البلاد فإنها تفتح أن شاء الله تعالى قال فعول عياض على ذلك وإذا قد أتته جواسيسه وأخبروه أنه قد تهيأ لحربكم الملك شهرياض ونوفل وطرباطس صاحب دارا والمؤزر وصاحب جملين وأرمانوس صاحب تل سماوي وأرجو وصاحب البارعية وشهرياض صاحب ماردين ورودس صاحب حران والرها وقد صارت جريدتهم مائتي ألف وقد ضمنوا للملك لقاءكم وقالوا: لا نلقي العدو إلا بأهالينا وأولادنا وأموالنا وحريمنا حتى لا ينهزم منا أحد وقد تقدم اليكم الأرمن وبعدهم الروم وهم دون الفرات فلما سمع عياض ذلك بعث إليهم الوليد بن عقبة ووصاه بما اراد قال فقدم على بني تغلب وجمع أمراءهم وهم نوفل بن مازن وعاصم والاشجع وميسرة وحزام وقارب وقال: يا فتيان العرب اعلموا أن من نظر في العواقب أمن من المعاطب وليس أنتم أحد سننا ولا اقوى جنانا ولا أجرا في الجولان ولا أوسع ميدانا من بني غسان وليس فيكم من يشبه جبلة بن الأيهم وكان في ستين ألفا وقد نصرنا الله عليهم وقتلنا ساداتها والصواب أن ترجعوا الينا وتكونوا من حزبنا قال فأجابوه بأجمعهم إلا طائفة اياد الشمطاء فإنهم ارتحلوا إلى بلاد الروم ووصل عرب بني تغلب إلى جيش عياض بن غنم مسلمهم وكافرهم فرحب بهم وطيب قلوبهم وقال لهم: يا معاشر العرب أن الله سبحانه وتعالى قد أراد بكم خيرا بوصولكم الينا ونزوعكم عن عبدة الصليب وقد اراكم الله اعزاز دينه وشرف نبيه وقد وعدنا ووعده الحق بملك كسرى وقيصر وأخذ كنوزهما وما كان ينطق عن الهوى وقال الله في حقنا: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الانبياء:105] قال فأسلم كافرهم وبقوا جميعهم مسلمين. قال الراوي: اخبرنا سيف عن خالد بن سعيد قال لما علم عياض بهروب اياد الشمطاء إلى بلاد الروم كتب إلى عمر بن الخطاب بذلك فأرسل عمر رضي الله عنه إلى هرقل وولده قسطنطين يقول لهم أن لم تصرفوهم عن أرضكم لأفنين كل نصراني عندنا. قال الراوي: فلما وصلت رسالة عمر إلى هرقل وولده أنفذ بهم إليه قال: وعزم عياض على لقاء الملك شهرياض وأما ما كان من شهرياض صاحب قرقيسيا فإنه جمع بطارقته وقال لهم: أعلموا أنه قد بلغني عمن تقدم من الملوك انهم كانوا يجيشون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 الجيوش ولا يستغنون عن الحيل وأنا أريد في غداة غد أن أخرج إلى لقاء العرب فإذا اصطفت الصفوف فرجلوني عن جوادي واشهروا علي سلاحكم كأنكم تريدون قتلي فاقول لكم أنا معتذر إنما أردت أن أجرب خبر حميتكم لدينكم وظننت انه قد أخذكم الخوف من هؤلاء فإذا سمعتم مني ذلك فارجعوني إلى اجلالي واعظامي ثم ناوشوهم الحرب فأهرب أنا إليهم وأقول لهم إني أردت أن اسلمكم البلد فهاش القوم علي كما رأيتم وهموا بقتلي وقد جئت اليكم راغبا في صحبتكم فإذا أمنوني وغفلوا عني قتلت أميرهم في الليل وأنا أعلم أن القوم بعده يهون علي أمرهم ثم أعول على انهزامهم فقال له وزيره الارمني: وكيف تسمح بنفسك وتلقيها في اضيق المسالك وإن أنت فعلت ذلك لا نأمن عليك من العرب ويعتبنا خالك يقول لنا كيف تركتموه يمضي إلى العرب فقال عبد الله يوقنا لقد صدق السيد في قوله وكيف نتركك تمضي إليهم وأنا أدبر لك مع هؤلاء القوم تدبيرا يكون أقرب من هذا وأهون. فقال شهرياض والوزير الارمني وما هذا التدبير أيها الملك قال أن نخرج غدا بأجمعنا ونلقاهم ونريهم الجد من أنفسنا ونقاتل بحسب الطاقة ثم ننهزم إلى المدينة ونستوثق من أبوابها ونصعد على السور فربما قربوا منا فلا نقاتل فإذا فعلنا ذلك طمعت العرب فينا ودنوا منا واعلموا أن في عسكرهم جماعة من الروم ممن صبأ إلى دينهم فربما قربوا منا فإذا ارادوا ذلك كتبنا إليهم نطلب قلوبهم ونرسل رسولا في طلب الصلح ونقول ارسلوا الينا عشرة من عقلائكم حتى نرى ما تريدون منا ولعلنا نعقد معكم صلحا فإذا فعلوا ذلك وحصلوا عندنا قبضنا عليهم ونشهر سيوفنا عليهم ونقول لهم أما أن ترحلوا عنا والا ضربنا رقابهم فإن القوم إذا رأوا الجد منا طلبوا صلحنا بأصحابهم ورحلوا عنا والعرب إذا قالوا: قولا وفوا به فإن هزموا الملك شهرياض واحتووا على بلاده دخلنا بعدها تحت طاعتهم وارتحلنا عنهم إلى بلاد الروم قال: وإنما أراد يوقنا بهذا الكلام أمرين أحدهماأن يبرأ عندهم من التهمة حتى يطمئنوا إليه والثاني أن يحصل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة في المدينة فيحتال أن يكونوا تحت يده ليثور بهم فيملك بهم المدينة فقال له وزيره الارمني: وإن كان العرب يبعثون الينا صعاليكهم أو موإليهم فنقبض عليهم ونعدهم بالقتل فلا يلتفتون إلى ذلك ويقع الجد منهم في قتالنا ولا يرحلون عنا فكيف تصنع قال فأراهم يوقنا أنه غضب وحول وجهه وقال. وحق المسيح لقد دخل رعب القوم في قلوبكم ولن تفلحوا بعدها أبدا وحق ما أعتقده لقد قاتلتهم في قلعتي بجلب قتالا سارت به الركبان إلى سائر البلدان مدة سنة كاملة ولولا أن عبدا أسود من عبيدهم أسمه دامس ابو الهول وعشرين معه نصبوا حيلة علي ملكوا قلعتي لما قدروا عليها أبدا وكانوا قد نزلوا علي بجميع عسكرهم وأبطالهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 فكيف بكم وما نزل عليكم إلا شرذمة يسيرة وبلدكم حصين ليس عليه قتال إلا من موضعين من صوب الجبل ومن الغرب وما لكم عذر ومن أراد رضا المسيح والاجر قاتل عن دينه وصان أهله وحريمه من هؤلاء العرب وإن خفتم أن القوم يرسلون الينا موإليهم أو من لا له عندهم قدر ولا شأن فأنا أعرف الناس بهم وبفرسانهم وأبطالهم وموإليهم وخاصة اصحابهم فأنفذوا مع رسولكم كتابا بأسماء القوم الذين اريد منهم المقداد والنعمان وشرحبيل بن كعب ونوفل وعبد الرحمن بن مالك والاسود قيس وخالد بن جعفر وابن قيس وهمام الحرث ومالك بن نوبة وسلامة بن عامر قال فضحك الوزير الأرمني وقال: وحق ديني أن العرب لا يسمحون بهؤلاء قط إلا أن يطلبوا رهائن منكم فقال يوقنا ما أفشل رايكم وأضعف قلوبكم انفذوا إلى القوم فإن أجابوا كان ببركة السيد المسيح وإن طلبوا رهائن ارسلنا اضعفنا من أهل المدينة ومن أولادهم وألبسناهم افخر الثياب وقلنا هؤلاء أكابرنا من أهل المدينة قال شهرياض وحق القربان ما نفعل إلا ما أمرتنا. ثم إنه أمر بطارقته وأرباب دولته أن يأمروا الناس بالتأهب للحرب ففعلوا ولبسوا سلاحهم واستعدوا للقتال وأمر سهل بن عدي أصحابه بالركوب فركبت العرب وخرجت من باب الخندق واستقبلوا العدو بهمم عالية وقالوا: اللهم انصرنا عليهم كنصر نبيك يوم الأحزاب وعبوا صفوفهم ثم وعظهم وقال في آخر وعظه ها أنا حامل نحو طاغية الروم وصليبه فاتبعوني فإن فتح الله بقتله أو أخذ صليبه فالقوم لا ثبات لهم فقالوا: أيها الأمير لقد دعوتنا إلى شيء هو أحب الينا فاحمل حتى نحمل قال محمد بن عبد الله فحمل هو ومن معه على عسكر قرقيسيا وكان أمير المسلمين عبد الله ابن غسان وسهل بن عدي فلقد قاتلوا قتالا شديدا وجاهدوا في الله حق جهاده وبذلوا رماحهم وسيوفهم في أعداء الله والتقى عبد الله بن مالك الاشتر بيورنيك الأرمني فلما عاين زيه علم انه من ملوكهم فطعنه في صدره فاخرج السنان من ظهره والتقى النعمان بن المنذر بشهرياض وقد طحطح الجموع ولم يعلم النعمان بأنه صاحب البلد بل عرف أنه من الملوك فحمل عليه النعمان وهو يقول هذه الأبيات: وانا لقوم في الحروب ليوثها. ... وتنفر منا عند ذاك أسودها. نحامي عن الدين القويم نصونه. ... ونرغم آناف العدا ونذودها. لنا الفخر في كل المواطن دائما. ... بأحمدنا الهادي فذاك سعيدها. ملكنا بلاد الشام ثم ملوكها. ... إلى أن تبدي بالنكال عديدها. وسوف نقود الخيل جردا سوابقا. ... إلى شهرياض الكلب ذاك شديدها. ونملك دارا ثم جملين بعدها. ... كذا رأس عين والجيوش نقودها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 ونمضي إلى حران ثم سروجهم. ... كذا الرها للمسلمين نعيدها. واني أنا النعمان ذاك ابن منذر. ... ابيد ليوث الحرب ثم أسودها. ثم أطبق عليه وفاجأه بطعنه فالقاه صريعا فلما نظر جيش قرقيسيا إلى هلاك ملكهم انحرفوا إلى مدينتهم وتحصنوا في بلدتهم وخافت أرمانوسة ودخل الرعب في قلبها ثم إنها قالت للعبد الصالح يوقنا يا عبد المسيح ما بقى لي أحد سواك يسوس ملكنا ويدبر حالنا فقال: أيتها الملكة أنا لك وبين يديك ثم إنها خلعت عليه وعلى اصحابه وقالت اعلموا أن هذه المدينة والمملكة لكم فقال يوقنا يجب علينا أن نقوم بحقها ونقاتل بين يديها ثم إنه رتبهم على الأسوار فدنا المسلمون ورجالهم وهم يرمون بالمقايع فكانت حجارتهم لا تخطىء أبدا وكان المقدم على الرجال والموالي المنذر بن عاصم ولم يكن بالحجاز ولا باليمن قاطبة أرمى منه بالمقاليع وكان من قوة ساعده إذا خرج حجره يجاوز البرج الأعظم فلم يزل يرمي فيه كل يوم فيصيب الرجل والرجلين فسمته العرب برج المنذر وكانوا قد ضايقوا أهل قرقيسيا مضايقة شديدة فقالت ارمانوسة أين ما وعدت به الملك شهرياض من تدبيرك في هؤلاء العرب فقال أنا في هذا الأمر متفكر ثم إنه صعد على السور مما يلي المسلمين ونادى يا معاشر العرب قد طال الأمر بيننا وبينكم ولا نسلم لكم إلا أن تهزموا الملك وتملكوا رأس العين ونحن لكم بعد ذلك واطلبوا منا من المال ما تريدون فقد علمنا أنكم إذا قلتم فعلتم ووفيتم قال فلما رآه عبد الله بن غسان وسهل بن عدي والصحابة ونظروا إليه علموا انه يريد أن ينصب حيلة على أهل قرقيسيا فقال سهل بن عدي يا عدو نفسه مكرت بنا وتممت منصوبك علينا بدخولك في ديننا حتى اطمأننا اليك ثم غدرت ورجعت إلى دينك الأول فأين تهرب منا او تولي عنا ونحن لك في الطلب وسوف نملك هذه المدينة بالسيوف ونضرب عنقك وهذا أيضا من تمام الحيلة فقال: يا معاشر العرب لقد نصحتكم وخدمتكم وما رأيت منكم إلا خيرا ولكن طالبتني نفسي بديني فرجعت إليه والآن فقد مضى ماضي وهذه المدينة ما لكم اليها وصول ولا تقدرون عليها لأنها حصينة وفيها رجال الحرب والقوت عندنا كثير ولكن انفذوا الينا منكم عشرة من أعز أصحابكم ممن نثق بهم يحلفون لنا ونحلف لهم إذا فتحتم راس العين سلمنا هذه المدينة اليكم ويكون الصلح بيننا بقية هذه السنة فقد بقي منها أربعة اشهر أولها شهر رمضان. فقال له عبد الله بن غسان: قد أجبناك إلى ذلك فمن هم العشرة الذين تريدهم حتى نرسلهم إليك فقال اريد المقداد بن الأسود والأسود مولى قيس وخالد بن جعفر ورواحة بن قيس وهمام بن الحرب وسلامة بن عامر وابن نعيم فهؤلاء نريدهم فإنه لا يقع الصلح إلا بهم قال فوجه عبد الله هؤلاء الذين ذكرهم له يوقنا قال: وفتح لهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 الباب فقال له عبد الله: نحن ما نسمح بأصحابنا بلا رهائن فمضى يوقنا إلى الملكة أرمانوسة وأخبرها أن القوم يريدون رهائن فقالت أرسل لهم من أولاد السوقة قال يوقنا أيتها الملكة أن الحيل في الحرب من عند العرب خرجت والملوك من شأنها إذا قالت قولا وفت به واعلمي أنه قد قال حكيم الفرس إذا كان الغدر طباع قوم فالثقة بكل أحد عجز واعلمي أن أهل بلدك فيهم رؤساء وملوك وهم يعظمون شأنك بعد الملك ولكن ينظرون اليك بعين التأنيث وينظرون الي بعين الغربة ولا هيبة لي عندهم وربما سمعوا بصلحنا مع العرب فلا يملكونا من ذلك ولا يتم لناما نريده وربما يرسلون يستنجدون علينا بمثل ملك الموصل وصاحب الهنكارية ويعظم الأمر قالت فما الذي تراه من الرأي قال الرأي أن نبعث الرؤساء رهائن عند العرب وإنما فعل ذلك يوقنا حتى لا يتعرض له متعرض في المدينة وإذا سلمهم لا يكون فيها رئيس من رؤسائهم فاجابته إلى ذلك وأنفذت الرؤساء منهم رهائن إلى عبد الله بن غسان فلما وصلوا إليه دخل العشرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما حصلوا في المدينة أمر بهم إلى البرج الكبير وهو المعروف ببرج المنذر وإنما فعل ذلك حتى لا يعصي من في البرج لأن فيه مال أهل البلد فلما حصلوا هناك رجع إلى الملكة ارمانوسة وقال قد حصلتهم في البرج وغدا نوقفهم باعلى البرج ونقول لهم أما أن ترحلوا عنا أو نقتلهم قالت وكيف نصنع برهائننا وإن نحن فعلنا بأصحابهم ما ذكرت يفعلوا بأصحابنا كذلك قال لها يوقنا إذا كنت تفزعين على أهل البلد فصالحي القوم قالت دبرنا بحسن رايك فقال السمع والطاعة وأنا أمضي إلى هؤلاء العشرة مع ما وصاهم به أميرهم وننظر ما الذي يطلبونه منا ثم إنه مضى إلى الصحابة وحدثهم بما عزم عليه من تسليم البلد وقال لهم: إذا سمعتم الضجة فدونكم ومن في البرج ثم رجع إلى أصحابه ورتبهم على السور ولم يترك معهم أحدا من أهل البلدة فلما أظلم الليل سار عبد الله يوقنا مع اصحابه المائتين وأعلنوا بالتهليل والتكبير وبادروا إلى الباب ففتحوه وأرسل إلى عبد الله بأن يأتي إليهم بعسكره فأتوا ووضعوا السيف في أهل البلد فما أفاق أهل قرقيسيا إلا والمسلمون قد مكنوا منهم القواضب فقصدوا البرج الأعظم عليهم العشرة الصحابة فعلمت الملكة أرمانوسة أن الحيلة قد تمت عليها من قبل يوقنا وسمعت أهل البلد ينادون الغوث الغوث فأمنهم عبد الله بن غسان وسهل بن عدي واحتووا على ما في المدينة وأخذوا جميع ما كان فيها من الأموال وما في البرج الأعظم من الذخائر فأخرجوا منه الخمس وقسموا الباقي على المسلمين وعرضوا عليهم الإسلام فمن اسلم منهم وهبوا له أهله وماله ومن أبى ضربت عليه الجزية ثم اجتمع الذين أسلموا وأتوا إلى الأمراء وقالوا: نحن قد دخلنا في دينكم فسلموا لنا كرومنا وبساتيننا فقال لهم عبد الله بن غسان وسهل بن عدي: هي بحكم الامام يعني عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو الذي يسكن فيها من أراد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 ويأخذ خراجها من هي في يده فإن حكم الخراج والخمس والجزية بأمر الإمام يأخذ حاجة منه ويصرف الباقي في صالح المسلمين. قال الواقدي: وأسلمت ارمانوسة ومن كان يلوذ بها فأقرهم عبد الله في أماكنهم وأحسن إليهم غاية الاحسان وجدد لهم الامان كل ذلك ليتصل الخبر بأهل البلاد فيدخلوا في الإسلام قال عطية بن الحرث وكان ممن أدرك ذلك كان فتح قرقيسيا أول ليلة من شهر رمضان سنة اثنتين وعشرين من الهجرة وبنوا الكنيسة العظمى وهي بيعة جرجيس جامعا ولم يبرحوا حتى صلوا فيه وأطلقوا الرهائن وتسلم ولايتها شرحبيل بن كعب في مائة وخمسين رجلا وعولوا على المسير إلى ماكسين والتفت الأمير إلى عبد الله يوقنا وقال مر ابنتك أن ترجع إلى قلعتها فقد جاءت الوصية الينا من قبل الأمير عياض قال فرجعت والحمدلله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 ذكر فتح ماكسين والشمسانية . قال: حدثني زهمان بن رقيم عن الصلت بن مجالد عن القيل بن ميسور قال لما ارتحل عبد الله عن قرقيسيا ونزل على ماكسين فتحها صلحا على أربعة آلاف درهم من نقد بلادهم وألف حمل طعام حنطة وشعير فقلقوا من ذلك فترك لهم النصف وكذلك أهل الشمسانية ثم نزل على عربان فجاؤا إليه وصالحوه بما صالح به أهل ماكسين ثم ارتحل إلى المجدل فملكها وأقام ينتظر ما يرد عليه من أخبار أميره عياض بن غنم وهو نازل على نهر البلخ فكتب إليه يعلمه بما فتح الله على يديه فلما وصل الكتاب إليه كتب إليه أن الزم مكانك حتى يأتيك أمري والسلام قال سهل بن مجاهد بن سعيد لما فتح الله على يد عبد الله بن غسان أرض الخابور صلحا واقام بالمجدل أنشد قيس بن أبي حازم البجلي هذه الأبيات: أقمنا منار الدين في كل جانب. ... وصلنا على أعدائنا بالقواضب. ودان لنا الخابور مع كل أهله. ... بفتيان صدق من كرام العرائب. هزمناهم لما التقينا بماسح. ... وثار عجاج النقع مثل السحائب. وكل همام في الحروب نخاله. ... يكر بحمل في صدور الكتائب. وجندل وفد الروم في كل جانب. ... تركناهمو في القاع نهبا لناهب. وما زال نصر الله يكنف جمعنا. ... ويحفظنا من طارقات النوائب. فلله حمد في المساء وبكرة. ... وما لاح نجم في سدوان الغياهب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 ذكر فتوح قلعة ماردين قال: حدثني سوار بن كثير عن يوسف بن عبد الرزاق عن الكامل عن المثني بن عامر عن جده قال لما فتحت مدائن الخابور صلحا بلغ قتل الملك شهرياض صاحب أرض ربيعة وعين وردة وراس العين فعظم عليه وكبر لديه فجمع أرباب دولته وهو نازل على أرض الطير وقال لهم: هذه ثلاث مدائن من بلادنا قد ملكت وقلعتان والعرب المتنصرة قد مضت عنا فقال له البطريق توتا: ايها الملك انه لا بد للعرب منا ولا بد لنا منهم ويعطي الله النصر لمن يشاء غير انه كان من الرأي إنك لو زوجت ابنك عمودا الملكة مارية بنت أرسوس بن جارس صاحب ماردين ومرين لأعانتنا قلعة المرأة. قال الراوي: وكان السبب في بناء القلعتين المذكورتين أن هذا الرجل ارسوس بن جارس كان من أهل طبرزند وكان بطلا مناعا وكان أول من بنى المملكة بأرمينية وكان منفردا بطبرزند وكان يغير في بلاد الروم حيث شاء حتى كتب أهل تلك البلاد إلى الملك الأعظم يستغيثون به من يده فارسله الملك هرقل من انطاكية إلى ديار ربيعة وقال له: ابن لك حصنا تسكن فيه فلما توسط أرض جبل ماردين نزل تحته ونظر وإذا على قلة الجبل موضع نار وكان فيه عابد من عباد الفرس وكان مشهورا عندهم بالعبادة وكانت الهدايا تقبل إليه من أقصى بلاد خراسان والعراق وكان اسمه دين فلم يمر به أرسوس حتى صادقه وكان يحمل إليه الهدايا والتحف وكان العابد لا يحتجب عنه ولم يزل معه حتى انه وقع به منفردا فقتله وغيبه فلما عدمه أهل تلك الأرض قالوا: مات دين ثم أن أرسوس بني بيت النار وجعله حصنا وكانت له ابنة يقال لها مارية فلما رأت اباها بني له مكانا وتحصن فيه بنت أيضا قلعة بازائه وحصنتها وجعلت فيها أموالها وذخائرها ورجالها وكانت كلما خطبها أحد تراه دونها لأنها من بيت المملكة. وكان بالقرب من قلعتها دير بسفح الجبل وفي الدير راهب قد انقطع فيه وكان من أجمل الناس وجها وكان اسمه فرما قال فأتت إليه زائرة فلما رأته وقعت محبته في قلبها فلم تزل تتردد إليه وتتجاسر عليه إلى أن صارت بينهما صحبة فسلمت نفسها إليه فحملت منه فلما تكامل حملها ولدت في خفية ولدا ذكرا فسلمته إلى دايتها وقالت لها انظري كيف تفعلين بهذا الغلام فإني أحبه ولا اريد قتله لأنه أن علم أبي بقصتي قتلني ثم أخرجت له ذخائر نفيسة وجعلتها في قماطه وخيطت عليها وقالت من وقع به ينفقها على تربيته ثم إنها افتقدت بدنه وإذا على خده الأيمن شامة سوداء بقدر الظفر ورأت أذنه اليمنى وفيها زيادة قال فأخذته الداية ونزلت به ليلا ومعها خادم وكان مطلعا على أسرار الملكة فأتت به إلى أسفل القلعة في الطريق الاعظم وهناك عمود من رخام وغالبه غائص في الأرض وهو قائم على رأس ذلك العمود قاعدة من الرخام فوضعت ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 المولود على القاعدة خوفا عليه من الوحش أن يقربه فيأكله ثم رجعت هي والخادم إلى القلعة. قال الراوي: وكان من قضاء الله وقدره أن صاحب الموصل الملك الانطاق قد بعث رسولا لشهرياض ثم أرسوس بن جارس صاحب ماردين فجاز سحرا في الطريق الذي فيه العمود فسمع بكاء الطفل فدنا منه وهو على جواده فنظر عصابة الذهب فأخذه وسلمه إلى جارية كانت معه في السفر وقال لها احتفظي على هذا المولود فلا شك أن له شأنا ثم أوصل الرسالة إلى صاحب ماردين وارتحل إلى راس العين وأعاد الجواب على الملك شهرياض وأجرى الله على لسانه بأن حدث الملك شهرياض بقصة الطفل الذي وجده على العمود فقال أعطني إياه فإنه ليس لي ولد يرثني ويخلفني في ملكي فدفعه إليه فأخذه الملك ودفعه للحواضن والدايات فربوه إلى أن ركب الخيل ونشأ وترعرع فسماه الملك عمودا وسماه الناس ولد الملك وتربى في النعمة وتعلم طريقة الملوك من ركوب الخيل والرماية والقتال والمعالجة والصراع إلى أن سما ذكره وانتشر في الناس فخره وكان لا يأوي إلى عين وردة بل أكثر زمانه في الصيد والقنص وبنى له قصرا على رأس المغارة يأوي إليه وسمي القصر باسمه عمودا وليس عند أمه مارية خبر بما فعل الزمان به وانقضت الأيام واندرجت الأعوام حتى قدم عسكر المسلمين يريد فتح أرض الجزيرة فلما شاور الملك أرباب دولته في أمر العرب اشار عليه توتا أن يزوج ولده عمودا من الملكة فإنها لا تصلح إلا له وهي بكر ولها من العمر ثلاثون سنة وقد خطبها الملوك وأبناؤهم فلم ترض بهم لأنها تراهم دونها وأنت إذا طلبتها لولدك لم يمتنع من ذلك ابوها ويفرح بمصاهرتك فأجابه إلى ذلك وبعث إلى أرسوس بن جارس هدية عظيمة وقال لتوتا كن أنت الواسطة في ذلك فسار توتا إلى ارسوس وسلم عليه ودفع إليه الهدية فقبلها وتحدث معه فيما ذكرناه فاجابه إلى ذلك وطلب منه الصداق مائة ألف دينار والبارعية وجملين وعشرين أميرا من العرب ليقتلهم قربانا للمسيح ليلة زفافها فاجابه توتا إلى ذلك فركب ارسوس إلى قلعة ابنته ودخل عليها وأعلمها بالخبر فرضيت فخرج من عندها وجمع القسوس والشمامسة وزوج ابنته لعمودا وليس عندهم خبر من أحكام القدر. قال الراوي: ورجع توتا إلى الملك شهرياض وأعلمه أن الأمر قد انبرم وأعلمه بما اشترط عليه أرسوس من القلعتين البارعية وجملين ومائة ألف ديناروعشرين أميرا من العرب ليقربهم ليلة زفافها ففرح بذلك وأنفذ الأموال وقال إذا زفت إليه سلمت إلى ابيها القلعتين ثم إنه طلب عمودا وأخبره أنه قد زوجه ابنة ارسوس بن جارس وقال له: اعلم يا بني أن من جملة الصداق عشرين من فرسان العرب فتجهز وخذ العسكر واقصد العرب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 وأمر أن يخرج معه توتا الوزير ورودس صاحب حران وقال لهم: أن قدرتم أن تكبسوا العرب فافعلوا ومضوا في عشرين ألفا. قال الراوي: واتت عياضا عيونه وأخبرته بما جرى وانهم قد اقبلوا اليك وهم رودس صاحب حران وصاحب كفر توتا وعمودا ابن الملك في عشرين ألفا وهم يريدون كبسكم في الليل فاستيقظوا لأنفسكم قال فجمع عياض وجوه الصحابة واستشارهم فقال خالد بن الوليد: اكتب من وقتك إلى عبد الله بن غسان وسهل بن عدي أن يسيروا الينا من قوتهم ويعلمهم بما قصد العدو فيكونون منهم على حذر فإذا قربوا منهم يكمنون لهم حتى يعبروهم ويصير أصحابنا من ورائهم ونكمن نحن عن يمينهم وشمالهم ثم نطبق عليهم فقالوا: كلهم هذا هو الرأي المصيب وخرج خالد في ألفين وكتب في الحال إلى عبد الله وسهل يأمرهما باللحوق بعسكر خالد ويوصيهما بما يفعلان وبعث الكتاب مع سراقة بن دارم فوصل إليهما في يومه على ناقة له فلما وصل وقرأ الكتاب ارتحلوا من ساعتهم وأطلع الصحابة على الخبر فركبوا وأنفذ عبد الله عيونه يتجسسون له خبر العدو. قال الراوي: وأما خالد فإنه انفصل من عياض في ألفين ولم يأخذ بهم على الجادة بل ارسل ألفا عن يمين الطريق وأمر عليهم ابن سعدا وألفا عن يسار الطريق مع خالد وأمر سعدا أن لا يبعد عن الطريق وارسل عيونه. قال الواقدي: انه لما سار عمودا وتوتا ورودس في العشرين ألف فارس لم يزالوا سائرين إلى أن بقي بينهم وبين عسكر عياض بن غنم عشرة فراسخ فنزلوا في مكان يستريحون ويعلقون على خيلهم ويلبسون لامة الحرب. قال الواقدي: وسار جيش عبد الله بن غسان من ورائهم وسار خالد بن الوليد عن يمينهم ونجيبه بن سعد عن يسارهم وليس عند الروم خبر من ذلك فلما علم خالد أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أحدقوا بالقوم أرسل يعلم المسلمين أن يتأهبوا إلى وقوع الصوت قال فتأهبوا ثم أن خالدا أخذ خمسمائة من أبطال المسلمين وترك خمسمائة مع عدي بن سالم الهلالي وقال له: إذا رايت الحرب قد اشتعل نارها وتطاير شرارها فاخرج من كمينك ثم أن خالدا لما قصد جيش العدو بمن معه وتظاهر لهم رفعوا أصواتهم بالتهليل والتكبير قال فسمعت الروم أصواتهم فلبسوا سلاحهم ولم يركب منهم سوى رودس وأصحابه وهم خمسة آلاف ولم يكن فيهم مستيقظ سواه وتوتا مشغول مع عمودا قال: وإن صاحب حران استقبل خالدا واستصغر شأنه لما رآه في شرذمة قليلة فطمع فيه واشتغلت الروم بالنظر إليهم وقالوا: رودس يكفينا أمرهم قال فبينما هم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 ينظرون إذ صاح خالد بعدو الله رودس وانحط عليه انحطاط السحاب وهو يقول هذه الأبيات. وانا لقوم لا تكل سيوفنا. ... من الضرب في أعناق سوق الكتائب. سيوف دخرناها لقتل عدونا. ... واعزاز دين الله من كل خائب. قتلنا بها كل البطارق عنوة. ... جلاء لأهل الكفر من كل جانب. إلى أن ملكنا الشام قهرا وغلظة. ... وصلنا على أعدائنا بالقواضب. أنا خالد المقدام ليث عشيرتي. ... إذا همهمت أسد الوغى في المغالب. وفاجأ رودس بطعنة فالقاه على وجه الأرض فأوثقه غلامه همام وحمل في أصحابه هو ومن معه قال فهم في ذلك إذ خرج عليهم نجيبه بن سعد وعدي بن سالم وأشرف من بعدهم عبد الله ابن غسان فامتلأت الأرض بالزعقات وارتجت سائر الجهات وصدموهم على الخيل العربيات ونادوا باسم جبار الأرض والسموات وأطبقوا عليهم من كل جانب وكان التوفيق للصحابة مصاحبا فما لحقت الروم أن تركب على خيلها إلا والسيف يعمل فيهم فطحطحوهم وفرقوا مواكبهم واستوثقوا منهم أسرى وأخذوا عمودا وتوتا فكانت الأسارى أربعة آلاف والقتلى الفا وسبعمائة وستة وستين وولى الباقي الأدبار فوصلوا إلى الملك شهرياض فأعلموه بما وقع فضاقت عليه الأرض بما رحبت وعلم أن دولته قد انقرضت وإن ايامه قد اضمحلت ومضت فأحضر من بقي من أرباب دولته فاستشارهم فيما يفعل فقالوا: أيها الملك أن مقامنا على رأس العين سفه فإن بينه وبين حران والرها وسروج بعيد يطمع العرب في بلادنا بل الرأي أن نرحل ونتوسط البلاد وتكون قلاعنا اقرب منا والميرة تصل الينا من كل جانب فإن كانت لنا وانهزمت العرب أخذنا عليهم سائر الطرقات وإن كانت علينا انهزمنا إلى ماردين وقلعة مازن وكفر توتا وقصدنا جملين وتل توتا والبارعية وتل سماوي وتل القرع والصور ودجلة الجبل ونأمن على أنفسنا قال فأجابهم إلى ذلك وارتحل من برج الطير وقصد رأس العين ورتب آلة الحصار وترك في المدينة عشرة آلاف فارس مع مرتودس وكان من الفرسان المشهورة وهو متزوج بابنة الملك شهرياض فلما رتب أمره رحل إلى مرج رغبان. حدثنا أبو يعلى عن طاهر المطوعي عن أبي طالب بن مليحة عن وهبان بن بشر بن هزارد قال قرأت الفتوح من أوله إلى آخره بجامع الرصافة على أحمد بن عامر الحوفي وأحمد قرأ على سعدان بن صاحب وابن صاحب قرأ على يحيى بن سعيد المروزي ويحيى قرأ على أبي عبد الله ابن محمد الواقدي وهو يومئذ قاضي الجانب الغربي قال لما نزل الملك شهرياض على مرج رغبان بجيوشه ارتحل عياض في اثره بعدما كتب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 بخبر الوقعة وفتح زبا وزلوبيا والخابور إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وسأله الدعاء وبعث الكتاب والخمس الخمس وما أخذه من القلاع وأرسله مع حبيب بن صهبان وضم إليه مائة فارس فاسر إلى المدينة وأما عياض بن غنم ومن معه من عساكر المسلمين فإنهم تبعوا شهرياض إلى أن نزلوا مع العدو بمرج رغبان قال فنزلوا في مقابلتهم قال: واتصلت الاخبار بارسوس بن جارس صاحب ماردين بأسر عمودا فأحضر ابنته إليه وقال لها أي بنية اعلمي أن بعلك قد أسر وهو ابن الملك ونحن نخاف العار بأن يقال مارية بنت أرسوس ما كانت موافقة على ابن الملك وإنه لما تزوج بها اسر وقد حرت في أمري فقالت له مارية: يا أبت وحق المسيح لقد قلت الحق وتكلمت بالصدق فما عندك من الرأي قال لها وما عندك أنت قالت أريد أن أتنكر وأدخل إلى عسكر المسلمين وآتي أميرهم وأقول له إني قد أتيت أسلم على يديك لرؤيا رأيتها وهو أني رأيت المسيح في النوم ومعه الحواريون وكأني أشكو للمسيح ما نزل بنا منكم وكأنه يقول لي اسلمي فإن القوم على الحق وقد جئتكم لأسلم وأمللكم قلعة أبي وتتركوني أنا في قلعتي فإذا قال أميرهم فكيف تملكيننا قلعة أبيك وهي أمنع الحصون وأحصن القلاع فاقول له يرسل معي من فرسانهم مائة فارس من صناديدهم وأدخلهم في قلعتي وأجعلهم في صناديق وأرسلهم إلى قلعة أبي واسير معهم إلى والى قلعة أبي وأقول هذه الصناديق فيها أموالي واريد أن أجعلها في خزانة أبي فإذا حصل القوم عندي رميتهم في المطأمير واقول لهم لست أدعكم حتى ترسلوا إلى أميركم يرسل الي بعلي فقال لها أبوها إنك تريدين أن تلقي نفسك في الهلاك وإن العرب لا تتم عليهم الحيل لانهم هم أربابها قالت وإن طلبوا مني رهائن فإذا وقع الفداء باصحابهم طلبت الرهائن مع بعلي فقال لها دبري ما تريدين فلعل أن يكون فيه المصلحة قال فنزلت في الليل وقصدت مرج رغبان ومعها خادم وأربعة مماليك يسوقون بغلتها وعليها من الهدايا والتحف والطرف قال فلما وصلت إلى تنيس التقت بغلمان أبيها وحاجبه ومعهم أربعون أسيرا من العرب منهم عبد الله بن غسان وأمثاله قال: وكان السبب في ذلك أن عياض بن غنم لما ارتحل يطلب راس العين مع هؤلاء السادة الذين مع عبد الله بن غسان بحسب العادة في سيرهم إلى حران وسروج والرها لياتوا بالطعام والميرة للعسكر فساروا فلما توسطوا البلاد لقيهم السائس ابن نقولا وجرجيس بن شمعون وقد أقبل بميرة عظيمة لعسكر الملك شهرياض ومعهم ثلاثة آلاف غائصون في الحديد فلما رأوا قلة المسلمين طمعوا فيهم فاقبلوا وأطبقوا عليهم من كل جانب فأخذوهم قبضا بالكف وأحضروهم بين يدي الملك شهرياض فهم بقتلهم فقال له وزيره: أيها الملك ليس هذا براي لأن ولدك عمودا في يد العدو ورودس صاحب حران وتوتا صاحب الحجاب فإن أنت قتلتهم قتلوا أصحابك وولدك والصواب إنك ترسلهم إلى قلعة ماردين يعني قلعة المرأة وتسلمهم إلى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 الملكة مارية ويكونون عندها فإذا طلبتهم العرب تقول لهم أنهم بقلعة ماردين وليس هم في أسرنا ونحن لا نبالي بمن هم عندهم فيكون أعظم لحرمتك وهيبتك فاستصوب رايه وأرسلهم إلى مارية مع صاحب أبيها فالتقت بهم على تنيس كما ذكرنا فأمرت الحاجب أن يوصلها إلى قلعتها ففعل ثم إنها سارت حتى أتت إلى عسكر المسلمين في حندس الليل فكان يطوف في العسكر سهل بن عدي ونجيبه بن سعد في جماعة فلما رأوها أتوا اليها وسألوها عن حالها فقالت أريد أميركم فأتوا بها إلى عياض بن غنم. فلما وقفت بين يديه قدمت له الهدايا وهمت أن تسجد له فنهاها وقال أن الله قد اعزنا بالإسلام وانقذنا من الضلال بمحمد صلى الله عليه وسلم فازال عن قلوبنا الغل والحسد واتباع الهوى وشرفنا بالتحية ونزهنا أن يسجد بعضنا لبعض وما يرغب في ذلك إلا الجبابرة من ملوك الأرض وإن الله يقول العظمة ردائي والكبرياء ازاري فمن نازعني فيهما قصمته ولا ابالي ومارية تفهم ما يقوله فلما انتهى قالت أيها الملك أن الله بهذا نصركم علينا قال لها فمن أنت قالت أنا مارية بنت أرسوس بن جارس صاحب ماردين وإن الذي بايديكم اسيرا هو بعلي ولا صبر عليه وهو عمودا فلما كثرت فكرتي فيه واشتد شوقي إليه رأيت المسيح في نومي والحواريين وقد أمرني باتباعكم وقد أتيت اليكم بهذه النية بأن اتبع دينكم وأسلم لكم القلعتين فلعتي وقلعة أبي على شرط أن تبقوني في قلعتي ولا تغيروا من أمري شيئا وأقيم أنا وبعلي فيها وأكون الحاكمة على أهل بلدي قال: فتبسم عياض من قولها وقال: يا مارية أما إنك ما أتيت الينا إلا لتنصبين علينا بسبب بعلك وكيف يكون هذا بعلك وهو ولدك وحديثه كذا وكذا قال فلما سمعت الجارية الحديث من عياض بن غنم امتقع لونها وتغير كونها وقالت له: يا سيدي ومن اين لك هذا وإن عمودا ولدي وهو ولد الملك شهرياض قال لها رايت رسول الله صلى الله عليه وسلم الليلة وحدثني بذلك كله فقالت إني اريد أن أراه فإن كان ولدي فإن لي فيه علامة فأمر عياض بن غنم بحضوره فأتى به سعيد بن زيد فلما نظرت إليه ووقعت عينها عليه ورأت الشامة التي على خده وزيادة اذنه ورأت عصابتها وما فيها من الجواهر صاحت صيحة عظيمة أذهلت من حضر وترامت عليه والتزمته وقالت ولدي لا شك فيه وقد صدق محمد صلى الله عليه وسلم في قوله قال: ونظر الغلام إلى أمه فتحرك الدم في بدنه فغشي عليه من البكاء فلما أفاق بكى بكاء شديدا هو وأمه فلما سكتا قال لهما عياض قد وجب عليكما أن توحدا الله شكرا على ما أنعم عليكما فإنه يزيد الشاكرين ورحمته قريب من المحسنين ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين ليس له حد ولا قبل ولا بعد هو الاول وعليه المعول وهو الآخر وله المفاخر قال فلما سمع عمودا ما قاله عياض قال: والله ما في قولك زور ولا محال وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وإن محمدا عبده ورسوله قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 فلما نظرت مارية أمه إليه وقد أسلم وافقته في الحال وعرجت عن طريق المحال وشهدت لله بالوحدانية ولنبيه بالرسالة فقال عياض بن غنم ومن حضر من المسلمين تقبل الله منكما إسلامكما ووفقكما واعلما أن الله قد طهر قلوبكما وغفر ذنوبكما فاستأنفا العمل ولكن كيف السبيل إلى هذه القلعة المنيعة. فقالت ابشر فإن أصحابكم اسروا عند حران وقد وجههم شهرياض الي لأفدي بهم منكم هذا الغلام عمودا وقد سيرتهم إلى قلعتي وها أنا أسير إليهم واحصلهم في قلعة أبي وأفك اسرهم وأملك بهم القلعة أن شاء الله تعالى فقال لها عياض لقد وفقك الله في كل حال وصرف وجهك عن المحال ولقد صعب علي اسر أصحابي ولكن قد طاب قلبي بما قلت من الصواب فدعي ولدك عندنا وارجعي إلى أبيك فإذا رأيتيه فقولي له قد تمت حيلتك علينا فإذا حصلت عند اصحابنا فافعلي ما فيه الصلاح فقالت السمع والطاعة ثم ودعت زوجها أي ولدها والمسلمين وسارت من ليلتها إلى ماردين فوجدت اباها قد نزل إلى خدمة الملك إلى مرج رغبان ووجدت الحاجب الذي كانت معه الأسرى قد أوصلهم إلى قلعة أبيها وتركهم تحت قبضته وكان هذا الحاجب من عقلاء الناس ممن قرأ التوراة والانجيل والزبور وكان راهبا في مبدأ أمره وكانت له صومعة على عمود رخام قائم طويل وصنع على رأس العمود قائمة عظيمة وعقد عليها قبة وكان يصعد اليها بسلم ابريسم معلق بأعلى القبة وله سكتان في الأرض فإذا حصل في القبة انتزع السكتين وأخذ السلم إليه فشاع خبره ونما ذكره بالعبادة والرهبانية فلما توجه إلى بلادهم وفتحت الخابور صلحا اجتمع حول ذلك العمود أمم وقالوا: يا ابانا ما الذي تشير به علينا فإن العرب قد توجهت الينا وقد فتحوا الشام واكثر العراق وحصلوا في أرضنا فما الذي نصنع قال فاطلع عليهم من القبة وقال. يا معاشر النصرانية ما زالت النعم عليكم ظاهرة وباطنة مطمئنين في البلاد وقد ذلت لكم رقاب العباد نصركم المسيح على سائر الامم ورد عنكم سائر الغمم ومهد لكم الأرض في الطول والعرض إذ كنتم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتردون المظالم إلى أهلها وتحكمون بالحق وتتبعون شريعتكم وتزجرون أنفسكم عن أكل الحرام واتباع الزنا فلما غيرتم غير بكم وفي انجيل يحيى وانجيل مرقص مكتوب من اتبع سنن الحق وعود لسانه طريق الصدق وفعل بأوامر ربه وألزم نفسه بما يعنيه ولم يبخس الناس اشياءهم وداوم على صلاته وعمل بأوامر شريعته ولم يتبع هواه بلغه زهده ما تمناه ومن جار وبغى وظلم وتجبر وحاد عن طريق الحق كان فناؤه عاجلا ولنفسه بيده قاتلا وخربت داره ونفد ادخاره وكان الخوف شعاره والجحيم دثاره وفي التوراة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 مكتوب لا تظملوا انه لا يحب الظالمين وقد بلغني أن في القرآن مكتوبا: {إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 81] فأصلحوا ذات بينكم واجعلوا تقوى الله نصب عيونكم وقاتلوا عن أهلكم وحريمكم واتبعوا شريعة نبيكم وأخرجوا إلى جهاد عدوكم فإن الجهاد اليوم أفضل من جميع العبادات المأمور بها فإنه من جاهد أعداه كانت الجنة مأواه إلا وإني نازل إلى صومعتي هذه فلا يتخلف أحد منكم ثم إنه ارسل سلمه ونزل فلما رأوه وقد نزل اقبلوا عليه بالسلام وقبلوا يديه ورجليه فاتى بهم إلى كنيسة دمائر وكنيسة باذا فصلى بهم ودعا ثم أمرهم بالجهاد وقصد دير ملوخ هو قبله من دار عبديدان الروم وكان فيه راهب فناداه باسمه وقال له: ليس هذا وقت العبادة فأنزله من صومعته وسار إلى نصيبين فخرج إلى لقائه الملك قرقياقس فترجل إليه وصافحه وسار بين يديه إلى البيعة وزار دير يعقوب وهرع إليه أهل نصيبين فوعظهم وأمرهم بالجهاد وقصدر راس العين وبلغ خبره لأرسوس بن جارس فلما أسر عبد الله بن غسان ومن معه بعثهم مع الراهب ميتا بن عبد المسيح ولقيته مارية في الطريق كما ذكرنا وأمرته بأن يسير بهم إلى قلعتها فلما ابعد عنها لقي أباها في عسكره فسأله عما هو فيه فأخبره أن الملك شهرياض ارسله بهؤلاء الأسرى. فقال له: من أنت قال ميتا بن عبد المسيح فلما سمع ارسوس قوله فرح به وقال: وحق ديني لي زمان ارقبك ولست أستغني عن رايك ولكن انطلق بهؤلاء إلى قلعتي وتول أنت حفظهم حتى يأتيك أمري وخذ خاتمي هذا فانطلق وأوصلهم إلى القلعة ووضعهم في الاعتقال: وتولى حفظهم بنفسه وجعل ينظر إلى حسن عبادتهم وجودة تلاوتهم فأقبل عليهم وقال لهم: أخبروني كم فرض عليكم في اليوم والليلة فقال عبد الله بن غسان خمس صلوات فمن أتى بها بركوعها وسجودها على الكمال لا يرد على النار قال الله تعالى في كتابه: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] وقال نبينا صلى الله عليه وسلم: "الصلاة صلة ما بين العبد وربه فيها اجابة الدعاء وقبول الاعمال وبركة الرزق وراحة الابدان وستر بينه وبين النار وثقل في الميزان وجواز على الصراط ومفتاح الجنة" وهذه الصلاة فرضت على جميع الامم فلم يؤدوها وقصروا فيها حتى فرضها الله علينا فأديناها والصلاة جامعة لجميع الطاعات فمن جملتها الجهاد وإن المصلي مجاهد عدوين نفسه والشيطان وفي الصلاة الصوم فإن المصلي لا يأكل ولا يشرب وزادت على الصيام التمسك بمناجاة ربه وفي الصلاة الحج وهو القصد إلى بيت الله الحرام والمصلي قصد رب البيت وزاد على الحج بقربه من ملكوت ربه قال الله تعالى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19] وقال نبينا صلى الله عليه وسلم: "جميع المفترضات افترضها الله في الأرض إلا الصلاة فإن الله افترضها في السماء وأنا بين يديه" وقال: يا محمد هذه الصلاة افترضتها على جميع الانبياء وأما أمتك فقد سلمتها إليهم وجعلت جميع الطاعات كلها فيها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 وقال صلى الله عليه وسلم: "أتاني جبريل وقال لي: يا محمد قم فاصنع مثل ما أصنع فتقدم وصلى ركعتين وقال لي: يا محمد هذه صلاة الصبح وهي أول صلاة صلاها ولذلك سماها الاولى ثم صلى به مرة أخرى إذ صار ظل كل شيء مثله وقال له: هذه صلاة الظهر ثم صلى العصر أول وقتها وقال هذه صلاة العصر ثم صلى به مرة أخرى إذ صارت الشمس مصفرة ثم صلى والشمس قد غربت وقال هذه المغرب ثم صلى به عند مغيب الشفق وقال هذه عشاء الأخرى ثم صلى المرة الخامسة والفجر قد طلع وقال هذه صلاة الصبح وقال نبينا فرضت الصلاة مثنى مثنى فزيدت في الحضر وتركت صلاة السفر على حالها" فقال ميتا لعبد الله بن غسان يا أخا العرب فما معنى رفع أيديكم في الصلاة للتكبير فقال إلا ترى أن الغريق لما يجد شيئا يتعلق به لينجو من الغرق وكذلك العبد في الصلاة فهو غريق في بحار الخطايا والمعصية يرفع يديه ويقول يا رباه خد بيدي فإني غريق في بحار الخطايا والمعصية هارب منك اليك وأما معنى القراءة في الصلاة فهو عتاب بين العبد وربه وأما الركوع فمعناه أنا عبدك وقد مددت يميني اليك وأما الرفع من الركوع وقول العبد ربنا لك الحمد يعني على عتق رقبتي من الذنوب يقول الله تعالى بقول العبد أنا عبدك قد أعتقتك من الذنوب وأما معنى السجدة الاولى ووضع الجبهة على الأرض كأنه يقول منها خلقتني والرفع منها أخرجتني والسجدة الثانية وفيها تعيدني والرفعة الأخرى ومنها تخرجني تارة أخرى وأما معنى السلام على اليمين اللهم أعطني كتابي بيميني ولا تعطني كتابي بشمالي ولما حضرت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعته قال: "من حافظ على الصلوات الخمس كانت كمثل نهر عذب يغتسل فيه أحدكم كل يوم خمس مرات فهل يبقى من درنه شيء فكذلك الصلوات الخمس لا تبقى على العبد خطيئة". فلما سمع الراهب ميتا كلام عبد الله قال أشهد أنكم على الحق وإن دينكم حق وقولكم صدق ثم أسلم وبعده بقليل وصلت مارية لما علمت أن الصحابة في قلعة أبيها فلما صارت في أعلى القلعة ونزلت في دار أبيها باتت على قلق بسبب الصحابة فلما كان قد دخل عليها ميتا وسلم عليها فقالت له: يا ميتا مال الذي صنعت بالعرب قال استوثقت منهم حتى يرى الملك فيهم رأيه فقالت والله ما قصرت ولكن اجعلهم معنا في البيعة حتى يروا حسن عبادتنا وقراءتنا الانجيل فلعلهم أن يدخلوا في ديننا فقال السمع والطاعة ثم إنه نقلهم إلى البيعة فلما كان الليل أتت البيعة فرأت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم في القيود ولم يكن هناك ميتا فقالت له: يا ميتا أنت من علماء ديننا وما يخفى عليك الحق اطلعت على دين هؤلاء القوم فالحق معنا أو معهم فقال: أيتها الملكة ليس على الحق من غطاء الحق مع هؤلاء العرب والذي قد جئتني به فانجزيه من قبل أن تطلبيه فلا تقدري عليه وقد رأيت بيان صدق القوم وصدق دينهم حتى جمع الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 بينك وبين ولدك عمودا قال فلما سمعت كلام ميتا بقيت باهتة فيه فقالت له: ومن أين لك هذا قال رايته في نومي وحدثها بما كان كأنه كان حاضرا فسجدت شكرا لله فلما رفعت راسها وثبت قائمة وحلتهم من وثاقهم ودفعت إليهم السلاح وأمرت ميتا أن يكرمهم وقالت له: أنا ادبر كيف نقبض على الوالي ونملك القلعة ثم إنها سارت إلى قلعتها وولت عليها من هي به مطمئنة الفكرة وأخرجت منها من تخشى جانبه واستوثقت منها وأما ميتا فإنه جعل الصحابة في البيعة في بيت المذبح وقال لهم: إذا كانت غداة غد وأتى الوالي وأصحابه إلى الصلاة فاخرجوا عليهم فإن الله ينصركم عليهم. قال الراوي: فلما كان الصبح أقبل الوالي وخواصه ليصلوا وضربت النواقيس وأتى القس ليفتح باب المذبح ويقرب القربان 1 فلما فتح الباب خرج عبد الله بن غسان وأصحابه الاربعون وكبروا تكبيرة واحدة ارتعدت لها القلعة وما فيها وبذلوا السيف فيهم فقتلوهم عن آخرهم واحتووا على القلعة وما فيها وسمع أهل الربض التكبير فعلموا أنهم قد ملكوا القلعة فولوا على وجوههم هاربين قال فلما سمعت مارية التكبير والصياح علمت أن قلعة أبيها قد ملكت فغلقت أبواب قلعتها وأرسلت من تثق به إلى عياض بن غنم وأخبرته بما جرى فشكر الله على ذلك ووصل أكثر المنهزمين إلى الملك شهرياض وأعلموه أن قلعة ماردين ملكها العرب فصعب عليه وأيقن بتلف ملكه ووقع الرعب في قلبه وقلوب عسكره وبلغ أرسوس الخبر أن قلعته ملكت وخزائنه أخذت فكتم أمره إلى الليل وأخذ من يثق به وصار يطلب حران فوصل اليها في الليلة الثانية فلما قرب من الباب قام إليهم الحرس فصاح بهم أصحابه وقالوا: افتحوا هذا البطريق رودس يعنون بطريقهم الاول وقد تخلص من العرب ففتحوا لهم فدخل أرسوس وملك المدينة وفشا الخبر في تلك البلاد أن أرسوس صاحب ماردين قد ملك حران بالحيلة فقصد إليه جميع من يطلب الديوان فصار عنده جيش عظيم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 ذكر فتوح الرها وحران قال الراوي: وكان لرودس هذا صاحب حران المقبوض عليه ولد وكان قد قبض أبوه عليه لانه خاف منه وكان شجاعا اسمه ارعوك فقبض عليه وحبسه في العمق وكان له أم اسمها ست العسكر وهي صاحبة سميساط وكانت قد مضت إلى زيارة أهلها وهي غضبانة للقبض على ولدها فلما بلغها أن أرسوس ملك حران صعب عليها وركبت من سميساط وجاءت العمق وخلت بولدها وأخبرته أن حران ملكها أرسوس فأخرجته وسلمت إليه الاموال وقالت انفق على الفرسان واجمع لك جيشا وأمض إلى هذا الرجل الذي فعل ما فعل قال فانفق المال وأتت إليه الرجال وبقي في جيش عظيم وعبر الفرات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 وقصد حران وبلغ أرسوس الخبر فخرج إلى لقائه والتقى الجمعان وكان قد قدم أمام جيشه بطلا من الارمن اسمه أرجوك في ثلاثة آلاف فوقعت الهزيمة على الارمني. حدثنا عبد الله بن اسيد قال: حدثنا سالم بن ربيعة عن عدلان التميمي عن محمد بن عمر الواقدي قال لما بلغت الاخبار إلى عياض بن غنم بمسير أرجوك الارمني إلى أرسوس أحضر عياض رودس صاحب حران وأخبره بما انتهى إليه من خبر أرسوس وكيف ملك حران وإن ولده يريد أن يلقى أرسوس وإني قد عولت على قتلك إلا أن تدخل في ديننا فقال أن أنت أطلقتني سلمت اليك ما تحت يدي من القلاع ولعلى أخلص حران لأن أهلها يحبونني لاني كنت محسنا في حقهم وأنا أقول انهم إذا رأوني سلموا إلى البلد وأنا أسلمها اليكم على إنك تعطيني السويداء ونصيبين الصغرى وأنا أعطيكم الجزية كل عام قال فأجابه إلى ذلك وأمر عبد الله يوقنا أن يستخلفه فحلف وأجاب إلى ذلك فاطلقه وبعث معه يوقنا في جماعته ورد على رودس خيامه وثقله وجماعته وانسلوا من الليل من مرج رغبان طالبين حران فلما قربوا منها أرسلوا عيونهم فوجدوا العسكر نازلا خارجا منها وعسكر ولده بازائه غير أنه قد اسر أرجوك وأخذه أرسوس وإن عسكره باق على حاله وقد بعث إليهم أرسوس رسولا يدعوهم أن يكونوا من حزبه وينعم عليهم وإن ينزل بهم وبعسكره على الرها ليأخذها وتصير من تحت يده قالوا: حتى نرى لأنفسنا في ذلك. قال الراوي: فلما قدم رودس ويوقنا ونظرا إلى العسكرين والنيران تتقد قال رودس ليوقنا هذه النار القريبة لا شك أنها لعسكر ولدي فأرسل إليهم من يختبرهم فسار الرجل وعلم من هم وعاد فأخبره أن القوم معولون على أن يحلف لهم أرسوس وإن يكونوا جنده وقد تقرر الحال على أنه في غداة غد يخرج في مائة فارس من أصحابه إلى دير فرها بين الرها وحران ومن عسكر ولدك خمسون من أكابرهم ويتعاهدون هناك قال فلما سمع يوقنا ذلك تهلل وجهه فرحا وقال لرودس أبشر فقد صار القوم في قبضتنا ثم مضوا يطلبون الدير وكمنوا بالقرب منه ثم أن يوقنا أرسل غلاما له وكان نجيبا قد رباه وكان اسمه شامس وكان لبيبا فقال: يا شامس انطلق إلى صاحب الرها وهو كيلوك وقل له أن مقدمي صاحب أرجوك قد بعثني اليك لكي يكونوا من رجالك فإنك منهم وإليهم وأرسوس من الروم وإن رجالا منا يأتون إلى دير فرها وارسوس معهم حتى يحلف لهم ويحلفوا له ويريد منك أن تخرج في مائة وتكمن لنا بالقرب من الدير فإذا قدمنا فاخرج علينا قال فانطلق شامس إلى أن قدم على صاحب الرها وحدثه بما ألقى إليه صاحبه يوقنا وكان من قضاء الله وقدره أن الحيلة التي دبرها يوقنا وبعث بها إلى صاحب الرها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 قد بعث بها أكابر جيش أرجوك فلما قدم شامس عليه من قبل يوقنا وحدثه بالحديث الذي ذكرنا تأكد عنده ذلك وخرج في أربعمائة من قومه في أكمل سلاح وساروا طالبين دير قرها قال: وكان يوقنا قد كمن بالقرب منهم واختلس شامس وأتى إلى يوقنا وأخبره بأنهم كامنون في المكان الفلاني وهم منكم قريب قال: وأما ما كان من أمر ارسوس فإنه لما أرسل رسوله إلى الأرمن من عسكر أرجوك أتى رودس وقال لهم: انه يحلف لهم ويحلفون انهم لا يخامرون عليه ووقع الاتفاق على أن يكون الحلف في دير فرها فلما كان آخر الليل مضوا وهم متباعدون من بعضهم خوفا من الغدر وكان خاطرهم طيبا بصاحب الرها بما قرروا عنده ثم إنه قبل خروجهم أعلموا ألفا من شجعانهم بأن ينسلوا من العسكر في خفية وإن يلحقوهم ليكونوا عونا لصاحب الرها وقالوا لهم: لا تتكلموا دون أن تروا صاحب الرها قد خرج عليه بكمينه فإذا خرجتم فازعقوا بشارة كأنكم من أصحابه حتى يطمئن اليكم فلعل أن تقبضوا عليه حتى يخلص أميرنا أرجوك قال فانسلوا من أول الليل ولم يعلم بهم أحد. قال الراوي: ولما أشرف أرسوس على الدير إذا به قد خرج عليه مائتا فارس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان المقدم عليهم عمرو بن معد يكرب الزبيدي وكان السبب في ذلك أن عياض بن غنم لما بعث رودس ويوقنا معه وأصحابه ساء ظنه من جانب رودس وقال لقد فرطت وأذهبنا ولي الله مع عدو الله قال خالد: أيها الأمير لا تشغل سرك من قبل رودس فإن ملوك الروم إذا قالت وفت ويرون العار في أن يقول أحدهم قولا ولا يفي به فقال: يا أبا سليمان انه لا ينبغي لنا أن نغفل عن صاحبنا ومن معه ثم إنه أرسل عمرو بن معد يكرب الزبيدي في مائتي فارس وساروا طالبين حران فلقوا في طريقهم ارسوس وهو خارج إلى الدير فقبضوا عليه وعلى من كان معه وأما يوقنا فإنه قبض على كيلوك صاحب الرها وكمن إلى الليل وتوجه إلى الرها فلما قربوا منها وقد لبسوا الثياب التي كانت على صاحب الرها وألبس جماعته ثياب جماعة صاحب الرها فلما قربوا منها وكانوا قد أوقدوا لهم مشاعل فتحوا لهم الباب فدخلوا فلما حصلوا داخلها رفعوا أصواتهم بالتهليل والتكبير والثناء على رب العالمين فما جسر أحد من العوام أن يتكلم واحتوى يوقنا على ما كان فيها من ذخائر وتحف وخزائن كيلوك وأمواله وترك عليها من يثق به بعد ما قبض على من يخافه من رؤسائها وأكابرها وكان قد استأمنه ابن عم كيلوك فأمنه فدله على جميع ما كان لكيلوك ثم أخذه أمامه وساروا طالبين حران فوجدوا رودس قد فتحها وذلك أنه لما قبض عمرو بن معد يكرب على ارسوس سار رودس ومعه بقية عسكر المسلمين حتى وصل إلى حران ونادى الناس الذين على السور فلما عرفوه فتحوا له الباب وصقعوا وساروا معه إلى دار إمارته فملكها وأتى له عظماء البلد وهنئوه بالسلامة فقام فيهم خطيبا وقال لهم: اعلموا أن الله تعالى أنقذني وأنجاني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 وقد جرى من حديثي كذا وكذا وإني عاهدت أمير القوم أن أسلم إليهم هذه المدينة ويوليني على نصيبين الصغرى والسويداء وحلفت له على ذلك وإني سوف أوفي بعهدي وأشهدكم أن كل دين يخالف دين الإسلام فهو باطل وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمد رسول الله قال فلما سمع أهل حران ذلك قالوا: لقد أراد الله بك خيرا ونحن نوافقك على إسلامك فأسملوا إلا قليلا منهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 ذكر فتوح قلعة رأس العين قال الراوي: حدثنا ربيعة بن هيثم عن عبد الله التنوخي عن عبدان بن عطية قال: ما أسلم من أهل الجزيرة الأحران فلما رآهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دخلوا في الإسلام قالوا: اللهم ثبتهم على دينك ولا تمكن من بلدهم عدوا وأعادوا الكنائس مساجدا وجوامع وسلموا الصحابة ما حول حران والرهان تسليما وأتى يوقنا من الرها إلى حران واجتمع بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وشاورهم في أمر الرها وكيف يكون حكمها فقال سعيد بن زيد إنك قد أخذت هذا البلد بحيلتك وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحرب خدعة" وقد صار كل من فيها عبيدا للمسلمين هم وأموالهم فقال يوقنا أنتم تعلمون أن أكثر الجزيرة ما ملكتموه وثم إلى الآن حصون وموانع والصواب أن تصنعوا جميلا وخيرا يعلو به ذكركم ويرتفع به فخركم فقال له سعيد: إذا كان الأمر على ما ذكرته فاتركوهم على حالهم حتى نرى ما يرى فيهم الأمير عياض بن غنم قال ففعلوا ذلك ثم أن الأخبار اتصلت بالملك شهرياض أن حران والرها وسروج والسخن وأكساس والعمق قد صارت كلها للعرب فأيقن بزوال ملكه فدخل إلى رأس العين هو ومن يثق به وصلوا في بيعة نسطوريا وهي الجامع اليوم فلما فرغوا من صلاتهم قال: يا معاشر الروم اعلموا أن العرب قد شاركونا في بلادنا وقد صار لهم معاقل يجتمعون فيها وتقود بأودهم ويصل إليهم منها الميرة والعلوفة وتجيئهم منها الأموال والخابور وفيها كلها حكمهم وما بقي بيننا وبينهم إلا هذا المصف فإن كان لنا فلا مقام للعرب بيننا وإن كان للعرب فالبلاد لهم من دوننا وقد رأيت رأيا فيه السداد فقالوا: وما هو قال أرى أن أماطلهم بالمصف ونكتب للملكين المعظمين شقر وزعفرة فلعلهما ينجدونا بعسكرهما ونكاتب الملك حرفتاس بن فارس ونكاتب الملك الانطاق صاحب نينوي وبلادها والى الحبرا بن صاحب الهكارية فإذا أرسلوا الينا عسكرهم نستعين بالمسيح ونلقي المسلمين والله يعطي نصره لمن يشاء فقالوا: هذا رأي جيد فكتب الكتب وأرسل الرسل إلى الملوك المذكورة وعاد إلى عسكره. قال الواقدي: وما منع عياض بن غنم عن حرب القوم إلا أنه رأى أن البلاد تفتح لأصحابه بدون قتال فلم يستعجل لأنه قوي ظهره بالبلاد التي فتحت وأيضا أنه كتب إلى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 عبيدة بن الجراح يطلب منه خبرا يأتيه قال: ووصلت كتب الملك شهرياض إلى أصحاب الأقاليم فما منهم إلا من عين عسكرا لنصرته قال: ووصل مكتوبه إلى صاحب أخلاط وكان له بنت ذات جمال فائق وكانت من الشجاعة على جانب عظيم وكان اسمها طاريون وكان مستقرها بجبل سموه باسمها وكان كل من خطبها لا ترضى به إلا أن تلقاه في الميدان فإن قهرها كانت له زوجة قال: وإنها غلبت جميع خطابها وكان من جملة من خطبها غلام اسمه سوسى بن سلنطور صاحب جبل النساسنة وكان قد قدم إلى أخلاط بهدية من ابيه إلى أبيها فقالت هي على شرط معروف فبارزته في الميدان فقهرته وجزت ناصيته ومرت الأيام والليالي فلما بعث الملك شهرياض يستنجد الملوك وأرسل إلى صاحب أخلاط أرسل إليه أربعة آلاف فارس وأمر عليهم ابنته طاريون وقال لها أي بنية قد قدمتك على الجيش وأريد منك أن تظهري على العرب ما كنت تظهرين به على الفرسان حتى تشكري عند أمة المسيح قال: وأرسل معها ملك السناستة نجدة وهم ألف رجل وكان المقدم عليهم ولده فسار في صحبتها وكان الغلام قد كمل شأنه وحسن كماله وابتدر هلاله ولم يكن أحد في زمانه يوصف بجماله فلما نظرت طاريون إلى حسنه وجماله نظرته بعين المحبة فوقع قلبها في شبكة عشقه فسيرت رجالها مع رجاله. قال الواقدي: وأحسن ما رأيت في هذه الفتوح أنه كان لهذه الجارية ابن عم اسمه برغون وكان يحبها ولا يستطيع أن يسمع بذكرها وكان من أهل الشجاعة والشدة كان تحت يده من المعاقل حيزان والمعدن وأبزون وقف وأنطر وايدليس وأرزن وإنه سار ينجد شهرياض في ثلاثة آلاف فلما عبر جيش ابنة عمه طاريون بيدليس اهتم لها وأكرمها وأهدى لها الهدايا والتحف وسار معها إلى أن عبروا حصن كيفا وأخذوا طريقهم على الموزر ونزلوا على حصن يعرف بالهتاج على طريق النهر وكان لابن عمها عيون يطلعونه على أخبارها قال فلما نزلت على النهر أرسلت إلى الغلام سوسي الذي تحبه وهي تقول له اعلم أن المحبة الصادقة لا تكون إلا بعد العداوة المفرطة وقد ندمت على ما فات وما كان مني اليك وقد رأيت إنك بعد رجوعنا من قتال العدو ترسل إلى أبي وتطلبني منه ولكن أريد منك أن تصل الي ليلا في خفية من ابن عمي يرغون حتى تحلف إلى إنك ترسل إلى أبي وتطلبني منه وأحلف لك أني لا اريد سواك وبعثت له بهدايا مع بعض خدمها وأرسلت معه شيئا من الحلوى وأرسلت مثل ذلك لابن عمها ولكل أمير صحبها حتى لا ينكر عليها قال: وإن ذلك الخادم قد علم بما جرى وكان هذا الخادم قد ربى ابن عمها على كتفه وكان يحبه محبة شديدة فأعلمه بما وقع من حديثها مع الغلام سوسي بن سلنطور وهي تريد أن تجتمع به الليلة حتى تحلف له أنها ما تريد غيره قال فكتم يرغون أمره فلما جن الليل طلب عظماء جيشه وقال لهم: اعلموا أني ما وليت عليكم إلا وقد علم المسيح أن عقلي أوفر من عقلكم وقالوا: أيها الصاحب أعلمنا بما تريد حتى نقبل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 قولك ونطيع أمرك قال: يا قوم اعلموا أننا سائرون على غرة وعن قليل ترون الخيل تنوشنا والرماح تحوشنا قالوا: وكيف ذلك قال: لان العرب لا تنام ولا ترام وقد عاد النصر إليهم واعلموا أن الملك شهرياض ليس بأعظم همة ولا أكثر جنودا من هرقل ولا من ملوك الأرض وقد ملكت العرب دولتهم وأخذوا معاقلهم وأذلوا ملوكهم وأنا أعلم أن شهرياض لاثبات له مع العرب يوم المصف وقد ملكت بلاده وهي حران والرها وسروج والبيرت والخابور وقد أخذوا ماردين وقلعة ماردين يعني قلعة المرأة وأخذوا أرسوس وابنته مارية وكأنكم بالعرب قد ملكت ديار شهرياض وعادت اليكم وملكت دياركم وسبت حريمكم واعلموا أن الحق مع العرب وأنهم إذا قالوا: قولا وفوا به ومن أسلم إليهم أمن على نفسه وأهله وماله سواء رجع إلى دينهم أو أقام على دينه واعلموا أن بقلبي النار من هذه الجارية طاريون وقد أرسلت اليها لتكون لي أهلا وأكون لها بعلا فأبت ذلك وهي تحب ابن ملك السناسنة فإن تزوجت به وصاروا يدا واحدة أخذوا معاقلنا وملكوا حصوننا ولا يكون لنا معهم مقام وقد رأيت أنني في هذه الليلة أقبض عليها ثم إنه أخبرهم بما حدثه به الخادم قالوا: أيها الملك إذا أخذتها فأي أرض تؤويك وأي حصن يحميك قال نقصد إلى عسكر العرب ونأخذ لنا منهم أمانا قالوا: إذا كنت عولت على ذلك فاعزم قال فخذوا على أنفسكم وتأهبوا للرحيل ففعلوا. قال الواقدي: فلما جن الليل تزيا يرغون ابن عمها بزي الغلام سوسي وسار إلى سرادق الجارية فلما رأته ظنت أنه سوسي فوثبت إليه قائمة وسلمت عليه وصقعت له وكانت قد أبعدت الحرس عنها والغلمان والحجاب حتى لا يطلع أحد على سرها قال ثم إنها تحققت أنه ابن عمها فاستحيت منه ووجلت فلم يمكنها إلا أن تخدمه بأعظم خدمة فقال لها يا طاريون أظننت أني لا اقف على سرك ولا أبحث عن أمرك يا ويحك أي مناسبة بين الروم والأرمن حتى إنك ملت إلى ابن ملك السناسنة وتركت مثلي ثم إنه مال عليها بشدته وقبض عليها وألقمها أكرة وكتفها وخرج بها إلى عسكره فوجد أصحابه قد لبسوا وركبوا ورموا المضارب وشالوا ثقلهم فلما وصل إليهم حملها على بغل وساروا ونظر أصحاب سوسي إلى رحيل يرغون فقال لهم: أمهلوا أنتم بالرحيل إلى أن يطلع الفجر فإن هذا طريق ضيق تزدحم فيه الخيل والبغال قال ففعلوا ذلك وجد يرغون في السير فما أصبح إلا وهو على مرج السور فنزل هناك وأما الغلام سوسي فإنه لم يمض إلى الجارية ولا سأل عنها ولا سار اليها لأنه خاف أن يكون ذلك منها مكرا به فتقبض عليه فلما أصبح أمر غلمانه بالرحيل وركب وأتى إلى سرادق الجارية طاريون فوجد قومها ينتظرون خروجها من سرادقها فدخل عليها خادمها وخرج وقال لهم: أن الملكة ما كان من أمرها ولا سبب لغيبتها قال فماج أصحابه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 وأرادوا الرجوع فقال لهم صاحبها: أن عدنا إلى الملك فلا نأمن أن يرمي رقابنا ويقول كيف غفلتم حتى أخذت ابنتي من بينكم وما عندكم خبر وما أخذ الملكة إلا يرغون ابن عمها لأن في قلبه شيئا ثم إنهم ركبوا وجدوا في طلبه قال: وإن يرغون لما نزل في مرج السور واستراح وهم بالمسير إذا بالقوم قد أشرفوا عليه وهم يزعقون يا ويلك اترك الملكة من يدك قبل حلول منيتك فاستقبلهم هو ومن معه من بني عمه واقاربه فعندها قال لبني عمه اعلموا أن العرب ما نصروا على أعدائهم إلا بالصدق في دينهم وقتالهم عن دين الله واعلموا أن هؤلاء القوم الذين طلبناهم لا يبخلون لا سيما إذا علموا اننا قصدناهم وأردناهم من غير قهر لكن من طريق العقل أن دينهم أفضل من ديننا لأنهم يشيرون إلى الله بالوحدانية ونحن نسجد للصلبان والصور ونقول أن للخالق زوجة وولدا وهو واحد أحد فرد صمد وقد بلغني أنهم يقولون أنه من قتل منهم صار إلى الجنة ومن قتل منا صار إلى النار لأننا عندهم من الكفار فإن كنتم تريدون النصر على أعدائكم فأقروا الله بالوحدانية وقولو لا إله إلا الله محمد رسول الله قال فأعلنوا بكلمة التوحيد فدوت من أصواتهم بالجبال والتلال والرمال والشجر والحجر فلما سمع أعداء الله ما نطقوا به علموا أنهم دخلوا في دين الإسلام فتقدم سوسي وقد داروا بيرغون وأصحابه وقالوا له: يا ويلك يارغون أما كفاك أن تكون غادرا حتى تكون بدين النصرانية كافرا أتظن إنك برجوعك إلى دينهم ينصرونك علينا وأين العرب وما يصل صائحك إليهم إلا ونحن فرغنا منك وقتلناكم أشر قتلة عن آخركم فقولوا لمحمد ينصركم ثم إنهم حملوا على يرغون ومن معه فاستقبلوهم بنية صادقة وهمم متوافقة وأعلنوا بكلمة الحق والصلاة على سيد الخلق وبذلوا صوارمهم في العدا واوردوهم شراب الردى وقصدوا نحو أعدائهم وطلبوا بجهادهم منازل الجنة وطلقوا الدنيا ثلاثا وكانوا يمشون في ظلمات ثلاث فانقدحت نار شوقهم بزناد صدقهم فأحرق زرع الكفر: {فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} [الكهف: 45] فلما أضاءت لهم الأفكار ولاحت لهم لوائح الأنوار لم يجدوا من يشار إليه بالوحدانية ويوصف بالالهية وينعت بالأزلية إلا الواحد القهار فركضوا في ميدان الاعتذار ونادوا بلسان الأقرار آمنا بالله الواحد القهار فلما سرحوا خواطر الافتكار في أسرار الاعتبار قالوا: كيف عبدنا سواه وما ثم لنا معبود إلا إياه فواخجلتنا إذا وقفنا بين يديه يوم العرض عليه فبأي عمل نلقاه وبأي بضاعة نقصد رضاه فأشار إليهم منادي الإيمان من القرآن: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 102] فلما رحلوا في عسكر الطاعة وخافوا من هول يوم الساعة وجعلوا رواحل رجائهم في ركب اقبالهم وساروا في موكب عزهم وجلالهم أشرقت شموس إسلامهم في فلك استسلامهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 وانقضت بازات أفراحهم من جو أتراحهم ومنادي جهادهم يناديهم يا أخيار: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:24] . قال الواقدي: ودارت بهم الأوغاد وشرعوا نحوهم الصعاد وأشرف يرغون وأصحابه على الهلاك وإذ باب السور قد فتح وخرج منه مائة فارس كالليوث العوابس وقد رفعوا اصواتهم بالتهليل والتكبير ونادوا يا من تعلقوا بكلمة التوحيد أبشروا بالنصر والتأييد ها نحن قد لبينا دعوتكم وخرجنا لنصرتكم وسوف نخلصكم من الأمر المهول فنحن أصحاب الرسول. قال الواقدي: وكان هذا السور حصنا من الحصون وكان قد سلمه ميتا لاصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قد أرسل عياض بن غنم عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق في مائة فارس ليأتوه بالميرة وكان فيهم المقداد بن الأسود وضرار بن الأزور وسعد بن غنيم الأسدي ومعمر بن ماجد السلمي وباري بن مرة الغنوي وهلال بن عامر الأنصاري وعيينة بن رافع الجهني وخضر بن يعشور الفزاري ومثل هؤلاء السادات رضي الله عنهم أجميعن فلما وصلوا إلى السور تلقاهم طالوت صاحب الحصن وأنزلهم وأكرمهم وأمر لهم بالطعام وأقاموا عنده ثلاثة أيام حتى جاء يرغون وكان من أمره ما كان فلما سمعوهم يكبرون قالوا: هؤلاء قد دخلوا في ديننا وقد وجب علينا نصرتهم فخرجوا كما ذكرنا وحملوا على أعداء الله ونصروا يرغون ومن معه وانهزموا في الليل إلى مرج رغبان إلى الملك شهرياض فاخبروه بما جرى عليهم قال فأيقن بذهاب ملكه قال فلما أصبح يرغون أتى إلى الصحابة وشكر الله إذ نجاه ومن معه على أيديهم وقد ازدادوا إيمانا وحدث الصحابة بما كان من أمرهم وسار معهم إلى عياض بن غنم فلما جازوا على ماردين نزل إليهم ميتا وكان قد بلغه ما جرى فسلم عليهم وهناهم بالسلامة وقال ليرغون وأصحابه أن كنتم تريدون الثواب الجزيل من الملك الجليل فتمموا إسلامكم بما ألقيه عليكم فقال يرغون وكيف العلم قال ميتا انزل ههنا أنت ومن معك فإذا غربت الشمس فسيروا على بركة الله وعونه واقصدوا كفرتوتا فإذا جئتم إليهم ليلا فقولوا لاهلها نحن قد وجهنا الملك اليكم لحفظ المدينة فإذا صرتم داخلها فثوروا على اسم الله وبركة نبيه قال ففعل ذلك يرغون وجلس إلى أن جن الليل وارتحل بجيشه وثقله وودعوا الصحابة وساروا بالميرة وسار يرغون إلى أن وصل إلى كفرتوتا وكان آخر الليل والفجر بدر فلما وصل اليها أمر أصحابه أن يرفعوا أصواتهم بذكر شعارهم حتى لا ينكر عليهم القوم وجاءت الاثقال: والبغال وسمع أهل كفرتوتا ضجة العسكر فاشرفوا عليهم من أعلى السور وسألوهم من أنتم قالوا: نحن من عسكر الملك شهرياض وقد بعثنا لنكون عونا لكم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 قال الواقدي: وأعجب ما في هذه القصة أن الملك شهرياض قد بعث إليهم يعرفهم أني مرسل اليكم جيشا مع الحاجب فإذا وصلوا اليكم فافتحوا لهم الباب فإن العرب في آثارهم قال فلما وصل إليهم يرغون ومن معه وقالوا لهم: نحن من عسكر الملك فتحوا لهم ودخلوا ولم يتكلم حتى أنه نزل في دار الامارة فلما استقر به الجلوس وثق من الأبواب وصعد إلى السور وقال لاهل البلد: استريحوا لأن الملك قد وصاني بالحرس على البلد فقالوا: أيها السيد أن كتاب الملك قد جاءنا بغير ما قلته بأن لا يتولى حفظ البلد إلا الحاجب قال فلما سمع يرغون قولهم علم أن الملك يريد أن يرسل لهم جيشا فقال لهم: انصرفوا إلى منازلكم وإياكم أن يظهر منكم أحد في الليل فإني أن وقعت بأحد منكم قتلته قال فانصرفوا ولم يبق عنده سوى الوالي الذي كان من قبل توتا هو وغلمانه فقبض عليهم يرغون وضرب رقابهم وتركهم في بعض الابراج المهجورة وقال لأصحابه: كونوا على حذر فإن شهرياض يريد أن يرسل جيشا إلى هذه المدينة فإذا رأيتموهم قد وصلوا فانزلوا وافتحوا لهم درقة الباب الواحدة وكلما دخل فارس فأبعدوا به عن الباب وأنزلوه عن فرسه وخذوا عدته وكتفوه وألقوه في البرج قال فبينما هو يوصيهم إذ وصل الجيش وهم ألف فارس والمقدم عليهم صاحب الملك الكبير فصالحوا عليهم افتحوا لجيش الملك فتبادرت أصحاب يرغون ففتحوا درقة الباب الواحدة وقالوا: لا نمكن أحدا يدخل إلا واحدا واحدا مخافة من يوقنا وأصحابه فانا نخاف