الكتاب: عقيدة محمد بن عبد الوهاب السلفية وأثرها في العالم الإسلامي المؤلف: صالح بن عبد الله العبود الناشر: عمادة البحث العلمي بالجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، المملكة العربية السعودية الطبعة: الثانية، 1424هـ/2004م عدد الأجزاء: 2   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- عقيدة محمد بن عبد الوهاب السلفية وأثرها في العالم الإسلامي صالح بن عبد الله العبود الكتاب: عقيدة محمد بن عبد الوهاب السلفية وأثرها في العالم الإسلامي المؤلف: صالح بن عبد الله العبود الناشر: عمادة البحث العلمي بالجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، المملكة العربية السعودية الطبعة: الثانية، 1424هـ/2004م عدد الأجزاء: 2   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] المجلد الأول مقدمة ... عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية تأليف: د. صالح بن عبد الله العبود المقدمة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 1. {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَة وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تساءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقيبًا} 2. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} 3. أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله عز وجل، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة4.   1 سورة آل عمران: 102. 2 سورة النساء: 1. 3 سورة الأحزاب: 70. 4 هذه تسمى خطبة الحاجة، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعلمها أصحابه، وهي مشروعة بين يدي الحاجة؛ كعقد النكاح، أو تقرير حق، ورد باطل، أو درس، أو مؤلف ... ونحو ذلك، وهي في: (مسند أحمد) (1/ 392، 432) ، و (سنن أبي داود) (2/ 591) ، و (الترمذي) (3/ 413) - وقال: "حسن" -، والنسائي (6/ 89) ، وابن ماجة (1/ 609) ، والدارمي (358) ؛ عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه -، وكلهم رووه في (كتاب النكاح، باب خطبة النكاح) ، وفي (صحيح مسلم) صدره عن ابن عباس (الجمعة، رقم 46) ، وآخره عن جابر (رقم 43 و 44، ج1/ 593) . وقال الألباني: "ورد عن ستة من الصحابة"، وذكرهم. وانظر: (رسالة خطبة الحاجة) . إلا أن السياق يزيد وينقص وما أثبته هنا سياق رواية ابن مسعود وما بين القوسين زيادة ثابتة في بعض الروايات كما يقول الشيخ الألباني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 ولا يدرك هذا الخير ويجتنب ذلك الشر إلا بتوفيق الله سبحانه وتعالى باتباع كتابه وهدي نبيه في العلم والعمل وهذا هو منهج أهل السنة والجماعة، و "يد الله على الجماعة"1. ونعني بالجماعة: الذين اجتمعوا على كتاب الله الذي أنزله على رسوله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم مهيمنا على ما قبله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهديه، لأنه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين الذي أرسل بكمال الدين وتمام النعمة والكتاب المهيمن والحكمة الجامعة، إلى قيام الساعة وإلى الناس كافة، وبايعوا أميرا منهم على ذلك، واجتمع أمرهم عليه؛ فإنه لا إسلام إلا بالجماعة، ولا   1 انظره حديثا مرفوعا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، في كتاب السنة لابن أبي عاصم (ج 1 ص40) ، قال الألباني في تخريجه: "حديث صحيح". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 جماعة إلا بإمارة، ولا إمارة إلا بسمع وطاعة. ولقد بعث الله محمداً على حين فترة من الرسل، وعلى حين تفرق بين الناس - خصوصاً العرب - تفرقا شديدا، وكانوا في ضلال مبين، كما وصفهم الله عز وجل بقوله: {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} 1. قال ابن كثير: {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ} ؛ أي: من قبل هذا الرسول. {لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} ؛ أي: لفي غيٍّ وجهلٍ ظاهر جلي بيَّن لكل أحد"2. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "اعلم أن الله سبحانه تعالى أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم إلى الخلق، وقد مقت أهل الأرض: عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب، ماتوا - أو أكثرهم - قبل مبعثه. والناس إذ ذاك أحد رجلين: إما كتابي معتصم بكتاب إما مبدل وإما منسوخ، أو بدين دارس، بعضه مجهول، وبعضه متروك، وإما أمي من عربي وعجمي، مقبل على عبادة ما استحسنه وظن أنه ينفعه: من نجم، أو وثن، أو قبر، أو تمثال، أو غير ذلك. والناس في جاهلية جهلاء، من مقالات يظنونها علما وهي جهل وأعمال يحسبونها صلاحا وهي فساد. وغاية البارع منهم علما وعملا: أن يحصل قليلا من العلم الموروث عن الأنبياء المتقدمين مشوبا بأهواء المبدلين والمبتدعين قد اشتبه عليهم حقه بباطله، أو يشتغل   1 سورة آل عمران: 164، والجمعة: 2. 2 تفسير ابن كثير: 1/ 424. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 ويتحصل من ذلك أن الولاية والإمارة تنعقد شرعا بإحدى ثلاث طرق هي: 1- إما بالشورى والاختيار؛ كما انعقدت لأبي بكر رضي الله عنه. 2- أو بالوصية؛ كما انعقدت لعمر رضي الله عنه بوصية من أبي بكر رضي الله عنه. 3- أو بالغلبة؛ كما انعقدت لمعاوية رضي الله عنه عام 40هـ - بعد تنازل الحسن، وهو عام الجماعة؛ كما سبق بيانه. أما عثمان رضي الله عنه، فقد انعقدت له بالشورى والوصية معاً، وعلي رضي الله عنه انعقدت له بالاختيار والمغالبة، ومن بعده الحسن، لكنه تنازل لمعاوية؛ جمعا لكلمة المسلمين، وحقنا للدماء، وتركا للمغالبة وسفك الدماء. وهذه الطرق الثلاث التي تنعقد بها الإمارة والولاية كما سبق بيانها هي السنة النبوية التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتمسك بها عند الاختلاف وحدوث التفرق، وأوصى بها صلى الله عليه وسلم، كما في حديث العرباض بن سارية "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد، وإنه من يعش منكم؛ فسيرى اختلافا كثيرا؛ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين؛ عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة" 1. وكان من سنتهم أن من أتاهم وأمرهم جميع يريد أن يفرق جمعهم وينازع الأمر أهله: أن يدفعوه، وإن لم يندفع إلا بالمقاتلة؛ قاتلوه وقتلوه كائنا من كان؛ جمعا للكلمة، ودرءاً للتفرق والفتن، وحفاظا على الجماعة، والتزاما للسمع والطاعة؛ فقد استقر لديهم أنه لا إسلام إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمارة، ولا إمارة إلا بسمع وطاعة للأمير، وإن كان عبداً متأمراً. غربة الإسلام: ولكن مع كثرة المحدثات وغلبة الجهل يصبح الإسلام غريبا، ويتفرق أمر المسلمين، فيصيرون فرقا كثيرة بعد أن كانوا أمة واحدة؛ كما حصل ذلك في واقع المسلمين اليوم، وطريق العودة إلى وحدتهم هو إعزازهم أهل السنة والجماعة منهم، ولزم جماعتهم وإمامهم، ولا طريق غير ذلك. وقد بدأت غربة الإسلام بعد مضي قرن الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي هو خير القرون، ثم مضى القرن الذي يليه، ثم الذي يليه أيضاً، كما روى البخاري في صحيحه في فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:   1 رواه أحمد في (المسند) (4/126- 127) ، وأبو داود في (السنن) (باب لزوم السنة، ح4443) ، والترمذي - وقال: "حديث حسن صحيح" - في (العلم، باب الأخذ بالسنة واجتناب البدعة، 7/438، ح2815) ، وابن ماجه في (المقدمة، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين، رقم 42) .. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته" 1. وكلما جاء زمان كان الذي بعده شراً منه، وكانت غربة الإسلام فيه أشد كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء" 2. هذا في غالب الأحوال. وقد جعل الله دين محمد صلى الله عليه وسلم باقياً إلى قيام الساعة، فلم تخل الأرض من قائم له بحجته أبداً، كما بدأ، كما روى مسلم في صحيحه: "لا يزال الدين قائماً حتى تقوم الساعة" 3. وكما روى البخاري في صحيحه في المناقب عن معاوية رضي الله عنه يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك" 4. وممن يقيم الله بهم الحجة الأئمة المجددون، فكلما جاء قرن من القرون التي تنطمس فيه أكثر معالم الدين، ويكاد ينتقض حبله، وتتعطل   (ج 4 ص189) . 2 وكذلك رواه مسلم عن ابن عمر، انظر (ج 1 / 130) ، ورواه غير مسلم من طرق عديدة انظر تخريجه في كتاب غربة الإسلام، لابن رجب الحنبلي. (ج 4 ص1453) . (ج 4 ص 187) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 بعمل القليل منه مشروع وأكثر مبتدع لا يكاد يؤثر في صلاحه إلا القليل، أو أن يكدح بنظره كدح المتفلسفة، فتذوب مهجته في الأمور الطبيعية والرياضية وإصلاح الأخلاق حتى يصل إن وصل بعد الجهد الذي لا يوصف إلى نزر قليل مضطرب، لا يروي غليلا ولا يشفي عليلا، ولا يغني من العلم الإلهي شيئا، باطله أضعاف حقه - إن حصل وأنى له ذلك مع كثرة الاختلاف بين أهله، والاضطراب، وتعذر الأدلة عليه والأسباب"1. فأنعم الله عليهم بأن بعث إليهم نبي الهدى ورسول الرحمة بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وأظهر الله دينه وجمع عليه المسلمين أمة واحدة، اجتمعت قلوبهم على الصراط المستقيم، وألف بينهم الإسلام على رسوله صلى الله عليه وسلم: ولو أنفق جميعاً ما في الأرض ما ألف بين قلوبهم ولكن الله ألف بينها بهذه النعمة العظمى، رسوله ودينه. قال الله تعالى يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألفَ بينهم إنه عزيز حكيم} 2. ولما قبض الله رسوله إليه وتوفاه، لم تزل الأمة المسلمة مجتمعة على دينه الباقي واجتمعت على خليفته أبي بكر، حين بين لهم الحق، وأزاح   1 اقتضاء الصراط المستقيم، مخالفة أصحاب الجحيم ص 2، 3. 2 الأنفال: 62، 63. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 الإشكال عنهم في موته صلى الله عليه وسلم، وأكد لهم بقاء دينه إلى يوم القيامة، وكانوا يرجعون إلى بيانه في ما يشكل عليهم لأنه أعلم الأمة بميراث نبيها ولأنه صاحبه الأول وصديق الأمة، ولذلك اجتمع الناس عليه1. ثم اجتمع الناس كذلك على الفاروق، عمر بن الخطاب، حيث أوصى به أبو بكر رضي الله عنهما فواصل بهم مسيرة الهدى والرشاد يبلغون دين الله مجتمعين أمة واحدة، حتى قصروا قيصر، وكسروا كسرى، وهكذا في بقية زمن الخلفاء الراشدين المهديين رضي الله عنهم، وبعد زمانهم، والمسلمون يلتفون حول أهل السنة والجماعة منهم، وهم سوادهم الأعظم ومركز ثقلهم، ومازالوا على مسيرتهم في إبلاغ دين الله ونشره للناس، حتى بلغوا به مشارق الأرض ومغاربها تماما كما زُوِيَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبر أن ملك أمته سيبلغ ما زُويَ له منها. فقد روى مسلم وغيره عن ثوبان: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها" الحديث2. ثم حدث ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفتن وظهورها في الأمة كما روى مسلم في صحيحه عن حذيفة قال: كنا عند عمر فقال: أيكم   1 انظر: تاريخ ابن جرير الطبري (ج 3 ص202، 203) ، وتاريخ ابن كثير وما أورد من روايات صحيحة (ج 5 ص241- 254) . 2 صحيح مسلم: (ج 4 ص2215، 2216) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 سمع النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الفتن؟ فقال قوم: نحن سمعناه. فقال: لعلكم تعنون فتنة الرجل في أهله وجاره؟ قالوا: أجل. قال: تلك تكفرها الصلاة والصدقة - ولكن أيكم سمع النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الفتن التي تموج موج البحر؟ قال حذيفة: فأسكت القوم. فقلت: أنا. قال: أنت، لله أبوك. قال حذيفة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً فأي قلب أشربها نكتَ فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين، على أبيض مثل الصفاء فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادا كالكوز مجخيا، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب هواه" 1. وافترقت الأمة المسلمة بسبب تلك الفتن إلى فريقين عظيمين، حتى أصلح الله بينها بالحسن بن علي رضي الله عنهما؛ كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين" 2، وذلك حين تنازل الحسن لمعاوية رضي الله عنهما، واجتمع الناس على معاوية أميراً للمؤمنين بعد ذلك عام 40هـ -، وسمي ذلك العام عام الجماعة، لاجتماع المسلمين بعد فرقتهم. وهكذا استقرت سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده في ثبوت الولاية وانعقادها   1 صحيح مسلم: ج 1 ص 128. 2 أخرجه البخاري (2704 و3629 و3746 و7109) وغيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 معظم أصوله ودعائمه من تلاعب الجهال به، وقبض العلم بموت العلماء، وارتفاع أهل الجهل وترأسهم، بعث الله عز وجل من يجدد لهم تدينهم ويردهم إلى ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأهل القرون الفاضلة بالدعوة والتعليم وحسن القدوة والجهاد، وذلك مصداق الحديث الشريف الذي رواه أبو داود عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها" 1. قال الشيخ عبد العزيز بن باز: "هذا الحديث إسناده جيد رجاله كلهم ثقات، وقد صححه الحاكم والحافظ العراقي والعلامة السخاوى وآخرون"2. وقال الألباني: "حديث صحيح، والسند صحيح، رجاله ثقات رجال مسلم"3. وقال عبد المتعال الصعيدي: "قال السيوطي: اتفق الحفاظ على صحته منهم الحاكم في المستدرك والبيهقي في المدخل، ونص الحافظ ابن حجر على صحته"4.   1 سنن أبي داود، ج 2، كتاب الملاحم باب 1 ص 424. 2 هامش ص 10 من كتاب: الشيخ محمد بن عبد الوهاب.. تأليف أحمد بن حجر آل بوطامي. 3 انظر: تخريج الألباني لأحاديث كتاب إصلاح المساجد للقاسمي هامش ص 6، وسلسلة الأحاديث الصحيحة ج 2 ص150 ورقمه 599. 4 انظر: المجددون في الإسلام، تأليف عبد المتعال الصعيدي ص 8، 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 وقال الإمام أحمد في خطبة كتابه: (الرد على الجهمية والزنادقة فيما شكوا فيه من متشابه القرآن وتأولوه على غير تأويله) 1: "الحمد لله الذي امتن على العباد بأن جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، (بذلوا دماءهم وأموالهم دون هلكة العباد) 2، فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين"3. وليس من شرط المجدد أن يكون واحداً بعينه، أو صنفاً خاصاً من الناس بل الأمر كما ذكر الشيخ ابن باز أن الحافظ ابن كثير قال في النهاية - لما ذكر هذا الحديث - ما نصه: "وقد ادعى كل قوم في إمامهم أنه المراد بهذا الحديث والظاهر - والله أعلم - أنه يعم حملة العلم من كل طائفة وكل صنف من أصناف العلماء، من محدثين ومفسرين وفقهاء   1 تصحيح الشيخ إسماعيل الأنصاري، نشر وتوزيع رئاسة البحوث العلمية. 2 ما بين القوسين زيادة من كتاب البدع والنهي عنها لابن وضاح وقد أسند هذه الخطبة إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع اختلاف في بعض ألفاظها، انظر ص 2، 3. 3 الرد على الجهمية ص 13، 14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 ونحاة ولغويين إلى غير ذلك من الأصناف، والله أعلم"1. ويقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن رحمهم الله تعالى: "وليس من شرطه أن يقبل منه ويستجاب، ولا أن يكون معصوماً في كل ما يقول، فإن هذا لم يثبت لأحد دون الرسول صلى الله عليه وسلم"2. ويقول أيضا: "ولهذا المجدد علامة يعرفها المتوسمون وينكرها المبطلون، أوضحها وأجلاها وأصدقها وأولاها محبة الرعيل الأول من هذه الأمة، والعلم بما كانوا عليه من أصول الدين وقواعده المهمة، التي أصلها الأصيل وأسُّها الأكبر الجليل: معرفة الله بصفاته، بصفات كماله ونعوت جلاله وأن يوصف بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله؛ من غير زيادة ولا تخريف ومن خير تكييف ولا تمثيل، وأن يعبدوه وحده لا شريك له ويكفر بما سواه من الأنداد والآلهة. هذا أصل دين الرسل كافة، وأول دعوتهم وآخرها، ولب شعائرهم وحقيقة ملتهم، وفي بسط هذه الجملة من العلم به وبشرعه ودينه وصرف الوجوه إليه ما لا يتسع له هذا الموضع، وكل الدين يدور على هذا الأصل ويتفرع عنه"3.   1 من تعليق ابن باز على كتاب (الشيخ محمد ... لأحمد آل بوطامي، ص 10. وانظر: النهاية في الفتن والملاحم لابن كثير، ج1 ص 39. 2 مجموعة الرسائل والمسائل النجدية، ج 3 ص 153. 3 مجموعة الرسائل والمسائل النجدية، ج 3 ص 154. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 ومن هؤلاء المجددين؛ الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وقد شهد له بذلك الجم الغفير من أكابر أهل العلم والدين. يذكر الشيخ عبد الرحمن بن قاسم أن أكابر أهل عصر الشيخ شهدوا له بالعلم والدين، وأنه من جملة المجددين لما جاء به رسول رب العالمين وكذلك أهل مصر والشام والعراق والحرمين والهند وغيرهم، وتواتر عن فضلائهم وأذكيائهم مدحه، والثناء عليه، والشهادة له أنه جدد هذا الدين1. وقد ذكره الشيخ محمد رشيد رضا من المجددين2 وقال: "كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى مجددا للإسلام في بلاد نجد، بإرجاع أهله عن الشرك والبدع التي فشت فيهم إلى التوحيد والسنة"3. وقال أيضاً بعد أن ذكر المجددين: "ولقد كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب النجدي من هؤلاء العدول المجددين، قام يدعو إلى تجريد التوحيد وإخلاص العبادة لله وحده بما شرعه في كتابه وعلى لسانه رسوله خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، وترك البدع والمعاصي، وإقامة شعائر الإسلام المتروكة، وتعظيم حرماته المنتهكة المنهوكة"4.   1 الدرر السنية ج12 ص 9. 2 تاريخ الإمام محمد عبده، ج 1 ص (ح) في التصدير، ط/ 1350 هـ. 3 الوهابيون والحجاز: ص6. 4 مقدمة الشيخ رشيد رضا للطبعة الثانية لكتاب صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان، لمحمد بشير السهسواني (ص11) ط5 / 1395هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 وكذلك عبد المتعال الصعيدي عده من المجددين في كتابه (المجددون في الإسلام) وترجم له في ذلك الكتاب1. ويقول الشيخ عبد العزيز بن باز - بعد ما أشار إلى أئمة الهدى الذين يمن الله بهم في الفترات - ما نصه: "وكان من جملة هؤلاء الأئمة المهتدين، والدعاء المصلحين الإمام العلامة والحبر الفهامة، مجدد ما اندرس من معالم الإسلام في القرن الثاني عشر والداعي إلى سنة خير البشر، الشيخ محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي التميمي الحنبلي، طيب الله ثراه، وأكرم في الجنة مثواه"2. وقد شهد بذلك، للشيخ محمد بن عبد الوهاب كثيرون، من الثقات العدول غير من ذكرنا هنا، يطول المجال باستقصاء شهاداتهم، والمقصود: إقامة الشهادة بأن الشيخ محمد بن عبد الوهاب من المجددين، وقد قامت ولله الحمد قياما لايدع شكا في أنه من المجددين، فإنه عالم عامل، ومن أولئك الذين يوجدهم الله لإقامة حجته ووصل حبل الإسلام الممتد من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يأتي أمر الله، وكلما مات منهم علم أبدل الله به علما آخر، من أئمة الهدى وأعلام الهداية، ومنارات الإرشاد، وزعماء   1 المجددين في الإسلام: (ص437 –441) . 2 مقدمة الطبعة الثانية لكتاب (الشيخ محمد بن عبد الوهاب، عقيدته السفلية ودعوته الإصلاحية، وثناء العلماء عليه، بقلم أحمد بن حجر آل بوطامي ص3 –4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 الإصلاح. ولقد تجرد الشيخ محمد بن عبد الوهاب للدعوة إلى الله على حين غربة من الإسلام في القرن الثاني عشر، وكان على بصيرة، حيث كان عارفا بما عليه الصدر الأول، من السلف الصالح، خبيرا بما انْحلَّ من عرى الإسلام لدى أهل عصره، وتحولوا عنه فقام مجاهدا، ليرد الناس إلى ما كان عليه سلفهم الصالح، في باب العلم النافع والعمل الصالح، والإيمان والإحسان، وترك التعلق على غير الله، من الأنبياء والصالحين وعباداتهم، والاعتقاد في الأحبار والأشجار، والعيون والغيران، وتجريد المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، في الأقوال والأعمال، وهجر ما أحدثه الخلوف والأغيار. وقيض الله له من آل سعود الذين وازروه على نصرة دين الله ورسوله، فأقبلوا على معرفة ما عنده، من العلم والإرادة، حتى إذا عرفوا صدق مواقفه للحق، نفذوا ذلك بالسلطان والإدارة، والسيف والعزيمة، يريدون ما عند الله تعالى، فصنع له من عظيم صنعه، وأظهر لهم من الدولة ما ظهروا به على سائر العرب، وكلما كان الأمر على السنة الإسلامية كلما كان في مزيد عز ونصر وظهور، ونحن لا نزال، ولن نزال - إن شاء الله تعالى - ننعم بوارف ظلال عقيدة السلف الصالح التي نشرها هؤلاء، ونصرها هؤلاء، تحت دوحتي العلم والوفاء، دوحة علماء الدعوة - من ورثة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ودوحة أنصارها- من ورثة الأمير الراشد محمد بن سعود، جزاهم الله خير الجزاء.. والحمد لله، العزيز الرحيم. وقد اخترت أن يكون موضع رسالتي للدكتوراه عام (1399هـ) : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 (عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية، وأثرها في العالم الإسلامي) لأهميتها ولأنه من المجددين فعقيدته عقيدة سلفية، وعقيدة السلف الصالح عقيدة تجديد حية، تواكب الإصلاح والرقي المشروع في كل عصر ومصر، وتساير التقدم والنمو الخيري المشروع وتزيده زكاء وبرا وشرعية، ولا تعوقه أو تؤخره أبدا، إنها الاعتقاد الجازم بأنه لا يصلح ولا يقبل سوى اتباع سبيل المؤمنين السابقين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، في هذا الدين وفي تفسيره، فتفوقوا على الشرق والغرب، وسادوا العالم كله، وكانت كلمتهم هي النافذة. وقد {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} 1، وقال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} 2. قال الإمام مالك: قال عمر بن عبد العزيز: "سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سننا الأخذ بها تصديق بكتاب الله واستكمال لطاعة الله وقوة على دين الله، ليس لأحد تبديلها ولا تغييرها، ولا النظر فيما   1 سورة التوبة: 100. 2 سورة النساء: 115. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 خالفها، من اقتدى بها مهتد، ومن استنصر بها منصور، ومن تركها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا". قال مالك: "أعجبني عزم عمر في ذلك"1. وقال وهب بن كيسان فيما رواه عنه الإمام مالك: "لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما صلح أولها"2. ومن يتأمل الواقع الذي نعيشه يدرك أن ما نحن فيه من أمن يفوق ما فيه أهل عصرنا من الدول المجاورة وغير المجاورة، هو من أثر عقيدة الشيخ السلفية، التي دعا إليها وناصره آل سعود عليها، كما يجد المتأمل المنصف إضاءة التاريخ الإسلامي بذلك. وإن عقيدةً هذا شأنها لاريب أن البحث عنها والدراسة فيها، أهم موضوع لتحصيل العلم النافع والمعتقد الصحيح السليم، وآمن شيء هو العلم النافع والمعتقد الصحيح؛ لأن من استمسك بالعلم النافع والمعتقد الصحيح، عصم من ضلال الكفار وفسادهم الذي نغزى به من الشيوعيين وغيرهم، من الشرق والغرب، تحت شعارات زائفة ودعاوى باطلة لاينخدع بها إلا من فرغ قلبه وجوارحه، من عقيدة السلف الصالح وسلوكهم. ومما قاله سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، في أهمية هذا الموضوع: "هذا الأصل الأصيل، والفقه الأكبر، هو أولى ما كتب فيه الكاتبون،   1 كتاب الجامع في السنن والآداب والمغازي والتاريخ، للقيرواني ص 117. 2 التمهيد لابن عبد البر 23/ 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 وعنى به دعاة الهدى، وأنصار الحق، وهو أحق العلوم أن يعض عليها بالنواجذ، وينشر بين جميع الطبقات، حتى يعلموا حقيقته، ويبتعدوا عما يخالفه".. إلى أن قال: في تعليل أهمية نشره "لعظم شأنه، وشدة الضرورة إليه، ولما وقع بسبب الجهل به في غالب البلدان الإسلامية من الغلو في تعظيم القبور، ولاسيما قبور من يسمونهم بالأولياء، واتخاذ المساجد عليها وصرف الكثير من العبادة لأهلها كالدعاء والاستغاثة والذبح والنذر، وغير ذلك، ولما وقع أيضا بسبب الجهل بهذا الأصل الأصيل، في غالب البلدان الإسلامية، من تحكيم القوانين الوضعية، والآراء البشرية، والإعراض عن حكم الله ورسوله، الذي هو أعدل الأحكام وأحسنها"1. لذلك كان موضوع عقيدة الشيخ محمد موضوعا مختارا، وفيما يلي أركز أسباب اختياري له في ثلاثة أسباب فحسب: 1- إن عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب عقيدة تجديد سلفية، اعتقدناها واعتمدناها في ديننا ودنيانا، وهي أساس وحدتنا السعودية، اجتمعنا عليها بعد الفرقة، واهتدينا بها بعد الضلال، وكانت حال أهل نجد، وأهل الجزيرة العربية قبيل ظهور هذا الإمام المجدد بعقيدته السلفية - أسوأ الأحوال - فقد كانوا متفرقين ومختلفين، يبغي بعضهم على بعض،   1 مجلة البحوث الإسلامية، المجلد الأول، العدد الثاني ص 450-455. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 والإسلام بينهم غريب، والضلال ظاهر والمنكر أصبح معروفاً لديهم ومألوفاً. وسنبين ذلك في مبحث البيئة قبل ظهوره فيما سيأتي إن شاء الله تعالى. ثم إِن الله تعالى جمع أهل نجد بالتوحيد، كما دعا إليه الشيخ وبينه عن عقيدة سلفية سليمة، وأعزهم الله بعد ذلتهم، بالنصر المبين، وأغناهم بعد فقرهم بالخير العميم، واستنارت بينهم سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم واختفت البدع، وزالت الفرقة، تحي راية التوحيد، التي يحملها أنصار الشيخ من آل سعود، وتطهر الحرمان الشريفان وما جاورهما، من البناء على القبور، ودعاء غير الله، والطيغان، والبدع والخرافات، ونودي في أرجائهما بالعدل والأمان، وبطلت سنن جاهلية، وقوانين ما أنزل الله بها من سلطان، وبطلت جوائز القبائل التي يأخذونها على الحجاج إذا مروا بهم، واختفى قطاع الطرق، وسراق الأعراب 0فأمنت السبل واطمأنت البلاد واستقام العباد بتلك العقيدة السلفية التي أظهرها الشيخ وآل سعود، حتى أصبح السعودي علَما يعرف بهذه العقيدة في الغالب، وهذا الظهور يدل على علم الشيخ وصدق أنصاره، ولقد كان علم الشيخ علما أصيلا بميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلفه لنا في مؤلفاته ورسائله، وردوده وأجوبته جمعا وتأليفا، وبيانا واستنباطا، ميراثا نبويا، ورثه لمن بعده، كما ورثه هو عن من قبله، ويتوارثه العلماء إلى ما شاء الله تعالى، كما ورد "أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 العلماء ورثه الأنبياء ورثوا العلم من أخذه أخذ بحظ وافر"1. وكان وفاء آل سعود وصدقهم موافقا لمراد الله ورسوله، فكانت الوحدة، ونعمة الأمن والهداية، والعيش والثروة - في هذا العهد السعودي الميمون. كما قال الله تعالى {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} 2. وقد نشأ جيل جديد، وجد نفسه في نعمة هذه الوحدة، ولم يكن يعرف ضدها وأخشى أن يلهو ويغتر، وينسى سبب نعمته فلا يأخذ به فتنتقض عليه عرى أمنه وهدايته، وتحل عليه بديلاتها، مما يغزوه عبر الأقمار الصناعية وغيرها من عقائد الكفار وأفكارهم.. فلذا رغبت في مشاركة وارثي هذا الإمام المجدد عقيدته السلفية، وعلمه الأصيل، وولاءه لأنصار دين الله ورسوله، من آل سعود الكرام، ومن ذلك أن أخصص بحثي للدكتوراه فيها وفي أثرها، عسى الله أن يهب لي حظاً وافرا، من هذا العلم النافع، والمعتقد السلفي السليم الآمن، ونشره وإظهاره للناس، عن علم واتباع، لا عن تقليد وابتداع وأسأل الله أن لا يغير ما بنا من نعمة الأمن والهداية، والعيش والثروة والاجتماع والوحدة، والله ذو الفضل   1 انظر: صحيح البخاري، كتاب العلم قبل القول والعمل، ج1 ص25. 2 سورة الأنعام: 82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 والجلال والإكرام. 2- الحاجة إلى كتابة عقيدة الشيخ، وعرضها، مجموعة ومرتبة ومنسقة، في رسالة جامعية، بأسلوب الدراسات العلمية المنهجية، لتيسيرها ونشرها، والدعوة إليها بهذا الأسلوب المألوف، سيما وقد تقاصرت الهمم، وضعفت النفوس عن الصبر، على مشقة البحث الطويل، لكثرة المشاغل، ونقص العلم. وعقيدة الشيخ، مبعوثة في مؤلفاته ومراسلاته، وردوده وأجوبته، واستنباطاته ونبذه وسائر آثاره، في شتى الفنون والعلوم، ولما جمعت مؤلفاته العامة بلغت مجلدات كبيرة وكثيرة، والشيخ رحمه الله، إنما كان يؤلف بحسب ما تستدعيه حاجات الناس، وتقتضيه مصالحهم، ويلجئ إليه واقع حياتهم، وحالتهم الاعتقادية والواقع المؤلم للتصحيح والإصلاح بعقيدة السلف الصالح في الأصول والفروع، فهذا جعله يهتم بما هو الأولى والأهم، وما يناسب أهل زمانه ويلائمهم، ولقد خاطبهم بما يعقلون ويفهمون، بلهجتهم وأسلوبهم، على أتم وجه وأكمله، ونفع الله بعلمه وعمله. وأردت أن أقوم بهذه الرسالة بكتابة عقيدة الشيخ وعرضها، عسى أن يكون ذلك من المناسب لأهل زماننا، فيستدعيهم قراءة وقبولا، وفي صحيح البخاري، في كتاب الأدب، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يسروا ولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 تعسروا"، وكان يحب التخفيف واليسر على الناس"1. وفي صحيح مسلم في كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة، ومن دعا إلى هدى أو ضلالة، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص من ذلك من أجورهم شيئا" 2. وفي صحيح البخاري، في كتاب العلم، باب ما يذكر في المناولة، وكتابة أهل العلم بالعلم إلى البلدان، عن أنس بن مالك قال: "كتب النبي صلى الله عليه وسلم كتابا أو أراد أن يكتب: فقيل له: إنهم لا يقرأون كتاباً إلا مختوما، فاتخذ خاتما، من فضة نقشه (محمد رسول الله) كأنى أنظر إلى بياضه في يده"3. وقد أورد الخطيب البغدادي، في كتابه "تقييد العلم" مجموعة طيبة من الأحاديث والأخبار والأقوال والشواهد، عن السلف ترخَص بكتابة العلم، وتبين فضلها في عرضه وحفظه ونشره، وتجميل كتبه وتحسينه. وقال: "قد أوردت من مشهور الآثار ومحفوظ الأحاديث والأخبار عن رسول رب العالمين وسلف الأمة الصالحين صلى الله عليه ورضى عنهم أجمعين، في جواز كَتْبِ العلم وتدوينه، وتجميل ذلك الفعل وتحسينه ما إذا   1 صحيح البخاري ج 7 ص 101. 2 صحيح مسلم ج 4 ص 2060. 3 صحيح البخاري ج 1 ص 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 صادف بمشيئة الله قويَ شك رفعه، أو عارض ريب قمعه ودفعه"1. 3- بيان أن عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب هي عقيدة السلف الصالح. على الرغم من أن عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب هي عقيدة السلف الصالح، ولم يبتدع في ذلك شيئاً، خلاف ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأتباعهم بإحسان، لكن طالما حكم عليه وعلى ما ظهر به من هذه العقيدة بالبدعة، بغير علم وطالما جُعلت عقيدته محل أخذ ورد كثير ليس في العالم البعيد عن دائرة الإسلام. ولكن في ذات الدائرة الإسلامية وفيما بين المسلمين أنفسهم. فهل يا ترى ثم ثغرات مبتدعة في الإسلام فتحت على ابن عبد الوهاب وأتباعه في عقيدته؟ أم أنها محكمة البناء، صحيحة في الادعاء، أصيلة في الانتماء؟ لكن دخل عليها هؤلاء من باب مخالفتها لما كانوا عليه، وكان عليه آباؤهم وأجدادهم، من تقاليد عمياء وعادات جهلاء، في دينهم واعتقاداتهم، كانت معروفة ومألوفة لديهم، وقد درجوا عليها يعدونها ديناً يقربهم إلى الله ويحسبونها قربة مسنونة، فما فجأهم إلا والشيخ يطلع عليهم بما لا يعهدون وبما لا يعرفون، فاستنكروا ولقنهم الشيطان حجج أمثالهم السابقين مثل: "إنا وجدنا آباءنا على أمة، وإنا على   1 القسم الثالث الفصل الرابع، ص 115، 116 ط 2، 1395هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 آثارهم مقتدون" فمن هنا حكموا على عقيدة الشيخ بالبدعة؟ أو من باب الحسد والبغي دخل عليه أقوام لديهم علم وجاه كما قيل: حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه ... فالقوم أعداء له وخصوم وهذا وذاك من الأبواب المفتوحة، والسنن الجارية في هذه الدنيا ليبلوا الله أهلها أيهم أحسن عملاً؟ وسنة الله في الذين خلوا من قبل على امتداد التاريخ، والله هو العزيز الغفور. هذا أيضاً مما دفع بي إلى أن أستوعب مؤلفات الشيخ وآثاره، في هذا المبحث ثم أستخلص منها عقيدته مباشرة، ليعلم من يقصد الحق أنها عقيدة السلف الصالح، أهل السنة والجماعة، الفرقة الناجية الذين رضي الله عنهم، ورضوا عنه، وأعد لهم جناته التي تجري من تحتها الأنهار، وإن خالفت ما عليه أكثر من يدعي الإسلام، وهم ليسوا من الإسلام في شيء. أما من لا يريد الحق فتقوم عليه الحجة بيسر ووضوح "ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة". نصيحة لله ولكتابه ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولأئمة المسلمين وعامتهم. والدين النصيحة. والله المستعان عليه نتوكل وإليه المصير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. هذا ولقد كتب عن تاريخ الشيخ وحياته، وفكره، ودعوته، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 ومؤلفاته، وآثاره وأقوال الناس فيه، الشيء الكثير الجيد، من قبل العلماء، والباحثين، والكتاب وقد استفدت من ذلك كثيراً. لكني بالإضافة إلى الأسباب المتقدم ذكرها أردت بهذا البحث أن أدلي بدلوي مع الدلاء، وأن أتطفل على العلماء، وأسهم بسهم مع الفضلاء، تشبهاً بهم، وحباً لهم، ولمنهجهم وموضوع بحثهم، وإن لم أكن في مقامهم وسبقهم، فاللاحق يتبع السابق، كما يتبعه من بعده, وقال الله تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمْ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 1. وأسأل الله تعالى أن يجزي عنا العلماء، وورثة الأنبياء خير الجزاء ... وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. الشكر: أحمد الله وأشكره، ولا أحصي ثناء عليه سبحانه وتعالى، بل هو كما أثنى على نفسه عز وجل. وأمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأثني عليه وأشكره، فقد بلغ رسالة ربه ونصح لنا خير النصح، وأتمه، وجاهد في ذلك جهاداً كبيراً، وحرص علينا حرصاً بالغاً وشملنا الله برأفته ورحمته، فهو الرحمة المهداة، والنعمة   1 سورة البقرة: 148. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 العظمى، فجزاه الله عنا خير ما جزى به نبياً عن أمته، وصلى عليه وسلم على الدوام، وعلى آله وأصحابه وأتباعه الرحمة والرضوان. ثم أشكر المشرف عليّ في هذا البحث، فضيلة الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد فقد قام بالإرشاد والتوجيه، وأفادني في ذلك فائدة كبيرة. كما أشكر فضيلة الشيخ عبد الله الغنيمان، فإنه شجعني على المواصلة بفرع العقيدة في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة. وأشكر الدكتور عبد الله الصالح العثيمين، حيث كَرُمَ وأهداني نسخة من مؤلفه عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب. وكذلك الزملاء الكرام، سليمان السلومي، وسليمان العريني، وسليمان السعود، وعبد العزيز بن محمد العبد اللطيف، ومحمد الفلاح، وجارنا محمد الصافي، فقد أعاروني كتباً استفدت منها. ولا أنسى وكيل إمارة حائل صديقنا الشيخ مقبل بن شيخنا الشيخ محمد الصالح المقبل فقد صور لي مخطوطاً بعنوان الرسائل المرقومة للشيخ محمد بن عبد الوهاب من مكتبة خاصة بحائل. كما أشكر صهري، ناصر العتيق، وعمي إبراهيم العبود - على ما قاما به من جلب بعض المراجع من الرياض، وأشكر ولدي عبد الله فقد ساعدني بما قام به من تخفيف مشاغل البيت عني. وعموماً أشكر كل من أفادني في ذلك، وأسأل الله أن يجزيهم عني خيراً وهو القريب المجيب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 وأشكر الجامعة الإسلامية فقد وجدت فيها محضنا من محاضن العلم والرعاية حين تشرفت بالانتماء إليها. وأشكر رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد على ما توزعه من مراجع هامة في الموضوع كان لي منها نصيب كبير. كما أشكر جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية فقد منحتني مؤلفات الشيخ في مجموعة طبعتها وكذلك مجموعة بحوث أخرى عن الشيخ وعقيدته. وكل ذلك يسر الله لي به الاستفادة والبحث، ولله الحمد. وأختم بشكر حكومتنا السعودية - فلقد نعمت بظلهم، وتعلمت بمدارسهم ونشأت في خيرهم، ومنذ نشأتي وأنا أتقلب في معاقلهم العلمية والتربوية، منذ الإبتدائية السعودية في المذنب عام 1367هـ، إلى الجامعة الإسلامية حالياً، وفي كل معقل نتلقى الميراث النبوي والحجة الرسالية، والعلم النافع في الدنيا والآخرة، بأمانة وقوة وأمن ورعاية. والحمد الله رب العالمين والشكر له، والصلاة والسلام على رسول الله في البدء والختام، فإن الله تعالى هو الأول والآخر والظاهر والباطن، وهو بكل شيء عليم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 خطّة البَحْثِ هذا وقد جعلت موضوع البحث من مقدمة ومدخل وبابين وخاتمة. فأما المقدمة: فتضمنت بياناً لأهمية الموضوع وأسباب إختياري له والشكر وخطة البحث. وأما المدخل: فيشتمل على مبحثين. الأول: في البيئة من حول الشيخ في العالم الإسلامي. والثاني: مبحث في حياة الشيخ يتضمن ترجمته ونشأته ورحلاته وشيوخه وتلاميذه ومؤلفاته ووفاته ورثاءه. وأما البابان: فالباب الأول: هو في عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية، ويتضمن أربعة فصول: الفصل الأول: في منهج الشيخ رحمه الله تعالى في عقيدته ودعوته. الفصل الثاني: في مجمل عقيدة الشيخ. الفصل الثالث: في عقيدة الشيخ في التوحيد من مقاميه: المقام الخبري - والمقام الطلبي. الفصل الرابع: هو في التحذير من نقيض عقيدة السلف الصالح أو نقيض كمالها. الباب الثاني: في أثر عقيدة الشيخ السلفية في العالم الإسلامي - ويتضمن خمسة فصول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 الفصل الأول: في ظهور دعوة الشيخ، وأسباب ومبادئ تأثيرها. الفصل الثاني: في أثرها في الدور الأول من أدوار دولة أنصارها. الفصل الثالث: في أثرها في الدور الثاني. الفصل الرابع: في أثرها في الدور الثالث. الفصل الخامس: في أثرها في خارج سلطانها من العالم الإسلامي. وأما الخاتمة: فهي تتضمن خلاصة البحث ونتيجته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 المدخل المبحث الأول: في البيئة من حول الشيخ في العالم الإسلامي. ... المَدْخَلُ ويشتمل على مبحثين: 1- المبحث الأول: في البيئة من حول الشيخ في العالم الإسلامي. 2- المبحث الثاني: في حياة الشيخ - ويتضمن ترجته ونشأته ورحلاته وشيوخه وتلاميذه ومؤلفاته ووفاته ورثاءه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 المبْحَث الأولُ: في الْبِيئَةِ مِنْ حَوْلِ الشّيْخِ فِي العَالَمِ الإسْلاَمِيَّ لقد كانت البيئة من حول الشيخ محمد بن عبد الوهاب في البلدان الإسلامية قد تحولت عن صبغتها الإسلامية في غالب أحوالها سواء في العقيدة أو في السياسة، وقد حدث في أكثرها ما هو أشد من أحوال الجاهلية الأولى في العقيدة والسياسة، وما من شك أن المجتمع يفقد رشده وأمنه واستقراره إذا غلبت عليه عقيدة الجاهلية، وظهرت فيه البدع والشركيات. وهكذا كانت البيئة بصفة عامة التي واجهها الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله فزار بعض البلدان وشهد بيئتها وبعض البلدان الأخرى التي لم يزرها سمع عنها. وفيما يلي شيء من تفصيل ذلك: في الأحوال السياسية والدينية: أما في الأحوال السياسة والدينية فيما سبق ظهور الدولة السلفية بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وتجاوب الأمير الراشد محمد بن سعود - فكانت كما يلي: نجد وأحوالها: أما نجد فإنها منذ مدة طويلة قبل ظهور دعوة الشيخ محمد لم تشهد سلطاناً قوياً صالحاً يحكم وجوده على سير الحوادث داخلها، ويوحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 أجزاءها، ويحدث فيها استقراراً سياسياً وأمناً شاملاً، فقد كانت محكومة بغلبة الأخيضريين العلويين الذين أعلنوا استقلالهم عن الخلافة العباسية واستمر ملكهم على اليمامة حتى غلبهم القرامطة سنة 317 هـ1. ويذكر حمد الجاسر في كتابه (مدينة الرياض عبر أطوار التاريخ) أن المؤرخين يكادون يجمعون على أنه في سنة 1253هـ تقريباً استولى الأخيضريون أسرة علوية على اليمامة، وكانوا سيئي السيرة فلم يقتصر ضررهم على إضعاف تلك المدينة وتشتيت أهلها عند غزوهم إياها. بل شمل غيرها من مدن نجد في ذلك العهد وانقشع أهلها من جورهم إلى أرض مصر، ولم ينتزع أحد منهم هذه الولاية إذ ليس بجوارهم سلطان أو ملك قاهر وهم ذوو شوكة ومن فرقة الزيدية، يقولون في الآذان: (محمد وعلي خير البشر وحي على خير العمل) . ويقرر الجاسر أنه منذ أن حكم هؤلاء الأخيضريون اليمامة وما حولوها من نجد إلى قيام الدولة السعودية بنصرة الدعوة الإصلاحية الدينية بعد منتصف القرن الثاني عشر الهجري واليمامة وما حولها تعيش فترة من التاريخ مجهولة إلا نتفاً ضئيلة من بعض المؤرخين، لأن حكم الأخيضريين قضى على مدينة الحجر قصبة اليمامة وشرد أهلها وأضعف شأنها، ثم بزوال الأخيضريين لم تحكم اليمامة حكماً قوياً ولم تقم فيها أية دولة ذات   1 تاريخ البلاد العربية السعودية للدكتور منير العجلاني ص 28، وتاريخ الجزيرة العربية في عصر الشيخ محمد ... تأليف حسن خلف الشيخ خزعل ص 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 شأن ليهتم المؤرخون بأمرها، وبلاد نجد أصبحت كلها مجزأة إلى إمارات متفرقة وأصبحت خاضعة للدويلات الصغيرة التي حكمت البحرين والأحساء مثل القرامطة والعيونيين والجبريين الذين منهم أجود بن زامل الجبري. وكل هؤلاء اتخذوا الأحساء قاعدة لحكمهم الذي امتد إلى بلاد نجد1. وكانت الحروب بين البلدان النجدية قائمة، والصراع بين قبائلها المختلفة مستمراً وحاداً وعنيفاً - ولذا كانت نجد متمزقة بين إمارات صغيرة متعادية ومتفككة، في كل قرية أمير وفي نفس الوقت يتهدده طامع في إمارته وربما يكون أقرب أقربائه2، فهو خائف ومخيف وسياسته انبثقت من هذه الحالة، وما كان بين أمراء القرى في الغالب وفاق، ولكن كل أمير يتربص بالآخر ويتحين فرص الوثوب عليه، وقد وصل الحال إلى أن القرية الواحدة تتمزق بن أميرين متعاديين أو ثلاثة أو أكثر كل منهم يدعي لنفسه الولاية كما هو شأن حُرِيملاءَ حيث كانت منقسمة بين قبيلتين كان أصلهما واحد ثم افترقوا إلى حزبين كل منهم يدعي القول له وليس للآخر على الثاني قول، والبلد لا يرأسه رئيس واحد، أو مجموعة   1 انظر: مدينة الرياض عبر أطوار التاريخ، بقلم حمد الجاسر ص 69- 79. 2 انظر: ابن بشر عنوان المجد في تاريخ نجد ... سابقة سنة 1111هـ ج 1 / 122- 123 وسوابق ابن بشر عموماً تبين هذه الأحوال السياسية. انظر: الشيخ محمد بن عبد الوهاب.. للدكتور العثيمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 متحدة في هدف واحد، فذلك يزع الجميع إن كان قوياً1. وذكر ابن بشر في سابقة سنة 1120هـ أن ناصر بن حمد غدر بفوزان أمير التويم أو رئيسه فتولى في بلد التويم محمد بن فوزان ثم تمالأ عليه رجال فقتلوه منهم المفرع وغيره من رؤساء البلد وهم أربعة رجال فلم يستقم لأحدهم ولاية فقسموا البلد أرباعاً كل واحد شاخ في ربعها فسموا المربوعة أكثر من سنة، قال ابن بشر: (وإنما ذكرت هذه الحكاية ليعرف من وقف عليها على غيرها من السوابق نعمة الإسلام والجماعة والسمع والطاعة ولا نعرف الأشياء إلا بأضدادها فإن هذه قرية ضعيفة الرجال والمال وصار فيها أربعة رجال كل منهم يدعي الولاية على ما هو فيه) 2. نجد لم تشهد نفوذاً عثمانياً: ولم تشهد نجد على العموم نفوذاً للدولة العثمانية، فما امتد إليها سلطانها3 ولا أتى إليها ولاة عثمانيون، ولا جابت خلال ديارهم حامية تركية في الزمان الذي سبق ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، ومما يدل على هذه الحقيقة التاريخية استقراء تقسيمات الدولة العثمانية الإدارية فمن خلال رسالة تركية عنوانها قوانين آل عثمان در   1 انظر: ابن بشر تاريخ نجد ... 1/ 9. 2 ابن بشر- عنوان المجد في تاريخ نجد ج 1/ 158. 3 تاريخ البلاد العربية السعودية للدكتور منير العجلاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 مضامين دفتر ديوان) يعني (قوانين آل عثمان فيما يتضمنه دفتر الديوان) ألفها - يمين علي أفندي - الذي كان أميناً للدفتر الخاقاني سنة 1018هـ الموافق لسنة 1609م ونشرها ساطع الحصري ملحقاً من ملاحق كتابه (البلاد العربية والدول العثمانية) . ومن خلال هذه الرسالة يتبين أنه منذ أوائل القرن الحادي عشر الهجري كانت دولة آل عثمان تنقسم إلى (32) إيالة منها (14) إيالة عربية وبلاد نجد ليست منها ما عدا الأحساء إن اعتبرناه من نجد1. ثم إن نفوذ العثمانيين ما لبث أن ضعف في جزيرة العرب نتيجة لمشاكلهم الداخلية والخارجية2، فاضطروا في نهاية الأمر إلى ترك اليمن بسبب ثورة أئمة صنعاء ضدهم، واضطروا إلى مغادرة الأحساء أيضاً أمام ثورة زعيم بني خالد براك بن غرير وأتباعه سنة 1080هـ3.   1 انظر: البلاد العربية والدولة العثمانية، ساطع الحصري ص 230- 240 ز وانتشار دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب خارج الجزيرة العربية، محمد كمال جمعة ص 13. 2 انظر: تاريخ البلاد العربية السعودية للدكتور العجلاني ص 47. 3 انظر: الشيخ محمد بن عبد الوهاب ... للدكتور العثيمين ص 10، 11. وعنوان المجد، سابقة (1080هـ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 أشراف الحجاز: وأما الحجاز فقد كان يحكمه الأشراف تحت سلطان الدولة العثمانية، وفي القرن الثاني عشر ابتداء من أوله كان هؤلاء الأشراف في منازعات بينهم وحروب كانت تقوم بين الأخ وأخيه والعم وابن أخيه وتهدر فيها الدماء وتستحل الحرمات. فكان معدل ولاية الأمير على مكة سنة أو سنتين، لكثرة الاغتيال والغدر والخلاف، وكان من هوانهم على السلطان العثماني أنه يوكل أمرهم أحياً إلى واليه على مصر وكان والي مصر يولي من يشاء ويعزل من يشاء باسم السلطان. ولقد تعاقب على إمارة مكة خلال القرن الثاني عشر وحده بنحو ثلاثين شريفاً لم ينعم واحد منهم بالاستقرار وصارت السلطة مثار نزاع لا نهاية له، يفرض أقواهم على الآخرين ويتدخل السلطان التركي أحيانا في النزاع ليجلس على كرسي الحكم أحد الخصوم، ولا يتورع هؤلاء الأمراء المتنازعون عن أن يصلوا بمعاركهم إلى قلب الأماكن المقدسة مخالفين بذلك نصوص القرآن والسنة، وأهملت أمور الدين حتى لم يعد الشريف محل ثقة بأمور الإسلام في نظر المسلمين. هذه حالة شرفاء مكة في أول ظهور الشيخ محمد بن عبد الوهاب وما كانوا قادرين على عدوانهم على أهل نجد كما كانوا من قبل منذ القرن العاشر الهجري أو على غير أهل نجد لضعفهم وتخاذلهم وخوف بعضهم من بعض ومع هذا فقد اتخذوا تدابير عدائية في مكة ضد دعوة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى عقيدة سلف الصالح - فقد اعتبروه وأنصاره وهابية مبتدعة فمنعوهم من الحج، بل أطلقوا عليهم الكفر1. الدولة العثمانية في حكم الزوال: ولقد كانت الدولة العثمانية بأجمعها وفيما امتدت إليه سلطتها منذ أوائل القرن الثاني عشر للهجرة النبوية في حكم الزوال قبيل ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله فقد انهزم سلاطين آل عثمان أمام النمسا وروسيا والبندقية وغيرها من دول النصرانية بتوقيعهم ما يسمى (صلح كارلوفتسي) عام 1110هـ (1699م) وهو وثيقة انهزامهم عن حماية بلدانهم الإسلامية من هذه الدول النصرانية المعادية للإسلام والمسلمين، وبموجب تلك الهزيمة طمع الأروبيون بإزالة الدولة نهائياً وسموا سلطان آل عثمان (الرجل المريض) واتفقوا على اقتسام تركته لكن اختلفوا في نصيب كل منهم من هذه التركة التي هي البلاد العثمانية الإسلامية، فكان هذا الاختلاف هو الذي أخرهم عن إزالة شبح السلطان العثماني مدة من الزمان. وفي الحقيقة أن السلطان العثماني أصبح منذ ذلك الوقت ليس له من الأمر في الدولة العثمانية شيء وإنما لبعض الوزراء الذي كان أصلهم من   1 انظر: تاريخ مكة، دراسات في السياسة والعلم والإجتماع والعمران، أحمد السباعي ج 2 ص 80، 93، ص 94- 101. والبدر الطالع للشوكاني ج 2 ص 7. وانظر: تاريخ البلاد العربية للدكتور منير العجلاني ص 30- 32. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 عناصر أجنبية أوربية ومن يهود الدونمة وماسون سالونيكا المتظاهرين بالإسلام، ومن المعجبين بكفر (النصارى) وإِلحاد القوميين والعلمانيين1. حتى انقلبت الدولة العثمانية إلى مطايا استبداد وفوضى واغتيال وقام كثير من الولاة والأمراء بالخروج عليها وتكوين حكومات مستبدة وضعيفة لا تستطيع إخضاع من في حكمها، فكثر السلب والنهب وفقد الأمن2. ويقول محمد كمال جمعة: "وكانت قصور السلاطين والوزراء وكبار رجال الدولة مملؤة بالجواري والسبايا وكان بعض أولئك السبايا أجنبيات من بلاد أجنبية فكن عيوناً لدولهن على الدولة العثمانية"3. وقال أيضاً: "وقد تعالى سلاطين هذه الدولة على الرعية فإذا خاطبوا الرعية كانوا لا يوجهون الخطاب إليها مباشرة بل يقولون لولاتهم بلغوا عبيد بابنا العالي"4.   1 انظر: انتشار دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب خارج الجزيرة العربية لمحمد كمال جمعة ص 11، 12. وانظر: فكرة القومية العربية على ضوء الإسلام لصالح بن عبد الله العبود. - رسالة ماجستير - ص 36- 56. 2 حاضر العالم الإسلامي - تأليف لوثروب الأمريكي - في تعليق شكيب آرسلان ج 1/ 259. 3 انتشار دعوة الشيخ ... ص 12. 4 المصدر السابق ... ص 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 وكانت الدولة العثمانية تؤيد التصوف في مختلف طرائقه وبصورته التي بعدت عن الإسلام بعدا شاسعاً، وكانت قد دخلت من عادات بغضها نصرانية، كالرهبانية واللعب بذكر الله، وابتداع أساليب فيه، كالرقص والغناء والصياح، والأشعار والتصفيق والمدائح والموالد، وبعضها من الهندوسية أو الفارسية أو اليونانية كدعوى الحلول والاتحاد، ووحدة الوجود. والدولة العثمانية كانت ترى هذا اللون من صميم الدين الإسلامي، فكان السلاطين يخضعون لمدعي التصوف ويبالغون في تعظيمهم، بل يغلون فيهم حتى غلب اعتقاد العامة منهم على همم العلماء المصلحين. وهذا بالإضافة إلى القباب والقبور والمزارات التي يقصدها الناس بالذبح والنذر والقرب والدعاء وهي منتشرة وكثيرة في ظل الدولة العثمانية وحمايتها1. وهي الدولة التي كانت تُعدُّ أكبر الدول الإسلامية في أيامها وكان سلاطينها يعدون خلفاء للمسلمين، وكانت تُعد دولة سنية ولا يوجد للمسلمين دولة أوسع منها في ذلك الزمان قبيل ظهور دعوة الشيخ محمد ابن عبد الوهاب.   1 انظر: المصدر السابق ... ص 14- 19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 الدولة الصفوية الرافضية: أما الدولة الصفوية المعاصرة للدولة العثمانية في ذلك الزمان وإن كانت تدعي الإسلام فهي دولة رافضية على مذهب الإمامية وكانت تغالي في الرفض حتى إنها تحارب الدولة العثمانية لأنها منسوبة إلى السنية أشد الحرب بتحريض نصارى الإنكليز، ثم انتهت بمقتل نادر شاه عام 1160هـ واضطرب أمر بلاد فارس، وكان الشيخ محمد بن عبد الوهاب في سن الخامسة والأربعين رحمه الله1. الدولة المغولية في الهند: وكان في ذلك الزمان يوجد في الهند الدولة المغولية2. لكنها كانت بقية ورثها أبناء ملك الهند المغولي الأكبر خان وقد قرّب الشاعر الشيعي المسمى الملا مبارك وولديه - أبا الفائز (وكان شاعراً متصوفاً) وأبا الفضل (وكان فيلسوفاً على طريقة الصوفية المنحرفة) - وجعل فتح الله الشيرازي من أكابر علماء الشيعة من فارس مستشاره الشرعي وهو شديد الوطأة على علماء أهل السنة، وألغى اللسان العربي من بلاطه وجعل الفارسي، مكانه وكان ميالاً إلى التصوف المنحرف ويراه أرقى طريقة إسلامية وهو على طريقة تصوف أهل وحدة الوجود، وله عقائد أخرى   1 انظر: (انتشار دعوة الشيخ ... ) (ص 19 - 20) . 2 انظر: الموسوعة العربية الميسرة فيها كلمة عن (مغول) وأنهم ظهروا بزعامة جنكز خان ثم ادعوا الإسلام كما هو معروف تاريخياً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 منها تناسخ الأرواح - أخذه عن البراهمة1. مما دعا أمثال الشاه ولي الله الدهلوي (ت 1176 هـ) في نهاية هذا العصر المغولي أن يقوم بجهود تكسر الجمود وتطلق العقول لتتمشى مع صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان2. وعندما انتهت دولة المغول في الهند، وطمعت البرتغال الكافرة في مسلمي الهند بسبب فساد ملوك هذه الدولة المغولية، قامت حروب داخلية كثيرة وتغلب فيها الهندوس واستعمرت مسلمي الهند شركة الهند الشرقية الإنجليزية حوالي سنة 1175هـ3. وهذا يبين لنا كيف كان حال المسلمين في الهند قبيل ظهور الشيخ محمد بن عبد الوهاب.   1 انظر: حاضر العالم الإسلامي، تأليف لوثروب الأمريكي ج 4/ 30- 309. وموجز تاريخ تجديد الدين وإحيائه، للمودودي ص 69- 79. وحركة الإنطلاق الفكري وجهود الشاه ولي الله الدهلوي في التجديد لمحمد إسماعيل السلفي ص 56. 2 حركة الانطلاق الفكري ص6، ص 270، 271 - موجز تاريخ تجديد الدين وإحيائه للمودودي ص 79، 80. 3 انظر: المصدر السابق انتشار دعوة الشيخ ... ص 20، 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 في المغرب الأقصى: وكان في المغرب الأقصى دولة العلويين الذين بدأ حكمهم عام 1075هـ ومع أنها دولة مغربية اقتصرت على إقليم المغرب كانت غير سليمة بسبب الفتن بين العرب والبربر والصوفية المنحرفة المنتشرة خصوصاً الطريقة الشاذلية والبدع في الدين1. في غرب أفريقيا: وكان في غرب أفريقيا مجموعة إمارات الهوسا، التي كان أمراؤها قد انتسبوا إلى الإسلام ولكن أكثرهم لم يكن ملتزماً به، وكانت البدع والطرق الصوفية خصوصاً القادرية منتشرة بين قبائل الهوسا من المسلمين والكثير من رعايا إمارات الهوسا ما يزالون على الوثنية، ويسود الجميع روح العصبية للقبيلة إلى جانب الفساد والمظالم في إمارات الهوسا والحروب المستمرة بينها2. في وسط آسيا: وفي أوساط آسيا، كانت روسيا النصرانية في عهد بطرس الأكبر قد استولت على من ينتسب إلى الإسلام في تركستان الشرقية. وكان هؤلاء المنتسبون إلى الإسلام في وادي نهر سيحون يكونون إمارات متفرقة مما أدى إلى ضعفها أمام مطامع روسيا النصرانية، وكانت البدع والطرق   1 انظر: المصدر السابق ... ص 21، 22. 2 انظر: المصدر السابق ... ص 22، 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 الصوفية خصوصاً النقشبندية منتشرة هناك. في الصين: وفي الصين شقي من ينتسب إلى الإسلام بحكم أسرة المانشو التي عملت على إرضاء البوذيين بمضايقة المسلمين. في أندونيسيا: وفي أندونيسيا لم يؤلف المنتسبون إلى الإسلام دولة قوية تلم شملهم ولكن كوّنوا ممالك صغيرة سادتها الخلافات الداخلية وانتشرت فيها البدع ومخلفات جاهلية الهنود والصين والخرافات القديمة، وتغلبت على مقدراتهم الشركة الهولندية1. وهكذا كان حال أهل البلدان الإسلامية في أول القرن الثاني عشر الهجري. وبمقارنة شرك المشركين في زمان الشيخ بشرك مشركي أهل الجاهلية الأولى فإننا نجد أن مشركي الجاهلية الأولى يشركون في الرخاء ويخلصون الدعاء لله في الشدة - وأما مشركو هذا الزمان فإنهم يشركون في الرخاء والشدة على حد سواء. قَال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: "القاعدة الرابعة: أن مشركي زماننا أغلظ شركا من الأولين - لأن الأولين يشركون في   1 المصدر السابق ص 23-25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 الرخاء ويخلصون في الشدة، ومشركو زماننا شركهم دائما في الرخاء والشدة والدليل قوله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65] اهـ من القواعد الأربع. وكان الواقع المشهود والذي سجله أهل التاريخ هو أن كثيراً ممن يعبد الأولياء وأضرحة المشائخ والسادة إنما يفزعون في حال الشدة وحلول المصائب بهم إلى الاستغاثة بمعبوداتهم من دون الله من جني وولي ومعتقد، فهو يهتف بدعاء غير الله إن قام وإن قعد، ترى الرافضي إن حمل شيئاً ثقيلاً هتف يستعين فيقول يا علي أو يا حسين، ومثله من يعبد ولياً أو غيره كمن يهتف ويستهل بالبدوي، وعبد القادر ورسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم في حال الشدائد والكوارث راجياً منهم كشف ضره وشفاء مريضه. هذا فضلاً عن حال السرور والرخاء - فإنه في تلك الحال يقترب إلى معبوداته بما لا يصلح إلا لله تعالى، يرجو مزيد رخائه، ودوام سروره، فهو على الشرك دائما في كل أحواله بخلاف المشركين الأولين الذين ذكر الله قصتهم في القرآن كما ذكرنا آنفاً. ومن تَتَبع آثار الشيخ القولية يمكن استبيان صورة للحالة التي واجهها رحمه الله ورآها منحرفة عن الدين الحق الذي جاء به رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم - وقدمنا قوله من القواعد الأربع في بيان الحد الذي وصل إليه شرك المشركين في زمانه وهو أمر واقع قد رصده أهل التاريخ ولا يزال باقياً في البلدان التي لم تستنر بالدعوة إلى توحيد الله بالعبادة كما دعا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 رسول الله صلى الله عليه وسلم، كالذي يفعل عند البدوي بمصر وعند مشاهد الرافضة بإيران والعراق وغير ذلك. قال الشيخ في معنى (لا إله إلا الله) : "إنها نفي الألوهية عما سوى الله تعالى من المخلوقات حتى محمد صلى الله عليه وسلم حتى جبريل فضلا عن غيرهما من الأولياء والصالحين، وأن هذه الألوهية هي التي تسميها العامة في زماننا السر والولاية، والإله معناه الولي الذي فيه السر وهو الذي يسميه الفقراء الشيخ ويسميه العامة السيد وأشباه هذا، وذلك أنهم يظنون أن الله جعل لخواص الخلق منزلة يرضى أن الإنسان يلتجئ إليهم ويرجوهم ويستغيث بهم ويجعلهم واسطةً بينه وبين الله، فالذي يزعمه أهل الشرك في زماننا أنهم وسائط هم الذين يسميهم الأولون الآلهة. والواسطة هو الإله فقول الرجل لا إله إلا الله إبطال للوسائط". ثم إن الشيخ جعل يبين أن الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا مقرين بتوحيد الربوبية- وهو أنه لا يخلق ولا يرزق ولا يحي ولا يميت ولا يدبر الأمر إلا الله كما قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} [يونس:31] . قال ومع هذا الإقرار يتصدقون ويحجون ويعتمرون ويتعبدون ويتركون أشياء من المحرمات خوفا من الله عز وجل - ومع هذا لم يدخلهم في الإسلام ولم يحرم دماءهم وأموالهم لأنهم لم يشهدوا لله بتوحيد الألوهية وهو أنه لا يدعى إلا الله وحده لا شريك له ولا يستغاث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 ولا يذبح لغيره، ولا ينذر لغيره لا ملك مقرب ولا نبي مرسل فمن استغاث بغيره فقد كفر ومن ذبح لغيره فقد كفر ومن نذر لغيره فقد كفر. والشيخ يبين ذلك ليشخص مشابهة جاهلية أهل زمانه في اعتقادهم لأولئك الذين كانوا في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم وزيادتهم عليهم فيقول: "فإن قال قائل من المشركين نحن نعرف أن الله هو الخالق الرازق المدبر لكن هؤلاء الصالحين مقربون ونحن ندعوهم وننذر لهم وندخل عليهم ونستغيث بهم نريد بذلك الوجاهة والشفاعة وإلا فنحن نفهم أن الله هو المدبر، فقل كلامك هذا مذهب أبي جهل وأمثاله فإنهم يدعون عيسى وعزيرا والملائكة والأولياء يريدون ذلك". كما قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] . وكما قال الله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18] . إلى أن قال الشيخ رحمه الله-إذا عرفت هذا وتأملته جيدا فقد تبين لك صفة الإسلام الذي دعا إليك نبيك صلى الله عليه وسلم وتبين لك أن كثيرا من الناس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 عنه بمعزل وتبين لك معنى قوله صلى الله عليه وسلم (بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ) . ثم يحث رحمه الله على الكفر بالطواغيت ومعاداتهم وبغضهم وبغض من أحبهم وجادل عنهم ومن لم يكفرهم وقال ما عليَّ منهم أو قال - ما كلفني الله بهم فقد كذب هذا على الله وافترى، فقد كلفه الله بهم وفرض عليهم الكفر بهم والبراءة منهم ولو كانوا إخوانهم وأولادهم. ثم قال الشيخ: "ولنختم الكلام بآية ذكرها الله في كتابه تبين لك أن كفر المشركين من أهل زماننا أعظم كفراً من الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال الله تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإنْسَانُ كَفُورًا} [الإسراء: 67] . فقد سمعتم أن الله سبحانه ذكر عن الكفار أنهم إذا مسهم الضر تركوا السادة والمشائخ فلم يدعوا أحداً منهم ولم يستغيثوا به بل أخلصوا لله وحده لا شريك له واستغاثوا به وحده فإذا جاء الرخاء أشركوا. وأنت ترَى المشركين من أهل زماننا، ولعل بعضهم يدعي أنه من أهل العلم وفيه زهد واجتهاد وعبادة إذا مسه الضر قام يستغيث بغير الله مثل معروف أو عبد القادر الجيلاني وأجل من هؤلاء مثل زيد بن الخطاب والزبير وأجل من هؤلاء مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم فالله المستعان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 وأعظم من ذلك وأطم أنهم يستغيثون بالطواغيت والكفرة والمردة مثل شمسان وإدريس ويقال له الأشقر ويوسف وأمثالهم". اهـ1. ويقول الشيخ رحمه الله في رسالته إلى أهل الرياض ومنفوحة وهو إذ ذاك مقيم في العيينة بعد أن بين لهم معنى (لا إله إلا الله) كما سبق - "إذا عرفتهم ذلك فهؤلاء الطواغيت الذين يعتقد الناس فيهم من أهل الخرج وغيرهم مشهورون عند الخاص والعام بذلك وأنهم يترشحون له، ويأمرون به الناس - كلهم كفار مرتدون - عن الإسلام ومن جادل عنهم أو أنكر على من كفَّرهم، أو زعم أن فعلهم هذا لو كان باطلاً فلا يخرجهم إلى الكفر - فأقل أحوال هذا المجادل أنه فاسق لا يقبل خطه ولا شهادته ولا يصلي خلفه، بل لا يصح دين الإسلام إلا بالبراءة من هؤلاء وتكفيرهم". ويقرر الشيخ رحمه الله تعالى وجود متصوفة إتحادية فيقول: "وكذلك أيضاً من أعظم الناس ضلالاً متصوفة في معكال وغيره، مثل: ولد موسى بن جوعان وسلامة بن مانع وغيرهما يتبعون مذهب ابن عربي   1 انظر: نص هذا البيان في روضة ابن غنام جـ1 /175 –178، وتحرير الأسد لروضة ابن غنام ط1 1381 هـ مط المدني ص467 –471، ومجموعة التوحيد، ط السفلية بمصر ص 250- 253 والدرر السنية، ط 2 جـ 2 ص 58- 61. وزيد رضي الله عنه مدفون بنجد والزبير رضي الله عنه بالبصرة فكان أكثر المعاصرين للشيخ يستغيثون بهما، وبالجيلاني، بل في نجد يستغيثون بأُناسٍ يدعون إلى عبادة أنفسهم مثل شمسان وإدريس ويوسف كما ذكر الشيخ هنا وفي غيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 وابن الفارض. وقد ذكر أهل العلم أن ابن عربي من أئمة أهل مذهب الاتحادية، وهم أغلظ كفراً من اليهود والنصارى، فكل من لم يدخل في دين محمد صلى الله عليه وسلم ويتبرأ من دين الاتحادية فهو كافر بريء من الإسلام، ولا تصح الصلاة خلفه ولا تقبل شهادته". ويبين الشيخ رحمه الله حالة علماء السوء الذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له - إذا رأوا من يعلم الناس ما أمرهم به محمد صلى الله عليه وسلم من شهادة أن لا إله إلا الله - وما نهاهم عنه مثل الاعتقاد في المخلوقين الصالحين وغيرهم، قاموا يجادلون ويلبسون على الناس، ويقولون كيف تكفرون المسلمين؟ كيف تسبون الأموات آل فلان أهل ضيف، آل فلان أهل كذا وكذا؟ ومرادهم بهذا لئلا يتبين معنى لا إله إلا الله، ويتبين أن الاعتقاد في الصالحين النفع والضرر ودعائهم كفر ينقل عن الملة فيقول الناس لهم إنكم قبل ذلك جهال، لأي شيء لم تأمرونا بهذا؟ ويبين الشيخ أن من جهالتهم بمعنى لا إله إلا الله أنهم إذا رأوا من يعلم الشيوخ والصبيان أو البدو شهادة أن لا إله إلا الله قالوا: قولوا لهم يتركون الحرام. قال الشيخ رحمه الله: "وهذا من عظيم جهلهم فإنهم لا يعرفون إلا ظلم الأموال، وأما ظلم الشرك فلا يعرفونه - وقد قال الله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} وأين الظلم الذي إذا تكلم الإنسان بكلمة منه، أو مدح الطواغيت أو جادل عنهم خرج من الإسلام ولو كان صائماً قائما؟ من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 الظلم الذي لا يخرج من الإسلام بل إما أن يؤدي صاحبه بالقصاص وإما أن يغفره الله؟ " ا. هـ "وقد سجل تحتها عبد الله بن عيسى فقال بعد أن حمد الله وصلى على رسوله (صلى الله عليه وسلم) - يقول العبد الفقير إلى الله تعالى عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن: "إن أول واجب على كل ذكر وأنثى معرفة شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له" ثم مضى ابن عيسى يقرر شأنها ويدلل عليها من كتاب الله تعالى ويحث على معرفتها ويبين حكم من أشرك فيها إلى أن قال: "فالله الله عباد الله لا تغتروا بمن لا يعرف شهادة أن لا إله إلا الله وتلطخ بالشرك وهو لا يشعر فقد مضى أكثر حياتي ولم أعرف من أنواعه ما أعرفه اليوم، فلله الحمد على ما عَلمنا من دينه ولا يهولنكم اليوم أن هذا الأمر غريب"1 إلى أن قال: "وأما الاتحادي ابن عربي صاحب الفصوص المخالف للنصوص وابن الفارض الذي لدين الله محارب وبالباطل للحق معارض فمن تمذهب بمذهبهما فقد اتخذ مع غير الرسول سبيلا وانتحل طريق المغضوب عليهم والضالين المخالفين لشريعة سيد المرسلين" إلى قوله   1 انظر: الرسالة التي أرسلها الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى أهل الرياض ومنفوحة وهو إذا ذاك مقيم في بلد العيينية، وما سجله عليها الشيخ عبد الله بن عيسى قاضي الدرعية في روضة ابن غنام 1/ص145-150، وفي تحرير الأسد ص341-348. انظر: الدرر السنية جـ8 ص70-73. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 "فإن لم يتب إلى الله من انتحل مذهبهما وجب هجره عن الولاية إن كان ذا ولاية من إمامة أو غيرها فإن صلاته غير صحيحة لا لنفسه ولا لغيره, فإن قال جاهل: أرى عبد الله توه يتكلم في هذا الأمر فيعلم أنه إنما تبين لي الآن وجوب الجهاد في ذلك علي وعلى غيري - لقوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} إلى أن قال: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} "اهـ1. ويبين الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ما عليه أكثر البوادي عنزة وآل ظفير وأمثالهم من عدم إقرارهم بالبعث وعدم اتباعهم كتاب الله وأنهم يقولون: إن كتاب الله عند الحضر، وأنهم عايفينه ومتبعون ما أحدث أباؤهم مما يسمونه الحق، ويفضلونه على شريعة الله وفيهم من نواقض الإسلام أكثر من المائة ناقض كسَبِّ الشرع أو سَبِّ الأذان إذا سمعوه ومع ذلك صرح من يدعي العلم وأنه من العلماء أنه لا يوجد في الجزيرة رجل واحد كافر2. وقد بين الشيخ غلط الكثير في ستة أصول عظيمة من أصول الدين بينها الله تعالى بياناً واضحاً للعوام فوق ما يظنه الظانون فقال ما خلاصته: "أولاً: إخلاص الدين لله - قد أظهر الشيطان لهم أن الإخلاص   1 المصدر السابق روضة ابن غنام ص150. 2 انظر: الرسالة التي أرسلها الشيخ إلى محمد بن عيد من مطاوعة ثرمداء في روضة ابن غنام 1/ 107 - وفي تحرير الأسد لروضة ابن غنام 283- 289. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 تنقص للصالحين وتقصير في حقوقهم وأظهر لهم الشرك بالله في صورة محبة الصالحين واتباعهم. ثانياً: أمر الله بالاجتماع في الدين ونهى عن التفرق.. ثم صار الأمر إلى أن الافتراق في أصول الدين وفروعه هو العلم والفقه في الدين، وأن الأمر بالاجتماع لا يقوله إلا زنديق أو مجنون. ثالثاً: السمع والطاعة لمن تأمر علينا ولو كان عبداً حبشياً.. ثم صار هذا الأصل لا يعرف عند أكثر من يدعي العلم فكيف العمل به؟ رابعاً: بيان العلم والعلماء ومن تشبه بهم وليس منهم … ثم صار هذا أغرب الأشياء وصار العلم والفقه هو البدع والضلالات وخيار ما عندهم لبس الحق بالباطل، وأما العلم الذي فرضه الله على الخلق ومدحه لا يتفوه به إلا زنديق أو مجنون، وصار من أنكره وعاداه وجدَّ في التحذير عنه والنهي عنه هو الفقيه العالم. خامساً: بيان الله للأولياء وتفريقه بينهم وبين المتشبهين بهم من أعدائه المنافقين والفجار … ثم صار الأمر عند أكثر من يدعي العلم وأنه من هداة الخلق وحفاظ الشرع إلى أن الأولياء لا بد فيهم من ترك اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ومن اتبعه فليس منهم، ولا بد من ترك الجهاد، فمن جاهد فليس منهم، ولا بد من ترك الإيمان والتقوى، فمن تقيد بالإيمان والتقوى فليس منهم. سادساً: كشف شبهة الشيطان وهي أن القرآن والسنة لا يعرفهما إلا المجتهد المطلق الموصوف بكذا وكذا، أوصافاً لعلها لا توجد تامة في أبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 بكر وعمر، فإن لم يكن الإنسان كذلك فليعرض عنهما فرضاً حتما لا شك ولا إشكال فيه، ومن طلب الهدى منهما فهو إما زنديق وإما مجنون لأجل صعوبة فهمهما. فسبحان الله وبحمده، كم يبين الله سبحانه شرعاً وقدرا، ً خلقاً وأمراً في رد هذه الشبهة الملعونة من وجوه شتى بلغت إلى حد الضروريات العامة, ولكن أكثر الناس لا يعلمون"1. وكان بعض الناس في عهد الشيخ يتحايل بطريقة الوقف أو الهبة أو القسمة لحرمان النساء من حقهن تحايلاً وصفه الشيخ في إحدى رسائله بقوله: "إذا أراد الإنسان أن يقسم ماله على هواه، وفر من قسمة الله، مثل أن يريد أن امرأته لا ترث من هذا النخل ولا تأكل منه إلا حياة عينها، أو يريد تفضيل بعض أولاده على بعض، أو يريد أن يحرم نسل البنات" إلى أن قال: "ويفتي له بعض المفتين أن هذه البدعة الملعونة صدقة بر تقرب إلى الله ويوقف على هذا الوجه قاصداً وجه الله" ووصف الشيخ هذا (بالجنف والإثم) وشدد النكير على فاعله وأقام الأدلة الشرعية على بطلانه"2.   1 انظر: الدرر السنية، جـ 1 ص 99- 101. 2 انظر: فتوى الشيخ في إبطال وقف الجنف والإثم في مؤلفات الشيخ - القسم الخامس، الشخصية رقم 12 ص 78- 85. وانظر: روضة ابن غنام 1/ 124- 129. وانظر: حمد الجاسر، المرأة في حياة إمام الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ص 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 وقدمت هذه النقول التي اخترتها مما كتبه الشيخ نفسه وصدق على بعضها ابن عيسى قاضي الدرعية أمثلة صادقة تبيِّن صورة واضحة لواقع البيئة من حول الشيخ وحال الناس في زمانه (رحمه الله) من دين الله الذي بعث به رسوله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم. تابع (1) عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية تابع للمبحث الأول: تصوير ابن غنام للواقع الديني: ويذكر المؤرخ حسين بن غنام حالة الناس قبيل قيام الشيخ محمد بن عبد الوهاب بالدعوة إلى الإسلام الذي أرسل الله به رسوله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وأورد هنا خلاصة ذلك: في مطلع القرن الثاني عشر الهجري كان أكثر الناس قد انهمكوا في الشرك وارتدوا إلى الجاهلية وانطمست بينهم أنوار الإسلام والسنة، لذهاب أهل العلم والبصيرة وغلبة أهل الجهل واستعلاء ذوي الأهواء والضلال- نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم واتبعوا ما وجدوا عليه آباءهم من الضلال ظانين أنهم أدرى بالحق وأعلم بطريق الهدى. عدلوا عن عبادة الله وحده إلى عبادة الأولياء والصالحين من الأموات والأحياء يستغيثون بهم في النوازل والكوارث، ويقبلون عليهم في الحاجات والرغبات، ويعتقدون النفع والضر في الجمادات كالأحجار والأشجار، ويعبدون أهل القبور ويصرفون لهم الدعاء والنذور في حالتي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 الضراء والسراء سواء زائدين على مشركي الجاهلية الأولى حيث كانوا إذا مسهم الضر لا يدعون إلا الله مخلصين له الدين، أما إذا نجاهم الله فهم مشركون. لكن هؤلاء أحبوا أوثانهم من دون الله محبة أعظم من محبتهم لله؛ سرت في سويداء قلوبهم وبدت على صفحات وجوههم وألسنتهم وجوارحهم وبذلوا أعمارهم وحياتهم في دفع الحق ومن يبديه، وهذا ليس في قطر دون آخر ولكنه في غالب الأقطار، كما أنه ليس في أول زمن الشيخ فحسب، بل كان بدؤه من قديم حيث التغيير والابتداع والاختلاف بعد زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمان من بعده، من أهل القرون الفاضلة ثم تعاقبت العصور وتوالت السنون والغي يزداد والضلال ينتشر حتى جاء من اعتقد أن الدين هو ذلك الضلال والبدع لأنهم وجدوا آباءهم وأجدادهم وأسلافهم عليه فقالوا إنا على آثارهم مقتدون. وقد نص على ذلك كثير من العلماء في كتبهم المصنفة فيما حدث من البدع والحوادث وما غير من منار الدين وشعائر الإسلام. كان في بلدان نجد من ذلك أمر عظيم، يأتون عند قبر زيد بن الخطاب في الجبيلة فيدعونه لتفريج الكرب، وكشف النوب، وكان عندهم مشهوراً بذلك ومذكوراً بقضاء الحوائج. وكانوا يزعمون أن في قريوة في الدرعية قبور بعض الصحابة فعكفوا على عبادتها وصار أهل تربتها أعظم في صدورهم من الله. وفي شعيب غبيراء، يزعمون أن فيه قبر ضرار بن الأزور وهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 مكذوب يأتون من المنكر عنده ما لا يعهد مثله. وكان الرجال والنساء يأتون بليدة الفدا لفحل النخل الذي فيها ويفعلون عنده أقبح الأفعال ويتبركون به ويعتقدون فيه، فكانت المرأة إذا تأخرت عن الزواج تأتيه فتضمه بيديها ترجو أن يفرج عنها كربها وتقول: يا فحل الفحول أريد زوجاً قبل الحول. وكانت طوائف من الناس تنتاب شجرة الطرفية يتبركون بها ويعلقون الخرق عليها إذا ولدت المرأة ذكرا لعله يسلم من الموت. وفي أسفل الدرعية غار كبير يزعمون أن امرأة تسمى بنت الأمير أراد بعض الفسقة أن يظلمها فصاحت فانفلق لها الغار وأجارها من ذلك السوء، فكانوا يرسلون إلى ذلك الغار اللحم والخبز ويبعثون بصنوف الهدايا إليه. وكان عندهم رجل يزعمونه من الأولياء اسمه (تاج) سلكوا فيه سبيل الطواغيت، فصرفوا إليه النذر، وتوجهوا إليه بالدعاء، واعتقدوا فيه النفع والضر، وكانوا يأتونه لقضاء شؤونهم أفواجاً وكان هو يأتي إليهم من بلدة الخرج إلى الدرعية لتحصيل ما تجمع من النذور والخراج، وكان أهل البلاد المجاورة يعتقدون فيه اعتقاداً عظيماً حتى خافه الحكام وهابه أعوانه وحاشيته الناس فلا يتعرضون لهم بما يكرهون، ويدعون فيه دعاوى فظيعة، وينسبون إليه حكايات قبيحة، وكانوا لكثرة ما تناقلوها وأذاعوها - يصدقون ما فيها من مين وزور، زعموا أنه أعمى وأنه يأتي من بلده الخرج من غير قائد يقوده وغير ذلك من الحكايات والاعتقادات التي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 ضلوا بسببها عن الصراط المستقيم، وأعرضوا عن إخلاص الدعاء لله وحده رب العالمين. وأما ما يفعل في الحرم المكي الشريف - زاده الله رفعة وتشريفاً - فهو يزيد على غيره كثيراً، ففي تلك البقاع المطهرة تأتي جماعات الأعراب من الفسوق والضلال والعصيان ما يملأ القلب أسى وحزناً - فلقد انتهكت فيه المحرمات والحدود، وتظاهر بذلك جم غفير، ولم يكن لأهل العلم تغيير، بل صادموا الحق (وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق) . فمن ذلك ما يفعل عند قبة أبي طالب، وهم يعلمون أنه حاكم متعد غاصب كان يخرج إلى بلدان نجد ويضع عليهم خراجاً فإن أعطي ما أراد انصرف وإلا عاداهم وحاربهم، فصاروا يأتون قبره بالسماعات والعلامات يستغيثون به عند حلول المصائب ونزول الكوارث. وكذلك ما يفعل عند قبر المحجوب، يعظمون أمره ويحذرون سره ويطلبون عنده الشفاعة ومغفرة الذنوب. وإن التجأ سارق أو متعد أو غاصب إلى أحد هذين القبرين لم يتعرض له أحد بما يكره، ولا يخشى معاقبة، أما إن تعلق جان مهما تكن جنايته صغيرة، بالكعبة فإنه يسحب منها سحباً لا يرعون للكعبة حرمة. ومن ذلك أيضاً: ما يفعل عند قبر ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين رضي الله عنها في سرف وعند قبر خديجة رضي الله عنها في المعلاة؛ من اختلاط النساء بالرجال وفعل الفواحش والمنكرات، وارتفاع الأصوات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 عندهما بالدعاء والاستغاثة وتقديم الفدية، مما لا يسوغ لمسلم أن يبيحه فضلاً عن أن يراه قربة وعبادة، وكذلك ما يأتونه عند قبر عبد الله بن عباس رضي الله عنهما بالطائف من هذه الأمور التي تشمئز منها نفس الجاهل فكيف بالعالم؟ يقف عند قبره المكروب والخائف متضرعاً مستغيثاً في حالة عبوديته، وينادي أكثر الباعة في الأسواق: (اليوم على الله وعليك يا ابن عباس) ثم يسألونه ويسترزقونه. وأما ما يفعل عند قبره عليه الصلاة والسلام من الأمور العظيمة المحرمة - كتعفير الخدود، والانحناء، والسجود خضوعاً وتذللاً، واتخاذ ذلك القبر عيداً - فهو أعم من أن يخفى، وأعظم من أن يذكر، لشهرته وشيوعه. وقد لعن الرسول صلى الله عليه وسلم فاعله وكفى بذلك زجراً ووعيداً ونهى عما يفعل عنده الآن غالب العلماء، وغلظوا في ذلك تغليظاً شديداً. ويكل اللسان عن وصف ما يفعل عند قبر حمزة، وفي البقيع وقبا، ويعجز القلم عن بيانه مهما يكتفي بذكر القليل منه: وليس يصح في الأذهان شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل وأما يفعل في جدة فقد عمت به البلوى وبلغ من الضلال والفحش الغاية، فعندهم قبر طوله ستون ذراعاً عليه قبة، يزعمون أنه قبر حواء، وضعه بعض الشياطين من قديم وهيأه، فيجبي عنده السدنة من الأموال كل سنة ما يكاد أن لا يخطر بالبال ولا يدخل إنسان ليسلم على أمه إلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 عجل بتقديم الدراهم - وكيف لا … أيبخل أحد من اللئام فضلاً عن الكرام، ببذل بعض حطام الدنيا في سبيل الدخول على أمه والسلام عليها. وعندهم معبد يسمى العلوي، فاقوا في تعظيمه جميع الخلائق: فلو دخل قبره سارق أو غاصب أو قاتل لم يعترضه مؤمن ولا فاسق بمكروه، ولم يجرؤ أحد أن يخرجه منه، فمن استجار بتربته أجير، ولم ينله أحد من الحكام بأذى. وفي سنة 1210هـ عشر بعد المائتين والألف اشترى تاجر من أهل جدة أموالاً من تجار الهند والحسا القادمين تزيد على سبعين ألف ريال فانكسر بعد أيام وأفلس وتغيرت حاله ولم يبق عنده ما يقابل نصف الذي عليه، فهرب إلى ذلك المعبد مستجيراً، فلم يتقدم إليه من الناس شريف ولا وضيع ولا كبير ولا صغير، وترك بيته وما فيه من مال ومتاع، ولم يرزأ بقليل ولا كثير، حتى اجتمع التجار ورأوا أن ينظروه وييسروا عليه، وجعلوا المال عليه نجوماً في سنين وكان بعض أهل الدين من المشيرين بذلك. وأما ما يجري في بلدان مصر وصعيدها من الأمور التي ينزه الإنسان عن ذكرها خصوصاً عند قبور الصلحاء والعباد، كما ذكرها الثقات في نقل الأخبار وروايتها فأكثر من أن يحصى. فمنها: أنهم يأتون قبر أحمد البدوي وقبور غيره من العباد والزهاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 والمشهورين بالخير فيستغيثون ويندبون ويسألونهم المدد ويستحثونهم على كشف المصائب، ويتداولون بينهم حكايات، وينسبون إليهم كرامات، ويحكون في محافلهم خرافات من أفحش المنكرات فيقولون فلان استغاث بفلان. فسارع إلى إغاثته!. وفلان شكا لصاحب ذلك القبر حاله فأغاثه وكشف عنه ضره. وفلان شكا إليه حاجته فأزال عنه فقره. وأمثال هذا الهذيان المليء بالزور والبهتان. ويصدر هذا الكلام في ذلك البلاد وهي مملؤة بالعلماء وذوي التحقيق والعرفان، ويبقى ذلك المنكر لا يزال بل ربما تنشرح له صدورهم. وأما ما يفعل في بلدان اليمن من الشرك والفتن، فأكثر من أن يستقصى - فمن ذلك ما يفعله أهل شرقي صنعاء بقبر يسمى الهادي، كانوا يغدون عليه جميعاً ويروحون يدعونه ويستغيثون به، فتأتيه المرأة إذا تعسر حملها أو كانت عقيماً فتقول عنده كلمة عظيمة قبيحة - فسبحان من لا يعاجل بالمعاقبة على الذنوب. وأما أهل برع فعندهم البرعي، وهو رجل يرحل إلى دعوته كل دان وقاص، ويؤتى إليه من مسيرة أيام وليال لطلب الإغاثة وشكاية الحال، ويقيمون عند قبره للزيارة ويتقربون إليه بالذبائح، كما حقق أخباره من شاهدها. وأما أهل الهجرية: فعندهم قبر يسمى علوان وقد أقبل عليه العامة في نوائب الزمان واستغاث به منهم كل لهفان ويسميه غوغاؤهم منجي الغارقين، وأغلب أهل البر والبحر منهم يطربون عند سماع ذكره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 ويستغيثون به وإن لم يصلوا إلى قبره وينذر له في البر والبحر وعند أهل بلده نذوراً تزيد عن الحصر ويفعلون عند قبره السماعات والموالد ويجتمع عنده أنواع من المعاصي والمفاسد وليس في أقطار اليمن مثله في الاشتهار، ولهم في حضرته أمور يفعلونها تديناً كطعنهم أنفسهم بالسكاكين والدبابيس ويقولون وهم يرقصون طربين وقد ملأ الوجد ألبابهم (يا سادتي قلبي بكم معنى) . وأما حال حضرموت والشحر ويافع وعدن: فقد ثوى فيهم الغي والضلال عندهم العيدروس يفعل عند قبره من السفه والشرك ما يكفي ذكر مجمله. يقول قائلهم: "شيء لله يا عيدروس! … شيء لله يا محيي النفوس!! ". وأما بلدان الساحل فعندهم الكثير: أهل المخا عندهم الشاذلي - أكثرهم يدعوه ويستغيث به، ولا تفتر ألسنتهم عن ذكره قعوداً وقياماً وينتابون تربته وحدانا وجمعاً. وأهل الحديدة عنهم الشيخ صديق يعظمونه ويغلون فيه إلى أنه لا يمكن أحد أن يركب البحر أو ينزل منه إلى البر حتى يجيء إليه ويسلم عليه ويطلب منه الإعانة والمدد فيما أراد. وأما أهل اللحية فعندهم الزيعلي واسمه عندهم الشمس لأن قبره ليس عليه قبة، يصرفون إليه جميع النذور ويعظمونه ويدعونه أشد ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 يكون ذلك عبادة وضراعة، ويحكي عنه أهل البادية منهم أنه كان رسولاً في حاجة فأراد أن يدخل بلده والشمس متدلية للغروب فقال لها قفي فوقفت وسمعت قوله وامتثلت فدخل بلده نهارا. وعندهم قبر رابعة مشهور لا يحلفون يمينا صادقا إلا بها. وفي أراضي نجران الطامة المعضلة وهو الرئيس المعروف بالسيد فقد أتى أهل نجران وما يليهم من الأعراب والقبائل من تعظيمه والغلو فيه والاعتقاد الشركي ما أفضى بهم إلى الضلال والإلحاد، صرفوا له من أنواع العبادة سهماً وجعلوا فيه للألوهية قسماً حتى كادوا يجعلونه لله نداً وكان عندهم بذلك الحال شهيراً - تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً. وأما في حلب ودمشق وأقصى الشام وأدناه فهو مما لا يوقف له على حد ولا يمكن ضبط قدره بحسب ما يحكيه من يشاهد ذلك أو يراه من العكوف على عبادة القبور وصرف القربان إليها والنذور والمجاهرة بالفسوق والفجور وأخذ المكوس وإحلال الدستور الوضعي محل الشريعة الربانية وتنظيم عمل البغايا ووضع الخراج عليهن من مهورهن الخبيثة. وفي الموصل وبلدان الأكراد وما يليها من سائر البلاد وفي العراق عموماً وفي المشهد وبغداد خصوصاً ما لا يقدر على حصره وتعداده مما يفعل عند قبر الإمام أبي حنيفة ومعروف الكرخي والشيخ عبد القادر رضي الله تعالى عنهم من الدعاء والاستغاثة بهم والطلب منهم في سائر الأوقات والأزمان ويحصل من التعظيم والتذلل عندهم والخضوع أعظم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 مما يصدر بين يدي الله في الصلاة، واشتهر عندهم أن كثيراً ممن يفعل ذلك وجرب وجد أنهم لقضاء الحوائج ترياق مجرب. وأما مشهد علي رضي الله عنه فقد صيرته الرافضة (لعنها الله) وثناً يعبد، يدعونه بخالص الدعاء من دون الله تعالى ويصلونله في قبته ويركعون ويسجدون، وليس في قلوبهم من تعظيم الله معشار ما فيها لعلي رضي الله عنه يحلفون بالله الأيمان الكاذبة ولا يخافون، أما علي فلا يحلف به أحدهم كاذباً أبداً، ويجزمون أن عنده مفاتح الغيب. ولهذا يقولون إن زيارته أفضل من سبعين حجة، ولقد غلوا فيه وأتوا من الشرك أعظم مما فعل النصارى بالمسيح سوى دعوى الولدية، وزخرفوا على قبره قبة مذهبة. ومثل ذلك الشرك يفعل عند مشهد الحسين والكاظم. ولقد شب فيهم على ذلك الكفر الرعاع والأطفال وشابوا عليه، فلا يسمع بينهم ذكر الله وإنما ديدنهم ذكر علي والحسين وبقية الآل … وكفى بما ذكر حجة عليهم في خروجهم عن الإسلام. وكذلك جميع قرى الشط والمجرة وما حول البصرة وما توسط فيها من تلك القبب والمشاهد كقبر الحسن البصري والزبير رضي الله عنهما يطلبون منهما الفرج ويصرفون لهما من العبادة الدعاء والإستغاثة عند الشدائد لا يجحد إلا مباهت مكابر. وأما في القطيف والبحرين فالبدع الرفضية الشركية والمشاهد الوثنية التي لا تكاد تخفى على أحد من الناس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 وعلى العموم فإن من رأى أفعال الناس في بلاد المسلمين مما أشرنا إليه وهو عارف بالإيمان تبين له غربة الإسلام في ذلك الزمان وصيرورة الحظوظ الدنيوية والشهوات النفسية غايتهم ومقصدهم وسرهم في الخلق والإيجاد. وهذا في الغالب الأكثر وليس عليه جميع المسلمين حيث إن الله تعالى لا يجمع الأمة على ضلالة ولا يعمها بالسفاهة والجهالة كما ثبت ذلك في صحيح الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكما أخبر أيضاً أن في أمته أناس لا يزالون بهديه يستمسكون إلى قيام الساعة كما أن أكثرهم في أزمنة الغربة مخطؤون وعن هدي الرسول صلى الله عليه وسلم ومنهاجه منحرفون ... وهذا مما زينه الشيطان واقتضته الطباع الناقصة والنفوس البشرية حتى إن ذلك يوجد من بعض العلماء المنتسبين إلى أحد المذاهب المعتصبين فلا يقبلون من الدين رأياً ولا رواية إلا ما كان لأصحابهم به عمل أودراية، فيرفض السنن النبوية واتباعه ولو عرف أن الحق ليس مع مذهبه وقد يحمله التعصب على الطعن في الأئمة وثلبهم، وكذلك من المتعبدة والمتصوفة من يرى طريقة العلم سفاهة وضلالاً، ويدعي أن العلماء لم يشربوا من صافي الشريعة ومعينها. كبرت فرية وكذبة من هؤلاء المتصوفة. وقال ابن غنام عن الذبح للجن تقرباً إليهم وقصد الذابح أن يبرأ مريضه من شكواه: "ومن العجب أن ذلك يفعل في بلدان العارض وغيرها لا ينكره أحد من علمائهم على من فعله بل منهم من يفتي الجهال بذلك فيقول: اذبحوا على هذا الصبي أو هذا المريض ذبيحة سوداء للجن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 ولا تسموا عليها، وقصده بذلك أن الجن يزيلون ذلك المرض إذا ذبحت لهم تلك الذبيحة. فلما أظهر الله هذا الشيخ، ونهى عن ذلك، وبلغ الناس كلام الله وكلام رسوله وكلام أهل العلم؛ أن ذلك كفر وردة؛ ينكر ذلك عليه من يزعم أنه من العلماء فهل يشك أحد من العلماء أن ذلك كفر وشرك وعبادة للجن ... نعوذ بالله من الطبع على القلب"1. انتهى ما أردت تلخيصه وتحريره من روضة ابن غنام في وصف البيئة التي كانت من حول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله زمانا ومكانا2. وصف الشيخ عبد اللطيف غربة الدين: ومثل ذلك ذكره الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن في نبذته المفيدة عن حال جده الشيخ محمد بن عبد الوهاب حين أتى على وصف أهل عصره ومصره، وقرر أن غربة الإسلام قد اشتدت بينهم وغلب على الأكثرين ما كان عليه أهل الجاهلية من الجهل والتقليد والإعراض عن السنة والقرآن وقبول أحاديث الكهان والطواغيت، والآثار   1 روضة.. . 1/ 137، 138. 2 انظر: تاريخ ابن غنام، روضة الأفكار، ج1 ص 5 - 25، 137، 138. وتحرير الأسد لروضة ابن غنام، ص 10- 19، وص20 -26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 الموضوعات والحكايات المختلقة والمنامات كما يفعل أهل الجاهلية، وكثير منهم يعتقد النفع والضر في الأولياء والصالحين والأوثان والأصنام والشياطين والأحجار والجمادات، فيستغيثون بهم ويتعلقون ويتبركون بآثارهم وقبورهم في جميع الأوقات حتى نسوا الله فأنساهم أنفسهم. واستمر الشيخ عبد اللطيف في وصف البيئة على نحو ما وصف ابن غنام رحمهما الله تعالى1. وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن في نصيحة للإمام فيصل بن تركي "ومن طاف البلاد وخبر أحوال الناس منذ أزمان متطاولة عرف انحرافهم عن هذا الأصل الأصيل (ويعني به معرفة الله بصفات كماله ونعوت جلاله ووصفه بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله وعبادته وحده لا شريك له والكفر بما سواه من الآلهة والأنداد) وبعدهم عما جاءت به الرسل من التفريع والتأصيل وكل بلد وكل قطر وكل جهة فيما نعلم فيها من الآلهة التي عبدت مع الله بخالص العبادات وقصدت من دونه في الرغبات والرهبات ما هو معروف مشهور لا يمكن جحده ولا إنكاره، بل وصل إلى أن ادعى لمعبوده مشاركة في الربوبية بالعطاء والمنع والتدبيرات، ومن أنكر ذلك عندهم فهو خارجي ينكر الكرامات وكذلك في باب الأسماء والصفات رؤساؤهم وأحبارهم معطلة، وكذلك يدينون بالإلحاد والتحرفات وهم يظنون أنهم من أهل التنزيل   1انظر: الرسائل والمسائل ج 3/381- 388. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 والمعرفة باللغات، ثم إذا نظرت إليهم وسبرتهم في باب العبادات رأيتهم قد شرعوا لأنفسهم شريعة لم تأت بها النبوات وهذا وصف من يدعي الإسلام منهم في سائر الجهات"1. كلام ابن بشر عن فشو الشرك: وقال المؤرخ ابن بشر ما نصه: "وكان الشرك إذ ذاك قد فشا في نجد وغيرها وكثر الاعتقاد في الأشجار والأحجار والقبور والبناء عليها والتبرك بها والنذر لها والاستعاذة بالجن والذبح لهم ووضع الطعام لهم وجعله لهم في زوايا البيوت لشفاء مرضاهم ونفعهم وضرهم والحلف بغير الله وغير ذلك من الشرك الأكبر والأصغر. والسبب الذي أحدث ذلك في نجد - والله أعلم - أن الأعراب إذا نزلوا في البلدان وقت الثمار وصار معهم رجال ونساء يتطببون ويداوون، فإذا كان في أحد من أهل البلد مرض أو في بعض أعضائه أتى أهله إلى متطببة ذلك القطين من البادية فيسألونهم عن دواء علته فيقولون لهم: اذبحوا له في الموضع الفلاني كذا وكذا إما خروفاً بهيماً أسود وإما تيساً أصمع وذلك ليحققوا معرفتهم عند هؤلاء الجهلة، ثم يقولون لهم: لا تسموا الله على ذبحه. وأعطوا المريض منه كذا وكذا وكلوا منه كذا وكذا واتركوا كذا وكذا فربما يشفي الله مريضهم فتنة لهم واستدراجاً. وربما   1 الرسائل والمسائل ج3/157. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 يوافق وقت الشفاء حتى كثر ذلك في الناس وطال عليهم الأمد فوقعوا بهذا السبب في عظائم - وليس للناس من ينهاهم عن ذلك فيصدع بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ورؤساء البلدان وظلمتهم لا يعرفون إلا ظلم الرعايا والجور والقتال لبعضهم بعضاً"1. قول الشيخ ابن باز - عن الحالة الدينية: ويقول الشيخ عبد العزيز بن باز: "كان أهل نجد قبل دعوة الشيخ على حالة لا يرضاها مؤمن، كان الشرك الأكبر قد انتشر في نجد حتى عبدت القباب والأشجار وعبدت الغيران وعبد من يدعي بالولاية وهو من المعتوهين أو المجانين، واشتهر في نجد السحرة والكهنة وسؤالهم وتصديقهم وليس هناك منكر إلى من شاء الله وغلب على الناس الإقبال على الدنيا وشهواتها وقل القائم لله والناصر لدين الله. وهكذا في الحرمين الشرفين وفي اليمن اشتهر فيها ذلك الشرك وبناء القباب على القبور ودعاء الأولياء والإستغاثة بهم. وفي اليمن من ذلك ما لا يحصى ما بين قبر وما بين غار وبين شجرة وبين مجذوب ومجنون يدعى من دون الله ويستغاث به مع الله وكذلك مما عرف في نجد واشتهر دعاء الجن والاستغاثة بهم وذبح الذبائح لهم وجعلها في الزوايا من البيوت رجاء نجدتهم وخوف شرهم"2.   1 ابن بشر عنوان المجد، 1/6، 7. 2 محمد بن عبد الوهاب، دعوته وسيرته، محاضرة للشيخ عبد العزيز بن باز، الدار السعودية للنشر، ص23-24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 كلام الشيخ ابن حميد - عن الإنحراف الواقع: ويقول الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد بعد أن تحدث عن أسباب رؤية الشيخ محمد بن عبد الوهاب للواقع من حوله: "كل ذلك قد أعطاه النظر الفاحص لما عليه قومه وبنو جلدته ومن جاورهم من البلدان من الانحراف عن طريق الإسلام الصحيح يصل في بعض الحالات إلى الشرك الأكبر المخرج من الملة. فقد رأى في تلك المناطق مرتعا للخرافات والعقائد الفاسدة التي تتنافا مع أصول الدين، فكان هناك قبور تنسب إلى بعض الصحابة يقصدها الناس ويطلبون منها حاجاتهم ويستغيثون بها لرفع كروبهم وقضاء حاجاتهم، ولقد وصل الحال في بعضهم أن اتجهت العوانس من النساء إلى فحل من فحول النخل يرددون بعبارة مسجوعة: (يافحل الفحول أريد زوجا قبل الحول) وكما انتشرت هذه الخرافات في نجد رأى مثلها في الحجاز وفي البصرة والزبير وسمع مثلها في العدن واليمن فوزن هذه الأفعال المنكرة بميزان الوحيين كتاب الله وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه المتقين فرآهم في بعد عن منهج الدين وروحه - حيث رأى أنهم لم يعرفوا لماذا بعث الله الرسل؟ ولماذا بعث الله محمداً للناس كافة؟ رآهم غيروا أصول الدين وفروعه إلا القليل ... هذه إشارة إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 وضعهم الديني"1. كلام الشيخ البسام: أن بيئة العالم الإسلامي من حول الشيخ محمد (بيئة جاهلة جافية، متقاطعة متباعدة) 2. وصف الأمير الصنعاني ظهور البدع وطغيان الضلال: وإذا تجاوزنا علماء الدعوة من نجد والتمسنا ما يقوله العلماء من غيرهم - فإننا نجد الأمير محمد بن إسماعيل الصنعاني يصف ظهور المبتدعات وطغيان الضلال وغربة الدين في قصيدته البائية المشهورة فيقول: طغى الماء من بحر ابتداع على الورى ... فلم تنج منه مركب وركاب وطوفان نوح كان في الفلك أهله ... فنجاهم والغارقون تباب فأنى لنا فُلْكٌ ينجي وليته ... يطير بنا عما نراه غراب وأين إلى أين المطار وكل ما ... على ظهرها يأتيك منه عجاب نسائل من دار الأراضي سياحة ... عسى بلدة فيها هدى وصواب فيخبر كل عن قبائح ما رأى ... وليس لأهليها يكون متاب   ـ1 الشيخ محمد بن عبد الوهاب وحقيقة دعوته، للشيخ عبد الله بن حميد مطبوعة ضمن هداية الناسك ومعه مجموعة رسائل الطبعة السابعة 1398هـ، ص 91- 92. 2 علماء نجد، خلال ستة قرون 1/42. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 لأنهم عدّوا قبائح فعلهم ... محاسن يرجى عندهن ثواب كقوم عراة في ذرا مصر ما علا ... على عورة منهم هناك ثياب يدورون فيها كاشفي عوراتهم ... تواتر هذا لا يقال كذاب يعدون في مصر من فضلائهم ... دعاؤهم فيما يرون مجاب وفيها وفيها كل مَا لا يعده ... لسان ولا يدنوا إليه خطاب وفي كل مصر مثل مصر وإنما ... لكل مسمى والجميع ذئاب ترى الدين مثل الشاة قد وثبت لها ... ذئاب وما عنه لهن ذهاب لقد مزقته بعد كل ممزق ... فلم يبق منه جثة وإهاب وليس اغتراب الدين إلا كما ترى ... فهل بعد هذا الإغتراب إياب فيا غربة هل يرتجى منك أوبة ... فيجبر من هذا البعاد مصاب فلم يبق للراجي سلامة دينه ... سوى عزلة فيها الجليس كتاب ويعني بالكتاب القرآن الكريم إلى أن قَال يصف موقف أهل الأرض مما حواه القرآن الكريم: ولكن سكان البسيطة أصبحوا ... كأنهم عما حواه غضاب فلا يطلبون الحق منه وإنما ... يقولون من يتلوه فهو مثاب فإن جاءهم فيه الدليل موافقاً ... لما كان للآباء إليه ذهاب رضوه وإلا قيل هذا مؤول ... ويركب في التأويل فيه صعاب تراه أسيراً كل حبر يقوده ... إلى مذهب قد قررته صحاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 هذا ما يصف به الأمير الصنعاني أهل زمانه من بعدهم عن كتاب الله وعدم رجوعهم إليه ولكن يسخرونه في تقرير مذاهبهم التي جعلوها هي الأصول التي يزنون بها دينهم أما كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ففي غربة شديدة في أراضي المسلمين وبلدانهم وأمصارهم وحل محلها في الظهور والإشتهار المبتدعات والعصبية للمذاهب المخالفة. والشيخ الصنعاني معاصر للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وزمانه هو زمانه - ولقد أثنى على الشيخ محمد بن عبد الوهاب بقصيدة مطلعها: سلام على نجد ومن حل في نجد ... وإن كان تسليمي على البعد لا يجدي وفي هذه القصيدة أيضاً بيان صورة صحيحة للبيئة التي كانت في ذلك الزمان كقوله يتحدث عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب ويصف ما لاقاه من ضلال الناس: ويعمر أركان الشريعة هادماً ... مشاهد ضل الناس فيها عن الرشد أعادوا بها معنى سواع ومثله ... يغوث وود بئس ذلك من ود وقد هتفوا عند الشدائد باسمها ... كما يهتف المضطر بالصمد الفرد وكم عقروا في سوحها من عقيرة ... أهلت لغير الله جهلاً على عمد وكم طائف حول القبور مقبل ... ومستلم الأركان منهن باليد إلى آخر ما أنشده رحمه الله من هذه القصيدة الجيدة، وقد ذكر إنكاره للغلو الذي اشتمل عليه دلائل الخيرات وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 الغلو ولكن الجهال صيروا دلائل الخيرات أعظم من القرآن، فأقبلوا على تلاوته هاجرين لكتاب الله القرآن العظيم. ثم ذكر بدعة التعصب للمذاهب المخالفة للدليل حتى إن من خالفها لدليل من القرآن والسنة يناله من المتعصبين كل الأذى بأنياب الأفاعي والسباع وأسواط الذم والغيبة والجفاء والتنقيص بلا حق ولا ذنب سوى أنه يتابع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرد إلى وحي الله المنزل - هذا الذي عده الجهال ذنباً - فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ثم ذكر بدعة التصوف وطريقة ابن عربي وضلالهم المنتشر إلى أن قَال رحمه الله تعالى: ومن يطلب الإنصاف يدلي بحجة ... ويرجع أحيانا ويهدي ويستهدي وهيهات كل في الديانة تابع ... أباه كأن الحق في الأب والجد وقد قَال قبلهم كل مشرك ... فهل قدحوا هذي العقيدة من زند كذا أصحاب الكتاب تتابعوا ... على ملة الآباء فرداً على فرد وهذا اغتراب الدين فاصبر فإنني ... غريب وأصحابي كثيرٌ بلا عد إذا ما رأوني عظموني وإن أغب ... فكم أكلوا لحمي وكم مزقوا جلدي1 هذه الشهادة من عالم أهل اليمن الأمير محمد بن إسماعيل الصنعاني الحسيني.   1 ديوان الصنعاني ص 18- 22، ص128- 133. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 شهادة الشيخ حسين بن مهدي النعمي: ومن اليمن أيضاً نورد شهادة من أحد علمائها الموثوقين هو العالم المحقق الشيخ حسين بن مهدي النعمي المتوفى سنة 1187هـ يصف لنا البيئة وواقع الناس في زمانه فيقول: "إن ما فشا في العامة، ومن امتاز عنهم بالاسم فقط، هو كون هجير أهم عند الأموات ومصارع الرفات: دعاؤهم والاستغاثة بهم، والعكوف حول أجداثهم ورفع الأصوات بالخوار، وإظهار القافة والإضطرار، واللجأ في ظلمات البحر، والتطام أمواجه الكبار، والسفر نحوها بالأزواج والأطفال والله قد علم ما في طي ذلك كله من قبيح الخلائق والأفعال، وارتكاب ما نهى الله عنه وإضاعة حقوق ذي العزة والجلال، والالتجاء المحقق إلى سكان المقابر في فتح أرحام العقام، وتزويج الأرامل والأيامى من الأنام واستنزال السحائب والأمطار واستماحة المآرب والأوطار، ودفع المحاذير من المكاره والشدائد، والإناخة بأبوابها لنيل ما يرام من الحوائج والمقاصد وبالجملة: فأي مطلب أو مهرب. ترى هنالك ربع المشهد مأهولاً، وقد قطعت إليه المهامة وعورا وسهولا والنداء لساكنه: أن يمنح أو يريح، والتأدب والخضوع والتوقير والرغبة، ومشاعر الرهبة. وينضاف إلى ذلك - خصوصاً في الزيارات في الأعياد والموالد - نحر الأنعام، وترك الصلاة وصنوف الملاهي، وأنواع المعاصي للمليك العلام، وكثيرون لا طمع في حصرهم، ولعلهم العموم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 إلا من شاء الله: إن لم تلد زوجة أحدهم أو طال مرض مريض منهم، أو صاب امرأة التوق إلى النكاح، أو قحطت الأرض، أو دهمهم نازل من عدو، أو جراد أو غيرهما أو راموا أمراً عناهم تحصيله. فالولي في كل ذلك نصب العين، وإذا جرى المقدور بنفع أو دفع ضر، أو حصول مكروه كان المركوز في عقيدتهم التي لا يتحولون عنها: أن ذلك ثمرة الاستغاثة به، والإنابة إليه في الأولين. ودليل ضعف الاعتقاد، أو اختلال شرط من المنيب أو نحوهما في الثالث. فصار مدار التصرف والحصول له خاصة، أو مع الله في شيء دون شيء. وحاصل معتقدهم: أن للولي اليد الطولى في الملك والملكوت. كما سيأتي تحقيق هذا وشرح وقوعه في أفعال من علا هذه العقيدة، وذكر ألفاظهم مبينة مفسرة مصرحة بما حكيناه عنهم، وأنهم قد ذهبوا هذا المذهب المشروح آنفا في سكان التراب، وأنزلوهم هذه المنزلة المحكية من مساواة رب الأرباب وقد سردنا بعضها للبيان ولئلا يتمكن الخصم من جحود، أو يقدر على مدافعة، وليعرف كل سامع لما نمليه: أن القائل بأن العوام قد يقع منهم عبارات موهمة، وقصارى أمرهم: التوسل! إما غالط أو خالط، أو جاهل للدين. وإلا؛ فما بعد هذا! ". ثم مضى يشرح أفراد وقائع هذا الشرك وذكر ألفاظهم الصريحة في مقارفة الشرك والاعتقاد في المقبورين إلى أن قَال: (وشواهد هذا ظاهرة في حالاتهم تلك. بحيث أن جماهير من العامة لا يحصون في أقاليم واسعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 وأقطار متباعدة، ونواحي متباينة لما كانوا قد نشؤوا لا يعرفون إلا ما وجدوا عليه من قبلهم من الآباء والشيوخ من هذه العقائد الوثنية والمفاسد. فتجدهم إذا شكا أحدهم على الآخر نازلة نزلت، فلعله لا يخطر له في بال، إلا: هل قد ذهبت إلى الولي؟ وقد يضرب له الأمثال بأن فلاناً كان أمره كذا، وفلاناً كان أمره كذا، حتى أنسوا بهذا الباب أكثر مما يصفه الواصف، وبقدر أنسهم به تناسوا ما رسمه لهم الرسول الحكيم الناصح الأمين وجهلوه بالمرة، وانطمست لديهم معالمه. وبعضهم قد يعرف شيئاً من ذلك ولكنه يؤثر عليه ما ذكر: إما لعدم وثوقه بذلك وإما لغلبة انفعال نفسه لخاطر السوء، وإما لسلطان العادات والتقليد، وبعضهم - وهو أقلهم كفراً - يجعل البابين محلاً صالحاً مدخلاً للدفع والنفع، حتى إنا شاهدنا ما لا يحصى قدره الآن: إذا سقطت دابة أحدهم، أو عثر هو أو بغتته حادثة من هذا القبيل نادى ببديهة الحس: يا هادياه يا ابن علوان يا جيلاني. ويقول: ومن عجيب ما أتته العامة من طرائف هذا الباب وغرائبه الفاحشة، التي زعم ذلك المخادع القائل (إنها مجرد توسل وعبارة موهمة) ما شاهدناه بالمعاينة مكتوباً على راية مشهد من المشاهد (هذه راية البحر التيار. فلان بن فلان، به أستغيث وأستجير، وبه أعوذ من النار) وإلى هذا اللفظ زيادة تركتها لأني لا استثبتها الآن. وهي من هذا النمط المستطرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 ومن عجيب طرائفهم في هذا الباب قول بعضهم من قصيدة. وهي شيء يقشعر منه الجلد، وإنما حكيناه لما زعم شيوخهم المخادعون: إنها عبارة موهمة بنزلة لغو اليمين. يا سيدي يا صفي الدين يا سندي ... يا عمدتي بل ويا ذخري ومفتخري أنت الملاذ لما أخشى ضرورته ... وأنت لي ملجأ من حادث الدهر امدد بمواد اللطف منك وكن ... لي الكفيل بكشف الضر والظفر وامنن علي بتوفيق وعافية ... وخير خاتمة مهما انقضى عمري وكف عنا أكف الظالمين إذا ... امتدت بسوء وأمر مؤلم نكر فإني عُبَيدُك الراجي لودك ما ... آمله ياصفي السادة الغرر وقد مددت يد الرجوى على ثقة ... مني لنيل الذي أملت من وطري انتهى المراد نقله منها. فلا ندري: أي معنى اختص به الخالق بعد هذه المنزلة من كيفية مطلب أو تحصيل مأرب؟ وماذا أبقى هذا المشرك الخبيث لخالقه من الأمر؟ فإن كان هذا، أوْ ما يعطى شيئاً منه (عبارة موهمة بمنزلة لغو اليمن) فعلى السفسطة السلام. فإن المشركين أهل الأوثان ما يؤهلون كل ما عبدوه من دون الله لشيء من هذا ولا لما هو أقل منه، كما سنشرح لك حاله إن شاء الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 تعالى1. ومن غرائب شرك العامة في هذا الباب: ما حدثنا به الثقات الأثبات عن حي من الأعراب، حضرت أحدهم الوفاة، فقيل له قل لا إله إلا الله. فقال: أين الله؟ قل يا عمراه. كذا حدث أولئك ذلك سيد الحي بمجمع من أهل المحل على وجه اليقين المشهور عندهم. ومن ذلك أن حيا من أهل البوادي إذا أرسلوا أنعامهم للمرعى. قَالوا: في حفظك يا فلان، يعنون ساكن مشهدهم، وإنهم إذا أرادوا السفر إلى جهة استأذنوه والعمل في الجواب على سادن المشهد، حتى إنه إذا اشتد المرض برجل من العامة شد رحاله إلى قبر الولي يستجير به، أو عنده من الموت. ومن ذلك أن امرأة كف بصرها ومات ولدها، فنادت وليها: أما الله فقد صنع ما ترى، ولم يبق إلا حسبك فيَّ. ومن ذلك: وهو من أشهر عجائبهم المعلومة، في نواحي من البلدان - شراؤهم الأولاد - بزعمهم من الولي بشيء معين، فيبقى ثمنه رسما جاريا، يؤدى كل عام لصندوق الولي وإن كانت امرأة، فمهرها له، أو نصف مهرها إذْ هي مشتراة منه ولعله يفقد شيئٌ من هذا في بعض النواحي، فكم له من أخوات عند التصفح.   1 انظر: معارج الألباب في مناهج الحق والصواب ص 185- 189 فقد شرح حالهم في ذلك الموضع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 ومن ذلك - وهو من طرائفهم الشهيرة أيضا - ترك أشجار ومراع حول المشهد لمكان قربها منه، مع الحاجة الشديدة إليها. فتبقى على ممر الأزمان سائبة. ومن عجائبهم: ما حدث به جمع من أهل الدين أنه وقع في زيارة بعض المشاهد اجتماع خلق كثير من الرجال والنساء والأطفال. فكان هناك من القبائح ما منه السجود للمعتقد. شاهد ذلك الجمع ما ذكرنا عيانا. فلعل هذا: (عبارة موهمة، بمنزلة اللغو في اليمين) ‍ ثم يقول: ولو كان المتكلم بهذا في غير مكة - شرفها الله تعالى - لجوزنا أنه لم يبلغه، ولم ير شيئا من هذه الضروب التي سردناها أو نظائرها. ومن ذلك - وهو من غرائب الانحلال من الدين - أن جماعة من العامة خرجوا من مسجد بجوار مشهد، بعد أن صلوا فريضة من المكتوبات. فدخلوا المشهد. فرفعوا وضموا، وركعوا إلى جدار القفص. ومن ذلك - وهو أيضا من طرائف ما يحكى - أن رجلا سأل من فيه مسكة من عقل فقال: كيف رأيت الجمع لزيارة الشيخ؟ فأجابه: لم أر أكثر منه إلا في جبال عرفات إلا أني لم أرهم سجدوا لله سجدة قط، ولا صلوا مدة الثلاثة الأيام فريضة. فقال السائل: قد تحملها عنهم الشيخ! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 قلت: وباب (قد تحمل عنهم الشيخ) مصراعاه ما بين بصرى وعدن، قد اتسع خرقه وتتابع فتقه، ونال رشاش زقومه الزائر والمعتقد، وساكن البلد والمشهد، وهو أمر شهير في العامة، ولعل هذا عند هذا المخادع الخائن لنفسه وللناس (عبارة موهمة) كما قَال!! فقل لي: أي ملة - صان الله ملة الإسلام - لا يمانعها كل ذلك، ولا يدافعها؟ قلت: ولقد أذكرني هذا ما سمعت بعض الأفاضل يحدث به: أن رجلين قصدا الطائف من مكة المشرفة، وأحدهما يزعم: أنه من أهل العلم، فقال له رفيقه - ببديهة الفطرة-: أهل الطائف لايعرفون الله، إنما يعرفون ابن عباس. فأجابه: بأن معرفتهم لابن عباس كافية. لأنه يعرف الله. ويضاهيها: ما حكاه لنا بعض من جاور بالبلد الحرام: أن رجلا كان ببعض المشاهد بمكة، فقال لمن عنده: أريد الذهاب إلى الطواف. فقال له بعض كبرائها: مقامك هنا أكرم. وما شئت بهذا الطغيان المجاوز!! وبالله لو ذهبنا ننقب عما يحادون الله به من هذه الجهالات، وما يجترئ عليه السفهاء هنالك. لحصلنا على ما يفوت الطاقة ضبطه إلا تكلفا - إن كان - وفي الناس من يخالف الله، ويستحي من معارضة الكتاب والسنة بالسماجة والقحة، وفي الناس من يتحاشى عن الإفراط - وإذا لم تستح فاصنع ما شئت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 ويقول: ومن طريف أخبارهم: أن منهم من يمرض، فيلازم المشهد، يستجير به من ذلك المرض، ويتوصل إلى زوال ما به من الداء الَّذي أضناه، وخصوصا إذا كان من نوع المانيخوليا، أو أمراض العقل - قائلا بلسان الحال والمقال أيضا (وإذا مرضت فهو يشفين) . يقول: ومنهم من يمكث في المشهد أياما محبوسا بلا صلاة قط، زاعما أنه في حبس الولي وقيده، ولا يطلقه إلا لحاجته، وما في عقله الَّذي تقوم به الحجة عليه اختلال وإنما فسدت فطرة الأغلف بطارئ العوائد، حتى كأنه لا يعقل ومن طريف أقوالهم في أوليائهم: أنه يضرب من تظلم منه، أو شكى به إليه - بصيغة المبني للفعول فيهما - ويعزل الوالي إذا لم يزره، ويهب الولد إذا جومعت المرأة عند مشهده، ويسلب السلاح ويقيد ويفك الأسرى والمحبسين، ويهدي الضالين ويجير القوم، ويترك بنادقهم قصباً، وعاقلهم خنثي، لا أنثى ولا ذكر، ويعاقب من أخذ من ضريحه ورقة للتبرك بها في الحال، حتى صار في بعض الجهات: أن المرأة لا تدخل عند زوجها، حتى تزور الولي، وأن رجلاً زعم أن ولياً نبه عليه في النوم: أن يبني عليه قبة - قَال: فبنيت خوفاً منه. قلت: وباب تنبيه الأموات - أي بإضافة تنبيه إلى فاعله- كباب (تحمل الشيخ الصلاة وغيرها) في السعة والشيوع. والله يغلقها كلها بنصر دينه. ومن عجيب أمرهم: أن امرأة جاءت قبراً، فجعلت تقول: يا سيدي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 بعت ما لي ورحلت إليك من مسافة كذا، سألتك بالله أن تشفي ولدي فإني جارة الله وجارتك. ويقول: إن القوم سحبت عليهم العادات والخيالات، وتعفى في قلوبهم رسوم الفطر والأديان، وجر الشيطان أذياله عليها. ما هم بالمحل الذي يزعمه لهم الخابطون. ومن أذيال مصيبة المشاهد التي أصيب بها الإسلام وشعائرها ما ظهر وانتشر في العامة في جهات كثيرة. كما هو معلوم مشاهد: أن المساجد ربما لا تكون متروكة مهجورة وفيها من التراب والعيدان والأوساخ، وزبل الأنعام، وحراق التمباك وغير ذلك ما يجعلها مزابل ومشاهد الأموات: محترمة مكرمة، مجمرة بالظفر والعطور، مفروشة بالسجاد الفاخر وعلى القبور ستور الحرير الثمينة، وبها الشمعدانات الفضية ما جعلها مرعية مقامة متحاماة. وسرد أشياء كثيرة إلى أن قَال: فهذه قطرة سردناها ليعلم الأغبياء ما صار عليه الحال مما لا يحصى كثرة، وجميع سكان البسيطة إلا من أنقذ الله قد مسهم هذا المرض المضني، وعمهم هذا الداء العضال، وإن تفاوتوا في الإيغال والإغراق في هذه الضلالة، فكل - إلا ما شاء الله - قد أخذ بحظه، وشارك في أصل المعنى، من تعليق أمرهم بسكان القبور في جملة أمرهم، وأما تفاصيلها: فغير مقدورة، فلقد أحيوا هذه المشاهد بالتردد والدعاء، والنداء والعكوف، والمثول والتأدب، والتوقير والخضوع مما لا يحصل بعضه في بيوت الله والصلاة المكتوبة، إلا مالا نسبة بينه وبين ما في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 عرصات المشاهد، بحيث ينتابها ويهبط إليها ويحبها ويسمح بالبذل الكثير لها، ويضيع لأجلها ولده وأهله. وكثير من الناس لا يقوم في حق الله تعالى برائحة من ذلك. ولا يعرف الصلاة ولا المساجد، وهو اللائق بمن سلك تلك السبيل، ثم يتكلمون بما يناسب حالاتهم هذه، من مثل: أكرمنا الشيخ، أوْ بيَّن لنا إشارة، أو حصل لنا ما نطلب، ونجانا مما نهرب، وشفى مريضنا، وأنزل الغيث لنا، إذا قصدناه وسألناه. ويقول: هذا مذهب عامة المقابريين. ويقول: "وأما الحاذقون بها فهل أتتك أنبائهم؟ إنهم يقولون: هؤلاء المقربون هم المخصوصون من الله بالإمداد والملقى إليهم مقاليد التصرف والتصريف في عالم الإيجاد، ومن حبي بهذه الحبوة بذلنا له محض التأليه والصبوة، وما سألناه ودعوناه إلا أمرا مُكن منه وصرف فيه وولي نظره وتدبيره بولاية عامة تمكينية فالسؤال والاستغاثة، وما هو من واديهما هو من ذي أهلية تامة قائمة صالحة لتأهيلنا إياها جميع ما أنكر منا من معاملتها، والواقف بنا على مجرد التوسل فقط- كما قيل أيضا على عامتنا - هو في القضية عامي، أو واهم وللحقيقة التي نحن بها غير محقق ولا فاهم". انتهى. "فهذه الدسيسة هي - فيما علمنا - روح البحث، وسر المسألة عند حذاقهم السابقين في الصناعة. وقد شافهني بذلك أحد خواصهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 الموسومين بالفقه والفطنة في هذا الباب زعما منه أنه قد امتطى صهوة التحقيق، وارتقى ذروة التدقيق. أترى هذا من محاسن الكلام؟ ألا تقول: برأ الله عنه ملة الإسلام، وقدسها عن وضر هذا العار والملام؟ " ثم يقول: "وإذا فقهت هذا: انتقلت منه - إن شاء الله تعالى - إلى فهم ما يؤثر عن قوم ممن يدعى المحبة والقرب والولاية، ودعاويهم الطويلة العريضة المشروحة في مؤلفاتهم ومنظومهم ومنثورهم. وممن شرح عنهم بعضا مما أشرنا إليه ما نقله تقي الدين الفاسي في تاريخ مكة، والمحقق الأهدل في شرح دعاء أبي حربه، وقبله القاضي إسماعيل بن أبي بكر المقري الشاوري الشرحي الزبيدي الشافعي، وقصيدته الرائية مشهورة في هذا المعنى. وغير ما ذكرنا أيضا كثير يفوت حصرهم". ويقول: "ولقد سمعنا في هذا المقام حكاية شنيعة، وهي: إن بعض كبراء الصوفية ركب البحر ومعه مريده، فهاجت ريح خيف منها. فجعل الأستاذ يقول: يا الله فطفق المريد يقول كذلك. فكاد يغرق. فأشار إليه الأستاذ أن يهتف باسمه ففعل فنجا. وهي مشهورة عند كثير من الناس، ولا أعرف الآن موضعها فأنقلها بصفتها"1.   1 وقال محمد حامد الفقي: "نقلها الشعراني في الطبقات عن الحنفي الَّذي ضمه بمصر وأنه كان يذهب كل يوم بعد العصر، فيجتاز النيل من الشاطئ الشرقي إلى الغربي مشيا على الماء هو وتلاميذه. ويقول لهم: قولوا: يا حنفي. فقال واحد منهم يا الله: فغرق. فأخرجه الحنفي وأنبه على أن دعا الله (نفس المرجع ص184 هامش". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 ويقول: "إن هذا شيء لا يختص به الواحد والاثنان، ولا البلدة ولا البلدتان ولا القطر ولا القطران، بل عم أمر المشاهد وعبادة الأموات البلاد من أقصاها إلى أقصاها، حتى آل الأمر إلى أن عاد غصن الشرك غضا طريا، ويبلغنا من ذلك الكثير، الَّذي لا تحويه السطور، سوى ما سمعناه وشاهدناه. ونحن ببلد أقل شيء فيها هذا القبيل بحمد الله، بل يكاد يلتحق بالمعدوم بالنظر إلى ما سواها، وإلا فمن سكن بفرس، والمخا، وصعده وغيرها من قطرنا هذا خاصة، - كيف سواه؟ - رأى العجب، إن كان قلبه حيا. وبالجملة: فأمر العامة في هذا النحو غريب بالنسبة إلى الإسلام، فإن كل من عرف الحقيقة، ونظر إلى ما صاروا إليه من ذلك: وجد المضادة لله وتوحيده فاشية في كثير من أفعالهم وأقوالهم، وتقلبهم وتصرفاتهم. والطمع في حصره طمع في محال، كضبط الريح والبحر، وهو ظاهر شهير على رؤوس الخلائق. وإنما جهل قدره ومنافاته، لما دعت إليه الرسل، لما تعفت رسوم شرعهم عند الأكثرين ولأنسهم بكثير من أضدادها، وبضدها تتبين الأشياء". ويقول: "وما سقنا هذه الكلمات عن العامة إلا على سبيل المثال". ويذكر أن هذا واقع وكثير جداً في البلدان الإسلامية، وتركت شيئاً كثيراً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 وهاماً من وصفه وأخباره خشية الإطالة وأحيل عليه1. شهادة الإمام الشوكاني: وهذه شهادة ثالثة من عالم آخر هو الإمام الشوكاني المشهور، من أهل اليمن، ومن أعلام أهل السنة الموثوقين نقتطفها من مؤلفاته كمؤلفه (كتاب الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد) يقرر وجود المعتقدين في الولي والقبر والمشهد ممن ينسب إلى الإسلام ويزعم أنه من المسلمين، وأن هذا هو الشرك بالله لأن الشرك هو أن يفعل لغير الله شيئاً يختص به سبحانه سواء أطلق على ذلك الغير ما كان تطلقه الجاهلية أو أطلق عليه اسماً آخر2. ويقول: "ولا فرق بن أن يكون هذا المدعو من دون الله أو معه حجراً أو شجراً أو ملكاً أو شيطاناً كما كان يفعل ذلك أهل الجاهلية. وبين أن يكون إنساناً من الأحياء أو الأموات كما يفعله الآن كثير من المسلمين، وكل عالم يعلم هذا ويقربه فإن العلة واحدة، وعبادة غير الله تعالى وتشريك غيره معه يكون للحيوان كما يكون للجماد وللحي كما يكون للميت". إلى أن قَال: "وقد علم كل عالم أن عبادة الكفار للأصنام لم تكن   1 انظر: معارج الألباب في مناهج الحق والصواب، تأليف العلامة المحقق حسين بن مهدي النعمي، ص169-185. 2 الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد ص18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 إلا بتعظيمها واعتقاد أنها تضر وتنفع، فالاستغاثة بها عند الحاجة والتقرب لها في بعض الحالات بجزء من أموالهم، وهذا كله قد وقع من المعتقدين في القبور، فإنهم قد عظموها إلى حد لا يكون إلا لله سبحانه بل ربما يترك العاصي منهم فعل المعصية إذا كان في مشهد من يعتقده أو قريباً منه مخافة تعجيل العقوبة من ذلك الميت، وربما لا يتركها إذا كان في حرم الله أو في مسجد من المساجد أو قريبا من ذلك، وربما حلف بعض غلاتهم بالله كاذبا ولم يحلف بالميت الَّذي يعتقده. وأما اعتقادهم أنها تضر وتنفع فلولا اشتمال ضمائرهم على هذا الاعتقاد لم يدع أحد منهم ميتا أو حيا عند استجلابه لنفع أو استدفاعه لضر قائلا يا فلان افعل لي كذا وكذا وعلى الله وعليك وأنا بالله وبك. وأما التقرب للأموات فانظر ماذا يجعلونه من النذور لهم وعلى قبورهم في كثير من المحلات، ولو طلب الواحد منهم أن يسمح بجزء من ذلك لله تعالى لم يفعل، وهذا معلوم يعرفه من عرف أحوال هؤلاء. (فإن قلت) إن هؤلاء القبوريين يعتقدون أن الله تعالى هو الضار النافع، والخير والشر بيده، وإن استغاثوا بالأموات قصدوا إنجاز ما يطلبونه من الله سبحانه (قلت) وهكذا كانت الجاهلية؛ فإنهم كانوا يعلمون أن الله هو الضار النافع وأن الخير والشر بيده، وإنما عبدوا أصنامهم لتقربهم إلى الله زلفى كما حكاه الله عنهم في كتابه العزيز، نعم إذا لم يحصل من المسلم إلا مجرد التوسل الَّذي قدمنا تحقيقه فهو كما ذكرناه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 سابقا"1. قلت: الشيخ الشوكاني هنا يخالف السلف الصالح فيجيز التوسل بذوات الصالحين، والصواب: عدم جوازه وقد يصل إلى البدعة - والله أعلم-. ونعود إلى كلام الإمام الشوكاني فيقول: (ولكن؛ من زعم أنه لم يقع منه إلا مجرد التوسل وهو يعتقد من تعظيم ذلك الميت ما لا يجوز اعتقاده في أحد من المخلوقين وزاد على مجرد الاعتقاد فتقرب إلى الأموات بالذبائح والنذور، وناداهم مستغيثا بهم عند الحاجة فهذا كاذب في دعواه أنه متوسل فقط، فلو كان الأمر كما زعمه لم يقع منه شيء من ذلك، والمتوسل به لا يحتاج إلى رشوة بنذر أو ذبح ولا تعظيم ولا اعتقاد؛ لأن المدعو هو الله سبحانه وهو أيضاً المجيب ولا تأثير لمن وقع به التوسل قط بل هو بمنزلة التوسل بالعمل الصالح فأي جدوى في رشوة من قد صار تحت أطباق الثرى بشيء من ذلك وهل هذا إلا فعل من يعتقد التأثير اشتراكاً أو استقلالاً. ولا أعدل من شهادة أفعال جوارح الإنسان على بطلان ما ينطق به لسانه من الدعاوي الباطلة العاطلة، بل من زعم أنه لم يحصل منه إلا مجرد التوسل وهو يقول بلسانه يا فلان منادياً لمن يعتقده من الأموات فهو كاذب على نفسه، ومن أنكر حصول النداء للأموات والاستغاثة بهم استقلالاً فليخبرنا ما معنى ما نسمعه في الأقطار اليمنية من   1 انظر: مؤلفات الشيخ، القسم الثالث الفتاوى رقم 14 ص 68- 69. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 قولهم يا ابن العجيل يا زيلعي. يا ابن علوان. يا فلان وهل ينكر هذا منكر أو يشك فيه شاك؟ وما عدا ديار اليمن فالأمر فيها أطم وأعم، ففي كل قرية ميت يعتقده أهلها وينادونه، وفي كل مدينة جماعة منهم حتى إنهم في حرم الله ينادون يا ابن عباس. يا محجوب. فما ظنك بغير ذلك - فلقد تلطف إبليس وجنوده أخزاهم الله تعالى لغالب أهل الملة الإسلامية بلطفة تزلزل الأقدام عن الإسلام ... فإنا لله وإنا إليه راجعون". وبعد أن يقرر الإمام الشوكاني أن ما يفعله القبوريون من الدعاء والاستغاثة والتقرب بأنواع القرب إلى غير الله تعالى من الأموات وغيرهم أنه هو الشرك. ولا يتفطن له أهل العلم لا لكونه خفياً في نفسه، بل لإطباق الجمهور على هذا الأمر، وكونه قد شاب عليه الكبير، وشب عليه الصغير، وهو يرى ذلك ويسمعه ولا يرى ولا يسمع من ينكره، بل ربما يسمع من يرغب فيه، ويندب الناس إليه، وينضم إلى ذلك ما يظهره الشيطان للناس، من قضاء حوائج من قصد بعض الأموات الذين لهم شهرة، وللعامة فيهم اعتقاد، وربما يقف جماعة من المحتالين على قبر ويجلبون الناس بأكاذيب يحكونها عن ذلك الميت ليستجلبوا منهم النذور، ويستدروا منهم الأرزاق، ويقتنصوا النحائر ويستخرجوا من عوام الناس ما يعود عليهم وعلى من يعولونه، ويجعلون ذلك مكسباً ومعاشاً وربما يهولون على الزائر لذلك الميت بتهويلات ويجعلون قبره بما يعظم في عين الواصلين، ويوقدون في المشهد الشموع ويوقدون فيه الأطياب، ويجعلون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 لزيارته مواسم مخصوصة يجتمع فيها الجمع الجم، فيبهر الزائر ويرى ما يملأ عينه وسمعه من ضجيج الخلق وازدحامهم وتكالبهم على القرب من الميت، والتمسح بأحجار قبره وأعواده، والاستغاثة به، والإلتجاء إليه، وسؤاله قضاء الحاجات ونجاح الطلبات، مع خضوعهم واستكانتهم وتقريبهم إليه نفائس الأموال، ونحرهم أصناف النحائر، فبمجموع هذه الأمور مع تطاول الأزمنة وانقراض القرن بعد القرن يظن الإنسان في مبادئ عمره وأوائل أيامه أن ذلك من أعظم القربات وأفضل الطاعات، ثم لا ينفعه ما تعلمه من العلم بعد ذلك بل يذهل عن كل حجة شرعية تدل على أن هذا هو الشرك بعينه وإذا سمع من يقول ذلك أنكره ونبا عنه سمعه، وضاق به ذرعه، لأنه لا يبعد كل البعد أن ينقل ذهنه دفعة واحدة في وقت واحد عن شيء يعتقده من أعظم الطاعات إلى كونه من أقبح المقبحات وأكبر المحرمات، مع كونه قد درج عليه الأسلاف، ودب فيه الأخلاق، وتعاودته العصور، وتناوبته الدهور، وهكذا كل شيء يقلد الناس أسلافهم ويحكمون العادات والتقاليد المستمرة، وبهذه الذريعة الشيطانية والوسيلة الطاغوتية بقي المشرك من الجاهلية على شركه، واليهودي عن يهوديته، والنصراني على نصرانيته، والمبتدع على بدعته، وصار المعروف منكراً والمنكر معروفاً، وتبدلت الأمة بكثير المسائل الشرعية غيرها، وألفوا ذلك ومرنت عليه نفوسهم، وقبلته قلوبهم وأنسوا إليه حتى لو أراد من يتصدى للإرشاد أن يحملهم على المسائل الشرعية البيضاء النقية التي تبدلوا بها غيرها لنفروا عن ذلك، ولم تقبله طبائعهم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 ونالوا ذلك المرشد بكل المكروه، ومزقوا عرضه بكل لسان، وهكذا كثير موجود في كل فرقة من القرق لا ينكره إلا من هو منهم في غفلة"1. كلام حافظ وهبة: يقول: "كانت نجد - من الوجهة الدينية - كسائر الأمصار الأخرى: مرتعاً للخرافات والعقائد الفاسدة التي تتنافى مع أصول الدين الصحيحة. فقد كان كثير من القبور التي تنسب إلى الصحابة يحج الناس إليها. ويطلبون منها حاجاتهم، ويتوسلون بالمقبورين إلى دفع كروبهم. فكانوا في الجبيلة يؤمون قبر زيد بن الخطاب لتحسين حالهم وإجابة ملتمسهم، كما كان أهل الدرعية التي صارت فيما بعد معقل التوحيد ومقر حكم آل سعود - يضرعون إلى مثل هذه القبور لمثل هذه الأغراض. وأغرب من ذلك توسلهم بفحل النخل في بلدة (منفوحة) واعتقادهم أن من تؤمه من العوانس تتزوج لعامها. فكانت من تقصده تقول (يا فحل الفحول، أريد زوجاً قبل الحول) وكان في الدرعية غار يقدسونه ويزعمون أنه كان ملجأ لإحدى بنات الأمير التي فرت هاربة من تعذيب بعض الطغاة، واتخذت في أحد الجبال الصخرية مأوى لها فانشق لها الكهف بمعجزة لتأوي إليه. فهذه الروايات تكشف عما كانت عليه نجد من العقيدة الدينية   1 كتاب الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد ص 18- 20، ص 26- 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 الفاسدة. ومن حيث السياسة: فقد كانت ولايات العرب منقسمة إلى ولايات عديدة، يحكم كل واحدة منها أمير لا تربطه وجاره أية رابطة. ومن أشهر هؤلاء الأمراء بنو خالد في الأحساء، وآل معمر في العيينة، والأشراف في الحجاز، وآل سعود في الدرعية، والسعدون فيما بين النهرين، وغيرهم. وقد كان سكان بلاد العرب، - وهم الحضر - في حروب دائمة مع البدو سكان البادية، وكذلك الأمراء على قدم الاستعداد عندما تسنح الفرص للتعدي على جيرانهم إذا بدا من هؤلاء الجيران ضعف أو عدم استعداد. أما من حيث الأحكام: فلم يكن هناك قانون أو شريعة إلا ما قضت به أهواء الأمراء وعمالهم1. كلام الكاتب الأمريكي لوثورب ستودارد: وإذا ما تجاوزنا أمثال هؤلاء من علماء المسلمين فإننا نجد ما يقوله المنصفون من غيرهم مطابقاً لهذه الأقوال الصادقة في وصف البيئة من حول الشيخ محمد بن عبد الوهاب، والتي أسلفنا أمثلتها، ونسوق فيما يلي مثالاً لأقوال المنصفين، هو ما يقوله لوثورب ستودارد الأمريكي، في   1 جزيرة العرب في القرن العشرين، ص 319- 320. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 كتابه، (حاضر العالم الإسلامي) بترجمة الأستاذ عجاج نويهض، وتعليقات شكيب أرسلان. ففي الجزء الأول في الفصل الأول تحت عنوان: (اليقظة الإسلامية) ما نصه: "في القرن الثامن عشر الميلادي، كان العالم الإسلامي قد بلغ من التضعضع أعظم مبلغ، ومن التدني والانحطاط أعمق دركة، فأربد جوه وطبقت الظلمة كل صقع من أصقاعه ورجاً من أرجائه، وانتشر فيه فساد الأخلاق والآداب، وتلاشي ما كان باقياً من آثار التهذيب العربي، واستغرقت الأمم الإسلامية في اتباع الأهواء والشهوات، وماتت الفضيلة في الناس وساد الجهل، وانطفأت قبسات العلم الضئيلة، وانقلبت الحكومات الإسلامية إلى مطايا استبداد وفوضى واغتيال، فليس يرى في العالم الإسلامي ذلك العهد سوى المستبدين الغاشمين، كسلطان تركيا ... " إلخ. إلى أن قَال: "وأما الدين فقد غشيته غاشية سوداء فألبست الوحدانية التي علمها صاحب الرسالة، سجفاً من الخرافات، وقشور الصوفية، وخلت المساجد من أرباب الصلوات، وكثر عدد من الأدعياء الجهلاء، وطوائف الفقراء والمساكين، يخرجون من مكان إلى مكان يحملون في أعناقهم التمائم والتعاويذ والسبحات، ويوهمون الناس بالباطل والشبهات، ويرغبون في الحج إلى قبور الأولياء ويزينون للناس التماس الشفاعة من دفناء القبور وغابت عن الناس فضائل القرآن، فصار يُشْرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 الخمر والأفيون في كل مكان، وانتشرت الرذائل وهُتِكَت ستر الحرمات على غير خشية ولا استحياء، ونال مكة المكرمة، والمدينة المنورة ما نال غيرهما من سائر مدن الإسلام، فصار الحج المقدس الذي فرضه النبي1 على من استطاعه ضرباً من المستهزءات، وعلى الجملة فقد بدل المسلمون غير المسلمين وهبطوا مهبطاً بعيد القرار، فلو عاد صاحب الرسالة إلى الأرض في ذلك العصر، ورأى ما كان يدهى الإسلام لغضب، وأطلق اللعنة على من استحقها من المسلمين، كما يلعن المرتدون وعبدة الأوثان" اهـ. وعند ذلك علق الأمير شكيب أرسلان على وصفه هذا للعالم الإسلامي بقوله: "لو أن فيلسوفاً نقريساً من فلاسفة الإسلام أو مؤرخاً عبقرياً بصيراً بجميع أمراضه الاجتماعية، أراد تشخيص حالته في هذه القرون الأخيرة، ما أمكنه أن يصيب المحز، وأن يطبق المفصل تطبيق هذا الكاتب الأمريكي ستودارد"2. إقرار خصوم الشيخ بالانحراف: ثم إذا التفتنا إلى غير المنصفين نجد أن خصوم الشيخ محمد بن عبد الوهاب ممن يزعمون أنهم علماء لا ينكرون حالة الناس الدينية السيئة ولا السياسية، ولا ينكرون وجود القباب على القبور، ووجود تقديس أشجار   1 هكذا قَال الكاتب الأمريكي والحقيقة: أن الحج فرضه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم. 2 انظر: حاضر العالم الإسلامي، ط الحلبي، 1352هـ، ج1/259-260. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 وأحجار وغيران ونحوها، ووجود أولياء مزعومين، ووجود من يدعو مثل ذلك من دون الله وينذر له ويذبح ويتقرب إليه بأنواع من العبادة لا ينكرون عموم البلوى بهذه المظاهر المنحرفة في نجد وفي غيرها بل يؤكدونها ويقررون أن السواد الأعظم عليها تبريراً لها، إنهم يحاولون التماس مشروعيتها وتسويغها وتخطئة الشيخ بل تضليله في إنكارها كقولهم: إن الصالحين لهم شفاعة تطلب منهم أمواتاً وأحياءً وكقولهم: إن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الواسطة فيدعونه ليتوسط لهم عند الله ويشفع فيجيب دعاءهم ويقربهم، وكقولهم: إن الشرك لا يتصور وقوعه في بلاد المسلمين، وإن المسلم لا يرتد مهما عمل، فإذا قَال لا إله إلا الله فهو مسلم ولو دعا الأولياء واستغاث بهم في كشف الضر!، ومثل قولهم: المعين لا يكفر، ونحو هذا من تبريرات فاسدة وتلبيسات قبيحة ولو كانت غربة الدين غير واقعة وانحرافات الأكثر غير صحيحة لكان هؤلاء المعارضون أسرع الناس بياناً وتقريراً لشيوع الإسلام وتأريخاً له، كيف لا؟ وهم الحريصون على تفنيد أقوال الشيخ وتسفيه حركته، لكن الواقع بهتهم، والحال فضحهم، فراحوا يسوغون ويؤولون ويلتمسون المعاذير، ويحتجون بالآباء والأجداد، والتقاليد والعادات، وموضوعات الحديث وضعيفها، ومشتبهات القضايا والمقولات، تاركين محكم الأدلة، وواضح الآيات، لأغراض في نفوسهم، وشهوات في صدورهم، وأمراض في قلوبهم. وكيف نذهب بعيدا، وقد أنكر علماء السنة العدول، ما شهدوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 عليه من حوادث حدثت في الدين، ووقعت بين المسلمين، وبين أيدينا مصنفاتهم منذ القديم من الزمان، يفندون هذا الواقع المؤلم، وينكرونه، ويعينونه بالإنكار والإبطال، مثل تعظيم القبور، وبناء القباب عليها والمشاهد، واتخاذها مساجد ومعابد، وعبادة أهلها من دون الله بأنواع من العبادة، كدعائها والذبح لها والتقرب إليها بأنواع القرابين والصدقات. ومن هؤلاء الأئمة: محمد بن وضاح القرطبي (197-286هـ) في كتابه البدع والنهي عنها، ومحمد بن سحنون (202-256هـ) وأبو زكريا، يحيى بن عون، المتوفى سنة 298هـ في الرد على أهل البدع، وكذلك الأئمة الأربعة يردون على أهل البدع وأتباعهم كذلك، فهذا الإمام أحمد في (رده على الجهمية والزنادقة) ومن أتباعه ابن تيمية وابن القيم الحنبليان، وردودهم شهيرة، والشيخ قاسم بن قطلوبغا ولد سنة 802هـ وتوفى سنة 879 هـ ويعرف بقاسم الحنفي. كيف كان رده على أهل البدع بدعهم؟ خصوصا في شرحه كتاب درر البحار، للقونوي الحنفي في اختلاف المذاهب الأربعة1. وهذا الإمام الطرطوشي المتوفى ما بين سنتي (520-525هـ) من المالكية في كتاب: (الحوادث والبدع) الَّذي نشر بتحقيق، محمد الطالبي، وطبعته دار الأصفهاني بجدة.   1 انظر: الضوء اللامع، للسخاوي، ج د/ 184-190، والفوائد البهية في تراجم الحنفية، للكنوي، ص99. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 وأبو شامة المتوفى سنة 665هـ من الشافعية، في كتابه: (الباعث في إنكار البدع والحوادث) والشاطبي في كتابه (الاعتصام) ومحي الدين البركوي الحنفي في رسالته التي ألفها: (في زيارة القبور) .... وغيرهم من العلماء، ألفوا رسائلهم، وأنكروا ما وقع من الحوادث، واشتد نكيرهم على غلاة القبور، حتى نسبوا أعمالهم إلى الشرك الأكبر والكفر. وماتوا قبل أن يخلق الشيخ محمد بن عبد الوهاب. وقد ذكر غالب هؤلاء العلماء وأمثالهم أن الشرك عم الابتلاء به في زمانهم وصاحوا بأهله من أقطار الأرض وذكروا أن الدين عاد غريبا1. ولننظر ما قرره الفقهاء من كل مذهب، من نواقض الإسلام في باب أحكام الردة مما يدل على أن هذه الناحية لها معنى واقعي، ليس من باب الخيال بعيدا عن الأحداث الواقعة لأن ذلك ليس من شأن فقهاء المسلمين، بل شأنهم مواجهة الأحداث بأحكام فقهية من الإسلام، وكل أولئك الفقهاء العلماء يعالجون ما حدث في زمانهم، ولاشك أن البلاء ازداد سوءاً، كلما مر الزمان من بعدهم خاصة في أول القرن الثاني عشر الهجري. وقد أطلت النفس، في بيان صفة البيئة، قبيل ظهور الشيخ، لبيان أن الشيخ رحمه الله ظهر على بيئة عاد الإسلام فيها غريبا، ومن يمارس أعمال   1 انظر: روضة ابن غنام ج1/ 74-95، ص115-121. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 الشرك هم الأكثر الغالب خلافا لما يذهب إليه الدكتور العثيمين من أن ابن غنام متحمس للدعوة وابن بشر كذلك فكان هذا التحمس من الأمور التي دفعتهما إلى إصدار أحكام على الحالة التي كان عليها النجديون من حيث العقيدة تنقصها الدقة، وأنه من المقارنة بين المصادر المختلفة يبدو أن الحالة الدينية التي كانت سائدة في نجد آنذاك لم تكن بالصورة التي أظهرتها بها المصادر المؤيدة لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب1 - وقال بالحرف الواحد: (ربما كان تحمس ابن غنام لهذا الدعوة المباركة من الأمور التي دفعته إلى تعميم حكمه على أهل نجد قبل ظهورها ليوضح مقدار فضلها) 2. وقال عن ابن بشر أيضا: "وابن بشر كما هو واضح من تأمل تأريخه كان أيضا من المتحمسين لدعوة الشيخ وأنصارها، وموقف كهذا قد يؤدي إلى إصدار أحكام تنقصها الدقة) 3. وهذا غير صحيح فابن غنام وابن بشر لم يصدرا حكما عاما وهذا واضح للقارئ من تاريخهما كما بيناه في النقل عنهما آنفا، ولم ينفردا بما ذكراه عن حالة نجد وغيرها الدينية والسياسية قبيل ظهور الشيخ محمد بن عبد   1 انظر: الشيخ محمد بن عبد الوهاب، حياته، وفكره، للدكتور العثيمين، تحت بحث الحالة الدينية في نجد، بـ: العقيدة وأركان الإسلام ص19، 20، 21. 2 مجلة الدارة ع 3، س 4 شوال 1398 هـ. 3 المصدر السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 الوهاب كما بيناه من كلام الصنعاني والبسام وغيرهما قبل قليل. ولم ينكر أحد من ابن غنام وابن بشر، أو غيرهما، وجود علماء في الفقه ووجود مسلمين، غير أن وجودهم لم يقض على اعتقاد أكثر الناس بالطواغيت أمثال تاج وشمسان وحسين وإدريس، وبالأشجار والأحجار والقبور والقبب وتقديس الصالحين والأولياء وعبادتهم كما قضى عليه وجود الشيخ محمد بن عبد الوهاب بمناصرة الأمير محمد بن سعود في نجد وما حولها. أما ما بعد فلا يزال؛ كما هو الشأن في مصر، وغيرها إلى يومنا هذا، فوجود العلماء فيها أهل الدراية والتحقيق لم يقطع المظاهر المنافية للإسلام من مجتمعهم. وقد سبقني إلى هذه الملاحظة الأستاذ صالح محمد الحسن في تعقيبه حول مقال الدكتور العثيمين في (مجلة الدارة) فقد لاحظ أن الدكتور العثيمين حين بحث الناحية العقيدية ذلك الزمن في مقاله أنهى تحليله بأن هناك جهلة يمارسون أعمالا شركية لكن عدد هؤلاء كان فيما يظهر قليلا، وأن هذه النتيجة تشكيك في الدور الَّذي قام به الشيخ محمد بن عبد الوهاب من محاربة مظاهر الشرك والعودة بالأمة إلى الكتاب والسنة عقيدة وسلوكا ومنهاج حياة، وتظهر الشيخ محبا للزعامة لأن الناس كانوا على العقيدة السليمة إلا النزر اليسير منهم1.   1 مجلة الدارة، ع 1، س 5 ربيع الثاني 1399هـ ص 352-358. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 المبْحَث الثاني: حياة الشيخ وخصوصا الناحية العلمية المترجمون للشيخ: ترجم للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله كثير من المؤرخين والأدباء والكتاب وأصحاب التراجم والعلماء كثرة لم تقع إلا للأعلام المجددين، بل لو استقرأنا عدد التراجم للعلماء والأعلام في جميع الميادين الإسلامية من بعد عصره لوجدنا أن ترجمة الشيخ تأخذ أعلى رقم من بين هذه التراجم، وقل أن تجد كتاب تاريخ أو تراجم لأهل عصره، أو ليقظة المسلمين الحديثة وحاضر العالم الإسلامى، أو لآل سعود على الخصوص إلا وتجد للشيخ ترجمة أوشيئا منها، وبين يدي ما يزيد عن خمسين كتابا وبحثا لم يخل واحد منها عن ذكر شىء من ذلك وسأذكر بعضها في هذا البحث بشىء من البيان وأختار منها ما أعتبره من المراجع الأساسية لترجمة الشيخ. أ- مراجع أساسية: أولها: (روضة الأفكار والأفهام لمرتاد حال الإمام، والغزوات البيانية والفتوحات الربانية) للشيخ حسين بن غنام المتوفى سنة 1225هـ. قال حمد الجاسر عنه وعن تاريخه هذا: "وكان أول من قام بذلك- يعني تدوين تاريخ قيام الدعوة من نجد- عالم جليل من بلاد الأحساء قدم الدرعية قاعدة تلك الحركة لينهل من معين علم الداعية الأول الإمام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 محمد، هو الشيخ حسين بن غنام، (توفي 1225هـ) فألف كتابه الذي يعتبر المصدر الأول لبيان حقيقة تلك الدعوة، بما نشره من رسائل الشيخ وآرائه، وكتبه، ولتصوير ما قام به حملتها من جهاد وكفاح"1. وتقع هذه الترجمة من تاريخ ابن غنام في الصفحات من ص 25 إلى ص 50، ط الأهلية عام 1368هـ، وفي تحرير الأسد لتاريخ ابن غنام ص 75-85. والثاني هو: (عنوان المجد في تاريخ نجد) تأليف المؤرخ عثمان بن عبد الله بن بشر المولود سنة 1210 والمتوفي سنة 12902. قال ابن بسام عن المؤلف: "صار اتجاهه إلى التاريخ لاسيما تاريخ نجد) 3، وقال عن تاريخه: "هذا التاريخ هو أنفس وأجمع وأوثق وأعدل ما صنف من تواريخ نجد"4 وتقع ترجمة الشيخ من هذا التاريخ في ج1 ص 6- 15، ص 89-96. والثالث: هو مجموعة الرسائل والمسائل النجدية، الجزء الثالث، تأليف الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن المولود عام 1225هـ والمتوفى سنة 1293هـ، والذي رتب هذه المسائل وبوبها هو تلميذه   1 مقدمة تاريخ ابن عيسى، ط. دار اليمامة ص 5، 6. 2 المصدر السابق. 3 علماء نجد خلال ستة قرون، جـ 2 ص 701. 4 المصدر السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 سليمان بن سحمان المولود عام 1266هـ والمتوفى عام 1349هـ، وقد أخذ الشيخ عبد اللطيف عن أبيه وأبوه أخذ عن جده الشيخ محمد المترجم له، وكذلك أخذ عن الشيخ حسين بن غنام1. ولا شك أن الشيخ عبد اللطيف مصدر معتمد لهذه الترجمة ولكل ما يتعلق بالشيخ المترجم له باعتبار موقعه من النسب والعلم. وتقع ترجمة جده في ص 378-389 من رسائله هذه. والرابع: الدرر السنية في الجزء الثاني عشرجمع عبد الرحمن بن محمد بن قاسم ومن مشائخه الشيخ سليمان بن سحمان وقد جمع واستوعب وهوثقة ضابط، وكان مولده عام 1319هـ وتوفي عام 1392 هـ2. وتقع ترجمة الشيخ في مجموعه في جـ 12 ص 3- 25. ب- مراجع فرعية: والبقية من هذه المراجع سأترك ذكرها هنا وإن كنت قد استفدت منها لكن ليست هي الأساسية، وفي الغالب هي عيال على ما تقدم، وسأذكرها عند موضع الاستفادة منها إن شاء الله تعالى، وقال حمد الجاسر: "إن سيرة الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب- رحمه الله- قد عنى تلاميذه وأبناؤه وأحفاده وتلاميذهم من علماء نجد بتدوينها تدوينا   1 انظر تراجمهم في المصدر السابق جـ1. 2 عبد الله البسام علماء نجد خلال ستة قرون، ج 2 ص 414. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 كاملا"1. وقال أيضا: "وهم في الحقيقة أدرى من غيرهم بحياة هذا العالم الجليل كما قيل: أهل مكة أدرى بشعابها"2. وعلى هذا الأساس بنيت اختياري للمراجع واعتباري للأساسي منها. جـ- مراجع أعرضت عنها: وأعرضت عن مثل كتاب (لمع الشهاب في سيرة محمد بن عبد الوهاب) لمؤلف مجهول طبع، بيروت 1387هـ نشر بتحقيق، أبي حاكمه، وتلقاه كثير من الناس - أعرضت عنه للأسباب، التالية: أ- إنه لمؤلف مجهول، ويظهر منه روح معادية لعقيدة السلف الصالح، والروح المعادية للحق تحمل صاحبها على ترويج الأكاذيب واختلاق الأخبار، ألف سنة 1233هـ3. وهذا هو تاريخ حلول النكبة التي أصيب بها أهل الدرعية على يد طاغية مصر ومن ورائه الترك وأعداء المسلمين من أوربا والإنكليز، مما يدل على أن الكتاب ألف كجزء من حملة الباطل على الدرعية ولكن الله رد كيدهم وأبقى ميراث الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفي ولله الحمد كما قال تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ   1 مجلة العرب، الجزء العاشر، السنة الرابعة ربيع الثاني 1390هـ ص941. 2 المرجع السابق، ص 944. 3 انظر: صورة آخر صفحة من مخطوط لمع الشهاب في ص (ي) من مطبوعته بتحقيق وتعليق ابن عبد اللطيف وص 218 من نفس المطبوع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف: 8] . ب- وما فيه من صدق فهو قليل جدا وموجود في غيره من المصادر الموثوقة فنحن في غنى عنه، وما قصد بذكر المشتهر منه إلا لبس الحق بالباطل كما هى طريقة أهل الكتاب المنحرفين والكهان والعرافين يأتون بكلمة واحدة من الصدق مشهورة ويضيفون إليها مائة كلمة من الكذب مجهولة ليروجوا هذا الكذب ويوهموا الناس أنه كله صدق، وعلى كل فلا يعتمد على رواياته لكذبه الواضح وتزييفه وقائع تاريخية معلومة. جـ- ومصداق ذلك أن دارة الملك عبد العزيز قامت بطبعه مرة أخرى لتمحيص الأخطاء والتنبيه إلى تزييفه الوقائع والحقائق التاريخية بقلم محققه عبد الرحمن بن عبد اللطيف وقد بسط الكلام حول هذا: عبد الواحد راغب، فى مقاله فى مجلة الدارة ع 2، س 2، ص 238-249. د- وكان حمد الجاسر قد سئل عن رأيه فى هذا الكتاب فقال: (أرى أن كتاب (لمع الشهاب) ألف استجابة لرغبة المستر (ريس) أو أحد موظفي الإنكليز فى الخليج ذلك أن هذا الكتاب يحوي ثناء على الإنكليز ووصفا لأعدائهم من العرب فى الشارقة وغيرها بأوصاف كان موظفو الإنكليزفى ذلك العهد يطلقونها عليهم، وهي غير صحيحة. وفي الكتاب كثير من التحريف والكذب في الأنساب وفي الوقائع التاريخية مما يدل على أن كاتبه كان قد استوحى كثيرا مما فيه من مخيلته وأضاف إلى ذلك وقائع وحوادث كانت معروفة ومشهورة فى ذلك الوقت، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 وخلط بعضها بما لا يتفق مع الحقيقة، وأبرز الكتاب بصورة تجعله مقبولا عند القارىء فهو برغم ما فيه من المعلومات الباطلة عن أنساب أهل نجد وعن حياة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وعن نسب آل سعود وأخبارهم مع ما في كل ذلك من الأباطيل ففي الكتاب ثناء طيب يحمل القارىء على أن يحسن الظن بالمؤلف ويعتقد أنه يكتب بتجرد وإنصاف. لا أقول هذا متحيزا أو متأثرا بأية عاطفة ولكنني أقوله مقررا لحقيقة تاريخية هوأنه لا يصح التعويل على ما في هذا الكتاب ما لم توجد نصوص أخرى تؤيده، وكثير مما فيه يخالف النصوص التاريخية المعروفة"1. والأمر هو كما قال الأستاذ المحقق حمد الجاسر، من أن هذا الكتاب ونحوه لا يصح التعويل على ما فيه. نسبه: هو: محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي بن محمد بن أحمد بن راشد بن بريد بن محمد بن بريد بن مشرف بن عمر بن معضاد بن ريس بن زاخر بن محمد بن علوي بن وهيب بن قاسم بن موسى بن مسعود بن عقبة بن سنيع بن نهشل بن شداد ابن زهير بن شهات بن ربيعة بن أبي سود بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة ابن تميم بن مر بن أدبن   1 مجلة العرب، الجزء العاشر، السنة الرابعة ربيع الثاني 1390 هـ ص 941. وانظر: نقداً لكتاب لمع الشهاب بتحقيق الدكتور أحمد مصطفى أبو حاكمه في مجلة العرب الجزء التاسع، السنة الأولى، ربيع الأول سنة 1387 هـ ص 953-957. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 طابحة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. أما والدة الشيخ محمد- رحمه الله- فهى بنت محمد بن عزاز المشرفي الوهيبي التميمي فهي من عشيرته الأدنين1. وهناك اختلاف طفيف فى نسب الشيخ إلى (مشرف) ففى سرد ابن بشر2، وعبد الرحمن المغيري3 لنسب الشيخ يصير (مشرف) الجد السابع للشيخ، قالا: (محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي بن محمد بن أحمد بن راشد بن بريد بن مشرف) فقد سقط اسمان من أسماء أجداده هما: (محمد) ثم (بريد) بين (بريد) الأول و (مشرف) ويبدو أن عبد الله بن يوسف الشبل قد تبع ابن بشر فى سرده لنسب الشيخ عندما ترجم له4. أما عبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ في كتابه: (مشاهير علماء نجد وغيرهم) 5 وفى كتابه: (علماء الدعوة) 6، وعبد الله بن عبد الرحمن   1 علماء نجد خلال ستة قرون للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن بسام جـ1/ ص 26. 2 عنوان المجد 1/89، ط. مكة. 3 الكتاب المنتخب في ذكر قبائل العرب، ص 163. 4 في كتابه: الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب حياته ودعوته ص 16، مطابع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. 5 ط1، ص16. 6 ص6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 البسام فى كتابه (علماء نجد خلال ستة قرون) 1 فقد زادا فى سردهما لنسب الشيخ عن سرد ابن بشر والمغيري الجد السابع (محمد) ونقص الجد الثامن (بريد) ، كما هو الثابت فى سرد المؤرخ الأقدم حسين بن غنام2. والشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن3، والشيخ راشد بن علي بن جريس الحنبلى4، والمؤرخ إبراهيم بن عيسى5، والفقيه إبراهيم بن ضويان6، والشيخ عبد الرحمن بن قاسم7 والشيخ حمد الجاسر8 - ففى سردهم جميعا لنسب الشيخ يصير (مشرف) الجد التاسع، فيقولون: "محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي بن محمد بن أحمد بن راشد بن بريد بن محمد بن بريد بن مشرف". وعلى ما يبدو أن إبراهيم بن عبيد في تاريخه (تذكرة أولى النهى والعرفان) 9 ومحمد العقيلى فى بحثه10 الذي قدمه لمؤتمر أسبوع الشيخ   1 1/25. 2 روضة الأفكار 1/ 25. 3 الرسائل والمسائل 3/ 379. 4 مثير الوجد في معرفة ملوك نجد ص 31،32. 5 تاريخ بعض الحوادث ص 125، 126. 6 رفع النقاب مخطوط، لوحة 74 عن مجلة الدارة ع 2، س 1398هـ ص 97. 7 الدرر السنية جـ 12 ص 3. 8 جمهرة أنساب الأسر المتحضرة في نجد 1/ 469. 9 جـ1/ 13. 10 ص13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 محمد بن عبد الوهاب، وغيرهما1 قد تبعوهم فى سردهم لنسب الشيخ، وكذلك الدكتور عبد الله العثيمين ذكر أن (مشرفاً) هو الجد التاسع للشيخ- ولكنه حين سرد نسب الشيخ أسقط اسم جده الثالث (محمد) ولعله أسقطه سهوا2، إلا أن يكون قد تبع الحيدري فى كتابه (عنوان المجد فى بيان أحوال بغداد والبصرة ونجد) فالحيدري قد أسقط اسم جده الثالث (محمد) واعتبر العد يبدأ من أب الشيخ لا من جده. والذى أثبته الشيخ حسين بن غنام ومن أتى بعده ممن ذكرنا هو الراجح لأنهم أكثر عددا وفيهم من هو أتم ضبطا وأقدم تاريخا. وأما من (مشرف) إلى (ريس) فإن ابن غنام لم يذكر ما بعد (مشرف) من نسب الشيخ وإنما وقف فى نسبه على (مشرف) 3، وكذلك الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن4. ولكن ابن بشر5، وإبراهيم بن صالح بن عيسى6، وعبد الرحمن بن   1 انظر البحوث المقدمة لأسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب المنعقد في الفترة من 21/ 4/ 1400 إلى نهاية 27/ 4/ 1400، مجلد (حياة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وآثاره العلمية) بحث الشيخ إسماعيل الأنصاري وبحث الشيخ يوسف جاسم الحجي.. 2 الشيخ محمد بن عبد الوهاب حياته وفكره ص 23. 3 روضة الأفكار: 1/ 25. 4 الرسائل والمسائل 3/ 379. 5 عنوان المجد، 1/ 89. 6 تاريخ بعض الحوادث ... ص 223، 1 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 قاسم1، وحمد الجاسر2، وعبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ3، وعبد الله بن عبد الرحمن البسام4 يتفقون على أنه هكذا: (مشرف بن عمر بن معضاد بن ريس) ويخالفهم عبد الرحمن المغيري5، وتركي آل ماضي6- فى اسم والد مشرف (عمر) ففى مؤلفيهما أنه (عمرو) والراجح (عمر) لا (عمرو) لأنه هكذا فى مؤلفات ابن بشر وابن عيسى وابن قاسم ومن معهم كما ذكرنا، وهم أضبط وأكثر. كما يخالف كل من سبق ذكره إبراهيم بن ضويان7، وصاحب التوضيح عن توحيد الخلاق فى جواب أهل العراق8. فى اسم (ريس) ففى مؤلفيهما أنه (ادريس) والراجح أنه (ريس) لا (ادريس) لأن من ضبطه (ريس) أضبط وأكثر.   1 الدرر السنية جـ 12 ص 3، 4. 2 جمهرة أنساب الأسر المتحضرة في نجد 1/469. 3 مشاهير علماء نجد ص 16. 4 علماء نجد خلال ستة قرون 1/25. 5 الكتاب المنتخب في ذكر قبائل العرب ص 163. 6 تاريخ آل ماضي ص 10. 7 رفع النقاب عن تراجم الأصحاب مخطوط لوحة 74، عن مجلة الدارة، ع 2 رجب 1398 هـ ص 97. 8 مطبعة العامرة الشرقية سنة 1319هـ ص 16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 وقال المؤرخ إبراهيم بن عيسى: (وأما المشارفة أولاد مشرف بن عمر ابن معضاد بن ريس بن زاخر، فمنهم آل الشيخ المعروفين فى الرياض) 1. وأما من ريس إلى (عقبة) ومن عقبة إلى (مر) - فيقول ابن عيسى: (قال الشيخ محمد بن عبد الله بن مانع: وهذا النسب من ريس إلى عقبة، منقول من خط محمد بن أحمد بن محمد بن منيف بن بسام (بن) منيف القاضي، ومن خط علماء الوهبة المعروفين المعتبرين، مثل الشيخ أحمد بن محمد بن بسام، والشيخ أحمد بن محمد بن حسن القصير، والشيخ سليمان بن علي (جد الشيخ محمد بن عبد الوهاب) والشيخ أحمد بن محمد البجادي، والشيخ عبد المحسن بن علي بن شارخ المشرفي وغيرهم. ومن (عقبة) إلى (مر) منقول عن ابن الكلبي وياقوت الحموي، قال ابن الكلبي: وكان عقبة شريفا2 أي في قومه. كما نقل ابن عيسى أن الشيخ محمد بن عبد الله بن مانع يقول: (ان ابن منصور ليس بمأمون في نقله عن علماء الوهبة من أن أحدهم إذا وصل فى نسبه إلى مسعود قال هو أخو غيلان ذي الرمة بن عقبة بن بهيش بن مسعود بن حارثة، الخ. وينكرذلك ويقول: (الذي وقفنا عليه ورأيناه   1 تاريخ بعض الحوادث ... ص 223. 2 المصدر السابق، ص 212، وانظر: الكتاب المنتخب في ذكر قبائل العرب لعبد الرحمن المغيري، ص 164- وتاريخ آل ماضي ص 12،13، وعلماء نجد خلال ستة قرون للبسام 1/25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 بخطوطهم خلاف ما نقله عنهم ابن منصور، إنما هو: مسعود بن عقبة بن سنيع بن نهشل بن شداد) ... الخ1. وهناك اختلافات أخرى شاذة مثل السقط والتصحيفات التي وقعت في كتاب إبراهيم الحيدري المسمى: (عنوان المجد في بيان، أحوال بغداد والبصرة ونجد) فقد أسقط اسم جده الثالث محمد، وصحف اسم جده (بريد) إلى (بريز) واسم جده (معضاد) إلى (بعضاد) واسم جده (زاخر) إلى (ذاخر) [لوحة 314-315] ومثل ما في معجم المؤلفين لعمر رضا كحالة فقد قال: "محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن أحمد بن راشد بن يزيد بن محمد بن يزيد ابن مشرف التميمي النجدى) 2 فقد أسقط اسم (علي) ثم (محمد) بين (سليمان) و (أحمد) ، وأبدل (بريدا) بـ (يزيد) في الموضعين، وهذا غير صحيح. وبعض المترجمين أعرض عن تفصيل نسب الشيخ كالزركلي في كتابه (الأعلام ... ) واقتصر على قوله: "محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي النجدي) 3. وبالجملة التي لا خلاف عليها خلافا معتبرا أن الشيخ ينسب فيقال:   1 تاريخ بعض الحوادث ... ص 217-219، وانظر: مثير الوجد في معرفة أنساب ملوك نجد، تأليف راشد بن علي الحنبلي، ص 30-32. 2 ج 10/ 269. 3 ج 7 /137 – 138. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 (المشرفي) نسبة إلى جده (مشرف) وأسرته آل مشرف، ويقال: (الوهيبي) نسبة إلى جده (وهيب) جد الوهبة، والوهبة يجتمعون في محمد ابن علوي بن وهيب. وهم بطن كبير من حنظلة، وحنظلة بيت من بيوت بني تميم الأربعة الكبار كما قال غيلان ذو الرمة: يعد الناسبون إلى تميم ... بيوت المجد أربعة كبارا يعدون الرباب وآل سعد ... وعمْراً ثم حنظلة الخيارا ويقال: (التميمي) نسبة إلى (تميم) أبي القبيلة الشهيرة1، والتي ورد فيها ما رواه البخاري في صحيحه في كتاب العتق2، في الباب الثالث عشر، وفي كتابه المغازي3 في الباب الثامن والستين، ومسلم في صحيحه في كتاب فضائل الصحابة4، في الباب السابع والأربعين ورقم الحديث 198 عن أبي هريرة واللفظ هنا لمسلم: عن أبي زرعة قال: قال أبوهريرة: لا أزال أحب بني تميم من ثلاث سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم - سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقول: "هم أشد أمتي   1 انظر: البسام، علماء نجد خلال سنة قرون 1/ 25، 26 وعبد الرحمن المغيري، الكتاب المنتخب في ذكرقبائل العرب ص 161،163، 164، تركي بن ماضي، تاريخ آل ماضي ص 11.. 2 جـ 3 ص 122. 3 جـ 5/ ص 115،116. 4 جـ 4 ص 1957.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 على الدجال" قال: وجاءت صدقاتهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم -: "هذه صدقات قومنا" قال: وكانت سبية منهم عند عائشة- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -: "أعتقيها فإنها من ولد إسماعيل". ويتضح من سرد نسب الشيخ المتقدم أنه يلتقي مع نسب الرسول صلى الله عليه وسلم - في إلياس ابن مضر. أسرته العلمية: إنه منذ القرن العاشر الهجري زمن أجود بن زامل ملك الأحساء ونواحيه تلمع أسماء علماء من آل مشرف كالقاضي عبد القادر بن بريد المشرفي، وكان أحمد بن محمد بن مشرف في أشيقر ممن أخذ عن أحمد بن يحيى بن عطوة وعن أبي النجاموسي الحجاوي مصنف الإقناع وزاد المستقنع وغيرهما1. جده: وفي القرن الحادي عشر الهجري نجد أن جد الشيخ محمد بن عبد الوهاب هو القاضي سليمان بن علي بن مشرف أكبر عالم في نجد ذلك الزمن، ويتحدث المؤرخ إبراهيم بن عيسى عن مكان ولادته ونشأته وأعماله وتنقلاته فيقول: (ولد في بلد أشيقر ونشأ بها وقرأ على علمائها ولازم منهم أجلهم الشيخ أحمد بن محمد بن مشرف، وبرع ودرس   1 ابن بشر، عنوان المجد 1/ 22، 23، في سابقة (948) ، وابن بسام، علماء نجد، 1/ 310، والدكتور العثيمين، الشيخ محمد بن عبد الوهاب.. ص 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 ومهرفي الفقه ثم طلبه أهل روضة سديرقاضيا لهم فأجابهم إلى ذلك، فانتقل من أشيقر وسكن عندهم فنشرالعلم في الروضة وحث الناس على التعلم ورغبهم فيه وانتفع به خلق كثير واتفق أنه حصل بينه وبين بعض رؤساء البلدكلام فغضب الشيخ من ذلك وانتقل إلى العيينة واستوطنها وتولى قضاءها وباشره بعفة وصيانة" اهـ1. ويصف ابن بشر مكانته العلمية فيقول: "كان سليمان رحمه الله تعالى فقيه زمانه متبحرا في علوم المذهب وانتهت إليه الرئاسة في العلم، وكان علماء نجد في زمانه يرجعون إليه في كل مشكلة من الفقه وغيره رأيت له سؤ الات عديدة وجوابات كثيرة، وصنف كتابا في المناسك، وذكر لي أنه شرح الإقناع فلما علم أن منصوراً البهوتي شرحه أتلف سليمان شرحه) 2، وقال ابن بسام عن فتاوي الشيخ سليمان (بلغ المحفوظ منها الآن أكثرمن أربعمائة جواب مفرقة في بعض المطبوعات، وأكثرها لا يزال مخطوطا"3 ا- هـ وقد رأيت في مجموعة الرسائل والمسائل النجدية أجوبة له على مسائل من الفقه بلغت إحدى وثلاثين مسألة4.   1 نقلا عن ابن بسام، علماء نجد،1/310. 2 ابن بشر، عنوان المجد، 1/62. 3 علماء نجد،1/312. 4 انظرها في: جـ 1/ 510-520. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 وقال البسام عن شرحه الإقناع: "وقد شرح الإقناع فلما حج سنة (1094هـ) تسع وأربعين وألف وجد الشيخ منصورالبهوتي حاجا فأطلعه على شرحه فتأمله الشيخ سليمان ثم قال: وجدته مطابقا لما عندي إلا في مواضع يسيرة وأتلف شرحه عليه"1. ويزيد المؤرخ إبراهيم بن عيسى في وصف مكانته العلمية فيقول: "وكتب بخطه الحسن المضبوط النير كتبا كثيرة من كتب الفقه وغيرها وحصل كتبا كثيرة نفيسة في كل فن وعلى كل كتاب منها خطه بتهميش وتصحيح وإلحاق فوائد وتنبيهات مما يدل على أنه طالعها جميعها مطالعة تأمل وتفهم" ا. هـ2. وقال الدكتور العثيمين: "يوجد خطه في مكتبة برلين (4/22) لكتاب جلاء الأفهام في فضل الصلاة على خير الأنام تأليف شمس الدين الزرعي وهو مكون من 220 ورقة"3. توفي الشيخ سليمان بن علي في سنة تسع وسبعين وألف (1079هـ) 4، في بلد العيينة5.   1 علماء نجد،1/311. 2 نقلا عن ابن البسام، علماء نجد، 1/310، 311. 3 الشيخ محمد بن عبد الوهاب ... ص 24. 4 ابن بشر، عنوان المجد، 1/62، وابن عيسى تاريخ.. ص 61، 62. 5 ابن بسام، علماء نجد 1/312. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 وكان قد أخذ عنه العلم والفقه جماعة، وتتلمذ له خلق كثير تخرجوا على يديه وانتفعوا به منهم أبناءه عبد الوهاب وإبراهيم وغيرهما1. وقال الشيخ عبد الله البسام: "المعروف أن الشيخ سليمان بن علي لم يبق له عقب الآن إلا من قبل الشيخ محمد بن عبد الوهاب"2. ولنا أن نقول: وكذلك ميراث الشيخ سليمان بن علي العلمي بقي في الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه من ذريته وغيرهم- ومنهم انتشركما هي سنة الله تعالى في عباده المحسنين، يجيبهم إذا نادوه ودعوه، وينجيهم من الكرب، ويجعل البقاء في ذريتهم. قال تعالى: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} 3. والده: وعبد الوهاب بن الشيخ سليمان هو أبو الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب؛ ولد في العيينه ونشأ بها على تربية أبيه بالعلم والفقه من صغره،   1 ابن بشر، عنوان المجد، 1/62،63، والسحب الوابلة عن مجلة العرب ص 12ص 670. 2 علماء نجد خلال ستة قرون 1/111. 3 سورة الصافات: 75- 80. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 وكما أخذ عن والده الشيخ سليمان، فقد أخذ عن غيره أيضا من علماء العيينة حتى أدرك في الفقه كأبيه وولي قضاء العيينة مكان أبيه1. وقد رأيت له جوابا في مجموعة الرسائل والمسائل النجدية على سؤال وجهه إليه عبد الله بن أحمد بن سحيم عن أحوال منكرة من أناس يسمون أنفسهم فقراء يدخلون في النار ويضربون أنفسهم بالحديد ويقفزون من السطوح ويلعبون بذكر الله حيث يفعلونه كنبح الكلاب ... فأجاب بأن هؤلاء فسقة شياطين منافقون وأفعالهم منكرة وبعضها كفر بلا ريب يتعوذ المسلمون بالله من أفعالهم وأن أهل حرمة وأضرابهم الذين اتبعوهم وجادلوا عنهم لا يصلى خلف أحدهم ولا تقبل شهادته ويحث على إنكار مثل ذلك باليد واللسان، واستدل بأدلة سديدة مما يدل على أصالة علمه وفقهه2. وفي هذه الأسرة العلمية من آل مشرف ولد الشيخ محمد بن عبد الوهاب. مولده ونشأته العلمية ومواهبه: ولد الشيخ محمد بن عبد الوهاب سنة ألف ومائة وخمس عشرة (1115هـ) من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم،3، على ما هو   1 ابن بشر، عنوان المجد 1/235. 2 انظر: المسائل والرسائل النجدية 1/523- 5 52. 3 ابن غنام، روضة الأفكار 1/25 وابن بشر، عنوان المجد، سابقة (1115هـ) جـ1/ 138. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 معروف1، في بلدة العيينة على الصحيح2، وكما ذكرنا في أسرة علمية، تعلم القرآن وحفظه عن ظهرقلب قبل بلوغه عشرسنين، وكان حاد الفهم وقاد الذهن ذكي القلب سريع الحفظ3، قرأ على أبيه في الفقه، وكان رحمه الله تعالى في صغره كثير المطالعة في كتب التفسير والحديث وكلام العلماء في أصل الإسلام فشرح الله صدره في معرفة التوحيد وتحقيقه ومعرفة نواقضه المضلة عن طريقه4، وجد في طلب العلم وأدرك وهو في سن مبكرة حظا وافرا من العلم حتى إن أباه كان يتعجب من فهمه ويقول: "لقد استفدت من ولدي محمد فوائد من الأحكام"5 وكتب أبوه إلى بعض إخوانه رسالة نوه فيها بشأنه وفهمه الجيد وأنه بلغ الاحتلام قبل إكمال اثنتي عشرة سنة من عمره ورآه أهلا للصلاة بالجماعة إماما لمعرفته بالأحكام، وزوجه بعد البلوغ مباشرة ثم طلب من أبيه الحج إلى بيت الله الحرام فأذن له فحج وقصد المدينة وأقام فيها شهرين   1 الشيخ عبد العزيز بن باز، محاضرة عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب ص 19 –0 2. وانظر: البيان الواضح لأسرة الشيخ- تأليف عبد الله بن إبراهبم بن عبد العزيز آل الشيخ ص 5. 2 الدكتور العثيمين، الشيخ محمد ... ص 25، ومسعود الندوي، محمد بن عبد الوهاب ... ص 36. 3 روضة ابن غنام جـ 1/25. 4 ابن بشر، عنوان المجد في تاريخ نجد 1/6. 5 روضة ابن غنام 1/ 25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 ثم رجع بعد ذلك إلى أبيه في العيينة وأخذ يدرس الفقه على مذهب الإمام أحمد على والده، ورزق مع قوة الحفظ سرعة الكتابة بحيث إنه يخط كراسا بخط واضح في الجلسة الواحدة بلا سأم ولا تعب مما يحير أصحابه1، ويقول عبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ: "وقد كتب بخط يده كثيرا من مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية لا يزال بعضها موجودا بالمتحف البريطاني بلندن"2. وقال حفيده وتلميذه الشيخ عبد الرحمن بن حسن: "لما قدم جده سليمان بن علي من الروضة ونزل العيينة كان أفقه من نزل نجدا في وقته فتخرج عليه خلق كثير من أهل نجد منهم ابناه عبد الوهاب وإبراهيم، وكان المتولى للقضاء في العارض أبو عبد الوهاب، وكان عمه يسافر إلى ما حولهم من البلاد لحاجتهم إليه في الإفتاء وما يقع بينهم من بيع العقارات وكان عليه اعتمادهم فيما كتبه وأثبته، وأكثر إقامته مع أخيه عبد الوهاب فظهر شيخنا بين أبيه وعمه، فحفظ القرآن وهو صغير، وقرأ في فنون العلم، وصار له فهم قوي وهمة عالية في طلب العلم فصار يناظر أباه وعمه في بعض المسائل بالدليل على بعض الروايات عن الإمام أحمد والوجوه عن الأصحاب فتخرج عليهما في الفقه وناظرهما في مسائل قرأها   1 روضة ابن غنام جـ1/ 25-26. 2 مشاهير علماء نجد وغيرهم ص 18، وانظر: عبد الحليم الجندي، (الإمام محمد بن عبد الوهاب أو انتصار المنهج السلفي) دار المعارف ص 91. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 في الشرح الكبير والمغني، والإنصاف لما فيهما من مخالفة ما في متن المنتهى والإقناع"1. وقال ابن بشر: "وكان رحمه الله تعالى في صغره كثير المطالعة في التفسير والحديث وكلام العلماء في أصل الإسلام فشرح الله صدره في معرفة التوحيد وتحقيقه ومعرفة نواقضه المضلة عن طريقه"2. وقال الشيخ عبد الرحمن بن قاسم: "أمده الله بكثرة الكتب وسرعة الحفظ، وقوة الإدراك وعدم النسيان، سمع الحديث، وأكثر في طلبه، وكتب ونظر في الرجال والطبقات وحصل ما لم يحصل غيره، برع في تفسير القرآن، وغاص في دقائق معانيه، واستنبط منه أشياء لم يسبق إليها، وبرع في الحديث وحفظه، فقل من يحفظ مثله مع سرعة استحضاره له وقت إقامة الدليل، وفاق الناس في معرفة الفقه، واختلاف المذاهب وفتاوى الصحابة والتابعين بحيث إنه إذا أفتى لم يلتزم بمذهب بل بما يقوم دليله عنده، تمسك بأصول الكتاب والسنة، وتأيد بإجماع سلف الأمة"3. وهكذا نشأ الشيخ محمد بن عبد الوهاب نشأة علمية، فأبوه القاضي كان يحثه على طلب العلم ويرشده إلى طريق المعرفة، ومكتبة جده العلامة القاضي سليمان بن علي بأيديهم، وعمه إبراهيم أكثر إقامته   1 الدرر السنية 9/ 215. 2 ابن بشر عنوان المجد 1/ 6. 3 الدرر السنية 12/ 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 مع أخيه عبد الوهاب، فيلتقي به ابن أخيه محمد بن عبد الوهاب ويأخذ عنه، وبعض أقارب الشيخ الآخرين من آل مشرف وغيرهم من طلاب العلم، وبيتهم في الغالب ملتقى طلاب العلم وخواص الفقهاء سيما الوافدين باعتباره بيت القاضى، ولابد أن يتخلل اجتماعاتهم ولقاءاتهم مناقشات ومباحث علمية يحضرها محمد بن عبد الوهاب والقضايا التي كان أبوه ينظر فيها، فإن قربه يمكنه من معرفة مجرياتها1، وهو قد أنعم الله عليه بالإدراك العميق والحفظ القوي والذكاء الممتاز والرغبة والطموح، والجد في اكتساب معالي الغايات وإن كانت بعيدة، فما له لا يدرك الحظ الوافر والبلغة العظيمة من العلم النافع والميراث النبوي الكريم؟ لقد أتم الله عليه نعمته ورزقه إدراك بعض الأرب من العلم، في بلده وأخذ ما عند علماء نجد ووصلوه بسندهم، ولكن همته العالية وطموحه الوثاب، كان يحفزه على البحث الدائب والدراسة المتواصلة، والتفكير النافع والمناقشة البناءة مع العلماء والطلبة وغيرهم، فلا يقنع بما اقتنع به سابقوه ويقتنع به معاصروه. قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن: "وقد أخبر شيخنا رحمه الله تعالى أنه كان في ابتداء طلبه العلم، وتحصيله في فن الفقه وغيره لم يتبين له الضلال الذي كان الناس عليه من عبادة غير الله، من جن أو غائب، أو طاغوت، أو شجر أو حجر أو غير ذلك ثم إن الله جعل له نهمة في مطالعة   1 انظر: الدكتور العثيمين، الشيخ محمد عبد الوهاب ... ص 26، 27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 التفسير والحديث، وتبين له من معاني الآيات المحكمات والأحاديث الصحيحة أن هذا الذي وقع فيه الناس من الشرك أنه الشرك الذي بعث الله رسله، وأنزل كتبه بالنهي عنه، وأنه الشرك الذي لا يغفره الله لمن لم يتب منه فبحث في هذا الأمرمع أهله وغيرهم من طلبة العلم فاستنارقلبه بتوحيد الله الذي أرسل الله به رسله وأنزل به كتبه"1. أثر البيئة في توجيه الشيخ علميا: لقد أبصر الشيخ البيئة من حوله بواقعها والناس في حياتهم ودينهم على الغالب في تناقض وتصادم مع ما نشأ عليه من علم وما عرفه من الحق على يد أبيه ومن خلال مطالعته لكتب المحققين من علماء السلف الصالح، فما يتعلمه من أبيه ومن ميراث العلماء في واد والحياة الواقعة والعمل الجاري من الناس على العموم والغالب في واد آخر، بل في مصادمة ومناقضة مع حياته العلمية الخاصة التي ورثها من متصل إسناد العدول وحملة العلم النبوي من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إليه اتصالا متينا لا يتطرق إليه انقطاع ولا انفصام، ذلك أن البيئة في نجد على الخصوص كما هي في سائر البلاد الأخرى على العموم- بيئة جاهلية، بيئة خرافة وبدعة، امتزجت بالنفوس فأصبحت جزءا من عقيدتها إن لم تكن هي عقيدتها. وقد بينا ذلك في المبحث السابق بفضل الله تعالى2. ولا   1 الدرر السنية 1/218. وانظر: ابن بشر، عنوان المجد 1/ 6. 2 انظر: ص 21-48 من هذا المبحث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 شك أن بيئةً هذه عقيدتها مناقضة لعقيدة السلف الصالح، مناقضة للإسلام، الذي يتربى عليه الشيخ في محضن خاص من المحاضن التي يحفظ الله بها دينه، ويقيم على الناس بها حجته استمرارا لرسالة خاتم أنبيائه ورسله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم -. ولابد أن يخرج الشيخ إلى هذه البيئة ويعاملها بمقتضى سنة الله في خلقه، الذي خلق الموت والحياة ليبلو الناس أيهم أحسن عملا وهو العزيز الغفور، والشيخ بين أمرين إما أن يستسلم للبيئة ويصبح مثل الآخرين فتكون نفسه وقلبه وروحه ميدانا للمتناقضات وصراعها واختلاط البدعة والوهم بعقيدته السليمة ودينه القيم وحياته الطيبة، وتصبح الجاهلية سائدة في نفسه كالأكثر الغالب من الناس. وإما أن يصمم على محاربة الخرافة المنتثرة والبدعة الشائعة، والجاهلية الجاثمة الثقيلة، وما أثقلها من كابوس جاثم، إنها حياة أغلبية المجتمع من حوله، التي تضغط بقوة على من يحيا بالإسلام ونوره.. ولكن قد اختارالشيخ رحمه الله وجزاه خيرا أن يقوم لله قومة انصدعت لها جبال الجاهلية، وتقطعت بها غيوم الباطل وشبهاته، فعزم على تنحية البدع من الحياة التي حوله وإيقاظ النائمين، وتنبيه الغافلين، والعمل على نشر الإسلام والنور من الكتاب والسنة وسيرة الصالحين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 توجه الشيخ للرحلة في طلب العلم: قال ابن بشر: "فلما تحقق الشيخ معرفة التوحيد ونواقضه، وما كان وقع فيه كثير من الناس من هذه البدع المضلة صار ينكر هذه الأشياء، واستحسن الناس ما يقول، لكن لم ينهوا عما فعل الجاهلون، ولم يزيلوا ما أحدث المبتدعون" ا. هـ1. هنا توجه الشيخ للرحلة في طلب العلم للتسلح بسلاح ماض قاطع، فإن إنكار الشيخ لهذه الأمورالشائعة جعلته في مواجهة للمعارضة من علماء السوء وتلبيساتهم وشبهاتهم، وتأليب العامة عليه، وتهمتهم إياه بالانحراف والجهل. فكان كل ذلك يزيد تفكيره، وحرصه على تحصيل العلم وإِدراك الحق فلابد أن يرحل في طلب العلم وتحقيق ما شرح الله له صدره من حقيقة هذا الدين القيم على أيدي حملته العدول الذين لن تخلو منهم الأرض ولن ينقطع منهم زمان إلى قيام الساعة.. . فليرحل إلى مظانهم في أقطار البلاد الإسلامية حيث إنهم لا يحصرون في مكان دون آخر ولا زمان دون زمان. فإِن للعلماء بقايا، وفي الزوايا خبايا، وحجة الله قائمة وذكره محفوظ وميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم مضبوط في الكتب والصدور يحمله من كل خَلَفٍ عدوله، ويتوارثه جيل بعد جيل،   1 ابن بشر، عنوان المجد 1/6،7 وانظر الرسائل والمسائل النجدية للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب 3/ 339، 340. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 ورب مبلغ أوعى من سامع، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ليرحل الشيخ في طلب العلم والتسلح بسلاحه فإن الطريق إلى الله لابد له من أعداء قاعدين عليه، أهل فصاحة وعلم وحجج، فالواجب على المسلم أن يتعلم من دين الله ما يصير له سلاحا يقاتل به هؤلاء الشياطين الذين يصدون عن سبيل الله ويقطعون الطريق إليه، كما يقول الشيخ1. لذلك قرر الشيخ محمد بن عبد الوهاب أن يرتحل من بلده العيينة يطلب العلم والنصرة وإِعداد العدة من النور والحكمة، (ولعله يجد من يساعده على ما عرف من دين الإسلام) 2. وقال الشيخ: "كنت عند الشيخ ابن سيف يوما فقال لي تريد أن أريك سلاحا أعددته للمجمعة؟ قلت: نعم. فأدخلني منزلا عنده فيه كتب كثيرة وقال: هذا الذي أعددنا لها"3. رحلاته العلمية: (خط سيرها، والأماكن التي رحل إليها، وزمانها - وشيوخه - وتحصيله- ونتيجة ذلك) قال المؤرخ ابن بشر عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: "فلما رأى أنه لا يغني القول، ولم يتلق الرؤساء الحق بالقبول تجهزمن بلد   1 انظر: كشف الشبهات تقديم علي الصالحي ص 20. 2 الرساثل والمسائل النجدية، للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن جـ 3/ 340. 3 ابن بشر، عنوان المجد 1/7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 (العيينة) إلى حج بيت الله الحرام- فلما قضى حجه سار إلى المدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام"1. يفيد كلام ابن بشر هذا أن الشيخ بدأ رحلاته العلمية من العيينة إلى الحجاز فحج بيت الله الحرام أولا، ثم سار إلى المدينة ثانيا. وعلى ما يظهر من كلام ابن غنام وكلام الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن أن الشيخ كان قد حج قبل هذه الحجة التي ذكرها ابن بشر بداية رحلة الشيخ في طلب العلم، قال ابن غنام ينسب عن والد الشيخ أنه يقول عنه: "وقد تحققت أنه بلغ الاحتلام قبل إكمال اثنتي عشرة سنة على الإتمام ... وزوجتُه بعد البلوغ في ذلك العام ثم طلب مني الحج إلى بيت الله الحرام، فأجبته بالإسعاف لذلك المرام، فحج وقضى ركن الإسلام، وأدى المناسك على التمام، ثم قصد مدينته عليه الصلاة والسلام وأقام فيها شهرين ثم رجع بعد ذلك فائزا بأجر الزيارة والمناسك"2. ثم ذكر ابن غنام أن الشيخ بعد رجوعه من المدينة إلى العيينة أخذ في القراءة على والده في الفقه، على مذهب الإمام أحمد ثم بعد ذلك رحل يطلب العلم إلى ما يليه من الأقطار، وزاحم فيه العلماء الكبار، فوطىء   1انظر الرسائل والمسائل النجدية للشبخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب ج 3/ 339، 340. 2 روضة ابن غنام 1/26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 الحجاز والبصرة لذلك مرارا، وأتى الأحساء لتلك الأوطار"1. ويقول الشيخ عبد اللطيف أيضا: "وبعد بلوغ الشيخ سن الاحتلام قدمه والده في الصلاة ورآه أهلا للائتمام، ثم طلب الحج إلى بيت الله الحرام، فأجابه والده إلى ذلك المقصد والمرام، وبادر إلى قضاء فريضة الإسلام وأداء المناسك على التمام، ثم قصد المدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام وأقام بها قريبا من شهرين، ثم رجع إلى وطنه قرير العين، واشتغل بالقراءة فى الفقه على مذهب الإمام أحمد رحمه الله ثم بعد ذلك رحل يطلب العلم"2. فيتضح من كلام ابن غنام والشيخ عبد اللطيف أن حجته الأولى كان يدفعه إليها واجب أداء ركن الإسلام وفريضته لما توفرت شروطها ببلوغ الشيخ ألا وهي حج بيت الله الحرام، أما هذه الحجة التي ذكرها ابن بشر بداية رحلاته العلمية فواضح أنها كانت بعد أن قرر مغادرة العيينة لطلب العلم، وبنحو ما حررته، يقول مسعود الندوي ما نصه: "وكان قد تشرف بحج بيت الله الحرام وكانت مركزية الحجاز قد أثرت في نفسه وحينما فكر في طلب العلم قصد الحجاز" إلى أن قال: "حج بيت الله الحرام، وزار المسجد النبوي مرة ثانية، ثم حضر مجالس العلماء،   1 المصدر السابق نفس الموضع. 2 الرسائل والمسائل النجدية 3/ 379، 0 38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 وانقطع لطلب العلم"1. وقال الدكتور العثيمين: "الواضح مما ذكره كل من ابن غنام وابن بشر أن الحجاز كانت أولى الجهات التي سافر إليها محمد بن عبد الوهاب في سلسلة رحلاته العلمية"2. وقال أيضا: "كانت ذكريات حجة الشيخ الأولى لا تزال عالقة في ذهنه، وكان ما شاهده في الحرمين كافيا لإقناعه بأن تكون خطوته الأولى في أسفاره العلمية إلى الحجاز، وقد بدأ هذه الخطوة بالسفر إلى مكة المكرمة، حيث حج مرة ثانية"3. ولا مانع من أن يكون الشيخ قد تلقى عن بعض المشائخ في المدينة في حجته الأولى وإن لم يكن قد أطال الإقامة فيها كما فعل في المرة الثانية، بل إننا لنجد ذلك في كتابات الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم آل الشيخ في العدد الأول والثاني والثالث من مجلة راية الإسلام، ففيها أن الشيخ رحل إلى مكة وحج، ثم إلى المدينة وتلقى فيها على بعض المشائخ، ثم عاد إلى العيينة، ثم رحل إلى مكة وأقام بها، وتلقى فيها عن بعض   1 محمد بن عبد الوهاب، مصلح مظلوم ومفترى عليه، تأليف مسعود الندوي، ص 38. 2 الشيخ محمد بن عبد الوهاب، حياته وفكره، للدكتور عبد الله الصالح العثيمين ص 30. 3 المصدر السابق، نفس الموضع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 المشائخ، ثم إلى المدينة وأطال المكث فيها، ورأى ما أفزعه من الأعمال المنافية للشرع عند حجرة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم رحل إلى البصرة1. والشيخ - على ما يَرْوي ابن بشر من رحلته العلمية - خرج من المدينة- بعد أن أقام فيها ماشاء الله يطلب العلم- إلى نجد، ومن نجد تجهز إلى البصرة يريد الشام فلما وصل البصرة جلس فيها يقرأ عند عالم من أهل المجموعة- قرية من قرى البصرة- في مدرسة فيها2. ويذكر حفيد الشيخ وتلميذه الشيخ عبد الرحمن بن حسن في معرض رده على ابن منصور الذي يفتخر برحلته إلى البصرة والزبير ليقول: إن الشيخ محمد بن عبد الوهاب لم يتخرج على أشياخ في العلم؛ قال الشيخ عبد الرحمن: إن الشيخ أيضا سافر إلى البصرة غير مرة كل مرة يقيم بين من كان بها من العلماء، فما الذي يخص ابن منصور بأخذ العلم منها دونه إذا كان الكل قد سافر إليها3. ويقول عبد الرحمن بن حسن: "ثم إن شيخنا رحمه الله تعالى بعد رحلته إلى البصرة، رحل إلى الأَحساء ثم رجع من الأحساء إلى البصرة"4.   1 انظر: مجلة راية الإسلام، العدد الأول، ص 34. 2 عنوان المجد 1/ 7، 8. 3 الدرر السنية 9/ 215. 4 الدرر السنية 9/ 216. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 ويذكر ابن بشر أن الشيخ تجمع عليه أناس في البصرة من رؤسائهم وغيرهم فآذوه أشد الأذى وأخرجوه منها وقت الهجيرة فلما خرج وتوسط في الدرب فيما بينها وبين بلد الزبير أدركه العطش وأشرف على الهلاك وكان ماشيا على رجليه وحده فوافاه صاحب حمار مكاري يقال له: أبو حميدان فسقاه وحمله على حماره حتى وصل الزبير) 1. وقال عبد الرحمن بن حسن: "إن الشيخ خرج من البصرة إلى نجد قاصدا الحج فحج رحمه الله، فلما قضى الحج وقف في الملتزم وسأل الله أن يظهر هذا الدين بدعوته، وأن يرزقه القبول من الناس، فخرج قاصدا المدينة مع الحجاج يريد الشام فعرض له بعض سراق الحجيج فضربوه وسلبوه وأخذوا ما معه وشجوا رأسه وعاقه ذلك عن مسيره مع الحجاج فقدم المدينة بعد أن خرج الحاج منها ثم رجع إلى نجد فقام فيهم يدعوهم إلى التوحيد" ا. هـ باختصار2. ويؤيد هذا الكلام كلام ابنه عبد اللطيف في الرسائل والمسائل3، وكلام الشيخ عبد الرحمن بن قاسم في الدرر السنية في ترجمته للشيخ) 4. فكلام الشيخ عبد الرحمن بن حسن هذا واضح وصريح في أن   1 ابن بشر، عنوان المجد 1/ 8. 2 الدرر السنية 9/ 215-216. 3 الرسائل والمسائل النجدية 3/ 340. 4 الدرر السنية، تراجم 12/ 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 الشيخ خرج من البصرة إلى نجد قاصدا الحج فحج، ووقف في الملتزم وسأل الله أن يظهر هذا الدين بدعوته، وأن يرزقه القبول من الناس، ثم خرج من مكة قاصدا المدينة مع الحجاج ليسافر منها إلى الشام مع حاج الشام ولكن فاته ركب الشام بسبب ما تعرض له من لصوص البادية، سراق الحجيج، وحين قدم المدينة لم يدركهم، وسواء بقي في المدينة أو لم يبق بها فإنه رجع إلى نجد من المدينة وقام يدعو أهل نجد إلى التوحيد، فلم لا تكون هذه حجة ثالثة، حيث كانت الثانية هي بداية رحلاته العلمية على ما قدمنا من رواية ابن بشر ولم ينفها ابن غنام ولا ابن حسن فكذلك تكون هذه على ما يروْي ابن حسن، ولم ينفها ابن بشر الحجة الثالثة. ويؤيد هذا أن ابن غنام يذكر أن الشيخ وطىء الحجاز والبصرة لطلب العلم مرارا1، والشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن قال أيضا: (رحل إلى البصرة والحجاز مرارا) 2، فقولهما (مرارا) يدل على أكثر من مرتين. كما يؤيد هذا أيضا أن بعض المصادر تذكر (أخذ الشيخ عن علي الداغستاني وإجازة الداغستاني له) 3.   1روضة ابن غنام ا/ 26. 2 الرسائل والمسائل 3/ 380. 3 انظر: الشيخ محمد بن عبد الوهاب ... بقلم أحمد بن حجر آل بوطامي ص 17. وقبله ابن قاسم في الدرر السنية 12/ 4، وقبلهما صاحب التوضيح محمد بن علي بن غريب، في التوضيح عن توحيد الخلاق ... ص 16، 17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 وعلى ما يقرر مسعود الندوي أن الداغستاني ولد سنة 1125هـ واحتل مكانا عاليا في علماء دمشق ورحل إلى المدينة ليرْوي عن الشيخ محمد حياة السندى، ورجع إلى الشام سنة 1150هـ1 وأن الشيخ بدأ رحلته العلمية في العشرين من عمره2 أي في عام 1135 هـ تقريبا فليس من المعقول أن يكون الشيخ أخذ عن الداغستاني ابن عشر فقط ولكن من المعقول أن يكون أخذ عنه بعد أن أمضى بضع عشرة سنة في طلب العلم راحلا إلى نجد والبصرة وعائدا إلى الحجاز وقد تم للداغستاني عشرين سنة ونيفا وأمكنه أن يحتل مكانا عاليا في علماء دمشق وأن يأتيَ للمدينة ليروي عن شيخها السندي فيلتقي به الشيخ في هذه المرة ويأخذ عنه ويستجيزه ما معه من علم أهل الشام، فهذا دليل على أن الشيخ ختم رحلته العلمية بالحج والزيارة بالإضافة إلى كلام ابن حسن الصريح بذلك والمتقدم قبل قليل. والله أعلم. وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن عن جده الشيخ محمد بن عبد الوهاب: "وكان قد عزم وهو بمكة أن يصل الشام مع الحاج فعاقه عنهم عائق، فقدم المدينة وأقام بها، ثم إن العليم الحكيم رده   1 محمد بن عبد الوهاب ... ص 39 هامش 3. 2 محمد بن عبد الوهاب ... ص 38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 إلى نجد رحمة لمن أراد أن يرحمه بمن يؤويه وينصره، وقدم على أبيه وصنوه وأهله ببلد حريملاء، فناداهم بالدعوة إلى التوحيد"1. وقال ابن بشر: "ثم إن الشيخ أراد أن يصل إلى الشام فضاعت نفقته التي معه فانثنى عزمه عن المسير إليه. لما أراد الله سبحانه الذي يعلم السر وأخفى أن يمضي أمره ويعليَ كلمته بجمع أهل نجد بعد تفرقهم، على إمام واحد، يزيل عنها شعائر الكفر والبدع"2. وقال ابن قاسم: "ثم ارتحل يريد الشام فحصل له عائق لما اقتضته الحكمة الربانية من ظهور هذا الدين في البلاد النجدية فقصد نجدا ووجد والده قد ارتحل إلى بلدة حريملاء"3. وكل هذه النصوص تصرح بأن الشيخ انثنى عزمه عن الشام وعاد إلى نجد لمَّا أراد الله سبحانه وتعالى أن يرحمهم به، وأما ما فهمه الدكتور العثيمين من قول ابن بشر عن الشيخ: "ثم إنه خرج من الأحساء وقصد بلد حريملاء"4 من أن الأحساء كانت آخر المواطن لرحلات الشيخ ولو للحج، وأنه لم يرحل بعد رحلته العلمية إلى الحرمين، وأن عودته النهائية إلى حريملاء لم تكن من المدينة؛ فإن هذا المفهوم مرجوح لما قدمناه   1 الرسائل والمسائل النجدية جـ 3/ 340. 2 ابن بشر 1 / 8. 3 الدرر السنية 12/ 5. 