أن يدخلوا في جملتكم فبقي كلما دخل فارس رجلوه بعد أن يبعدوا به عن الباب ويأخذوا سلاحه وجواده ويكتفوه إلى أن أدخلوا الألف والحاجب بعدهم فلما اجتمعوا نادوا بأعلى أصواتهم الله أكبر الله أكبر فتح الله ونصر وجاءنا بالظفر قال فارتج كفرتوتا ووقع الرعب في قلوب أهلها وعلموا أنهم ملكوا بلدهم فلم يجسر أحد منهم أن يظهر في المدينة ومن ظهر قتل فلما أصبح طلب يرغون أكابر البلد ومشايخها وبطارقتها فلما حضروا قبض عليهم وأنفذ إلى عياض بن غنم يعلمه بما صنع فلما وصلت إليه الرسالة سجد لله شكرا وكان عبد الرحمن بن أبي بكر وأصحابه لما وصلوا بالميرة أخبروا المسلمين والأمير بما وقع وإن يرغون مضى إلى كفرتوتا فكان منتظرا لما يأتي إليه من خبره فلما جاء الخبر بالفتح حمد الله تعالى وتفاءل بالنصر. قال الواقدي: قال عياض بن غنم للصحابة اركبوا ودونكم والقوم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وأمر خالد بن الوليد أن يكون بأصحابه في الميمنة من القوم وأمر عمر ابن سالم أن يكون على يسار القوم وقال لهم: لا تخرجوا حتى تشب نار الحرب وتشتعل بالطعن والضرب فاحملوا واعتمدوا على السيوف فإنها أقرب للحتوف وليكن شعاركم التهليل والتكبير واقطعوا أجل أمنيتكم من الحياة الفانية وارغبوا في العيشة الراضية وإياكم والميل إلى دار الغرور فإنها محل النوئب والثبور: {فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان: 33] وقفوا بهممكم وقوف قوم غذوا بحلاوة وصاله فصانوا أمرهم بالوقوف على طاعته فهاموا وتجردوا في الليل لخدمته وقاموا فأثنى عليهم إذ بحبه هاموا: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت: 30] قال فسار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو الجهات التي ذكرنا وزحف الموحدون ونشرت الرايات والبنود وتواعدوا على اللقاء في اليوم الموعود وقالوا: الهنا ما لنا سواك من نصير فأنت: {نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الأنفال: 40] قال: ووقع الصحائح في عسكر الروم أن المسلمين قد زحفوا وأشرفوا قال فتبادروا إلى القتال وتمسكوا بقول المحال ولبسوا وتدرعوا وعن الآخرة نزعوا والى الصليب تضرعوا ورفعوا رايات الطغيان وتلت عليهم الانجيل القساوسة والرهبان وفتحت لهم أبواب النيران عند ما أشركوا بالرحمن وصار على جيشهم من الكفر شبه الدخان وصار أمامهم الشيطان وعلا منهم الضجيج ووقعوا في أمر مريج فلما نظر المسلمون إلى كثرة من اجتمع من قومهم استسلموا لحكم القضا وقالوا: نرضى بما قدر وقضى فنودوا من سرائرهم قد اشترينا منكم النفوس فاصبروا لحكم الملك القدوس ولا تولوا الأدبار فقد سبق الحكم وانبرى وخط القلم في اللوح وجرى وكتب بامر الله: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى} [التوبة: 111] . قالوا: ما الذي اشتراه من له المنة قال أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة فقالوا: نحن نريد التسليم لنصل إلى جنان النعيم فقيل لهم انهضوا إلى سوق المبيع فقد هبت بشائر الربيع وتجلى لقبض أرواحكم البصير السميع فسبحوه وسجدوا ورفعوا أصواتهم بتوحيده ومجدوا فلما أيقنوا بالوصال طلع لهم سهيل الحال وأزهرت شجرة الاحوال واستدار لهم رقيبة في فلك التيسير وناداهم: {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51] فلما سمعوا منادي الافكار يناديهم بالعشي والابكار بذلوا نفوسهم وأرضوا قدوسهم وجاهدوا واجتهدوا وحملوا واقتصدوا ونهلوا من نهر الشهادة ووردوا ولم يزالوا في حرب الاعادي وموارد الاجتهاد في مغاني ميادين الجهاد حتى خرجت الكمناء وهبت عواصف رياح الفناء فدمر ما كان شيده الكفار من البناء وانتشرت أستار ما أملوه من الاماني والمني فقتلت بينهم الصناديد وأصبحوا صرعى على وجه الصعيد وناداهم منادي التهديد: {إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ، وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود: 83] ولم يزالوا في قتال الكفار إلى أن مضى النهار واقبل الليل بالاستتار والمسلمون يقولون ياليتنا دام لنا النهار ولا غلبتنا جيوش الاعتكار وإذ قد ظهر لهم على أطناب سرادق القتار ولا الليل سابق النهار قال فلما مضى الليل بغياهبه وأقبل الصباح بجانبه بادروا إلى الحرب والطعن والضرب ولم يمهل بعضهم بعضا دون أن وقعت الحملة على المسلمين فانهزم الجناح الأيمن وكان فيه أخلاط العرب قال: وانهزمت ميسرة العدو ووقع فيهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يزل القتال فيهم إلى أن غلبهم الليل فانفصلوا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 فلما كان اليوم الثالث تولى الحرب خالد بن الوليد ورتب الناس ترتيبا جيدا وجعل في الميمنة باهلة وطبا وجعل في الميسرة عديا ونميرا وفزارة وفي الجناحين كندة وعاملة ومرة وفي القلب ابطال الأنصار من ذوي الشدة والانتصار وجعل راية الميمنة بيد عامر بن سراقة وراية الميسرة بيد ضرار بن الأزور وراية الجناح الأيمن بيد عبد الرحمن الاشتر وراية القلب بيد عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق فلما رتبهم قال لهم: اتقو الله الذي إليه مصيركم واعلموا أنه متكفل بتأييدكم ونصركم وإياكم أن تؤتي المسلمون من قبلكم واتبعوا سنن الذين فتحوا الشام من قبلكم فمن ولى الادبار كان مأواه النار وغضب عليه الجبار واعلموا أن الله فرض عليكم الجهاد وقتل الاعداء واعلموا أن الأحب إلى الله تعالى جل جلاله قطرتان قطرة دم جرت في سبيل الله وقطرة دمع جرت من خشية الله وهذا اليوم له من الاجر ما لا يعد فاتقوا الله عباد الله واثبتوا في هذه المواطن كما ثبتم في المواطن الكبار وإياكم والفشل فتذهب ريحكم وقوموا شريعة نبيكم واعلموا: {أن الله مع الصابرين} و {لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [التوبة: 120] وها أنا أنفرد بجماعة من اخوانكم إلى صليب القوم ولست براجع إلا بحطم من حوله من الكفرة والمشركين قال جل ذكره: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47] فإذا رأيتم صليب القوم قد هوى إلى الأرض فاحملوا ولا تمهلوا قال فلما وعظهم خالد رتب كل صاحب راية في موضعه وانتخب من انتخب من أبطال المسلمين وقال للناس إذا رأيتم الصليب قد وقع فاحملوا والله ينصركم وحمل هو ومن معه وقصدوا لواء شهرياض وصليبه الأعظم فما ردهم عن حملتهم كثرة العساكر. قال الواقدي: ولقد بلغني ممن أثق به أنهم لما حملوا طحطحوا العساكر وزعزعوا الدساكر وأزالوا الابطال عن مراكزها والبطاركة عن مراتبها وما اعتمدوا إلا على السيوف واستقبلوا بها الصفوف فلما رأى شهرياض فعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى التاج عن رأسه وزعق بالبطارقة والاراجية والقياصرة وقال: يا معشر الروم من بني الأصفر اعلموا أنه ما بين ذهاب دولتكم إلا هذا اليوم فإما أن تقاتلوا عن دينكم وحريمكم وملككم وذراريكم وأولادكم والا أخذت منكم فإياكم أن تولوا الأدبار فمن تولى غضب عليه المسيح وأدخله النار. قال الراوي: وبلغني أنه في ذلك اليوم وصل إليهم بتركهم الكبير المشار إليه في دينهم ومعه كل قس وشماس ورهبان بأرض الجزيرة جاء ليحرض الروم على القتال وكان هذا البترك اسمه دين الدويرم وكان يسكن بدير يقال له دير قرقوت: وإنهم وصلوا قبل أن يحمل المسلمون فوعظهم بين الصفوف وقال من انهزم منكم حرمته فلا يقبله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 المسيح أبدا ثم انفصل من القوم هو ومن معه وعلوا على رابية تشرف على القوم ورفعوا الصلبان وفتحوا الاناجيل وأشركوا بالملك الجليل. قال الواقدي: حدثنا عبد الله بن مالك عن موسى بن أبي العام عن الأشعب عن يحيى قال: وحدثنا بشر بن عامر وكان ممن حضر وقعة مرج رغبان وكانت الواقعة يوم الثلاثاء ثالث شهر صفر سنة سبع عشرة وكان شهرياض قد أرسل إلى رأس العين وسائر بلاده فأتوا بحريمه وحريم سائر الأجناد والبطارقة وأولادهم وأقامهن يوم المصف على أبواب الخيام وقال لهن ما من امرأة إلا ترفع ولدها وتصيح باسم بعلها وأخيها إنما فعل ذلك ليثبتوا في القتال فأوقعوا الصياح من كل جانب وعملت القواضب وثبت الروم ثباتا عظيما لأجل حريمهم وأولادهم ولأجل البترك ووقف في مقابلتهم رجال من اليمن يرمونهم بالنبل وأما خالد بن الوليد فلما حمل بأصحابه وهو يريد صليب القوم سمع عياض بن غنم وهو يقول هذه الابيات: سنحمل في جمع اللئام الكواذب ... ونفري رؤوسا منهم بالقواضب. ونهزم جيش الكفر منا بهمة. ... تطول على أعلى الجبال الراسب. وننصر دين الله في كل مشهد. ... بفتيان صدق من كرام الأعارب. فيا معشر الأصحاب جدوا وجندلوا. ... وكروا على خيل كرام المناصب. فدونكم قصد الصليب وبادروا. ... لنرضى إله الخلق معطى المواهب. قال ثم قصدوا الصليب وكان اللعين شهرياض لما صف الصفوف أقام حول الصليب الاعظم اثني عشر ألف فارس كلهم لبس الزرد وترك امامهم حسكا من حديد حتى لا يصل إليهم أحد فلما حمل خالد وأصحابه وقربوا من الصليب داست خيولهم على ذلك الحدسك فانكبت على وجوهها فوقعوا عن ظهورها فانكبت عليهم الروم بغيظهم وحنقهم فأخذوهم بالاكف لأنهم وقعوا عن ظهور خيولهم من الحسك فأخذوهم عن آخرهم وارتفعت العطاعط من كل جانب وعملت المرهفات القواضب فلما نظر الأمير عياض بن غنم ما نزل بخالد ومن معه صعب عليه واشتد لديه وقال في نفسه يا ابن غنم ما يكون عذرك بين يدي الله وقد مضت هذه السادة تحت رايتك فصاح باعلى صوته يا معاشر المسلمين احملوا ولا تمهلوا ايقظوا هممكم وعجلوا واستخلصوا السادة من الاسر واطلبوا من الله النصر. قال فلما صاح عياض أوقفوا خالدا ومن معه أمام الصفوف فتأسف ابن وضاح بن مجيد بن نافور بن عمر بن سالم بن النابغة الذبياني وكان من أفصح الناس لسانا وأجرئهم جنانا وأحدهم لسانا وأعلمهم بيانا وكان حليفا لخالد بن الوليد رضي الله عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 فبرز يومه بمرج رغبان وقال: أيها الناس أن الصبر والثبات جندان فلا يغلبان وهذا يوم يا له من يوم وما ترون من نخواتكم ومروءتكم ودينكم أن تدعوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في يد العدا فاستنقذوهم من الردى واتقوا الله الذي إليه مصيركم واعلموا أن ترك الأشياء النفيسة لا يليق إلا بالنفس الخسيسة أما تحققتم أن الدنيا تئول إلى الزوال والفناء والآخرة هي دار النعيم والبقاء أما علمتم أن الهمم العلية الروحانية والأشباح الجسمانية عولت على الانتقال من الدنيا الساحرة إلى دار الآخرة وقالت لا بد من الرحيل لأن البقاء في الدنيا قليل فتزودوا معاشر الأرواح فقد قرب الرواح والقصد منكم قد عرفناه ومرادكم قد فهمناه وإن سفركم سفر شاق يحتاج إلى زاد ورفاق قالوا: فما الزاد الذي نكثر منه ولا نعدل عنه قيل لهم الزاد الاقوى في وتزودوا فإن خير الزاد التقوى قالوا: أما هذا الزاد فمنا من يقدر عليه وما منا من لم يقدر عليه قيل إياكم والتعرض لهذا السفر بغير أعمال واعملوا ليوم لا بيع فيه ولا خلال فلما تزودوا أخلصوا ومن جيفة الدنيا تخلصوا خلع عليهم خلع الأنعام وتوجهم بتاج العز والاكرام وجعل لهم الفردوس منزلا وقال في حقهم: {كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً} [الكهف: 107] واسمعوا ما قال فيهم الملك المقتدر: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} [الأحزاب: 23] قال فعندها حملوا بأسرار صافية وهمم وافية وطعنوا في صدرو الرجال ورفرفت على رؤوسهم طيور الآجال ووضعوا السيف في الروم وجعلوه عليهم يوما مشئوما قال: ولم يزل القتال بينهم بقية يومهم إلى الليل وانفصلوا عن القتال ورجع المسلمون وهم متأسفون على اسر خالد ومن معه فإنهم لما وقعوا في الأسر وانفصل الناس من القتال وجن الليل ارسلهم الملك شهرياض إلى رأس العين مع حاجبه نقيطا بن عبدوس ومعه ألف فارس وأمره أن يسير بهم في الليل ويجد بهم في السير وإن يسلمهم إلى وإلى رأس العين قال فسار بهم ولم يطلع الفجر إلا وقد وصل بهم إلى رأس العين وأرسل من يعلم الوالي بالقصة فخرج في موكبه للقائهم ووضع الصايح في رأس العين بقدومهم فما تخلف أحد وكان لهم يوم مشهود فألقاهم الوالي في الكنيسة العظمى التي هي جامع اليوم وأوثقوهم في الحديد. قال: حدثنا فاهم اليشكري عن بشار بن عدي عن سراقة بن زهير عن خزيمة بن عازم عن جده عبد الله بن عامر قال أنه لما فتح الرها وحران وسروج صلحا اجتمع يوقنا برودس ومعه اصحابه فقال اعلموا أن الله سبحانه وتعالى قد فتح علينا هذه البلاد وإن رأس العين مدينة عظيمة وأهلها قد استعدوا للقتال وآلة الحصار وربما صعب أمرها وعسر فتحها على المسلمين وإني معول أن أهب نفسي لله واسير مع أصحابي فلعلي أن أحصل في داخل المدينة ولعل الله أن يفتحها على يدي فقال له سعيد بن زيد: قوى الله وسدد أمرك قال: وعول على المسير في تلك الليلة وإذا بعيون المسلمين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 قد أقبلت إلى حران يخبرون أنه قد أتى عاصم بن رواحة المتنصر في خمسمائة فارس من قومه من اياد الشمطاء. وكان قد وصل مع قومه إلى قسطنطينية وقد ورد على الملك هرقل كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأن يبعدهم عن دياره فأبعدهم عن أرضه فتفرقوا في كل موضع وأتى منهم عاصم بن رواحة إلى هذا الملك شهرياض في خمسمائة فارس وكان الملك يحبه ولما وصل إلى البرية كتب إلى الملك يعرفه أنه خرج من بلاد القسطنطينية وأتىقاصدا إلى بلاده وخدمته وبعث الكتاب مع رجل من بني عمه اسمه رفاعة بن ماجد فوصل إلى الملك وأعطاه الكتاب ففرح الملك بقدومه وأمره أن يعجل في الحضور وأرسل إلى والي رأس العين بأن يخلي له دارا ينزل فيها إذا قدم مع أصحابه فلما سمع يوقنا ذلك الخبر من عيونه فرح وقال من أي طريق يأتون قال من طريق سروج وبقي بينكم وبينه ليلة واحدة فخرج يوقنا ومن معه وصحبهم عمرو بن معد يكرب وسعيد بن زيد ومن معهم وكمنوا لهم في موضع قد علموا أنهم لا بد لهم من العبور فيه فلما ضرب الليل سرادقات ظلامه ونصب على الخافقين أعلامه إذ أقبلت خيول القوم وسمعوا حسهم فصبروا حتى توسطوهم من كل جانب وقصد كل واحد واحدا فأخذوهم عن بكرة أبيهم ولم ينفلت منهم أحد واحتووا على أثقالهم ورحالهم ورجعوا إلى مكمنهم ونزلوا عن خيولهم. فقال لهم سعيد بن زيد: من أميركم حتى أخاطبه فأشاروا إلى عاصم بن رواحة فقال له سعيد بن زيد: يا بن رواحة أي مناسبة بينكم وبين الروم حتى لذت بهم وملت إلى جانبهم وتركت العرب العرباء فأنت منا والينا وحسبك حسبنا ونسبك نسبنا لأن أنمارا وايادا وبيعة ومضر كلها ترجع إلى نزار بن معد بن عدنان وإن الله تعالى قد أختارهم لسكنى حرمه وجوار بيته وقد كنا نعبد الأصنام ونستقسم بالأزلام ونتبع طرق الحرام حتى بعث الله نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] وأمره بالمقام في دار الخيزران ثم دعاهم إلى عبادة الملك الديان وقال لهم: أنتم من ولد اسماعيل بن ابراهيم الخليل وقد فضلكم بارىء النسم بسكناكم البلد الحرام والبيت المعظم وزمزم والمقام فمالي أراكم على الأصنام عاكفين والأزلام حالفين وفي ثياب الكفر رافلين أما لكم عقول تردكم أما لكم بصائر تصدكم أما أنتم من ذوي الأحلام الراجحة أما أنتم من ذوي الآراء الشامخة ألهذا خلقتم أم به أمرتم نحتم الأصنام من الأحجار وسلكتم طريق الفجار وكفرتم بالواحد الجبار الذي سير البحار وأجرى الفلك الدوار وخلق الليل والنهار أما تشكرون الصانع الذي جعل النجوم طوالع وكل إليه راجع قالوا: يا محمد من أمرك أن تسب آلهتنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 وتسفه أحلامنا قال: يا قوم العلم أمرني والعقل بصرني أما علمتم أنه من نظر في المصنوعات وتدبر علم أن لها صانعا لا يتغير فالنظر في المخلوقات حكمة والتنكر في صنعه والاقرار بوحدانيته نعمة والإيمان به رحمة. قالوا: فمن تعبد قال أعبد الذي فطرني وصورني وشرح خاطري ونور بصائري وخلق المخلوقات وقدر وصنع المصنوعات وأنزل الأرزاق بقضاء وقدر ليس في مشيئته كيف ولا في أقضيته حيف يقول ولا يتلفظ ويريد ولا يظهر ويسمع ويبصر تعالى عن المكان والأين والشبيه والبين وقال: لا تتخذوا الهين اثنين أما علمت يا ابن رواحة أن ديننا هو الحق وقولنا هو الصدق وما بعث الله نبيا إلا وأمر أمته باتباع دين الإسلام قال الله تعالى في القرآن. : {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران:67] وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة: 3] وقال: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج: 78] وأنت تعلم الآن أنكم في قبضتنا وأسرنا فإن آمنتم بالله وصدقتم برسالة نبيه صلى الله عليه وسلم كان لكم ما لنا وعليكم ما علينا وإن أبيتم ضربنا أعناقكم قال فلما سمع عاصم بن رواحة ذلك من كلام سعيد ابن زيد قال: وإن نحن رجعنا إلى قولكم واتبعنا دينكم يغفر لنا ربنا ما سلف من الاشراك في ربوبيته والسجود لغيره قال سعيد نعم لأن الإسلام يهدم ما كان قبله وجميع ما كنتم فيه لا يطالبكم الله به وتخرجون من الذنوب كما خرجتم من بطون أمهاتكم إلى الدنيا ثم تلاقوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] فلما سمع عاصم كلام سعيد قال: أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله فلما نظر أصحاب عاصم إليه وقد أسلم أسملوا عن آخرهم ففرح المسلمون بذلك وقالوا: قد وجب علينا أن نطيب قلوب هؤلاء القوم ثم ساروا إلى حران وأنزلوهم وخلعوا عليهم. فقال يوقنا الآن فتحنا رأس العين ورب الكعبة فقال سعيد فكيف ذلك يا عبد الله قال سوف أريك بيان ذلك ثم إنه قال لعاصم بن رواحة في السر بينه وبينه أريد منك أن تشدني كتافا أنا وأربعين من أصحابي وتجعلنا على ظهور الجمال التي تحمل أثقالكم وتركب مع هؤلاء السادة يعني الأربعين الذين هم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتسيروا من ليلتكم هذه إلى رأس العين وتقولوا لواليها لما عبرنا الفرات خرج هؤلاء علينا فنصرنا المسيح عليهم فقتلنا من قتلنا واسرنا هؤلاء وأتينا بهم إليكم وإياك أن تمكنه أن يقتل واحدا منا وإذا أراد ذلك تقول له أن المصف بين يدي الملك وبين العرب ولا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 ندري من يؤخذ من أصحابنا فيكون عندنا الفداء وتترك أصحابك بحران قال عاصم ولم لا نسير بأجمعنا وباصحابي كلهم فقال يوقنا أن الإسلام لم يتمكن بعد من قلوب القوم ونخاف أن أحدا منهم يغمز علينا فيفسد حالنا والثقة بكل أحد عجز فقال: والله لقد صدقت في قولك فنزل ببني عمه الخمسمائة في حران وإنما قال يوقنا ذلك ودبره ليكونوا على سبيل الرهائن قال فكتفوا يوقنا والأربعين من بني عمه وتزيا الصحابة بزي أياد الشمطاء وخرجوا من حران في الليل وطلبوا رأس العين فلما وصلوا إلى مكان يعرف بعلوا إذا بقرع حوافر الخيل فأخفوا أمرهم حتى وصلوا إليهم وإذا هم بأربعمائة عبد أسود وخمسين وهم يقرءون القرآن وبعضهم يسبح فاستقبلهم سعيد بن زيد ومن معه وكبرونا مثل تكبيرهم وقربوا منهم فإذا هم موالي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمقدم عليهم دامس ابو الهول رحمة الله تعالى وكان السبب في قدومهم أنه لما بعث عياض بن غنم كتابا إلى أبي عبيدة يستنجده على القوم ويعلمه بمن قد اجتمع من الكفار بمرج رغبان فلما قرأ الكتاب أرسل دامسا ومن معه لنصرة الإسلام وكانوا بسميساط وبلادها ومنذ فتحوها استمروا بها حتى جاءهم كتاب أبي عبيدة فترك دامس على سميساط وبلادها من يثق به وجاء في العدة التي ذكرناها فلما لقيهم سعيد بن زيد سلم بعضهم على بعض وفرحوا باجتماع الشمل ونظر دامس إلى الجمال وعليها يوقنا وأصحابه فقال أظفرتم بهؤلاء في طريقكم فقال هذا يوقنا عبد الله وأصحابه قد باعوا نفوسهم لله. قال فلما سمع أبو الهول كلام سعيد سجد لله على قربوس فرسه وأتى إلى عبد الله يوقنا وسلم عليه فقال له: مرحبا بقوم طلقوا الدنيا بتاتا وزهدا وطلبوا مرضاة الله. ثم إنه قال لسعيد بن زيد يا صاحب رسول الله أشركونا معكم في هذه الحيلة قال: نعم ولكن اسحبوا هذه الجمال وأخفوا الدروع والعدد واحتزموا فوقها وسوقوا الجمال أمامكم كأنكم عبيدنا فإنه لا ينكر عليكم من رآكم قال ففعلوا كما أمرهم سعيد وأخفوا سلاحهم في وسط الجمال وأقبلوا على سوقها فلما وصلوا إلى الزليخة نزلوا هناك ولبسوا وتدرعوا ونشرت الأعلام والصلبان التي كانت مع اياد الشمطاء وداروا بيوقنا واصحابه وجعلوهم بينهم وساروا حتى قربوا من رأس العين فبعث سعيد رجلا من حلفائهم إلى والي رأس العين يبشره بقدوم عاصم بن رواحة واياد الشمطاء فلما وصل إليه الرسول خرج بالمواكب إلى لقائهم وقد اعلمه الرسول بقدوم يوقنا أسيرا ومعه أربعون من أصحابه فصاح الصائح بذلك فما بقي أحد إلا وخرج أمام الوالي والتقوا بالصحابة وهم بزي أصحاب اياد الشمطاء وقد داروا بعاصم بن رواحة وكان الوالي يحبه ويعرفه فترجل إليه وترجل عاصم وتعانقوا وأقبلت المواكب يسلم بعضها على بعض فقال الوالي كيف أخذت هؤلاء وهذا المارق يعني يوقنا فقال له: انا لما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 وصلنا إلى الفرات وعدينا خرج علينا برجاله فقاتلناه وقاتلنا فنصرنا المسيح عليهم بعد ما قتلنا منهم خمسين رجلا وأخذنا هؤلاء وانهزم الباقي قال ففرح الوالي وأقبل على يوقنا يوبخه بكلام وهو لا يرد عليه والروم تشتمه وتسبه وهو لا ينظر إليهم ولا يكلمهم إلى أن دخلوا رأس العين وأمرهم أن يجعلوهم عند الأسارى في بيعة نسطوريا وقال لهم: احتفظوا بهم حتى نكاتب الملك ويرى فيهم رأيه قال فجعلوهم عند خالد واصحابه ثم أن عاصما قال للوالي أنت تعلم ما بيننا وبين هؤلاء القوم من العداوة وإن كانوا عربا مثلنا ونخاف إنك تجعل على حفظهم أحدا من الروم أو من الأرمن وإن يتحدثوا معهم باطلاقهم وتدخل المضرة على الملك وعليكم والصواب أن نجعل بعضنا في البيعة وبعضنا خارجا فإنه من أتى إلى الجهاد لا يركن إلى الراحة فإنه من تعب في الدنيا قليلا استراح في الآخرة طويلا قال فاستصوب الوالي رايه وأنزله في البيعة هو وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأضاف يوقنا إلى خالد. قال الواقدي: فحصل ستمائة فارس من المسلمين. قال الراوي: فلما استقروا في البيعة وجن الليل قام سعيد بن زيد إلى خالد وسلم عليه وبشره بالفرج فقال: يا ابن زيد لقد علمت بذلك منذ قيل أن يوقنا قد أتى به ومعه اربعون فنظرت بنور الإيمان فعلمت صحة ذلك قال: وإن الوالي بعث إلى الملك يبشره بأخذ يوقنا ومعه أربعون من أصحابه وقدوم عاصم بن رواحة ومعه خمسمائة من أصحابه فلما بلغه الخبر أمر بالبوقات فضربت فسمعت المسلمون بذلك فقالوا: ما ضربت البوقات إلا لأمر مهم إذ اقبل عباد بن بشير وهو متنكر وأتى إلى عياض بن غنم فلما رآه قام إليه وسلم عليه وقال: يا ابن بشير بم تبشرني أقر الله عينيك فلم يرد عليه شيئا حتى خلا به وحدثه بجميع ما جرى فلما سمع عياض بشارة عباد ابن بشير سجد شكرا لله فقال عباد ايها الأمير أن سعيد بن زيد ومن معه يسلمون عليك وعلى من معك ويقول لك أنجر المصف فلعل أن يفتح على يديك فما بينك وبين فتح رأس العين إلا أن تهزم القوم وقد فتحت فقال عياض توكلنا على الله. فلما جن الليل جمع أصحاب الرايات وحدثهم وقال لهم: لا تعلموا أحد مخافة من جواسيس الروم ولا يصبح الصباح إلا وأنتم على أهبة الحرب قال فما اصبح الصباح إلا والمسلمون قد أخذوا أهبة الحرب فلما طلعت الشمس وانبسطت على الأرض علت على الخيل ركابها وحملت بأصحابها وشبت من الحرب نارها وطار شرارها وقطعت الجماجم واستعرت الملاحم وصالت أسودها وتعفرت خدودها وصبرت على شدة حالها وحانت منها أحوالها وتدانت آجالها فهم في الحرب متوافرون وفي العدد والعديد متقاربون وفي الزحف إلى الفزع مختلفون والعجاج ثائر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 والدم فائر والاسلاب مطروحة للضياع ولحوم القتلى رزق للطير والسباع ولقوة العمائم تشتكي منها الاسماع والشمس تضجر منها الجسوم والنفوس والحرب قد أخذت أمرا يقطع الآجال وقد شمرت عن ساق وسروال والوطيس قد حميت جوانبها واستحيت عين مجانبها والصفوف تدانت إلى الهياج وقد غيبهم غيم العجاج وكل مقدم قد شذ منه جيشه وتكدر بعد الصفو عيشه والخيل تكر كرات وتجتمع مرات والسيوف تقطع البيض والنفوس تكاد تميز من الغيظ والغبار قد سحب ذيلا زنجيا وانسبل وأسبل على الوهاد رداء سجيا والطيور قد حامت وكأن القيامة قد قامت واستقبل المسلمون هذا الحرب الخطير والضرام المستطير فحل بالروم العقاب وسمحوا بنفوسهم ولقواء اليم العذاب ونال المسلمون ما رغبوا فيه من حسن المآب. قال الواقدي: والتقى عبد الله بن عياض بن وائل وعبد الله بن قرط بالملك شهرياض وقد عول على الهرب وكل من في جيشه قد اشتغل بنفسه عن نصرته وليس عنده سوى عشرة من غلمانه فاطبق عليه عبد الله بن قرط وعبد الله بن عياض. قال الواقدي: ولم أدر أيهما كان أسبق بالطعنة فطعنه في صدره فأخرج السنان من ظهره فلما نظر غلمانه إلى ملكهم مجندلا ولوا على ادبارهم ونزل عبد الله فاحتز رأسه وجعله على رمحه وركب وصاح إلا وإن الملك قد قتلته فمن كان منكم يثبت للحرب فليثبت وصالت المسلمون على أعداء الله ووضعوا فيهم السيوف فقتل من قتل وانهزم الباقون بعدما اسروا منهم من أسروه وقد تركوا الاثقال على حالها والاموال والسرادقات فاحتوى عليها المسلمون. قال جديد بن ناشب الضيمري كنت مولعا إذ سكنت الحرب بعدد من قتل من الروم فاخذت مخلاة على عاتقي وملأت حجري حصى فكنت لا أمر بمقتول إلا وطرحت عليه حصاة ثم عددت الحصى فإذا هي ثمانون الفا وسبعمائة وخمسون وأما الأسرى فلا يحصيهم عدد فلما وضعت الحرب أوزارها أمر عياض بالاثقال: والأسرى إلى كفر توتا وبعثها مع الصلت بن مازن ومعه الف فارس وأمره أن لا يبرح منها حتى تفتح رأس العين قال ثم ارتحل عياض في أثر الوقعة إلى رأس عين وردة وبات ليلته يتلو القرآن وقال: ووصل المنهزمون إلى رأس العين وهم بأسوأ حال ووقع الصائح بجوانب المدينة بهزيمة الجيش وقتل الملك شهرياض فعظم عليهم وكبر لديهم واستوثق الوالي مرسيوس من المدينة والاسوار وعول على أنه في غداة غد يضرب رقاب المأسورين وكان من عادة الروم إذا قتل منهم ملك يقتلون عليه مائة أسير من أعدائهم فلما كان الغد ركب عدو الله مرسيوس الوالي وسط المدينة وأمر أن يؤتى بالأسرى وهم خالد ومن معه ليضرب رقابهم فأرادوا أن يأتوا بهم وإذا بعياض قد صبحهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 صباحا فاشغلهم عن ذلك ونزل على باب اسطاحون وهو الباب الشرقي وكان قد ضرب على الباب المذكور قبة من الديباج برسم عدو الله مرسيوس والى جانب القبة منجنيق عظيم يتعلق في حباله مائة رجل وكان صاحبه ابن عم الملك وكان اسمه مترقيس بن اشفكياص وكان ابوه هو الملك قبل شهرياض وهو صاحب الدنانير الاشفكياصية. قال: وإنما تقدم عياض بالمسلمين للقتال حتى يشغل أعداء الله عن خالد ومن معه بالمدينة فصاروا يرمون بمجانيقهم وسهامهم وكان قد وصل مع عياض غلام من أهل المدينة اسمه جميل بن سعد الداري وكان أرمى خلق الله بالنبل وكان قد وصلت له أم عجوز فلما كان ذلك قال: يا أماه اريد أن أجاهد هذا اليوم في الله حق جهاده فلعلي أن ألحق باخواني وجدي الذين قتلوا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فودعها وسار فقالت يا بني سر والله ينصرك ويؤيدك قال ثم إنه تقدم ووقف وهو يتستر وكان قد شاع ذكره بين العرب وإنه كان ينظر إلى الطائر في الجو فيقول انني قد عولت أن أضرب هذا الطائر في موضع كذا فيضربه فيقع الطائر والضربة في المكان الذي ذكره فلما كان يوم قتال عين وردة تقدم وجعل يضرب البطارقة من أعلى السور فلا يقع سهمه إلا في فؤاد أو في حدقة حتى قتل ثلاثين بطريقا منهم من وقع إلى المدينة ومنهم من وقع إلى الخندق قال: وكشف برج الباب قال: وكان عدو الله مترقيس المتقدم ذكره صاحب المنجنيق ارمى خلق الله فجعل يعبر ويرمي فقال الناس لجميل بن سعد أيها الغلام أبعد لئلا يصل اليك حجر المنجنيق فأنا نخاف عليك منه فقال: يا قوم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في كتاب الله العزيزم: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 78] ولا بد أن أثبت لهم ثم إنه رمى رجلا من الذين يجرون الحبال فقتله وثانيا وثالثا فقتلهما قال فهربت البطارقة عن الحبال وقالوا: لا طاقة لنا بالوقوف في هذا المكان من هذا الغلام فقال مرسيوس البسوا الدروع واستتروا ففعلوا وقعدوا في الحبال ورمى بحجر فوقع في رجل من بجيلة فقتله ولم يزل حتى قتل ستة رجال قال: وإن جميل بن سعد يرمي فلا تخطىء نباله وهو يقول واشوقاه إلى الشهادة وإن أصل إلى دار العلم والشهادة فنودي من سره أن اردت ذلك فبادر إلى ذلك ولا تخف ولا تحاذر وأطلق عنان كليتك في ميدان طلبتك وإياك والتخلف عن بابنا فمن ارادنا أردناه ومن أحبنا أحببناه. فقال ها أنا أتقدم وجناني في الحقيقة لا يتالم قد بعت منك نفسي فاقبل شراها فعسى أن آتي الجنة وأراها فقيل له: قد قبلناك فامرح وأطلق لسانك بشكرنا وافرح فمن باع نفسه منا لم يكن بمغبون واسمع ما سطرناه في الكتاب المكنون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169] . قال فبينما هو كذلك إذ عبر عليه عدو الله ورماه وكذلك جميل قصده بنبلة فوقعت في صدره ومرت من ظهره ونظر جميل إلى الحجر وقد قصده فعلم أنه ميت فالتفت إلى ابن عم له اسمه رافع بن خالد وقال له: بلغ العجوز سلامي وأنشدها هذه الابيات وجعل يقول: ايا رافعا إلا حملت رسالتي. ... تخبر أني قد لقيت حمامي. وإن جئت أمي رافعا وعشيرتي. ... فخصهم مني بكل سلام. وإن سألت عني العجوز فقل لها. ... قتيل حجار لا قتيل سهام. طريحا بباب الحصن لما تطايرت. ... من الحجر الصلد الاصم عظامي. ولست ابالي أن قتلت لانني. ... أرجي بقتلي في الجنان مقامي. قال: وعلم عياض بقصته فبكى رحمة لأمه وأمر به فدفن بعد ما صلى عليه وبلغ خبره إلى أمه فصبرت صبر الكرام وقالت يا بني عشت سعيدا ومت شهيدا وسلكت سبيل آبائك فرحمك الله وآنس غربتك ونفعني بك يوم القيامة ثم قرآت: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:156] . قال: حدثنا معمر بن الجون النهائي وكان ممن حضر مع جده سراقة فتح رأس العين قال لما قتل بن سعد فرحت الروم وإن عدو الله مرسيوس صاحب الامر بعد شهرياض لما رأى أن المسلمين معولون على حصاره مضى في الليل إلى بيعة نسطوريا وصلى بها وقرب القربان وكان من بغضه للمسلمين قد صور على باب البيعة صورة رجل من العرب وكتب عليه هذا نبي العرب فكل من دخل البيعة يبصق عليه وكان في داخل البيعة صورة القيامة والميزان والصراط والجنة والنار وصور عيسى وبيده الصليب أمه تحت لوائه على باب الجنة قال فلما صلى قال لعاصم بن رواحة لقد أردت الليلة أن أقرب عشرة من هؤلاء العرب الأسرى في بيت المذبح فقال له عاصم: ليس هذا برأي أيها الملك حتى ترى ما يكون من أمر العرب وهذا بين يديك قال سكت وخرج وإن عاصما لم يترك في البيعة أحدا من الروم واستوثق من أبواب البيعة ودخلت الصحابة إلى بيت المذبح فوجدوا فيه سلاحا كثيرا مما كان يجتمع من النذور فأخذوه وعولوا على أنهم في صبيحة غد إذا اشتغل أهل المدينة بالقتال ليثورون في المدينة قال: ولما دخل الليل قاموا يذكرون الله وينظرون إلى تلك الصور المصورة وصفة القيامة والصراط والجنة والنار فقال عاصم بن رواحة لسعيد بن زيد الهرب إلى دين رسول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 الله صلى الله عليه وسلم يزيد في الإيمان قال: نعم ويقرب إلى مقام ابراهيم إذا كان يوم القيامة يوم الحسرة والندامة وعصفت رياح الطامة وحشرت الخلق والورى وبرزت الجحيم لمن يرى وصفت صفوف العالمين وحييت جوانب المتقين الموقنين ونشرت رايات الصادقين ورفعت أعلام المحققين ونصبت منابر الانبياء والمرسلين وتصدرت مراتب الصديقين وفرحت أرواح الموحدين وضاقت أرواح الكافرين وزهقت نفوس المشركين وقيل بعدا للقوم الظالمين وذلت الملوك والجبابرة وطأطأت رؤوس الاكاسرة والقياصرة واستبشرت الابرار ويئست الفجار وناد مناد الملك الجبار: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 16] ألم نحذركم دار البوار ألم يأتكم الانذار ألم تسمعوا ما أنزل على السيد المختار: {قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} [ابراهيم: 30] : {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ} [المرسلات:38] هذا يوم العرض هذا يوم الجزاء هذا يوم الراجفة هذا يوم الازفة هذا يوم الفصل هذا يوم العدل فإذا غص الموقف بأهله وقدم كل ذي جهل بجهله وعضت الانامل اسفا وطارت القلوب لهفا ونادى المنادي يا معاشر المجرمين امتازوا فإن المتقين قد فازوا أما سمعتم في الكتاب المكنون: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} [يّس:59] . فبينما هم قد كظمهم العطش ولحقهم الدهش وعظم الارق واشتد القلق وسال العرق ونادى المنادي وهم يسمعون قفوهم أنهم مسئولون قفوهم حتى يروا هيبتي ومملكتي قفوهم حتى يشاهدوا سلطاني وعظمتي قفوهم حتى يعرضوا علي قفوهم حتى أناقشهم الحساب أين من عصى وأجرم أين من طغى وظلم أنا الجبار الاعظم لا أرحم من لا يرحم أين أمة نوح اين من كان يغدو في البطالة ويروح اين أمة هود اين آل ثمود أين أمة التظليل أين أمة شعيب أين أهل الشرك والشك والريب أين أمة التوحيد أين اهل الصلاة والتمجيد أين أهل القرآن أين أمة راكب البراق أين أمة طاهر الاخلاق هلموا للعرض والحساب فقد تجلى رب الارباب لا ظلم اليوم أن الله سريع الحساب والمصطفى صلى الله عليه وسلم في كبكبة حشمته وموكب زينته على رأسه تاج الرضا مكتوب عليه بقلم الامضا: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:5] وبيده لواء الحمد وبين يديه جنائب السعد وعن يمينه الانبياء وعن يساره الاولياء والملائكة وقوف بين يده وأهل الموقف ينظرون إليه وأمته يصلون عليه وقد تهللت وجوههم فرحا وقد أسبل عليه الإسلام سرباله وأوصل بهم حباله قد نادوا بهم بالتمجيد وازعجوا الموقف بالتوحيد وقد أضاء نور إيمانهم وعرضوا على ديانهم واستشهدهم على الامم فشهدوا فقبلت شهادتهم وغيبت عنهم نجوم الافلاس وأمنوا من الهول والباس ونادى مناديهم: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] وأهل الموقف ينظرون إلى جمالهم ويتعجبون من هيبة جلالهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 ويقولون لقد فاز من اتبع ملتهم وصدق شريعتهم قال مالك يوم الدين: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} [الحجر:2] فإذا ورد مقامه اطال فيه هناك قيامه وبسط كف ابتهاله وبالغ في طلبه وسؤاله ويقول أسألك قبول شفاعتي في العصاة من أمتي. وإذا بالنداء وعزتي وجلالي لا أخلف لك وعدا ولا أنقض لك عهدا ولأرين أهل الموقف علو شانك ورفيع مكانك ولأعطينك حتى ترضى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:5] قال فازداد عاصم إيمانا فلما كان وقت السحر وثبت الصحابة على اقدام الحزم والعزم وخرجوا على أهل المدينة فاستعانوا بالله وقالوا: اللهم انصرنا كنصر نبيك يوم الاحزاب وقال خالد: إياكم أن تفترقوا فتذهب ريحكم وأتقوا الله الذي إليه مصيركم واعلموا أن الاعداء يجتمعون عليكم والنساء يرجمنكم والشباب يقاتلونكم وإياكم أن تطمعوا أحدا في بحار الحرب بل اصبروا على مر الكرب والضرب وإنما يتبين صبر الرجال عند ملاقاة الاهوال وما نحن ممن يفزع بهجوم الآجال لانا قد تحققنا أن لكل منا أجلا لا يتعداه ومن خاطر بعظيم نال عظيما وهذه اسمها عظيم والجمع فيها أعظم وهي قصور ديار بكر وربيعة وقد حصلنا في وسط مدينة القوم فإن كنتم طالبين الظفر فاصبروا ولا تعجلوا فالصبر مقرون بالظفر والعجلة مقرونة بالزلل والصبر عاقبته النصر واعلموا أن هذه البيعة هي بيعتهم المعظمة ولا بد لهم من القدوم إلى الصلاة فإذا حصل وإليهم ههنا ومقدم عساكرهم أطبقنا عليهم من كل جانب وقصمناهم بالقواضب فإنه إذا قتلت الملوك وعظماء البطارقة فما يجسر بعدهم أحد أن يرفع يده وأما العوام فلا اعتبار بهم فقال عاصم بن رواحة لله درك أيها الأمير ما أخبرك بالامور والحرب ولقد تكلمت بالصواب وأحسنت في الخطاب فليقر كل واحد منكم في مكانه وأخفوا سلاحكم في أعيابكم فإذا اشتغل القوم في صلاتهم ثرنا عليهم ومددنا أيدينا إليهم فاستصوبوا رأيه قال: وكانت الصحابة في بيت كبير في البيعة كان برسم النذور وفيه شيء من الامتعة لا يثمن لكثرته. قال الراوي: حدثنا عبد الله بن يانس عن جده فياض بن زيد وكان من جملة من ذكرناهم من الصحابة وحضر فتوح رأس العين قال هكذا كانت قصتنا وكنا قد دبرنا هذا التدبير ثم رجعنا عنه وكان من الامر المقدر أن ذلك اليوم الذي رجعنا فيه لم يقاتل فيه أحد من جند رأس العين وكان له سبب نذكره. قال الراوي: كان من قضاء الله السابق في خلقه أنه كان للوالي أخ عاقل لبيب له راي وتدبير وكان يعرف من الحكمة التي وصاه بها فهرايس أحد حكماء اليونانيين وقد عرف من علم الملاحم وكان صاحب سر شهرياض فما كان يفعل شيئا إلا بمشورته وكان قد نهاه عن قتال العرب وقال له: ما أرى لك في قتالهم خيرا والامر عليك لا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 لك فلما كان من الملك ما كان وقتل جيشه ورجع الأمر إلى مرسيوس قال له أخوه الحكيم: وكان اسمه اسالوس معناه حكيم زمانه اعلم يا أخي أنه ليس ينبغي للعاقل اللبيب الفاضل الاديب أن يرمي نفسه في غير مراميها ولا ينقاد بزمام شهوة النفس فإنه من أطاع نفسه هوى في مهاوي الذل ونسب إلى الجهل فإن الشهوة عرض واتباع الهوى مرض والاستمتاع بالملذات سبب الهلكات ولا خير في لذة تؤدى إلى الفناء وتورث صاحبها العناء الشهوة حين والامل شين والاستمتاع بين والتمتع دين وحب الدنيا مين وما ندم عاقل ولا ساد جاهل ولا وفق عجول ولا أرى لملول ولا سعد خائن ولا صدق مائن ولا عظم بخيل ولا قدم ذليل ولا فحم نبيل ولا حقر جليل ولانال العبادة من زهد في الافادة ولا أمن في الآخرة من سر بالدنيا الساحرة ولا سدد من ظلم ولا حرم من حلم ولا حزم من ندم ولا خاف من تاب ولا رد من أناب ولا هجر من لزم الباب ولا ذل من اتبع الصواب واعلم أن بالسياسة تدوم الرياسة وبالعدل تدوم الدول وبالجور هلك الاول وبقلة التدبير يحصل التبذير ومن بذل جهده كملت أوصافه ومن افشى السلام فضله الانام واصلاح السريرة نعم السيرة وجمال الانسان فصاحة اللسان وزينة الرجال كرم الخلال وخير الاصحاب التقوى وشر الاخوان اتباع الهوى ولا خاب من قصد طوره ولا ارتفع من جهل قدره والتعلق بالآمال ضياع الاعمال ومعالي الاخلاق نعمت الرفاق وممارسة الحلال نجاة من الاهوال وحب العاجل يبيد الآجل وارتكاب العصيان علامة الخذلان وعلامة التوفيق تيسير الطريق والنظر في العواقب أمن من المعاطب ومن نظر إلى الدنيا بعين الفنا أدرك في الآخرة ما تمنى واعلم يا أخي إنك قد أصبحت مقيدا بحب الدنيا سابحا في بحار أهوالها متعلقا بأذيال محال آمالها وقد تزينت لك برياشها ووقفت لك على قدم احتياشها وزوت عنك جل مصائبها ونصبت لك شبكة مصايدها ووضعت لك تاج شهواتها على مفرق رأس آفاتها حتى إذا أشرت اليها بالوصال منحتك لذيذ الاتصال وأحسنت لك صحبتها شهرا ورمتك بسهام الهجر دهرا وطالبتك بما كتبت عليك مهرا حتى إذا علمت إنك غريم الانغاص غير منقاد للقصاص ألقتك في بحر الآفات وحجبتك في سجن الغفلات وصغرت أمرك عند الناس ووكلت بك سحائب الوسواس فلا تبرح تذكر الانسان بما كان فيه حتى تخرج روحه من فيه واعلم أن من جملة ما ذكر لنا عن عيسى ابن مريم عليه السلام أنه راى طائرا مليح الشكل حسن الريش كامل الزينة. فقال من أنت قال أنا الدنيا ظاهري مليح وباطني قبيح قال عيسى عجبت لغافل ليس بمغفول عنه ومؤمل اتمام شيء والموت يطلبه وإنما ضربت لك هذه الامثال لتتعظ بها وبما نزل بالملك شهرياض كان بالامس على السماط واليوم نزل على. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 الصراط بالامس كان في سلطانه وملكه يباهي واليوم صار في الحفر واهي ما أفاده الغنى أذهبه الفنا وذهب الفرح بالترح والنوم على السرير بالنوم على العفير ومعانقة الاتراب بالتعفر في التراب وبدل عن خل ودود بمجاورة الدود جار وما أجار واشتغل بالدار عن الجار بالرماد عن المهاد وانظر بأي سنان بتر وبأي آلة كيف هجر وصار قصره مهجورا وعمارته خرابا بورا وتبدل السرور بالثبور ما نفعه الجيش وكثرته ولا الخزائن وعدته أصبح والله ذليلا وبعد الكثرة قليلا فلا عمل صالح ولا عز راجح ولا ثواب ينفع ولا جميل يدفع وقد بقي مرتهنا بأعماله موثقا بأفعاله وأنت تريد أن تسلك مسلكه وتتبع سبيل ما أهلكه فما أحد ينفعك ولا عمل يتبعك اتق الله في نفسك وفي أهل ملتك وبلدتك واعقد لك مع هؤلاء العرب صلحا واقبل ما قلت لك نصحا واحقن الدماء وارحم النساء والاماء وأسلم تسلم وهؤلاء القوم ما قالوا: قولا إلا وفوا به لأن الصدق دليلهم والإيمان يقينهم ما هم ممن يطلبون الملك فينازعون عليه ولا يميلون إليه بل طلبهم الآخرة وما عندالله وبالامس وفوا لرودس صاحب حران ورجع عن دينه ودخل في دينهم وكذلك الملكة مارية بنت أرسوس وقد دخل في دينهم جبابرة ملوك الروم مثل يوقنا ويرغون وعمودا وميتا الذي هو أعلم منا بديننا وقد ملكوا الأرض في الطول والعرض وإنما يحاصر عن نفسه من له ميرة وعدد وجيش وسلاح وعدد يقدر على محاصرة البلد وهذا بلد عظيم وما فيه ما يقوم بأهله سنة أو اقل فإن لم تسلم أنت سلم أهله وسلموك إليهم برقبتك وهذه حران لهم وكفرتوتا والرها وسروج وسجستان وماردين والصور والخابور وما عدا الفرات إلى الشام إلى أرض مصر وجيوشهم قد طبقت العراق وملأت الآفاق وقد بلغني أن الملك كسرى قد عاد إلى المحاق فابعث إلى أمير هؤلاء العرب واطلب منه الصلح فإنه يعطيك وتربح نفسك ومالك وأهلك وولدك وعش في ظل القوم أن شئت على دينهم وإن شئت على دينك فإنهم لا يغضبونك قال فلما سمع مرسيوس كلام أخيه الحيكم ارسالوس غضب عليه وضربه بمقرعة كانت في يده وقال أنت ما خلقك المسيح إلا ذليلا وكيف تأمرني أن أسلم ملكي للعرب وتعرضني للعطب اخرج يا ويلك عني فإن وقعت عيني عليك بعدها قتلتك. قال فخرج من عنده وهو غضبان وأما اللعين مرسيوس فإنه أمر أرباب دولته أن يجتمعوا في كنيسة بيعة نسطوريا حتى يحلفهم فمضى شاويشه فجمعهم وجمع مشايخ البلد وكبراءها وأحضر القسوس والرهبان والشمامسة وبترك دير مقرب حتى يستحلف أهل المدينة فلما حصلوا في البيعة أغلقوا أبوابها حتى لا يدخل إليهم أحد من العوام وحصلوا كلهم فجلس الملك والبترك وشرعوا يحلفونهم وهم آمنون مطمئنون إذ خرج عليهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل سيف مسلول وعزم غير محلول وصاحوا بالتهليل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 والتكبير ونادوا نحن أمة التنزيل وأصحاب النبي الجليل نحن حملة القرآن وصوام رمضان قد أخذ الله منكم بذنوبكم وهتك ستوركم وعصفت عليكم المحن أين الصلبان وعبادتها اين الصور وحشمتها أين تقريب القربان اين تدبير الرهبان ادعوا أربابكم ينصرونكم هيهات والله ذهب باطلكم وهلك بالشرك جاهلكم واضمحلت ايامكم وذهبت دولتكم ووضعوا فيهم السيوف وعجلوا بهم الحتوف وقتلوا البطارقة بالنية الصادقة فماتوا عن آخرهم فلما رأت الروم ما نزل بهم ضجوا وبأصواتهم عجوا فقال خالد: أولياء الله جودوا الضرب في أعداء الله وأهريقوا دماء من أشرك بالله قال فقتلت الطرامخة وذوو الحشمة الشامخة فلما بلغ الخبر العوام انهزموا عن الأسوار لما حل بقومهم البوار ودهمتهم الأقدار فذهب دامس إلى الأبواب ففتحها فدخل المسلمون بالتهليل والتكبير ولم يزل القتل يعمل في رأس العين وقد وردوا موارد الحين وناح عليهم غراب البين وأيدت شريعة سيد الكونين. قال الواقدي: ولم يؤخذ من ديار بكر بالسيف إلا رأس العين قال: وأخرج الخمس من المال وأرسله إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكتب له كتابا يقول فيه بسم الله الرحمن الرحيم من عياض بن غنم الأشعري إلى أمير المؤمنين عمر بن الحطاب رضي الله عنه سلام عليك فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو وأصلي على نبيه أما بعد فإن الله قد فتح علينا يسير ما كان عسيرا وكان لعدة الفتيان شعاع يخطف العيان فلما تضايقوا أمامي وازدحموا قدامي عاينت جيشا كثيفا وسدا منيفا قد اقبلوا من ألافواج وتتابعوا كالامواج وتناصروا من كل صوب واشتهروا في كل ثوب والحديد يتالق كالحريق وقد تطايرت السيوف فللا والأرماح كعوبا وانقضت المدة وقد وضعت الحرب أوزارها وانطفأت نارها بعد ما قتل المسلمون أهل الطغيان الفاسقين ونصر الله الكفارة وخذلت العتاة وولت الأعداء الأدبار وأراحنا الله من مضرتهم وطهرت البلاد من كفرهم وكان زعيمهم الخائن وملكهم أول مخذول وأهون مقتول وبعد ذلك فتحنا رأس العين ونحن بعد ذلك معولون على ديار بكر والله المعين وبه نستعين والسلام عليك وعلى جميع المسلمين واقرأ سلامنا على قبر سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم ثم طوى الكتاب وختمه وسلمه مع الخمس لعبد الله بن جعفر الطيار وضم إليه مائة فارس من المهاجرين والأنصار فسار عبد الله ومن معه وأقام المسلمون على رأس عين شهرا وعمل بيعة نسطوريا جامعا وصلوا فيه وبنوا الكنائس مساجد وترك عرفجة بن مازن العامري عليها واليا ومعه مائة فارس وأخذ مال الرها وكفر توتا فأخرج منه الخمس وأرسله بعد عبد الله بن جعفر مع سلامة بن الأحوص ومعه خمسون فارسا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 ذكر فتح دارا وبيرحا وباعماء قال: ورحل عياض بن غنم من رأس العين ونزل على كفرتوتا واقبل إليه الغلام يرغون فرحب به وولاه على المدينه وعرض الإسلام على الجارية طاريون فأسلمت وزوجها بابن عمها وبنى البيعة جامعا وارتحل منها إلى دارا فنزل عليها وخرج إليه أهلها واعتقبوا لهم منه صلحا وكان جملة ما صالح عليه أهل دارا عشرين الف مثقال ذهبا وثلاثين ألف مثقال فضة وإن لا يبقوا سلاحا فاجابوا إلى ذلك وبنى كنيستهم جامعا وما أسلم منهم إلا القليل وأقرهم على أداء الجزية وارتحل عن دارا وقصد بيرحا فصالح أهلها على ربع ما صالح عليه أهل دارا ورحل عنها وكانت بنو اسرائيل تعظمها وتقصد اليها بالنذور وكان بانيها حزقيا بن تورخ بن بازيا أحد أنبياء بني اسرائيل فخرجوا إلى عياض وصالحهم على قدر ما صالح به أهل دارا غير أن مقدمهم قال انني لم أزل أملك البلد حتى يأتيني الموت ومن أراد أن يدخل في دينكم من أهل بلادنا فلا مانع يمنعه فقال له عياض: ما اسمك قال اسمي طرياطس فقال: يا طرياطس انا نحكمكم على العدل فما فتح الله علينا إلا باتباع الحق وسلوك طريق الصدق والعدل في الرعية وانا نتجنب البغي والظلم وما قصدنا قاصد إلا وجدنا وأنتم منذ خرجتم الينا ووردتم علينا فنحن نجيبكم إلى سؤالكم ونصالحكم على ما صالحنا عليه أهل دارا فقال طرياطس وتصالحون أهل معرين على ما صالحتم عليه أهل بيرحا فأجابهم عياض إلى ذلك ونزل على باعما ودير قال: وإنما أجابه عياض إلى ذلك وألان له العريكة حتى يبلغ الخير أهل ديار بكر فيجيبون طائعين ويسلمون له من غير منازعة. وكان قد بلغه تحصن بلادهم وامتناع قلاعهم قال فدخل طرياطس وأخرج المال من خزائنه ولم يأخذ من أهل بلده شيئا ودفعه لعياض فقبله منه وكتب له كتاب الصلح وشرط عليهم الجزية كما فعل أهل دارا من العام القابل فلما تم ذلك دخل المسلمون إليه وبنوا جامعا فلما بلغ أهل نصيبين حسن سيرتهم وعدلهم وجودة أحكامهم أسلم أكثرهم وكان في جملة من أسلم أصحاب النذور وأخربوه وبنو جامعا وأقام عياض على نصيبين شهرا فلما أراد الرحيل جاءه طرياطس وقال قد زدتم في أعيننا بما رأينا من صلاتكم وعبادتكم فاسلم وحسن إسلامه ولم يزل ملكا حتى مات في خلافة عثمان ونزل في مسجد كندة اسامة بن عامر الكندي وعشرة من بني عمه وارتحل عياض ونزل تحت قلعة المرأة وفيها مارية وولدها عمودا فانزلوا له الاقامة والضيافة وسار إلى أن نزل على آمد لسبع خلون من شهر جمادى الاولى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 ذكر فتوح ميافارقين وآمد وكان بآمد أخوان شديدا البأس اسم أحدهما بطرس والآخر يوحنا وكان بطرس في شرقي البلد ويوحنا في غربيها وكان ليوحنا بنت اسمها رغوة ولبطرس بنت اسمها صفورا وكل واحد مشغول بما هو فيه ويوحنا اراد أن يتزوج فارسل إلى صاحب دارا وهو مرطاوس فزوجه لبنته مريم وحملت من بلد ابيها إليه وكانت صاحبة حيلة ومكر فلما حصلت بآمد نظرت إلى المدينة وكثرة مالها ونعمها وتحصن أهلها وسورها وغزراة بساتينها فقال لدايتها في السر يا دايتي ما رأيت أحسن من هذه المدينة ولا أحصن منها ولا أمنع إلا ترين إلا الأعين المخترقة في وسطها والى الجبال التي قد دارت بها تعني سورها الاسود فمن بناها على الحقيقة قالت لها اعلمي أنه قد ملك بلاد الروم أجمع من أول بلاد اليونان إلى بلاد عمورية ملك يقال له طيماوس بن أرسالوس ابن ميهاط بن مكلاوكن بن الأصفر بن العيص بن اسحق وكان أول من بنى بيت الحكمة في بلده رومية الكبرى ةوكان قد فتحت له المطالب ونشر في الأرض العجائب وإنه حدثته نفسه بملك الأرض لكثرة المال فانتهى إلى سويقة وكان له ولد اسمه اسطنبول فقال لأبيه طيماوس: أريد أن أبني لي ههنا مدينة أذكر بها قال: يا بني افعل وأمده بالمال والرجال فادار سورا على ستة فراسخ وسماها باسمه وعاش أربع سنين ومات وخلف ولدا اسمه قسطنطين فأتم بناءها فسميت باسمين اصطنبول باسم ابيه والقسطنطينية باسم ابنه وأما أبوه فإنه صار يفتح البلاد حتى وصل إلى ههنا فرأى هذه الأعين والدجلة فاستحسن المكان فطلب أرباب دولته وكانوا اثنين وسبعين ملكا وقال قد اخترت أن أبني ههنا مدينة لا يكون على وجه الأرض مثلها ولا أحسن منها ولا أمنع وأريد أن كل واحد منكم يبني لنفسه مدينة وبرجا فقالوا: جميعا نفعل أيها الملك فركبوا واختطوا المدينة وشرعوا في بنائها وأتوا بالصناع من أقصى البلاد واختص كل ملك بمدينة وبرج وحمام وكنيسة فلما أتموا بناءها مات الملك فسميت آمد لانقضاء أمده بها وما زال الملوك يتوارثونها إلى أن انتهت إلى هذه الأخوين بطرس ويوحنا قال فتعجبت مريم من قول رايتها وكتمت الأمر وكان لبطرس ولد اسمه لاون فطلب من أخيه ابنته صفورا لولده وقال له: زوج ابنتك لولدي حتى أزوج ابنتي لولدك فامتنع ووقع الشر بينهما حتى كان في وسط البلد سور وأبواب فاغلقت وصار كل واحد منهما مشغولا بناحيته فلما رأت مريم ذلك دخلت بينهم بالصلح وقالت هذا لا يجوز وأنتما أخوان ويطمع فيكما ملوك ديار بكر وركبت بنفسها وأصلحت بينهما وفتحت الأبواب التي داخل المدينة وصنعت وليمة عظيمة ودعت اليها بطرس وولده لاون وابنته صفورا فأكلوا وليمتها وقدمت لهم الخمر ممزوجا بالسم فلما تمكن منهم قتلوا عن آخرهم وكذلك فعلت بزوجها وولده وصارت ملكة وبنت بيعة لم ير ببلاد الروم مثلها وفرشت أرضها بالفصوص. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 والرخام الملون وزخرفت الحيطان بالذهب والفضة وعلقت فيها ستور الديباج المذهب وطلبت كل عالم مشهور وأزالت عن أهل البلد جميع ما كان عليهم من الحيف وعدلت فيهم فأحبها أهل البلد وشكروا سيرتها واستخدمت الرجال وزادت في اكرامها وقصدها الناس من كل مكان لأجل عدلها وأقامت في ملك آمد اثنتي عشرة سنة وبعدها نزل عليها عياض بن غنم ومن معه وأحاط بالمدينة. قال الواقدي: بلغني أن عياضا نزل على التل ونزل سعيد بن زيد على باب الروم ونزل معاذ على باب الجبل ونزل خالد على باب الماء فلما نظرت الملكة مريم إلى ذلك ورأت أن الصحابة قد عولوا على حصارها ركبت إلى كنيستها وجمعت أرباب دولتها وقالت اعلموا أن هؤلاء العرب قد حلوا بساحتكم ونزلوا على مدينتكم وقد طمعت أنفسهم في أخذها وأنتم تعلمون أن هذه قفل ديار بكر ومتى فتحوها فقد أخذوا ديار بكر عن بكرة أبيها وأضمحل دين المسيح ولا يبقى له ذكر في هذه البلاد وأنا أعلم أن الملوك ومن يشار إليهم من أهل دين النصرانية وبني ماء المعمودية كلهم ينتظرون ما يكون منا ويعلمون أن مدينتكم لو اقاموا عليها مائة سنة ما قدروا عليها فقاتلوا عن حريمكم وأموالكم واصعدوا فوق الأسوار وقاتلوا هؤلاء العرب وطلبت القسوس والشمامسة والرهبان وأمرتهم أن يحلفوهم على أن يكونوا يدا واحدة ولا يخامروا عليها ففعلوا ذلك وصعدوا على الأسوار وشهروا السلاح وآلة الحرب واقاموا الصلبان والرايات والأعلام وتولت كل طائفة بحفظ برج من الأبراج قال فلما نظر عياض إلى ذلك وأنهم قد عولوا على القتال من أعلى الأسوار جمع أمراء جيشه إليه وقال لهم: أن هذه المدينة حصينة وهي عين ديار بكر ومتى فتحها الله علينا ملكنا ديار بكر فما الذي ترون من الرأي وكيف يكون قتالها وأعداء الله قد تحصنوا بهذا الحصن المنيع. فقال خالد: أيها الأمير اعلم أننا ما ملكنا الله البلاد بقوة ولا بكثرة مدد ولا بعدد بل بتيسير الله لنا نرجو الله أن يفتحها ببركة نبينا صلى الله عليه وسلم وبذلك وعد الله نبيه وإن هؤلاء القوم أن باطشونا على ظاهر مدينتهم بالقتال رجونا تسهيل الامر وإن أقاموا على ما هم عليه فالصبر فإن عاقبة الصبر النصر ولعل أن يأتي في العرضيات ما لم يكن في الحساب واكتب إلى هذه المرأة كتابا وخوفها ثم منها بكل جميل فلعل الله تعالى أن يلين قلبها للإيمان أو تسلم لنا صلحا فدعا عياض بدواة بياض وكتب اليها يقول بسم الله الرحمن الرحيم وصلواته على سيدنا محمد وآله من عياض بن غنم أمير جيوش المسلمين بأرض ربيعة وديار بكر إلى مريم الدارية أما بعد فإن الله سبحانه وتعالى قد نصرنا وبجميع الكفار قد ظفرنا وعلى قبض ملوكها أيدنا وما نزلنا على بلد إلا ملكناه ولا قابلنا جيشا إلا هزمناه والعزة لله ولرسوله وللمؤمنين وليس حصنك بأمنع من تدمر ولا حصن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 وهو الحصن المنبع الذي بناه سليمان بن داود وما هو إلا أن نزل عليه المسلمون حتى ملكوه وكذلك بعلبك وحلب وانطاكية دار الملك هرقل ولم يبق بين ايدينا صعب إلا سهلة الله علينا وبذلك وعدنا الله في كتابه العزيز فقال: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47] فإذا وصل اليك كتابي هذا فسلمي تسلمي وإياك أن تخالفي تندمي ومهما أردت بلغناك ولسنا نكرها على فراق دينك ولا أحدا من أهل بلدتك قال الله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256] وإن تمسكت بالهوى فستعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا وسلام على عباده الذين اصطفى ثم طوى الكتاب وختمه وسلمه إلى رجل من المعاهدين وقال له: ادن من الحصن وناولهم الكتاب وقف حتى يردوا عليك الجواب قال فذهب ودنا من السور وناداهم بلغتهم وأشار إليهم بالكتاب فأدلوا له حبلا فرابطه لهم ووقف ينتظر الجواب قال فأوصلوا الكتاب إلى الملكة مريم فقرىء عليها فلما فهمت ما فيه قالت لارباب دولتها ما تقولون فيما كتب الينا أمير العرب قالوا: أيتها الملكة الرأي لك فمهما أمرتينا به امتثلناه فقالت يا قوم أنتم تعلمون أن النار ولا العار ومتى سلمنا لهؤلاء العرب عيرتنا الروم ويقولون كيف سلمتم مدينتكم وما حاصرتم سنة ولا عشرة ايام ومدينتكم أحصن بلاد الروم وإذا شئتم كان لكم موضع تزرعون فيه والمياه عندكم وكل ما تحتاجون إليه وقد وصلت الي الكتب من جميع ديار بكر ووعدوني أن يرسلوا عساكرهم لنصرتنا فقالوا: أيتها الملكة هذا هو الرأي الرشيد فاكتبي للقوم كتابا أن يقطعوا طمعهم منا فكتبت تقول أما بعد فقد وصلني كتابك وفهمت خطابك فأما ما ذكرت من نصر الله لكم أما علمت أن المسيح يمهلكم ولا يهملكم وإنما ذلك استدراج لكم ثم يأخذكم بعد ذلك وكأنكم بالملوك وأبناء الملوك وقد اقبلت عليكم بسواعد شداد وسيوف حداد وجيوش وأمداد فيأخذون منكم بالثار ويكشفون عن عباد المسيح العار وما كنا بالذي نسلم حصننا اليكم أبدا فإن شئتم المقام وإن شئتم الرحيل والسلام وربطوه بالحبل وأعطوه للمعاهد فأخذه وأتى به إلى عياض فلما قرأه وفهم ما فيه قال توكلنا على الله وفوضنا أمرنا إليه ثم قرأ: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} [الطلاق: 3] . قال: وعول عياض أن يقيم على آمد وخيله تغير على الهتاج وميافارقين وسائر تلك البلاد قال: وسمعوا ضرب الناقوس فقال عياض أتدرون ما يقول هذا الناقوس قالوا: وما يقول قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عمه علينا ومعه جماعة من المسلمين ليغيروا على أطراف تبوك فاجتازوا بدير الراهب وذلك الراهب يضرب بناقوسه فقال على لمن معه أتدرون ما يقول هذا الناقوس قالوا: الله ورسوله أعلم وأنت يا علي فقال يقول مهلا مهلا يا بني الدنيا مهلا مهلا أن الدنيا قد غوتنا واستغوتنا وشغلتنا غدا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 نرى ما نرى ما من يوم يمضي عنا إلا لنا أو علينا يا بني الدنيا جمعا جمعا يا بني الدنيا شرطا شرطا ما من يوم يمضي عنا إلا اثقل ظهرا منا ما من يوم يمضي عنا إلا صار منا جهلا قد ضيعنا دارا تبقى واستوطنا دارا تفنى قال عياض فقالوا: يا ابن عم رسول الله أو يعلم النصراني ذلك قال: لا يعلم ذلك لا نبي أو صديق. قال: حدثنا الربيع ابو سليمان عن موسى بن عامر عن جده قراءة بالخضراء من عسقلان قال فأقام عياض على أمد أربعة أشهر قال فخرج من جيشه الحكم بن هشام واستأذن عياضا أن يشن الغارات على ميافارقين فاذن له فأخذ معه من الصحابة مائة من المهاجرين والانصار فخرجوا بعد ما صلوا الظهر وعبروا الدجلة وساروا والأرض تطوي لهم فما مضى قليل من الليل إلا وهم على ميافارقين فداروا بها إلى أن وصلوا إلى برج يعرف ببرج الشاة فقال الحكم بن هشام وددت من الله لو فتح لنا هذه المدينة بلا قتال قال فما استتم كلامه حتى انفتح لهم باب من حائط البرج فدخلوا وهم يخترقون الطرق إلى وسط المدينة إلى كنيستهم العظمى وتعرف ببيعة ماريا وكانت تلك الليلة عيدا عند النصارى فلما اقبلوا إلى الصلاة وجدوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ومن اين جئتم قالوا: من عسكرنا قال: ومتى جئتم قالوا: بعدما صلينا الظهر قال: ومن فتح لكم مدينتنا قال له الحكم: فتح لنا من بيده مقاليد الامور قال اوما تفزعون منا فقال الحكم وكيف نفزع من مخلوق لا يضر ولا ينفع وهو تحت أحكام القهر وقد قال ربنا في كتابه: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175] . فقال اسلاغورس أن دينكم دين محدث وديننا دين قديم والقديم أفضل من المحدث فقال له الحكم: إذا كان ما قلته حقا ففضل ابليس على آدم لأنه أقدم منه أعلمت أن طينة آدم مشكلة وقد قال الله تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الزمر: 22] اشرق نور قلبه في وقت تجليه واشتعل بالاتقاد فيه فنظر إليه ابليس وظن قميص عبوديته أبيض بالتوحيد وإذا هو أسود بالشرك فابان نعته القديم عن نعت وقته بقوله: {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 34] كان سائرا في أرض الشرك تحت ظل الجهل بالعواقب فما زال يقطع منازل العبادات بالعبادات وهو في عماية عن أبصار جمال المشاهدات فلما ظهرت أنوار مصباح الالهية من مشكاة الابدية استنار وجه صورة حاله فإذا هو قد فهم من جوابه وإن عليك لعنتي وأصل آدم لما طار من وكر بشريته بأجنحة همته في جو الطلب تعالى عن حطيطة انسانيته حتى دنا من نيران المحن فافترقت أنوار القسم بأجنحة اصطفائه وحصن قوادم ارتقائه فوقع في حبال وعصي آدم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 ربه فلما أتاه في أودية محبته هطلت عليه سحائب محنته ورمى بصواعق اهبطا فلما خرج إلى بيداء كرباته اشتملته مواكب آلائه مبشرة إياه باجتبائه: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه:122] قال: وإن اسلاغورس أمرهم أن يدخلوا البيعة فقال الحكم بن هشام وما الذي نصنع في بيعتكم قال تذكرون فيها ربكم قال: ما كنا ندعي إلى ذكر ربنا فنتأخر عنه قال فربطو خيلهم ودخلوا ما اراد اسلاغورس بذلك إلا أنه قد زخرفها وصور فيها بيت المقدس والصخرة وقبة السلسلة ومحراب داوب ومهد عيسى وصورته وأمه مريم فلما توسطها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ الحكم بن هشام: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة: 116] ورفع بها صوته فقال: لا والله وإنما اقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له وإن محمدا عبده ورسوله قال فوالله لقد ماجت بيعة القوم وتزلزلت وصفقت القناديل بعضها ببعض قال: وكان للبيعة شيخ عالم بالأديان والشرائع وكان اسمه عبد المسيح فلما نظر ما حل بالبيعة والقناديل صلب على وجهه وكذلك كل ما كان فيها وقالوا لملكهم: أنت ما أردت إلا هلاكنا إذ أدخلت هؤلاء العرب الينا أما ترى كيف غضب المسيح علينا فقال البطريق لا وحق المسيح ما هو إلا توحيدهم الله وذكر نبيهم أظهر لكم من معجزة نبيهم ما رأيتموه يا ويلكم إذا كان قد فتح لهم باب في السور ودخلوا منه علينا فكيف لا تعتز البيعة وتصفق القناديل لما دخلوها وأنا كنت في شك مما ذكرت والآن فيا طوبي لمن كان على دينهم. قال الواقدي: وكان هذا خادم بترك بيت المقدس وكان في بيت المقدس يوم فتحت على يد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وسمع من البترك في بيت المقدس وهو يقول هذا الذي يفتح الأرض في طولها والعرض ومحمد هو الذي بشر به المسيح بن مريم ولقد سأله رجل لما رأى المسلمين يعظمون الصخرة ويقبلون القدم الذي فيها فقال للبترك نرى المسلمين يقبلون قدم المسيح فقال له: يا بني نحن نقول أنه قدم المسيح وإنما هو قدم نبيهم محمد بن عبد الله لما عرج به إلى السماء قال أو عرج به فقال: نعم أسرى به من مكة إلى بيت المقدس وصلى بالنبيين وأسرى به. قال الحكم وذلك لما استبشرت به النفوس وبلغ خبر رسالته وإنه زيد في كماله وأشرقت أنوار جماله وأراد الحق أن يشرفه على أهل الكونين باقترابه من قاب قوسين فنودي في عالم الملكوت تأهبوا ثم تأدبوا فهذه ليلة الدنو والاقتراب هذه ليلة عتق الرقاب هذه ليلة الحبور هذه ليلة السرور هذه ليلة الابتهاج هذه ليلة المعراج انصبوا سلم الارسال وافرشوا فرش الاظلال وقوموا على أقدام الاسترسال يا جبريل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 زخرف الجنان وزين الحور والولدان يا جبريل. انزل بالتهاني إلى بيت أم هاني أيقظ حبيب مملكتنا وأركبه على براق قدرتنا لنريه من آياتنا فأخذ جبريل مطية خلقها عجيب ونعتها غريب فألجمها بلجام القرب وأسرجها بموكب الحب وسار بها في ميدان الجلال وهو ينادي: {سُبْحَانَ الَّذِي أسرى} [الاسراء: 1] فلما وقف ببابه ورفع حجابه ونظر وإذا هو مدثر بعباءة تذلله متوسد بوسادة عمله قد أنحله الشوق وأذابه التوق فنشر عليه أنوار السعد وبشره بانجاز الوعد فقال له: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر:1] قم على قدم همتك وقم بوارد عزيمتك واركب إلى السماء وارق واصعد معراج الدنو والارتقاء فقام السيد واتشح وجسمه من الحياء قد رشح وقد باح باستسلامه وركب مركب تحيته وسلامه ورفع على رأسه سحابة الاحترام وأسرى به من البيت الحرام ذكره جليسه وفكره أنيسه وشوقه دليله وجبريل خليله فلما ولج دائرة بيت المقدس وحصل في فناء المسجد الأقصى فجليت عليه ارواح الأنبياء في حلل الأنوار والبهاء فبادروا إلى سلامة وتحيته واكرامه وجليت بين يديه وأثنوا بالصلاة عليه وأراد كل منهم أن يصف منزلته ويذكر فضيلته فقال آدم الحمد لله الذي خلقني بيده ونفخ في من روحه وأسجد لي ملائكته واسكنني دار كرامته وقال أدريس الحمد لله الذي رفعني مكانا عليا وبوأني مجلسا سنيا وقال نوح الحمد لله الذي نجاني من القوم الظالمين وجعلني أبا للمؤمنين. وقال ابراهيم الحمد لله الذي اتخذني خليلا وجعل النار بردا علي وسلاما وأصلح لي زوجي بعد ما كانت عقيما وقال موسى الحمد لله الذي أعطاني تسع آيات بينات وكتب لي في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء وأهلك عدوي فرعون ونجى قومي وفلق لي البحر وكلمني تكليما وقال لي: إلي أنا الله وقال سليمان بن داود الحمد لله الذي سخر لي الانس والجن والطير والريح وعلمني منطق الطير وآتاني ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي وقال عيسى الحمد لله الذي لم يخلقني من نطفة قذرة وأحيا لي الموتى وأبرأ لي الأكمة والابرص فلما افتخروا بجميع كراماتهم قال النبي صلى الله عليه وسلم الحمد لله الذي خلقني من أنوار البهاء ورفع قدري في الأرض والسماء وكتب اسمي على ساق عرشه وقرن اسمي باسمه ونزه ذكري في معالم قدسه وشرح لي صدري ويسر لي أمري ورفع قدري وغفرلي ما تقدم من ذنبي وما تأخر وأيدني على من كفر وبعثني بالرعب وأرسلني بالحنيفية ونصرني وجعل أمتي خير الأمم وفرض طاعتي على العرب والعجم وجعل لي الأرض مسجدا وترابها طهورا