4 عنوان المجد 1/ 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 والله أعلم. وخلاصة ما تقدم أن الشيخ رحمه الله رحل إلى خارج وطنه لطلب العلم إلى الحجاز، ثم إلى البصرة وإلى الأحساء ثم البصرة أيضا والزبير ثم إلى الحجاز ولم يتمكن من الرحلة إلى الشام وعاد إلى نجد يدعوهم إلى التوحيد. وهذا ما نطمئن إليه. ويذكر الدكتور محمد عبد الله ماضي أن الشيخ سافر إلى بغداد1، وكذا يذكر الدكتور عبد الرحيم عبد الرحمن عبد الرحيم2، وعبد الحليم الجندي3، وإبراهيم فصيح صبغة الله الحيدري4، والله أعلم. زمان رحلات الشيخ العلمية: أما الزمن لهذه الرحلات العلمية، فليس فيه بيان دقيق وهو مجال اجتهاد. فيرجح الدكتور العثيمين أن مغادرة الشيخ بلدته العيينة لطلب العلم تمت قبل بلوغه عشرين سنة من العمر5. كما قرر نحوه مسعود الندوي في كتابه: (محمد بن عبد الوهاب مصلح مظلوم ومفترى عليه) 6.   1 النهضات الحديثة في جزيرة العرب، في المملكة العرببة السعودية ص 43. 2 الدولة السعودية الأولى ص 33. 3 الإمام محمد بن عبد الوهاب أو انتصار المنهج السلفي ص 92. 4 عنوان المجد في بيان أحوال بغداد والبصرة ونجد، خ، لوحه 327. 5 الشيخ محمد بن عبد الوهاب حياته وفكره للدكتور العثيمين ص 29. 6 ص 38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 وكذلك يرجح الدكتور العثيمين أن الشيخ كان في الأحساء في الزمن الذي بين عامي 1144،1148هـ لأن ابن غنام أورد رسالة بعثها الشيخ أثناء إقامته الأخيرة في العيينة يدعوا إلى الله إلى العالم عبد الله بن عبد اللطيف ومما جاء فيها أن الشيخ اجتمع به من نحو (عشر سنين) كما في المخطوطة لتاريخ ابن غنام بخط صالح المرشد1. ومن المعلوم أن الشيخ كان في العيينة بين سنتي 1154، 1158هـ، وكذلك يرجح الدكتور العثيمين عودة الشيخ النهائية من رحلته العلمية إلى حريملاء كان بين سنتي 1144 - 1149هـ، لأن ابن بشر ذكر أن الشيخ بقي مع أبيه في حريملاء مدة سنين ولعل صيغة الجمع هنا تُوحِي بأن ذلك كان أكثرمن ثلاث سنوات، وذكر ابن بشر أن أبا الشيخ توفي سنة 1153 هـ2. أَيْ: أن الشيخ قضى ما بين إحدى عشرة وست عشرة سنة في السفر والترحال لطلب العلم وتحقيق مسائل عقيدة السلف الصالح. وقبل هذه الرحلة وأثناءها أخذ الشيخ عن مشائخ فضلاء، وعلماء أجلاء في نجد والمدينة والبصرة والأحساء، وحصل على إجازات منهم   1 انظر مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الرسائل الشخصية ص 250 هامش رقم 2 وص 3، وانظر: الشيخ محمد بن عبد الوهاب ... للدكتور العثيمين ص 40، وتحرير الأسد لروضة ابن غنام ص 213 هامش 1. 2 الشيخ محمد بن عبد الوهاب ... للدكتور العثيمين ص 40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 وكتب كثيرا من كتب السنة وكتب ابن تيمية وابن القيم، وكان ينكر ما يراه مخالفا للإسلام إنكارا لفت الأنظار إليه وانفرد به انفرادا جعله مستهدفا بالأذى والإخراج؛ كما حصل له في البصرة. وفيما يلي تفصيل هذه الجملة: شيوخه وما أخذه عنهم من فنون العلم: 1- في نجد: سبق أن ذكرنا أن الشيخ تلقى العلم في نشأته العلمية في بلدة (العيينة) على والده الشيخ عبد الوهاب قاضي العيينة، وعلى عمه الشيخ إبراهيم، وهما أخذا عن أبيهما علامة الديار النجدية ومرجع علمائها الشيخ سليمان بن علي1، ولا يستبعد أخذه عن غير والده وعمه ولكننا نستطيع تسمية أبيه وعمه فحسب فنجعل والده أول شيخ له نترجمه هنا فنقول: 1- الشيخ عبد الوهاب بن الشيخ سليمان بن علي. ولد في مدينة العيينة- قاعدة بلدان نجد إذ ذاك وكان والده الشيخ سليمان بن علي علامة نجد في زمنه هو قاضي العيينة فشب في بيت علم وفضل واشتغل بالعلم من صغره فأخذ عن والده وعن غيره من علماء العيينة ونجد كالشيخ محمد بن ناصر حتى أدرك لاسيما في الفقه، فانه   1 انظر: ص 73-79 من هذا البحث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 فقيه كأبيه ودرس وأفتى وكتب عن بعض المسائل الفقهية كتابات حسنة ووليَ قضاء العيينة فمكث فيه مدة طويلة. قال عبد الله بن بسام: (وقد رأيت له أحكاما عام 1120 هـ1 ثم ترك قضاء العيينة حين عزله خرفاش بن معمرعام 1139هـ وانتقل إلى حريملاء ونزلها وتولى القضاء فيها حتى توفي عام 1153هـ رحمه الله تعالى وقد ربى ابنه الشيخ محمد تربية علمية كما ذكرناه قريبا) 2. 2- والشيخ الثاني هو: الشيخ إبراهيم بن الشيخ سليمان بن علي. ولد سنة 1070هـ سبعين وألف في بلدة العيينة وكان والده الشيخ سليمان بن علي قاضيها كما ذكرنا في ترجمة أخيه الشيخ عبد الوهاب قبله، وأخذ عن أبيه وعن غيره من العلماء حتى حصل خصوصا في الفقه وكتب من كتب الفقه شيئا كثيرا بيده وخطه حسن مضبوط وقد وَلِيَ القضاء في بلدة أشيقر. وقال البسام (رأيت له حكما في بعض عقاراتها) 3. وتوفي سنة 1141هـ وخلف ابنه عبد الرحمن المتوفى سنة 1206هـ وانقطع عقبه4.   1 علماء نجد خلال ستة قرون جـ3/ 669. 2 انظر: المصدر السابق- 3/ 669- 670، وص (93) من هذا البحث. 3 علماء نجد خلال ستة قرون ج1 /110هـ. 4المصدر السابق، ص 111. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 2- في الحجاز: هل درس على علماء مكة؟ يذكر الشيخ عبد العزيز بن باز أنه أخذ عن بعض علماء الحرم الشريف1. ويقول الدكتور العثيمين: "وتشير بعض المصادر إلى أنه درس على علماء الحرمين وهذا يعني أنه درس في كل من مكة والمدينة ولكن عدم ذكر المصادر لأي عالم درس محمد بن عبد الوهاب عليه في مكة يرجح أنه لم يدرس فيها مدة تستحق العناية والبحث"2. ولكني وجدت في بعض المصادر أن الشيخ أخذ عن الشيخ عبد الله بن سالم البصري وهو مكي3. وفيما يلي ترجمته وبيان أخذ الشيخ عنه: 3- الشيخ عبد الله بن سالم بن محمد بن سالم بن عيسى البصري أصلا المكي مولدا ومدفنا الشافعي، مسند الحجاز عمدة المحققين4. ولد سنة 050 1هـ أو 1049هـ، أو 1048هـ وتوفي سنة   1 محمد بن عبد الرهاب دعوته وسيرته، محاضرة الدار السعو ية للنشر ص 20. 2 الشيخ محمد بن عبد الوهاب ... ص 30. 3 المختصر من كتاب نشر النور والزهر فى تراجم أفاضل مكة من القرن العاشر إلى القرن الرابع عشر2/ 247. وفهرس الفهارس 1/ 136. 4فهرس الفهارس 1/136، والمختصر من كتاب نثر الروض والزهر 2/246/2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 1134هـ1، الإمام المحدث الحافظ2، تأهل للعلم في مكة ومات فيها، ترجم له العلامة الشيخ عابد السندي الحنفي فقال: وأما إمام الحديث والمقدم في عصره الشيخ عبد الله بن سالم البصري فهو إمام عصره- إلى أن قال: جمع في علم الحديث بين الرواية والدراية وبلغ من التحقيق أكمل غاية، وصنف التصانيف الفائقة، وقرأ في المسجد الحرام عدة كتب، من جملتها البخاري ومسلم والسنن الأربع، وقرأ البخاري أيضا بتمامه في جوف الكعبة الشريفة3 مرتين وقرأ مسند الإمام أحمد رحمه الله تعالى جميعه في الروضة الشريفة في ستة وخمسين مجلسا سنة ألف ومائة وإحدى وثلاثين4. وقال الكتانى: "قد اتفقوا على أنه حافظ البلاد الحجازية5، وأخذ عن عدة مشائخ منهم العلامة محمد بن علاء الدين البابلى، وجل أخذه عنه6، ومن مناقبه تصحيحه للكتب الستة حتى صارت نسخه هي المرجع، وجمع مسند الإمام بعد أن فرقته الأيدي وصححه وبمصر في   1 فهرس الفهارس1/ 136، والمختصر 2/ 246. ولعله يريد بجوف الكعبة حجر إسماعيل عليه السلام فهو من الكعبة. وهذا من الغلو الذى لا مدح فيه. 2 فهرس الفهارس1/ 136، والمختصر 2/ 246. 3 فهرس الفهارس1/ 136، والمختصر 2/ 246. 4 فهرس الفهارس 1/136هـ. 5 فهرس الفهارس 1/136هـ. 6 المختصر 2/ 247. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 خزانة الشيخ محمد بن محمد الأمير المالكي نسخة من مسند الإمام أحمد بخطه مصححة، وجمع من تفسير الكتب ما لا يوجد عند غيره1، وتفرد بإقراء جميع الكتب الستة وهو صاحب الامداد بمعرفة علو الاسناد، اسم لفهرس جمع في أسانيده، في نحو ثلاث كراريس طبع بالهند، من جمع ولده الشيخ سالم متداول بين المشائخ2، وقد أخذ عنه من أهل الحرمين والشام والمشرق واليمن ما لا يحصى عددهم3. حدث عنه شيوخ العصر وشيوخ المشائخ منهم المعمر محمد بن حياة السندي نزيل المدينة المنورة، ومنهم العلامة إسماعيل بن محمد العجلوني وغيرهما4. وهذا الشيخ يعتبر الشيخ الثالث للشيخ محمد بن عبد الوهاب بعد شيخه الأول أبيه عبد الوهاب وشيخه الثاني عمه إبراهيم ابني الشيخ سليمان بن علي علامة نجد وتقدمت ترجمتهما وبيان عن أسرته العلمية5، والدليل على أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب أخذ عن هذا   1 المرجع السابق باختصار. 2 فهرس الفهارس 1/136 باختصار. 3 المختصر 2/ 247. 4 المختصر 2/ 248-249 باختصار. وفهرس الفهارس 1/139، 140 باختصار أيضا. 5 انظر: ص 73-89 من هذا البحث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 الشيخ المترجم هو ما جاء في فهرس الفهارس للكتاني عند ذكره ثبت (حصر الشارد من أسانيد محمد عابد السندي) المتوفي سنة 1257هـ بالمدينة، فقال الكتاني عن محمد عابد هذا: "وروى كتاب القرى لقاصد أم القرى عن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب النجدي عن أبيه إمام الطائفة الوهابية النجدية عن البصري"1. فهذا يدل بوضوح على أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله أخذ عن البصري وأما تعقيب الكتاني باستبعاده ذلك لأن ابن عبد الوهاب إنما عاصر البصري بنحو عشرين سنة وهو بنجد والبصري بمكة، ولأن المعروف لديه هو أن ابن عبد الوهاب إنما أخذ عن طبقة كبار تلاميذ البصري وتلاميذ تلاميذه كعلي الداغستاني الدمشقي وعبد اللطيف الأحسائي ومحمد العفالقى2، فلا يتم، لأن الكتاني لم يذكر أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب حج وزار المدينة وأقام بها شهرين وهو في الثالثة عشرة من عمره أي: في سنة 1127هـ تقريبا. وهذه المدة كان الشيخ البصري فيها حيا يرزق يقوم بالتدريس، فقد كانت وفاته عام 1134هـ على ما يثبته الكتانى3، وهو الثابت في تراجم أفاضل مكة4   1 فهرس الفهارس 1/136. 2 المصدر السابق. 3 فهرس الفهارس 1/ 271. 4 المختصر 2/ 246. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 وسبق ذكره قبل قليل1، فإذا تذكرنا هذا علمنا إمكان لقاء الشيخ محمد بن عبد الوهاب، واتصاله بالشيخ البصرى، فلا محل لتعقُّب الكتاني باستبعاد ذلك فيما يرى فالحجة فيما روى. ويكون الشيخ محمد بن عبد الوهاب آخر تلاميذ البصري موتا، لأنه توفي سنة 1206هـ، وما يقوله الكتاني من أن آخرهم فيما يحفظ موتا الشمس محمد بن عبد الله المغربي غير صحيح لأن المغربي مات سنة 1201هـ. والله أعلم2. في المدينة المنورة: "كانت المدينة المنورة ملتقى العلماء وطلاب العلم من مختلف الأقطار الإسلامية، كان بعض هؤلاء يأتي إليها فيستقرفيها. وكان بعضهم يأتي إليها فيقيم فيها فترة ثم يغادرها إلى وطنه. وقد ضمت في تلك الفترة بالذات علماء درس عليهم وتأثر بهم عدد ممن أصبحت لهم أدوارمهمة في بلدانهم"3. وكان المناخ التعليمي فيها كما هو في مكة مختلفا عما ألفه الشيخ محمد بن عبد الوهاب في مسقط رأسه العيينة. فبينما كان الاهتمام في   1 انظر: ص 90 من هذا البحث. 2 انظر: فهرس الفهارس 1/ 271، وانظر للمقارنة بحث إسماعيل الأنصارى المقدم لمؤتمر أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب ص10-11. 3 انظر: الشيخ محمد بن عبد الوهاب، حياته وفكره للدكتور عبد الله العثيمين ص 30، 31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 بلده منصبا تقريبا على الفقه الحنبلي كان في مكة والمدينة شاملا لكثير من العلوم والفنون. وإذا كان العلماء في العيينة محصورين عددا ونوعية فإنهم في الحجازكانوا كثيرين في عددهم مختلفين في مشاربهم وأنواع علومهم. وكان ذلك الوضع الجديد فرصة عظيمة للوافد الحاج ليدرس ما يحب من فنون المعرفة، ويحضر دروس من يختاره من المشائخ1. وفيما يلي تراجم من أخذ عنهم الشيخ محمد بن عبد الوهاب من علماء بالمدينة المنورة: 4- الشيخ العالم عبد الله بن إبراهيم بن سيف من آل سيف رؤساء بلد (المجمعة) والد إبراهيم مصنف العذب الفائض شرح ألفية الفرائض2. قال ابن عيسى عن الشيخ عبد الله بن إبراهيم هذا: "انتقل أبوه إبراهيم بن سيف بن عبد الله الشمري من بلد المجمعة بعد أن قام على بيته وجعل بعضه مسجدا وهو المعروف اليوم بمسجد إبراهيم في بلد المجمعة، وبعضه حفر فيه بئراً لوضوء الناس، وبعضه بستانا للبئر المذكورة، وأوقف بعض عقاره على إمام المسجد المذكور، وسكن في المدينة المنورة"3. وقال عبد الله بن بسام: "قرأ على الشيخ فوزان بن نصر الله   1 انظر: المصدر السابق ص 30. 2 طبع الطبعة الأولى سنة 1372هـ قال فى مقدمته عن نفسه: (المشرقى أصلا، المدنى مولدا ودارا والحنبلى مذهبا، والسلفى معتقدا) ص 3. 3 ابن عيسى، تاريخ بعض الحوادث ... ص 33، 34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 النجدى"1. وقال عنه صاحب السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة: "من أفاضل الفقهاء قرأ على علماء المدينة المنورة ثم ارتحل إلى الشام فقرأ على علامتها وشيخ الحنابلة بها أبي المواهب، وسكن في المدينة إلى أن مات، وأخذ عنه جمع"2. وقال عنه عبد الرحمن الأنصاري المتوفى سنة 1197هـ فى كتابه: (تحفة المحبين والأصحاب فى معرفة ما للمدنيين من الأنساب) له قصيدة فريدة في ذم الدخان وشربه3، ذكر ابن بسام أن مطلعها: يا مولعا بدخان النار تشربه ... وتدعي الحل فيه هات برهانا أورد عليه دليلا كي تحلله ... لا فلسفات وتغليطا وبهتانا4 وتوفي الشيخ عبد الله بن سيف في المدينة عام 1140هـ5 رحمه الله تعالى وهو رابع شيخ من مشايخ الشيخ محمد بن عبد الوهاب. وقد وجدت في كتاب (الحطَّة) لصديق حسن خان: أن الشيخ   1 علماء نجد خلال ستة قرون ج2/ 502. 2 نقلا عن مجلة العرب ج9 و10س 12 عام 1398هـ ص 655. 3 انظر بيت الفرضى من ذلك الكتاب ص 386-387 ط تونس 1390هـ. ابن بسام، علماء نجد خلال ستة قرون، ج2/504. 4 ابن بسام علماء نجد خلال ستة قرون 2/ 503. 5 ابن بسام، علماء نجد خلال ستة قرون 2/504. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 محمد بن عبد الوهاب أخذ عن عبد الله بن إبراهيم النجدي تلميذ الشيخ أبي المواهب الحنبلي 1. ولقد أخذ الشيخ محمد بن عبد الوهاب عن المترجم كثيرا من العلم وصارت بينهما محبة وكان بمحمد بن عبد الوهاب حفيا، وبذل جهدا كبيرا في تثقيفه وتعليمه. وكان من أكبر عوامل توثيق الروابط بينهما وتمكين المحبة توافق أفكاره ومبدءه مع تلميذه في عقيدة التوحيد والتألم مما عليه أهل نجد وغيرهم من عقائد باطلة وأعمال زائفة2. وقال الشيخ محمد عن شيخه هذا: "كنت عنده يوما- فقال لي: تريد أن أريك سلاحا أعددته للمجمعة؟ قلت: نعم. فأدخلني منزلا عنده فيه كتب كثيرة، وقال هذا الذي أعددنا لها) 3. وقد ذكرنا ذلك قبل قليل"4. وأول حديث سمعه منه، الحديث المشهور المسلسل بالأولية. نقل ابن غنام من خطه ما نصه: (حدثني الشيخ عبد الله بن إبراهيم بمنزله بظاهر المدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام عن شيخ الإسلام ومفتي الشام أبى المواهب الحنبلي إجازة قال أخبرنا والدي تقي الدين عبد الباقي   1 الحطة فى ذكر صحاح ستة، ط عام 1397هـ، لاهور، ص 166-168. 2 الشيخ محمد بن عبد الوهاب ... أحمد بن حجرآل بوطامى، ص 16. 3 ابن بشر، عنوان المجد فى تاريخ نجد 1/7. 4 انظر: ص 81 من هذا البحث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 الحنبلي وهو أول حديث سمعته منه، قال أخبرنا به المعمر الشيخ عبد الرحمن البهوتي الحنبلي، وهو أول حديث سمعته منه، قال أخبرنا به شيخنا جمال الدين يوسف الأنصاري الخزرجي، وهو أول حديث سمعته منه قال أخبرنا به والدي شيخ الإسلام زكريا الأنصاري، وهو أول حديث سمعته منه، قال أخبرنا به شيخ الإسلام أبو الفضل أحمد بن حجر العسقلانى، وهو أول حديث سمعته منه قال أخبرنا الصلاح محمد بن محمد الحكري الصوفي الخازن، وهو أول حديث سمعته منه قال أخبرنا الحافظ زين الدين عبد الرحيم العراقى، وهو أول حديث سمعته منه قال أخبرنا به الصدر أبو الفتح الميدومي وهو أول حديث سمعته منه قال أخبرنا به الحافظ أبو الفرج عبد اللطيف بن عبد المنعم الحراني وهو أول حديث سمعته منه، قال أخبرنا به الحافظ أبو الفرج عبد الرحمن بن على بن الجوزي وهو أول حديث سمعته منه قال أخبرنا به الحافظ إسماعيل بن صالح النيسابوري وهو أول حديث سمعته منه قال أخبرنا به والدي أبو حامد صالح المؤذن وهو أول حديث سمعته منه قال أخبرنا به أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادى، وهو أول حديث سمعته منه قال أخبرنا أحمد بن محمد بن يحيي بن بلال البزاز وهو أول حديث سمعته منه قال أخبرنا عبد الرحمن بن بشر بن الحكم النيسابوري وهو أول حديث سمعته منه قال أخبرنا سفيان بن عيينة وهو أول حديث سمعته منه عن عمر بن دينار عن أبي قابوس مولى عبد الله بن عمرو بن العاص عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 الحنبلي وهو أول حديث سمعته منه، قال أخبرنا به المعمر الشيخ عبد الرحمن البهوتي الحنبلي، وهو أول حديث سمعته منه، قال أخبرنا به شيخنا جمال الدين يوسف الأنصاري الخزرجي، وهو أول حديث سمعته منه قال أخبرنا به والدي شيخ الإسلام زكريا الأنصاري، وهو أول حديث سمعته منه، قال أخبرنا به شيخ الإسلام أبو الفضل أحمد بن حجر العسقلانى، وهو أول حديث سمعته منه قال أخبرنا الصلاح محمد بن محمد الحكري الصوفي الخازن، وهو أول حديث سمعته منه قال أخبرنا الحافظ زين الدين عبد الرحيم العراقى، وهو أول حديث سمعته منه قال أخبرنا به الصدر أبو الفتح الميدومي وهو أول حديث سمعته منه قال أخبرنا به الحافظ أبو الفرج عبد اللطيف بن عبد المنعم الحراني وهو أول حديث سمعته منه، قال أخبرنا به الحافظ أبو الفرج عبد الرحمن بن على بن الجوزي وهو أول حديث سمعته منه قال أخبرنا به الحافظ إسماعيل بن صالح النيسابوري وهو أول حديث سمعته منه قال أخبرنا به والدي أبو حامد صالح المؤذن وهو أول حديث سمعته منه قال أخبرنا به أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادى، وهو أول حديث سمعته منه قال أخبرنا أحمد بن محمد بن يحيي بن بلال البزاز وهو أول حديث سمعته منه قال أخبرنا عبد الرحمن بن بشر بن الحكم النيسابوري وهو أول حديث سمعته منه قال أخبرنا سفيان بن عيينة وهو أول حديث سمعته منه عن عمر بن دينار عن أبي قابوس مولى عبد الله بن عمرو بن العاص عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 (أبي) 1 عدى عن حميد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد الله بعبده خيرا استعمله. قالوا كيف يستعمله؟ قال: يوفقه لعمل صالح قبل موته" هذا حديث عظيم قد وقع ثلاثيا للإمام أحمد رضي الله عنه2. وقد أجاز الشيخ عبد الله بن إبراهيم بن سيف الشيخ محمد بن عبد الوهاب من طريقين3. وقد أجازه أيضا الشيخ عبد الله بن إبراهيم بن سيف في كل ما حواه ثبت الشيخ عبد الباقي أبي المواهب الحنبلي قراءة وتعلما وتعليما من صحيح البخاري بسنده إلى مؤلفه وصحيح مسلم بسنده الى مؤلفه وشروح كل منهما وسنن الترمذي بسنده وسنن أبي داود بسنده وسنن ابن ماجه بسنده وسنن النسائي الكبرى بسنده وسنن الدرامي ومؤلفاته بالسند وسلسلة العربية بسندها عن أبي الأسود عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وكتُبُ النووي كلها وألفية العراقي والترغيب والترهيب والخلاصة لابن مالك وسيرة ابن هشام، وسائر كتبه،   1 الزيادة التى بين القوسين من شرح ثلاثيات مسند الامام أحمد للسفارينى ج1/ 799. 2 روضة ابن غنام 1/26، 27، وقد شرحه السفارينى فى كتابه نفثات صدر المكمد وقرة عين المسعد لشرح ثلاثيات مسند الإمام أحمد، ج 1/ 799، وانظر: الدرر السنية للشيخ عبد الرحمن بن قاسم 12/ 4، وبحث إسماعيل الأنصارى ص 7. 3 روضة ابن غنام 1/26، وانظر: الدرر السنية 12/ 4 للشيخ عبد الرحمن بن قاسم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 ومؤلفات ابن حجر العسقلاني وكتب القاضي عياض وكتب القراءات وكتاب الغنية لعبد القادر الجيلي وكتاب القاموس بالسند إلى مؤلفه ومسند الإمام الشافعي وموطأ مالك ومسند الإمام الأعظم ومسند الإمام أحمد ومسند أبي داود ومعاجم الطبراني وكتب السيوطي وفقه الحنابلة وسلسلتها وأصولهم1. ثم ان الشيخ عبد الله بن إبراهيم بن سيف وصل حبل الشيخ محمد بن عبد الوهاب بحبل الشيخ المحدث محمد حياة السندي وعرفه به وبأهله فأقام الشيخ عنده وأخذ عنه2. 5- الشيخ الإمام العالم الكبير المحدث محمد حياة بن إبراهيم السندي المدني. أحد العلماء المشهورين الربانيين وعظماء المحدثين ولد في إقليم السند ونشأ وقرأ العلم على الشيخ محمد معين بن محمد أمين السندي من تلامذة الشاه ولي الله الدهلوي رحمه الله ثم هاجر إلى الحرمين الشريفين فحج ثم توطن المدينة المنورة ولازم الشيخ الكبير أبا   1 التوضيح عن توحيد الخلاق.. ص 17، وانظر: مقال الشيخ عبد الله بن حميد ص 91، وانظر: الشيخ محمد بن عبد الوهاب ... بقلم أحمد آل أبوطامى ص 16، وقد خلط بين الرواية بالحديث المسلسل بالأولية وبين الإجازة من طريقين وهما أي الرواية والاجازة شيئان منفصلان. 2 الشيخ محمد بن عبد الوهاب ... أحمد بن حجرآل بوطامى ص 16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 الحسن محمد بن عبد الهادي السندي المدني صاحب الحواشي على دواوين السنة الستة وأخذ عنه وجلس مجلسه بعد وفاته أربعا وعشرين سنة1. وفي كتاب (مشاهير علماء نجد وغيرهم) لعبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ: أن محمد حياة السندي المدني هو صاحب الحاشية المشهورة على صحيح البخارى2 وكذلك في كتاب تحفة المستفيد بتاريخ الأحساء القديم والجديد، تأليف محمد بن عبد الله بن عبد المحسن آل عبد القادر الأحسائي الأنصارى3. والصحيح أن صاحب الحاشية هو شيخ محمد حياة السندي لا هو كما قدمنا، وكما في حاشية السندي على البخاري المطبوع بكراجي من ترجمته4. وحصل الشيخ محمد حياة السندي على إجازة من الشيخ عبد الله بن سالم البصري المالكي صاحب الإمداد في علو الاسناد5.   1 مقدمة تحفة الأنام في العمل بحديث النبي عليه السلام للشيخ السندي بقلم محمد عطاء الله حنيف ص79 2 مشاهير علماء نجد وغيرهم ص17. 3 القسم الأول، أشرف على طبعه وعلق عليه بعض الحواشي حمد الجاسر، ط1، 1379هـ المكتب الإسلامي ص125. 4 حاشية السندي على صحيح البخاري المطبوع بكراجي عام 1381هـ نشر نور محمد ص2. 5 ابن بشر، عنوان المجد، 1/26، سابقة 1165هـ، وانظر: مقدمة تحفتة الأنام.. . بقلم محمد عطاء الله حنيف ص79، وص90 من هذا البحث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 وأخذ عن الشيخ أبي الطاهر محمد بن إبراهيم الكردي والشيخ حسن بن علي العجيمي وغيرهم. وأخذ عنه سوى الشيخ محمد بن عبد الوهاب الشيخ أبو الحسن بن محمد صادق السندي والشيخ أحمد بن عبد الرحمن السندي والشيخ محمد سعيد صقر والشيخ عليم الله بن عبد الرشيد اللاهوري المدفون بدمشق والشيخ خير الدين بن محمد زاهد السورتي والشيخ محمد فاخر بن محمد يحيي العباسي وغلام علي آزاد البلجرامي والشيخ علاء الدين السوري وغيرهم1. قَال ابن بشر: "كان له اليد الطولى في معرفة الحديث وأهله ومحبته وصنف مصنفا سماه تحفة الأنام في العمل بحديث النبي عليه أفضل الصلاة والسلام، وله مصنفات غيرها، رأيت له مصنفا عجيباً، شرحاً على الأربعين النووية، سماه "تحفة المحبين في شرح الأربعين"2. وله رسالة بعنوان: "الإيقاف على سبب الاختلاف" وقد طبعت ضمن مجموع يضم ثلاث رسائل رسالته هذه ورسالة أخرى هي تحفة الأنام التي أورد ذكرها ابن بشر ورسالة الاتباع للقاضي علي بن علي بن محمد بن أبي العز الحنفي تحت إشراف المكتبة السلفية بلاهور3.   1 انظر: مقدمة تحفة الأنام. ص80. وانظر: ابن بشر، عنوان المجد 1/26. 2 ابن بشر "عنوان المجد" (1/ 25- 26) . 3 طبعة أولى عام 1401هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 ويضيف عبد الغفور عطار إلى مؤلفاته: مقدمة في العقائد1 ويذكر له صاحب سلك الدرر محمد خليل المرادي: شرح الترغيب والترهيب، و"مختصر الزواجر، وشرح الحكم العطائية، والحكم الحدادية، وشرح الأربعين حديثا من جمع الملا علي القاري، وتوفي رحمه الله يوم الأربعاء السادس والعشرين من صفر سنة ثلاث وستين ومات وألف ودفن بالبقيع"2 وقيل توفي سنة خمس وستين ومائة وألف ... والله أعلم3. وكان الشيخ محمد حياة من المنكرين للبدع في الدين وللأعمال الشركية. قال ابن بشر: "وحكي أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب وقف يوما عند الحجرة النبوية عند أناس يدعون ويستغيثون عند حجرة النبي صلى الله عليه وسلم فرآه محمد حياة فأتى إليه فقال الشيخ ما تقول في هؤلاء؟ قال: {إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 4. وكان أيضا من المعارضين للتعصب للمذاهب الفقهية وترك الحديث   1 محمد بن عبد الوهاب هامش ص 37. 2 سلك الدرر للمرادي ج4/34، وفهرس الفهارس 1/264، 265، ومقدمة تحفة الأنام ص80. 3 ابن بشر عنوان المجد، سابقة 1165هـ. 1/ 25، 26، وانظر: مسعود الندوي محمد بن عبد الوهاب.. ص 39. 4 ابن بشر عنوان المجد..1/ 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 الصحيح المحكم الذى لم ينسخ للالتزام بالمذهب، قال الشيخ صالح بن محمد العمري الفلاني: (1166هـ- 1218هـ) قال شيخ مشائخنا محمد حياة السندي: "اللازم على كل مسلم أن يجتهد فى معرفة معانى القرآن وتتبع الأحاديث وفهم معانيها وإخراج الأحكام منها فان لم يقدر فعليه أن يقلد العلماء من غير التزام مذهب لأنه يشبه اتخاذه نبيا وينبغى له أن يأخذ بالأحوط من كل مذهب ويجوزله الأخذ بالرخص عند الضرورة - وأما بدونها فالأحسن الترك- أما ما أحدثه أهل زماننا من التزام مذاهب مخصوصة لا يرى ولا يجوزكل منهم الانتقال من مذهب إلى مذهب فجهل وبدع وتعسف، وقد رأيناهم يتركون الأحاديث الصحاح غير المنسوخة ويتعلقون بمذاهبهم من غير سند ... إنا لله وإنا إليه راجعون" ا- هـ1. هذا هو الشيخ محمد حياة السندى ومنهاجه السلفى، والذى صار الشيخ محمد بن عبد الوهاب من تلامذته الخواص ومكث عنده زمنا2، وأخذ عنه علما نبويا نافعا فى المدينة المنورة، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام.   1 إيقاظ همم أولى الأبصار للاقتداء بسيد المهاجرين والأنصار ص 70. 2 انظر: محمد بن عبد الوهاب ... لمسعود الندوي ص 39، وابن بشر عنوان المجد 1/7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ: "وكان له أكبر الأثر فى توجيهه إلى إخلاص توحيد عبادة الله، والتخلص من رق التقليد الأعمى، والاشتغال بالكتاب والسنة"1. 6- الشيخ إسماعيل بن محمد العجلوني الجراحي الشافعي. ولد بعجلون سنة (1087) سبع وثمانين بعد الألف للهجرة، وأخذ العلم عن الشيخ أبى المواهب مفتى الحنابلة بدمشق وعن كثير من المشائخ الكبار، وأجازه الشيخ عبد الله بن سالم البصري المكي والشيخ أبو الحسن السندي ثم المدني وغيرهما وألف المؤلفات المفيدة منها "كشف الخفا ومزيل الالباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس". وله: "حلية أهل الفضل والكمال باتصال الأسانيد بكمل الرجال"2. وكانت وفاته بدمشق فى شهر المحرم الحرام سنة اثنتين وستين ومائة وألف3 (1162هـ) رحمه الله، وقد ذكره من مشائخ الشيخ محمد بن عبد الوهاب الشيخ عبد القادر بن أحمد المعروف بابن بدران الدمشقى فى كتابه "المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل" فى (ص 230) والشيخ عبد الرحمن بن قاسم فى الدرر السنية (ج12/4)   1 مصباح الظلام تصحبح محمد حامد الفقي ص 139. 2 فهرس الفهارس 1/ 269. 3 ملخص من سلك الدررللمرادي 1/ 259-272، وانظر: الجزء الأول من كتاب "كشف الخفاء ومزيل الالباس للعجلونى" ص 2-6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 ولعله التقى به فى مكة أو المدينة وقد ثبت أن العجلونى رحل إلى الحجاز وأخذ عن المشائخ بمكة كالبصرى، والقلعى مفتى مكة، وغيرهما- وعن المشائخ بالمدينة كالسندى أبى الحسن صاحب الحاشية على صحيح البخارى والبرزنجي وغيرهما- وأقرأ صحيح البخارى فى روضة المسجد النبوى وأعاد له الدرس المرادي من تلاميذه"1 والله أعلم. 7- وأخذ الشيخ محمد بن عبد الوهاب عن الشيخ على أفندى بن صادق بن محمد بن إبراهيم بن محب الله حسين بن محمد الحنفى الداغستانى2. ولد فى سنة 1125هـ. قال صاحب التوضيح: "والشيخ الداغستاني هو شيخ مشائخ الشام بأجمعهم بعد الشيخ أبى المواهب والشيخ إسماعيل العجلوني" ا- هـ3- فقد ورثهما فى العلم والمكانة، وكان يحتل مكانا عاليا فى علماء دمشق- أخذ عن الشيخ محمود بن عبد الله الأنطاكى، وعن الشيخ عبد الكريم الأفندي والشيخ أيوب الداغستاني ثم رحل إلى الحجاز وجاور بالمدينة وروى عن الشيخ محمد حياة السندي وطلب العلم ومكث مدة واستفاد منه عشرات من الناس ثم رجع إلى الشام سنة 1150هـ.   1 انظر: المصدر السابق. 2 التوضيح عن توحيد الخلاق ... ص 16، 17، وابن بدران فى المدخل ص 230، والكتانى فى فهرس الفهارس 1/ 271، وانظر: الدرر السنية 12/ 4، وانظر: بحث إسماعيل الأنصارى ص 9 المقدم لمؤتمر أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب. 3 التوضيح عن توحيد الخلاق ... ص 16،17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 وقد أخذ عنه الشيخ لما اجتمع به في المدينة المنورة، وأجازه بمثل ما أجازه الشيخ عبد الله بن إبراهيم بما في ثبت أبي المواهب1. وتقدم ذكر إجازة الشيخ عبد الله له أصيب بالفالج سنة 1196هـ وانقطع في داره وتوفى سنة تسع وتسعين ومائة وألف2 (1199هـ) رحمه الله تعالى. ولكن مسعود الندوي يستبعد تتلمذ الشيخ محمد أو استفادته منه، ويعلل ذلك بأنه كان صغيرا جدا أثناء إقامة الشيخ ابن عبد الوهاب في المدينة المنورة3. غير أننا إذا تذكرنا أن الشيخ عبد الرحمن بن حسن قرر بأن جده وشيخه الشيخ محمد بن عبد الوهاب حج وزار المسجد النبوي بعد رحلته العلمية إلى البصرة والأحساء وكانت عودته النهائية من هذه الرحلة العلمية من المدينة المنورة. وتذكرنا أن الدكتور العثيمين رجح أن عودة الشيخ إلى حريملاء   1 التوضيح ... ص 16، 17. والشيخ محمد بن عبد الوهاب ... بقلم أحمد آل أبوطامي ص 17. (4) سلك الدرر 3/ 215 3 محمد بن عبد الوهاب ... ص 39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 كانت قبل سنة (1149هـ) فمن الجائز أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب قد لقي الشيخ علي الداغستاني في ذلك الزمن حيث كان موجودا في المدينة قبل عام (1150هـ) ، وللشيخ الداغستاني من العمر ما يزيد على عشرين سنة، وهذا ليس سن صغير جدا بل سن من يمكن الأخذ عن صاحبه فيه وإن كان الآخذ أكبر منه بنحو عشر سنوات كالشيخ ابن عبد الوهاب في حرصه وتواضعه لطلب العلم، كما أن هذا الفارق في السن لا يمنع من تبادل المعرفة وأخذ أحدهم عن الآخر سيما وأن الداغستاني قد أتى من الشام ليأخذ عن شيخ المدينة محمد حياة السندي وفي الغالب أن طالب العلم مثله لا يرحل من بلده يطلب العلم حتى يستوفي ما عند علماء بلده، وقد ذكر بعلو مكانه بين علماء دمشق واستفادة عشرات الناس منه. والله أعلم. 8، 9، 10- وكذلك أخذ عن الشيخ عبد الكريم أفندي الداغستاني وهو ابن عم الشيخ علي أفندي المتقدم ذكره وكذلك أخذ عن الشيخ محمد البرهاني، وعن الشيخ عثمان الديار بكري نزيل المدينة المنورة، وحرر على أيديهم علم التوحيد وأمره عندهم فأقروه، وكذلك محمد السفاريني أرسل إليه وهو بالشام نسخة فأقرها. ذكر ذلك صاحب التوضيح عن توحيد الخلاق في جواب أهل العراق1.   1 ص 19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 وقال مسعود الندوي: وكذلك في بعض الكتب ذكر استفادة الشيخ محمد بن عبد الوهاب من المحدث الكبير محمد بن سليمان الكردي المدني المتوفى عام 1194هـ إلا أن السنين والأحوال تشهد بعكس هذا- بالإضافة إلى سكوت التواريخ المعتمدة المعاصرة حيث لم يذكر ابن غنام ولا ابن بشر تتلمذه عليه، وإنما تفرد بذكره أحمد زيني دحلان فقط (فى كتابه الذي سماه، الدرر السنية ص 35-42) . ولكن كتابه هذا، وكذلك كتابه خلاصة الكلام في أمراء البلد الحرام- ملىء بالأخطاء بل الافتراءات حتى إن القلب لا يرضى أن يقبل هذه الرواية التي لا تضر شيئا. ثم إن السنين تشهد بخلافه فمحمد بن سليمان الكردي توفي سنة 1194هـ عن عمر سبع وستين سنة كما في سلك الدرر (4/ 111، 12) وهكذا تكون ولادته في سنة 1127هـ تقريبا ويكون صغير السن أيام طلب الشيخ وتتلمذه عليه بعيد. ا. هـ. بتصرف قليل1. والقول بصغر سنه مبني على أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب بدأ رحلته العلمية عام 1135 تقريبا وهو في سن العشرين إلى الحجاز مكة والمدينة2. ثم لم يعد إليه بعد بضع عشرة سنة قضاها في رحلاته العلمية أي في حدود سنة 1149هـ تقريبا، ولكن كما قلنا بأن الشيخ عبد الرحمن بن حسن قرر بأن جده وشيخه محمد بن عبد الوهاب حج وزار   1 محمد بن عبد الوهاب مصلح مظلوم ... ص 40 بالاضافة إلى هامشها رقم 1. 2 المرجع السابق ص 38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 المسجد النبوي، وكانت عودته من رحلته العلمية نهائيا من المدينة المنورة، وإذا علمنا أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب عاد إلى حريملاء حيث كان فيها أبوه وبقى معه سنوات حتى توفي أبوه عام 1153هـ فمعنى ذلك أن عودته النهائية من المدينة المنورة كانت في حدود سنة، 1150هـ فيمكن أن يكون التقى بالشيخ المحدث الكبير محمد بن سليمان الكردي في هذا الزمن وعمر الشيخ الكردي ينيف على عشرين سنة، وهذا سن لا يمنع الاستفادة منه وإن يكن الشيخ محمد بن عبد الوهاب يزيد عليه في السن كما حررناه في شأن الشيخ علي أفندي الداغستاني قبل هذا. وأما كون دحلان لا يطمئن القلب لخبره فنعم لأنه صاحب وسوسة وافتراءات وعداوة للإسلام، وليست لديه أمانة في نقله ودينه1. وأما سكوت التواريخ المعتمدة المعاصرة كابن غنام وابن بشر عن ذكر أخذ الشيخ عن الكردي فليس دليلا على عدم أخذ الشيخ محمد بن عبد الوهاب عنه، ولعل سكوتهم عن ذكره بسبب ما نسبه أحمد زيني دحلان إليه: أنه من المعارضين لما يعتقده الشيخ محمد بن عبد الوهاب من عقيدة السلف الصالح2. فإن صدق دحلان وقد يصدق الكذوب خصوصا إن كان الصدق موافقا لهواه فإن الكردي ممن لا يختاره الشيخ   1 صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان، تأليف محمد بشير السهسوانى ص12 - 14. 2 ما يسمى "الدرر السنية في الرد على الوهابية" تأليف أحمد بن زينى دحلان ص 35-39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 محمد بن عبد الوهاب للأخذ عنه؛ لأن في صحيح مسلم في المقدمة عن محمد بن سيرين، قال: "إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم" وفيه عن ابن المبارك بنحوه، وعن ابن سيرين أيضا قال: "لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة، قالوا: سموا لنا رجالكم" فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم1. وقد بوب النووي لهذه الآثار وغيرها في شرحه في صحيح مسلم "باب بيان أن الإسناد من الدين وأن الرواية لا تكون إلا عن الثقات، وأن جرح الرواة بما هو فيهم جائز بل واجب، وإنه ليس من الغيبة المحرمة بل من الذب عن الشريعة المكرمة". ولسنا نحكم على الكردي بمجرد خبر دحلان، ولكن نبين حكم افتراض أن دحلان صدق بخبره عنه على ضوء منهج الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفي في اختياره لمشائخه الذين يأخذ عنهم، ويجوز أن الكردي ترك ذكره لعدم اشتهار أخذ الشيخ عنه أو للاختصار أو لغير ذلك.. الله أعلم. وذكر صاحب التوضيح أن الشيخ أخذ عن عبد اللطيف العفالقي الأحسائي وأن عبد اللطيف أجاز الشيخ في كل ما حواه ثبت عبد الباقي أبي المواهب الحنبلي قراءة وتعلما وتعليما من كتب السنة بأسانيدها إلى   1 صحيح مسلم ج1ص 14، 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 مؤلفيها، والعربية والقراءات وفقه الحنابلة والشروح والأصول بمثل ما أجازه كل من الشيخ عبد الله بن إبراهيم بن سيف، والشيخ علي أفندي الداغستاني1. وتقدم ذكر ذلك مفصلا2، وكذلك ذكر الشيخ أحمد بن حجر آل أبو طامي ونص على هذا في كتابه "الشيخ محمد بن عبد الوهاب.. ."3. وأيضا فقد ذكركل من صاحب التوضيح والكتاني وأحمد بن حجر آل أبو طامي أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب أخذ عن محمد العفالقي الأحسائي، وقد عده أحمد بن حجر آل أبو طامي وسابقه عبد اللطيف العفالقي من شيوخ الشيخ في المدينة4 والله أعلم. ولم أقف على ترجمة لعبد اللطيف العفالقى الأحسائي. وكذلك محمد العفالقي الأحسائي إلا أن يكون هو محمد بن عبد الرحمن بن عفالق، فهذا له ترجمة في السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة لمحمد بن عبد الله بن حميد نشرتها مجلة العرب ضمن ما نشرت من تراجمه5، وترجم له عبد الله البسام في كتابه علماء نجد خلال ستة   1 التوضيح عن توحيد الخلاق.. ص 16،17 والكتاني في فهرس الفهارس 1/ 271. 2 انظرص 6-9 وص 101 من هذا البحث. 3 ص 17. 4 التوضيح ... ص16، 18، والكتاني في فهرس الفهارس 1/271، والشيخ محمد ... آل أبو طامي ص 17. 5 مجلة العرب الجزء التاسع والعاشر السنة الثانية عشرة الربيعان سنة 1398هـ ص 719-720. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 قرون1. وذكر ابن بسام أنه ولد سنة 1100هـ ورحل إلى المدينة وأخذ عن علمائها، ومنهم عبد الله بن إبراهيم بن سيف وتوفي بالأحساء عام 1163هـ وهو ممن عادى دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى عقيدة السلف الصالح وكتب له رسالة يتعنت فيها بأسئلة عن سورة العاديات، ماذا فيها من المجاز والاستعارة والكناية وغيرها؟ من التعنتات التي ليست مما يدخل في تحقيق ما يجب لله تعالى على عباده من توحيده بالعبادة وإخلاصها له. هذا المقام الذي لم يصل إليه ابن عفالق وأشياعه2. 3- في البصرة: 11- ذكر الشيخ عثمان بن بشر في عنوان المجد في تاريخ نجد أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب "تجهز إلى البصرة يريد الشام، فلما وصلها جلس يقرأ فيها عند عالم جليل من أهل المجموعة قرية من قرى البصرة في مدرسة فيها؛ قال ابن بشر: "ذكر لي أن اسمه محمد المجموعي، فأقام مدة يقرأ عليه وينكر أشياء من الشركيات والبدع وأعلن بالإنكار واستحسن شيخه قوله، وقرر له التوحيد وانتفع به، وأخبرني شيخنا القاضي عثمان ابن منصور الناصري. قال: أخبرني رجل في مجموعة البصرة بأن أولاد   1 ج3/818- 821. 2 انظر: المصدر السابق 3/820. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 ذلك العالم الذي قرأ عليه الشيخ محمد هم أحسن أهل بلدهم بالصلاح ومعرفة التوحيد، وهذا والله أعلم ببركة اجتماع الشيخ بوالدهم"1. وقد نقل ابن غنام أن الشيخ رحمه الله قد سمع الحديث والفقه من جماعة بالبصرة كثيرة وقرأ بها النحو وأتقنه وكتب الكثير من اللغة والحديث في إقامته تلك، وكان أكثر لبثه لأخذ العلم بالبصرة ومع ذلك فقد كان يدعو إلى توحيد الله بالعبادة ويزجر وينكرعلى من يدعو غير الله تعالى، ويبين أن دعاء الأولياء ليس من محبتهم الصالحة، وإنما محبتهم هي اتباع هديهم، وحصل بمجلسه أن رجلا يذكر مشروعية دعاء الصالحين والأولياء فأغلظ عليه الشيخ وزجره فتغير وجه ذلك الرجل وجال واستغرب، وقال إن كان ما يقوله هذا الإنسان حقا فالناس ليسوا على شيء من زمان. ونقل ابن غنام قول الشيخ: وكان ناس من مشركي البصرة يأتون إلي بشبهات يلقونها علي فأقول وهم قعود لدي: "لا تصلح العبادة كلها إلا لله فيبهت كل منهم فلا يتكلم"2. وذكرحفيده الشيخ عبد الرحمن بن حسن: أنه "جالس علماء البصرة وتميز بالأخذ عمن لا يتهم في حقه بالكذب والزور، وصنف في البصرة كتاب التوحيد أخذه من الكتب التي في مدارس البصرة من كتب الحديث3.   1 عنوان المجد ... 1/7، 8. 2 روضة ابن غنام،1/ 27، 28. 3 الدرر السنية 9/215. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 4- لقاؤه شيوخ الأحساء: ذكركل من الشيخ عبد الرحمن بن حسن والشيخ عثمان بن بشر أن الشيخ محمد ابن عبد الوهاب رحل إلى الأحساء فذكر ابن حسن أنه وجد في الأحساء فحول العلماء منهم: الشيخ عبد الله بن فيروز أبو محمد الكفيف ووجد عنده من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم ما سر به، وأثنى على عبد الله هذا بمعرفته بعقيدة الإمام أحمد1. ولد سنة (1105هـ) ومن مشائخه الشيخ- فوزان بن نصر الله وخاله الشيخ عبد الوهاب بن سليمان بن علي وهو ابن عمة الشيخ محمد ابن عبد الوهاب، وتوفى سنة (1175هـ) ، وكان سلفي العقيدة2، أما ابنه محمد الكفيف فهو من المعادين لعقيدة السلف الصالح التي دعا إليه شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب3، رغم أن محمد ابن فيروز بينه وبين الشيخ محمد بن عبد الوهاب آصرة القرابة في النسب وآصرة القرابة في الصهر، ولكن فرقت بينهم العقيدة التي وفق للسلامة فيها الشيخ محمد بن عبد الوهاب دون الآخر4. وذكر الشيخ عبد الرحمن بن حسن والشيخ عثمان بن بشر أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب حضر مشائخ الأحساء ومن أعظمهم عبد   1 الدرر السنية 9/ 216. 2 ابن بسام، علماء نجد خلال ستة قرون2/ 627، 628. 3 المصدر السابق 3/882. 4 انظر المصدر السابق 1/ 313. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 الله بن محمد بن عبد اللطيف الشافعي الأحسائي القاضي فنزل عنده فطلب منه أن يحضر الأول من فتح الباري على البخاري، ويبين له ما غلط فيه الحافظ في مسألة الإيمان، وبين أن الأشاعرة خالفوا ما صدر به البخارى كتابه من الأحاديث والآثار، وبحث معهم في مسائل وناظر، وهذا مشهور يعرفه أهل الأحساء وغيرهم من أهل نجد1، وذلك قبل أن يعلن الشيخ محمد إنكاره الشرك في نجد وقبل أن تبرز معارضة أهل الأحساء للشيخ ومنهم عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف المذكور وجرت بينه وبين الشيخ مكاتبات في ما بعد حول عقيدة السلف الصالح، لا شك أن الصواب كان مع الشيخ محمد بن عبد الوهاب2. هل للشيخ مشائخ في بغداد والموصل؟ قال إبراهيم فصيح صبغة الله الحيدري: إن والده أخبره أن الشيخ محمد قدم بغداد وأخذ أيضا عن جد جده صبغة الله الحيدري ولذا لما رجع جده أسعد الحيدري من مكة على طريق الدرعية اجتمع بالشيخ وجلس عنده في الدرعية ثلاثة أشهر3.   1 الدرر السنية 9/ 216، عنوان المجد ج 1/8، وانظر له ذكرا في كتاب تحفة المستفيد بتاريخ الأحساء القديم والجديد، تأليف محمد بن عبد الله آل عبد القادر قسم 1/125، 2/ 74. 2 انظر: روضة ابن غنام 1/ 50-60. 3 عنوان المجد في بيان أحوال بغداد والبصرة ونجد، لوحة 327. وانظر: الشيخ محمد ابن عبد الوهاب للدكتور العثيمين ص 38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 وفى بحث قدمه اللواء الركن محمود شيت خطاب لأسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب بجامعة الإمام محمد بن سعود بعنوان "الإمام محمد ابن عبد الوهاب في مدينة الموصل" يحقق ما ذكره المؤرخ ياسين بن خير الله العمري الموصلي في كتابه "غرائب الأثر" أن الإمام محمد بن عبد الوهاب قدم الموصل وقرأ العلم على العلامة ملا حمد الجميلى وأخذ عنه الكثير1، ويقول: "لا يقلل من أهمية رحلة الإمام محمد بن عبد الوهاب العلمية إلى الموصل وأثرها في تكوينه العلمي واتجاهه الفكري إغفال المصادر والمراجع التي ترجمت وأرخت لدعوته، لهذه الرحلة العلمية إلى هذه المدينة العلمية، ولعل أهم أسباب إغفالها هو نشركتاب "غرائب الأثر" متأخرا في سنة 1359هـ لمؤرخ غير متهم في صدقه وأمانته، وكان نشر هذا الكتاب بعد صدوره مجهولاً بالنسبة للذين كتبوا بعد إخراجه للناس، والواقع أن كتاب: (غرائب الأثر) مجهول بالنسبة لأكثر الباحثين العراقيين فلا عتب على الباحثين من غير العراقيين عربا وأجانب"2. ولكن الدكتور العثيمين وهولم يذكر هذا الكتاب من مراجعه فلعله ممن يجهله يقول: "وعلى أية حال فإن النتيجة التي يطمئن إليها الباحث من مقارنة جميع المصادر السابقة – أي التي ذكرها حول أسفار محمد بن عبد   1 ص1، مجلد حياة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وآثاره العلمية. 2 ص 3، نفس المصدر السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 الوهاب خارج نجد- هي الأخذ برواية المؤرخين المؤيدين له"1 وكان الدكتور العثيمين قد قال: إن "المصادر المقربة من محمد بن عبد الوهاب لا تذكر أن رحلاته العلمية خارج نجد تجاوزت ثلاثة أمكنة: الحجاز والأحساء والبصرة"2. قال: "لسببين رئيسيين: أحدهما أنهم أدرى بتفاصيل حياته من غيرهم، كما قال الشيخ حمد الجاسر، والثاني أنهم حرصوا كل الحرص على تدوين جميع فضائله. ومن المعروف أن السفر في طلب العلم فضيلة. ولو كان الشيخ محمد قد سافر إلى بلدان غير التي ذكروا لما توانوا في تدوين ذلك وتفصيله"3 أ. هـ. ولكن عدم ذكر المصادر المقربة على حد تعبير الدكتور العثيمين رحلة الشيخ إلى ما سوى الحجاز والأحساء والبصرة لا يعني عدمها فمن الجائز أن الشيخ وصل بغداد والموصل لا سيما وهما آنذاك أكبر مدن العراق ويستقطبان قسما من علماء المسلمين وطلاب العلم لأنهما من المراكز العلمية4. وكون المؤرخين المؤيدين للشيخ أدرى بتفاصيل حياته من غيرهم، وأنهم حرصوا كل الحرص على تدوين جميع فضائله لا يحتم ذكرهم لجميع   1 الشيخ محمد بن عبد الوهاب ... ص 39. 2 نفس المصدر السابق ص 36. 3 المصدر السابق ص 39. 4 انظر: بحث "الإمام محمد بن عبد الوهاب في مدينة الموصل لمحمود شيت خطاب ص5 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 أسفاره في طلب العلم وهم لم ينفوا سفره إلى ما سوى ذلك، ولم يحددوا سفره بما ذكروا، وإنما ذكروا ما يستحق الذكر؛ وهو المهم الذي حصل فيه الشيخ على بغيته من أسفاره، فاقتصروا على ذكره وذكر من وقع عليهم اختياره من الشيوخ الفحول في علم أهل السنة والجماعة، أما المشائخ الآخرون في الأماكن الأخرى كبغداد والموصل. فيجوز أنهم ليسوا ممن اختاره الشيخ للأخذ عنه والتلقي منه، ولذا أهمل المؤرخون المؤيدون ذكرهم وذكر بلدانهم، واختيار العلماء يتطلب بحثا طويلا وترحالا كثيرا وصبرا جميلا والله أعلم. رحلات الشيخ لم تتجاوز الحجاز والعراق والأحساء: أما ما تجاوز الحد من أنه سافر إلى الشام كما ذكره خير الدين الزركلي في الأعلام وإلى فارس وإيران وقم وأصفهان كما يذكره بعض المستشرقين ونحوهم في مؤلفاتهم المعروفة بالأخطاء ومجانبة الحقيقة كمرجليوث في دائرة المعارف الإسلامية وبرائجس، وهيوجز وزويمر، وبالغريف، وكتاب "لمع الشهاب في سيرة محمد بن عبد الوهاب"1 ومن تأثر به فهو أمر غير مقبؤل لأن حفيد الشيخ ابن حسن وابنه عبد اللطيف وابن بشر نصوا على أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب لم يتمكن من السفر   1 انظر: محمد بن عبد الوهاب مصلح مظلوم ومفترى عليه لمسعود الندوي ص 40، 41. وانظر: الشيخ محمد بن عبد الوهاب حياته وفكره للدكتور العثيمين ص 36-39. وانظر: الإمام محمد بن عبد الوهاب أو انتصار المنهج السلفي لعبد الحليم الجندي ص 92. وجزيرة العرب لحافظ وهبه ص 319. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 إلى الشام كما قدمنا1. وأما زعم أن الشيخ رحل إلى فارس وإيران وقم وأصفهان فإِن عبد الحليم الجندي يذكر في كتابه: "الإمام محمد بن عبد الوهاب أو انتصار المنهج السلفي" أنه ناقش في هذه الواقعة الشيخ عبد العزيز بن باز في الرياض فأنكر ما أورده المؤلفون من رحلة الشيخ إلى كردستان وإيران وقرر أنه تلقى هذا عن أشياخه ومنهم حفدة الشيخ وبخاصة شيخه محمد بن إبراهيم2. ويلاحظ أن كثيرا ممن ذكر هذه البواطل عن رحلات الشيخ اعتمد على كتاب "لمع الشهاب". قال حمد الجاسر: "ولا تفوت الإشارة إلى أن كثيرا ممن كتبوا عن الشيخ محمد - رحمه الله- انخدعوا بما جاء في كتاب "لمع الشهاب" ومن أولئك الأستاذ أحمد أمين في كتابه (زعماء الإصلاح في العصر الحديث) 3 ومنهم الأستاذ حسين بن خلف بن الشيخ خزعل الذي سرد كتابه "حياة الشيخ محمد بن عبد الوهاب"4 كلما جاء في ذلك الكتاب من ذكر رحلات الشيخ إلى بلاد الأكراد وإيران والشام ومصر معولا   1 انظر: ص 106 من هذا البحث. 2 الإمام محمد بن عبد الوهاب.. ص 92 هامش 1. 3 انظر: ص10 من كتاب: زعماء الإصلاح في العصر الحديث تأليف أحمد أمين. 4 انظر: ص 56، وص 138، 139 وص143-144، وص405 من كتاب تاريخ الجزيرة في عصر الشيخ محمد بن عبد الوهاب، حياة الشيخ محمد بن عبد الوهاب تأليف حسين خلف الشيخ خزعل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 على هذا الكتاب الذي لا يصلح التعويل عليه. وبالإجمال فقد حرص مترجموا الشيخ محمد، على تدوين كل ما يتصل برحلاته وبأسماء العلماء الذين تلقى العلم عنهم، وبذكر البلاد التي زارها، ويكادون يتفقون على عدم صحة ما ورد في كتاب "لمع الشهاب" من ذلك1. ويقول الدكتور منير العجلاني: "أخذت عن اللمع": دائرة المعارف الإسلامية، وطائفة كبيرة من المستشرقين، ثم نقل عن هؤلاء أحمد أمين والعقاد وغيرهم من الكتاب العرب2. وقال في موضع آخر: "نقل عن هذا الكتاب أكثر المستشرقين، ثم أخذ عنهم كثير من كبار المؤلفين العرب، ومن المؤسف أنهم تعلقوا بروايته الكاذبة عن رحلة الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى العجم"3. وقال في موضع ثالث: "أما ادعاء اللمع أن الشيخ سافر إلى مصر ودرس في الأزهر فخبر مختلق ولم يأخذ به أحد". ومما يكشف كذب صاحب اللمع ويضعف قيمة رواياته: "حساب التواريخ.. فقد زعم أن الشيخ محمدا خرج من نجد وله من العمر سبع وثلاثون سنة، وأعاده إلى نجد بعد عشرين سنة أو أكثر، فكان عمره في   1 العرب، الجزء العاشر، السنة الرابعة ربيع الثاني 1390هـ ص 943، 944. 2 تاريخ البلاد العربية السعودية ص 195. 3 المرجع السابق ص 46. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 زعمه سبعا وخمسين سنة، ونحن نعرف أن الشيخ ولد عام 1115هـ فتكون سنة عودته إلى نجد، في رواية اللمع سنة (1172) ... أى بعد انقضاء خمس عشرة سنة على إقامته الثانية في الدرعية. وهذا وراء العقل1. الشيخ لم يدرس اللغتين الفارسية والتركية: وأما زعم أن الشيخ درس اللغتين الفارسية والتركية والحكمة الإشراقية والفلسفة والتصوف ولبس جبة خضراء في أصفهان فليس بثابت بل إنه أمر باطل، ويستبعد أن يتعلم الشيخ لغة أعجمية ليس مضطرا لها وقد استغنى بالعربية وهي لغة السلف الصالح من المسلمين والتي نزل بها القرآن ودونت بها السنة وفي اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية آثار عن بعض السلف الصالح تقتضي كراهة ذلك من غير حاجة ولا مصلحة دينية2. وليس في مؤلفات الشيخ وآثاره ما يدل على شيء من هذا بل إنها على المنهج السلفي بعيدة كل البعد عن مخالفة طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه. ثم إن من ذكر ذلك عن الشيخ كان ممن انخدع بمثل كتاب (لمع   1 المرجع السابق ص 201. 2 اقتضاء الصراط المستقيم ص 204- 207. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 الشهاب) 1 ومؤلف لمع الشهاب وأمثاله "أرادوا من ذكر مثل هذه الأخبار الباطلة أن الشيخ جاء بما جاء به من أفكار فلسفية وبشرية لا تستند على الوحي المنزل من عند الله تعالى وقد بين هذه النقطة حمد الجاسرحيث قال "ولو ساغ التعليل لأمكن القول بأن مؤلف "لمع الشهاب" أراد من ذكر وصول الشيخ إلى أصفهان أمراً غير مطابق للواقع، وخاصة حينما يقول بأن الشيخ درس الحكمة الإِشراقية، ذلك أن هذا المذهب الفلسفي يقوم على أساس أن المعارف والعلوم تكتسب بطرق رياضية بحتة، ولا تنال بطريق التعليم والممارسة. ولكي يستخلص أن الشيخ تأثر بهذه الفلسفة فأتى بأشياء جديدة أراد أن يدخلها في مذهبه، والشيخ برىء من ذلك، فكل ما جاء به قد استقاه من منابعه العذبة الصافية كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأقوال علماء السلف الصالح، وهو أبعد الناس عن الشطحات الصوفية والأفكار المادية الفلسفية التي لا تقوم على أساس من النقل الشرعي الصحيح، وأنا أقرر هذا كقضية تاريخية مجردة تقوم على أساس ما عرف عن الشيخ وآرائه التي لا يجهل كل مؤرخ أصولها، غير متأثر بأية عاطفة2. ويذكر الدكتور منير العجلاني أن: "صلاح العقاد ينكر أقوال اللمع، فيما يتصل بإقامة الشيخ في بلاد العجم ودرسه فيها الفلسفة   1 انظر: ص 67- 68 من هذا البحث. 2 مجلة العرب، الجزء العاشر، السنة الرابعة ربيع الثاني 1390هـ ص 944. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 والتصوف" لسببين: السبب الأول: جهل الشيخ التام باللغة الفارسية. السبب الثاني: أننا لا نجد في كتابات الشيخ أثرا لهذه الدراسات المزعومة في الفلسفة والتصوف. قال الدكتور العجلاني: "وهذا رأينا أيضا"1. وقال الدكتور العجلاني أيضا: "أما القول بأن الشيخ كانت له (شخصية) ثانية.. اختفت تماما، كما يزعم صاحب اللمع، فنوع من الهذيان تورط فيه صاحب اللمع وورط فيه غيره"2. نتيجة رحلاته العلمية وأخذه عن المشائخ: لقد كانت رحلات الشيخ محمد بن عبد الوهاب العلمية وأخذه عن أهل العلم ومشائخه موفقة ومفيدة "وكانت على جانب كبير من الأهمية، وكان أثرها واضحا في زيادة معرفة الشيخ"3 وتسلحه بسلاح العلم الغالب أهله بإذن الله تعالى وتقوية يقينه وزيادة إيمانه وتوسيع مداركه وفهمه وثقافته العامة في الدين والدنيا وقد حصل علم التوحيد الذي هو حق الله على العبيد، وعلم ما يناقض كماله الواجب، أو يكون ذريعة إلى ذلك وحرره كتابا. وأمره عند شيوخ أفاضل وجهابذة أكابرمنهم المشائخ   1 تاريخ البلاد العربية السعودية ص 200. 2 نفس المرجع السابق والموضع. 3 انظر: الشيخ محمد بن عبد الوهاب حياته وفكره للدكتور عبد الله الصالح العثيمين ص 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 الشاميون الشيخ علي أفندي الداغستاني وابن عمه الشيخ عبد الكريم أفندي الداغستاني، والشيخ محمد البرهاني، والشيخ عثمان الديار بكري نزيل المدينة المنورة والشيخ محمد السفاريني نزيل نابلس أرسل إليه نسخة فأمرها وأقرها وهو من غير مشائخه الذين قد ذكروا، وكلهم أَدركوا كلامه لأقروه وحرروه وأجازوه، ولكن عذرهم عدم المساعدة من أمير أو غيره1. وبالجملة فما إن أتم رحلاته إلا وقد فتح الله عليه بحصيلة من العلوم الشرعية كبيرة. قال ابن بدران: "امتلأ وطابه من الآثار وعلم السنة وبرع في مذهب أحمد"2. وحين رجع إلى أبيه بعد رحلته العلمية كان في مستوى علمي. لا يقل عن مستوى أبيه إن لم يزد عليه وإن كانت بعض المصادر تذكر أنه أخذ يدرس على والده بعد استقراره في حريملاء3 فهذا من باب أدبه وتواضعه مع والده وشيخه الأول. وعلى كل فإن الشيخ لم يعد من رحلاته إلا وقد اقتنع بأنه قد أخذ قدرا من العلم والبصيرة كافياً للدعوة بما علم إلى الله على بصيرة كما هي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم - التي لاشك في اتباعه لها.   1 التوضيح عن توحيد الخلاق ص 19. 2 المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل ص 230. 3 انظر: الشيخ محمد بن عبد الوهاب ... الدكتور العثيمين ص 40، 41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 هذا وقد أطلت النفس في هذه المباحث عن تحصيل الشيخ العلمي ورحلاته وشيوخه واستطردت بتراجم بعضهم مما له صلة بمعلومات الشيخ - كل ذلك لبيان مكانته العلمية الأصيلة وتحصيله الكبير وهو أمر لائق في هذا المدخل. عودة الشيخ من رحلاته العلمية إلى حريملاء: بعد أن أتينا في المباحث المتقدمة على ذكر رحلات الشيخ العلمية وذكرنا خط سيرها والأماكن التي رحل إليها وزمانها وشيوخه وتحصيله- نذكر هنا عودته من هذه الرحلات العلمية المباركة، وكما تقرر في المباحث المتقدمة كانت عودته من المدينة المنورة إلى حريملاء1 حيث كان والده قد انتقل إليها من العيينة بسبب أن أمير العيينة الجديد الملقب خرفاش بن معمرلم يرق له بقاء الشيخ عبد الوهاب في القضاء، فعزله عنه فغادرها الشيخ عبد الوهاب إلى حريملاء، وتولى قضاءها وأقام بها فأقام الشيخ محمد بعد عودته من رحلته العلمية في حريملاء مع أبيه يدرس عليه ويدعو إلى التوحيد، ويبين بطلان دعوة غير الله، وكانت دعوة غير الله من أشجار وغيران وقبور وجن ونحو ذلك منتشرة كثيرا في نجد وفي البلدان الإسلامية عموما في ذلك الزمان كما بينا في المبحث عن هذه البيئة، المتقدم، وسبقت الإشارة إلى ذكر أنها من العوامل الأساسية في دفع الشيخ إلى استكمال عدته من العلم النافع والرحلات الطويلة في سبيل   1 انظر: 1/141 من هذا البحث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 تحصيله1. ولما توفي والده عام 1153هـ، أعلن الدعوة إلى تصحيح العقائد السائدة بعقيدة السلف الصالح، لكن لم تكن حريملاء صالحة لأن تكون منطلقا لدعوته، فانتقل منها فيما يقارب عام 1155هـ إلى العيينة وقد ناصره أميرها عثمان بن معمر أول الأمر ثم خذله فانتقل الشيخ إلى الدرعية والتقى بأميرها الراشد محمد بن سعود فقام بنصرته ووفى بعهده، وأتم وعده، فأظهر الله عقيدة السلف الصالح، ونصر الله أهلها وتوفر الشيخ لنشرها، وتدريس العلوم النافعة، وتأليف الكتب المفيدة في أصول الإسلام وفروعه على طريقة السلف الصالح وانطلاقا من العقيدة السلفية السليمة، وقد أخذ عن الشيخ جموع كثيرة وخلف من تلاميذه العلماء الكبار الذين قاموا بأدوار مهمة عظيمة، وخلف أتباعا وأنصارا ودولة ملأ ذكرهم الأسماع في الخافقين، وعظم شأنهم بين العالمين. وسيأتي لذلك مزيد بيان إن شاء الله في باب أثر عقيدة الشيخ السلفية في العالم الإسلامى تلاميذ الشيخ ومن أخذ عنه من العلماء: فى هذا المبحث لا نريد استقصاء كل من أخذ عن الشيخ واستفاد أي فائدة، إنما نقصد من أخذ عن الشيخ حتى تخرجوا على يديه   1 انظر: 1/129 من هذا البحث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 واستكملوا العلم النافع في مدرسته السلفية وصاروا قضاة وعلماء ودعاة ولم نذكر مثل الإمام محمد بن سعود وابنه عبد العزيز وحفيده سعود بن عبد العزيز، فهم وإن كانوا قد أخذوا عن الشيخ مباشرة، وحضروا مجالس دروسه وأحيوا ما بينه لهم من السنة وأقاموا ما أوضحه لهم من معالم الإسلام فلشهرتهم وارتفاع مقامهم حتى صاروا أئمة في هذا الشأن اكتفينا بما سبق من الإشارة، وما سيأتي إن شاء الله في باب أثر عقيدة الشيخ في العالم الإسلامى، فلم ننظمهم هنا مع تلاميذ الشيخ والمتربين على يديه، والمتخرجين في مدرسته. كذلك لم نذكر من استفاد من علم الشيخ عن طريق المراسلة وعن طريق كتبه وانتشار علمه ودعوته فهذا النوع لا يضبط كثرة ولا يندرج تحت هذا المبحث (ولكن ربما يناسب ذكره في بحث أثر عقيدة الشيخ في العالم الإسلامى) . وفيما يلي بيان من وجدناه معدودا من تلاميذ الشيخ المباشرين وصاروا من العلماء والقضاة وشيوخ العقيدة السلفية من بنيه وبني بنيه وغيرهم من علماء النواحي والأقطار1، مع ما سيأتي إن شاء الله تعالى عنهم في بيان أثر عقيدة الشيخ السلفية باعتبارهم من المتأثرين بها والحاملين لها والناشرين لعقيدة السلف الصالح. 1- الشيخ حسين بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب. أخذ عن أبيه واستكمل فنون العلم وفاق بالمعرفة أقرانه، توفى سنة 1224هـ2.   1 انظر: ابن بشر، عنوان المجد ... 1/92. 2 الدرر السنية 12/ 46. ومشاهير علماء نجد وغيرهم ص 28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 2- الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب. أخذ عن أبيه فكان آية في العلم ومعرفته ومعرفة فنونه1. ولد في الدرعية سنة 1165هـ وتوفي بمصر سنة 1242 هـ2. 3- ومن تلاميذ الشيخ ابنه الأكبر الشيخ علي فكان عالما جليلا ورعا دينا فقيها يضرب به المثل في بلد الدرعية. يقول عبد الرحمن بن عبد اللطيف: "الغالب على الظن أن الشيخ علي توفى سنة 1245 هـ بمصر"3. 4- ومن تلاميذه الشيخ إبراهيم بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب وهو الابن الرابع، يقول الشيخ عبد الرحمن بن قاسم "ولم أقف له على وفاة، ولكنه موجود سنة 1251 في مصر وتوفي فيها"4. 5- وممن أخذ عن الشيخ حمد بن ناصر بن عثمان بن معمَّر، فكان عالما صالحا، وتوفي في مكة المكرمة سنة 1225هـ5. 6- وممن أخذ عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب العلم عبد العزيز بن عبد الله ابن إبراهيم الحصين الناصري التميمي. فقد أخذ عن الشيخ وعن   1 عنوان المجد في تاريخ نجد 1/93. 2 الدرر السنية 21/45. ومشاهير علماء نجد ص 49. هامش ص 212-213 من عنوان المجد ج 1، ط المعارف 1387 هـ.. 3 مشاهير علماء نجد وغيرهم ص 51. وانظر الدرر السنية 12/47. 4 الدرر السنية 12/ 46. 5 الدرر السنية 12/47. وابن بشرفى عنوان المجد 1/ 94. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 أَبنائه وغيرهم في الدرعية بعد أن سبق له أخذ الفقه أولا عن الشيخ إبراهيم بن محمد بن إسماعيل في بلده شقراء. وتوفى رحمه الله في 12رجب سنة 12371. 7- ومن تلاميذه الشيخ سعيد بن حجي- رحل إلى الدرعية فقرأ على الشيخ كما أخذ عن ابني الشيخ حسين وعبد الله وقرأ على الشيخ حمد بن ناصر بن معمر وغيرهم من علماء الدرعية، توفى عام 1229هـ2. 8- ومن تلاميذ الشيخ محمد بن سويلم3. ولد في الدرعية ونشأ فيها. فأخذ يتلقى العلم عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وعن ابنيه العالمين حسين وعبد الله وغيرهما. قال ابن بسام: "ولم أقف على تاريخ وفاته رحمه الله"4. 9- ومن تلاميذ الشيخ، الشيخ عبد الرحمن بن خميس. الإمام في قصر آل سعود5. 10- وأخذ عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب الشيخ عبد الرحمن بن نامي6. ولد في مدينة العيينة ونشأ بها ثم قرأ على علمائها، وكان ممن   1 ابن بشر، عنوان المجد ... 1/232-234. والدرر السنية 12/50. 2 عنوان المجد.. لابن بشر 1/94. وعلماء نجد خلال ستة قرون لابن بسام 1/273. 3 ابن بشر، عنوان المجد ... 1/ 94. 4 علماء نجد خلال ستة قرون 3/799. 5 ابن بشر، عنوان المجد ... 1/ 94. 6 ابن بشر، عنوان المجد ... 1/ 94. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 استجاب لدعوة الشيخ محمد إلى عقيدة السلف الصالح فهاجر إليه في الدرعية وقرأ عليه واستفاد منه كما قرأ على الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد فأدرك إدراكا جيدا، وفي أول عام 1234هـ أرسل إبراهيم باشا إلى الأحساء أمراءه السابقين آل عريعر فقتلوا حتى أئمة المساجد، وقبضوا على الشيخ عبد الرحمن بن نامي فأخذوا ماله ثم قتلوه ضمن من قتلوا ظلما وعدوانا فانتقل إلى ربه شهيدا رحمه الله1. 11- وأخذ عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب- محمد بن سلطان العوسجي2. ولد في بلدة ثادق ونشأ فيها ثم رحل إلى الدرعية، فشرع في القراءة على الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، ثم على ابنه الشيخ عبد الله، وعلى الشيخ الفقيه حمد بن ناصر بن معمر حتى حصل في التوحيد والتفسير، والحديث، والفقه، وأصول هذه العلوم. وتوفى في الأحساء عام (1223هـ) 3. 12- وأخذ عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب أيضا الشيخ عبد الرحمن بن عبد المحسن أبا حسين4. ومما يقول البسام: "ولد في بلدة أشيقر إحدى مدن الوشم ونشأ بها   1 ابن بشر، عنوان المجد ... 1/212-213. وعلماء نجد خلال ستة قرون لابن بسام 2/ 432. 2 ابن بشر، عنوان المجد ... 1/ 94. 3 علماء نجد خلال ستة قرون 3/ 809. 4 ابن بشر، عنوان المجد ... 1/ 94. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 ثم رحل إلى المجمعة في طلب العلم فأخذ الفقه عن قاضيها الشيخ أحمد بن محمد التويجري ثم رحل إلى الدرعية وكانت آهلة بالعلماء الذين على رأسهم الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب وابنه العلامة الشيخ عبد الله، فتلقى العلم عنهما ولازم دروسهما حتى أدرك، ولم أقف على تاريخ وفاته"1. 13- وأخذ عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب أيضا الشيخ حسن بن عبد الله بن عيدان2. قدم الدرعية في أوج عزها، فقرأ على الإمام محمد ابن عبد الوهاب وعلى غيره من علماء الدرعية كالشيخ عبد الله بن الشيخ، والشيخ حمد بن ناصر بن معمر وغيرهما. توفي عام 1202هـ3 رحمه الله تعالى. 14- وأخذ عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب أيضاً الشيخ العالم عبد العزيز بن سويلم العريني4. ولد في الدرعية، فلما شب وأخذ مبادىء الكتابة والقراءة شرع في طلب العلم فتلقاه عن الإمام محمد بن عبد الوهاب، ومازال مجدا في تحصيله عليه وعلى ابنه الشيخ عبد الله حتى أدرك وتفقه. وتوفي في بريدة في ذي القعدة عام 1244هـ5.   1 علماء نجد خلال ستة قرون 2/ 398. 2 ابن بشر، عنوان المجد ... 1/ 94. 3 علماء نجد خلال ستة قرون 1/ 214. 4 ابن بشر، عنوان المجد ... 1/ 94. 5 علماء نجد خلال ستة قرون.. 2/463. وروضة الناضرين عن مآثرعلماء نجد لمحمد القاضي 1/ 254- 255. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 15- وأخذ عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب أيضا الشيخ حمد بن راشد1. رحل إلى الدرعية لطلب العلم فأخذ عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب وعن غيره من علماء الدرعية، فأدرك في الأصول والفقه. والظاهرأنه توفي في آخر ولاية الإمام سعود في سدير2. 16- وكذلك أخذ عن الشيخ ابن ابنه عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ في صغره3. وكم يذكرالشيخ عبد الرحمن قراءته على جده ويعبر عنه بلفظ شيخنا4، وتتلمذ على الشيخ وأخذ عنه خلق كثير ممن لم نذكرهم. قال ابن بشر: "وأخذ عن الشيخ من القضاة ممن لا يحضرني الآن عده- عدد كثير، وأخذ عنه ممن لم يل القضاء من الرؤساء والأعيان ومن دونهم الجم الغفير5. ويقول الشيخ إبراهيم بن ضويان في مخطوطته: "رفع النقاب عن تراجم الأصحاب": "وأخذ عنه خلق ممن لم ينصب للقضاء يبلغون مائتين، وأخذ عنهم أضعاف أضعافهم"6.   1 ابن بشر، عنوان المجد ... 1/94. 2 علماء نجدخلال ستة قرون ... 1/223. 3 عنوان المجد في تاريخ نجد لابن بشر 1/93، 94. 4 سيأتي عن الشبخ عبد الرحمن بيان مفصل، في باب أَثر عقيدة الشيخ في الفصل الثالث باعتباره شيخ عقيدة السلف الصالح في الدور الثاني لدولة أنصارها. فاقتصرنا هنا على ما ذكر. 5 عنوان المجد في تاريخ نجد 1/94، 95. 6 اللوحة 74، 75، تصوير مجلة الدارة، ع 2/ رجب 1398هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 1- كتاب التوحيد فيما يجب من حق الله على العبيد. 2- كتاب كشف الشبهات. 3- كتاب أصول الإيمان. 4- كتاب فضائل الإسلام. 5- كتاب فضائل القرآن. 6- كتاب السيرة المختصرة. 7- كتاب السيرة المطولة. 8- كتاب مجموع الحديث على أبواب الفقه. 9- كتاب مختصر الإنصاف والشرح الكبير. 10- كتاب مختصر الصواعق. 11- كتاب مختصرفتح الباري. 12- كتاب مختصر الهدي. 13- كتاب مختصر العقل والنقل. 14- كتاب مختصر المنهاج. 15- كتاب مختصر الإيمان. 16- كتاب آداب المشي إلى الصلاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 كتاب التوحيد: أما كتاب التوحيد، فهو الموجود بين أيدينا بعنوان: (كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد) ، والمصادر التاريخية تدل على أنه من أول مؤلفات الشيخ1. فيذكر ابن غنام: أن الشيخ صنف كتاب التوحيد في حريملاء أثناء إقامته الأولى فيها يدعو إلى التوحيد وينشر أعلامه2. بينما يذكرالشيخ عبد الرحمن بن حسن: أن جده صنف "كتاب التوحيد" في البصرة أخذه من الكتب التي في مدارس البصرة من كتب الحديث3. ويمكن الجمع بين ما ذكراه بأن ابن غنام: كان أول علمه بهذا الكتاب مصنفا، حين قرىء على مؤلفه الشيخ في حريملاء، ولم يعلمه مصنفا قبل ذلك، سيما وأن حريملاء هي أول ما نشر الشيخ منها أعلام التوحيد الذي صنف من أجله هذا الكتاب، وقرىء عليه فيها وانتشرت نسخه إلى سائر البلدان من حريملاء، وما نفى ابن غنام أن يكون الشيخ قد استفاد كتاب التوحيد من كتب الحديث في مدارس البصرة، ولا أن   1 انظر: الشيخ محمد بن عبد الوهاب، حياته وفكره، للدكتورعبد الله بن صالح العثيمين، الفصل الرابع، ص 81-110. 2 روضة ابن غنام 1/30. 3 الدرر السنية: 9/ 225. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 يكون الشيخ قد فكر في تأليفه قبل وجوده في حريملاء إلا أنه يجوز اعتبارحريملاء آخر مكان تم فيه تأليف هذا الكتاب الهام، والفراغ من تهذيبه حتى استوى على بنائه الذي بقي عليه إلى اليوم. وأما الشيخ عبد الرحمن بن حسن فقد قال بما علم من جمع الشيخ لمادته من كتب الحديث بمدارس البصرة، وتخطيطه لبنائه، ورسوم أبوابه لاسيما والشيخ عبد الرحمن حفيد المؤلف وتلميذ له، وقد قرأ في مؤلفه هذا عليه من أوله إلى أبواب السحر1. ويؤيد هذا أن صاحب "التوضيح عن توحيد الخلاق في جواب أهل العراق" يذكر أن كتاب التوحيد هذا قد حرر وأمر عند شيوخ الشاميين كالشيخ علي أفندي الداغستاني وابن عمه الشيخ عبد الكريم، والشيخ عثمان الديار بكري نزيل المدينة المنورة، والشيخ محمد السفاريني نزيل نابلس أرسلت إليه نسخة منه وغيرهم من شيوخ الشيخ ومن غير شيوخه2. وذلك أثناء رحلاته العلمية، فذلك يدل على أن كتاب التوحيد قد نشأ تأليفه لدى الشيخ منذ وقت مبكر، وما زال يتم وينمو حتى استتم في حريملاء. وقد لقي الكتاب قبولا عظيما لدى العلماء والمتعلمين، واعتنوا به وخدموه، فأولهم المعاصرون لمؤلفه، تلقوه عنه بلهف وشوق، فقرأوا أبوابه عليه، وحفظوها، واستمعوا شرحه منه وتقريره عليه، مباشرة، واستمرت   1 الدرر السنية: 12/18. 2 انظر: التوضيح عن توحيد الخلاق.. ص 19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 العناية به إلى يومنا هذا، استنسخه الناس وطبعوه مراراً عديدة، ولا تحصى كثرة نسخه المنتشرة في العالم. وقد أثنى عليه العلماء ثناء جميلا1، ومن ذلك ما يقول ابن بشر: "ما وضع المصنفون في فنه أحسن منه، فإنه أحسن فيه وأجاد، وبلغ الغاية والمراد"2. ووصفه الشيخ سليمان بن حمدان بقوله: "كتاب بديع الوضع عظيم النفع، لم أر من سبقه إلى مثاله أو نسج في تأليفة على منواله، فكل باب منه قاعدة من القواعد ينبني عليها كثير من الفوائد، وأكثر أهل زمانه قد وقعوا في الشرك الأكبر والأصغر، واعتقدوه دينا فلا يتاب منه ولا يستغفر، فألفه عن خبرة ومشاهدة للواقع، فكان لذاك الداء كالدواء النافع"3. وكثرت الشروح والتعليقات عليه، فمنها تيسير العزيز الحميد للشيخ سليمان بن الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، إلا أنه لم يتم، فكان تمامه من تهذيب الشيخ عبد الرحمن بن حسن بدءا من قوله: "باب ما جاء في المصورين"4 إلى نهاية الكتاب، ومنها فتح المجيد شرح كتاب التوحيد "وهوتهذيب وتقريب وتكميل لتيسير العزيز الحميد"، مع زيادة بعض النقول المستحسنة، تتميما للفائدة، وضعه الشيخ عبد الرحمن   1 انظر: الدرر السنية ج 9/ 215. 2 عنوان المجد ... ج1/ 92. 3 الدر النضيد على أبواب التوحيد، تأليف سليمان بن عبد الرحمن الحمدان، المقدمة ص5. 4 انظر: تيسر العزيز الحميد، ص 632 الهامش. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 ابن حسن بن الشيخ. وغير ذلك من الشروح والتعليقات المستمرة إلى الآن. ويوجد هذا الكتاب- كتاب التوحيد- مخطوطا بالمكتبة السعودية بالرياض تحت رقم 465/86، كما يوجد مخطوطا بمكتبة الشيخ عبد الله الإبراهيم التويجري الخاصة ببريدة، ضمن مجموعة بخط الشيخ عبد الله بن رشيد بن فرج. وبالمكتبة العلمية الصالحية بمسجد أم خمار بعنيزة، والناسخ: محمد بن منصور بتاريخ 27/ 4/1302هـ1. كشف الشبهات: وأما كشف الشبهات، فهو رسالة عامة صنفها الشيخ جوابا لكثير من شبه المعارضين، التي أدلوا بها على الناس، وصدوهم بها عن الإسلام بألسنتهم وفي مصنفاتهم المنشورة2. أولها: "اعلم رحمك الله تعالى أن التوحيد: هو إفراد الله بالعبادة ... " يوجد لها نسخة مخطوطة عاصركاتبها الشيخ المؤلف، وكان الفراغ من كتابتها وقت الظهرمن يوم الخميس غرة شهر جمادى الأولى سنة 1216هـ، أي: بعد وفاة المؤلف بعشر سنوات بخط أحمد بن عيسى بن   1 انظر: مجلة البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي، ع 2 عام 1399 ص 341، 342، 351،352. 2 روضة ابن غنام، 1/61. وتحرير الأسد، ص 233. و"الشيخ محمد بن عبد الوهاب ... " للدكتور العثيمين ص 77. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 بكري، وهي محفوظة في خزانة كتب دار المطبعة السلفية بالقاهرة برقم (5138) 1. ويوجد لها مخطوطة أخرى بالمكتبة السعودية بالرياض برقم 269/ 82. ومخطوطات أخرى2، وهي مطبوعة متداولة. كتاب فضائل الإسلام: وهو كتاب فضل الإسلام الذي أوله: "باب فضل الإسلام" ويدور على بيان الإسلام وأنه سنة الرسل وليس بدعة. يوجد مخطوطا من نسخ عديدة منها برقم 296/82 بالمكتبة السعودية بالرياض، ومنها بالمكتبة المركزية بالجامعة الإسلامية، قسم المخطوطات تحت رقم 29 ضمن مجموعة كتب أخرى، ونسخ أخرى كثيرة3. وهو مطبوع متداول. وكتاب أصول الإيمان. وقد زاد فيه بعض أولاده زيادة حسنة. يوجد هذا الكتاب مخطوطا برقم 459/ 86 بالمكتبة السعودية بالرياض وفي غيرها4. وهو مطبوع متداول.   1 انظر: طبعة السلفية لـ"مجموعة التوحيد" ص 18 2-234. 2 مجلة البحث العلمي، ع 2، س 1399 هـ ص ا 34، 352، 1 36، وع 3 س 1400هـ ص441، 446، 447. 3 مجلة البحث العلمي، ع 2 س 1399هـ ص 340، وع 3 س1400هـ ص 441،443، 444،446، 447. 4 المصدرالسابق ع 2 س 1399هـ ص 341 وع 3 س1400هـ ص 443، 444. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 وكتاب فضائل القرآن. يوجد له مخطوطتان: إحداهما تحت رقم 460/86 والأخرى تحت رقم 516/ 86 في المكتبة السعودية بالرياض، وهو عبارة عن مقدمة، جعلت في أول ما جمعه ابن قاسم في تفسير القرآن من مجموعته الدرر السنية ج 10 ص 3 وما بعدها. وفى مؤلفات الشيخ القسم الرابع، التفسير في أوله كمقدمة بلغت (40) ص. مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم يوجد له مخطوطتان في المكتبة السعودية بالرياض إحداهما بخط الشيخ سليمان بن عبد الرحمن بن حمدان رحمه الله تحت رقم 518/86 والثانية لم يسم كاتبها تحت رقم 49/ 86 وهو مطبوع متداول. ويلاحظ أن ابن قاسم ذكر من مؤلفات الشيخ كتاب السيرة المختصرة وكتاب السيرة المطولة تبعا لابن غنام حيث ذكر أن من مؤلفات الشيخ: كتاب السيرة المختصرة وكتاب السيرة المطولة نحو مجلد1. فقول ابن غنام نحو مجلد كأنه يعني المختصرة والمطولة كلاهما نحو مجلد. سيما وأن الموجود بين أيدينا للشيخ هو بعنوان مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم المطبوع بمطبعة السنة المحمدية وفي أوله مقدمة ذكرها الدكتور الضبيب بعنوان: "قصص الأولين والآخرين وما فيها من العبر والفوائد"2 وطبعت مفردة ضمن الدرر   1 روضة ابن غنام، 1/ 50. 2 الضبيب، سجل ببليوجرافي ص 48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 السنية1. ومختصرسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم يوجد مخطوطا بعنوان: "مختصر سيرة ابن هشام والناسخ محمد بن سيف بن خالد، مفردا عن تلك المقدمة في المكتبة العلمية العامة ببريدة وفي المكتبة السعودية بالرياض، ويذكر الدكتور العثيمين أن هذه المقدمة موجودة في المتحف البريطاني2. ولم نطلع على كتابين للشيخ في اختصار السيرة وإنما الموجود هو مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم هذا المطبوع الذي أوله: "الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. اعلم رحمك الله ... ". أما المختصر الأطول الموجود فهو من تأليف عبد الله بن الشيخ وليس من تأليف الشيخ والله أعلم. كتاب: مجموع الحديث على أبواب الفقه: أوله: "بسم الله الرحمن الرحيم. وبه نستعين- والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. 1- عن أبي سعيد قال: قيل يا رسول الله أنتوضأ من بئر بضاعة وهي يلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الماء طهور لا ينجسه شيء" حسنه الترمذي وصححه أحمد.   1 ط 2 ج 8/ من ص 3-24. 2 انظر: الشيخ محمد ... للدكتور العثيمين- ص 86 - 88. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 لقد ورد ذكر هذا الكتاب ضمن ما ذكره ابن غنام من مصنفات الشيخ1. وطبع لأول مرة ضمن مؤلفات الشيخ التي طبعتها جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بمناسبة انعقاد مؤتمر أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب، في قسم الحديث، وشغل أربعة أجزاء كبار بتحقيق الدكتور خليل ملا خاطر، والدكتور محمود بن أحمد الطحان عن مخطوطة واحدة حسب معرفة الأمانة العامة للأسبوع2. ويوجد في المكتبة السعودية بالرياض مخطوطة له تحت رقم 186/863. والكتاب كبير الحجم يقارب كتاب المنتقى لابن تيمية الجد، بلغت فيه الأحاديث المرفوعة والموقوفة حوالي ستة وأربعين ألف حديث عدا الآثار من أقوال التابعين وفتاوى الأئمة المجتهدين، والكتاب واسع في ذكر أحاديث الأحكام وفتاوى التابعين والأئمة والإجماع والتصحيح والتحسين والتضعيف وما قيل في الرواة المختلف في الاحتجاج بهم4. أما كتاب مختصر الإنصاف والشرح الكبير فيوجد له مخطوطات كثيرة بمكتبات القصيم وحائل5، والرياض6، وقد طبع بالمطبعة السلفية   1 انظر: روضة ابن غنام ج1ص 50. 2 انظر: مؤلفات الشيخ، قسم الحديث، جزء 1 ص5. 3 انظر: الشيخ محمد، لابن عثيمين، هامش ص 94 وفيه وصف للمخطوطة. 4 انظر: مؤلفات الشيخ، قسم الحديث 2/1-4. 5 مجلة البحث العلمي، عدد 2/ 332-343، عدد 3/ 447. 6 مؤلفات الشيخ، القسم الثاني، الفقه، المجلد الأول ص 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 بالقاهرة في 512 ص ثم طبعته جامعة الإمام محمد بن سعود ضمن مؤلفات الشيخ في 792 ص طبعة أخرى. كتاب مختصر الهدي: هو مختصر زاد المعاد لابن قيم الجوزيه، حوى خلاصة أصله ووفى بمقصوده، ذكر الشيخ عبد الرحمن بن حسن أن شيخه وجده الشيخ محمد ابن عبد الوهاب نسخ أصله الهدي النبوي في المدينة بيده1. يوجد له مخطوطات اثنتان بالمكتبة السعودية بالرياض تحت رقم 48/ 86 وتحت رقم 49/ 862، والثالثة بمكتبة مسجد أم خمار بعنيزة3، وأشار الدكتور عبد الله العثيمين إلى نسخة خطية هي الرابعة كتبها محمد بن سيف بن خميس سنة 1197هـ عنوانها مختصر الهدي النبوي، ولكن لم يذكر مكان وجودها4، ومخطوطتان إحداهما للشيخ عبد الرحمن بن محمد آل الشيخ، والثانية مخطوطة بمكتبة زهير الشاويش5. وقد طبعه المكتب الإسلامي في بيروت عام 1319في 12+ 408 ص، وطبعته جامعة الإمام محمد بن سعود ضمن مؤلفات الشيخ، القسم الرابع في 351 ص.   1 الدرر السنية: 9/ 216. 2 مؤلفات الشيخ الإمام، القسم الرابع. 3 مجلة البحث العلمي، عدد 2 عام 1399 هـ ص 351. 4 الشيخ محمد ... للدكتور العثيمين هامش رقم 2 ص 89. 5 الطبعة الأولى من مختصر الهدي النبوي بمطبعة المكتب الإسلامي ص، د، ط، ى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 أما آداب المشي إلى الصلاة: فيوجد له خمس نسخ خطية اثنتان منهما بالمكتبة المركزية بالجامعة الإسلامية تحت رقم 163/ 29 ورقم 141/ 27 والمكتبة السعودية تحت رقم 269 / 861، وبمكتبة الشيخ عبد الله الإبراهيم التويجري ببريدة2 وبمكتبة الشيخ عبد الرحمن الملق بحائل3. وطبع بالمطبعة السورتية ببمبي، 1336هـ، وفي القاهرة بمطبعة المنار، 1340 وضمن مجموعة متون بمطبعة السلفية عام 1345هـ من ص 65-127، وطبع بإشراف محمد بن مانع بمكة المكرمة المطبعة الماجدية 1367هـ4، وتوالت طبعاته المدرسية حيث كان مقررا على تلاميذ المرحلة الابتدائية، وهو مأخوذ من شرح الإِقناع المسمى كشاف القناع عن متن الإقناع كما ذكره ابن بشر في تاريخه عند كلامه على مؤلفات الشيخ5.   1 انظر: مؤلفات الشيخ، الفقه، غلاف آداب المشي إلى الصلاة. 2 مجلة البحث العلمي، عدد 2 سنة 1399هـ ص 1 34-342. 3 مجلة البحث العلمي، عدد 3 سنة 1400هـ ص 446-447. 4 انظر: الضبيب ببليوجرافي، ص 111، المواد 553-556. 5 عنوان المجد ... 1/ 92، ومجلة البحث العلمي عدد 3 عام 1400 ص 26. وانظر للمقارنة ص3 من كتاب آداب المشي.. ط جامعة الإمام ضمن مؤلفات الشيخ القسم الثاني الفقه. وص 378 من كتاب كشاف القناع وص 5 من آداب المشي وص 381 من الكشاف. وص 18 من الآداب. وص 481 من الكشاف.. الخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 ويظهر هذا من المقارنة بين آداب المشي إلى الصلاة هذا وبين كشاف القناع عن متن الاقناع. وآداب المشي إلى الصلاة، عنوان لا يدل على كل مضمون الكتاب: لقد أفرد كتاب آداب المشي إلى الصلاة بهذا العنوان في نسخه المخطوطة والمطبوعة وهوعنوان أول أبواب الكتاب، حيث إنه يبدأ بباب آداب المشي إلى الصلاة، ويثني بباب صفة الصلاة، وهكذا حتى يتم عشرين بابا في الصلاة والزكاة والصيام فأصبح مضمون الكتاب لا يقتصرعلى مدلول العنوان، كما أن العنوان لا يدل على كل ما تضمنه الكتاب، فهل هذا من وضع الشيخ نفسه أم لا؟ والجواب هو: أن الذي يظهر عدم قصد الشيخ في اختصاره الكتاب أن يقتصرعلى مضمون هذا العنوان، ولكنه قصد أن يختصر جزءا في فقه الصلاة والزكاة والصيام على المنهج الدراسي المجزأ لتسهيل دراسته على طلاب العلم كما هوالشأن من قديم في تقسيم الفقه إلى عبادات ومعاملات وغير ذلك. فأخذ هذا الجزء طابع الكتاب، وأخذ عنوان أول أبوابه فيما تعارف عليه طلاب العلم بينهم، وصار من باب تسمية الشيء باسم جزئه، وذلك من مجازات التسمية، ويؤيد ما ذكرنا أن هذا الجزء يبدأ مباشرة بباب آداب المشي إلى الصلاة مما يبين أنه يبني على أبواب سابقة. وهي الأبواب التي احتوت عليهما رسالة شروط الصلاة وكتاب الطهارة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 ولذا فقد علق الشيخ محمد بن مانع على هذا العنوان "باب آداب المشي إلى الصلاة" بقوله: "لم يذكر المصنف رحمه الله كتاب أحكام الوضوء وشروط الصلاة قبل باب آداب المشي إلى الصلاة اكتفاء برسالة شروط الصلاة المتضمنة لذلك كله. وقد جرت العادة بقراءتها قبل هذا الكتاب فكأنها جزء منه" ا. هـ1. كتاب أحكام الطهارة: قد تضمن أحكام الطهارة في المياه والآنية والاستنجاء والوضوء والمسح والغسل والتيمم، والحيض والنفاس وما إلى ذلك. طبعته جامعة الإمام محمد بن سعود في (43 ص) لأول مرة، ضمن مؤلفات الشيخ بتصحيح الشيخ صالح الأطرم وزميله، ويقولان إنهما استندا في نسبته إلى الشيخ محمد إلى فهارس المكتبة السعودية المدون فيها باسمه مخطوطا تحت رقم 520/ 86. ويقولان: "إن أسلوب المخطوطة يتطابق تماما مع أساليب كتابات الشيخ وتصانيفه ورسائله رحمه الله تعالى وخاصة كثرة الإشارة إلى اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية"2.   1 انظر: ص 3 من الطبعة التي نثرها محمد سعيد كمال لهذا الكتاب كمقرر على السنة السادسة الابتدائية لتعليق محمد بن مانع مدير المعارف العام. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الثانى، الفقه، المجلد الثانى، كتاب أحكاء الطهارة. ص 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 رسالة شروط الصلاة وأركانها وواجباتها: يوجد لها مخطوطة بالمكتبة السعودية بالرياض تحت رقم269/86. وهي مطبوعة متداولة، ومن المقررات المدرسية. وقد أحسنت جامعة الإمام محمد بن سعود صنعا في ترتيبها هذه الأجزاء الثلاثة حيث طبعتها هكذا: كتاب الطهارة، ثم: شروط الصلاة، ثم: آداب المشي إلى الصلاة فكأن القائمين على إعدادها تنبهوا للمناسبة والتي أرادها الشيخ، لولا أنهم طبعوا ملخصا لشروط الصلاة بعد آداب المشي إلى الصلاة معنونا بعنوان أحكام الصلاة، وكان حقه أن يقدم قبل آداب المشي إلى الصلاة، لأنه خلاصة موجزة لشروط الصلاة المذكورة قبله، ولعل ملاحظة العناوين فقط تسبب عنه هذا الخطأ. أما ما ذكره الشيخ ابن قاسم من مؤلفات الشيخ الأخرى وهي مختصر الصواعق، ومختصر فتح الباري ومختضر العقل والنقل، ومختصر الإيمان، ومختصر المنهاج، فما وجدتها مخطوطة ولا مطبوعة إلا أن يكون مختصر المنهاج هو رسالة في الرد على الرافضة التي نشرتها جامعة الإمام محمد بن سعود لأول مرة بتحقيق الدكتور ناصر الرشيد، وإنه ليحتمل أن يكون هو المراد بمختصر المنهاج المنسوب للشيخ حيث إن مباحثه شبيهة بمباحث منهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية وجاء في أوله بعد المقدمة القصيرة: "فهذا مختصر مفيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب". لكن هذه الرسالة مستخلص قصير جدا، لا نسبة بينها وبين المنهاج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 وهذه الرسالة هي غير رد ابن الشيخ، الشيخ عبد الله على الرافضة والزيدية. رسالة في الرد على الرافضة: طبعتها جامعة الإمام محمد بن سعود ضمن مطبوعاتها لمؤلفات الشيخ، ملحق المصنفات، بتحقيق الدكتور ناصر بن سعد الرشيد ويذكر المحقق أنه لم يسبق لها أن طبعت1. وطبعت طبعة ثانية مفردة باشراف دار المأمون للتراث 1400هـ. وجاء في أولها بعد مقدمة قصيرة بحمد الله والصلاة على رسوله قول هذا نصه: "فهذا مختصر مفيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب" فلعله هومختصر المنهاج الذي ذكره ابن قاسم2، وغيره من مؤلفات الشيخ، والمنهاج هو منهاج أهل السنة رد على الرافضة لابن تيمية، وهذا المختصر غير رد ابنه عبد الله على الرافضة والزيدية. وبلغ عدد صفحاته مطبوعا 56 صفحة ويشمل مطالب أو مباحث هي: الوصية بالخلافة، وإنكار خلافة الخلفاء، دعوى الرافضة ارتداد الصحابة، ونقص القرآن، والسب والتقية، وسبهم عائشة، وتكفير من حارب علياً واستهانتهم بأسماء الصحابة، وانحصار الخلافة في اثني عشر، والعصمة، وخلافهم في خروج غيرهم من النار، ومخالفتهم لأهل السنة، والرجعة، ومشابهتهم اليهود والنصارى والمجوس وغير ذلك.   1 انظر مقدمته لمختصر سورة الأنفال، ملحق المصنفات، مؤلفات الشيخ ص 3. 2 انظر: الدرر السنية جزء12، تراجم، ترجمة الشيخ، ص؟؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 وقال عبد الرحمن بن قاسم: "وله (أي الشيخ) رسائل وأجوبة في التوحيد والنصائح وأجوبة في الفقه كثيرة ومفيدة تقدمت في هذا الكتاب (أي الدرر السنية) على حسب الترتيب وله من المسائل المستنبطات من كتاب الله ما يقصر عنه فهم الفحول الأفاضل، ولا يقدر على إبرازه ذوو التدقيق من الأماثل تكلم على غالب السور واستنبط منها من الفوائد ما لم يسبق له" ا-هـ1. وقد قمت بتتبع أجزاء الدرر السنية لمعرفة ما هو للشيخ من متفرقات الأجوبة والرسائل والفوائد ثم قمت بتحديد مواضعها من هذا المجموع الكبير بأرقام الصفحات. وفيما يلي بيان إحصائي بذلك مرتبا حسب ترتيب جامع الدرر السنية: في الأجوبة النجدية- الطبعة الثانية عام 1385هـ، مطابع المكتب الإسلامي: 1- الجزء الأول: وهو في العقيدة ويقصد التوحيد العلمي الخبري فيه للشيخ أربعة وثلاثون جوابا من ص 28-110. فيساوي عدد صفحات ما للشيخ في هذا الجزء 82 صفحة.   1 الدرر السنية 12/ 18، 19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 2- الجزء الثاني: وهو في التوحيد ويقصد بذلك توحيد القصد والطلب الذي هو توحيد العبادة - فيه للشيخ خمسة وأربعون جوابا من ص 3-73+ ص 176. فيساوي عدد صفحات ما للشيخ في هذا الجزء71 صفحة. 3- الجزء الثالث: وهو في الأسماء والصفات- فيه للشيخ جواب واحد من ص 81- 85. فيساوي عدد صفحات ما للشيخ في هذا الجزء4 صفحات. 4- الجزء الرابع:. وهو: أ- في الأصول الفقهية: فيه للشيخ أربعة أجوبة من ص 3-6. ب- وفي العبادات: للشيخ أربعة وأربعون جوابا وموضوعا من ص 69-72، ص 78، وص 79-80، ص 82، ص 98، ص105، ص 109-110، ص114، ص131، 137، 139، 141، 143- 148، 149، 161-164، 165، 167، 168، 193، 228، 241، 242 250، 278-279، 294، 295، 298، 299، 307، 308، 309، 311، 313، 315، 324، 325-326، 328، 329-330، 339-340، 350، 385، 394، 410، 414. ومن أهم ما فيها رسالة: شروط الصلاة وأركانها وواجباتها التي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 نشرت في غير الدرر السنية كثيرا، وضمن مجموعات أخرى مختلفة1. فيساوي عدد صفحات ما للشيخ في هذا الجزء61 صفحة تقريبا. 5- الجزء الخامس: وهو في البيع والربا والسلم والقرض والضمان والحجر والشركة والمساقاة والإجارة والغصب والشفعة واللقطة والوقف والهبة أو العطية والفرائض. فيه للشيخ خمسة وخمسون جوابا تقع في: ص 10، 12، 16، 18، 31، 32، 34، 38، 39، 41-42، 44، 45، 48، 58، 59، 61-63، 70، 73، 83، 89، 102، 104، 118، 120- 121، 136، 137، 145، 148، 151، 154، 156، 160، 161، 173، 177، 178، 179، 184، 185، 192، 202، 217، 218،224، 226، 227، 228، 307-308، 230، 231، 243، 256-265، 273، 279، 281، 285، 289، 300، 302، 303، 304. ويساوي عدد صفحات ما كتبه الشيخ في هذا الجزء 67 صفحة تقريبا. 6- الجزء السادس: وهو في النكاح، في: وليمة العرس، الطلاق، الظهار، العدد،   1 انظر: الضبيب ببليوجرافى ص 112-114، المواد 265-580.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 الرضاع، النفقات، الجنايات، الديات، الزكاة، القضاء، القسمة، الدعاوى والبينات، الشهادات. فيه للشيخ 28 جوابا. في ص 347، 350، 360، 364،،376، 379،387،388، 389، 390، 412، 414، 416، 417، 422، 424، 428، 437، 445، 467، 468، 491-495، 496، 508، 509، 515، 519، 520. ويساوي مجموع ما للشيخ من الصفحات 31 صفحة تقريبا في هذا الجزء. 7- الجزء السابع: وهو كتاب الجهاد، فيه للشيخ اثنا عشر موضعا. تقع في الصفحات: 3، 25، 26، 28، 29، 30، 50-56، 57، 239، 305، 306، 346، 347، 388. ويساوي عدد مجموع صفحات ما للشيخ في هذا الجزء19 صفحة تقريبا. 8- الجزء الثامن: وهو في حكم المرتد، فيه للشيخ تسعة وعشرون موضعا، أولها كتاب: "مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد" تقع في الصفحات: 3- 49- 51، 52- 61- 75، 76-85، 86، 87، 88، 89، 90-97، 98-107، 244، 245. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 ويساوي عدد صفحات ما للشيخ في هذا الجزء96 صفحة تقريبا. 9- الجزء التاسع: وهو في: "مختصرات الردود" وليس فيه للشيخ شيء. 10- الجزء العاشر: وهو في تفسير القرآن، فيه للشيخ ثمانية وسبعون موضعا، تقع في الصفحات: 3-10 ، 26، 27-33، 34، 35، 39-40، 41، 42، 43، 44، 45-49، 50، 52، 53، 54-56، 57، 58، 59، 60-62، 63-70، 71، 72، 81-86،91 -102، 104-160، 162-178، 183-200. ويساوي مجموع صفحات ما للشيخ في هذا الجزء (150 صفحة) 11- الجزء الحادي عشر: في "النصائح" وليس فيه للشيخ شيء. 12- الجزء الثاني عشر: في التراجم، وفيه ترجمة الشيخ بقلم مؤلف وجامع "الدرر" الشيخ عبد الرحمن بن قاسم. ويصبح مجموع صفحات ما للشيخ في هذه الأجزاء كلها= 82+ 71+ 4+ 61+67+ 31+19+ 150=485 صفحة. وهذه تساوي مجلدا كبيرا لو جمعت وضمت مع بعضها. وقد نبه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 جامع الدرر السنية أنه لم يتعرض إلا للفتاوى والرسائل وما كان مختصرا نحو الكراستين فأقل، أما الردود والكتب الكبار المشهورة المتداولة، فهي مستقلة على حدتها، مستغنية عن إثباتها في هذا المجموع. هذا ومن مؤلفات الشيخ ورسائله الجديرة بالتنويه أيضا ما يلي: رسالة: ثلاتة الأصول وأدلتها: ويظهرأن هذا العنوان هو أول ما عنونت به هذه الرسالة، فإذا لاحظنا طبعاتها الأولى؛ نجد أن عنوانها هكذا كما دون أعلاه، فمثلا طبعتها ضمن مجموعة نشرها عيسى بن رميح سنة (1338هـ) ، وطبعتها سنة (1340هـ) بمطبعة المنار، وطبعتها سنة (1345هـ) بالمطبعة السلفية بالقاهرة ضمن مجموعة متون1، كلها بهذا العنوان، وكذلك إذا لاحظنا تعبيرات بعض المؤرخين والعلماء عنها فإنهم يعبرون عنها بهذا العنوان2. وقد عنونت هذه الرسالة بعناوين تختلف بترتيب ألفاظها، وبالألفاظ ذاتها وبالاختصار والطول، فمرة بعنوان: "ثلاثة الأصول"3 وأخرى: "ثلاثة الأصول وأدلتها"4 وثالثة: "الأصول الثلاثة وأدلتها"5 ورابعة:   1 انظر: الضبيب، ببليوجرافيا، الأصول الثلاثة، ص 29. 2 انظر: تاريخ ابن بشر، ط مكة، ج1/ ص 14. 3 انظر: حاشية ثلاثة الأصول، الغلاف. 4 انظر: المجموعة السعودية تصحيح ابن حميد، ص 221. 5 انظر: الأصول الثلاثة، الغلاف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 جامع الدرر السنية أنه لم يتعرض إلا للفتاوى والرسائل وما كان مختصرا نحو الكراستين فأقل، أما الردود والكتب الكبار المشهورة المتداولة، فهي مستقلة على حدتها، مستغنية عن إثباتها في هذا المجموع. هذا ومن مؤلفات الشيخ ورسائله الجديرة بالتنويه أيضا ما يلي: رسالة: ثلاتة الأصول وأدلتها: ويظهرأن هذا العنوان هو أول ما عنونت به هذه الرسالة، فإذا لاحظنا طبعاتها الأولى؛ نجد أن عنوانها هكذا كما دون أعلاه، فمثلا طبعتها ضمن مجموعة نشرها عيسى بن رميح سنة (1338هـ) ، وطبعتها سنة (1340هـ) بمطبعة المنار، وطبعتها سنة (1345هـ) بالمطبعة السلفية بالقاهرة ضمن مجموعة متون1، كلها بهذا العنوان، وكذلك إذا لاحظنا تعبيرات بعض المؤرخين والعلماء عنها فإنهم يعبرون عنها بهذا العنوان2. وقد عنونت هذه الرسالة بعناوين تختلف بترتيب ألفاظها، وبالألفاظ ذاتها وبالاختصار والطول، فمرة بعنوان: "ثلاثة الأصول"3 وأخرى: "ثلاثة الأصول وأدلتها"4 وثالثة: "الأصول الثلاثة وأدلتها"5 ورابعة:   1 انظر: الضبيب، ببليوجرافيا، الأصول الثلاثة، ص 29. 2 انظر: تاريخ ابن بشر، ط مكة، ج1/ ص 14. 3 انظر: حاشية ثلاثة الأصول، الغلاف. 4 انظر: المجموعة السعودية تصحيح ابن حميد، ص 221. 5 انظر: الأصول الثلاثة، الغلاف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 في مجموعة التوحيد وغيرها. كتاب: مسائل الجاهلية: التي خالف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجاهلية، يوجد له مخطوطات بمكتبات خاصة1. وهو مطبوع متداول بتعداد مختلف لهذه المسائل اختلافا سهلا في الزيادة والنقص ولا يضر ذلك لأن الكتاب صحيح النسبة إلى الشيخ، والزيادة والنقص إنما هو في تعداد المسائل. فبعض النساخ يجعل المسألتين والثلاث واحدة والبعض الآخر يجعل لكل مسألة عددآ خاصا كما يفعل الشيخ الألوسي في الرابعة والخمسين والخامسة والخمسين وهكذا. كتاب: مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد: يوجد مخطوطا بالمكتبات الخاصة2. وهو مطبوع متداول، وجعله جامع الدرر السنية في أول جزء حكم المرتد وما جعل له عنوانا. وابن غنام ذكر أن الشيخ أرسل هذا الكتاب لأهل العيينة يبطل ما موه به سليمان بن عبد الوهاب في كتابه إليهم وما جعل له عنوانا.   1 مجلة البحث العلمي ع 3 س1400هـ ص 443-444. 2 انظر: مؤلفات الشيخ، القسم الأول العقيدة، هامش ص286-294 ومجلة البحث العلمي عدد 2 س1399هـ ص 341، وع 3 س 1400هـ ص 441، وص 444. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 كتاب الكبائر: أوله: كتاب الكبائر، وقول الله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُم} الآية. يوجد مخطوطا في ثلاث نسخ: مخطوطة مكتبة الشيخ محمد بن إبراهيم ومخطوطة محمد بن عبد اللطيف، ومخطوطة الحصين1، ونسخ أخرى2، وهو مطبوع متداول. الخطب المنبرية له ولبعض أحفاده: هذا الكتاب مطبوع طبعات مختلفة فطبعة أم القرى سنة (1345 هـ في 83 ص) وطبعة السلفية بلا تاريخ في 90+ 2 ص تحتوي على خمس وسبعين خطبة وعنوانها: خطب إمام الدعوة الإمام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وأحفاده وبعض تلاميذه. وطبعة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية وتحتوي على ثمان وثلاثين خطبة بعنوان الخطب المنبرية للشيخ محمد بن عبد الوهاب في 66 ص. كتاب بعنوان: هذه أحاديث في الفتن والحوادث التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها ستكون بعده جمعها الشيخ محمد بن عبد الوهاب.   1 انظر: ص 3 من كتاب الكبائر، ط رئاسة إدارات الحوث العلمية وهامش ص 3 من مؤلفات الشيخ، القسم الأول، كتاب الكبائر. 2 مجلة البحث العلمي ع 3 س 1400 هـ ص 442-444. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 يوجد له مخطوطة في المكتبة السعودية بالرياض تحت رقم 525/ 86 ذكر ناسخها أنه نقلها من خط المؤلف نفسه. وطبعته جامعة الإمام محمد بن سعود لأول مرة ضمن مؤلفات الشيخ بتحقيق محمد محرز حسن سلامه وزميله في 291 صفحة، ويذكر المحققان أن أصله المخطوط ضم أحاديث في موضوعات عدة بدون تبويب لها أومراعاة لوحدة الموضوع ولم يكن في أوله خطبة الكتاب مما يغلب على الظن أنه كان مسودة في دور الإعداد لم ينل حظه من التبويب أو التنسيق وأنهما وضعا لها أبوابا تعين وحدة الموضوع أخرجاها إخراجا حسنا ييسر الانتفاع بها.. الخ1. مختصر تفسير سورة الأنفال: طبعته لأول مرة جامعة الإمام ضمن مؤلفات الشيخ ضمن ملحق المصنفات في 28 ص بتحقيق الدكتور ناصر بن سعد الرشيد من مخطوطة في مكتبة الأوقاف ببغداد صورها مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي بكلية الشريعة بمكة يظهر أنه مختصر من مجموعة تفاسير كابن كثير والطبري وابن الجوزي وغيرهما من تفاسير السلف الصالح2. كتاب بعنوان: (هذه مسائل) لخصها الشيخ محمد بن عبد الوهاب من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية:   1 مؤلفات الشيخ، قسم الحديث، المجلد الثالث، ص 10. 2 انظر: الصفحات: 10، 11، 12 وما بعدها. ط جامعة الامام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 أوله: " (1) إِن قوله: "إنما الأعمال بالنيات" عام، خلافا لما عليه أكثر الشراح.." وهوشامل لمسائل عديدة في التوحيد بجميع أنواعه وفي الفقه وأصوله والتفسير وعلومه، وتبلغ هذه المسائل عدد مائة وخمس وثلاثين مسألة. وهو أثر من آثار الشيخ يبين لنا مدى تحصيل الشيخ العلمي ودراسته الجادة لمؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية وانتمائه الأكيد إلى مدرسته السلفية الجامعة للمعقول والمنقول كما هي روح الإسلام، فهو وثيقة تدل على مصدر عظيم من مصادر الشيخ محمد بن عبد الوهاب العلمية. ويوجد مخطوطا بالمكتبة السعودية بالرياض برقم (678/86) وصورة من هذه المخطوطة في مكتبة الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ1. وقد طبعته جامعة الإمام محمد بن سعود بمراجعة محمد بن عبد العزيز النمي وزميله في (199 صفحة) 2. أربع قواعد تدور عليها الأحكام: أولها: "قال الشيخ محمد رحمه الله: هذه أربع قواعد من قواعد الدين التي تدور الأحكام عليها ... ".   1 مؤلفات الشيخ، ملحق المصنفات، طبعة جامعة الإمام ص 9. 2 المصدر السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 توجد مخطوطة ضمن مجموعة في المكتبة السعودية برقم (86/89) ، وقد طبعت ضمن "الدرر"، وضمن "مؤلفات الشيخ". مبحث الاجتهاد والاختلاف: مختصر من كتاب أعلام الموقعين لابن القيم، (الجزء 4، ص 119-162) . يوجد مخطوطا بالمكتبة السعودية بالرياض تحت رقم (772-886) وقد طبع ضمن مؤلفات الشيخ. رسالة في إبطال وقف الجنف والإثم: أولها: "هذه كلمات جواب الشبهة التي احتج بها من أجاز وقف الجنف والإثم، ونحن نذكر قبل ذلك صورة المسألة، ثم نتكلم على الأدلة ... ". طبعت بعنوان: "فتوى لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، مع مذكرة في قضية المحرومين"، لأحمد محمد شاكر، طبعتها دار المعارف بالقاهرة، سنة (1372هـ) ، وطبعت ضمن "روضة ابن غنام" (جـ1/ ص 124-138) ، وضمن "مؤلفات الشيخ" وطبعات أخرى1. وقد قام المسؤولون بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بجمع   1 انظر: الضبيب، آثار الشيخ محمد بن عبد الوهاب، سجل ببليوجرافي. ص 111-112. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 وطبع مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب وآثاره بمجموعة خاصة، انفردت بمؤلفات الشيخ فقط، وتميزت بذلك عن المجاميع الأخرى، وبسبقها إلى طبع ونشر مؤلفات للشيخ لم تطبع من قبل. وعدد مجلدات هذه المجموعة التي سميت باسم: "مؤلفات الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب" اثنا عشر مجلدا، فالأول في العقيدة والآداب الإسلامية مجلد واحد. وخمس مجلدات في الحديث. ومجلدان في الفقه. ومجلد في التفسير ومختصر زاد المعاد. ومجلد في مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم. والفتاوى. ومجلد في الرسائل الشخصية. ومجلد في ملحق المصنفات. فأما مجلد العقيدة والآداب الإسلامية فهي القسم الأول، ويتضمن: كتاب التوحيد، وكشف الشبهات، وثلاثة الأصول، والقواعد الأربع، وفضل الإسلام، وأصول الإيمان، وكتاب مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد، ومجموعة رسائل في التوحيد والإيمان: هي مسائل الجاهلية وشرح ستة مواضع من السيرة وتفسير كلمة التوحيد، وتلقين أصول العقيدة للعامة، وثلاث مسائل، ومعنى الطاغوت، والأصل الجامع لعبادة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 الله وحده، وبعض فوائد سورة الفاتحة، ونواقض الإسلام، ومسائل مستنبطة من قول الله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} وثمان حالات استنبطها الشيخ من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي} الآية، وستة أصول عظيمة مفيدة، ورسالة في توحيد العبادة وكتاب الكبائر. وأما مجلدات الحديث فهي تتضمن: مجموع الحديث في الأحكام على أبواب الفقه أربعة أجزاء، طبع لأول مرة في هذه المجموعة وهو جيد مفيد واسع في ذكر الأحكام والآثار. ومجلدا في أحاديث الفتن والحوادث، وأشراط الساعة، وخروج الدجال، وما جاء في المهدي ونزول عيسى عليه السلام، وغير ذلك. والمجلدان في الفقه فهما القسم الثاني أحدهما مختصر الإنصاف والشرح الكبير. والثاني يتضمن نبذا في الأصول الفقهية، وكتاب الطهارة، وشروط الصلاة وأركانها وواجباتها، وآداب المشي إلى الصلاة، وأحكام الصلاة، وأحكام تمني الموت، وأحوال الأرواح، والقبر والأهوال من السنة والأثر. وكان الأنسب أن يوضع في قسم الحديث لأنه مجموعة أحاديث. ومجلد التفسير ومختصر زاد المعاد فهو القسم الرابع في فضائل القرآن وتفسير آيات من القرآن الكريم من سورة الفاتحة حتى سورة الناس، وهذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 التفسير أشبه باستنباط فوائد من الآيات التي وقع عليها الاختيار ويتضمن مختصر زاد المعاد في الهدي النبوي لابن القيم اختصره الشيخ. ومجلد مختصر السيرة والفتاوى، فهو القسم الثالث يتضمن مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وفتاوى ومسائل للشيخ متفرقة. ومجلد الرسائل الشخصية فهي القسم الخامس، وتشتمل على رسائل الشيخ الشخصية في بيان عقيدته وحقيقة دعوته ورد ما ألصق به من التهم الباطلة، وبيان أنواع التوحيد، ومعنى لا إله إلا الله، وبيان ما يناقضها من الشرك في العبادة، وبيان الأشياء التي يكفر مرتكبها ويجب قتاله والفرق بين فهم الحجة وقيام الحجة وتوجيهات عامة للمسلمين في العقيدة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وآخر هذه المجلدات الاثني عشر مجلد ملحق المصنفات يتضمن مسائل لخصها الشيخ من كلام شيخ الإسلام أحمد بن تيمية ومختصر تفسير سورة الأنفال، والرد على الرافضة، وبعض فوائد صلح الحديبية، والخطب المنبر ية. هذا وقد قام بتصنيف هذه المؤلفات وإعدادها للتصحيح الشيخ عبد العزيز بن زيد الرومي والدكتور محمد بلتاجي، والدكتور سيد حجاب وطبعت طبعة خاصة باسم جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بعد أن صححت وحققت بواسطة لجان علمية مكونة من العلماء المتخصصين ذوي الصلة الوثيقة بنوع وطبيعة ما يراجعونه من مؤلفات الشيخ، ومن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 ذوي الخبرات في البحوث العلمية قدر الاستطاعة1. ولكن عند تفقدي لمؤلفات الشيخ في هذه المجموعة القيمة لم أجد قليلا من آثار الشيخ ضمنها، كمختصر تفسير سورة الإخلاص والمعوذتين، لابن القيم. وهذا يوجد مخطوطا بمكتبة الآثار العامة ببغداد تحت (رقم 35179) 2. وكنبذ ومسائل ورسائل للشيخ هي موجودة في (الدرر السنية) جمع ابن قاسم مثل تفسير الاستعاذة وهي في الدرر السنية (ج 10/ ص 35-36) وتفسير أول سورة البقرة: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} الآيات وهي في الدرر السنية (جـ10 ص 39-42، جـ1ص 59-62، ص 78-80، ص 95-99، ص 107-، ص 102،105) . ومسائل في التوحيد وهي في الدرر السنية (جـ 2 ص 38-39، ص 42-46، ص 50-52، ص 66، جـ 6 ص 495-496، وجـ 7 ص 346-347، وجـ 8 ص 87) وغير ذلك. ورسالة شخصية موجهة من الشيخ محمد إلى الشيخ عبد الله بن عيسى أولها: "من محمد بن عبد الوهاب إلى عبد الله بن عيسى وما   1 انظر: تقديم أمانة المؤتمر لأسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب لمؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة والآداب الإسلامية، ص 5-6. 2 فهرس المصورات الميكروفيلمية، التابعة لمركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي بكلية الشريعة بجامعة أم القرى، رقم 123. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 ذكرت أن الحمولة زعلين من تلك الكلمة.." وهي في الدرر السنية (جـ 7 ص 28-29) . رسائل في معنى لا إله إلا الله: عنوان الأولى: "هذه كلمات في بيان شهادة أن لا إله إلا الله وبيان التوحيد الذي هو حق الله على العبيد" وهي موجودة ضمن الدرر السنية (ج 2 ص 52 – 58) . والثانية أولها: "هذه كلمات في معرفة شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله" وتوجد في "الدرر السنية" (ج 2 ص 44-48) . والثالثة بعنوان: "فرض معرفة شهادة أن لا إله إلا الله قبل فرض الصلاة والصوم" وتوجد في "الدرر السنية" (ج 2 ص 61) . والرابعة: أن معنى لا إله إلا الله نفي وإثبات تنفي أربعة أنواع وتثبت أربعة أنواع. وتوجد في "الدرر السنية" (ج 2 ص 62) . والخامسة. في كلمة التوحيد- أولها: "اعلم أرشدك الله أن الله خلقك لعبادته" وتوجد في "الدرر السنية" (جـ 2 ص 62- 5 6) . وجواب سؤال عن معنى أبيات أولها: أول واجب على الإنسان معرفة الإله باستيقان. وتوجد في "الدرر السنية" (ج1ص 69- 71) وغير ذلك قليل. ورسالة في التقليد الممنوع والمأذون فيه والمباح، واتباع الدليل للشيخ محمد بن عبد الوهاب وهي موجودة في روضة ابن غنام، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 (ج1 ص 42-46) . وهي مخطوطة بالمكتبة العامة بتطوان بالمغرب الأقصى، ونقلت صورة عن صورتها من الشيخ حماد الأنصاري، وحصل في التصنيف قليل من الخطأ الفني كوضع كتاب أحكام تمني الموت "وهو عبارة عن مجموعة أحاديث في قسم الفقه، وكتكرار بعض آثار الشيخ كما وقع تكرار نبذة في اتباع النصوص طبعته في (القسم الثاني، الفقه، المجلد الثاني ص 3) ثم كررت في (القسم الثالث، الفتاوى ص97) ، وكما يوجد في (القسم الثاني، الفقه، المجلد الثاني ص 11-12) هو مكرر في (القسم الثالث الفتاوى في ص 27-40) ، وكما وقع في تفسير سورة طه من (ص 263-268 في القسم الرابع) ، هو بعينه الذي وقع في (القسم الثالث، الفتاوى ص 75-79) ، وفي تفسير سورة هود من ص 120-123 في القسم الرابع هو بعينه الذي وقع في (القسم الثالث، الفتاوى، ص5-8) وغير ذلك قليل. ولم ينفرد شيء من المراجع الأخرى كتاريخ ابن غنام و"مجموعتي التوحيد والحديث" و"مجموعة الرسائل والمسائل النجدية" بأجزائها الأربعة في بذكر شيء من مؤلفات الشيخ ليس في مجموعتى "الدرر السنية"، و"مؤلفات الشيخ"، وهما أشمل ما ظهر حتى الآن من مجاميع لمؤلفاته. تحقيق نسبة بعض الرسائل الشخصية من آثار الشيخ محمد بن عبد الوهاب: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 يقول الدكتور عبد الله العثيمين: "إن بعض الرسائل المضافة إلى ما ورد في تاريخ ابن غنام ليس فيها ما يرجح كونها من رسائل الشيخ نفسه، ويمثل بالرسالة التي أرسلها الشيخ إلى عالم من أهل المدينة، والرسالة التي بعثها الشيخ إلى عبد الله الصنعاني، والرسالة التي بعثها الشيخ إلى أهل المغرب، ورسالة رابعة جواب من الشيخ عن كتاب لم يقف على اسم كاتبه. فيقول عن الأولى التي أرسلها الشيخ إلى عالم من أهل المدينة بأنها لم ترد إلا في "الدرر السنية"، ولم يذكر اسم العالم الذي أرسلت إليه، ولم ينص فيها أنها من الشيخ كما هي عادته حيث يبدأ رسائله بعبارة: من محمد بن عبد الوهاب إلى فلان بن فلان. وقال عن الثانية التي بعثها الشيخ إلى عبد الله الصنعاني مثلما قال عن الأولى وزاد بأن فيها شبها كبيرا بأجزاء من الرسالة التي كتبها عبد الله بن الشيخ محمد عند دخوله مكة المكرمة مع سعود بن عبد العزيز من حيث الأسلوب والمضمون، فلعل في هذا ما يرجح أن الذي كتب الرسالة إلى الصنعاني هو الشيخ عبد الله بن محمد وليس أباه. وقال عن الثالثة التي بعثها الشيخ إلى أهل المغرب إنه من الواضح عدم رجحان كونها له لانفراد صاحب "الدرر السنية" بإيرادها وعدم النص فيها على اسم مرسلها، ولأنه من غير المحتمل أن يكون اهتمام زعماء الدعوة بالمغرب قد بدأ قبل استيلائهم على الحجاز ملتقى الوافدين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 إلى بيت الله الحرام، وأن هذه الرسالة قد شاعت في تونس زمن الباي حموده باشا. وقد ذكرت المصادر التونسية وصولها إلى ذلك القطر بعد أن تكلمت عن الأمور التي قام بها سعود بن عبد العزيز في الحجاز، وهذا يتلاءم مع القول بأن الاهتمام بالمغرب ناتج عن الوجود السعودي في الحجاز، وعلى هذا الأساس فإنه من المحتمل جدا أن تكون هذه الرسالة أيضا من كتابة الشيخ عبد الله بن محمد، وكان الدكتورالعثيمين قد قال عنها في كتابه عن الشيخ "والحقيقة أن هذه الرسالة كانت من الإمام سعود بن عبد العزيز إلى قادة المغرب بعد استيلائه على الحجاز، وقد لقيت رسالة سعود هذه نوعا من التأييد في المغرب الأقصى، لكنها لقيت معارضة في تونس" (الشيخ محمد بن عبد الوهاب حياته وفكره للدكتور عبد الله العثيمين ص 99) . وقال عن الرابعة وهي جواب الشيخ عن كتاب لم يقف على اسم كاتبه إنه ورد فيها ما يثير انتباه الباحث ذلك أنه ورد فيها ما يشير إلى أنها قد كتبت وعبد الله المويس لا يزال حيا لكن ورد فيها ما نصه: "فكيف بمن له قريب من أربعين سنة يسب دين الله" قال: ولو فرض أن دعوة الشيخ قد بدأت في نجد حوالي سنة (1145هـ) فان الرسالة حسب العبارة السابقة تكون قد كتبت خطيا سنة (1185هـ) تقريبا، ومن المعروف أن المويس قد توفي قبل هذا التاريخ بعشر سنين. انتهى ما لخصته من ملاحظات الدكتور العثيمين على صحة ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 ينسب للشيخ من بعض الرسائل الشخصية1. والجواب عن هذه الملاحظات هو أن دعوى انفراد صاحب الدرر السنية - وهو الشيخ عبد الرحمن بن قاسم - بإيرادها دعوى لاتتم، لاسيما وأنه جمع مجموع "الدرر السنية" عن مجموعات مشائخه الشيخ محمد بن عبد اللطيف، والشيخ سليمان بن سحمان، والشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري، وأَعانه على ذلك الجمع شيخه محمد بن إبراهيم تحريرا وتهذيبا وإعادة وإِبداء، وقرأ أكثره على شيخه محمد بن عبد اللطيف، وعلى شيخه سعد بن حمد بن عتيق2. فهو في "الدرر السنية" لم ينفرد بشيء، وإنما أثبت فيها ما وافق عليه عدد من العلماء كما ذكرنا أسماءهم وقامت دار الإفتاء بطبع هذه "الدرر السنية" مرتين وتوزع على طلبة العلم من غير نكير بل تقابل بالاستحسان والقبول، ثم إن الدكتور العثيمين لم يبين لنا في الشيخ عبد الرحمن بن قاسم شيئا يجعلنا نتوقف فيما ينفرد به لوحصل ذلك الانفراد، والذي نعلمه عن ابن قاسم أنه موثوق لدى علماء الدعوة وغيرهم ممن عاصره ولقيه وعرفه، فتبين بذلك أن قول الدكتور العثيمين بأن صاحب   1 انظر: بحثا بعنوان (الرسائل الشخصية للشيخ محمد بن عبد الوهاب) من إعداد الدكتور عبد الله بن صالح العثيمن ضمن بحوث أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب بجامعة الإمام محمد بن سعود لسنة1400هـ ص 1- هـ. 2 انظر: الدرر السنية 1/ 20- 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 الدرر السنية انفرد فيما لم يذكر في غيرها غير صحيح وكذلك أَضعافه صحة نسبة ما ينفرد به لو كان ذلك فإن صاحب الدرر رجل موثوق. وأما ما يفهم عن الدكتور العثيمين بأن الرسالة التي لم يذكر فيها اسم من أرسلت إليه ولم ينص فيها أنها من الشيخ كما هي عادته حيث يبدأ رسائله بعبارة: من محمد بن عبد الوهاب إلى فلان بن فلان أنه يتوقف في نسبتها إلى الشيخ فهذا لا يثير أدنى شك في نسبتها ما دامت تنسب إليه لأن عدم ذكر اسم من أرسلت إليه، وعدم النص فيها من محمد ابن عبد الوهاب لا يعني أن الشيخ لم يكتبها ويرسلها مفتوحة لينتفع بها العموم، ويجوز أن اسم المرسل والمرسل إليه حذفا لدفع مفسدة ونحو ذلك بعد أن انتهى الغرض من ذكرهما. وأما حكاية الشبه بين ما يكتبه الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وما ينسب للشيخ محمد بن عبد الوهاب من الرسالة إلى أهل المغرب. وأن هذا الشبه يشكك في النسبة فإن الأمر بالعكس وهو أن هذا الشبه يؤكد النسبة- فالشيخ عبد الله هو ابن الشيخ محمد وتلميذه والآخذ عنه فلم لا يشبه أباه؟ في كل أسلوبه ومضمونه؟ أما قطع الدكتور بعدم احتمال أن يهتم الشيخ بالمغرب وغيره من بلاد المسلمين قبل الحجاز فقد كانت بداية دعوة الشيخ في غير الحجاز، وكانت دعوته صالحة للجميع كيف ما اتفق من غير ترتيب بلد على بلد أو جماعة دون أخرى لأن الشأن هو قبولها، ولقد كان قبول دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم في الضعفاء قبل الأشراف. ومن المدينة قبل مكة وهذا ما يجعل الشيخ غير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 آبه بترتيب قطر على قطر، وإنما يهمه أن يقبل منه، وكون رسالة الشيخ إلى أهل المغرب شاعت في تونس زمن الباي حموده باشا وكون المصادر التونسية ذكرت وصولها إلى ذلك القطر بعد أن تكلمت عن الأمور التي قام بها سعود في الحجاز فهذا لا يدل على أن الشيخ لم يكن قد كتبها وأرسلها إلى أهل المغرب في زمنه وكونها لم تنتشر في تونس إلا متأخرة وبعد قيام الأمور السعودية في الحجاز لا يثير الاستغراب ولا يقدح في نسبتها للشيخ لأنه أمر طبيعى فالناس يشيع بينهم أثر من عظم شأنه ولو بعد وفاته بزمن طويل. وقول الدكتور العثيمين والحقيقة أن هذه الرسالة كانت من الإمام سعود قول لم يحقق بأدلة كافية في الوصول إلى هذه الحقيقة ومخالفة الحقيقة المذكورة. وما ذكره الدكتور العثيمين عن إجابة الشيخ على كتاب لم يقف على اسم كاتبه بأنه ورد فيها ما يدل على أنها كتبت والمويس لا يزال حيا ثم ورد فيها ما يدل على أنها كتبت بعد وفاة المويس فهذا غير صحيح لأن ما ورد فيها من قوله: "فكيف بمن له قريب من أربعين سنة يسب دين الله" لا يدل على أن الرسالة كتبت بعد وفاة المويس حسب ما استنتجه العثيمين بناء على حسابه أن سباب المويس للدين إنما بدأ حين بدأت دعوة الشيخ حوالي سنة (1145هـ) ، والمويس مات سنة (1175هـ) قبل تمام الأربعين، فإن ما ورد من قول الشيخ في ذلك الجواب يعني المويس: "فكيف بمن له قريب من أربعين سنة يسب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 دين الله" لا يعني أن حساب الأربعين سنة ابتدأ منذ بدء دعوة الشيخ بل ابتدأ قبل ذلك، ثم إن الشيخ كان قد ظهر له فساد ما عليه أكثر أهل عصره من علماء السوء وغيرهم منذ كان في العيينة أى قبل سنة (1135هـ) . وبهذا يندفع ما أورده الدكتور العثيمين من ملاحظات اعتراضية حول صحة نسبة بعض الرسائل الشخصية للشيخ محمد بن عبد الوهاب ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. تحقيق نسبة رسالة في مبحث الاجتهاد والتقليد للشيخ: ويقول الدكتور عبد الله العثيمين كذلك: "وقد أظهر البحث أنها جزء من كتاب الإمام ابن قيم الجوزيه أعلام الموقعين" أي أنها نسبت إلى الشيخ وليست من عمله1. ولكن للشيخ أثره الواضح في اختصارها يتبين بأول مقارنة بينها وبين أصلها في الكتاب المذكور، ومن المعلوم أن اختصار المطول غرض من أغراض التأليف ونوع منه، فلا وجه للاعتراض على نسبتها مختصرة من آثار الشيخ محمد بن عبد الوهاب لعدم الفطنة إلى عمل الشيخ فيها. تحقيق أن كتاب "أحكام تمني الموت" ليس من مؤلفات الشيخ: هو مجموعة أحاديث تتناول أمورا تتعلق بالموت والقبر، وحالة الأرواح المقبوضة في البرزخ، ليست مبوبة بعناوين سوى الفهرس الذي هو من عمل المصحح، ويظهر أنه اختصار لكتاب (الروح) لابن قيم   1 الشيخ محمد بن عبد الوهاب، حياته وفكره، للدكتور عبد الله العثيمين ص 99. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 الجوزية، بل كتاب (شروح الصدور بشرح حال الموتى والقبور) للسيوطي. أوله: "الحمد لله رب العالمين، اللهم صلى على محمد وآله وصحبه وسلم، عن أنس؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، فإن كان لابد متمنيا؛ فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي ... ". قَال الشيخ صالح الفوزان "ويشتمل الكتاب على أشياء تتعارض مع ما نقل عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب وتلاميذه؛ مثل الكلام في الروح، وتلقين الميت بعد الدفن، والقراءة على القبور، حيث إن الشيخ وتلاميذه يعتبرون هذه الأشياء من البدع المحرمة"1. طبعته جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية لأول مرة عن نسخة مصورة من مخطوطة بالمكتبة السعودية بالرياض برقم (771/ 96) بتصحيح ومقابلة الشيخ عبد الرحمن بن محمد السدحان وزميله، ضمن مؤلفات الشيخ بقسم الفقه في (78 صفحة) . ويذكر الدكتور العثيمين أنه يوجد له مخطوط في مكتبة لايدن بهولندا تحت رقم (2479) 2. وقد صنفه المصنفون في قسم الفقه وهو عبارة عن مجموعة أحاديث   1 إبطال نسبة كتاب أحكام تمني الموت" (ص19، 20) . 2 الشيخ محمد بن عبد الوهاب، حياته وفكره، ص 93، 94. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 في أمور تتعلق بالموت وما بعده إلى البرزخ. وقد صدرت دراسة قيمة كتبها الشيخ صالح بن فوزان في رسالة صغيرة، طبعتها دار ابن خزيمة بالرياض للنشر والتوزيع عام (1412هـ) وقد أثبت فضيلته في هذه الدراسة عدم صحة نسبة هذا الكتاب إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وإنما التبس الأمر على من نسبها من جامعة الإمام بسبب ما ورد على ظهر المخطوطة بأنها كتبت بخط الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وقد بادرت جامعة الإمام محمد بن سعود بإصدار هذه الدراسة بيانا لحقيقة الأمر، وأن كتاب (أحكام تمني الموت) ليس من مؤلفات الشيخ؛ فلا تسمح لأحد بالاحتجاج بما وقع من الخطأ1. تحقيق أن كتاب نصيحة المسلمين بأحاديث خاتم المرسلين ليس من مؤلفات الشيخ: أما هذا الكتاب، فقد نسبه الدكتور العثيمين للشيخ2، لأنه طبع منسوبا إلى الشيخ ضمن مجموعة الحديث النجدية طبعة المنار والسلفية وقطر، ويذكرمن مؤلفات الشيخ كما في السجل الببليوجرافي الذي عمله الدكتور أحمد محمد الضبيب وفي غيره كثير لكنه لم يطبع ضمن مجموعة جامعة الإمام محمد بن سعود لمؤلفات الشيخ، وقد حقق نسبته الشيخ   1 انظر: (إبطال نسبة كتاب أحكام تمني الموت إلى شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب) لفضيلة الشيخ صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان، عضو هيئة كبار العلماء. 2 المصدر السابق، ص 92. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 إسماعيل الأنصارى فذكر أنه نص كتاب الأدب من مشكاة المصابيح للخطيب العمري التبريزي وأيد تحقيقه هذا سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز بجوابه له، وأنقل منه ما يختص بذلك بنصه: "نعيد إليكم تحقيقكم الجيد عن كتاب نصيحة المسلمين ونفيدكم أنه قد اتضح لنا من هذا التحقيق المرفق أن كتاب النصيحة في مجموعة الحديث النجدية ليس من مؤلفات الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله بل هو قطعة من المشكاة كما ذكرتم وضعها بعض تلاميذه أو بعض طلاب العلم عن حسن قصد ضمن المجموعة (يعني كتاب مجموعة الحديث النجدية) لقصد الفائدة" ا. هـ. ويمكن أن بعض أحفاد الشيخ وجده بخط الشيخ فظن أنه له. وكذلك رسالة في أنواع التوحيد وأنواع الشرك والكفر التي أولها: "الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى ... " نسبت للشيخ محمد بن عبد الوهاب في مجموعة التوحيد ط الهند ص 2-5 وط مكة ص 9-11 وط دمشق ص 3-9 وفي الدرر السنية ج 2/ 34-37 وفي مؤلف الرويشد جـ 2/ 30-35 وفي السجل الببليوجرافى لمؤلفات الشيخ وآثاره الذي أعده الدكتور أحمد الضبيب. ولكنها نسبت للشيخ عبد الرحمن بن حسن ابن الشيخ ضمن مجموعة التوحيد ط السلفية بمصر وهي طبعة محققة وقد قررت ضمن مقرر التوحيد للسنة الخامسة الابتدائية في معارف المملكة العربية السعودية بعنوان: "الرسالة المفيدة المهمة الجليلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 للشيخ عبد الرحمن بن حسن" قام بطبعها عمر عبد الجبار. ولم تذكر ضمن مؤلفات الشيخ التي قامت بجمعها وطبعها جامعة الإمام محمد بن سعود. ولذا فمن المحتمل أنها من مؤلفات حفيده الشيخ عبد الرحمن بن حسن. وكذلك رسالة جوابية بعنوان: (أوثق عرى الإيمان) أولها: "الحمد لله رب العالمين، اعلم أولا أيدك الله تعالى بتوفيقه أن أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله ... ". توجد في مجموعة التوحيد، ط. دمشق، ص 158،17 منسوبةً للشيخ محمد بن عبد الوهاب. وتوجد في مجموعة التوحيد، ط السلفية، ص 366-376 منسوبه لحفيده سليمان بن عبد الله بن الشيخ.- والتحقيق أنها ليست للشيخ محمد بدليل ما ورد من استشهاد مؤلفها بما عزاه للشيخ محمد في نفس هذه الرسالة الجوابية في ص 169 من المجموعة المشتملة عليها، ط. دمشق وفي ص 371 من ط. السلفية، ونصه: (قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ... الخ". وفاته: وفى عام ست ومائتين وألف من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم توفي الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله. قال ابن غنام كان ابتداء المرض به في شوال، ثم كانت وفاته في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 يوم الاثنين من آخر الشهر1 وكذا قال عبد الرحمن بن قاسم2، أما ابن بشر فيقول كانت وفاته آخر ذي القعدة من السنة المذكورة3، وقول ابن غنام أرجح لتقدمه في الزمن على ابن بشر ومعاصرته للشيخ وشهوده زمن وفاته، وتدوينه لتاريخه وقد رثاه، وابن بشر ينقل عن ابن غنام فلعله نقل ذلك وسها في نقله، والأمر سهل. ولقد كان للشيخ من العمر نحو اثنتين وتسعين سنة على اعتبار أن ولادته كانت في سنة خمس عشرة ومائة وألف من الهجرة، وتوفي ولم يخلف دينارا ولا درهما، فلم يوزع بين ورثته مال ولم يقسم4، وقد رثاه الشعراء وأثنى عليه العلماء، قال ابن قاسم عن يوم جنازته "وكان يوما مشهودا، وتزاحم الناس على سريره، وصلوا عليه في بلدة الدرعية، وخرج الناس مع جنازته الكبير والصغير"5. قال الإمام أحمد: "قولوا لأهل البدع: بيننا وبينكم الجنائز"6.   1 روضة ابن غنام 2/ 154. 2 الدرر السنية 12/ 20. 3 عنوان المجد ... 1/95. 4 روضة ابن غنام 2/ 155. 5 الدرر السنية 12/ 20. 6 نقل ذلك الحافظ الذهبي في ترجمة الإمام أحمد في مؤلفه تاريخ الإسلام، التي أفردها منه أحمد محمد شاكر ونشرها في جزء خاص، ص 81. وقال ابن كثير: "وقد صدق الله قول أحمد في هذا" (البداية والنهاية ج10/ 342) يعني كثرة مشيعي جنازة أحمد وعدم احتفال أحد بموت عيون مخالفيه كابن أبى دؤاد وهو رئيس قضاة الدنيا والمريسى وغيرهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 ثناء العلماء ورثاءهم: قال الشيخ عبد الله البسام، وقد رثاه الشعراء وأثنى عليه العلماء، وتداول الرسائل فيه المسلمون1. وهذا صحيح، ولو ذهبنا نذكر ذلك لطال المبحث، ولكن نكتفي ببعضه. ولعل مرثيه تلميذه ومؤرخه الشيخ حسين بن غنام خير ما يرسم لنا مشاعر الجمهور الكبير الذي شيع جنازته، ومشاعر المسلمين حوله لما أصيبوا بموته، ورحيله عن أتباعه وتلاميذه والآخذين عنه- فنوردها لذلك. قال ابن غنام يرثيه: إلى الله في كشف الشدائد نفزع ... وليس إلى غير المهيمن مفزع لقد كسفت شمس المعارف والهدى ... فسالت دماء في الخدود وأدمع إمام أصيب الناس طرا بفقده ... وطاف بهم خطب من البين موجع وأظلم أرجاء البلاد لموته ... وحل بهم كرب من الحزن مفظع شهاب هوى من أفقه وسمائه ... ونجم ثوى في الترب واراه بلقع2 وكوكب سعد مستنير سناؤه ... وبدر له في منزل اليمن مطلع وصبح تبدَّى للأنام ضياؤه ... فداجي الدياجي بعده متقشع لقد غاض بحر العلم والفهم والندى ... وقد كان فيه للبرية مرتع   ـ1 علماء نجد خلال ستة قرون 1/ 44. 2 البلقع: الأرض القفر التي لا شيء بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 فقوم جلا عنهم صدا الرين فاهتدوا ... فأسماعهم للحق تصغى وتسمع وقوم ذوو فقر وجهد وفاقة ... حووا واقتنوا ما فيه للعيش مطمع لقد رفع المولى به رتبة الهدى ... بوقت به يعلى الضلال ويرفع أبان له من لمعة الحق لمحة ... أزيل بها عنه حجاب وبرقع سقاه نمير الفهم مولاه فارتوى ... وعام بتيار المعارف يقطع فأحيى به التوحيد بعد اندراسه ... وأقوى به من مظلم الشرك مهيع1 فأنوار صبح الحق باد سناؤها ... ومصباحه عال ورياه ضيع2 سما ذروة المجد التي ما ارتقى لها ... سواه ولا حاذاه فيها سميدع3 وشمر في منهاج سنة أحمد ... يشيد ويحيى ما تعفى ويرقع وينفي الأعادي من حماه وسوحه ... ويدمغ أرباب الضلال ويدفع يناظر بالآيات والسنة التى ... أمرنا إليها في التنازع نرجع فأضحت به السمحاء يبسم ثغرها ... وأمسى محياها يضيء ويلمع وعاد به نهج الغواية طامسا ... وقد كان مسلوكا به الناس تربع4 وجرت به نجد ذيول افتخارها ... وحق لها بالألمعي ترفع   1 أقوى: مبني للمجهول ومعناه أقفره وأخلاه. ومهيع: طريق بين- والمعنى أن الشيخ رحمه الله بسببه أقفر وأخلى طريق الشرك المظلم فلا يسلك. 2 ضيع: على وزن: صيب- من ضاع المسك أى تحرك فانتشرت رائحته. 3 السميدع بفتح السين السبد الموطأ للأكناف. 4 تربع أى تحل وتنزل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 فآثاره فيها سوام1 سوافر ... وأنواره فيها تضىء وتسطع لقد وجد الإسلام يوم فراقه ... مصابا خشينا بعده يتصدع وطاش ذوو الأحلام والفضل والنهى ... وكادت له الأرواح تترى وتتبع وطارت قلوب المسلمين بيومه ... وظنوا به أن القيامة تقرع فضجوا جميعا بالبكاء تأسفا ... وكادت قلوب بعده تتفجع وفاضت عيون واستهلت مدامع ... يخالطها مزج من الدم يهمع بكته ذوو الحاجات يوم فراقه ... وأهل الهدى والحق والدين أجمع فما لي أرى الأبصار قلص دمعها ... وليست على فقده تهمى وتدمع وما لي أرى الألباب تبدي قساوة ... وليست على ذكراه يوما توجع لقد غدرت عين تضن بمائها ... عليه وكبد قد أبت لا تقطع يحق لأرواح المحبين أن ترى ... مقوضة لما خلت منه أربع وتتلو سريرا فوقه قمر الهدى ... وشمس المعالي والعلوم تشيع فما بالها قرت بأشباح أهلها ... ولم تك في يوم الوداع تودع فيالك من قبر حوى الزهد والتقى ... وحل به طود من العلم مترع2 لئن كان في الدنيا له القبر موضع ... فيوم الجزا يرجى له الخلد موضع سقى قبره من هاطل العفو ديمة3 ... وباكره سحب من البر تهمع   1 سوام: أى علامات يهتدى بها. 2 المعنى حل بالقبر طود مترع من العلم. والطود: الجبل العظيم والمترع الملآن. 3 الديمة: المطر الذي ليس فيه رعد ولا برق أقله ثلث النهار أو ثلث الليل وأكثره ما بلغ من العدة. مختار الصحاح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 وأسكنه بحبوحة الفوز والرضا ... ولا زال بالرضوان فيها يمتع1 وهناك مرثية لمحمد بن علي الشوكاني، قاضى صنعاء والعالم المشهور يرثي بها شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وهي مرثية بليغة مؤثرة تبلغ أكثر من مائة بيت، وتعتبر من أصدق ما يصور مشاعر علماء أهل السنة سيما الذين ليسوا داخل سلطان دولة الدعوة وأفصحوا عن مشاعرهم وآرائهم من مكان بعيد عن المجاملة والمداراة لا سيما بعد الموت والله أعلم. ونورد من هذه المرثية بعضا نكتفي به عن طولها- قال رحمه الله: مصاب دها قلبي فأذكى غلائلي ... وأصمى بسهم الافتجاع مقاتلي إلى أن قال: مصاب به ذابت حشاشة مهجتي ... وعن حمله قد كل متني وكاهلي إلى أن قال: مصاب به الدنيا قد اغبر وجهها ... وقد شمخت أعلام قوم أسافل إلى أن قال: به هد ركن الدين وانبت حبله ... وشيد بناء الغي مع كل باطل وقام على الإسلام جهرا وأهله ... نعيق غراب بالمذلة هائل وسيم منار الاتباع لأحمد ... هوان انهدام جاء من كل جاهل   1 روضة ابن غنام 2/155، 156، وتاريخ ابن بشر 1/95، 96. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 وهبت لنار الابتداع سمائم ... بسم لنفس الدين مرد وقاتل إلى أن قال: فقد مات طود العلم قطب رحى العلا ... ومركز أدوار الفحول الأفاضل وماتت علوم الدين طرا بموته ... وغيب وجه الحق تحت الجنادل إمام الهدى مَاحي الردى قامع العدا ... ومُروي الصدى مِنْ فيض علم ونائل إلى أن قال: إمام الورى علاَّمة العصر قدوتي ... وشيخ الشيوخ الحبر فرد الفضائل محمد ذو المجد الذي عز دركه ... وجل مقاما عن لحوق المطاول إلى عابد الوهاب يعزى وأَنه ... سلالة أنجاب زكي الخصائل إلى أن قال: لقد أشرقت نجد بنور ضيائه ... وقام مقامات الهدى بالدلائل إلى أن قال: ولم يأل جهدا في نصيحة مسلم ... برأي وتدبير وحسن تعامل يجازي بإحسان إساءة غيره ... وبالجاه عن مستوجه غير باخل تقمص بالتقوى وبالخشية ارتدى ... ولم يمض منه العمر في غير طائل ومن شأنه قمع الضلال ونصره ... لمن كان مظلوما وليس بخاذل إلى أن قال: ففيم استباح أهل الضلال لعرضه ... وما نكست أعلامه بالأراذل وليس له شيء عن الله شاغل ... ولا عن وصال الاعتبار بغافل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 فلولاه لم تحرز رحى الدين مركزا ... ولا اشتد للإسلام ركن المعاقل ولا كان للتوحيد واضح لاَ حِبٍ ... يقيم اعوجاج السير من كل عادل فما هو إلا قائم في زمانه ... مقام نبي في إماتة باطل إلى أن قال: وآها على تحقيقه في دروسه ... وتوضيحه للمعضلات المشاكل فمن للبخاري بعده ولمسلم ... يبين المخبا منهما للمحاول ومن ذا لتفسير الكتاب ومن ترى ... لأحكام فقه الدين من للرسائل ومن لمسانيد سمت ومعاجم ... وكشف لثام الحكم عند النوازل؟ ومن للمعاني والبيان ومنطق ... وردع أخي الجهل الغوي المجادل؟ ومن لك بالأصلين واللغة التي ... بها أنزل القرآن أشرف نازل؟ ومن بعده للصدع بالحق قائم ... بجد ولا يخشى ملامة عاذل أفق يا معيب الشيخ ماذا تعيبه ... لقد عبت حقا وارتحلت بباطل نعم ذنبه التقليد قد جذ حبله ... وفل التعصب بالسيوف الصواقل ولما دعا لله في الخلق صارخا ... صرختم له بالقذف مثل الزواجل أفيقوا أفيقوا إنه ليس داعيا ... إلى دين آباء به وقبائل دعا لكتاب الله والسنة التي ... أتانا بها طه النبي خير قائل إلى أن قال يخاطب أولاد الشيخ وآل سعود: فيا سائر الأولاد للشيخ إنني ... أعزِّيكموا مع ذي انتساب ابن وائل وأوصيكم بالصبر طرا وبالرضا ... بجاري القضاء في عاجل ثم آجل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 إلى أن قال يخاطبهم: وأنتم بحمد الله عنه خلائف ... بعلم وفضل شامخ القدر شامل وإنا لنرجوا أن تكونوا أئمة بكم ... يقتدى في دينه كل فاضل وللخير والإحسان من كل وجهة ... تحث إليكم مضمرات الرواحل إلى أن قال: عليكم سلام الله ما هب ناسم ... وجمَّلَ زاكي ذكركم كل عاطل وأوفى الثنا مني عليكم مكررا ... وأزكى تحيات سوام كوامل وأضعافها للمقرنين كلهم ... هداة الورى من محتدي فرع وائل هم الناس أهل الباس يَعرف فضلهم ... جميع بني الدنيا فما للمجادل لقد جاهدوا في الله حق جهاده ... إلى أن أقاموا بالضبا كل مائل إلى أن ختمها بقوله: وأزكى صلاة الله ثم سلامه ... على المصفى الهادي كريم الشمائل محمد المختار من فرع هاشم ... وآل وأصحاب كرام أفاضل وتبلغ أكثرمن مائة بيت1. رحم الله الشيخ محمد بن عبد الوهاب وجزاه خيرا عن الإسلام والمسلمين. وإنه شيخ الإسلام وإمام المسلمين من بعده بحق.   1 الدرر السنية 12/ 20-24، تذكرة أولي النهى والعرفان لإبراهيم بن عبيد 1/ 50-54، وانظر: أثر الدعوة الوهابية ... لمحمد حامد الفقي، ص 78-80، و: (الشعر يواكب الدعوة) لعبد الله بن خميس بحث قدمه إلى أسبوع الشيخ ص 2. والإمام الشوكاني مفسرا، رسالة دكتوراة، أعدها محمد حسين الغماري، بجامعة أم القرى، ص 32. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 الباب الأول: خلاصة كتاب عقيدة محمد بن عبد الوهاب السلفية الفصل الأول: في بيان منهج الشيخ رحمه الله تعالى في عقيدته ودعوته ... الفصل الأول: في بيان منهج الشيخ رحمه الله تعالىفي عقيدته ودعوته توطئة: بذكر خلاصة مذهب السلف الصالح رضي الله عنهم: منهج السلف الصالح: لعل من المناسب هنا أن أمهد بذكر نبذة من منهج السلف الصالح في اعتقادهم السليم وعلمهم النافع وعملهم الصالح، والأصول التي يعتمدون عليها في ذلك ويرجعون إليها عند الاختلاف حتى نرى على ضوئها منهج الشيخ رحمه الله تعالى، ونعلم أنه منهج السلف الصالح وأن الشيخ متبع غير مبتدع ناهج منهج العلماء المجددين المنصورين، ولم يأت بشيء من الدين ليس على منهج الأوائل المصلحين. يذهب السلف الصالح رضي الله عنهم إلى أن أصل أصول العلم والهدى هو الوحي إلى النبي محمد بن عبد الله الذي هو خاتم الأنبياء والمرسلين فلا نبي بعده ولا رسول. قال الله تعالى: {إنَّا أوْحَيْنَا إليْكَ كمَا أوْحَينَا إلى نُوح ٍوالنبيينَ مِنْ بَعَدِه} (النساء: 163) . وقال رسول الله وخاتم النبيين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم: "ما من الأنبياء نبي إلا أعطيَ من الآيات ما مثله أومن (أو آمن) عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أني أكثرهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 تابعا يوم القيامة" 1. والوحي يشمل القرآن الكريم والسنة الشريفة. قال الله تعالى: {وَمَا يَنطقُ عِنْ الهوَى إنْ هَو إلا وَحْي يُوحَى} ولذا والله أعلم بدأ الإمام البخاري صحيحه بذكر الوحي وكيف كان بدؤه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ونورد من هذا الوحي آيات وأحاديث تستمد منها أصول العقيدة الصحيحة: قال الله تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (سبأ: 6) . وقال تعالى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} (الرعد: 19) . وقال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ   1 رواه البخاري في صحيحه في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي صلي الله عليه وسلم: "بعثت بجوامع الكلم" (ج8/ ص 138) . وفي كتاب فضائل القرآن باب كيف نزل الوحي، (ج/ ص 97) . ورواه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس ونسخ الملل بملته. ورواه الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه، (2/ 341، 451) ، واللفظ هنا للبخاري رحمهم الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (إبراهيم: 1) . وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} (الجمعة:2) . وقال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (التوبة: 122) . وفي صحيح البخاري في كتاب التوحيد، باب ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى1، ورواه في مواضع أخرى في صحيحه، وفي صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام2 "عن ابن عباس قال لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذا إلى نحو أهل اليمن قال له: إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه أن يوحدوا الله تعالى فإذا عرفوا ذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا صلوا فأخبرهم أن الله افترض عليهم زكاة أموالهم تؤخذ من غنيهم فترد على فقيرهم فإذا أقروا بذلك فخذ منهم وتوق كرائم أموال الناس " واللفظ للبخاري. وفي صحيح البخاري في كتاب العلم في باب فضل من علم وعَلَّمَ   1 ج 8/164. 2 1/50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به، فعلم وعَلَّمَ ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به" 1. ورواه مسلم في صحيحه2، في كتاب الفضائل في باب بيان مثل ما بعث النبي صلى الله عليه وسلم من الهدى والعلم. ورواه الإمام أحمد في المسند3. ما ينبني على ذلك من أصول العلم: وينبنى على ذلك من أصول العلم ما يلى:   1- أن الذين أوتوا العلم يرون أن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم رسولا يدعو إليه بإذنه جميع الثقلين بأن يقولوا لا إله إلا الله، بعثه بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، بعثه الله بالهدى ودين الحق الكامل الذي تمت به نعمة الله ورضيه دينا إلى قيام الساعة ليظهره 1 ج 1/28. 2 ج 4/1787. 3 ج 4/499. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 على الدين كله ولوكره المشركون، وسراجا منيرا ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، وأنزل معه الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ويجب على الناس أن يردوا ما تنازعوا فيه من أمر دينهم وعقيدتهم إلى ما بعث الله به رسوله وأنزله عليه من الكتاب والحكمة والسنة بلا حرج ولا تردد ولا توقف، فمن تعارض عنده ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وآراء الرجال فقدمها عليه أو توقف فيه أو قدحت في كمال معرفته فهو أعمى عن الحق1، وليس ممن أوتوا العلم. 2- وينشأ من هذا أصل آخر هو أن البصير العاقل يعلم قطعا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بلغ رسالته هذه وبينها أصولها وفروعها، البلاغ المبين، والبيان البليغ، وأدى أمانته خير أداء، ونصح لأمته أخلص النصح، وجاهد في سبيل الله حق الجهاد وما قبضه الله إليه إلا وقد علم أمته جميع أبواب الاعتقاد والتعبد، وعلم أمته كتاب الله، ومثلَ كتاب الله معه من سنته المطهرة الشريفة، وعلَّم أمته كل شيء من دينهم حتى آداب قضاء الحاجة2.   1 انظر: مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، ط السلفية بمكة سنة 1348 ص6. 2 إشارة إلى ما رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة في كتاب الطهارة وأحمد في المسند 5/437 أن سلمان قيل له قد علمكم نبيكم صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة. فقال أجل ... الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 وبالجملة فقد دلهم على الخير كله، وحذرهم عن الشر كله، حتى تركهم على المحجة البيضاء؛ ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعده إلا هالك1، من بدء الخلق حتى يدخل أهل الجنة منازلهم، وأهل النار منازلهم، حفظ ذلك من حفظه ونسيه من نسيه2. وأمره الله أن يقول فقال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (يوسف:108) .فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك حق القول. ووصى أمته بكتاب الله وسنته، وأخبرهم خبر الصَّدق ما إن تمسكوا بهما فلن يضلوا، فصلوات الله وسلامه عليه. وكان قد حث أمته على أن يبلغ الشاهد منهم الغائب3 فرب مبلغ أوعى من سامع4، ودعا لمن سمع مقالته فوعاها وأداها كما سمعها أن يلبسه الله النضرة ويوصله إلى نضرة الجنة5.   1 انظر: كتاب السنة لابن أبي عاصم وتخريجات الألباني ج1ص 26- 27. 2 صحيح البخاري، ج4/ كتاب بدء الخلق / باب واحد / ص73، انظر: فتح الباري ج6ص290-291، وانظر: أول الحموية لابن تيمية. 3 انظر: السنة للمروزي، 9، 10. 4 انظر: البخاري: 1/ كتاب العلم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم رب مبلغ أوعى من سامع. 5 انظر: دراسة حديث "نضر الله امرءا سمع مقالتي ... " رواية ودراية بقلم عبد المحسن بن حمد العباد ص184. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 3- ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء والرسل إلى كافة وتوفي بعد أن بلغ رسالته ورسالته باقية إلى قيام الساعة لجميع الثقلين، فإن العاقل البصير يعلم قطعا أن الذي ورث العلم عنه وخلفه في أمته هم صحابته الذين معه واختارهم الله لصحبته من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، ثم الذين اتبعوهم بإحسان، ثم أئمة الهدى وأعلام الهداية الذين أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم، ثم من يرثهم ويخلف من بعدهم ويتبع سبيلهم بإحسان وإن تكن أزمانهم أزمان فترات وغربة فإن حجة الله لا تزال قائمة ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم مستمرة يحملها من كل خلف عدوله1 إلى قيام الساعة كما ذكر الإمام البخاري في "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة من صحيحه: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق يقاتلون وهم أهل العلم " ثم أورد حديث معاوية قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين وإنما أنا قاسم ويعطي الله،   1انظر: كتاب: "البدع والنهي عنها" تأليف محمد بن وضاح القرطبي ففيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه انتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين وتحريف الغالين" اهـ. وانظر تخريجه في الهامش ص 1، 2 تحقيق محمد أحمد دهمان، ط 2 دار البصائر دمشق سنة 1400 هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 ولن يزال أمر هذه الأمة مستقيما حتى تقوم الساعة أو حتى يأتي أمر الله" 1. وإذا كان هذا معلوما فمن المعلوم امتناع أن يكون خير أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفضل قرونها ومن تبعهم بإحسان قد قصروا في هذا الواجب، أوكانوا غير عالمين وغير قائلين بالحق المبين، ومن المعلوم كذلك عدم جواز أن يكون المخالفون لهم أعلم بالحق منهم وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان من العلماء ورثة الأنبياء، الذين وهبهم الله من العلم بالكتاب والسنة وجودة الإسناد وصحته ما برزوا به على سائر أتباع الأنبياء فضلا عن سائر الأمم الذين لا كتاب لهم2. معنى السلفية: إن المراد من التعبير بالسلفية هو اتباع طريقة السلف الصالح من هذه الأمة المسلمة، الذين هم أهل السنة والجماعة ومعنى ذلك هو الإجماع المعتبر من الاجتماع على اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثاره باطنا وظاهرا، واتباع سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، واتباع وصية رسول الله صلى الله عليه   1 صحيح البخاري ج 8 كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة 96 باب 10 ص 149. 2 انظر: الحموية لشيخ الإسلام ابن تيمية ص 2-7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 وسلم في ذلك حيث قال: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة" الذين يعتقدون بأن أصدق الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ويؤثرون كلام الله على غيره من كلام أصناف الناس، ويقدمون هدي محمد صلى الله عليه وسلم على هدي كل أحد في أي زمان وأي مكان. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ولهذا سموا أهل الكتاب والسنة أهل الجماعة لأن الجماعة هي الاجتماع وضدها الفرقة وإن كان لفظ الجماعة قد صار اسما لنفس القوم المجتمعين"1. وقال أيضا في ختام العقيدة الواسطية: "لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة، وفي حديث عنه أنه قال "هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي" صار المتمسكون بالإسلام المحض الخالص عن الشوب هم أهل السنة والجماعة، وفيهم الصديقون والشهداء والصالحون ومنهم أعلام الهدى ومصابيح الدجى أولوا المناقب المأثورة، والفضائل المذكورة، وفيهم   1 العقيدة الواسطية، ط السلفية بالقاهرة سنة 1347 هـ، ص 34 وحديث عليكم بسنتي رواه الترمذي: وقال هذا حديث حسن صحيح وأخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه وسكت عنه أبو داود ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره (تحفة الأحوذي ج7 ص 442) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 الأبدال وفيهم أئمة الدين الذين أجمع المسلمون على هدايتهم، وهم الطائفة المنصورة الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة" اهـ. وقال ابن كثير: "هم أهل السنة والجماعة المتمسكون بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وبما كان عليه الصدر الأول من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين من قديم الدهر وحديثه كما رواه الحاكم في مستدركه أنه سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفرقة الناجية من هم؟ قال: "من كان على ما أنا عليه اليوم وأصحابي" اهـ1. وفي جامع الترمذي في كتاب الإيمان في باب افتراق هذه الأمة أورد الترمذي تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم للناجية عن عبد الله بن عمرو بقوله: "ما أنا عليه وأصحابي" وقال الترمذي هذا حديث حسن غريب مفسر، لا نعرفه مثل هذا إلا من هذا الوجه". وقد أخرجه محمد بن نصر المروزي في كتابه (السنة) والأجري في كتابه الشريعة من طريقين لكن عن عبد الرحمن بن زياد. وقال المباركفوري في سنده "عبد الرحمن بن زياد الأفريقي وهو ضعيف، فتحسين الترمذي له لاعتضاده بأحاديث الباب، وحديث عبد الله بن عمرو هذا أخرجه أيضا الحاكم وفيه " ما أنا عليه   1 تفسير ابن كثير ج 4 ص 433. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 وأصحابي" 1. وقال الألباني: "هذه الرواية فيها ضعف، وحسنها الترمذي في الإيمان"2، وهوحسن كما قال الترمذي لتوجيه المباركفوري. وقد أورد الشاطبي في كتابه الاعتصام أقوال الناس في معنى الجماعة المرادة بالنصوص وحصرها في خمسة أقوال، قال: "فهذه خمسة أقوال دائرة على اعتبار أهل السنة والاتباع وأنهم المرادون بالأحاديث، فلنأخذ ذلك أصلا ويبنى عليه معنى آخر"3. وتلك الأقوال الخمسة نقلها عن السلف الصالح أمثال ابن مسعود وابن المبارك، وعمر بن عبد العزيز والشافعي والطبري وهي عند تأملها متفقة كما قال الشاطبي دائرة على اعتبار أهل السنة والاتباع أنهم هم الجماعة، الفرقة الناجية المرادون بالأحاديث الثابتة في كل زمان ومكان إلى أن يأتي أمر الله تعالى. طريقة السلف الصالح في العلم والدين: نجد في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم - وآثار أصحابه وتابعيهم نصوصا صحيحة صريحة تبين طريق الفرقة الناجية في العلم والدين، وتحث على لزومه.   1 تحفة الأحوذي ج 7 ص 400. 2 تصحيح الألباني على هامش شرح الطحاوية ص 432. 3 الاعتصام، ج 2 ص 260- 265. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 قال الله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (الأنعام:153) . قال محمد بن نصر المروزي في مؤلفه "السنة" يفسر هذه الآية: "أخبرنا الله أن طريقه واحد مستقيم وأن السبل كثيرة تصد من اتبعها عن طريقه المستقيم، ثم بين لنا النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بسنته فحدثنا إسحاق- ثم ساق سنده إلى عبد الله بن مسعود قال خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا ثم قال: هذا سبيل الله ثم خط خطوطا عن يمينه وشماله وقال هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعوإليه وقرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ... } الآية. ثم ذكر المروزي روايات أخرى بهذا المعنى، وفيها زدياة تفسير الصراط المستقيم بالإسلام وبكتاب الله، وعن أبي العالية، قال هو النبي صلى الله عليه وسلم وصاحباه أبو بكر وعمر وقال الحسن: "صدق أبو العالية ونصح" 1. وقال ابن كثير في تفسيره: "قال علي بن طلحه عن ابن عباس في قوله: {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} وفي قوله: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} ونحو هذا في القرآن، قال: "أمر الله المؤمنين بالجماعة ونهاهم   1 السنة، تأليف محمد بن نصر المروزي المتوفي 294 هـ، ص 5-8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 عن الاختلاف والتفرقة وأخبرهم أنه إنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله" ونحو هذا "قاله مجاهد وغير واحد". ثم أورد ابن كثير عن الإمام أحمد بسنده إلى ابن مسعود رضي الله عنه قال:"خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا بيده ثم قال: "هذا سبيل الله مستقيما، وخط عن يمينه وشماله ثم قال: هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه" ثم قرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ... } "1. وأورد ابن كثير رواية الحاكم من طريقين عن ابن مسعود وتصحيح الحاكم إياه من الطريقين على شرط البخاري ومسلم، كما أورد ابن كثير رواية أبي جعفر الرازي وورقاء وعمرو بن أبي قيس ويزيد بن هارون ومسدد والنسائي وابن حبان وابن جرير لهذا الحديث عن ابن مسعود كذلك، وقول الحاكم: "وشاهد هذا الحديث حديث الشعبى عن جابر من غير وجه معتمد" وأورده ابن كثير بتفصيل سنده إلى أن قال: "والعمدة على حديث ابن مسعود مع ما فيه من الاختلاف إن كان مؤثرا " ثم أورده موقوفا على ابن مسعود من روايتين لابن جرير وابن مردويه، ثم أورد نحوه من حديث النواس بن سمعان مرفوعا من رواية الإمام أحمد والترمذي والنسائي وقول الترمذي: "حسن   1 انظره في المسند 1/465، وهو في سنن الدارمي ج 1/ ص 67، 68. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 غريب " 1.وفي سنن ابن ماجة عن جابر2. وفي سنن أبي داود في كتاب السنة، في باب لزوم السنة3، وفي جامع الترمذي في أبواب العلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في باب الأخذ بالسنة واجتناب البدعة 4، وفي سنن ابن ماجة في المقدمة، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين5. وفي سنن الدارمي في باب اتباع السنة6. وفي المسند للإمام أحمد7، وفي كتاب السنة لابن أبي عاصم، باب ما أمر به من اتباع السنة وسنة الخلفاء الراشدين8، عن العرباض بن سارية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اتقوا الله وعليكم بالسمع والطاعة وإن كان عبدا حبشيا وأنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء من بعدي الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ وإياكم   1 تفسير ابن كثير، ج 2/ ص 190- 191. 2 ج 1/6. 3 ج 2/506. 4 تحفة الأحوذي ج 7/438- 442. 5 ج1/، ص 15، 16، 17. 6 ج 1 ص44، 45. 7 ج 4 ص 126. 8 ج 1ص29-30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة". قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح1، وقال المباركفورى: "وسكت عنه أبو داود ونقل المنذري تصحيح الترمذي وأقره"2. ونقل النووي تصحيح الترمذي مقرا له في "الأربعين النووية"، وكذلك شارح "الطحاوية" وقال الألباني في الهامش: "صحيح كما قال الترمذي" 3. وعن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد ومن أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة". وعن أسامة بن شريك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يد الله مع الجماعة" أخرجهما ابن أبي عاصم في كتاب السنة في باب ما ذكرعن النبي صلى الله عليه وسلم من أمره بلزوم الجماعة وإخباره أن يد الله على الجماعة وصححهما الألباني4. وفي صحيح البخاري، في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة في باب   1 تحفة الأحوذي ج 7ص442. 2 المصدر السابق. 3 شرح الطحاوية ط 4، 1392 هـ هامش ص 431، وقال الألباني عنه أيضا صحيح في كتاب السنة لابن أبي عاصم (رقم 31-34) ج 1 ص 19- 20 وفي إرواء الغليل ج 8 ص 107 ورقم الحديث (2455) وانظر من خرجه هناك. 4 ج 1/ 39-44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حديث موقوف ونصه بعد سياق سنده إلى مرة الهمداني يقول: "قال عبد الله- وهو ابن مسعود1-: "إن أحسن الحديث كتاب الله وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين"2. وقد ورد أوله في (كتاب الأدب في باب الهدي الصالح) من "صحيح البخاري" ... أيضا3، وفيه: "قال ابن عون ثلاث أحبهن لنفسي ولإخواني هذه السنة أن يتعلموها ويسألوا عنها والقرآن أن يتفهموه ويسألوا عنه، وَيَدَعُوا الناس إلا من خير" 4 وقد فسر الإمام البخاري قول الله تعالى: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} فقال: " أئمة، نقتدي بمن قبلنا ويقتدي بنا من بعدنا" 5. وبالجملة نعلم أن طريقهم في العلم والدين هو الاتباع ومجانبة   1 انظر: فتح الباري ج 13/ ص 253، وانظرص 1 من هذا البحث، فقد تقدم تخريجه في صحيح مسلم هناك. 2 ج8/ 139. 3 ج 7/ 95، 96. 4 صحيح البخاري، كتاب الاعتصام، باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم ج 8/ 139. 5 ج 8/ 139 من صحيح البخاري كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 الابتداع يخلصون قصدهم لله تعالى ويتعلمون العلم النافع وهوالعلم بالله وبرسوله وبدينه الذي ارتضاه ويقولون بما علموا ويكلون علم ما لم يعلموا إلى عالمه، ولا يقولون بغير علم يقفون من الأمور أحد ثلاثة مواقف حسب انقسام هذه الأمور بالنسبة إليهم إلى ثلاثة أقسام: أمر تبين أنه حق ورشد وحلال فيأخذون به ويدعون إليه. وأمر تبين أنه باطل وغي وحرام فيجتنبونه وينهون عنه، وهذا هو المحكم. والأخير هو الأمر المشتبه فيتقونه ويقفون فيه كما في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "الحلال بين، والحرام بين، وبينهما مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات كراع يرعى حول الحمى" 1. وكما قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا   1 رواه البخاري في صحيحه، في كتاب الإيمان في باب فضل من استبرأ لدينه وتمامه " ... يوشك أن يواقعه ألا وإن لكل ملك حمى، ألا إن حمى الله محارمه ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهى القلب". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 ُولُو الْأَلْبَابِ} (آل عمران: 7) . وفي صحيح البخاري في التفسير باب (منه آيات محكمات) وقال مجاهد الحلال والحرام. (وأخرمتشابهات) : يصدق بعضه بعضا كقوله تعالى: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} وكقوله جل ذكره: {وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} وكقوله: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً} زيغ: شك، ابتغاء الفتنة: المشتبهات، والراسخون يعلمون: يقولون آمنا به. ثم ساق بسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ... } الآية. قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم " 1. وقال ابن كثير: "يخبر تعالى أن في القرآن آيات محكمات هن أم الكتاب أي بينات واضحات الدلالة لا التباس فيها على أحد، ومنه آيات أخر فيها اشتباه في الدلالة على كثير من الناس أو بعضهم، فمن رد ما   1 ج 5/ ص 165، 166. رواه مسلم في كتاب العلم، باب النهي عن اتباع متشابه القرآن، والتحذير من متبعه، والنهي عن الاختلاف في القرآن ج 4 ص 2053. وأبو داود في سننه في كتاب السنة، باب النهي عن الجدال واتباع المتشابه من القرآن ج 2 ص 504. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 أاشتبه إلى الواضح منه وحكم محكمه على متشابهه عنده فقد اهتدى ومن عكس انعكس، ولهذا قال تعالى: {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} أي أصله الذي يرجع إليه عند الاشتباه {وَأُخرُ مُتشَابهات} أي يحتمل دلالتها موافقة المحكم وقد تحتمل شيئا آخر من حيث اللفظ والتركيب لا من حيث المراد " إلى أن قال: " نص عليه محمد بن إسحق رحمه الله حيث قال منه آيات محكمات فهن حجة الرب وعصمة العباد ودفع الخصوم والباطل ليس لهن تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه" 1. وهذا هو الإحكام الخاص ببعض القرآن والتشابه الخاص ببعضه الآخر ويرد المتشابه إلى المحكم كما تقدم بيانه. أما الإحكام العام والتشابه العام الذي وصف الله به كل القرآن كما قال تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} (هود: 1) . وكما قال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ} (الزمر:23) . فمعنى الإحكام الإتقان، فالقرآن كله متقن يصدق بعضه بعضا ولا يتناقض. ومعنى التشابه تماثله وتناسبه وتوافقه فإذا أمر بأمر في موضع ففي الموضع الآخر إنما يأمر به أو بنظيره أو بملزوماته، وكذلك النهي إذالم يكن هناك نسخ، وإذا أخبر بثبوت شيء لم يخبر بنقيضه، وإذا أخبر بنفي شيء   1تفسير ابن كثير ج 1 ص344، 345. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 لم يثبته. وهذا كما يصدق على القرآن الكريم يصدق على السنة الشريفة وعلى إجماع المسلمين لقوله صلى الله عليه وسلم: " لا تجتمع أمتي على ضلالة " فإن شيئا من ذلك لا يناقض الآخركما لا يناقض بعضه بعضا، ولكن قد يشتبه منه شيء على كثير من الناس- فالموفق للصراط المستقيم يرده إلى المحكم البين، وهذا هو حكمه. أما ما عدا الوحي ففيه القول المختلف الذي ينقض بعضه بعضا، يثبت الشيء تارة وينفيه أخرى، أو يأمر به وينهى عنه في وقت واحد، ويفرق بين المتماثلين فيمدح أحدهما ويذم الآخر1. وجماع الأمركما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "أن الكتاب والسنة يحصل منهما الكمال والهدى والنور لمن تدبركتاب الله وسنة نبيه وقصد اتباع الحق وأعرض عن تحريف الكلم عن مواضعه والإلحاد في أسماء الله وآياته، ولا يحسب الحاسب أن شيئا من ذلك يناقض بعضه بعضا البتة"2. وقال الشاطبى: "فإن الذي عليه كل موفق بالشريعة أنه لا تناقض فيها ولا اختلاف فمن توهم ذلك فيها فلم يمعن النظر ولا أعطى وحي الله حقه " ولذلك قال الله تعالى: {أفَلا يَتدبَرُونَ القُرآن} فحضهم على التدبر   1 انظر: التدمرية، القاعدة الخامسة ص 38- 40 لابن تيمية. 2 الحموية ص 79 تصحيح محمد عبد الرزاق حمزة، ط المدني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 أولا ثم أعقبه {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} فبين أنه لا اختلاف فيه والتدبر يعين على تصديق ما أخبر به"1. خلاصة أصول السلف الصالح: إن أصول السلف الصالح التي يصدرون عنها ويرجعون إليها عند الاختلاف ويردون إليها عند التنازع، وينزلون على حكمها ويعتمدون عليها في العلم والدين تتلخص فيما يلى: المصدر الأول: كتاب الله تعالى وهو كلامه أصدق الكلام، ولا أصدق منه. المصدر الثانى: السنة الشريفة وهي هدي محمد صلى الله عليه وسلم خير الهدي، ولا هدي خير منه. وهى التي تفسر القرآن وتبينه، وهي مثل القرآن في الحجة ولا تناقضه. المصدر الثالث: الإجماع (إجماع المسلمين) وهم الجماعة أهل السنة الذين لا يجتمعون على ضلالة. والإجماع الذي ينضبط هو ما كان عليه السلف الصالح من القرون الثلاثة الأولى، وأما بعدهم فكثر الاختلاف وانتشرت الأمة. المصدر الرابع: القياس: ينبني القياس على الثلاثة المصادر المتقدمة. فهذه الثلاثة هي موازين أهل السنة والجماعة يزنون بها كل شيء   1 الاعتصام ج 2 ص 317. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 ولا يزنونها بشيء، وهذا هو معنى القياس، فإنهم يزنون بهذه الثلاثة المتقدم ذكرها طردا وهو التسوية بين المتماثلات، وعكسا وهو التفرقة بين المختلفات، يزنون بذلك جميع ما عليه الناس من أعمال وأفعال وأقوال وأحوال باطنة وظاهرة مما له تعلق بالعلم والدين. نصوص تبين أن الاختلاف واقع في الأمة: ومما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمته تتفرق إلى فرق كثيرة: قال الإمام الشاطبي في كتاب الاعتصام1: "صح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، والنصارى مثل ذلك وتتفرق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة" وخرجه الترمذي هكذا. وفي رواية أبي داود قال: "افترق اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة" 2. نصوص تبين ماذا يختلفون فيه، وسبب الاختلاف، وذمه، وذم أهله، ومصيرهم:   1 ج 2/ 189. 2 انظره في: سنن أبي داود، ط الحلبي، ج 2/ 503، وانظر تصحيح الألباني له في هامش شرح الطحاوية ص 578. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 في صحيح البخاري في كتاب التوحيد حديث فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم "إن ... قوما يقرؤون القرآن لا يجاوزحناجرهم يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد" 1. وهذا الحديث في مواضع كثيرة من صحيح البخاري وغيره. وفي صحيح البخاري أيضاً في كتاب الفتن: "باب تغير الزمان حتى يعبدوا الأوثان" وفيه حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس على ذي الخلصة وذو الخلصة طاغية دوس التي كانوا يعبدون في الجاهلية" 2. وفي كتاب السنة لابن أبي عاصم وصححه الألباني عن معاوية رضي الله عنه قال قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فذكر: "أن أهل الكتاب قبلكم تفرقوا على اثنتين وسبعين فرقة في الأهواء، ألا وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة في الأهواء، كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة، ألا وإِنه يخرج في أمتي قوم يهوونً هوى يتجارى بهم ذلك الهوى كما يتجارى الكلب بصاحبه لا يدع منه عرقا ولا مفصلا إلا دخله".   1 ج 8/178. 2 ج 8/ 100 وانظره في كتاب السنة لابن أبي عاصم ج 1/38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 وأخرجه ابن أبي عاصم من طرق متعددة1، ومثل ذلك في سنن أبي داود كتاب السنة2. وقال الإمام الشاطبى في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْء} . "وهي آية نزلت عند المفسرين في أهل البدع، ويوضحه من قرأ: (إن الذين فارقوا دينهم) والمفارقة للدين بحسب الظاهر إنما هي الخروج عنه، وقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ... } الآية وهي عند العلماء منزلة في أهل القبلة وهم أهل البدع وهذا كالنص إلى غير ذلك من الآيات" 3. وأورد ابن أبي عاصم أحاديث كثيرة تؤكد هذا المعنى منها عن سنان بن أبي سنان أنه سمع أبا واقد الليثى يقول: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين، ونحن حديثوا عهد بكفر وكانوا أسلموا يوم الفتح- قال فمررنا بشجرة فقلنا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فلما قلنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم قال: "الله أكبر قلتم والذي نفسي بيده، كما قالت بنوا إسرائيل لموسى: اجعل لنا   1 انظر: ج 1ص 7-9، ص 32-36. 2 انظر: ج 2 ص 503-546. 3 ج 2/ 195. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 إلها كما لهم آلهة قال: إنكم قوم تجهلون، لتركبن سنن من قبلكم" ورواه ابن عينية ومالك أيضا. قال الألباني إسناده حسن وصحح الحديث بشواهد أخرى (ج 1/ 36، 37) . ومنها ما رواه مسلم في كتاب العلم باب اتباع سنن اليهود والنصارى1 عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لسلكتموه" قالوا يا رسول الله من اليهود والنصارى؟ قال: "فمن إذا" 2. وقال ابن كثير عند قوله تعالى: {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (الروم: 32) وهذه الأمة اختلفوا فيما بينهم على نحل كلها ضلالة إلا واحدة وهم أهل السنة والجماعة"3. مما تقدم نعلم أن الاختلاف والتفرق في الدين فتنة، وهو أمر واقع في أصل الدين وفي توحيد الله بالعبادة، وفي معنى العبادة كما اختلف الذين من قبل في ذلك، وهو أصل محكم فيما أنزل الله على النبي وأرسله   1 انظره: في ج 4/ 2056 ترتيب فؤاد عبد الباقي. 2 انظركتاب السنة لابن أبي عاصم ج 1/ 36 -37. 3 تفسير ابن كثير، ج 4/ 433. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 به صلى الله عليه وسلم لا يتناقض ولا يختلف ولا يتضاد، ولكن الناس هم يختلفون.. وأقبح اختلاف ما كان بسبب الأهواء المخالفة لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي أصل المحدثات في الدين والبدع المذمومة التي يتعبد بها أصحابها وكل واحدة من هذه المحدثات لها أتباع هم فرقة من الفرق الكثيرة التي أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنها تبلغ في أمته ثلاثا وسبعين فرقة كلها في النار إلا الجماعة التي تمسكت بالكتاب والسنة في تعبدها لله تعالى، ولم تتعبد لربها بما ليس عليه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في باطنها وظاهرها، فهي الجماعة الناجية والفرقة الفائزة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 منهج الشيخ ومنهج الشيخ رحمه الله هو منهج السلف الصالح، ويوافق تماما ما ذكرناه في هذا التمهيد من منهجهم رضي الله عنهم. الشيخ يرى أن الله سبحانه وتعالى نصب الأدلة وبين الآيات الدالة عليه، وأعطى الفطر، ثم العقول، ثم بعث الرسل وأنزل الكتب، كلها دالة عليه ومعرفة به سبحانه وتعالى، ومن آياته القرآن الكريم الذي تحدى الله بسورة من مثله فقال: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّار ... } الآية (البقرة: 23، 24) . وقد ضرب الله في هذا القرآن الأمثال الجلية وبين البيان الواضح، وحمد نفسه على هذا البيان، ومع وضوح الأدلة فالأكثر جهال قال تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ. ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} 1 (الزمر: 27-29) .   1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، يوسف ص 145 والزمر ص 328، والأعراف ص 76 والعلق ص 371. وملحق المصنفات، ومسائل ملخصة عن ابن تيمية مسألة رقم 2 5- 54 ص 39، 40. ورقم 60 ص 43، والخطب المنبرية ص 13، 14 وص 22، 23، وص 51، 53، 58 60 ومؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 2 ص 17، 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 والله سبحانه قطع العذر وأقام الحجة بإنزال هذا الكتاب وإرسال الرسول صلى الله عليه وسلم، وإبقاء دينه، لا خير إلا دل عليه، ولا شر إلا حذر منه إلى قيام الساعة، والخير الذي دل عليه هو التوحيد وجميع ما يحبه الله ويرضاه، والشر الذي حذر منه هو الشرك وجميع ما يكرهه الله ويأباه، بعثه الله إلى الناس كافة، وافترض الله طاعته على جميع الثقلين. الجن والإنس1. ويقول رحمه الله تعالى في جواب أفتى به حين سئل رحمه الله تعالى عن قوله تعالى {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً} 2 الآية. فأجاب رحمه الله: (إعلم رحمك الله أن الله سبحانه عالم بكل شيء، يعلم ما يقع على خلقه وما يقعون فيه، وما يرد عليه من الواردات إلى يوم القيامة. وأنزل هذا الكتاب المبارك الذي جعله تبيانا لكل شيء، وجعله هدى لأهل القرن الثاني عشر ومن بعدهم، كما جعله لأهل القرن الأول ومن بعدهم. ومن أعظم البيان الذي فيه بيان الحجج الصحيحة، والجواب عما يعارضها، وبيان بطلان الحجج الفاسدة ونفيها. فلا إله إلا الله ماذا حرمه المعرضون عن كتاب الله من الهدى والعلم، ولكن لا معطي لما منع الله، وهذه التي سألت عنها، فيها بيان بطلان شبهة يحتج بها بعض أهل النفاق   1 مؤلفات الشيخ، القسم الخاص، الشخصية رقم 38 ص 271. والقسم الأول، العقيدة ثلائة الأصول، ص 194. 2 سورة طه: آية 125. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 والريب في رماننا هذا في قضيتنا هذه. وبيان ذلك: أن هذه في آخر قصة آدم وإبليس، وفيها من العبر والفوائد العظيمة لذريتهما ما يجل عن الوصف، فمن ذلك: أن الله أمر إبليس بالسجود لآدم، ولو فعل لكان فيه طاعة لربه وشرف له، ولكن سولت له نفسه أن ذلك نقص في حقه إذا خضع لواحد دونه في السن ودونه في الأصل على زعمه، فلم يطع الأمر، واحتج على فضله بحجة وهي: أن الله خلقه من أصل خير من أصل آدم، ولا ينبغي أن الشريف يخضع لمن دونه، بل العكس فعارض النص الصريح بفعل الله الذي هو الخلق، فكان في هذا عبرة عظيمة لمن رد شيئا من أمر الله ورسوله، واحتج بما لا يجدي. فلما فعل لم يعذره الله بهذا التأويل، بل طرده ورفع آدم، وأسكنه الجنة. فكان مع عدو الله من الذكاء والفطنة ودقة المعرفة ما يجل عن الوصف، فتحيل على آدم حتى ترك شيئا من أمر الله، وذلك بالأكل من الشجرة، واحتج لآدم بحجج. فلما أكل لم يعذره الله بتلك الحجج، بل أهبطه إلى الأرض، وأجلاه من وطنه، ثم قال: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً} 1 يقول تعالى: لأجلينكم عن وطنكم، فإن بعد هذا كلام وهو أني أرسل إليكم هدى من عندي لا أكلكم إلى رأيكم ولا رأي علمائكم، بل أنزل عليكم العلم الواضح الذي يبين الحق   1 سورة طه: آية 123. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 من الباطل والصحيح من الفاسد، والنافع من الضار {لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} 1. ومعلوم أن الهدى هو هذا القرآن. فمن زعم أن القرآن لا يقدرعلى الهدى منه إلا من بلغ رتبة الاجتهاد فقد كذب الله بخبره أنه هدى؛ فإنه على هذا القول الباطل لا يكون في حق الواحد من الآلاف المؤلفة، وأما أكثر الناس فليس هدى في حقهم، بل الهدى في حقهم أن كل فرقة تتبع ما وجدت عليه الآباء. فما أبطل هذا من قول. وكيف يصح لمن يدعي الإسلام أن يظن بالله وكتابه هذا الظن؟ ولما عرف سبحانه أن هذه الأمة سيجري عليها ما جرى على من قبلها من اختلافهم على الأكثر من سبعين فرقة، وأن الفرق كلها تترك هدى الله إلا فرقة واحدة، وأن كل الفرق يقرون أن كتاب الله هو الحق لكن يعتذرون بالعجز، وأنهم لو يتعلمون كتاب الله ويعملون به لم يفهموه لغموضه قال: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} وهذا تكذيب هؤلاء الذين ظنوا في القرآن ظن السوء. قال ابن عباس: تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه ألا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة. وبيان هذا أن هؤلاء الذين يزعمون أنهم لو تركوا طريقة الآباء، واقتصروا على الوحي   1 سورة النساء: آية 165. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 لم يهتدوا بسبب أنهم لا يفهمون، كما قالوا: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} ، فرد الله عليهم بقوله {بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} 1 فضمن لمن اتبع القرآن أنه لا يضل كما ضل من اتبع الرأي، فتجدهم في المسألة الواحدة يحكون سبعة أقوال أو ستة ليس منها قول صحيح، والذي ذكره الله في كتابه في تلك المسألة بعينها لا يعرفونه. والحاصل أنهم يقولون: لا نترك القرآن إلا خوفا من الخطأ، ولم نقبل على ما نحن فيه إلا للعصمة فعكس الله كلامهم، وبين أن العصمة في اتباع القرآن إلى يوم القيامة. وأما قوله: {وَلا يَشْقَى} فهم يزعمون أن الله يرضى بفعلهم ويثيبهم عليه في الآخرة، ولو تركوه واتبعوا القرآن لغلطوا وعوقبوا. فذكر الله أن من اتبع القرآن أمن من المحذور الذي هو الخطأ عن الطريق، وهو الضلال، وأمن من عاقبته وهو الشقاء في الآخرة ثم ذكر الفريق الآخر الذي أعرض عن القرآن فقال: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} 2 وذكر الله هو القرآن الذي يبين الله لخلقه فيه ما يحب ويكره، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} 3 الآيتين. فذكر الله لمن أعرض   1 سورة البقرة: آية 88. 2 سورة طه: آية 124. 3 سورة الزخرف: آية 36 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 عن القرآن وأراد الفقه من غيره عقوبتين، إحداهما: المعيشة الضنك، وفسرها السلف بنوعين، أحدهما: ضنك الدنيا- وهو أنه- إن كان غنيا- سلط عليه خوف الفقر وتعب القلب والبدن في جميع الدنيا حتى يأتيه الموت، ولمَ يَتَهنَّ بعيش. الثاني: الضنك في البرزخ وهو عذاب القبر. وفسر الضنك في الدنيا أيضا بالجهل، فإن الشك والحيرة لهما من القلق وضيق الصدر ما لهما، فصار في هذا مصداق لقوله في الحديث عن القرآن: "من ابتغى الهدى من غيره أضله الله" فبان لك أن الله عاقبهم بضد قصدهم، فإنهم قصدوا معرفة الفقه فجازاهم بأن أضلهم وكدر عليهم معيشتهم بعذاب قلوبهم لخوف الفقر وقلة غنى أنفسهم، وعذاب أبدانهم بأن سلط عليهم الظلم والفقر وأغرى بينهم العداوة والبغضاء. فإن أعظم الناس تعاديا هؤلاء الذين ينتسبون إلى المعرفة، ثم قال تعالى: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} والعمى نوعان: عمى القلب وعمى البصر. فهذا المعرض عن القرآن لما عميت بصيرته في الدنيا عن القرآن، جازاه الله أن حشره يوم القيامة أعمى. قال بعض السلف: أعمى عنِ الحجة لا يقدر على المجادلة بالباطل كما كان يصنع في الدنيا {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً} فذكر الله أنه يقال له: هذا بسبب إِعراضك عن القرآن في الدنيا وطلبك العلم من غيره. قال ابن كثير في الآية {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي} أي خالف أمري وما أنزلته على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 رسولي. أعرض عنه وتناساه وأخذ من غيره هداه {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} أي: في الدنيا فلا طمأنينة له ولا انشراح ولا تنعم. وظاهره أن قوما أعرضوا عن الحق وكانوا في سعة من الدنيا فكانت معيشتهم ضنكا، وذلك أنهم كانوا يرون أن الله ليس مخالفا لهَم معاشهم من سوء ظنهم بالله. ثم ذكر كلاما طويلا، وذكر ما ذكرته من أنواع الضنك. والله سبحانه وتعالى أعلم" 1. فبناء على هذا فالشيخ رحمه الله تعالى يرى كما يرى السلف رضي الله عنهم أن أصل أصول العلم والهدى هو ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من العلم بالله، والعلم برسوله صلى الله عليه وسلم، والعلم بدين الإسلام بأدلته، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، قال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} 2 (النساء: 163) . وقال الله تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} (يوسف: 102) .   1 مؤلفات الشيخ، القسم الثالث، الفتاوى رقم 16 ص 75-79، والقسم الرابع، التفسير ص 263 - 268. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة ثلاثة الأصول ص 185-195، ومسائل الجاهلية ص 333. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 قال الشيخ: " فيه الرد على مخالفي الرسل في قولهم: {لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ} (البقرة: 118) ، أو نحو ذلك، لأن الرسل ما أتو الأمم إلا بالوحي1، وخاتم الرسل محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، أوحى الله إليه هذا القرآن وآتاه مثله معه من السنة، والله تعالى بين دلالة نبوة رسوله صلى الله عليه وسلم، بالتحدي بأقصر سورة من القرآن الكريم فقال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النّارَ ... } والآية2. (البقرة: 24) . وبشهادة علماء أهل الكتاب كما في قوله: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرائيلَ} (الشعراء: 198) ، وبكون أهل الكتاب يعرفونه كما في قوله تعالى: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا ... } الآية. وغير ذلك من الآيات التي تقطع الخصم وتدل على أن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول الله يوحى إليه بالعلم والهدى كما أوحي إلى من قبله وخص بالقرآن الذي قال الله فيه: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} . قال الشيخ في تفسير ذلك ما حاصله: ذلك الكتاب الكامل الذي لا   1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، يوسف ص 177. 2 انظر: مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 2 ص 17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 شك فيه، وأن الهداية به للمتقين خاصة فمن لا يتبعه ليس هو من المتقين، وفيه الرد على قول الشياطين من شياطين الإنس ممن يدعي العلم أن القرآن لا يفسر1. وأجاب الشيخ عن اختلافهم في الكتاب العزيز وهل يجب تعلمه واتباعه على المتأخرين لإمكانه؟ أو لا يجوز للمتأخرين لعديم إمكانه؟ بأن الكتاب العزيزحكم بينهم بالحكم الذي هو قول الله تعالى: {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً. مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً} (طه: 100) . وقوله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} لآيات. (طه: 124-127) . وقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} (الزخرف: 36) 2. وكذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم هو مثل القرآن؛ كما قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (الحشر: 7) . وقال تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} (النور: 54) . وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّه} (آل عمران:31) .   1 انظر: الدرر السنية في الأجوبة النجدية ج 10 ص 39- 40. 2 الدرر السنية ج 4/ ص 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 فمن أراد أن يهتدي ويكون محبوبا عند الله فليقبل ما آتاه الرسول صلى الله عليه وسلم، وينتهي عما نهاه عنه ويطيعه فيما أمر. قال صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " رواه البخاري ومسلم، وفي رواية مسلم " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" 1. يقول الشيخ: "وأما متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم فواجب على أمته متابعته في الاعتقادات والأقوال والأفعال، فتوزن الأقوال والأفعال بأقواله وأفعاله فما وافق منها قُبل، وما خالف رُدَّ على فاعله كائنا من كان، فإن شهادة أن محمدا رسول الله تتضمن تصديقه فيما أخبر به وطاعته ومتابعته في كل ما أمربه. وقد روى البخاري من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى قيل: ومن يأبى قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى" 2. ويقول: "فتأمل رحمك الله ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعده والتابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين وما عليه الأئمة   1 انظر: صحيح البخاري، ج 3 ك الصلح ب 5 ص 167، وصحيح مسلم ج 3 ك الأقضية ص 1343، 1344. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 12 ص 84 ورقم 7 ص 48، ورقم 16 ص 106. وانظر: صحيح البخاري، ج 8 الاعتصام ب 2 ص 139. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 المقتدى بهم من أهل الحديث والفقهاء كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل رضي الله عنهم أجمعين لكي نتبع آثارهم" 1. ومن منهج الشيخ: أن طلب العلم فريضة على كل ذكر وأنثى، وأنه شفاء للقلوب المريضة، كما قال تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} 2 (طه: 123) ، وأن العلم قبل العمل ومقدم عليه، وهو إمامه وسائقه والحاكم عليه3. ويريد بالعلم، العلم بما أمر الله به ونهى عنه أي العلم بالتوحيد والإيمان، أي: معرفة الله، ومعرفة نبيه محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، ومعرفة دين الإسلام بالأدلة، والعمل بتلك المعرفة4. ومفتاح العلم في ذلك هو الدليل كما في قوله تعالى: {لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ} (الكهف: 15) وأول الآية: {هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ   1 المصدر السابق رقم 16 ص 106-107 من الرسائل الشخصية. 2 الدرر السنية، ج 1ص 98، ج 4 ص 68 1. ومؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، العلق ص 369. 3 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، مختصر زاد المعاد ص 36. 4 الدرر السنية، ج 2 ص 3-12. ومؤلفات الشيخ الإمام، القسم الأول، ثلاثة الأصول ص 85 1-186. والرسالة الخامسة ص 374-375. والقسم الرابع، التفسير، آل عمران ص 0 5، ويوسف ص 153، 163، 164. ومختصر زاد المعاد ص 77. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ} قال الشيخ: فهذه المسألة مفتاح العلم وما أكبر فائدتها لمن فهمها1. ويرى الشيخ أن اضطرار العباد فوق كل ضرورة إلى معرفة هدي الرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به، فإنه لا سبيل إلى الفلاح إلا على يديه، ولا إلى معرفة الطيب من الخبيث على التفصيل إلا من جهته، فأي حاجة فرضت وضرورة عرضت، فضرورة العبد إلى هدي الرسول صلى الله عليه وسلم فوقها بكثير ... وإذا كانت السعادة معلقة بهديه صلى الله عليه وسلم فيجب على كل من أحب نجاة نفسه أن يعرف من هديه وسيرته وشأنه ما يخرج به عن خطة الجاهلين. والناس في هذا بين مستقل ومستكثر ومحروم، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم2. فهو يريد علما غير نافع ولا علما مجردا عن العمل، ولا يقصد غير ما أمر الله به ونهى عنه. يقول رحمه الله: "إذا أمر الله العبد بأمر، وجب فيه سبع مراتب: الأولى العلم، والثانية محبته، الثالثة العزم على الفعل، الرابعة العمل، الخامسة كونه يقع على المشروع خالصا صوابا، السادسة التحذير من فعل   1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير ص 244. وانظر: ص 28-29، ص 40، 41، ص 53-4 5، وص 59-63، ص 323، ص 31 1، وص 371. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، مختصر زاد المعاد ص 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 ما يحبطه، السابعة الثبات عليه " 1. وفي كتاب أصول الإيمان للشيخ عقد أبوابا في شأن العلم، هي: باب التحريض على طلب العلم وكيفية الطلب، وباب قبض العلم، وباب التشديد في طلب العلم للمراء والجدال وباب التجوز في القول وترك التكلف والتنطع. أورد تحتها أحاديث مناسبة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبين منها الحث على طلب علم ما أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من الهدى والعلم، لوجه الله تعالى خالصا، وبيان كيفية طلب العلم، وما هو العلم وما ينبغي أن يقصد به2. ويعتقد الشيخ أن هذا أهم ما على الإنسان معرفته والعمل به قبل كل معرفة وعمل، فإنه أصل العلم وقاعدته وأن هذا العلم والإيمان في مكانهما من ابتغاهما وجدهما إلى يوم القيامة3. فلا يزال العلماء بذلك يوجدون، فإن الحق لا ينقطع كلية، ولن تخلو الأرض من قائم لله بحجته، إلى أن يقاتل آخر هذه الأمة الدجال، كما هي البشارة المحمدية بأن الحق لا يزول بالكلية، كما زال فيما مضى، بل لا تزال عليه طائفة وأنهم مع قلتهم لا يضرهم من خذلهم ولا من   1 الدرر السنية ج 2 ص 38. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، أصول الإيمان، ص 266-276. 3 الدرر السنية ط 2، ج 1 ص 93، وص 97. ومؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، العلق ص 370، والقصص ص 281. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 خالفهم إلى قيام الساعة1. ومن منهجه في إزالة الشبهة أن يتبع عادة السلف الصالح، فمن عادتهم أنهم يزيلون الشبهة بسؤال العلماء، وأن العلماء يجيبون السائل بما يزيل شبهته، وذلك أنهم ينسبون الكلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط2، لعمق علمهم3 ولا يخفي أن المقصود بالسلف الصالح وبالعلماء هنا أنهم الصحابة والتابعون، فإن هذه القاعدة التي اعتادها السلف الصالح، ويبينها الشيخ في مؤلفاته لينبه على أنها قاعدة منهجية يتبعها المسلمون في سير حياتهم، وهي مستنبطة من الآثار الواردة عن الصحابة وعن التابعين، ولما حدث في نفوس بعض الناس إشكال في القدر لبعدهم عن العلم النبوي، اتجهوا إلى صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، كابن عمر، وعبادة بن الصامت، وأبي بن كعب، وعبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وزيد بن ثابت ونحوهم فهم العلماء4. ومن عادة هؤلاء السلف الصالح، أنهم يبدأون بالأهم فالأهم والتنبيه   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد باب ما جاء أن بعض هذه الأمة تعبد الأوثان ص 68-70. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، باب ما جاء في منكرى القدر ص 137، وباب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله ص 20-22. 3 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، التوحيد، باب من حقق التوحيد ص 17. 4 انظر: المرجع السابق، ص 135-137. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 على التعليم بالتدريج كما رسم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم: حين بعث معاذا إلى اليمن فقال له "فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله " وفي رواية: "إلى أن يوحدوا الله، فإنْ هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة فإنْ هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم.. " الحديث متفق عليه- ونحوه من حديث بعث علي إلى خيبر ليفتحها متفق عليه1. ويقول رحمه الله: "إذا أردت البحث عن هدي الله الذي جاء من عنده، فإنك تبتدئ بالأسهل فالأسهل، وأسهل ما يكون وأهمه القصص التي قص الله علينا عن الأنبياء وأممهم، وأول ما تبتدئ به من القصص التي قص الله، قصة أبيك آدم وإبليس، وما ذكر الله عنهم وكون آدم لما اعترف بذنبه وتاب، تاب الله عليه، وأكثر الناس يظنون أن الاعتراف بالذنب مذلة، ويستهزؤون بمن أقر بذنبه واعترف وتاب منه، وكون إبليس لعنه الله لما احتج بالقدر ولم يعترف بذنبه أن الله طرده وآيسه من رحمته، وكون أكثر الناس يظن أن فعل إبليس هو الذي يرضاه الله، ويزدري على من فعل فعل آدم، نعوذ بالله من سوء الفهم". ويقول أيضا: "ينبغي للمعلم أن يعلم الإنسان على قدر فهمه، فإن كان ممن يقرأ القرآن أو عرف أنه ذكي، فيعلم أصل الدين وأدلته،   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، كتاب التوحيد، ص 20-22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 والشرك وأدلته، ويقرأ عليه القرآن، ويجتهد أنه يفهم القرآن فهم قلب، وإن كان رجلا متوسطا ذكر له بعض هذا، وإن كان مثل غالب الناس، ضعيف الفهم، فيصرح له بحق الله على العبيد، مثل ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ، ويصف له حقوق الخلق، مثل حق المسلم على المسلم، وحق الأرحام، وحق الوالدين، وأعظم من ذلك حق النبي صلى الله عليه وسلم، وأفرضه شهادتك له أنه رسول الله، وأنه خاتم النبيين، وتعلم أنك لو ترفع واحدا من الصحابة في منزلة النبوة صرت كافراً، فإذا فهم ذلك فقل حق الله عليك أعظم وأعظم، فإذا سأل عن حق الله فاذكر له أنك تعبده، ولا تصير مثل البدوي، وأيضا تخلص له العبادة، لا تكون مثل من يدعوه ويدعو غيره، أو يذبح له ولغيره، أويتوكل عليه وعلى غيره، وكل العبادات كذلك، وتعرفه أن من أخل بهذا حرمت عليه الجنة، ومأواه النار، ولو ظن أنه ما يشرك، فإذا عرف التوحيد، ولا عمل به، ولا أحب وأبغض فيه؛ ما دخل الجنة، ولو ظن أنه ما أشرك لأن فائدة ترك الشرك تصحيح التوحيد، ومن أعظم ما تنبهه عليه التضرع عند الله، والنصيحة وإحضار القلب في دعاء الفاتحة إذا صلى" 1. وينبغي للعالم إذا سأله العامي عما لا يحتاج إليه، أو سأله عما غيره أهم منه، أن يفتح له بابا إلى المهم. ولا يحقر عن التعليم من يظنه أبعد   1 الدرر السنية ج 1 ص 98-99. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 الناس عنه، ولا يستبعد فضل الله عليه، فإن الرجلين اللذين مع يوسف في السجن من خدام الملوك الكفرة، بخلاف من يقول: ليس هذا بأهل للعلم، وتعليمه إضاعة للعلم1. فإن من يهتم بالعلم ويسأل عنه، هوالذي ينتفع به، فلا يعرض عنه، أما من لا يهتم به فهو الذي لا ينتفع2. ويبين الشيخ أن من أساليب العلماء، أنهم يخرجون المسألة للمتعلم بالاستفهام عنها لقوله صلى الله عليه وسلم: " أتدرون ماذا قال ربكم؟ " في حديث زيد بن خالد قال: "صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية، على أثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس، فقال: أتدرون ماذا قال ربكم؟ " 3 ومن أسلوبهم، أنهم يصنفون الكتب في بيان الحق، والدعوة إليه، وبيان ما هو من عند الله على الحقيقة، ولا يصنفون الكتب الباطلة، ولا ينسبون إلى الله الباطل، كما هو أسلوب الجاهلين4. ومن منهج الشيخ رحمه الله، أنه يحدث الناس بما يعرفون، أخذا بقول علي رضي الله عنه: " حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب   1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، يوسف ص147- 148. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، ص 131. 3 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد ص 85-87. 4 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، مسائل الجاهلية، ص 341. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 الله ورسوله؟ " رواه البخاري، وقد أورده الشيخ في كتاب التوحيد1. وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن في شرحه: "وقد كان شيخنا المصنف رحمه الله لا يحب أن يقرأ على الناس إلا ما ينفعهم، في أصل دينهم وعباداتهم ومعاملاتهم، الذي لا غنى لهم عن معرفته، وينهاهم عن القراءة في مثل كتب ابن الجوزى: كالمنعش، والمرعش، والتبصرة، لما في ذلك من الإعراض عما هو أوجب وأنفع، وفيها ما الله به أعلم مما لا ينبغى اعتقاده، والمعصوم من عصمه الله" 2. ومما استنبطه الشيخ من قصة آدم وإبليس أن في القصة شاهدا لما ذكر في الحديث: "إِن من العلم جهلا" 3 أي من بعض العلم ما العلم به جهل، والجهل به هو العلم فإن اللعين من أعلم الخلق بأنواع الحيل التي لا يعرفها آدم، مع أن الله علمه الأسماء كلها، فكان ذلك العلم من إبليس هو الجهل، وفي الحديث: "إِن الفاجر خب لئيم وأن المؤمن غر كريم " 4 وأبلغ من ذلك وأعم منه قول الملائكة: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} فقيل   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد ص 106. 2 فتح المجيد، شرح كتاب التوحيد ص 414. 3 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير ص 94 والحديث رواه أبو داود عن بريدة ويروى (إن من البيان سحرا وإن من العلم جهلا) . 4 رواه أبو داود (كتاب الأدب) والترمذي (كتاب البر) كما رواه أحمد في مسنده 3/294. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 لهم ما قيل وعوتبوا، فكانت توبتهم أن قالوا: {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} (البقرة: 32) فكان كما لهم ورجوعهم عن العتب، وكمال علمهم أن أقروا على أنفسهم بالجهل إلا ما علمهم سبحانه، ففي هذه القصة شاهد للقاعدة الكبرى في الشريعة المنبه عليها في مواضع منها قوله صلى الله عليه وسلم: "وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها"1. والشيخ يبين أن أهم وأنفع شيء هو معرفة قواعد الدين على التفصيل، فان أكثر الناس يفهم القواعد ويقر بها على الإجمال، ويدعها عند التفصيل2. مثل من يقول: التوحيد زين والدين حق، فإذا تبين له أن من التوحيد والدين تكفير المشرك وقتاله على ذلك، ترك هذا الأمر لأنه لا   1 راجع في هذا المعنى: الترمذي (كتاب اللباس) وابن ماجه (كتاب الأطعمة) ، وصحيح البخاري (كتاب الاعتصام) وصحيح مسلم (كتاب الفضائل) . وراجع تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} سورة المائدة: 101 في كتب التفسير الكبيرة، (مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير ص 94) . 2 مؤلفات الشيخ، القسم الثاني، الفقه، المجلد الثاني ص10-15، ومجموعة رسائل مخطوطة بالمكتبة العامة بتطوان المغرب صورتها عند الشيخ حماد الأنصاري بعنوان مسألة في رجل تفقه لوحة 4. ومؤلفات الشيخ، القسم الثالث، الفتاوى ص 31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 يوافق هواه1. ويبين الشيخ أن الكلام ينحصر في مسألتين من العلم: الأولى: أن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم لإخلاص الدين، لا يجعل معه أحد في العبادة، والتأله، لا ملك ولا نبي، ولا قبر، ولا حجر، ولا شجر، ولا غير ذلك. الثانية: وجوب اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاعتقادات والأقوال والأفعال كما قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (آل عمران: 131) . وترك ابتداع ما ليس من سنته صلى الله عليه وسلم في عبادة الله تعالى، لقوله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " رواه البخاري ومسلم، وفي رواية مسلم: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهورد". فتوزن أقوال الناس وأفعالهم الباطنة والظاهرة، في عبادة الله تعالى بأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأفعاله، فما وافق منها أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأفعاله قبل وما خالف رد على فاعله كائنا من كان2.   1 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 27 ص 183. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 96، ص 106. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 ويقول الشيخ بعد كلام له في تقرير طلب العلم بالسنة والعمل بها: "وقد تبين أن الواجب طلب علم ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من الكتاب والحكمة ومعرفة ما أراد بذلك كما كان عليه الصحابة والتابعون ومن سلك سبيلهم، وكلما يحتاج إليه الناس فقد بينه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بيانا شافيا كافيا، فكيف أصول التوحيد والإيمان، ثم إذا عرف ما بينه صلى الله عليه وسلم نظر في أقوال الناس وما أرادوا بها فعرضت على الكتاب والسنة والعقل الصريح الذي هو موافق للرسول صلى الله عليه وسلم فإنه الميزان مع الكتاب فهذا سبيل الهدى، وأما سبيل الضلال والبدع والجهل فعكسه أن تبتدع بدعة بآراء رجال وتأويلاتهم، ثم تجعل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم تبعا لها وتحرف ألفاظه وتؤوّل على وفق ما أصلوه، وهؤلاء تجدهم في نفس الأمر لا يعتمدون على ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يتلقون منه الهدي، ولكن ما وافقهم منه قبلوه، وجعلوه حجة لا عمدة، وما خالفهم منه تأولوه كالذين يحرفون الكلم عن مواضعه، أو فوضوه كالذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني" 1. وليعلم طالب العلم أن العوام محتاجون إلى كلام أهل العلم من تحقيق هذه المسائل ونقل كلام العلماء. وقد نوه صلى الله عليه وسلم، بأن دينه يصير بعده غريبا، فقال   1 الدرر السنية، ط 2، ج 2، ص 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 صلى الله عليه وسلم: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة". وأن أمة محمد صلى الله عليه وسلم، تفترق على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، ثم ذكر الشيخ أمثلة من ظهور البدع، التي إنما تحدث في حال غربة الإسلام1. ليحدد منهجه في مقاومة البدع وإبطالها. كما يحدد الشيخ نوع من يكون معه الكلام في ذلك فيقول: "إنما كلامنا مع رجل يؤمن بالله واليوم الآخر، ويحب ما أحب الله ورسوله، ويبغض ما أبغض الله ورسوله، لكنه جاهل قد لبست عليه الشياطين دينه، ويظن أن الاعتقاد في الصالحين حق، ولو يدري أنه كفر يدخل صاحبه في النار ما فعله، ونحن نبين لهذا ما يوضح له الأمر، فنقول: الذي يجب على المسلم: أن يتبع أمر الله ورسوله ويسأل عنه، والله سبحانه أنزل القرآن، وذكر فيه ما يحبه ويبغضه، وبين لنا فيه ديننا وأكمل، وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء، فليس على وجه الأرض أحد أحب إلى أصحابه منه وهم يحبونه أحب من أنفسهم وأولادهم ويعرفون قدره ويعرفون أيضا الشرك والإيمان، فإن كان أحد من المسلمين في زمن النبي   1 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 7 ص 46- 48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 صلى الله عليه وسلم قد دعاه أو نذر له أو ندبه، أو أحد من أصحابه، جاء عند قبره بعد موته، يسأله أو يندبه، أو يدخل عليه، للالتجاء له عند القبر، فاعرف أن هذا الأمر صحيح حسن، ولا تطعني، ولا غيري، وإن كان إذا سألت، إذا أنه تبرأ ممن اعتقد في الأنبياء والصالحين، وقتلهم وسباهم وأولادهم، وأخذ أموالهم، وحكم بكفرهم، فاعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا الحق، والواجب على كل مؤمن اتباعه فيما جاء به. أما من يصر على دعوة الصالحين، والاستغاثة بهم، والنذر لهم، وصيرورة الإنسان فقيرا لهم، ويقول إن هذا أمرحسن، ولو ذكر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أنه كفر، فهو مصر بتكذيب الله ورسوله، ولا خفاء في كفره، فليس لنا معه كلام1. ومنهج الشيخ في الاستدلال على التوحيد وتفسيره: بالبراهين القاطعة، التي احتج الله بها على خلقه، واستدل بها رسل الله، ومن تبعهم على التوحيد. فيستدل الشيخ بربوبية الله العامة لجميع العالمين، وبآثار صفات الله في مخلوقاته، وبصفة الإله واختصاص الله بها، فلا إله غيره، وبسائر صفات الكمال لله تعالى، التي انفرد بها، والدالة على وحدانيته. ويستدل بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وبعثته لبيان التوحيد،   1 الدرر السنية ج 1/52، مؤلفات الشيخ، الشخصية، رسالة رقم 8 ص52، 53 ورقم 7 ص 48، 49. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 وبيانه البيان البليغ، وتمام رسالته، ونصرته وظهور دينه. ويستدل بالوحي المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، المعجز منه وهو القرآن والصحيح من السنة قولا وفعلا وتقريرا. ويستدل بمخلوقات الله تعالى، وعبوديتها له طوعا وكرها. وفي ذلك يسلك الشيخ طريقة القرآن في البرهنة على التوحيد التي هي عقلية وشرعية، عقلية حيث أن العقل يشهد بصحتها، وشرعية حيث أن الشرع جاء بها، وما ترك الشيخ فيما علمت مسلكا من مسالك الاستدلال إلا وقد سلكه، فالشيخ أحيانا يذكر الوحدانية، ثم يذكر دليلها، وأحيانا: يذكر الدليل، ثم يذكر الوحدانية عقب ذكر الدليل، وأحيانا: لا يذكر الوحدانية، ولا دليلها، ولكن يذكر فقر المخلوقات، وحاجتها وعدمها، وما إلى ذلك من صفاتها، التي تشهد بعبوديتها، وعدم استحقاقها لشيء من العبادة، وأحيانا: يذكر غنى الله سبحانه، وقدرته، وحكمته، وعلمه، وسائر صفات الكمال، التي انفرد بها، وكلها تشهد باستحقاقه لكل العبادة بجميع أنواعها واختصاصه سبحانه بهذا الحق، وكل هذه المسالك يأخذها الشيخ من القرآن الكريم والسنة المطهرة، والشواهد التاريخية، وكلام العلماء وإجماع أهل العلم. ومما يسترعي الانتباه: أن الشيخ في احتجاجه واستدلاله، يسلك الطريقة المثلى في ذلك، فيستدل بالمعلوم إلى المجهول، وبالمسلم به إلى المنازع فيه، وبما أقر به الخصم على ما جحده، وبالمجمع عليه على المختلف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 فيه، فلننظر إليه في قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} (الزمر: 38) . يقول الشيخ: فيها بيان أن عندهم من العلم ما تقوم به الحجة، وأن المجمع عليه يدل على المختلف فيه، ومجادلة المبطل بالحق الذي يسلمه، وأنه تسليم لا يجحدونه بل يقرون به للخصم، والتعجب من الإنكار مع هذا الإقرار، والإلزام الذي لا محيد عنه وأن هذا كاشف لشبهتهم1. إلى غير ذلك ممَّا سيأتى تفصيله، في مبحث استدلال الشيخ على توحيد الألوهية إن شاء الله تعالى. أما ما يسمى: قضية إثبات وجود الله تعالى- فإن الشيخ لم يشغل نفسه بذلك كما فعل من يتكلم في التوحيد، من أهل الكلام وغيرهم، لأن وجود الله ثابت مشهود لا شك فيه ولا ريب، والخلق مفطورون على الإقرار بذلك، بل يقرون بتوحيد الله في الربوبية، كما قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} (الزمر: 39) . وقال تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّه} (الروم:30) . وقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى   1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير ص 330، 331. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ. أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} (الأعراف: 172، 173) . قال الشيخ: "ليس المراد معرفة الإله الإجمالية، يعني معرفة الإنسان أن له خالقا، فإنها ضرورية فطرية، بل المراد معرفة الإله، هل هذا الوصف مختص بالله؟ لا يشركه فيه ملك مقرب، ولا نبي مرسل، أم جعل لغيره قسطا منه؟ فأما المسلمون أتباع الأنبياء، فإجماعهم: على أنه مختص، كما قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: 25) . والكافرون يزعمون أنه هو الإله الأكبر، ولكن معه آلهة أخرى تشفع عنده، والمتكلمون ممن يدعي الإسلام، أضلهم الله عن معرفة الإله". ثم ذكر الشيخ أنه يفسرون الإله: بأنه القادر، وأن الألوهية هي القدرة1، وعلى كل فالشيخ يعتبر الإقرار بقدرة الله، وبربوبيته أمرا فطريا ضروريا بدهيا، وهو الدليل القاطع كما قال تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} 2 (النحل:17) .   1 الدرر السنية، ج 1ص 75. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير ص 204. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 فهو الذي يستدل به على اختصاص الله تعالى بصفة الإله، فكيف يحتاج إلى دليل وهو الدليل؟! لا شك أن الدليل لا يحتاج إلى دليل. ولئن كانت ربوبية الله الظاهرة المشهودة بالمحسوس والمنظور والفطرة، تحتاج إلى دليل فإنه لا يصح ثبوت شيء على الإطلاق. كما قيل: وليس يصح في الأذهان شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل وأما ما يقوله الشيخ في افتتاحية رسالة له، تشتمل على قواعد أربع يتميز بهن المسلم من المشرك، ونصه: "الحمد لله الذي يستدل على وجوب وجوده ببدائع ما له من الأفعال المنزه في ذاته وصفاته عن النظائر والأمثال، أنشأ الموجودات فلا يعزب عن علمه مثقال"1. فالشيخ ينبه على دلائل وحدانية الله بالألوهية من صفاته وأفعاله وربوبيته المشهودة، لأن الشيخ لا يقصد مجرد إثبات وجوده وربوبيته، بمعنى أنه لا يخلق ولا يرزق ولا يدبر الأمور إلا الله، بل مقصوده كما ذكرنا الاستدلال بربوبيته على وحدانيته في الألوهية بدليل أن هذه الرسالة تشتمل على قواعد أربع يتميز بهن المسلم من المشرك وخلاصتهن: ا- بيان أن الله أبدع خلقنا. 2- لنعبده. 3- أن الشرك يفسد العبادة.   1 الدرر السنية، ط 2، ج 2، ص 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 4- أن العبادة إنما تكون على السنة1. إذا تقرر هذا فمن العبث الاشتغال بإثبات الثابت، وتحصيل الحاصل، ومن الخطأ أن نتفقد هذا العبث في منهج الشيخ، الجاد في دعوته وعقيدته، أو إذا لم نجده نحاول لَيَّ بعض الجوانب الأخرى لتكون مقصود الشيخ بهذا الذي افتقدناه. إن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لم يجيئوا أقوامهم ليثبتوا ثابتا، ويعلموا معلوما ولم يأمروا أهل ملتهم أن يقولوا: "الله موجود" ولا أن يقولوا: "لا موجود إلا الله" فهذا يفضي إلى وحدة الوجود الباطلة، وصفة الوجود ليست أخص وصفه، كما هي ربوبيته للعالمين، فكونه رب العالمين هو من أخص وصفه سبحانه، لذا فإن الرسل أمروا قومهم بأن يقولوا: "لا إله إلا الله" وبينوا لهم أن هذا القول بصدق هو المطلوب، واستدلوا بربوبية الله للعالمين، التي هي معلومة من أخص وصفه سبحانه لديهم، واحتجوا على قومهم بذلك، كما قال الله تعالى: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} (إبراهيم: 10) . فكانت حجتهم عليهم لله بالغة، فالصلاة والسلام عليهم ولا سبيل لأهل السنة والجماعة والشيخ منهم أن يعدلوا عن منهاجهم. ولذا فالشيخ يذكر توحيد الربوبية ليستدل به لأنه معلوم - على   1 انظر المرجع السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 توحيد الله بالألوهية وكم كرر في هذا الأمر وقرر. وأما ما ينقل عن الملاحدة والشيوعين، من أنهم لا يقرون بالربوبية، بل ينكرون وجود الله، فإن هذا الصنف من المخلوقات لا تنفع معهم أدلة، ولا تنجح فيهم حجة، ولا يصح ويثبت في أذهانهم أي علم، فمن العبث الاشتغال بأفكارهم والرد عليها، لأنهم مردوا على الجحود والكفر، فطبع الله على قلوبهم، وازدادوا كفرا بعد كفر، وظلمة فوق ظلمة وفسادا فوق فساد، فالمنهج تجاههم هو: الإعراض عنهم والإقبال على تقرير التوحيد على منهاج الرسل، وكما قرروه والمضي في هذا السبيل بكل قوة، ومن غير التفات إلى المعاندين المكابرين {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا} (الأ نعام: 25) . وتقرير توحيد الله تعالى وإثباته على منهاج الرسل، يفيد إثبات وجود الله مع مزيد التأييد والقوة، والوفاء بالمقصود، ولا أنفع علاجا ودواء لداء انحراف الفطرة وفسادها من تقرير التوحيد، كما قرره الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته ومن تبعهم بإحسان فقد تعاملوا مع خلق الله بما أمر الله وأرضوا الله فيمن أسخطه فيهم وفي غيرهم فأقاموا حدود الله وطبقوا شريعته على جميع الأحوال. فكانوا هم الغالبون بإذن الله. ويقول الشيخ: إن التأويل الفاسد في رد النصوص ليس عذرا لصاحبه، كما أنه سبحانه لم يعذر إبليس في شبهته التي أبداها كما يُعْذَرُ من خالف النصوص متأولا مخطئا، بل كان ذلك التأويل زيادة في كفره. ومثل هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 التأويل ليس على أهل الحق أن يناظروا صاحبه ويبينوا له الحق كما يفعلون مع المخطىء المتأول، بل يبادر إلى عقوبته بالعقوبة التي يستحقهما بقدرذنبه، وإلا أعرض عنه إن لم يقدر عليه، كما كان السلف الصالح يفعلون هذا وهذا، فإنه سبحانه لما أبدى له إبليس شبهته فعل به ما فعل، ولما عتب على الملائكة في قيلهم أبدى لهم شيئا من حكمته وتابوا، وقد وقعت هذه الثلاث لرسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوته التي فتح الله له فيها مكة، فإنه لما أعطي المؤلفة قلوبهم ووجدت عليه الأنصار عاتبهم واعتذروا وقبل عذرهم، وبين لهم شيئا من الحكمة، ولما قال له ذلك الرجل العابد (اعدل) قال له كلاما غليظا، واستأذن بعض الصحابة في قتله ولم ينكرعليه، لكن ترك قتله لعذر ذكره1. ويزيد الشيخ ذلك إيضاحاً فيقول: " إن الشبهة إذا كانت واضحة البطلان لا عذر لصاحبها، فإن الخوض معه في إبطالها تضييع للزمان وإتعاب للحيوان، مع أن ذلك لا يردعه عن بدعته، وكان السلف لا يخوضون مع أهل الباطل في رد باطلهم كما عليه المتأخرون، بل يعاقبونهم إن قدروا وإلا أعرضوا عنهم. وقال أحمد لمن أراد أن يرد على أحدهم: اتق الله ولا تنصب نفسك لهذا، فإن جاءك مسترشدا فأرشده2.   1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير ص 92. 2 المصدر السابق ص 93. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 ويقول الشيخ: إن في قول الله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ. فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ} (البقرة: 36 ا-137) . إن في هذا الكلام غاية إنصاف الخصم، وإن الذي لا ينقاد له ليس داؤه جهالة بل مشاقة، وإنك إذا أنصفته وأصر، فهو سبب لانتقام الله منه1. ويستنبط الشيخ من قصة آدم وإبليس أنه لا ينبغي للمؤمن أن يغتر بالفجرة، بل يكون على حذر منهم، ولو قالوا ما قالوا، خصوصا أولياء الشيطان الذين تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته، فإن اللعين حلف {إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} . ومنها أن زخرفة القول قد تخرج الباطل في صورة الحق كما في الحديث: "إن من البيان لسحرا" 2 فإن اللعين زخرف قوله بأنواع منها تسمية الشجرة شجرة الخلد، ومنها تأكيد قوله: {إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} وغير ذلك مما ذكر في القصة، فينبغي للمؤمن أن يكون من زخرف القول على حذر، ولا يقنع بظاهره حتى يعجم العود3.   1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، ص 39-. 4. 2 رواه أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي. 3 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، ص 93، 94. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 إعراض الشيخ عن مبحث الوجود: وكما قدمنا أن منهج الشيخ هو منهج السلف الصالح، فإنه في إعراضه عن مبحث الوجود والاستدلال عليه، لأنه أمر مسلم به، ولأنه هو الدليل على توحيد العبادة المطلوب، والذي من أجله فقط أرسلت الرسل، فقد اتبع منهج كبار الأئمة في بيان التوحيد، وإقامة الأدلة عليه، مثل الإمام أبي حنيفة وغيره من أئمة المذاهب الأربعة الكبار. قال ملا علي القاري في شرح الفقه الأكبر لأبي حنيفة: " وقد أعرض الإمام عن بحث الوجود اكتفاء بما هو ظاهر في مقام الشهود، ففي التنزيل: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} فوجود الحق ثابت في فطرة الخلق كما يشير إليه قوله سبحانه وتعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} ويومىء إليه حديث: "كل مولود يولد على الفطرة". وإنما جاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لبيان التوحيد، وتبيان التفريد، ولذا أطنفت كلمتهم وأجمعت حجتهم على كلمة: لا إله إلا الله، ولم يؤمروا بأن يأمروا أهل ملتهم بأن يقولوا: الله موجود، بل قصدوا إظهار أن غيره ليس بمعبود ردا لما توهموا وتخيلوا حيث قالوا: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} و {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} . على أن التوحيد يفيد الوجود مع مزيد التأييد. ثم العقائد يجب أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 تؤخذ من الشرع الذي هو الأصل1. وقال ملا علي قاري: حكي عن أبي حنيفة رحمه الله أن قوما من أهل الكلام أرادوا البحث معه في تقرير توحيد الربوبية فقال لهم: أخبروني قبل أن نتكلم في هذه المسألة عن سفينة في دجلة تذهب فتمتلىء من الطعام والمتاع وغيره بنفسها، وتعود بنفسها فتترسى بنفسها، وتتفرغ بنفسها وترجع، كل ذلك من غير أن يديرها أحد؟ فقالوا: هذا محال لا يمكن أبدا، فقال لهم إذا كان هذا محالا في سفينة، فكيف في هذا العالم كله علوه وسفله؟ انتهى2. ولقد أحسن أبو العتاهية في قوله: فوا عجبا كيف يعصى الإله ... أم كيف يجحده الجاحد ولله في كل تحريكة ... وتسكينة أبدا شاهد وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد3 وأما من بلي بشيء من وسوسة التسلسل في الفاعلين، فإن الشيخ يرشد إلى ما أرشد إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أرشد من بُليَ بشيء من وسوسة التسلسل في الفاعلين إذا قيل له: هذا الله خلق الخلق، فمن خلق الله؟ أن يستعيذ بالله وينتهيَ ويقرأ {هُوَ الأَوَّلُ وَالْآخِرُ   1 شرح ملا علي قاري للفقه الأكبر لأبي حنيفة ص 10. 2 شرح ملا علي قاري على الفقه الأكبر لأبي حنيفة ص 9. 3 نقلا من شرح ملا علي قاري على الفقه الأكبر لأبي حنيفة ص 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} . وكذلك قال ابن عباس لأبي زميل وقد سأله: ما شيء أجده في صدري؟ قال: ما هو؟ قال: قلت: والله لا أتكلم به، فقال: أشيء من شك؟ قلت: بلى، قال: ما نجا من ذلك أحد، فإذا وجدت في نفسك شيئا، فقل: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} . فأرشدهم بالآية إلى بطلان التسلسل ببديهة العقل وأن سلسلة المخلوقات في ابتدائها تنتهي إلى أول ليس قبله شيء كما تنتهي في آخرها إلى آخر ليس بعده شيء، كما أن ظهوره: هو العلو الذي ليس فوقه شيء، وبطونه هو أنه ليس دونه واسطة، فليس دونه شيء سبحانه. ولو كان قبله شيء يكون مؤثرا فيه لكان هو الرب الخلاق، فلا بد أن ينتهي الأمر إلى خالق غني عن غيره، وكل شيء فقير إليه، قائم بنفسه، وكل شيء قائم به، موجود بذاته، قديم لا أول له، وكل ما سواه فوجوده به بعد عدمه، باق بذاته، وبقاء كل شيء به1. ثم يرشد الشيخ إلى أن ما يقع في القلب من خواطر الشيطان لا يضر، بل هو صريح الإيمان إذا كان مع الكراهة أخذا من قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} الآية2.   1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، مختصر زاد المعاد ص 152-153، وانظر: ملحق المصنفات، مسائل ملخصة رقم 40 ص 29، 30. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، يوسف ص 180. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 فسبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم، هو خالق كل شيء وما سواه مخلوق. والشيخ حين يجعل أصله في علم التوحيد، هوالتمسك بالكتاب والسنة ومجانبة الهوى والبدعة ولزوم طريق أهل السنة والجماعة الذي كان عليه الصحابة والتابعون ومضى عليه السلف الصالحون يكون متبعا للعلماء السابقين غير مبتدع. وإذا قسم التوحيد إلى نوعين، هما توحيد الربوبية- ويدخل فيه إثبات الأسماء الحسنى وصفات الكمال على ما جاء في الشرع، وهو القسم العلمي الخبري من قسمي التوحيد، وتوحيد الألوهية أوتوحيد العبودية- الذي هو القسم الطلبي الإرادي، وإذا بين أن توحيد الألوهية يتضمن توحيد الربوبية دون العكس في القضية ليس هذا القول من الشيخ لمتابعته ابن تيمية، أو علماء الحنابلة، أو علماء أهل السنة من المالكية والشافعية فحسب، بل لمتابعته أيضا علماء الحنفية فيما حققوه من السنة النبوية الشريفة. هذا الإمام أبو حنيفة رحمه الله بدأ مؤلفه المسمى بـ" الفقه الأكبر" بقوله: " أصل التوحيد وما يصح الاعتقاد عليه يجب أن يقول: آمنت بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت، والقدر خيره وشره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 من الله تعالى" 1. ويقول الشيخ علي البزدوي من الحنفية في "أصول الفقه": " العلم نوعان: علم التوحيد والصفات، وعلم الفقه والشرائع والأحكام. والأصل في النوع الأول: هو التمسك بالكتاب والسنة، ومجانبة الهوى والبدعة، ولزم طريق أهل السنة والجماعة، الَّذي كان عليه الصحابة والتابعون ومضى عليه السلف الصالحون، وهو الَّذي عليه أدركنا مشايخنا، وكان على ذلك سلفنا؛ أعني: أبا حنيفة، وأبا يوسف، ومحمداً، وعامة أصحابهم رحمهم الله تعالى"2. وهذا أبو جعفر أحمد الطحاوي المتوفى سنة (321هـ) قبل ابن تيمية يذكر بيان عقيدة أهل السنة والجماعة على مذهب أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي وأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري وأبي عبد الله محمد بن الحسن الشيباني فيقول: " نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: أن الله واحد لا شريك له، ولا شيء مثله، ولا شيء يعجزه، ولا إله غيره3.   1 "الفقه الأكبر بأعلى صحائف شرح ملا علي قاري" (ص9-13) ، و"بأعلى صحائف شرح أحمد المغنيساوي" (ص 31، الطبعة الثانية، الهند 1367هـ) . 2 نقلا عن "شرح الفقه الأكبر" لأحمد المغنساوي ضمن مجموعة الرسائل السبع في العقائد (ص30، الطبعة الثانية بمطبعة جمعية دائرة المعارف حيدر آباد الدكن سنة 1367هـ) . 3 العقيدة الطحاوية، ط المكتب الاسلامي ص 17-18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 فقوله: "لا شيء مثله" في توحيد الصفات والأسماء "ولا شيء يعجزه" في توحيد الربوبية والقدرة، وكل ذلك في توحيد المعرفة والإثبات. "ولا إله غيره" في توحيد الألوهية وذلك في توحيد الطلب والإرادة قال شارح الطحاوية ابن أبي العز الحنفي المتوفى سنة (746هـ) : "ثم التوحيد الذي دعت إليه رسل الله، ونزلت به كتبه نوعان: توحيد في الإثبات والمعرفة وتوحيد في الطلب والقصد"1. بل إن من المتأخرين من الأحناف من يقررما قرره الشيخ محمد بن عبد الوهاب قبل أن يولد. وهذا ملا علي بن سلطان القاري الحنفي المتوفى سنة (1014هـ) قبل ميلاد الشيخ محمد بن عبد الوهاب بمائة سنة يقرر ما قرره الشيخ من نوعي التوحيد، فقال في شرحه الفقه الأكبر لأبي حنيفة " أقول: فابتداء كلامه سبحانه وتعالى في الفاتحة بالحمد لله رب العالمين، يشير إلى تقرير توحيد الربوبية المترتب عليه توحيد الألوهية المقتضي من الخلق تحقيق العبودية" إلى أن قال: "والحاصل أنه يلزم من توحيد العبودية توحيد الربوبية دون العكس في القضية لقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} ، وقوله سبحانه حكاية عنهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} .   1 شرح الطحاوية ص 88. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 بل غالب سور القرآن متضمنة لنوعي التوحيد، بل القرآن من أوله إلى آخره في بيانهما وتحقيق شأنهما، فإن القرآن إما خبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله فهو التوحيد العلمي الخبري، وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له وخلع ما يعبد من دونه فهو التوحيد الإرادي الطلبي. وإما أمر ونهي وإلزام بطاعته فذلك من حقوق التوحيد ومكملاته، وإما خبر عن إكرامه لأهل التوحيد وما فعل بهم في الدنيا وما يكرمهم به في العقبى فهو جزاء توحيده، وإما خبر عن أهل الشرك وما فعل بهم في الدنيا من النكال وما يحل بهم في العقبى من العذاب والسلاسل والأغلال فهو جزاء من خرج عن حكم التوحيد، فالقرآن كله في التوحيد وحقوق أهله وثوابهم، وفي شأن ذم الشرك وعقوق أهله وجزائهم، فـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} توحيد، {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} توحيد، {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} توحيد، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} توحيد، {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} توحيد متضمن لسؤال الهداية إلى طريق أهل التوحيد، {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} (وهم أهل التوحيد) {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} الذين فارقوا التوحيد عنادا وجهلا وإفسادا. وكذا السنة تأتي مبينة ومقررة لما دل عليه القرآن، فلم يحوجنا ربنا سبحانه وتعالى إلى رأي فلان وذوق فلان ووجد فلان في أصول ديننا- ولذا نجد من خالف الكتاب والسنة مختلفين مضطربين- بل قال الله تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} . فلا نحتاج في تكميله إلى أمر خارج عن الكتاب والسنة، كما قال الله تعالى: {هذا بلاغ للناس} 1. وقال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} 2. وقال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 3 4. وأظنه نقل عن شارح الطحاوية ابن أبي العز الحنفي5. وليس سبب الخلاف بين الشيخ وخصومه هو تقسيم التوحيد إلى نوعين وبيان الفرق بينهما كما يذهب إليه الدكتور العثيمين6، وإنما الخلاف بينه وبين خصومه، هو أنه يقول: "ما يدعى إلا الله وحده لا شريك له كما قال تعالى في كتابه: {فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} (الجن: 18) ، وقال في حق النبي صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا   1 سورة إبراهيم الآية (52) . 2 سورة العنكبوت الآية (51) . 3 سورة الحشر الآية (7) . 4 شرح ملا علي بن سلطان محمد القاري الحنفي المتوفى 1014 على الفقه الأكبر لأبي حنيفة ص 9-10. 5 انظر: شرح الطحاوية ص 88-89. 6 الشيخ محمد بن عبد الوهاب حياته وفكره للدكتور عبد الله العثيمين ص 108- 110. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 رَشَداً} (الجن: 21) . ولما ذكر الشيخ لهم أن هذه المقامات التي في الشام والحرمين وغيرهما أنها على خلاف أمر الله ورسوله، وأن دعوة الصالحين والتعلق بهم هوالشرك بالله الذي قال فيه: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} (المائدة: 72) . لما أظهرلهم هذا أنكروه وكبر عليهم، وقالوا: جعلنا مشركين. وقالوا: هذا ليس إِشراكا. هذا هو مرتكز الخلاف بين الشيخ وخصومه1، ولو أن خصوم الشيخ أقروا بتوحيد الله في هذا وتابوا مما كانوا عليه من دعاء غير الله ما كان الشيخ ليطالبهم بالتفريق بين نوعي التوحيد، كيف! والشيخ يرى أن لفظ الربوبية يأتي بمعنى الألوهية كما في قوله تعالى: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً} (الكهف: 14) . قال الشيخ: "قولهم ربنا رب السموات والأرض " هذه الربوبية هي الألوهية 2. والشيخ حين يفرق بين توحيد الربوبية والألوهية، إنما ليبين أن الربوبية عندما تفسر بأشهر معانيها الذي هو فعل الرب، وحين تؤتى بتوحيد الربوبية على هذا التفسير أي اعتقاد أن الله واحد في فعله فإنه لا   1 انظر: مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 4 ص 33. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، الكهف ص 243. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 يكفي عن الإتيان بتوحيد الألوهية، والذي منه إفراد الله بالدعاء لأن المشركين زمن الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا يقرون بتوحيد الربوبية هذا ومع ذلك لم يدخلهم في الإسلام، لأنهم لم يأتوا بتوحيد الألوهية- على ما سيأتي بيانه بالتفصيل في المباحث الآتية إن شاء الله تعالى. وقد بين الشيخ منهجه في الإحكام في نبذة كتبها بعنوان: "أربع قواعد تدور عليها الأحكام " وتتلخص في الآتي: ا- تحريم القول على الله بلا علم. 2- أن كل شيء سكت عنه الشارع فهو عفو. 3- أن ترك الدليل الواضح والاستدلال بالمتشابه طريق أهل الزيغ كالرافضة والخوارج. 4- أن الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات، فمن لم يفطن لهذه القاعدة ويريد أن يتكلم على كل مسألة بكلام فاصل فقد ضل وأضل1. والشيخ يرى أن الصواب في المسائل المشكلة عدم الجزم بشيء بل يقول: (الله أعلم) مثل ما قال أهل الكهف: {قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} (الكهف: 19) . وكما أمر الله بإسناد الأمرإلى علمه: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ} فالسكوت عنها هو العلم والمتكلم بلا علم ينكر عليه2.   1 مؤلفات الشيخ، القسم الثاني، الفقه، المجلد الثاني، ص 3- 10، والقسم الرابع، التفسير، الأعراف ص 77، 80. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، الكهف ص 245،247. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 والله تبارك وتعالى نهى عن افتراء الكذب عليه والقول عليه بلا علم والمحاجة والمجادلة بغير علم وقول ما ليس للقائل به علم مطلقا- قال الله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (الإسراء: 36) . والذي يجب العلم به أن كل ما قال الرسول صلى الله عليه وسلم حق يجب الإيمان به ولولم يعرف الإنسان معناه، وأنه لا تضاد ولا تناقض في كلام الله وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم كما أنه ليس بين كلام الرسول صلى الله عليه وسلم وكلام الله أَيَّ مناقضة1. والأدلة الصحيحة لا تتناقض، بل يصدق بعضها بعضا، لكن قد يكون أحدهما أخطأ في الدليل لأنه إما استدل بحديث لم يصح، وإما لأنه فهم من كلمة صحيحة مفهوما مخطئا. وحاشا كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم من التضاد، بل كله حق يصدق بعضه بعضا والواجب على المؤمن في مثل هذا أن يحسن الظن بكلام الله وكلام رسوله ويقول كما أمر الله: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} (آل عمران: 7) . فإذا تبين له الحق فليقل به وليعمل به، وإلا فليمسك وليقل الله ورسوله أعلم2.   1 الدرر السنية، ط 2، ج 6 ص 495، 496، مؤلفات الشيخ، القسم الثالث، الفتاوى ص 34،35، وص 44،45. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد ص 10، ومؤلفات الشيخ، القسم الثالث، الفتاوى ص 34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 نعم قد يرد حديثان متضادان ولكن أحدهما ليس بصحيح، وقد يكون أحدهما ناسخا لكنه قليل جدا ومع ذلك لا يرد المنسوخ إلا قد يرد ما يبينه1. وينبغي لطالب العلم أن يتفطن لصورة المسألة في الدليل الذي يدل عليها ويجيل نظره في ذلك فإن كثيرا من الأغاليط وقعت في مسألة واضحة جدا ويستدل الغالط على غلطه بشيء من القرآن والسنة، وهو لا يدل على ذلك كما فعل الرافضة والقدرية والجهمية وغيرهم. قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} 2 الآية (آل عمران: 7) . فينبغي رد المسألة المشكلة إلى المسألة البينة ليزول الإشكال، وللمفتي أن يستفصل اذا احتاج لذلك3. فإن الله تعالى ابتلى الناس بالمتشابه كما ابتلاهم بالمحكم ليعلم من يقف حيث وقفه الله ومن يقول على الله بلا علم. ولو بلغ الإنسان من العلم ما بلغ لكان ما علمه قليلا بالنسبة إلى ما لم يعلمه. فقد قال تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} 4 (الإسراء: 85) .   1 مؤلفات الشيخ، القسم الثالث، الفتاوى ص 34. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الثالث، الفتاوى ص 40، 41. 3 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيدص 39. 4 مؤلفات الشيخ، القسم الثالث، الفتاوى ص 34، 35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 وقد توقف الشيخ في الإفتاء عن معنى قوله: "الشؤم في ثلاث" الخ وقال: "لم يتبين لي معناه، والله أعلم بمراد رسوله صلى الله عليه وسلم. وفي جواب، هل المراد حفظ القرآن مع حفظ المعاني؟ في ما ورد من الفضل في حفظه؟ قال الشيخ: "لا يحضرني جواب يفصل المسألة". وفي إغلاق الباب عند الجذاذ ووقت الحصاد قال: "فلا أجسر على الجزم بتحريمه" وفي موضع قال: "فلا أتجرأ على الجزم بتحريمه" وفي معنى عقد اللحية- قال: "لا أعلمه " وفي مقصود الحسن بتفسير الجبت برنة الشيطان- قال " لا أعرف مقصود الحسن " وفي الفرق بين الروح والرحمة- قال: "لا أعرفه ". وفي مسألة إذا لم يعرف هل هذا وقف على من يرث أم لا ولكن الإفاضة على أنه ممن يرث قال: "فأنا لا أدري عن هذه المسألة لكن أرى لك التوقف عنها ولا ينزع من يد من يأكله إلا ببينة، وغير ذلك1. ويرى أنه لا غنى للمسلم عن معرفة أمور أهل الجاهلية الكتابيين والأميين التي خالفهم "فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فالضد يظهرحسنه الضد، وبضدها تتبين الأشياء، والحق لا يتبين إلا بالباطل2.   1 مؤلفات الشيخ، القسم الثالث، الفتاوى ص 38، 39، 53، 54، 73، 90، 97، 105. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، مسائل الجاهلية ص 333، والقسم الرابع، التفسير، الفاتحة، ص 15، 16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 وأنه قد يكون لأهل الباطل والشرك علوم كثيرة وكتب وحجج، ويفرحون بما عندهم من العلم، ومن حكمة الله أن جعل منهم أعداء للرسل وأتباعهم وهم شياطين الجن والإنس1، يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا. ومن أمورهم أن التقليد بالباطل هو القاعدة الكبرى لجميع أهل الجاهلية أولهم وآخرهم كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} (الزخرف: 23) . وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} (لقمان: 21) . فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} (سبأ: 46) . وقول الله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} (الأعراف: 3) 2. لذا فالشيخ لا يرتضي مناهج الجاهلية ولا قياساتهم واستدلالاتهم الفاسدة ولا حججهم الباطلة مثل استدلالهم على بطلان الشيء بأنه لم يتبعه إلا الضعفاء كقوله تعالى حكاية عنهم: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} (الشعراء: 111) .   1 المصدر السابق، القسم الأول، العقيدة، كشف الشبهات، ص 159- 160. والقسم الخامس، الشخصية، رقم 22 ص 155-157. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، مسائل الجاهلية ص 336. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 وقوله عنهم: {أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} (الأنعام:53) - فرد الله استدلالهم بقوله: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} (الأنعام: 53) . ومثل اقتدائهم بفسقة العلماء والعباد أمثال من قال الله فيهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (التوبة: 34) . وقال تعالى: {لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} (المائدة:77) . ومثل استدلالهم على بطلان الدين بقلة أفهام أهله وعدم حفظهم. ومثل استدلالهم بالقياس الفاسد، وإنكارهم القياس الصحيح واستدلالهم على الحق بقوم ضالين غير أنهم أعطوا قوى في الأفهام والأعمال، وفي الملك والجاه والمال، فرد الله ذلك بقوله: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} (الأحقاف: 26) . واعتقادهم في مخاريق السحرة وأمثالهم أنها من كرامات الصالحين واعتياضهم كتب السحر عن ما أتاهم من الله، كما ذكر الله ذلك في قوله: {نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} (البقرة: 101-102) . ونسبتهم الباطل إلى الأنبياء فرد الله عليهم بمثل قوله: {وما كفر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 سليمان} وبمثل قوله: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً} (آل عمران: 67) . وقدحهم في الصالحين بفعل سيء من بعض المنتسبين إليهم كقدح اليهود في عيسى، وقدح اليهود والنصارى في محمد صلى الله عليه وسلم1. وتحريفهم كتاب الله من بعد ما عقلوه وهم يعلمون، وتصنيفهم الكتب الباطلة ونسبتها إلى الله كما قال الله عنهم {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} (البقرة: 79) . ولا يقبلون من الحق إلا الذي مع طائفتهم، ومع ذلك لا يعملون بما تقوله طائفتهم2. ولكن يثبتون أهواءهم وظنونهم ويعرضون عما جاءت به الرسل فيصبحون على خلاف ما جاءت به الرسل من النفي والاثبات يثبتون ما نفته الرسل وينفون ما أثبتته الرسل، ويعتذرون عن إعراضهم عن ما جاءت به الرسل بعدم الفهم كقولهم: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ} 3. ويلحدون في أسماء الله الحسنى وصفاته، ويعطلون الله من صفات الكمال والعظمة والجلال، وينسبون إليه النقائص سبحانه، وقد ينزهون   1 انظر: مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، مسائل الجاهلية رقم 8-13، 16- 25. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، مسائل الجاهلية، رقم 26-29. 3 المرجع السابق رقم 1-15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 أنفسهم عنها، ويجحدون القدر أو يحتجون به على معارضة الشرع، ويسبون الدهر1، ويعملون الحيل الظاهرة والباطنة في دفع ما جاءت به الرسل، وقد يقرون بالحق ليتوصلوا بذلك إلى دفعه، ويلقبون أهل الهدى بالصباة والحشوية، وإذا غلبوا بالحجة فزعوا إلى الشكوى إلى الملوك وأهل النفوذ يرمون أصحاب الحجة الغالبة بالفساد في الأرض وانتقاص الملك وتبديل الدين2. كما قال تعالى عن فرعون أنه قال: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} (غافر: 26) - وقال عن قومه أنهم قالوا: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} (الأعراف: 127) . ودعواهم اتباع السلف مع التصريح بمخالفتهم كمن ينتسب إلى إبراهيم مع إظهارهم ترك اتباعه3.   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، مسائل الجاهلية، رقم 37-46. 2 انظر مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، مسائل الجاهلية رقم 53، 59، 62، 67. 3 انظر: المصدر ال\سابق رقم 120، 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 الشيخ لم يشتغل بالكلام - يرفض منهج أهل الكلام لقد كان الشيخ ينطلق من إسلامه وإيمانه ومن منهجه السلفي في كلامه على التوحيد فلم يشغل نفسه بما شغل به أهل البدع أنفسهم. كالمتكلمين المعرضين عن طريقة الرسل وأتباعهم من سلف الأمة وأئمتها فاشتغلوا ببدع من الكلام والاستدلال كالجوهر والعرض والتحيز والجهة ونحو ذلك من الألفاظ التي لم يرد نفيها ولا إثباتها بالوحي. وينقل الشيخ عن شيخ الإسلام ابن تيمية: أن ابن سريج لما سئل عن التوحيد ذكر توحيد المسلمين، ثم قال: وأما توحيد أهل الباطل فهو الخوض في الجواهر والأعراض، وإنما بعث النبي صلى الله عليه وسلم بإنكار ذلك. وكلام السلف والأئمة في ذم الكلام وأهله مبسوط في مواضعه. ومن ذلك ما ينقل من كلام أبي الوفاء بن عقيل قال: " أنا أقطع أن أبا بكر وعمر ماتا ما عرفا الجوهر والعرض فإن رأيت أن طريقة أبي علي الجبائى وأبي هاشم خير لك من طريقة أبي بكر وعمر فبئس ما رأيت" ا- هـ1. ولذا فالشيخ يرى أن المتكلمين أهل شك وريب ولم ينتهوا من مباحثهم إلى طمأنينة وقضوا حياتهم وفارقوا الحياة وهم في حيرة واضطراب واختلاف وأمر مريج وقول مختلف، وقال: يقول شيخ الإسلام   1 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 20 ص 131، 132. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 ابن تيمية "وتجد عامة هؤلاء الخارجين عن منهاج السلف من المتكلمة والمتصوفة يعترف بذلك، إما عند الموت وإما قبل الموت. والحكايات في هذا كثيرة معروفة. هذا أبو الحسن الأشعري: نشأ في الاعتزال أربعين عاما يناظر عليه، ثم رجع عن ذلك وصرح بتضليل المعتزلة وبالغ في الرد عليهم. وهذا أبو حامد الغزالي مع فرط ذكائه وتألهه ومعرفته بالكلام والفلسفة وسلوكه طريق الزهد والرياضة والتصوف ينتهى في هذه المسائل إلى الوقف والحيرة ويحيل في آخر أمره على طريقة أهل الكشف، وإن كان بعد ذلك رجع إلى طريقة أهل الحديث وصنف إلجام العوام عن علم الكلام. وكذلك أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي، قال في كتابه الذي صنفه في أقسام اللذات: "لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلا، ولا تروي غليلا، ورأيت أقرب الطرق طريقة أهل القرآن أقرأ في الإثبات {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} . وأقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} ، {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} . ثم قال: ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي وكان يتمثل كثيرا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 نهاية إقدام العقول عقال ... وأرواحنا في وحشة من جسومنا ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... وأكثر سعي العالمين ضلال وحاصل دنيانا أذى ووبال ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا وهذا إمام الحرمين ترك ما كان ينتحله ويقرره واختار مذهب السلف، وكان يقول "يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام، فلو أني عرفت أن الكلام يبلغ بي إلى ما بلغ ما اشتغلت به " وقال عند موته لقد خضت البحر الخضم، وخليت أهل الإسلام وعلومهم ودخلت فيما نهوني عنه. والآن إن لم يتداركني ربي برحمته، فالويل لابن الجويني، وها أنا ذا أموت على عقيدة أمي- أو قال- عقيدة عجائز نيسابور. وكذلك قال أبو عبد الله محمد بن عبد الكريم الشهرستانى: "إنه لم يجد عند الفلاسفة والمتكلمين إلا الحيرة والندم" وكان ينشد: لعمري لقد طفت المعاهد كلها ... وسيرت طرفي بين تلك المعالم فلم أر إلا واضعا كف حائر ... على ذقن أو قارعا سن نادم وابن الفارض- من متأخري الاتحاديه- صاحب القصيدة التائية المعروفة بنظم السلوك، وقد نظم فيها الاتحاد نظما رائق اللفظ، فهو أخبث من لحم خنزير في صينية من ذهب وما أحسن تسميتها بنظم الشكوك، الله أعلم بها وبما اشتملت عليه، وقد نفقت كثيرا وبالغ أهل العصر في تحسينها والاعتداد بما فيها من الاتحاد- لما حضرته الوفاة أنشد: إِن كان منزلتي في الحب عندكم ما قد لقيت فقد ضيعت أيامي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 والخلاصة: "أن أهل الكلام يردون باطلا بباطل " 1. ويقول الشيخ عن مناهج المخالفين من أهل الكلام للرسل، في معرض رسالته إلى ابن عبد اللطيف: "ومما يهون عليك مخالفة من خالف الحق، وإن كان من أعظم الناس وأذكاهم وأعظمهم جاها وأتبعه أكثر الناس تذكر ما وقع في هذه الأمة من افتراقهم في أصول الدين وصفات الله تعالى، وما وقع فيه من الجهل والمحذور غالب من يدعي المعرفة وما عليه المتكلمون من التناقض والحيرة وتسميتهم طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حشوا وتشبيها وتجسيما، مع أنك إذا طالعت في كتاب من كتب أهل الكلام مع كونه يزعم أن هذا واجب على كل أحد، وهو أصل الدين؛ تجد الكتاب من أوله إلى آخره لا يستدل على مسألة منه بآية من كتاب الله، ولا حديث عن رسول صلى الله عليه وسلم، اللهم إلا أن يذكره ليحرفه عن مواضعه، وهم معترفون أنهم لم يأخذوا أصولهم من الوحي، بل من عقولهم، ومعترفون أنهم مخالفون للسلف في ذلك؛ مثل ما ذكرفي فتح الباري في مسألة الإيمان على قول البخاري، وهو قول وعمل   1 مؤلفات الشيخ ملحق المصنفات، مسائل ملخصة رقم 119 ص 127 -140، ونقض المنطق، تأليف شيخ الإسلام ابن تيمية ص 60-62، وانظر: شرح ملا علي بن سلطان محمد القاري الحنفي على الفقة الأكبر للإمام أبي حنيفة ص5- 8 (ط2، 1375 هـ) ، الحلبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 ويزيد وينقص، فذكر إجماع السلف على ذلك، وذكر عن الشافعي أنه نقل الإجماع على ذلك، وكذلك ذكر أن البخاري نقله ثم بعد ذلك حكى كلام المتأخرين ولم يرده. فإن نظرت في كتاب التوحيد في آخر الصحيح، فتأمل تلك التراجم، واقرأ في كتب أهل العلم من السلف ومن أتباعهم من الخلف ونقلهم الإجماع على وجوب الإيمان بصفات الله تعالى وتلقيها بالقبول، وأن من جحد شيئا منها أو تأول شيئا من النصوص فقد افترى على الله وخالف إجماع أهل العلم ونقلهم الإَجماع على أن علم الكلام بدعة وضلالة حتى قال أبو عمر بن عبد البر. "أجمع أهل العلم في جميع الأعصار والأمصار أن أهل الكلام أهل بدع وضلالات لا يعدون عند الجميع من طبقات العلماء". قال الشيخ: "إنهم ابتدعوا كلاما من عند أنفسهم وكابروا به العقول أيضا". ويقول الشيخ: "إن أهل الكلام وأتباعهم من أحذق الناس وأفطنهم ولهم من الذكاء والحفظ والفهم ما يحير اللبيب وهم وأتباعهم مقرون أنهم مخالفون للسلف مع هذا، وأيضا فهم عاجزون عن الرد على الفلاسفة إفكهم وباطلهم لكون مذهبهم فاسدا في نفسه ومخالفا للعقول مع مخالفته لدين الإسلام والكتاب والرسول وللسلف كلهم، حتى إن بعض أئمتهم المتكلمين لما ردوا على الفلاسفة في تأويلهم آيات الأمر والنهى مثل قولهم المراد بالصيام كتمان أسرارنا، والمراد بالحج زيارة مشايخنا، والمراد بجبريل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 العقل الفعال وغير ذلك من إفكهم، رد عليهم الجواب بأن هذا التفسير خلاف المعروف بالضرورة من دين الإسلام فقال لهم الفلاسفة أنتم جحدتم علو الله على خلقه واستواءه على عرشه مع أنه مذكورفي الكتب على ألسنة الرسل، وقد أجمع عليه المسلمون كلهم وغيرهم من أهل الملل، فكيف يكون تأويلنا تحريفا وتأويلكم صحيحا؟ فلم يقدر أحد من المتكلمين أن يجيب عن هذا الإيراد". ثم يخاطب الشيخ ابن عبد اللطيف فيقول: "وأنا أدعوك إلى التفكير في هذه المسألة وذلك أن السلف قد كثركلامهم وتصانيفهم في أصول الدين وإبطال كلام المتكلمين وتفكيرهم وممن ذكر هذا من متأخري الشافعية البيهقي والبغوي وإسماعيل التميمي، ومن بعدهم كالحافظ الذهبى، وأما متقدموهم كابن سريج والدارقطني وغيرهما، فكلهم على هذا الأمر، ففتش في كتب هؤلاء فإن أتيتنى بكلمة واحدة أن منهم رجلا واحدا لم ينكر على المتكلمين، فلا تقبل مني شيئا أبدا، ومع هذا كله وظهوره غاية الظهور راج عليكم حتى ادعيتم أن أهل السنة هم المتكلمون والله المستعان" 1. وفي معرض رد الشيخ على بعض أهل الكلام تفسيرهم الإله أنه القادر على الاختراع، وأن الألوهية هي القدرة، فإذا أقروا بذلك فهو   1 انظر: مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الرسائل الشخصية رقم 37 ص 262-265 بتلخيص وتوضيح قليل. وانظر: الدرر السنية ج 1 ص 69-71. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 معنى لا إله إلا الله، ونفيهم الصفات بوهم أن التوحيد لا يتم إلا بنفيها، ومن أثبتها سموه مجسما- يقول الشيخ في سبب هذا الضلال: "وأصل هذا ما أشار إليه قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} ". وذكر الرحمن هو القرآن فلما طلبوا الهداية من غيره أضلهم الله، وقيض لهم الشيطان فصدهم عن أصل الأصول، ومع هذا يحسبون أنهم مهتدون. وبيان ذلك أنه ليس المراد معرفة الإله الإجمالية يعني معرفة الإنسان أن له خالقا فإنها ضرورية فطرية بل معرفة الإله هل هذا الوصف مختص بالله لا يشركه فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل أو لغيره قسط منه، فأما المسلمون أتباع الأنبياء فإجماعهم على أنه مختص كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} . (سورة الأنبياء:25) والكافرون يزعمون أنه هو الإله الأكبر ولكن معه آلهة أخرى تشفع عنده، والمتكلمون ممن يدعي الإسلام أضلهم الله عن معرفة الإله ... وذكر الشيخ: " أن العجب العجاب ظنهم أن الألوهية هي القدرة، وأن معنى قولك لا إله إلا الله أي لا يقدر على الخلق إلا الله، إذا فهمت هذا تبين لك عظم قدرة الله على إضلال من شاء مع الذكاء والفطنة، كأنهم لم يفهموا قصة إبليس ولا قصة قوم نوح وعاد وثمود وهلم جرا- كما قال شيخ الإسلام في آخر الحموية أوتوا ذكاء وما أوتوا زكاء وأوتوا علوما وما أوتوا فهوما، وأوتوا سمعاً وأبصارا وأفئدة، {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 يَسْتَهْزِئُونَ} 1. ولذا لم يشغل الشيخ نفسه بمناهج أهل الكلام وابتعد عن بدعهم المذمومة واعتصم بمنهج السلف الصالح في اعتقاده وعلمه. وهكذا يرفض الشيخ منهج أهل الكلام المبتدع في التوحيد والاعتقاد - ولا يعني ذلك أن الشيخ لا يعتبر العقل الصريح بل العكس فإن الشيخ رحمه الله كما قدمنا يعتبر القياس الصحيح ويثبته، ويرد على منكريه ويرفض منهجهم، فما دام القياس صحيحا فالشيخ يثبته سواء كان قياس طرد، وهو التسوية بين المتماثلات) وقياس عكسي، وهو التفرقة بين المختلفات فالشيخ يثبته مادام صحيحا. والشيخ يستدل بالقاعدة الكلية على المسائل الجزئية2. ويعتبر القاعدة التي هي خاصية العقل هي ارتكاب أدنى الشرين لدفع أعلاهما وتفويت أدنى الخيرين لتحصيل أعلاهما من الأمور الشرعية3. وقد تقدم إيرادنا قول الشيخ رحمه الله تعالى: " ثم إذا عرف ما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم نظر في أقوال الناس وما أرادوا بها فعرضت على الكتاب والسنة والعقل الصريح الذي هو موافق للرسول صلى الله   1 الدرر السنية، ط 2، ج 1 ص 69- ا 7. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، العلق ص 372. 3 مؤلفات الشيخ، التفسير، البقرة، ص 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 عليه وسلم فإنه الميزان مع الكتاب فهذا سبيل الهدى" 1. ويقول الشيخ: " وما جئنا بشيء يخالف النقل ولا ينكره العقل " 2. ما أشاعه الأعداء عن منهج الشيخ هذا وقد أشاع أعداء التوحيد عن الشيخ منهجا ليس من منهجه، وافتروا عليه مسلكا لم يسلكه وحيث إِن الشيخ بنفسه قد أجاب عن افتراءات أعدائه عليه وبين أنه لا أساس لها من الصحة كما شخص أسباب هذه الافتراءات فأذكرها هنا مكتفيا بأجوبة الشيخ حيث إِنها تعتبر جانبا من منهجه، ويجدر بنا أن ننبه إلى أن جميع المفتريات والإشاعات التي أثيرت تنبثق من تلك المفتريات التي أجاب عنها الشيخ، مما يجعلنا نعتبر جواب الشيخ صالحا لكل ما قيل عنه من بعده أيضا. وفيما يلى تلخيص لأجوبة الشيخ عما نسب إليه أنه انتهجه: فالشيخ يقول: "أشاعوا عنا أنا نسب الصالحين وأنا على غير جادة العلماء، ورفعوا الأمر إلى المشرق والمغرب وذكروا عنا أشياء يستحي العاقل من ذكرها"3. ويقول الشيخ: "إذا تبين هذا فالمسائل التي شنع بها منها ما هو من البهتان الظاهر وهي (قوله) إني مبطل كتب المذاهب،   1 انظر: (ج 1/290) من هذا البحث، والدرر السنية ج 2 ص 8. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 14 ص 98. 3 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 6 ص 40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 وقوله إني أقول إن الناس من ستمائة سنة ليسوا على شيء، (وقوله) إني أدعي الاجتهاد، (وقوله) إني خارج عن التقليد، (وقوله) إني أقول: إن اختلاف العلماء نقمة، (وقوله) إنى أكفر من توسل بالصالحين، (وقوله) إني أكفر البوصيري لقوله: يا أكرم الخلق، (وقوله) إني أقول لو أقدر على هدم حجرة الرسول صلى الله عليه وسلم لهدمتها، ولو أقدر على الكعبة لأخذت ميزابها وجعلت لها ميزابا من خشب، (وقوله) إني أنكر زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وأنكر زيارة قبر الوالدين وغيرهم، وإني أكفِّر من يحلف بغير الله، فهذه اثنتا عشرة مسألة جوابي فيها أن أقول: (سبحانك هذا بهتان عظيم) ولكن قبله من بهت محمدا صلى الله عليه وسلم أنه يسب عيسى بن مريم، ويسب الصالحين (تشابهت قلوبهم) ، وبهتوه بأنه يزعم أن الملائكة وعيسى وعزيرا في النار، فأنزل الله تعالى في ذلك {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} الآية ا- هـ1.   1 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 6 ص 40 ورقم 17 ص 144 ورقم 11 ص 64 ورقم 8 ص 52 ورقم 1 ص 2 1 ورقم 5 ص 37 ورقم 42 ص 288 ورقم 7 ص، ص 47، 49، وصيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان ص 412- 115. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 مسألة التكفير عند الشيخ: وأما مسألة التكفير- فالشيخ يجيب بأنه لا يكفر بالعموم، ولا يكفر جميع الناس ممن لم يتبعه، ولا يزعم أن أنكحتهم غير صحيحة، ولا يقول إن الناس من ستمائة سنة ليسوا على شيء1. ولا يكفر بالظن، فمن أظهر الإسلام وما تيقنا أنه أتى بناقض لا يكفر لأن اليقين لا يرفع بالظن2. ولا يكفر الشيخ بالموالاة يعني أنه لا يقول من تبع دين الله ورسوله وهو ساكن في بلده أنه ما يكفيه حتى يجيء عندنا ويوالينا بل مراده اتباع دين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في أيِّ أرض كانت، ولا يقول إن الذي ما يدخل تحت طاعتي فهوكافر، بل يقول: نشهد الله على ما يعلمه من قلوبنا بأن من عمل بالتوحيد وتبرأ من الشرك، وأهله فهو المسلم في أيِّ زمان وأيِّ مكان3. ولا يكفر الجاهل الذي لم تقم عليه الحجة4، ولا يكفر من يحلف بغير الله، ولا يكفر من توسل بالصالحين5، ولا يكفر ابن الفارض بعينه   1 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 5 ص 37 ورقم 7 ص 48 ورقم15ص 101، ورقم 1ص 12 ورقم 11 ص 64.. 2 المرجع السابق رقم 3 ص 24، 25. 3 المرجع السابق رقم 10 ص 60 ورقم 9 ص 58 ورقم 3 ص 25، 27. 4 المرجع السابق رقم 3 ص 25. 5 المرجع السابق رقم 11 ص 64 ورقم 1ص 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 ولا ابن عربي بعينه1، ولا يكفر البوصيري لقوله يا أكرم الخلق2. ولقد بين الشيخ هذا أتم بيان حيث قال: "وأما الكذب والبهتان، فمثل قولهم إِنَّا نكفر بالعموم، ونوجب الهجرة إلينا على من قدر على إظهار دينه، وأنا نكفر من لم يكفر ومن لم يقاتل، ومثل هذا وأضعاف أضعافه- يعني زعمهم أَنه يكفرمن لم يقم عليه الحجة ونحوذلك- يقول الشيخ: فكل هذا من الكذب والبهتان الذي يصدون به الناس عن دين الله ورسوله. وإذا كنا لا نكفر من عبد الصنم الذي على عبد القادر والصنم الذي على قبر أحمد البدوي وأمثالهما لأجل جهلهم وعدم من ينبههم فكيف نكفر من لم يشرك بالله إذا لم يهاجر إلينا ولم يكفر ويقاتل3 {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} 4 (النور: 16) . وأما القتال فيقول الشيخ فيه: "وأما القتال فلم نقاتل أحدا إلى اليوم إلا دون النفس والحرمة وهم الذين أتونا في ديارنا ولا أبقوا ممكنا، ولكن   1 المرجع السابق رقم 1ص 12. 2 المرجع السابق رقم 11 ص 64 ورقم 1ص 12. 3 مؤلفات الشيخ، القسم الثالث، الفتاوى، ص11، وروضة ابن غنام 1/179 -181، والدرر السنية 1/66. 4 مؤلفات الشيخ، القسم الثالث، الفتاوى، ص11، وروضة ابن غنام 1/179 -181، والدرر السنية 1/66. وقوله: لا نكفر من لم يكفر ومن لم يقاتل، أي لا نكفر من لم يكفر من كفرناه لعدم توفر دليل كفره لديه مثل ترفره لدينا والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 قد نقاتل بعضهم على سبيل المقابلة (وجزاء سيئة سيئة مثلها) وكذلك من جاهر بسب دين الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ما عرفه1. وقد أجاب الشيخ لما سأله الشريف عما يقاتلون عليه وعما يكفرون به الرجل؟ بجواب خلاصته: "أن أول الأركان الخمسة للإسلام الشهادتان، وقد أجمع العلماء على كفر تاركها ووجوب قتاله، أما الأربعة الباقية، فإذا أقر الإنسان بها وتركها تهاونا فالشيخ يقول: فنحن وإن قاتلناه على فعلها فلا نكفره بتركها، لأن العلماء اختلفوا في كفر التارك لها كسلا من غير جحود" 2. والشيخ يكفرمن كفر بإجماع المسلمين وهو الذي قامت عليه الحجة، ولا يكفر من لم تقم عليه الحجة. وفي بيان هذه النقطة من عقيدة الشيخ ننقل ما لخصه الشيخ وارتضاه عن ابن تيمية رحمه الله فيقول: "لما استحل طائفة من الصحابة والتابعين الخمركقدامة وأصحابه ظنوا أنها تباح لمن عمل صالحا على ما فهموا من آية المائدة، اتفق علماء الصحابة كعمر وعلي وغيرهما على أنهم يستتابون، فإن أصروا على الاستحلال كفروا وإن أقروا بالتحريم جلدوا، فلم يكفروهم بالاستحلال ابتداء لأجل الشبهة حتى يبين لهم الحق فإن   1 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية، رقم 5 ص 38. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الثالث، الفتاوى رقم 2 ص 9، وروضة ابن غنام 1/179- 181 والدرر السنية 1/65-67. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 أصروا كفروا، ولهذا كنت أقول للجهمية الذين نفوا أن يكون الله فوق العرش أنا لو وافقتكم كنت كافرا، وأنتم عندي لا تكفرون، لأنكم جهال، ونحن نعلم بالضرورة أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمته أن يدعوا أحدا من الأحياء ولا الأموات ولا الأنبياء ولا غيرهم، لا بلفظ الاستغاثة ولا بلفظ الاستعاذة ولا غيرهما كما أنه لم يشرع لهم السجود لميت، ولا إلى غير ميت ونحو ذلك بل نعلم أنه نهى عن ذلك كله، وأنه من الشرك الذي حرمه الله ورسوله، لكن لغلبة الجهل، وقلة العلم بآثار الرسالة في كثير من المتأخرين، لم يكن تكفيرهم بذلك حتى يبين لهم ماجاء به الرسول صلى الله عليه وسلم -، ولهذا ما بينت هذه المسألة قط لمن يعرف أصل دين الإسلام إلا تفطن له، وقال هذا أصل دين الإسلام، وكان بعض أكابر الشيوخ العارفين من أصحابنا يقول: هذه أعظم ما بينته لنا1. وفي موضع آخريقول الشيخ في تلخيصه عن ابن تيمية رحمه الله: "كل من استفرغ وسعه استحق الثواب، وكذلك الكفار ممن بلغته دعوة النبي صلى الله عليه وسلم - فآمن به وبما أنزل عليه، واتقى الله ما استطاع، كما فعل النجاشي وغيره، ولم تمكنه الهجرة ولا التزام جميع الشرائع لكونه ممنوعا من الهجرة، ومن إظهار دينه، وليس عنده من يعلمه   1 مؤلفات الشيخ، ملحق المصنفات، مسائل ملخصة رقم 105 ص 99، 100. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 الشرائع فهذا مؤمن من أهل الجنة، كما كان مؤمن آل فرعون مع قومه، وكامرأة فرعون، بل وكما كان يوسف مع أهل مصر، فإنهم كفار ولم يمكنه أن يفعل معهم كل ما يعرفه من الإسلام فإنه دعاهم إلى التوحيد والإيمان، فلم يجيبوه- قال تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ} (غافر: 34) . إلى أن قال الشيخ: وكثيرا ما يتولى الرجل بين المسلمين والتتار قاضيا بل وإماما وفي نفسه أمور من العدل يريد أن يعمل بها فلا يمكنه، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، وعمر بن عبد العزيز عوديَ، وأوذي على بعض ما أقامه من العدل، وقيل إنه سم على ذلك، فالنجاشي وأمثاله سعداء في الجنة، وإن لم يلتزموا من شرائع الإسلام ما لا يقدرون عليه بل يحكمون بالأحكام التي يمكنهم الحكم بها. إلى أن قال الشيخ بعد أن ذكر أحكام الفوائت من الصلاة وغيرها: إِن الحكم لا يثبت إلا مع التمكن من العلم، وأنه لا يقضي ما لم يعلم وجوبه، وهذا يطابق الأصل الذي عليه السلف وهو أن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها، فالوجوب مشروط بالقدرة، والعقوبة لا تكون إلا على ترك مأمور وفعل محظور، وبعد قيام الحجة" 1. وبذلك يتبين أن الشيخ لا يكفر أحداً بعينه إلا إذا قامت عليه الحجة   1 مؤلفات الشيخ، ملحق المصنفات، مسائل ملخصة رقم 121 ص 142- 146. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 غير أنه يبين من هم الذين لم تقم عليهم الحجة فيقول: "إن الذي لم تقم عليه الحجة، هو الذي حديث عهد بالإسلام، والذي نشأ ببادية بعيدة، أويكون ذلك في مسألة خفية مثل الصرف والعطف فلا يكفر حتى يعرف، وأما أصول الدين التي أوضحها الله وأحكمها في كتابه فان حجة الله هي القرآن فمن بلغه القرآن فقد بلغته الحجة". ويفرق الشيخ بين قيام الحجة وفهمها في جوابه لبعض من أشكل عليهم هل قامت الحجة على من بلغه القرآن أولا؟ فيقول: "ولكن أصل الإشكال أنكم لم تفرقوا بين قيام الحجة وبين فهم الحجة، فان أكثر الكفار والمنافقين من المسلمين لم يفهموا حجة الله مع قيامها عليهم كما قال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} (الفرقان: 44) ، وقيام الحجة، وبلوغها نوع، وقد قامت عليهم، وفهمهم إياها نوع آخر، وكفرهم (هو) ببلوغها إياهم وإن لم يفهموها. ويقول الشيخ: إن أشكل عليكم ذلك فانظروا قوله صلى الله عليه وسلم في الخوارج: "أينما لقيتموهم فاقتلوهم" وقوله: "شر قتلى تحت أديم السماء" 1.   1 الدرر السنية، ج ص 90-91. وانظر صحيح البخاري، ج8 ص 52 ك 88/ ب 6 وفيه: "يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإِن في قتلهم أجراً لمن قتلهم يوم القيامة". وفي سنن ابن ماجة ج1 ص 62، المقدمة باب 12 ولفظه حدثنا سهل بن أبي سهل ثنا سفيان بن عيينة، عن أبي غالب، عن أبى أمامة يقول: "شر قتلى قتلوا تحت أديم السماء، وخير قتيل من قتلوا، كلاب أهل النار ... قلت: يا أبا أمامة! هذا شيء تقوله؟ قال: بل سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم". قال الهيثمي: رواه الطبرانى ورجاله ثقات بعد أن أورده مطولا عما في ابن ماجة، مجمع الزوائد ج 6 ص 233-234. وفي مجمع الزوائد للهيثمي أيضا " ... فاقتلوهم هم شر البرية" قال: رواه أحمد ورجاله ثقات. وفي صحيح البخاري ج8 ص 51 ك 88/ ب 6 قال البخاري: "وكان ابن عمر يراهم شرار خلق الله، وقال: إنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين". قال الحافظ ابن حجر في الفتح، وصله الطبري في مسند عليّ من تهذيب الآثار، وقال سنده صحيح. وقال أيضا وقد ثبت في الحديث الصحيح المرفوع عن مسلم من حديث أبي ذر في وصف الخوارج "هم شرار الخلق والخليقة". وعند أحمد بسند جيد عن أنس مرفوعا مثله، وعند البزارمن طريق الشعبي عن مسروق عن عائشة قالت: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الخوارج فقال: هم شرار أمتي يقتلهم خيار أمتي. وسنده حسن. وعند الطبرانى من هذا الوجه مرفوعا هم شر الخلق والخليقة يقتلهم خير الخلق والخليقة وفي حديث أَبي سعيد عند أحمد "هم شر البرية". وفي رواية عبد الله بن أبي رافع عن علي عند مسلم "من أبغض خلق الله إليه". وفي حديث عبد الله بن خباب يعنى عن أبيه عند الطبراني "شر قتلى أظلتهم السماء وأقلتهم الأرض". وفي حديث أبي أمامة نحوه وعند أحمد وابن أبي شيبة من حديث أبي برزه مرفوعا في ذكر الخوارج "شر الخلق والخليقة يقر لها ثلاثاً". وعند ابن أبي شيبة من طريق عمير بن إسحق عن أبي هريرة "هم شر الخلق". قال الحافظ ابن حجر: "هم قوم مبتدعون سموا بذلك لخروجهم عن الدين وخروجهم على خيار المسلمين" انظر: فتح الباري ج12 باب قتل الخوارج والملحدين بعد إقامة الحجة عليهم ص 283-286. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 قال الشيخ: مع كونهم في عصر الصحابة ويحقر الإنسان عمل الصحابة معهم ومع إجماع الناس أن الذي أخرجهم من الدين هو التشدد والغلو والاجتهاد وهم يظنون أنهم يطيعون الله وقد بلغتهم الحجة ولكن لم يفهموها، وكذلك قتل علي رضي الله عنه الذين يعتقدون فيه وتحريقهم بالنار مع كونهم تلاميذ أصحابه مع عبادتهم وصلاتهم وصيامهم وهم يظنون أنهم على حق، وكذلك إجماع السلف على تكفير غلاة القدرية1، وغيرهم مع شدة عبادتهم وكونهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ولم يتوقف أحد من السلف في تكفيرهم لأجل كونهم لم يفهموا فإن هؤلاء كلهم لم   1 غلاة القدرية: هم الذين ينكرون علم الله المتقدم وكتابته السابقة لمقادير الخلائق قبل أن يخلقهم. قال القرطبي: "ولا شك في تكفير من يذهب إلى ذلك فإنه جحد معلوم من الشرع بالضرورة، لذلك تبرأ منهم ابن عمر وابن عباس وغيرهما من الصحابة، وكان أول من ظهر ذلك عنه بالبصرة معبد الجهنى، فلما بلغ الصحابة قول هؤلاء تبرأوا منهم وأنكروا مقالتهم"، انظر: تيسير العزيز في شرح كتاب التوحيد ص 621، 623. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 يفهموا1. ويقصد الشيخ بفهم الحجة أي: عقلها وعلى هذا فالأنواع والأعيان ممن بلغه القرآن والسنة وقامت عليه بهما الحجة فلم يسلم يكفر ببلوغ كلام الله إليه وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلوه من الموانع التي يعذربها أما كونه لم يعقل الحجة كعقل أبى بكر وعمر فلا يعذر بذلك. يقول الشيخ رحمه الله تعالي: فإذا كان المعين، يكفر إذا قامت عليه الحجة فمن المعلوم أن قيامها ليس معناه أن يفهم كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم مثل فهم أبي بكر رضي الله عنه بل إذا بلغه كلام الله ورسوله وخلا من شيء يعذر به فهوكافر كما كان الكفاركلهم تقوم عليهم الحجة بالقرآن مع قول الله: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ} (الأنعام: 25) وقوله: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} (الأنفال: 22) 2. وقول الله تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} (الفرقان: 44) ، وقال تعالى حكاية عن أهل جهنم: {لَوْ كُنَّا   1 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 36 ص 244-245 ورقم 34 ص 232-234، الدرر السنية ج8 ص 0 9- 91. 2مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 23 ص 220- 221 ورقم 36 ص 244-245، والدرر السنية ج8 ص 90، 91. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (تبارك: 10) . وقال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} (الكهف:103-104) . وهكذا كل من بلغه الحكم الشرعي من المسلمين فقد قامت عليه الحجة ببلوغ الحكم الشرعي إليه وإِن لم يعقل حكمته وأسراره ومعناه فهو مسلم عليه أن يلتزم الحكم الشرعي، والمرجع في الأحكام الشرعية هو علم علماء الإسلام المشهود لهم بذلك من قرآن وسنة وإِجماع وقياس. ومرجع الحكم على أعيان الناس بتركهم الحكم الشرعي كترك أحد المعينين الالتزام بالتوحيد ومع ذلك يكفر من التزم التوحيد ويصد الناس عن التوحيد بعد معرفته أنه دين الله ودين رسوله صلى الله عليه وسلم ولا يفرح به ولا يحبه ولا يحب أهله ولا يتبرأ من الشرك وأهله فهذا مرجعه إلى علم الخاص والعام ممن يقبل خبرهم وعلمهم1. ولما احتج بعض الناس على الشيخ في تكفيره من قامت عليه الحجة الرسالية بفهم فهمه على غير وجهه من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية نقل الشيخ كلام شيخ الإسلام ابن تيمية بعينه وبين أنه لا متعلق لأحد بشيء من كلام هذا الإمام فقال الشيخ رحمه الله: "وأنا أذكر لفظه الذي احتجوا به على زيفهم". قال رحمه الله تعالى: "أَنا من أعظم الناس نهيا   1 انظر: مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 31 ص 204- 210. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 عن أن ينسب معين إلى تكفير أو تبديع أو تفسيق أو معصية إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافرا تارة وفاسقا أخرى وعاصيا أخرى- انتهى كلامه- وهذه صفة كلامه في المسألة في كل موضع وقفنا عليه من كلامه لا يذكر عدم تكفير المعين إلا ويصله بما يزيل الإِشكال أن المراد بالتوقف عن تكفيره قبل أن تبلغه الحجة وإذا بلغته حكم عليه بما تقتضيه تلك المسألة من تكفير أوتفسيق أومعصية وصرح رضي الله عنه أيضا أن كلامه أيضا في غير المسائل الظاهرة فقال في الرد على المتكلمين لما ذكرأن بعض أئمتهم توجد منه الردة عن الإسلام كثيرا قال: وهذا إِن كان في المقالات الخفية فقد يقال إنه فيها مخطىء ضال لم تقم عليه الحجة التي يكفرتاركها لكن هذا يصدرعنهم في أموريعلم الخاصة والعامة من المسلمين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بها وكفر من خالفها مثل أمره بعبادة الله وحده لا شريك له ونهيه عن عبادة أحد سواه من الملائكة والنبيين وغيرهم فإنَّ هذا أظهر شعائر الإسلام ومثل إيجاب الصلوات الخمس وتعظيم شأنها ومثل تحريم الفواحش والربى والخمر والميسر ثم تجد كثيرا من رؤوسهم وقعوا فيها فكانوا مرتدين وأبلغ من ذلك أن منهم من صنف في دين المشركين كما فعل أبو عبد الله الرازي (يعني الفخر الرازي) 1 قال وهذه ردة صريحة باتفاق المسلمين- انتهى كلامه. يعني ابن تيمية، ثم علق الشيخ على كلامه بقوله:   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد ص 289- 290. وانظر: نقض المنطق، لشيخ الإسلام ابن تيمية ص 45-47. وقال الذهبى عن الفخر الرازى: "رأس في الذكاء والعقليات، لكنه عري من الآثار، وله تشكيكات على مسائل من دعائم الدين تورث حيرة ... وله "كتاب السر المكتوم في مخاطبة النجوم، سحر صريح، فلعله تاب من تأليفه إن شاء الله تعالى" (ميزان الاعتدال ج3 ص 340 ولسانه ج 4 ص 426) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 فتأمل هذا وتأمل ما فيه من تفصيل الشبهة التي يذكرها أعداء الله لكن من يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا. ومن أراد مزيد بيان وإيضاح في منهج الشيخ في التكفير فنحيله على كتاب " مصباح الظلام " في الرد على من كذب على الشيخ الإمام ونسبه إلى تكفير أهل الإيمان والإسلام، تأليف الشيخ عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ، أمر بطبعه الأمير سعود بن عبد العزيز آنذاك، الملك فيما بعد، وصححه وعلق عليه محمد حامد الفقي- رئيس جماعة أنصار السنة المحمدية. قال الشيخ عبد اللطيف في أوله: وقد رأيت لبعض المعاصرين كتابا يعارض به ما قرر شيخنا من أصول الملة والدين، ويجادل بمنع تضليل عباد الأولياء والصالحين، ويناضل عن غلاة الرافضة والمشركين، الذين أنزلوا العباد بمنزلة الله رب العالمين وأكثر التشبيه بأنهم من الأمة، وأنهم يقولون لا إله إلا الله، وأنهم يصلون ويصومون، ونسي في ذلك عهود الحمى، وما قرره كافة الراسخين من العلماء، وأجمع عليه الموافق والمخالف من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 الجمهور والدهماء، ونص عليه الأكابر والخواص من اشتراط العلم والعمل في الإتيان بكلمة الإخلاص، والحكم بموجب الردة على فاعل ذلك من سائر العبيد والأشخاص، وسمى كتابه "جلاء الغمة عن تكفير هذه الأمة"1 ومراده بالأمة هنا من عبد آل البيت وغلا فيهم وعبد الصالحين ودعاهم واستغاث بهم، وجعلهم وسائط بينه وبين الله يدعوهم ويتوكل عليهم- هذا مراده- ولكنه أوقع عليهم لفظ الأمة ترويجا على الأغمار والجهال. ولبسا للحق بالباطل، وهويعلم ذلك وسيجزيه الله ما وعد به أمثاله من المفترين. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَبذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} فلكل مفتر نصيب منها بحسب جرمه وعلى قدر ذنبه. وقد رأيت على هذا الرجل من الذلة والمهانة مدة حياته ما هو ظاهر بين يعرفه من عرفه. وقد بين الشيخ عبد اللطيف هذه المسألة في منهج الشيخ بيانا   1 لم يصرح الشيخ عبد اللطبف باسم مؤلفه، لأن الكتاب وجد في تركة عثمان بن منصور وشهد عدلان أنه بخطه، ثم ظهر الكتاب، في بريدة، وزعم من وجد عنده أنه تصنيف عثمان بن منصور فأخذه الشيخ محمد بن عمر آل سليم معه إلى الرياض عام 1291هـ فرد عليه الشيخ عبد اللطيف بهذا الرد. انظر: علماء نجد خلال ستة قرون، ج3 ص 698، 699. وقوله: عهود الحمى.. يعنى حمى التوحيد كما حماها رسول الله صلى الله عليه وسلم -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 واسعا، ورد على من افترى عليه في هذه النقطة ردا كافيا واستغرق رده ثلثمائة وتسعاً وخمسين صفحة من القطع الوسط. وقد تناول هذه النقطة الشيخ حسين بن غنام في تاريخه، وقال: إن الشيخ كان ملتزما بالمنهج السوي ولم يتسرع لسانه بتكفير أناس أشربت قلوبهم بالمعاصي وبما كانوا عليه من القبائح الشركية حتى نهضوا عليه وعلى جماعته وصاحوا بتكفير من يدعو إلى دين الله ورسوله، وقالوا إِن كان الذي نفعل من الدعوات والاعتقادات بأهل القبور من تلك الأزمان شرك وكفر فنحن كفار، وخافوا أن يظهر أمره فإذا ظهرخافوا أن يحكم عليهم بما تسرعوا هم به عليه فأشاعوا أن ابن عبد الوهاب يجعلكم كفارا ويكفركل الناس بقصد التنفير والتحذير1. والحقيقة:- أن منهج الشيخ يتركزعلى أربع نقاط اشتهر بها: 1- بيان التوحيد، والدعوة إليه على حين غربته، في أناس وزمان لم يكن قد طرق آذان أكثرهم هذا البيان، وأظهر لهم الشيطان أن الإخلاص وإفراد الله بالعبادة تنقص للصالحين وتقصير في حقوقهم فصدق عليهم إبليس ظنه، فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين2. 2- بيان الشرك والبراءة منه والتحذير عنه ولو كان في كلام وعمل   1 انظر: روضة ابن غنام ج1ص 33-36. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 3 ص 24، 25 ورقم 5 ص 36، وانظر: القسم الأول، العقيدة، ص 393. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 من ينتسب إلى العلم أو العبادة من دعوة غير الله أو قصده بشيء من العبادة ولو زعم الزاعمون أنهم يريدون بذلك القصد شفاعة هؤلاء المدعوين أو المقصودين بشيء من العبادة عند الله في زمان وأناس يظن أكثرهم أن هذا أفضل القربات وأجل الطاعات لأن الشيطان أظهرلهم هذا الشرك في صورة محبة الصالحين واتباعهم فأشربت قلوبهم هذا الشرك والعياذ بالله1. 3- تكفير من بان له التوحيد وأنه دين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ثم أبغضه ونفرالناس عنه وجاهد في صد الناس عن الدخول فيه. وكذا من عرف الشرك وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بانكاره وأقر بذلك ثم مدحه وحسنه للناس وزعم أن أهله لا يخطئون لأنهم السواد الأعظم. 4- الأمر بقتال هؤلاء المشركين خاصة حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله كما قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} (البقرة: 193) . وفي الأنفال قال الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} 2 (الأنفال: 39) .   1 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 3 ص 24-25، ورقم 5 ص 36. وانظر: القسم الأول، العقيدة، ص 393. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 15 ص 104 ورقم 16 ص104، 107 ورقم 5 ص 36 ورقم 14ص 95 ورقم 22 ص 150 ورقم 3 ص 24، 25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 وهذا بعد إقامة الحجة عليهم من كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإجماع السلف الصالح من الأئمة كما قدمنا. قال الشيخ: "فلما اشتهر عني هؤلاء الأربع صدقني من يدعي أنه من العلماء في جميع البلدان في التوحيد وفي نفي الشرك، وردوا علي التكفير والقتال" 1. ويقولون: التوحيد زين والدين حق، إلا التكفير والقتال. والشيخ يقول: "اعملوا بالتوحيد ودين الرسول صلى الله عليه وسلم -، ويرتفع حكم التكفير والقتال" 2. ومع أن الشيخ يجل الإمام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وابن رجب والذهبي وابن كثير وغيرهم من أئمة السلف رضي الله عنهم، فليس الشيخ رحمه الله إمعة يقلد شيخ الإسلام أوغيره تقليدا أعمى ويتعصب له ولكن يلتزم طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعتقد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا الحق، وكل قوله يعمل به ولا يطرح منه شيء وأما ما عداه فيؤخذ من قوله ويترك حتى شيخ الإسلام ابن تيمية يترك قوله إذا غلط فيه. يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب في ذلك: على أن الذي نعتقده وندين الله به ونرجوا أن يثبتنا عليه أَنه لو غلط هو أو أجل منه في هذه المسألة وهي مسألة المسلم إذا أشرك بالله بعد بلوغ الحجة أو   1 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 3 ص 24، 25. 2 المرجع السابق رقم 27 ص183. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 المسلم الذي يفضل هذا على الموحدين أو يزعم أنه على حق أو غير ذلك من الكفر الصريح الظاهر الذي بينه الله ورسوله وبينه علماء الأمة أنا نؤمن بما جاءنا عن الله وعن رسوله من تكفيره ولو غلط من غلط فكيف والحمد لله ونحن لا نعلم عن واحد من العلماء خلافا في هذه المسألة. وإنما يلجأ من شاق فيها إلى حجة فرعون {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى} أوحجة قريش {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ} 1. وننقل عن الشيخ حسين بن مهدي النعمي الصنعاني شهادة بذلك فقال رحمه الله: "قالوا: إنَّ قائل تلك المقالة- وهي اتجاه وجوب تخريب المشاهد- قلد ابن تيمية في ذلك. ومن تدبر أصول القوم: وجدهم دلوا على أنهم من جملة العامة. ولا أدري من أين جاء لهم ذلك؟. نعم هو نتيجة من نتائج الحكم بتعذر الاجتهاد. ومن حق الباحث: أن يدلي بما يوافق خصمه على صحته، أو بحجة قاهرة، تؤذن أن دفعها مكابرة، وأن التمسك بمعارضها قصور، أو ضلال. وكون من ذكروه قلد ابن تيمية: بطلانه معلوم غير موهوم، لما أنه ينهى عن التقليد وينادي بمنعه2. ولأن عامة مباحثه مبنية على تحرير المقام بمبلغ نظره، وإن كان لا سبيل إلى رفع الخطأ جملة في كل بحث.   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، مفيد المستفيد، ص 290- 291. 2 يقصد التقليد الذى يحمل على ترك ما أنزل الله على رسوله من الكتاب والحكمة بعد معرفته لأن فلانا قال بخلافه أي تقليد شخص بلا حجة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 وذلك منه من دون تقليد لابن تيمية ولا غيره، ولا احتجاج بقول أحد قط، أو التدين به من دون استبانته منه حسبما علم. وليس معصوما كغيره أيضا. ولأنه في خصوص هذه المسألة أبرزحجته، وحرر من البرهان ما استطاع. فأيُّ معنى لقولكم أنه قلد ابن تيمية؟ والحال أنكم لم تأتوا عن أنفسكم ولا فيما نقلتم شيء يقابل بعض ما أقامه في هذه المسألة من أدلة الكتاب والسنة، التى لا يردها إلا مشاق لله ولرسوله؟ ولأنه قد ناقض ابن تيمية في كثير من المسائل ذهب إليها، لظهور ضعف كلامه عنده. فلو كان واقفا على تقليده- كما وقفتم على رسوم شرح المنهاج1 وغيره- لما فعل. فما باله يسوغ لنفسه تقليد ابن تيمية في هذه المسألة دون غيرها؟ فلقد حكيتم عجبا. وقد قرأنا عليه وعرفنا مذهبه وأنتم لا تعرفونه، إنما يبلغكم عنه ما يبلغ، فتأخذون في مضادته بلا بصيرة، ولا وازع لكم عن الرجم بالظنون والأوهام، ولا علم يهدي إلى تمييز الصحيح من ذي السقام. فالعتب عليكم: أترضون أن يكون من خطاب ما لا يفهم؟ وكفى دليلا على تنكبكم الصواب: ذكركم الأقوال من فروع المذهب في مقابلة مناهي صريحة صحيحة مشهورة في الصحاح وغيرها، ثم تعرضكم لشيخ من شيوخ الإسلام، وإمام من جلة الأئمة الأعلام-   1 المنهاج: كتاب فقه معتمد عند الشافعية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 وهو ابن تيمية- بأنه ضال مضل، وما كان- رحمه الله تعالى- أهلا لهذا. والرجل أمره شهير، وأقواله ومذاهبه يتناقلها الجم الغفير. وما مثله يحتاج إلى كشف عن رفيع محله، وقد تعرض له ولتلميذه الإمام محمد بن أبي بكر ابن أيوب الزرعي- وهو ابن قيم الجوزيه- رحمه الله تعالى بعض القائلين. وهما إمامان جليلان لاحقان بأماثل السلف. كالشافعي، وأحمد، وإسحاق، وغيرهم، ومؤلفاتهما وتراجمهما ونقل أهل العلم لأقوالهما ومذاهبهما ونفائس تحقيقهما: كافية شافية مقنعة لمن عدل وأنصف1. والشيخ يرفض الاختلاف والتنازع في أمور ترجع كلها إلى الصواب، وما يحصل النزاع فيها والاختلاف إلا لقلة العلم والجهل بتفاصيل المسائل وقواعد الأحكام الشرعية وهو الذي يسمى اختلاف التنوع. وأورد الشيخ بعض القواعد لذلك مثل: إذا سن النبي صلى الله عليه وسلم أمرين وأراد أحد أن يأخذ بأحدهما ويترك الآخر أنه لا ينكر عليه كالقراءات الثابتة، ومثل الذين اختلفوا في آية فقال أحدهما أَلم يقل الله كذا؟ وقال الآخر: ألم يقل الله كذا؟ وأنكر النبي صلى الله عليه وسلم - عليهم، وقال كل منكما محسن، فأنكر الاختلاف وصوب الجميع في الآية2.   1 معارج الألباب في مناهج الحق والصواب، تأليف الشيخ حسين بن مهدي النعمي ص 103 -104. 2 الدرر السنية، ط 2 ج 4/ 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 ويبين الشيخ أن هذا المنهج الذي سارعليه ليس من عنده، أومن كتاب وجده ليس عليه عمل، أوعن أهل مذهبه، ولكنه أمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وإِجماع العلماء في كل مذهب من المذاهب الأربعة. ومن يؤمن بالله واليوم الآخر لا ينبغي له أن يعرض عن هذا لأجل أهل زمانه، أوأهل بلده، أو لأجل أن أكثر الناس في زمانه أعرضوا عنه1. ويقول الشيخ في رسالته إلى الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف: "وأما ما ذكر لكم عني فإني لم آته بجهالة بل أقول ولله الحمد والمنة وبه القوة إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا مسلما وما كان من المشركين، ولست ولله الحمد أدعو إلى مذهب صوفي أو فقيه أو متكلم أو إمام من الأئمة الذين أعظمهم مثل ابن القيم والذهبي وابن كثير وغيرهم، بل أدعو إلى الله وحده لا شريك له وأدعو إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أوصى بها أول أمته وآخرهم وأرجو أني لا أَردُّ في الحق إذا أتاني، بل أشهد الله وملائكته وجميع خلقه إِن أتانا منكم كلمة من الحق لأقبلها على الرأس والعين ولأضربن الجدار بكل ما خالفها من أقوال أئمتي حاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لا يقول إلا الحق وصفة الأمر غير خاف عليكم ما درج عليه رسول   1 مؤلقات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 8 ص 53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعون وأتباعهم والأئمة كالشافعي وأحمد وأمثالهما ممن أجمع أهل الحق على هدايتهم وكذلك ما درج عليه من سبقت له من الله الحسني من أتباعهم، وغير خاف عليكم ما أحدث الناس في دينهم من الحوادث وما خالفوا فيه طريق سلفهم، ووجدت المتأخرين أكثرهم قد غير وبدل، وسادتهم وأئمتهم وأعلمهم وأعبدهم وأزهدهم مثل ابن القيم والحافظ الذهبي والحافظ العماد ابن كثير والحافظ ابن رجب قد اشتد نكيرهم على أهل عصرهم". ثم يستطرد الشيخ رحمه الله قائلا: "فإذا استدل عليهم أهل زمانهم بكثرتهم وإطباق الناس على طريقتهم قالوا هذا من أكبر الأدلة على أَنه باطل لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قد أخبر أن أمته تسلك مسالك اليهود والنصارى حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، وقد ذكر الله في كتابه أنهم فرقوا دينهم وكانوا شيعا وأنهم كتبوا الكتاب بأيديهم وقالوا هذا من عند الله وأنهم تركوا كتاب الله والعمل به وأقبلوا على ما أحدثه أسلافهم من الكتب وأخبر أنه وصاهم بالاجتماع، وأنهم لم يختلفوا لخفاء الدين بل اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (المؤمنون: 53) ، والزبر الكتب، فإذا فهم المؤمن قول الصادق المصدوق: "لتتبعن سنن من كان قبلكم " وجعله قبلة قلبه تبين له أن هذه الآيات وأشباهها ليست على ما ظن الجاهلون أنها كانت في قوم كانوا فبانوا، بل يفهم ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 ورد عن عمر رضي الله عنه أنه قال في هذه الآيات مضى القوم وما يعني به غيركم، وقد فرض الله على عباده في كل صلاة أن يسألوه الهداية إلى صراطه المستقيم صراط الذين أنعم عليهم الذين هم غير المغضوب عليهم ولا الضآلين. فمن عرف دين الإسلام وما وقع الناس فيه من التغيير له عرف مقدار هذا الدعاء وحكمة الله فيه1. وفي مخاطبته لابن عبد اللطيف يقول: "وإِن أردت النظر في أعلام الموقعين، فعليك بمناظرة في أثنائه عقدها بين مقلد وصاحب حجة، وإن ألقى في ذهنك أنَّ ابن القيم مبتدع وأن الآيات التي إستدل بها ليس هذا معناها فاضرع إلى الله واسأله أن يهديك لما اختلفوا فيه من الحق وتجرد إلى الله ناظرا أو مناظرا، واطلب كلام أهل العلم في زمانه مثل الحافظ الذهبي وابن كثير وابن رجب وغيرهم ومما ينسب للذهبي رحمه الله: العلم قال الله قال رسوله ... قال الصحابة ليس خلف فيه ما العلم نصبك للخلاف سفاهة ... بين الرسول وبين رأي فقيه فإن لم تتبع هؤلاء فانظركلام الأئمة قبلهم كالحافظ البيهقى في كتاب المدخل، والحافظ ابن عبد البر والخطابي وأمثالهم. ومن قبلهم كالشافعي وابن جرير وابن قتيبة وأبي عبيد فهؤلاء إليهم المرجع في كلام الله وكلام رسوله وكلام السلف ... وتأمل ما في كتاب (الاعتصام)   1 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 37 ص 252-253. 2 يعنى كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة من صحيح البخارى ج8 ص 137. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 للبخاري وما قال أهل العلم في شرحه، وهل يتصور شيء أصرح مما صح عنه صلى الله عليه وسلم - أن أمته ستفترق على أكثرمن سبعين فرقة أخبر أنهم كلهم في النار إلا واحدة، ثم وصف تلك الواحدة أنها التى على ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم - وأصحابه1. ويقول الشيخ لمن خالفه: الكتب عندكم انظروا فيها ولا تأخذوا من كلامي شيئا لكن إذا عرفتم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي في كتبكم فاتبعوه ولو خالفه أكثر الناس. ويذكر أيضا أنَّ هذا الذي أنكروا عليه وأبغضوه وعادوه من أجله إذا سألوا عنه كل عالم في الشام واليمن أوغيرهم يقول: هذا هو الحق وهو دين الله ورسوله، ولكن ما أقدر أن أظهره في مكاني لأجل أن الدولة ما يرضون، وابن عبد الوهاب أظهره لأن الحاكم في بلده ما أنكره بل لما عرف الحق اتبعه، هذا كلام العلماء2. وحاصل ما يقرره الشيخ أمران: فالأمر الأول: هو قوله: لا تطيعوني ولا تطيعوا إلا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي في كتبكم. والأمر الثاني: أن كل عاقل مقر به لكن ما يقدر أن يظهره. ويقول الشيخ: "فنحن ولله الحمد متبعون غير مبتدعين " 3 مقلدون   1 المصدر السابق ص 358-359. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 4 ص 32 ورقم 28 ص 189ورقم 8 ص 55. 3 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 5 ص 36 ورقم 6 ص 40، 41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 للكتاب والسنة وصالح سلف الأمة. على مذهب أهل السنة والجماعة، الذي هو على أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وعليه الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته والتابعون وأتباعهم، وإجماع علماء المسلمين وأئمة الدين ممن أجمع أهل الحق على هدايتهم ودرايتهم مثل الأئمة المقتدى بهم من أهل الحديث والفقه كالأئمة الأربعة، أبي حنيفة النعمان بن ثابت، ومالك بن أنس، ومحمد بن إدريس، وأحمد ابن حنبل رحمهم الله تعالى ورضي عنهم أجمعين، وكذلك ما درج عليه الأعلام من أتباع هؤلاء الأئمة فنحن على ذلك وإن خالفنا غالب الناس في ما أحدثوا في دينهم من الحوادث لأننا على ما كان عليه أهل السنة والجماعة الذين هم الفرقة الناجية وهم سلف الأمه وأئمتها من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وإن صرنا غرباء، فطوبى للغرباء1. ويخص الإمام أحمد بن حنبل بالذكر لأنه إمام أهل السنة فهو يعتقد   1 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 37 ص 252-259 ورقم 1ص 12ورقم 16 ص 106، 107ورقم 28 ص 189 ورقم 8 ص 53، 54، 55 ورقم 11ص 73،74 ورقم 14 ص 96،98 ورقم 17 ص 111ورقم 5 ص 36 ورقم 34 ص 235-237 ورقم 22 ص150 ورقم 38 ص 272-273 ورقم 4 ص 32 ورقم 39 ص 277 ورقم 7 ص 48 ورقم 47 ص308، 309، ومؤلفات الشيخ، القسم الثالث، الفتاوى ص 1 3، 35 ص 88، 89 والقسم الأول، العقيدة، مفيد المستفيد ص 285، وص 311- 314-324، مجموعة الرسائل النجدية ج1/ ص 32. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 اعتقاده جملة وتفصيلا ويحمد الله على ذلك. وكان كثيرا ما يتمثل بثلاثة أبيات هي: بأي لسان أشكر الله إنه ... لذو نعمة قد أعجزت كل شاكر حباني بالإسلام فضلا ونعمة ... عليَّ وبالقرآن نور البصائر وبالنعمة العظمى اعتقاد ابن حنبل ... عليها اعتقادي يوم كشف السرائر1 ويقول الشيخ عبد الله بن الشيخ في رسالته التي كتبها لما دخلوا مكة سنة 1218هـ "مذهبنا في أصول الدين مذهب أهل السنة والجماعة وطريقتنا طريقة السلف التي هي الطريق الأسلم بل والأعلم والأحكم خلافا لمن قال طريق الخلف أعلم" 2. وأما في الفروع فهو أيضا على مذهب الإمام أحمد بن حنبل يقول الشيخ: "أما مذهبنا فمذهب الإمام أحمد بن حنبل إمام أهل السنة، ولا ننكر على أهل المذاهب الأربعة إذا لم يخالف نص الكتاب والسنة وإجماع الأمة وقول جمهورها" 3 ويقول الشيخ عبد الله بن الشيخ في رسالته التي كتبها لما دخلوا مكة سنة 1218هـ منتصرين: ولا نستحق مرتبة الاجتهاد المطلق ولا أحد   1 ابن بشر، عنوان المجد، ج1/ 91. 2 الدرر السنية، ط 2، ج1، ص 126. 3 مؤلفات الشيخ، القسم الحامس، الشخصية رقم 16 ص 107 ورقم 6 ص 40، 41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 لدينا يدعيها إلا أننا في بعض المسائل إذا صح لنا نص جلي من كتاب أو سنة غير منسوخ ولا مخصص ولا معارض بأقوى منه وقال به أحد الأئمة الأربعة أخذنا به وتركنا المذهب كإرث الجد والإخوة فإِنا نقدم الجد بالإرث وإن خالف مذهب الحنابلة1. والشيخ يرى أن إطلاق القول: بأنه لا إنكار في مسائل الاجتهاد غير مسلم به ولكن يلزم قيده ببعض مسائل الخلاف التي لم يتبين فيها الصواب، أما بعضها الآخر الذي تبين فيه الصواب فلا يسوغ مخالفتها بل ينكر على المخالف كائنا من كان2. ويستنبط الشيخ من تعاليم الرسول صلى الله عليه وسلم لأمير الجيش أو السرية الذي أمره إذا حاصر أهل حصن فأرادوه أن يترك لهم على حكم الله فلا يترك لهم، ولكن يترك لهم على حكمه فإنه لا يدري أيصيب فيهم حكم الله أم لا؟. رواه مسلم. قال الشيخ فيه كون الصحابي يحكم عند الحاجة بحكم لا يدري: أيوافق حكم الله أم لا؟ 3. ويقول الشيخ عبد الله بن الشيخ: "ولا مانع من الاجتهاد في بعض المسائل دون بعض فلا مناقضة لعدم دعوى الاجتهاد وقد سبق جمع من   1 الدرر السنية، ط 2، ج1، ص 126. 2 الدرر السنية، ط 2، ج 4/ ص 4، 5،. 3 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد ص 143. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 أئمة المذاهب الأربعة إلى اختيارات لهم في بعض المسائل مخالفين للمذاهب الملتزمين تقليد صاحبه1. وأما كتب المتأخرين رحمهم الله فإِن الشيخ يذكر أنها عنده وعند أصحابه ويعملون بما وافق النص منها وما لا يوافق النص لا يعملون به2. وأما المذاهب الأخرى فإن الشيخ عبد الله بن الشيخ يقول أيضا: "إن مذاهب غير الأربعة ليست منضبطة كالرافضة والزيدية والإمامية ونحوهم ولا نقرهم ظاهرا على شيء من مذاهبهم الفاسدة" 3. وهكذا فإِن الشيخ لا يتعصب للمذاهب من غير حجة ولا يقلد أحدا من غير دليل ولكنه ينشد الحق ويدور معه حيث دار ويتبع من اتبع الدليل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة وقول جمهورها ولا يعارض أمر الله ورسوله بالرأي4، وينصف خصمه فيقول "وأنا أشهد الله وملائكته وأشهدكم (يعني علماء البلد الحرام) على دين الله ورسوله أني متبع لأهل العلم وما غاب عني من الحق وأخطأت فيه فبينوا لي، وأنا أشهد الله أني أقبل على الرأس والعين والرجوع إلى الحق   1 الدرر السنية، ط 2، ج1ص 127. وانظر: مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 6 ص 41. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 15 ص 100. 3 الدرر السنية، ط 2، ج1، ص 126. 4 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، الإعراف، قصة آدم وإِبليس ص 85، القسم الثالث، الفتاوى ص 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 خير من التمادي في الباطل" 1. ويقول في رسالته إلى عبد الوهاب بن عبد الله بن عيسى: "فأنا ولله الحمد لم آت الذي أتيت بجهالة، وأشهد الله وملائكته أنه أتاني منه (يعني والده عبد الله بن عيسى) أو ممن دونه في هذا الأمر كلمة من الحق لأقبلنها على الرأس والعين وأترك كل قول إمام اقتديت به حاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم - فإنه لا يفارق الحق 2، ولا ينجي إلا اتباعه صلى الله عليه وسلم " 3. ويرد الشيخ على من يرى أن من سلك هذا المسلك فقد نسب نفسه إلى الاجتهاد وترك الاقتداء بأهل العلم بأن هذا المسلك هو في الحقيقة الاقتداء بأهل العلم، فإِنهم قد وصوا الناس بذلك، ومن أشهرهم كلاماً في ذلك الإمام الشافعي وإذا خالف الشيخ من أجل الدليل عالما من   1 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 6 ص 42، رقم 7 ص 48 ورقم 15 ص100ورقم 19ص 126،127 ورقم 0 2 ص 130، 140- 141ورقم 11 ص 72-76 ورقم 24 ص 167 ورقم 22 ص 157، 158 ورقم 21 ص 144-145ورقم 28 ص 189 ورقم 32 ص 212ورقم، 45 ص 301. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 39 ص 276-277. وانظر رقم 37 ص252. 3 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 4 ص 33 ورقم 1ص12 ورقم 6 ص 0 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 علماء الشافعية أوغيرهم فإنه لم يخالفه وحده من غير إمام سابق قد خالفه من أجل الدليل بل قد اتبع من هو مثل ذلك العالم الذي قد خالف واتبع الدليل والنص من الوحي ويقول الشيخ: "لم أستدل بالقرآن والحديث وحدي حتى يتوجه على ما قيل (من أني نسبت نفسي إلى الاجتهاد) ولا خلاف في أن أهل العلم إذا أجمعوا: وجب اتباعهم، ولكن الشأن إذا اختلفوا هل يجب قبول الحق ممن جاء به ورد المسألة إلى الله والرسول صلى الله عليه وسلم مقتدين بأهل العلم؟ أو ننتحل قول بعضهم من غير حجة ونزعم أن الصواب في قوله؟ فالشيخ رحمه الله على المذهب الأول يدعو إليه ويناظر عليه، وهو الحق كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} 1 (النساء: 59) . ويقول في رسالته إلى عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف الشافعي مذهبا من علماء الأحساء: إنيّ إذا خالفت قول عالم فقد خالفت قوله لقول من هو أعلم منه أو مثله إذا كان معه الدليل ولم آت بشيء من عند نفسي فإِن سمعتم أني أفتيت بشيء خرجت فيه من إجماع أهل العلم توجه   1 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 11ص 62، 63 ورقم 37 ص 252-262 والقسم الثالث، الفتاوى ص 27 وص 31-33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 عليّ القول1. وفي جواب من الشيخ حسين والشيخ عبد الله ابني الشيخ لما سئلا عن عقيدة الشيخ في العمل في العبادة قالا: (عقيدة الشيخ رحمه الله تعالى التي يدين الله بها. هي عقيدتنا وديننا الذي ندين الله به وهو عقيدة سلف الأمة وأئمتها من الصحابة والتابعين لهم بإِحسان وهو اتباع ما دل عليه الدليل من كتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم - وعرض أقوال العلماء على ذلك، فما وافق كتاب الله وسنة رسوله قبلناه وأفتينا به، وما خالف ذلك رددناه على قائله وهذا هو الأصل الذي أوصانا الله به في كتابه حيث قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} الآية- أجمع المفسرون على أن الرد إلى الله هوالرد إلى كتابه، وأن الرد إلى الرسول هو الرد إليه في حياته، وإلى سنته بعد وفاته والأدلة على هذا الأصل كثيرة في الكتاب والسنة ليس هذا موضع بسطها، وإذا تفقه الرجل في مذهب من المذاهب الأربعة ثم رأى حديثا يخالف مذهبه فاتبع الدليل وترك مذهبه كان هذا مستحبا بل واجب عليه إذا تبين له الدليل ولا يكون مخالفا لإمامه الذي اتبعه فإن الأئمة كلهم متفقون على هذا   1 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 37 ص 265 بتصرف قليل مع الحفاظ على المعنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 الأصل أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد رضي الله عنهم أجمعين. قال الإمام مالك رحمه الله كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الشافعي رحمه الله لأصحابه إذا صح الحديث عندكم فاضربوا بقولي الحائط وفي لفظ إذا صح الحديث فهو مذهبي. وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله عجبت لقوم عرفوا الإِسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان والله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أتدري ما الفتنة- الفتنة الشرك لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك، وقال لبعض أصحابه لا تقلدوني ولا تقلدوا مالكا ولا الشافعي وتعلموا كما تعلمنا، وكلام الأئمة في هذا كثير جدا مبسوط في غير هذا الموضع. وأما إذا لم يكن عند الرجل دليل في المسألة يخالف القول الذي نص عليه العلماء أصحاب المذاهب فنرجو أنه يجوز العمل به لأن رأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا، وإنما أخذوا الأدلة من أقوال الصحابة فمن بعدهم ولكن لا ينبغي الجزم أن هذا شرع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم حتى يتبين الدليل الذي لا معارض له في المسألة، وهذا عمل سلف الأمة وأئمتها قديماً وحديثاً والذي ننكر هو التعصب للمذهب وترك اتباع الدليل، إذا تبين فهذا الذي أنكرناه وأنكره العلماء في القديم والحديث1.   1 الدرر السنية ط 2، ج 1ص 122، 123 ومؤلفات الشيخ، القسم الخاص، الشخصية رقم 11ص 62، 63 ورقم 37 ص 259-260. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 ويرى الشيخ أنه ينبغي، للمؤمن أن يجعل همه ومقصده معرفة أمرالله ورسوله صلى الله عليه وسلم في مسائل الخلاف، والعمل بذلك، ويحترم أهل العلم ويوقرهم ولو أخطأوا، لكن لا يتخذهم أربابا من دون الله- هذا طريق المنعم عليهم. أما اطراح كلامهم وعدم توقيرهم فهو طريق المغضوب عليهم. وأما اتخاذهم أربابا من دون الله، إذا قيل قال الله قال رسوله قيل هم أعلم منا- فهذا هو طريق الضالين1. ويقول: "بالجملة فمتى رأيت الاختلاف فرده إلى الله والرسول، فإذا تبين لك الحق فاتبعه، فإن لم يتبين واحتجت إلى العمل، فقلد من تثق بعلمه ودينه" 2. وقد بين الشيخ رحمه الله تعالى في بعض رسائله التقليد الممنوع والمأذون فيه والمباح فقال: وأما القول في التقليد واتباع الدليل فإن الله سبحانه فرض علينا فرضين: الأول: اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك ما خالفه في كل شيء وأن الإنسان لا يؤمن حتى يحكمه فيما شجر بينه وبين غيره.   1 مؤلفات الشيخ، القسم الئالث، الفتاوى ص 97 والقسم الثانى، الفقه، المجلد الثانى، ص 10-13. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الثالث، الفتاوى ص 33 والقسم الخامس، الشخصية رقم 11 ص 62-63. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 والفرض الثاني: أن الله فرض علينا في كل مسألة تنازعنا فيها أن نردها إلى الله والرسول كما قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} وخاطب بها جميع المؤمنين المجتهد وغيره، ولكن نقول الواجب عليك تقوى الله ما استطعت وذلك أن تطلب علم ما أنزل الله على رسوله من الكتاب والحكمة على قدر فهمك فما عرفت من ذلك فاعمل به وما لم تعرفه واحتجت فيه إلى تقليد أهل العلم قلدتهم، وما أجمعوا عليه فهو الحق، وما تنازعوا فيه ردّ إلى الله والرسول؟ وأما أخذ الإنسان ما اشتهت نفسه ووجد عليه آباءه وترك ما خالفه من كلام أهل العلم وغفلته عن كلام الله ورسوله، واستهزاؤه. بمن طلب ذلك، فهذا هوالضلال الذي أنكرنا والأدلة على هذا من كلام أهل العلم أكثرمن أن تحصرثم أخذ يسوق كلام ابن رجب في الطبقات في ترجمته ابن هبيرة وقوله: إذا ذكرت لأجدهم الدليل قال ليس هذا مذهبنا. وما قاله الشيخ تقي الدين ابن تيمية في جواب سؤال وجه إِليه عن المقلد لبعض الأئمة إذا رأى حديثا يخالف إمامه1. وأجاب الشيخ عن اتباع بعض الناصر للمذهب أنه اتباع لبعض المتأخرين لا للأئمة ومثل بالحنابلة مع أنهم من أقل الناس بدعة قال: فأكثر الإِقناع والمنتهى مخالف لمذهب أحمد ونصه فضلا عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم   1 انظر: روضة ابن غنام ج1ص 42-46. وانظر: نص جواب شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى جمع بن قاسم ج.2 ص 210-216. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 ونصها1. ومع ذلك فالشيخ وأبناؤه وحملة الدعوة لا يفتشون على أحد في مذهبه، ولا يعترضون عليه إلا إذا خالف نصا جليا، وفي مسألة يحصل بها شعار ظاهر من شعائر الإسلام فإِنهم يأمرونه بالتزام النص. يقول الشيخ عبد الله بن الشيخ: "ولا نفتش على أحد في مذهبه ولا نعترض عليه إلا إذا اطلعنا على نص جلي مخالف لمذهب أحد الأئمة وكانت المسألة مما يحصل بها شعار ظاهر كامام الصلاة فنأمر الحنفي والمالكي بالمحافظة على نحو الطمأنينة في الاعتدال والجلوس بين السجدتين لوضوح دليل ذلك، بخلاف جهر الإمام الشافعي بالبسملة فلا نأمره بالاسرار، وشتان بين المسألتين، فإذا قوى الدليل أرشدناهم بالنص، وإن خالف المذهب، وذلك يكون نادرا جدا2. والشيخ يرى أن الموافقة أفضل ولوكان على المفضول من المذاهب، مثل: إذا أمّ رجل قوما، وهم يرون القنوت أويرون الجهر بالبسملة، وهو يرى غير ذلك والأفضل ما رأى، فموافقتهم أحسن، ويصير المفضول هو الفاضل3. والشيخ وأتباعه إذا فسروا شيئا من القرآن، إنما يفسرونه بكلام   1 الدرر السنية، ط 2، ج4/ ص 6. 2 الدرر السنية، ط 2، ج1ص 26 1، 27 1. 3 الدرر السنية، ج 4/ ص 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلام أصحابه ليس لهم إلا النقل1. والشيخ وأصحابه وأتباعه يعتنون بكتب أهل العلم، ويحرصون على كتب أهل الحديث ويحترمون علوم الأمة الإسلامية، ولا يأمرون بإتلاف شيء منها أصلا إلا ما اشتمل على ما يوقع الناس في الشرك، أويحصل بسببه خلل في العقيدة الإسلامية، على أنهم لا يفحصون عن مثل ذلك، إلا إن تظاهر به صاحبه معاندا. أتلف عليه وما حصل مما اتفق لبعض البدو في إتلاف بعض كتب أهل الطائف إنما صدر منه لجهله، وقد زجر هو وأمثاله عن مثل ذلك2. والشيخ وأتباعه يستعينون على فهم كتاب الله بالتفاسير المتداولة المعتبرة، ومن أجلها لديهم، تفسير ابن جرير الطبري، وتفسير ابن كثير الشافعي، وكذا البغوي، وغيرهم، وعلى فهم الحديث بشروح الأئمة المبرزين، كالعسقلاني والقسطلاني، على البخاري، والنووي على مسلم، والمناوي على الجامع الصغير، ويحرصون على كتب الحديث خصوصا الأمهات الست، وشروحها ويعتنون بسائر الكتب في سائر الفنون أصولا وفروعا، وقواعد وسيرا ونحوا وصرفا وجميع علوم الأمة3.   1 مؤلفات الشيخ، القسم الثالث، الفتاوى ص 21. 2 الدرر السنية، ج1/ ص 127. ومؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 1 ص 12، ورقم 5 ص 37. 3 الدرر السنية، ج1ص 127. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 والشيخ نفسه يحذرمن تفاسير المحرفين للكلم عن مواضعه فانها القاطعة عن الله وعن دينه1. وبالجملة فلا ينكر الشيخ وأتباعه إلا ما خالف أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وطريقة الصحابة وأتباعهم2. ويرون أن الإجماع حجة لأدلة القرآن الكريم والسنة المطهرة3، لكن ينكر الشيخ على من يفسر الجماعة والسواد الأعظم، الذين لا يجوز مخالفتهم والشذوذ عنهم، بأنهم الكثرة على الباطل، كما يحدث في أزمان غربة الإسلام وفتراته، وكالذي حصل في زمان الشيخ، ويبين أن معنى الأحاديث التى فيها إجماع الأمة والسواد الأعظم، والتحذير من الشذوذ عنهم إنما هو بإِجماع أهل العلم كلهم: "الجماعة الذين كانوا على الحق في القرون الفاضلة، قبل أن يحدث الفساد فأولئك هم الجماعة فمن كان على مثل ما كانوا عليه فهو مع الجماعة وإن كان وحده، لأن الله أوضح بطلان الاحتجاج بالكثرة على القلة من أهل الحق في غير موضع من القرآن من ذلك قوله تعالى في سورة الأنعام {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} (الآية: 116) . وقوله تعالى: {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ   1 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، المصدر السابق ص 259. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الثالث، الفتاوى ص 36. 3 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير ص 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} 1 (ص:24) . ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر أن الإسلام سيعود غريبا فكيف يأمرنا باتباع غالب الناس؟ وكذلك الأحاديث الكثيرة منها قوله صلى الله عليه وسلم: "ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النارإلا واحدة" فهل بعد هذا البيان بيان؟ وينقل الشيخ من كلام أهل العلم ما يوضح به هذا المنهج السلفي السليم فيقول: قال ابن القيم رحمه الله في (إِعلام الموقعين) : واعلم أن الإجماع والحجة والسواد الأعظم هو العالم صاحب الحق، وإن كان وحده وإن خالفه أهل الأرض. وقال عمرو بن ميمون سمعت ابن مسعود قال: "عليكم بالجماعة فإِن يد الله مع الجماعة" وسمعته يقول: "سيلي عليكم ولاة يؤخرون الصلاة عن وقتها فصل الصلاة وحدك" وهي الفريضة ثم صل معهم فإِنها لك نافلة". قلت: يا أصحاب محمد، ما أدري ما تحدثون قال: وما ذاك؟ قلت: تأمرني بالجماعة ثم تقول صل الصلاة وحدك. قال!: ياعمرو ابن ميمون، لقد كنت أظنك من أفقه أهل هذه القرية، أتدري ما الجماعة؟ قلت: لا، قال: جمهور الجماعة هم الذين فارقوا الجماعة! والجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك. وقال نعيم بن حماد: إذا فسدت الجماعة فعليك بما كان عليه الجماعة قبل أن تفسد الجماعة، وإن كنت وحدك فإنك أنت الجماعة   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، مسائل الجاهلية، ص 337. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 حينئذ، وقال بعض الأئمة وقد ذكر له السواد الأعظم أتدري ما السواد الأعظم هو محمد بن أسلم الطوسي وأصحابه فمسخ المختلفون الذين جعلوا السواد الأعظم والحجة والجماعة: هم الجمهور، فجعلوهم عيارا على السنة، وجعلوا السنة بدعة، وجعلوا المعروف منكرا، لقلة أهله، وتفردهم في الأعصار والأمصار، وقالوا: "من شذ شذ في النار" وما عرف المختلفون أَن الشاذ: ما خالف الحق وإِن كان عليه الناس كلهم إلا واحداً، فهم الشاذون، وقد شذ الناس كلهم في زمن أحمد بن حنبل، إلا نفراً يسيراً فكانوا هم الجماعة، وكانت القضاة يومئذ والمفتون والخليفة وأتباعهم كلهم هم الشاذون، وكان الإمام أحمد وحده هو الجماعة، ولما لم يتحمل ذلك عقول الناس، قالوا للخليفة: يا أمير المؤمنين أتكون أنت وقضاتك وولاتك والفقهاء والمفتون على الباطل، وأحمد وحده على الحق، فلم يتسع علمه لذلك، فأخذه بالسياط والعقوبة بعد الحبس الطويل، فلا إله إلا الله، ما أشبه الليلة بالبارحة- انتهى كلام ابن القيم1. قال الشيخ: "هذا كلام الصحابة في تفسير السواد الأعظم، وكلام التابعين، وكلام السلف، وكلام المتأخرين حتى ابن مسعود ذكر في زمانه أن أكثر الناس فارقوا الجماعة، وأبلغ من هذا الأحاديث المذكورة عن   1 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية ص 235-237 بتصرف قليل. وانظر موضع ما لخص ونقل منه الشيخ في أعلام الموقعين، ج3/409-410 وقد أَكملت ما يخل بالمعنى من سقط، وانظر: القسم الرابع التفسير ص 147. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 رسول الله صلى الله عليه وسلم من غربة الإسلام وتفرق هذه الأمة أكثرمن سبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، فأي شيء يرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعلماء بسنته" 1. وهكذا يرسم الشيخ رحمه الله منهجه في أصول الدين، والذي هو منهج السلف الصالح الموافق للمعقولِ والمنقول، وللإسلام والسنة والكتاب والرسول صلى الله عليه وسلم. ويبين منهج المخالفين ويرفضه ويحذر عنه لأنه بدعة وضلالة وفاسد في نفسه ومخالف للمعقول ولدين الإسلام والكتاب والرسول وللسلف كلهم. وبعد هذا الاستعراض لمنهج الشيخ يمكن إيجاز منهجه بالنقاط التالية: 1- العلم بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم ودين الإسلام بأدلته كما هو الواجب على كل مسلم ومسلمة- والعمل بهذا العلم- والدعوة إلى ذلك- والصبر على الأذى في ذلك. 2- اعتبار أن مصدر العلم بالدين أصوله وفروعه، مسائله ودلائله، علومه وأعماله، هو الوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قرآن أو سنة، وكذلك إجماع سلف الأمة من أهل السنة والجماعة يعتبر حجة يجب الأخذ بها. 3- الإِقبال على ألقرآن والسنة وطلب الهدي منهما، واتباعهما وتقديمهما على جميع ما خالفهما مهما كان أمره، وعدم الإِعراض عنهما   1 المصدر السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 بحجة أنه لا يفهمهما إلا المجتهد المطلق، والمجتهد هو الموصوف بكذا وكذا، أوصافا لعلها لا توجد تامة في أبي بكر وعمر، وليست الآراء المتفرقة والأهواء المختلفة، والعقول البشرية ومناهج أهل الكلام والفلسفة، والمعرضين عن الكتاب والسنة، مصدر علم وهداية، بل هي مصدر ضلال وغواية. 4- اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم في سنته واتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده. واحترام علماء الأمة وأئمتها المشهود لهم بالسنة والاستقامة كالأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم، والاستفادة من فقههم وعلمهم. 5- ترك الابتداع ومجانبة البدع وإزالتها وهجر أهلها ورفض بدعهم وبيان مساوئها والتحذير منها. 6- بيان ما هو العلم؟ ومن هم العلماء؟ ومن هم الأولياء؟ وبيان من تشبه بهم وليس منهم كما بين الله في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، نصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، بعد أن صار العلم عند أكثر الناس هو البدع والضلالات ومن بين العلم الصحيح يتهم بالزندقة والجنون. 7- وزن جميع أقوال الناس وأعمالهم وإراداتهم وما يحدث من الحوادث بالقرآن والسنة وإجماع سلف الأمة من أهل السنة والجماعة فما لم يخالف ذلك قبل، وما خالف فهو البدعة المردودة، وهذا حسب منهج أهل السنة والجماعة، فإِن العقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح، وهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 الميزان الذي أنزله الله مع الكتاب، وذلك صالح لكل زمان ومكان وحال. والخلاصة: أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب يذهب مذهب أهل السنة وينهج منهجهم ويسلك طريقتهم في علمه وعمله، وقد وافق في منهجه وطريقته المنهج السلفي علما وعملا والله أعلم، ومن بيان منهج الشيخ محمد بن عبد الوهاب في عقيدته وميادين تطبيقها ننتقل إلى الفصل الذي بعده في بيان مجمل عقيدة الشيخ محمد السلفية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 الفصل الثاني: مجمل عقيدته أصول الإيمان: يقول الشيخ: "أصول الإيمان ستة أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره" 1. ويقول يخاطب جماعة كتب إليهم عما يعتقده: "أشهد الله، ومن حضرني من الملائكة وأشهدكم أني أَعتقد ما اعتقدته الفرقة الناجية، أهل السنة والجماعة، من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر خيره وشره" 2 إهـ. ويقول الشيخ يدعوإلى الإيمان: "وإذا قيل لك ما الإيمان فقل هو أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدرخيره وشره كله من الله والدليل قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} ودليل القدرقوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} 3. هذه العبارة التي عبر بها الشيخ بيانا واعتقادا ودعوة قد تضمنت   1 الدرر السنية، ج1ص 91، ومؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، تلقين أصول العقيدة للعامة، ص 372-373. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الرسائل الشخصية، ص 8. 3 الدررالسنية ط 2، ج1ص 88. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 أصول الإيمان الستة المذكورة في حديث جبر يل1. وقد ألف الشيخ كتابا في أصول الإيمان، اشتمل على أبواب عديدة، يورد تحت كل باب ما يناسبه من النصوص وأكثرها من الحديث الشريف2. ويقول الشيخ: "إن الإيمان بالأصول الستة هو الإيمان الشرعي"3. الإيمان بالله تعالى: إن الشيخ يؤمن بالله، يثبت وجوده، وأنه متصف بصفات الجلال والعظمة والكمال منزه من كل عيب ونقص، وأنه المستحق للعبادة كلها، لا إله غيره ولا رب سواه. ويعتقد أن من الإيمان بالله الإيمان بما وصف الله به نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تشبيه ولا تمثيل- بل يعتقد أن الله سبحانه وتعالى كما قال عن نفسه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} وقال تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .   1 انظر: مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة ص 192، ومؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، ص 84، 100. 2 انظر: مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، ص 229. 3 الدرر السنية، ط 2، ج1ص 104، مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، العلق، ص 372. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 يقول الشيخ فنزه نفسه عما وصفه به المخالفون من أهل التكييف والتمثيل، وعما نفاه عنه النافون من أهل التحريف والتعطيل "فلا أنفي عنه ما وصف به نفسه ولا أحرف الكلم عن مواضعه، ولا ألحد في أسمائه وآياته، ولا أكيف، ولا أمثل صفاته تعالى بصفات خلقه لأنه تعالى أعلم بنفسه وبغيره، وأصدق قيلا وأحسن حديثا، لا سمي له، ولا كفو له ولا ند له، ولايقاس بخلقه" ليس كمثله شيء وهوالسميع البصير1، والله أحد وهو الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد2. ويقول الشيخ: "التوحيد نوعان: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية". أما توحيد الربوبية فهو: أن الله سبحانه متفرد بالخلق والتدبير عن الملائكة والأنبياء وغيرهم، والإِقرار بهذا حق، لابد منه، لكن لا يدخل الرجل في الإسلام، لأن أكثر الناس مقرون به. قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا   1 انظر: مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية، 1 ص 8. 2 مؤلفات الشيخ، ملحق المصنفات، مسائل ملخصة رقم 10، ص 12، وانظر: الدرر السنية، ط 2، ج3 ص 07 2-262، جواب الشيخ حمد بن ناصر بن معمر وكان قد سئل عن اعتقاد الشيخ في بعض نصوص الصفات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 تَتَّقُونَ} (يونس: 31) . ويقول الشيخ: "إن هذا التوحيد هو الذي أقر به الكفار، ويستدل بالآية المذ كورة". ويقول الشيخ: "وأما توحيد الألوهية فهو: إِخلاص العبادة لله وحده عن جميع الخلق لأن الإله في كلام العرب هو الذي يقصد للعبادة، وكانوا يقولون: إن الله سبحانه هو إله الآلهة، لكن يجعلون معه آلهة أخرى، مثل الصالحين والملائكة وغيرهم، يقولون: إِن الله يرضى هذا ويشفعون لنا عنده. فإذا عرفت هذا معرفة جيدة تبين لك غربة الدين وقد استدل عليهم سبحانه باقرارهم بتوحيد الربوبية على بطلان مذهبهم، لأنه إِذا كان هو المدبر وحده، وجميع من سواه لا يملكون مثقال ذرة - فكيف يدعون معه غيره مع إِقرارهم بهذا؟ 1. إِذاً فتوحيد الألوهية هو: أن لا يعبد العبد إلا الله وحد؟ ولا يشرك معه في العبادة أحدا لا ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا، فضلا عن من دونهما. وهذا هو الذي يدخل الرجل في الإسلام2. وذلك أن من أتى به فقد أتى بتوحيد الربوبية لأنه متضمن له، وهو من نتائج توحيد الربوبية الواجبة3.   1 مؤلفات الشيخ، القسم الثالث، الفتاوى مسألة رقم 7 ص 42. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية، رسالة 11 ص 64، 65 ورسالة 22 ص 150، 151. 3 المصدر السابق رقم 18 ص 120-122. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 أما توحيد الأسماء والصفات: وهو الإِقرار بها كما وردت في الكتاب والسنة نفيا وإثباتا من غير تمثيل ولا تعطيل، ولا تحريف في اللفظ والمعنى عن ظاهره اللائق بالله تعالى ولا تكييف، فان الشيخ يجعله مع توحيد الربوبية بجامع أنهما نوع واحد هو: توحيد المعرفة والإِثبات. ويقول الشيخ: وأما توحيد الصفات فلا يستقيم توحيد الربوبية، ولا توحيد الألوهية إلا بالإِقرار بالصفات، لكن الكفار أعقل ممن أنكر الصفات1. ذلك أن العلم بأسماء الله وصفاته هو أصل العلوم، وبمعرفتها يستدل على التوحيد2. وأن التوحيد لا يكون إلا عن العلم بأنه لا إله إلا الله بيقين، والشهادة بذلك نطقاً باللسان مع تصديق القلب، وعمل الجوارح بمقتضاه، وهذا يعني المعرفة التامة بتفرد الله في ربوبيته وأسمائه وصفاته، كما عليه المسلمون من أهل السنة والجماعة، أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي هو أعلم الأمة برب العالمين ووحدانيته. وقد بين السلف أن العبادة إذا كانت كلها لله فلا تكون إلا بإِثبات الصفات والأفعال فمن شهد أن لا إله إلا الله، لابد أن يثبت الصفاث، لأنه يشهد أن لا معبود بحق إلا الله وكون الله تعالى هوالمعبود وحده، يدل   1 مؤلفات الشيخ، القسم الثالث، الفتاوى رقم 7 ص 42. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، العلق ص 372. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 على علمه العظيم، وقدرته العظيمة، وهاتان الصفتان أصل جميع الصفات، ومن هنا يثبت جميع الصفات، بخلاف من ظن أن معنى لا إله إلا الله، أي لا يقدر على الخلق إلا الله، فإن الأمر يؤول به إلى انكار الصفات أيضا1. لأن منكر الألوهية هو منكر لحقيقة الربوبية والأسماء والصفات ولا يغلط في توحيد الألوهية إلا من لم يعط توحيد الربوبية حقه2. وأهل الجاهلية وإن أقروا بتوحيد الربوبية فإنهم لم يعطوه حقه وهو توحيد العبادة فلذلك كانوا مشركين ولم ينفعهم توحيد الربوبية حيث لم يعطوا حقه3. أما منكرالصفات فإنه منكر لحقيقة الألوهية فإن من شهد أن لا إله إلا الله صدقا من قلبه لابد أن يثبت الصفات والأفعال، ولذا آل الأمر بمن ينكر الصفات إلى إنكار الرب4 تعالى. ويقرر الشيخ أن الربوبية والألوهية يجتمعان في اللفظ فيفترقان في المعنى، ويفترقان في اللفظ فيجتمع المعنيان في لفظ كل واحد من اللفظين المفترقين، أي يفترقان إذا ذكرا معا كما في قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ} وكما يقال رب العالمين وإله العالمين وإله المرسلين   1 انظر: الدرر السنية، ج1، ص 69- 71 ومؤلفات الشيخ، القسم الثالث، الفتاوى، ص 42-43. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 18 ص 120-122. 3 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية، رسالة رقم 18 ص 120-122. 4 انظر: الدرر السنية، ط 2، ج1 ص 70- 71. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 ويجتمعان عند الإفراد كما في قوله: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} (الحج: 164) . وقوله: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً} (الأنعام: 164) . وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} (فصلت: 30، الأحقاف:13) . وكما في قولهم: {رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (الكهف: 14) . وكما في قول القائل: من ربك؟ وقول الملكين في القبر من ربك؟ ومعناه من إلهك؟ لأن الربوبية التي أقربها المشركون ما يمتحن أحد بها. فالربوبية في هذا ليست قسيمة لها كما تكون قسيمة لها عند الاقتران قال: فينبغي التفطن لهذه المسألة، مثاله الفقير والمسكين: نوعان في قوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} (التوبة: 60) - ونوع واحد في قوله: "افترض الله عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد إلى فقرائهم" 1. فعلى هذا يقرر الشيخ أن الربوبية إذا قرن ذكر لفظها مع الألوهية تكون قسيمة للألوهية وتفسر بأشهر معانيها وهو أنها تعني فعل الرب مثل الخلق والرزق والإِحياء والإِماتة وإنزال المطر وإنبات النبات وتدبير الأمور. وكذا الألوهية تفسر بأشهر معانيها، وهو أنها تعني فعل العبد التعبدي مثل الدعاء والخوف والرجاء والتوكل والإنابة والرغبة والرهبة   1 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 2 ص 17 والقسم الرابع، التفسير، الكهف، مسألة 7 ص 243. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 والنذر والاستغاثة وغير ذلك من أنواع العبادة1. ويقول الشيخ في تلازم الربوبية والألوهية في جواب حين سئل رحمه الله: ما قول الشيخ في تسمية المعبودات أربابا: إذ الرب يطلق على المالك، والمعبود على الإله وكل اسم من أسمائه جل وعلا له معنى يخصه بالتخصيص دون التداخل بالتعميم. الجواب: الرب والإله في صفة الله تبارك وتعالى متلازمة غير مترادفة، الرب من الملك والتربية بالنعم، والإله من التأله وهو القصد. لجلب النفع ودفع المضرة بالعبادة. ولذلك صارت العرب تطلق الرب على الإله، فسموا معبوداتهم أربابا من دون الله لأجل ذلك أي لكونهم يسمون الله ربا بمعنى إلها2. والإله اسم صفة لكل معبود بحق أو باطل ثم غلب على المعبود بحق وهو الله تعالى، وهو الذي يخلق ويرزق ويدبر الأمور، والتأله التعبد3. وقول الله تعالى: {إِلَهِ النَّاسِ} أي معبودهم الذي لا معبود لهم غيره فلا يدعى ولا يرجى ولا يخلق ولا يرزق إلا هو، فخلقهم وصورهم وأنعم عليهم وحماهم مما يضرهم بربوبيته، وقهرهم وأمرهم ونهاهم، وصرفهم   1 مؤ لفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، الرسالة الرابعة، تلقين أصول العقيدة للعامة ص 371، والقسم الخامس، الشخصية رقم 7 ص 47. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الثالث، الفتاوى رقم 8 ص 43. 3 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 16ص 106. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 كما يشاء بملكه واستعبدهم بالإِلهية الجامعة لصفات الكمال كلها1. ويقرر الشيخ أن النهي عن الشرك والأمر بلا إله إلا الله ليس أحدهما مكررا للآخر، بل هما أصلان كبيران، وإن كانا متلازمين. والنهي عن الشرك يستلزم الكفر بالطاغوت ولا إله إلا الله تستلزم الإيمان بالله، وقد قرن الأنبياء بين النهي عن الشرك والأمربالتوحيد2. والتوحيد مبني على أن الله واحد في ملكه وأفعاله لا شريك له، وهذا هو توحيد الربوبية وواحد في ذاته وصفاته لا نظير له، وهذا هو توحيد الأسماء والصفات، وواحد في إِلهيته وعبادته لا ند له، وهذا هو توحيد الألوهية، وهذه الأنواع على ترتيبها متلازمة، كل نوع منها لا ينفك عن الآخر، فمن أتى بنوع منها ولم يأت بالآخر فما ذاك إلا لأنه لم يأت به على وجه الكمال المطلوب، فهي وحدة مترابطة، وبهذا يتبين المراد بتنويع التوحيد وأنه ليس كل نوع يمكن أن يؤتى به منفصلا عن الآخر. وإِن شئت قلت التوحيد نوعان: توحيد في المعرفة والاثبات وهوتوحيد الربوبية والأسماء والصفات، وتوحيد في الطلب والقصد، وهوتوحيد الإِلهية والعبادة، كما فعل الشيخ رحمه الله تعالى تبعا لشيخ الإسلام ابن تيمية3.   1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير ص 387، 388. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 23 ص 163. 3 انظر التدمرية أولها، وإِبطال التنديد للشيخ حمد بن عتيق ص 3، ومؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 11 ص 64، 65 ورقم 18 ص 120-122: رقم 22 ص 150- 151. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 ولا خلاف بين أهل السنة والجماعة أن التوحيد لابد أن يكون بالقلب واللسان والعمل فان اختل شيء من هذا لم يكن الرجل مسلما. فإِن عرف التوحيد ولم يعمل به فهو كافر معاند كفرعون وإبليس وأمثالهما، وهذا يغلط فيه كثير من الناس. وإن عمل بالتوحيد عملا ظاهرا، وهولا يعتقده بقلبه، فهو منافق خالص، وهو شر من الكافر {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} (النساء: 154) - وهذا كثير أيضا1. وهكذا يقرر الشيخ التلازم بين توحيد الربوبية والأسماء والصفات وتوحيد الألوهية ويقول: بأن الله تعالى يعرف عباده بتقرير ربوبيته، ليرتقوا بها إلى معرفة إلهيته، التي هي مجموع عبادته على مراده نفيا وإثباتا، علما وعملا، جملة وتفصيلا، ويقول: "فاعلم أن أهم ما فرض على العباد معرفة أن الله رب كل شيء ومليكه ومدبره بإِرادته، فاذا عرفت هذا فانظرما حق من هذه صفاته عليك، بالعبودية، بالمحبة والإِجلال والتعظيم   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كشف الشبهات ص 179-180 والقسم الرابع، التفسير، الحجر ص 196 والقسم الخامس، الشخصية رقم 16 ص 96، والدرر السنية ج 2 ص 62، 63، جـ 8 ص 87. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 والخوف والرجاء والتأله المتضمن للذل والخضوع لأمره ونهيه1، فإِن الله قد استعبد الناس بالإِلهية الجامعة لصفات الكمال كلها2. ويقول الشيخ: في سورتي الاخلاص بيان العقيدة السلفية الصحيحة3، وهما الجامعتان لتوحيد العلم والعمل وتوحيد المعرفة والارادة وتوحيد- الاعتقاد والقصد4. وسميتا بسورتي الاخلاص لأن {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} خلصت قارءها من الشرك العلمي، كما خلصته {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} من الشرك العملي، ولما كان العلم قبل العمل وهو إمامه وسائقه والحاكم عليه، كانت {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تعدل ثلث القرآن، و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} تعدل ربع القرآن5. وقد جعل السلف سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} أصلا في الرد على المشبهة والمعطلة، وفي التمييز بين مثبتي الرب الخالق الأحد الصمد، ومن المعطلين، من قوله: {اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ} 6.   1 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 25 ص 174. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، الناس ص 387، 388. 3 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، ص 378. 4 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، مختصر زاد المعاد ص 35. 5 المصدر السابق ص 35، 36. 6 مؤلفات الشيخ، ملحق المصنفات، مسائل ملخصة، رقم 10 ص 12، ورقم 92 ص 80، 81. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 فـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} السورة متضمنة لما يجب إِثباته له تعالى من الأحدية المنافية لمطلق الشركة بوجه من الوجوه. ونفي الولد والوالد المقرر لكمال صمديته وغناه وأحديته. ونفي الكفء المتضمن لنفي الشبيه والمثيل والنظير. فتضمنت إثبات كل كمال، ونفي كل نقص، ونفي إثبات شبيه له أو مثيل في كماله، ونفي مطلق الشرك، وهذه الأصول هي مجامع التوحيد العلمي الذي يباين صاحبه جميع فرق الضلال والشرك1. كما جعلوا سورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} أصلا في التمييز بين من يعبد الله وبين غيره وإن أقركل منهما بأن الله رب كل شيء ومليكه، والتمييز بين المخلصين وبين المشركين من قوله: {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} 2. والتوحيد أعظم الفرائض، أعظم من فريضة الصلاة والزكاة والصوم، كما أن الشرك أعظم المحرمات، أعظم تحريما من الزنا والسرقة والكبائر. والتوحيد رأس أعمال أهل الجنة، كما أن رأس أعمال أهل النار الشرك بالله تعالى 3.   1 مؤ لفات الشيخ، القسم الرابع، مختصر زاد المعاد ص 35، 36. 2 المصدر السابق، مسألة رقم 82 ص 57 ورقم 92 ص 80، 81. 3 مؤلفات الشيخ، القسم الثالث، مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ص 30- مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كَشْفُ الشبهات ص 172، وص 381، ومعنى الطاغوت ص 376 والقسم الخامس، الشخصية رقم 28 ص 189. ومؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله ص 20-22، وشرح ستة مواضيع من السيرة ص 353- 355. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 والشيخ يعتقد: أن الإسلام: هو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهل الشرك1. فالتوحيد هو دين الفطرة، التي فطر الله الناس عليها: قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (الروم: 132) . وهو الصراط2 المستقيم كما قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (الأنعام:153) . وهوشهادة الحق والعمل بمقتضاها، كما في الصحيح عن عمربن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إِن استطعت إليه سبيلا". وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره   1 مؤ لفات الشيخ، القسم الأول، ثلاثة الأصول ص 189. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، فضل الإسلام ص 203-222. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 وشره. وهو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك1. وهو الذي بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ. قال تعالى: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} (هود: 116) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء" رواه مسلم ورواه أحمد من حديث ابن مسعود وفيه: وَمَنِ الغرباء؟ قال: "النُزَّاعُ من القبائل، وفي رواية الغرباء الذين يصلحون إِذا فسد الناس - وللترمذي من حديث كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده: "طوبى للغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس من- سنتي" 2. وفي حديث عمرو بن عبسة السلمي الذي في صحيح مسلم (المجلد الأول ص 569، باب إِسلام عمرو بن عبسة) أنه لما جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - بمكة قال له: وما أنت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -: "أنا نبي- فقال له: وما نبي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلني   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، ثلاثة الأصول ص 189- 191، فضل الإسلام ص 209. 2 المرجع السابق ص 223 وص 15-17 وأصول الإيمان ص 271-272، ومفيد المستفيد ص 284-285. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 الله- فقال: بأي شيء أرسلك؟ قال: أرسلني بصلة الأرحام وكسر الأوثان، وأن يوحد الله لا يشرك به شيء- ققال له: ومن معك على هذا. قال: حر وعبد. قال الشيخ في هذا الحديث أن عمرو بن عبسة فهم المراد من التوحيد وأنه توحيد الله بعبادته وحده لا شريك له وكسر الأوثان ومعلوم أن كسرها لا يستقيم إلا بشدة العداوة وتجريد السيف، وأن هذا أمر كبير غريب، ولأجل هذا قال من معك على هذا؟ قال: "حر وعبد" فأجابه أن جميع العلماء والعباد والملوك والعامة مخالفون له، ولم يتبعه على ذلك إلا من ذكر، فهذا أوضح دليل على أن الحق قد يكون مع أقل القليل، وأن الباطل قد يملأ الأرض. ولله در الفضيل بن عياض رحمه الله- حيث يقول: لا تستوحش من الحق لقلة السالكين، ولا تغتر بالباطل لكثرة الهالكين، وأحسن منه قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} 1. وهو ملة إبراهيم، الذي كان أمة قانتا لله حنيفا، ولم يك من المشركين، وهو الأسوة الحسنة التي أخبر بها الله في كتابه فقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، مفيد المستفيد، ص284- 285. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 بِاللَّهِ وَحْدَهُ} (الممتحنة:4) . وقد سفه نفسه من رغب عن هذه الملة، فلا خير إلا فيها، ولا شر إلا فيما خالفها، حنيفية في التوحيد سمحة في العمل إلى قيام الساعة، ووسعت جميع الناس، فأمروا باتباعها {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} . وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم - باتباعها كما قال تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (النحل: 123) . وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن لكل نبي ولاة من النبيين وان ولي أبي خليل ربي" ثم قرأ: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} رواه الترمذي1 في التفسير والامام أحمد في المسند 2. ويقول الشيخ: "وتأمل أن الإسلام لا يصح إلا بمعاداة أهل الشرك، وإن لم يعادهم فهو منهم وإِن لم يفعله" 3. ويزيد الشيخ هذا المعنى إيضاحا فى ثمان حالات استنبطها من قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، فضل الإسلام ص 219. 2 انظر: تحفة الأحوذي ص 344 ومسند أحمد: 1/ 401، 430. 3 مؤلفات التوحيد، القسم الأول، مفيد المستفيد ص 297. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} (يونس: 104) . قال رحمه الله: فيه ثمان حالات: الأولى: ترك عبادة غير الله مطلقا ولو جادله أبوه وأمه بالطمع الجليل والإِخافة الثقيلة كما جرى لسعد رضي الله عنه مع أمه. الحالة الثانية: أن كثيرا من الناس إذا عرف الشرك وأبغضه وتركه لا يفطن لما يريد الله من قلبه من إِجلاله ورهبته، فذكر هذه الحالة بقوله: {وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ} . الحالة الثالثة: إِنْ قدرنا أنه ظن وجود الترك والفعل فلابد من تصريحه بأنه من هذه الطائفة، ولولم يقض هذا الغرض إلا بالهرب عن بلد فيها كثير من الطواغيت الذين يبلغون الغاية فى العداوة، حتى يصرح أنه من هذه الطائفة المحاربة لهم. الحالة الرابعة: إِن قدرنا أنه ظن وجود هذه الثلاث، فقد لا يبلغ الجد فى العمل بالدين، والجد والصدق هو إِقامة الوجه للدين. الحالة الخامسة: إِن قدرنا أنه ظن وجود الحالات الأربع، فلا بد له من مذهب ينتسب إليه، فأمر أن يكون مذهبه الحنيفية، ويترك كل مذهب سواها، ولوكان صحيحا ففى الحنيفية عنه غنية. الحالة السادسة: إنا إن قدرنا أنه ظن وجود الحالات الخمس فلابد أن يتبرأ من المشركين فلا يكثر سوادهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 الحالة السابعة: إِنْ قدرنا أنه ظن وجود الحالات الست، فقد يدعو من غير قلبه نبياً أوغيره لشىء من مقاصده ولوكان ديناً يظن أنه إن نطق بذلك من غير قلبه لأجل كذا وكذا خصوصا عند الخوف أنه لا يدخل فى هذه الحال. الحالة الثامنة: إِنْ ظن سلامته من ذلك كله، لكن غيره من إخوانه فعله - خوفا أو لغرض من الأغراض هل يصدق الله أن هذا ولوكان أصلح الناس قد صار من الظالمين، أو يقول كيف يكفر وهو يحب الدين ويبغض الشرك؟ وما أعز من يتخلص من هذا، بل ما أعز من يفهمه، وإِن لم يعمل به، بل ما أعز من لا يظنه جنونا1. ومن ذلك يستنتج الشيخ أن أصل الدين وقاعدته أمران: الأول: الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له والتحر يض على ذلك والمولاة فيه وتكفير من تركه. الثانى: الإِنذار عن الشرك فى عبادة الله والتغليظ في ذلك والمعاداة فيه وتكفير من فعله2. وهذا هو الذي بعثت به الرسل إلى أممهم، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد باب "أيشركون ما لا يخلق شيئا" ص 47 والرسالة الحادية عشرة، ص 390-392 والقسم الرابع، التفسير، يونس ص 113-114، وتبت ص 381. 2 الدرر السنية، ط 2، ج 2 ص 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 1 (النحل: 36) . الإيمان بالملائكة: والشيخ يؤمن بالملائكة ويصدق بوجودهم ويعتقد أنهم عباد لله مكرمون، لا يسبقون الله بالقول، وهم بأمره يعملون، والله يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشية الله مشفقون2. وقال الشيخ فى كتاب أصول الإيمان باب ذكر الملائكة والإيمان بهم: ثم يستدل على الإيمان بهم بقول الله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} 3 (البقرة: 177) . ويستدل الشيخ بقول الله تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} 4 (النجم: 26) .   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، ص 7 وص 11. 2 القسم الرابع، التفسير، الأعراف ص 84، وتفسير آيات ص 377، والقسم الأول، مسائل الجاهلية، ص 350، وأُصول الإيمان، ص- ص 248-255. وانظر: تفسير ابن كثير ج3 ص 176. 3 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، أُصول الإيمان ص 248. 4 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، كتاب التوحيد ص 51. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 ويؤمن الشيخ بكل ما ورد من وصفهم وذكرهم وأصنافهم وأعيانهم فى القرآن الكريم والسنة الشريفة. قال فى كتاب التوحيد باب قول الله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (سبأ: 23) . ثم أورد الشيخ حديثا من صحيح البخاري 1، عن أبى هريرة رضي الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قضى الله الأمر فى السماء، ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان ينفذهم ذلك، حتى إذا فزع عن قلوبهم، قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق، وهو العلي الكبير" الحديث. قال الشيخ فيه تفسير الآية وسبب سؤالهم عن ذلك، وأن الغشي يعم أهل السموات كلهم2. ويقول الشيخ فى كلامه عن الفوائد من قصة آدم وإبليس: "ومن فوائدها الدلالة على الملائكة وعلى بعض صفاتهم3، وذكر الشيخ من صفاتهم أنهم يتنزلون على الذين قالوا: ربنا الله ثم استقاموا بأن لا يخافوا ولا يحزنوا ويبشروا بالجنة التي كانوا يوعدون - قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا   1 صحيح البخاري، ج 5 ص 221. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد ص، ص 48- 50. 3 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير ص 84، 91. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} (فصلت: 30) . ومنهم مقربون ومع ذلك، هم عبيد الله تعالى لا يستنكفون من ذلك كما قال تعالى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} (النساء: 172) . وقال تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} (الأنبياء: 19، 20) . وجعلهم الله رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع قال تعالى: {جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} (فاطر: 1) . ومنهم حملة العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون اللذين آمنوا كما قال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} (غافر: 7) . وقد خلقوا من نور كما فى الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خلقت الملائكة من النور، وخلق الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم" رواه مسلم وغيره1. وهم كثيرون- قال الشيخ- لما ثبت فى بعض أحاديث المعراج أنه   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، أُصول الإيمان، باب ذكر الملائكة عليهم السلام والإيمان بهم، ص 248. وانظر: البداية والنهاية فى التاريخ لابن كثير ج1/ ص 58، ورواه مسلم فى الزهد ج 4 ص 2294. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 صلى الله عليه وسلم رفع له البيت المعمور الذي هو فى السماء السابعة وقيل السادسة بمنزلة الكعبة فى الأرض وهو بحيال الكعبة حرمته فى السماء كحرمة الكعبة فى الأرض وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه آخر ما عليهم1. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما فى السماء موضع قدم إلا عليه ملك ساجد، أوملك قائم"، فذلك قول الملائكة: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} (الصافات: 165، 166) . قال الشيخ رواه محمد بن نصر وابن أبى حاتم وابن جرير وأبو الشيخ2. وقد وصف بعضهم بعظمة خلقه، كما فى الحديث عن جابر رضي الله عنه - قال- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، ص 248 وص 249- وانظر: صحيح البخاري، ج 4، كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، ص 77 –87، والبداية والنهاية لابن كثير ج1/ ص 44، 45 وتفسير ابن كثير ج 3 ص 2-24. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، أُصول الإيمان ص 249، وانظر: تفسير ابن جرير الطبري ج 23 ص 112- والبداية والنهاية لابن كثير، ج1ص 46، وقال البخاري: قال ابن عباس (لنحن الصافون) الملائكة، صحيح البخاري ج4 ص 77. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 عام" رواه أبوداود، والبيهقي فى الأسماء والصفات والضياء فى المختارة1. ومن سادتهم جبريل عليه السلام قد وصفه الله تعالى بالأمانة وحسن الخلق والقوة فقال تعالى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} (النجم: 5، 6) . ومن شدة قوته رفع مدائن قوم لوط عليه السلام، وكن سبعا بمن فيهن من الأمم وكانوا قريبا من أربعمائة ألف وما معهم من الدواب والحيوانات، وما لتلك المدائن من الأراضي على طرف جناحه حتى بلغ بهن عنان السماء حتى سمعت الملائكة نباح كلابهم وصياح ديكتهم ثم قلبها فجعل عاليها سافلها فهذا هو شديد القوى وقوله ذومرة أى ذوخلق حسن وبهاء وسناء وقوة شديدة قال معناه ابن عباس رضي الله عنهما. وقال غيره: ذو مرة أي ذو قوة. وقال تعالى فى صفته: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، أُصول الإيمان، 249، وانظر: سنن أبى داود ج 2ص 534، وانظر: مختصر سنن أبى داود للمنذري ج 7 ص 117، رقم 4560، وفى عون المعبود حاشية سنن أبى داود قال: "والحديث إِسناده صحيح " ثم قال: "والحديث أخرجه أيضا، المقدسي فى المختارة والبيهقي فى كتاب الأسماء والصفات، وسكت عنه المنذري " (ج 4 ص 373) . وذكره ابن كثير فى البداية والنهاية، ج1ص 46، وص 13. وقال الهيثمى فى مجمع الزوائد: "رواه الطبراني فى الأوسط ورجاله رجال الصحيح"، ج 1/ 80. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 أَمِينٍ} (التكوير:19-. 2) . أي له قوة وبأس شديد، وله مكانة ومنزلة عالية رفيعة عند ذي العرش المجيد، {مُطَاعٍ ثَمَّ} أى مطاع فى الملأ الأعلى {أَمِينٍ} أي ذي أمانة عظيمة. ولهذا كان السفير بين الله وبين رسله. وقد كان يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى صفات متعددة، وقد رآه على صفته التى خلقه الله عليها مرتين وله ستمائة جناح روى ذلك البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه. وروى الإمام أحمد عن عبد الله رضي الله عنه قال: "رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام فى صورته له ستمائة جناح، كل جناح منها قد سد الأفق، يسقط من جناحه من التهاويل والدر والياقوت ما الله به عليم". قال الشيخ إسناده قوي1. وللبخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبرائيل "ألا تزورنا أكثر مما تزورنا" فنزلت: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا} 2 (مريم:64) .   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، أُصول الإيمان، ص 250. وانظر: تفسير ابن كثير، ج 4 ص 247-249، 479، 480.والبداية والنهاية له أيضا ج1 ص 47- وتفسير ابن جرير الطبري ج 27 ص 42،43، ج30 ص 80. وصحيح البخاري ج 4 كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، ص80ـ 84. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، أُصول الإيمان ص 251، وانظره: فى صحيح البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ذكرالملائكة ج 4 ص 80. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 ومن ساداتهم ميكائيل عليه السلام وهو موكل بالقطر والنبات1. ومن ساداتهم إسرافيل وهو صاحب الصور أي الذي ينفخ فى الصور. وروى الترمذي وحسنه والحاكم عن أبى سعيد الخدرى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف أنعم وصاحب الصور قد التقم القرن وحنى جبهته، وأصغى سمعه ينتظرمتى يؤمر فينفخ قالوا: فما نقول يا رسول الله؟ قال: قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا" 2. وجبرائيل وميكائيل وإسرافيل من المختارين المصطفين من الملائكة كما قال النبى صلى الله عليه وسلم: "اللهم رب جبر يل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة" 3 قال ومن ساداتهم ملك   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، أُصول الإيمان، ص 252، وانظر: البداية والنهاية لابن كثير، ج1 ص 49،50. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، أُصول الإيمان ص 252، وانظر: مسند أحمد 3/73، والترمذي فى أعلا صحائف تحفة الأحوذى ج 7 ص 117-118 وقال صاحب تحفة الأحوذى: وأخرجه الحاكم وصححه (نفس الجزء والصفحة) . 3 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، مختصر زاد المعاد، ص 8، وانظر: صحيح مسلم كتاب صلاة المسافرين وقصرها، ج1ص 534. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 الموت ولم يجىء مصرحا باسمه فى القرآن ولا فى الأحاديث الصحيحة وقد جاء فى بعض الآثار تسميته بعزرائيل والله أعلم. قال الحافظ ابن كثير: "وقال إنهم بالنسبة إلى ما هيأهم الله له أقسام، فمنهم حملة العرش ومنهم الكروبيون الذين هم حول العرش وهم مع حملة العرش أشرف الملائكة وهم المقربون كما قال تعالى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} (سورة النساء الآية: 172) . ومنهم سكان السماوات السبع يعمرونها عبادة دائمة ليلا ونهارا- كما قال تعالى: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} (سورة الأنبياء الآية: 20) . ومنهم الذين يتعاقبون إلى البيت المعمور. قال الشيخ: "قلت: الظاهر أن الذين يتعاقبون إلى البيت المعمور سكان السموات، ومنهم موكلون بالجنان وإعداد الكرامات لأهلها وتهيئة الضيافة لساكنيها، من ملابس ومآكل ومشارب ومصاغ ومساكن وغير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. ومنهم الموكلون بالنار"أعاذنا الله منها" وهم الزبانية ومقدموهم تسعة عشر وخازنها مالك وهو مقدم على الخزنة وهم المذكورون فى قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذَابِ} (سورة المؤمن الأية: 49) . وقال تعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} (الزخرف: الآية 77) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 وقال تعالى: {عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} 1 (سورة التحريم الآية: 6) . وقال تعالى: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً} - إلى قوله:- {وما يعلم جنود وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} (سورة المدثر الآية: 30- 31) . ومنهم الموكلون بحفظ بنى آدم كما قال تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} (سورة الرعد الأية: 11) . قال ابن عباس ملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه فإذا جاء أمر الله خلوا عنه. وقال مجاهد ما من عبد إلا وملك موكل يحفظه فى نومه ويقظته من الجن والإِنس والهوام فما منها شىء يأتيه يريده، إلا قال له: وراءك، إلا شيء يأذن الله تعالى فيه فيصيبه. ومنهم الموكلون بحفظ أعمال العباد كما قال تعالى: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} (سورة ق الآية:17) . وقال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} (سورة الانفطار الآية: 10-12) .   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، أصول الإيمان ص 253. وانظر: البداية والنهاية ج1 /ص 50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 قال الحافظ بن كثير ومعنى إِكرامهم أن يستحي منهم فلا يملي عليهم الأعمال القبيحة التي يكتبونها فإن الله خلقهم في خلقهم وأخلاقهم. ثم قال ما معناه إن من كرمهم أنهم لا يدخلون بيتا فيه كَلْبٌ ولا صورة ولا جنب ولا تمثال ولا يصحبون رفقة معهم كلب أوجرس1. وروى مالك والبخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم وهوأعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون" وفي رواية أن أبا هريرة قال: اقرأوا ان شئتم: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} (سورة الأسراء الآية: 78) . وروى الإمام أحمد ومسلم حديث: " ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه". وفي المسند والسنن حديث: "إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاء بما يصنع" والأحاديث في ذكرهم عليهم السلام كثيرة جدا2.   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، أُصول الإيمان ص 254، وانظر: البداية والنهاية فى التاريخ لابن كثير 1/54- 55 2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، أُصول الإيمان ص 255. وانظر: تاريخ ابن كثير البداية والنهاية ج 1 ص 53، 58 حيث اقتبس منه الشيخ كثيرا مما هنا وصحيح البخاري ج 4 ص 81 وصحيح مسلم ج 4 ص 2074. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 الإيمان بكتب الله: والشيخ يؤمن بكتب الله ويصدق بأنها كلام الله، وأنها حق ونور وهدى، وما سمى الله منها كالتوراة والانجيل والزبور يؤمن بها بأسمائها، كما يؤمن بأن لله كتباً أخرى لا يعلم أسماءها وعددها إلا الله سبحانه وتعالى كما قال تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (البقرة: 136-137) . قال الشيخ رحمه الله فيها أمر الله أن نقول ما ذكرفي الآية وليس هذا من إظهار العمل الذي إخفاؤه أفضل، والإيمان بجميع المنزل وعدم التفريق بين أحد منهم والتصريح بالإسلام وبإخلاص ذلك لله وليس هذا من الثناء على النفس، بل من بيان الدين الذي أنت عليه، ولهذا قال بعض السلف ينبغي لكل أحد أن يعلم هذه الآية أهل بيته وخدمه، وفيها التصريح بأن الإيمان هو العمل1.   1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، والتفسير ص 39، 40، والقسم الأول، العقيدة، مسائل الجاهلية ص 350. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 ويعتقد الشيخ أن القرآن، هو الكتاب لا ريب فيه، كلام الله منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود، وأنه تكلم به حقيقة، وأنزله على عبده ورسوله وأمينه على وحيه، وسفيره بينه وبين عباده نبينا محمد صلى الله عليه وسلم 1. وأنه الكتاب الكامل المهيمن على الكتب السابقة لا ريب فيه هدي للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة، وينفقون مما رزقهم الله وقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} . قال الشيخ: "هذا من عطف الخاص على العام" 2. وفي قوله تعالى: {كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} (الأعراف: 2، 3) . يقول الشيخ: في ذلك وصف القرآن بأنه كتاب منزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم والنهي عن الحرج بفاء التفريع: {كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ} وذكر الحكمة في ذلك وهي الإنذار العام والذكر الخاص، والأمر باتباعه والتحريض على ذلك بأنه منزل إلينا من ربنا: اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم، والنهي عن اتباع ماسواه3.   1 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 1ص 9. 2 الدرر السنية، ج10 ص 39، 40. 3 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، ص 96. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 وقول الله تعالى: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} (يوسف: 1-3) . يستنبط الشيخ من هذه الآيات أن القرآن كاف عما سواه من الكتب، وأنه المراد بأحسن القصص لا قصة يوسف وحدها، وأن قوله: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} أي هذه آيات الكتاب المبين الواضح الذي يوضح الأشياء المبهمة- وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي تفهمون معانيه والقصص مصدر قَصَّ الحديث يقصه قصصا أي بإيحائنا إليك هذا القرآن- وقوله: {لَمِنَ الْغَافِلِينَ} أي الجاهلين به. وهذا مما يبين جلالة القرآن، لأن فيه دلالة على أن علمه صلى الله عليه وسلم من القرآن، وفيه دلالة على جلالة الله وقدرته، ودلالة على عظيم نعمته على نبيه صلى الله عليه وسلم وفيه دلالة على كذب من ادعى أن غيره من الكتب أوضح منه1. وفي قوله تعالى: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} (الحجر: 1، 2) . يقول الشيخ ما معناه بأن فيها الترغيب في القرآن بجمعه بين الوصفين:   1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير ص 127-128. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 الكتاب وقرآن مبين، فقوله الكتاب معرف بالألف واللام لاستغراقه معنى الكتاب وقرآن مبين1. والذكر هو القرآن، وقد حفظه الله عن شياطين الجن والإنس، حفظاً كافياً في تصديق الرسول وشييه عن إِنزال الملائكة كما يقترح المعاندون، قال تعالى: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 2 (الحجر: 96) . وفي قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} (الحجر: 87) . قال الشيخ: فيها: المنة بايتاء السبع المثاني والقرآن العظيم، وفيه التعزية عما أصابه وعما صرف عنه3. والقرآن الكريم تبيان لكل شيء كما قال الله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} (النحل: 89) . فمن ابتغى الهدى من غيره ضل كما قال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} 4 (الزخرف: 36-37) . ويقول الشيخ: وقد من الله تعالى علينا بكتابه الذي جعله {تِبْيَاناً لِكُلِّ   1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير ص 183. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير 184- 185. 3 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير ص 195. 4 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، فضائل القرآن ص 22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (النحل: 89) . فلا يأتي صاحب باطل بحجة إلا وفي القرآن ما ينقضها ويبين بطلانها، كما قال تعالى: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} (الفرقان: 33) . قال بعض المفسرين هذه الآية عامة في كل حجة يأتي بها أهل الباطل إلى يوم القيامة1. ويبين الشيخ موقف المؤمن من متشابه القرآن فيقول: "إن الأمر العظيم والفائدة الكبيرة لمن عقلها قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} (آل عمران:7) . وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم" 2 وهو عن عائشة - رضي الله عنها- متفق عليه. ففي هذا نعلم أن الله ذكر في كتابه أن الذين في قلوبهم زيغ يتركون المحكم ويتبعون المتشابه.   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كشف الشبهات ص 160، 161. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، أُصول الإيمان ص 258، والقسم الرابع، التفسير، فضائل القرآن ص 27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 ونقطع أن كلام الله لا يتناقض، وأن كلام النبي صلى الله عليه وسلم لا يخالف كلام الله ... فالشيخ يرد المتشابه إلى المحكم، ويؤمن بالجميع ويعلم أن المتشابه لا يناقض المحكم. ويستدل الشيخ بما رواه ابن جريرعن سعد ابن أبي وقاص قال: أنزل الله على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن فتلاه زمانا فقالوا يا رسول الله لو حدثتنا فنزل: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} 1 (الزمر: 23) . ويقول الشيخ: "ومما يدل على أن القرآن كاف عما سواه من الكتب أن عمر أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب فقرأه عليه فغضب فقال: "أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب؟ والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لاتسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبونه أو بباطل فتصدقونه، والذي نفسي بيده لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي" رواه أحمد وفي لفظ أنه استكتب جوامع من التوراة وقال: "ألا أعرضها عليك"، وفيه:   1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، يوسف ص 127. والحديث أخرجه ابن حبان كما فى موارد الظمآن ص 432 وابن جرير فى التفسير ج 12 ص 150 والحاكم في المستدرك ج2 ص 345 وقال فيه صحيح الإِسناد ووافقه الذهبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 "لو أصبح فيكم موسى حيا ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم إنكم حظي من الأمم وأنا حظكم من النبيين" قال الشيخ: وقد انتفع عمر بهذا فقال للذي نسخ كتاب دانيال امحه بالحميم والصوف الأبيض، وقرأ عليه أول هذه السورة، وقال: "لئن بلغني أنك قرأته أو أقرأته أحدا من الناس لأنهكنك عقوبة" 1. وقال الشيخ في حديث نحو حديث قصة عمر هذه عن أبي هريرة رواه الإسماعيلي في معجمه وابن مردويه. وقال الشيخ في حديث آخر تضمن قصة عمر بأسلوب آخر. عن عبد الله بن ثابت بن الحارث الأنصاري رواه عبد الرزاق وابن سعد والحاكم في الكنى2.   1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، يوسف ص 127-128. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة أُصول الإيمان ص 258-259. وانظر: تفسير ابن كثير، ج2 ص 466 - 468، فقد خرج الروايات هناك، ومسند أحمد ج3/387 عن جابر، وروى نحوه البيهقي والديلمي وأبو نصر السجزي فى الإبانة عن جابر أيضا ورواه أحمد وابن ماجه عن ابن عباس وروى نحوه ابن عساكر عن ابن مسعود وعن أنس (كنز العمال ج1ص 200-201) وقد ذكر الحافظ ابن حجر أن هذا الحديث أخرجه أحمد والبزار من حديث جابر بنحوه ولأحمد أيضا وأبي يعلى من وجه آخر عن جابر نحوه وأَخرجه الطبراني عن أبي الدرداء وأخرجه أحمد والطبراني من حديث عبد الله بن ثابت، وأخرج أبو يعلى من طريق خالد بن عرفطة قال كنت عند عمر فذكر قصة إِنكاره على من نسخ كتاب (دانيال وذكر الحديث) ثم قال الحافظ ابن حجر وهذه جميع طرق هذا الحديث وهي وإن لم يكن فيها ما يحتج به لكن مجموعها يقتضي أن لها أصلا (فتح البارى، ج 13 ص 525) . ومع ذلك فالحافظ ابن حجر لم يذكر من هذه الطرق ما خرجه الشيخ من كتاب معجم الإسماعيلي ومن كتاب ابن مردويه عن أبي هريرة، وما خرجه الشيخ رحمه الله، من مصنف عبد الرزاق وطبقات ابن سعد والكنى للحاكم عن عبد الله بن ثابت كما ذكرنا. ولم يذكر تخريج مؤلف كنز العمال عند البيهقي والديلمي وأَبو نصر السجزي فى الإبانة عن جابر، وتخريج مثله عند أحمد وابن ماجة عن ابن عباس، وتخريج نحوه عند ابن عساكر عن ابن مسعود وعن أَنس وتخريجات أخر (انظر: كنز العمال ج1ص 200- 201) . والقصة بهذا لها أصل كما قال الحافظ بن حجر ذلك رحمه الله فيستدل بها على أن القرآن كاف عما سواه من الكتب السابقة السماوية، مع دلالة الواقع الواضحة، والأدلة الأخرى من القرآن والسنة وقدمنا ذكر بعضها قبل قليل، وسيأتي ذكر بعض آخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 وفي كتاب أصول الإيمان عقد الشيخ باباً سماه باب الوصية بكتاب الله عزوجل وقوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} (الأعراف: 3) . وأورد في ذلك أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم منها ما رواه مسلم عن زيد ابن أرقم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فحمد الله وأثنى عليه ثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 قال: "أما بعد أيها الناس فإِنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله وتمسكوا به فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال وأهل بيتي" وفي لفظ "كتاب الله هو حبل الله المتين من اتبعه كان على الهدى ومن تركه كان على الضلالة" رواه مسلم1. وله في حديث جابر، الطويل، أنه صلى الله عليه وسلم قال في خطبة يوم عرفه: "وقد تركت فيكم ما لن تضلوا إن اعتصمتم به- كتاب الله وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت". قال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكبها إلى الناس " اللهم اشهد" ثلاث مرات 2. وقد ألف الشيخ في فضائل القرآن الكريم كتاباً طبع مقدمة لما جمع من تفسيره فذكرالشيخ فيه باب فضائل تلاوة القرآن وتعلمه وتعليمه، وباب ما جاء في تقديم أهل القرآن وإكرامهم وباب وجوب تعلم القرآن وتفهمه واستماعه، والتغيلظ على من ترك ذلك، وباب الخوف على من   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، أُصول الإيمان ص 256 والقسم الرابع، فضائل القرآن ص 22، 24. وانظر صحيح مسلم ج2 ص 890 وج4/1873، 1874. 2 المصدر السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 لم يفهم القرآن أن يكون من المنافقين، وباب قول الله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} وباب إثم من فجر بالقرآن وباب إثم من تأكل بالقرآن وباب الجفاء عن القرآن وباب من ابتغى الهدى من غير القرآن، وباب الغلو في القرآن، وباب ما جاء في اتباع المتشابه، وباب وعيد من قال في القرآن برأيه وبما لا يعلم، وباب ما جاء في الجدال في القرآن، وباب ما جاء في الاختلاف في القرآن في لفظه أو معناه، وباب إذا اختلفتم فقوموا، وباب قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا} ، وباب ما جاء في التغني بالقرآن1. وقد ذكرنا في منهج الشيخ أنه يعتبر القرآن المرجع الأصلي الذي يجب الرجوع إليه ولا يجوز الاعراض عنه لقوله تعالى: {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً} (طه: 99-100) . وقوله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (طه: 124) . وقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وإنهم وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} 2 (الزخرف: 36-37) .   1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، أوله ص1-40. 2 الدرر السنية ط 2 ج 4/ 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 والحاصل أن الشيخ، يؤمن بكتب الله المنزلة ويصدق بأنها كلام الله حقيقة، ويصدق بأسماء ما سمي منها، ويخص القرآن الكريم بالتعبد بتلاوته وقراءته وتدبره، واتباع ما فيه وتنفيذ أوامره واجتناب نواهيه، وتحليل ما أحل وتحريم ما حرم، لأنه بيان لكل شيء وخاتم لكل كتاب، ومهيمن عليه، وصراط مستقيم وأحسن الحديث، وحبل الله المتين، فالاعتصام به عصمة، وهو كلام الله الذي لا نظير له من الكلام في دفع الشر، وأنه صالح لكل زمان ومكان1.   1 انظر: مؤلفات الشيخ، ملحق المصنفات رقم 47 ص 34 وص 72، 73-75 والقسم الرابع، التفسير ص 337 وص 317 وص 4 32 وص 0 5 وص 49 وص 68 وص 181، 182 وص 240وص 228 وص 326، 327 وص 332 وص 200 وص 249 وص 281 وص 227 وص 291 وص 224 وص 263، 265، 266. والقسم الأول، العقيدة، ستة أُصول عظيمة ص 396-397 ومسائل الجاهلية ص 341، 344. والقسم الثالث، الفتاوى ص 75، 76 وص 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 الإيمان بالرسل: ويؤمن الشيخ بالرسل الذين أرسلهم الله والأنبياء الذين نبأهم الله. ومن الإيمان بهم، معرفة مراد الله في بعثتهم كما قال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} الآية. وأما الحكمة الأخرى فذكرها أيضا في غير موضع، منها قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} إلى قوله تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} . فقوله: {مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} وقوله: { {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} هما حكمة الله في إيجاد الخليقة وإليهما ترجع كل حقيقة1. ويعتقد أنهم صادقون فيما أخبر وا به، وأنهم بلغوا الرسالة وأدوا الأمانة، وأنه يجب احترامهم وعدم التفريق بينهم وأن من كذب واحدا منهم فقد كذب جميع الرسل، ويؤمن الشيخ بمن سمى الله منهم في كتابه باسمه كإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وموسى وعيسى ومن قبلهم نوح وخاتمهم محمد صلى الله عليه وعليهم وسلم تسليما كثيراً، وكل من صرح باسمه في القرآن الكريم والسنة يؤمن به باسمه وما لم يصرح باسمه فيؤمن به على الإطلاق كما ورد.   1 الدرر السنية ط 2، ج1ص 104. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 وأول الرسل نوح وآخرهم محمد عليهم الصلاة والسلام، والدليل على أن أولهم نوح عليه السلام قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} 1 (النساء: 162-166) وأن إبراهيم عليه السلام خليل الرحمن وجعله الله للناس إماما في التوحيد وما كان من المشركين2. وقد أعطى موسى عليه الصلاة والسلام قوة في جسمه أخذا من قصته في القرآن وبطشه بالعدو وقدرته على السقاية للمرأتين من ماء مدين. ومن خصوصياته التي اشتهر بها تكليم الله إياه، ولذلك يذكرها إبراهيم عليه السلام حين يحيل إذا طلبت منه الشفاعة وقد أرسل إلى فرعون وقومه بتسع آيات بينات، ولأصحابه فضيلة على من سواهم من   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كشف الشبهات ص 155 وثلاثة الأُصول وأدلتها، ص193، 195- والدرر السنية ج1ص 82. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، مختصر زاد المعاد ص 194 وص 234-235، وص 237. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 قومه1. وأن يوسف جميل الظاهر بالحسن وجميل الباطن بالعفة، وهوكريم عارف، صرف الله عنه السوء والفحشاء وكان من المخلصين2. وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه3. وأن الأنبياء يتفاوتون في الفضل وأنهم أشد الناس بلاء4. وأن قصص الرسل ممدوح فيه عبرة لا يفهمها إلا أولوا الألباب5 ولا نبي إلا رعى الغنم، ورعي الغنم صفة كمال6. وأن الرسل من البشر كلهم رجال، وليس في الجن ولا في النساء رسل، وأنهم من أهل القرى7.   1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير ص 39-40 وص194، 195، ص 253، 286، 288 وص 297، 302 وص291، 292، والقسم الأول، العقيدة، مسائل الجاهلية ص 350- 351، وكتاب التوحيد ص 17. وانظر: تاريخ نجد للألوسي ص 44. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، ص 129-130 وص 143وص 137 وص 141وص 145 وص 151 وص 176-77 1. 3 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد ص 14. 4 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير ص 166وص 131 وص 162 وص 169 وص 171. 5 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير ص 181. 6 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير ص 290. 7 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير ص 179 وص 211-212 وص 253. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 وأنه يجوز عليهم الخطأ والنسيان فيما لا تعلق له بتبليغ الرسالة، ولا تنكر إصابة الشيطان للأنبياء بما لا يقدح في النبوة، وأنهم على بشريتهم وإِن كانوا أنبياء، وهذا من أدلة التوحيد1 وهم يحتاجون إلى التنبيه على فضل لا إله إلا الله، كما في قصة موسى حين قال: يارب علمني شيئا أذكرك به20 الحديث. وأن دينهم التوحيد، وأن الدعوة إلى توحيد الله سبيلهم وسبيل من اتبعهم3 وبذلك أرسلوا ورسالتهم حق4. وخلاصة رسالتهم: هي أن يدعوا المخالفين إلى أن يوحدوا الله تعالى ويتركوا الشرك به كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (النحل: 36) 5. وأن رسالة الرسل عمت كل أمة من بني آدم، وكل أمة لها رسولها يخصها، وأن الله يثيب من أطاع الرسل بالجنة، ويعاقب من عصاهم   1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير ص 253. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد ص 13. 3 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير ص 144 والقسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد ص 9. 4 المصدرالسابق ص 117 وص 101-103وص 107 وص 84 وص 180. 5 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد ص 7، 9 وثلاثة الأُصول ص 195. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 بالنار1. وأرسل الله الرسل مبشرين ومنذرين والدليل قوله تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (النساء: 165) 2، وأنهم ما أتوا أممهم إلا بالوحي3. ويرى أن الله سبحانه اختار الأنبياء من ولد آدم، واختار الرسل من الأنبياء، واختار من الرسل أولي العزم منهم، وهم الخمسة المذكورون في سورتي الأحزاب والشورى4. والشيخ يشير بهذا إلى قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} (الأحزاب: 8) . وإلى قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} (الشورى: 13) .   1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير ص 209 وص 180 وص 185 وص 342، والقسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد ص 7، 9. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة ثلاثة الأُصول ص 195. 3 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير ص 179. 4 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، مختصر زاد المعاد ص 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 ويقول الشيخ: "واختارمن أولي العزم الخليلين: إبراهيم ومحمدا صلى الله عليهما وسلم وعليهم أجمعين"1. وأن الله أخذ الميثاق الشديد على الرسل لئن بعث فيهم رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ليؤمنن به ولينصرنه، فأقروا بذلك- قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (آل عمران: 81-82) 2. ويقول الشيخ في كلامه على قصة آدم وإبليس ومن فوائدها أنها من أدلة الرسل عامة، ومن أدلة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم خاصة3. ويؤمن بأن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين والمرسلين وأنه لا يصح إيمان عبد حتى يؤمن برسالته ويشهد بنبوته. والدليل قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 4 (التوبة: 128) . ويقول الشيخ: "والدليل على أَنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من العقل والنقل:   1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، مختصر زاد المعاد ص 8. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير ص 46-47. 3 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير ص 84 والدرر السنية ج1 ص 97، 98. 4 الدرر السنية ط 2 ج1، ص 29 وص 95 ومؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 1ص 10، والقسم الأول، العقيدة، ثلاثة الأُصول ص 190. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 أما النقل فواضح، وأما العقل فنبه عليه القرآن، من ذلك ترك الله خلقه بلا أمر ولا نهي لا يناسب في حق الله ونبه عليه في قوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ} 1 ومنها أن قول الرجل: إني رسول الله إما أن يكون خير الناس، وإما أن يكون شرهم وأكذبهم، والتمييز بين ذلك سهل يعرف بأمور كثيرة، ونبه على ذلك بقوله: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} الآيات2، ومنها شهادة الله بقوله: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} 3 ومنها شهادة أهل الكتاب بما في كتبهم كما في الآية، ومنها- وهي أعظم الآيات العقلية- هذا القرآن الذي تحداهم الله بسورة من مثله، ونحن إِن لم نعلم وجه ذلك من جهة العربية فنحن نعلمها من معرفتنا بشدة عداوة أهل الأرض له علمائهم وفصحائهم، وتكريره هذا واستعجازهم به، ولم يتعرضوا لذلك على شدة حرصهم على تكذيبه، وإِدخال الشبه على الناس، ومنها تمام ما ذكرنا وهو إِخباره سبحانه أنه لا يقدر أحد أن يأتي بسورة مثله إلى يوم القيامة، فكان كما ذكر مع كثرة   1 1لأ نعام: 91. 2 الشعراء:222. 3 الأحقاف: 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 أعدائه في كل عصر، وما أعطوا من الفصاحة والكمال والعلوم". ثم استمر الشيخ يذكر الأدلة العقلية فيقول: "ومنها نصرة من اتبعه، ولوكانوا أضعف الناس، ومنها خذلان من عاداه وعقوبته في الدنيا، ولو كانوا أكثر الناس وأقواهم، ومنها أَنه رجل أمي لا يخط ولا يقرأ الخط ولا أخذ عن العلماء، ولا ادعى ذلك أحد من أعدائه مع كثرة كذبهم وبهتانهم، ومع هذا أتى بالعلم الذي في الكتب الأولى، كما قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} 1 (العنكبوت: 48) . ومن ذلك ما استدلت به خديجة من صفاته الكريمة حيث قالت: أبشر فو الله لا يخزيك الله أبدا. ثم استدلت بما فيه من الصفات على أن من كان كذلك، لم يخزه الله أبدا، فعلمت بفطرتها وكمال عقلها أن الأعمال الصالحة، والأخلاق الفاضلة تناسب كرامة الله وإحسانه، ولا تناسب الخزي2. وقد عصم الله رسوله صلى الله عليه وسلم من الناس، فاجتهدت قريش في قتله   1 الدرر السنية، ط 2، ج 2، ص 46، 48. وانظر مؤلفات الشيخ، القسم الأول، التوحيد ص، ص 17، 22، 34، 70- 71 والقسم الرابع، التفسير ص، ص 46، 124، 178، 180، 181، 331، 332، 243، 370، 372، 380، 381 والقسم الثالث، مختصر السيرة ص 101،218 والقسم الخامس، الشخصية رقم 2 ص 17، 18.. 2 مؤلفات الشيخ، الفسم الرابع، مختصر زاد المعاد، ص 167. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 وأخفاه الله عنهم وحفظه وصاحبه في الغار1. وفي معرض إيراد الشيخ أدلة تحت باب ما جاء أن بعض هذه الأمة تعبد الأوثان أورد حديث ثوبان رضي الله عنه لمسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها. وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زُوِيَ لي منها وأعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة، وأن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم. وإن ربي قال: يا محمد، إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد. وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة. وأن لا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، ولواجتمع عليهم من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بعضا" 2 رواه البرقاني في صحيحه3، وزاد: " وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين. وإذا   1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، مختصر زاد المعاد ص 185-187. 2 صحيح مسلم، كتاب الفتن، باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض، ج4 ص 2215، 2216. 3 قوله: البرقانى. قال الشيخ سليمان بن عبد الله فى شرحه تيسير العزيز الحميد: "هو الحافظ الكبير أبو بكر محمد بن أحمد بن غالب الخوارزمى الشافعى، ولد سنة ست وثلاثين وثلاثمائة، ومات سنة خمس وعشرين وأربعمائة. قال الخطيب: كان ثبتا ورعا، لم نر فى شيوخنا أثبت منه، عارفا بالفقه، كثير التصنيف، صنف مسندا ضمنه ما اشتمل عليه الصحيحان وجمع حديث الثورى، وحديث شعبة، وطائفة، وكان حريصا على العلم منصرف الهمة إليه" ثم قال الشيخ سليمان: "قلت وهذا المسند الذي ذكره الخطيب هو صحيحه الذي عَزَى إليه المصنف". انتهى. تيسير العزيز الحميد فى شرح كتاب التوحيد ص 325. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 وقع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان. وأنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون، كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي. ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، ولا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى". قال الشيخ فيها من الآيات العظيمة: إخباره بأن الله زوى له المشارق والمغارب وأخبر بمعنى ذلك فوقع كما أخبر، بخلاف الجنوب والشمال، وإخباره بأنه أعطى الكنزين وإخباره بإجابة دعوته لأمته في الاثنتين، وإخباره بأنه منع الثالثة، وإخباره بوقوع السيف، وأنه لا يرفع إذا وقع، وإخباره بظهور المتنبئين في هذه الأمة، وإخباره ببقاء الطائفة المنصورة وكل هذا وقع كما أخبر، مع أن كل واحدة منها أبعد ما يكون في العقول1. ويقول الشيخ رحمه الله في قوله تعالى في آخر سورة يوسف خطابا   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، ص 70-71، ويقصد الشيخ أن هذه الأخبار غيبية لا تدركها العقول وإن كانت لا تحيلها لكنه بعد أن يأتي الشرع بالخبر عن مغيب فلابد من اعتقاد أن ذلك سيقع وفقاً لما أخبر به. وقد حصل من المؤمنين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} إلى قوله تعالى: {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} . فيه تنبيه الله على آية الرسالة بأن هذه القضية غيب لا يتوصل إليه الرسول صلى الله عليه وسلم إلا بالوحي لكونه لا يقرأ ولا يخط، ولا أخذ عن عالم، وتقريرهذه الحجة بقوله: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ} لأن هذا لا سبيل إلى العلم به إلا بالوحي أو بحضوره وأن مكرهم خفى حتى لو حضرهم أحد لخفي عليه. ويقول الشيخ في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ} (يوسف: 109) . يقول الشيخ فيها: رد شبهتهم في كونه بشرا وذلك واضح لأنهم إن كانوا ممن يقر بالرسالة في الجملة كأهل الكتاب والمشركين فواضح، وإن أنكروها كالمجوس فالنكال الذي أوقع الله بمن خالف الرسل الذي سمعوه وشاهدوه حجة عليهم، وفيها الرد عليهم في قولهم: {لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ} أو نحو ذلك، لأن الرسل ما أتوا الأمم إلا بالوحي، وفيها استجهال الله إياهم حيث لم يسيروا في الأرض فيعتبروا بمن قبلهم، فدل ذلك على أن فهم ذلك مقدور لهم1.   1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير ص 177- 179. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 ويذكر الشيخ ان رسول الله صلى الله عليه وسلم اقتصر من الأدلة على الوحي ففيه كفاية، وتبرأ من دعوى أن عنده خزائن الله أو أنه يعلم الغيب أوأنه ملك كما قال تعالى: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ} (الأنعام: 50) . ويقول الشيخ: إن الذي يقتصر على الوحي هو البصير، وضده الأعمى1. ومعنى شهادة أن محمدا رسول الله هي طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجرو أن لا يعبد الله إلا بما شرع، وأن محمدا عبد لا يعبد، ورسول لا يكذب، بل يطاع ويتبع، وهو خيرة الله من خلقه، وأمينه على وحيه، وسفيره بينه وبين عباده وكل ما قاله حق وكل ما أخبر عنه صدق. وتتضمن هذه الشهادة الإيمان بأن خاتم الرسل هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم، وهاشم من قريش، وقريش من العرب من ذرية إسماعيل بن إبراهيم الخليل، عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، [انتقل إلى الرفيق الأعلى] وله من العمر ثلاث وستون سنة، أربعون منها قبل النبوة، وثلاث عشرون نبياً رسولاً، نُبئ بـ (إقرأ) ، وأرسل بـ (المدثر) وبلده مكة، وهاجر إلى المدينة، بعثه الله بالنذارة عن الشرك،   1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير ص 56. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 ويدعوا إلى التوحيد، فلما أخذ على هذا عشر سنين؛ عرج به إلى السماء، وفرضت عليه الصلوات الخمس، وصلى في مكة ثلاث سنين. وبعدها أمر بالهجرة إلى المدينة فلما استقر بالمدينة أمر ببقية شرائع الإسلام مثل الزكاة والصوم والجهاد والحج والأذان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك من شرائع الإسلام أخذ على هذا عشر سنين أيضا وبعدها توفي صلوات الله وسلامه عليه، ودينه باق، لا خير إلا دل الأمة عليه، ولا شر إلا حذرها منه، والخير الذي دل عليه التوحيد وجميع ما يحبه الله ويرضاه، والشر الذي حذر منه الشرك وجميع ما يكرهه الله ويأباه. بعثه الله إلى الناس كافة، وكل ما قاله حق وافترض الله طاعته على جميع الثقلين: الجن والإنس ودعوته عامة لكل زمان ومكان إلى قيام الساعة، وهذه من فضيلته على الأنبياء والدليل قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} (الأعراف: 158) . وأكمل الله به الدين. والدليل قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} (المائدة: 3) . والدليل على موته صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} (الزمر: 30، 31) . وهو يوم القيامة صاحب الحوض المورود، والمقام المحمود، أول شافع، وأول مشفع، ولا ينكر شفاعته إلا أهل البدع فله الشفاعة الكبرى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 وهي المقام المحمود، وأسعد الناس بها أهل التوحيد الخالص، ولا تكون لمن أشرك بالله1. وطريق رسول الله صلى الله عليه وسلم هو صراط الذين أنعم الله عليهم، فالمنعم عليهم هم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والمسلم في كل ركعة من صلاته يسأل الله أن يهديه طريقهم والمراد بذلك الدين الذي أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم وكل من خالفه من طريق أو علم أو عبادة، فليس بمستقيم2. ويعتقد الشيخ أن الإيمان به صلى الله عليه وسلم حقيقة يقتضي نصرته وطاعته والهدى في ذلك، فإِن من حقوقه صلى الله عليه وسلم طاعته كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (النساء: 59) .   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، التوحيد ص 51-53 وص 67 وكشف الشبهات ص 166 وثلاثة الأُصول ص 190، 192-195 وتلقين أُصول العقيدة للعامة ص 373، 374، والقسم الثالث، مختصر السيرة ص 51 وص80- 81 وص 142، الفتاوى رقم 9 ص 44، والقسم الخامس، الشخصية رقم 29 ص 196 ورقم 22 ص 154 ورقم 17 ص 113، 114 ورقم 19 ص 124 ورقم1ص 9-10 ورقم 14 ص 94. والقسم الرابع، التفسير ص 223 وص 253-254 وص 196،197، ص 46-47 وص 353 وص 178. ومختصر زاد المعاد ص163-164، ص 177-179 وص 180-187 وص 299. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، ص 17، ص 47، ص 279. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (الحشر:7) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بى وبما جئت به فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عزوجل" رواه مسلم1. ولهما عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار" 2. ولهما عن أنس مرفوعا: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالديه والناس أجمعين" 3. وعن المقدام بن معدى كرب الكندي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يوشك الرجل متكئا على أريكته يحدث بحديث من حديثي فيقول بيننا وبينكم كتاب الله عز وجل فما وجدنا فيه من حلال استحللناه وما وجدنا فيه من حرام حرمناه ألا وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم   1 ج1 كتاب الإيمان باب 8 ص 52 رقم 34 ترتيب فؤاد عبد الباقى. 2 صحيح البخاري، ج1 كتاب الإيمان باب 9 ص 9 وباب 14 ص 10 وصحيح مسلم كتاب الايمان باب 15 ص 66 رقم 67. 3 البخاري، الايمان باب 8 ص 9، ومسلم، الايمان باب 16 ص 67 رقم70. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 مثل ما حرم الله" رواه الترمذي وابن ماجه1. ورسول الله صلى الله عليه وسلم على خلق عظيم وعدل وتواضع يعرف ذلك حتى أعداؤه2. وكان صلى الله عليه وسلم أشرح الخلق صدرا وأطيبهم نفسا (لما جبل عليه صلى الله عليه وسلم من الكرم العظيم) بالإِضافة إلى ما خصه الله به من شرح صدره بالرسالة وخصائصها وتوابعها، وشرح صدره حسا، وإِخراج حظ الشيطان منه3. وله صلى الله عليه وسلم الفضائل العظيمة وقول الحق الذي لا يقدر غيره أن يقوله4. وهو الرسول النبي الأمي حبيب الله وصفيه من خلقه صلى الله عليه وسلم 5. وأقرب الخلائق منزلة عند الله تعالى6. ويقول فى قول الله تعالى: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (آل عمران:101)   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، أُصول الايمان، باب حقوق النبي صلى الله عليه وسلم ص 260- 261. وهو فى سنن ابن ماجة، المقدمة رقم 12 باب 2. وفى الترمذي كتاب العلم باب 10 رقم 2664. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير ص 46 والقسم الأول، كتاب التوحيدص 17 وص 11. 3 المصدر السابق القسم الرابع، مختصر زاد المعاد ص 76 والقسم الثالث مختصر السيرة ص64- 68 وص143، 179، 180، 203، 213، 214. 4 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير ص381 وص250. 5 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 16 ص104، 107. 6 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير ص 339. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 فيها: أن آيات الله لا نظير لها فى دفع الشر فى سائر الكلام، كما أن رسوله صلى الله عليه وسلم لا نظير له فى الأشخاص فى دفع ذلك1. وهو سيد المرسلين2، وسيد ولد آدم على الحقيقة من غير افتخار3. وقد أكرمه الله بالخلة وهي أعلى من المحبة كما كان إبراهيم4. ولابد من الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيم حرمته، وعدم التقدم بين يديه وقد نزل تغليظ فى ذلك فى أول سورة الحجرات ووصف الله الذين ينادون رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات، بأن أكثرهم لا يعقلون5 وكان صلى الله عليه وسلم فى حياته يسأله المسلمون الاستسقاء ويتوسلون بدعائه ويستشفعون6. وهو صلى الله عليه وسلم في البرزخ تعرض عليه أعمال أمته من الصلاة والسلام عليه7.   1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير ص 49. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير ص235. 3 المرجع السابق، ص 170. 4 المرجع السابق، القسم الأول، التوحيد ص 63. 5 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير ص350، 351، والقسم الثالث، مختصر السيرة، ص238-241. 6 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد ص145. 7 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد ص 67. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 وهو صلى الله عليه وسلم أفضل جميع الخلائق والأنام وسيد ولد آدم عليه وعلى آله وصحبه الصلاة والسلام 1 ويرى الشيخ فضيلة أمة محمد صلى الله عليه وسلم على غيرها من الأمم بالكمية والكيفية2، وأن الله سبحانه اختار ولد إسماعيل من أجناس بنى آدم، ثم اختار عنهم بنى كنانة من خزيمة، ثم اختار من ولد كنانة قريشا، ثم اختار من قريش بنى هاشم ثم اختار من بنى هاشم سيد ولد آدم محمد صلى الله عليه وسلم كما في المسند عن معاوية بن حيدة مرفوعا "أنتم توفون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله" 3. فهم أفضل الأمم واختار لهم أفضل القبل، كما اختار لهم أفضل الرسل، وأفضل الكتب وأخرجهم من خير القرون، وخصهم بأفضل الشرائع، ومنحهم خير الأَخلاق، وأسكنهم خير الأرض4. ويؤمن بأن أفضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق، وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ولو كنت متخذا من أمتى خليلا، لاتخذت أبا بكر خليلا". يرى الشيخ في هذا التصريح بأن الصديق أفضل الصحابة وفيه الإِشارة إلى خلافته5.   1 انظر: تاريخ نجد للألوسى، ص 43-44. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، كتاب التوحيد ص 17. 3 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، مختصر زاد المعاد ص 8، 9. 4 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، مختصر زاد المعاد ص، ص 194، 195. 5 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد ص 61، 63. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 ويقول الشيخ في تلخيصه عن ابن تيمية رحمه الله: "ذكر غير واحد الإِجماع على أن الصديق أعلم الأمة، وهذا بين فإِنهم لم يختلفوا في مسألة في ولايته إلا فصلها بحجة من الكتاب والسنة، كما بين لهم موته صلى الله عليه وسلم، وموضع دفنه، وقتال مانعي الزكاة، وأن الخلافة في قريش، واستعمله صلى الله عليه وسلم على أول حجة حجت من مدينته، وعلم المناسك- أدق العبادات- ولولا سعة علمه بها لم يستعمله، ولم يستخلف غيره، لا في حج ولا في صلاة وكتاب الصدقة التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذه أنس من أبي بكر وهو أصح ما رُويَ فيها، وفي الجملة لا يعرف مسألة غلط فيها، وعرف لغيره مسائل كثيرة، وتنازعوا بعده في مسائل الجد والإِخوة، والعمريتين والعول، وغير ذلك من مسائل الفرائض ومسألة الحرام والطلاق الثلاث بكلمة، والخلية، والبرية، والبته، وغير ذلك من مسائل الطلاق، وفي مسائل صارت نزاعا إلى اليوم لكنه في خلافة عمر نزاع محض وقوي النزاع في خلافة عثمان حتى حصل كلام غليظ من بعضهم لبعض، وفي خلافة علي صار النزاع بالسيف، ولم يعلم أنه استقر بينهم نزاع في خلافة أبي بكر في مسألة واحدة، وذلك لكمال علمه، ثم التي خولف فيها بعد موته قوله فيها أرجح1. ويشرح الشيخ مثلا من ذلك وهو: "أنه لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتد   1 مؤلفات الشيخ، ملحق المصنفات، مسائل ملخصة رقم 76، ص 53-54. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 غالب من أسلم وحصلت فتنة عظيمة ثبت الله فيها من أنعم عليهم بالثبات بسبب أبي بكر الصديق رضي الله عنه فإِنه قام فيها قياما لم يدانه فيه أحد من الصحابة، ذكَّرهم فيه ما نسوا وعلمهم ما جهلوا، وشجعهم لما جبنوا- فثبت الله به دين الإسلام". قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (المائدة: 54) . يقول الشيخ: "قال الحسن: هم والله أبو بكر وأصحابه1- ويقول: جعلنا الله من أتباعه وأتباع ما حمله وأصحابه" 2. ثم عمر الفاروق رضي الله عنه فهو الثاني بعد أبي بكر رضي الله عنه في الخلافة والفضل3 وهوالمحدث الملهم الذي أمرنا باتباع سنته وله الفضائل المشهورة، والسوابق المأثورة4. ثم عثمان ذو النورين هو ثالث الخلفاء في الخلافة والفضل رضي الله   1 قال ابن كثير: رواه ابن أبي حاتم، انظر: التفسير، ج 2 ص 70. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الثالث، مختصر السيرة ص 36، 37 وص 56 2-59 2 وص 261-300. 3 مؤلفات الشيخ، القسم الثالث، مختصر السيرة ص 302-309. 4 المصدر السابق، الفتاوى ص 35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 عنه1. كان من ذوي السابقة والشرف والعلم، هاجر الهجرتين، وصلى القبلتين. وزوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنتيه، لما توفيت الأولى معه، زوجه الأخرى. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدمه ويستحي منه2. ثم علي المرتضى هو رابع الخلفاء الراشدين في الخلافة والفضل- ومن فضائله قتل الخوارج رضي الله عنه3، ومن فضيلته رضي الله عنه ما ورد في الحديث المتفق عليه عن سهل بن سعد رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: "لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه، فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها؟ فلما أصبحوا غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلهم يرجو أن يعطاها. فقال: أين علي بن أبي طالب؟ فقيل: هو يشتكي عينيه، فأرسلوا إليه فأتى به. فبصق في عينيه، ودعا له. فبرأ كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية فقال انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام. وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فوالله لأن يهدي الله بك   1 مؤلفات الشيخ، القسم الثالث، مختصر السيرة ص 309-316. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الثالث، مختصر السيرة ص 9. 3 مؤلفات الشيخ، القسم الثالث، مختصر السيرة ص 316-322، والقسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد ص 22. ومؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم (1) ص 10، وملحق المصنفات، الخطب المنبر ية، ص 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 رجلا واحدا، خير لك من حمر النعم". قال الشيخ فيه فضيلة علي رضي الله عنه1. ثم بقية العشرة المبشرين بالجنة وهم2: طلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة بن الجراح "وهو أمين الأمة" 3. ثم أهل بدر رضي الله عنهم4. ثم أهل الشجرة، أهل بيعة الرضوان5 رضي الله عنهم. ثم سائرالصحابة رضي الله عنهم6. ويترضى عن أمهات المؤمنين، زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، المطهرات من كل سوء ويعتقد فضلهن على مراتبهن7.   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد ص 21-22. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 1ص 10. 3 انظر: الطحاوية وشرحها لابن أبي العز الحنفي ص 549-553. 4 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 1ص10. والقسم الثالث، مختصر السيرة ص 197. 5 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 1ص 10. 6 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 1ص 10 والقسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد ص 1 1 وص 17 والقسم الثالث، مختصرالسيرة ص 78،79، ص 260- 261 وص 322، 323. 7 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 1ص 10، والقسم الثالث، مختصر السيرة ص 64، ص 78، وص 167- 171 وص 322. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 ويقول في تلخيصه عن ابن تيمية رحمه الله: "لآله صلى الله عليه وسلم على الأمة حق لا يشركهم فيه غيرهم، ويستحقون من زيادة المحبة والموالاة ما لا يستحق سائر قريش وقريش يستحقون ما لا يستحق غيرهم من القبائل، كما أن جنس العرب يستحقون من ذلك ما لا يستحقه سائرأجناس بنى آدم، على هذا دلت النصوص: وتفضيل الجملة على الجملة لا يقتضى تفضيل كل فرد كالقرن الأول على الثاني، والثاني على الثالث، وأما نفس ترتيب الثواب والعقاب على القرابة ومدح الله للمعين وكرامته عنده فهذا لا يؤثر فيه النسب، وهذا لا ينافي ما ذكرنا قبله، كما قال: (الناس معادن.. الخ) فالأرض إذا كان فيها معدن ذهب ومعدن فضة فالأول خير، لأنه مظنة وجود أفضل الأمرين فإن تعطل ولم يخرج ذهبا كان ما يخرج الفضة أفضل منه، ولهذا كان في بني هاشم النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا يماثله أحد في قريش، وفي قريش الخلفاء وغيرهم ما لا نظير له في العرب وفي العرب من السابقين الأولين ما لا نظير له في سائر الأجناس.. فالأصل المعتبر هو الإيمان والتقوى، دون من ألغى فضيلة الأنساب مطلقا، ودون من ظن أن الله مفضل الإنسان بنسبه على من هو مثله في التقوى وكلا القولين خطأ وهما متقابلان، فالفضل بالنسب للمظنة والسبب، وبالتقوى لليقين.. والتحقيق والغاية فالأول سبب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 وعلامة، والثانى يفضل به لأنه تحقيق وغاية، والثواب يقع على هذا لأن الحقيقة قد وجدت فلم يعلق الحكم بالمظنة، ولأن الله يعلم الأشياء على ما هي عليه، ولهذا كان رضى الله عن السابقين أفضل من الصلاة على آل محمد، لأن الأول إِخبار بما حصل والثانى سؤال ما لم يحصل، ومحمد أخبر الله تعالى أنه يصلي عليه وملائكته فالفضيلة بنوع لا يستلزم الأفضلية مطلقا، ولهذا كان في الأغنياء من هوأفضل من جمهور الفقراء1. وعلى العموم فالشيخ يعتقد في الآل والأصحاب ومن تبعهم بإحسان، ما ورد به الكتاب والسنة والأصل المعتبر: هو الإيمان والتقوى، فيؤمن بفضائل الصحابة الواردة، وشمائلهم المروية وعمق علمهم، على مراتبهم، ويترضى عن كل واحد منهم لأنه صحابي من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويرفض مسلك الرافضة في الصحابة لما في قصة الحديبية فلقد ذكر الله رسوله وحزبه ومدحهم بأحسن المدح فقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} (الفتح: 29) .   1 مؤلفات الشيخ، ملحق المصنفات رقم 74 ص 51، 52. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 قال الشيخ: "والرافضة تصفهم بضده" 1. ويرفض مسلك الخوارج أيضا ويتبرأ منهم- ويقول رحمه الله في وقعة الجمل إِن مقصود الصحابة الإصلاح بين الناس واجتماع الكلمة، ولكن كان في العسكرين ناس من الخوارج فخافوا من تمالىء العسكرين عليهم، فتحيل الخوارج حتى أثاروا الحرب بينهما من غير رأي فكانت وقعة الجمل المشهورة. وقال في الحكمين بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، لم يتفق الحكمان على شيء. وقال الشيخ في الحسن لما ترك الأمر لمعاوية مراعاة لمصلحة المسلمين، لقد جرى مصداق ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في الحسن: "إِن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين" 2. ثم أورد الشيخ ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الخوارج: "يخرجون على حين فرقة بين الناس، تقتلهم أقرب الطائفتين إلى الحق" 3.   1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، مختصر زاد المعاد ص 257 والتفسير ص 22 والقسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد ص 17 وص 22 وانظر تاريخ نجد للألوسى ص 44، 45. 2 هو في صحيح البخاري في ج 8 كتاب الفتن باب قول النبي صلى الله عليه وسلم للحسن بن علي إن ابني هذا لسيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين ص 98،99. 3 قال الحاكم: هذا حديث صحيح ولم يحرجاه بهذه السياقة ووافقه الذهبي- انظر: المستدرك مع التلخيص ج 2/ 154-155، وانظر: صحيح البخاري ج 7 ص 111 ك 78/ ب 5 9 وج 8 ص 51 -53 ك 88/ ب 6-7 ففيه صفة الخوارج وأنهم يخرجون على حين فرقة من الناس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 وأورد أنه صح عنه صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة: أنه نهى عن القتال في الفتنة وأخبر صلى الله عليه وسلم بوقوعها وحذر منها1. قال الشيخ فحصل بمجموع ما ذكرنا: أن الصواب مع سعد بن أبي وقاص وابن عمر وأسامة بن زيد وأكثر الصحابة الذين قعدوا واعتزلوا الطائفتين، وأن علي بن أبي طالب وأصحابه أقرب إلى الحق من معاوية وأصحابه، وأن الفريقين كلهم لم يخرجوا من الإيمان، وأن الذين خرجوا من الإيمان: إنما هم أهل النهروان. ثم قال الشيخ: "وأجمع أهل السنة على السكوت عما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم ولا يقال فيهم إلا الحسنى- فمن تكلم في معاوية أو غيره من الصحابة فقد خرج عن الاجماع2. - والخلاصة- أن الشيخ يتولى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعا ويذكر محاسنهم، ويترضى عنهم ويستغفر لهم، ويكف عن مساويهم، ويسكت عما شجر بينهم ويعتقد فضلهم عملا بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ   1 انظر: ما في صحيح البخاري مثلا، ج 8 كتاب الفتن، ص 86 ـ 99. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الثالث، مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ص 316، 318، 321-322. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} (الحشر:10) . ويقول الشيخ في تلخيصه عن ابن تيمية رحمه الله: "إذا تكلم فيمن دون الصحابة كالملوك المختلفين وجب أن يكون الكلام بعلم وعدل، فإن العدل واجب لكل أحد على كل أحد في كل حال والظلم محرم مطلقا لا يباح بحال، قال الله تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا} (المائدة: 8) وهذه الآية نزلت بسبب بغضهم للكفار وهو بغض مأمور به فاذا كان هذا قد نهي صاحبه أن يظلم من أبغضه، فكيف في بغض مسلم بتأويل أو شبهة أو هوى، والعدل مما اتفق أهل الأرض على مدحه، والظلم مما اتفقوا على ذمه، والله أرسل الرسل ليقوم الناس بالقسط، وأخبر أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها، وأمر بتقواه بقدر الاستطاعة، ودعا المؤمنون بقوله: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (البقرة: 286) . فقال قد فعلت فدلت هذه النصوص على أنه لا يكلف نفساً إلا وسعها وأن المخطىء والناسي لا يؤاخذه وقال: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا} (الأحزاب: 58) . فمن آذى مؤمنا حيا أو ميتا بغير ذنب يوجب ذلك دخل في الآية ومن كان مجتهدا لا إثم عليه فآذاه مؤذ فقد آذاه بغير ما اكتسب، ومن أذنب وتاب أو غفرله بسبب آخر فآذاه مؤذ فقد آذاه بغير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 ما اكتسب1. ويقر الشيخ بكرامات الأولياء والصالحين، وما لهم من المكاشفات، وهم على صلاحهم رضي الله عنهم وهم كما قال الله فيهم: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (يونس: 62) ، إلا أنهم لا يستحقون من حق الله شيئا، ولا يطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله، وهم بريئون ممن أشرك بالله كبراءة عيسى من النصارى وموسى من اليهود وعلي من الرافضة، وكذلك عبد القادر الجيلانى رحمه الله برىء من أتباع الشيطان الذين ينتسبون إليه، ويتسمون بالفقراء الجيلانية. ثم يبين الشيخ أن هؤلاء الذين يزعمون حب الصالحين وهم يخالفونهم ويشركونهم مع الله في الدعاء والنذر والذبح وغير ذلك من العبادة التى لا تصلح إلا لله أن هؤلاء في الحقيقة أعداء الصالحين، أما من هداه الله فلم يدع إلا الله هو والله الذي يحبهم لأن من أحب قوما أطاعهم فمن أحب الصالحين حقيقة يطيعهم فلا يعتقد إلا في الله كما في طريقتهم2.   1 مؤلفات الشيخ، ملحق المصنفات، مسائل ملخصة رقم 75، ص 52،53. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 21 ص 147 ورقم 8 ص 52 وص 54- 55 ورقم 15 ص 101 ومؤلفات الشيخ، القسم الثالث، مختصر السيرة ص 296. ومؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير ص 282، 283. ومؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كشف الشبهات ص 169، وستة أصول عظيمة ص 395، 396. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 ويقول الشيخ في استنباطاته من قصة آدم وإبليس في خوارق العادة، وما هو منها كرامة وغير كرامة: إِنه لا ينبغى للمؤمن أن يغتر بخوارق العادة إذا لم يكن مع صاحبها استقامة على أمر الله، فان اللعين أنظره الله تعالى، ولم يكن ذلك إلا إِهانة له وشقاء له، وحكمة بالغة يعلمها الحكيم الخبير، فينبغي للمؤمن أن يميز بين الكرامات وغيرها، ويعلم أن الكرامة هي لزوم الاستقامة ومن ذلك يعلم أن الأمور التى يحرص عليها أهل الدنيا قد تكون عقوبة ومحنة، والجاهل يظنها نعمة مثل المال والجاه وطول العمر، فإن الله أعطى اللعين من النظرة ما أعطاه. وكذلك الفاجر قد يعطيه الله سبحانه مثلا من القوى والإِدراكات في العلوم والأعمال حتى في صحة الفراسة، كما ذكر عن اللعين حين تفرس فيهم أن يغويهم إلا المخلصين، فصدق الله فراسته في قوله: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (سبأ: 25) . فإِن قيل في الحديث: "اتقوا فراسة المؤمن فانه ينظر بنور الله" فلا يناقض ما ذكرناه، بل يدل على أن المؤمن أتم هذه الخصلة من غيره وأصدق، كما كان في العلم والإيمان والأعمال والحلم والصبر وغير ذلك، ولوكان للفجار شيء من ذلك1.   1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير ص 95، 98 والحديث رواه الطبراني والترمذي من حديث أبي أمامه وأخرجه الترمذي أيضا من حديث أبي سعيد وراجع تخريجه في كشف الخفاء ومزيل الإِلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس للشيخ إِسماعيل العجلونى، ج1 ص 41-42. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 ويذكرالقول الفصل في عطاء الدنيا بعد أن ذكرخطأ كثير من الناس في نظره إلى ذلك فقال: "بعضهم يظن أن هذا كله نقص أو مذموم، وأن التجرد من المال مطلقا هو الصواب، وبعض يظن أن عطاء الدنيا يدل على رضا الله، وكلاهما على غير الصواب. وذلك أن من أنعم الله عليه بولاية أومال فجعلها طريقا إلى طاعة الله فهو ممدوح، وهو أحد الرجلين الذين يغبطهما المؤمن، وإن كان غير هذا فلا"1 فإِن العطاء ما أغنى أصحاب الحجر: {وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً آمِنِينَ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (الحجر: 82-84) . ما أغنى عنهم ذلك وقت البلاء كما أغنت الأعمال الصالحة عن أهلها برحمة الله تعالى2. ولا يشهد لأحد من المسلمين بجنة ولا نار إلا من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه يرجو للمحسن ويخاف على المسىء، ولا يكفر أحدا من المسلمين بذنب ولا يخرجه به من دائرة الإسلام3.   1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، يوسف ص 157، وقوله أحد الرجلين الذين يغبطهما المؤمن إِشارة إلى حديث (لا حسد إلا في اثنتين) . متفق عليه. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، الحجر، ص 191، 194. 3 الدرر السنية، ج1، ص30. وص 11 من مؤلفات الشيخ، القسم الخامس. ومؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 8 ص 52 وص54، وص 55 ورقم 15 ص 101 ورقم 21 ص 147 والقسم الرابع، التفسير، البقرة ص 25 والأعراف ص 95-104. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 ويرى أن الفرقة الناجية وسط في باب أفعال الله تعالى بين القدرية والجبرية. وهم وسط في باب وعيد الله بين المرجئة والوعيدية. وهم وسط في باب الإيمان والدين بين الحرورية والمعتزلة، وبين المرجئة والجهمية، وهم وسط في باب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الروافض والخوارج1. ويرى الجهاد ماضيا مع كل إمام برا كان أو فاجرا، وصلاة الجماعة خلفهم جائزة، والجهاد ماضيا منذ بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم إلى أن يقاتل آخر هذه الأمة الدجال، لا يبطله جور جائر، ولا عدل عادل. ويرى وجوب السمع والطاعة لأئمة المسلمين برهم وفاجرهم ما لم يأمروا بمعصية الله، ومن ولي الخلافة واجتمع عليه الناس ورضوا به، أو غلبهم بسيفه حتى صار خليفة وجبت طاعته، وحرم الخروج عليه2. ويقول الشيخ في تلخيصه عن ابن تيمية: مذهب أهل السنة أن الأمراء الظلمة مشاركون فيما يحتاج إليهم فيه من طاعة الله فيصلي خلفهم، ويجاهد معهم، ويستعان بهم في الأمر بالمعروف والنهي عن   1 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 1 ص 8. 2 المصدر السابق، الدرر ج1ص 30، ومؤلفات الشيخ ص 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 المنكر، ومن حكم منهم بعدل نفذ حكمه، وإن أمكن تولية بر، لم يجز تولية فاجر، فيجتهدون في الطاعة بحسب الإِمكان، كما قال الله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (التغابن: 16) ويعلمون أن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بصلاح العباد فإِذا اجتمع صلاح وفساد رجحوا الراجح منهما وقل من خرج على سلطان إلا كان ما تولد عن فعله من الشر أعظم من الخير، فلا أقاموا دينا ولا أبقوا دنيا، وإِن كان فيهم خلق من أهل العلم والدين، وهذا مما يبين أن ما أمربه صلى الله عليه وسلم من الصبر على جور الأئمة هو الأصلح، فالشارع أمركلا بما هو أصلح له وللمسلمين، فأمر الولاة بالعدل والنصح لرعيتهم، وأمر بالصبر على استيثارهم وعدم منازعتهم الأمر، والفتن في كل زمان بحسب رجاله، والفتنة تمنع معرفة الحق وقصده والقدرة عليه ففيهما من الشبهات ما يلبس الحق بالباطل، حتى لا يتميز لكثير من الناس، ومن الشهوات ما يمنع قصد الحق، ومن قوة الشر ما يضعف القدرة على الخير، ولهذا يقال: "فتنة عميا صما" 1. ويرى أن الإمام نائب عن المسلمين يتصرف في مصالحهم وقيام الدين، فإِن تعين للدفع عن الإسلام، والذب عن حوزته استجلاب أعداء الإسلام إليه ليأمن شرهم ساغ ذلك بل تعين ومبنى الشريعة باحتمال أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما، وتحصيل أكمل المصلحتين بتفويت أدناهما، بل   1 مؤلفات الشيخ، ملحق المصنفات، مسائل ملخصة رقم 73، ص 50-51. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 بناء مصالح الدنيا والدين على هذين1. ويرى هجر أهل البدع ومباينتهم حتى يتوبوا، ويحكم عليهم بالظاهر، ويكل سرائرهم إلى الله. ويعتقد أن كل محدثة في الدين بدعة، ويرى خلع جميع البدع 2. لأن الله سبحانه وتعالى أخبر بأنه أكمل الدين وأتمه على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرنا بلزوم ما أنزل إلينا من ربنا وترك البدع والتفرق والاختلاف فقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} (الما ئد ة: 3) . وقال: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} (الأعراف: 3) . وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (آل عمران: 31) . وقال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (يوسف: 108) . وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ   1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، مختصر زاد المعاد ص 267-268، والتفسير، البقرة ص 23. 2 المصدر السابق، الدرر ج1ص 30، ومؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 1 ص 11 ورقم 16 ص 107. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (الأنعام:153) . وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (الحشر:7) 1. ويرى وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ما توجبه الشريعة المحمدية الطاهرة2. ويؤمن بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من أخبار الفتن والحوادث، وأشراط الساعة وما جاء في المهدي، وخروج الدجال ونزول عيسى، وأنه لا يزال حيا، وسكنى المدينة وعمارتها وخروج الدابة ونحو ذلك وقد ألف الشيخ في ذلك كتابا بعنوان. هذه أحاديث في الفتن والحوادث التى أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها ستكون بعده3.   1 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 17 ص110- 111. 2 الدرر السنية، ط 2، ج1ص 30، مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الثسخصية رقم 1 ص 11 ورقم 17 ص 114. 3 مؤلفات الشيخ، قسم الحديث، المجلد الثالث، من أوله إلى آخره في هذه الموضوعات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 الإيمان باليوم الآخر: والشيخ يؤمن بالبعث بعد الموت وبإِعادة الأرواح إلى الأجساد وقيام الناس لرب العالمين حفاة عراة غرلا يوم تأتي الساعة- كما قال تعالى: {وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} 1 (الحجر: 85-86) . وكما قال تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} (طه: 15-16) . قال الشيخ ما مضمونه: "فيها ذكر الإيمان باليوم الآخر بعد ذكر الإيمان بالله تعالى مما يبين أنه علة للإيمان بالله فمن لم يؤمن باليوم الآخر لا يؤمن بالله تعالى ولا يؤمن بلقائه يوم القيامة2. ويقول الشيخ في صدر سورة هود فيه من العلوم، علم الإيمان باليوم الآخر، وذكر أنه إلى الله المرجع كما قال تعالى: {وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} الآيات- يقول الشيخ فيها ذكر الجنة والنار وذكر العرض على الله وكلام الأشهاد وأن افتراء الكفار ضل عنهم، وكانوا هم الأخسرون في الآخرة3.   1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير ص 195 وص 51 وص 295، 296، الدرر السنية ج1ص 97. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير ص 295-296. والقسم الأول، العقيدة، مسائل الجاهلية ص 350. 3 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير ص 116. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 وفي قول الله تعالى: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} (النحل: 111) . قال الشيخ فيها: "تعظيم ذلك اليوم، وذكر الأمر الهائل في كل نفس، ونفي الظلم ولو عن الأشرار"1. وفي قوله تعالى: {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} (العلق: 8) . قال الشيخ فيها الإيمان باليوم الآخر، والوعظ بذلك عن الطغيان، وتسلية المطغى عليه بذلك، وكونه إلى رب محمد صلى الله عليه وسلم ففيه الجزاء على الأعمال2. ويقول الشيخ: "والناس اذا ماتوا يبعثون" والدليل قوله تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} (طه: 55) . وقوله تعالى: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً} (نوح: 17، 18) . وبعد البعث محاسبون ومجزيون بأعمالهم - والدليل قوله تعالى: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} (النجم: 31) .   1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير ص 231. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير ص 371 وص 249 وص 195 وص 337، القسم الخامس، الشخصية رقم 4 ص 33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 ومن كذب بالبعث كفر- والدليل قوله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (التغابن: 7) 1. ويقول الشيخ في كلامه على قصة آدم وإبليس: "وفي القصة فوائد عظيمة، وعبر لمن اعتبر بها، منها أن خلق آدم من تراب من أبين الأدلة على المعاد، كما استدل عليه سبحانه في غير موضع وعلى قدرته سبحانه وعظمته ورحمته وعقوبته وإِنعامه وكرمه وغير ذلك من صفاته التى تدل على البعث2. وفي قول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا} - الآية. (الكهف: 21) . قال الشيخ فيها إن الإعثار عليهم لحكمة ومعرفة المؤمن إذا أعثر عليهم. {أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا} كما رد الله موسى إلى أمه لتعلم أن وعد الله حق، فتأمل هذا العلم ما هو؟ وقوله: {وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا} أى لما وقع بينهم النزاع، وذلك أن بعض الناس زعم أن البعث للأرواح خاصة، فأعثر عليهم ليكون دليلا   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، ثلاثة الأصول ص 194، 195 وتلقين أصول العقيدة للعامة ص 373. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير ص 84. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 على بعث الأجساد1. ومن قصة موسى والخضرعليهما السلام يستنبط مسائل في الأصول منها: الدليل على اليوم الآخر، لأن من أعظم الأدلة إحياء الموتى في دار الدنيا2. ومن دليل المعاد المبدأ كما قال تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} (الأعراف: 29) . قال الشيخ فيه ذكر المعاد والاستدلال عليه بالمبدأ3، أي لابد أن يخلقكم للبعث كما بدأ خلقكم من نطفة4. ومن الإيمان باليوم يؤمن الشيخ بما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت، فيؤمن بفتنة القبر، وبعذاب القبر ونعيمه. وبإِعادة الأرواح إلى الأجساد وحالتها في البرزخ وحالة الأموات ونحو ذلك. فأما الفتنة: فالناس يفتنون في قبورهم فيقال للرجل: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟   1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير ص 245، 246. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير ص 253. 3 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير ص 78. 4 المصدر السابق ص 150. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 يقول الشيخ: "فمن لم يعرف ربه، بمعنى معبوده، ودينه، ورسوله، الذي أرسله الله إليه بدلائله في الدنيا ولم يعمل به سئل عنه في القبر، فلم يعرفه، ومن لم يعرفه في القبر ضربته الملائكة بمرزبة من حديد لو اجتمع عليها الجن والإنس ما أَطاقوا حملها، ومن عرفه بدليله وعمل به في الدنيا ومات عليه سئل في القبر فيجيب بالحق، فإنه ذكر في الحديث "إِن العبد المؤمن أو الموقن إذا وضع في قبره سألته الملائكة عن ربه وعن دينه، وعن نبيه، فيقول ربي الله ودينى الإسلام ونبي محمد، جاءنا بالبينات والهدى فأجبنا وصدقنا واتبعنا، فيقال له نم صالحا قد علمنا أنك مؤمن، وأعظم البينات الذي جاء به الرسول كتاب الله كما قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} وأما المنافق والمرتاب إذا سئل عن ذلك يقول هاه هاه لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته فتعذبه الملائكة1. ويؤمن الشيخ بالحساب، وأن الحساب متوقف على الرسالة، وأنه عام حتى المرسلين كما قال تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} (الأعراف: 6،7) .   1 الدرر السنية ج2 ص 42 وج1ص 97، ومؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير ص 183، القسم الثالث، الفتاوى، مسألة رقم 16 ص 78. وانظر: شرح الطحاوية ص 449. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 قال الشيخ: "وفي ذلك أن الله يقص عليهم ما فعلوا بعلمه وأنه شهيد على الجزئيات". كما يؤمن الشيخ: بالميزان وأنه الحق وأن له كفتين. وأن الفلاح بسبب ثقله، والخسارة بسبب خفته، وأن سبب الخفة الظلم بآيات الله تعالى- كما قال تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَظْلِمُونَ} (الأعراف: 8، 9) . ويؤمن بالحوض المورود1. والناس يرون أعمالهم كلها يوم القيامة بدليل قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} . وقد أشار الشيخ إلى أن هذه الآية: "الآية الجامعة الفاذة" ويقرر الشيخ أن الجزاء من جنس العمل2. وأن كل أمة تحشر وحدها مع نبيها3. ومن مشاهد القيامة - في قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا   1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير ص70- 71، وص 378. ومؤلفات الشيخ، القسم الأول، كتاب التوحيد ص14. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير ص 97، وص 377. 3 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، التوحيد ص 17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ} (الزمر: 68-70) . يقول الشيخ فيها: صعق أهل السموات والأرض إلا من استثنى الله وفيها النفخة الثانية فإذا هم قيام ينظرون، ويلاحظ إذا الفجائية وفيها إتيان الرب سبحانه وإِشراق الأرض بنوره وإِضافة الأرض إليه ووضع الكتاب والإِتيان بالنبيين والشهداء، والقضاء بينهم بالحق وتوفية كل نفس عملها وبيان أنه لايقع في الخصومات شىء مما يقع في الدنيا لكونه سبحانه وتعالى أعلم1. وفي شأن الجنة والنار يؤمن الشيخ بهما، وأنهما موجودتان الآن وأن للإِيمان بهما فضلا عظيما. وأن الدور ثلاث، فدار أخلصت للطيب، ودار أخصلت للخبيث، ودار امتزج فيها الخبيث بالطيب، وهي هذه الدار الدنيا، فإذا كان يوم المعاد ميز الله الخبيث من الطيب فجعل الطيب بحذافيره في الجنة، وجعل الخبيث بحذافيره في النار، فعاد الأمر إلى دارين فقط2.   1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير ص 0 34، 341. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، التوحيد ص 14 وص 37، وص 18-19 وص 144. ومؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصة رقم 1ص10. والقسم الرابع، التفسير ص 189 وص 329 وص 376-377، 380 ومختصر زاد المعاد ص 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 وفي قوله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} لآيات (الزمر: 71- 5 7) . قال الشيخ فيها: سياقه الكفار، وكونهم زمرا وفتح أبوابها وقت مجيئهم وتقريع الخزنة لهم وكون كل رسول يتلو الآيات وينذر بذلك اليوم، وكون الرسالة عمت واعترافهم، وأن الذي منعهم كون كلمة العذاب حقت على من كفر، وقول الخزنة ادخلوها خالدين، وبيان أن التكبر سبب الكفر، وفيها سوق أهل الجنة وكونهم زمرا، وفتح الأبواب لهم وتسليم الملائكة وقولهم طبتم فادخلوها خالدين، وقولهم الحمد لله. الخ، حمدوه على صدق الوعد وعلى أنه أورثهم الأرض يتبوؤن منها حيث شاءوا وإِثبات دخولها بالعمل وأنها أجر العاملين ورؤية الملائكة حافين من حول العرش، والقضاء بالحق وقول الخلائق كلهم: (الحمد لله رب العالمين) 1. - وبالجملة- فان الشيخ: يؤمن بكل ما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم به مما يكون بعد الموت، فيؤمن بفتنة القبر ونعيمه، وبإِعادة الأرواح إلى الأجساد فيقوم الناس لرب العالمين حفاة عراة غرلا تدنو منهم الشمس، وتنصب الموازين، وتوزن بها أعمال العباد فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون، ومن   1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير ص 1 24-243 وص 17 1 وص 19 1 وص 183 وص 190. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون وتنشر الدواوين فآخذ كتابه بيمينه وآحذ كتابه بشماله. ويؤمن بحوض نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بعرصة القيامة، ماؤه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً. ويؤمن بأن الصراط منصوب على شفير جهنم يمر به الناس على قدر أعمالهم. ويؤمن بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه أول شافع وأول مشفع. ويؤمن بأن الجنة والنار مخلوقتان، وأنهما اليوم موجودتان وأنهما لا يفنيان. وأن المؤمنين يرون ربهم بأبصارهم يوم القيامة كما يرون القمر ليلة البدر لا يضامون في رؤيته1.   1 الدرر السنية، ط 2، ج1، ص 29. مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم1ص 9، 10. والقسم الثالث، الفتاوى ص 44. والقسم الرابع، التفسير، القصص 313. والقسم الأول العقيدة، مسائل الجاهلية ص 351. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 الإيمان بالقدر: يقول الشيخ: وأومن بأن الله فعال لما يريد، ولا يكون شىء إلا بإِرادته ولا يخرج شىء عن مشيئته، وليس شىء في العالم يخرج عن تقديره، ولايصدر إلاعن تدبيره، ولا محيد لأحد عن القدر المحدود، ولا يتجاوز ما خط له في اللوح المسطور1. والصبر على أقدار الله من الإيمان بالله لقوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} . قال علقمة: "هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله: فيرضى ويسلم" 2. ويذكر الشيخ كيفية الإيمان بالقدر وهي أن تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك. وأن الإيمان بذلك فرض، ولا يجد أحد طعم الإيمان ولن يبلغ حقيقة العلم بالله تبارك وتعالى حتى يؤمن بالقدر خيره وشره ومن لم يؤمن به أحرقه الله بالنار، ولوكان لأحدهم مثل أحد ذهبا، ثم أنفقه في سبيل الله ما قبل الله منه، حتى يؤمن بالقدر وبدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره". وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم تبرأ ممن لم يؤمن به.   1 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية ص 9. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، كاب التوحيد ص 96-97، وقول علقمة في صحيح البخاري ج6 ص 67. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 أخذاً من حديث عبادة بن الصامت أنه قال لابنه: "يابنى، إنك لن تجد طعم الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب- فقال: رب وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقاديركل شىء حتى تقوم الساعة - يابنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من مات على غير هذا فليس مني" 1. وفي كتاب أصول الإيمان للشيخ بعد أن ذكر باب الإيمان بالله ومعرفته أردفه مباشرة بباب الإيمان بالقدرقبل ذكر الملائكة والرسل والكتب مما يشير إلى أن القدرمن شأن الله تعالق ومن صفته، ولأن الإيمان بالقدر من حقيقة العلم بالله تبارك وتعالى2. يذكر الشيخ في كتاب الإيمان أدلة القدرمن القرآن الكريم، مثل قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} (الأنبياء: 101) . وقوله تعالى: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً} (الأحزاب: 38) . وقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} (الصافات: 96) .   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد باب ما جاء في منكري القدرص 135-137. وأصول الإيمان، باب الإيمان بالقدر ص 247. والقسم الرابع، مختصر زاد المعاد ص 306. والقسم الخامس، الشخصية رقم 2 ص 19. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، أصول الإيمان ص 247. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 وقوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (القمر: 49) . ويذكر أدلته أيضا من السنة المطهرة مثل قوله: في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء". وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة" قالوا: يارسول الله، أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل، قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له- أما من كان من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة فسييسر لعمل أهل الشقاوة، ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} (الليل: 6) - متفق عليه1. ومثل حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهوالصادق المصدوق: "إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله إليه ملكا بأربع كلمات فيكتب عمله وأجله ورزقه وشقي أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح فو الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، أصول الإيمان ص 243. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 فيدخلها وإِن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها" متفق عليه. ومثل حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل شىء بقدرحتى العجز والكيس" رواه مسلم1. وعن قتادة في قوله تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} (القدر: 4) - قال: يقضى فيها ما يكون في السنة إلى مثلها، رواه عبد الرزاق وابن جرير وقد روى معنى ذلك عن ابن عباس والحسن وأبي عبد الرحمن السلمي وسعيد بن جبير ومقاتل2. وفيما يروى عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} قال: يخلق ويرزق ويحى ويميت ويعز ويذل ويفعل ما يشاء- رواه عبد الرزاق وابن المنذر والطبرانى والحاكم3. ثم نقل الشيخ كلام ابن القيم لما ذكر هذه الأحاديث وما في معناها ومحصله: أن الأدلة دلت على تقدير يومي، وتقدير حولى، وتقدير عمرى عند تعلق الروح وعند أول تخليقه وتقدير سابق على وجوده لكن بعد خلق السموات والأرض، وتقدير سابق على خلق السموات والأرض   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، أصول الإيمان ص 244- 245. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة أصول الإيمان ص 245. 3 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، أصول الإيمان ص 246. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 بخمسين ألف سنة وكل واحدة من هذه التقادير كالتفصيل من التقدير السابق. وينقل الشيخ تفصيلا لقدر الله السابق فيقول ما حاصله: وتقدير الله السابق هو ثبوت الشىء في العلم والتقدير ليس هو ثبوت عينه في الخارج، بل العالم يعلم الشىء ويكتبه ويتكلم به وليس لذاته في الخارج وجود، وهذا العلم والكتاب هو الذي ينكره القدرية الذين كفرهم الأئمة، حين ناظروهم بالعلم فجحدوه أما من أقر به فقد خصم، وقد بينه الكتاب والسنة وأجاب النبي صلى الله عليه وسلم عن السؤال الوارد عليه وهو: - أنترك العمل لأجله؟ فقال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له1. وسيأتى مزيد بيان لموضوع القدر من الله تعالى في فصل التوحيد الجانب العلمي إن شاء الله تعالى. من مباحث الإيمان: ويعتقد الشيخ أن حقيقة الإيمان هي التصديق وأنه قول باللسان وعمل بالأركان واعتقاد بالجنان كما قال الحسن البصرى: "ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال" 2 وأن   1 مؤلفات الشيخ، ملحق المصنفات، مسائل ملخصة رقم 29 ص 25. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الثالث، مختصر السيرة، ص 35. وانظر: اقتضاء العلم العمل للبغدادي ضمن رسائل أربع مجموعة بتحقيق الألباني ص 177، والفتاوى مسألة 11 ص 51 من القسم الثالث، من مؤلفات الشيخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 الأعمال من الإيمان1. والإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق2. ويقول الشيخ إن الله سبحانه قد أمرنا أن نقول آمنا كما قال تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (البقرة: 136) . قال الشيخ: وليس هذا من إِظهار العمل الذي إِخفاؤه أفضل، وفي ذلك الإيمان بجميع المنزل وعدم التفريق بين الرسل والتصريح بالإسلام والتصريح بإِخلاص ذلك لله، وليس هذا من الثناء على النفس بل من بيان الدين الذي أنت عليه، ولهذا قال بعض السلف ينبغى لكل أحد أن يعلم هذه الآية أهل بيته وخدمه3.   1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، النحل ص 226، والحجرات ص 353. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 1ص 11 ورقم 14 ص 96-97 ورقم 18 ص 122 وملحق المصنفات ص 11، وص 70- 71 وص 139-140. ومؤلفات الشيخ، القسم الرابع، القصص ص 283 ومختصر زاد المعاد ص 256، القسم الثالث، الفتاوى مسألة 11 ص 51 والمسألة الخامسة عشرة ص 73، 74. 3 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير ص 39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 وأن قول الله تعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} (البقرة: 137) . بعد قوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} الآية (البقرة: 136) . فيه التصريح أن الإيمان هوالعمل1. وأجاب الشيخ عن سؤال حول أبيات تضمنت خمس مسائل من مسائل العقيدة التى يسمونها أصول الدين هي: ما هو أول واجب؟ وهل يكتفي في مسائل الأصول بالتقليد أو غلبة الظن أو لابد من اليقين؟ وهل يشترط في الواجب النطق بالشهادتين أو يصير مسلما بالمعرفة؟ وهل الإيمان قول باللسان من غير عقيدة القلب؟ - وهل الأعمال من الإيمان يزيد وينقص بها؟ وفيما يلي السؤال والجواب: سئل الشيخ عن معنى هذه الأبيات: معرفة الإله باستيقان؟ أول واجب على الإنسان ... معرفة الإله باستيقان؟ فأجاب: تمام الكلام يعين على فهم معناه. أول واجب على الإنسان ... معرفة الإله باستيقان؟ والنطق بالشهادتين اعتبرا ... لصحة الإيمان ممن قدرا إِن صدق القلب وبالأعمال ... يكون ذا نقص وذا إكمال فذكر في هذا الكلام خمس مسائل من مسائل العقائد التى يسمونها أصول الدين:   1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير ص 39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 الأولى: اختلف في أول واجب فقيل النظر وقيل القصد إلى النظر وقيل المعرفة. الثانية: هل يكتفي في مسائل الأصول بالتقليد أو غلبة الظن أو لابد من اليقين فذكر أن الواجب في معرفة الله هو اليقين. الثالثة: هل يشترط في الواجب النطق بالشهادتين أو يصير مسلما بالمعرفة فذكر أنه لا يصير مسلما إلا بالنطق للقادر عليه والمخالف في ذلك جهم من تبعه وقد أفتى الإمام أحمد وغيره من السلف بكفر من قال إِنه يصير مسلما بالمعرفة. وتفرع على هذه مسائل (منها) من دُعيَ إلى الصلاة فأبي مع الإِقرار بوجوبها هل يقتل كفرا أوحدا. الرابعة: إن ابن كرام وأتباعه يقولون إن الإيمان قول باللسان من غير عقيدة القلب مع أنهم يوافقون أهل السنة أَنه مخلد في النار فذكر أَنه لابد مع النطق بتصديق القلب. الخامسة: المسألة المشهورة هل الأعمال من الإيمان ويزيد وينقص بها أم ليست من الإيمان والمخالف في ذلك أبوحنيفة ومن تبعه الذين يسمون مرجئة الفقهاء فرجح الناظم مذهب السلف أن الأعمال من الإيمان وأنه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. إذا ثبت هذا فكل هذه المسائل واضحة إلا المسألة الأولى المسئول عنها وهي معرفة الإله ما هي؟ فينبغى التفطن لهذه فانها أصل الدين وهي الفارقة بين المسلم- والكافر وبيان ذلك أنه ليس المراد معرفة الإله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 الإجمالية يعني معرفة الإنسان أن له خالقا فإنها ضرورية فطرية بل معرفة الإله هل هذا مختص بالله لا يشركه فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل؟ أولغيره قسط منه فأما المسلمون أتباع الأنبياء، فإجماعهم على أنه مختص كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: 25) والكافرون يزعمون أنه هو الإله الأكبر ولكن معه آلهة. أخرى تشفع عنده وهذا باطل1. وفي تفاوت الإيمان ومراتبه وعلو إيمان بعض المؤمنين على بعض- يقول الشيخ في جوابه عن سؤال استفتى به: وأما قوله: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} فمن أعظم الأدلة على تفاوت الإيمان ومراتبه، حتى الأنبياء: فهذا طلب الطمأنينة مع كونه مؤمنا، فإِذا كان محتاجا إلى الأدلة التى توجب الطمأنينة فكيف بغيره؟ ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيح "نحن أحق بالشك من إبراهيم". وأما قوله في كلام البقرة والذيب "آمنت به أنا وأبو بكر وعمر" وليسا في ذلك المكان، فكان هذا من الإيمان بالغيب المخالف للمشاهدة، وذلك أن الناس يشاهدون البهائم لا تتكلم فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا جرى فيما مضى تعجبوا من ذلك مع إيمانهم فقال: "آمنت به أنا وأبو بكر وعمر" فلما ذكرهما لهذا المقام العظيم الذي طلب إبراهيم في مثله العيان   1 الدرر السنية، ج1ص 69، 70. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 ليطئمن قلبه مع كونهما ليسا في المجلس دل ذلك، على أن إيمانهما أعلى من إيمان غيرهما خصوصا لما قرنهما بإيمانه صلى الله عليه وسلم 1. ويعتقد الشيخ أن للإيمان حلاوة قد يجدها الإنسان وقد لا يجدها2، للحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان- أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار". وفي رواية: "لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى" إلى آخره. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "من أحب في الله، وأبغض في الله ووالى في الله، وعادى في الله، فإِنما تنال ولاية الله بذلك. ولن يجد عبد طعم الإيمان وإِن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك وقد صارت عامة مؤ اخاة الناس على أمر الدنيا وذلك لا يجدي على أهله شيئا" رواه ابن جرير- وقال ابن عباس في قوله تعالى: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} (البقرة: 166) قال: المودة. قال الشيخ فيه أعمال القلب الأربع التى لا تنال ولاية الله إلا بها ولا يجد أحد طعم الإيمان إلا بها3.   1 مؤلفات الشيخ، القسم الثالث، الفتاوى رقم 15 ص 73، 74. (2) مؤلفات الشيخ، القسم الأول، كتاب التوحيد ص 89. 2 المصدر السابق ص 88، 89. 3 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير ص 158، ص 172. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 ويفسر الإيمان والتقوى في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} (يوسف: 57) . فيقول: الإيمان يدخل فيه الدين كله، وأيضا يدخل كله في التقوى، أما إذا فرق بينهما كما هنا فالإيمان الأمور الباطنة، والتقوى الأمور الظاهرة. وإذا قلت: الإيمان فعل الواجبات والتقوى ترك المحرمات فقد أصبت1، ثم يذكرأن تفسير التقوى جاء في قوله تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (الزمر: 33) . وأن هذا أحسن ما فسرت به، فالمتقى يأتى بالصدق إن كان مخبرا، ويصدق بالصدق إن كان سامعا، وهذا هو الإحسان كما تبين بالآية بعده: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} (الزمر: 34) 2. وفي قوله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (يوسف: 90) الجمع بين التقوى والإيمان ومعرفة الفرق بينهما، وأن من جمع بينهما فهو من المحسنين لقوله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} 3 (يوسف:90) .   1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، ص 329. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، ص 158، وص 172. 3 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد ص 12 وص 213-214 وص 342، 351. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 ويعتقد أن الإيمان بجميع شعبه حق، وما ناقضه باطل، فمن آمن الإيمان كله، ولم يلبس إيمانه بشرك كان من أهل الأمن في الآخرة والاهتداء في الدنيا لقوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (الأ نعام:82) 1. ويدخل الإسلام في الإيمان، فإذا أفرد كقوله في الجنة: {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} (الحديد: 21) فيدخل فيه الإسلام، وإذا ذكر الإسلام والإيمان كقوله: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} (الأحزاب: 35) - فالإسلام الأعمال الظاهرة والأيمان في القلب. والإيمان أعلى من الإسلام، فيخرج الإنسان من الإيمان إلى الإسلام، ولا يخرجه من الإسلام إلى الكفر فيخرج الإنسان من الإيمان إلى الإسلام الذي ينفعه وإِن كان ناقصا كما في آية الحجرات: {وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً} (الحجرات: 14) . وحقيقة الأمر أن الإيمان يستلزم الإسلام قطعا، وأما الإسلام فقد يستلزم الإيمان وقد لا يستلزمه2. ويعتقد الشيخ أن الإيمان بجميع شعبه وأركانه مرتبة عالية من مراتب   1 مؤلفات الشيخ، القسم الثالث، الفتاوى، المسألة رقم 13 ص 56، 57. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، ثلاثة الأصول ص 191. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 دين الإسلام1. ودين الإسلام وسط بين طرفين، وهدى بين ضلالتين، وحق بين باطلين2. واذا لاح واتضح لم يضره كثرة المخالف ولاقلة الموافق3. وأن الإيمان يزيد بالطاعة والأعمال الصالحة وينقص بالمعصية، وهو يتجزأ ولا يلزم إذا ذهب بعضه أن يذهب كله. ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه أدنى مثقال ذرة من إيمان. قال الشيخ فيما لخصه عن شيخ الإسلام ابن تيمية: "تواترات الأحاديث بخروج من قال: لا إله إلا الله من النار إذا كان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة أوخردلة أو ذرة، وكثير منهم أو أكثرهم يدخلها، وتواترت أنه يحرم على النار من قال لا إله إلا الله، لكن جاءت مقيدة بالإِخلاص، واليقين، ويموت عليها، فكلها مقيدة بهذه القيود الثقال، وأكثر من يقولها لا يعرف الإخلاص ولا اليقين، ومن لا يعرف ذلك يخشى عليه أن يفتن عنها عند الموت، وغالبهم إنما يقولها تقليدا أو عادة، وغالب ما يفتن عند الموت أو في القبر أمثال هؤلاء، كما في الحديث   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، ثلاثة الأصول ص 191. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كشف الشبهات ص 169. 3 مؤلفات الشيخ، القسم الثالث، الفتاوى ص 88، 89. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 سمعت الناس يقولون شيئا فقلته، وغالب أعمال هؤلاء إنما هو تقليد أواقتداء بأمثالهم، وهم أقرب الناس من قوله: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} الآية (الزخرف: 22) - فلا منافاة بين الأحاديث، فإنه إذا قالها بإخلاص ويقين ومات عليها امتنع أن تَرْجَحَ سيئاته، فإن كان قالها على الكمال المانع من الشرك الأصغر والأكبر فهو غير مصر على ذنب، وإِن كان على وجه خلص به من الأكبر ولم يأت بعدها بما يناقض ذلك فهذه الحسنة لا يقاومها شىء من السيئات فترجح بها الحسنات كما في حديث البطاقة وهذا خلاف من رجحت سيئاته، لأنه معه الشرك الأصغر وأتى بعد ذلك بسيئات تنضم إلى ذلك الشرك فترجح سيئاته، فإن السيئات تضعف الإيمان واليقين، فيضعف قول لا إله إلا الله، فيمتنع الإخلاص في القلب، فيصير المتكلم بها كالهاذي، أوالنائم أو من يحسن صوته بآية من القرآن من غير ذوق طعم ولا حلاوة فالذي قالها بيقين وصدق تام إما ألا يكون مصرا على سيئة أو يكون توحيده المتضمن لصدقه ويقينه رجح حسناته، والذين دخلوا النار فاتهم أحد الشرطين1. ويرى أن قلب الإنسان يجتمع فيه الضدان، المعرفة والإِنكار، والعلم والجهل، والإيمان والكفر، والحكم للغالب منهما2.   1 مؤلفات الشيخ، ملحق المصنفات، مسائل ملخصة، ص 70- ا 7. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد ص 108 والقسم الخامس، الشخصية رقم 18 ص 122 والقسم الرابع التفسير، البقرة ص 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 فقد يكون في الرجل مادتان، فأيهما غلبت عليه كان من أهلها، فإِن أراد الله بعبده خيرا طهره قبل الموافاة فلا يحتاج إلى تطهيره بالنار. وحكمته تعالى تأبى أن يجاوره العبد في داره بخبائثه، فيدخل النار طهرة له وإِقامة هذا النوع فيها على حسب سرعة زوال الخبائث وبطئها ولما كان المشرك خبيث الذات لم تطهره النار، كالكلب إذا دخل البحر. ولما كان المؤمن الطيب بريئا من الخبائث، كانت النار حراما عليه إذ ليس فيه ما يقتضى تطهيره، فسبحان من بهرت حكمته العقول1. ويفرق بين الكفر الأكبر المخرج من الملة والكفر الذي هو دونه ولا يخرج من الملة وكذلك الشرك ويقول: كيف تعجبون من كلامي في رجل من المتأخرين غلط في قوله يا أكرم الخلق، ولا تفطنون لمثل قول أنس بن مالك في أهل زمانه: ما أعرف فيهم شيئا مما أدركت إلا هذه الصلاة وهذه الصلاة قد ضيعت. هل تظنون هذا المتأخر خيرا وأعلم من أولئك؟ ولكن هذه الأمور لا علم لكم بها وتظنون أن من وصف شركا أو كفرا أنه الكفر الأكبر المخرج عن الملة2. ويعتقد الشيخ أنه: لا بد من استدامة حال الإيمان حتى يموت عليه   1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، مختصر زاد المعاد ص 12. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 11 ص 66 وص 71 والقسم الثالث الفتاوى، المسألة 13، ص 56، 57. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 كما قال الله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} 1 (الحجر: آخرها) . فإن الأعمال بالخواتيم2، والعبرة بكمال النهاية لا نقص البداية3 ونسأل الله حسن الختام. هذا ومن خلال ما مر بنا في هذا الفصل عن مجمل عقيدة الشيخ السلفية تبين لنا أنها الإيمان بأركان الإيمان الستة، وهذا هو الإيمان الشرعى ونظرا لأهمية الإيمان بالله تعالى، بأنه الله الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له سنتاول ذلك بشىء من التفصيل لأن ذلك أصل الأصول، وقد آن لنا أن ننتقل إلى التعرف على عقيدة الشيخ في توحيد الله من مقاميه مقام الخبر، ومقام الطلب، وإلى ذلك في الفصل التالي.   1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، الأعراف ص 49 والحجر ص 197، والزمر ص 322. 2 المصدر السابق، القسم الأول، كتاب التوحيد ص 55. 3 المصدر السابق، القسم الرابع التفسير، العلق ص 370. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 ِِِ الفصل الثالث: عقيدة الشيخ في التوحيد حيث إِن الكلام في التوحيد يكون من مقامين، مقام الخبر، وهو الذي يترتب عليه توحيد المعرفة والإثبات، أي التوحيد العلمي. ومقام الطلب وهو الذي يترتب عليه توحيد القصد والإرادة، أي التوحيد العملي. والعلم قبل العمل وهو إمامه وقائده، وبقدر نفع العلم يكون صلاح العمل كما قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} (محمد: 19) . وقال الشيخ: قال البخاري رحمه الله تعالى: باب العلم قبل القول والعمل واستدل بهذه الآية، ثم قال الشيخ: فبدأ بالعلم قبل القول والعمل1. ولذا فقد بدأنا هذا الفصل بالجانب الخبري العلمي من جانبي التوحيد، وهذا الجانب العلمي هو توحيد المعرفة والإثبات، وهو من باب الخبر الدائر بين النفي والإثبات، والصدق والكذب، كما قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية2.   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، ثلاثة الأصول، ص 185. وانظر: صحيح البخاري ج1 ص 25. وانظر: 1/282 من هذا البحث. 2 انظر: أول التدمرية لشيخ الإسلام ابن تيمية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 توحيد المعرفة والإثبات: يعتقد الشيخ في هذا الباب أن توحيد الله تعالى هو المبني على اعتقاد أن الله واحد في ملكه وأفعاله لا شريك له وهذا هو توحيد الربوبية وواحد في ذاته وأسمائه وصفاته لا نظير له 1 وهذا هو توحيد الأسماء والصفات. وتوحيد الربوبية والأسماء والصفات كلاهما من باب واحد هو توحيد المعرفة والإثبات وهو التوحيد العلمي الخبري. وهذا التوحيد هو الأصل ولا يغلط في الإِلهية إلا من لم يعطه حقه" 2. وهو الشهادة بأنه لا يخلق ولا يرزق ولا يحيي ولا يميت ولا يدبر الأمور إلا هو. وهذا حق3، وهو الذي أقر به الكفار - كما قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} (يونس: 31) . ولكنهم كفروا حيث لم يعبدوا الله وحده كما هو مقتضى شهادتهم بالربوبية كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ   1 إبطال التنديد، للشيخ حمد بن عتيق ص 6. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 18 ص 121. 3 المرجع السابق رقم 21ص 145. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (الزمر: 3) . وتوحيد الربوبية ثابت مشهور لا يحتاج إلى دليل بل هو الدليل على توحيد الطلب كما أَنزل الله في محكم كتابه يحتج به على من كفر من خلقه - وتقدم ذكر قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ} الآية. أما توحيد الأسماء والصفات فيقول الشيخ: وأما توحيد الصفات فلا يستقيم توحيد الربوبية ولا توحيد الألوهية إلا بالإقرار بالصفات، والكفار أعقل ممن أنكر الصفات 1. ذلك أن الكفار يزعمون أن الله هو الإله الأكبر، ولكن معه آلهة أخرى تشفع عنده فهم أثبتوا أن الله يتصف بأنه معبود لكن نازعوا في توحيد العبادة فقالوا {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} ولم يرضوا أن يقولوا هذه الكلمة لأنهم عرفوا أنها تعني توحيد العبادة، والمتكلمون أضلهم كلامهم عن معرفة الإله فقالوا إنه القادر على الاختراع وأن الألوهية هي القدرة فإذا أقررنا بذلك فهو معنى قوله لا إله إلا الله، ثم استحوذ عليهم الشيطان فظنوا أن التوحيد لا يتأتى إلا بنفي الصفات فنفوها وسموا من أثبتها مجسما ورد عليهم أهل السنة بأدلة كثيرة منها أن التوحيد لا يتم إلا بإثبات الصفات وأن معنى الإله هو المعبود فإذا كان هو سبحانه متفرداً به عن جميع المخلوقات وكان هذا وصفاً صحيحاً   1 مؤلفات الشيخ، القسم الثالث، الفتاوى، رقم 7 ص 42. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 لم يكذب الواصف به فهذا يدل على الصفات فيدل على العلم العظيم والقدرة العظيمة وهاتان الصفتان أصل جميع الصفات 1. "فمن أنكر الصفات فهو معطل والمعطل شر من المشرك ولهذا كان السلف يسمون التصانيف في إثبات الصفات كتب التوحيد وختم البخاري صحيحه بذلك قال كتاب التوحيد ثم ذكر الصفات باباً باباً. فنكتة المسألة أن المتكلمين يقولون التوحيد لا يتم إلا بإنكار الصفات فقال أهل السنة لا يتم التوحيد إلا بإثبات الصفات وتوحيدكم هو التعطيل ولهذا آل القول ببعضهم إلى إنكار الرب تبارك وتعالى"2. ومن المعلوم لدى المسلمين أن الله تعالى أعلم بنفسه من غيره فإذا سمى نفسه ووصفها فذلك هو الفيصل في المسألة، وكذلك رسول الله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم أعلم بالله الذي أرسله من غيره فيصار إلى ما بينه من أسماء الله وصفاته ولا يعدل عنه، هذا مع شهادة العقل الصريح لما ثبت بالنقل الصحيح عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن العقل الصريح هو الموافق للرسول صلى الله عليه وسلم وهذا هو الميزان مع الكتاب 3. وبناء على ما قدمنا فإن الشيخ يعتقد أن مما دل عليه القرآن الكريم من الأسماء الحسنى التي سمى الله بها نفسه في كتابه وتعرف بها إلى خلقه ما   1 الدرر السنية ط2 ج1 ص 70. 2 الدرر السنية ط2 ج1 ص 70. 3 الدرر السنية ط2 ج2 ص 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 يلي: هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور، إلى آخر ما ورد في القرآن منها وله الأسماء الحسنى سبحانه تعالى عما يشركون 1. وأن الله أمرنا بأن ندعوه بها ونترك من عارض من الجاهلين الملحدين - كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأعراف: 180) . والإلحاد فيها هو الإشراك حيث سموا اللات من الإله، والعزى من العزيز، وأدخلوا فيها ما ليس منها، كما ورد عن ابن عباس وعن الأعمش2. ومن بيان الله سبحانه وتعالى في كتابه أن وصف نفسه فذكر من صفاته الألوهية والربوبية والملك في أول سورة في المصحف الفاتحة كما ذكرها في آخر سورة في المصحف {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ} فهذه ثلاثة أوصاف لربنا تبارك وتعالى ذكرها مجموعة في موضع واحد في أول القرآن، ثم ذكرها مجموعة في موضع واحد في آخر ما يطرق سمعك   1 انظر: الدرر السنية ط2 ج3 ص220 - ومؤلفات الشيخ، ملحق المصنفات، الخطب المنبرية، مطالع الخطب يستفتحها بالأسماء الحسنى، ويختم بها. 2 المرجع السابق باب قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} ص 124 والقسم الخامس، الشخصية رقم 33 ص ص 222، 223. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 من القرآن، فينبغي لمن نصح نفسه أن يعتني بهذا الموضع ويبذل جهده في البحث عنه، ويعلم أن العليم الخبير لم يجمع بينهما في أول القرآن ثم في آخره إلا لما يعلم من شدة حاجة العباد إلى معرفة الله بها وأنه إلههم الذي لا إله إلا هو، وربهم الّذي لا رب سواه، وأنه ملكهم المتصرف فيهم وهم عبيده المدبر لهم كما يشاء، الذي له القدرة والسلطان يخفض ويرفع ويصل ويقطع ويعطي ويمنع لا شريك له ولا لهم ملك من دونه يهربون إليه إذا دهمهم أمره ولكن إليه المصير فهو {مَلِكِ النَّاسِ} 1. وفي سورة الفاتحة معرفة الله على التمام ونفي النقائض عنه تبارك وتعالى. وفيها معرفة الإنسان ربه ومعرفة نفسه، فإنه إذا كان هنا رب فلابد من مربوب، وإذا كان هنا راحم فلا بد من مرحوم، وإذا كان هنا مالك فلابد من مملوك، وإذا كان عبد فلا بد من معبود، وإذا كان هنا هاد فلابد من مهدي، وإذا كان هنا منعم فلابد من منعم عليه، وإذا كان هنا مغضوب عليه فلابد من غاضب، وإذا كان هنا ضال فلابد من مضل - فهذه السورة تضمنت الأولوهية والربوبية ونفي النقائص عن الله عز وجل 2. وفي مقارنة يعقدها الشيخ بين أوَّلِ سورتي اقرأ والمدثر فيقول:   1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، ص - ص 11- 15، ص 387، مختصر زاد المعاد ص 306 وملحق المصنفات الخطب المنبرية، ص 58- 60. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، الرسالة الثامنة ص 384. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 في أول سورة اقرأ: معرفتك بنفسك وبربك - وأول المدثر: فيه العمل المختص والمتعدي. وفي أول سورة اقرأ: الربوبية العامة - وأول سورة المدثر: الربوبية الخاصة. وفي أول اقرأ: فضل الله عليك - وأول المدثر: حقه عليك. وفي أول اقرأ: ذكر بدء الخلق - وأول المدثر: ذكر الحكمة فيه. وفي أول اقرأ: فيه أصل الأسماء والصفات وهي العلم والقدرة - وأول المدثر: فيه أصل الأمر والنهي وهو الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك 1. وفي سورة هود ذكر الله في صدرها من العلوم علم معرفة الله بأنه حكيم خبير وأنه قدير، ثم ذكر الله شيئاً من تفصيل العلم بأنه يعلم ما يسرون وما يعلنون أنه عليم بذات الصدور وإن ثنوا صدورهم ليستخفوا منه واستغشوا ثيابهم، وذكر شيئاً من تفصيل في القدرة في قوله {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} . ومن معرفة الله ذكر خلق السموات والأرض في ستة أيام وكون عرشه على الماء. ومن بيان حكمته سبحانه قوله: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} 2.   1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، مقارنة ص 366، 367. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، ص 115، 116. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده فأخذه بخطامها فقال من شدة الفرح اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح" أخرجاه (يعني البخاري وَمُسْلِماً) . ومن ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تبارك وتعالى قال من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي من أداء ما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه ولئن إستعاذ بي لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته " رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه. وغير ذلك من نصوص صفات الله تبارك وتعالى التي وردت في السنة المطهرة وأورد الشيخ كثيراً منها في مؤلفه أصول الإيمان، ولم يضمنها بتفسير ولا استنتاج، بل أورد النصوص معزوة إلى مصادرها وبوب واختار وقسم، واكتفى بذلك لوضوحها فيمرها كما جاءت على ظهرها من غير تحريف ولا تكييف ومن غير تعطيل ولا تمثيل1.   1 انظر: مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، أصول الإيمان ص 232- 242، والقسم الثالث، الفتاوى ص 44. والدرر السنية، ط2، ج 3 ص 207، 208، وص 185، 186، ومؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 20 ص 130 - 135. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 ويرى الشيخ أنه لا بد في معرفة الله وأسمائه وصفاته من الإثبات والنفي معاً كما جاء في القرآن وعن سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم وعن المرسلين قبله عليهم الصلاة والسلام وهذا شَأْن أهل السنة والجماعة يثبتون ما أثبته الرسل وينفون ما نفته الرسل فلا يتبعون الهوى والظن ولا يعرضون عما جاءت به الرسل بل يأخذون به ويعملون به ويهدون ويعدلون 1. ويرى الشيخ أن أسماء الله الحسنى دالة على صفاته وأنه يستدل بها على لازمها وهو عبادته كما قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الحجرات: 1) . ففي هذه الآية: أمر بتقوى الله وهي المسألة المطلوبة والقضية المستدعاة ثم استدل على هذه القضية بأن الله سميع عليم فهذا دليل من أسماء الله يقتضي تقواه. وكما قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (الحشر: 18) . وكذا الاستدلال بالأسماء والصفات على الأفعال وتعليل الأفعال بها   1 ومؤلفات الشيخ، القسم الرابع التفسير، الأنعام ص 106، الأعراف ص 77، 78، والنحل ص 209، وملحق المصنفات، مسائل ملخصة رقم 93 ص 82، والقسم الأول، العقيدة، مسائل الجاهلية ص 339. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 كقوله: {لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الزمر: 53) . وفي قوله: {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة: 109) . والاستدلال بالقدرة على ما يستشكل وما لا يظن وقوعه أيضاً وتنزيه الله عن مضاد الحكمة في جميع أفعاله كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} 1 (الحجر: 85) . وإذا نظرنا إلى مطالع خطب الشيخ يتضح استدلاله بالأسماء الحسنى والصفات العلية والأفعال الحكمية لله تبارك وتعالى على ما تدل عليه من المعاني الشريفة الكثيرة 2. مثل قوله: "الحمد لله الكريم الذي أسبغ نعمه علينا باطنة وظاهرة، الرحيم الذي لم تزل ألطافه على عباده متوالية متظاهرة، العزيز الذي خضعت لعزته رقاب الجبابرة والقوي المتين الذي أباد من كذب رسله من الأمم الطاغية الكافرة"3. وقوله: "الحمد لله اللطيف، الذي بلطفه تنكشف الشدائد، الرؤوف الذي برأفته تتواصل النعم والفوائد وبحسن الظن به تجري الظنون على   1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، الحجرات ص 350 والبقرة ص 27، والزمر ص 319، 336 والحجر ص 195. 2 مؤلفات الشيخ، ملحق المصنفات، الخطب المنبرية. 3 مؤلفات الشيخ، ملحق المصنفات، الخطب المنبرية ص 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 أحسن العوائد، وبالتوكل عليه يندفع كيد كل كائد" 1. وقوله: "الحمد لله الكريم المنان، العزيز ذي السلطان خلق الإنسان من تراب ثم قال له كن فكان يعطي ويمنع، ويخفض ويرفع، ويصل ويقطع ويشتت ويجمع. كل يوم هو في شأن. يجيب المضطر إذا دعاه. ويغفر للمسيء إذا تاب مما أتاه ويجبر المنكسر إذا لاذ بحماه، ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فينادي هل من سائل فيعطى سؤله، وهل من تائب فيتاب عليه، وهل من مستغفر فيغفر له ما جناه"2 وهكذا. وليس استدلاله هذا مقصوراً على خطبة بل هو يستدل بأسماء الله وصفاته وأفعاله وأحكامه في عقيدته السلفية وعلومه النافعة وأعماله الإصلاحية كلها. يقول الشيخ حمد بن ناصر بن معمر في جوابه لما سئل عن عقيدة الشيخ: "إن المعاني المفهومة من الكتاب والسنة لا ترد بالشبهات، فيكون ردها من باب تحريف الكلم عن مواضعه، فلا يقال: هي ألفاظ لا تعقل معانيها، ولا يعرف المراد منها فيكون ذلك مشابهة للذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني بل هي آيات بينات، دالة على أشرف المعاني وأجلها، قائمة حقائقها في صدور الذين أوتوا العلم والإيمان إثباتاً بلا تشبيه،   1 المرجع السابق ص 46. 2 المرجع السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 وتنزيها بلا تعطيل، كما قامت حقائق سائر صفات الكمال في قلوبهم كذلك فكان الباب عندهم باباً واحداً قد اطمأنت به قلوبهم وسكنت إليه نفوسهم"1. فهو يثبت لله تعالى الأسماء الحسنى، وصفات الكمال المطلق، الذي لا يشاركه فيه مشارك، وينزهه عن النقص والعيب والسوء والمسبة، وينفي أن يكون له شبيه أو مثيل أو نظير، وينفي خصائصه عما سواه، كما ينفي عنه ما لا يجوز عليه، ولا يلحد في صفات الله ولا في أسمائه بل يثبت ما أثبت الله لنفسه، وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، وينفي ما نفاه الله عن نفسه ونفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم كما ورد في القرآن والسنة، ويرى أن الاقتصار على الوحي هو البصيرة في الاعتقاد والعمل والنذارة 2.   1 الدرر السنية، ط2 ج3 ص 208. 