وشفعني يوم القيامة في أمتي ونسخ سائر الشرائع بشريعتي وأدخل سائر الامم في شفاعتي وجعل الكعبة قبلتي وأسمعني صلاة أمتي من بعدي لأشهد لهم يوم القيامة وجعلني شاهدا وأمتي شهودا على من جحد وظلم وكتب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 اسمي على الأفلاك وقال جل وعلا: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} [الأحزاب: 45] . قال الواقدي: فلما سمع بطريق ميافارقين هذا الكلام من الحكم بن هشام قال: والله ما في دينكم مراء وأنتم على الحق ولقد كنت أسلمت على يد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ببيت المقدس ثم جئت إلى هذه المدينة وكان عليها وال فمات ووليت الأمر من بعده فرجعت إلى ديني الاول فإن أنا تبت إليه ورجعت إلى دينكم أيقبلني على ما ارتكبت من المعاصي فقال له الحكم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوما لأصحابه. : "بأي شيء يكون ابن آدم أشد فرحا" فقالوا: بالأهل فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم وسكت الناس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يكون ابن آدم أشد فرحا منه إذا كان في مفازة ومعه راحلته عليها زاده وماؤه ومنافعه فإذا كان في بعض المفازة اشتد عليه الحر فاوى إلى ظل فنزل عن راحلته وتوسد ذراعه فنام ثم انتبه وقد ذهبت راحلته وعليها طعامه وشرابه وغذاؤه ومنافعه فانطلق في طلبها يمينا وشمالا فلم يجدها فرجع إلى موضعه ليموت فيه وقد أيقن بالهلاك فنام ثم انتبه فوجد راحلته كما هي فأخذ بخطامها" ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أن الله أشد فرحا بتوبة عبده المؤمن من ذلك الرجل بتلك الراحلة". قال فلما سمع اسلاغورس كلام الحكم بن هشام دمعت عيناه وأخذهم إلى دار ولايته وقال: والله لقد بان الحق وظهر الصدق فاسلم وحسن إسلامه وطلب جماعته فاسلموا بأجمعهم ثم إنه طلب أكابر البلد وأخبرهم بإسلامه وقال لهم: إني أريد منكم ما أريده لنفسي وإن دين هؤلاء يعلو ولا يعلى عليه فمن أسلم منكم أمن في الدنيا والآخرة وهم قد نزلوا على آمد ولا بد لهم من ديار بكر جميعها فمن خالفهم وعصى نهبوا بلده واستعبدوا أهله وولده فإن اسلمتم لهؤلاء القوم أمنتم على أنفسكم وبلادكم فقالوا: أيها الصاحب أمهلنا ثلاثة ايام حتى نرى ما لنا فيه الصلاح فتركهم وانصرفوا من عنده فلما كان الليل اجتمعوا وتحالفوا أن لا يسلموا للعرب أبدا ولو هلكوا عن آخرهم واصروا على القتال فبعد ثلاثة ايام طلبهم فلم يأته إلا القليل وأتت إليه العين الصافية وأخبرته بما عزم عليه أهل البلد ثم لبسوا سلاحهم وأتوا إليه يقاتلونه فخرج إليهم بجماعة ومعه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتلوا قتالا شديدا فلما جن الليل قال لهم: ارسلوا إلى أميركم ينجدنا فارسل واحدا منهم فما بعد عن البلد حتى سمع قرع حوافر الخيل فلما تبينهم إذا هم من عسكر الموحدين وإذا هم خمسمائة فارس وعليهم ضبة بن عدي وكان السبب في ذلك أن عياض بن غنم رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وأخبره بقصة ميافارقين وما جرى لصاحبها من أهل بلده وأمره أن يرسل إليهم جيشا فاستيقظ من نومه وأرسل إليهم ضبة بن عدي ومعه خمسمائة فارس وأذن الله للأرض أن تطوي لهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 فوصلوا إليهم في تلك الليلة فأتى بهم إلى باب السر وكانوا قد وكلوا به من يحفظه فنادى ففتحوا لهم وإذا بصاحب البلد قابلهم فأدخلهم فقالوا له: من أعلمكم بقدومنا فقال صاحب البلد أعلمني بكم النبي صلى الله عليه وسلم رأيته وقد نمت من ضيق صدري بقتال هؤلاء القوم أهل البلد فنمت فرايت شخصه الشريف فبشرني بقدومكم فلما حصلوا بأجمعهم خرج للقتال أهل البلد فصاح بهم المسلمون يا أعداء الله قد حل بكم البوار وأحاطت بكم الاقدار من أصحاب محمد المختار ووضعوا فيهم السيف فولوا إلى منازلهم ودورهم ليتحصنوا بها وقد علموا أنه قد نزل بهم مالا طاقة لهم به فنادوا الغوث فقال لهم: من أتى الينا فهو آمن فخرجوا فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمناكم على جميع مالكم إلا السلاح قال فأتوا بجميع ما عندهم من السلاح وسلموه للصحابة فلما رأوا منهم صدق القول أسلموا إلا قليلا منهم وعملوا البيعة الكبيرة جامعا وأقاموا ثلاثة ايام وتركوا عندهم الحكم بن هشام ومعه عشرة من أصحابه ليعلموهم شرائع الدين وأتى ضبة ومن معه إلى عياض وأخبره بما جرى ففرح بذلك وقال: وإن أهل آمد لم يفتحوا بابا ولا باشروا قتالا وضاق صدر عياض ومن معه من ذلك. قال الواقدي: ومكثوا خمسة أشهر وكان خالد بن الوليد كما ذكرنا على باب الماء وكان في يوم يركب بجيش الزحف ويدور حول المدينة فإذا أتى الليل نزل في منزله وكان غلامه همام يخبز له في كل ليلة اقراص شعير ويتركها له في قبته فإذا صلى المغرب أكل تلك الأقراص عند الافطار وإنه استمر ثلاث ليال لم يجد شيئا يفطر عليه فقال لغلامه همام أنت يا ولدي ما عندك ما تفطرني عليه ولك بهذه الليلة ثلاث ليال لم تصنع لي شيئا فقال: والله يا مولاي انني في كل ليلة أصنعها وأضعها له ولم يكن عندي منها علم وما ظننت إلا إنك تأكلها فلما كانت الليلة الرابعة وضع همام الاقراص على عادته وأخفى نفسه وجلس لينظر من يأخذها فإذا هو بكلب قد أقبل من نحو المدينة ودخل القبة وأخذ الزاد وخرج فتبعه همام وإذا به قد دخل من مسرب الماء في جانب السور قال فتركه همام وعاد فلما أتى خالد من صلاته أقبل وطلب الفطور فقال له همام: يا مولاي كان من الامر ما هو كذا وكذا قال خالد: يا همام أرني الموضع فمضى همام أمام خالد وأراه الموضع الذي دخل منه الكلب فلما رآه قال: الله أكبر فتح الله ونصر وعاد وطلب أصحابه وأعلمهم بالقصة. وقال لهم: قد عولت أن أدخل المدينة من مسرب الماء وأريد منكم مائة رجل يهبون نفوسهم لله تعالى وتعلمون أن الدنيا دار صدق لمن صدقها ودار وفاء لمن أخذ منها بحقها ودار رجاء لمن تزود منها ودار نجاة لمن فهم عنها الدنيا مهبط وحي الله ومصلى ملائكته ومسجد أحبابه وأوليائه أتخذوها مزرعة فرحمنا الله وإياكم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 وكان لنا ولكم فمن أراد الزاد من هذه الدنيا الفانية إلى يوم حشره فليبادر إلى التجارة الرابحة ولا يغره طول الاجل فيطمئن إلى التقصير في العمل إلا وإني قد وهبت نفسي لله وقد أشترى ثم قرأ: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111] فمن باع فليبادر ولا يجزع مما يحاذر فالموعد بيننا في عرصات القيامة وموقف الحسرة والندامة فاتبعوا سلفكم الطاهر والدين الباهر فعولوا على بركة الله وعونه واختار من أصحابه مائة وأمرهم بلبس السلاح وركب عياض وأعلمه بما عزم عليه من دخوله المدينة من المسرب وقال له: كن على أهبة إذا سمعت التكبير والتهليل فقال علمت ذلك وأنا على أهبة بحمد الله امض أعانك الله ونصرك وسر على بركة الله وعونه قال فودعه خالد ورجع إلى أصحابه فوجدهم قد استعدوا فسار أمامهم وهم رجالة إلى أن أتى إلى باب المسرب وكان نصف الليل وأمر الله سلطان النوم فاستولى على من كان على السور والحرس لانه جل شأنه إذا أراد أمرا بلغه وهيأ أسبابه قال فأول من دخل من المسرب خالد رضي الله عنه وتبعه عامر بن الاحوص وحذيفة بن ثابت وعمران بن بشر وتمام المائة رضي الله عنهم وما منهم إلا من تسرب ودخل ومن كان جسيما لا يقدر على الدخول رجع وهو متأسف على الشهادة فحصل في المدينة ثمانون رجلا ولم يصحبهم إلا من دخل من المسرب ثم أن واحدا من الذين تأخروا عالج في حجر فقلعه فاتسع المكان ودخلوا بأجمعهم وأدركوا أصحابهم وقد توسطوا المدينة وارتحت بها الأصوات واستيقظ الراقد وارتعد القاعد وقصد خالد مطلع السور ومنع الناس من النزول وأخذتهم الأحجار وأرسل خالد عشرة من أصحابه إلى الباب فكسروا الاقفال وفتحوا الباب وكان عياض قد ركب وأيقظ الناس وقد تهيأ للحرب فلما كبر خالد ومن معه بادر عياض ومن معه إلى الباب فوجده مفتوحا فدخلوا وأقبل أهل المدينة يهربون إلى السور والليل قد غسق والظلام اتسق والقتام قد أطبق فما بقى أحد يقوم من مرقده إلا والسيف قد رمى رأسه عن جسده وهذا خرج من عند أولاده والسيف قد قطع في فؤاده وخالد ومن معه يكبرون وقد تقطعت بأهل آمد الاسباب واحاط بهم العذاب قال: ولم تزل الأبطال تبطح وتطرح وصدور المسلمين تشرح ولنحور الكفرة تذبح والعوائق تقطع والشجعان للرؤس تقرع والصوارم تقطع والانوف تجدع وقلب الذليل يفزع والجبان يجزع والعيون تدمع والصائح لا يسمع ولا شافع يشفع ولا مانع يمنع ولا دافع يدفع ولا قلب يخشع حتى إذا ولى الليل ونزع والصباح عول على أن يطلع وخالد يصيح ضياح السميذع حتى انطوى الليل بمطارف الدجى عند انتشار رايات الضيا فنظر أهل البلد إلى ما حل بهم ونزل عليهم فأقبلوا إلى دار الامارة يطلبون الملكة مريم فلم يجدوها قال: وكان السبب في ذلك أنها سمعت بأن الصحابة قد حصلوا في المدينة فعلمت أنها لا تخرج من أيديهم فأخفت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 نفسها ومن معها ونزلت في سرب في دار الامارة وأخذت ما تقدر على حمله وخرجت من ذيل الجبل وطلبت بلاد الروم. قال الواقدي: فلما علم أهل المدينة أن ملكتهم هربت نادوا الغوث الغوث فرفعوا عنهم السيف وجمعهم الأمير إليه فاجتمعوا في ميدان المدينة فقال لهم عياض: أما بعد فإن الله تعالى قد نصرنا عليكم وصبرنا وظفرنا بكم ولولا أن الله جعل نبينا نبي الرحمة واسكنها قلوب المؤمنين لأبدناكم بالسيف عن آخركم ولكن قد أمرنا ربنا في كتابه بكظم الغيظ والعفو فقال الله تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134] ثم نظر فيهم فمن أسلم ومن لم يسلم ضرب يسلم الجزية عليه من عامه. قال الواقدي: وكان شاهد الجمع في فتح آمد زيد بن حالوك اليهودي وكان علاما بدين اليهودية والنصرانية وكان يزعم أنه من أولاد داود عليه السلام وكان بنو اسرائيل يعظمون شأنه ويأتونه بالهدايا والتحف وإنه لما دخل عياض بن غنم رضي الله عنه إلى آمد وجمع أهلها في الميدان وتكلم المشايخ بما تكلموا به قام هو من وسط قومه وكان اسمه مليا بن حنيتا وعرف المسلمين بمكانه وإنه مقدم على بني اسرائيل وإنه من ذرية داود قال أنتم أصحاب نبي الرحمة وإن الله خلق الرحمة وأسكنها في قلوبكم وإن الله فضلكم على سائر الامم وقد أنزل في صحف ابراهيم وموسى يقول إني ابعث في آخر الزمان نبيا أميا وأجعل أمته أفضل الأمم وأسكن الرحمة في قلوبهم وبهم اباهى ملائكتي وابعثهم غرا محجلين من آثار الوضوء وإن داود عليه السلام لما اصاب الذنب ونفر عنه الوحش خرج إلى فلاة من الأرض وقال الهي بحق النبي العربي الذي تبعثه في آخر الزمان إلا غفرت لي فأجاب دعوته فقال عياض أن الله يحب العفو وقد عفونا عنكم فقال أهل المدينة فإذا عفوتم عنا نرجع إلى دينكم فاسلم أكثرهم وضربت الجزية علىمن لم يسلم في العام القابل على كل بالغ أربعة مثاقيل ذهبا وأخذوا سلاحهم وحملوا لهم شطر أموالهم فحملها وبنى البيعة المعروفة جامعا وأقام في آمد اثني عشر يوما وولى عليه صعصعة العبدي ومعه خمسمائة من بني عمه ومن العرب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 ذكر فتوح اليمانية وجبل الجودي . قال: وارتحل عياض إلى الحصون وهي حصون الجبابرة وأنفذ إلى أهلها فاسلموا وأرسل النعمان بن معرف إلى أهل أنكل فاسلموا وسمت باليمانية لأنها فتحت على يد حذيفة بن اليمان ومضى عياض إلى الجابية ففتحها صلحا ونزل إلى أهل جبل الجودي والسيوان وذي الفرض فاخذوا من المسلمين صلحا وعهدا على تقرير بينهم وارتحل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 المسلمون حتى نزلوا على الهتاج فابى أهله أن يسلموا وعولوا على القتال ونصبوا الرعادات والمجانيق فنظر عياض إلى ذلك فعظم عليه وقال هذا حصن منيع ومتى تركناه ومضينا عنه اغاروا على أهل هذه البلاد وأذاقوهم الشر وقد لزمنا من أسلم ومن صالحنا الزم لنا فلا نحيد عنه حتى نفتحه أن شاء الله تعالى فقال خالد: انزلوا بنا عليه ولعل أن يأتي من عرضيات الأمور ما لم يكن في حساب. قال الواقدي: وكان صاحب الهتاج شيطانا مريدا وجبارا عنيدا وكان اسمه يانس بن كليوس وكان قد تزوج بميرونة ابنة بريونة ابنة يريول بن كالوص صاحب قلب والحصن الحديد وكانت قد زفت إليه وأقامت عنده سنة ثم إنها مضت إلى زيارة أبيها وأمها وأقامت عندهما شهرا فلما خرجت من عندهما ومضت إلى الهتاج عند زوجها فبينما هي في نصف الطريق إذ بلغها أن المسلمين قد نزلوا على الهتاج فجلست في مكانها ولم تبرح وكان عدو الله يحبها ولا يجد له عنها صبرا فلما رأى المسلمين وقد نزلوا عليه علم أنه لا يقدر أن يجتمع بالجارية فاتفق رايه أن يصالح المسلمين حيلة منه ومكرا وخديعة حتى تحصل زوجته عنده ويغدر ولا يعطي أحدا طاعة فأرسل إلى عياض يقول له إنك لو اقمت علينا بقية عمرك لما قدرت علينا ولكن صالحنا سنة كاملة شمسية فإن أنت فتحت ما بقي من ديار بكر فنحن نرجع إلى طاعتك وإن لم تقدر على فتح البلاد فلا طاعة لك علينا والسلام وارسل إلى عياض رجلا من متنصرة العرب من ربيعة الفرس وكان ذلك الرجل مدبر بلاد الهتاج هو وبنو عمه وكان اسمه مرهف بن واقد وكان ميله إلى العرب أكثر من الروم فلما أدى الرسالة إلى عياض أجابه إلى الصلح لئلا يطول مقامهم فلما هم مرهف بالرجوع قال لعياض أما والله أيها الأمير ما كنت بالذي أدع النصيحة للعرب وأستعملها للعلوج وهذا العلج قد اتفق رأيه على كذا وكذا فإن كنت ترحل وتكمن لزوجته وتأخذها ومن معها وتطلب منه البلد فإنه يسلم لوقته فافعل فقال عياض ما كنا نقول قولا ولا نفي به ولعل الله ينظر إلى صدق نياتنا فيفتحه علينا. حدثني مالك بن بشر بن عامر وكان ممن حضر فتوح الشام وديار بكر وديار ربيعة قال بينما مرهف يحدث عياضا إذا بغبرة قد اقبلت فقال عياض لميسرة بن مسروق اركب وانظر ما هذه الغبرة فركب ومضى هو وجماعة من الصحابة وعاد ميسرة وهو يقول أبشر أيها الأمير بالفتح قال: وما الخبر يا ابن مسروق قال هذا جيش ابن هبيرة المازني قد أغار على البلاد وأتى بالاموال والرجال قال فظهر البشر في وجه عياض وجعل يتطاول إلى قدوم ابن هبيرة المازني حتى وصل وسلم على عياض وعلى المسلمين وعرض عليه الغنائم ومرهف بن واقد يتأملها إلى أن عرضت عليه جارية رومية تخجل الشمس منها وعليها زي الملوك فأطرق المسلمون إلى الأرض يستعملون الأدب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 مع الله في قوله: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم} فلما نظر اليها مرهف قال أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله وإن دينكم الحق وقولكم الصدق فقال له عياض: ما بالك أيها الرجل قال هذه زوجة يانس صاحب الهتاج وقد طرحها الله في أيديكم فسجد عياض شكرا لله فلما رفع رأسه قال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2, 3] . قال الواقدي: وكانت ميرونة قد خرجت من عند أهلها ومعها جماعة من بنات البطارقة فوافق طريق قيس بن هبيرة تلك الأرض فأخذها ومن معها وأتى بها إلى عياض فقال عياض لمرهف ارجع إلى يانس واكتم إسلامك وأخبره بما رايت واستعمل النصح للمسلمين وقل له أن اراد أهله فليسلم لنا هذه القلعة ومهما أردنا منه قال فرجع مرهف إلى يانس وحدثه بما جرى فعظم ذلك عليه وكبر لديه وقال لمرهف ما الذي ترى من الرأي قال اعلم أن هؤلاء القوم ما قالوا: إلا وفوا به وبذلك نصروا علينا ومن الرأي أن نسلم لهم القلعة ويعطوك زوجتك وجميع مالك وأنا الضامن لك منهم ذلك فقال: يانس انزل إليهم وائتني بعشرة رجال يحلفون لي على ما اريد فإن أجابوني إلى ذلك سلمت إليهم القلعة ولا تأتني إلا بمن يقبل قوله ويشكر فعله حتى أستوثق منهم لنفسي ولعله يكون الرجل الذي شاع ذكره بالشجاعة وفتح البلاد والشام يعني خالد بن الوليد وإنما أراد الملعون ذلك حتى يقبض عليهم ويخلص بهم زوجته قال فنزل إلى عياض وأخبره بذلك وبما قاله يانس فقال عياض يا مرهف يريد الملعون أن يخدعنا ونحن ثمرة الخداع ونرجو من الله أن يرجع مكره عليه ولديه ثم قرا: {إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 81] قال خالد: دعنا أيها الأمير نصعد إليه والله الموفق للصواب. فقال عياض اعزموا على بركة الله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فنهض خالد والمقداد وعمار وسعيد بن زيد وعمرو بن معد يكرب والمسيب بن نجيبة وقيس بن هبيرة وميسرة وضرار بن الأزور وعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهم أجمعين وساروا ومرهف أمامهم إلى أن وصلوا باب القلعة وكان رتب عدو الله غلمانه في دركات القلعة وأمرهم أن يأخذوا منهم سلاحهم ففعلوا ذلك إلا خالدا وعبد الرحمن وضرار فقالوا: ما كنا نسلم عدتنا لغيرنا فإن اراد أن ندخل عليه بسلاحنا والا رجعنا من حيث أتينا فدخل مرهف عليه وقال أن هؤلاء الثلاثة امتنعوا من اعطاء السلاح وما الذي يقدرون على أن يفعلوه دعهم يدخلوا كيف شاءوا فلو كانوا نارا ما أحرقوا ولا ترهم الجزع فيطمعوا فقال: وحق المسيح لقد صدقت دعهم كلهم يدخلوا بعددهم حتى يعلموا اننا لا نخافهم ولا نرهبهم وايضا لئلا تنفر قلوبهم منا فرجع مرهف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 وأمر الغلمان أن يردوا إليهم أسلحتهم ودخلوا فلما توسطوا القلعة إذا بيانس واقف فلما وقعت عينه عليهم دخل الرعب في قلبه لأن من خاف الله خاف منه كل شيء فجعل يهتز ويقع وكان قد قال لجماعته إذا رأيتموني قد قربت منهم وصافحتهم فدونكم وإياهم فنظر خالد إليهم فعلم ما في قلوبهم فقال له: أيها البطريق قف مكانك فانا قوم لا نؤتي بحيلة ولا مكر لانا قهرنا الملوك وأخذنا بلادهم بهذه الأشياء ثم إنه انتضى سيفه وزعق بيانس فادهشه وخيل له أن كل من في القلعة منهم وتقدم إليه وضربه على حبل عاتقه فأطلع السيف من علائقه فهجمت الصحابة علىأهل القلعة ووضعوا السيف فيهم وتكاثر عليهم العدو وتزايد المدد قال: وكان في داخل المدينة خلق من الرستاق من قرى الهتاج من فسطاس وقرساط وكان يانس قد جمعهم لقتال المسلمين قال فلما قتل خالد يانس ونظروا إلى صبر الصحابة على قتال أهل القلعة قالوا لبعضهم: أنتم تعلمون أن العرب ما يسكتون عن اصحابهم وقد فتحوا آمد والبلاد فلا يمتنع منهم الهتاج وغيرها فخذوا لكم عند المسلمين يدا وقاتلوا معهم أهل القلعة قال ففعلوا ذلك وجردوا سيوفهم وضربوا معهم من كان في القلعة وسمع عياض الصياح. فقال أما والله أن خالدا ومن معه غدر بهم فبادروا إليهم أيها المجاهدون قال فبادر أبو الهول وأصحابه الاربعمائة وهم رجاله فتفرقوا في الجبل وقصدوا القلعة فمن انهزم من الكفار وضعوا فيهم السيوف فما نجا منهم أحد ما وصل ابو الهول إلى القلعة إلا وقد ملكها خالد واحتوى عليها وصعد عياض والمسلمون وأخذوا كل ما كان فيها وولى عليها مولاه سالما وجعل عنده مائة رجل وكتب إلى أهل فسطاس وفرساط ومن في القلعة أن لا يزنوا بامرأة أبدا وأشهد عليهم خالدا والمقداد وعمارا ومعاذا وشرحبيل وعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وضرار وأطلق عياض الاسارى الذين أتى بهم قيس بن هبيرة وارتحل يطلب ميافارقين فلقيه في طريقه أهل تلك الجبال وأهل الجزيرة وقلب ومتنان وحزب الكلام فأعطاهم الأمان وضربت عليهم الجزية وردهم إلى بلاد وأتى إليهم أهل ميافارقين للقائهم وشكروهم على حسن سيرتهم وعدلهم وأخرجوا لهم الضيافات والعلوفات ونزل من جهة الميدان في سفح الجبل واقام بها عشرة ايام ثم جمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واستشارهم وقال إني عولت على المسير إلى ديار أرمينية والى أرزن الروم فاشيروا علي يرحمكم الله أي طريق نسلك فقال رجل من المعاهدين ممن هو أعرف الناس بتلك البلاد أيها الأمير أتأذن لي أن أتكلم فقال من كان له راي فليتكلم فقال اعلم إنك إذا قصدت بلاد أرمينية يطول مكثك فيها واعلم أن بالقرب منك حصنا منيعا ي قال له: حصن لغوب وغلب عليه اسم صاحبه وهو يطالقون بن كنعان ابن عيديوس له جيش عرمرم يزيد على ثلاثة آلاف فارس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 ذكر فتح حصن لغوب ثم قال اعلم أيها الأمير أن تحت يده معاقل كثيرة وربما أنه رحل ركابه من هنا فوقع بهذه البلاد وشن الغارات على أهلها ومن الرأي إنك لو وجهت إليه جيشا لعل الله أن يفتح عليك فإن أنت فتحت هذا الحصن مضيت حيث تريد وتكون طيب القلب على من تستخلفه من أصحابك فقال عياض لأصحابه ما تقولون فيما تكلم به هذا الرجل فقال خالد: لقد تكلم بالحق ونطق بالصدق فاعزم وتوكل على الله ثم انصرفوا من عنده وبات ليلته متفكرا فيمن ينفذه إلى الحصن فوقع اختياره على يوقنا فدعا إليه وقال له: يا يوقنا يا عبد الله قد اتفق الرأي عليك أن تمضي إلى الحصن فما الذي تراه فقال يوقنا اصلح الله الأمير قد بلغني أن الحصن منيع وربما إذا نزلنا عليه طال الأمر وتنفد المدة وينقضي هذا الوقت ولا ندري ما يكون ولكن أهب نفسي لله ولرسوله وآخذ مائة من بني عمي ونتزينا بزي الفلاحين ونأخذ نساءنا وأولادنا نتركهم على البقر وندخل في جملة أهل البلاد الفلاحين فإن حصلنا في الحصن فنحن نملكه أن شاء الله تعالى فقال عياض يا عبد الله قد اشتهر أمرك عند جميع أهل النصرانية ونخاف أن تسير فتغرر بنفسك ومن معك فيقبض عليكم والله تعالى قال: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] قال فإذا أبيت لي أن أشن الغارات على بلاد القوم قال قد أذنت لك فخرج يوقنا ومن معه وهم ألف من قومه وساروا على أرزن وسرد وأسعرد وياباسا وحيزان والمعدن. قال الواقدي: وكان من قضاء الله وقدره أن صاحب أسعرد وحيزان والمعدن وياتحلسا ويمهرد وطراجر وسلواس كان بينه وبين يطالقون حرب وكان يغير بعضهم على بعض وأخربوا المملكتين فلما انتشرت الأخبار بقدوم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وانهم على ميافارقين جفل أهل تلك البلاد وعلم بذلك حرسلو صاحب اسعرد وإنه لا طاقة له بالعرب فأخذ هدية سنية وذهب بنفسه ليطالقون بن كنعان حتى يصطلح معه ويكونوا يدا واحدة على قتال المسلمين فبينما هو سائر والهدية معه وقد نزل على قرية اسمها أرغير وعلق على خيله وهو معول على المسير وهو ينتظر الخيل تقطع عليقها وإذ قد كبسهم يوقنا وقد أحاط بالقرية وأخذ كل من فيها وأسر البطريق ومن معه وبات ليلته فلما اصبح عرض الأسرى وقال لهم: أن الله قد ظفرنا بكم ونصرنا عليكم واعلموا إني ملك من ملوك الروم ملكت البلاد وقدت الجيوش وأمرت ونهيت وعبدت الصليب وقربت القربان فلما أتى الله بهؤلاء القوم أخبرتهم ونظرت ما هم عليه فعلمت أن الحق معهم فتبعتهم وقلت بقولهم وقد كنا بالشام تفزع منا ملوك العجم وكسرى بن هرمز والديلم والترك وكان لنا كرة الأرض وكنا لا نلتفت إلى العرب حتى خرجوا علينا فأذاقونا مرا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 وذهبت شجاعتنا وملكوا معاقلنا وحصوننا واحتووا على ملكنا ونصرهم رب الأرض والسماء علينا لأنهم يشيرون إليه بالوحدانية فإن آمنتم بالله وحده كان لكم الربح في الدنيا والآخرة وأطلق سراحكم وإن ابيتم قتلتم عن آخركم فقالوا: اتركنا يومنا هذا إلى الليل ندبر أمرنا فتركهم واختلى بحرسلو البطريق وحدثه في السر وقال له: اعمل في خلاص نفسك ورقبتك من النار وأسلم وفاد نفسك حتى تنال ما تريد فقد بلغني من الوقائع بينك وبين صاحب الحصن فقال البطريق لقد صدقت فمن أعلمك فقال له: ما السبب في العداوة بينك وبينه. فقال أنه طلب أن يتزوج ابنتي وبعث الي هدية فرددتها عليه فصار عدوي وأغار على بلادي وأغرت على بلاده والآن قدمت إليه بهدية حتى أكون أنا وإياه يدا واحدة فأتيت أنت الي وأخذتني فقال يوقنا إني اريد لك من الخير ما أريد لنفسي ولست أجبرك على أن تترك دينك ولكن تعاهدني على أن لا تغدر وأنا أخلي سبيلك وتمضي إلى صاحب الحصن وتدني نفسك بين يديه وتقول أيها الصاحب قد ندمت على ما كان مني إذ رددتك عن تزويج ابنتك وإني كنت أخذتها وزينتها وسقت معها أموالها على أني أهديها لك فلما كنت في قرية كذا وكذا خرج علي قوم من العرب فأخذوا المال والرجال وقد نجوت اليك بنفسي لتأخذ بيدي وتستنقذ ابنتي من العرب فإنه إذا سمع دعاه الطمع واستجره الأمل حتى يخرج الينا ولعل الله تعالى أن يظفرنا به فإذا ملكنا الحصن أن شاء الله تعالى كنت أنت تبقى على بلادك وكنت آمنا مطمئنا واعلم أن ذمامي هو ذمام العرب ومهما فعلته امتثلوه وأمضوه فلما سمع البطريق كلام يوقنا قال أفعل ذلك ولكني أخاف من المسيح أن يغضب علي إذا خامرت على أهل ديني فقال يوقنا أنا أحمل هذه الأوزار عنك ودع عيسى بن مريم يطالبني يوم القيامة فقال البطريق أن كان هذا الذي قلته فأنا افعل وليس يصعب علي ولكني أخاف أن فعلت ذلك الذي أمرتني به أن لا ينزل من الحصن وربما بعث معي بعض أصحابه فلا يحصل طائل من عدوكم فقال يوقنا وما يكون التدبير فقال البطريق الرأي عندي غير هذا قال: وما هو قال تذهب مع أصحابك جريدة بالخيل وأنا أكون معك فما نصبح إلا ونحن على الحصن فإذا أشرفنا عليه تعطنى جوادي وسلاحي واركض على فرسي في حال العجلة فإني أجده في الميدان مع أرباب دولته فإذا وقعت عيني عليه ترجلت وحثوت التراب على رأسي واصيح أيها الملك العرب قد أخذوا أصحابي وغلماني وما جاء معي برسمك فإذا قال: واين هم اقول على فرسخ من بلدك فإنه إذا سمع قولي لا يمكنه التأخير عن نصرتي ولا له إلا السرعة اليكم واعلم أن أكثر جنده قد فرقهم على الحصون وما عنده إلا ألف فارس أو أقل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 قال فلما سمع يوقنا ذلك من قوله وثق به وبعث الأسرى إلى عياض فلما وصلوا إليه قال لهم: أن أطلقتكم أتعرفون لنا ذلك قالوا: نعم وكيف لا نعرفه فأطلقهم حتى تسمع أهل البلاد فينزلوا إلى طاعته وأما يوقنا فإنه سار جريدة بقية ليلته فما برق ضياء الفجر إلا وقد أشرفوا على الحصن فعندها أطلق البطريق ووثق منه بالعهود وأعطاه جواده وسلاحه وسار كأنه قد أفلت نفسه وساق على على شوط واحد إلى الحصن وكان بالقضاء المقدر أنه وجد البطريق يطالقون قد عبر إلى جانب اسعرد ومعه ألف فارس والف راجل وكان السبب في ذلك أن قوما من أصحاب البطريق حرسلو كانوا في كنيسة يوقنا فأتوه وحدثوه بما تم عليهم من القوم فعبر لعله يستخلصهم من يد يوقنا فلما وصل إليه البطريق ترجل وصقع له وحدثه فرق له وقال كيف تخلصت قال خلصت يدي من الكتاف وركبت هذا الفرس فلما أحسوا بي ركبوا ورائي وها هم في اثري بالقرب من باياعا قال فلما سمع ذلك يطالقون بن كنعان أمر بالركوب وسار من وقته طالبا يوقنا وقال هذا الذي أردناه من أمر الجهاد قد قربه الله الينا فدونكم والقوم ولم يمهل بعضهم بعضا وتطاعنوا بالرماح وصبر يوقنا صبر الكرام ووقع الصائح من كل جانب ونشرت أجنحتها النوائب واستعان أصحاب يوقنا برب المشارق والمفارب فبينما هم قد اشرفوا على المعاطب إذ أشرفت عليهم غرر الخيل وهم يتسابقون فنظر إليهم يوقنا وإذا هم اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم ثلاثة آلاف فارس يقدمهم خالد بن الوليد وكان السبب في قدومهم أن عياضا خاف على يوقنا وبني عمه فارسل إليهم في أثرهم خالدا فوجدهم في القتال فأطلق عنانه وقال: يا أهل الإيمان وحملة القرآن دونكم وعبدة الصلبان ارفعوا اصواتكم بذكر ربكم قال: ونظر يوقنا النصرة وقد اقبلت فعظم شأنه والتقى بصاحب الحصن وقد عرفه بزيه فتطاعنا طعنا كافيا وتضاربا ضربا شافيا شافيا إلا أن يوقنا طعن صاحب الحصن فرماه إلى الأرض قتيلا وصنع فيهم خالد رضي الله عنه والصحابة رضي الله عنهم كما تصنع النار في الحطب ولما قتل يوقنا صاحب الحصن قطع رأسه وجعله على سنانه ونادى عمن تقاتلون وقد قتلنا صاحبكم فلما رأوا الرأس ولوا الادبار ومات أكثرهم وولى الباقون نحو الجبل ووقع الصائح في الحصون بأن يطالقون قد قتل فولوا الأدبار. قال الواقدي: وكان ليطالقون زوجة عاقلة لبيبة صاحبة رأي وتدبير فلما رأت ما حل بزوجها وإن أهل الحصن قد قتل أكثرهم وتفرقوا بالهزيمة أيقنت بزوال ملكها وخراب بيتها فجمعت المشايخ وأرباب دولتها وقالت لهم اعلموا أن الملك قد قتل وقد تفرق شمل من كان معه وقد وصلكم ما صنع هؤلاء العرب مع ملوك دين النصرانية وبني ماء المعمودية وكيف ملكوا الشام وأرض ربيعة وديار بكر وديار مصر وقد دانت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 لهم الامور وانتشر شرعهم وعلا ذكرهم ودخل في دينهم الملوك والبطارقة وما نزلوا على حصن إلا ملكوه ولا وافوا جيشا إلا هزموه وقد دخلوا أرضكم وحلوا ساحتكم فما ترون من الرأي الرشيد قالوا: أيتها الملكة ما تكلمت بشيء إلا فهمناه وعرفناه والامر اليك فقالت الصواب إنكم تحقنون دماءكم وتصونون حريمكم وأموالكم وتدخلون فيما دخل فيه أهل البلاد وتصالحون العرب فتأمنون على أنفسكم وتعيشون في ظلهم فقالوا: هذا هو الصواب قالت فلينطلق منكم رجال إلى هؤلاء العرب ويعقدوا لنا منهم صلحا قال فخرجوا من عندها وسار منهم ثلاثون رجلا من خيارهم وعبروا الشط إلى عسكر خالد فلما رآهم خالد والمسلمون علموا أنهم من أهل الحصن فاستقبلوهم وسلموا عليهم ورحبوا بهم ومشوا معهم إلى قبة خالد وإذا هو جالس على التراب ووجوه أصحابه حوله وهم يكثرون من ذكر الله وليس لهم حاجب ولا بواب فسلموا عليهم فقرأ خالد: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86] فتقدم كبراؤهم وعلماؤهم في دينهم وقالوا: ايكم الأمير حتى نخاطبه. فقالوا: ليس فينا أمير ولا من يلحظ أخاه بعين الذل لأن الإسلام شملنا والدين جمعنا ونحن عباد الله فلما سمع القوم ذلك قالوا: بأجمعهم والله ما نصركم الله علينا إلا باتباع نبيكم وقال خالد: كم تبذلون لنا من المال فقالوا: مهما أردتم امتثلناه فقالوا: انا لا نريد إلا ما ترضى به أهل الذمة الذين في البلد حتى تطيب قلوبهم ومن لا يرحم لا يرحم ولقد سمعت نبينا صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تنزع الرحمة من قلب شقى" قال فلما سمع القوم ذلك تهللت وجوههم فرحا وقالوا: لقد نصركم الله بحق وما نرى دينكم إلا حقا فاسلموا عن آخرهم وعادوا إلى قومهم واجتمعوا في كنيستهم وحدثوهم بما كان وبما رأوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحسن سيرتهم فقال أهل البلد ما كنا بالذين نرفع أنفسنا عليكم لأنكم أولو الراي والدين وقد رضينا بما رضيتم به لأنفسكم فاسلموا إلا قليلا منهم وأما الملكة لما سمعت ذلك طاب قلبها وبعثت بالاقامة والعلوفة إلى خالد وسالته أن يعبروا إلى جانبهم ونصبت لهم الجسر فعبر خالد ومن معه ونزلوا بالبيعة بحيث أن الملكة تشرف عليهم وتنظر إليهم فرأت أقواما قد طلقوا الدنيا وطلبوا الآخرة وليس فيهم من ينهر ولا يسفه ولا يخالف أخاه قد اشتغلوا بالذكر وتوحشوا بالصبر فلما نظرت إلى حسن عبادتهم نزلت إليهم وأسلمت على أيديهم فقال خالد: تقبل الله منك ورضى عنك فالزمي قلعتك فلا سبيل لاحد عليك ونظر يوقنا اليها فقال: وددت لو كانت هذه أهلي فأنفذ خالد يشاورها فأجابت إلى ذلك وبعث خالد إلى عياض يشاوره فبعث إليه الجواب بأن زوجه ولا تترك من بلاد الحصن مكانا إلا وتنزل فيه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 ذكر فتح طنز ويمهرد وأسعرد قال فعول على العبور إلى جانب أسعرد ويمهرد إذ قدم عليه أهل حصن طنز للصلح وإن يكونوا طوعا للمسلمين فقال خالد: من أسلم منكم قبلناه وكان له ما لنا وعليه ما علينا ومن بقى على دينه كانت عليه الجزية من العام القابل فأجابوه إلى ذلك فكتب لهم عهدا وعبر إلى طنز ويمهرد واسعرد والمعدن وأرزن وقرروا صلحا ورضوا به قال: وانقضت عدة صاحبة الحصن وهي جانوسة وتزوجها يوقنا ولحق خالد بعياض فوجده على سوقاريا وهي مدينة جالوت فلما وصل خالد إليه اسلم الناس بعضهم على بعض واقاموا هناك خمسة ايام وعولوا أن يسيروا إلى بدليس وأخلاط وإذ قد جاءهم الخبر أن طاريون ابنة الملك وهي زوجة الغلام يرغون الذي فتح كفرتوتا وكان من أمرها ما ذكرناه قد هربت إلى أبيها ورجعت إلى دينها قال فصعب ذلك عليهم. قال الواقدي: حدثني محمد بن يونس قال: حدثني اسمعيل عن قيس قال أن طاريون لم تتنصر ولا عادت عن الإسلام وإنما مضت إلى ابيها لتدبر عليه حيلة وتسلم البلد للمسلمين لأنها ارادت أن تصنع كما صنع زوجها يرغون بكفرتوتا فاتفق رايها ورأى زوجها على ذلك فقال يرغون أما أنا فلا أتبعك لانني أفزع من أبيك أن يقبض علي فقالت له: الزم مكانك ولبست ثيابها وعولت على المسير وجعلت غلمانها في محل خلوة وقالت لهم اعلموا أني قد عزمت على أمر أفعله وأنا ابوح به اليكم قالوا: ايتها الملكة ما على العبد إلا الطاعة لمولاه فأوقفينا على سرك قالت لهم اعلموا إني كرهت المقام بين هؤلاء العرب وايضا قد اشتقت إلى وطني وعولت على أن أخرج بكم إلى الصيد في الجبل فإذا جن الليل طلبنا أرضنا فلما سمعوا قولها فرحوا وقالوا: نعم الرأي فقالت إني لست أكرهكم فمن كان له رغبة أن يلبث ههنا وهو مائل إلى هذا الدين فليقم غير ملوم ومن أراد الرجوع إلى وطنه فليعزم معي فإني أمضي في هذه الليلة وحق ما أسير إليه لئن بلغني أن أحدا منكم افشى سري إلى يرغون أو غيره من الناس لاضربن عنقه فمن كان عازما على صحبتي فليتبعني فأجابوها إلى ذلك فلما جن الليل ودعت يرغون وخرجت ومعها اثنا عشر نفرا كانوا لا يرتدون الإسلام وكان لها بكفر توتا اثنا عشر غلاما قد رسخ الإسلام في قلوبهم وأحبوا المسلمين قال: وسارت نحو الجبل ومضت إلى أن تركت أرزن خلف ظهرها واشرفت على بدليس فنزل صاحبها اليها وقدم لها اقامة وعلوفة وأقامت هناك بقية يومها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 ذكر فتوح بدليس وارزن وأعمالها وكان من قضاء الله السابق وقدره أن عياضا لما نزل على سوقاريا ولحق به خالد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 ومن معه ولحقهم يوقنا فرح المسلمون بسلامتهم وحدثه بما جرى فسجد لله شكرا ثم بعث يوقنا رسولا إلى صاحب بدليس وكانت أرزن وبدليس وقف وأنظر وغيرها من القلاع لبطريق اسمه سروند بن بولص والجارية طاريون نازلة هناك وسروند عندها فلما علموا بقدوم يوقنا رهبوا إلى لقياه واختلت به طاريون وقالت له: يا عم لا تظن إني هاربة ولا إلى الروم طالبة وإنما أريد أن أنصح لله ولرسوله وللمسلمين وأريد أن أغدر بأبي وأقتله واسلم معاقله للمسلمين لكن يا عم أشر علي بما أصنع فأنت تعلم أن هذا الدرب لبدليس وأخلاط وعليه قلعة قف وأنظر وإذا أرادت العرب العبور فليس لهم قدرة فما الذي تراه وأخاف أن حصلت عند أبي أن لا أقدر على الرجوع إلى بعلي والى المسلمين فقال لها يوقنا اعلمي إنك إذا سرت بهذه النية فإن الله جل وعلا يفتح عليك أبواب الخير وأمضى على ما أنت عليه وأنا لا بد لي أن أمضي برسالة الأمير عياض إلى أبيك وها أنا ابكر فإذا حصلنا هناك كان لنا من التدبير ما يريده الله ونصل أن شاء الله إلى ما نريد وعلمها ما تصنع وودعته وعادت فقالت أن هذا العديم العقل يلح علي ويعذلني لأجل أن ارجع وأعود عما عزمت عليه من الرجوع إلى دين المسيح ولولا أنني أخاف ممن معه ومن صاحب هذا الحصن أن يعينه علينا لكنت قبضت عليه ثم إنها ركبت وسارت تجد السير وأرسلت بعض غلمانها يبشر اباها بقدومها فلما وصل البشير ارتجت المدينة وركب ابوها والبطارقة وأهل البلد لملتقاها فلقوها عند خضريا فلما رأت أباها ترجلت وترجل ابوها والعسكر جميعه وصقعوا بين يديها وضمها أبوها إلى صدره وقال لها يا بنتي كيف كان أمرك. قالت أن يرغون نصب علي ووصل بي إلى عسكر المسلمين وأسلم فلم يمكنني إلا أن أطاوعه خيفة منهم إلى أن دخلوا ديار بكر فهربت اليك فصلب أبوها على وجهه وهنأها بالسلامة وركب وساروا والمواكب حولهم إلى أن دخلت البلد ودخلت دار المملكة فتلقاها الجواري والخدم وصقعوا لها وبكوا وبكت وأخرجت الصدقات والنذور للبيع والكنائس وباتت تحدثهم بما جرى لها وحديث شهرياض وكيف أخذت رأس العين فقال أبوها يا بنية كيف رأيتيهم في دينهم قالت أيها الملك القوم يتظاهرون بالدين وانهم يطلبون الدين والعدل حتى يرجع الناس إليهم وليس والله دين أفضل من دين المسيح وقد نذرت نذرا متى خلصت من يد العرب أن لا أقرب قربانا ولا أشرب خمرا ولا آكل لحم خنزير ولا أنغمس في ماء المعمودية حتى أتعبد في بيعة يوحنا شهرين كاملين فإذا أنا تطهرت من دينهم أقرب القربان وأقبل الصلبان ففرح أبوها بذلك فلما كان الغد مضت إلى البيعة وأخلت لها موضعا وجعلت تتصدق على الفقراء وتظهر النسك والعبادة وأقامت تنتظر ما وعدها به يوقنا من القدوم بالرسالة إلى أبيها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 قال الواقدي: حدثنا ابو محمد قال: حدثني من أثق به عن قيس ابن هبيرة قال كنت من أصحاب يوقنا حين سار بالرسالة إلى بدليس وتحدث مع طاريون وأنفذ صاحب بدليس إليه وكان لما بلغه قدوم يوقنا صعد إلى حصنه فاستحضره وأنا معه فوجدناه على سرير مملكته فسلمنا عليه فقال يوقنا أن أمير جيوش المسلمين بأرض ربيعة وهو عياض ابن غنم قد أرسلنا اليك ندعوك إلى توحيد الله ورسالة نبيه ولكم ما لنا وعليكم ما علينا واعتبر بمن تقدم من الملوك وأصحاب الأقاليم والعز فقد أصبحوا هالكين فما جوابك فقال: أيها السيد إني قد كنت أردت أن أرسل رسولا إلى أميركم في طلب الصلح وأعطيه شيئا وإن أبقى على ديني ومن أراد من أهل بلدي أن يرجع إلى دين القوم فلست أمنعه فقال يوقنا بكم يطيب قلبك أن تدفع في صلحك على بدليس وأرزن وما تحت يدك من البلاد فإني إذا أمضيت لك الصلح فقد رضيت به العرب فقال: أيها السيد اعطيهم مائة ألف دينار وخمسمائة زردية وألف قوس وإن لا يولي على مملكتي غيري حتى أموت وإن لا يبقى من قبلهم إلا رجل أو رجلان حتى يعلموا من أسلم شرائع الإسلام وإن يكون أمري نافذا في مملكتي ومن أسلم يكون أمره لمن يكون عندنا من قبلكم وما يكون لي عليهم حكم فقال يوقنا قد أمضينا صلحك وأتممنا عهدك وانا أعطيناك عهد الله ورسوله على ما ذكرته قال: وأعطاه عهد الله ورسوله وهادنه على الهيئة التي هادن رسول الله صلى الله عليه وسلم هرقل ملك الروم وحلف له عن المسلمين كلهم قال: وإن قيسا ذهب إلى عياض فاعلمه بما استقر بينهم فلما وصل كتاب يوقنا إلى عياض رحل من مكانه إلى أن نزل على بدليس فوجد البطريق قد أخرج ما وقع عليه الصلح فلما قدم عياض نزل إليه البطريق وتلقاهم وحياهم بأحسن تحية وأنزلهم في أحسن منزل وقدم لهم الاموال وكتبوا بذلك عهدا. قال: ونظر المسلمون من أهل اليمن وبادية العرب إلى البنات وحسنهن فمالت أنفسهم اليهن وشرب أكثرهم الخمر فلما راى عياض ذلك صعب عليه فأمر أن يؤتوه بمن فعل ذلك فأقام عليهم الحد وأخذ منهم حق الله وقال لهم: أكفر بعد إيمان أبهذا أمرتم أم لهذه خلقتم أما سمعتم ما قال من أمره بين الكاف والنون قال فتابوا بأجمعهم فلما جن الليل اجتمع يوقنا بعياض وحدثه بأمر طاريون وما واققته عليه وإنها قد وهبت نفسها لله تعالى ومضت تدبر كيف تعمل في تسليم البلد للمسلمين وإني وعدتها أن أسير اليها وأعينها على ذلك فقال عياض إذا كان الامر كذلك فيجب علينا أن نطلع عليه خالدا وأصحابه فقال يوقنا افعل ما فيه الصواب فأرسل إلى خالد ومعاذ وقيس والمسيب بن نجيبة وعمرو بن معديكرب وعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وحدثهم بالحديث وقال لهم: ما ترون من الرأي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 ذكر فتح أرمينية وأخلاط وقف وأنظر . قال خالد: أصلح الله الأمير إذا كان الامر كذلك فابعث يوقنا رسولا ونحن معه فإذا حصلنا هناك يفعل الله ما يريد والحاضر يرى ما لا يراه الغائب. قال فسيروا على بركة الله تعالى فتأهبوا وساروا وسار مع يوقنا خمسة وثلاثون من الصحابة وعشرون من أصحاب يوقنا فلما وصلوا أخلاط ونظرت إليهم الروم والأرمن علموا أنهم رسل فأعلموا بذلك الملك وأنهم رسل من العرب فأمر بإحضارهم فأتتهم الحجاب إلى باب رومية وهو باب بدليس فرأوهم على خيولهم فقالوا لهم: ادخلوا فأخذوهم إلى دار الامارة وأعلموا الملك بوسطيرس بذلك فأمر باحضارهم فلما توسطوا الدهليز أراد الغلمان أن يأخذوا أسلحتهم. فقال خالد: انا قوم لا نسلم سيوفنا لغيرنا وإن الله بعث نبينا بالسيف وقد قلدنا إياه ولسنا نزيل ما خصنا الله ورسوله به فدخل الحجاب وأعلموا الملك بما قال خالد: فقال الملك دعوهم يدخلوا كيف شاءوا لئلا يظنوا اننا نخافهم وإنما ذاك ناموس الملك فدخلوا بهم فلما رآهم وسلموا عليه جلسوا على الأرض كأنهم السباع وكل منهم قد جعل يده على مقبض سيفه وقد بلغ الملك ما هم عليه من الدين والزهد في الدنيا فأوصى أصحابه أن لا يأمروهم بأن يصقعوا له فإنهم لا يجيبونهم لذلك قال فلما استقر بهم الجلوس قال لهم ترجمانه: يا هؤلاء بم أتيتم إلينا. فقال يوقنا أن أمير جيوش المسلمين بأرض بدليس قد بعثنا اليكم رسلا ندعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وإن محمدا عبده ورسوله أو تدخلوا فيما دخل فيه الناس وتؤدوا الجزية عن يد وأنتم صاغرون فأعلم الترجمان الملك بما قاله يوقنا. حدثنا قدامة أنه لم يكن بينهم ترجمان وإنما كان المتكلم يوقنا بالرومية وهو لسان القوم. قال الراوي: حدثني من أثق به قال كان الترجمان بينهم لأن الملك أرمني لا يفهم إلا بلسان الأرمن ويوقنا كان روميا لا يفهم لسانا آخر فلما بلغه الترجمان غضب وقال: وحق المسيح والانجيل لا نعطيهم ولا ندخل في دينهم أو نموت عن آخرنا ولا يحسبوا أننا مثل من لاقوا من جيوش الروم ولنا الشدة والبأس والقوة والمراس ونحن نرمي عن الأقواس بالنشاب والعرب تسميه قاطع الشهوات والأسباب وأنا أبعث إلى صاحب خو وسلوس واستنصر عليهم باسراغوص ملك المرج ونردهم على أعقابهم ونستخلص منهم البلاد وليس عندنا جواب غير هذا قال فبلغهم الترجمان ما قاله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 فقال يوقنا ليأذن لنا بالانصراف لنعلم صاحبنا بهذا الجواب فقال الملك بيتوا عندنا هذه الليلة وفي غد تنصرفون وأمر بهم أن ينزلوا في المكان الفلاني فخرجوا من عنده إلى المكان الذي أمر به فنزلوا به ينتظرون ما يكون من الجارية طاريون قال: ولما خرج الصحابة من عنده ركب من وقته إلى بيعة يوحنا واجتمع بابنته وقال لها: أن العرب قد وجهوا الي رسولا ومعه جماعة وقالوا لي: كذا وكذا وأجبتهم بكذا وكذا فما ترين من الرأي فقالت أيها الملك اين هم قال عوقتهم هذه الليلة حتى أشاورك في أمرهم فقالت أريد أن أنظر من هم فإنه لا يخفى علي أمرهم فإن كانوا من وجوه العرب النافذ أمرهم فامرني أن أتحدث معهم وأطيب قلبهم بأنك تصالحهم وأطمعهم بذلك فإذا اطمأنوا بذلك أمرتك بالقبض عليهم واتركهم عندك حتى لا يكون لهم خلاص فإذا قبضت عليهم ترسل إلى صاحبهم تقول له متى تقدمت الينا مرحلة واحدة بعثت اليك برؤوسهم فإذا سمع ذلك لا يتقدم ويقع الصلح على أن نسلم إليه أصحابه وينصرك المسيح ويطول عمرك ويرفع قدرك وينصرفون عنك وما ثم رأي أوفق من هذا فقال لها يا بنية المسيح يطيل عمرك ويرفع قدرك فقومي إليهم ودعي هذه البيعة والزمي البيعة التي في دارنا فإنك كلما أقمت ههنا كان أخوف بنا وإن كان مقصودك العبادة ففي أي مكان كنت فيه فإن لك معبدا فلما سمعت قوله قالت لست أبرح من ههنا حتى يأمرني بترك هذا المكان فأرسل الملك وراء البترك فلما حضر قام الملك له وعظمه وأجلسه إلى جانبه وحدثه بقصة ابنته. فقال البترك قد أذنت لك أن تتعبدي حيث شئت وقد استوهبت ذنوبك مع المسيح وغفر لك قال فصلبت وجهها ودعت له وقدموا لها بعض مراكب أبيها فركبت ومضت إلى المكان الذي فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يدخل فيه سواها وأبيها الملك فلما رأت يوقنا فرحت واستبشرت وقالت له: أيها السيد أن أبي جاهل بكم غير عارف بقولكم وسوف أكشف له عن أموركم وحق ديني ما رأيت منكم إلا خيرا وسوف أجازيكم على ذلك ولولا محبة الأهل والوطن ودين المسيح ما كنت فارقتكم وخرجت هي وأبوها ومضت إلى القصر وقالت له: ابشر بما يسرك هؤلاء وجوه القوم وساداتهم والذي عليه زي الروم هذا يوقنا بطريق حلب الذي طرده المسيح عن بابه والرأي عندي أن نطلبهم عندنا إلى هذا القصر ونقبض عليهم بحيث لا يقف أحد على سرنا قال ففرح أبوها بقولها وبعث حاجبه إلى الصحابة فأتى بهم وأنزلهم بعض حجر القصر. قال الواقدي: وكان عمال أبيها من البطارقة والمقدمين علىالقلاع قد أتوا يهنئون أباها برجوعها إلى دين المسيح فقالت طاريون من الصواب أن نمضي أنا وأنت إلى هؤلاء العرب ونجلس عندهم ونأكل معهم حتى يطمئنوا الينا واقول لهم إني أريد أن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 أشاور أهل بلدي وأرباب دولتي فإما أن نصالحكم ونؤدي اليكم الجزية أو نقاتلكم ونبعث إليهم طعاما مبنجا فإذا أكلوه وحكم فيهم البنج قبضنا عليهم ونفعل بهم ما نريد وأشير به عليك قال فلما جن الليل أتت هي وأبوها عندهم وتحدثوا ساعة ومضوا فلما كان الغد جلس ابوها على سريره وعلمت أبنته أنه اشتغل بما هو فيه فأتت طاريون إلى الصحابة وقالت لهم إذا جئت الليلة أنا وأبي فدونكم وإياه لا تمهلوه فقد اتفق رايه على كذا وكذا فشكروها على فعلها ومضت عنهم فلما كان الليل جاءت ومعها أبوها وتقدمت كأنها تحجبه واشارت إليهم بأن لا تعجلوا وأمهلوه فامسكوا عنه وتحدثوا ساعة وخرجا من عندهم فلما خلا مع ابنته قال لها أما قولك نقبض على هؤلاء العرب فليس بصواب وإني أريد أن أجمع بطارقتي وولاة أمري من الحصون والقلاع وآخذ لك عليهم عهدا أن لا يخامروا عليك أبدا وإن يطيعوك وأرسل المال والذخائر وما نخاف عليه إلى قلعة يرقبوس فإنه أمنع قلاع الارض. قال الواقدي: وهذه القلعة التي ذكرت في وسط بحيرة أرجيس لا سبيل لاحد عليها قال لها وإذا وليتك عليها أطلق هؤلاء العرب فإنه ما سبقني أحد من الملوك الىقبض الرسل وأيضا يتحدث عني إني فزعت من العرب وقد عولت على لقائهم فإن نصرت عليهم فذاك هو المراد وإن نصروا علي فلي اسوة بأمثالي من الملوك وقد أرسلت إلى الملك درفشيل صاحب أرزن الروم بأن يأتي الي بجنوده وعدته وعدده ووعدته أن أزوجه بأختك فاورثه فما ترين من الرأي قالت له: أيها الملك إذا عزمت على هذا الامر فلا تترك هؤلاء يمضون حتى يجتمع العسكر ويقدم الملك درفشيل بجيشه ولا يتخلف عنك أحد وبعد ذلك اترك هؤلاء فإذا ساروا إلى صاحبهم فسر أنت في أثرهم بالجيوش وأكبس عسكرهم. فقال: يا بنية ليس من الرأي أن نطلقهم من أيدينا بل نبعث إلى صاحبهم نقول له أنهم مكرمون عندنا وقد رأينا أننا في يوم عيد ندبر فيه أمرنا فإما أن نصالحكم بأداء الجزية واما أن نقاتلكم والله ينصر من يشاء ونأمرهم أن ينزلوا في مرج بطان فإنه مرج واسع يصلح لملتقى العساكر ونضرب معهم مصفا ونحن أخبر منهم بالبلاد ونمسك عليهم الدروب فما ينجو منهم أحد ونسير إلى ديار بكر فنملكها ونأخذ أرض ربيعة ولا يبقى في هذه البلاد ملك سوانا فقالت له طاريون: افعل ما تشاء وتركته وانصرفت إلى مكانها فلما عرفت أن أباها قد أغلق أبوابه أتت إلى الصحابة وعرفتهم بما قال أبوها فقال خالد: الله يسر لنا الامر من غير تعب وإذا أراد الله أمرا هيأ أسبابه فقال يوقنا وكيف ذلك يا صاحب رسول الله فقال خالد: نعم نحن أمورنا بحمد الله منوطة بالنصر وقد كفانا كل أمر واعلموا أن هذا الرجل قد عول أن يبعث ليجمع ملوكه وجيوشهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 ويحرضهم على قتالنا والصواب أننا نصبر حتى يجتمعوا فقالت طاريون لقد نطقت بالصواب يا صاحب رسول الله ووفقت ولعل أن يحصلوا كلهم في أيديكم إن شاء الله فإن أبي لا يقدر أن يوليني إلا في البيعة بحضرة أصحاب القلاع والحصون ويأخذ لي عليهم العهد وبعد ما يفعلون ذلك تثورون عليهم أن شاء الله ولعل أن يكون في جملتهم صاحب أرزن ونرسل العبد الصالح يوقنا بزي صاحب أرزن فلعله يملكها أن شاء الله تعالى ونكون ظفرنا بالأرب وخرجت من عندهم. قال الواقدي: حدثنا صالح بن عمران عن عبد الرحمن بن الحسن عمن حدثه قالوا جميعا أو من قال منهم أنه لما أتفق الرأي من الملك صاحب خلاط على ما ذكرنا واصبح الصباح أرسل وراء صاحب أعماله وولاة الحصون أن يحضروا عنده فأتوا بأجمعهم ولم يتخلف منهم أحد وأتى درفشيل من أرزق ومعه عسكره وكان اجتماعهم في ليالي عيدهم الكبير فزينوا البيعة وجاءت القسوس والرهبان من كل مكان ودخلوا البيعة وصلوا وقربوا القربان فلما فرغوا من قربانهم وصلاتهم جلس الملك على سريره وابنته واقفه عن يمينه فقال للملوك والبطارقة اعلموا انني ما جمعتكم إلا لامر أعرضه عليكم وفيه سداد أمركم وملككم ودينكم وقد عولت على انني أولي أمركم الملكة طاريون فإنها كما علمتم من أصحاب العقل والرأي والتدبير في الحرب والشجاعة والبراعة فإن قضى علي فإنها تكون مالكة فما تقولون فقاموا بأجمعهم وصقعوا له وقالوا: نعم الرأي الذي رايته أيها الملك فانجز أمرك فعندها وثب قائما وأزال التاج عن رأسه ووضعه على رأس طاريون وأمسك بيدها وأجلسها على السرير ووقف عن يمينها كأنه حاجب ووقف صاحب أرزن عن يسارها وصعقت لها الملوك وبايعوها وتقدمت القسوس والرهبان وأخذوا لها عليهم العهد والميثاق وأجابوا بالسمع والطاعة وبعدها زوجوا أخت طاريون بولد صاحب أرزن وخرجوا من البيعة في خدمة طاريون إلى قصر الملك وأكلوا السماط وخلعت عليهم وزينت المدينة وضربوا خيامهم بظاهر البلد وعولوا على قتال المسلمين. قال الواقدي: حدثني اسرائيل بن اسحق عن أبي الاحوص قال بلغني أن عياض بن غنم لما وجه خالدا إلى مدينة ارمينية وهي أخلاط واستبطأهم ساءت به الظنون فيهم فارتحل من بدليس إلى أرض أرزن ونزل بالمرج ووجه عيونه إلى خلاط فغابوا عنه اياما وعادوا إليه وأخبروه أن الملك قد ولى ابنته طاريون على المملكة وقد عقد لها التاج على رأسها وبايعها الملوك وزينوا المملكة من أجل ذلك وقدم صاحب أرزن الروم وزوج أخت الملكة لابنه وإن القوم قد عولوا على لقائكم فلما سمع عياض ذلك قال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم غدروا أصحابنا فقال المسلمون كيف ذلك يا صاحب رسول الله قال: لان اصحابنا مضوا لامر يرومونه وقد وفد عليهم فقالوا: ثق بالله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 وتوكل عليه وأقام عياض على المرج عشرة أيام وحصل له مرض على أمر الصحابة فأتته الناس يعودونه فقال إذا أراد الله بعبده خيرا زاره الناس. قال الواقدي: وعوفى عياض فبينما هو قد ركب مع وجوه الصحابة وهم يسيرون وقلبه مشغول من قبل خالد ومن معه وإذ قد أتاه سعيد بن زيد وهو ينادي الوحا الوحا العجل العجل فأسرع إليه عياض وقال: ما بك يا ابن زيد يرحمك الله فقال ألحق خالدا ومن معه فقد وقعوا في بحر اللجاج وهم في وسطه فلما سمع عياض ذلك قال: وكيف قال أن طاريون لما ولاها أبوها الملك وجعل العهد لها ظفرت بابيها فقتلته وبعثت وراء الملوك على لسان أبيها فلما جاءوا اليها قتلتهم وإن بعض غلمانها اطلع على سرها فمضى إلى بقية البطارقة والولاة فأخبرهم بما صنعت فلبسوا السلاح وقعدوا على أهبة فلما كان بالامس ركبت هي في جيش ابيها إلى الميدان وركبنا نحن لركوبها فما علمنا إلا والقوم قد أطبقوا علينا وقالوا: لنا أظننتم أن المسيح غفل عن أمركم وإنه لا يؤاخذكم بذنوبكم وقد أمكن الصليب منكم وهموا بأخذنا فقاتلناهم قتالا شديدا ما سمع أحد بمثله وملأنا الأرض من قتلاهم فلما جن الليل وضعت الحرب أوزارها وانفصل الجيش مع صاحب أرزن الروم وبقي مع الجارية نفر يسير من غلمانها وغلمان أبيها فأفاضت عليهم الخلع والنعم وبعثت إلى الارمن تقول لهم إنما فعلت ذلك شفقة عليكم وصونا لحريمكم لانهم ارادوا أن يقبضوا على هؤلاء العرب ويقتلوهم فكان أصحابهم لا يتركون منكم مخبرا فلما بلغهم ذلك قال العقلاء منهم والله لقد فعلت معنا كل خير وأجابها من القوم خمسة آلاف رجل وإني تركت المصف وجئت اليكم مستنفرا فلما سمع عياض كلام سعيد أمر الناس بالرحيل وسار سيرا خفيفا وخببا إلى أن أشرفوا عليهم وإذا بالحرب قد قامت على ساقها فكبر عياض ومن معه فارتجت منهم تلك الأرض والجبال وحملوا وكان خالدا وأصحابه قد أرضوا الله بقتالهم فقاتلوا قتالا ما سمع على وجه الأرض بمثله ولم يزالوا كذلك حتى انقشع الغبار وانفصل القتار وافتقدوا من قتل فوجدوا من قتل من بادية الاعراب مائة وعشرين رجلا وافتقد معاذ ابن جبل ولده فلم يجده فلما جن الليل دخل ومعه رجال من المسلمين إلى المعمعة فوجدوه يجود بنفسه وقد ناله جراحات فحملوه إلى رحله وجلس ابوه عند رأسه فقال عبد الرحمن بن غنم أخو عياض لما رأيته يجود بنفسه بكيت وانتحبت فقال له: مه وهذه الغزوة أحب الي من كل غزوة غزوتها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قال له: يا بني ستلقي ربك وكان لما أذن المؤذن للظهر فما انصرف العسكر من صلاتهم إلا وقد كفنه في دراعته وهو متضمخ بدمائه فجاءه الناس فوجدوه قد دفنه فقالوا له: يرحمك الله هلا كنت انتظرتنا حتى نحضر جنازته قال ليس ذلك من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 السنة وإن ذلك فعل الجاهلية وقد كنا نشتهي أن نبطىء بموتانا ولكنا أمرنا بانجاز موتانا فلما دفنه في القبر ورجع إلى رحله غسل راسه ولحيته واكتحل ولبس برديه وأتى إلى خيمة عياض وهو يكثر من الابتسام والتكبير وليس به إلا ما يسليه عن ذلك وقال هنيئا لك يا ولدي فقال له عبد الرحمن: وماذا قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من مات له ابن وكان به ضنينا وكان عليه عزيزا فحسن عليه عزاؤه ولم يرمنه شيء في قضاء الله إلا غفر له وللميت وأبداله دارا خيرا من داره وأهلا خيرا من أهله وزوجه الله من الحور العين" ولما طلع النهار ركب المسلمون وطلبوا الجهاد وإذا بخيل قد أتت وعليها فرسان بغير سلاح فلما قربوا منهم ترجلوا وقصدوا الأمير فابتدر إليهم يوقنا وقال لهم: من أنتم قالوا: نحن أصحاب ارزن الروم وهذا مقدمنا وأشاروا إلى شيخ منهم حسن الشيبة فراطنه يوقنا فقال أن الله دلني عليكم وبت الليلة على نية القتال فرايت المسيح بن مريم في النوم وهو يأمرني باتباع محمد وقال لي: أن نبي هؤلاء العرب هو الذي بشرت به فمن عدل عنه فليس مني فلما سمع يوقنا قوله ترجل هو وجميع من كان معه ومشوا معه إلى عياض وحدثه بجميع ما جرى فقام له وصافحه هو والمسلمون وحدث عياضا بما حدث يوقنا ثم أسلم هو ومن معه ففرحت بذلك الجارية طاريون وسلمت إليه أختها وسار بها إلى أرزن الروم وأرسلوا معه عشرة من المسلمين ليدعوا أرزن الروم إلى الإسلام ويعلموهم شرائع الدين. قال الواقدي: وهم رواحة بن عبد الله وسلامة بن عدي والمرقال بن الاكوع وابن خويلد وجرير بن صاعد وعبد الله بن صبرة وسهل بن سعد ومصعب بن ثابت وحازم بن معمر وابو نمير بن بشار قال: وودع درفشيل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتحل والعشرة معه حتى وصل أرزن الروم ففرح أهل المدينة بهم وخرجوا للقائهم فلما استقر الملك في مجلسه طلب أكابر الناس وحدثهم بما رآه وعرض عليهم الإسلام فأسلم أكثرهم وأقبل العشرة يعلمونهم شرائع الإسلام والقرآن قال: وسلم القلاع والحصون التي كانت لاخلاط المسلمين فمنهم من أسلم ومنهم من أقام على أداء الجزية من عامهم الآتي وبعث عياض إلى خوى وسلواس وما يلي تلك الأرض فأسلم أهلها إلا القليل وبعث من المسلمين رجالا يعلمونهم الشرائع واقر طاريون على أخلاط والله تعالى هو الموفق للصواب واليه المرجع والمآب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 ذكر فتح أرزن وأسعرد وجبل مارون . قال الواقدي: قال عبد الله بن عقيل الجعدي عن أبي اسحق الهمداني قالوا: جمعا وفرادي أو من قال منهم أنه لما فتح الله ديار بكر وأرمينية واخلاط على المسلمين على يدي عياض ابن غنم بعد فتوح أرض ربيعة أرسل وراء الغلام يرغون في كفرتوتا فلما قدم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 عليه قلده أمر أرمينية وأخلاط له ولزوجته طاريون وأخذ عليهما موثقا من الله أن يعاملا الناس بالعدل وإن يتبعا الشريعة وإن يأمرا بما امر الله ورسوله فقبلا ذلك وارتحل عياض من أرض أرمينية بعد أن بعث أفلح مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع مائة رجل إلى بلاد العراق حتى يدعوا أهلها إلى الإسلام ووعدهم بالاجتماع هنالك قال فانصرفوا بالرسالة وأما عياض فإنه سار على طريقه التي ورد عليها إلى أرزن الروم وخرج منها إلى أسعرد الى جبل مارون. قال الواقدي: كان الذي أسسها السموال بن عاديا وكان قد سبق قبل ذلك الأبلق الفرد من أرض تيماء ولما جاء وزير كسرى وطلبه هرب إلى هذه الأرض وبنى له فيها هذا البلد فلما نزل عياض عليها دعاهم إلى الإسلام فأجاب العقلاء منهم ومن أبى أقر عليه الجزية وكتب لهم عهدا ورحل حتى نزل على الشمطاء وأساوح فأجاب أهلها ولم تكن الجزيرة يومئذ محدودة وإن الذي بناها رجل من أهل برقعيد يقال له عبد العزيز بن عمرو: وكانت دجلة قبل ذلك فلما نزل عياض عليها وزار هو ومن معه جبل الجودي وموضع السفينة وكان بجنبها أخباث كثيرة فكانت أهل تلك البلاد تنزح الأخباث وكان ملكها الجزيري صالح فأجاب وأطاع وكان يسكن بعاديا وكانت تحت يده كواس والزعفران وقفير ودربيس وأما كن كثيرة قال: ولما بلغته الرسالة أجاب صالح وأطاع وأقبل إلى عياض وأسلم وكتب لأهل بلده عهدا وأنفذ لهم من يدعوهم إلى الإسلام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 ذكر فتوح الاسماعيليات . قال: وارتحل عياض إلى الجانب الغربي ونزل على بلد فيها بديع القبطي فأجاب صلحا على ما تقرر عليه وارتحل عياض إلى أن نزل بالاسماعيليات وبعث عمرو بن جند ليغير على الموصل واعمالها فمضى وأغار وأخذ الغنائم ووقع الصايح فخرجوا عليه وقاتلوه وانتزعوا منه الغنيمة وقاتل حتى قتل ودفن بالجانب الغربي فلما بلغ عياضا ذلك ارتحل من الاسماعيليات ونزل على الموصل فخرج إليه أهلها بالعدد والسلاح فكر عليهم خالد بجيش الزحف فجعلهم حطاما ولم يكن عليها يومئذ سور يمنع فاخذها بالسيف ونظر إلى نينوي فإذا هي مدينة قد أخذت السهل والجبل فقال: ما هذه فقيل هذه نينوي فقال لعلها مدينة يونس بن متى عليه السلام. قال الواقدي: وكان ملكه يومئذ الملك أنطاق فكاتبه عياض فأبى فانفذ إليه الجزيري صالح فقال لئن لم تجب هؤلاء إلى ما أرادوه والا أذقتك شرا ولا أترك لك عيشا فكتب إليه يقول إني اصالحهم إلى ستة أشهر حتى أرى ما يكون من أمر كسرى فإن فتحوا بلده دخلت في طاعتهم قال: وكان هو من تحت يد كسرى فأجابه المسلمون إلى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 ذلك وصالحوه على موجها ومرجها وكتب عياض إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعلمه بما فتح الله عليهم فكتب إليه يقول بسم الله الرحمن الرحيم من عياض بن غنم الأشعري إلى عمر ابن الخطاب رضي الله عنه أما بعد سلام الله عليك ورحمته وبركاته فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو وأصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم فالحمد لله الذي ايد الإسلام بنصره وأدحض الشرك بقهره ولله الحمد على ما أولى ومنح وأزال وكشف ورفع وصرف من عظائم وأخذ من غنائم حمدا يزيد الآمال أنفساحا والصدور انشراحا وقد لانت الشدة صلابتها ورقت الأيام بعد قساوتها ويسر الله تعالى أمرها وقد أوردت الاعداء موارد المهالك وضيقت عليهم المسالك فارتبكوا في زقاقهم واشتركوا في وثاقهم ولم يجدوا في الأرض نفقا ولا في السماء مرتقى واشتد بهم الفرق وأزعجهم القلق وانهم احتالوا وخايلوا وداهنوا وأرسلوا وأظهروا البعد عن الآثام والدخول إلى الإسلام والتنزه من الظلم والجنوح إلى السلم فأقررناهم على ذلك بعد أن اشرفوا على المهالك فمنهم من أسلم وبايع ومنهم من أقام تحت الذمة وتابع وقد نشر الله أعلامنا وأعز ديننا وقهر عدونا وشد سيوفنا وأعلى كلمتنا وأظهر شريعتنا وقد صرف الله سورتهم وأخمد نارهم وأزال نصرتهم وكفى البلاد والعباد مؤنتهم والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وعلى إله وصحبه وسلم والسلام عليك وعلى جميع المسلمين ورحمة الله وبركاته وبعث خمس ما تحصل من ديار بكر مع شرحبيل بن حسنة كاتب وحي رسول الله صلى الله عليه وسلم وضم إليه مائتي فارس وسلمه الكتاب وأمره بالمسير فسار شرحبيل وبعد أيام وصل إلى عياض من العراق عامر بن مزينة رسولا من عند سعد بن أبي وقاص يستنجد عياضا على كسرى فأنفذ له نجدة ثم فتح الله العراق على يد سعد وما جرى له من الحروب والوقائع نذكر من أمره ما كان والله الموفق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 ذكر فتوح العراق . قال: حدثنا عبد الله بن محمد قال أخبرنا عبد الله بن جابر. قال الواقدي: أخبرني من أثق به قال لما وجه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه سعد بن أبي وقاص بالجيوش إلى العراق لم يزل سائرا حتى قدم أرض الرحبة واتصلت الأخبار باليعمور بن ميسرة العبسي وكان يومئذ ملك العرب بعد أياس بن قبيصة النعمان بن المنذر الملك من قبل كسرى بن أزدشير فكتبا يعلمانه أن جيوش المسلمين قد أقبلت من المدينة وقد وجهها عمر بن الخطاب رضي الله عنه اليك وقد عول على أخذ العراق فاستيقظ أيها الملك من غفلتك وانظر في مصالح دولتك واعلم أن هذا الزمان هو الذي كنا نسمع به ولا نصدق ونكذب به ولا نحقق ولا نظن أن أحدا يجسر علينا ولا يصل بجيشه الينا حتى جاء الوقت المقدور وولى المدينة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 عمر وهو صاحب الفتوح ومصبح الملوك بشر صبوح فقم على قدم الهمم وسر إلى أعدائك وتقدم وقد اعلمناك لتكون على بصيرة من الامر وإياك أن تهمل الامر فرب صغير أمر عاد كبيرا ويسير عاد عسيرا والحرب أوله شرر وآخره نار تسعر والسلام قال: وبعثا الكتاب مع نجاب فلما وصل به إلى كسرى وقرىء عليه انتفض لذلك واهتز على سريره وأحضر الاساورة والموابذة والديلم والسهارجة وقرأ عليهم كتاب الملوك وقال لهم: ما ترون في هذا الامر الذي قد وقفنا عليه وأشرفنا من زماننا عليه واعلموا أن هؤلاء العرب قد أخرجهم الجدب والجهد فهم ينظرون لهم مواضع يسكنون اليها وينزلون فيها وقد أذاقوا الروم شرا وأنزلوا بهم ضرا وملكوا المدائن واحتووا على الخزائن. وكانت الروم قد اجتمعوا عن بكرة أبيهم وما كان منهم أحد إلا أتى الشام وتلاقوا في الحرب بمكان ي قال له: اليرموك وهذه شرذمة من العرب قد سرحوا بلادكم وقد عولوا على أن ينزعوا الملك من أيديكم ولا ينفعكم لا أن تكشفوا عن ساق العزم وتتشحوا بوشاح الحزم وتذبوا عن أهليكم وأموالكم وأولادكم وحريمكم وبلادكم واعلموا أن العرب لهم الطمع وقد دخل في قلوبهم أن يملكوا بلادكم وحصونكم متى رأوكم ناكلين عن قتالهم فشلين عن نوالهم مالوا عليكم ميلة الأسود على فرائسها فاحسموا موادهم من أول يوم وقد قيل في الأمثال من نظر في العواقب أمن غائلة النوائب ثم إنه فتح خزائن الاموال والخلع وخلع على الهرمزان وقدمه على خمسين ألفا وخلع على عطارد بن مهرود وقدمه على عشرين ألفا وخلع على قارين بن همام وقدمه على عشرين ألفا وأمرهم أن يضربوا خيامهم بأرض زوندان ففعلوا ذلك وكتب من وقته إلى خراسان وما وراء النهر يستفزهم ومن معهم من الأجناد على قتال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما وصلت الكتب إليهم أقبلوا يهرعون إلى العراق كالجراد المنتشر وكان في جملة القوم شهريار بن كباد والفرحان الأهوازي والهزيل بن جسوم جاسر الهمذاني ومعهم أربعون فيلا ووفد الجانيوس بن قتاد. قال الراوي: فلما اجتمعت الجيوش خرج كسرى يحرضهم بأرض شهرطاق وفراشة وكان رأس جيشه مهرمان فعرض الجيوش فإذا هي مائة ألف وخمسون ألفا غير الأتباع وقدم الديلم والعجم وأمامهم الفيلة وعقدوا على ظهورها الاسرة بثياب الديباج وعلى كل سرير أربعون رجلا مقاتلة وهم يضربون بالطبول والصنوج في خراطيهما أعني الفيلة السيوف ليقاتلوا بها وكان فيها فيل أعور كأنه الجبل العظيم وكان هو المقدم على الفيلة حيثما سار سارت وراءه وإن وقف وقفت وقد ربط وراء الفيلة عجل يحمل بيوت السلاح والأموال فلما عولوا على المسير عاد الملك أزدشير إلى من ذكر من المقدمين وقال اعلموا يا أهل فارس إنكم ما زلتم ملوكا وهيبتكم في قلوب الترك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 والديلم والروم والجرامقة وذلك لما كنتم عادلين في الرعية فادفعوا هؤلاء بالمال فإن أبوا فدونكم والسيف وودعوه وساروا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 ذكر فتوح الخورنق وقتل النعمان بن المنذر وفتح الحيرة والقادسية . قال الواقدي: حدثنا الحسن بن اسحق قال أخبرنا سليمان بن عامر قال بلغني أن سعد بن أبي وقاص قدم العراق في ثلاثين الف فارس من بجيلة والنخع وشيبان وربيعة وأخلاط العرب وما منهم من قدم العراق إلا بأهله وولده وما قدم أحد من ملوك الفرس إلا بماله كله حتى يقاتلوا بجد وعزم وبذلك وصاهم الملك كسرى قال: وإن سعدا ارتحل من الرحبة إلى الحيرة البيضاء وكان هناك جيش النعمان بن المنذر وقد ضرب خيامه والسرادقات إلى ظاهرها وقد أضاف إليه جميع العرب وهم من العراق في ثمانين ألفا وقد أفاض عليهم النعمان النعم والخلع ووعدهم من الملك كسرى بكل جميل وقال لهم: أن هؤلاء عرب وأنتم عرب وهلاك كل شيء من جنسه وهؤلاء مثلنا وليس لهم فضل علينا وقد جعلنا الأكاسرة مقدمي دولتهم حتى نكون لهم ركنا وعلى أعدائهم عونا وليس لأصحاب محمد فخر يفتخرون به علينا لكن نحن لنا الفخر عليهم وهم يزعمون أن الله بعث فيهم نبيا وأنزل عليهم كتابا ي قال له: القرآن ونحن لنا الانجيل وعيسى بن مريم وجميع الحواريين ولنا المذبح ولنا القسوس والناقوس والرهبان والشمامسة وعلى كل حال ديننا عتيق ودينهم محدث فاثبتوا عند اللقاء وكونوا عند ظن الملك كسرى بكم قال فبينما هو يقول ذلك إذ جاءه عمه الياس وهو صاحب الحرس فقال له: أيها الملك أن أعداءنا قد انفذوا الينا رسولا فقال ائتني به فأحضره وكان الرسول سعد بن أبي عبيد القاري فلما وقف بين يدي النعمان صاح به الحجاب والغلمان قبل الأرض للملك فلم يلتفت إليهم وقال أن الله أمرنا أن لا يسجد بعضنا لبعض ولعمري أن هذه كانت العادة المعروفة في الجاهلية قبل أن يبعث الله نبيه محمدا عليه السلام فلما بعث جعل تحيته السلام وكذا كانت الأنبياء من قبله وأما السلام فهو من أسماء الله تعالى وأما تحيتكم هذه فهي تحية جبابرة الملوك فقال النعمان لسنا من الجبابرة بل نحن أجل منكم لأنكم توحدون في دينكم وتقولون أن الله واحد وتجحدون ولده عيسى بن مريم. فقال سعد أخبرني عن بن مريم أكانت القدرة فيه حالة أم ربانية وجرى بينهم كلام كثير قال فأعجب النعمان كلام سعد وقال له: يا ويح قومك ما الذي جئت به فقال أن الأمير سعد بن أبي وقاص وجهني اليك إذ أنت من العرب ويصل الينا ما نقص عليك وهؤلاء القوم علوج ليس لهم شريعة يؤدونها ولا فريضة يتبعونها ونحن ندعوكم إلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 شهادة أن لا إله إلا الله وإن محمدا رسول الله ولكم ما لنا وعليكم ما علينا فإن أبيتم فأدوا الجزية فإن أبيتم إلى ما دعوناكم إليه فائذنوا بحرب من الله ورسوله فلما سمع النعمان كلام سعد ضحك استهزاء بقوله وقال لقد حدثتكم أنفسكم بالاباطيل أظننتم أن الفرس مثل الروم لا وحق المسيح بل هؤلاء أثبت جنانا وأشد طعانا وأوسع ميدانا فليت شعري من نفخ في معاطسكم وحسن الامل في أنفسكم حتى جئتم من قحط البلاد ترومون ملك الاساورة وأخذ بلاد الاكاسرة ودونه حرب تصطفق أجرامه وتشب ضرامه وهذا الملك أزدشير قد أنفذ جيوشه وعساكره وكأنكم بهم وقد أقبلوا فينالون منكم ما يؤملون وما حدثتكم به أنفسكم تزيلونه من قلوبكم فقال سعد بن عبيد يا نعمان لقد تشدقت بالباطل وتفوهت بكلام غير عاقل أما علمت أن العاقبة للمتقين والله بكرمه يرفع عنا البأس ويظفرنا بجميع الناس وقال نبيه صلى الله عليه وسلم: "ستفتح على أمتي كنزر كسرى وقيصر" فأما كنوز قيصر فقد فتحها الله علينا وقد بقيت كنوز صاحبك فقال النعمان من أين كان لصاحبك العلم ومن أين ورثه وقد بلغنا أنه كان لا يكتب ولا يقرأ فقال سعد بصره الله بالعلم في القدم وعلم ما كتب في اللوح المحفوظ بالقلم فلما سمع النعمان كلام سعد قال له: يا ويح قومك ارجع إلى قومك فليس عندنا جواب إلا السيف قال فركب سعد وعاد فوجدهم قد نزلوا بالقرب منه فحدث سعدا بما جرى له مع النعمان بن المنذر وما كان من جوابه وجعل الأمير سعد بن أبي وقاص ينشد: ساحمل فيهم حملة عربية. ... ولا أنثني والله عنهم بعسكري. فإما نرى النعمان في القيد موثقا. ... واما طريحا في الدماء المعفر. ثم أمر الناس بالرحيل فرحلوا وساروا إلى أن أشرفوا على جيش النعمان قال فلما رأوا جيوش سعد أمر الناس بالركوب فتبادرت العرب إلى خيولهم فركبتها وجنبت الجنائب وضربت الكاسات وتبادرت الابطال ونشرت الاعلام فلما وصل سعد رضي الله عنه ولقي القوم قد أخذوا أهبتهم رتب جيشه وصفهم وألفهم وجعل في الميمنة سعد بن عبيد القارىء وفي الميسرة سعد العشيرة وفي الجناح الايمن سعد بن نجيبة وعلى الجناح الايسر سعد بن الاقيس الهلالي وأقام الأمير سعد في القلب ومعه أبو محجن الثقي وزهرة بن جويرية وشرحبيل بن كعب. قال الواقدي: حدثنا أحمد بن عامر قال أخبرنا علي بن مسهر عن أبان عن الحسن قال لما استوت الصفوف وترتبت كل قبيلة جعل الأمير سعد يتخلل الصفوف ويعظ من فيها من عرب بجيلة وطيء وبني هلال والنخع وغيرهم ويقول هذا يوم لانرى بعده مثله أما بلغكم ما فعل اخوانكم بالشام لما تكاثرت عليهم جموع اللئام فاستيقظ المسلمون بقول سعد وقالوا: نحن نحمل عليهم بشدة العزائم ولعل الله أن ينصرنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 عليهم فصاحوا بخيولهم فخرجت كالرياح العواصف ولم يزالوا في القتال الشديد إلى أن توسطت الشمس في قبة الفلك وقد ثبتت أصحاب النعمان بن المنذر للضرب والطعان. قال الواقدي: وإن القعقاع بن عمرو التميمي أو بشر بن ربيعة التميمي أحدهما التقى مع النعمان في كبكبة من الخيل والازدهارات على رأسه فحمل القعقاع أو بشر على الكبكبة ففرقها وعلى الكتيبة فمزقها ورمى النعمان بطعنة في صدره فاطلع السنان يلمع من ظهره فلما نظرت جيوش الحيرة إلى الملك النعمان مجندلا ولوا الادبار يريدون القادسية نحو جيش الفرس وغنم المسلمون رحالهم وأموالهم وباتوا فرحين وافتقدوا من قتل من المسلمين فكانوا خمسمائة وثلاثين غالبهم من أهل نخع وقد ختم الله لهم بالشهادة وفي ذلك قالت خزانة بنت خالد بن جعفر بن قرط ترثي من قتل من المسلمين: فيا عين جودي بالدموع السواجم. ... فقد شرعت فينا سيوف الاعاجم. فكم من حسام في الحروب وذابل. ... وطرف كميت اللون صافي الدعائم. حزنا على سعد وعمرو ومالك. ... وسعد مبيد الجيش مثل الغمائم. هم فتية غر الوجوه أعزة. ... ليوث لدى الهيجاء شعث الجماجم. قال: وإن المسلمين جمعوا الاموال واحتوى سعد على قصر الخورنق والسدير وترك جميع ما أخذه بالحيرة وترك عنده سالم بن نعيم بن مسروق وترك عنده مائة من ابناء المهاجرين والانصار قال: وأما من انهزم من جموع النعمان بن المنذر فوردوا على القادسية وعليها جنود الفرس مع رستم زاده بن اسفنديار ومعه شهريار بن كنار والهذيل بن جشوم وحشرسوم الهمذاني والجناتيوس بن فتاك وشماهير بن حسوسا قال فلما رأوا المنهزمين من جيش النعمان ملك العرب سألوهم عن أمرهم فأخبروهم بقتل النعمان وأخذ الحيرة وقصر الخورنق والسدير وجميع ما فيها قال فوقع التشويش في عسكر الفرس وتمكن الخوف من قلوبهم وكثرت الاراجيف وأما رستم فإنه جمع الملوك والاساورة وملوك الديلم في خيمته وقام على سريره خطيبا فقال اعلموا أن الدولة بالسياسة والناموس بالرياسة وكأنكم بالعرب وقد أشرفوا عليكم فاخرجوا واذهبوا إليهم واركبوا فخرجوا من عنده وأخذوا أهبة الحرب فبينما هم كذلك إذ بعسكر سعد قد أشرف عليهم وهم على الخيل المضمرة العربية وعليها الفرسان الإسلامية والطائفة المحمدية فرتبوا الصفوف وجعل رستم ملوك الفرس عن يمينه وملوك الديلم عن يساره ووقف رستم في القلب ودارت به الاساورة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 فبينما هم كذلك إذ بعث الأمير سعد رسولا إلى رستم وكان الرسول أبا موسى الاشعري فقصد القلب فلما رآه الحجاب أتوا إليه والترجمان معهم فقالوا له: يا عربي ما الذي تريد قال أنا رسول من عند صاحب الجيش فبلغوا رستم ما قاله أبو موسى الاشعري فقال قولوا له مالك وصول إلى المقدم ولكن أفصح لنا عما تريد حتى نأتيك بجوابه قال فبلغه الترجمان ما قاله فقال أبو موسى قل له ندعوكم إلى الشهادة فإن أبيتم الإسلام فأدوا الجزية فإن أبيتم فالسيف أصدق شاهد وقد قال الله في كتابه العزيز: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47] فبلغهم الترجمان ذلك ورجع أبو موسى إلى سعد فلما جن الليل هرب من عسكر رستم جماعة والتجئوا إلى عسكر المسلمين فلما أصبح رستم بلغه أن جماعة من عسكره هربوا إلى عسكر المسلمين فبعث رسولا إلى سعد يطلب منه أن يرد عليه الذي هرب من الاساورة والمرازبة. فقال سعد أنا قوم لا نضيع ذمامنا ولا ننقض عهدنا وقد أتوا الينا مستسلمين وفي صحبتنا راغبين فيجب علينا أن نذب عنهم ولا نمكن أحدا منهم فعاد الرسول إلى رستم وأعاد عليه الجواب فغضب وأمر الجيوش بالزحف قال: وكان الذي هرب إلى جيش سعد شاور بن سليم ونسليك بن أكتم وضرار بن مكتال ومن تبعهم فلما رأوا العساكر قد أقبلت تريد المسلمين قال القعقاع أيها الأمير قد تقدمت الاعداء والفيلة أمامهم ولا مقام لخيل العرب عند رؤيتها وصياحها فقال سعد أخلصوا النيات وأرضوا خالق الأرض والسموات وأرشقوا الفيلة بالنبل واقطعوا مشافرها بالسيوف قال: وكان أمام الفيلة فيل عظيم كأنهن جبل وكان إذا سار سارت وإذا وقف وقفت وأينما توجه كانت وراءه قال فلما حملت الكتائب واضطربت المواكب وجاءت الفيلة كأنها جبال وعلى ظهورها الابطال وقد أقبلت بالسيوف وفي خراطيمها فقتلت من عسكر المسلمين ولم تثبت لها خيل المسلمين فرفع سعد بن أبي وقاص كفيه مبتهلا بالدعاء لرب الأرض والسماء وقال: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 250] قال زهرة بن جويرية فوالله لقد رأيت سعدا يدعو وعيني مع الفيلة وإذا بالفيل الاعور قد ولى يريد المدائن والفيلة بأجمعها والرجال لا يقدرون على ردها وهي سائرة على وجوهها وكفى الله المؤمنين القتال من الفيلة قال فلما ولت الفيلة غضب رستم وأقبل بعموده الذي من الذهب يضرب به وجوه الفيلة ويطمطم بفارسيته ويحرض قومه على القتال وهم يحملون خوفا منه وهو يطلب من هرب من جيشه والخيل أمامه منهزمة والمسلمون لا يتبعون المنهزمين وأوقفوهم مواقفهم وقد طابت قلوبهم بمعاملة الله فطعنوا في صدور الأعداء وقد اطلع الحق على قلوبهم فما وجد فيها غيره فبينما الأمير سعد يحرض على القتال إذ لقيه الاسود العنسى وهو طائش العقل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 ذاهل اللب فقال له: ما وراءك يا ابن قيس فقال: أيها الأمير إياك أن تعبر هذا الصف فإن فيه الموت الأحمر والضيغم القسور وهو جبار من الفرس وقد قتل من المسلمين أربعة ولقد قاتلته حتى كاد أن يأتي علي ولولا أن من الله علي بخالد بن جعفر بن قرط لكان قتلني لأن فيه شجاعة وبراعة. فقال سعد يا مسكين وأين المفر من المقدور وقد قدر الله الاقدار أما سمعت قول الملك الجبار: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 78] ودخل الصف الذي ذكره الاسود وإذ قد لقيه خالد بن جعفر ولونه قد تغير فقال له: ما وراءك يا ابن جعفر فقال الثعبان الاغبر والاسد الغضنفر أيها الأمير ارجع عن هذا الفارس فإنه علج عنيد وفي يده عمود من الذهب يورث به خصمه العطب وقد قتل الاقران وأباد الشجعان وقد كاد أن يقضي علي لولا سعد العشيرة أدركني لكان أهلكني فلما سمع سعد ذلك عظم عليه وقصد مكانه يريد أن يفدي الناس بنفسه وبروحه ويبدد في سبيل الله مهجته وهو يخترق الصفوف فلقي سعد العشيرة فقال له: ما وراءك يا ابن لؤى قال: ورائي جبار لا يقابل وبطل لا ينازل ولولا بشر بن ربيعة لسقاني من عموده كأس القطيعة فلما سمع قوله قصد نحوه فوجد بشرا مصفر اللون فقال له: ما وراءك يا ابن ربيعة فقال: ما قصر القعقاع إني لولاه لكنت من الهول على غرر فسار سعد على طريق بشر وقد سلك سبيل توفيقه فلقي القعقاع وهو يفرق الكتائب ويصدم المواكب فقال له: لله درك يا ابن عمرو أين فارس الفرس وكيف خلص من يدك فقال: أيها الأمير لولا أنه دخل الصفوف لسقيته كاس الحتوف وغاص من وسط الخيل ولم ابلغ منه النيل. قال الواقدي: ولم يزل القتال بين المسلمين والكفار إلى أن فرق الليل بينهم فرجعت كل طائفة إلى مكانها فلما رجع رستم إلى سرادقة بعث غلمانه إلى مقدمي عسكره فحضروا فقال لهم: لقد خذلتم ونزل بكم العار والبوار فما الذي خذلكم وأي شيء شغلكم ونزل بكم وأنتم أولو البأس الشديد والامر العتيد وهؤلاء قوم كنا لا نعبأ بهم ولا تحدثنا أنفسنا عنهم بأمر وقد خذلوا فرسانكم وأوردوهم موارد الهلاك وقتلوا منكم الصناديد فبأي وجه ترجعون إلى المدائن وبم تحتجون عند الملك أزدشير وإني أرى دولتكم قد انصرمت وأيامكم قد انقضت فقالوا: أيها السيد لقد بلينا بقوم لا يرهبون الموت ولا يجزعون من الفوت وكلما طعنا صدورهم تقدموا وكلما قللنا جموعهم صدموا فقال رستم ما أرى من الرأي إلا أننا في نصف الليل نكبسهم فلعلنا نظفر بهم ويكون لنا عند الملك اليد البيضاء فاستصوبوا رأيه وافترقوا لأجل أن يصلحوا شأنهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 قال الواقدي: حدثنا عامر بن سويد قال لما رجعنا من قتال العدو إلى خيمة سعد رأيناه جالسا على التراب فلما رآنا قال مرحبا بقوم هجروا الدنيا وطلبوا العقبى كيف كان يومكم قلنا لقد شفينا نفوسنا من الاعداء ونصرنا شرع نبينا المصطفى ولقد رميت منا رجال كثيرة من المسلسلة بنشابهم فقال سعد اجمعوا الي العسكر جميعه وأمروا غلمانكم أن يجمعوا الشيح والقيصوم فإني أريد أمرا أرجو لكم به النجاة من الله قال ففعل القوم ذلك فقال للموالي اجعلوا ما جئتم به من الشيخ والقيسوم على ظهور الابل ووجهوها نحو المسلسلة فإذا قربتم منها فاضرموا النار في ظهور الابل والذعوها بأسنة الرماح حتى تدوسهم ونحن من ورائكم بسيوفنا قال ففعلوا ذلك فلما أتى الليل تقدموا أمام العسكر بالاموال والموالي من ورائهم إلى أن قربوا من المسلسلة وأطلقوا النار في الشيح ولذعوها بالاسنة فلما رأت الجمال ما على ظهورها من النار وما حل بها من الاسنة داست صفوف المسلسلة دوس الحصيد وحطمتها على وجه الصعيد وركب الأمير سعد مع الجيش ووضعوا السيف فيمن بقي من المسلسلة فبينما هم كذلك وإذا بعساكر الفرس قد أتوا وارتفع الضجيج وعلا العجيج وسميت تلك الليلة بليلة الهديرة ولم يزالوا في القتال إلى الصباح قال: وسمعت قائلا يقول كفيناكهم فقلت من أنتم فقالوا: نحن من خزيمة النخع ولم يزالوا يقاتلون حتى ما بقي منهم أحد ولا بقي لهم نسل فلما طلعت الشمس ركب رستم ابن اسفنديار وركب جيشه عن آخرهم ووقفوا بأجمعهم فاستقبلهم الموحدون وسعد يتخلل الصفوف ويعظهم ويوصيهم أي الأمراء وكان في الليل قد طاف على العسكر فرأى أبا محجن الثقفي يشرب الخمر وقال له: يا عدو نفسه لقد محوت أجر جهادك وعبادتك والله لآخذن منك حق الله وجلده الجد وقيده. قال الواقدي: أخبرنا يوسف بن عمر قال الأسدي عن طلحة ومحمد قالوا: أو أول من فتح الحرب رستم وطلب البزاز فخرج إليه نجيبه فقتله فخرج زهير فقتله فأراد القعقاع أن يخرج وإذا بفارس قد أقبل إلى رستم وهو كالريح في هبوبها فصاح برستم صيحة أدهشته وطعنه في خاصرته فأطلع السنان من الخاصرة الأخرى فنظر إليه سعد فإذا هو أبو محجن وقد صنع ذلك برستم قال المتوكل عليه سألتك بالله أن تتركه. قال الواقدي: حدثنا يوسف بن عبد الاعلى قال: حدثنا عمر بن ابراهيم عن عبد الله بن المبارك قال لما نزل سعد بن أبي وقاص على القادسية وقاتل عسكر الفرس وانهزمت الفيلة إلى المدائن وكان سعد رضي الله عنه يتنكر في الليل ويمشي في عسكره فمر في بعض الليالي برجال من ثقيف فوجد أبا محجن وهو يشرب ويترنم على خمرته فلما رآه غضب وقال له: لقد ذهب اجرك ونقص قدرك بعد جهادك للكافرين تتعرض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 لغضب رب العالمين أترضى لنفسك بذلك ثم إنه حده وقيده وجعل عليه من يحفظه فلما كان من الغد ووقع الزحف وبرز فارس العجم وكان منه ما ذكرناه عاد إلى القيد فلما قتل رستم بمشاهدة الناس أتى إليه سعد ليعلم حقيقة الامر فوجده في القيد فقال له: يا أبا محجن أنت صاحب الفضيلة فقال الفضل لله ولرسوله فأقسم عليه فحدثه بحديثه فقال له: إذا كان هذا صنيعك فاذهب فقد عفوت عنك ومن عاد فينتقم الله منه فقال أبو محجن والله ما عدت أشربها أبدا وتاب. قال الواقدي: حدثنا زائدة عن جده مروان بن أوس قال كنت بالقادسية وشهدت فتحها لما قتل رستم وولده عجزشير وولت الفرس على عقبهم لا يلتفت أحد منهم إلى ما وراءه من الاموال والاصحاب وما لهم قصد إلا السلامة لأنفسهم وأتى نساء المسلمين ومعهن الماء فدرن بين القتلى والجرحى فمن وجدنه من المسلمين فيه الرمق سقينه الماء ونضحن على وجهه وينقلن من قتل من العرب إلى العرب ويتركن رمم الفرس. قال الواقدي: حدثنا سليمان بن بشر عن أم كثير امرأة همام بن الحرث قالت شهدت القادسية مع سعد فلما نزل النصر وانهزمت الفرس شددنا ثيابنا وأخذنا الماء وابتغينا القتلى فمن كان من المسلمين سقيناه ورفعناه ومن كان من المشركين أخذنا ما عليه. حدثنا الحرث عمن أدرك ذلك قال لم يكن من قبائل العرب أكثر نساء من نساء بجيلة والنخع وكانوا في ألف وسبعمائة امرأة قال: وأخذت المسلمون عدة لم يروا مثلها وأصيب من المسلمين سعد بن عبيد وسفيان بن سليم والمهلب بن غزوان والقادح بن عنبسة ونعمان بن نعيم وأربعون رجلا من المهاجرين والانصار وسنذكر من قتل ممن كانوا يقرأون القرآن إذا جن الليل كدوي النحل قال: وأخذ المسلمون من الأموال ما لم يرمثله ولما كان بعد الفتح بيوم جاءت النجدة التي بعثها عياض بن غنم من أرض الموصل وجاء من شهد الفتوحات بالشام مع عامر بن الجراح وكان الذين قدموا سبعمائة فلما وصلوا إلى عين التمر استعجل للنصرة فترك الجيش وسار في سبعين فارسا وأتت بقية السبعمائة بعد ذلك وكان معه قيس بن عبد يغوث وقيس بن أبي حازم وسعيد بن نزار ومالك الاشتر النخعي فتقدم هاشم وقيس معه في السبعين. قال الواقدي: حدثنا ابراهيم بن بشار قال أخبرنا محمد بن علي عن سليمان بن أرقم أن عدة القتلى بالقادسية تسعة وثمانون رجلا وكان المشهور منهم قيس وعطارد وهشام ومذعور ومقرب الاسود وعمرو بن قيس والنعمان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 قال الواقدي: وبلغنا عن رجل من تميم عن امرأة منهم قالت شهدت القادسية وضم للنساء لكل منهن ثلاثة وثلاثون مثقالا من العنبر ومثلها مسك وأما الكافور فما كنا نعبأ به إلا من عرفه وكانت العرب تقول للسوقة هل لكم من ملح طيب وكانوا يعطون كيل كافور بكيل ملح وإن رجلا من العساكر عجن عجينا وجعل فيه من الكافور وجعل يذوقه بعد خبزه ويقول ما لهذا الملح لا يطعم في العجين وإن رجلا ممن له خبرة بالملح قال أعطيكم جراب ملح يطعم طعمه قال فأخذوه وأعطوه ملء جرابه كافورا غال وإن سعدا لما هزم الله العدو على يديه جمع الاموال كلها وكان الذي يقبض االاموال سليمان بن ربيعة قال فكتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتابا يقول فيه بسم الله الرحمن الرحيم من العامل بالعراق سعد بن أبي وقاص إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أما بعد سلام عليك وإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو وأصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وانا وصلنا إلى العراق والتوفيق يقدمنا والنصر يؤيدنا وقد اطلع الله على قلوبنا وامتحن خفي أسرارنا فما وجد فيها سواه ولا نعبد إلا إياه فوفى لنا بوعده إذ وفينا بصادق عهده فلقينا العدو وهو شاكي السلاح وغير راجع عن الطماح وقد شمر لنا عن ساق الجد فدارت لنا عليه الدوائر فهزمنا كتائبهم وزلزلنا مواكبهم واستأصلنا شأفتهم وقتلنا مقدمهم فجرى بذلك سابق القدر: {فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 42] وملكنا الحيرة والقادسية وأنزل الله بأعدائنا الرزية فلما كان بعد الفتح بيوم قدم المرقال وهشام وسبعون رجلا من الصحابة وبعده بثلاثة أيام قدم سبعمائة من الشام من جند أبي عبيدة ولم أسلم لأحد شيئا من الغنيمة ونحن ننتظر أمرك في ذلك والسلام عليك ورحمة الله وبركاته وعلى جميع المسلمين وسلم الكتاب إلى زيد بن عمرو فركب نجيبه وسار نحو المدينة. قال أخبرنا أحمد بن عمر قال: حدثني سابق بن مسلم قال: وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنهم يركب في كل يوم نجيبه ويقصد طريق العراق إلى قريب الظهر وذلك لما بلغه أن رستم نزل على القادسية قال فخرج على عادته إذ لقيه البشير وهو نوفل فلما رآه نوفل أبرك ناقته وسلم على أمير المؤمنين وقال له: أبشر بكل خير ودفع كتاب سعد وهو يقول قد هزم الله العدو ونصر الموحدين وملكنا الحيرة والقادسية بهم فرقى المنبر وقرأ عليهم كتاب سعد وقال إلا وإن اخوانكم المسلمين يقرئونكم السلام وقد اتبعوا الكتاب والسنة وحادوا عن طريق البدعة وأقاموا على شرائع الهدى وأرادوا المشورة فيمن قدم عليهم فأما الجواب فالغنيمة لمن شهد الوقعة والمواساة لمن لحق بهم بعد الوقعة بثلاثة أيام ونزل عن المنبر وكتب إلى سعد بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد سلام عليك فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو وأصلي على نبيه صلى الله عليه وسلم وقد وصلني كتابك فحمدت الله كثيرا بما فتح الله على أيديكم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 وإني قد أبليت بكم وأبليتم بي وإني والله لا أحصى شيئا من أموركم فأعلمه وأما إذا اجتمع صلح فإذا أشفق الوالي ونصحت الرعية وعمل الاحسان وعلى الرعية الصبر والشكر وأما الغنيمة فلمن شهد الوقعة والمواساة لمن أتى بعد ثلاثة أيام ومن شهد حربكم من مملوك وعتيق بعد ثلاثة أيام فأشركوه الزموا الاحسان فيما فتح الله عليكم وختم الكتاب وسلمه للرسول فسار يجد السير إلى أن أتى سعدا ودفع إليه الكتاب فلما قرأه كتب إليه بعد البسملة يعلمه بما تجدد أما بعد يا أمير المؤمنين فإني لم أر فارسا مثل القعقاع بن عمرو التميمي فإنه حمل في العدو في يوم واحد ثلاثين حملة يقتل في كل حملة فارسا ولم أر فارسا مثل الحرث الكندي فإنه كان يحمل في المواكب فيقصم عروقها وأرسل الكتاب الثاني والخمس مع سعد قال: ووصل المنهزمون من الفرس إلى المدائن ودخلوا الايوان وحدثوا كسرى بما جرى وبقتل رستم وولده فاغتم لذلك وأيقن أن دولة الفرس قد انقرضت وانصرمت فاحتجب ثلاثة أيام وفي اليوم الرابع مات لأنه حمل الهم على قلبه فقام بعده ولده يزدجرد ولم يكن له غيره. قال: حدثنا عبد الله بن مروان قال: حدثنا نعيم عن جده وكان أحفظ الناس للفتوح قال لما وجه كسرى بن أزدشير رستم إلى قتال سعد أنفذ معه نصف بيت ماله وهي ستمائة ألف ألف إلى المصف فلما صفت الصفوف وضعها أمام الجيش وقال كل من قتل فارسا كان له كذا وكذا ومن قتل راجلا فله كذا وكذا فصار ذلك كله إلى المسلمين فأرسل الخمس مع سعد وهو مال كثير لا يحصى عدده لكثرته فلما وصل المال لعمر بن الخطاب بكى وقال أف لمن يغتر بالدنيا أو يميل اليها ثم قرأ قل متاع الدنيا قليل والآخرة لمن اتقى فوالله لم يلتمس منه قليلا ولا كثيرا ولا درهما ولا دينارا فقالت له حفصة: يا أمير المؤمنين لو رفقت بنفسك وأكلت طعاما أطيب من طعامك ولبست ثوبا أمير من ثوبك فقد فتحت لك الفتوح وأتت الاموال فتمعر وجهه غضبا وقال لها ناشدتك الله أخبريني عن أفضل ما اقتنى رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيت مال المسلمين قالت ثوبان كان يلبسهما يوم الوفد ويخطب فيهما يوم الجمعة والعيدين فقال: أي طعام كان يأكل عندكن قالت خبز الشعير وكان عندنا في أسفل عكة دسم فإن تظاهر طعمه فيها يقول قد زدتن في الدسم قال فأي بساط كان يبسطه عندكن قالت كان لنا كساء نجعله في الصيف تحتنا وفي الشتاء نفرش نصفه ونلتحف بنصفه فقال: يا حفصة أن مثلي ومثل صاحبي كثلاثة نفر تتابعوا طريقا فمضى الاول وقد زاد فبلغ ثم تبعه الثاني فسلك طريقه فمضى إليه ثم تبعهما الثالث فإن لزم طريقهما ورضى بزادهما وإن سلك غير طريقهما لم يجتمع معهما أبدا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 ذكر فتح نهمشير قال الواقدي: وإن عمر رضي الله عنه بعث إلى سعد بأن يمضي إلى المدائن وإن يخلف النساء والاولاد في الحيرة وعندهم من الجند جماعة ويجعل لهم شركة في كل مغنم وكان مقام سعد بعد الفتح بالقادسية شهرين فلما استهل الشهر الثالث أنفذ على مقدمته زهرة بن جويرية وأتبعه بعبد الله وشرحبيل بن الشمطاء وأتبعهما بهاشم بن عتبة وخالد بن عرفجة صاحب صاحب الساقة وقسم الجيش معهم وقد غنموا ما كان في عسكر الفرس من مال وسلاح وكراع وكان رحيلهم من القادسية لبضع أيام مضين من شهر شوال قال: ونزل زهرة بالكوفة بمن معه ولحق به عبد الله وشرحبيل بمن معهما وتتابعت الجيوش وارتحل زهرة وسار إلى بالس ونزل عليها وإذا بأناس من أهل السواد أتوا إليه وطلبوا منه أمانا فاعطاهم وقال لهم: ما عندكم من خبر العدو فقالوا: أيها الأمير استعمل الحذر جلبابا والتيقظ بابا واعلم أن رجلا من المرازبة قد ضمن لكسرى لقاءكم وردكم ومعه عسكر جرار فقال زهرة أبعد الله شره وجعل كيده في نحره فبينما هو كذلك إذ أشرفت عليهم طلائع القوم وتبينت لهم البيارق والازدهارات فركب زهرة للقائهم ورتب أصحابه للحرب وهو يقول: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ} [آل عمران: 160] . قال الواقدي: ولما أشرفت الكتائب أطلقوا ألسنتهم بذكر الله وتسارعوا إليهم فأوسعوا لهم الميدان وتقدمت الصناديد وتأخرت الرعاديد وضج المسلمون بالتكبير وطعنوهم في صدورهم ونحورهم وإذ قد وقعت عين زهرة على فارسهم العميد وبطلهم الشديد فقصده دون غيره وتطاعنا وتضاربا وتقاربا وتباعدا ثم أن زهرة رماه بطعنة في صدره فأخرج السنان من ظهره فخر إلى الأرض صريعا فلما رأوه ولوا الادبار وركنوا إلى الفرار وكان فيهم رجل من أكابرهم ذو عقل سديد ورأي رشيد فلما رأى ما حل بقومه أتى إلى زهرة طائعا مختارا وعقد له معه صلحا فأعطاه أمانا وسأله عن خبر جيوش كسرى فقال: يا سيد قومه اعلم أن أكابر من انهزم منهم بالقادسية قد اجتمعوا وهم النهرجان والمهراق الداري والهرمزان فقال لهم القيروان: بأي وجه تعودون للملك كسرى وقد أعطاكم الوظائف والعطايا والولايات فأقيموا هنا حتى تبيض وجوهنا عنده أو نهلك عن آخرنا قال فلما سمع زهرة وعبد الله وشرحبيل وهاشم وخالد انتظروا سعدا حتى أتى وأعلموه فقال استعينوا بالله وتوكلوا عليه وكانوا قد ملكوا الجسر فعبروا عليه وعدوا إلى الجانب الآخر وأشرفوا على جموع القوم فوقعت في الفرس الأراحيف وتمكن الخوف قلوبهم وكلما عين الهرمزان والقيروان جيشهما وصفا صفا انتقض بغيره فعلم أن ما فيهم خير وما كانت إلا ساعة حتى فرق الله جموعهم وبدد شملهم وانطلقوا على وجوههم فمضى الهرمزان إلى الأهواز وكانت كنوز كسرى في جبل ظاهر الأهواز وكان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 عليها مقدما نهاوند فلما بلغه هزيمة العسكر نهبها وأما النهرجان ومهراق فانهما قصدا المدائن وعبرا نهرا شير وهي مدينة الذنب قال فلما حصلوا بالعدوة القصوى وقطعوا الجسر قصدوا الايوان ويزدجرد هناك فدخلوا عليه وحدثوه بما جرى لهم مع العرب فلما سمع ذلك أيقن بزوال ملكه فلما كان الليل عول على أن ينفذ أمواله وذخائره إلى نهاوند وتهيأ للحرب وأما زهرة فإنه سار في أثر القوم حتى جاوز سوار ونزل وأتى بعده هشام والمرقال ونزلا عنده حتى تكامل الجيش ونزل سعد بن أبي وقاص وارتحلوا إلى كوثاريا وأشرفوا عليها فلما رأي الفرس عسكر المسلمين قد أشرف عليهم أخذوا أهبة القتال وتهيئوا ومقدمهم شهريار. فلما وصل إليهم زهرة ورآه شهريار وقع الرعب في قلوب أصحابه وماج بعضهم في بعض ولولا خوفهم من شهريار لولوا الادبار ورتب زهرة أصحابه فلما استوت الصفوف خرج شهريار للبراز وعليه زي الملوك ولأكاسرة وقال أنا شهريار فهل يبرز الي فارس لفارس أو أربعة لفارس أو عشرة لفارس فلما سمع زهرة كلامه قال: والله لقد أردت برازك غير إني لا أدع أحدا يخرج اليك إلا عبدا فإن قتلته فتكون قد قتلت عبدا وإن قتلك فهو المراد ثم إنه دعا مولا أبا نباتة الأعوجي فقال له: دونك وهذا العلج واستعن عليه بالله فخرج إليه أبو نباتة فلما وصل إليه ونظره استحقره لأن شهريار كان مثل البعير فألقى نفسه على أبي نباته وقد جرد سيفه فلما رآه أبو نباتة قد وصل إليه صادمه كأنه أسد وتضاربا بالسيوف حتى تكسرت فرمياها وتقابضا حتى سقطا إلى الأرض فوقع شهريار بابي نباتة وهو يراغه فوقعت ابهام شهريار في فم أبي نباتة فقطعها فارتخت أعضاؤه فانفلت وانقلب عليه فصار فوقه وجرد خنجره وطعنه به في نحره فقضى عليه فأخذ تاجه وسواريه وسلبه وفرسه وعدته وتوجه بها إلى المسلمين فلما نظر جيشه ما حل به ولوا الادبار وأقام زهرة هناك إلى الصباح وأقبل بقية الموحدين فحدث زهرة سعدا بما جرى لمولاه مع شهريار وكيف انهزم الفرس ففرح سعد بذلك وأمر أن يحضر أبا نباتة فاحضره فقال سعد عزمت عليك إلا لبست سواريه ودرعه وتاجه وركبت جواده قال ففعل فأعطاه السلب جميعه وقال له: قد أفلحت فكان أول مسلم سور بالعراق. قال الواقدي: حدثنا نوفل بن عدي قال اخبرنا وائل بن غانم اليشكري قال لما قدم سعد إلى كوثاريا نزل في المكان الذي سجن فيه ابراهيم الخليل عليه السلام فصلى فيه وحمد الله وصلى على رسوله صلى الله عليه وسلم وقرأ: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140] الآية قال: وأقام سعد بمشهد كوثاريا أياما ثم دعا الناس إليه وقال لهم: اعلموا أن الله تعالى قد نصركم في مواطن كثيرة وقد أراكم ما وعدكم نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 لما قال ستفتح على أمتي كنوز كسرى وقيصر وقد ملكتم طرفا من كنوز كسرى والتمام على الله وقد عولت على العبور إلى المدائن التي من الجانب الغربي فقالوا جميعهم: أيها الأمير ما منا من يخالف ولا يبخل بنفسه على الله ورسوله فاعزم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم قال فلما سمع قولهم قدم زهرة برايته وجيشه وأمره أن يسير فسار في اثني عشر ألف فارس فما سار غير قليل إذ رأى بين يديه خيلا وعليها فوارس فأخذوا أهبتهم فإذا هم زهاء من مائتي فارس من الفرس فأرسلوا منهم فارسا يعلم المسلمين أنهم أهل ساباط ومقدمهم ي قال له: سرزاد وهو يطلب لاهل بلده صلحا وعهدا فقال له: زهرة ائتني بهم فلما قربوا منهم ترجلوا وأتوا المسلمين فتلقوهم بالبشر والسرور فقال لهم زهرة: من أنتم قالوا: نحن أهل ساباط وهذا مقدمنا وقد أقبلنا نطلب صلحكم فقال زهرة من قصدنا قبلناه ومن أراد صلحنا صالحناه ولسنا قوما نريد الفساد في الأرض ثم أمضى صلحهم على ما وقع عليه الاتفاق بينهم قال: وانطلق سرزاد إلى قومه ومعه جماعة فرحين بالصلح ولما نزل زهرة في نهمشير وجد كتائب الفرس وعليهم مقدم يقال له فيروز وهو فارس قومه ومعهم كبكبة كسرى التي يعتمد عليها في وقت شدته قال: واجتمع جيوش الموحدين عند زهرة مع سعد وتأهبوا للقتال. قال الواقدي: فلما ترتبت الصفوف كان أول من برز واشتهر وسما وافتخر فيروز ورطن بالفارسية وقال: يا هؤلاء العرب لقد أطمعتم أنفسكم فيما لا تصلون إليه وساءت ظنونكم وزعمتم إنكم تملكون العراق وتأخذونه من أيدي الأكاسرة وهذا ظن لا يصير أبدا ونحن كتيبة كسرى أولو الشدة والبأس والقوة والمراس وأنا مقدمهم والرئيس فيهم فليبرز الي مقدمكم ويفعل مثل ما فعلت أنا من بين قومي قال فما استتم كلامه حتى خرج إليه هاشم بن المرقال يجر قناته من ورائه وحمل عليه وحصل بينهما حرب يشيب منها الطفل ثم أن هاشما طعنه في صدره فاطلع السنان من ظهره قال فلما قتله هاشم ورجع إلى المسلمين قبله سعد بين عينيه فترجل هاشم وقبل رجل سعد وقرأ: {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} [ابراهيم: 44] قال: وارتحلوا في أثرهم إلى أن نزلوا نهمشير وبقى كلما أقبلت تكبر وتنزل إلى أن أحاطوا بهم من كل جهة فأظهر القوم الزينة والسلاح والعدد والمجانيق وهم على الأسوار. قال الواقدي: وأقام سعد على نهمشير شهرين وبعث خيله للغارات على شط الفرات والدجلة فاتوا ومعهم ألف فلاح فضمهم إلى سرزاد مقدم ساباط حتى يأتيه الجواب فيهم من عمر بن الخطاب رضي الله عنه ويرجعوا إلى مقرهم فكتب سعد إلى أمير المؤمنين يقول بعد البسملة أما بعد سلام عليك ورحمة الله وبركاته فإني أحمد الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 الذي لا إله إلا هو وأصلي على نبيه واننا نزلنا على نهمشير بعد ما لقينا فيما بين القادسية ونهمشير عسكرا مع قرط بن فيروز وظفرنا الله به وبمن معه وإن فيروز قتله هاشم وانهزم من بقي معه ونزلنا بعد ذلك على نهمشير وبثثنا عساكرنا فاصابوا من الفلاحين ألف نفر فما رأيك فيهم فأجابه أن من أتاكم من الفلاحين إذا كانوا مقيمين على عهدكم ولم يعينوا عليكم عدوكم فلهم أمانهم ومن لم يأتكم وهرب منكم وأدركتموه فشأنكم وإياه افعلوا فيه ما شئتم فلما جاء الكتاب خلى سبيلهم وأرسل وراء الدهاقين فدعاهم إلى الإسلام أو الجزية فأجابوا إلى أداء الجزية قال: وأما أهل مدينة نهمشير فشرعوا يرمون عسكر المسلمين بالسهام والحجارة والمجانيق فلما نظر سعد إلى ذلك دعا سرزاد وقال له: أن أهل هذا البلد لم يتركوا للصلح موضعا وأريد منكم أن تصنعوا لنا مجانيق ففعل سرزاد وعمل مجانيق فما مضت ثلاثة أيام حتى صنع له ذلك ونصب له ذلك على نهمشير أكثر من عشرين منجنيقا فاشغلوهم بها عن قتال المسلمين والعرب فرحت بذلك فلما طال على البلد الحصار خرجوا يقاتلون المسلمين وتبايعوا على الصبر فقاتلهم المسلمون قتالا شديدا وترامت الفرس بنشابها والعرب بنبالها وقاتل زهرة بن الجدرية قتالا يرضي الله ورسوله ثم أن زهيرا قال لسعد دعني أتقدم لعلي أرمي بنبلة أو اضرب بسيفي هذا ضربة فتقدم ودخل العدو فتلقاه فارس اسمه شهرياض فحمل عليه وطعنه طعنة أخرج بها أمعاءه وقتله فاجتمعت عليه الأعاجم فقتلوه وانهزموا ودخلوا المدينة وأغلقوا الأبواب وصعدوا على الاسوار وبعدها أشرف علينا رجل منهم وقال أن الملك يقول لكم هل لكم في الصلح على أن لنا ما بين دجلة إلى هنا ولكم ما يأتيكم من دجلة إلى خيلكم فتقدم إليه أبو مقرة الاسود بن قطينة وقد أنطقه الله بما لا يدري ما هو فأجابه بالفارسية وهو لا يعرف منها شيئا ولا يحسنها قال فرجع الرجل على السور فقلنا لأبي مقرة ما قلت له فقال: والذي بعث محمدا بالحق ما أدرى ما قلت له إلا أن الله أنطقني بشيء ولعل أن يكون فيه خير للمسلمين ولا زالوا يسألونه حتى ساله سعد بن أبي وقاص. فقال: والله يا أمير ما أعلم ولا أدري فتعجب سعد من ذلك وأمر الناس بالزحف والرمي وإن لا أحد من أهل المدينة يظهر لهم ولا يبين فقلنا لعلهم أن يكونوا يكيدوننا بمكيدة وإذا نحن في اليوم الثاني برجب قد خرج الينا وهو ينادي الأمان الأمان فأمناه وأتينا به إلى الأمير سعد فقال له: ما الخبر قال أن القوم ليسوا في المدينة وقد هربوا فقال سعد ومن أي شيء هربوا فقال الرجل أن الملك بعث اليكم رسولا يعرض عليكم الصلح فأجبتم أنه لا يكون بيننا وبينكم صلح أبدا حتى نأكل عسل افريزيا نوح تركوا المتاع والاموال والرجال ولم يكن لهم غنيمة إلا أنفسهم قال فلما ألسنتهم وترد علينا وتجيبنا عن العرب ووالله لئن لم يكن كذلك والا فإنما هو شيء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 ألقى على فم هذا الرجل فابرزوا إلى القصوى فخرجوا من البلد وقد تركوا المتاع والاموال والرجال ولم يكن لهم غنيمة إلا أنفسهم قال فلما سمع سعد ذلك من الرجل سجد لله شكرا وأمر المسلمين أن يدخلوا المدينة بالعدد خوفا من الكمين ففعلوا وركب سعد وتقدم المجاهدون ودخلوا وداروا بالبلد فلم يجدوا في نهمشير أحدا من الفرس ووجدوا الاموال على حالها فاحتووا عليها وأقام سعد بها ثلاثة ايام وخرج إلى الشط وأراد أن يعبر بالناس إلى المدينة القصوى وهي اسبانير فلم يجدوا شيئا من السفن فأقام أياما من شهر صفر والناس يحرضونه على العبور إلى ذلك الجانب وهو يأبى اشفاقا على المسلمين فبينما هو كذلك إذ جاءه أعلاج فوقفوا بين يديه ودلوه على مخاضة تخاض فأبى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 ذكر فتوح الايوان ودخول المسلمين في الدجلة وفتوح اسبانير وهي المدينة القصوى . فلما دلوه على المخاضة أبى وقال بحر عميق وما كنت أغرر بالمسلمين والله يصنع بهم ما يشاء فبينما هو كذلك إذ أتوه بعلج وأثوابه تقطر بالماء فساله سعد عن حاله فقال كيف حالي والملك قد رأى في منامه أن المسلمين قد عبرت إليه وقد استشعر بزوال ملكه وهو معول على الهرب وإن يأخذ أمواله ويمضي إلى خراسان قال فلما سمع سعد ذلك جمع المسلمين وحمد الله وأثنى عليه وقال: أيها الناس أن عدوكم قد استعصم منكم بهذه السفن وكسرى قد عول على الهرب بأمواله ورجاله وإني قد عولت على العبور أن شاء الله تعالى واعلموا أنه ليس وراءكم من تخافونه لأن الله قد ملككم معاقلهم وبلادهم وقد رأيت من الرأي أن نقطع هذا البحر إليهم ونقدم عليهم فما أنتم قائلون فقالوا جميعا: قوى الله عزمك علىالرشد فافعل ما أراد الله به فعندها قال سعد رحمكم الله ونصركم أيكم يبتدىء أو يتقدم ويجس لنا المخاضة وينبش عليها من على الشط حتى تتلاحق به الناس فابتدر لها عاصم بن عمر وانتدب معه ستمائة من أهل النخوة ممن شاع ذكرهم ونما فخرهم وعلمت شدتهم وسار عاصم أمامهم حتى وقف على الشط ومعه الكتيبة الخرساء وهي كتيبة القعقاع بن عمرو رضي الله عنه. قال الواقدي: حدثنا يونس بن عبد الأعلى عن يوسف بن عمرو قال ابتدر عاصم وشرحبيل وأبو مقرن ومالك بن كعب الهمداني ومثل هؤلاء السادات وركبوا خيولهم واقتحموا الدجلة واقتحم بعدهم الستون والستمائة في أثرهم وأول من نزل في الماء عاصم بن ولاد وأبو مقرن وشرحبيل ومالك بن كعب وغلام من بني الحرث فلما رأتهم الاعاجم وقد قربوا منهم وأعدوا للخيل التي تقدمت خيلا منهم اقتحموا الماء فأول من لقيهم من جيش سعد عاصم بن عمرو فلما لقي خيل فارس في الماء صاح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 بأصحابه وقال شرعوا رماحكم إلى الاعلاج واقصدوا أعينهم فلما سمعوا كلام عاصم قصدوا عيون العدا وسقوهم كاس الردى فلما رأت الفرس ثبات العرب في الماء كثباتهم في الأرض للطعن والضرب ولوا الادبار والمسلمون في أثرهم فقتلوا غالبهم وما نجا إلى الشط إلا القليل وملك المسلمين جانب الشط من جهة الفرس وتلاحق المسلمون فلما علم سعد ذلك أذن للمسلمين بالاقتحام وقال لهم: استعينوا بالله وتلاحق الجند ونزلوا الدجلة وهي ترمي بالموج والناس يجهدون في عومهم وهم لا يكترثون بالموج ولا بتلاطمه وكأنهم على وجه الأرض ونزل بأهل فارس ما لم يكن في حسابهم وقاتلوا قتالا شديدا. قال الواقدي: حدثني من أثق به أن أول من عبر من الجيش ستون فارسا خرجوا زمرا فأول زمرة تسعة أولهم عاصم والزمرة الثانية ثلاث وثلاثون قال عاصم ابن عمرو وقد اقتحمنا الدجلة خيلا ورجالا ودواب حتى نزلنا ولا نرى الماء من كثرة الناس وخرجت خيلنا وهي تنفض معارفها وتصهل على الشط الهاما من الله قال: ولما رأى الملك كسرى أن المسلمين قد عدلوا إلى الجانب الثاني أمر شهريار بن ساور أن يبرز للمسلمين ويقف في مقابلتهم ففعل وأخذ كسرى ما قدر على حمله من أمواله من الدر والجواهر واليواقيت وما أشبه ذلك قال: وإن سعدا ليخوض الماء خوضا وهو يقول: {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [الأنعام: 96] قال: ولم يغرق من الناس أحد. قال الواقدي: حدثني النعمان بن عاملة الضبي عن ابيه عثمان أنهم سلموا عن آخرهم وإن رجلامن بارق ي قال له: عرقدة زال عن فرسه وكانت شقراء وكأني انظر اليها وصاحبها غريق فمضى إليه القعقاع بفرسه وأخذ بيده وجره حتى عبر به فقالت الناس عجزت النساء أن تلد مثلك يا قعقاع ولم يذهب للناس في الماء شيء إلا قدحا كانت علاقته رثة فانقطعت فذهب الماء بالقدح فقال صاحبه والله لأجهدن عليه وما كان الله ليسلبني قدحي من بين العسكر فلما عبروا أتى رجل من الناس ليغتسل وإذا بالامواج قد رفعت القدح إليه فتناوله وأتى به إلى العسكر فعرفه صاحبه فأخذه. قال الواقدي: حدثني عمرو بن تميم قال بلغنا أنه لما عبرت المسلمون تحامت الفرس وقاتلت قتالا شديدا وحمت أنفسها وعولت على أن تقاتل إلى أن تموت وهم خواص الملك وأصحاب الايوان والحصون والقلاع ومقدمهم شهريار بن ساور فطعنه خالد بن نمير في عينه ففقأها وانثنى عليه بضربة بالسيف فقتله وإذ فاجأتهم خيالة من نحو الايوان وقالوا لهم: عمن تقاتلون فإن الملك هرب بأمواله وأهله وخدمه قال فلما سمعوا ذلك ولوا الادبار ولم يكن بالمدائن أعجب من عبور المسلمين اليها وسموا يوم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 عبورهم الدجلة يوم الجراثيم لأنه لم يكن أحد يعبر إلا ظهرت له جرثومة يسير معها وهي من القش المربوط حزما. قال قيس بن أبي حازم: خضنا الدجلة وهي تطفح فلما توسطناها كان يصل الماء من الفرس للحزام فلما نظرت الفرس إلى ذلك والمسلمون يعبرون من غير مشقة جعلوا يقولون بالفارسية ديمور يعني جاء الجن وقالوا: والله ما أنتم تقاتلون انسا إنما تقاتلون جنا فانهزموا وأراد المسلمون الدخول إلى الايوان فمنعهم سعد من ذلك وقال لهم: إياكم والعجلة في الامور فإنها تورث الندامة وإني أخاف أنها من بعض مكايد العجم فلم يدخل إليه أحد قال: وتقدم سلام المجازي إلى سعد وكان غلاما وقال له: أيها الأمير والله لقد ارضيت اليوم الله ورسوله وقتلت المقدم عليهم ثم إنه استشهد بقية رفاقه الستين فلم يشهد له أحد منهم فقال للغلام المجازي والله ما قتلته فنكس الغلام رأسه واراد أن ينصرف وإذ قد وثب رجل من الصحابة اسمه هاشم بن عتبة وقال لسعد أيها الأمير أنا رأيته وقد قتل مقدم الفرس فصدقه سعد وأعطى الغلام سلبه. قال الواقدي: حدثنا عبد الله بن بشر قال: حدثنا سليمان بن عامر قال أخبرنا عبد الله أن يزدجرد الملك لما كان بأعلى الايوان يوم خاض المسلمون الدجلة ورأى عبورهم والخيل لا ترجع والعرب لا تجزع والصحابة يتحدثون وهم في الماء كأنهم على الأرض أيقن بزوال ملكه وذهاب عزه فنزل وهو يبكي وأخذ من بيوت المال والخزائن من الثياب والآنية شيئا لا قيمة له ولا يعرف له ثمن وترك ما بقي عنده من عدة الحصار من الزاد والبقر والغنم ومن كل الاطعمه والاشربه وكان أول من دخل المدينة القصوى مسكن الملك وهي اسبانير يعقوب الهذلي ومعه الكتيبة الخرساء كتيبة القعقاع بن عمر فدخلوا يخترقون أزقة المدينة ولا يلقون أحدا قال فعزم سعد على الدخول في المدينة القصوى لما أمر زهرة بن الجويرية أن يذهب بعسكره ويتبع المنهزمين وسير كتيبة أخرى مع المرقال فلحق بحاجب بن حجاب ابن كسرى فخاطبه بالفارسية فقال أن العرب قد عبرت الينا ولم يعرفه فطعنه المرقال فقتله وأخذ غلمانه أسرى وموجودهم وأتى به إلى سعد ويقال أحد مرازبة كسرى الكبار كان يوم دخول العرب المدينة داخلها وكان غير مكترث بهم فخرج إلى ظاهر داره ورجع يريد منزله وإذا بغلمانه وهم خارجون من الدار يهرعون وقد أخرجوا الامتعة فقال مالكم قالوا: أن الزنابير قد غلبت على منازلنا فاخرجتنا قوة قال: واشتد الصياح والبكاء والعويل من أهل المدينة وهم يلطمون على وجوههم فلما رأى المرزبان ذلك أخرج لامة حربه ولبسها وأتوه بجواده فشده وأسرجه فانقطع ثلاث مرات فمر به فارس من العرب فطعنه وقال خذها وأنا ابن المخارق ومضى عنه ولم يلتفت إلى سلبه قال: ودخل سعد يطلب الايوان فلما دخل المدينة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 دخلها وهو يقرأ: {وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ} [الدخان: 28] فلما دخل الايوان ترجل وصلى فيه صلاة الفتح ثمان ركعات لا يفصل بينهما واتخذه مسجدا قال: وكان في الايوان تماثيل وصور فتركوها على حالها قال: واتم سعد الصلوات من يوم دخل الايوان فإنه أراد المقام بها وجمع وكانت أول جمعة صليت بالعراق وبالمدائن في شهر صفر ثم أن سعدا تحول من الايوان بعد ثلاثة أيام إلى القصر الابيض واقام سعد على قبض أموال الغنائم عمرو بن عمرو بن مقرن وأمره أن يجمع ما في القصور والايوان والخزائن والدور والاسواق وإن يحصيها وكان أهل المدائن لما رأوا العرب في أرض واحدة خرجوا فرارا وأخذوا معهم ما قدروا على حمله وما انفلت أحد منهم المسلمون وأتوا به إلى سعد فتسلمه عمرو وصيرها في جملة ما جمعوه من الأموال وكان أول شيء جمعوه يومئذ بالقصر الابيض ثم منازل كسرى وسائر دور المدائن قال جهد بن صبار دخلنا المدائن فمررنا بأبيار عليها أغطية من رصاص فظننا أنها طعام ففتحناها فإذا هي أوان من ذهب وفضة ورأينا كافورا كثيرا فحسبناه ملحا فما اعتبرناه قال: وخرج زهرة في طلب المنهزمين فانتهى إلى جسر النهروان وإذا عليه كثير من الفرس بأعظم عدة وأحسن زينة وهم يزدحمون على الجسر قال: ووقع بغل في الماء فتكاثروا عليه وصاح بعضهم على بعض قال: ووقع منهم بغل آخر فصاروا في هرج ومرج فلما رآه المسلمون قال زهرة أن لهذا البغل لشأنا وما تكالب عليه القوم وصبروا مع ما في قلوبهم من الخوف إلا لامر عظيم وقال احملوا عليهم وابذلوا فيهم السيوف. قال فحملنا عليهم حملة صادقة فقتلنا منهم أناسا كثيرة وولى الباقي منهزمين وأخذنا البغل وإذا عليه حلة كسرى وثيابه ودرعه ووشاحه التي كان فيها الجوهر وكان يجلس بها للمباهاة قال فأتينا بها قال سهل بن سابق لما أخذنا البغل وأتينا به لم ندر ما عليه وعن يعقوب عن جده قال كنت مع من خرج في طلب المنهزمين وإذ نحن ببغلين مع اثنين وهما يرميان كل من يقربهما بالنشاب ولم يجسر أحد أن يدنو منهما فقصدتهما وحملت عليهما وقتلتهما وأتيت بالبغلين إلى صاحب الاقباض وهو يكتب كل ما تأتي به العرب من سائر العراق فلما أتيته بالبغلين قال لي: على رسلك حتى ننظر ما معك فحطيت عنهما فإذا في الحمل الواحد تاج كسرى وجواهره وفي الحمل الثاني ثيابه وهي موشحة بالذهب منظومة بالدر وعن محمد بن طلحة والمهلب قالا خرج القعقاع في طلب المنهزمين فلحق بفارس من الفرس وهو يكر على قوم من المسلمين وقد جزعوا منه وما أحد منهم يدنو إليه فقصده القعقاع بشدة عزمه وقال له: دونك أيها الكلب اللئيم لقتالي وطعنه فقتله ووجد معه عيبات مغلقات ففتحوها فإذا بالعيبة الواحدة خمسة أسياف وفي الأخرى خمسة أسياف محلاة بالذهب ودروع كسرى من ايام غزواته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 لهم وأما السيوف فكانت سيف كسرى وسيف هرقل وسيف مهمود وسيف خاقان وسيف النعمان بن المنذر فلما رآها سعد قال: يا قعقاع خذ أي سيف شئت وجاهد به العدو فأخذ سيف هرقل وأعطاه درع بهرام جور وأما بقية الاسلاب فأعطاها للكتيبة الخرساء إلا سيف كسرى والنعمان فامسكهما لأمير المؤمنين يرسلهما مع الخمس والتاج والثياب وعن رجل من الصحابة قال كنت مع الناس في طلب المنهزمين من خيل كسرى فبينما أنا على طريق إذا برجل ومعه حمار وكان راكبا عليه فلما رآني ترجل وجعل يحث حماره على السير حتى انتهى إلى نهر قد خرب فلم يمكنه العبور فدنوت منه فأخذ يرميني بالسهام فزغت عن رميه وحملت عليه فقتلته وأخذت الحمار ووجدت آخر ومعه حمار فتركه وانهزم فاتيت بهما إلى صاحب الاقباض فإذا على أحدهما فرس مصوغ بالذهب والفضة مرصع بالدر والجواهر ولجامه كذلك وسرجه كذلك وعليه فارس كذلك وإذا على الحمار الآخر ناقة من فضة وعليها كور من الذهب مرصع ولها زمام من ذهب وكل ذلك منظوم بالياقوت وعليها رجل من ذهب مرصع بالجواهر وكان كسرى يضيفهما للتاج وكان يباهي بهما ملوك الأرض وعن أبي عبيدة الهبري قال لما هبط المسلمون بالمدائن وجمع صاحب الاقباض الغنيمة وبقي الرجل يأتي بما معه فيدفعه إلى صاحب الاقباض فقال صاحب الاقباض ما رأينا مثل هذا قط ثم قال للرجل الذي اتىبالحمارين بالله عليك هل أخذت شيئا منه فقال: والله لولا الله لما أتيتكم بهما فقالوا له: وما أنت فقال: والله لا أخبركم لتحمدوني ولكن أحمد الله وأرضى بثوابه ومضى فتبعه واحد من موالي صاحب الاقباض فسأل عنه فقالوا: هذا عامر بن القيس قال: وبلغ الخبر سعدا رضي الله عنه فقال أحلف بالله الذي لا إله إلا هو اننا ما اطلعنا على أحد من أصحاب جيش القادسية يريد الدنيا ولقد اتهمنا ثلاثة نفر فاتبعناهم فعجزنا عن وصف أمانتهم وزهدهم وهم طلحة بن خويلد الذي ادعى النبوة بعد النبي صلى الله عليه وسلم والثاني عمرو بن معد يكرب والثالث هو قيس ابن هبيرة. قال: حدثنا من شهد فتح المدائن قال خرجنا بعد فتح القصر الابيض وكان قد تحصن به رجال من المرازبة وكانوا أشد جلدا وأقوى عزيمة من جميع الفرس وتحالفوا أنهم لا يسملون أبدا والذين حصلوا وتولوا حصارهم كتيبة الاهواز وهي كتيبة القعقاع فلما رأينا عزمهم على الموت بعدنا عن نشابهم وحجارة مجانيقهم وطال علينا ذلك وشكونا ذلك إلى سعد وقلنا له قد حرمنا الجهاد بحصارنا لهؤلاء الاعلاج فقال سعد لسلمان تقدم إليهم ودبر شيئا فيه مصلحة للمسلمين وأمنهم فتقدم إليهم سلمان وكلمهم بالفارسية فأمسكوا عن رميه وقالوا له: من أنت فقال أنا رسول من المسلمين اعلموا أن الرجل يقاتل عن نفسه وماله وولده إذا رجا الخلاص وما أرى لكم من خلاص قط وهذا الملك قد انهزم وأخذنا مملكته وخزائنه وما بقي في المدائن أحد غيركم فاتقوا الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 في أنفسكم ولا تهلكوها وسلموا لنا هذا الحصن ولكم الامان إلى أي جهة توجهتم لا يعارضكم منا أحد قال فلما سمعوا قوله قالوا: لا نسلم حتى نهلك عن آخرنا ثم رموا سلمان بالنشاب فقرأ: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً} [الأحزاب:25] وأشار إلى النشاب بيده فذهبت السهام يمينا وشمالا ولم يصبه منها شيء قال فلما رأوا ذلك قالوا: زنهار فبحق ما تشير إليه من أنت قال أنا روزنة وقد عمرت اربعمائة سنة ولحقت آخر ايام عيسى بن مريم وطفت الأرض حتى لحقت بنبي هذه الامة صلى الله عليه وسلم فلما أتيته أكرمني وخدمته فعظمني حتى أنه جعلني من أهل بيته فقال سلمان منا أهل البيت فلما سمعوا قوله وحققوا معرفته علموا أنه كان من عظماء أهل دينهم قال فصقعوا له وقالوا: والله ما نخفي عليك شيئا من أمرنا وسبب قتالنا ليس بسبب مال ولا متاع وإنما الملك قد مضى يريد نهاوند ولم يقدر على أخذ ابنته معه وهي مريضة وقد سلمها الينا فلزمنا من أمرها ما لزم فإن كنتم تعطون الامان عليها سلمنا لكم والا نموت يدا واحدة فلما سمع سلمان منهم ذلك قال دعوا هذه الامر حتى أشاور الأمير ثم عاد وحدث سعدا بما سمعه فقال: يا عبد الله أن المسلمين قد انتشروا في العراق ونخاف أن يقع بهم أحد فلا يبقى عليهم ولكن قل لهم لكم علينا أن نذب عنكم وتكونوا في ذمامنا حتى تجاوزوا أي جهة تريدونها وبعد ذلك لا نضمن لهم ما يأتي عليهم قال فحدثهم سلمان بما قاله الأمير فقال العقلاء منهم لولا أن العرب على حق ما نصروا علينا ومن الرأي أن نرجع إلى دين هؤلاء العرب ونعيش في ظلهم وإن القوم لا يريدون ملكا وقد رأيتم هذا الرجل وما ظهر لكم من كرامته قال ففتحوا باب السر وخرجوا إلى العسكر وأتوا إلى سلمان فأتى بهم إلى سعد وأسلموا على يديه فلما جرى ذلك بكى سعد وقال: اللهم انصر الإسلام وقرأ قوله تعالى وتلك الايام نداولها بين الناس وبعث إلى صاحب الاقباض فأخذ جميع ما في القصر الابيص من الاموال وخزانة الملك فلما قسم الغنائم على المسلمين أعطى أولئك أوفى نصيب وأنزل على واحد منهم في داره فلما رأى أهل البلد ذلك منه وما صنع مع هؤلاء دخل في دين الإسلام منهم ألوف اقتداء بالقوم. قال الواقدي: حدثنا موسى بن عبد الله عن عمرو عن جده يحيى قال بلغنا غير هذا وذلك أن هاشم بن عتبة تبع المنهزمين من جنود الملك فانتهى سيره إلى مرج حلوان فالتقى بكتيبة من أهل فارس بالعدد والسلاح والهوادج والخدم والجواري والمماليك وقد داروا بمحفة من العود الرطب وعليها من الثياب الملونة المذهبة وأهلتها من الذهب مرصعة بالجواهر وقاتلوا دون المحفة قتالا شديدا وكانت المحفة لشاهران ابنة الملك يزدجرد بن كسرى وكان السائر بها ساقر بن هرمز فقتله وقتل اصحابه اكثر ما كان مع ساقر وولى الباقي منهزمين وتسلم هاشم المحفة وما حولها وأتوا بذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 كله إلى سعد وأعلموه بأن ابنة كسرى معهم فقرأ سعد قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} [آل عمران: 26] الآية ثم أشرف سعد على ما بقي من الخزائن فوجد صندوقا عظيما ظاهره وباطنه بالديباج المذهب وفي داخله بساط كسرى وهو البساط الذي كان يفتخر به على الملوك ملوك الدنيا كله ذهب منسوج بالحرير منظوم بالدر واليواقيت الملونة والمعادن والجواهر المثمنة والزمرد وكان طوله ستين ذراعا قطعة واحدة في جانب منه كالصور وفي جانب كالشجر والرياض والازهار وفي جانب كالأرض المزروعة المقبلة بالنبات في الربيع وكل ذلك من الحرير الملون والمعادن على قضبان الذهب والزمرذ والفضة وكان الملك لا يبسطه إلا في أيام الشتاء في ايوانه إذا قعد للشراب وكانوا يسمونه بساط النزهة والمسرات فيكون لهم شبه الروضة الزهراء فلما رآه العرب قالوا: والله هذه قطيفة زينة قال: ولما قسم سعد على الناس الغنائم أصاب الفارس اثنا عشر ألف دينار وكلهم كانوا فرسانا ولم يكن فيهم راجل وأخرج للغائبين مع النساء والحريم في الحيرة نصيبهم وقسم الدور بين الناس وكان قد ولى القبض عمرو بن عمرو المدائني وولى القسمة سليمان بن ربيعة وكان فتح المدائن في شهر صفر وأخرج الخمس لعمر بن الخطاب رضي الله عنه وأراد أن يقسم البساط فلم يدر كيف يقسمه فقال سعد معاشر المجاهدين إني رأيت من الرأي أن نرسله إلى عمر ليصنع فيه ما يختاره فأجابوه على لسان واحد نعم ما رأيت أيها الأمير فردوه إلى صندوقه وأضافه إلى الخمس وكتب إلى عمر رضي الله عنه يقول بسم الله الرحمن الرحيم إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه من عامله على العراق سعد بن أبي وقاص أما بعد فسلام عليك وإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو وأصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم على ما منحنا الله الظفر على العدو الذي أطاع شيطانه وأرخى في ميدان الغي عنانه وقد أجرانا الله سبحانه على جميل العادة وأخذنا الملك من يزدجرد بن كسرى في كثرة أطواده واحتزاز رؤوس أجناده الذين جاست الهيبة ديارهم وضربت الملائكة وجوههم وأدبارهم ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وإن الكافرين لا مولى لهم وقد انهزم عدو الله بعد ما قتلنا جنده وأخذنا ابنته واننا منتظرون أمرك فيما يكون بعد هذا ونحن مقيمون على المدائن والسلام عليك وعلى جميع المسلمين ورحمة الله وبركاته وسلم الكتاب والمال إلى بشر وضم إليه خمسمائة فارس وسلمه ابنة كسرى بمحفتها وخدمها ثم أن سعدا رأى رايا أن يسير بشيرا يبشر عمر بفتح المدائن وبقدوم الخمس وبما انعم الله على المسلمين ليكون أزيد هيبة وبهجة بالفتوح فأرسل جيش بن ماجد الاسدي أو ابن هلال والله أعلم فخرج على ناقته وقصد المدينة يجد السير قال: وكان عمر رضي الله عنه في كل يوم بعد ما يصلي الصبح يقرأ ما تيسر ويركب ناقته ويتوجه نحو طريق العراق ويرتقب ما يرد عليه من أخبار المسلمين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 قال فخرج على حسب العادة وإذا هو بجيش قد اقبل على ناقته فلما رآه عمر قصده وقال له: يا عبد الله من أين أقبلت قال من المدائن يا أمير المؤمنين قال فما عندك من الخبر أقر الله عينك وغفر لنا ولك قال ابشر يا أمير المؤمنين بالفتح العميم والسعد الجسيم وإن الله سبحانه وتعالى قد هزم جند المشركين وقطع دابر القوم المجرمين وأخلى منهم ديارهم وأخفى آثارهم وزعزع مراكبهم وطحطح مواكبهم وكتائبهم وشتت جموعهم وأخلى ربوعهم وقصم آجالهم وفرق أحوالهم وترك مساكنهم خالية وأوطانهم خاوية قال فلما سمع عمر رضي الله عنه هذا المقال حمد الله وأثنى عليه وقال خذلوا من مأمنهم وسار وهو يحدثه بفتح المدائن حتى دخل المسجد وتسامع الناس فأتوا حتى غص المسجد بالناس وأقبل جيش يحدثهم وهم يكثرون الثناء على الله ويصلون على النبي صلى الله عليه وسلم وبعدها وصل بشر بالمال ومعه ابنه الملك كسرى ولباسه وسلاحه وبساطه فلما نظر عمر إلى ذلك قال أن الذي أهدى الينا هذا لأمين فقال علي كرم الله وجهه إنك عففت فعفت الرعية فحمد الله وأثنى عليه وافرز من الخمس سهم من غاب من المسلمين وقسم الخمس في مواضعه ثم قال أشيروا علي فيما أصنع في هذه القطيفة أعني البساط فقالوا: رايك أعلى فقال علي كرم الله وجهه لم يدخل عليك جهل ولا تقبل شكا وإنه ليس لك من الدنيا إلا ما أعطيت فأمضيت ولبست فأبليت وأكلت فأفنيت قال فوالله لقد صدقني يا أبا الحسن ثم إنه قسم البساط قطعا بين الناس قال فأصاب كل رجل منهم قطعة فباعها بنحو العشرين ألف دينار فلما فرغ من توزيعه وتوزيع مال الخمس دعا بمحكم بن رواحة وكان من أجسم أهل المدينة وأجفاهم خلقة فالبسه زي كسرى ووشاحه وتاجه وسواريه ومنطقته وحلاه بحليته وعصابته وسيفه وسلاحه وعدته ونظر الناس إليه كأنه كسرى في ملكه فقال عمر رضي الله عنه اعتبروا بالدنيا وتقلباتها بأهلها وما يرى من مصائبها وعطبها هذا كسرى ما زال يفتخر على ملوك الدنيا بكثرة أمواله وذخائره وجواهره وعزه وجنوده ولم يقدم لنفسه شيئا ينفعه عند الله وغرته الأماني الكاذبة فأخذه الله من مأمنه وبقي مرتهنا بما اكتسب في دينه ودنياه ثم قال: أيها الناس هذا ملك المدائن قد انتقل عن أصحابه وتوزع بين اربابه اين تلك الحشمة والسلطان أين الجنود والاعوان اين الغلمان اين المماليك والخدام أين التاج والاكليل أين الجيش والفيل اين الصاحب والخليل وقرأ قوله تعالى: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} [النساء: 77] ثم قال: أيها الناس من له منكم يد سابقة فليقم فقام عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه فقال أنا يا أمير المؤمنين ابن الصاحب والخليل وابن أول من آمن ووزر وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصر وأنفق ماله وتصدق ودخل معه الغار وانتصر وجاهد بين يديه رجاجج من كفر وجادل وافتخر وأنزل الله فيه: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} [الحديد: 10] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 فقال عمر رضي الله عنه والله لقد صدقت وبقليل من فضله قد نطقت ثم أمر له بخلعة وعشرة آلاف درهم ثم قال: أيها الناس من يقم منكم فقام عثمان بن عفان وقال أنا من جهز جيش العسرة وحفر بئر رومة وألف القرآن وجمعه وختمته في ركعتين وتزوجت الابنتين وصليت إلى القبلتين وأنفقت المال في حبه وأنزل الله في حقي: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} فقال عمر رضي الله عنه أحسنت يا أبا الفتيان فمثلك من رفض الكذب وأبان الحق وأمر له بعشرة آلاف درهم ثم إنه نظر إلى الأخوين الزاهدين والغصنين النضرين سيدي شباب أهل الجنة وريحانتي نبي هذه الامة وقال لهما يا حبيبي ما الذي أخركما من مثلكما يفتخر وقال ألستما سبطي الرسول أليست أمكما فاطمة البتول أليس أبوكما سيف الله المسلول أليس في بيتكما نزل التأويل أليس كان سادسكما تحت العباء جبريل اليس فيكما أنزل الله الجليل: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91] فإن افتخرتما فلكما الفخر البليغ ثم أمر لكل واحد منهما بعشرين ألف درهم فقال علي لله درك يا عمر ومن مثلك تكلم ونشر ومدح أهل البيت وأثنى وذكر خيرا وشكر ثم قال: أيها الناس من كان لأبيه سابقة فليقم. فقام عبد الله بن عمر رضي الله عنه وقال: يا أبت أما أنا ابنك وأنت أبي لك الفضائل والحمد والافتخار في الامة وذلك الوقار والرجاحة والفصاحة والنصاحة نصرت الإسلام والمرسلين واتبعت سنن سيد المرسلين وأنزل في حقك ارحم الراحيمن: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64] وأنت الذي أظهرت الإسلام جهرا وقلت لا يعبد الله سرا فقال عمر يا بني الشقي من يغتر بالدنيا الساحرة والسعيد من يعمل للآخرة وقرأ: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} [فصلت: 46] ثم أمر له بألف درهم فقال: يا أبت انا هجرت وأنفقت ونصرت وزعزعت مواكب الروم وما قصرت وتأمر لي باليسير من مال الله الكثير وتعطي هؤلاء ما أعطيت فقال: يا بني اسلك طريق الانصاف ولا تتبع الاسراف وأنا اقول لك أن كان لك جد كجدهما أعطيتك أو أم كأمهما وفيتك وإن كان لك أب كأبيهما أرضيتك يا بني كل نسب يضمحل يوم القيامة ويخفي إلا نسب البتول ولما فرغ من ذلك أمر بابنة كسرى أن يوقفوها فاوقفت بين يديه وعليها من الحلى والحلل والزينة والجواهر شيء كثير وأمر أن ينادي عليها فقال للمنادي أزل عنها هذا القناع ليزاد في ثمنها فتقدم اليها المنادي ليزيل عنها ذلك فامتنعت وضربته في صدره فغضب عمر وهم أن يعلوها بالدرة وهي تبكي فقال علي كرم الله وجهه مهلا يا أمير المؤمنين فإني سمعت قول رسول الله يقول: "ارحموا عزيز قوم ذل وغني قوم افتقر" فسكن غضب عمر رضي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 الله عنه ونظر اليها فرآها تحدق بالنظر إلى الحسين بن علي رضي الله عنه فقال عمر رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله وإني أرى هذه الجارية تحدق بنظرها إلى الحسين بن علي وما خفى على أنها أرادته من دون الناس أجمعين لانه ليس فينا أصبح وجها منه ثم قال: يا أبا عبد الله خذها هدية مني اليك فشكره علي ومن حضر من المسلمين. قال الواقدي: قال يونس بن عبد الأعلى حين قرأت عليه في المسجد الاقصى في شهر ربيع الاول سنة مائتين وتسعين من الهجرة حدثنا عدنان أن ماجد الغنوي قال لما انهزمت الفرس من المدائن واستولى عليها سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وكان من أمره ما ذكرنا استقر قراره بالقصر الأبيض جلس حيث كانت الاكاسرة تجلس فلبس عند ذلك ثياب النسك والخشوع تسريل سربال الخضوع وعلم أن الدنيا أضغاث أحلام وإن الآخرة هي دار المقام وكلما نظر إلى آثار الأكاسرة وملكهم ازداد يقينا ودينا على دينه وقال: وأنشد عاصم بن عمر في ذلك بعد فتح المدائن يقول: شهدنا بعون الله أفضل مشهد. ... بأكرم من يقوى على كل موكب. ركبنا على الجرد الجياد سوابحا. ... بكل قناة بل بكل مقضب. وكنا بعون الله لا نرعوى إذا. ... تبادر طعن كالغمام المشطب. وكان جهاد قد ملكنا بأمره. ... من الملك مستعلى البناء المذهب. ترانا وانا في الحروب اسودها. ... لنا العزم لا يخفى لكل مجرب. نجول ونحمي والرماح شوارع. ... ونطعن يوم الحرب كل مخبب. قدمنا على كسرى بشدة حربنا. ... وما حربنا في النائبات بمختبي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 ذكر فتوح مدينة نشاور وهي آخر فتوح العجم والعراق قال الواقدي: وكان من قضاء الله وقدره أن ابن كسرى لما انهزم من المدائن مضى إلى حلوان وانضاف إليه كل من وصل إليه من المنهزمين من لأساورة والمرازبة والديلم وغيرهم فقام فيهم خطيبا وذكر زوال ملكه وأسر ابنته وخزائنه وأمواله وبكى وبكت أرباب دولته ثم قال: يا أهل فارس أن الدنيا دنية الفعال سريعة الزوال قريبة الارتحال وهذا ملككم قد زال وعزكم قد حال ودياركم قد سبيت والعرب قد استولت على العراق ولا بد لهم منكم ولا غنى لهم عنكم وستنظرون خيلهم وقد طلبت خراسان والري وهمذان وما بقي لكم جهة تتوجهون اليها إلا بلاد آبائكم وأجدادكم فانتبهوا وانتهزوا الفرصة وأزيلوا الغصة وأدركوا ما بقي من أيامكم ولا ترتدوا على أدباركم وقد بلغني أن الدنوس العادي بن هر بن كيقباذ بن يزدجرد التقى هو والاسكندر بن القليس الرومي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 وما زالا يقاتلان ويقتتلان حتى قتل أحدهما فشمروا أنتم عن ساق الجد ودونكم والقوم هذه الكرة اما لكم واما عليكم فلعل النار والنور ينصرانكم وأنفق فيهم ما كان معه فاستعدوا للقاء وأخذوا على أنفسهم وضربوا خيامهم في مرج حلوان وجاء علماء دينهم وأوقدوا لهم النار وقربوا لها القربان وتحالفوا أن لا ينهزموا ولو ماتوا عن آخرهم قال: ومضت نساؤهم وبنات ملوكهم وأبطالهم الذين قتلوا في الثياب ملطخات بالدماء وهن يستفززن الجيوش والعساكر من بلاد العجم وغيرها قال: وإن الحجاب والمرازبة والاساورة تعاهدوا على أن لا يفروا أو يموتوا عن آخرهم. قال الواقدي: حدثني محمد بن عاصم بالكوفة بعد ما أخذها المسلمون قال لما فتحت المدائن واتخذها المسلمون وطنا فما كان دأبهم إلا أن يحفروا دور الفرس ويخرجوا خباياهم وأموالهم قال عبد الله بن حجفة حضرت العرب وقد أخرجوا من ازاء القصر الابيض من مصنع هناك للفرس الاكاسرة تمثالا من الذهب على صفة الفارس وقد سكبوا عليه الماء حتى غار في الأرض وكانت ملوك الفرس يفتخرون بذلك على سائر الملوك فوالله لو قسم ذلك على عرب بكر بن وائل لكان يسد منهم مسدا وجاءت عيون المسلمين إلى سعد وأخبروه بما فعل القوم واجتماعهم في مرج حلوان في مائة ألف وقد وجهوا أثقالهم وما يعز عليهم إلى الجبل وهم يطلبون لقاءكم قال: واجتمع المسلمون في الايوان وقالوا: أيها الأمير أن العدو قد اجتمعوا بمرج حلوان وتعاهدوا على أن لا ينهزموا أبدا ويموتوا عن دم واحد يرويدن مدائنهم قال فكتب سعد إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعلمه بذلك ويقول له أن أهل الموصل قد مات ملكهم الانطاق وقد تولى عليهم الشكان بن قالوص وارتدوا عن صلحنا وعول ملكهم على أن يكون عونا لاهل فارس علينا والسلام عليك وعلى جميع المسلمين ورحمة الله وبركاته فلما وصل الكتاب على عمر أرسل يقول له يا سعد اعلم أن الله منجز وعده وبعث إليه هاشم بن عتبة في اثنى عشر ألف فارس من المهاجرين والانصار ألفان والبقية من العرب. قال: وإن ابن كسرى لما حصن حريمه وأمواله في الجبل أمر على عسكره مهران الداري ووصاه وسار مهران بالعسكر فركب معه ابن كسرى مقدار ميل وودعه ورجع إلى حلوان والمدد يأتي إليه من سائر بلاد العجم قال: ووصل مهران إلى مدينة نشاور ونزل بها في دار الولاية واقام بها فلما كان الغد ركب في وجوه قومه ودار بهم على اسوارها وأبوابها وأمر بتحصينها في علو سورها ونصب آلات الحصار بالعرادات والمجانيق وحفر خندقا عميقا وصنع حسكا من الحديد وجعله حول المدينة والخندق وما خلى من أهل البلد صغيرا ولا كبيرا حتى استعمله في السور والخندق وادخر القوت وعلف الخيل وما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 يحتاجه للحصار واستوثق من أهل البلد الكبير والصغير منهم وأخذ رهائنهم وحلفهم على أن لا ينهزموا أبدا قال فلما اتفق ذلك كله اقام ينتظر قدوم المسلمين قال: وأما هاشم بن عتبة فإنه سار في اثني عشر ألف مجاهد حتى أشرف على مدينة نشاور فوجدها محصنة بالعدد والعدو قد أظهر الزينة والسلاح على الابراج بالدروع والجواشن والمجانيق والعرادات والبيارق والاعلام ووضعوا في أركان المدينة على الابراج قباب حديدج ليضرموا فيها النار ويستنجدوا لها ويستنصروا بها على العرب فلما أشرف عليهم عسكر هاشم بن عتبة ضجوا بكلمة كفرهم واشاروا إلى الشمس والنيران يسجدون لهما قال: والأرض ترتج من تحتهم والسماء ترعد من فوقهم والاكوان تسترجع وتصيح في هلاكهم فنودوا من قبل الله أن اسكنوا عن اضطرابكم فأنا الحليم الذي لا أعجل على من عصاني ولا أخيب من دعاني أنا الذي تسبح لي السموات ومن فيها والارضون بنواحيها وقد سبق في علمي أن أطهر هذه الأرض من الارجاس وأبدلها بمن قلت فيهم كنتم خير أمة أخرجت للناس أنا الذي أمهل ولا أهمل وعزتي وجلالي لأطهرن هذه الأرض من الكفرة الملحدين والفئة المفارقين ولأبدلن بيوت النار بمساجد ذكر فيها آناء الليل وأطراف النهار يعمرها رجال قد أحسنوال الظنون وذكرتهم في الكتاب المكنون: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الانبياء:105] . قال الواقدي: حدثنا عمرو بن ربيعة الشيباني قال أخبرنا أحمد الطويل قال لما نزل هاشم بن عتبة على مدينة نشاور بمن معه من المسلمين لم يلتفتوا إليهم ولم يكترثوا بهم وأروهم التجلد والشدة وجعلوا يطاولونهم ولا يخرجون إليهم فصعب ذلك على المسلمين والمدد واصل إليهم من عند يزدجرد بن كسرى فاشتدت قلوب أعداء الله فقالوا لمهران الداري: أيها الصاحب ما الذي تنتظر بنا في قعودنا ومقامنا من وراء السور وقد اشتقنا إلى القتال فاخرج بنا إلى هؤلاء القوم فقد ضاقت صدورنا وضاقت بنا المدينة وهذه الشمس المنيرة تنصرنا وتظفرنا على أعدائنا وكذلك النار والنور فلما رآهم معولين على القتال أمرهم بالخروج وجعل على خيله جوزان بن جهران وأمره أن يزحف بالجيش فلما فتح باب المدينة وخرج الفرس فرح المسلمون بذلك وتبادروا إليهم بأسرار صافية وهمم وافية يطلبون القتال في مرضاة الله ذي الجلال وأنفسهم لذلك مستبشرة نازحة وهممهم إلى الحرب مسرعة فادحة وقد سئموا من سكنى دار الغرور واشتاقوا إلى سكنى القصور ومعانقة الحور وقالوا: الهنا قد سئمنا من هذه الدار واشتقنا إلى دار القرار ومجاورة المختار فانجزنا ما وعدتنا وسامحنا إذا توفيتنا وأجرنا من عذاب النار واحشرنا مع الكرام الابرار الذين قلت في حقهم: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 23, 24] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 قال: ولما ركب المسلمون جعل على مقدمة الخيل طلحة بن خويلد وبقي هاشم على الساقة فقال: أيها الناس والله لا تنال الجنة إلا بحسن الاعمال فاتركوا من قلوبكم الميل إلى دار اللهو والاهوال والمقام في دار الزوال جاهدوا لتدخلوا جنة عرضها السموات والأرض فهذه نار الحرب قد فاض تيارها وعلا دخانها وصفقت أمواجها وبدا فجاجها فاركبوا فيها سفينة النجاة والانجاد واقطعوا بشراع الاجتهاد هذا الطريق وانشرونا أعلام الصدق قال: وقد اصطفت عساكر العجم ودقت بوقاتها ونشرت ازدهاراتها فهم كذلك إذ أقبل عليهم ملك الري في اثني عشر ألف فارس فلما رأى هاشم ذلك قال: يا فتيان العرب لا تنظروا إلى كثرتهم وقلتكم فقد كان المصطفى صلى الله عليه وسلم يوم بدر في ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا وخذل الكافرين وقد كانت قريش في حدها وحديدها وعددها وعديدها ونصر الله نبيه ورسوله قال الله تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249] وإذا بالخيل قد حملت عليهم كأنهم السيل فقال هاشم أخلصوا النيات ولا تولوا الأدبار واعلموا أنه قد تولى عليكم الجبار قال: وأطبق الناس بعضهم ببعض وساروا بين البسط والقبض وازدحمت الامم وقامت الحرب على قدم وقاتلت أبطال العجم وضربت بحرابها ورمت بصفاحها وفوقت بسامها وأظلم الجو من الغبرة في تلك الآفاق واعتمدوا على الضرب بالاسياف الرقاق وطعنت العرب بالرماح الدقاق وقلعت عرب اليمن بنبالها الاحداق ودنت الاعمار إلى المحاق وبلغت الارواح التراق وعز الانين والزعاق وصبرت الاعاجم على ما لا يطاق وسقاهم العرب من أسنة رماحهم كأس الفراق ولم يزالوا في القتال إلى أن ذهبت الانوار وجاء الليل ومضى نور النهار وفي آخر يوم قدم القعقاع بن عمرو ومعه اثنا عشر ألف فارس فقويت قلوب المسلمين بقدوم عساكر الموحدين وأعلنوا بكلمة التوحيد فدوت من أصواتهم الجبال والتلال والرمال والحجر والشجر فلما سمع أعداء الله ما نطقوا به ارتعدت فرائصهم فاستقبلوهم بنيات صادقة وهمم متوافقة وأعلنوا بذكر كلمة الحق والصلاة على سيد الخلق فبذلوا صوارمهم في الاعداء وأوردهم شراب الردى وقصدوا نحو أعدائهم وطلبوا بجهادهم منازل الجنة وطلقوا الدنيا بتاتا وعلموا أنهم يصيرون أمواتا وصاروا بعد الالفة أشتاتا فوقعت الهزيمة على عسكر العجم وحمل المسلمون في آثارهم وخذلهم الله فقتلوا من قتلوا واسروا من أسروا وهرب الباقون واخذ المسلمون مدينة نشاور وغنموا ما فيها من الاموال وكان شيئا لا يقع عليه حصر وأقاموا فيها وبنوا الجامع وذكروا الله فيه ذكرا كثيرا وأكمل الله لهم فتوح العراق وكتبوا بذلك كتابا إلى أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب رضي الله عنه يعلمونه بذلك وبعثوا الخمس فوصل ذلك إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فسر بذلك سرورا عظيما فحمد الله تعالى كثيرا وسرت المسلمون سرورا زائدا على ما فتح من بلاد كسرى وأعمالها على يد سعد بن وقاص واستوطنوا البلاد رضي الله عنهم أجمعين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 ذكر فتوح البهنسا وأهناس وأعمالها وفضائل جبانتها بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم اعلم وفقك الله أن مدينة البهنسا ذكر بعض المفسرين أن الله سبحانه وتعالى ذكرها في كتابه العزيز بقوله عز وجل في حق عيسى عليه السلام: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} [المؤمنون:50] قال هي أرض البهنسا وكان من أمر عيسى عليه السلام ما سنذكره أن شاء الله تعالى واستشهد بها زهاء من خمسة آلاف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم من الأعيان والأمراء زهاء من أربعمائة ويتبعهم من الاشراف والصحابة نفر كثير منهم على بن عقيل بن أبي طالب والحسن بن صالح بن الحسين بن علي بن أبي طالب الذي عمر جامعا بها وكان من أمره ما سنذكره أن شاء الله تعالى وزياد بن أبي سفيان بن الحرث بن عبد المطلب والفضل بن العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنذكر من استشهد من الصحابة الاعيان بها أن شاء الله تعالى عند الفتوح وابنائهم وجماعة كثيرة وذكر جماعة من السادات الاخيار أن من زار جبانة البهنسا خاض في الرحمة حتى يعود ومن زارها خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه وإنه لا يزورها مهموم إلا فرج الله همه ولا مغموم إلا أذهب الله غمه ولا صاحب حاجه إلا قضيت باذن الله عز وجل والاماكن المستجاب فيها الدعاء منها عند مجرى الحصى ومقطع السيل وإن هناك خلقا كثيرا من الشهداء ومشهد الحسن بن صالح بن الحسين بن علي بن أبي طالب وعند قبر زياد بن أبي سفيان بن الحرث وعند قبر عبد الرزاق من داخل الباب وعند معبد عيسى بن مريم عليهما السلام وعند قبور الشهداء بسفح الجبل وقبليها مكان يعرف بالمراغة قبل الجبانة عندها قبور الشهداء هناك بسفح الجبل. روى جماعة من الصالحين أنهم قد جاوروا الجبانة المذكورة وكانوا من أرض المشرق وجماعة من أكابر الصالحين من أرض المغرب من أقصى الاندلس وانهم رأوا هذه الفضائل وبانت لهم فضائل وأنوار وشاهدوا ذلك عيانا وروى أصحاب التاريخ رضي الله عنهم أنه لم يكن بأرض مصر من البحيرة مشهد أكثر من أرض البهنسا وإن مجرى الحصى عند منقطع السيل من الجهة الغربية قتل هناك خلق كثير واستشهد بها أربعمائة رضي الله عنهم أجمعين وسنذكر ذلك عند الفتح أن شاء الله تعالى أما فضائل البحر اليوسفي الذي المدينة على جانبه فهو أكثر عجائب منها أنه غزير البركة لانه يفيض حتى يروي ماحوله من القرى والبلدان مع قليل من زيادة النيل ومنها أنه إذا زاد النيل شيئا قليلا يزاد فيه شيء كثير ومنها أنه إذا انقطع عنه مدد النيل تفجرت من أصله عيون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 فصارت نهرا جاريا وهذا لا يوجد بغيره أبدا من الانهار ومنها أنه ينقسم بأرض الفيوم ماء يسير فيروي زراعات وأراضي شتى وضياعا وهذا لا يوجد لغيره أبدا ومنها أنه دفن فيه يوسف الصديق عليه السلام وأقام إلى زمن موسى عليه السلام فازداد بذلك بركة ومنها أنه شقه جبريل عليه السلام بخافقه من جناحه بأمر الله عز وجل للسيد يوسف عليه السلام وحسدهم العمالقة على ذلك وقد ذكرت الرواة أنه كان بين يوسف عليه السلام وبين صاحب مصر كلام بعد فراغ السنين المجدبة فإنه لما اجتمعت بنو اسرائيل عند يوسف عليه السلام وحسدهم العمالقة على ذلك ذكروا ذلك لملك مصر. فقال ملك مصر يا يوسف رد علي ملكي فاجتمع رايهم على الفرقة والقسمة فقسمت الأرض أي أرض مصر فوقع الجانب الغربي ليوسف عليه السلام وكان قفرا رمالا وتلالا فأراد أن يجري له نهرا من النيل فجمع له مائة الف عبد ودفع لهم المساحى والزنابيل وأمرهم أن يحفروا من الجهة القبلية عند فمه الآن فحفروا ثلاث سنين وقد أجرى لهم مؤنة من خزائنه فكان كلما جاء الليل سد ما حفروا ففعل من الجهة الشرقية كذلك إلى سبع سنين حتى اعياه ذلك وقلق قلقا شديدا فاوحى الله إليه يا يوسف قد استعنت برجالك ومالك ولم تستعن بي وعزتي وجلالي لو استعنت بي لحفرته لك في أقل من طرفة عين فخر ساجدا لله تعالى وهو يقول سبحانك ما أعظم شأنك وأعز سلطانك ثم قام من سجوده ونزع أثوابه واغتسل ولبس المسوح وخرج إلى الربوة وخر ساجدا متضرعا إلى الله تعالى فأوحى الله إليه أرفع رأسك فقد قضيت حاجتك ثم أمر الله سبحانه وتعالى جبريل عليه السلام فخرقه بخافقه من جناحه وقال بعضهم بطرف ريشة من جناحه من فمه من الجهة القبلية إلى آخر الفيوم في اقل من طرفة عين بقدرة الله تعالى فعمر يوسف عليه السلام قناطر وبنى مدينة الفيوم وقسم الأرض بينه وبين اخوته وبنيه فكانت أرض البهنسا لأفراثيم بن يوسف فشرع في عمارتها وقطعت الاحجار وعمرت الاسوار والقناطر وكان النهر يجري من وسطها من الجهة القبلية ثم يخرج من الجهة البحرية إلى زمن الإسلام وسنذكر ذلك في الفتح أن شاء الله تعالى وكان لها من الابراج والرساتيق ما لا يوصف وسكنها جماعة من بني اسرائيل واتخذوا دورا ومساكن وذلك جميعه غربي مصر وأرض البهنسا إلى آخر الصعيد من الجهة الغربية كلها مختصة ببني اسرائيل لا يشاركهم فيها أحد غيرهم وجعل يوسف عليه السلام هؤلاء العبيد خولة فلاحين وزراعا بأرض البهنسا والفيوم وغيرها وشرع في عمارتها وغرست فيها الاشجار على جانب البحر اليوسفي من الجهة الشرقية والغربية وكانت المرأة تخرج بمكتلها ومغزلها في يدها والمكتل على رأسها فلا ترجع إلا وقد امتلأ من جميع الثمار من غير أن تمس شيئا بيدها فلما عصت بنو اسرائيل وجحدوا نعمة الله عز وجل وعملوا المعاصي نزع الله تلك النعمة من أيديهم وأعطاها لغيرهم فاحتووا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 على الملك دونهم بجحودهم نعمة الله وقتلهم أنبياء الله الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر حتى اتخذوهم أذلة بعد أن كانوا سادات واستعملوهم خولة وفعلة وبنائين وحجارين ونجارين واستخدموا نساءهم وأبناءهم ولم يزل بنو اسرائيل في أضيق عيش وأعظم بلاء وأشد كربة وأعظم بلية من تكليف ما لا يطيقون حتى أنقذهم الله عز وجل بمبعث موسى عليه السلام وليس هذا الكتاب مختصا بذلك واحتووا على المدائن والمزارع والبساتين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 ذكر خروج عيسى عليه السلام من مصر واقامته بأرض البهنسا قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} [المؤمنون:50] الآية وتقدم أنها البهنسا على اختلاف المفسرين قال أصحاب التواريخ وهم المسعودي وأبو جعفر الطبراني والواقدي وابن اسحق وابن هشام وأصحاب السير وأهل التفسير مثل سعيد بن جبير وسعيد ابن المسيب وابن عباس ومن تكلم في هذا الكتاب العجيب الذي لو كتب بالذهب لكان قليلا وقد جمع فيه كتب كثيرة وتواريخ وتفاسير وفتوحات قالوا: كان مولد عيسى لمضي اثنتين وأربعين سنة من ملوك الطوائف وكانت الرياسة بالشام ونواحيها لقصير ملك الروم وهرقل كما تقدم في فتوح الشام وكان بالبهنسا قنطاريوس والله أعلم باسمه فلما سمع الملك هيردوس بخبر المسيح قصد قتله وذلك أنهم نظروا إلى نجمه وقد طلع فعرفوا ذلك بحساب لهم في كتاب لهم فبعث الله ملكا إلى يوسف النجار وأخبره بما اراد هيردوس وإن يعلم مريم أن تخرج إلى أرض مصر فإنه أن ظفر بولدك قتله فإذا مات هيردوس فارجعي إلى بلادك فاحتمل يوسف مريم وابنها عيسى على حمار له حتى دخل مصر وورد أرض البهنسا وهي الربوة التي ذكرها الله في كتابه العزيز وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين وهناك بئر في المعبد يستشفون بمائها من الأمراض وهي التي كانت مريم وابنها يستقيان منها ويتوضأن منها للصلاة وكان هناك سرب تحت الأرض قيل أن مريم لما دخلت بولدها أرض البهنسا وجدا بئرا وليس عليها رشاء فطلب عيسى عليه السلام الماء ليشرب بعد أن عطش عطشا شديدا وبكى فحزنت أمه فارتفع الماء من قعر البئر حتى شرب منه وهي من ذلك اليوم تزيد ويعرف منها زيادة النيل فجعل النصارى لها عيدا إلى يومنا هذا وهناك دير وزراعات والله أعلم ثم دخل مدينة البهنسا واقام بها اثنتي عشر سنة وأمه تغزل الكتان وتلتقط السنبل في أثر الحصادين حتى تم لعيسى المدة المذكورة. روى محمد الباقر قال لما جاء عيسى إلى البهنسا وهو مع أمه له ابن شهرين كأنه ابن سنتين فلما كمل تسعة أشهر أخذته والدته وجاءت به إلى الكتاب بأرض البهنسا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 فأقعده المؤدب بين يديه وقال له: قل بسم الله الرحمن الرحيم فقال عيسى بسم الله الرحمن الرحيم فقال له المؤدب: قل أبجد فرفع عيسى طرفه وقال أتدري ما أبجد فعلاه المؤدب بالدرة ليضربه فقال له: يا مؤدب لا تضربني أن كنت لا تدري فاسألني حتى أعرفك فقال قل لي فقال انزل من على مرتبتك فنزل من على مرتبته وجلس عيسى مكانه ثم قال الألف آلاء الله والباء بهاء الله والجيم جلال الله والدال دين الله والهاء هوية جهنم وهي الهاوية والواو ويل لأهلها والزاي زفير جهنم والحاء حطت الخطايا عن المستغفرين والكاف كلام الله لا مبدل لكلماته والصاد صاع بصاع والقاف قرب حيات جهنم من العاصين فقال لها المؤدب خذي بيد ابنك فقد علمه الله تعالى فلا حاجة له بالمؤدب. حدثنا الحسين ومحمد بن الحسن المقري قال: حدثنا الحكيم محمد بن أحمد بن حمدون قال: حدثنا محمد بن حمدون بن خالد قال: حدثنا الحكم بن نافع عن اسمعيل عن ابن أبي مليكة عن عطية عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن عيسى عليه السلام ارسلته امه إلى المكتب ليتعلم فقال له المعلم: قل بسم الله الرحمن الرحيم فقال عيسى عليه السلام وما بسم الله الرحمن الرحيم فقال المعلم لا أدري فقال عيسى الباء بهاء الله والسين سناء الله والميم ملك الله" إلى آخر ما جاء من الآيات والمعجزات التي ظهرت لعيسى عليه السلام بأرض البهنسا قال وهب: كان أول آية أراها عيسى عليه السلام بمدينة البهنسا للناس في صغره أن أمه كانت نازلة في دار بالبهنسا من أرض مصر عند دهقان من دهاقنة الملك أنزلها فيها يوسف النجار عنده حين أتى بها من أرض الشام إلى مصر وكانت داره مأوى المساكين فسرق للدهقان مال جزيل من خزانته وكان الدهقان من أخصاء الملك صاحب البهنسا ولم يتهم المساكين فحزنت مريم على مصيبة الدهقان صاحب ضيافتها فلما رأى عيسى عليه السلام حزن أمه قال: يا أماه أتحبين أن أدلك على ماله قالت نعم قال قولي له يجمع المساكين الذين كانوا في جاره فقالت مريم للدهقان ذلك فجمع المساكين الذين كانوا في داره فلما اجتمعوا أتى إلى رجلين منهم أحدهما أعمى والآخر مقعد فجعل المعقد على كاهل الاعمى وقال له: قم به فقال له الاعمى: إني ضعيف عن ذلك فقال له: كيف قويت على ذلك البارحة فلما سمعوه يقول ذلك ضربوا الاعمى حتى قام به فلما استوى قائما وهو حامله أوصله إلى كوة الخزانة فقال عيسى عليه السلام هكذا أخذ مالك البارحة لأن الاعمى استعان بقوته والمقعد بعينه فقال الاعمى والمقعد صدقت فردا على الدهقان ماله فوضعه الدهقان في خزانته وقال: يا مريم خذي نصفه فقالت إني لم أخلق لذلك ثم قال الدهقان أعطيه لابنك قالت هو أعظم مني شأنا ثم لم يلبث الدهقان إلا قليلا وعمل لولده عرسا فجمع إليه أهل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 المدينة كلهم فكان يطعمهم شهرين فلما انقضى ذلك زارته أكابر البلاد وملوكها وليس عنده طعام ولا شراب ولا ادام فلما اجتمعوا أمر عيسى عليه السلام بجرار الخمر الفارغة أن تملأ ماء ثم مر بيده على أفواهها وهو يمشي فكلما مرت يده على جرة امتلأت شرابا هذا وهو ابن اثنتي عشرة سنة فازدادت أهل البهنسا فيه اعتقادا ومن حولها من المدائن والقرى والسواد من أرض مصر وله آية أخرى بأرض البهنسا. قال السدى كان عيسى عليه السلام يحدث الصبيان في المكتب بما تصنع آباؤهم ويقول للغلام انطلق فقد أكل أهلك كذا وكذا فينطلق الصبي إلى أهله ويبكي عليهم حتى يعطوه شيئا فيقولون له من أخبرك بهذا فيقول عيسى فحبسوا أولادهم أي أهل البهنسا عنه وقالوا لهم: لا تلعبوا مع هذا الساحر فجمعوهم في مكان فجاء عيسى عليه السلام يطلبهم فقالوا: ليس هنا أحد فقال: ما في هذا البيت قالوا: خنازير قال عيسى كذلك يكونون أن شاء الله تعالى ففتحوا عليهم الباب فوجدوهم خنازير ففشا ذلك في الناس وهابه الناس قال السدى لما نزل عيسى عليه السلام بأرض البهنسا نزل في قرية من قراها على رجل فأضافهم وكان للملك خباز فجاء ذلك الرجل ذات يوم وهو مغتم حزين فدخل بيته ومريم عند زوجته فقالت لها مريم ما شأن زوجك أراه كئيبا قالت لا تسأليني فقالت لها أخبريني لعل الله أن يفرج عنك قالت لها أن ملك البهنسا إذا خرج من مدينته يجعل على كبير كل قرية يوما يطعمه ويسقيه الخمر فإن لم يفعل ذلك عاقبه واليوم علينا وليس عندنا سعة قالت مريم قولي له لا يهتم فإني آمر ابني أن يدعو له فيكفي ذلك فذكرت مريم ذلك لعيسى عليه السلام فقال عيسى عليه السلام أن فعلت ذلك يقع شيء فقالت له أمه: لا تبال فإنه أحسن الينا وأكرمنا. فقال عيسى قولي له إذا قرب الملك فاملا قدورك وخوابيك ماء ثم اعلميني ففعل ذلك وإذا بالملك قد أقبل فارتجت الأرض من الطبور والزمور والصناجق وأقبلت العساكر فدعا عيسى عليه السلام ربه عز وجل فتحول ماء القدور لحما وطعاما ملونا وماء الخوابي خمرا لم ير الناس مثلها قط فلما أكل الملك ذلك الطعام وشرب سأل الدهقان من أين لك هذا الخمر قال من أرض الفيوم فلم يصدقه وقال للدهقان أنه يأتيني منها الخمر والعنب لعصره وليس يساوي هذا فقال من أرض أخرى فلما خلط عليه الكلام أنكر عليه فقال أنا أخبرك عندي غلام لا يسأل الله شيئا إلا أعطاه وإنه دعا الله تعالى حتى جعل الماء خمرا وكان للملك ولد يريد أن يستخلفه فمات قبل ذلك بايام وكان أحب الخلق إليه فقال أن كان كلامك صدقا فليدع ربه أن يحيي لي ولدي فدعا عيسى وأعلمه بذلك قال أفعل لكنه أن عاش وقع شيء كثير فقال الملك لا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 202 أبالي بعد أن أراه فقال عيسى أن فعلت ذلك اتتركوني أنا وأمي نمضي حيث جئنا قال الملك نعم فدعا الله تعالى فاحيا الغلام فلما رآه أهل المملكة قد عاش تبادروا بالسلاح وقالوا: أكل أموالنا هذا الملك بظلمه حتى إذا دنا موته يريد أن يستخلف علينا ابنه فيأكلنا كما أكلنا أبوه فاقتلوهما فذهب عيسى وأمه والآيات في ذلك كثيرة يطول شرحها ذكرها أبو اسحق الثعلبي في عرائسه والله تعالى أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 ذكر فتح البهنسا وما فيه من الفضائل وما وقع فيه للصحابة رضي الله عنهم قالت الرواة بأسانيد صحيحة عمن حضر الفتح من أصحاب السير والتواريخ مثل الواقدي وأبي جعفر الطبراني وابن خلكان في تاريخ البداية والنهاية ومحمد بن اسحق وابن هشام وكل منهم دخل حديثه الآخر لما في ذلك من اختلاف الرواة ممن حضر الفتوحات وشاهد الوقعات من الصحابة رضي الله عنهم قالوا: وحضر ذلك معظم الصحابة وكبراؤهم مثل عبد الله بن عمرو ابن العاص أمير الجيوش على مصر وأخيه محمد وخالد بن الوليد وابنه سليمان وقيس بن هبيرة المرادي والمقداد بن الأسود الكندي وميسرة بن مسروق العبسي والزبير بن العوام الاسدي وابنه عبد الله وضرار بن الازور ومن بني عم النبي صلى الله عليه وسلم مثل الفضل بن العباس وجعفر بن عقيل ومسلم بن عقيل وعبد الله بن جعفر ومن أبناء الخلفاء مثل عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وعبد الله بن عمر بن الخطاب وأبان بن عثمان رضي الله عنهم وقد اختصرنا في أسمائهم خوف الاطالة وكلهم حدثوا بما عاينوا من الفتوح وما شاهدوا من الوقعات وحدثوا بذلك ابناءهم رضي الله عنهم وقد أخذنا هذه الفتوح على قاعدة الصدق لاثبات فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم إذ لولاهم ما كانت البلاد للمسلمين ولا انتشر علم هذا الدين ولقد نفذت سراياهم في الأرض شرقا وغربا حتى ولت الاعداء منهم هربا وسكبوا دماءهم في الأرض سكبا واستباحوا أموال الكفار نهبا وسلبا والله قد جعل منهم في قلوب أعدائه خوفا ورعبا فهم نجوم الهداية وأهل الولاية قد شرعوا الشرائع ورتلوا القرآن ترتيلا قال الله في حقهم تعظيما وتبجيلا: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب: 23] . قال: حدثنا ابو عبد الله محمد بن المحدث المصري غفر الله له اطلعت على فتوحات كثيرة فوجدت فيها زيادة ونقصانا وكذلك تواريخ منقولة وكنت قدمت المدينة يعني البهنسا لزيارة جبانتها لما رأيت في ذلك من الفضائل والفضل والاجر والخير والحبور فإن زيارتها تمحص الذنوب وتكشف الكروب وتحسن الاخلاق وتدر الأرزاق وتورث النصر على الاعداء وتكفي البأس والردى لما فيها من السادات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 الشهداء ممن باع نفسه لله وقتل في سبيل الله ابتغاء مرضاة الله ممن قال في حقهم من له الفضل والمنة: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111] فهم أحياء عند ربهم يرزقون فزرنا الجبانة في ساعة الأسحار ورأينا ما فيها من الانوار وبزيارة قبور السادة والأخيار نرجو من الله أن يحط عنا الذنوب والأوزار فلما قضينا الزيارة ولاحت لنا تلك الاشارة أخبرنا عن تلك السادة الامجاد وما كان لهم من الصبر على الغزو والجهاد فسألني بعض الاصحاب عن سبب فتح مدينة البهنسا ليدفع البأس والردى فحرك لذلك خاطري حتى أسهرت لذلك ناظري وطالعت التواريخ والفتوحات وتجنبت المزاحات حتى انتخبت هذا الكتاب فهو كالدرة اليتيمة التي لا يعرف لها قيمة ترتاح عند سماعه النفوس ويزول لهم والبؤس ويشجع على الجهاد ويعين على اقامة العدل في البلاد ابتغاء لوجه الله الكريم راغبا في ثواب الله العميم وذلك بعد الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وخاتم النبيين ونحن نبتدىء. بسم الله الرحمن الرحيم قال: حدثني من أثق به من الرواة ممن تقدم ذكرهم قال لما فتح عمر بن الخطاب رضي الله عنه مصر والاسكندرية والبحيرة والوجه البحري كله جميعا كان بالصعيد نوبة وبربر وديلم وصقالبة وروم وقبط وكانت الغلبة للروم كان أكثرهم روما ثم استشار عمرو بن العاس اصحابه أي جهة يقصد وهل يسير بالجيوش شرقا أو غربا وما يصنع فاشاروا عليه بمكاتبة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فكتب إليه يقول بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمرو بن العاص عامل أمير المؤمنين على مصر ونواحيها إلى عبد الله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه سلام عليك ورحمة الله وبركاته أما بعد فإني أحمد الله واثني عليه واصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم والسلام على من بالمدينة من المهاجرين والانصار والحمد لله قد فتحت لنا مصر والوجه البحري والاسكندرية ودمياط ولم يبق في الوجه البحري مدينة ولا قرية إلا وقد فتحت وأذل الله المشركين وأعلى كلمة الدين وقد اجتمعت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من السادات والأمراء والاخيار المهاجرين والانصار يطلبون الاذن من أمير المؤمنين هل يسيرون إلى الصعيد أو إلى الغرب والامر أمرك يا أمير المؤمنين فإنهم على الجهاد قلقون وباعوا نفوسهم لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى إله وصحبه اجمعين وسلم وكتب هذه الابيات: صوارمنا تشكو الظمأ في اكفنا. ... وأرحامنا تشكو القطيعة كالهجر. اليك افتقاد الحرب يا طيب الثنا. ... ويامن أقام الدين بالعز والنصر. فقد ولعت خير الكرام إلى العدا. ... بنوشيبة الحمد السري وبنو فهر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 وصالت لؤي مع معد وغالب. ... وسادات مخزوم الكرام ذوي المفخر. تروم مسيرا للأعادي على شفا. ... تمكن من أعلاهم البيض كالسمر. ترى كل علج عائص في دلاصه. ... تجعجع في نقع تأجج كالحمر. بكل كميت صادق الوعد صائل. ... يرى درعه الزاهي تمكن بالصبر. نرى الموت في وقع الوقائع مغنما. ... ونكسب من قتل العدا غاية الأجر. قال الواقدي: فلما فرغ عمرو بن العاص من الكتاب عرضه على أصحابه ثم طوى الكتاب وختمه واستدعى برجل يقال له سالم بن بجيعة الكندي وسلم إليه الكتاب ودفع له ناقة عشارية فاستوى على كورها وخرج يريد المدينة وهو يقول: أسير إلى المدينة في أمان. ... وأرجو الفوز في غرف الجنان. وأرجو أن يقرب لي اجتماعي. ... وأعطي ما أريد من الاماني. إلا يا ناقتي جدي وسيري. ... إلى نحو النبي بلا امتهان. وأقرئيه السلام وأنشديه. ... كلاما صادقا حسن البيان. إلا يا أشرف الثقلين يا من. ... به شرف المدينة والمكان. فكن لي في المعاد غدا شفيعا. ... إذا ما قيل هذا العبد عاني. قال الواقدي: ولم يزل سائرا ليلا ونهارا حتى قدم المدينة الطيبة الأمينة بعد صلاة العصر فدخل وأناخ ناقته على باب المسجد وعقلها بفضل ذمامها ودخل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم على قبره الشريف وصلى ركعتين بين القبر والمنبر ثم تقدم فوجد عمر بن الخطاب فسلم عليه قال فرد علي السلام وصافحني وكان لما رآني أقبلت وأنا فرحان قال سالم جاء بكتاب من مصر مرحبا به ثم التفت وعن يمينه علي بن أبي طالب وعن شماله عثمان بن عفان وحوله من السادات والمهاجرين والانصار مثل العباس بن عبد المطلب وعبد الرحمن بن عوف وسعيد بن زيد وطلحة بن عبد الله وبقية الصحابة رضي الله عنه حوله ثم ناولته الكتاب فقال: ما وراءك يا سالم فأنت سالم في الدنيا والآخرة أن شاء الله تعالى فقلت الخير والبشرى والأمن يا أمير المؤمنين فلما قرأ الكتاب فرح واستبشر وكانت تلك الغنائم قد وصلت إلى المدينة قبل ذلك بأيام وقسمت على الصحابة رضي الله عنهم ثم إنه استشار عمر رضي الله عنه علي ابن أبي طالب رضي الله عنه ومن حضر فاشار عليه علي بن أبي طالب أن عمرو بن العاص لا يسير بنفسه ليكون أهيب له في قلوب أعدائه وإن يجهز جيشا عشرة آلاف فارس ويؤمر عليهم خالد بن الوليد رضي الله عنه فإنه سيف الله فقال عمر صدقت وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خالد سيف الله تعالى" وفي رواية: "أن خالدا سيف لا يغمد عن أعدائه" ثم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 بات سالم تلك اليلة فلما اصبح صلى الصبح في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أقبل على أمير المؤمنين عمر يساله الجواب فعندها استدعى عمر رضي الله عنه بداوة وقرطاس ثم كتب كتابا يقول فيه بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر بن الخطاب إلى عامله على مصر ونواحيها عمرو بن العاص سلام عليك ورحمة الله وبركاته أما بعد فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو واصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم والسلام عليك وعلى من معك من المهاجرين والانصار ورحمة الله وبركاته وقد قرأت كتابك وفهمت خطابك فإذا قرأت كتابي هذا فاستعن بالله واربط الخيل وارسل الأمراء لكل بلد أمير ليقيموا شرائع الدين ويعلموا الاحكام. ثم انتدب عشرة آلاف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر عليهم خالد بن الوليد وأرسل معه الزبير بن العوام والفضل بن العباس والمقداد بن الأسود وغانم بن عياض الاشعري ومالكا الاشتر وجيمع الأمراء واصحاب الرايات ينزلون على المدائن ويدعون الناس إلى الإسلام فمن أجاب فله ما لنا وعليه ما علينا ومن أبي فليأمروه بأداء الجزية وإن عصي وامتنع فالحرب والقتال وأمرهم إذا حاصروا مدينة أن يشنوا الغارات على السواد وإن بمصر مدينتين كما بلغني أحداهما يقال لها أهناس قريبة من مصر والثانية يقال لها البهنسا أمنع وأحصن وبلغني أن بها بطريقا طاغيا سفاكا للدماء يقال له البطليوس وهو أعظم بطارقة مصر كما بلغني وإنه ملك والواحات فلا تقربوا الصعيد حتى تفتحوا هاتين المدينتين وعليك بتقوى الله في السر والعلانية انت ومن معك وأنصف المظلوم من الظالم وأمر بالمعروف وإنه عن المنكر وخذ حق الضعيف من القوي ولا تأخذك في الله لومة لائم وأقم أنت بمصر وأرسل الأجناد وإن احتجت إلى مدد فارسل وكاتبني وأنا ارسل لك المدد والمعونة من الله عز وجل وأسأل الله تعالى أن يكون لكم بالنصر والمعونة والفتح والحمد لله رب العالمين ثم طوى الكتاب وختمه بخاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفعه إلى سالم فاخذه وودع الصحابة وودع قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن توضأ وصلى ركعتين وسار ولم يزل سائرا حتى قدم مصر فوجد عمرا والصحابة نازلين بأرض الجيزة وكان زمن الربيع وهو جالس في خيمته وأصحابه عنده وهذه الخيمة كانت لملك القبط من الحرير الأزرق والأحمر والاصفر سعتها ثلاثون ذراعا وقد فرش فيها فرشا كان للقبط وهو جالس يتحدث مع المقداد وخالد والفضل وغانم والأمراء جميعهم رضي الله عنهم وهو كأحدهم قال سالم فانخت ناقتي فسمعت عمرا يقول وأنا خلف الخيمة قد أبطا سالم فقال خالد: كأنك به وقد أقبل فهويت فأحس خالد بي من داخل الخيمة ولم يرني بعينه ولا غيره ولا علم بي فقال سالم فقلت لبيك يا أبا سليمان فقال مرحبا بك يا سالم وحياك الله ثم تقدمت وسلمت على عمرو وخالد وعلى بقية الأمراء ثم ناولته الكتاب فقرأه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 إلى آخره وفهم ما فيه فلما سمع الأمراء ما فيه فرحوا بذلك فرحا شديدا ثم أن عمرا استشار الأمراء في ذلك وكانوا لا يفعلون شيئا إلا بمشورة بعضهم ولذلك مدحهم الله في كتابه العزيز بقوله عز وجل وأمرهم شوري بينهم فأشاروا عليه أن يرسل خلف الأمراء والجنود المتفرقة في البحيرة شرقا وغربا وإن يرتب الجيوش ويقصدوا الصعيد ويتوكلوا على الله عز وجل. قال الواقدي: وكانت الصحابة لما فتحت مصر والوجه البحري قد تفرقوا فمنهم في الاسكندرية وأمسوس ودمياط ورشيد وبلبيس وكان أكثرهم بوسط البحيرة في المكان المعروف بالمنزلة مثل القعقاع بن عمرو التميمي وهاشم بن المرقال وميسرة بن مسروق العبسي والمسيب بن نجيبة الفزاري فعندها استدعى عمرو رضي الله عنه بالنجابة والسعادة وعمرو ابن أمية الضمري ومثل هؤلاء رضي الله عنهم أجميعن وكتب الكتب وأرسلها للأمراء فعندها أجابوا بأجمعهم لأنهم رضي الله عنهم كانوا أشوق للقتال من العطشان للماء البارد الزلال وتركوا في البلاد والمدائن من يحفظها أو يحرسها خيفة من العدو واقبلوا نحو مصر مسرعين ونزلوا حولها وأخبر عمرو رضي الله عنه بقدومهم فدخل دار الامارة وهي قريبة من الجامع العمري واقبلت السادات والأمراء يسلمون عليه وكان ذلك نهار الاربعاء عاشر شهر ربيع الاول سنة احدى وعشرين من الهجرة النبوية وقيل اثنتين وعشرين والله أعلم. قال: حدثنا محمد بن عبد الله احدثنا عبيد بن رافع عن ابيه جحيفة عن جابر بن عبد الله الانصاري وحدث بذلك ابن سلمة رضي الله عنه قالوا: لما قدمت الأمراء والاجناد من الصحابة رضي الله عنه أقاموا الاربعاء والخميس والجمعة فخطب عمرو رضي الله عنه بالناس فلما فرغ من خطبته أمر الناس أن لا يتفرقوا حتى يقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب فقرأ عليهم الكتاب فلما فرغ من قراءته تواثبوا كلهم كالاسود الضارية المشتاقة إلى فرائسها وقالوا: كلهم سمعنا وأطعنا ولارواحنا في سبيل الله بذلنا وللجهاد طلبنا وفي الثواب رغبنا والى الجنة اشتقنا ففرح عمرو بذلك وقال أن أمير المؤمنين قد أمرني أن أولي عليكم سيف الله والنقمة على أعداء الله صاحب القتال الشديد والبطل الصنديد خالد بن الوليد. قال الواقدي: وكان خالد بن الوليد صديق عمرو في الجاهلية وأسلما في يوم واحد ثم التفت عمرو إلى خالد وقال ادن مني يا أبا سليمان فدنا منه فقال عمرو يا معاشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنكم كلكم لكم الفضل وإني لست بأفضلكم وفيكم من هو ذو قرابة ونسب من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنتم تعلمون ما فتح الله على يديه من البلاد وما أذل الله على يديه من الاجناد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 قال الواقدي: فوثب الفضل بن العباس رضي الله عنه وقال: أيها الأمير انا بذلنا أنفسنا في رضا الله عز وجل وما نريد بذلك إلا رفعة عند الله عز وجل وإن خالدا من أخيارنا ولو أمرت علينا عبدا حبشيا لامتثلنا أمره في رضا الله عز وجل فناهيك بخالد وهو سيد من سادات قريش عزيز في الجاهلية والإسلام فتهلل وجه خالد وعمرو فرحا ثم أمرهم بالنزول جميعا بأرض الجيزة قريبا من الهرم الشرقي وأقبلوا يضربون خيامهم حوله حتى تكاملت العساكر رضي الله عنهم أجمعين. قال الراوي: بسنده إلى الواقدي وابن اسحق وابن هشام لما تكاملت الجيوش وذلك في ربيع الآخر من السنة المذكورة صلى عمرو بأصحابه صلاة الصبح ثم قام من ساعته يمشي على قدميه وحوله جماعة من المسلمين ومعه خالد بن الوليد والمقداد ابن الاسود الكندي والزبير العوام الاسدي والفضل بن العباس الهاشمي وعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وعبد الله بن عمر بن الخطاب وهاشم بن المرقال والمسيب بن نجيبه الفزاري والعباس بن مرداس وأولاد عبد المطلب وبقية السادات حتى طلع على رابية وأشرف على الجيش فلما رأى اجتماعهم سر سرورا عظيما ثم أمر بعرض الجيش فتقدمت الأمراء أصحاب الرايات وصار كل أمير يعرض جيشه وبني عمه على عمرو بن العاص فكانت عدتهم فيما ذكر والله أعلم ستة عشرة ألف فارس فانتدب منهم عشرة آلاف فارس كلهم ليوث عوابس وعليهم الدروع الداودية متقلدين بالسيوف الهندية معتقلين بالرماح الخطية راكبين الخيول العربية من خيار أمة خير البرية فعند ذلك قال لهم عمرو: يا معاشر الأمراء أصحاب الرايات والسادات الأخيار أن خالدا أمير عليكم فاسمعوا له وأطيعوا وكونوا كلمة واحدة ونازلوا المدائن والقلاع وشنوا الغارات على السواد ولا تقاتلوا قوما حتى تدعوهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وإن محمدا رسول الله فإن أبوا فأداء الجزية فإن أبوا فالقتال بينكم وبينهم: {حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [يونس: 109] وأرسلوا الطلائع ولا يكون في الطلائع إلا كل فارس كرار في الحرب والقتال وثبتوا أنفسكم ولا يغرنكم كثرة أعدائكم فانتم الغالبون فقد ذكر الله في كتابه المكنون المبين: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249] وأحسنوا نياتكم وثبتوا عزائمكم فأنتم الغالبون والله معكم وأنتم كلكم أهل الفضل والسابقة واصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقاتلتم بين يديه ولا تحتاجون إلى وصيتي بارك الله فيكم. قال الراوي: ثم أن عمرا استدعى بأصحاب الرايات فكان أول من تقدم بعد خالد الزبير ابن العوام رضي الله عنه وهو راكب على جواده الاغر شاك سلاحه فسلمه الراية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 وأمره على خمسمائة فلما خرج بعسكره هز الراية وأنشد يقول. أنا الزبير ولد العوام ... ليث شجاع فارس الإسلام قرم همام فارس هجام ... اقتل كل فارس ضرغام وانني يوم الوغى صدام ... وناصر في حانها الإسلام قال ثم استدعى بالفضل بن العباس وأمره على خمسمائة فارس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتسلم الراية بيد وتوجه وهو يقول: اني أنا الفضل أبي العباس. ... وفارس منازل حواس. معي حسام قاطع للراس. ... وفالق الهامات والاضراس. أفني به الاعدا بلا الباس. ... وما على فيهم من باس. قال ثم استدعى بزياد بن أبي سفيان بن الحرث بن عبد المطلب وسلمه الراية وكان رضي الله عنه فارسا عظيما وبطلا صنديدا فتسلم الراية وتوجه وهو ينشد: أنا الفارس المشهور يوم الوقائع. ... بحد حسام في الجماجم قاطع. ورمحي على الاعداء ما زال طائلا. ... إذا التحم الاعداء للضد قاطع. وعزمي في الهيجاء ما زال ماضيا. ... براي سديد للمحاسن جامع. أصول على الاعداء صولة قادر. ... وأشبعهم ضربا ببعض لوامع. إمام الوغى من آل ذروة هاشم. ... حماة البرايا كالبدور الطوالع. أنا ابن أبي سفيان من نسل حارث. ... تموت العدا مني وكل منازع. قال ثم استدعى من بعده عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي عنه وأمره على خمسمائة فارس وسلمه الراية فتوجه وهو يقول: أسير إلى الاعادي باهتمام. ... بقلب صادق حصن الذمام. بابطال جحاجحة أسود. ... سراة في الوغى قوم كرام. أبيد بهم عداة الدين جمعا. ... ولا أخشى من القوم اللئام. إذا ما جلت في الهيجا برمحي. ... أصول به وفي أيدي حسامي. قال ثم استدعى من بعده عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأمره على خمسمائة فارس فتسلم الراية وتوجه وهو يقول: وحق من أنزل الآيات في السور. ... وأرسل المصطفى المبعوث من مضر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 لا أنثني عن لقا الاعدا ولو جمعت. ... حماة أبطالهم يوما كما الدبر. حتى أبيدهم ضربا وأتركهم. ... فوق الثري خمشا مخدوشة الصدر. بكل قرم همام ماجد نجد. ... إلى الوقائع يوم الحرب مبتدر. نحن الكرام الذيب للدين أرسلنا. ... امام دين الورى غيث النداعمر. قال ثم استدعى من بعده جعفر بن عقيل وأمره على خمسمائة فارس وسلمه الراية فتوجه وهو يقول: أنا ابن عقيل من لؤي وغالب. ... همام شجاع للأعادي غالب. حماة الوغى أهل الوفا معدن الصفا. ... إلى جود يمنانا مسير الركائب. ولا يعرف المعروف إلا بعرفنا. ... ولا الجود إلا جودنا كالمواهب. علا مجدنا فوق الثنا وسناؤنا. ... علا شرفا من فوق كل الكتائب. فيا ويل أهل البغي منا إذا التقت. ... فوارسنا فيهم بحد القواضب. قال ثم استدعى من بعده أخاه الفضل وأمره على خمسمائة فارس وسلمه الراية فتسلمها وتوجه وهو يقول: إني أنا الفضل أبي عقيل. ... أسير للحرب بلا تمهيل. بحد سيف قاطع صقيل. ... به أبيد الكافر الجهول. أنا ابن عم أحمد الرسول. ... المرسل المبعوث في التنزيل. قال ثم استدعى من بعده المقداد ابن الاسود الكندي وأمره على خمسمائة فارس وسلمه الراية فتوجه وهو يقول: أنا المقداد في يوم النزال. ... أبيد الضد بالسمر العوالي. وسيفي في الوغى أبدا صقيل. ... طليق الحد في أهل الضلال. معي من آل كندة كل قرم. ... يجيد الطعن في يوم النزال. فياويل العدا والروم منا. ... إذا التحم الفوارس في القتال. وهم صرعى كأعجاز نخل. ... بقعها الفوارس بالنصال. قال ثم استدعى من بعده عمار بن ياسر وأمره على خمسمائة فارس وسلمه الراية فتوجه وهو يقول: أنا الهمام الفارس الكرار. ... أفني بسيفي عضبة الكفار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 أن جالت الخيل بلا انكار. ... وقام سوق الحرب من عمار. حمى لدين المصطفى المختار. ... صلى عليه الواحد القهار. وآله وصحبه الأخيار. ... ما بان ليل وأضا نهار. قال ثم استدعى من بعده العباس بن مرداس السلمي وأمره على خمسمائة فارس وسلمه الراية فتوجه وهو يقول: أنا العباس ذو رأي قويم. ... معي سادات آل بني سليم. أدل بهم حماة البغي لما. ... ترى الهيجاء كالليل البهيم. وسيفي ماضي الحدين أضحى. ... لأهل الشرك والموت العميم. به أفنى الطغاة بكل أرض. ... وأقتل كل أفاك أثيم. ونحن بنو سليم خير قوم. ... هدينا للصراط المستقيم. قال ثم استدعى من بعده أبا دجانة الأنصاري رضي الله عنه وسلمه الراية فتوجه وهو يقول: أسير باسم الواحد المنان. ... جهرا لاهل الكفر والطغيان. أذيقهم ضربا على الابدان. ... بكل هندي مبيد الجان. أنصر دين مصطفى العدناني. ... صلي عليه الملك الديان. وآله والصحب والاخوان. ... ما ناح قمري على الاغصان. قال ثم استدعى من بعده غانم بن عياض الاشعري رضي الله عنه وسلمه الراية وتوجه وهو يقول: إني إذا انتسب الفوارس أشعري. ... قرم همام في المعامع عنتزي. بحماة ابطال الاعادي نزدري. ... وبراحتي من القواضب أبتري. يوم التلاطم للفوارس مسكر. ... وأحوم حومات الغزال الجؤذري. فلأقتلن فوارسا وعوابسا. ... وأذيقهم مني العذاب الأكبر. قال ثم استدعى من بعده أباذر الغفاري وأمره على خمسمائة فارس وسلمه الراية فتوجه وهو يقول: سأمضي للعداة بلا اكتئاب. ... وقلبي للقا والحرب صابي. ولي عزم أذل به الاعادي. ... وأرجو الفوز فيهم كالثواب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 وإن صال الجميع بيوم حرب. ... لكان الكل عندي كالكلاب. أذلهم بأبيض جوهري. ... طليق الحد فيهم غير أبي. قال ثم استدعى من بعده القعقاع بن عمرو التميمي والمغيرة بن شعبة الثقفي وميسرة بن مسروق العبسي ومالكا الاشتر النخعي وذا الكلاع الحميري والوليد وعقبة بن عامر الجهني وجابر ابن عبد الله الانصاري وربيعة بن زهير المحاربي وعدي بن حاتم الطائي ومثل هؤلاء السادات رضي الله عنهم وقد اقتصرنا في أشعارهم خوف الاطالة وكل واحد يسلمه راية ويؤمره على خمسمائة فارس قال فلما تكاملوا وتجهزوا خرج عمرو وأصحابه فودعهم وسارت الكتائب وتتابعت المواكب يطلب بعضها وخلفهم الذراري والصبيان حتى أتوا الجيزة ونزلوا بمكان يعرف بالمرج الكبير قريب من تلك المدائن والقرى والرساتيق وتقدمت الطلائع يتجسسون الاخبار وقد كان بدهشور بطريق عظيم من قبل مارنوس صاحب اهناس وكان فارسا مكينا وكلبا لعينا قاتله الله وكان يقول في نفسه أنه يناظر البطليوس في ولايته لكن البطليوس صاحب البهنسا لعنه الله كان أشد بأسا وأعظم مراسا وأكثر عددا وأقوى مددا وأوسع بلادا فكاتبه في ذلك وكاتب روسال صاحب الاشمونين وكاتب اقراقيس صاحب قفط وكان يحكم على اخميم وكاتب الكيكلاج وكان يحكم إلى عدن والبحر المالح إلى بلاد البجاوة والنوبة وحد السودان وتسامع الناس بمسير العرب إلى الصعيد وكاتبت الملوك بعضها بعضا وماج الصعيد بأهله إلى حد الواحات ووقع الرعب في قلوبهم فعند ذلك وثب مكسوج ملك البجاوة وحليف ملك النوبة وجمعوا ما حولهم من أرض النوبة والبجاوة والبربر وأتوا إلى أسوان. وكان مع ملك البجاوة ألف وثلثمائة فيل عليها قباب الجلد بصفايح الفولاذ في كل قبة عشرة من السودان طوال القامة عراة الاجساد على أوساطهم واكتافهم جلود النمور وغيرها ومعهم الدرق والحراب والكرابيج والقسي والمقاليع والاعمدة الحديد والطبول والقرون وكانت عدتهم عشرين ألف فلما وصلوا أسوان خرجوا إلى لقائهم بعسكرهم وأعلموهم بأمرهم وساروا إليهم بالملاقاة من الذرة والشعير والقصب ولحوم الخنازير والضباع وغيرها من الوحوش فأنزلوهم وضيوفهم ثلاثة ايام ثم خرج بطريق أسوان ومعه جيش حتى وصلوا إلى ملك قفط صاحب القرية القريبة من قوص وعمل معهم مثل ذلك وسير معهم جيشا وساروا حتى وصلوا إلى أنصنا وكان بها بطريق عظيم وبطل جسيم وكان منجما وكان يحكم شرقا وغربا وكانت مدينته عظيمة على شاطىء البحر وبها جند كثير وعجائب عظيمة ولها حصن عظيم من الحجر علوه ثلاثون ذراعا ومن داخلها قصور ومقاصير وكنائس وقلاع على أعمدة الرخام وغيرها في المدينة فلما نزلت تلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 العساكر على أنصنا خرج إليهم بطريقها جرجيس بن قابوس وتلقاهم وأرسل معهم ابن عم له يسمى قيطارس وكان فارسا شديدا في أربعة آلاف فارس ولم يزالوا سائرين حتى نزلوا بواد البهنسا عند بطريق يسمى قلوصا من بطارقة البطليوس فلما سمع بهم البطليوس خرج إلى لقائهم في عسكر عظيم زهاء من خمسين الف فارس من البطارقة وعليهم الدروع المذهبة واقبية الديباج المرقومة بالذهب الوهاج وعلى رؤوسهم التيجان المكللة بالآليء والجواهر راكبين على خيول وبراذين مسرجة عليها سروج الذهب والجنائب مغطاة بأغشية من الحرير الملون المرقوم بالذهب والفضة والخز وكان معهم خمسون صليبا طول كل صليب أربعة أشبار من الذهب تحت كل صليب ألف فارس على كل صليب رمانة من الذهب المنقوش وهم في زي عظيم عجيب وقد أكثروا من الطبول والزمور وضرب القرون والمعازف حتى ارتجت الأرض ومعهم الجمال والبغال والجاموس فلما التقوا ترجلت الملوك والبطارقة للقائهم وسلم بعضهم على بعض وتكلموا فيما بينهم بسبب العرب فقال لهم البطليوس: لا تطعموا العرب فيكم ولا في بلادكم فإنما مثل العرب 2 كمثل الذباب أن تركته أكل وإن منعته فر وهلك فاثبتوا واصدقوا العزم فلقد كاتبت لكم سنجاريب ملك برقة وكاتبت ملك الواح وكأنكم بهم قد أتوا اليكم ولولا أنني أخشى أن العرب يأتون إلى بلادي لما يسمعون إني خرجت إليهم فيشتغل جماعة بقتالكم وجماعة يأتون إلى بلادي فيملكونها وليس فيها من يذب عنها إذا خرجت معكم لكنت في خدمتكم فانا نجد في الكتب القديمة أنهم إذا ملكوا البهنسا ونواحيها فلا تقوم لاهل الصعيد قائمة قال كرماس الرومي وكان ممن أسلم بعد ذلك وحضر وحدث به يا معاشر الملوك والبطارقة إني قد اطلعت على الكتب القديمة وفيها أنهم أن ملكوا البهنسا ونواحيها فلا تقوم لاهل الصعيد بعد ذلك قائمة قال فلما سمع الملوك ذلك صقعوا له ثم انتدب من بطارقته عشرين ألفا ممن عرفت شجاعتهم وبراعتهم وملك عليهم صاحب الكفور وكان كافرا طاغيا وكان اسمه بولص وكان لعينا ودفع له صليبا من الذهب وعلما من الحرير الاطلس الاصفر مرقوما بالذهب فيه صورة الشمس ودفع لهم ما يحتاجون له من الجنائب والقباب والسرادقات ومضارب الديباج الملون وأواني الذهب والفضة والصناديق المملوءة بالذهب والفضة والبراذين والبغال وعليها أحمال الحرير الملون وبعضها محمل بالاواني المذكورة والخيام والسرادقات وسارت العساكر وتتابعت الملوك بالمواكب يتلو بعضها بعضا حتى قربوا من مدينة ببا الكبرى فخرج إليهم بطريقا صندراس وتلقاهم وفعل معهم كما فعل البطليموس وأضافهم وجهز معهم جيشا عشرة آلاف فارس من صناديد بطارقته وولي عليهم بطريقا اسمه دارديس وكان يناظر بطريق الكفور في الشجاعة والقوة والبراعة وساروا حتى قربوا من مدينة برنشت فخرج إليهم بطريقها فتلقاهم وكان يناظر البطريق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 الاعظم رأس بطارقة الكوة ولم يزالوا سائرين حتى ملؤوا الأرض شرقا وغربا هذا ما جرى لهؤلاء. قال الراوي: وأما ما كان من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فإنهم لما نزلوا قريبا من دهشور كما ذكرنا وكانت العيون من المسلمين من بني طي ومذحج ينزلون ويتزيون بزي العرب المتنصرة يتجسسون الاخبار حتى اختلطوا بالعساكر المذكورة وكانوا حذاقا متفرسين فلما رأوا ذلك هالهم أمره. قال الراوي: حدثني سنان بن قيس الربعي عن طارق بن مكسوح الفزاري عن زيد بن غانم الثعلبي وكان ممن حضر الفتوح وشهد الوقعة صحبة جيش خالد بن الوليد رضي الله عنه قال بينما نحن جلوس نصلح شأننا بالمرج ونحن على أهبة السفر إذ قدمت الجواسيس فأخبروا خالدا بقدوم العساكر فقال لهم: هل حزرتم الجيوش فقالوا: نعم نحو مائتي ألف فارس وخمسين الف راجل من النوبة والبربر والبجاوة والفلاحين وغيرهم هم في اهبة عظيمة ومعهم الف وثلثمائة فيل وعلى ظهورها الرجال كما وقع في يوم حرب العراق فلما سمع الأمراء ذلك اضطربوا وثبتوا جنانهم وقالوا: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة: 51] وقال خالد: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ثم قرأ: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173] ثم قرأ: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249] ثم أن خالد قال لأصحابه: ولا تهتموا لذلك واصبروا: {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ} [محمد: 35] فليست جموعهم بأكثر من جموع اليرموك ولا من جموع أجنادين ومع ذلك فقد ملكتم مصرهم التي هي تاج عزهم وملكتم الوجه البحري وقتلتم مائة من ملوكهم وبطارقتهم وقد صارت الشام واليمن والعراق والحجاز بايديكم وقد دانت لكم البلاد وقد كنتم قليلا فكثركم الله وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها وقاتلتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصرتم بالملائكة ووعدكم على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم أنه يستخلفكم في الأرض كما استخلف الذين من قبلكم ومن قتل منكم كان له الجنة وتنتقل روحه إلى روح وريحان ورب غير غضبان فلما سمعوا كلامه تهللت وجوههم فرحا وقالوا: يا خالد نحن كلنا بين يديك وقد وهبنا أنفسنا لله ابتغاء وجه الله ومرضاته. قال الواقدي: ثم أن خالدا وجه يزيد بن معرج التنوخي إلى عمرو بن العاص مسرعا وأعلمه بذلك فترك في مصر ابن عمه خارجة وكان رجلا صالحا وأخرج معه أربعة آلاف فارس وترك في مصر نحو أربعين فارسا من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء إليهم أربعة آلاف فارس فلما أقبلوا سلموا عليه وقالوا: كنا نحن نكفيك أيها الأمير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 فقال لهم: اعلم ذلك ولكنكم في أول بلاد العدو وما ينبغي أن أقعد عنكم ففرحوا بذلك وتأهبوا للقاء العدو وكانوا كل يوم يخرجون الطلائع يتجسسون الاخبار فلما كان في بعض الايام خرج الفضل ابن العباس بن عبد المطلب وأخوه عبد الله بن العباس وجعفر بن عقيل وأخواه علي ومسلم وعبد الله بن الزبير وسليمان بن خالد بن الوليد ومحمد بن فرحة بن عبد الله وعبد الله بن المقداد وعبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمرو بن العاص وعمر بن سعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة وعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وزياد بن المغيرة بن شعبة وتبعهم من السادات نحو أربعمائة سيد من أولاد الصحابة والأمراء أصحاب الرايات وألف وستمائة من أخلاط العرب من المهاجرين والانصار ولبسوا دروعهم وتقلدوا بسيوفهم واعتقلوا برماحهم وتنكبوا بحجفهم وساروا إلى قريب من دير هناك بسفح الحبل يعرف بدير المسيح يكشفون الاخبار فبينما هم كذلك إذا بغبار طلع إلى عنان السماء وانعقد فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا: هذا غبار وحش وقال بعضهم لو كان كذلك لكان تقطع قطعا وتفرق فرقا وإنما هذا عسكر جرار وإن الخيل إذا داست بحوافرها ارتفع الغبار. قال الواقدي: حدثنا أبو الزناد عن عبد الله عن أبي مالك الخولاني عن طارق بن شهاب الجرهمي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال بينما نحن نتحدث مع الفضل وإذا بالغبار قد قرب منا وانكشف عن عشرة آلاف فارس ومعهم الأعلام والصلبان فلما رأونا رطنوا بلغتهم ثم لم يمهلوا دون أن حملوا. قال الراوي: وكان ضرار بن الأزور قد انفرد ومعه مائتان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل النجدة وساروا في طريق الجبل على غير الجادة فبينما هم يسيرون إذا بالغبار قد ثار وانكشف عمن ذكرنا فلما عاينوهم أيقنوا بالهلاك فعندها وثب ضرار رضي الله عنه وقال: لا فرار من الموت فلم يمهلوهم دون أن داروا عليهم فرأوا أن لا بد لهم من القتال والتقت الرجال بالرجال وصبروا صبر الكرام وأحاطت بهم الروم اللئام من كل جانب ومكان فلله در ضرار لقد قاتل قتالا شديدا فلم يكن غير ساعة حتى قتل من جماعة ضرار جماعة وكبابه جواده فأسروه وأسروا جماعة من أصحابه وكان الذي قاتلهم رأس البطارقة صاحب ببا الكبرى فأوثقوا ضرارا وأصحابه كتافا وربطوهم على ظهور خيولهم وأرسلوهم إلى العسكر وانفلت من القوم مولى من موالي عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق يقال له سالم: فسار يجد في مسيره حتى قدم على خالد وعمرو فعند ذلك وثب المسيب بن نجيبة الفزاري ورافع بن عميرة الطائي وأخذا معهما ألفا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسار ومعهما رجل من أسلم من الجيزة يدلهم على طريق غير الجادة وكمنوا هناك عند الدير وقد سبقوا البطريق الذي أسر ضرار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 وأصحابه وقد أختفى عنهم الأثر فقال الدليل أظنكم قد سبقتم القوم اكمنوا ههنا وكان الذي مضى بضرار وأصحابه خمسمائة فارس. قال الراوي: وكانت خولة بنت الأزور قد شق عليها أسر أخيها ضرار فلما سار المسيب ورافع وجماعتهما في طلب أخيها تهللت فرحا واسرعت في لبس سلاحها وأتت إلى خالد وقد هم القوم بالمسير وقالت أيها الأمير سألتك بالطاهر المطهر إلا ما سيرتني مع هؤلاء عسى أن أكون مشاهدة لهم فقال خالد للمسيب ورافع: أنتما تعلمان شجاعتها وبراعتها فخذاها معكما فقالا السمع والطاعة ونزلوا بالمكان المذكور فبينما هم كذلك كامنون إذا بغبرة قد لاحت لهم فقال لهم رافع: أيقظوا خواطركم فأيقظت القوم هممهم فإذا بهم قد أتوا محدقين بضرار وهو متألم من كتافه وهو ينشد ويقول: إلا بلغا قومي وخولة أنني. ... أسير رهين موثق اليد بالقيد. وحولي علوج الروم من كل كافر. ... وأصبحت معهم لا أعيد ولا أبدي. فلو أنني فوق المحجل راكبا. ... وقائم حد الغضب قد ملكت يدي. لأذللت جمع الروم اذلال نقمة. ... وأسقيتهم وسط الوغى أعظم الكد. فيا قلب مت هما وحزنا وحسرة. ... ويا دمع عيني كن معينا على خدي. فلو أن أقوامي وخولة عندنا. ... وألزم ما كنا عليه من العهد. كبابي جوادي فانتبذت على الوغى. ... وأصبحت بالمقدور ولم أبلغن قصدي. قال الراوي: فنادته خولة من مكمنها قد أجاب الله دعاك وقبل تضرعك ونجواك أنا خولة ثم كبرت وحملت وكبر رافع والمسيب قال جبير بن سالم وكنا إذا كبرنا تصهل الخيل الهاما من الله تعالى فما كان أكثر من ساعة حتى قتلناهم عن آخرهم وخلص الله ضرار وأصحابه وأخذنا خيل القوم وأسلابهم وسلاحهم وكانت أول غنيمة. قال الراوي: ولما تخلص ضرار وأصحابه ركب جواده عريانا وأخذ قناة كانت مطروحة وحمل على القوم وهو يقول: لك الحمد يا مولاي في كل ساعة. ... مفرج أحزاني وهمي وكربتي. فقد نلت ما أرجوه من كل راحة. ... وجمعت شملي ثم أبرأت علتي. سافني كلاب الروم في كل معرك. ... وذلك والرحمن أكبر همتي. فيا ويل كلب الروم أن ظفرت يدي. ... به سوف أصليه الحسام بنقمتي. وأتركهم قتلى جميعا على الثرى. ... كما رمة في الأرض من عظم ضربتي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 قال الراوي: فلما فرغ ضرار من شعره إذا بالخيل قد اقبلت منهزمة وكان السبب في ذلك أنه لما حملت الروم على الفضل بن عباس صاح هو وجرت الدماء واسودت السماء وحمى الوطيس وقل الأنيس وهمهمت الابطال وقوي القتال وعظم النزال ودارت رحى الحرب واشتد الطعن والضرب وجالت الرجال واشتد القتال وضربت الاعناق وسالت الاحداق وعظمت الامور وغابت البدور وكان المسلمون لا يظهرون فيهم لكثرتهم ولا يعرف بعضهم بعضا إلا بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير وقد صبر الفضل صبر الكرام فلله در الفضل لقد اصطلى الحرب بنفسه فكان تارة يقلب الميمنة على الميسرة وتارة يقلب الميسرة على الميمنة ويقاتل والراية بيده ولله در مسلم بن عقيل وأخويه لقد قاتلوا حتى صارت الدماء على دروعهم كقطع اكباد الابل ولله در سليمان بن خالد بن الوليد المقتول بوقعة الدير قريبا من طرا بقرية تسمى دهروط وقتل معه عبد الله بن المقداد وجماعة وسيأتي ذكر ذلك أن شاء الله تعالى. قال محمد بن مسلمة الأنصاري رضي الله عنه وقاتلنا قتال الموت وأيقنا أن المحشر من ذلك الموضع ولم نزل في قتال من ارتفاع الشمس حتى غربت وقد قتل من الروم مقتلة عظيمة وتقدم الفضل إلى بطريق عظيم راكب كأنه برج من ذهب وطعنه في صدره فأخرج السنان من ظهره فلما رأت الروم ذلك شجعوا أنفسهم وفشا القتال بيننا وبينهم وقتل من المسلمين أربعون رجلا وقتل منهم ثلثمائة لكن الرجل ما قتل منا حتى قتل جماعة من الروم فبينما نحن كذلك وقد أيقنا أن الموت في ذلك الموقف ووطنا عليه نفوسنا وإذا بغبرة قد طلعت والعجاج قد ارتفع وانقشع الغبار عن رايات إسلامية وعصابة محمدية زهاء من ألفي فارس وفي أوائلهم فرسان أمجاد سادات أنجاد أحدهم المقداد والثاني زياد والقعقاع بن عمرو وشرحبيل بن حسنة ومعهم ألف فارس فلم يمهل المقداد دون أن حمل وخاض في الخيل وهو ينشد ويقول: إلا انني المقداد أكبر صائل. ... وسيفي على الاعداء أطول. طائل إذا اشتدت الأهوال كنت أمامها. ... وأضرب بالسمر الطوال الذوابل. ولي همة بين الورى تردع العدا. ... لها تشهد الابطال بين القبائل. فليس لسيفي في الأنام مبارز. ... وليس لشخصي في الأنام منازل. ثم إنه خاض في وسط الحرب وحمل من بعده زياد بن أبي سفيان وهو ينشد ويقول: أنا زياد بن أبي سفيان. ... جدي يرى من أشرف العربان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 كذا ابن عمي أحمد العدناني. ... معي حسام ثم رمح ثاني. أطعن كل كافر جبان. ... وكل قلب ناقص الإيمان. قال الراوي: ثم غاص في وسط القوم فقلب الميمنة على الميسرة والميسرة على الميمنة وغاص في القلب فولت الروم من بين يديه منهزمين وهو يضرب السيف فيهم طولا وعرضا ثم حمل من بعده القعقاع بن عمرو التميمي وهو ينشد ويقول: أنا الهمام الفارس القعقاع. ... ليث همام ضيغم مطاع. معي حسام يبرىء الأوجاع. ... ويقطع الهامات والأضلاع. يا ويل أهل الشرك والنزاع. ... مني إذا في الحرب طال الباع. قال ثم حمل من بعده شرحبيل بن حسنة وهو يقول: ألا يا عصبة الإسلام صولوا. ... على الأعداء بالسيف الصقيل. اذيقوهم حياض الموت جهرا. ... بلذع السمهري الرمح الطويل. وموتوا في الوغى قوما كراما. ... شدادا في المعامع والنزول. قال الراوي: ثم تتابعت الفرسان يتلو بعضها بعضا هذا وزياد غائص في القوم كما ذكرنا وقصد البطريق الأعظم صاحب ببا الكبرى وضربه على عتاتقه الايمن بالسيف فاطلع السيف يلمع من عاتقه الايسر وقد أجابته المسلمون بتكبيرة واحدة وكبرت الجبال وارتجت الأرض لوقع حوافر الخيل وحمل كل أمير على بطريق فقتله فلم تكن إلا ساعة حتى ولوا الأدبار وركنوا إلى الفرار لا يلوي بعضهم على بعض وتبعهم المسمون يقتلون ويأسرون حتى بلغت الهزيمة جرزة وميدوم فبينما ضرار وأصحابه مقبلون وإذا بالروم منهزمة كما ذكرنا وخيل المسلمين في أثرهم يقتلون ويأسرون ولم يعلموا ما جرى لضرار ورفقته فلما رأوه سلموا عليه وهنئوه وأصحابه بالسلامة فقص عليهم ما جرى لهم واجتمعوا بالمسيب وأصحابه وأروهم مكان المعركة ومكان القتلى ففرحوا بذلك فرحا شديدا. قال الراوي: وإن عمرا وخالدا لما خرج الفضل وأصحابه قلق عليهم فقال خالد لعمرو: يا أبا عبد الله لقد غرر الفضل وأصحابه بمن معه من المسلمين وإني أخضى أن تكون للروم طليعة فيغيروا على أصحابنا قال عمرو كذلك هجس بخاطري يا أبا سليمان فما ترى من الرأي قال خالد: الرأي عندي أن أرسل طليعة أخرى خلفهم قال: نعم الرأي ثم استدعى بالزبير بن العوام وأبي ذو الغفاري رضي الله عنهم وأعلمهما بذلك واراد خالد أن يركب معهما فمنعه الزبير وحلف لا يسير إلا هو وانتخب معه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 فرسانا فساروا حتى قربوا من القوم والتقوا بالمسلمين فوجدوهم قد كسروا الروم كما ذكرنا ثم جمع المسلمون الأسلاب والسلاح والخيل ورجعوا إلى أصحابهم وهم فرحون بالنصر على أعدائهم. قال الراوي: فلما رجع المسلمون إلى العسكر وكان معهم ستمائة أسير أعلن المسلمون بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير فأجابهم المسلمون كذلك ولما عاينوا الاسلاب والاسارى معهم فرحوا بذلك وسلم بعضهم على بعض وتلقاهم عمرو وخالد وباقي الأمراء تفاءلوا بالنصر وقدموا الأسارى وعرضوهم على عمرو وخالد واوقدوا النيران بالمرج وباتوا يقرءون القرآن ويتضرعون إلى الله الواحد المنان وليس فيهم إلا من هو راكع أو ساجد. قال الراوي: هذا ما جرى لهؤلاء وأما المنهزومون فإنهم مضوا إلى البطارقة والملوك وأخبروهم بما وقع من أمرهم فعظم عليهم من قتل واستعدوا للقتال وركبوا خيولهم وابلهم وافيالهم وتزينوا بزينتهم وساروا يجدون المسير وقد اكثروا الطبول والزمور والصنوج. قال قيس بن الحرث وأقام المسلمون بعد الوقعة يوما فبينما نحن في اليوم الثاني بعد صلاة الصبح وكان الاجاويد من الأمراء والابطال في كل يوم يركبون ويستنشقون الاخبار فبينما هم ينتظرون إذ ثار الغبار حتى تعلق بالجو وانكشف عن رجال وخيول كالجراد المنتشر والسيل المنحدر وارتجت الأرض من ازدحام الخيل وقعقعة اللجم فرجعوا وأعلموا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاح الصائح في العسكر النفير النفير يا خيل الله اركبي في الجنة ارغبي والثواب اطلبي فتواثب المسلمون إلى قدومهم ولبسوا دروعهم والى خيولهم فركبوها والى راياتهم فنشروها والى زينتهم فأظهروها والى قلوبهم من الغش فطهروها ونفوسهم لله باعوها فلم تكن إلا ساعة حتى استعدوا وأقام خالد وعمرو يعبيان قومهما للقتال فجعلا في القلب أصحاب الطعن والضرب مثل الفضل بن العباس وبني عمه من سادات بني هاشم وهم جعفر ومسلم وعلى أولاد عقيل بن أبي طالب وزياد بن أبي سفيان بن الحرث ومثل هؤلاء الابطال وجعل في الجناح الايمن الزبير بن العوام والمقداد بن الاسود الكندي والمسيب بن نجيبة الفزاري وجعل في الجناح الايسر القعقاع بن عمرو التميمي وهاشم بن المرقال وغانم بن عياض الاشعري وأبا ذر الغفاري وجابر بن عبد الله الانصاري ومثل هؤلاء السادات رضي الله عنهم وثبت خالد وعمرو في القلب ومعهما عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وعبد الله بن عمر بن الخطاب وعقبة بن عامر الجهني وبقية الصحابة من الأمراء اصحاب الرايات ممن شهد الوقائع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 عبد الله ابن زيد عن أبي امامة رضي الله عنه وكان من أصحاب الرايات قال فبينما نحن كذلك إذا باعلام المشركين قد انتشرت وراياتهم قد ظهرت وزينتهم وصلبانهم قد ارتفعت ولغتهم بالكفر قد طمطمت وأفيالهم قد أقبلت ورجالهم للقتال قد تبادرت فلما رأى المسلمون ذلك أخلصوا نياتهم ولم يهلهم ما رأوا من عدوهم وتضرعوا بالدعاء لخالقهم وقد استغاثوا بمالكهم وأكثروا من الصلاة على نبيهم ولم يزالوا سائرين حتى قربوا من القوم ورأوهم راي العين فعند ذلك أمسك المشركون أعنة خيولهم وسلاسل أفيالهم وألقى الله الرعب في قلوبهم ثم خرج منهم بطريق من عظماء بطارقتهم كأنه برج مشيد من ذهب وهو لا يبين منه غير حماليق الحدق وتدوير المآق وبين يديه فارس من متنصرة العرب وهو يصيح بملء فيه يا معاشر العرب ارسلوا إلى الملك أحدا يكلمه فاعلم المسلمون عمرا وخالد بن الوليد بذلك فأراد خالد أن يخرج إليه فمنعه الأمراء من ذلك فعندها وثب المقداد بن الأسود وحلف لا يخرج إليه إلا هو بنفسه فقال عمرو وخالد يا أبا عبد الله انظر ما يكلمك به الاعلاج وادعهم إلى كلمة الاخلاص المنجية يوم القصاص فإن أبوا فالجزية عن يد وهم صاغرون فإن أبوا قاتلناهم: {حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [يونس: 109] . قال الواقدي: فعندها ركب المقداد جواده وسار حتى وقف بين يدي البطريق وكان ذلك بولص صاحب الكفور الطاغي اللعين بطريق البطليوس وقد أتى باذن الملك والبطارقة فلما رآه كلمه بلسان عربي مبين ثم قال: يا بدوي أأنت أمير قومك قال: لا قال فإني لا أريد إلا الأمير حتى أسأله عما بدا لي لعل أن تكون فيه مصلحة بينكم وبيننا فقال المقداد سل عما بدا لك وما تريد فانا قوم إذا فعل أحدنا أمرا وفيه نصح للدين ومصلحة للمسلمين لا ينكر عليه ذلك ويجيز له الأمير ما فعل فاخبرني عن أمرك وشأنك قال: لا يكلمني إلا أمير القوم وإن كان عنده خوف مني ألقيت سلاحي فقال المقداد وقد ضحك من كلامه ويحك يا عدو الله لو كنت أنت وامثالك باسلحتهم ما فكرنا فيهم وإن الواحد منا لو وقع في ألف منكم لتلقاهم بنفسه ولا أهمه ذلك والمعونة من الله تعالى فانا وطنا أنفسنا على الموت ونعلم أن هذه الدنيا فإنية ولا يبقى إلا وجه الله تعالى فاسألني عما بدا لك فقال له: لا اسمع إلا كلام الأمير فدع عنك كثرة المطاولة قال المقداد أن لنا أميرين أحدهما متولي الامر والآخر قائد الجيوش فأي أمير تريد قال أخبرني بأسمائهما قال أما الذي هو متولي الامر فيسمى عمرو بن العاص والآخر يسمى خالد بن الوليد قال إني أريد خالدا سمعت عنه أمورا وأحوالا وإن الروم تتحدث عنه بعجائب كثيرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 قال الواقدي: وكان الملعون قد سمع بذكر خالد وفراسته وقال في نفسه لعلي أغدره فإني أن قتلته كان لي الفخر على جميع الروم وينكسر بذلك ناموس العرب وإن لم أقدر عليه أسمع ما يقول من خطابه قال فعند ذلك لوى المقداد عنان جواده ورجع إلى خالد فعند ذلك قال خالد لأصحابه: أن المقداد قد رجع وإن عدو الله لا يريد إلا اياي فإن طلبني مضيت إليه وإن رأيت منه غدرا أخذت روحه من بين كتفيه وأستعين عليه بالملك العلام. قال الراوي: فبينما خالد يتحدث بهذا الكلام إذا بالمقداد قد وصل وأعلم عمرا وخالدا بما وقع فعندها خرج خالد رضي الله عنه مبادرا عليه لامة حربه فتعلق به أكابر أصحابه فحلف أنه لا بد له من الخروج إليه ثم خرج مبادرا حتى وقف بين يديه فلما رأى خالدا قد وصل إليه احترز على نفسه وأراد أن يخدع خالدا ويهجم عليه فقال خالد: أيها البطريق ها أنا خالد سل حاجتك والذي جئت به وإياك والمخادعة فإني جرثومة الخداع فقال بولص يا خالد اذكر في الذي تريد وقرب الأمر بيننا وبينكم واحقن دماء الناس واعلم إنك مسئول عن ذلك وواقف غدا بين يدي الله عز وجل فإن كنت تريد شيئا من الدنيا فلن نبخل به عليكم وندفعه صدقة منا اليكم لانه ليس عندنا في الأمم أضعف منكم حالا وقد علمنا أنكم كنتم في بلادكم قبل أن تفتحوا البلاد في قحط وجوع وتموتون هزالا وقد ملكتم بلادا وشبعتم لحما وركبتم خيولا مسومة وتقلدتم بسيوف مجوهرة وسعدتم بعد فقركم وفاقتكم فإن طلبتم منا شيئا أعطيناكم إياه بطيبة قلوبنا فلا تطمعوا في بلادنا كما طمعتم في غيرها واقنعوا منا بالقليل قال فلما سمع مع خالد مقالته قال: يا كلب النصرانية وأخس من غمس في ماء المعمودية أنه قد بعث الله الينا نبينا فهدانا من الضلالة وأنقذنا من الجهالة واننا قد ملكنا الله بأيدينا ما أغنانا به عن صدقتكم وأحل لنا أموالكم وأباح لنا نساءكم وأولادكم إلا أن تقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله فإن أبيتم ذلك فتؤدوا الجزية عن يد وأنتم صاغرون فإن أبيتم ذلك فالسيف حكم بيننا وبينكم حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين والله ينصر من يشاء وإن الحرب والقتال أحب الينا وأشهى من الصلح وإن كنتم تزعمون أنه لم تكن أمة أضعف منا عندكم فأنتم عندنا بمنزلة الكلاب فإن الواحد منا يقاتل منكم ألفا وإن هذا ليس بخطاب من يطلب الصلح فإن كان هذا الطمع ترجو به أن تصل الي بانفرادي عن أصحابي فذلك منك بعيد وإن أردت القتال فدونك فإني كفء لك ولأصحابك أن شاء الله تعالى فلما سمع بولص كلام خالد وثب في سرجه وقال: ليس لك عندي إلا هذا السيف ثم جرد سيفه ودنا من خالد رضي الله عنه وشابكه وضرب بيده في درعه ومنطقته ووثب كل منهما على الآخر واستغاث الملعون بأصحابه وقال لهم: بادروا الي فقد أمكنني الصليب من أمير العرب فابتدر إليه البطارقة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 من كل جانب وخرج كردوس عظيم أكثر من مائتي فارس وجردوا السيوف وأتوا إلى خالد رضي الله عنه. فلما رآهم خالد مقبلين إليه وثب وثبة الأسد وصاح بجواده وانتزع نفسه من البطريق بعد أن أحاطت به الروم وجاء كردوس ثان وخالد يضرب فيهم يمينا وشمالا وعدو الله بولص يصيح ويقول يا ويلكم خذوه قبل أن يفوتكم قال: وكان ضرار والفضل بن العباس وعلي بن عقيل وعبد الله بن المقداد وسليمان بن خالد رضي الله عنهم على كثيب قريب من الروم فلما رأوا الروم والسيوف بايديهم وقد أحاطوا بخالد ركضوا خيولهم وكان أول من ابتدر للحرب ضرار بن الأزور رضي الله عنه وهو ينشد: عليك ربي في الأمور المتكل. ... اغفر ذنوبي أن دنا مني الأجل. ... يارب وفقني إلى خير العمل. وعني امح سيدي كل الزلل. ... انا ضرار الفارس القرم البطل. ... باعي على الأعداء اضحى المنصل. اقمع بسيفي الروم حتى يضمحل. ... مالي سواك في الامور من أمل. قال الراوي: حدثنا رفاعة بن قيس قال: حدثنا حامد بن عياض عن ابيه عن جده عن نافع بن علقمة الربعي قال كنت في القلب في عسكر عمرو يوم وقعة الروم بمرج دهشور قال بينما نحن ننظر إذ راينا السيوف جذبت وأحاطت بخالد بن الوليد فخرجنا كردوسا من أجاويد الرجال من طرف الميمنة وبادرناهم ولحقناهم وإذا قد سبق من ذكرنا يعني ضرارا والجماعة المذكورين فكان أول من قدم على الروم ضرار وهو عريان بسراويله قابضا على سيفه وهو يزأر كالاسد والقوم من ورائه متبعوه حتى وصلوا وضرار أمامهم وهو واثب على جواده وثبة الاسد مسرعا وهو يهز السيف وهو زاحف على بولص فارتعدت فرائصه وقال: يا خالد دعني من هذا الشيطان واقتلني أنت ولا تدعه يقتلني فإني أتشاءم من طلعته فقال هو قاتلك لا محالة هذا مبيد الأقران هذا قاتل وردان وملك التركمان ومبيد عبدة الصلبان ومن يكفر بالرحمن فبينما هم في المجاورة وإذا بضرار قد أقبل وهز سيفه وصرخ يا عدو الله لم تغن عنك خديعتك شيئا ولا غدرك بصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أراد أن يضربه بسيفه فصاح به خالد اصبر يا ضرار حتى آمرك بقتله ووصلت إليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل يبادر إلى قتله فقال لهم خالد: اصبروا قال: ونظر بولص لعنة الله إلى ما حل به وقد جذبه ضرار من قربوس سرجه واقتلعه وجلد به الأرض فغشى عليه فأشار بأصبعه وقال الأمان يا خالد فقال له خالد: يا كلب النصرانية لا يعطى الأمان إلا لأهل الأمان أنت رجل أردت أن تمكر والله خير الماكرين فلما سمع ضرار ذلك لم يمهله دون أن ضربه بالسيف على عاتقه الايمن فاطلع السيف يلمع من عاتقه الايسر فسقط عدو الله يخور في دمه وعجل الله بروحه إلى النار وبئس القرار وتبادرت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضعوا السيف فيهم فلما رأى الروم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 ما حل بهم حملوا بأجمعهم وتقدمت أصحاب الفيلة وعلى ظهورها الرجال والتقى الجمعان واصطدم الفريقان واشتد القتال وعظم النزال وصفت الصفوف وازدحمت الالوف وتلفت النفوس وقطعت الرؤوس وبطل القيل والقال وقتلت الرجال وزمجرت الابطال واشتد القتال واتسع المجال وعظم البلاء واسودت السماء وثار الغبار وقدحت حوافر الخيل الشرار وطمطمت السودان وكفروا بالرحمن وثار العجاج وزمجرت الاعلاج وقاتلت أصحاب الفيلة قتالا شديدا وقد قسموهم أربع فرق فرقة مما يلي الميمنة وفرقة مما يلي الميسرة وفرقة مما يلي القلب وفرقة مما يلي العسكر وتصايحت النوبة والبجاوة والروم فلله در خالد بن الوليد لقد قاتل قتالا شديدا فكان تارة في القلب وتارة في الميمنة وتارة في الميسرة وكذلك الأمير عمرو بن العاص والزبير بن العوام والفضل بن العباس الهاشمي والقعقاع بن عمرو التميمي وغانم بن عياض الاشعري رضي الله عنهم على الساقة مع النساء والولدان والذراري والصبيان وانقطع عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وعبد الله بن عمر بن الخطاب وهاشم بن المرقال إلى كردوس ينوف على ألف فارس من الروم والسودان فغاصوا في أوساطهم وكان فيهم بطريق من بطارقة الكورة اسمه عرنان بن ميخائيل فلما رأى ما حل به وبأصحابه بادر إلى الصليب ليقبله وينظر إليه ثم رطن الروم بلغتهم وأحاطوا بأصحاب رسلول الله صلى الله عليه وسلم وأرادوا أن يتمكنوا منهم فعندها وثب عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه إلى ذلك البطريق فحمل عليه وكان عليه ديباجة صفراء من فوق درعه وعلى رأسه بيضة تلمع كأنها كوكب وفي وسطه منطقة من الجوهر فتعاركا مليا وتصادما سويا ثم أن عبد الرحمن ضربه بالسيف في نحره فأطاح رأسه عن بدنه فلما رأى الروم ذلك حملوا على عبد الرحمن وأصحابه بأجمعهم حملة واحدة وصبر لهم اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل منهم مشتغل بنفسه عن نصرة صاحبه وايقنوا بالهلاك وخرج عبد الرحمن وفي يده جرح هائل والدم يسيل عن درعه فتناول السيف بيده اليسرى وجعل يقاتل بها وجرح هاشم بن المرقال أحد عشر جرحا في يده وفي وجهه وهو يمسح الدم مرارا فأيقنوا بالهلاك. وكان الفضل بن العباس وبنو عمه ممن ذكرنا تارة في الميمنة وتارة في الميسرة وحملوا في اعراض القوم حتى وصلوا الكردوس الذي فيه عبد الرحمن وعبد الله بن عمر وهاشم بن المرقال فوجدوا الروم قد أحاطوا بعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وعقروا جواده من تحته وأصحابه يذبون عنه وعبد الله بن عمر تارة يمنع عنه بالسيف وتارة بالرمح وجراحاته تتدفق دما وقد جرح عبد الله بن عمر في يده ست جراحات هائلة فلما رأى الفضل ذلك بادر هو واصحابه وكانوا عشرين فارسا وخرقوا الصفوف وضرب فارسا ممن أحاط بعبد الرحمن على رأسه فقطع البيضة ونزل إلى أضراسه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 فانجدل صريعا يخور في دمه وعجل الله بروحه إلى النار فلما سقط عن جواده ابتدره عبد الرحمن وركب الجواد وقاتلوا أولئك حتى دفعوهم عن أصحابهم وكانت جماعة من الأوس وهمدان مما يلي الجناح الايسر فعطف عليهما كردوس من الروم والسودان فأزالوهم عن أماكنهم وكشفوهم عن مراتبهم وفروا بين أيديهم فصاح بهم أبو هريرة رضي الله عنه وابنه عبد الله ومالك ابن الاشتر يا قوم لا تولوا فرارا من الموت أتريدون أن تكونوا عارا عند العرب فما عذركم غدا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أما سمعتم قول الله عز وجل: {فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ، وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [الأنفال: 15, 16] الآية الله الله الجنة تحت ظلال السيوف والموعد عند قبر المصطفى قال فلم يلتفتوا إليهم ولم يقبلوا كلامهم ووصلت الهزيمة إلى غانم بن عياض الاشعري وأصحابه والنساء والصبيان فلما رأت النساء ذلك صحن في وجوههم وفعلن كما فعلن يوم اليرموك وصرن يضربن وجه الخيل بالأعمدة وقاتلت خولة بنت الازور قتالا شديدا فلما رأى غانم ذلك وكان معه قيس بن الحرث ورفاعة بن زهير المخزومي وخمسمائة فارس من أهل العدة والنجدة صاح غانم النجدة يا أصحاب رسول الله فتواثبوا إليهم وحملوا عليهم حملة واحدة بصدق نية وثبات فلما رأوا ذلك ولوا منهزمين. قال الواقدي: ولم يزل السيف يعمل في الرجال من أول النهار إلى وقت العصر وأنزل الله النصر على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت الافيال والرجال الذين على ظهورها تضرب أصحاب رسول الله صلى بالنشاب فجاء مفرج بن عيينة الفزاري إلى فيل مقدم على أربعمائة فيل فطعنه في احدى عينيه فاشتبك الرمح في عينه وما قدر أن يجذبه فبرطع الفيل هاربا وألقى ما على ظهره من الرجال وداسهم برجليه فقتلهم فتبعته الفيلة التي خلفه وألقت ما على ظهورها من الرجال ودراستهم بأرجلها فصاح مفرج دونكم وخراطيمها ومشافرها فإنها مقاتلة فابتدر بنو فزارة وبنو قراد وبنو عبس يضربون مشافر الفيلة حتى قتلوا منها مائة وستين فيلا وقتلوا من على ظهورها من الرجال ولم يزل القوم في الكر والفر والقتال الشديد حتى جاء الليل وحجز الفريقين ورجعت الروم والسودان إلى أماكنهم وتفقد المسلمون من قتل منهم فإذا هم مائتان وأربعون رجلا ختم الله لهم بالشهادة وتفقد المشركون قتلاهم فإذا هم خمسة آلاف من النوبة والبجاوة والروم فبات المسلمون يتحارسون إلى الصباح ويقرءون القرآن ويدفنون قتلاهم فلما أصبح الصباح وقاموا إلى اصلاح شأنهم إذا بالروم والسودان قد أقبلوا بعددهم وعديدهم وقد اظهروا زينتهم واصطفوا خمسة كل صف أربعون ألفا والمشاة بين أيديهم خمسون ألفا قال قيس بن علقمة لقد دخلت الشام والعراق ورأيت جنود كسرى والجرامقة واليرموك وأجنادين ووقعة مصر والقبط وفتح اسكندرية ودمياط فلم أر مثل كسرتهم في مرج دهشور فلما رأيناهم وقد ركبوا ركب خالد وجعل يتخلل الصفوف ويقول لهم إنكم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 لستم ترون بمصر والصعيد جيوشا بعد هذا اليوم مثل هؤلاء وإن كسرتموهم فلا تقوم لهم قائمة أبدا فاصدقوا في الجهاد وعليكم بالصبر وإياكم أن تولوا الادبار فتستوجبوا بذلك النار وألصقوا المناكب ولا تحملوا حتى آمر بالحملة. قال الراوي: وإن البطارقة لما رأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عولوا على ضربهم شجع بعضهم بعضا وقال لهم بطرس أخو بولس المقتول: اعلموا إنكم أن انكسرتم لا تقوم لكم قائمة بعد هذا أبدا ويملكون بلادكم ويقتلون رجالكم ويسبون حريمكم وعليكم بالصبر ولتكن جملتكم واحدة ولا تتفرقوا وقدموا الفيلة أمامكم والرجالة خلف ظهوركم واستعينوا بالصليب فهو ينصركم. قال الراوي: وأما عمرو وخالد فانهما قالا نريد من يكشف لنا عن القوم ويعود فوثب الفضل ابن العباس رضي الله عنه وقال أنا فسار حتى قرب من القوم ورأى زيهم وأهبتهم ورأى شعاع البيض والبيارق والرايات كأجنحة النسور فلما رآه القوم قالوا: فارس قد طلع ولا شك أنه طليعة فايكم يبتدره فابتدره ثلاثون فارسا فلما نظرهم ولى كأنه منهزم وركض قليلا حتى بعد ثم لوى عنان الجواد نحوهم وطعن أول فارس والثاني والثالث فدخل رعبه في قلوبهم فانهزموا وتبعهم وهو يصرع فارسا بعد فارس حتى صرع منهم عشرين فارسا فلما قرب من الروم ولى راجعا إلى المسلمين وأعلمهم بذلك فقالوا له: غررت بنفسك يا بن عم رسول الله فقال أن القوم طلبوني وخفت أن يراني الله منهزما فجاهدت باخلاص فنصرني الله عليهم واعلموا أنهم لنا غنيمة أن شاء الله تعالى قال فأقبل عمرو وخالد يرتبان العساكر ميمنة وميسرة وجناحين كما تقدم في اليوم الاول فجعل في الساقة زياد بن أبي سفيان بن الحرث في ألف فارس حول البنين والبنات والاموال وكانت فيهم النساء الاتي تقدم ذكرهن في أجنادين واليرموك وهن عفيرة بنت غفار وأم ابان بنت عتبة أخت هند وخولة بنت الأزور ومزروعة بنت عملوق وسلمة بنت ذراع ولبنى بنت سوار وسلمى بنت النعمان وهند بنت عمرون وزينب الأنصارية فهؤلاء من النساء اللاتي عرفن بالشجاعة فقال لهن خالد با بنات العرب لقد فعلتن فعالا أرضيتن الله ورسوله والمسلمين بها وقد بقي لكن ذكر يتحدث به جيلا بعد جيل وهذه أبواب الجنان قد فتحت لكن وأبواب النيران قد فتحت لاعدائكن وإني أحرضكن إذا جاءت الروم والسودان اليكن فقاتلن عن أنفسكن كما قاتلتن في يوم أجنادين ويوم اليرموك فإن رأيتن أحدا هاربا فدونكن وإياه بالعمد وأشرفن عليه بولده وقلن له إلى أين تولي عن أهلك وولدك وحريمك وحرضن المسلمين على ذلك فقلن أيها الأمير ما يفرحنا إلا أن نموت أمامك يا أبا سليمان لنضربن وجوه الروم والسودان حتى لا يبقى لنا عذر قال فشكرهن على ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 ثم عاد خالد إلى الصفوف وجعل يدور بينها بجواده ويحرض الناس على القتال وهو يقول. أيها الناس انصروا الله ينصركم وقاتلوا من كفر وأحبسوا أنفسكم في سبيل الله وأصبروا على قتال أعداء الله وقاتلوا عن حريمكم وأولادكم ولا تحملوا حتى آمركم بالحملة ولتكن سهامكم تخرج من كبد قوس واحد فإن السهام إذا خرجت جميعا لم يخل أن يكون فيها سهم صائب واصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون واعلموا أنكم لا تلقون بالوجه القبلي مثل هؤلاء اللئام فإنهم حماتهم وبطارقتهم وملوكهم فقالوا: سمعا وطاعة وأقبل خالد ووقف في القلب مع عمرو بن العاص وعبد الرحمن ابن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وقيس بن هبيرة ورافع بن عميرة الطائي والمسيب بن نجيبة الفزاري وذوي الكلاع الحميري وربيعة بن عباس ومالك بن الاشتر والعباس ابن مرداس السلمي ونظائرهم من بقية الأمراء ثم زحفوا بسكينة ووقار فلما رأى الروم ذلك والسودان زحفوا وكانوا ملء الأرض طولا وعرضا فلما التقى الفئتان وتراكم الجمعان وقد أظهر أعداء الله في ذينهم الصلبان والاعلام ورفعوا أصواتهم بالكفر والبهتان فبينا الناس كذلك إذ خرج راهب كبير عليه جبة سوداء وقلنسوة وزنار فنادى بلسان عربي أيكم أمير القوم فيخاطبني ويخرج الي فخرج إليه خالد فقال له: أنت أمير القوم. قال خالد: كذلك يزعمون ما دمت على طاعة الله وسنة رسوله فإن أنا بدلت أو غيرت فلا طاعة لي عليهم ولا امارة فقال القس اعلم إنكم قد ملكتم بلادا وقدمتم إلى بلاد ماجسر ملك من الملوك أن يتعرض لها ولا يدخلها وإن ملوكا كثيرة أرادوها فرجعوا خائبين وأفنوا أنفسهم عليها وإن النصر لا يدوم لكم وإن الملوك أرسلوني اليكم فإن سمحتم نجمع لكم مالا ونعطي لكل واحد منكم ثوبا وعمامة ودينارا ولك أنت مائة ثوب ومائة عمامة ومائة دينار ولكل واحد حمل من البر وحمل من الشعير ولك عشرة أحمال ولصاحبكم عمرو عشرة آلاف دينار ومثلها ثياب ومثلها عمائم ومائة حمل بر ومائة حمل شعير وارحلوا عنا وأنتم موقرون أنفسكم فاننا عدد الجراد ولا تظنونا كمن لاقيتم من الفرس والروم وأهل الشام والقبط فإن في هذا الجيش من النوبة والبجاوة والسودان والروم وكبار البطارقة والأساقفه ونجمع عليكم ما لا طاقة لكم به من بلاد السودان والواحات وكأنكم بالنجدة قد وردت علينا وإن بقية الروم لم تأت اليكم وإنما أرسلوا من يقاتل عنهم فقال خالد: والله ما نرجع عنكم إلا باحدى ثلاث خصال اما أن تدخلوا في ديننا أو تؤدوا الجزية أو القتال وأما ما ذكرت إنكم عدد الجراد فالله قد وعدنا بالنصر على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم وأنزله في كتابه وأما ما ذكرت أنكم تعطوننا من الثياب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 والعمائم فعن قريب نلبس ثيابكم وعمائمكم ونملك بلادكم جميعها كما ملكنا الشام ومصر والعراق واليمن والحجاز والروم فقال الراهب أنا أرجع أخبر أصحابي بذلك فإني قد أتيت من قبل البطليوس صاحب مدينة البهنسا وقد أرسلني إلى صاحب أهناس واتفق الملوك والبطارقة وأرسلوني اليكم وأنا أرجع إليهم وأخبرهم بجوابك ثم أن القس لوى راجعا من حيث جاء فلما رجع إليهم وأخبرهم بذلك كاتبوا ملوكهم على ذلك وأرسلوا جوابهم بالقتال فلما وصلت الكتب تقدمت الروم والسودان وقدموا بين أيديهم الفيلة وأمامهم الرجالة بالقسي والسيوف والدرق والمزاريق فصاح الفضل بن العباس ورفاعة بن زهير المحاربي والقعقاع بن عمرو والتميمي وشرحبيل بن حسنة والمقداد ابن الاسود الكندي ومعاذ بن جبل وقالوا: معاشر المسلمين اعلموا أن الجنان قد فتحت والملائكة قد أشرفت والحور تزينت وأشرفت من الجنان ثم قرأ: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111] ثم رتبوا الصفوف فتقدم خالد وقال اقرنوا المواكب واثبتوا واعلموا أن هؤلاء أكثر منكم بعشرة أمثالكم وأزيد فطاولوهم إلى وقت العصر فإنها ساعة النصر على الاعداء وإياكم أن تولوا الادبار وازحفوا على بركة الله وعونه. قال الراوي: وتزاحمت السودان والبربر والنوبة والبجاوة فلما تقارب الجمعان رمت أصحاب الفيلة نشابهم فكانت كالجراد المنتشر فقتلوا رجالا وجرحوا أبطالا وخالد تارة يضرب بسيفه في الميمنة وتارة في الميسرة وكان في أصحاب الفيلة من السودان والبربر سواكن يسمونهم القواد شفاههم العليا مشقوقة وبها خزام من نحاس فإذا كان وقت الحرب لا يخرجون القواد إلا إذا حمى الحرب واشتد الطعن والضرب وكانوا سودا طوالا طول كل واحد منهم عشرة أذرع فإذا ارادوا الحرب جعل في كل خزام سلسلة بطرفين في كل طرف واحد من البربر فإذا وقع صلح بين الفريقين والا زحفوا بهم وأطلقوا السلاسل ودفعوا لهم أعمدة من حديد طوالا فيضرب الواحد الفارس والفرس فيقتلها بضربة ومنهم من يركب الفيلة ويقاتل على ظهورها فلما التقى الجمعان خرجت تلك القواد وعلى أجسادهم جلود النمور وفوق اكتافهم مربوطة على صدورهم وفي أوساطهم مثل ذلك وهم عراة الاجساد والرؤوس ليس عليهم غير ما ذكرنا وبأيديهم الاعمدة والرجال يقودونهم بتلك السلاسل والجيوش ينظرون متى يؤمرون بالحملة فلما رأى المسلمون ذلك فمنهم من ثبت ومنهم من جزع قال: وبرز البطريق أخو بولص المقتول وهو راكب على جواد عال وعليه لحاف من جلود الفيلة وقاتل. قال الراوي: حدثني خالد بن أسلم عن طريف بن طارق وكان من الأزد قال لما فعل البطريق ذلك ولت الأزد من بين يديه منهزمين وإذا بفارس قد أقبل يركض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 بجواده وهو عاري الجسد حتى قرب من القوم وأنشد يقول: لقد ملكت يدي سنانا وصارما. ... أذل عداة السوء أن جئت قادما. وأتركهم شبه الرخام إذا مشى. ... عليه شجاع لا يزال مصادما. والا كأغنام مضين بقفرة. ... وأصبح مولاها عن السعي نائما. وقد ملك الليث الغضنفر جمعها. ... وأصبح فيها بالمخالب حاطما. قال الراوي: وصاح الفارس أنا ضرار بن الأزور أنا قاتل ملوك الشام أنا ضرار دين الإسلام والمسلط على من يكفر بالرحمن أنا قاتل بولص الكلب ذي الطغيان قال فلما سمع الروم كلامه عرفوه فتقهقروا إلى ورائهم فطمع فيهم وحمل عليهم فقال بطرس من هذا البدوي الذي لم يزل عاري الجسد ويقاتل بالسيف مرة وبالرمح مرة قالوا: هذا ضرار ابن الازور فتحير الملعون وقال هذا قاتل أخي ولقد اشتهيت أن آخذ بثاره ثم عزم على الخروج إليه فسبقه بولص رأس بطارقة الكورة وقال أنا آخذ بثارك ثم حمل على ضرار فتجاولا طويلا وافتركا مليا فما كان أكثر من ساعة حتى طعنه ضرار طعنة صادقة في صدره خرقت الدروع وخرجت من ظهره فانجدل صريعا وعجل الله بروحه إلى النار فقال بطرس هذا جني وليس للانسان أن يقاتل الجن ثم لبس لامة حربه وتعصب بعصابة من اللؤلؤ الرطب ولبس فوق درعه مثل ذلك وخرج يطلب ضرارا فسبقه شذم ادرس أحد بطارقة الكورة وحلف لا يخرج إليه وغيره وحمل على ضرار وقال دونك والقتال فلم يفهم ضرار ما يقول ثم حمل عليه وأخرج صليبا من الذهب كان معلقا في عنقه فضحك ضرار عليه وقال أنت تستعين بالصلبان وأنا استعين بالملك الديان. ثم أرى كل منهما ما أدهش الناس من الحرب فصاح خالد وبقية الأمراء ما هذه الفترة يا ضرار والجنة قد فتحت لك ولعدوك قد فتحت النار فاستيقظ ضرار وحمل على البطريق وصاحت الروم بصاحبها وصاروا في حرب عظيم وحميت عليهم الشمس وثار الحرب حتى كل منهما الساعدان وعرق تحتهما الجوادان فأشار البطريق إلى ضرار أن يترجل ويترجل البطريق معه شفقة على الجوادين وإذا برأس بطارقة أهناس قد أخرج له جوادا مجللا بالحرير ليركبه فلما نظر ضرار إلى ذلك صاح بجواده أثبت معي هذه الساعة والا أشكوك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فذرفت عين الجواد بالدموع وحمحم وجرى أكثر من جريه المعتاد وتلقى ضرار البطريق وحمل عليه وطعنه بعقب الرمح فأرداه وأخذ جواده وأراد قتله وإذا بكردوس خرج من الروم ومعهم الكلب الكبير شاول أحد بطارقة الأشمونيين وأحاطوا بضرار وكان على رأس شاول تاج من الذهب الأحمر فلما رأى الصحابة الكردوس الذي خرج على ضرار والتاج يلمع على رأسه قالوا لخالد: ما سبب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 قعودنا عن نصرة صاحبنا وقد أحاطت به الروم فعندها خرج خالد رضي الله عنه في عشرة من خيار قومه وهم الفضل بن العباس بن عبد المطلب وأخوه وعبد الله بن جعفر ومسلم وعلي أولاد عقيل وعبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن المقداد وقوموا الأسنة وأطلقوا الأعنة وصبر ضرار للروم حتى وصلت إليه الأمراء وقالوا. أبشر يا ضرار فقد أتاك النصر والفرج وقد ذهب عنك الخوف والجزع فلا تخف من الكفار واستعن بالله الواحد القهار فقال ضرار ما أقرب الفرج من الله والتقت الرجال بالرجال وطلب خالد صاحب التاج والعصابة وضرار مع خصمه فلما راى شاول البطريق المسلمين قد أحدقوا به وما حل بجماعته اندهش وارتعد هذا وضرار مع خصمه وقد أراد الهرب فألقى ضرار نفسه من على جواده وتبعه حتى لحقه ثم رمى الرمح من يده وتواخذا بالمناكب وتصارعا وكان عدو الله كأنه قطعة من جبل وضرار نحيف الجسم غير أن الله أعطاه حولا وقوة فلما طال بينهما العراك ضرب ضرار بيده في بطن عدو الله فقلعه وجلد به الأرض فصاح يستنجد بالبطارقة وتصارخت الروم والسودان وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يمهله ضرار دون أن ركب عليه وهو يعج كالبعير فعندها أظهر ضرار سيفه ومكنه من نحره فقتله فزعق زعقة سمعها العسكران فحملت الروم والسودان هذا وضرار قد احتز رأسه وقام عن صدره وهو ملطخ بالدماء ثم كبر المسلمون ودنا الفريقان بعضهم من بعض والتحمت الابطال وقوي القتال وعظم النزال وسال العرق وازورت الحدق وعظمت الرزايا وأظلمت الدنيا ودارت رحى الحرب وقوي الطعن والضرب وضاقت الصدور واشتدت الامور وضاقت المذاهب وقطعت المناكب وما كنت ترى إلا دما فائرا وكفا طائرا وجوادا غائرا هذا وقد زحفت السودان وأصحاب السلاسل ذوو الكفر والطغيان وضربوا بالاعمدة الحديد ويومهم يوم شديد وبانت الشجعان وفر الجبان وبقي حيران وعمرو بن العاص يحرض الناس على القتال ويقول يا أيها الناس ويا حملة القرآن اذكروا غرف الجنان فسر الناس بقوله ونشطوا وصارت السودان يضربون الفارس مع الفرس بالعمد الحديد فيقتلونهما جميعا وكذلك أصحاب الفيلة يرمون بالنشاب ويضربون بالحراب إلى أن جاء وقت العصر وقد قتل من الفريقين خلق كثير وظفر خالد بخصمه شاول لعنه الله وضربه بالسنان في صدره فخرج السنان يلمع من ظهره ووقع على الأرض يخور بدمه وعجل الله بروحه إلى النار وبئس القرار قال: ولما عظم القتال والبلاء قال رفاعة المحاربي وقد انتخب من بني محارب ولبيد ومالك خمسمائة فارس وقصد الفيلة وقال: يا وجوه العرب دونكم وأعينها ودنا من الفيل الأبيض وهو قائدها وهي خمسمائة فيل وتقدم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 إليه والسيف في يده وهو ينشد ويقول: يا لك من ذي جثة كبيرة. ... لقيت كل شدة خطيرة. اليوم قد ضاقت بك الحظيرة. ... حتى ترى ملقى على الحفيرة. قال ثم ضربه بالسيف فولى هاربا ثم برك وكان عليه عدة من السودان في قبة من الأديم فلما سقط الفيل إلى الأرض قام علج عن ظهره وفي يده عمود فضرب به رفاعة فزاغ عنه وضربه رفاعة على عاتقه الايمن فاطلع السيف يلمع من عاتقه الايسر فسقط عدو الله يخور في دمه وعجل الله بروحه إلى النار فتلاحقت العرب باعجاز الفيلة وصاروا يطعنون الفيلة في أعينها كما ذكرنا فولوا منهزمين قال: وقصد خالد والمقداد وأجواد الأمراء القواد الذين تقدم ذكرهم وطلبوا من الله النصر والثبات وصاروا يأتونهم وهم فارس عن اليمين وفارس عن اليسار فيقتلون مساك السلاسل ثم يمسكون أطراف السلاسل ويطلقون الاعنة فينقاد معهم كالبعير الشارد فياخذون العمود من يده ويقتلونه شر قتلة ولم يزل القوم في قتال ونزال وأهوال حتى جاء الليل وحجز بين الفريقين وقد قتل من الفريقين خلق كثير فأما المسلمون فقد قتلوا منهم أثني عشر ألفا من الملوك والبطارقة خمسة عشر بطريقا وملكا من السودان وغيرها وبات المسلمون يتحارسون إلى الصباح. قال الراوي: وكان قد اثخن بالجراح جماعة من المسلمين في ذلك النهار وكان المسلمون طائفة يدفنون القتلى وطائفة يداوون الجرحى وطائفة يقرءون القرآن وطائفة يصلون وطائفة نيام من كثرة ما لحقهم من التعب وخالد بن الوليد والزبير بن العوام والمقداد ابن الاسود وعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه يدورون حول العسكر إلى الصباح فلما لاح الفجر أذن المؤذنون وصلى عمرو بن العاص بالناس الصبح بسورة الفتح ثم دعوا الله عز وجل أن يرزقهم النصر ثم تبادروا إلى خيولهم فركبوها ورتبوا صفوفهم كما ذكرنا فيما تقدم بالامس فلما فرغ المسلمون من تعبية الصفوف أقبل الأمراء يحرضون الناس على القتال وقد جعلوا على الساقة رافع بن عميرة الطائي والحرث بن قيس ورفاعة بن زهير في خمسمائة فارس. قال الراوي: قال عبادة بن رافع حدثنا سالم بن مالك عن عبد الله بن هلال وكان في خيل رافع قال لما رتبت الصفوف والتقى الجمعان وكثر القتال وكل واحد اشتغل بنفسه ونحن نذب عن النساء والصبيان والنساء اللاتي تقدم ذكرهن يقاتلن أشد القتال إذ جاءنا كردوس عظيم من البطارقة والسودان والبجاوة ومعهم زهاء من ستمائة فيل وغافلونا ونحن مشغولون بالقتال واقتطعوا قطعة كبيرة من الابل والرجال والنساء والصبيان زهاء من ألف بعير ومائتي امرأة وغير ذلك وكان في ذلك زائد بن رابح البكري وعباد بن عاصم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 230 الغنوي ومعهما مائتا فارس فقاتلوا قتال الموت حتى أثخنوا بالجراح وقاتلت النساء بالاعمدة والخناجر فلله در عفيرة بنت غفار وسلمى بنت زاهر ونظائرهما من النساء لقد قاتلن حتى ضربن بالسيف على رؤوسهن وسالت الدماء على وجوههن وهن يقلن الله الله يا نساء العرب قاتلن عن العسكر وعن أنفسكن والا صرتن بأيدي الاعلاج الغلف والسودان فقاتلن قتال الموت وقتل من المسلمين خمسة عشر نفرا ختم الله لهم بالشهادة وساقوا النساء والصبيان. فرجع فارس إلى خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وأعلمهما بذلك وهم في أشد القتال فتصايحت المسلمون وخرج جماعة من الأمراء من وسط المعركة وهم الفضل بن العباس وعبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وزياد بن أبي سفيان وعبد الله بن أبي طلحة وضرار بن الازور وجماعة من الأمراء وتبعهم ستمائة فارس من العرب من صناديد القوم وأدركوهم عند أول الجبل وهم يريدون جهة الفيوم فعند ذلك زعق ضرار والفضل بن العباس إلى أين يا أعداء الله فتراجعت الروم والسودان عنهم واقتتلوا قتالا شديدا فابتدر ضرار إلى مقدم السودان وطعنه في صدره فاطلع السنان يلمع من ظهره وكذلك الفضل ابن العباس تقدم إلى بطريق عظيم وطعنه في لبته فأطلع السنان يلمع من قفاه فانجدل يخور في دمه وعجل الله بروحه إلى النار قال: واستمروا يقاتلون حتى قتلوا مقتلة عظيمة فلما عاينوا ذلك ألقوا ما بايديهم من الغنيمة وولوا وتواثب المسلمون وردوا السبي والحريم وردوا الاسارى وحلوهم وساعدتهم النساء بالاعمدة والسيوف والخناجر فكانت النساء يضربن وجوه الخيل بالعمد فيكبو الجواد بصاحبه فتتعلق المرأة بالفارس وتجذبه إلى الأرض فتجلد به الأرض ثم تضربه فتقتله حتى قتلن جماعة من الروم والسودان والبجاوة وغيرهم فلما رأوا ذلك ولوا منهزمين من بين أيديهم وتبعتهم المسلمون يقتلون ويأسرون حتى قتلوا منهم مقتلة عظيمة وأسروا منهم نحو ستمائة اسير من الروم والسودان وزحفوا وقد غنموا أسلابهم وخيولهم. قال الواقدي: هذا ما جرى لهؤلاء وأما العسكر فإنهم لم يزالوا في قتال شديد وأمر عتيد وضرب وطعان وقتل رجال وجندلة أبطال وفرسان وقد قامت الحرب على قدم وساق وضربت الاعناق وصالت الشجعان وولى الخبان حيران ودارت رحى الحرب واشتد الطعن والضرب وقطعت المعاصم وطارت الجماجم وحامت طيور المنايا وعظمت الرزايا واشتد الزحام وعظم المرام وضاقت الصدور وعظمت الامور واشتد الغبار وقل الاصطبار وقاتلت الأمراء بالرايات وبربرت السودان بلغاتها ورفعت الروم أصواتها وضربت ببوقاتها وطعنت برماحها ورمت بنشابها وحارت الافكار وعميت الابصار وثار الغبار وأظلم النهار وكان شعار المسلمين يا نصر الله انزل وصبر المسلمون لهم صبر الكرام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 فلله در الزبير بن العوام والمقداد بن االاسود والفضل بن العباس وعقبة ابن عامر والمسيب بن نجيبة الفزاري ونظائرهم من الأمراء فلقد قاتلوا قتالا شديدا وأبلوا بلاء حسنا وصبروا صبر الكرام. وأما عمرو وخالد والقعقاع بن عمرو وسعيد بن زيد فلقد كانوا يقاتلون قتال الموت وزحفت الفيلة برجالها وقاتلت الروم بابطالها والسودان بافيالها وقد كانت أصحاب الفيلة تعطف على خيل العرب ويرمون بالنشاب فيخرج كالجراد المنتشر حتى قلعت أعين كثيرة في ذلك اليوم فما كنت تسمع إلا من يصيح وايداه والفيلة تحطم والسودان يرمون الابطال فعندها وثب رفاعة بن زهير المحاربي وأتى إلى خالد وعمرو قال: أيها الأمراء أن دام هذا الامر هكذا هلكنا عن آخرنا قالا فما الرأي يا أبا حازم قال الرأي أن نجمع ثيابنا ونغمسها زيتا ودهنا ونجعلها على رؤوس الرماح ونجعل في أعلاها نارا ثم نأمر رجالا يجمعون القيصوم وغيره ونجعله في غرائر على ظهور الجمال عريا ونشغلهم بالقتال ثم تأتي الفرسان تمانعهم وتساق عليهم الجمال فإنها إذا أحست النار حطمتهم فلا يصبرون على ذلك والمعونة من الله تعالى فاستصوبوا رأيه وأعدوا رجالا لذلك وناوشوهم القتال فلم يكن إلا ساعة حتى تهيأت المكيدة وجمعوا من الفرسان الف فارس وصبغوا تلك الثياب بالدهن والزيت وأطلقوا الينران برؤوس الاسنة وحملوا الغرائر بالقيصوم وغيره وأشعلوا فيه نارا ووضعوا الحراب في أجناب الابل فلما أحست بالحراب في أجسامها والنار في ظهورها فعندها حطمت الروم والسودان فلما رأت الفيلة ذلك طارت عقولها وقطعت سلاسلها وداست قوادها ورمت ما على ظهورها من الرجال وداستهم باخفافها ورجعت خيل الرم وبراذينها وهربت بغالها وذابت قلوب رجالها وضربت الأمراء في الاعداء بسيوفها وطعنت برماحها ورمت بنشابها قال المسيب بن نجيبة ولقد رأينا طيورا أظلتنا في زي النسور وكان الطائر يرفرف بجناحه على وجه الكافر ورأسه ثم يضع مخاليبه في عينيه فيرميه إلى الأرض فلم تكن إلا ساعة بعد صلاة العصر حتى ولت الروم الادبار وركنوا إلى الفرار وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون حتى جاء الليل وأظلم النهار ووصلت الهزيمة إلى القرية المعروفة بالدير والى اللاهون والى أهناس والى ميدوم وتبعتهم المسلمون الليل كله إلى الصباح وقد تفرق شملهم وشرد جمعهم وأسر منهم جماعة كثيرة نحو خمسة آلاف وقتل منهم ما لا يحصى. قال رافع بن أزد الجهني لما رجعنا إلى مكان المعركة وجدنا الأرض قد امتلأت من قتلى الروم والسودان والبجاوة وغيرهم واختلط جماعة من قتلى المسلمين بهم ما عرفناهم من الروم إلا أن الروم كان بايديهم صلبان والمسلمون ليس لهم ذلك فميزناهم منهم بذلك وجمعنا جريد النخل والقصب ووضعنا على كل قتيل جريدة أو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 232 قصبة وذلك في مكان المعركة ثم جمعناها وحصرناها فإذا الكفار تسعون ألفا وقتل في الجبال والطرقات ما لا يحصى وتفقد المسلمون من قتل منهم فإذا هم خمسمائة وثلاثون رجلا وجمعت المسلمون الغنائم والاموال ثم قسمت وأخرج عمرو منها الخمس وكتب كتابا بالفتح وما جمعه من الخمس واستدعى بالأمير هاشم بن المرقال رضي الله عنه وندب معه ثلاثين رجلا من خيار الجند وأمره بالمسير إلى المدينة وأقام المسلمون بالمرج بعد الوقعة خمسة أيام حتى استراحوا ورجع من كان خلف المنهزمين ثم اجتمعوا إلى عمرو واستأذنوه في المسير إلى الوجه القبلي فأذن لهم وودعهم ودعا لهم وقال يعز علي فراقكم ولو أن أمير المؤمنين لم يأمرني بالمسير ما فارقتكم ثم رجع معه ثلاثة آلاف ومائة وعشرون وكان جملة من قتل ثمانمائة وثمانين ختم الله لهم بالشهادة وقيل ألف وقيل تسعمائة وأربعون على اختلاف الرواة والله أعلم أي ذلك كان. قال الراوي: ما أخذت في هذا الكتاب إلا على قاعدة الصدق والمعونة من الله تعالى فلما ملكت المسلمون البلاد وأذلت أهل الشرك والفساد وذلك ببركة الصحابة رضي الله عنهم فهم الرجال الابطال والسادة الاخيار والمهاجرون والانصار وأصحاب محمد المختار الذين فتحوا بسيوفهم الامصار وأذلوا الكفار وأرضوا العزيز الغفار وباعوا نفوسهم لله الواحد القهار بجنات تجري من تحتها الانهار. قال الراوي: لما رجعت المنهزمون إلى الملوك والبطارقة وأخبروهم بذلك وقع الرعب في قلوبهم وحاروا في نفوسهم ولم يدروا ما يدبرون وما يصنعون قال فصعب على بطريق اهناس وعلى صاحب البهنسا ما صنع ببطارقتهما وعولوا على الحصار وجمعوا الآلة وصاروا يخرجون ما يحتاجون إليه وتيقنوا أن لا بد للحرب من أرضهم ووطنوا أنفسهم وكذلك بطارقة الصعيد وملوكه وضاقت نفوسهم مما حل بهم. قال الراوي: ووصل الكتاب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ففرح بذلك فرحا شديدا وقرأ الكتاب على علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف والعباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ففرحوا بذلك فرحا شديدا ثم قسمت الغنائم على أهل المدينة وقسم لنفسه كأحدهم رضي الله عنه وكتب جواب الكتاب ودفعه لهاشم وقال له: قل لعمرو يحث الصحابة ويحرضهم على فتح الصعيد. قال الراوي: وأما عمرو بن العاص رضي الله عنه فإنه لم يرجع إلى مصر حتى قسم الغنائم بين الصحابة وفضل أصحاب الولاء وأهل السابقة ورجع إلى مصر بعد أن جهز العساكر إلى الصعيد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 قال الراوي: ولما فارق عمرو بن العاص خالد بن الوليد والأمراء رضي الله عنهم استشار بعضهم بعضا أي مكان يقصدون فاتفق رايهم أن يسيروا ألف فارس طليعة وأمر عليهم قيس بن الحرث ومعه جماعة من أمرائهم منهم رفاعة بن زهير المحاربي والقعقاع بن عمرو التميمي وعقبة بن عامر الجهني وذو الكلاع الحميري رضي الله عنه وصاروا يسيرون في وسط البلاد وبقية العساكر قريبة منهم فمن أطاعهم وطلب الامان أمنوه وصالحوه ووضعوا عليه الجزية ومن أبى قاتلوه ومن أسلم تركوه وسار خالد ببقية الجيش يريدون أهناس فإنها كانت أعظم مدائن الوجه القبلي بعد الكورة وكانت حصينة آهلة بالخيل والآلة والعدة ولما أحس بطريقها بمجيء الصحابة إليه جمع البطارقة وقد انكسرت جنودهم وخمدت نيرانهم وكلمتهم بانهزام جيوشهم وشاورهم في أمرهم وقال لهم: خذوا أهبتكم وقاتلوا عن حريمكم وأموالكم والا صرتم عبيد للعرب يفعلون بكم ما يختارون وإن شئتم صالحناهم حتى يعلم ما يكون من بطارقته فأجابوه وقالوا: لا نسلم البلاد حتى نغلب ونجمع أموالنا في هذه المدينة الحصينة ونقاتل فإن غلبنا عولنا على الحصار واتفق رأيهم على ذلك فكان الذي أجابهم إلى ذلك خرج بنفسه وأمواله ومن لم يجبهم إلى ذلك أقام وكذلك بطارقة البهنسا منهم من انتقل إلى البهنسا بماله وأولاده ومنهم من أقام ببعض المدائن ممن عولوا على الاقامة والحصار والقتال. وسار خالد بالجيش حتى قرب من اهناس وبين يديه الطلائع والأمراء وهم يشنون الغارات على السواحل والبلاد فمن خرج إليهم وصالحهم وعقد معهم صلحا صالحوه ولهم الميرة والعلوفة الضيافة ومن أبى دعوه إلى الإسلام فإن أبى طلبوا منه الجزية فإن أبوا شنوا عليهم الغارة حتى وصلوا قريبا من اهناس وبلغ الخبر إلى عدو الله فقال: لا بد من لقائهم وقتالهم حتى أنظر ما يكون من أمرهم ثم خرج إلى ظاهر المدينة قريبا من السور ولم يبعد عنها وكان للمدينة أربعة أبواب فأغلق ثلاثة وفتح الباب الشرقي وأخرج الخيام والسرادقات وأكثر من العدة والزينة وقال أن دخلنا المدينة من غير قتال طمعت العرب في جانبنا ثم فرق بطارقته وعرض جيشه فكانت عدتهم خمسين ألفا وقال اثبتوا وقاتلوا عن حريمكم ولا تكونوا أول جند أخذوا وأقاموا يتأهبون للقتال وينتظرون قدوم الصحابة رضي الله عنهم. قال الواقدي: وأما خالد فلما قرب من أهناس استدعى بالزبير بن العوام وضم إليه ألف فارس من الأمراء وغيرهم وأمره بالمسير ثم استدعى بالفضل بن العباس وضم إليه ألف فارس وسار على أثره ثم استدعى بميسرة بن مسروق العبسي وضم إليه ألف فارس وسار على أثره الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 ثم استدعى بزياد بن أبي سفيان وضم إليه ألف فارس وسار على أثره ثم استدعى بمالك الأشتر النخعي وضم إليه ألف فارس وسار على أثره وسار خالد ببقية الجيش. قال: حدثنا عون بن سعيد قال: حدثنا هاشم بن نافع عن رافع بن مالك العلوي قال كنت في خيل الزبير بن العوام رضي الله عنه لما توسطنا البلاد وتعرضنا لاهلها وشننا الغارة على السواد فوجدنا قطيعا من الغنم ومعها رعاة فلما أحسوا بنا تركوها ومضموا فسقناهم ثم سرنا قليلا وإذا بنساء وصبيان مشرفة ونصارى من القبط وغيرهم فلما رأونا فروا وكان معهم عشرون فارسا من العرب المتنصرة من جذام ومعهم بطريق من البطارقة عليه الزينة الفاخرة فلما عاينونا فروا من بين أيدينا فأطلقنا الغارة عليهم فما كان غير بعيد حتى أدركناهم وقبضنا عليهم وسالناهم فأجابوا بأنهم من قرى شتى وانهم يريدون اهناس فعرضنا عليهم الإسلام فامتنعوا فأردنا قتلهم فمنعنا من ذلك الزبير رضي الله عنه وقال: حتى يحضر الأمير خالد ويفعل ما يريد قال: وسرنا حتى قربنا من أهناس ورأينا المضارب والخيام والسرادقات فأعلن الزبير بالتهليل والتكبير وكبر المسلمون حتى ارتجت الأرض لتكبيرهم وخرجت الروم إلى ظاهر خيامهم ينظرون الينا وعدو الله مارنوس بن ميخائيل ينظر الينا والحجاب والنواب وأرباب الدولة من البطارقة حوله وعليهم أقبية الديباج وعلىرؤوسهم التيجان المكللة وبأيديهم العمد المذهبة والسيوف وهم محدقون به عن يمينه وشماله قال فلما أقبلنا عليهم تصايحوا ورطنوا بلغتهم وأعلنوا بكلمة كفرهم واستقلونا في أعينهم ولما قرب الزبير من القوم هز الراية وأنشد يقول: أيا أهل أهناس الطغاة الكوافر. ... ويا عصبة الشيطان من كل غادر. أتتكم ليوث الحرب سادات قومها. ... على كل مشكول من الخيل ضامر. فإن لم تجيبوا سوف تلقون ذلة. ... ونقتل منكل كل كلب وفاجر. قال الراوي: ثم نزلنا قريبا من القوم فلم يكن غير قليل حتى أقبل الفضل بن العباس رضي الله عنه وحوله السادات الاماجد فكبر وكبروا معه وهز الراية وأنشد يقول: أيا أهل أهناس الكلاب الطواغيا. ... أتتكم ليوث الحرب فاصغوا مقاليا. اقروا بأن الله لا رب غيره. ... والا تروا أمرا عظيما مدانيا. اقروا بأن الله أرسل أحمدا. ... نبيا كريما للخلائق هاديا. قال الراوي: ثم نزل قريبا من أصحابه فلم تكن إلا ساعة حتى أقبل الأمير ميسرة بن مسروق العبسي وكبر هو والمسلمون فأجابه المسلمون فهز الراية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 وأنشد يقول: أتينا لاهناس بكل غضنفر. ... على كل صاهل من الخيل أجرد. فإن هم أطاعونا شكرنا فعالهم. ... والا أبدناهم بكل مهند. ونخرب أهناسا ونقتل أهلها. ... إذا خالفوا دين النبي محمد. قال الراوي: ونزل قريبا من الفضل ولما كان غروب الشمس أقبل زياد بن أبي سفيان رضي الله عنه بمن معه وكبر هو والمسلمون وهز الراية وأنشد يقول: هلموا إلى أهناس يا آل هاشم. ... ويا عصبة المختار نسل الاعاظم. ودونكم ضرب السهام وبشدة. ... وقطع رؤوس ثم فلق جماجم. لننصر دينا للنبي محمد. ... نبي الهدى المبعوث من آل هاشم. قال الراوي: وبات المسلمون رضي الله عنهم يقرءون القرآن ويصلون على النبي صلى الله عليه وسلم وهم يتحارسون حتى لاح الفجر ثم اقبل المقداد رضي الله عنه باصحابه وكبر هو والمسلمون ولما قرب من أصحابه هز الراية وأنشد يقول: أنا الفارس المشهور في كل موطن. ... وناصر دين للنبي محمد. لعلل ننال الفوز عند الهنا. ... فيافوز من أضحى نزيل المؤيد. ونقتل عباد الصليب جميعهم. ... بأسمر خطى وعضب مهند. قال الراوي: ونزل بإزء الفضل وتكلم الأمراء المتقدم ذكرهم قال: ولما رأونا ظنوا أن ليس وراءنا أحد وقعدنا ذلك اليوم ولم نكلمهم ولم يكلمونا فلما كان اليوم الثاني عند طلوع الشمس إذا بالغبار قد طلع والقتام قد ارتفع من خيول عادية وعليها فوارس حجازية وكبر المسلمون ورفعوا راياتهم الإسلامية وأعلامهم المحمدية فسمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الصياح فخرج الأمراء إلى لقائهم وإذا في أوائلهم خالد بن الوليد رضي الله عنه والى جانبه غانم بن عياض الاشعري وأبو ذر الغفاري وأبو هريرة الدوسي واسمه عبد الرحمن وبقية الأمراء والمهاجرون والانصار فلما رأت الروم ذلك من قريب دخل الرعب في قلوبهم ونزل اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قريبا من أهناس كل منهم في مركزه وأقاموا ذلك اليوم فلما كان اليوم الثالث جمع خالد الأمراء وأصحاب الرايات واستشارهم فيمن يمضي إلى بطريق أهناس فقال المقداد أنا له فقال له خالد: أنت له فخذ من شئت فأخذ معه ضرار بن الازور وميسرة بن مسروق العبسي وقال لهم خالد: أدعوه إلى الإسلام فإن أبى فالجزية فإن أبى فالقتال واحرصوا على أنفسكم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 قال الراوي: وساروا إلى القوم حتى قربوا من العسكر وهم يدوسون بخيولهم أطناب الخيام والسرادقات فصاحت بهم الحجاب من تكونون فقالوا: نحن رسل فأعلموا البطريق بذلك فأمر بأحضارهم فلما حضروا بين يديه صاحت بهم الحجاب والنواب أن قبلوا الأرض للملك فلم يلتفتوا إليهم ولم ينزلوا إلا على باب سرادق الملك ووقفوا على الباب فأذن لهم في الدخول فدخلوا وأمسكوا لجم خيولهم فاراد الغلمان أن يمسكوها فامتنعوا من ذلك فأشار إليهم البطريق فتركوهم ثم دخلوا عليه فإذا هو جالس على سرير من الذهب مرصع بالدر والجوهر وحوله البطارقة جلوس والحجاب والنواب وأرباب الدولة قيام وبأيديهم السيوف والاعمدة والرماح فلما رآهم تغير لونه واندهش وأذن لهم بالجلوس فقالوا: لا نجلس على هذا الفرش فإنه حرام علينا فأمر بالبسط الحرير فرفعت ثم فرش أنطاعا من الصوف ثم أشار إليهم فقالوا: لا نجلس حتى تنزل عن سريرك قال فرطنت الروم فأشار إليهم فسكتوا وأرادوا أن ينزعوا منهم سيوفهم فامتنعوا من ذلك فتركوهم وكلمهم الملك فأبوا حتى ينزل عن سريره فنزل وكلمهم بلسان عربي وسألهم عن حالهم فأجابوا أنهم لا يفارقونه حتى يسلم هو وقومه أو يؤدوا الجزية أو القتال فامتنع عن ذلك وقال اذهبوا والموعد غدا للقتال وخرجوا من عنده على ذلك ورجعوا إلى خالد وأعلموه بذلك فتأهب الأمراء للحرب فلما أصبح خالد صلى بأصحابه صلاة الصبح وبادروا للحرب والقتال وصاحوا النصر النصر يا خيل الله اركبي وللجنة اطلبي فركب المسلمون خيولهم وركزوا راياتهم واصطفوا ميمنة وميسرة وقلبا وجناحين وخالد في وسط الجيش وعلى الساقة ميسرة بن مسروق العبسي ومالك الاشتر النخعي في خمسمائة فارس من المهاجرين والانصار. قال الراوي: فلم تكن غير ساعة حتى برزت الروم وأظهرت صلبانها. قال: حدثنا رافع بن مالك عن عباد بن مازن عن محمد بن مسلمة الانصاري رضي الله عنه قال لما أقبلت رايات القوم عددناها فإذا هي خمسون صليبا تحت كل صليب ألف فارس فكان أول من افتتح الحرب بطريق عليه ديباجة حمراء وعلى رأسه بيضة معصب عليها بعصابة من جوهر فبرز إليه فارس من خثعم يقال له زيد بن هلال: فقتله ثم طلب البراز فبرز إليه عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولم يمهله أن ضربه بالسيف على عاتقه الايمن فخرج يلمع من عاتقه الايسر فانجدل عدو الله يخور في دمه وعجل الله بروحه إلى النار وطلب البراز فبرز إليه فارس من الروم فقتله ثم آخر فقتله وطلب الميمنة وشوش صفوفهم وقتل أبطالهم ثم عاد إلى القلب ثم خرج من بعده شرحبيل بن حسنة وفعل كفعله ثم حمل من بعده الفضل بن العباس ثم حمل من بعده العباس بن مرداس ثم من بعده الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 أبو ذر الغفاري ثم تبارد المسلمون بالحملة فلما رأى الروم ذلك ايقظوا أنفسهم في عددهم وعديدهم وتظاهروا البيض والدرع ولم يزل القتال بينهم حتى توسطت الشمس في قبة الفلك. قال الراوي: فعندها حمل خالد بن الوليد وغاص في الميمنة فقلبها على الميسرة وغاص في الميسرة فقلبها على الميمنة وقاتلت العرب قتالا شديدا حتى جاء الليل وحجز بين الفريقين وبات المسلمون يتحارسون وتفقد المسلمون بعضهم بعضا فإذا قد قتل منهم اثنان وأربعون رجلا ختم الله لهم بالشهادة الاعيان منهم ربيعة بن عامة الداودي وزيد بن ربيعة المحاربي وغانم بن نوفل المحاربي وصفوان بن مرة اليربوعي والبقية من أخلاط الناس وقتل من أعداء الله ألف وثلثمائة وأزيد ولما خلا عدو الله بأصحابه تذاكروا ما وقع في الحرب وصعب عليهم ما لقوه من العرب فأراد الملك الصلح فغلب البطارقة عليه وأعدوا للحرب والقتال فلما أصبح الله الصباح وبارق الفجر لاح صلى المسلمون صلاة الصبح ثم اصطفوا على ظهور خيولهم واصطفت الروم وبرزت البطارقة وأظهروا زينتهم وبرز بطريق عظيم يقال له صاحب طنسا: وعليه لامة حربه وطلب البراز فبرز إليه الفضل بن العباس فتجاولا وتعاركا وتخالفا بضربتين فكان السابق بالضربة الفضل بن العباس فضربه بالسيف على رأسه فوصل إلى أضراسه فانجدل صريعا يخور في دمه وعجل الله بروحه إلى النار وبئس القرار وبرز بطريق ثان فقتله ولم يزل كذلك حتى قتل أربعة من خيارهم فحملت الروم حملة واحدة وحمل المسلمون وحمل ضرار بن الازور رضي الله عنه وأظهر شجاعته وحمل مذعور بن غانم الاشعري والفضل بن العباس ومحمد بن عقبة بن أبي معيط ومسلم وجعفر وعلي أبناء عقيل وعبد الله بن جعفر وسليمان ابن خالد وعبد الرحمن بن أبي بكر وتجاهرت الأمراء وعظم الخطب وكثر الطعن والضرب وثار القتام حتىصار النهار كالظلام وتراشقوا بالنبال واشتد القتال وقطعت المعاصم وطارب الجماجم فما كنت ترى إلا جوادا غائرا ودما فائرا واشتد الكرب وكثر الطعن والضرب وسال العرق واحمرت الحدق وجال خالد كالاسد وأرغى وأزبد فعند ذلك رفع غانم بن عياض طرفه إلى السمار وقال: يا عظيم العظماء أنزل علينا نصرك كما أنزلته علينا في مواطن كثيرة وانصرنا على القوم الكافرين فامنت جماعة من الأمراء على دعائه فما كان غير بعيد حتى رأيت الرجال الكفار يتساقطون لا ندري بماذا يقتلون فلما رأى الروم ذلك فروا إلى الباب وتبعتهم المسلمون يقتلون ويأسرون وينهبون والحجارة تأخذهم من أعلى السور وهم لا يلتفتون إلى ذلك ودخلوا إلى الأبواب ودخل اللعين وصال عليهم خالد وجماعة من الأمراء واقتطعوا قطعة من الروم نحو خمسة آلاف وكان المسلمون قريبين من اللعين فاقتتلوا عند الباب ورموهم بالحجارة فقتلوا منهم نحو من ثلاثة آلاف وخرج الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 من الباب نحو من ألف فارس وحملوا ودخل الباقون وأغلقوا بابهم وطلعوا على الاسوار واشتد القتال والحصار ورموا بالحجارة والنبال حتى فرق الليل بينهم. قال الراوي: وأقام المسلمون على حصار أهناس ثلاثة أشهر وفي كل يوم يناوشونهم بالقتال والاسوار رفيعة والأبواب منيعة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كل يوم يشنون الغارات حتى يصلوا إلى أطراف الكورة. قال الراوي: واقام المسلمون على حصار اهناس ثلاثة أشهر وفي كل عنهم المدد وضاقت أنفسهم وطمعت فيهم الصحابة ثم أن خالدا استشار اصحابه ماذا يصنعون وقد أعياه فتح الباب فقال له المرزبان رضي الله عنه: وكان من مرازبة كسرى وقد أسلم وخرج إلى الجهاد وحبس نفسه لله عز وجل وهو المقتول بالبهنسا قريبا من البلد شرقي البحر اليوسفي في وقعة صاحب طنجة ذات الاعمدة وسيأتي ذكر ذلك في موضعه أن شاء الله تعالى فقال المرزبان اننا كنا في بلاد الفرس إذا حاصرنا مدينة ولم نقدر على فتحها أخذنا زيتا وكبريتا ووضعناه في صناديق من خشب وجعلنا لها أعوادا تحملها رجال ورجال يذبون عنهم إلى أن يصلوا إلى الباب أو إلى قريب منه ويجعلون في الصناديق نارا ويولون فتعلق النار في الأبواب ويذوب الحديد فتفتح الأبواب وتعلق النار في الحطب والخشب والحجارة فتهدمها فقال خالد: نفعلها أن شاء الله تعالى فلما أصبحوا فعلوا ذلك وأسرعوا في جمع ما ذكرنا ووضعوه في صناديق وجعلوا في أطرافها أعوادا طوالا من أسفلها وحملتها الرجال وخرج خلفهم الفرسان يقاتلون والمرزبان أمامهم يعلمهم كيف يصنعون وهم مستترون بالدرق والحجف والحجارة والنبال تتساقط عليهم من أعلى السور حتى وصلوا إلى أول باب من أبواب المدينة وهو الباب الشرقي وهو أعظم أبوابها. فلما قربوا من الباب رفعوا الصناديق على الباب وألقوا النار في الزيت والكبريت ووضعوها وانقلبوا فلم يكن أسرع من لحظة حتى تعلقت النار بحجارة الباب والاخشاب والحديد وثارت النار إلى أعلى السور حتى وصلت إلى البرج فسقط البرج بمن فيه من الروم وهلك منهم جماعة كثيرة وتبادرت المسلمون إلى الباب وملئوا قرب الماء وأطفئوا تلك النار ودخلوا من الباب وقصدوا قصر الملك وكان حصينا على أعمدة من الحجارة المنحوتة وكانوا أغلقوا أبوابه ففعلوا به كما ذكرنا ولما رأى الملعون ذلك لم يطق أن يصبر وأمر بفتح الباب وصاح الامان ومعه جماعة من حشمه وخدمه وبطارقته فعرضوا عليهم الإسلام فابوا فأمر خالد بضرب أعناقهم فمن أسلم تركوه ومن أبى قتلوه واستغاثت بهم السوقة والرعية وقالوا: مغلوبون فمن أسلم تركوه ومن بقى على دينه ضربوا عليه الجزية وهدموا دورا وأماكن حتى صارت تلالا وغنم المسلمون أموالا كثيرة من أواني الذهب والفضة والفرش الفاخرة ووضعوا فيها عبادة بن قيس قيما ومعه ثلثمائة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 من المسلمين وخرجوا بظاهر المدينة ولم يبق إلا من أسلم ومن وضعت عليه الجزية وعمروا بها مسجدا ولما فرغ خالد من ذلك جمع الغنائم وأخرج خمسها وأرسله إلى عمرو بن العاص يرسله إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه في المدينة وأرسل لعمرو بن العاص سهمه ولاصحابه المؤمنين المقيمين بمصر ونواحيها وأقام خالد بعد ذلك باهناس هو وجماعته من الأمراء اربعين يوما واستدعى خالد بعدي بن حاتم الطائي رضي الله عنه وأضاف إليه ميمون بن مهران وضم إليه ألف فارس وأمرهم أن ينازلوا أول بلاد البطليموس لعنه الله وينازلوا أهل الكورة وإذا وصل إلى قيس ابن الحرث يأمره بالمسير إلى قريب البهنسا ويقاتل من يقاتله ويسالم من يسالمه ويصالح من يصالحه حتى يأتيه المدد ثم أرسل في أثره غانم بن عياض الاشعري رضي الله عنه وضم إليه ألف فارس فيهم الفضل بن العباس والمسيب بن نجيبة الفزاري وأبو ذر الغفاري والمرزبان الفارسي وكذلك جعفر ومسلم وعلي وعبد الله بن المقداد وولد خالد سليمان ومحمد بن طلحة وعمرو بن سعد بن أبي وقاص وشرحبيل بن حسنة كاتب وحي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لهم خالد: سيروا حتى تصلوا إلى مدينة البهنسا وأنا في أثركم ما لم يحصل لي ولاصحابي مانع وادعوا القوم إلى الإسلام فإن أجابوكم فلهم ما لنا وعليهم ما علينا ومن أبي فالجزية ومن أبى فالحرب والقتال ونازلوا المدائن وأقرنوا المواكب ولا تسيروا إلا يدا واحدة وفرقوا الكتائب وكونوا قريبين بعضكم من بعض غير متباعدين فإذا وقعت كتيبة منكم بما لا طاقة لها به تبعت النفير وثبتوا هممكم وأخلصوا نياتكم وقووا عزائمكم فإذا وصلتم إلى البهنسا التي هي دار ملكهم ومحل ولايتهم فأرسلوا إلى الملك وادعوه إلى الإسلام فإن اطاع فاتركوه في ملكه وإن أبى فالجزية عن يد وهم صاغرون وإن ابى فالسيف حكم حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين وبلغني أنها مدينة كثير أهلها وإنها كثيرة الخيل وحولها مدائن وبلاد وقرى ورساتيق فمن سالمكم وصالحكم فصالحوه ومن قاتلكم فقاتلوه وعليكم بالحزم واخلاص النية وصدق العزيمة قال الله تعالى في كتابه المكنون: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200] ثم استدعى بالمغيرة بن شعبة رضي الله عنه وكان معه زياد الاكبر أبو المغيرة جد زياد الذي هو بقرية ديروط بقرب طنبدا وسيأتي ذكر زياد بن المغيرة وأصحابه هناك أن شاء الله تعالى عند وقعة الدير واستدعى بسعيد ابن زيد أحد العشرة رضي الله عنهم وأبان بن عثمان بن عفان وجدد عليهم الوصية وودعهم. قال الراوي: وسار عدي بن حاتم الطائي وميمون حتى وصلا ميدوم وما حولها فوجدوا قيس بن الحرث قد صالح أهل تلك الأرض وعقد لهم صلحا وأقرهم بالجزية ما عدا جماعة وكذلك أهل برنشت بعد قتل بطريقهم وكذلك أهل تلك البلاد إلى دهشور الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 ونادى في ذلك الاقليم بالامان وجبوا له أموالا عظيمة على الصلح والجزية وعبر جماعة من المسلمين إلى البر الشرقي وهم رفاعة بن زهير المحاربي وعقبة بن عامر الجهني وذو الكلاع الحميري وألف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وشنوا الغارات من العقبة التي هي قريب من قبلي حلوان على تلك القرى والبلاد فمن صالحهم صحالحوه ومن أبى قاتلوه حتى وصلوا إلى اطفيح ثم إلى البرنيل وكان هناك بطريق يعرف بصول فخرج إليهم اهلها فصالحوهم على الجزية وعبروا من هناك وسار عدي بن حاتم حتى اجتمع بقيس بن الحرث قريبا من القرية المعروفة بقمن ونزل ميمون هو وجماعته بالقرية المعروفة بالميمون فقال له قيس بن الحرث: لا تنزل هنا حتى يفتح لنا ما حولها من البلاد ويأتي خبر من الأمير خالد بن الوليد ويأذن لنا بما يريد فأجاب الىذلك ونزل عدي بأصحابه بالقرية المعروفة ببني عدي ثم سار وترك ابنه حاتما واخوته وأحاطوا بالقرية وسار قيس واصحابه حتى وصلوا إلى القرية المعروفة بنوس والبلد المعروف بدلاص فخرج إليهم أهلها بعد قتل بطريقهم وصالحوهم وتوسطوا البلاد على ساحل البحر حتى نزلوا ببا الكبرى وغانم بن عياض على أثرهم وكان بها دير عظيم يعرف بدير أبي جرجا وكان له عيد عظيم يجتمعون إليه من سائر البلاد فوافق قدوم الصحابة قريبا من عيدهم فجاءهم رجل من المعاهدين وأعلمهم بذلك فانتدب قيس ابن الحرث رضي الله عنه عنه ومعه جماعة من أصحابه خمسمائة فأمر عليهم رفاعة بن زهير المحاربي وأمرهم أن يشنوا الغارة على الدير قال: وكان جماعة من رؤساء الكورة من الروم والقبط والخيول المسومة حول الدير يحرسونهم وهم في أكلهم وشربهم وزينتهم وبيعهم وشرائهم فما احسوا إلا والخيل على رؤوسهم فما قاتلوا إلا قليلا وانهزموا ونهب أصحابه جميع ما في السوق من أثاث وغيره وساقوا الغنائم وأحاطوا بالدير فقاتلوا من على الدير فقطعوا السلاسل والاقفال وتعلق جماعة من الصحابة على الحيطان ودخلوا الدير واخذوا منه أمتعة وأثاثا وأواني من ذهب وفضة وأسروا مائة اسير وساروا حتى توسطوا البلاد وكان بالقرب من البحر اليوسفي قرى كثيرة وبلدان وكان فيها مدينة تعرف بسحاق وكان بها بطريق من عظماء بطارقة البطليوس فلما بلغه قدوم الصحابة جمع جنوده إلى البلد المعروف بأقفهس والى البلدين المعروفين بشمسطا واليسلقون والى البلد المعروفة بنشابه فلما بلغه قدوم الصحابة جمع الخيل والروم والفلاحين والنصارى ستة آلاف وخرج يكشف بهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيس بن الحرث خرج إليه أهل ببا الكبرى وما حولها من السواد وكذلك أهل هوريت وعقد لهم صلحا وساروا فلما قربوا من القرية المعرفة الآن ببني صالح فبينما هم سائرون إذا بالغبار قد طلع وانكشف عن ستة صلبان تحت كل صليب ألف فلما رآهم المسلمون لم يمهلوهم دون أن حملوا عليهم واقتتلوا قتالا شديدا وثار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 الغبار وقدحت حوافر الخيل الشرار والتقى الجمعان واصطدم الفريقان فلله در رفاعة بن زهير المحاربي وعقبة بن عامر الجهنى وعمار بن ياسر العبسي وميسرة بن مسروق العبسي. قال الراوي: وقاتلت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قتالا شديدا وصبروا صبر الكرام وكان عدو الله لاوي بن أرمياء صاحب شيزا فارسا شديدا وبطلا صنديدا فجال وصال وقتل الرجال فعندها برز إليه فارس من المسلمين يسمى سنان بن نوفل الدوسي فقتله فخرج إليه عمار بن ياسر العبسي فتجاولا وتعاركا وتضاربا وتطاعنا ووقع بينهما ضربتان وكان السابق بالضربة عمار فطعنه بالرمح في صدره فاطلع السنان يلمع من ظهره فانجدل عدو الله يخور في دمه وعجل الله بروحه إلى النار فعندها غضب الروم لأجل قتل صاحبهم وحملوا على عمار في كبكبة من الخيل فعقروا الجواد من تحته وتكاثروا عليه فقتلوه وقتل من المسلمين خمسة عشر رجلا. قال: حدثنا سنان بن نوفل عن مالك عن غانم اليربوعي وكان في خيل رفاعة بن زهير المحاربي قال نحن في القتال وقد عظم النزال ووطنا أنفسنا على الموت ورفاعة يحرض الناس على القتال وهو ينشد ويقول: يا معشر الناس والسادات والهمم. ... ويا أهيل الصفا يا معدن الكرم. فسددوا العزم لا تبغوا به فشلا. ... ومكنوا الضرب في الهامات والقمم. وخلفوا القوم في البيداء مطرحة. ... على الثري خمشا بالذل والنقم. قال الواقدي: وجعل يحرضهم ويقول يا معشر السادات والاقيال ابشروا فإن الروم لم تقم لهم أبدا وأبشروا بالحور والولدان في غرفات الحنان وإن الجنة تحت ظلال سيوفكم قال رفاعة فبينما نحن في أشد القتال إذا بغبرة قد لاحت وانقشعت وانكشف الغبار عن ألف فارس في الحديد غواطس عليهم الدروع الداودية وعلى رؤوسهم البيض العادية المجلية معتقلين بالرماح الخطية راكبين الخيول العربية فتأملناهم فإذا هم سليمان بن خالد بن الوليد وعبد الله بن المقداد وعبد الله بن طلحة وأخوه محمد وزياد بن المغيرة والوليد ومحمد بن عتبة ومحمد ابن أبي هريرة وجماعة من الصحابة والأمراء وأبناؤهم رضي الله عنهم وكان غانم بن عياض الاشعري جهزهم طليعة قدامه فلما رأونا كبروا وكبرنا لتكبيرهم وخاضوا في أوساطنا وطلب كل واحد منهم بطريقا من البطارقة فقتله فلما رأت الروم ذلك ولوا الادبار وركبوا إلى الفرار وتبعهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتلون وينهبون ويأسرون إلى بلدة سبزا وما حولها من السواد إلى سلقوس فأسروا منهم نحو خمسمائة أسير وقتل منهم ثلاثة آلاف وهرب الباقون إلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 القرى والبلاد ولما قتل بطريق شندا خرج إليهم أهلها من النصارى والسوقة وعقدوا معهم صلحا واتفقوا على أداء الجزية وكذا من حولهم من القرى ونزل هناك عمرو بن الزبير وجماعة من المسلمين وسار قيس بن الحرث أمام القوم حتى نزل قريبا من طنبدا والبلد المعروف باسنا وكان بها بطريق يسمى بولياص بن بطرس وكان كافرا لعينا فخرج إلى لقاء المسلمين هو وجماعته ومعه ميرة وعلوفة فكان ذلك مكيدة منه وعقد مع المسلمين صلحا ووافقهم على أداء الجزية عن بلده وعن اسنا وكانت تحت حكمه وارتحل قيس بن الحرث ومن معه وتأخر زياد بن المغيرة ونزل بالقرية المعروفة بدهروط فعقد مع أهلها صلحا ونزل سليمان بن خالد وعبد الله بن المقداد وجماعة قريبا من البلد ومنهم من نزل عند القرية المعروفة بأطينة وصار جماعة يدخلون البلد ليلا ثم يعودون خوفا من المكيدة ولا حذر من قدر الله عز وجل. قال الواقدي: وكان المتخلفون خمسمائة فارس فجعلوا يسيرون على جانب البحر ويشنون أي يغيرون على أهل السواد فمن صالحهم صالحوه ومن أسلم تركوه وسار قيس ابن الحرث حتى نزل بالبلد المعروف الآن بالقيس وبه سميت وكان فيها بطريق من بطارقة البطليوس وكان من بني عمه اسمه شكور بن ميخائيل والله أعلم باسمه فدخل أهل السواد كلهم البلد وحاصروها حصارا شديدا نحو شهرين ثم أعانهم الله تعالى وحرقوا بابا من أبوابها ففتحت ودخلوا اليها وكان ذلك بعد وقعة جرت بينهم في مكان يعرف بكوم الانصار فهزموهم هناك وحاصروهم وفتحوا المدينة وقتلوا البطريق ونهبوا الاموال وأخذوا جميع ما فيها بعد أن دعوهم إلى الإسلام فامتنعوا من ذلك ثم شنوا الغارات على ما حولها من البلدان والبلد المعروف بماطي ثم إلى الكفور فخرج إليهم بطريق كان ابن عم المقتول بدهشور لعنه الله وأخوه بطرس وعقدوا مع المسلمين عقدا على الصلح وأعطوا الجزية وسارت العرب إلى البلد المعروف بالدير وسملوط وما حولها من القرى ونزل زهير وجماعة من العرب بالمكان الذي يعرف بزهرة وأما بقية السواد الذي حول البهنسا شرقا وغربا فلما تحققوا مجيء العرب هربوا إلى البهنسا بأموالهم ونسائهم وذراريهم وتركوا البلاد جميعها خرابا وكان البطليوس لعنه الله أرسل إليهم بطارقته فحملوهم إلى البهنسا واستعد للحصار وجمع عنده ما يحتاج إليه مدة الحصار. قال الواقدي: هذا ما جرى لهؤلاء وأما عدو الله بولياص صاحب طنبدا فإنه كاتب البطليوس يقول اين ما صالحت العرب إلا مكيدة وإني أريد الغدر بهم فجهز لي جيشا من البطارقة على أن أظفر بجماعة من أبطال المسلمين ونأخذ بثأر من قتل منكم قريبا قال: وكان عدو الله كل يوم تأتيه الاخبار من العرب المتنصرة ومن غيرهم من أهل البلاد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 والسواد بما جرى للعرب وبأخبار من قتل من البطارقة وأخذ البلاد والاموال فحمل هما عظيما ولم يظهر ذلك لاحد من بطارقته وإنما كان يطيب قلوبهم ويقول بلدنا حصينة وإن قاتلونا قاتلناهم وإن غلبونا دخلنا بلدنا فلو جاءنا أهل الحجاز جيمعهم ما وصلوا الينا ولو أقاموا عشرين سنة والله غالب على أمره وناصر دين الإسلام ومذل الكفرة اللئام فلما بلغ البطليوس مكاتبة عدو الله بولياص فرح بذلك فرحا شديدا قال: واستدعى ببطريق من بطارقته يسمى روماس وضم إليه خمسة آلاف فارس من الروم والنصارى وغيرهم من أهل القرى وأمرهم أن يسيروا تحت ظلام الليل فما جاء نصف الليل حتى وصلوا إلى طنبدا ودخلوا إلى بولياص ففرح بذلك فرحا شديدا واستعدوا للهجمة على المسلمين قال: وأصبح المسلمون وقد صلوا صلاة الصبح وإذا بالخيل قد أقبلت إليهم فنادوا النفير هاجمونا وغدرونا فركب المسلمون خيولهم وساروا إلى قريب الدير وإذا بالروم مقبلين في عشرة آلاف فارس وكان أعداء الله قد كمنوا كمينا قريبا من قناطر كانت هناك ونهر يجري فيه الماء من النيل في أوانه عميق غربي الدير قريب من البلد. قال الواقدي: ولما رأى المسلمون لمعان الاسنة والبيض وخفقان الاعلام وبريق الصلبان الذهب والفضة تبادروا إلى خيولهم فركبوا وأعلنوا بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير وأقبلوا مسرعين نحوهم ولم يفزعوا من كثرتهم وحرض بعضهم بعضا على القتال وكانوا قد سبقوا إلى شرذمة من المسلمين كانوا نزولا قريبا من الدير ووضعوا فيهم السيف وأحاطوا بهم وجالوا واتسع المجال إلى قريب من دهروط فخرج سليمان بن خالد بن الوليد وعبد الله بن المقداد وعامر بن عقبة بن عامر وشداد بن أوس وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم واشتد القتال وعظم النزال وعميت الابصار وقدحت حوافر الخيل الشرار ولمعت الاسنة وقرعت الاعنة ودهشت الانظار وحارت الافكار وأحاطوا بالمسلمين من كل جانب فلله در سليمان بن خالد بن الوليد وعبد الله بن المقداد لقد قاتلا قتالا شديدا وأبليا بلاء حسنا ولله در زياد بن المغيرة لقد كان يقاتل تارة في الميمنة وتارة في الميسرة وتارة في القلب وأحاط بهم أعداء الله من كل جانب وقد صار المسلمون بينهم كالشامة البيضاء في جلد البعير الاسود وصبروا لهم صبر الكرام وكان أكثر المسلمين قد أثخن بالجراح واشتد الكفار هذا والمسلمون قد انتدبوا أبطالا وجعلوها خلف ظهورهم وقاتلوهم قتالا عظيما هذا وأعداء الله قد أحاطوا بهم وحجزوا بينهم وبين البلد وقاتل سليمان وأصحابه قتالا شديدا ووطنوا أنفسهم على الموت وشجع بعضهم بعضا وصار سليمان بن خالد يقول الله الله الجنة تحت ظلال السيوف والموعد عند حوض النبي صلى الله عليه وسلم وقاتل قتالا شديدا حتى أثخن بالجراح وقتل من المسلمين نحو مائتين وعشرين قريبا من التل الذي هو غرب البلد المذكور وما قتل الواحد منهم حتى قتل من أعداء الله خلقا كثيرا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 قال الواقدي: ولما رأى المسلمون وسليمان بن خالد ما حل بأصحابه صار تارة يكر في الميسرة وتارة يكر في الميمنة وأعانه بالحملة عبد الله بن المقداد وبقية الصحابة وتقدم سليمان بن خالد وطعن بطريق اسنا طعنة صادقة فأرداه عن جواده وغاص في القلب. قال: حدثنا أوس بن شداد عن علقمة بن سنان عن زيد بن رافع قال كنت في الخيل صحبة سليمان بن خالد وقد حجزنا المشركين وتقهقروا من بين أيدينا ولم نشعر أن لهم كمينا إذ خرج الكمين علينا وقاتلناهم قتال الموت وقتل منهم جماعة نحو ألفي فارس وقتل سليمان بن خالد من الصناديد والبطارقة من خيارهم نحو ثلاثين فارسا وكذلك عبد الله بن المقداد فأحاط بسليمان بن خالد رضي الله عنه كردوس نحو الفي فارس وعقروا جواده من تحته فضرب بالسيف فيهم حتى قطعت يده اليمنى فتناول السيف بيده اليسرى فضرب بها حتى قطعت فأحاطوا به فلما تيقن بالقتل التفلت وقال يعز عليك يا خالد بن الوليد ما حل بولدك هذا في رضا الله عز وجل وكان قد طعن في صدره نحو عشرين طعنة حتى قل حيله وسقط إلى الأرض ثم تنفس وقال الساعة نلقي الأحبة ولما رآه عبد الله بن المقداد على ذلك المصرع صاح لا حياة بعدك يا أبا محمد والملتقى في جنات عدن ثم غاص يقاتل فأحاطوا به واشتبكت عليه الاسنة وضرب ضربات كثيرة في وجهه وهو يقطع الرماح ويمسح الدم عن وجهه حتى سقط به الجواد وصاح واشوقاه اليك يا مقداد ثم تبسم وقال مرحبا ثم مات وايقنا كلنا بالموت وإن القيامة هناك وإذا بغبرة قد لاحت وانكشفت عن رايات إسلامية وعصائب محمدية وفي أوائل القوم القعقاع بن عمرو التميمي والمسيب بن نجيبة الفزاري وسمرة بن جندب والفضل بن العباس وزياد بن أبي سفيان وبنو هاشم وبنو عبد المطلب وسادات الأوس والخزرج وغانم بن عياض الاشعري ومن معه من الأمراء والسادات فلم يمهلوهم دون أن حملوا عليهم حملة رجل واحد حتى أجلوهم وقتل البطريق بولياص لعنه الله ومعه بطريق البطليوس وانهزمت الروم واتبعتهم المسلمون يقتلون ويأسرون وينهبون حتى بلغت الهزيمة إلى البحر اليوسفي ورموهم في البحر وغرق منهم جماعة كثيرة وقتل منهم في المعركة نحو أربعة آلاف واسروا نحو الف ومائتي أسير وهرب منهم إلى البطليوس جماعة واختفوا إلى الليل ودخلوا لبطليوس وأعلموه بذلك فضاقت عليه الدنيا وضاق صدره وحار في أمره واستعد للقاء المسلمين. قال الواقدي: هذا ما جرى لهؤلاء وأما أهل طنبدا وأهل اسنا وكانوا لم يخرجوا ولم يقاتلوا فإنهم لما وردت عليهم الاخبار ومعهم البطارقة سألوا بطريقهم القتال وكان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 نصرانيا ولم يكن روميا وكان اسمه لوص وبه سميت البلد فأبى فلما انهزم البطارقة وخرج أهل طنبدا وأهل اسنا من السوقة والرعية وأولادهم وغيرهم وبكوا في وجوههم وقالوا: نحن قوم رعية وكنا مغلوبين على أمرنا فانا أهل ذمتكم ورعيتكم قالوا: بشرط أن تدلونا على من هربوا اليكم فأجابوهم إلى ذلك وصاروا يأخذون المسلمين ويدخلون الدور والمساكن ويقبضون على الروم ويسلمونهم إلى المسلمين وكان النصراني يقبض على الرومي ويأتي به إلى المسلمين حتى قبضوا من طنبدا واسنا نحو من ألف وخمسمائة رجل من المطأمير والابيار التي كانوا يحبسون فيها الاسارى من المسلمين وغيرهم ولما اجتمعت الاسارى من الروم والنصارى أمر غانم بن عياض بضرب رقابهم على تل هناك يعرف بالكوم ورجعت المسلمون إلى مكان المعركة فلما عاينوا القتلى ورأوا سليمان بن خالد وعبد الله بن المقداد وعبيدين الداري بكوا عليهم وعلى من قتل معهم من الأمراء رضي الله عنهم وحزنوا عليهم حزنا شديدا وأنشد عمار بن ياسر ينعي سليمان بن خالد وعبد الله بن المقداد ومن معهما بقوله: يا عين أذري الدمع منك الصبيب. ... ثم اندبي يا عين فقد الحبيب. وانعي لمقتول غدا في الفلا. ... مجندلا وسط الفيافي غريب. وابكي سليمان ولا تغفلي. ... فأمره والله أمر عجيب. قد كان لا يفكر كل العدا. ... أن سل من غمد لسيف قضيب. وتحذر الاعداء من بأسه. ... لو أنهم أعداء رمل الكثيب. فيا حمام الأيك نوحي إذا. ... على فتى قد كان غصنا رطيب. وأعلمي بما جرى خالدا. ... لعله يبكي بدمع صبيب. وأخبري المقداد من بعده. ... بأن عبد الله أضحى سليب. بل واندبي الاخيار من بعدهم. ... وكل قرم للمعالي مصيب. لا يلتقي البطليوس خيرا ولا. ... أجناده أبناء أهل الصليب. قد كمنوا جيشا لنا عامدا. ... يوم الوغى من كل كلب مريب. وحق من أعطى لنا نصره. ... في كل واد ثم فتحا قريب. لنأخذن الثأر من جمعهم. ... جهرا ونطفي من فؤاد لهيب. قال الواقدي: وإن غانما رضي الله عنه جمع الشهداء ودفنهم في ثيابهم ودروعهم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "يحشر الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله يوم القيامة وجراحاتهم تقطر دماء اللون لون الدم والريح ريح المسك". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 246 قال الواقدي: وأقام غانم رضي الله عنه بعد أن دفن الشهداء قريبا من التل والأمراء يشنون الغارات على السواحل وعدى بن جابر بن عبد الله الانصاري وأبو أيوب والمسيب بن نجيبة الفزاري في ألف فارس فأغاروا على أهل شرونة فخرج إليهم بطريق يعرف بصندراس الجاهل وبطريق أهريست في خمسة آلاف فارس واقتتلوا قتالا شديدا عند سفح الجبل فبلغ الخبر غانم بن عياض الاشعري فأرسل إليهم كتيبة أخرى صحبة بن المنذر والفضل بن العباس والمرزبان في ألف فارس فلما رأى الروم ذلك وقع الرعب في قلوبهم وكان بينهم حروب عظيمة ثم أن الفضل بن العباس قصد البطريق الجاهل وضربه ضربة هاشمية على رأسه فقطع الخودة والبيضة والرفادة إلى أن سمع خشخشة السيف في أضراسه فكبر وكبرت المسلمون لتكبيره فسقط عدو الله يخور في دمه وعجل الله بروحه إلى النار وبئس القرار وكان الفضل بن العباس فارسا شديدا وبطلا صنديدا فغاص في وسط المشركين وفتك فيهم والمرزبان حمل على بطريق شرونة فقتله وحمل ابن المنذر على بطريق أهريت فقتله فلما رأى الروم ذلك ولوا الادبار وركنوا إلى الفرار وتبعتهم المسلمون يقتلون ويأسرون ينهبون إلى المكان المعروف بالدير وأهريت وغرق منهم خلق كثير وقتل منهم ألف وخمسمائة فارس وأسر منهم ألف وخمسمائة وتحصن منهم جماعة من الروم والنصارى في مدينة الجاهل وكانت حصينة فحاصرها المسلمون سبعة ايام وحرقوا الأبواب وهدموا الجدران وأخرجوهم من البيوت وأخرجوا تلك المدينة إلى يومنا وخرج إلى المسلمين نصارى من شرونة وأهرينت وعقدوا مع المسلمين صلحا وأعطوا الجزية وأنزلوا مرة الكلبى في مائتين من أصحابه وغيرهم وابن عمرو بن العاص في المكان المعروف ببناء خالد في مائتي فارس وعبر المسلمين البحر ونزل عامر بالعرب في مائتي فارس قريبا من طنبدا واسنا وببا القرية وارتحل غانم بن عياض رضي الله عنه ببقية الجيش ولما تكاملت المسلمون أرسل بين يديه المسيب بن نجيبة الفزاري والعباس بن مرداس السلمي والفضل بن العباس الهاشمي وعامر بن عقبة الجهني وزياد بن أبي سفيان بن الحرث في ألف وخمسمائة فارس فساروا إلى مكان يعرف بالجرنوس وكان هناك قلعة مرج للملك البطليوس وكان في زمن الربيع ينزل هناك بالخيام والمضارب حول القلعة وتجتمع عنده البطارقة ويقيم أشهرا ثم ينزل على الاقليم ثم يعود إلى البهنسا. قال الواقدي: وأرسل لوص إلى البطليوس يطلب منه جيشا صحبته بطريق من بطارقته فأرسل إليه بطريقا كافرا لعينا اسمه شلقم وبه سميت البلد التي هي قريب من البهنسا وكان الجيش عشرة آلاف فارس والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 قال: حدثنا مسلم بن سالم اليربوعي عن شداد بن مازن عن طارق بن هلال أنه كان في خيل العباس بن مرداس السلمي قال بينما نحن نسير إذ راينا غبرة قد ثارت وكان ذلك وقت الضحى فتأملناها فانكشف عن عشرة أعلام وعشرة صلبان من الذهب الأحمر كل صليب يلمع كأنه كوكب فتأهبنا للحملة وتأهبوا لنا فلم يمهلونا دون أن حملوا علينا وحملنا عليهم وأحاطوا بنا وقاتلت الروم قتالا شديدا ورطنوا بلغتهم وأعلنوا بكلمة كفرهم وصبرنا لهم صبر الكرام وقاتلنا قتال الموت فلله در غانم بن عقبة والمسيب بن نجيبة الفزاري والفضل بن أبي سفيان لقد قاتلوا قتالا شديدا وعصب الفضل رأسه بعصابة حمراء وكذلك فعل زياد بن أبي سفيان بن الحرث كما كان يصنع عمهما حمزة وقاتلا قتال الموت فلم تكن إلا ساعة وقد قوي الحرب والقتال حتى أشرف علينا الأمير غانم بن عياض الاشعري مع بقية الجيش فقوي قلبنا وكبرنا فأجابونا بالتهليل والتكبير فتقدم الفضل بن العباس إلى بطريق شلقم وكان فارسا شديدا وعليه ديباجة مفصصة بالذهب وفي وسطه منطقة بالذهب مرصعة بالجواهر وقد عصب رأسه بعصابة من الجواهر وبيده عمود من الذهب طوله ثلاثة أشبار وأزيد وهو تارة يضرب بالسيف وتارة يضرب بالعمود فلما رآه الفضل ظن أنه يريده فحمل عليه الفضل وهو ينشد ويقول: يا أيها الكلب اللعين الطاغيا. ... ومن أتى لجيشنا معاديا. أبشر لقد وافاك ليث ضاريا. ... بحد سيف في عداه ماضيا. كان له الرب العظيم واقيا. ... من كل كلب إذ يكون طاغيا. قال فلم يفهم ما يقول الفضل وحمل عليه وتعاركا وتجاولا وضرب الفضل رضي الله عنه فحاد عنها وعطف عليه وانتزع العمود من يده وضربه ضربة هاشمية قرشية أبان بها رأسه عن بدنه ونظر إليه لم يسقط فعاد عليه وهو جثة بلا رأس فتلقاه فارس من المسلمين اسمه زهير فوجده مكلبا بكلاليب في سرجه فنزع الكلاليب فسقط عدو الله كالطود بعد أن تضمخ تاجه ومنطقته دماء فقال له الفضل: أن السلب لي فخذه لك فقد وهبتك إياه فقال: لا أعدمنا الله مكاركم يا بني هاشم وعطف على لوص فقتله وقتل كل أمير بطريقا غيره وحملت المسلمون حملة رجل واحد فبددوا شملهم فولوا منهزمين بين أيديهم واتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون وينهبون إلى أن وصلوا إلى البحر اليوسفي وألقوهم في مكان قريب من شاقولة فسميت القرية بذلك وتحصنت جماعة بقلعة المرج فأحاط بها المسلمون وحرقوا الأبواب وهدموا الجدران وأستخرجوا ما هناك وقتلوا من الروم مقتلة غظيمة نحوا من ثلاثة آلاف وأسروا نحوا من ألف وقتل من المسلمين ثمانية وأربعون رجلا من أعيانهم سيف الانصاري رضي الله عنهم أجمعين ودفن هو وأصحابه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 بمكان الوقعة وكان زياد بن المغيرة وجماعته نزولا في أماكنهم قريبا من طنبدا كما ذكرنا حول البلد المعروف بدهروط وكان زياد صديقا للأمير سليمان بن خالد بن الوليد فكتب كتابا للأمير خالد بن الوليد يعزيه في ولده سليمان ويقول: يا خالد أن هذا الدهر فجعنا. ... في سيد كان يوم الحرب مقداما. مجندل الفرس في الهيجا إذا اجتمعت. ... وللصناديد يوم الحرب خصاما. لا يملك الضد من أبطالنا أملا. ... أن حاز ساعده القصاص صمصاما. يا طول ما هزم الاعدا بصارمه. ... أنالهم منه تنكيسا وارغاما. كأنه الليث وسط الغاب إذ وردت. ... له العدا وعلى الاشبال قد حامى. يا عين جودي بفيض الدمع منك دما. ... بل واندبي فارسا قد كان ضرغاما. والسيد الفرد عبد الله قد حكمت. ... به المنايا وحكم الله قد داما. نحم الفتى العلم المقداد خير فتى. ... قد كان في ملتقى الاعداء هجاما. قال الواقدي: فلما وصل الكتاب إلى خالد بن الوليد كان قريبا من الدير ببقية الجيش وهو ينفذ السرايا وأهل البلاد يأتونه بما صالحوه عليه من المال وغيره وقد جهز عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وعبد الله بن عمر بن الخطاب وعقبة بن نافع الفهري والزبير رضي الله عنهم بألف فارس إلى الفيوم وسيأتي ذكر ذلك في موضعه أن شاء الله تعالى فلما ورد الكتاب على خالد سقط إلى الأرض وخر مغشيا عليه ثم أفاق واسترجع وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156] ثم قال: اللهم أني احتسبت سليمان اليك اللهم اجعله فرطا وذخرا وأعقبني عليه صبرا وأعظم لي بذلك أجرا ولا تحرمني الثواب برحمتك يا أرحم الراحمين ثم قال: والله لآخذن فيه ألف سيد من ساداتهم ولأقطعن ساداتهم وفرسانهم وانني أرجو أن آخذ بثأره إن شاء الله تعالى ولأقتلن البطليوس شر قتلة لعلي أشفي بذلك غليل صدري وحرارة كبدي وليكونن على يدي خراب دياره وانهزام جيوشه وزوال ملكه وهطلت مدامعه على وجنته أحر من الجمر ثم جعل يسترجع ويقول: جرى مدمعي فوق المحاجر منهمل. ... وحر فؤادي من جوى البين يشتعل. وهام فؤادي حين أخبرت نعيه. ... فليت بشير البين لا كان قد وصل. لقد ذوب الاحشاء وأجرى مدامعي. ... صبيبا وعن نار الفؤاد فلا تسل. سأبكي عليه كلما أقبل المسا. ... وما ابتسم الصبح المنبر وما استهل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 249 وكان كريم العم والخال سيدا. ... إذا قام سوق الحرب لا يعرف الوجل. أحاطت به خيل اللئام بأسرهم. ... وقد مكنوا منه المهند والأسل. وعيشك تلقاهم صراعا على الثرى. ... عليهم يسوق الوحش والطير محتفل. فوا أسفا لو أنني كنت حاضرا. ... بأبيض ماضي الحد في الحرب مكتمل. وحق الذي حجت قريش لبيته. ... وأرسل طه المصطفى غاية الأمل. لأقتل منهم في الوغى ألف سيد. ... إذا سلم الرحمن واتسع الأجل. قال الواقدي: وأقبلت الأمراء يعزون خالدا ومدامعهم تفيض من عيونهم ويقولن أعظم الله لك أجرا وأعقبك عليه صبرا وجعله لك غدا في المعاد ذخرا والله لقد عدمنا القوى وقد أبيد القلب من حشاشتنا واكتوى ونحن لقتله ذاهلون: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156] وكذلك يعزون المقداد في ولده عبد الله وبلغ الخبر عمرو بن العاص بمصر وهو مقيم بها فكتب لهما كتابا بالتعزية وبلغ الخبر المدينة لعمر بن الخطاب فاسترجع هو وبقية الصحابة مثل علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله ومن كان حاضرا من الصحابة بالمدينة الطيبة رضي الله عنهم وكتبوا إلى خالد والمقداد كتابا يعزونهما فلما وصل الكتاب إلى خالد والمقداد اطمأنا لما عليهما من الصبر وما لهما من الاجر والثواب. قال الواقدي: هذا ما جرى لهؤلاء وأما البطليوس لعنه الله فإنه لما تحقق مجيء العرب إلى مدينة البهنسا فتح خزائن الاموال وفرق المال والسلاح والعدة من الملبوس والدروع وغير ذلك وفرق على البطارقة وعلى غيرهم من الجند وكان هناك بيت مقفل كما ذكرنا فيه صفة العرب وأسماؤهم فأمر بفتحه وهو يظن أن فيه مالا مدخرا فمنعه القسوس والرهبان من ذلك فأبى ففتحه فلم يجد فيه إلا صفة العرب وأسماءهم كما ذكرنا أول الكتاب فنظر لذلك ودخل الكنيسة وجلس على سريره وجمع حوله البطارقة فاستشارهم في أمره فقام شيخ كبير راهب وكان مطاعا عنده مسموع الكلام كبير السن وكان عمره مائة وعشرين سنة فقام وعليه جبة سوداء وعلى رأسه قلنسوة وفي يده عكازه من الآبنوس ملبسة بالعاج والذهب فقرب من الهيكل وتكلم بكلام لا يفهم ثم قال بعد ذلك يا أهل دين النصرانية وبني ماء المعمودية قد كانت دولتكم قائمة وكلمتكم مسموعة ما دمتم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتعدلون في الرعية وتأخذون للمظلوم من الظالم وتنصفون الضعيف من القوي وتواسون الفقير ولا تمدون أيديكم إلى شيء من أموال الناس وتهابون الزنا وكانت الدولة لكم وقلوب الرعية منجذبة إليكم وداعية لكم وكان الملك فيكم ولما لم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر وظلمتم الرعية وجرتم في الاحكام وحكمتم بغير الحق ولا تأخذون للضعيف حقه من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 250 القوي ومددتم أيديكم إلى أموال الرعية وفشت فيكم المعاصي فتغيرت قلوب الرعية ومدوا ايديهم بالدعاء عليكم ودعاء المظلوم مستجاب وكثرة الظلم خراب فيوشك أن تنزع هذه النعمة من أيديكم وتعود إلى غيركم بكثرة ذنوبكم وشؤم معاصيكم وبدعاء المظلومين عليكم فلأجل ذلك سلطت عليكم العرب فملكوا بلادكم وقتلوا رجالكم ونهبوا أموالكم وسكنوا منازلكم واستولوا على معاقلكم فتيقظوا من غفلتكم وذبوا عن حريمكم وأموالكم ولا تمكنوا العرب من جانبكم وهذه مقالتي لكم جميعا فلما سمع البطليوس لعنه الله كلام القس وما تكلم به التفت إلى بطارقته وجماعته ونوابه وقال هل سمعتم ما قال أبوكم. قالوا: سمعنا قال فما عندكم من الرأي قالوا: نحن معك وبين يديك ونقاتل العرب ولا نطمعهم فينا كما طمعوا في غيرنا وإن غلبونا استعددنا للحصار وعندنا من الميرة والعلوفة ما يكفينا عشر سنين وأزيد وبلدنا حصين ولا نسلم أنفسنا وإلا يكون علينا عارا عند الملوك قال فشكرهم البطليوس على ذلك ووثب قس اخر وكان يناظر ذلك القس في المعرفة واستخرج كتابا معلقا كان عنده في صندوق من الآبنوس مقفل باقفال من الفولاذ وقال: يا أهل دين النصرانية وبني ماء المعمودية اسمعوا ما نعته لكم العلماء والكهان والحكماء أنه يبعث نبي في آخر الزمان يسمى محمد بن عبد الله من بني عدنان يموت ابوه وأمه ويكفله جده وعمه يبعثه الله نبيا إلى جميع البشر مولده بمكة ودار هجرته طيبة ثم يقيم اعواما ويتوفاه الله تعالى ثم يتولى الأمر من بعده رجل يسمى أبا بكر وتزداد العرب به فخرا ويجهز العساكر إلى الشام ثم لم يلبث إلا أياما قلائل ويتوفاه الله تعالى ويتولى الامر من بعده الرجل الاصلع الاحور المسمى بعمر وهو صاحب الفتوح ومصبح الاعداء بأشأم صبوح تفتح على يديه الامصار وبيعث سراياه إلى سائر الاقطار وانا نجد في الكتب القديمة أن هذه المدينة تفتح على يد رجل أسمر شجاع غضنفر فارس شديد وبطل صنديد يسمى خالد بن الوليد فإن سمعتم قولي وقبلتم فاعقدوا مع العرب صلحا فإن الدولة لهم ودينهم الحق ولو قاتلهم أهل المشرق والمغرب غلبوهم ببركة الله وببركة نبيهم محمد. قال فلما سمع البطارقة كلامه غضبوا غضبا شديدا وأرادوا قتله فمنعهم البطليوس من ذلك وقال له: كأنك خفت من سيوف العرب وأنا أعلم أن الرهبان والقسوس لا قلوب لهم لانهم ليس لهم أكل إلا العدس والزيت والليمون والاشياء الرديئة ولا يعرفون اللحم فلأجل ذلك ضعفت قلوبهم فلولا مقامك من قديم الزمان ورؤيتك للملوك القدماء لبطشت بك ولئن عدت إلى مقالتك هذه لأقتلنك شر قتلة قال فسكت القس الراهب وخرج البطليوس من وقته وساعته وجلس في قصره ذي الاعمدة ثم استدعى ببطارقته وخلع عليهم ورفع لهم الاعلام والصلبان وعرض عليه جيشه فإذا هم ثمانون ألفا غير السوقة المشاة فسر بذلك سرورا عظيما ثم استدعى ببطريق من بطارقته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 وخلع عليهم ورفع لهم الأعلام والصلبان وعرض عليه فإذا هم ألفاً غير السوقة والمشاة فسر بذلك سروراً عظيماً. ثم استدعى ببطريق من بطارقتته يدعى قابيل وكان لا يقطع أمرا دونه فخلع عليه ودفع له الثمانين ألفا وأمره بملاقاة العرب ثم استشار خواص مملكته في الاقامة في البلد أو الخروج إلى ظاهرها فقال له ذوو الرأي من بطارقته: أيها الملك إنك إذا أقمت في البلد استضعفوا رأينا وأمرنا وإذا كنت بجانب المدينة لا تجد العرب أن تصل الينا ونجعل البلد خلف ظهرنا ونقاتل من خارج الأبواب ويساعدنا من فوق الابراج فإذا عظم الامر فلا ندخل المدينة إلا من أمر عظيم فاستصوب رأيهم ثم إنه أمر الفراشين أن يخرجوا الخيام والسرادقات والقباب بظاهر المدينة وأخرجوا له سرادقا عظيما سعته سبعون ذراعا وارتفاعه مثل ذلك على أعمدة من الخشب المصفح بالذهب والفضة وهو من الحرير الملون الازرق والأحمر والاخضر والابيض والاصفر والاسود ومقضب بقضبان الذهب والفضة مرصع باللؤلؤ وفيه تصاوير من داخله ومن خارجه من جميع أجناس الطير والوحوش والكواكب وفرش فيه من الفرش وبسط الحرير الملون ووضع فيه المساند والوسائد والانطاع وأطناب السرادقات حرير ملون بأوتاد من عاج وآبنوس في حلق من ذهب وفضة وعلق فيه قناديل وسلاسل من ذهب وفضة ووضع فيه سريرا من خشب الساج المنقوش المصفح بالذهب الوهاج على قوائم بزمامين من ذهب وفضة طوله سبعة أذرع وعرضه مثل ذلك وارتفاعه مثل ذلك يصعد إليه بدرج من خشب مصفح بصفائح من ذهب وفضة وعليه فرش من حرير ووسائد ومساند ونمارق وحوله ثمانين كرسيا مصفحة بالخشب الآبنوس يجلس عليها أرباب الدولة وأصحاب الصولة وضرب حوله من الخيام والسرادقات ما لا يوصف له عد. قال الراوي: حدثنا جماعة من الصحابة ممن شهد الفتح وعاين السرادقات أنه لما هرب الملعون ودخل المدينة وكان السرادق منصوبا مقابل الباب البحري المعروف بباب قندوس أمر بطريقا من بطارقته أسمه سمعان أن ينصب سرادقه الذي وهبه له عند باب توما وهو الباب القبلي وأمر بطريقا اسمه اصطافين أن ينزل في الجانب الشرقي قريبا من القناطر على ساباط معقود على أعمدة من الحجارة فأمره أن ينزل ومعه عشرة آلاف فارس حول القلعة قال هبار بن أبي سفيان أو سلمة بن هاشم المخزومي ما نزلنا على مدينة من مدائن الشام ولا رأينا أكثر عددا ولا أكثر زينة من مدينة البهنسا ولا أقوى قلوبا منهم وأكثروا من الصلبان ونصبوا السرادقات والمنجنيقات على الاسوار وأسبلوا على الاسوار جلود الفيلة المصفحة بصفائح الفولاذ ورتبوا الرماة والمجانيق والسهام وغير ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 252 قال الراوي: هذا ما جرى لهؤلاء وأما الأمير عياض بن غانم الاشعري رضي الله عنه فإنه لما قرب من البهنسا استشار أصحابه مثل أبي ذر الغفاري وأبي هريرة الدوسي ومعاذ بن جبل وسلمة بن هاشم المخزومي ومالك الاشتر النخعي وذي الكلاع الحميري رضي الله عنهم ومعهم ألفان من أصحابهم وأمرهم بالنزول في الجهة الشرقية وقال لهم: أن قاتلوكم قاتلوهم ونازلوا القلعة حتى تأخذوها وعبر الأمير عياض من الجهة البحرية ومعه أصحاب الرايات والأمراء والطليعة من هؤلاء السادات وهم الفضل بن العباس وأخوه عبيد الله بن العباس وشقران وصهيب ومسلم وجعفر وعلى أولاد عقيل بن أبي طالب وعبد الله بن جعفر وزياد بن أبي سفيان وتتابعت خلفهم السادات وأصحاب المروءات مثل نعيم بن هاشم بن العاص وهبار بن أبي سفيان وعبد الله بن عمرو الدوسي وسعيد بن زبير الدوسي وحسان بن نصر الطائي وجرير بن نعيم الحيري وسالم بن فرقد اليربوعي وسيف بن أسلم الطائفي ومعمر بن خويلدة السبكي وسنان بن أوس الانصاري ومخلد بن عون الكندي وابن زيد الخيل ومثل هؤلاء السادات اصحاب الرايات رضي الله عنهم وتتابعت الكتائب يتلو بعضها بعضا وعبروا إلى الجانب الغربي فبينما هم سائرون وإذا بعدو الله قابيل قد أقبل بالبطارقة المتقدم ذكرهم فلما التقى الجمعان عند سفح الجبل تحت المغارة اشار إلى أصحابه فأمسكوا عن المسير وتقدم إلى رابية عالية والى جانبه رجل من العرب المتنصرة وأمره بأن ينادي برفيع صوته قربوا إلى البطريق رجلا منكم ذا خبرة بكلمة فوثب إليه جرير الحيري وأتى إلى عياض وقال: أيها الأمير أتأذن لي أن أكلمه قال: نعم أن طلبوا الصلح ورفعوا القتال صالحناهم حتى يحضر الأمير خالد بن الوليد ويفعل أمره وإن أرادوا القتال قاتلناهم واستعنا بالله تعالى عليهم وهو حسبنا ونعم الوكيل. قال الراوي: فعندها سار حتى وقف بازاء البطريق وقال له: سل حاجتك فقال له: أأنت أمير القوم قال: لا ولكني متكلم عن الأمير فقال له: لم تركتم بلاد الشام والنعم العظام وأتيتم إلى هذه البلاد وكنتم في بلاد الحجاز تقاسون جوعا وعريا فذقتم فواكه الشام وثمار الحجاز وخيرات اليمن فلم يكفكم ذلك حتى أتيتم إلى مصر وقهرتم القبط وأتيتم إلى بلاد الفرس وقهرتم ملوكها ولم تكتفوا حتى أتيتم الينا وهجمتم علينا في بلادنا وقتلتم ابطالنا ونهبتم أموالنا ونحن نتغافل عنكم ونهمل أمركم حتى غلظت شوكتكم وقصدتم مدينتنا التي هي دار ملكنا ومحل ولايتنا ولقد طلبها من قبلكم من الفراعنه والجبابرة والقبط والقياصرة والاكاسرة والجرامقة ورجعوا خائبين وأنتم هجمتم علينا وقتلتم رجالنا فقولوا لنا ما الذي تريدون منا فإن كنتم تريدون مالا وترجعون عنا قمت أنا عن الملك بذلك وترحلون عنا وتردون لنا ما ملكتم من بلادنا وإن الملك لا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 يخالف لي أمرا فاخبروني ما الذي تريدون وما الذي تطلبون فقال له جرير: أفرغت من كلامك فقال له: نعم قال له جرير: خذ جوابك أما قولك كنا في ضيق حال فهو كما ذكرت ولكن أنعم الله علينا بالإسلام وهو أول نعمة أمرنا بالجهاد وإن الله تعالى أباح لنا أموال المشركين ما داموا محاربين وأمرنا أن نجاهدكم حتى تؤدوا الجزية عن يد وأنتم صاغرون أو تسلموا أو تقاتلوا: {حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [يونس: 109] وأما قولك المال فليس هو غرضنا ولا متاع الدنيا شهواتنا وإن بلادكم عن قريب تكون لنا وأموالكم غنيمة لنا نتقاسمها. قال الواقدي: فلما سمع البطريق الكلام غضب غضبا شديدا وقال أنا كفء لكم دون الملك ثم أمر أصحابه بالحملة على جرير قال فما لويت عنان جوادي إلا والخيل قد ركبتني فعندها تواثب المسلمون واقتتلوا قتالا شديدا وتبادرت الرجال وزمجرت الابطال وزحفت الافيال وتراشقوا بالنبال وتضاربوا بالنصال وتطاعنوا بالعوال والتقى الجمعان واصطدم الفريقان واشتد النزال وكثرت الاهوال وتقاتلت الفرسان وولى الجبان حيران فلله در المغيرة بن شعبة وعون بن ساعدة وعبادة بن تميم والفضل بن العباس رضي الله عنه لقد قاتلوا قتالا شديدا وأبلوا بلاء حسنا ولم يزل القتال يشتد من ارتفاع الشمس إلى الغروب فعندها وثب عبد الله بن جعفر إلى قابيل وضربه ضربة فحاد عنها عدو الله وولى هاربا وحمته جماعة نحو ثلثمائة فارس ولم يزل الفريقان في قتال ونزال إلى أن غابت الشمس وافترق الجمعان وقد قتل من المسلمين نحو خمسين رجلا ختم الله لهم بالشهادة وقتل من الروم نحو ألفي فارس قال: واجتمعت الروم حول قابيل حين ولى هاربا إلى أن وصل إلى البطليوس فلما رآهم وبخهم وقال لهم: بأي وجه تفرون من العرب ولم تصبروا لهم وقد فشلتم وجزعتم فقال له قابيل: أيها الملك ليس الخبر كالعيان وهؤلاء ليسوا بأنس وإنما هم جن في القتال ولولا الاجل حصين ما عدت اليك فغضب الملك وقال اسكت قد تمكن رعب العرب من قلبك وستنظر ما يكون من أمرهم ثم بات في قلق شديد حتى أصبح الصبح ولم يأمر قومه بالركوب وقال امهلوا حتى أنظر ما يكون من أمرهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 ذكر فتوح البهنسا ونزول الصحابة وقتل البطريق . قال الراوي: ولما أصبح المسلمون صلوا صلاة الصبح تبادروا إلى خيولهم فركبوها فلم يجدوا لاعداء الله خبرا ولا أثرا وتيقنوا أنهم انهزموا ومضوا إلى مدينتهم فسارت المسلمون إلى أن قربوا من البهنسا فلاحت لهم المضارب والخيام والسرادقات والاعلام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 قال الراوي: حدثنا قيس بن منهال عن عامر بن هلال عن ابن زيد الخيل قال لما أشرفنا على مدينة البهنسا ورأينا تلك المضارب قال عياض رضي الله عنه اللهم اخذلهم وانصرنا عليهم اللهم احصهم عددا واقتلهم بددا ولا تبق منهم أحدا واخزهم: {إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26] وأمن المسلمون على دعائه قال فلما أقبلنا على مدينة البهنسا كبرنا وهللنا فخرجوا إلى ظاهر الخيام وبأيديهم السيوف والدرق والقسى والنبال وراينا خلقا كثيرة على الابراج وأراد جماعة من العرب الحملة عليهم فمنعهم الأمير وبقية الأمراء من ذلك وقالوا: لا حملة إلا بعد انذار ثم إنهم لم يأتوا الينا ولا ناوشونا بقتال واستقلونا في أعينهم. قال الواقدي: ونزل المسلمون بجانب الجبل عند الكثيب الاصفر قريبا من البياض الذي على المغارة نحو المدينة هذا ما جرى لهؤلاء وأما أبو ذر الغفاري وأبو هريرة الدوسي ومعاذ بن جبل ومسلمة بن هاشم ومالك الاشتر وذو الكلاع الحميري فإنهم ساروا حتى نزلوا قريبا من القوم وباتوا تلك الليلة فلما أصبحوا خرج أعداء الله للقائهم فقال مالك الاشتر يا قوم أن أعداء الله خرجوا للقائكم فاشغلوهم بالقتال وارسلوا جماعة منكم يملكون الجسر واستعينوا بالله فعندها خرج المرزبان ومعه ثلثمائة فارس حتى وصلوا إلى الجسر والحجارة تتساقط عليهم من أعلى السور حتى ملكوا الجسر وجعلوا في أماكن المخاضات حراسا بسيوف محدودة واقتتل المسلمون وأعداء الله قتالا شديدا وثبتوا في القتال سبعة أيام وكلما أتوا إلى مكان المخاضة وجدوه مربوطا بالرجال وصار كل ليلة تهرب منهم جماعة من الروم ويهيمون على وجوههم يريدون الصعيد فتلقاهم رافع ابن عميرة الطائي ومعه سرية من أصحاب قيس بن الحرث عند البلد المعروف بادقار وكانوا حوالي البحر اليوسفي يشنون الغارات على تلك السواحل فبينما هم كذلك يسيرون إذ سمعوا دوي حوافر الخيل فظنوا أنهم مسلمون فكلموهم فلم يرد عليهم أحد فلحقوهم وحملوا عليهم وكانوا ستمائة فارس ففروا من بين أيديهم فقتلوا منهم نحو مائتين وهرب الباقون وقتل من المسلمين ثلاثة وهرب الروم نحو المخاضة فغرق منهم مائة وأسروا منهم مائتين وهرب الباقون وسألوهم عن سبب خروجهم فأخبروهم أنهم يرودون فعند ذلك أوثقوهم كتافا وأتوا بهم مكتفين مع نفر من المسلمين إلى أن أوصلوهم إلى عياض بن غانم الاشعري فأعلنوا بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير واقبلوا نحوهم ففرحوا بالاسارى ثم عرضوهم على الأمراء المتقدم ذكرهم فعرضوا عليهم الإسلام فأبوا فضربت أعناقهم والروم ينظرون إلى ذلك ثم زحفت عليهم الصلبان واقتتلوا قتالا شديدا وحمي الحرب وكثر الطعن والضرب من ارتفاع الشمس إلى وقت العصر وفشا القتل في الروم فلما رأوا ذلك ولوا الادبار وركنوا إلى الفرار وصعدوا على القلعة وغلقوا الأبواب وأستعدوا للحصار ونصبوا آلات القتال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 قال هذا ما جاء لهؤلاء وأما الصحابة رضي الله عنهم فإنهم نزلوا في سفح الجبل والوادي في المكان المتسع من الجهة البحرية والجهة الغربية فلما جاء الليل أوقدوا نيرانهم واجتمعت كل قبيلة ببني عمها يقرءون القرآن ويصلون على محمد أشرف ولد عدنان وما فيهم إلا من هو راكع أو ساجد أو داع لله عز وجل لعله أن ينصرهم على عدوهم وباتت الروم اللئام يشربون الخمر داخل المدينة وخارجها وقد أعلنوا بكلمة كفرهم حتى ضجت منهم أرض البهنسا واستغاثت إلى الله عز وجل فناداها بلسان القدرة اسكتي يا بهنسا فوعزتي وجلالي لاهلكنهم ولاسكننك قوما يوحدوني من خيار خلقي ولاجعلن تلك البيع مساجد للصلاة والجمع فلما سمعت الأرض الخطاب من قبل رب الارباب مالت فرحا واهتزت طربا وبقيت منتظرة وعد ربها بزوال كربها فلما يكن إلا قليل حتى أزال الله عنها أهل الكفر والطغيان وعبدة الصلبان وأسكنها خير أمة أخيار من المهاجرين والانصار من أصحاب محمد المختار يصلون بها آناء الليل وأطراف النهار وجعلت البرية مدافن للسادات الشهداء الاطهار وصار عليها بعد الظلام أنوار وصارت زيارتها تحط الخطايا والاوزار. قال الواقدي: ولما أصبح الصباح صلى المسلمون صلاة الصبح وجلسوا ينتظرون ما يكون من أمر الروم وإذا بقس قد أقبل راكبا بغلة وعليه مدرعة من شعر وقلنسوة وزنار فسار حتى وصل قريبا من العسكر ثم تكلم بلسان عربي وقال: يا مسلمين أريد أمير العرب. قال الراوي: حدثنا قيس بن شماس عن كعب بن همام عن شداد بن أوس وكان من أصحاب الرايات قال بينما نحن جلوس نتحدث مع الأمير عياض بن غانم إذ أقبل عبد الله بن عاصم وأخبر عن ذلك القس قال فأذن له الأمير عياض بالدخول فدخل القس فوجد الأمير عياضا جالسا في خيمته على فراش من أدم وحشوه من ليف وفرش المشركين التي اكتسبوها مطوية على جانب وحوله السادات والأمراء رضي الله عنه كلهم جلوس حوله وهو كأنه أحدهم وسيوفهم على أفخاذهم وعليهم هيبة ووقار فلما دخل القس اندهش وحار وأخذه الانبهار ثم التفت يمينا وشمالا وقال: يا قوم أيكم الأمير حتى أكلمه فإنكم كلكم أراكم سادات وأمراء وعليكم هيبة ووقار فأشاروا إلى الأمير عياض فالتفت إليه وقال: يا فتى أنت أمير قومك قال كذلك يزعمون ما دمت على طاعة الله عز وجل فقال له القس: أن الملك البطليوس قد أرسلني اليكم يريد ذا الرأي والخبرة ليسأله عن أمركم فلعل أن يكون ذلك سبب حقن الدماء بينكم وبينه قال فعندها التفت الأمير عياض إلى أصحابه وقال: ما تقولون فيما أتاكم به هذا القس ومن ينطلق إليه ويخاطبه ويعود الينا قال فوثب المغيرة بن شعبة وقال أنا أمضي إليه وأريد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 معي عشرة رجال من الأمراء ذوي المروءة والباس فقال له الأمير: اختر من شئت وفقك الله وسددك وردك الينا سالما غانما أنت ومن معك قال فالتفت وراءه وقال: أين سعيد بن عبد القادر اين أبو أيوب الانصاري أين خالد بن زيد الانصاري أين زيد اين ثابت الانصاري أين مسعود البدري أين جرير بن مطعم أين أبو يزيد العقيلي أين معاوية بن العكم الثقفي أين عمار بن حصين أين زيد بن أرقم فأجابوه بالتلبية فقال لهم: خذوا أهبتكم وانطلقوا معي على بركة الله وعونه قال فتبادر هؤلاء الأمراء السادات إلى خيامهم ولبس كل واحد درعه وتنكبوا بحجفهم وتقلدوا بسيوفهم واعتقلوا برماحهم. قال الواقدي: ثم أن المغيرة رضي الله عنه دخل إلى خيمته ولبس درعه وشد وسطه بمنطقته وهي من الادم وفيها خنجران واحد عن اليمين وواحد عن الشمال وتقلد بسيف من جوهر واعتقل برمح أسمر وركب جواده الادهم وأخذ كل واحد منهم عبده راكبا على بغلة وودعهم فالتفت الأمير عياض وقال للمغيرة اعرف يا أبا شعبة ما تكلم به هذا الملعون فما عرفتك إلا مفلح الحجة فادعه إلى الإسلام وما فرض عليه من الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد وما أبيح من الحلال وما حرم من الحرام فإن أبى فالجزية في كل عام فإن أبي فالقتال بحد الحسام ونرجو النصر من الملك الديان بجاه محمد خير الانام قال فقال المغيرة أرجو من الله الملك الوهاب المعونة في رد الجواب وسارت الأمراء والقس أمامهم راكب على بغلة وعبيدهم خلفهم على بغالهم وكل عبد عليه لامة حربه وساروا وهم معلنون بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير قال زياد بن ثابت ولما فارق القوم الأمير عياضا نظرت إليه وعيناه تذرفان بالدموع حتى بلت دموعه لحيته وهو يقرأ القرآن فقلت أنا أيها الأمير ما هذا البكاء فقال لي: يا ابن ثابت هؤلاء والله أنصار الدين فإن أصيب رجل منهم فما يكون عذري عند الله عز وجل قال: وسار المغيرة وأصحابه حتى أشرفوا على عسكر العدو وإذا هو ملء الأرض وهو نازل حول مدينة البهنسا فصاح المغيرة ومن معه يقولون لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبينما هم كذلك إذ أقبل إليهم بطريق ومعه رجل من العرب المتنصرة راكب إلى جانبه ومعهما نحو مائة ألف فارس وساروا بين أيديهم حتى وصلوا إلى قريب سرادق الملك ولاح البطليوس وهو جالس على السرير فعند ذلك خرج لهم الحجاب والنواب وأرباب الدولة والصولة وقالوا: قد وصلتم وبلغتم إلى سرادق الملك فانزلوا عن خيولكم وانزعوا سيوفكم فقال المغيرة أما خيولنا فننزل عنها وأما سيوفنا فلا ننزعها فإنها عزنا وما كنا بالذي ينزع عزه الذي يعتز به دهره قال فاخبر الحجاب الملك بذلك فقال دعوهم يدخلون بسيوفهم فنادتهم الحجاب ادخلوا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 قال الواقدي: فعندها ترجل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خيولهم وأمسكوها لعبيدهم وأقبلوا يتبخترون في مشيهم ويجرون حمائل سيوفهم ويخترقون صفوف الكفار وهم لا يهابونهم إلى أن وصلوا إلى سرير الملك فدخلوا إلى أن وصلوا إلى النمارق والفرش والديباج والملك جالس على سريره ولما نظر المسلمون إلى ذلك عظموا الله تعالى وكبروه فارتج السرادق وتغيرت ألوان القوم وصاح بهم الحجاب قبلوا الأرض للملك فلم يلتفتوا إليهم قال المغيرة لا ينبغي السجود إلا للملك المعبود ولعمري كانت هذه تحيتنا قبل فلما بعث الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم نهانا عن ذلك فلا يسجد بعضنا لبعض قال فسكتوا قال فأمر الملك بكراسي من ذهب وفضة فنصبت لهم فلم يجلسوا عليها وكانوا من حين دخلوا أمروا بعض عبيدهم أن يطووا البسط من تحت أرجلهم إلى أن وصلوا إلى فرش الديباج فشالوها على جنب فقالت لهم البطارقة قد أسأتم الادب معنا إذ لم تسجدوا للملك ولم تمشوا على فرشنا فقال المغيرة أن الادب مع الله تعالى أفضل من الادب معكم والأرض أطهر من فرشكم لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وقال الله تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه:55] . قال الواقدي: لم يكن بين البطليوس والصحابة ترجمان لانه كان أعرف أهل زمانه بلسان العربية فعند ذلك أمرهم بالجلوس فقال المغيرة اما أن تنزل عن سريرك وتكون معنا على الأرض أو تأذن لنا بالجلوس معك على السرير لأن الله تعالى شرفنا بالإسلام قال فأشار لهم بالجلوس معه على السرير بعد أن أزالوا تلك الفرش وجلس المغيرة إلى جانبه فالتفت البطليوس لعنه الله إليهم وقال لهم: أيكم المتكلم عن أصحابه فأشاروا إلى المغيرة رضي الله عنهم والصحابة جلوس وأيديهم على مقابض سيوفهم فالتفت البطليوس إلى المغيرة وقال له: ما اسمك فقال عبد الله المغيرة فقال: يا مغيرة إني اكره أن أبدأك بالكلام فقال المغيرة تكلم بما شئت فإن عندي لكل كلام جوابا. ثم أن البطليوس أفصح في كلامه وقال الحمد لله الذي جعل سيدنا المسيح أفضل الأنبياء وملكنا أفضل الملوك ونحن خير سادة فقطع عليه المغيرة فقالت الحجاب والنواب لقد أسأت الادب مع الملك يا أخا العرب فابي المغيرة أن يسكت وقال الحمدلله الذي هدانا للإسلام وخصنا من بين الامم بمبعث محمد عليه أفضل الصلاة والسلام فهدانا به من الضلالة وأنقذنا به من الجهالة وهدانا إلى الصراط المستقيم فنحن خير أمة أخرجت للناس نؤمن بنبينا ونبيكم وبجميع الانبياء وجعل أميرنا الذي هو متولي علينا كاحدنا لو زعم أنه ملك وجار عزلناه عنا فلسنا نرى له فضلا علينا إلا بالتقوى وقد جعلنا الله نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر ونقر بالذنب ونستغفر منه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 ونعبد الله وجه لا شريك له ولو أذنب الرجل منا ذنوبا تبلغ مثل الجبال فتاب قبلت توبته وإن مات مسلما فله الجنة قال فتغير لون البطليس ثم سكت قليلا وقال الحمد الله الذي ابتلانا بأحسن البلاء وأغنانا من الفقر ونصرنا على الامم الماضية ولقد كانت جماعة منكم قبل اليوم يأتون إلى بلادنا فيمتارون البر والشعير وغيره ونحسن إليهم وكانوا يشكرونا على ذلك وأنتم جئتمونا بخلاف ذلك تقتلون الرجال وتسبون النساء وتغنمون المال وتنهبون المدائن والحصون والقلاع وتريدون أن تخرجونا من بلادنا وديارنا وأنتم لم تكن أمة من الامم أضعف حالا منكم لانكم أهل الشعير والدخن وجئتم بعد ذلك تطمعون في بلادنا وأموالنا وحولنا جنود كثيرة وشوكتنا شديدة وعصابتنا عظيمة ومدينتنا حصينة والذي جرأكم علينا أنكم ملكتم الشام والعراق واليمن والحجاز وارتحلتم إلى بلادنا وافسدتم كل الفساد وخربتم المدائن والقلاع ولبستم ثيابا فاخرة وتعرضتم لبنات الملوك والبطارقة وجعلتموهن خدما لكم واكلتم طعاما طيبا ما كنتم تعرفونه وملأتم أيديكم بالذهب والفضة والمتاع الفاخر واللآلىء والجواهر ومعكم متاعنا وأموالنا التي من قومنا وأهل ديننا ونحن نترك لكم ذلك جميعه ولا ننازعكم عليه ولا نؤاخذكم بما تقدم من فعلكم من قتل رجالنا ونهب أموالنا والآن فارحلوا عنا واخرجوا من بلادنا فإن فعلتم فتحنا خزائن الاموال وأمرنا لكل رجل منكم بمائة دينار وثوب حرير وعمامة مطرزة بالذهب ولأميركم هذا ألف دينار وعشرة عمائم وعشرة ثياب ولكل أمير منكم كذلك وللخليفة عليكم عشرة آلاف دينار ومائة ثوب حرير ومائة عمامة بعد أن نستوثق منكم بالإيمان إنكم لا تعودون إلى الاغارة على بلادنا هذا كله والمغيرة ساكت فلما فرغ البطليوس من كلامه قال له المغيرة: قد سمعنا كلامك فاسمع كلامنا ثم قال الحمد لله الواحد القهار الفرد الصمد الذي: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الاخلاص: 3, 4] فقال له البطليوس: نعم ما قلت يا بدوي فقال المغيرة أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المرتضى ونبيه المجتبى فقال له البطليوس: لعنه الله لا أدرى أن محمدا رسول الله ولعله كما يقال حبيب الرجل دينه ثم التفت إلى المغيرة وقال: يا عربي ما أفضل الساعات فقال ساعة لا يعصي الله فيها قال صدقت يا أخا العرب لقد بان لي رجحان عقلك فهل في قومك من له رأي مثل رأيك وحزم مثل حزمك قال: نعم في قومنا وعسكرنا أكثر من ألف رجل لا يستغني عن رأيهم ومشورتهم وخلفنا أمثال ذلك وهم قادمون الينا عن قريب. فقال البطليوس ما كنا نظن ذلك منكم وإنما بلغنا عنكم إنكم جماعة جهال لا عقول لكم فقال المغيرة كنا كذلك حتى بعث الله فينا محمدا صلى الله عليه وسلم فهدانا وأرشدنا فقال البطليوس لقد أعجبني كلامك فهل لك في صحبتي فقال المغيرة يسرني ذلك إذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 فعلت ما أقول لك قال: ما هو قال تشهد أن لا إله إلا الله وإن محمدا عبده ورسوله قال البطليوس لا سبيل إلى ذلك ولكن أردت أن أصلح الامر بيني وبينكم قال المغيرة رضي الله عنه الامر إلى الله وأما قولك لنا انا أهل فقر وبؤس وضر فقد كنا كذلك وكنا أهل جاهلية لا يملك أحدنا غير فرسه وقوسه وابله وكنا لا نعظم إلا الاشهر الحرم حتى بعث الله الينا نبيه ورسوله صلى الله عليه وسلم نعرف اصله ونسبه صادقا أمينا نقيا اماما رسولا أظهر الإسلام وكسر الاصنام وختم به النبيين وعرفنا عبادة رب العالمين فنحن نعبد الله ولا نعبد غيره ولا نتخذ من دونه وليا ولا نصيرا ولا نسجد إلا لله وحده لا شريك له ونقر بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وقد أمرنا أن نجاهد من كفر بالله واتخذ مع الله شريكا جل ربنا وعلا وهو واحد لا تأخذه سنة ولا نوم فمن اتبعنا كان من اخواننا وله ما لنا وعليه ما علينا ومن أبى الإسلام فالجزية يؤديها عن يد وهو صاغر فمن أداها حقن الله دمه وماله ومن أبى الإسلام والجزية فالسيف حكم بيننا وبينه والله خير الحاكمين وهي على كل محتلم في العام دينار وليس على من يبلغ الحلم جزية ولا على امرأة ولا على راهب منقطع في صومعته فقال البطليوس لقد فهمت قولك عن الإسلام فما قولك عن الجزية عن يد وهو صاغر فإني لا أدري ما الصغار عندكم فقال المغيرة رضي الله عنه وأنت قائم والسيف على رأسك فلما سمع البطريق كلام المغيرة غضب غضبا شديدا ووثب قائما ووثب المغيرة من موضعه وانتضى سيفه من غمده وكذلك فعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كفعله وهم يقولون لا إله إلا الله محمد رسول الله. قال الراوي: حدثنا مسلم بن عبد الحميد عن طارق بن هلال عن عبد الله بن رافع قال كنا مع المغيرة وجذبنا السيوف ووثبنا على القوم وأخذتنا غيرة الإسلام وما في أعيننا من جيوش البطليوس شيء وعلمنا أن المحشر من ذلك الموضع فلما رأى البطليوس منا ذلك وتبين له الموت من شفار سيوفنا نادى مهلا يا مغيرة لا تعجل فنهلك وأنا أعلم إنك رسول والرسول لا يقتل وإنما تكلمت بما تكلمت لاختبركم وأنظر ما عندكم والآن لا نؤاخذكم فاغمدوا سيوفكم قال فأغمدنا سيوفنا وتقدم المغيرة حتى صار في مكان البطليوس وزحزحه إلى آخر السرير وكان المغيرة رجلا جسيما فاتكأ عليه حتى كاد أن يخلع فخذه من موضعه قال ثم التفت إلى المغيرة وقال: ما قولكم في المسيح بن مريم قال المغيرة عبد الله ورسوله قال فمن أي شيء خلق قال خلقه الله من تراب ثم قال له: كن فكان ودل على ذلك القرآن العظيم قال عز وجل: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:59] قال فما الدليل على أن الله واحد فقال المغيرة: القرآن العظيم قوله تعالى على لسان نبيه: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الاخلاص: 1, 4] فقال له البطليوس: ما رأيت مثل حذقك وجوابك يا أعور. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 وكان المغيرة رضي الله عنه أصيب في احدى عينيه يوم اليرموك فقال له المغيرة: أن ذلك لا يعيبني ولقد أصيبت عيني في الجهاد في سبيل الله من كلب مثلك وأخذت بثأري من الذي فعل بي ذلك فقتلته وقتلت جملة منهم والثواب من الله عز وجل أعظم من ذلك فقال البطليوس ما أحذق جوابك فهل في قومك مثلك قال قد قلت لك فينا أهل العلم والرأي ومن لا أساوي في علمهم شيئا وأنا رجل بدوي فلو رأيت علي بن أبي طالب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم المختار مقاتل الكفار ومبيد الفجار والليث الكرار والبطل المغوار قال أهو معكم في هذا الجيش فقد سمعت بشجاعته وبراعته وأريد أن أنظر إليه. فقال له المغيرة: قاتلك الله أن الامام عليا كرم الله وجهه أعظم قدرا من أن يسير إلى مثلك قال فهل أحد غيره قال: نعم مثل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه هو خليفتنا وعثمان بن عفان وعبد الرحمن وسعيد وسعد وأبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم وأمراء متفرقين في الحجاز واليمن والشام والعراق ومصر كل أمير يقوم بألف مثلك في الشجاعة والبراعة وغير ذلك وأما سيف الله الأمير خالد بن الوليد أمير هذا الجيش ومعه عصابة من الأمراء فكأنك به وقد أقبل علينا برجال سادات شداد وأمراء أمجاد فقال له عند ذلك: إني أريد أن أصلح الامر بيني وبينكم وأريد قبل الحرب أن انظر إلى جماعة ممن ذكرت. قال الراوي: وكان عدو الله أراد أن يغدر بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ففهم المغيرة منه ذلك فقال غداة غد آتيك منهم برجال تنظر إليهم قال ففرح عدو الله وأضمر المكر لاصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورد الله كيده في نحره. قال الراوي: ثم وثب المغيرة وأصحابه وخرجوا من عند البطليوس وما صدقوا بالنجاة وركبوا خيولهم وأمر البطليوس حجابه ونوابه أن يسيروا معهم إلى قريب من عسكرهم قال: ووصل المغيرة وأصحابه إلى الأمير عياض بن غانم الاشعري وحدثه بما جرى له مع البطليوس فقال عياض وحق صاحب الروضة والمنبر ما ترككم إلا خوفا من سيوفكم وهذا رجل حكيم إلا أن الشيطان قد غلب على عقله. قال الراوي: ولم يناموا تلك الليلة إلا وقد أخذوا أهبتهم للحرب واستعدوا فلما أصبح الصباح أذن المؤذنون في عسكر المسلمين فأسبغوا الوضوء وصلوا الصبح ثم ركبوا خيولهم وقد علموا أن العدو مصبحهم وقد عبوا صفوفهم وكانت الجواسيس من العرب يدخلون في عسكرهم وينقلون الاخبار ووصلت جواسيس عياض بن غانم إليه وأعلموه بذلك وإن الروم متأهبون للقتال فرتب جيشه ميمنة وميسرة فجعل في الميمنة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 الفضل بن العباس وجعل في الميسرة أبا ايوب الانصاري وجعل في القلب القعقاع بن عمرو التميمي. قال: حدثنا قيس بن عبد الله قال: حدثنا مالك بن رفاعة عن سعيد بن عمرو الغنوي قال حضر أرض البهنسا عشرة آلاف عين رأت النبي صلى الله عليه وسلم وفيهم سبعون بدريا والأمراء وأصحاب الرايات نحو ألف وأربعمائة ودفن بأرض البهنسا من الصحابة والسادات نحو خمسة آلاف وسيأتي ذكر ذلك أن شاء الله تعالى. قال الراوي: وكان على الرجالة معاذ بن جبل وعلى الساقة والنسوان والصبيان سعد بن عبد القادر والضحاك بن قيس قال: وصار الأمير عياض يتخلل الصفوف ويقول الله الله الجنة تحت ظلال السيوف يا أهل الإسلام اعلموا أن الصبر مقرون بالفرج وإن الله مع الصابرين والصابرون هم الغالبون وإن الفشل سبب من أسباب الخذلان فمن صبر على حد السيف فإذا قدم على الله أكرم منزلته وشكر سعيه والله يحب الصابرين وصار يقول ذلك لاصحاب الرايات قال: وما فرغ الأمير عياض من تعبية الصفوف إلا وعساكر البطليوس والروم قد أقبلت ومعهم النصارى والفلاحون والعرب المتنصرة وأمامهم صليب من الذهب الأحمر زنته خمسة أرطال وفي أربعة جوانبه أربع جواهر كالكواكب. قال: حدثني سنان بن الحرث الهمداني عن شداد بن أوس وكان ممن حضر الفتوح إلى آخرها قال: وأقبلت الصلبان وأنا أعدها صليبا بعد صليب حتى عددت ثمانين صليبا تحت كل صليب ألف ومعهم القسوس والرهبان وهم يتلون الانجيل وأكثر أعداء الله في عسكرهم من الرايات والاعلام فبينما الناس كذلك إذ اقبل بطريق وعليه درع مذهب ولامة حرب وهو يرطن بلغته وطلب البراز فبرز إليه القعقاع وتعاركا وتجاولا ثم طعنه القعقاع في صدره فأطلع السنان يلمع من ظهره فخرج علج آخر وقد غضب لقتل صاحبه وكان من أصحاب الجلوس على السرير مع الملك وطلب البراز فبرز إليه رجل من الأزد فمنعه الأمير عياض من ذلك وقال اذهب فلست كفؤا له قال فبرز إليه المسيب بن نجيبة الفزاري وضربه فتلقاها العلج بحجفته فطار السيف من يده وضرب العلج المسيب فضيعها ونظر أن أحدا يناوله سيفا فلم يجد فأراد الرجوع وإذا بالقعقاع بن عمرو أقبل وبيده سيف فناوله إياه فكر راجعا وضرب البطريق على عاتقه الايمن فأطلع السنان من عاتقه الايسر فانجدل صريعا يخور في دمه وعجل الله بروحه إلى النار وبئس القرار فلما رأت الروم ذلك حملوا على المسلمين حملة واحدة واشتد القتال وعظم النزال وعدو الله البطليوس راكب على جواد أهداه له صاحب صقلية والبربر يساوي خمسمائة دينار وكان أيام الحصار يصعد به ويرمح على أسوار المدينة وسيأتي ذكر ذلك أن شاء الله تعالى في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 262 موضعه وعلى بدنه درع مذهب وفي وسطه منطقة من الجوهر وعلى رأسه تاج تلمع جواهره كالكواكب والصلبان والاعلام مشتبكة على رأسه وقد حمل كردوس من الروم على ميمنة المسلمين فصبروا لهم صبر الكرام ثم حمل كردوس آخر فلله در الفضل بن العباس وأخيه عبيد الله وأولاد عقيل وعبد الله بن جعفر وسادات بني هاشم لقد قاتلوا قتالا شديدا وأبلوا بلاء حسنا وتقدم الفضل إلى حامل الصليب وطعنه في صدره فأطلع السنان يلمع من ظهره وسقط الصليب منكسا إلى الأرض فنظر إليه البطليوس فايقن بالهلاك وهم أن يأخذه فلم يجد لذلك من سبيل قال فأحاط به المسلمون وصار الفضل وسادات بني هاشم يذبون ويرجعون الروم عن الصليب ولما رأى الفضل ازدحام النصارى والروم حمل عليهم حملة منكرة وأسعفه بنو عمه بالحملة والأمراء فقهروا الروم وقتلوا منهم جماعة وازدحم المسلمون على الصليب يريدون أخذه فقال لهم الفضل: أنه لي دونكم ثم عطف عليه ومال في ركابه وأخذ الصليب وكر راجعا إلى المسلمين وسلمه لعبد الله يسلمه لعبده مقبل وكان راكبا مع المسلمين فأخذه ومضى إلى خيمته قال: وحمل الفضل بن العباس ثانيا وحملت الأمراء واشتد القتال وعظم النزال وسالت الدماء وكثر العرق وازورت الحدق قال: ولما رأى عدوالله البطليوس ذلك حمل على المسلمين ومعه طائفة من البطارقة نحو خمسة آلاف وكانوا على جناح الميسرة فقتلوا من المسلمين جماعة وجرحوا جماعة وصبروا لهم صبر الكرام. هذا والفضل رضي الله عنه تارة يكر في الميمنة وتارة يكر في الميسرة وحمل الأمراء جميعهم فلله در القعقاع بن عمرو التميمي والمسيب بن نجيبة الفزاري والبراء بن عازب ومعاذ بن جبل وزيد الخيل لقد قاتلوا قتالا شديدا حتى بقي الدم على دروعهم كقطع أكباد الابل وتوسط المسلمون كتيبة منهم فبرز بطريق عظيم الخلقة كأنه برج فحمل عليه سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأراد أن يضربه وسطا عليه وإذا بضربة أتته من خلفه فأردته عن جواده وسقط الرمح مشتبك في أضلاعه وخشخش الرمح في عظم ظهره ثم جذب الرمح وهو ملقى على الأرض ونزل جماعة وأخذوا سلبه قال فتأملنا من ضرب البطريق فإذا هو زياد بن أبي سفيان رضي الله عنه قال فلما رأى الروم ذلك حملوا حملة منكرة وقامت الحرب على ساق واحدة وضربت الاعناق وشخصت الاحداق وتضاربوا بالصفاح وتطاعنوا بالرماح واشتد الكفاح ورطنت الروم بلغتهم ولم يزالوا في قتال ونزال حتى غابت الشمس وافترق الجمعان وقد قتل من قتل من المسلمين نحو مائتين وخمسين ختم الله لهم بالشهادة ونالوا درجة السعادة وبات الفريقان يتحارسون والمسلمون يقرءون القرآن ويصلون على محمد أشرف ولد عدنان قال: وإن المسلمين أوقدوا النيران وأتوا إلى مكان المعركة وميزوا القتلى فلما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 263 رأى الأمراء ما حل بهم وبأولادهم بكوا وقالوا: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. قال الراوي: وقتل من المشركين نحو ألفين وخمسمائة وقتل من خيارهم وعظمائهم نحو عشرين من أرباب الدولة وحاشية الملك أصحاب السرير فلما رأى البطليوس ذلك صعب عليه وكبر لديه وجلس في سرادقه وحوله أكابر دولته من حجابه ونوابه وقدم له الطعام والشراب فامتنع عن ذلك ثم التفت إلى حجابه وبطارقته ووبخهم توبيخا عظيما وقال مثلكم لا يصلح لخدمة الملوك فما هذا الخوف والفشل الذي دخل في قلوبكم وتريدون أن تصيروا معرة عند الملوك بفعالكم هذه فقالوا: أيها الملك أن هذا اليوم ما أخذنا فيه أهبتنا وما كنا نظن أن العرب فيهم هذه الشجاعة فقال: وما عندكم من الرأي أترضون بالعار والذل ولا سيما وقد أخذ الصليب من أيديكم وخذلتموه فقالوا: أيها الملك سوف ترى منا ما يسرك في غد نكمن لهم كمينا ونخرج لهم ونقاتلهم ويخرج عليهم الكمين ونأمر جماعة يسلسلون أنفسهم وهم الرماة كعادة الروم أن يفعلوا ونقاتلهم ولا نمكنهم من مدينتنا ولو قتلنا عن آخرنا فاستوثق الملك منهم بقولهم ثم كتب كتابا وارسله تحت الليل إلى بطريقي طنجة وقلعة الابراج يسألهم النجدة وكانوا بطارقة شدادا كل بطريق تحت يده عشرة آلاف بطريق من حملة السلاح فلما ورد عليهم الكتاب جهزوا النجدة والاهبة وسيأتي كر ذلك أن شاء الله تعالى. قال الراوي: وأصبح المسلمون فصلوا صلاة الصبح وتبادروا إلى خيولهم فركبوها ثم صفو صفوفهم ورتبوا مواقفهم كما ذكرنا أولا وصار الأمير عياض يحرض الناس وقد جعل في مكانه المغيرة بن شعبة وعطفوا على أصحاب الرايات وقال لهم: أطلقوا الاعنة وقوموا الاسنة وإذا لقيتم العدو فاحملوا حملة واحدة ولا تخافوا ولا ترهبوا وركب الأمراء كاليوم الاول ولم يركبوا حتى دفنوا شهداءهم في ثيابهم ودمائهم قال فما شعرنا إلا والروم قد أقبلوا علينا ورطنوا بلغتهم علينا وابتدر منهم خمسة آلاف فنزلوا عن خيولهم وأرسلوها مع غلمانهم وحفروا لهم حفائر إلى أوساطهم ووضعوا غرائر النشاب أي الصناديق بين أيديهم وأقسموا بالمسيح لا يزولون ولو قتلوا عن آخرهم وكانوا ثلاثة صفوف. قال الراوي: حدثنا سنان بن أبي عبيدة عن زياد عن الحرث عن عبد يغوث وكان من أصحاب الرايات قال بينما نحن نتأهب للحرب وللحملة إذا بالروم قد حملوا علينا حملة واحدة وحملت ميمنتنا واختلط القلب بالقلب ورمت المسلسلة بنشابها فكان يخرج منهم عشرة آلاف سهم كأنها تخرج من كبد قوس واحدة كالجراد المنتشر أو السيل المنحدر فجرحت رجالا وقتلت أبطالا وولت خيل العرب نافرة وصبرت جماعة من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 الأمراء وحمل الفضل بن العباس وأخوه وسادات بني هاشم وكذلك زياد بن أبي سفيان والمغيرة بن شعبة والمسيب بن نجيبة الفزاري وجميع الأمراء واقتتل الفريقان قتالا شديدا وفشا القتل في المسلمين وثبت القوم لقتال العرب وعدو الله البطليوس تارة يكر في الميمنة وتارة يكون في الميسرة وتارة في القلب وحوله كتائب المشركين. قال الراوي: فصبرنا صبر الكرام ووطنا أنفسنا على الموت والأمراء يحرضون على القتال وقد قتل من الفريقين طائفة إلا أن القتل لم يبن في المشركين لكثرتهم ولم نظن أن القوم لهم كمين إذ خرج للقوم كمين من خلفنا والمسلسلة من بين أيدينا وأحاطوا بنا وصرنا بينهم كالشامة البيضاء في جلد البعير الاسود وقتل جماعة من السادة والأمراء وأخلاط الناس فلله در سادات بني هاشم وأبان بن عثمان بن عفان فلقد قاتل أصحاب الرايات براياتها وقاتل عدو الله في القلب وأنكى في المسلمين وقتل رجالا وجندل أبطالا وكلما طلبه فارس من المسلمين لم يجده إلا وهو قد صار في وسط الروم قال فعندها تقدم القعقاع والمسيب بن نجيبة الفزاري وقالا قربوا الجمال في وجوه القوم يا وجوه العرب فاستاقوا الابل وجعلوها بين أيديهم تلقى النشاب وحملوا على المسلسلة وداسوهم بالابل وسنابك الخيل وأقبلت الرجال والرماة يقتلونهم حتى قتلوا منهم مقتلة عظيمة هذا والروم على حالهم فلما رأى عدو الله ما حل بقومه من فعل المسلمين بهم ازدادوا طغيانا ولم يزالوا كذلك حتى غابت الشمس ثم أنزل الله نصره على المسلمين فتظاهروا عليهم وتقدم جعفر بن عقيل إلى كتيبة من الروم وغاص في أوساطهم وطعن البطريق المقدم عليهم فقتله فتكاثرت الروم عليه فقتلوه وكذلك فعل أخوه علي فقتل منهم جماعة فقتلوه وكذلك زيد بن زياد فقتل منهم جماعة فقتلوه وعظم النزال واشتد القتال وألجئوهم إلى ورائهم فلما رأت الأمراء والسادات وبنو هاشم ما حل بهم تواثبوا كالاسود الضارية وحملوا على الروم وألجئوهم إلى الأبواب واقتتلوا قتالا شديدا عند باب الجبل والباب البحري. قال الراوي: وكانت ليلة لم تر الصحابة مثلها وقتل الصحابة رضي الله عنهم ألوفا وقتل منهم جماعة بظاهر البلد نحو خمسمائة وأزيد تظاهر المسلمون بعد ذلك عليهم وألجئوهم إلى السور واقتتلوا قتالا شديدا وعظم البلاء وعدو الله يحمي أصحابه وهم في أشد القتال وكان شعار المسلمين تلك الليلة ينادون يا محمد يا محمد يا نصر الله أنزل وقتل جماعة من المسلمين عند الأبواب وعظم النزال وكان يسمع ضرب السيوف على الدرق كالرعد وبريق السيوف كالبرق ولمعان الاسنة كالكواكب وأحدقت المسلمون بالروم وعدو الله يحمي قومه تارة يكون عند باب قندوس وتارة يكون عند باب توما في جماعة من قومه حتى دخل الروم جميعهم ولم يبق إلا من انقطع من قومه أو كبابه جواده ولم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 265 يزالوا كذلك حتى طلع الفجر فعلوا على الاسوار وضربوا بالنواقيس والبوقات والقرون وغلقوا الأبواب ورموا الاقفال فلما أصبح الصباح صلى المسلمون صلاة الصبح وأتوا إلى موضع المعركة وتفقدوا من قتل منهم فإذا هم خمسمائة وعشرون رجلا من باب توما إلى باب قندوس ختم الله لهم بالشهادة. قال الراوي: ولما رأى المسلمون ذلك بكوا بكاء شديدا وأعظم الناس حزنا الأمير عياض لأجل من قتل تحت رايته وكان أكثر الشهداء الاعيان من قريش وبني هاشم وبني المطلب وبني نوفل وبني عبد شمس فلما رأى مسلم بن عقيل أخوته وما حل بهم ورأى الفضل بن العباس وعبد الله بن جعفر وسادات بني هاشم ما حل ببني عمهم نزلوا عن خيولهم وعانقوا شهداءهم واسترجعوا في مصابهم فعند ذلك أنشد همام بن جرير يقول: يا عين ابكي لا تملي البكى. ... سحى دموعا مثل سكب الغمام. وابكي على السادات من هاشم. ... وعصبة المختار خير الأنام. نوحي على الليث ابن عم النبي. ... هو جعفر المشكور ليث همام. وابكي على الشهداء لا تغفلي. ... ما لاح برق أو تغنى حمام. فلا لقي البطليوس خيرا ولا. ... أجناده أهل الصليب اللئام. لنأخذن الثار يا قومنا. ... بطعن خطى وحد الحسام. قال: ووارى المسلمون شهداءهم ثم أن الأمير عياضا فرق الأمراء على الأبواب فنزل السادات من بني هاشم وغيرهم مثل زياد بن أبي سفيان والوليد وأخيه محمد وأسامة بن زيد وأبي أيوب الانصاري وفضالة بن عبيد وأوس بن حذيفة وعمرو بن حصين ورافع بن خديج وأبي دجانة وجابر ابن عبد الله وبقية الأمراء قال: ونزل القعقاع بن عمرو التميمي والمسيب بن نجيبة الفزاري وأمثالهم من الأمراء بألفي فارس على باب الجبل والمغيرة بن شعبة وأبو لبابة والمهلب الطائي ونظراؤهم من الأمراء بألفي فارس عند باب توما قال: وعبى القوم آلات الحصار ورتبوها على الاسوار وأقاموا مدة شهر لا يقاتل بعضهم بعضا بل كل يوم يركب البطليوس لعنه الله جواده المتقدم ذكره ويلبس لامة حربه ويطلع بالجواد على اعلى السور وحوله المشاة من خلفه وقدامه وبأيديهم السيوف المحددة والدرق والدبابيس والاطيار المذهبة والقسى والنشاب وكان عرض السور يمشي عليه خيالان متكاتفان باللبس الكامل قال هذا ما جرى لهؤلاء وأما خالد فإنه أرسل عبد الرحمن بن أبي بكر وعبد الله بن عمر إلى الفيوم وجرى بينهم وقعات وحروب اختصرنا ذكرها خوف الاطالة فإن المقصود الذي عليه مدار هذا الكتاب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 266 هو فتح البهنسا وما وقع فيها والله أعلم ثم إنهم ساروا حتى اتصلوا إلى مدينة الفيوم وحاصروها اياما قلائل ثم فتحوها وفتحوا الفيوم في أقل من شهر وأخذوا الاموال والغنائم ورجعوا إلى خالد رضي الله عنه وكان مقيما بالنورية كما ذكرنا. قال هذا ما جرى لهم وأما أبو ذر الغفاري وأبو هريرة الدوسي وذو الكلاع الحميري ومالك الاشتر النخعي فإنهم لما ضربوا رقاب القوم كما ذكرنا حاصروا القلعة نحو عشرين يوما واقتتلوا قتالا شديدا. قال: حدثنا قيس بن مالك عن منصرو بن رافع عن أبي المنهال وكان من أصحاب مالك الاشتر قال بينما نحن نحاصر القلعة وقد تظاهروا علينا إذ نحن بغبرة وقت الفجر وكانت ليلة مقمرة فلاحت لنا خيل وقعقعة لجم فتبادرنا إلى خيولنا فركبناها واتضح النهار وبان وإذا عشرون صليبا تحت كل صليب ألف فارس وكان السبب في ذلك بطريق طحا ذات الاعمدة وبطريق قلعة ذات الابراج وما حولهم لما بلغهم كتاب البطليوس تجهزوا بأنفسهم وجمعوا ما حولهم من الروم والنصارى وخرجوا أول الليل خوفا من العرب فما أصبحوا إلا على القلعة والنيل كان في أول زيادته والمسلمون قد أخذوا المعابر والقناطر التي على البحر اليوسفي فقطعوها وساروا حتى نزلوا على القلعة وكان بلغهم حصارها فلم تشعر المسلمون إلا وقد أقبلوا وهجموا عليهم وأتوا إلى نحو باب المدينة الشرقي فوجدوا الأمير زيادا وأصحابه هناك قال مالك الاشتر يا وجوه العرب اجعلوا البحر خلف ظهوركم وقاتلوا أعداءكم واستعينوا بخالقكم هذا والروم صاحوا وطمطموا بلغتهم ورطنوا من أعلى السور وكذلك أهل القلعة دقوا الطبول وضربوا بالنواقيس فلم يزالوا على المسلمين متقابلين وجاءت كتيبة من الروم إلى جانب البحر كما ذكرنا نحو ثلاثة آلاف وكان الأمير زياد رضي الله عنه في نحو مائتين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فحملوا عليهم وصبروا لهم صبر الكرام وقتل الأمير زياد رحمه الله تعالى وقتل معه جماعة من المسلمين ختم الله لهم بالشهادة وركب بقية المسلمين وقاتلوا قتالا شديدا وصبروا لهم صبر الكرام. قال الواقدي: فسمع المسلمون وهم حول المدينة فأتوا إلى الجانب الشرقي فوجدوا السيوف مجذوبة والرايات مرفوعة وقد قتل جماعة من المسلمين على شاطىء البحر نحو أربعين رجلا فصاحت ما فعلوا بنا فعندها هجم القعقاع بفرسه البحر وقال بسم الله وعلى بركة رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم إنك تعلم اننا أفضل من بني اسرائيل عندك وقد فرقت لهم البحر فسار ولم تبتل قوائم فرسه وانحدر إلى جانب القلعة وكانت بقرب البحر فاقتحم البحر خلفه نحو من ألفي فارس إلى أن طلعوا إلى البر الشرقي واقتتلوا قتالا شديدا قال فبينما نحن في أشد القتال إذا بغبرة قد لاحت وانكشفت عن ألف فارس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 267 يقدمهم رفاعة بن زهير المحاربي وهم من أصحاب قيس بن الحرث وكانوا في بلد تسمى بردوها وكانوا صالحوا أهلها فجاءهم رجل من المعاهدين وأخبرهم بمسير أهل طحا ذات الاعمدة وصاحب قلعة الابراج لقتال المسلمين وعلموا أن البحر حاجز بينهم وبين أصحابهم فأتوا إلى الأمير قيس بن الحرث واستأذنوه حتى وصلوا وهم في القتال كما ذكرنا فلما رأوا القوم كبروا فأجابوهم بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير ثم حملوا عليهم وقاتلوهم قتالا شديدا وكان الفضل بن العباس وزياد بن أبي سفيان ومسلم بن عقيل في جملة من عبر إلى البر الشرقي فعندها وثب القعقاع بن عمرو التميمي على بطريق القلعة فقتله وكذلك الفضل بن العباس وثب على بطريق طحنا ذات الاعمدة فقتله وزياد بن أبي سفيان على بطريق عظيم فقتله فلما رأى الروم ذلك ولوا الادبار وركنوا إلى الفرار وهرب منهم جماعة فألجئوهم إلى البحر فغرق منهم جماعة وأسر منهم نحو من ثلاثة آلاف وأتوا بهم إلى نحو السور قريبا منه وضربوا أعناقهم والبطليوس ينظر إليهم هو وأصحابه ودفن الأمير زياد إلى جانب البحر تحت جدران القلعة ورجعت المسلمون ونصبوا الجسر بالاخشاب والاحجار تتساقط عليهم وهم لا يفكرون حتى عبروا إلى الجانب الغربي بأجمعهم واشتد الحصار وأقام المسلمون محاصرين مدينة البهنسا تسعة أشهر. قال الواقدي: وإن المدينة كان لها باب سري تحت الأرض من تحت باب الجبل من عند تل هناك يظن من رآه أنه مغارة أو حفر في الجبل وكان يخرج منه عيونه ومن يأتيه بالطعام وغيره سرا تحت ظلام الليل إلى ذلك المكان ويخرج الرجل وفرسه على يده إلى ظاهر السرب فلاجل هذا لا يعجزهم الحصار وكان إذا احتاج إلى أمر مهم يخرج من يثق به من ذلك المكان ويوقد الشمع والفوانيس ليلا ويخرج من يختار من ذلك الباب وكان الملوك القدماء ما وضعوا ذلك الباب إلا لأجل الحصار وكانت عيونه تخرج وتأتيه بالاخبار وكان خالد بن الوليد رضي الله عنه لما فتح الفيوم صارت الميرة والعلوفة والارز والعسل وغير ذلك تأتي للصحابة من الفيوم ومن الوجه البحري تأتي إليهم الميرة قال فأرسل الأمير عياض رضي الله عنه الأمير مياس ابن حام وأرسل معه مائتين من المسلمين ومعهم جمال وبغال يأتونهم بما ذكرنا وكان خالد قد أرسل يعلمهم بذلك وأنهم يرسلون إلى الفيوم ويأخذون ما يحتاجون إليه قال: وسار مياس حتى وصل الفيوم وكان عليهم متكلما من قبل خالد الأمير عجرفة قال: وسار مياس ومن معه حتى قدموا الفيوم وأوسقوا الجمال والبغال وأرادوا الرجوع إلى أرض البهنسا حتى وصلوا إلى دير هناك في الجبل قال هذا ما جرى لهؤلاء وأما عيون البطليوس فأخبروه بذلك فاستدعى ببطريق من أصحاب السرير اسمه ميخائيل بن بطرس وكان معروفا بالشدة والبراعة وأمره أن يأخذ معه ألفا من الروم وينطلقوا إلى طريق الفيوم ويكمنوا لهم في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 268 الدير ثم يخرجوا عليهم فخرجوا من باب السرب واحدا بعد واحد في ظلام الليل وساروا حتى وصلوا إلى دير وكمنوا هناك حتى رأوا المسلمين فخرجوا عليهم فالتقى الجمعان واصطدم الفريقان وقاتلت المسلمون قتالا شديدا. قال الراوي: حدثنا ابو محمد البدوي حدثنا أبو العلاء المحاربي قال شداد بن أوس وكان في خيل مياس لما التقى الجمعان وأحاطت بنا أعداء الله وظننا أن المحشر من ذلك المكان ووطنا أنفسنا على الموت وقاتل الأمير مياس بعد أن سلم الراية لولده منيع فقاتل حتى قتل ثم قاتل من بعده مازن حتى قتل ولم تكن غير ساعة حتى قتل من المسلمين نحو مائة فارس وأسروا الباقين قال: وكان في القوم عبد الله بن أنيس الجهني رضي الله عنه أحد سعاة النبي صلى الله عليه وسلم فلما رأى ذلك خرج كالريح الهبوب وقام يجري وكان قد دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وعمرو بن أمية الضمري بالقوة والبركة في المشي وكانا لا تدركهما الخيل العتاق ولا النجب السوابق فسار حتى أشرف على العسكر وصاح النفير النفير أركبوا يا مسلمون قال فتواثبت الفرسان إليه وسألوه فقص عليهم القصة فتواثب المسلمون إلى خيولهم فركبوها وكل يقول أنا أمضي فعندها استدعى الأمير عياض بعبد الله بن جعفر الطيار أخي علي بن أبي طالب وضم إليه ألف فارس من الصحابة رضي الله عنهم من أهل الشدة وساروا أول الليل ومعهم رجل من المعاهدين يدلهم إلى أن قربوا من قرية هناك بسفح الجبل فكمنوا هناك إلى أن جن الليل إذ سمعوا حوافر الخيل فتواثبوا إلى خيولهم فركبوها وإذا بالروم أقبلوا عليهم والاسارى معهم موثوقون بالحبال على ظهور خيولهم وكانت ليلة مقمرة فصاحت المسلمون بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير وحمل القوم واقتتلوا قتالا شديدا فعندها صاح عبد الله بن جعفر رضي الله عنه يا قوم أيعجز أحدكم عن خصمه قال فتواثب الأمراء والسادات رضي الله عنهم يقتلون ويأسرون وبادر عبد الله بن جعفر إلى مقدم الجيش لعنة الله وكان عليه درع مصفح فطعنه في صدره طعنة قرشية هاشمية فأطلع السنان يلمع من ظهره وعجل الله بروحه إلى النار وبئس القرار فلما رأى الروم ذلك انهزموا وتبعهم المسلمون يقتلون وياسرون وينهبون فما أصبح الصباح حتى قتل منهم نحو خمسمائة وأسروا الباقين وخلصوا المسلمين من الاسر وغنموا سلاح الروم وأموالهم وخيولهم وترك عبد الله بن جعفر الاسارى وخمسمائة من المسلمين عند القرية وأمرهم أن لا يبرحوا حتى يأتيهم وأمر عليهم عبد الله بن معقل وساروا حتى أتوا إلى محل المعركة ووجدوا القتلى وعندهم نصارى من المعاهدين يبكون وحلفوا لهم أن لا علم لهم بذلك فنزلوا عن خيولهم وأخرجوا لهم زادا فأكلوا وواروا شهدائهم وكر عبد الله راجعا إلى أصحابه وحملوا رؤوس القتلى ورأس عدو الله ميخائيل أمامهم وجنبوا خيولهم وأخرجوا لهم زادا فأكلوا وساقوا الاسارى حتى وصلوا إلى العسكر بالميرة والعلوفة ومعهم من العسل والسليط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 269 قال: وأعلنوا بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير وأجابتهم المسلمون إلى مثل ذلك وانقلب العسكر والروم على الاسوار ينظرون ما الخبر فرأوا تلك الرؤوس على رؤوس عدو الله ميخائيل أمامهم فصعب عليهم وكبر لديهم ولطموا على وجوههم وذهبوا إلى البطليوس وأعلموه بذلك فصعب عليه واستدعى بجواده فركبه وصعد على السور حتى أشرف على المسلمين فلما رأى ذلك عظم عليه وقال: ما هؤلاء انس وإنما هم جن فلما رأى المسلمون البطليوس أتوا إلى الأمير فاعلموه بذلك فركب الأمراء معه حتى أتى إلى تل هناك عال مقابل باب قندوس واستدعى بالاسارى وعرض عليهم الإسلام فأبوا فضربوا رقابهم والروم ينظرون إلى ذلك فغضب عند ذلك البطليوس غضبا شديدا وحمل هما عظيما. قال الراوي: ثم أن عدو الله استشار أصحابه فيما يفعل وإنه يريد الخروج بنفسه والكبسة عليهم قال فنهض إليه بطريق اسمه كراكر وكان فارسا شديدا وقال أنا أيها الملك أكفيك هذا المهم وأكبس عليهم لعلي أن أنال منهم مكالا وأريد معي جماعة شدادا فقال الملك خذ من شئت فانتدب معه عشرة بطارقة تحت يد كل بطريق ألف وجاءوا إلى كنيستهم وفتحوا الانجيل في وجوههم وساروا إلى أن وصلوا إلى الأبواب والبطليوس يحرضهم ويوصيهم بالهجمة عليهم ما داموا على غفلة ثم أمر الحراس بفتح الباب لهم وهو باب قندوس وكانوا ألف فارس بوابين على الباب وكان للباب ثلاثة أبراج بين كل برجين باب وشراريف وخرجوا وهم مستعدون لذلك والمسلمون على غفلة مما دبر القوم لا يدرون ما يرادبهم وكان على حرس المسلمين تلك الليلة من جهة باب قندوس زائد بن ثابت وعبيد الله بن عباس وعبد الله بن معقل والبر اء بن عازب ومالك الاشتر وذو الكلاع الحميري. قال الراوي: حدثنا عوف بن سعد عن سعيد بن طارق الثقفي عن أبي يزيد عن مالك الاشتر قال بينما نحن نسهر تلك الليلة والمسلمون قد هجموا في مراقدهم من شدة البرد وكثرة السهر ووضعوا أسحلتهم ومنهم من له ورد يقرؤه ومنهم من يصلي إذ راينا فتح الباب وخرجوا كالسلاهب وبأيديهم الفوانيس ومشاعل النار وحملوا على الجيش فتبادرنا إليهم وصحنا النفير دهينا يا مسلمون ثوروا فقد غدركم القوم فلما سمع المسلمون الصياح تبادروا وثاروا من مضاجعهم كالاسود الضارية هذا يأخذ سيفه وهذا يأخذ رمحه وهذا عاري الجسد لم يمهل حتى يلبس ثيابه وهذا يشد وسطه بمئزره وهذا عليه قميص واحد وثاروا في صدور الرجال هذا وعدو الله قد عطف على جماعة من المسلمين قبل أن ينتهوا ووضع السيف في عراضهم فما أفاق بعض القوم إلا والسيف قد اطاح رأس هذا وقطع زند هذا وطعن نحر هذا وهكذا وكثر الصياح وعظم البلاء وكثر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 270 القتال وعدو الله كراكر عليه ديباجة حمراء مقصبة بالذهب تلمع من فوق الدروع وعلى رأسه بيضة عليها جوهرة تضيء كالكواكب وهو يهدر كالجمل الهائج وهو يرطن بلغته وخلفه جماعة والذين على الاسوار يصيحون ويزعقون بشعارهم ويضربون بقرونهم وبوقاتهم وطبولهم وأوقدوا مشاعلهم من أعلى السور حتى بقي مثل النهار هذا وقد ثارت الأمراء أصحاب النجدة وذوو المروءات واعتقلوا بسيوفهم وركبوا خيولهم فمنهم من ركب جواده عريانا ومنهم من ركب بسرج بعير لجام ومنهم من أسرع ماشيا فلله در الفضل بن العباس وابن عمه الفضل أبن أبي لهب وعبد الله بن جعفر وزياد بن أبي سفيان والقعقاع بن عمرو والمسيب بن نجيبة الفزاري والمغيرة ومسلم وأبي ذر الغفاري وأبي دجانة وأبي أمامة وغفار بن عقبة وأبي زير العقيلي ومثل هؤلاء السادات رضي الله عنهم لقد قاتلوا قتالا شديدا وأبلوا بلاء عظيما وطعن جماعة من المسلمين وجرح جماعة من المسلمين. وأما الذين هاجموهم في أول الوقعة فقتل منهم جماعة نحو المائتين وثمانين رجلا واقتتل الناس قتالا شديدا وأقبل الفضل بن العباس إلى البطريق كراكر لعنة الله وضربة بالسيف على عاتقه الايمن فأطلع السنان يلمع من عاتقه الايسر فوقع يخور في دمه وعجل الله بروحه إلى النار وبئس القرار وأتبعه بالجملة ابن عمه عبد الله ابن حجفر فقتل بطريقا آخر ولم تكن إلا ساعة وقد جاءتهم بقية الأمراء من على أبوابهم وتركوا مكانهم من يثقون به وساروا إلى أن وصلوا إليهم وحملوا عليهم حملة منكرة وقتلوا منهم مقتلة عظيمة نحو من ثلاثة آلاف من الروم والنصارى فلما رأى الروم ذلك فروا نحو الباب وتبعهم المسلمون إلى الباب فخرج كردوس عظيم الروم وحموا المنهزمين وأسر المسلمون من الروم نحو ألف ومائتين وخمسين واتوا إلى مكان المعركة يتفقدون من قتل منهم فإذا هم أربعمائة وخمسة وثلاثون رجلا ختم الله لهم بالشهادة فلما رأى المسلمون ذلك شق عليهم وكبر لديهم وأسرعوا تحت الليل وجمعوا الشهداء ودفنوهم في ثيابهم ودمائهم في مكان يعرف بالبطحى عند مجرى الحصى ومنقع السيل فدفنوهم هناك كل اثنين وكل ثلاثة وكل أربعة وكل خمسة في قبر وقدموا أهل السابقة وأصحاب القرآن وكان يعرف ذلك المكان بقبور الشهداء الاخيار والدعاء هناك مستجاب مجرب مرارا وتحط هناك الاوزار لمن يكثر من الدعاء والتطوع والاستغفار. قال الواقدي: ما حدثت في هذا الكتاب إلا على قاعدة الصدق وأذكر ما وقع من الامور وحدث عن أصحاب التواريخ وثقات المحدثين من أصحاب السير ومن سماع كلامه كالدر فهذا كالعقد النفيس في السلوك والتأسيس لا يليق سماعه إلا لذوي البصائر والعلماء والملوك فإنه نزهة الناظر ويشرح الخاطر لم يجمع أحد مثله من أهل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 271 السير لما فيه من الامثال والعجائب والاخبار الصحيحة المنقولة عن ثقات المحدثين يتلذذ بذلك المستمعون ولنرجع إلى سياق الحديث. قال الواقدي: حدثنا عبد الله بن عبد الواحد القاري عن أبي سراقة بن نوفل الخزرجي عن أبي لبابة بن المنذر وكان من أصحاب الرايات قال: ولما وارينا الشهداء ورجعنا إلى خيامنا وعدو الله البطليوس قد أغلق الباب وألقى الاقفال وعلوا على الاسوار قال: ولما رجع المنهزمون إلى البطليوس صعب عليه وكبر لديه وأظلمت الدنيا في وجهه وحمل هما عظيما على من قتل من بطارقته وجماعته ونوى المكايد والمصائب للمسلمين. قال الراوي: هذا ما جرى لهؤلاء وأما الصحابة رضي الله عنهم فإنهم أجتمعوا عند الأمير وتذاكروا ما حصل للمسلمين من البطليوس لعنه الله واتفق رأيهم أن يرسلوا إلى الأمير خالد بن الوليد رضي الله عنه ويسألوه أن يسير إليهم بنفسه وبمن معه وكتب كتابا يقول فيه بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عياض بن غانم إلى الأمير خالد بن الوليد اعلم أيها الأمير أننا فتحنا الشام والعراق واليمن والحجاز ولم نجد في الترك والروم والفرس والديلم ألعن من هذا الملعون بطريق البهنسا البطليوس ولا أكثر منه خداعا ولا مكرا ولا حيلة وإنها مدينة آهلة بالخيل حصينة بالرجال وقد خدعونا مرارا وقد قتلوا منا رجالا فأنجدنا بنفسك وبمن معك من المسلمين والسلام ورحمة الله وبركاته عليكم وطوى الكتاب وسلمه إلى عبد الله بن المنذر فأخذه وأتى به إلى الأمير خالد فوجده نازلا على النورية فسلم عليه ودفع له الكتاب فلما قراه وفهم ما فيه استرجع وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ثم التفت إلى عبد الله وقال قل للأمير عياض أن الأمير خالدا قادم عليك برجال وأي رجال والسلام عليك وعلى من معك من المسلمين من المهاجرين والانصار فرجع عبد الله ثاني يوم إلى البهنسا ورد الكتاب إلى الأمير عياض بن غانم. قال ثم استدعى الأمير خالد بأبي عبد الله الزبير وضم إليه ثلثمائة فارس وأمرهم بالمسير إلى أرض البهنسا وقال لهم: إذا وصلتم إلى أرض البهنسا فأعلنوا بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير فسار الزبير رضي الله عنه فلما بعدوا دعا بالمقداد ابن الاسود وضرار ابن الازور ودفع لهما مائتي فارس وأمرهما أن يسيرا على أثرهما وقال لهما لا تزالا حتى يدخل الزبير وابنه ثم بعبد الرحمن بن أبي بكر وعبد الله بن عمر رضي الله عنه وضم إليهما مائتي فارس وأمرهما بالمسير على أثر المقداد ثم استدعى بسعيد بن زياد بن عمر بن نوفل خال رسول الله صلى الله عليه وسلم وعقبة بن عامر الفهري ودفع لهما مائتي فارس وأمرهما أن يسيرا وبات الأمير خالد تلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 272 الليلة ولما أصبح صلى وسار معه بقية الأمراء من المهاجرين والانصار الاخيار رضي الله عنهم. قال الراوي: وسار الزبير رضي الله عنه بمن معه حتى أشرف على البهنسا فكبر وكبر معه المسلمون وأنشد يقول: أتيناكم على خيل عتاق. ... شبيه الريح يوم الاستباق. عليها كل صنديد همام. ... شديد البأس يوم الحرب راقي. نذل حماتكم بالسمر لما. ... نجول بها مع البيض الرقاق. ونقتل كل ملعون وباغ. ... على الإسلام من أهل النفاق. ونحن حماة الدين الله حقا. ... نقر بأن رب العرش باقي. وإن محمدا خير البرايا. ... رسول الله للعلياء راقي. قال: وأشرفت الروم على أبواب المدينة ينظرون إليهم فما لبثوا غير قليل حتى أشرف عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وعبد الله بن عمرو رضي الله عنه وكبر وكبرت المسلمون قال ثم أنشد يقول: أنا الفارس المشهور للحرب في الوغى. ... أذل بسيفي كل باغ ومعتدي. وأحمل في الابطال حملة من له. ... إلى الغاية القصوى أعاظم مقصدى. أنا ابن أبي بكر الذي شاع ذكره. ... خليفة خير المرسلين محمد. فياويل من عالى حسامي رأسه. ... ويا ويل من عاجلته بمهند. قال الراوي: ثم أشرف من بعده عبد الله بن عمر وكبر وكبرت المسلمون لتكبيره ثم أنشد يقول: أتينا على خيل عتاق وضمر. ... بكل يمان ذي حداد وأسمر. بكف شجاع باع الله نفسه. ... يرى الموت في الهيجاء أفخر مفخر. نذلكم بالسيف في الحرب والقنا. ... ونقتل منكم كل باغ ومفترى. قال الراوي: ولم يزل كل أمير ينزل بجماعته حتى تكاملوا وتأخر الأمير خالد وبقية الأمراء الذي معه ولما بات أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصبحوا قال ضرار بن الازور والأمراء للأمير غانم أظنكم أنتم المحاصرون وأعداؤكم في أكل وشرب فما هذا القعود ثم رجعوا للأبواب وضرار ينشد ويقول: سأضرب في العلوج بكل عضب. ... شديد الباس ذي حد صقيل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 273 وأضرم في علو الباب نارا. ... وأرمي القوم بالخطب الجليل. وأترك دارهم منهم خرابا. ... ولم أمهل بذي شبح كفيل. فويل ثم ويل ثم ويل. ... لهم مني بمشتد العويل. سأقتل كل باغ كان منهم. ... بحد السيف والباع الطويل. قال: ولم يزل يترنم بهذه الابيات وتراموا بالسهام والمقاليع واقتتلوا قتالا شديدا فاشتدت حمية عتيد الروم وجمع الملعون البطارقة من ذوي الشدة والبأس وكان هو فارسا شديدا وبطلا كما ذكرنا وفتح باب الجبل وخرج منه كأنه شعلة نار على جرائد الخيل والرماة بين يديه يرمون بالنشاب والمجانيق من أعلى الابراج واقتتلوا قتالا شديدا وجرح من المسلمين جماعة وكانت مقتلة عظيمة وبقية الأمراء لا يعلمون وأنكى من المسلمين جماعة قال فعندها ضجت الأمراء أصحاب الرايات وأقبل علج عظيم من البطارقة وطلب البراز فبرز إليه المغيرة بن شعبة فحمل عليه البطريق واقتتلا قتالا شديدا فضربه المغيرة بالسيف فطاح من يده وبادر عدو الله إلى المغيرة ليضربه وإذا بفارس قد أقبل بيده سيف مجذوب فلوح به إلى المغيرة وإذا هو عبد الرحمن ابن أبي بكر فأخذه المغيرة وضرب به البطريق فحاد عنها وقرب من المغيرة وتجاذبا وكلما أراد المغيرة أن يسطو على العلج يمانع عن نفسه ونظر ضرار بن الازور إلى ذلك فترجل عن جواده وسعى بين الصفوف حتى قرب من البطريق وضربه في حزامه فقطعه فسقط عدو الله وهو جاذب المغيرة إلى الأرض فعندها تكاثرت الروم على ضرار والمغيرة فأرادوا قتلهما وإذ بثلاثة فوارس قد أقبلوا واخترقوا الصفوف أحدهم عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق والثاني عبد الله ابن عمر بن الخطاب والثالث المقداد ابن الاسود الكندي رضي الله عنهم فأزالوهم عن مراكزهم وقتلوا ثلاثة من الروم وفرقوا الكتائب عنهم وضرب ضرار البطريق فقتله قال: ومال عبد الرحمن ابن أبي بكر وركب ضرار جوادا من خيل المقتولين وأخذوا الاسلاب هذا وعدو الله البطليوس لعنة الله تارة يكر في الميمنة وتارة يكر في الميسرة وطلب البراز. فبرز إليه المقداد بن الاسود الكندي رضي الله عنه وتعاركا وتجاولا وتطاعنا قال المقداد ابن الاسود قاتلت ملوكا وفتحت قلاعا ولاقيت حروبا في الجاهلية والإسلام فلم أر أخدع من البطليوس ولا أشد بأسا ولا أصعب مراسا منه فتقاتلا حتى كل الجوادان والتفت الي وقال: ما أجرأ فرسك كيف تقاتل عليك وهو بثلاث أرجل قال المقداد فمن شفقتي على جوادي طأطأت رأسي لانظر إلى قوائمه فضربني بالسيف ضربة قوية فقطعت الخودة والرفادة وأثرت قليلا في رأسي فظن الملعون أن خصمه قد قتل فلوى عنان فرسه فاستيقظ المقداد وتبعه فساق جواده المتقدم ذكره وأحاط به أصحابه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 قال فبينما الناس في أشد القتال إذ أقبل الأمير خالد بن الوليد رضي الله عنه ومعه الأمراء المتقدم ذكرهم وأعلنوا بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير وفي أوائل القوم خالد وهو ينشد ويقول: رعى الله صبا للقا جاء يسرع. ... وصبا على الفرسان بالرمح يقرع. ومن باع لله المهيمن نفسه. ... وكان إلى الهيجا بالأمر أطوع. فويلك يا بطليوس من سيف خالد. ... إذا اشتدت الهيجاء والحرب يرفع. فلا رحم الرحمن بطليوس كافرا. ... ويلعنه كل الملائك أجمع. فإن قدر المولى سأخرب داره. ... وأتركها من بعده وهي بلقع. بحد يماني إذا ما جذبته. ... تذل له كل العداة وتخضع. قال الراوي: ثم أن خالدا رضي الله عنه حمل بمن معه واقتتلوا قتالا شديدا وقاتل البطليوس لعنة الله قتالا شديدا وقتل رجالا وجندل ابطالا فعندها حملت الأمراء وأصحاب الرايت وذو المروءات واقتتلوا بين الجبل والباب قريب التل الأحمر قتالا شديدا وعطف خالد على البطليوس وصال عليه وكلما مر إلى الميسرة يراوغه إلى الميمنة ومن الميمنة إلى الميسرة فعندها عطف خالد عليه وحازه بين الصفوف وحمل عليه فعندها فر إلى القلب وأحاط به أصحابه وقومه ووضعت الأمراء السيوف فيهم وتبعه الأمير خالد وساق جواده إلى الباب واقتحمه وتبعه قومه وانهموا إلى الباب ودخلوه وتبعهم المسلمون واقتتلوا عند الباب وقتل من الروم نحو أربعة آلاف ودخلوا الباب وأغلقوه وأوثقوه بالاقفال وعلوا على الأسوار وأسر المسلمون نحو ألف وخمسمائة فعرضوهم على الأمير خالد وكان فيهم من كبار البطارقة فعرض عليهم الإسلام فامتنعوا فأمر بضرب رقابهم وافتقد المسلمون أصحابهم فإذا قد قتل منهم مائتان وثمانون رجلا ختم الله لهم بالشهادة. قال الواقدي: هذا ما جرى لهؤلاء وأما عدو الله البطليوس فإنه حمل هما وحصل له مالا ينبغي شرحه وأمر بجمع البطارقة فلما اجتمعوا شكا لهم أمر العرب وما لقوا من الحرب وقال فما الرأي عندكم فقالوا: كلنا بين يديك فإذا أمرتنا بالقتال قاتلنا على سور بلدنا قال سأدبر لكم أمرا وهو تدبير من خاض الحروب وعرفها ثم أمر باجتماع الناس خاصتهم وعامتهم فاجتمعوا إليه إلا من بقي على الأبواب خوفا من المسلمين فلما تكاملوا واجتمعوا قال أني عزمت أن أهجم على القوم في هذه الليلة وأكبسهم في أماكنهم والليل مدلهم وأنتم أعرف بمسالك البلد من غيركم فلا يبقى منكم أحد ويتأهب ويخرج معي من بابه ونكبس القوم وأخرج أنا بنفسي ومن معي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 من باب توما وأرجو وصولي إلى مسرتي والا أموت بحسرتي وأبيدهم أولا بأول لعلي أن أصل إلى أميرهم فآخذه أسيرا وأبلغ مقصدي قالوا: حبا وكرامة ثم بعث فرقة إلى باب الجبل وفرقة إلى باب قندوس وفرقة إلى الباب الشرقي وانتدب معه سادات قومه ومن عرف بالشجاعة وأخذهم معه ثم أقبل على القوم قبل انصرافهم وقال سآمر صاحب الناقوس أن يخفق لكم الناقوس خفقة عند خروجي من الباب فتخرجون جميعا فامتثلوا ما أمرهم به وقاموا ينتظرون الاشارة واما صاحب الناقوس فاحتمله وصعد به على السور أي البرج وفعل ما أمره به البطليوس فخرج القوم كالسلاهب وخرج البطليوس في عشرين ألف فارس من الشجعان وهو يوصيهم وقال أسرعوا في مشيكم فإذا وصلتم إلى القوم فاحملوا عليهم ومكنوا السيوف والخناجر من رقابهم ومن صاح الامان فلا تبقوا عليه إلا أن يكون أمير القوم ومن أبصر منكم الصليب الذي أخذ منا فليأخذه ومن أتى به أكرمته. ثم أمر صاحب الناقوس أن يضربه فضربه ضربة سمعها أهل الأبواب ففتح البوابون وتبادروا للخروج وخرج اللعين وسمع المسلمون الصوت فبادروا من أماكنهم مسرعين يخفر بعضهم بعضا وهم على يقظة وتبادروا كالاسود الضارية المشتاقة إلى فرائسها فلم تصل القوم إليهم إلا وهم على حذر إلا أنهم غير مرتبين فتجاول القوم في ظلام الليل وسمع الأمير خالد ذلك منهم فصاح واغوثاه وامحمداه وإسلاماه كيد قومي ورب الكعبة اللهم انظر إليهم بعينك التي لا تنام وانصرهم على عدوهم ولا تسلمهم إلى شر خلقك ثم سار خالد وهو مكشوف الرأس بلا خوذة وألهته الزعقة عن لبس السلاح وسار إلى قومه وهو ينشد ويقول: فاض دمعي واعتراني حزني. ... ضاق صدري وبراني شجني. رب سلم من نزول المحن. ... وانصر الإسلام ياذا المنن. بالنبي الهاشمي العدني. ... أحمد المختار طه المداني. قال الراوي: ثم وصل إلى باب توما ومعه خمسمائة من السادات وأصحاب النجدة مثل الفضل بن العباس والفضل بن أبي لهب وزياد بن أبي سفيان بن الحرث وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب والمقداد بن الاسود وزيد بن ثابت وعبد الله بن زيد ومسلم بن عقيل وأبي ذر الغفاري وعبادة بن الصامت وبحر بن مسلم وعقبة بن نافع والمغيرة بن شعبة والمسيب بن نجيبة الفزاري رضي الله عنهم وعلت أصوات المسلمين بالتهليل والتكبير والقوم من أعلى الاسوار قد رطنوا بلغتهم وتصارخوا عندما استيقظ المسلمون وحمل خالد على القوم ونادى يا مسلمون أتاكم الغوث من رب العالمين أنا الفارس الصنديد والبطل المجيد أنا خالد بن الوليد ثم حمل في وسط الروم بمن معه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 فقتل رجالا وجندل أبطالا وهو مع ذلك مشتغل القلب بالأمير عياض وبقية الأمراء الذين على الأبواب وهو يسمع صراخهم وزعقاتهم. قال الواقدي: حدثنا عبد الله بن عون قال: حدثنا جابر بن سنان عن عقبة بن عامر قال كان الروم والنصارى من أعلى السور يرمون بالحجارة والسهام ولقيت المسلمون من عدو الله البطليوس أمرا عظيما لم يروا قبله مثله وكان أول من وصل إليهم البطليوس لعنه الله فصبرت له المسلمون صبر الكرام وقاتل عدو الله البطليوس قتالا شديدا وقال أروني الذي أخذ صليبي بالامس فلما سمع الفضل بن العباس صوته قصد جهته وقال ها أنا صاحبك وغريمك أنا مبيد جمعكم وآخذ صليبكم أنا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعطف عليه البطليوس عطفة الاسد على فريسته وقال إياك طلبت ثم انفرد له وصادمه فلم تر الناس في طول الايام ضربا كضربهما في تلك الليلة ورأى الفضل منه شيئا لم يره في طول عمره ولم يزالا كذلك إلى أن مضى من الليل شطرة وكل قرم مع قرمه ولم يزالا في كر وفر وضرب ورد لم ير أحد مثله وصبر له الفضل صبر الكرام ولاح له من عدو الله ضربة فتلقاها في حجفته قانقطع سيف الفضل وطمع فيه عدو الله وظن أنه يأخذه أسيرا وإذا بفارسين قد أقبلا ومن ورائهما كتيبة من الفرسان قد هجموا على الروم وإذا بخولة بنت الازور أخت ضرار قد حملت على فارسين من الروم فجندلتهما وهي تجندل في الابطال وفرسانهم فلحقها فارسان أحدهما عبد الرحمن بن أبي بكر والثاني عبد الله بن جعفر وتبعهما ثلاثة وهم أبان بن عثمان بن عفان فخلصوا خولة بعد أن أحاطت الروم بها وعطفوا على عدو الله البطليوس فكر راجعا في كردوس من الروم حتى دخل مدينة البهنسا وقاتلت الروم من أعلى الاسوار قتالا شديدا وكان خالد رضي الله عنه تارة يكر عند باب الجبل وتارة عند باب توما وتارة عند باب قندوس. وكان عياض بن غانم الاشعري عند باب الجبل في ذلك الوقت فلبس سلاحه ودنا من القوم بمن معه من الأمراء مثل المقداد وضرار بن الازور وشرحبيل ومسلم وعقيل وزياد وعبد الله بن العباس وعمرو بن أبي ذئب وعبد الرحمن ابن أبي هريرة والمسيب ولاحرث بن مسلم وزيد بن الحرث وابي ذر الغفاري ومحمد بن مسلمة رضي الله عنه فعطفوا نحو الباب وكبروا وكبر القوم من ورائهم فخرج إليهم بطريق عظيم ومعه عشرة آلاف فارس وكان اسم البطريق يوحنا فاقتتلوا قتالا شديدا فتكاثر الروم على عبد الله بن عبادة بن الصامت فقاتل قتالا شديدا ورمى بحجر من أعلى الباب فقتله وقتل من الأمراء وفرسان المسلمين عند الباب زهاء من مائتين وقتل من الروم نحو ألف وحمل عياض والأمراء والتقى القوم فصارت الاحجار والسهام تتساقط عليهم وهم لا يولون عنهم فلما ألجئوهم إلى الباب واختلطوا بهم خشيت الروم أن يصيبوا أصحابهم بسهامهم وحجارتهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 277 فأمسكوا أيديهم وقتل من الروم مقتلة عظيمة وأما خالد فقالتل قتالا شديدا ما رؤي مثله فبينما الناس كذلك إذ أقبل ضرار بن الازور وهو ملطخ بالدماء وهو جامد عليه كأكباد الابل فقال له خالد: ما وراءك من الاخبار يا ضرار فقال أخبرك يا أبا سليمان أني قتلت في ليلتي هذه مائة وستين رجلا وقتل قومي ما لا يعد وقد كفيتكم من خرج من باب الجبل. قال الراوي: وكانت ليلة لم ير الناس مثلها وهجم الأمير عياض هو وأصحابه على من بداخل الباب واقتتلوا قتالا شديدا ووصلوا إلى ساباط الباب وكان له باب آخر فأغلق من دونهم على كردوس من الروم فقتلوا هناك وتسلق المسلمون على البرج وقتلوا من فيه وكانوا خمسمائة وقتل في تلك الليلة هناك نحو الف وأما باب قندوس فكان عليه الزبير بن العوام وعقبة بن عامر وعبد الله بن عمرو بن العاص والفضل بن أبي لهب والمغيرة وجماعة من الأمراء فتواثبوا إلى الباب واقتتلوا قتالا شديدا وقتل من المسلمين نحو مائة وعشرين رجلا غير الاعيان وأما باب توما فكان عليه خالد وخرج منه البطليوس فاقتتل الفريقان وقتل من المسلمين جماعة نحو مائتين وثمانين رجلا في المكان المعروف بالمراغة وغلقوا الأبواب واستعدوا للحصار وهذا كان أول فتح. قال الواقدي: حدثنا سنان بن مفرج العجلاني عن أبي محمد الشاكري عن زيد بن رافع عن أبي امامة قال: وأقام خالد بعد الوقعة على البهنسا أربعة أشهر لا يقاتلهم ولا يناوشهم فطال عليهم المكث وضجروا فأتوا إلى خالد وشاوروه في القتال فأذن لهم وكان جملة من قتل في وقعة الأبواب نحو ستمائة فارس ختم الله لهم بالشهادة. قال الراوي: فلما استأذنت الصحابة خالدا في القتال لم يقدر أن يمنعهم ولما أصبحوا اقتتلوا قتالا شديدا لم يسمع مثله فاشتد الحصار فقال أهل البهنسا وقالوا للبطليوس: ما بقي لنا صبر على القتال والحصار فقال لهم: أصبروا واثبتوا لعلي أن أكيد العرب بمكيدة ولما اشتد الحصار عليهم أتوا إلى بطريق يسمى توما صاحب الباب وأتاه السوقة والنصارى والعوام وقالوا له: لقد ضاق علينا الحصار فنجعل لك مالا وافتح لنا الباب حتى نأخذ لنا أمانا من العرب فأجابهم إلى ذلك فصبرهم إلى جانب من الليل وفتح لهم الباب فمضى نحو مائتين من تجار البلد وخرجوا من باب السر وأتوا إلى خالد وصالحوه على أن يفتحوا لهم الباب وجعلوا للمسلمين جعلا معلوما واتفقوا على ذلك وكتبوا أسماءهم ورجعوا هذا ما جرى لهؤلاء وكان الكلب ابن عم توما حاضرا واسمه أرمياء فمضى إلى البطليوس وأعلمه بذلك فعندها أرسل البطليوس بطريقا يقال له حرفائيل ومعه ألف بطريق: وقال اكمنوا واتوني بالخبر على جليته فمضوا وتفرقوا وهم مشاة قريبا من باب توما وإذا بهم قد أقبلوا فلما رأوهم عرفوهم وفتحوا لهم الباب فدخلوا فعندها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 278 تواثبوا عليهم وأمسكوهم وسحبوهم إلى البطليوس لعنه الله فلما رآهم وبخهم توبيخا عظيما وقال ائتوني بالسياط ونصب أخذودا من حديد ثم ضربهم ضربا شديدا وأتى بالنار وأحرق جميع أموالهم وأمر باحضار البطريق فأحضر بين يديه فأخذه ومضى إلى القصر هو وجميع أعوانه واستدعى بالخشب وصلبهم على أعلى السور وأقاموا هناك يوما وليلة ثم أمر بضرب رقابهم وطرح رؤوسهم للمسلمين قال الأمير عياض للأمير خالد هؤلاء أهل ذمتنا وقد قتلهم البطليوس لعنه الله. قال الراوي: وأما الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه فإنه قلق على المسلمين قلقا شديدا فأرسل كتابا إلى عمرو بن العاص يقول فيه ما سبب انقطاع كتبك عني وأنا في قلق على المسلمين وعلى خالد ومن معه واعلم إنك لا ترسل لي إلا بالفتح والغنائم وإن احتاج خالد إلى نجدة فأرسل إلى أبي عبيدة فقد كاتبته بأن يرسل له جنودا من الشام والسلام فلما وصل الكتاب إلى عمرو أرسله إلى خالد فقال خالد: لا نطلب النجدة والمعونة إلا من الله تعالى ثم أن خالدا عظم عليه الأمر واشتد الحصار وكان كل يوم يرجع إلى المدينة ويقاتل قتالا شديدا وفقد من المسلمين جماعة كثيرة قتلوا بالحجارة والنشاب وهجم عدو الله على المسلمين وكادهم مرارا وقال خالد للأمير عياض وللمسلمين: لا شك أن لاصحابنا عيونا وجواسيس ثم أن خالدا ركب ومعه الفضل بن العباس والمقداد وزياد بن أبي سفيان وعياض وطافوا حول العسكر وإذا برجل من العرب المتنصرة جالس على قطيفة خارج العسكر فأنكر أمره خالد وقال له: من أي العرب أنت فسكت فقالب له الأمير عياض انطق بالحق من لك من الاهل ههنا فسكت فقال له: خذ الماء وتوضأ فلم يحسن ذلك فقال له: صل فلم يحسن ذلك فضربوه فأقر بأنهم خرجوا ثلثمائة من باب السر وردوا وبقي هو فضرب عنقة وانقطعت الجواسيس فكانوا يقاتلون قتالا شديدا وكان لخالد عبد في خيمته اسمه فلاح يصنع له كل يوم قرصين من شعير واحد له وواحد للعبد فقعد خالد ثلاثة أيام يأتي السفرة فلا يجد فيها شيئا ولم يكلم العبد وكان عنده بعض تمر يتقوت به حتى فرغ فعندها قال خالد للعبد: يا ولدي قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} [الانبياء: من الآية8] ولك ثلاثة أيام لم تصنع فيها قرص شعير. قال: يا سيدي ما قطعت عنك ذلك ولكن أصنع لك كل يوم وأعلقه في طبق الخيمة فلم أجده قال خالد: أن لهذا شأنا عظيما ثم قال للعبد قف خلف الخيمة وأخف نفسك وانظر من يفعل هذا فلما كان الغد ركب خالد للقتال وصنع العبد القرصين وأكل قرصا ووضع قرص سيده فكان معتادا أن يشيله له فجاء كلب أسود عظيم من جهة البلد ودخل الخيمة وأخذ القرص في فمه ومضى فتبعه العبد حتى أتى إلى سرب يخرج الجزء: 2 ¦ الصفحة: 279 منه الماء يجري من البحر تحت الأرض إلى تحت سور المدينة من جهة القبلة ويدخل المدينة ويظهر من الجهة البحرية من خارج البلد فلما رآه العبد رجع وأعلم الأمير خالدا فمضى معه ورأى ذلك ففرح بذلك فرحا شديدا ثم أتى إلى الأمراء واعلمهم بذلك وقال: وقال لهم: أريد منكم مائة رجل قد باعوا أنفسهم لله عز وجل فيمضون معي وجماعة شداد يكونون مقابل الباب فإذا فتحنا الأبواب دخلوا الينا فانتدب منهم مائة رجل من خيار القوم منهم عبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر وزيد بن ثابت وعقبة بن عامر ومسلم بن عقيل وزياد بن أبي سفيان وأخوه هبار والمسيب بن نجيبة وأخوه والمقداد ابن الاسود ورافع وأبو رزين العقيلي ومثل هؤلاء السادات وقد اقتصرنا في أسمائهم خوف الاطالة ورتب خالد رضي الله عنه عبد الله بن جعفر والزبير بن العوام وابنه عبد الله والفضل بن العباس والفضل بن أبي لهب وضرار بن الازور ومثل هؤلاء مقابل الباب وصبروا إلى غروب الشمس وأتوا إلى ذلك السرب ودخلوا إليه في الماء كل واحد بسراويله وسيفه وكان أولهم الأمير خالد وكل من دخل يدع سيفه وحجفته مع صاحبه حتى يدخل ويأخذهما حتى دخل ثمانون رجلا ورجع عشرون لم يسعهم السرب وضاق عليهم فولوا وهم متأسفون لما فاتهم من الشهادة والفتح وتواثبت الأمراء المذكورون وأخفوا نفوسهم تحت الجدار إلى جزء من الليل فتبادورا إلى الباب فوجدوه موثقا من داخله فعالجوا الاقفال والروم سكارى ففتحوا الباب وذبحوا كل من وجدوه في دهليز الباب وكانوا ستين رجلا ثم علوا على السور وجماعة منهم أخذوا المفاتيح ففتحوا الباب وثاروا على الروم فقتلوا جماعة منهم في أعلى البرج وقتلوا بطريق البرج وأعلنوا بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير فأجابهم المسلمون بمثل ذلك ودخلوا من الباب إلى سوق المدينة وتبادرت جماعة إلى القصر فلما أحس عدو الله بذلك وإن المسلمين ملكوا عليه الأبواب وضع منديلا في عنقه وخرج وهو يقول الامان الامان وفعل جماعة كذلك فأبى خالد ووضع السيف فيهم وقاده أسيرا وقال له: يا عدو الله لا أمان لك عندي إلا أن تسلم وقبض على جماعة من بطارقته ووضع السيف فيهم وقتل من الروم نحو ثلاثة آلاف وقتل من المسلمين في تلك الليلة في وسط البلد مائة وأربعة وثمانون رجلا قريبا من سوق المدينة وعند الأبواب وعند القصر وجاء عياض ومعه جماعة من الأمراء فشكا إليهم أهل البلد وقالوا: الامان فرق لهم الأمير عياض وصار عدو الله يتملق بين أيديهم فغلبوا على رأي خالد حتى صالحهم على ألف مثقال من الذهب الابريز وألف ألف أوقية من الفضة البيضاء وعشرة آلاف وسق من البر والشعير والجزية من العام القابل وخالد لا يطمئن قلبه إلى شيء من ذلك وغلب الأمراء على رأيه وجاءوه وقالوا له: لقد أضر بنا المقام بهذا البلد فما نراك إلا أشفق منا علينا ونرى من الرأي أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 280 ترسل إلى عمرو وتعلمه بذلك وهذا الكلب وجماعته موثقون إلى أن يجيء الجواب فعندها كتب خالد كتابا إلى عمرو يخبره بذلك. فلما بلغه ذلك رد لهم الجواب أنهم يستوثقون منه بالإيمان ويأخذون منه ما صالحهم عليه ويتركونه ومن صاح الغوث الغوث فاتركوه والا نفر منكم أهل الصعيد ففعل خالد وقلبه نافر وأطلقه بعد ما استوثق منهم بالإيمان في كتبهم المذكورة وأطلقوه وشرط عليهم أن لا ينزل عندهم أحد إلا من يقبض المال فخرجوا إلى ظاهر المدينة وبقي عنده فضالة بن زيد السلمي وعون بن ساعدة الكندي ومقوم بن سعيد الجهني ومائتان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخرج الميرة والعلوفة وصار كل يوم يركب ويتودد إلى الأمراء ووهب وأعطى ولم يترك أميرا إلا خادعه حتى طابت نفوسهم عليه إلا خالدا والفضل بن العباس والمقداد وعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق والزبير بن العوام فإنهم لم تطب نفوسهم إليه وأقاموا شهرين على ذلك وأرسل جميع الغلال إلى خزينته في هذا الزمن وخزن ما يحتاج إليه واستدعى بكبار قومه ومن يثق به واتفق رايهم على قتل المسلمين والغدر بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصبروا إلى أن مضى جزء من الليل وهجم على المسلمين على حين غفلة في ألف بطريق وأوثقهم كتافا وجعل في أفواههم الاكر وفتح الأبواب وأدخلهم المدينة وهجم على المسلمين ووضع السيف فيهم وهم رقود فما انتبهوا إلا والسيف يقطع في نحورهم وكانت وقعة عظيمة وثار خالد بمن معه وكان الزبير راقدا فسمع الصياح فقال دهينا ورب الكعبة ثم ركب وركبت معه زوجته وقاتلت النساء قتالا شديدا وعدو الله تارة يكر ميمنة وتارة يكر ميسرة والسيف يعمل والرجال تقتل وكانت ليلة شديدة وصار خالد يقول يا قوم أما قلت لكم فما سمعتم لخالد والتجأ زياد بن أبي سفيان وأخوه هبار وميسرة ابن مسروق وفضالة بن عبد شمس وعقيب بن يعقوب وعبادة بن تميم وجندبة الكلبي إلى تل هناك وأحاط بهم طائفة من الروم من كل مكان فقاتلوا قتالا شديدا وانحدر زياد رضي الله عنه من التل وتبعه أصحابه فأحدقت بهم الروم وداروا بهم دوران السور بالمعصم وقتلوا زيادا وجميع من ذكرنا من الأمراء وقاتلت نسيبة الانصارية أم أبان وأسماء ابنة أبي بكر ونعمانة ابنة المنذر ونظائرهن في تلك الليلة قتالا شديدا وقتل جماعة من المسلمين وأتى خالد وحمل عليهم وجعل يقلب الميمنة على الميسرة والميسرة على الميمنة قال: وأطبق عليهم هو وجميع الأمراء فهزموهم إلى الأبواب وقد قتلوا منهم مقتلة عظيمة وهرب عدو الله وتحصن هو وقومه وغلقوا الأبواب ولما أصبح أمر بالحصار وأمر باحضار المأسورين وصعد بهم إلى أعلى البرج وضرب رقابهم فشق ذلك على المسلمين وصعب عليهم ما فعل عدو الله بأصحابهم وأتى خالد رضي الله عنه ومعه بقية الأمراء إلى مكان المعركة فوجدوا الشهداء مطروحين ووجدوا زيادا رضي الله عنه وفيه عشرون طعنة بالرمح وأربعون ضربة بالسيف والى جانبه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 أخوه هبار وفي رأسه عشرون ضربة بالسيف وواحدة في فخذه قطعته فبكى خالد عليهم بكاء شديدا وبكى عليهم سائر الأمراء وابطال المسلمين ونعاهم الأمير خالد بهذه الابيات وهي له خصوصا: هوام دموعي كالسحائب تهمع. ... وقلبي من فقد الاحبة يفزع. وأظلمت الدنيا على نور عبرتي. ... وكاد فؤادي بالجوى يتقطع. لفقد زياد أحرق ألبين مهجتي. ... وغاب صوابي وهو في الأرض يصرع. لقد كان في بحر المعامع صائلا. ... يزلزل أركان العدا ويضعضع. وقد كان مقدام الفوارس كلها. ... بكل مكان للاعادي مقمع. لحى الله يوما فيه حانت وفاته. ... وأجفانه مع أسهم الدمع تدمع. أيا سيدا من آل هاشم لم يزل. ... له رتبة بالمجد والجود ترفع. يعز علينا أن نراك معفرا. ... ورأسك من فوق الجنادل تسفع. بجانبك الهبار أضحى مهبرا. ... طريحا على رأس الثرى وهو مطبع. إلا لعن الرحمن بطلوس قومه. ... وألعنه مع كل قوم تجمع. لقد غدر السادات من آل هاشم. ... نجوما وأقمارا على الناس تطلع. قال الراوي: ثم بكى المسلمون بكاء شديدا على من قتل منهم من الأمراء والابطال وجموعهم وصلوا عليهم ووروهم في حفرهم إلى جانب التل فإذا هم ثمانون أميرا وثلثمائة وسبعون رجلا ختم الله لهم بالشهادة. قال الراوي: وأقام المسلمون ثلاث سنين إلا أنهم يشنون الغارات على السواد والسواحل ومضى القعقاع بن عمرو وهاشم وابو أيوب وعقبة بن نافع الفهري بألفي فارس وأغاروا على حد برقة ثم عادوا وهذا أحد الآراء في فتح المغرب قال رضي الله عنه ولما طال الحصار والمكث على أهل البهنسا اجتمعت المسلمون عند خالد واستشاروه فيما يفعلونه وماذا يكون من الرأي فوثب عبد الرازق الانصاري وعبد الله بن مازن الداري وكعب بن نائل السلمي وأبو مسعود البدري وأبو سعيد البياضي وقالوا: يا قوم قد وهبنا أنفسنا لله عز وجل ولعل أن يكون للإسلام فرج فاصنعوا منجنيقا واملئوا غرائر قطنا وقالوا: يأخذ كل واحد منا سيفه وحجفته ويدخل في غرارة قطن فإذا كان الليل ونامت الحراس فألقونا على أعلى السور واحدا بعد واحد والمعونة من الله في فتح الباب كما فتحتم قصر الشمع بمصر ودير النحاس وكما فعلتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فاستصوبوا رأيهم فلما أصبحوا قطعوا الاخشاب وصنعوا منجنيقا وصنعوا له حبالا وأحضروا غرائر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 282 وملئوها قطنا والرجال داخلها وصبروا إلى الليل ودخل هؤلاء السادات رضي الله عنه بعد أن ضربوا بالمنجنيق حجرا بعد حجر فسقط على أعلى السور والبرج فشرعوا في رميهم منهم أبو مسعود البدري وعبد الرزاق إلى أن رموهم جميعهم وصاروا فوق أعلى السور ورتب خالد أصحابه على الأبواب وأما عبد الرزاق وأصحابه فلما صاروا بأعلى الجدار نزلوا إلى البرج فإذا هو مغلق والحراس نيام فنزلوا إلى الدهليز بين البابين فوجدوهما مغلقين موثقين فذبحوا البوابين عن آخرهم ووجدوا المفاتيح تحت رأس كبيرهم في جانب سريره فأخذوها وفتحوا الأبواب وإذا بالباب الثاني الذي ينتهي إلى القصر مسدود بالحجارة فاحتالوا على قلع حجر بعد حجر فقلعوها ورموا الاحجار وفتحوا الأبواب وكل ذلك في أقل من ساعة بمعونة الله عز وجل وصعدوا إلى البرج فعالجوه وفتحوه وقتلوا جماعة واستيقظ جماعة وثاروا عليهم وخافوا على الباب أن يؤخذ منهم وإن يحال بينهم وبينه وهو باب السور الذي بظاهر المدينة ففتحوه صاحت الروم واستيقظ البطليوس وركب جواده وكان على حذر وركب المسلمون ودخلوا الباب وخرجت البطارقة والبطليوس من قصره وزحفت الروم إلى الباب وكان أول من قتل في ذلك اليوم عبد الرزاق وعنان بن مازن وكعب بن نائل السلمي بداخل الباب. قال: حدثنا قيس بن مازن الحميري عن عبادة بن سالم السكاكي عن أبي مسعود البدري وكان أول من فتح الباب قال ليس هو على هذه الصفة وأخبرنا سالم بن حامد عن أبي عبد الله عن أبي محمد الانصاري عن عبد الله البدري قال كان أبو محمد الحسني يقرأ هذه الفتوح بالجامع الغزي العمري على الشيخ أبي عبد الله حتى بلغ إلى هنا وذكر الفتوح وفتح الباب وإن الرجال وضعت في الغرائر قال: يا بني ليس الأمر كذلك فقد روى عن أبي مسعود وهو الصحيح عن فتح الباب قال أنهم قطعوا أخشابا ونصبوا سلما للتسلق عاليا علوا جدار المدينة وصبروا إلى الليل وأسندوه إلى الجدار وتسلق منهم أربعون رجلا ومنهم لسبعة المذكورون وفتحوا الباب كما ذكرنا واستيقظ الروم وخرجوا إليهم بعد فتح الباب فكان السابق إليهم عبد الرزاق رضي الله عنه فقتلوه وقتلوا معه من ذكرنا أولا وتسابق المسلمون إلى الباب فكان أول من دخل ضرار بن الازور وهو يزعق ويقول هذه الابيات: الجن تفزع يوم الحرب من فزعي. ... إذا أتيت إلى الهيجا بلاجزع. يا ويل من صنع الارصاد يخدعنا. ... ونحن جرثومة الامكار والخدع. لأرضين الهي في جهادهم. ... وقتل أبطالهم بالسيف والدرع. ياويل كلب العدا البطلوس أن وقعت. ... عيني عليه لارديه إلى النزع. عيب علي إذا ما ألتقيه هنا. ... وأفلق الرأس منه غير مرتدع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 283 ثم دخل من بعده خالد وهو يقول: اليوم يوم الوفا والطعن بالأسل. ... والضرب بالقضب في الهامات والقلل. يا ويل بطلوس كلب البهنساء إذا. ... لاقيته بطليق الحد معتدل. أن لم أذقه بكاسات المنون هنا. ... فلا سلمت ولا بلغت من أملي. قال ثم دخل من بعده ذو الكلاع الحميري وهو يقول: أني لمن حمير العالين في النسب. ... أهل الثنا والوفا والجود والحسب. أسد غضافرة سود جحاجحة. ... نرى الكماة غدافي الحرب بالقضب. الحرب عادتنا والطعن همتنا. ... وذو الكلاع أنا عال على الرتب. تبت يد الروم ما يدرون أن لنا. ... صوارما تترك الاعضاء كالقصب. قام ثم دخل من بعده الزبير بن العوام وهو يقول: أيا بطليوس يا كلبا لعينا. ... ويا نسل الطغاة الارذلينا. أتتك حماة دين الله حقا. ... وأولاد الجياد الخيرينا. خيار الناس نسل بني نزار. ... كراما في الاعادي قاطعينا. إذا أحتبك العجاج بهم تراهم. ... بحولك كالسباع الضاربينا. ولا منهم جبان قط يهزم. ... ولا نذل فتلقاء حزينا. ولا منهم جبان قط يهزم. ... ولا نذل فتلقاء حزينا. وليس ترى سوى مقدام قوم. ... أثار الحرب صنديدا أمينا. قال ثم دخل من بعده عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وهو يقول: أتينا البهنساء بكل قرم. ... شديد العزم في يوم النزال. وجيش فاق في الآفاق طرا. ... على الاعداء بالسمر العوالي. قال ثم دخل من بعده عبد الله بن جعفر وهو يقول: اليوم طاب الطعن في اللئام. ... والضرب في الاعناق بالحسام. وأنصر الإسلام باهتمام. ... ولم أزل عن سادتي أحامي. أنا الشجاع الفارس الهمام. ... ومردى الاعداء في الحمام. قال ثم دخل بعده الفضل بن العباس وهو يقول: ألا إننا السادات من آل هاشم. ... ليوثا ذوي بطش شديد العزائم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 284 لنا تشهد الابطال في كل معرك. ... وتذكر عنا أهل كل المواسم. إذا اشتدت الاهوال واستبق القنا. ... رأيت لنا في ذاك فعل الضراغم. قال ثم دخل من بعده الفضل بن أبي لهب وهو يقول: لنحوك يا بطلوس عزمي قد طلب. ... بحد حسام كالشهاب إذا انتدب. يطير شرار النار من لمعانه. ... بكف شجاع الخيل أبن أبي لهب. فويلك يا ملعون منه إذا سطا. ... بصارمه يوم العجاج وإن وثب. قال ثم دخل من بعده عياض بن غانم الاشعري وهو يقول: لا أنثني يوم الهيج عن العدا. ... بمهندي الصمصام إلا إذ قطع. فالويل للبطلوس من سطواتنا. ... لأفرقن بحد سيفي ما جمع. قال ثم دخل من بعده المقداد ابن الاسود وهو يقول: أنا الكندي كالليث الشجاع. ... واني في العدا قد طال باعي. وتشهد لي الرجال بكل حرب. ... وللهيجاء منقاد الطباع. فواثارات عبد الله إني. ... عليه ذاهل حيران ناعي. قال ثم دخل من بعده أبان بن عثمان وهو يقول: نحن الليوث ذوو المعروف والكرم. ... وفي المعامع يوم الحرب والهمم. مجندلون العدا في كل معترك. ... وقاهرون لهم كل مصطدم. لا يعجبنك يا بطلوس جيشك في. ... هذا المقام فمعنا الكل كالرخم. قال ثم دخل من بعده مسلم بن عقيل وهو يقول: ضناني الحرب والسهر الطويل. ... وأقلقني التسهد والعويل. فواثارات جعفر مع علي. ... وما أبدى جوابك يا عقيل. سأقتل بالمهند كل كلب. ... عسى في الحرب أن يشفي الغليل. قال ثم دخل من بعده شرحبيل بن حسنة ثم القعقاع بن عمرو التميمي ثم مالك الاشتر ثم عبادة بن الصامت ثم أبو ذر الغفاري ثم أبو هريرة الدوسي ثم ابنه عبد الرحمن ثم معاذ بن جبل ثم شداد سن أوس ثم قيس بن هبيرة ثم أبو أبو دجانة الانصاري ثم جابر بن عبد الله ثم البراء بن عازب ثم النعمان بن بشير ثم سعيد بن زيد أحد العشرة الكرام رضي الله عنهم قال ثم الانصار يتلو بعضهم بعضا بهمم وعزائم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 285 قال ثم خرجت الروم وقاتلت قتالا شديدا وتواثبت جماعة من الأمراء مثل الزبير بن العوام وابنه عبد الله وعبد الرحمن بن أبي بكر إلى باب البحر واقتتلوا قتالا شديدا وتقدم عبد الرحمن والزبير إلى الباب والروم على أعلى السور ونزل عن جواده وصلى ركعتين والحجارة تتساقط عليه وهو لا ينزعج لذلك وتقدم هو والفضل وعبد الرحمن بن أبي بكر إلى الباب وجعلا السلاسل من فوق وصعدوا إلى أعلى البرج وهدموا الشرافات ووضعوا السيف في الحراس وفتحوا الباب ووثب شرحبيل بن حسنة والفضل بن العباس وأبو ذر الغفاري وأبو أيوب الانصاري إلى باب قندوس ووثب المسيب بن نجيبة الفزاري والقعقاع بن عمرو والأمير عياض بن غانم الاشعري إلى باب الجبل وفتحوا الأبواب واقتتلوا قتالا شديدا وقاتلت الروم قتال الموت إلى أن طلعت الشمس وارتفعت وقاتل عدو الله البطليوس قتالا شديدا وقتل رجالا وجندل أبطالا واقتتلوا في الازقة والشوارع وبين الأبواب وتقدم خالد وهو يصيح واثارات سليمان وطعنه طعنة صادقة في صدره فأطلع السنان يلمع من ظهره فوقع يخور في دمه وعجل الله بروحه إلى النار وبئس القرار فلما رأى الروم ذلك ولوا الادبار وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون وينهبون وقتل من الروم نحو ثلاثين ألفا بوسط البلد وأسر منهم عشرون ألفا وأنشد خالد يقول: وبالنهنسا الغرا أبيدت جيوشنا. ... ثلاث سنين بابها ليس يفتح. ثماني الاف عداد جيوشنا. ... وكل همام عن ثمانين يرجح. فما فتحت إلا وقد صار جيشنا. ... ثلاثة آلاف عداد تسحسح. ولم أر في أرض الصليب كمثلها. ... ولا جيشها لما على السور يسرح. ولا مر لي يوم كمثل حروبها. ... لأن بها البطلوس ليث مبجح. وكان له جيش وعدة جيشه. ... ثمانون ألفا بالحديد توشحوا. وكنا غلبناهم ثمانين مرة. ... يخادعنا البطليوس عنهم فنصفح. ثلاث مرار نحن نفتح بابها. ... وترتد للكفر الذميم وتجنح. وقد لعب الهندي يوم فتوحها. ... وكلت أيادينا وفي الروم نذبح. ثلاثون ألفا قد محتها سيوفنا. ... وأكبادنا من حرها النار تقدح. إلى أن ملأنا البر والبحر منهم. ... وقد شبعت أسد الفلا وترنحوا. وولت ثلاثون الالوف شواردا. ... وعشرون ألفا منهم قد تجرحوا. فمنهم قضى نحبا ومنهم بها طغى. ... ومنهم أناس في المقابر روحوا. وبطلوسهم ذاك النهار قتلته. ... وقد كان مقدام الجيوش مرجح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 286 فبادرته في الحال حتى تركته. ... صريعا عليه الغانيات تنوح. وعاجلته في الرأس مني بضربة. ... فأضحى بها شطرين ملقى ومطرح. وعاد بسيف ابن الوليد مجندلا. ... تمر به كل الحوادث تفلح. ولما فني بطلوسهم صار جمعهم. ... كما شبه أغنام وغاب المسرح. وقد كان في بحر الهياج مغلغلا. ... تولى سرايا قومنا منه مرح. فلله ما أعداه قد كان فارسا. ... يفوق على جيش عظيم ويرجح. وقد فرحت أكبادنا وترنمت. ... لعمرك والاكباد بالنصر تفرح. أقمنا بأرض البهنسا بعد فتحها. ... ثلاثين يوما للمساجد نصلح. وصرت إلى أرض الصعيد معاجلا. ... بألفين من خيل الصحابة ترمح. من البهنسا لاسوان جمعا فتحتها. ... بعشر شهور بعدها ليس تلمح. وعندي الثلاثون الذي شاع ذكرها. ... وكل فتى يا صاح بالالف يرجح. ورحنا فتحنا الهند والسند كله. ... وأسيافنا في الغمد لله تسبح. وفي كل أرض عسكر قد تركته. ... يقيمون دين الحق والحق يوضح. وهذا كلام ابن الوليد الذي جرى. ... فكن سامعا معنى الذي لك أشرح. فما مثله في معمع الحرب سيد. ... ولا مثله في جوهر النظم أفصح. ومن بعدذا صلوا على أشرف الورى. ... نبي له كل البرية تجنح. عليك سلام الله ما لاح بارق. ... وما غرد القمري إذ الصبح يطفح. وأصحابه والآل والعترة التي. ... أقاموا لدين الله والشرك زحزحوا. قال الراوي: وصار المسلمون يصعدون إلى البيت ويأخذون الرجال من بين حريمهم من الروم ويقتلونهم حتى كلت سواعدهم من الذبح وجرى الدم في الازقة وصارت القتلى في الشوارع والاسواق مطروحين وخرجت إليهم النصارى والقبط وهم يبكون ويقولون نحن أهل ذمتكم ونحن عوام وتجار وسوقة وكلنا مغلوبون على أمرنا وقتل خيارنا باسيافكم وبقية الأمراء ويقولون هؤلاء قد صاروا رعيتنا وليس لهم بطش فتركوهم وقالوا: بشرط أن تدلونا على من أخفى نفسه في المغاير والمخابي ومن فر من الباب الشرقي وغرق في الماء فدلوهم على الجميع ولم يزالوا يقتلون ذلك اليوم كله وفي اليوم الثاني استدعوا بنجارين يعملون عربات لحمل القتلى من المسلمين وأخذوا دواب أهل السواد من البقر تسحب العربات والفلاحون عملوا عليها وصاروا يضعون كل ثمانية وستة وعشرة في حفيرة ويردون عليم الرمل حتى صاروا تلالا وشهروا قبورهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 287 ووضعوهم بدروعهم وثيابهم ودمائهم رضي الله عنهم وأخذوا ألواح رخام وكتبوا عليها أسماءهم وأنزلوها في مدافن قبورهم ورجعوا إلى قتلى أهل البلد فواراهم أهلهم في قبورهم وكان جملة من قتل من المسلمين في ذلك اليوم نحو أربعمائة وأزيد الاعيان منهم صاغر بن فرقد وعبد الله بن سعيد وعبد الله بن حرملة وعبد الله بن النعمان وعبد الرزاق الانصاري وعبد الرحيم اللخمي وأبو حذيفة اليماني وأبو سلمة الثقفي وأبو زياد اليربوعي وأبو سليمان الداراني وابن أبي دجانة الانصاري وأبو العلاء الحضرمي وأبو كلثوم الخزاعي وأبو مسعود الثقفي وهاشم بن نوفل القرشي وعمارة بن عبد الدار الزهري ومالك بن الحرث وأبو سراقة الجهني والبقية من أخلاط الناس وقتل عند سوق التمارين نحو عشرين ودفنوا هناك وعند سوق الصابون جماعة كثيرة وقريبا من العطارين في جانب القبور نحو أربعين وقريبا من البحر اليوسفي جماعة عند السور رضي الله عنهم. قال الراوي: ولما وارى المسلمون شهداءهم صعدوا إلى قصر البطليوس والى قصور البطارقة ودورهم ومقاصيرهم فوجدوا فيها من آلية الذهب والفضة ما لا يوصف ومن المتاع والحلى والحلل واللآلىء والنمارق والجواهر والبسط والوسائد والمساند واقتتلت الروم على بغلة محملة عند باب السر فغلبهم المسلمون عليها وأخذوها فإذا عليها صندوقان فيهما أحجار معادن فاشترى رجل من المسلمين من بيت المال حجرا بستة آلاف دينار فباعه على غشوميته بمائة ألف دينار وأخذوا بساط البطليوس وكان مثل بساط كسرى سداه حرير وذهب مرصع بالمعادن فأرسلوه مع الخمس إلى المدينة فجعل لعلي بن أبي طالب فيما حصل له من البساط عشرون ألف دينار وغنمت المسلمون غنائم كثيرة من أواني الذهب والفضة وغير ذلك. قال الراوي: حدثنا عون بن عبيدة عن عبد الحميد بن أبي أمية قال هدم المسلمون القصر والكنيسة وتلك الدور وفتحوا خزائن البطليوس واستخرجوا جميع ما فيها من الذهب والفضة وغير ذلك ولم يتركوا فيها شيئا أبدا وقسم خالد الغنيمة على المسلمين فكان للفارس عشرة آلاف مثقال من الذهب وألف أوقية من فضة ومن الثياب والملبوس وغير ذلك ما لا يوصف ولما دخلوا الكنيسة ورأوا تصاويرها وقناديلها الذهب والفضة والستور الحرير المنقوشة والاعمدة وغير ذلك تعجبوا وقرأ خالد: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ} [المؤمنون: 91] الآية وقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله فصاح المسلمون بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير وقرأ عياض الاشعري: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الدخان:25] إلى قوله: {وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ} [الدخان: 28] وأخربوا تلك البيعة وجعلوا بجانبها مسجدا على أعمدة من الرخام مسقوف عليها بتلك الاخشاب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 288 وهو الجامع الاول قبل بناء حسن بن صالح هذا الجامع الان وبقية الاخشاب والحجارة جعلوا منها مساجد وربطا. قال الواقدي: حدثنا عبد الحميد عن قيس بن مهران عن أبي جعدة قال بمدينة البهنسا أربعون رباطا ومن المساجد ما لا يعد وأخربت الصحابة تلك المعالم وبنوا دورا لأنفسهم واختطوا بها أماكن وشوارع وأقام خالد ومن معه بمدينة البهنسا يصلحون المساجد والربط ويخرجون المعالم شهرا كاملا ثم أخرج الخمس وأرسله لعمرو بن العاص ومن معه من المسلمين وهو نازل بمصر على قدر سهامهم وقال له: أرسل الخمس مع أبي نعيم الانصاري والفضل بن فضالة وأبي دجانة إلى عمر بن الخطاب وهو بالمدينة فلما ورد الكتاب على عمرو بن العاص فرح بذلك فرحا شديدا ثم كتب عمرو لعمر كتابا مع أبي نعيم صحبة كتاب خالد وسير معه ثلاثين صحابيا حتى دخل المدينة ودخل على عمر بن الخطاب فوجد عنده جماعة وقد أخرج لهم قصعا ومناسف من ثريد فلما رآنا عانقنا وتهلل وجهه فرحا وجلسنا كلنا نأكل وهو قائم على رؤوسنا متكى على عصا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما فرغنا من الاكل ناولته الكتابين فقرأهما وفرح فرحا شديدا ونادى في الناس الصلاة جامعة فخطب وحمد الله وأثنى عليه وصلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرأ عليهم الكتابين واستدعى بالصحابة وقسم عليهم الغنيمة ولم يترك لاهله درهما ولا دينارا ولا ثوبا رضي الله عنه وأخذني ومضى إلى بيته بيت أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأدخلني إليه فإذا فيه فراش من أدم حشوه ليف ووسائد من صوف وقطيفة واحدة فجلست فقال لأم كلثوم: هل عندك شيء من التمر قالت لا إلا اللبن الحامض قال ذلك لي وإن عندنا ضيفا فحضرت بعكة من سمن وقليل من عسل وفطير مع جارية فأكلت قليلا من المذكور وأخرجت الباقي لاصحابي وشرعت أحدثه عن البطليوس وهو تارة يبكي وتارة يضحك من فعله ويبكي على من قتل من المسلمين والأمراء وخرجنا إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك وجاءت الناس يهرعون ويسألون عن أهإليهم منا فأخبرنا عمر مات ومن قتل فضج الناس وأهل المدينة بالبكاء وعلت الاصوات على من قتل وجاء الناس لعلي ولعقيل ولبني هاشم يعزونهم فيمن قتل وأقمنا بالمدينة سبعة أيام ورجعنا إلى مصر بكتاب عمر إلى خالد فأمره بالمسير إلى الصعيد. قال الراوي: هذا ما جرى لهؤلاء وأما خالد رضي الله عنه فإنه بعد شهر ترك أناسا من الصحابة بأرض البهنسا من جميع القبائل وخرج بألفي فارس إلى أرض الصعيد وكانت القبائل من بني هاشم وبني المطلب وبني مخزوم وبني زهرة وبني نزار وبني جهينة وبني مزينة وبني غفار والاوس والخزرج ومذحج وفهر وطي وخزاعة وكان الأمير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 289 عليهم مسلم بن عقيل وأحاطوا بالمساكن وجعلوا بالمدينة أسواقا وشوارع وسكن أكثر الصحابة في جانب البحر اليوسفي وخلوا من الآخر إلى الجانب الغربي شارعا واحدا لأجل أن تسبح دوابهم في البحر وأقام مسلم بن عقيل واليا عليها إلى خلافة عثمان أبن عفان رضي الله عنه فتولى محمد بن جعفر بن أبي طالب بعده ومضى مسلم وترك أولاده واخوته بها ولم يزل في المدينة حتى قتل في خلافة الحسن في الكوفة رضي الله عنه وأقام محمد بن جعفر إلى خلافة علي رضي الله عنه وتولى عليها بعده علي بن عبد الله بن العباس رضي الله عنه إلى خلافة معاوية وكان عبد العزيز بن مروان الاموي واليا وتولى بعده طاهر بن عبد الله وكانت قريش والاشراف بالجهة الغربية ويقال لها حارة الاشراف وكان لكل قبيلة حارة. قال أبو المنهال لما فتحت مدينة البهنسا كانت آهلة بالجند فاجتمعت السوقة والمتسببون من أهل البلد وكانوا أربعين ألفا. قال الواقدي: حدثنا حامد بن المزيد عن أبي صالح عن ابن نوفل المرادي قال كان بمدينة البهنسا أربعمائة يقال حين فتحها يبيعون البقل وغيره وكانت مدينة عظيمة فلما وقع بين بني أمية وبني هاشم ماوقع أخرجوا منها جماعة واختل أكثرها قال: وتسلسل إليها جماعة من العربان حتى جاء الحسن واخوته في خلافة بني العباس فعمر جامعا وأكثر من الزوايا والربط وأقام بها حتى مات. قال: ورجعنا إلى سياق الحديث وخرج خالد بمن معه إلى الصعيد ولم يزل يفتح مدينة بعد مدينة إلى آخر الصعيد إلى عدن وسواكن وليس مقصدنا في هذا الكتاب إلا فتوح البهنسا خاصة التي عليها مدار فضائل السادة الشهداء لأن بتربتها خمسة آلاف صحابي وحضر فتح البهنسا نحو سبعين بدريا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي زيارتها تعظم الاجور وقد زارها جماعة من العراق مثل بشر الحافي وسرى السقطي ومالك بن دينار وسحنون وزارها من أقصى المغرب أبو مدين وسعيب وأبو الحجاج وأبو عبد الله وزارها الفضيل بن عياض وروى أن اقليم البهنسا أكثر بركة من جميع الأرض كلها وكان عمرو بن العاص رضي الله عنه يقول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ليس بعد مكة والمدينة والأرض المقدسة والطور أرض مباركة إلا أرض مصر والبركة هي في الجانب الغربي. قال: ولعلها البهنسا وكان علي بن الحسن يقول انه ليس بأرض مصر بالوجه القبلي أرض مباركة ولا أكثر بركة من أرض البهنسا وكان أبو علي النوري إذا أتى أرض البهنسا وأتى الجبانة ينزع ثيابه ويتمرغ في الرمل ويقول يا لك من بقعة طالما ثار غبارك في سبيل الله وكان أبو علي الدقاق إذا مر بجبانة البهنسا يقول يا لك من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 290 بقعة ضمت أعضاء رجال وأي رجال طالما عرقت وجوههم في سبيل الله وقتلوا في سبيل الله ومرضاته وقيل للحسن بن صالح لم اخترت هذه البلدة على غيرها قال كيف لا آوي إلى بلد أوى اليها روح الله وكلمته وينزل على جبانتها كل يوم ألف رحمة ولما ولى عبد الله ابن طاهر مصر تجهز وأتى إلى البهنسا فلما قرب من الجبانة ترجل عن جواده وترجل من معه وكان الوالي عليها عبد الله بن الحسين الجعفري فخرج ماشيا وسلم عليه ولما وصل إلى الجبانة قال السلام عليكم يا أحياء الدارين وخير الفريقين ثم التفت إلى أصحابه وقال أن هذه الجبانة ينزل عليها كل يوم مائة رحمة وإنها تزف بأهلها إلى الجنة ومن زارها تتساقط عنه ذنوبه كما يتساقط الورق من على الشجر في يوم ريح عاصف فكان عبد الله بعد ذلك كل يوم يخرج حافيا فيزورها حتى مات ودفن رحمه الله. قال الراوي: حدثني رجل من أرض البهنسا من أهل الخير والصلاح يسمى عبد الرحمن بن ظهير قال كان لي جار مسرف على نفسه ومات ودفن قريبا من الشهداء الذين بالجانب الغربي فبينما أنا نائم تلك الليلة فرأيته وإذا عليه ثياب من السندس الاخضر وعليه تاج من الجوهر وهو في قبة من نور وحوله جماعة لم أر أحسن منهم وجها ولا ثوبا متقلدين بسيوف وهو بينهم فسلمت عليهم وقلت له يا هذا لقد سرني ما رأيت من حالك فقال: يا هذا لقد نزلت بجوار قوم يحمون النزيل في الدنيا من العار وكيف لا يحمونه في الآخرة من النار وقد استوهبوني من العزيز الغفار غافر الذنوب والاوزار وأسكنني جنات تجري من تحتها الانهار قال ذو النون المصري رضي الله عنه كنت في كل سنة آتى إلى البهنسا وازور الجبانة لما رأيت في ذلك من الأجر والثواب فحصل لي في سنة من السنين عأرض منعني من زيارتها فبينما أنا نائم ليلة من الليالي إذ رأيت رجالا لم أر أحسن منهم وجوها ولا أنقى ثيابا على خيول شهب وبأيديهم رايات خضر ووجوههم تتلألأ أنوارا فسملوا علي وقالوا: قد أوحشتنا يا ذا النون في هذه السنة وإن لم تزرنا زرناك فقلت لهم من أنتم فقالوا: نحن الشهداء الاخيار أصحاب محمد المختار بالبهنسا كنا بأرض الروم لنصرة المسلمين على أعداء الله الكافرين فمررنا بك لنسلم عليك وننظر ما سبب انقطاعك عنا قال في أي أرض أنتم قالوا: نحن سكان جبانة البهنسا ولك علينا حقوق الزيارة لانك من أهل الاشارة فقال لهم: يا سادتي إني لا أعود وحبل الوصال بيننا ممدود وما كنت أعلم أنكم تعلمون من زار وما كنت أظن في نفسي انني بهذا المقدار قالوا: يا ذا النون أما تعلم أن الشهداء: {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] وبهذا نطق الكتبا المكنون ثم تركوني ومضوا فاستيقظت وفي قلبي لهيب النار فطوبى لمن زار هؤلاء السادات الاخيار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 291 قال المؤلف ولقد وضعت في هذا الكتاب كل نادرة عجيبة وحكاية غريبة وهو كتاب كامل المعاني والبيان عظيم القدر والشان لا يفهمه إلا ذوو البصائر والالباب ولا يعقله إلا أهل الخطاب ولا يقرؤه إلا أهل الذوق والمعرفة فهو كالزهر في الرياض لمن اقتطفه نفع به مالكه وكاتبه وقارئه ومستمعه والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 292