2 انظر: مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 1 ص 8 ورقم 20 ص 130-135 ورقم 33 ص 222- 223 والقسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، باب فضل التوحيد ص 14، وباب قول الله تعالى {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} ص 50، وباب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله ص 20 وباب قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} ص 124 وباب لا يستشفع بالله على خلقه ص 145 ورسالة رقم 1 مسائل الجاهلية ص 339، 343 ورسالة رقم 8 ص 384 والقسم الرابع، التفسير، الأنعام ص 56، 57، الأعراف ص 77، 88 والحجر ص 195 والنحل ص 209 والقصص 291 والزمر ص 318 والحجرات ص 354 ومختصر زاد المعاد ص 35، 36 وملحق المصنفات، مسائل ملخصة رقم 93 ص 82 ورقم 102، 103 ص 95، 96 رقم 109 ص 104 ورقم 116 ص 119- 121. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 ويرى أن كل ما ورد في القرآن والسنة من الأسماء والصفات كله حق، وفي غاية الحسن والكمال. وأن إثبات ذلك كله توحيد وإيمان، وأن جحد شيء منه هلاك كما ورد عن ابن عباس وَعَدَمٌ للإيمان، وأن احترام أسماء الله وصفاته وتغيير الاسم لأجل ذلك كما ورد عن أبي شريح وترك التحديث بما لا يفهم السامع حتى لا يفضي إلى تكذيب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم كل ذلك من تحقيق التوحيد. أما الاستهزاء بشيء منها فهو كفر ونفاق كما قال تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (التوبة: 65) . وكما ورد عن ابن عمر ومحمد بن كعب وزيد بن أسلم وقتادة أن سبب نزولها مقولة رجل في غزوة تبوك 1. وأما الألفاظ التي لم يرد إثباتها ولا نفيها في الكتاب والسنة كلفظ   1 انظر: مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، باب من جحد شيئاً من الأسماء والصفات ص 106، 107 وباب التسمي بقاضي القضاة ونحوه ص 115 وباب احترام أسماء الله ص 116، وباب من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول صلى الله عليه وسلم ص 117، 118، والقسم الرابع، التفسير، الحجرات ص 354، والدرر السنية ط2 ج3 ص 185، 186، وص 207، 208، وج 1 ص 126. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 الجوهر والجسم والتحيز والجهة ونحو ذلك فهذه الألفاظ - يرى الشيخ - أنه لا يطلق إثباتها ولا نفيها وينقل الشيخ عن ابن تيمية قوله ولهذا لما سئل ابن سريج عن التوحيد فذكر توحيد المسلمين قال: وأما توحيد أهل الباطل فهو الخوض في الجواهر والأعراض وإنما بعث النبي صلى الله عليه وسلم بإنكار ذلك، وكلام السلف والأئمة في ذم الكلام وأهله مبسوط في غير هذا الموضع والمقصود أن الأئمة كأحمد وغيره لما ذكر لهم أهل البدع الألفاظ المجملة كلفظ الجسم والجوهر والحيز لم يوافقوهم لا على إطلاق الإثبات ولا على إطلاق النفي. فالصواب أن عقيدة أهل السنة هي السكوت عما سكت الله وسكت رسوله صلى الله عليه وسلم عنه، من أثبتَ بدَّعوه ومن نفى بَدَّعُوه. وينقل الشيخ كلام أبي الوفاء بن عقيل قال أنا أقطع أن أبا بكر وعمر ماتا ما عرفا الجوهر والعرض فإن رأيت أن طريقة أبي علي الجبائي وأبي هاشم خير لك من طريقة أبي بكر وعمر فبئس ما رأيت 1. ويعتقد الشيخ - رحمه الله تعالى - في باب توحيد المعرفة والإثبات بأن الله هو الإله الذي لا إله إلا هو رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، رب الناس ملك الناس إله الناس. الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد كما في سورة الإخلاص، قل هو الله أحد، وهو معبود الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ومن تبعه، وليس معبود الكافرين المخالفين   1 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 20 ص 131، 132. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 كما في سورة (قل يا أيها الكافرون) . فـ"الله" علم على ربنا تبارك وتعالى، والإله المعبود بحق كما في قوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} (الأنعام: 3) أي المعبود في السموات المعبود في الأرض مثل قوله: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} والإلهية هي الجامعة لصفات الكمال كلها. و"الرب" هو المعبود، الخالق الرازق، المالك المدبر للأمر والمتصرف فيه، يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير. و"العالمين" اسم لكل ما سوى الله، تبارك وتعالى، فكل ما سوى الله من ملك ونبي وإِنسي وجني وغير ذلك مربوب مقهور يتصرف فيه، فقير محتاج إليه. "الرحمن الرحيم" اسمان لله تعالى مشتقان من الرحمة أحدهما أبلغ من الآخر مثل العَلاَّم والعليم، قال ابن عباس: هما اسمان رقيقان أحدهما أرق من الآخر أي أكثر من الآخر رحمة. و"مالك يوم الدين" وفي قراءة أخرى "ملك يوم الدين"، خصص الملك بذلك اليوم مع أنه سبحانه مالك كل شيء ذلك اليوم وغيره لأن ذلك اليوم هو يوم الجزاء والحساب والدينونة {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} ، فالتخصيص لهذه المسألة الكبيرة، ففي الدنيا عمل بالتوحيد أو عمل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 بضده وفي الآخرة لا عمل ولكن جزاء كل يجازيه مالك يوم الدين بعمله، ويدينه به إن خيراً فخير وإن شراً فشر 1. "رب الناس" أي الذي خلقهم وصورهم وأنعم عليهم وحماهم مما يضرهم بربوبيته. "ملك الناس" أي الذي قهرهم وأمرهم ونهاهم وصرفهم كما يشاء بملكوته. "إله الناس" الذي استعبدهم بالإلهية الجامعة لصفات الكمال كلها2. و"الأحد" الذي لا نظير له فقوله "أحد" نفي النظير والأمثال. و"الصمد" الذي تصمد الخلائق كلها إليه في جميع الحاجات، وهو الكامل في السؤدد. فقوله: "الصمد" فيه إثبات صفات الكمال. وفي قوله: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} نفي الصاحبة والعيال.   1 مؤلفات الشيخ، القسم الثاني، الفقه، المجلد الثاني ص 7، 8 والقسم الرابع، التفسير، الفاتحة ص 11- 15 والناس ص 387، 388 والقسم الأول، العقيدة، ثلاثة الأصول ص 186- 187، 370، ومعنى الطاغوت ص 376 والقسم الثالث، الفتاوى، المسألة 13 ص 56 وملحق المصنفات. الخطب المنبرية ص 60، والقسم الخامس، الشخصية رقم 7 ص 44. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، الناس ص 387، 388. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 وفي قوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} نفي الشركاء لذي الجلال1. ومعنى أنه (معبود الرسول صلى الله عليه وسلم) وليس معبود المشركين كما قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} فنفى عنهم عبادة معبوده، لأنهم إذا أشركوا لم يكونوا عابدين معبوده، وأيضاً لو عينوا الله بما ليس هو وقصدوا عبادة الله معتقدين أنه هو كأصحاب العجل، والذين عبدوا عيسى والدجال، والذين يعبدون أهواءهم، ومن عبد من هذه الأمة غير الله فهم عند أنفسهم إنما يعبدون الله، لكن هذا المعبود ليس هو الله، وإِن قصد العابد الله، وأيضاً إذا وصفوه بما هو بريء منه كالصاحبة والولد وعبدوه كذلك فهو بريء من هذا المعبود، فإنه ليس هو الله وتنصرف عبادتهم إلى غير الله كما ينصرف سب قريش عن الرسول صلى الله عليه وسلم: "ألا ترون كيف يصرف الله عني سب قريش يسبون مذمما؟ ورسول الله ليس مذمماً ولكن هو محمد صلى الله عليه وسلم. كذلك عبادة أمثالهم واقعة على موصوفهم، أيضاً ومن لم يؤمن بما وصف به الرسول صلى الله عليه وسلم ربه فهو في الحقيقة لم يعبد ما عبده الرسول، وقس على هذا2.   1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، الإخلاص 383 ومختصر زاد المعاد ص 35، 36. 2 مؤلفات الشيخ، ملحق المصنفات، مسائل ملخصة عن ابن تيمية مسألة رقم 82 ص 57. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 ويثبت الشيخ أن الله تعالى سميع بصير يسمع ضجيج الأصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات، وقد أحاط سمعه بجميع المسموعات. ويرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، وقد أحاط بصره بجميع المبصرات1. ويثبت الشيخ أن لله تعالى الوصف بأنه عالم الغيب والشهادة2، له غيب السموات والأرض3، وقد تفرد بعلم الغيب4، وسع علمه بكل شيء، وأحاط علمه بكل شيء5، أحاط علمه بالجزيئات والكليات6، وبالسر والجهر7، وبالحد والمحدود8، يعلم خفيات السرائر9، ويحصي   1 تاريخ نجد للألوسي ص 42، ومؤلفات الشيخ، القسم الرابع التفسير، العلق ص 372. 2 مؤلفات الشيخ، ملحق المصنفات، الخطب المنبرية ص 21، 22. 3 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، الكهف ص 248. 4 المصدر السابق، النحل ص 220. 5 مؤلفات الشيخ، ملحق المصنفات، الخطب المنبرية ص 53، 54 والقسم الرابع، التفسير، الزمر ص 325 والكهف ص 252 والبقرة ص 22. 6 المصدر السابق، القسم الرابع، التفسير، الأعراف ص 70، والدرر السنية ص 2ج 2 ص 3. 7 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، النحل ص 204. 8 مؤلفات الشيخ، ملحق المصنفات، الخطب المنبرية ص 63- 64. 9 المرجع السابق ص 64- 66. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 خطرات الفكر1، لا ينسى ولا يضل2، وهو معلم كل علم وواهبه3، فتح على عباده من حقائق المعارف ولطائف العلوم ما هداهم به إلى صراطه المستقيم4 وهو الأعلم سبحانه على الإطلاق5. يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حَبَّة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس ولا متحرك ولا ساكن إلا وهو يعلمه على حقيقته، يعلم السر وأخفى، إنه حكيم عليم6. والشيخ يعتقد أن العلم والقدرة هما أصل الأسماء والصفات لله تعالى7، ويثبت الشيخ لله تعالى القدرة التامة8 المطلقة العظيمة على كل   1 المرجع السابق ص 30- 32. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، قصة موسى وفرعون ص 299. 3 مؤلفات الشيخ، ملحق المصنفات، مسائل ملخصة رقم 135 ص 196، 197 ورقم 133 ص 183، 184. 4 المصدر السابق، الخطب المنبرية ص 25- 27 ومسائل ملخصة رقم 79 ص 55، والقسم الأول، التوحيد ص 55 والقسم الرابع، التفسير، الزمر ص 327. 5 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة ص 151، 181، 196، 329، 352، 369، 381، 384، 389، 392. 6 تاريخ نجد للألوسي ص 42، ومؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، الحجر ص 187. 7 مؤلفات الشيخ، القسم، التفسير ص 366، 367. 8 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع التفسير، الزمر ص 325، والفاتحة ص18، والأنعام ص 58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 شيء، فلا يستبعد الإنسان معها شيئاً1، ويقول الشيخ: إن قوله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (آل عمران: 165) . فيه إِعلام بعموم قدرته سبحانه مع عدله2. وفي كتاب التوحيد للشيخ - باب ما جاء في المصورين - أورد الشيخ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى: "ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا حبة أو ليخلقوا شعيرة" أخرجاه (يعني البخاري ومسلِماً) - قال الشيخ: فيه التنبيه على قدرته وعجزهم لقوله: (فليخلقوا ذرة أو حبة أو شعيرة) 3. ويعتقد أن الله سبحانه هو القادر على تنفيذ ما قدره وأراده4، وأن الله فعال لما يريد ولا يكون شيء إلا بإرادته، ولا يخرج شيء عن مشيئته، وليس شيء في العالم يخرج عن تقديره، ولا يصدر إلا عن تدبيره، ولا محيد لأحد عن القدر المحدودة، ولا يتجاوز ما خط له في اللوح المسطور5، وأن أول ما خلق الله القلم، وأنه جرى بالمقادير في تلك   1 المصدر السابق، النحل ص 220 والقصص 282. 2 المصدر السابق، مختصر زاد المعاد ص 243، 244. 3 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد ص 138، 139. 4 مؤلفات الشيخ، ملحق المصنفات، الخطب المنبرية ص 21، 22. 5 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 1 ص 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 الساعة بما هو كائن إلى قيام الساعة1. قال الشيخ: "وفي ذلك دليل على كمال علم الرب2 وقدرته وحكمته وزيادة تعريفه الملائكة وعباده المؤمنين بنفسه وأسمائه". وقال الشيخ: قال ابن القيم: "فاتفقت هذه الأحاديث ونظائرها على أن القَدَر السابق3 لا يمنع العمل ولا يوجب الاتكال عليه بل يوجب الجد والاجتهاد ولهذا لما سمع بعض الصحابة ذلك قال ما كنت بأشد اجتهاد مني الآن وقال أبو عثمان النهدي لسلمان لأنا بأول الأمر أشد فرحاً مني بآخره، وذلك لأنه إذا كان قد سبق له من الله سابقة وهيأه ويسره للوصول إليها كان فرحه بالسابقة التي سبقت له من الله أعظم من فرحه بالأسباب التي تأتي بها"4. ولا يجوز أن يظن بقدر الله ما لا يليق بالله ولا يليق بحكمته وحمده ووعده الصادق وعدله الكامل، فمن أنكر أن يكون قدره لحكمة بالغة   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، التوحيد، باب ما جاء من منكري القدر ص 135- 136، وباب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله ص 23 وأصول الإيمان باب الإيمان بالقدر ص 247. والقسم الرابع، التفسير، البقرة ص 22 والأعراف ص 73، 78،84، 85 والزمر ص325،327، والحجر ص185. 2 انظر: مؤلفات الشيخ، القسم الثالث الفتاوى المسألة السادسة عشر ص 75. 3 انظر: مؤلفات الشيخ، ملحق المصنفات،، مسائل ملخصة رقم 29ص 25. 4 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، أصول الإيمان ص 246، 247. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 يستحق عليها الحمد وزعم أن ذلك لمشيئة مجردة وأنه يضع الأشياء في غير مواضعها ويصيب بأقداره من لا يستحقها وليس لها بأهل فذلك ظن الذين كفروا. قال الشيخ: "وأكثر الناس يظنون بالله ظن السوء فيما يختص بهم، وفيما يفعله بغيرهم، ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله وأسماءه وصفاته، وموجب حكمته وحمده وعرف نفسه فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا وليتب إلى الله، وليستغفره من ظنه بربه ظن السوء. ولو فتشت من فتشت لرأيت عنده تعنتاً على القدر وملامة له، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا، فمستقل ومستكثر. وفتش نفسك هل أنت سالم؟ فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة وإلا فإني لا أخالك ناجياً"1. ولذا لا يجوز أن يعترض بلو على قدر الله، كما فعل الذين قال الله عنهم: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} (آل عمران: 154) . قال الله تعالى: {الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} (آل عمران: 168) . ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك نهياً صريحاً كما في الحديث الذي رواه مسلم بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجزن وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، التوحيد باب قول الله تعالى: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ} ص 133- 134. وملحق المصنفات، الخطب المنبرية ص 60، 61، 105. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 فعلت كذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان " 1. قال الشيخ: في كتاب التوحيد وكتاب مختصر زاد العاد: فيه النهي الصريح عن قوله "لو " إذا أصابك شيء لأن ذلك يفتح عمل الشيطان، وأرشده إلى ما هو أنفع منها، وهو أن يقول: "قدر الله وما شاء فعل " وذلك لأن قوله: لو فعلْتُ كذا لم يفتني ما فاتني أو لم أقع فيما وقعت فيه كلام لا يجدي عليه فائدة، فإنه غير مستقبل لما استدبر، وغير مستقيلٍ عثرته بلو، وفي ضمنها أن الأمر لو كان كما قدره في نفسه غير ما قضاه الله، ووقوع خلاف المقدر محال فقد تضمن كلامه كذباً وجهلاً ومحالاً وإن سلم ومن التكذيب بالقدر، لم يسلم من معارضته بلو. فإن قيل فتلك الأسباب التي تمناها من القدر أيضا؟ قيل هذا حق، ولكن هذا ينفع قبل وقوع القدر المكروه فإذا وقع، فلا سبيل إلى دفعه أو تخفيفه، بل وظيفته في هذه الحال أن يستقبل الفعل الذي يدفع به أو يخفف، ولا يتمنى ما لا مطمع في وقوعه، فإنه عجز محض والله يلوم على العجز، ويحب الكيس، وهو مباشرة الأسباب فهي تفتح عمل الخير، وأما العجز، فيفتح عمل الشيطان، فإنه إذا عجز عما ينفعه صار إلى الأماني الباطلة ولهذا   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول العقيدة، كتاب التوحيد، باب ما جاء في اللو ص 130. وأصول الإيمان باب الإيمان بالقدر ص 247. وانظر: صحيح مسلم، القدر ج 4/ 2052. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من العجز والكسل، وهما مفتاح كل شر، ويصدر عنهما الهم والحزن، والجبن والبخل، وضلع الدين وغلبة الرجال، فمصدرها كلها عن العجز والكسل، وعنونها "لو " فإن المتمني من أَعجز الناس وأفلسهم وأصل المعاصي كلها العجز فإن العبد يعجز عن أسباب الطاعات وعن الأسباب التي تبعده عن المعاصي وتحول بينه وبينها، فجمع في هذا الحديث الشريف أصول الشر وفروعه، ومبادئه وعاداته، وموارده ومصادره، وهو مشتمل على ثمان خصال، كل خصلتين قرينتان، فقال: "أعوذ بك من الهم والحزن " وهما قرينتان، فإن المكروه الوارد على القلب إما أن يكون سببه أمراً ماضياً، فهو يحدث الحزن، وإما توقع مستقبل، فهو يورث الهم - وكلاهما من العجز، فإن ما مضى لا يدفع بالحزن بل بالرضى والحمد، والصبر والإيمان بالقدر وقول العبد: "قدر الله وما شاء فعل " وما يستقبل بل يدفع بالهم، بل إما أن يكون له حيلة في دفعه، فلا يعجز عنه، وإما أن لا يكون له حيلة، فلا يجزع منه، ويلبس له لباسه من التوحيد والتوكل والرضى بالله رباً فيما يحب ويكره، والهم والحزن يضعفان العزم، ويوهنان القلب، ويحولان بين العبد وبين الاجتهاد فيما ينفعه، فهما حمل ثقيل على ظهر السائر. انتهى بتصرف قليل1. ويعتقد أن ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله، ومن يؤمن بالله يهد   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة كتاب التوحيد، باب ما جاء في اللو ص 130، 131، والقسم الرابع، مختصر زاد المعاد ص 124- 125. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 قلبه، والله بكل شيء عليم. ويقول: قال علقمة بن قيس النخعي في معنى: (ومن يؤمن بالله يهد قلبه) هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم1، وهذا الأثر قال عنه مؤلف تيسير العزيز الحميد بشرح كتاب التوحيد للشيخ: رواه ابن جرير وابن أبي حاتم عن علقمة وهو صحيح2. ويعتقد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: "اثنتان في الناس هما بهم كفر الطعن في النسب والنياحة على الميت " وللبخاري ومسلم عن ابن مسعود مرفوعا "ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية"3. ويعتقد أن الله تعالى إذا أراد بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا وإذا أراد الله بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة، وأن عظم الجزاء مع عظم البلاء وأن الله إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضى ومن سخط فله السخط4. ويفرق الشيخ بين إرادة الله القدرية وإرادته الشرعية والجعل القدري   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، التوحيد ص 96. 2 تيسير العزيز الحميد ص 453. 3 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد ص 96. 4 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد ص 96، 97 وانظر تيسير العزيز الحميد ص457، 460. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 والجعل الشرعي فيقول: قوله تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} (القصص:5-6) . هذه الإرادة القدرية. وقوله: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} (القصص: 39-40) هذا الجعل القدري أيضا. أما الإرادة الشرعية فهي قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ} (الأحزاب: 23) وأمثالها. وقوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ} (المائدة: 103) وأمثالها - فهذا الجعل الشرعي1. ويعتقد أن الاحتجاج بالقدر على إبطال الشرع وارتكاب المعاصي هو من هدي الكفار، قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} 2 (النحل:35) وهو من طريقة إبليس والعياذ بالله - حيث قال محتجا على ربه: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} وليس له في   1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، القصص 282، وص294. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، النحل ص 208. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 ذلك حجة ولا لأتباعه وإنما الحق هو قول آدم: (ربنا ظلمنا أنفسنا) 1. قال الله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} (الأنعام: 148، 149) . قال ابن كثير: قال الضحاك: "لا حجة لأحد عصى الله، ولكن لله الحجة البالغة على عباده "2. وهؤلاء في هذه الآية يزعمون أن الله لما لم يحل - وهو القادر - بينهم وبين الكفر والشرك دل على أن هذا الكفر والشرك بإرادته الشرعية ورضاه، وهي حجة داحضة باطلة. ومما استنبطه الشيخ من قصة آدم وإبليس في هذا المعنى قوله: "إنها تفيد المعنى العظيم المذكور في قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} وما في معناه من النصوص، وذلك مستفاد من صنع اللعين، فإنه مع علمه بجبروت الله وأليم عذابه، وأنه لا محيص له عنه، ويعرف   1 المصدر السابق، الأعراف ص 37، وص 85، وانظر: مؤلفات الشيخ، ملحق المصنفات، مسائل ملخصة رقم 50 ص 34، 35. 2 تفسير ابن كثير، ط الاستقامة 1373هـ، ج 2 ص 186، 187. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 من الأمور ما لا يعرفه كثير من أهل العلم، ومع ذلك لم يتب ولم يرجع، بل أصر وعاند، وطلب النظرة لأجل المعصية مع علمه بعقابه وعدم مصلحته من فعله، وهذا باب عظيم من معرفة الرب وقدرته، وتقليبه القلوب كيف يشاء، وتيسيره كل عبد لما خلق له فيفعله باختياره 1. والله لا يرضى كفرهم وشركهم وإن كان سبحانه قادراً على الحيلولة بينهم وبينه، وقادراً على هدايتهم أجمعين، فليس لهم في قدرته سبحانه حجة. وإنما الحجة البالغة له على من عصى بسبب عصيانه، ومخالفته ما أراده الله منه شرعاً، وقد عصى وخالف بهواه ورضاه وعلمه بأن عاقبة عصيانه العذاب الأليم، كما أن عاقبة الطاعة المغفرة والرحمة والرضى. ومع أنه سبحانه غني عن طاعة المطيع، فهو يرضاها لعبده ويسخط عليه معصيته وهي لا تضر إلا العاصي2.   1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير ص 96. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، الزمر ص 320 - وانظر: ملحق المصنفات، مسائل ملخصة، مسألة رقم 5 ص 34- 39، والقسم الأول، العقيدة، التوحيد ص 65،118، 144. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 والله غني بذاته لا تزيده طاعة مطيع، ولا ينقصه العطاء على سعة جوده ولا تضره المعاصي، يطعم ولا يطعم ولا تأخذه سنة ولا نوم، وهو القدوس السلام، المبرأ عن كل عيب وآفة ونقص1. وهو العدل الحكيم لا يصلح عمل المفسدين، ولا يهدي كيد الخائنين، ولا يحب المسرفين، ولا يحب كل مختال فخور، ويحق الحق بكلماته ولو كره المجرمون، وهو لا يظلم ولا يريد الظلم بل يتنزه عن أن يظلم عبده أو يأخذه بلا سبب من العبد يوجب أخذه لأنه منزه عن الفقر والحاجة والجهل والخساسة لكونه الغني القوي الحكيم ويستجيب دعوة المظلوم، وليس بينه وبينها حجاب2. ومعنى مكر الله بالعبد هو أن العبد إذا عصاه وأغضبه، أنعم عليه بأشياء يظن أنها من رضاه عليه3، وهذا عدل يحمل عباده على سعة النظر ومراقبة العواقب في إعطاء الله النعم من الدنيا كالمال والولد والبيت الرفيع وعدم الاغترار بالرتبة وغزارة العلم وصلاح العمل، والكرمات وإجابة   1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، الكهف ص 250 والزمر ص 325، وتاريخ نجد للألوسي ص 41، 42. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، الأعراف ص 79 ويوسف ص 154، وقصة موسى وفرعون ص 309، والكهف ص 250، وآل عمران ص 51، والقسم الأول، التوحيد ص 20، وملحق المصنفات، مسائل ملخصة ص 34. 3 مؤلفات الشيخ، القسم الثالث، الفتاوى، مسألة رقم 12 ص 52، 54. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 الدعوات، فلا يأمن العارف مكر الله إِن هو اغتر بذلك كما فعل أبو لهب، والذي آتاه الله آياته فانسلخ منها1. وأنه سبحانه لا يعجل لعجلة أحد حتى ولو كان رسولاً، فكيف يستعجله من يزعم أنه متبع، وهو سبحانه يمهل ولا يهمل، ولا يضيع أجر المحسنين2، وهو سبحانه جميل يحب الجمال، وطيب يحب الطيب ولا يقبل من العمل إلا الطيب3. والله رحيم لا يقنط من رحمته إلا القوم الخاسرون ومن ذلك رحمته سبحانه بعبده فيما حجره عليه، وجعله العقوبات من رحمته بعباده، وقد يغفر للرجل بسبب يهيئه له وهو من أكره الأمور إليه، ذلك أن طبع الإنسان الطغيان إذا استغنى ولا يخرج عن طبعه إلا بفضل الله ورحمته4.   1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، تبت ص 382 والأعراف ص 86، 111، 112. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، يوسف ص 180 والبقرة ص 27، 30، يوسف ص 157، 158. 3 المرجع السابق، مختصر زاد المعاد ص 10 وملحق المصنفات، مسائل ملخصة ص 121، 160، 163. 4 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، الأعراف ص 75، وملحق المصنفات، مسائل ملخصة رقم 118 ص 124، والتفسير، العلق ص 371، والقسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد ص95. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 فإنه هو الأكرم الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم1، وحبب الإيمان إلى المؤمنين وزينه في قلوبهم، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان2، ووعد الذين اتقوا ربهم بأن لهم غرفاً من فوقها غرف مبنية، تجري من تحتها الأنهار، وعد الله، لا يخلف الميعاد فهذا وعد لا نظير له في القرآن 3، وهو الغفور الرحيم 4، رؤف بالعباد 5، إنما يدخلون الجنة برحمته 6، لطيف بهم 7، رفيق يحب الرفق 8، بلطفه تنكشف الشدائد وبرأفته تتواصل النعم والفوائد، وبحسن الظن به تجري الظنون على أحسن العوائد9. ويثبت الله الحكمة التامة فهو الحكيم وجميع أفعاله وثوابه وعقابه على قانون العدل والإِحسان10 كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ   1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، العلق ص369. 2 المرجع السابق، الحجرات ص353. 3 المرجع السابق، الزمر ص325. 4 المرجع السابق، الزمر ص 336. 5 المرجع السابق، الحجرات ص 351. 6 المرجع السابق، الزمر ص 322، 343. 7 المرجع السابق، آل عمران ص 49. 8 المرجع السابق، قصة موسى وفرعون ص 297. 9 المرجع السابق، ملحق المصنفات، الخطب المنبرية ص 46، 47. 10 مؤلفات الشيخ، ملحق المصنفات، مسائل ملخصة، رقم 51 ص 35 وص 37، 38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} 1 (ص: 27) . وقال تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} . ومعنى أنه سبحانه حكيم أي لا يضع الأشياء إلا في مواضعها. فمن ذلك أنه ما جعل إبراهيم إماما إلا بعد ما أتم ما ابتلاه به. قال الشيخ: "وسئل بعضهم أيما أفضل الابتلاء أو التمكين؟ فقال: الابتلاء ثم التمكين - وإذا كان يبتلى الأنبياء هل يفعلونه أولا؟ فكيف بغيرهم؟ 2. وكان في تحويل القبلة حكم عظيمة ومحنة للمسلمين والمشركين واليهود والمنافقين، فأما المسلمون، فقالوا: "آمنا به كل من عند ربنا " وهم الذين هدى الله، ولم تكن كبيرة عليهم. وأما المشركون، فقالوا: كما رجع إلى قبلتنا يوشك أن يرجع إلى ديننا. وأما اليهود فقالوا: خالف قبلة الأنبياء قبله. وأما المنافقون، فقالوا: ما يدرى أين يتوجه؟ إن كانت الأولى حقاً فقد تركها وإن كانت الثانية هي الحق، فقد كان على الباطل. وكثرت   1 المصدر السابق، القسم الأول، مسائل الجاهلية ص 344. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، البقرة ص 30 والأعراف ص 112. وانظر: مختصر زاد المعاد ص 298. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 أقاويل السفهاء من الناس، ولما كان شأن القبلة عظيماً وطأ قبلها سبحانه بأمر النسخ وقدرته عليه وأنه يأتي بخير من المنسوخ أو مثله، ثم عقبه بالتوبيخ لمن تعنت على الرسول صلى الله عليه وسلم ولم ينقد له ثم أخبر أن له المشرق والمغرب وهو الواسع العليم فلعظمته وسعته وإحاطته فأينما ولى عباده وجوههم فثم وجه الله وغير ذلك من الموطئات. وبين سبحانه أن تحويل القبلة إلى البيت الذي بناه إمام الناس فكذلك البيت إمام لهم وهو أفضل القبل وهم أفضل الأمم كما اختار لهم أفضل الرسل وأفضل الكتب، وخصهم بأفضل الشرائع والله ذو الفضل العظيم، وأخبر سبحانه أنه فعل ذلك لئلا يكون للناس عليهم حجة وليتم نعمته عليهم وليهديهم، وليرى من يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم ممن ينقلب على عقبيه1. ومن حكمته سبحانه قي تزين ما على الأرض ليبْلوَ عباده أيهم أحسن عملاً 2. والمبتلي هو أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين لم يبتل عبده ليهلكه، بل ليمتحن إيمانه وليسمع تضرعه، وليراه طريحاً ببابه وليمنع الأدواء المهلكة كالكبر والعجب والقسوة 3. ومن حكمة العزيز الحكيم في تسليطه الهم والحزن على القلوب المعرضة عنه ليردها عن كثير من   1 انظر: مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، مختصر زاد المعاد ص 193- 195 باختصار. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، الكهف ص 241، والأنعام ص 55، 58. 3 المرجع السابق، مختصر زاد المعاد ص 307. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 معاصيها، ولا تزال هذه القلوب في هذا السجن حتى تخلص إلى فضاء التوحيد والإقبال على الله ولا سبيل إلى خلاص القلب إلا بذلك، ولا بلاغ إلا بالله وحده، فإنه لا يصل إليه إلا هو ولا يدل عليه إلا هو. وإذا قام العبد في أي مقام كان، فبحمده وحكمته أقامه فيه، ولم يمنع العبد حقاً هو له، بل منعه ليتوسل إليه بمحابه فيعطيه، وليرده إليه، وليعزه بالتذلل له وليغنيه بالافتقار إليه، ولجبره بالانكسار بين يديه وليوليه بعزله أشرف الولايات، وليشهد حكمته في قدرته، ورحمته في عزته، وأن منعه عطاء، وعقوبته تأديب، وتسليط أعدائه عليه سائق يسوق إليه والله يعلم حيث يجعل مواقع عطائه، وأعلم حيث يجعل رسالته، {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} (الأنعام: 53) فهو سبحانه أعلم بمحال التخصيص، فمن رده المنع إليه، انقلب عطاء، ومن شغله عطاؤه عنه، انقلب منعاً، وهو سبحانه وتعالى أراد منا الاستقامة واتخاذ السبيل إليه وأخبرنا أن هذا المراد لا يقع حتى يريد من نفسه إِعانتنا ومشيئتنا، كما قال تعالى {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} فإِن كان مع العبد روح أخرى نسبتها إلى روحه كنسبة روحه إلى جسده يستدعي بها إرادة الله من نفسه أن يفعل به ما يكون به العبد فاعلاً، وإلا فمحله غير قابل للعطاء وليس معه إناء يوضع فيه العطاء فمن جاء بغير إناء، رجع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 بالحرمان، فلا يلومن إلا نفسه 1. ومن حكمة الإِدالة على المسلمين - في غزوة أحد - تعريف الله للصحابة عاقبة المعصية والفشل والتنازع ليستيقظوا ويحذروا من أسباب الخذلان وأن حكمة الله جرت بأن الرسل يدالون مرةً وَيدَال عليهم أخرى، لكن يكون لهم العاقبة، فلو انتصروا دائماً، دخل معهم المؤمن وغيره ولم يتميزوا، ولو انتصر غيرهم دائماً لم يحصل المقصود. قال الله تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} (آل عمران: 179) . أي ما كان الله ليذركم على هذا من التباس المؤمنين بالمنافقين حتى يميزهم {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} الذي يميز له بينهم بل يريد سبحانه أن يميزهم تمييزاً مشهوداً. وقوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} استدراك لما نفى من اطلاعهم على الغيب، أي: سوى الرسل، فإنه يطلعهم على ما يشاء كما في سورة الجن، فسعادتكم بالإيمان بالغيب الذي يطلع عليه رسله، فإن آمنتم به واتقيتم فلكم أعظم الأجر. ومنها استخراج عبودية الأولياء في السراء والضراء، فإذا ثبتوا على الطاعة فيما أحبوا وكرهوا، فهم ليسوا كمن يعبده على حرف.   1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع مختصر زاد المعاد ص 125، 126. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 501 ومنها أنه لو بسط لهم النصر دائماً لكانوا كما يكونون لو بسط لهم الرزق، فهو المدبر لهم، كما يليق بحكمته، إنه بهم خبير بصير. ومنها أنهم إذا انكسروا له استجيبوا النصر فإن خِلْعةَ النصر مع ولاية الذل كما قال تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} (آل عمران: 123) . وفي مقابل ذلك قال: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} (التوبة: 26) . ومنها أنه هيأ لعباده منازل لا تبلغها أعمالهم، ولا يبلغونها إلا بالبلاء، فقيضه لهم، كما وفقهم للأعمال الصالحة. ومنها أن العافيه الدائمة، والنصر والغنى يورث ركوناً إلى العاجلة ويثبط النفوس ويعوقها عن السير إلى الله، فإذا أراد الله كرامة عبد قيض له من البلاء ما يكون دواء لهذا. ومنها أن الشهادة عنده من أعلى المراتب، وهو سبحانه يحب أن يتخذ من أوليائه شهداء. ومنها أنه سبحانه إذا أراد هلاك أعدائه قيض أسباباً يستوجبون بها الهلاك مثل بغيهم ومبالغتهم في أذى أوليائه، فيمحص به أولياءه من ذنوبهم ويكون من أسباب محق أعداء الله، وذكر سبحانه ذلك بقوله: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا} إلى قوله: {وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} (آل عمران: 139- 142) . ومنها أن هذه الواقعة (أحد) مقدمة بين يدي موته صلى الله عليه وسلم وهذه عادته سبحانه شرعاً وقدراً أن يوطئ بين يدي الأمور العظام بمقدمات، والشاكرون هم الذين عرفوا قدر النعمة، فثبتوا عليها حين مات رسول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 502 الله، فجعل لهم العاقبة ثم أخبر أنه جعل لكل نفس أجلاً، ثم أخبر أن كثيراً من الأنبياء قتلوا وقتل معهم أتباع لهم كثيرون، فما وَهَن من بقي منهم أو ما وهنوا عند القتل، والصحيح أنها تتناول الفريقين. ثم أخبر سبحانه عما استنصر به الأنبياء وأممهم من اعترافهم وتوبتهم واستغفارهم، وسؤالهم التثبيت لأقدامهم والنصر على أعدائهم، فقال: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (آل عمران: 147) . علموا أنه سبحانه إن لم يثبت أقدامهم وينصرهم لم يقدروا، وعلموا أنه إنما يدال عليهم بذنوبهم، من تقصير في حق، أو تجاوز في حد، فوفوا المقامين حقهما المقام المقتضى وهو التوحيد والالتجاء إليه ومقام إزالة المانع من النصر وهو الذنوب والإسراف. وأشار سبحانه وتعالى في سورة آل عمران إلى أمهات هذه الحكم من قوله: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ} إلى تمام الستين آية من آية 121 إلى آية 180. ففي هذه الآيات ذكرهم الله في هذه المحنة بما هو من أعظم نعمة عليهم، التي إن قابلوا بها كل محنة تلاشت، وهي إرسال رسول من أنفسهم، فكل بلية بعد هذا الخير العظيم أمر يسير جداً، فأعلمهم أن المصيبة من أنفسهم ليحذروا، وأنها بقدره ليوحدوا ويتكلوا، وأخبرهم بما له من الحكم لئلا يتهموه في قدره وليتعرف إليهم بأنواع أسمائه وصفاته، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 وذكرهم بما هو أعظم من النصر والغنيمة، وعزاهم عن قتلاهم لينافسوهم، ولا يحزنوا عليهم، فله الحمد كما هو أهله، وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله 1. وابن آدم يؤذي الله إذا سب الدهر لأن الدهر هو تقلب الليل والنهار بأمر الله تعالى فهو سبحانه بيده الأمر يقلب الليل والنهار يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر ويحيي ويميت وينفي قوماً ويأتي بآخرين بخلاف الضرر فقد أخبر سبحانه أن العباد لا يضرونه كما قال تعالى: {إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً} . قال الشيخ: والأذى في اللغة هو لما خف أمره وضعف أثره من الشر والمكروه ذكره الخطابي قال شيخ الإسلام وهو كما قال. اهـ. ويعني شيخ الإسلام ابن تيمية. وقد عقد الشيخ في كتاب التوحيد باب من سب الدهر فقد آذى الله وساق قوله تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} (الجاثية: 24) . وما في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله تعالى: يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر وأنا الدهر، أقلب الليل والنهار" وفي رواية لمسلم وغيره " لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر ".   1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، مختصر زاد المعاد ص 234- 244 وص 256، 264 وص 266، 267. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 504 قال الشيخ فيه مسائل: الأولى: النهي عن سب الدهر. والثانية: تسميته أذى لله. والثالثة: التأمل في قوله "فإن الله هو الدهر ". والرابعة: أنه قد يكون ساباً، ولو لم يقصده بقلبه 1. وأنه ما أحد أصبر على أذى سمعه من الله، يدعون له الولد ثم يعافيهم ويرزقهم 2. ويثبت الشيخ المثل الأعلى لله سبحانه وهو العزيز الحكيم 3، فهو الذي ليس كمثله شيء لكثرة نعوته وأوصافه وأسمائه وأفعاله وثبوتها على وجه الكمال الذي لا يماثله فيه شيء، فالمثبت هو الذي يصفه بأنه ليس كمثله شيء وقد وصف نفسه بأن له المثل الأعلى المتضمن إثبات الكمال كله له وبهذا كان المثل الأعلى وهو أفعل تفضيل، ومثل السوء لعادم صفات الكمال ولهذا جعله مثل الجاحدين لتوحيده لأنهم فقدوا الصفات التي من اتصف بها كان كاملاً وهي الإيمان والعلم والمعرفة واليقين والإخلاص والتوكل والإنابة وغير ذلك التي من اتصف بها كان ممن آمن بالآخرة.   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد ص 114 وأصول الإيمان ص 242- وانظر: تيسير العزيز الحميد ص 542- 547. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، أصول الإيمان ص 236. 3 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، النحل ص 215. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 505 ومثل السوء هو العدم وما يستلزمه وضده المثل الأعلى وهو الكمال المطلق المتضمن للأمور الوجودية والمعاني الثبوتية، ولما كان الرب هو الأعلى ووجهه هو الأعلى وكلامه الأعلى وسمعه الأعلى وسائر صفاته هي العليا كان له المثل الأعلى وهو أحق به من كل ما سواه. ويستحيل أن يشترك في المثل الأعلى اثنان لأنهما إن تكافآ لم يكن أحدهما أعلى من الآخر وإن لم يتكافآ فالموصوف بالأعلى أحدهما وحده فيستحيل أن يكون لمن له المثل الأعلى مثل أو نظير. وهذا برهان قاطع من إثبات المثل الأعلى على استحالة التمثيل. والمثل الأعلى متضمن أربعة أمور: 1- ثبوت الصفة العليا لله سبحانه في نفس الأمر. 2- وجودها في العلم والتصور. 3- الخبر عنها وذكرها وتنزيهها عن النقائص. 4- محبة الموصوف بها وتوحيده والإخلاص له والتوكل عليه. وكلما كان الإيمان بالصفات أكمل كان الحب والإخلاص أقوى. وعبارات السلف تدور حول هذه المعاني الأربعة لا تتجاوزها1. ويعتقد الشيخ أن عظمة الله أجل من أن يحيط بها عقل2، كما قال   1 ملخص من آخر مجلد لمصورة عن مخطوطة بعنوان: مبحث الاجتهاد والخلاف للشيخ محمد بن عبد الوهاب رقمها في المكتبة السعودية بالرياض 772/ 86. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، هود ص 125، والزمر 346. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 506 تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 1. وكما بين صلى الله عليه وسلم في تصديقه للحبر الذي قال له: " يا محمد إنا نجد أن الله يجعل السموات على أصبع، والأرضين على أصبع والشجر على أصبع فيقول أنا الملك فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر. ثُمَّ قرأ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} 2. وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأها على المنبر وقال: "إن الله يقبض يوم القيامة الأرضين وتكون السموات بيمينه " ثم ذكر تمجيد الرب تبارك وتعالى نفسه وأنه يقول أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا الملك، أنا العزيز، أنا الكريم" - قال ابن عمر فرجف برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قلنا ليخرن به3. وقد عقد الشيخ باباً في هذا الموضوع في كتاب التوحيد هو باب قول الله تعالى {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} وأورد تحته أحاديث وآثار عن السلف   1 والقسم الأول العقيدة، كتاب التوحيد ص 148. 2 المصدر السابق ص 148 وانظر: صحيح البخاري كتاب التوحيد ص 174. 3 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، الزمر ص 345، 346 والحديث في صحيح البخاري ج 8 / كتاب التوحيد ص 173. ومسلم كتاب صفة القيامة والجنة والنار ص 2147- 2149. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 507 الصالح تناسبه وكذلك في كتاب أصول الإيمان إلا أنه زاد ونقص عما أورد في كتاب التوحيد وكلها دلائل مناسبة ونصوص دالة على عظمة الرب العظيم وكبريائه ومجده وجلاله وعلوه وخضوع المخلوقات بأسرها لعزه 1. ويستنتج من عظمة مخلوقات الله أنها دلائل على عظمة الله، فالسماوات على سعتها في اليد اليمنى مطوية والأرضون جميعاً في اليد الأخرى وأنهما جميعاً في كف الرحمن كخردلة في كف أحدنا، وأن الكرسي عظيم بالنسبة إلى السماء، فالسموات في الكرسي كسبعة دراهم ألقيت في ترس {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} ، وكذلك العرش أَعظم بالنسبة للكرسي، فالكرسي في العرش كحلقة من حديد ألقيت بين ظهراني فلاة من الأرض وأن العرش غير الكرسي والماء، وأن بين السماء والأرض خمسمائة عام وكثف كل سماء خمسمائة سنة وأن البحر الذي فوق السموات أسفله وأعلاه خمسمائة سنة وبين كل سماء إلى سماء خمسمائة عام وكذلك بين السماء السابعة والكرسي وبين الكرسي والماء، وأن العرش فوق الماء، وأن الله فوق العرش. وهذه خلاصة أحاديث أوردها الشيخ - رحمه الله - في آخر باب من أبواب كتابه - كتاب التوحيد - وهو باب ما جاء في قول الله   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد ص 148- 150 وأصول الإيمان ص 240- 242. انظر: القول السديد للشيخ ابن سعدي آخره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 508 تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} . أوردها الشيخ: عن ابن عباس موقوفاً وعن ابن زيد عن أبيه مرفوعاً، وعن أبي ذر مرفوعاً، وعن ابن مسعود موقوفاً - قال الشيخ في حديث ابن مسعود: "أخرجه ابن مهدي عن حماد بن سلمة عن عاصم عن زر عن عبد الله ورواه بنحوه المسعودي عن عاصم عن أبي وائل عن عبد الله، قاله: الحافظ الذهبي - رحمه الله تعالى - قَال: "وله طرق، وهو عن العباس بن عبد المطلب". أخرجه أبو داود. قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن: "وهذا الحديث له شواهد في الصحيحين وغيرهما، مع ما يدل عليه صريح القرآن، فلا عبرة بقول من ضعفه" 1. واعتقاد الشيخ أن الله عز وجل أعظم من كل عظيم وأكبر، وهو رب العرش العظيم وفوقه بائن من خلقه، لا يخفى عليه شيء من أعمال عباده، ولا يحل بشيء من مخلوقاته ولا يحل في ذاته شيء منها، بل هو بائن عن خلقه بذاته، والخلق بائنون عنه، وأنه أعظم من كل شيء وأكبر من كل شيء، وفوق كل شيء، وعال على كل شيء البتة، ولا يعجزه شيء يريده، بل هو فعال لما يريد 2.   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد ص 148- 151، وانظر: قرة عيون الموحدين للشيخ عبد الرحمن بن حسن ص 314. 2 تاريخ نجد للألوسي ص 42. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 الشاهد الذي لا يغيب، ولا يستخلف أحد على ملكه ولا يحتاج من يرفع إليه حوائج عباده أو يعاونه أو يستعطفه عليهم أو يسترحمه لهم فلا له وزير ولا مشير ولا ظهير، ولا شافع إلا من بعد إذنه، ولا ند ولا ضد، ولا شريك، بل الكل عبيده تحت تصرفه وتدبيره وهو العزيز الحكيم، العلي العظيم 1. وقال الشيخ في واحدة من خطبه يعظم الرب بصفاته العظيمة: "الحمد لله فاطر الأرض والسموات، عالم الأسرار والخفيات، المطلع على الضمائر والنيات، أحاط بكل شيء علماً، ووسع كل شيء رحمة وحلماً، وقهر كل مخلوق عزة وحكماً، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علماً، لا تدركه الأبصار، ولا تغيره الدهور والأعصار ولا تتوهمه الظنون والأفكار، وكل شيء عنده بمقدار، أتقن ما صنعه وحكمه، وأحصى كل شيء وعلمه، وخلق الإنسان وعلَّمه. ويقول في خطبة أخرى: "الحمد لله المتوحد في جلاله بكمال الجمال تعظيماً وتكبيراً، والمتفرد بتصريف الأحوال على التفصيل والإجمال تقديراً وتدبيراً، المتعالي بعظمته ومجده، الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً، أطلع شمس الرسالة في حنادس الظلم سراجاً منيراً، ومنّ بها على أهل الأرض، فيالها نعمة لا يستطيعون لها شكوراً، فجر   1 انظر: تاريخ نجد للألوسي ص 41، 42. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 510 ينابيع الهداية في قلوب من سبقت لهم منه الحسنى تفجيراً 1. ويقول الشيخ إِن ما ذكر الله تبارك وتعالى من عظمته وجلاله أنه يوم القيامة يفعله وهو قدر ما تحتمله العقول، وإلا فعظمة الله وجلاله أجل من أن يحيط بها عقل 2. ويقول الشيخ فمن هذا بعض عظمته وجلاله، كيف يجعل في رتبة مخلوق 3، وبين الشيخ أنه من أجل عظمته لا يستشفع به على خلقه 4، وأنه يعاذ من استعاذ به فإنه هو المستعاذ به وحده. فهو رب الفلق، ورب الناس، وملك الناس، وإله الناس، لا يستعاذ إلا به، وقد أَخبر الله عمن استعاذ بخلقه أن استعاذته زادته رهقاً، وهو الطغيان فقال: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} ، وأما من عاذ به فقد عاذ بمعاذ 5. ويعطي من سأل به6 لعظمته، وتعظم الرغبة فيما عنده7،   1 مؤلفات الشيخ، ملحق المصنفات، الخطب المنبرية ص 14، 48. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، الزمر ص 346. 3 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، الزمر ص 346، 347، 365. 4 والقسم الأول، العقيدة، التوحيد ص 145. 5 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، الفلق، الناس ص 385، 387. 6 المصدر السابق ص 128. 7 المصدر السابق ص 126. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 511 والخوف من عقابه والهيبة من عظمته 1. وبالجملة يجب تعظيمه علماً وعملاً 2، فما عرفنا من عظمته لا يماثله فيها شيء كيف بما لم نعرف منها تعالى وجل؟ {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} . والله تعالى يملك ما في السموات وما في الأرض 3، والعبد وما له ملك لله جعله الله عنده عادية 4، والمخلوق ليس له من الأمر شيء ولو كان نبياً مرسلاً، فهذا نوح عليه السلام لم يملك هداية ابنه، بل هو المتفرد بالهداية والإضلال 5. وقد نفى الله أن يكون لغيره ملك أو قسط منه أو يكون عوناً لله، ولم يبق إلا الشفاعة فبين الله أن الشفاعة جميعاً له، ولا تنفع إلا لمن أذن له الرب قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ   1 المصدر السابق ص 145 والقسم الرابع، التفسير، الأعراف ص 84، 96، وهود ص 124 ويوسف ص 137. 2 المصدر السابق، المدثر ص 365. 3 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، آل عمران ص 51. 4 المصدر السابق، مختصر زاد المعاد ص 306. 5 المصدر السابق، الأعراف ص 110، هود ص 124، والزمر ص 326، 330. والقسم الأول، العقيدة، التوحيد، باب قول الله تعالى: {إنك لا تهدي من أحببت} ص 54. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 أَذِنَ لَهُ} 1 (سبأ: 22) . وخزائن كل شيء عنده سبحانه ولا تنفد على كثرة الإنفاق 2، له مقاليد السموات والأرض فهو على كل شيء وكيل 3، ولكمال ملكه وكمال علمه وكمال قدرته فهو يحكم بين عباده يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون 4، ويخلق ما يشاء ويختار، وهو المتفرد بذلك لا شريك له قال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (القصص: 68) 5. وهو الملك الحق، ملك الناس، مالك يوم الدين، مالك الملك، تفرد بالإِحياء والإماتة وتفرد بأنه الوارث، وتفرد بحشر الجميع 6، وتفرد   1 المصدر السابق، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، باب الشفاعة والذي قبله ص 48- 53، وكشف الشبهات ص 165، ومسائل الجاهلية ص 351، والقسم الخامس، الشخصية رقم 17 ص 112، 113، والقسم الرابع، التفسير، الكهف ص 248. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، الحجر ص 187، ملحق المصنفات، الخطب المنبرية ص 57. 3 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، الزمر ص 339. 4 المصدر السابق، الزمر ص 334. 5 المصدر السابق، مختصر زاد المعاد ص 7، 8. 6 المصدر السابق، التفسير، الحجر ص 187. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 513 بالنفع والضر 1، وتفرد بالعزة والمجد 2. ويعتقد الشيخ أن من صفات الله الثابتة صفة الكلام 3 وليس كتكليمه سبحانه وتعالى تكليم أحد 4. قال أبناء الشيخ وحمد بن ناصر بن معمر: "واعلم أن صفة الكلام لله تعالى قديمة أزلية لا ابتداء لها كسائر صفات الله تعالى من الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر وسائر الصفات لأنه تبارك وتعالى هو الأول فليس قبله شيء بجميع صفاته لم تتجدد بوصفه كما يقوله بعض أهل الأهواء والبدع من الكرامية ومن سلك سبيلهم، وأما أهل السنة والجماعة فمجمعون على ما ذكرنا من أن الله تعالى قديم بجميع صفاته الكلام وغيره. قال الإمام أحمد - رحمه الله - في كتاب الرد على الزنادقة لم يزل الله تعالى متكلماً إذا شاء ومتى شاء، ولا نقول إِنه كان لا يتكلم حتى خلقه … إلخ. وهذا الذي قال إمام السنة والجماعة هو الصواب الذي لا يجوز غيره، والقرآن تكلم به سبحانه بمشيئته وقدرته وذلك أن أهل السنة   1 المصدر السابق، التفسير، النحل ص 200. 2 المصدر السابق، التفسير، الزمر ص 330. 3 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، الزمر ص 325 4 الدرر السنية، ط2، ج 3 ص 209. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 514 والجماعة يثبتون الأفعال الاختيارية من الكلام وغيره من الصفات، كما أنه سبحانه كلم موسى بمشيئته وقدرته ويكلم من شاء من خلقه بمشيئته وقدرته إذ شاء ومتَى شَاءَ بلا كيف1. ويعتقد الشيخ: أن كلام الله يتفاضل، لقوله تعالى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} 2 (الزمر: 55) . وأن تكليم الله للعباد على ثلاثة أوجه: 1- من وراء حجاب كموسى. 2- وبإرسال رسول كما أرسل الملائكة إلى الأنبياء. 3- وبالإيحاء وهذا للأولياء فيه نصيب. والمرتبتان الأوليتان للأنبياء خاصة 3. والرؤيا قد تكون سبب لشرع بعض الأحكام 4. وأن الله تعالى كلم موسى تكليماً، وناداه تعالى من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من جانب الطور {أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} الآيات (القصص: 30) وقربه نجيا فناداه وناجاه 5.   1 الدرر السنية، ط2 ج 3/ ص 187. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، الزمر ص 337. 3 مؤلفات الشيخ، ملحق المصنفات، مسائل ملخصة، مسألة رقم 38 ص 29. 4 المصدر السابق، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد ص 113. 5 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، القصص 291، والدرر السنية، ج 3 ص 209، ومؤلفات الشيخ، ملحق المصنفات، مسائل ملخصة رقم 89 ص 92- 95. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 وفي قوله تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ} الآية (يوسف: 102) ، الرد على مخالفي الرسل في قولهم: {لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ} أو نحو ذلك، لأن الرسل ما أتوا الأمم إلا بالوحي 1. وإذا أراد الله تعالى أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي أخذت السموات منه رجفة شديدة خوفاً من الله عز وجل. فإذا سمع ذلك أهل السموات صعقوا وخروا لله سجداً فيكون أول من يرفع رأسه جبريل، فيكلمه الله من وحيه بما أراد، ثم يمر جبريل على الملائكة، كلما مر بسماء سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول جبريل قال الحق، وهو العلي الكبير، فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمرهُ الله عز وجل ". وأن الملائكة تضرب بأجنحتها خضعاناً لقوله كأنه سلسلة على صفوان ينفذهم ذلك، حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق، وهو العلي الكبير. فيسمعها مسترق السمع، ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض - وصفه سفيان بكفه فحرفها وبدد بين أصابعه - فيسمع الكلمة، فيلقيها إلى من تحته ثم يلقيها الآخر إلى من   1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير يوسف ص 177 وص 179. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 516 تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه ن فيكذب معها مائة ألف كذبة. فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا: كذا وكذا؟! فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء وقال الله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} 1 (سبأ: 23) . ويثبت الشيخ لله تعالى صفة الوجه الكريم. وأنه لا يسأل بوجهه إلا غاية المطالب وأن حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه وأنه ما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن 2. ويعتقد الشيخ أن المؤمنين يرون ربهم بأبصارهم يوم القيامة كما يرون القمر ليلة البدر لا يضامون في رؤيته3، بلا كيف ولا إحاطة4.   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد ص 48- 50، أصول الإيمان ص 238- 239. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، باب لا يسأل بوجه الله إلا الجنة ص 129، وأصول الإيمان ص 232، 237 وملحق المصنفات، مسائل ملخصة ص 28. 3 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 1 ص 10 والقسم الأول، العقيدة، أصول الإيمان ص 236. 4 الدرر السنية، ط2، ج1، ص 126. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 517 وأن الرؤية تكون عامة وخاصة: أما العامة: فيراه عموم الخلق. وأما الخاصة: التي يفهم منها الكرامة: فيراه المؤمنون خاصة 1. وقال أبناء الشيخ وحمد بن ناصر: وأما رؤية الله تعالى يوم القيامة فهي ثابتة عندنا وأجمع عليها أهل السنة والجماعة والدليل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع، ومن ذلك قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} - وقال المفسرون: معنى أنها تنظر إلى الله عز وجل كرامة لهم من الله، وهي أعظم ما يتنعم به أهل الجنة يوم القيامة، كما ورد ذلك في الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم 2. وأما قوله: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} أي لا تحيط به. وأما قوله تبارك وتعالى لموسى: "لن تراني" الآية … فذكر العلماء أن المراد لن تراني في الدنيا، وأيضاً الآية دليل واضح على جوازها وإمكانها لأن موسى عليه السلام أعلم بالله من أن يسأله ما لا يجوز عليه أو يستحيل خصوصاً ما يقتضي الجهل ولذلك رد بقوله تعالى: "لن تراني" دون لن أُرَى ولنْ أُريَك وَلنْ تنظر إلي فبذلك تبين أنها دالة على مذهب أهل السنة والجماعة القائلين بإثبات رؤية الله يوم القيامة 3.   1 مؤلفات الشيخ، ملحق المصنفات، مسائل ملخصة رقم 22 ص 20- 21. 2 الدرر السنية، ط2، ج3، ص 193، 194. 3 الدرر السنية، ط2، ج3، ص 139، 194. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 518 كما يثبت أن الله يدين - كما ورد في القرآن والسنة على ما يليق بجلاله - كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} فله يدان وليس كيديه يدَا مخلوقٍ، قال تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} وقال تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} فقوله: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} يدل على إثبات اليدين لله تعالى كما يليق به، ولو كان المراد منه مجرد الفعل، لم يكن لذكر اليد بعد نسبة الفعل إلى الفاعل معنى، فكيف وقد دخلت الباء؟! فالفعل قد يضاف إلى يد ذي اليد، والمراد الإضافة إليه كقوله: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} وأما إذا أضيف إليه الفعل ثم عُدي الباب إلى يده مفردة أو مثناة ما باشرته يده. ولو كانت اليد هي القدرة لم يكن لها إختصاص بذلك ولا كانت لآدم فضيلة بذلك على شيء مما خلق بالقدرة 1. ولفظ اليد في القرآن جاء على ثلاثة أنواع مُفْرَدٌ كقوله: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} وكقوله: {بِيَدِهِ الْمُلْكُ} وجاء مثنى كقوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} وكقوله: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} . وجاء مجموعاً كقوله: {عَمِلَتْ أَيْدِينَا} فحيث ذكر اليد مثناة أضاف الفعل إلى نفسه بضمير الإفراد وعُدِّيَ الفعل بالباء فقال: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} وحيث ذكرها مجموعة أضاف العمل إليها ولم يعدَّ الفعل بالباء فلا يحتمل   1 الدرر السنية، ط2، ج3، ص 221، 222. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 519 (ما خلقت بيدي) من المجاز ما يحتمل (عملت أيدينا) فإن كل أحد يفهم من قوله عملت أيدينا ما يفهمه من قوله علمنا وخلقنا كما يفهم من قوله: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} 1. ولو كان قوله خلقت بيدي مثل قوله عملت أيدينا لكان آدم والأنعام سواء، وأهل الموقف لما يقولون له: "أنت أبو البشر خلقك الله بيده " يعلمون لآدم تخصيصاً وتفضيلاً بكونه مخلوقاً باليدين، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم "يقبض الله سماواته بيده اليمنى والأرض بيده الأخرى " ثم ذكر أحاديث كثيرة في إثبات اليدين لله تعالى. بالتثنية والإفراد وإثبات الأصابع بالجمع والتثنية والإفراد، وإثبات الكف، والقبض واليمين والشمال، والإمساك والبسط، وغير ذلك مما لا يحتمل تأوِيلاً عن ظاهرة الدال على إثبات يدي الله حقيقة كما يليق بجلاله ليس كمثل يدي أحد 2. وفي جواب للشيخ حمد بن ناصر بن معمر لما سئل عن اعتقاد الشيخ في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وغيره. نجد أن الشيخ رحمه الله   1 الدرر السنية، ط2، ج3، ص 221، 222. 2 انظر: الدرر السنية، ط2، ج3، ص 207، 221- 222. ومؤلفات الشيخ، ملحق المصنفات، مسائل ملخصة، مسألة رقم 36 ص 28، ومؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، باب ما جاء في قول الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} الآية، ص 148، 149، 150. وأصول الإيمان ص 240، 241. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 520 تعالى يعتقد: أن الله سبحانه فوق سماواته على عرشه 1 بائن من خلقه، والعرش وما سواه فقير إليه، وهو غني عن كل شيء لا يحتاج إلى العرش ولا إلى غيره 2. قال الشيخ حمد بن ناصر: "وهذا كتاب الله من أوله إلى آخره، وهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا كلام الصحابة والتابعين وسائر الأئمة. قد دل ذلك بما هو نص أو ظاهر في أن الله سبحانه فوق العرش مستو على عرشه ونحن نذكر من ذلك بعضه قال الله سبحانه وتعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} - وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} وقد أخبر سبحانه باستوائه على عرشه في سبعة مواضع من كتابه، فذكر في سورة الأعراف ويونس والرعد وطه والفرقان وتنزيل السجدة والحديد إلى غير ذلك من الآيات الدالة على علو الله سبحانه وتعالى كقوله: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} وقوله: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} وإِخباره عن فرعون أنه قال: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً} ففرعون كذب موسى في قوله: إن الله في السماء وقوله: {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} إلى غير ذلك3.   1 انظر: مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، التوحيد ص 149- 151. 2 الدرر السنية، ط2، ج3، ص 210. 3 الدرر السنية، ط2، ج3، ص 210. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 521 قال الشيخ حمد الناصر: وقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} يتضمن إبطال قول المعطلة الذين يقولون ليس على العرش سوى العدم وأن الله ليس مستوياً على العرش ولا ترفع إليه الأيدي حيث أخبر سبحانه أنه على عرشه وأنه يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها - ثم قال - {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} معناه أنه لا يخفى عليه خافية بعلمه، وليس معنى قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} أنه مختلط بالخلق فإن هذا لا توجبه اللغة، وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة وأئمتها وخلاف ما فطر الله عليه الخلق. وهو سبحانه فوق العرش، رقيب على خلقه، مهيمن عليهم، مطلع عليهم، إلى غير ذلك من معاني ربوبية. وأخبر أنه ذو المعارج، تعرج الملائكة والروح إليه، وأنه القاهر فوق عباده، وأن ملائكته يخافون ربهم من فوقهم، فكل هذا الكلام الذي ذكره الله من أنه فوق عباده على عرشه، وأنه معنا حق على حقيقته لا يحتاج إلى تحريف، ولكن يصان عن الظنون الكاذبة، وهو سبحانه قد أخبر أنه قريب من خلقه، كقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} الآية من سورة البقرة (رقم 186) وقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} ، سورة ق آية (16) وقال النبي صلى الله عليه وسلم "إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته " 1.   1 صحيح البخاري، التوحيد، 13/ 372. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 522 وقوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} والمجادلة آية (7) . وكما في الكتاب والسنة من الأدلة الدالة على قربه ومعيته لا ينافي ما ذكر من علوه وفوقيته فإنه سبحانه عَليٌّ في دنوه، قريب في عُلُوِّه، وقد أجمع سلف الأمة على أن الله سبحانه وتعالى فوق سماواته على عرشه وهو مع خلقه بعلمه أينما كانوا، يعلم ما هم عاملون، وقال حنبل بن إسحاق: قيل لأبي عبد الله: ما معنى {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} ؟ قال علمه محيط بالكل وربنا على العرش بِلاَ حد ولا صفة. قال الشيخ حمد الناصر: وأما الأحاديث الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الباب، فكثيرة جداً منها ما رواه مسلم في صحيحه وأبو داود والنسائي وغيرهم، عن معاوية بن الحكم السلمي قال: لطمت جارية لي فأخبرت رسول صلى الله عليه وسلم، فعظم ذلك علي، فقلت يا رسول الله: أفلا أعتقها؟ قال: "بلى ائتني بها " فجئت بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لها أين الله؟ فقالت في السماء فقال: "فمن أنا؟ قالت أنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أعتقها فإنها مؤمنة " وفي الحديث مسألتان: أحداهما: قول الرجل لغيره أين الله؟ والثانية: قول المسؤول: في السماء فمن أنكر هاتين المسألتين فإنما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 523 ينكر على الرسول صلى الله عليه وسلم 1. وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما خلق الله الخلق كتب كتاباً فهو عنده فوق العرش إن رحمتي تغلب غضبي" وفي لفظ: "فهو مكتوب عنده فوق العرش " وهذه الألفاظ كلها في صحيح البخاري 2. قال الشيخ حمد الناصر: وفي صحيح مسلم عن أبي موسى قال قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات فقال: " إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه، ويرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه " 3. قال الشيخ حمد الناصر: "وفي الصحيحين في قصة المعراج وهي متواترة وتجاوز النبي صلى الله عليه وسلم السموات سماء سماء حتى انتهى إلى ربه تعالى   1 الدرر السنية، ط2، ج3 ص 221، 222، وحديث الجارية رواه مسلم في المساجد، ج1/ ص 382. 2 انظر: مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، أصول الإيمان ص 234، وانظر: صحيح البخاري ج8/ 171، كتاب التوحيد، باب 15. 3 انظر: مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، أصول الإيمان ص 232 والحديث في صحيح مسلم، الإيمان ج1/ ص 161. وانظر: مؤلفات الشيخ، ملحق المصنفات، مسائل ملخصة، مسألة رقم 35 ص 28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 524 فقربه وأدناه وفرض عليه خمسين صلاة، فلم يزل يتردد بين موسى وبين ربه، ينزل من عند ربه إلى موسى، فيسأله كم فرض عليك؟ فيخبره فيقول: ارجع إلى ربك فسله التخفيف. ثم ذكر الشيخ حمد بن ناصر بن معمر أحاديث كثيرة في استواء الله على عرشه وعلوه على مخلوقاته إلى أن قال: "والمقصود أن نصوص الكتاب والسنة قد نطقت، بل تواترت بإثبات علو الله على خلقه وأنه فوق سماواته مستو على عرشه استواء يليق بجلاله، لا يعلم كيفيته إلا هو، كما لا يعلم كيفية ذاته إلا هو وذاته المقدسة تبارك وتعالى حقيقة ثابتة في نفس الأمر مستوجبة لصفات الكمال، لا يماثلها شيء، وكذا استواؤه ونزوله وكلامه ثابت في نفس الأمر، لا يشابهه فيها استواء المخلوقين وكلامهم ونزولهم، فإنه ليس كمثله شيء، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فإذا كان له ذات حقيقة لا تماثل الذوات، فالذات متصفة بصفات حقيقية لا تماثل سائر الصفات، فإن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات. إلى أن قال: وبالجملة فمن قال إن الله في السماء وأراد أنه في جوف السماء بحيث تحصره وتحيط به فقد أخطأ وضل ضلالاً بعيداً وإن أراد بذلك أن الله فوق سمواته، على عرشه بائن من خلقه، فقد أصاب، وهذا اعتقاد شيخ الإسلام (محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى) وهو الذي نطق به الكتاب والسنة، واتفق عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 525 سلف الأمة وأئمتها، ومن لم يعتقد ذلك كان مكذباً الرسل، متبعاً غير سبيل المؤمنين 1. ويثبت الشيخ إتيان الرب ومجيئه وإشراق الأرض بنوره يوم النفخ في الصور كما في القرآن الكريم 2، ويثبت النزول كما وردت بذلك السنة الصحيحة، ومن ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له " متفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه 3. والشيخ يثبت النزول كما يثبت غيره من الصفات الواردة في الكتاب والسنة على قاعدة الإمام مالك فيقول في النزول أيضاً: النزول معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عن الكيفية بدعة، ونحن لا نعلم كيفية نزوله ولكن نزوله ثابت في نفس الأمر لا يشابهه نزول المخلوقين {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 4. وهكذا يقر الشيخ جميع آيات الصفات وأحاديثها مع اعتقاد   1 الدرر السنية، ط2، ج3، ص 214- 217 بتصرف قليل. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، الزمر ص 341. 3 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، أصول الإيمان ص 233، 236- 237. الدرر السنية، ط2 ج3 ص 192، 198، وص 215. 4 الدرر السنية، ط2 ج 3 ص 185 وص 215، 216، 217. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 526 حقائقها وإثبات العلم بها وما دلت عليه من صفات الرب تبارك وتعالى وأسمائه من غير تكييف ولا تعطيل ومن غير تمثيل ولا تحريف، بل كما قال ربيعة ومالك: " الكيف غير معقول والاستواء منه غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة " 1. وعلى هذا اعتقاد الشيخ محمد بن عبد الوهاب في جميع الأسماء والصفات 2. وقال أبناء الشيخ والشيخ حمد بن ناصر: بعد ذكرهم لكلام الإمام مالك: "وهذا الجواب من مالك في الاستواء شاف كاف في جميع   1 قال الحافظ الذهبي في كتابه العلو: "هذا ثابت عن مالكٍ وتقدم نحوه عن ربيعة شيخ مالك، وهو قول أهل السنة قاطبة، أن كيفية الاستواء لا نعقلها، بل نجهلها وأَن استواءه معلوم كما أخبر في كتابه، وأنه كما يليق به، لا نتعمق ولا نتحذلق، ولا نخوض في لوازم ذلك نفياً ولا إثباتاً، بل نسكت ونقف كما وقف السلف، ونعلم أنه لو كان له تأويل لبادر إلى بيانه الصحابة والتابعون، ولما وسعهم إقراره وإمراره والسكوت عنه، ونعلم يقيناً مع ذلك أن الله جل جلاله لا مثل له في صفاته ولا في استوائه، ولا في نزوله، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً. انتهى كلام الحافظ الذهبي. مختصر العلو، للذهبي، إختصار الألباني ص 142، 143. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الثالث، الفتاوى ص 44، والدرر السنية، ط2 ج 2 ص3، ج3 ص 207- 262، وص 191، 192. ومؤلفات الشيخ، ملحق المصنفات، الخطب المنبرية، ص 8- 11، 27، 28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 527 الصفات مثل النزول والمجيء واليد والوجه، وغيرها، فيقال في النزول: النزول معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة، وهذا يقال في سائر الصفات الواردة في الكتاب والسنة " 1. وكتب بعض تلامذة الشيخ عبد الرحمن بن حسن إليه يهنيه بقدوم ابنه الشيخ عبد اللطيف من مصر وتوسل إلى الله في دعائه بصفاته الكاملة التي لا يعلمها إلا هو فكتب إليه وفيما كتب قال: "قلت: وأتوسل إليك بصفاتك الكاملة التي لا يعلمها إلا أنت فاعلم أن الذي لا يعلمها إلا هو كيفية الصفة، وأما الصفة فيعلمها أهل العلم بالله كما قال الإمام مالك: الاستواء معلوم والكيف مجهول، ففرق هذا الإمام بين ما يعلم منه معنى الصفة على ما يليق بالله فيقال استواء لا يشبه استواء المخلوق ومعناه ثابت لله كما وصف به نفسه، وأما الكيف فلا يعلمه إلا الله، فتنبه لهذا فالإمام مالك تكلم بلسان السلف" 2. كان الشيخ حمد بن ناصر بن معمر قد سئل عن اعتقاد الشيخ فيما قد يتوهم بعض الناس التشبيه في ظاهرة من نصوص الوحي من الكتاب والسنة الواردة في صفات الرب تبارك وتعالى - مثل قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ومثل قوله: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} - وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ينزل   1 الدرر السنية، ط2، ج3 ص 198. 2 الدرر السنية، ط2، ج 3 ص 299. وانظر: عنوان المجد ج 2/ ص 22، 23، والذي كتب إليه هو ابن بشير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 528 ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا " - وقوله صلى الله عليه وسلم: "قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن " ... ونحو ذلك. وقال السائل أفيدونا عن اعتقاد الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله تعالى - في ذلك؟ وكيف مذهبه ومذهبكم من بعده؟ هل تمرون ما ورد من ذلك على ظاهره مع التنزيه، أم تؤولون وأبسطوا الكلام على ذلك وأجيبوا جواباً شافياً، تغنموا أجراً وافياً فأجاب بما نصه: الحمد لله رب العالمين، قولنا في آيات الصفات والأحاديث الواردة في ذلك ما قاله الله ورسوله وما قاله سلف الأمة وأئمتها من الصحابة والتابعين، والأئمة الأربعة وغيرهم من علماء المسلمين فنصف الله تعالى بما وصف به نفسه في كتابه، وبما وصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل بل نؤمن بأن الله سبحانه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} فلا ننفي عنه ما وصف به نفسه ولا نحرف الكلم عن مواضعه، ولا نلحد في أسماء الله وآياته، ولا نكيف ولا نمثل صفاته بصفات خلقه، لأنه سبحانه لا سَمِيَّ له، ولا كفو له، ولا ند له ولا يقاس بخلقه "سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً " فهو سبحانه ليس كمثله شيء في ذاته ولا في صفاته، ولا في أفعاله، بل يوصف بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تكييف ولا تمثيل خلافاً للمشبهة، ومن غير تحريف ولا تعطيل خلافاً للمعطلة فمذهبنا مذهب السلف إثبات بلا تشبيه، وتنزيه بلا تعطيل، وهو مذهب أئمة الإسلام، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 529 كمالك والشافعي والثوري، والأوزاعي، وابن مبارك، والإمام وأحمد وإسحاق بن راهويه، وهو اعتقاد المشائخ المقتدى بهم كالفضيل بن عياض، وأبي سليمان الداراني وسهل بن عبد الله التستري وغيرهم فإنه ليس بين هؤلاء الأئمة نزاع في أصول الدين، وكذلك أبو حنيفة رضي الله عنه فإن الاعتقاد الثابت عنه موافق لاعتقاد هؤلاء، وهو الذي نطق به الكتاب والسنة قال الإمام أحمد رحمه الله لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم لا يتجاوز القرآن والحديث وهكذا مذهب سائرهم كما سننقل عباراتهم بألفاظها إن شاء الله تعالى، ومذهب شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى - هو ما ذهب إليه هؤلاء الأئمة المذكورون فإنه يصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يتجاوز القرآن والحديث ويتبع في ذلك سبيل السلف الماضيين الذين هم أعلم هذه الأمة بهذا الشأن نَفْياً وإثباتاً وهم أشد تعظيماً لله وتنزيها له، عما لا يليق بجلاله. انتهى 1. ثم إن الشيخ حمد بن ناصر رحمه الله أطال في هذا الموضوع إطالة وافية ونقل عبارات السلف بألفاظها وأفاض في نقل الأدلة وشرحها عن السلف الصالح، وفي كل ذلك يقول هذا اعتقاد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب 2، ويقع جوابه في خمس وخمسين صفحة من القطع الوسط   1 الدرر السنية، ط2، ج3، ص 207، 208. 2 انظر: الدرر السنية، ط2، ج3، ص 208، 217، 235. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 530 وبالحرف المعتاد 1. وهو جواب مفيد، وفي غاية الأهمية على طوله وبسطه - أسأل الله تعالى بأسمائه وصفاته أن ييسر إفراده بالطبع والنشر مع الدراسة والتخريج لينتفع به المسلمون عاجلاً غير آجل. - والخلاصة - أن الشيخ رحمه الله يعتقد أن الله تعالى واحد في ذاته وأسمائه وصفاته، له الأسماء الحسنى وصفات الكمال، لا سمي له مثيل، الأحد الصمد، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير فعال لما يريد وهو رب العالمين لا شريك له ولا معين، ولا ظهير ولا شفيع، لا يشفع عنده أحد إلا من أذن له وارتضى شفاعته. وبهذا القدر يتم هذا الجانب من عقيدة الشيخ فيما يثبت لله تعالى من الأسماء والصفات وما ينزه الله عنه من العيوب والنقص ومماثلة المخلوقات، وهذا هو المقام الخبري العلمي، أحد مقامي الكلام على التوحيد، وهو البرهان والدليل والمستلزم للمقام الثاني، مقام الإنشاء العملي الطلبي والذي هو إفراد الله بالعبادة بجميع أنواعها. وفيما يلي بيان ذلك من عقيدة الشيخ - رحمه الله تعالى - في التوحيد الذي هو حق الله على العبيد.   1 يقع في: الدرر السنية، ط2، ج3، من ص 207 - 262. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 531 توحيد الإلهية والعبادة: الكلام في توحيد الإلهية من باب الطلب والإرادة الدائر بين المحبة والكراهة نفياً وإثباتاً 1. وفي هذا الباب يعتقد الشيخ - رحمه الله - أن التوحيد ينبئ على أن الله واحد في ألوهيته لا إله حق إلا هو، وألوهية الله تعالى هي مجموع عبادته على مراده نفياً وإثباتاً علماً وعملاً، جملة وتفضيلاً 2. وحاصل ما يقول الشيخ في تعريف هذا التوحيد: أن التوحيد اسم لفعل العبد المأمور به، فإن كانت أعماله التعبدية كلها لله وحده فهو موحد، وإن كان فيها شرك للمخلوق فهو مشرك 3. فالتوحيد هو إفراد الله بجميع أنوا ع العبادة لا يشركه فيها أحد، ولا يستحق العبادة أحد إلا الله، فعبادة الله خالصة له، لا يستحق شيئاً منها ملك مقرب ولا نبي مرسل. ويقول الشيخ في تلخيصه عن ابن تيمية - رحمه الله -: إذا كان الكلام في سياق التوحيد، ونفي خصائص الرب عما سواه لم يجز أن يقال، هذا سوء عبارة في حق من دون الله من الأنبياء، والملائكة، فإن المقام أجل من ذلك، وكل ما سوى الله يتلاشى عند تجريد   1 انظر: أول التدمرية، الصفحة الأولى. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 25 ص 174. 3 الدرر السنية، ط2، ج1 ص 97، ج2، ص 42، 43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 532 توحيده، والنبي صلى الله عليه وسلم كان من أعظم الناس تقريراً لما يقال على هذا الوجه، وإن كان هو المسلوب، كما قالت عائشة لما أخبرها ببراءتها: والله لا أقوم إليه ولا أحمده، ولا أحمد إلا الله وفي لفظ بحمد الله لا بحمدك، فأقرها صلى الله عليه وسلم وأبوها على ذلك، لأن الله سبحانه الذي أنزل براءتها بغير فعل أحد، قال حيان قلت لابن المبارك: إني لأستعظم هذا القول قال: ولت الحمد أهله، وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد: قول الأسير اللهم إني أتوب إليك، ولا أتوب إلى محمد، قال عرف الحق لأهله، وكان يعلم أصحابه تجريد التوحيد، فقال: لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء محمد، وقال له رجل ما شاء الله وشئت فقال: اجعلتني لله نداً؟ بل ما شاء الله وحده، وما أحدثه الله بغير فعل منه إضافة إلى الله وحده، كما قال لكعب بن مالك: لما قاله له: أمن عندك أم من عند الله؟ قال بل من عند الله ومعلوم أنه لو كان من عند النبي صلى الله عليه وسلم لكان من عند الله بمعنى أنه خلقه فجميع الحادثات من عنده بهذا الاعتبار، ولكن المقصود أنه صلى الله عليه وسلم لم يصدر عنه فعل في هذه التوبة إلا أنه بلغ الرسالة 1. ويعتقد الشيخ أن الله أمر جميع الناس بتوحيد الله في العبادة والإلهية بجميع أنواعها، ونهاهم عن ضد هذا التوحيد، والدليل قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} (النساء: 36) 2.   1 مؤلفات الشيخ، ملحق المصنفات، مسائل ملخصة رقم 109 ص 104. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، كتاب التوحيد ص 7- 11، وثلاثة الأصول ص 186- 187، ثلاث مسائل ص 374. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 533 وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} (الإسراء: 23) . وهو أعظم ما أمر الله به وفرض وأوجب - كما أن أعظم ما حرم الله ونهى عنه هو ضده الشرك. قال تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} الآية (الأنعام: 151) . قال ابن مسعود: "من أراد أن ينظر إلى وصية محمد صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه، فليقرأ قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} إلى قوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً} الآية. وهذا الأثر رواه الترمذي وحسنه ابن المنذر، وابن أبي حاتم والطبراني بنحوه. قال الشيخ: فيه عظم شأن الآيات المحكمات في سورة الأنعام عند السلف 1. وكذلك الآيات المحكمات في سورة الإسراء، وفيها اثنتا عشر مسألة، بدأها الله بقوله: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً} (الإسراء: 22) . وفيها قوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (نفس السورة: 23) - وختمها بقوله: {وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً} (نفس السورة: 39) . ونبهنا الله سبحانه على عظم شأن هذه المسائل بقوله: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} (نفس السورة: 39) . ولحديث معاذ كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار، فقال لي: "يما معاذ أتدري ما حق الله على العباد؟ وما حق العباد على الله؟ قلت: الله   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد ص 8، 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 534 ورسوله أعلم - قال: حق الله على العباد: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً وحق العباد على الله: أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً. قلت يا رسول الله، أفلا أبشر الناس؟ قال: لا تبشرهم فيتكلوا". أخرجاه في الصحيحين. قال الشيخ: وفي هذا أن العبادة هي التوحيد، وأن من لم يأت به لم يعبد الله ففيه معنى قوله: {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} (الكافرون: 3، 5) . ويقرر الشيخ أن إفراد الله بالعبادة هو التوحيد الذي هو حق الله على العبيد، وهو أصل الدين، وهو الذي خلق الله الثقلين الجن والإنس من أجله، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56) . وهو الذي أرسل الله به الرسل، وأنزل من أجله الكتب، وفرض من أجله الجهاد، وشرع منه شريعة الإسلام، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 1 (النحل: 36) . ويقول - رحمه الله -: إعلم رحمك الله أن الله سبحانه إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب لأجل التوحيد، فإذا لم يفعله الإنسان ويجتنب الشرك فهو كافر وكل أعماله   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد ص 7- 9، 14، 20- 22 ثلاثة الأصول ص 186 ومفيد المستفيد ص 292، وستة أصول ص 393، وكشف الشبهات ص 172 وص 381، ومعنى الطاغوت 376، 353- 355، والقسم الثالث، مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ص 30 والفتاوى رقم 12 ص 52، 53 والقسم الخامس، الشخصية رقم 28 ص 189. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 535 حابطة، ولو كان من أعبد هذه الأمة يقوم الليل ويصوم النهار قال الله تعالى في الأنبياء: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ، وتصير عبادته كلها كمن صلى ولم يغتسل من الجنابة أو كمن يصوم في شدة الحر وهو يزني في أيام الصوم1. أما فضله: فهو فضلٌ عظيم، وثواب كثير، ويكفر الذنوب كما روى الترمذي وحسنه عن أنس: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله تعالى: يا ابن آدم، لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة" وكما في حديث عتبان: "فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله " أخرجه البخاري ومسلم. قال الشيخ: إذا عرفت حديث أنس، عرفت أن قوله في حديث عتبان: "فإن الله حرم على النار من قال: لا إله الله، يبتغي بذلك وجه الله" أنه ترك الشرك ليس قولها باللسان 2. ويقول الشيخ في تلخيصه مسائل عن ابن تيمية رحمه الله -:   1 الدرر السنية، ط2 ج 1 ص 69- 71 وص 92، 93 ومؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد ص 7، 9 وص 186 وص 370، وص 374، 375 والقسم الخامس الشخصية رقم 2 ص 16 ورقم 5 ص 36 ورقم 22 ص 150- 156. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد ص 14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 536 تواترت الأحاديث بخروج من قال: لا إله إلا الله من النار إذا كان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة أو خردلة أو ذرة، وكثير منهم أو أكثرهم يدخلها، وتواترت أنه يحرم على النار من قال لا إله إلا الله، لكن جاءت مقيدة بالإخلاص، واليقين، ويموت عليها، فكلها مقيدة بهذه القيود الثقال، وأكثر من يقولها لا يعرف الإخلاص ولا اليقين، ومن لا يعرف ذلك يخشى عليه أن يفتن عنها عند الموت، وغالبهم إنما يقولها تقليداً أو عادة، وغالب ما يفتن عند الموت أو في القبر أمثال هؤلاء، كما في الحديث سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، وغالب أعمال هؤلاء إنما هو تقليد أو إقتداء بأمثالهم، وهو أقرب الناس من قوله: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} الآية (الزخرف: 22) فلا منافاة بن الأحاديث، فإنه إذا قالها بإخلاص ويقين ومات عليها امتنع أن ترجح سيئاته، فإن كان قالها على الكمال المانع من الشرك الأصغر والأكبر فهو غير مصر على ذنب، وإن كان على وجه خلص به من الأكبر ولم يأت بعدها بما يناقض ذلك فهذه الحسنة لا يقاومها شيء من السيئات فترجح بها الحسنات كما في حديث البطاقة، وهذا خلاف من رجحت سيئاته، لأن معه الشرك الأصغر وأتى بعد ذلك بسيئات تنضم إلى ذلك الشرك فترجح سيئاته، فإن السيئات تضعف الإيمان، واليقين فيضعف قول لا إله إلا الله، فيمتنع الإخلاص في القلب فيصير المتكلم بها كالهاذي، أو النائم، أو من يحسن صوته بآيةٍ من القرآن من غير ذوق طعم ولا حلاوة فالذي قالها بيقين وصدق تام إما ألا يكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 537 مصراً على سيئته، أو يكون توحيده المتضمن لصدقه ويقينه رجح حسناته، والذين دخلوا النار فاتهم أحد الشرطين 1. وعلى هذا فمن حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب كما قال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (النحل: 120) . وقال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ} (المؤمنون: 59) . وكما في حديث حصين بن عبد الرحمن عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في عرض الأمم على النبي صلى الله عليه وسلم ومنهم أمته، وفي أمته سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب وهم الذين حققوا التوحيد بتركهم الاسترقاء والاكتواء والتطير متوكلين على الله تعالى. والحديث رواه البخاري مطولاً ومختصراً، ومسلم والنسائي والترمذي 2. ولهذا يبين الشيخ أهمية هذا التوحيد، وأن معرفته أهم من معرفة العبادات كلها حتى الصلاة 3، وهو متضمن للتوحيد كله. فمن أتى بهذا التوحيد، فوحد الله في ألوهيته وعبادته فقد وحد الله   1 مؤلفات الشيخ، ملحق المصنفات، مسائل ملخصة رقم 87 ص 70- 71. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، كتاب التوحيد وباب فضل التوحيد، وباب من حقق التوحيد ص 7- 17 والأصل الجامع لعبادة الله وحده ص 378، والقسم الرابع، التفسير، آخر الكهف ص 260 والأنعام ص 58، ومختصر زاد المعاد ص 67، 77، وص 377 والقسم الثالث، الفتاوى ص 50. 3 الدرر السنية، ج 1 ص 93. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 538 في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله وربوبيته، لأن الله استعبد خلقه بالألوهية الجامعة لصفات الكمال فمن شهد أن لا إله إلا الله بصدق فقد وحد الله تعالى التوحيد كله، أما من أقر بوحدانية الله تعالى في ربوبيته وعبد الله وتألهه، لكن لم يوحد الله في التأله والعبادة، أي أنه يعبد الله وبعبد معه غيره. فهو لم يأت بتوحيد الألوهية، ولم يشهد أن لا إله إلا الله، فهو وإن ادعاها وتلفظ بها فهو كاذب، بدليل شركه في العبادة والألوهية. يقول الشيخ في تفسير قول الله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً} (الكهف: 13- 16) . فيه مسائل: ثم ذكرها ومنها الثامنة والتاسعة قال: " الثامنة: المسألة الكبرى أن من ذبح لغير الله أو دعا غيره فقد كذب بقول لا إله إلا الله، وقد دعا إلهين اثنين واتخذ ربين. التاسعة: المسألة العظيمة المشكلة على أكثر الناس أنه إذا وافقهم بلسانه مع كونه مؤمناً حقاً كارهاً لموافقتهم فقد كذب في قول لا إله إلا الله، واتخذ إلهين اثنين وما أكثر الجهل بهذه والتي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 539 قبلها " 1. وهذا هو معْنى شهادة أن لا إله إلا الله للحديث الذي رواه البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من مات وهو يدعو من دون الله نداً دخل النار " - قال الشيخ: فيه تفسير "لا إله إلا الله " كما ذكره البخاري 2. فإن هذه الكلمة "لا إله إلا الله " نفي وإثبات: نفي الإِلهية عما سوى الله سبحانه وتعالى من المخلوقات، حتى من المرسلين البشر وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم وحتى من الملائكة وجبريل "عليهم وعلى جميع المرسلين الصلاة والسلام " فضلاً عن غيرهم، من الأنبياء والصالحين وسائر المخلوقات، وإثباتها بجميع أنواعها كلها عز وجل وحده لا شريك له3. فإن "لا" في قولك "لا إله إلا الله" هي النافية للجنس تنفي جميع الآلهة.   1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، الكهف ص 243. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد ص 18- 19، وص 22، والدرر السنية، ج2 ص 16، 17. 3 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، تفسير كلمة التوحيد ص 363، 364، ومعنى الطاغوت ص 379، والدرر السنية، ط2، ج2، ص 45 وص 53، ومؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 28 ص 187، ومؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، تلقين لأصول العقيدة للعامة ص 371. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 540 و"إلا " حرف إستثناء يفيد حصر جميع العبادة على الله عز وجل، كما أنه لا شريك له في ملكه. و"الله " هو المعبود - هذا هو تفسير هذه اللفظة بإجماع أهل العلم - وهو المقصود المدعو المرجو المخوف. ف "الإله " اسم صفة لكل معبود بحق أو باطل ثم غلب على المعبود بحق وهو الله تعالى الذي لا تصلح العبادة إلا له. ومعنى "التأله ": التعبد. و"الإلهية ": العبودية. وإلهية الله: هي مجموع عبادته على مراده نفياً وإثباتاً علماً وعملاً جملة وتفضيلاً 1. وتوحيد الإلهية: هو إخلاص جميع العبادة لله من المحبة والخوف والرجاء والتوكل والدعاء وجميع العبادات، ظاهرها وباطنها لله تعالى وحده لا شريك له، وأن لا يجعل شيء من العبادات لغير الله لا ملك مقرب ولا نبي مرسل فضلاً عن غيرهما 2.   1 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 16 ص 105، 106 ورقم 19 ص 124، 125. والقسم الرابع، التفسير، ص 12، والقسم الخامس، الشخصية رقم 25 ص 174 ورقم 28 ص 187 ورقم 24 ص 167، ومؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كشف الشبهات، ص 157، وثلاثة الأصول ص 190، والدرر السنية، ط2، ج 2 ص 53. 2 انظر: إبطال التنديد، بإختصار شرح التوحيد تأليف الشيخ حمد بن عتيق، ط 3، ص 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 541 قال الشيخ: "اعلم رحمك الله أن معنى لا إله إلا الله نفي وإثبات، لا إله نفي، إلا الله إثبات. تنفي أربعة أنواع وتثبت أربعة أنواع، المنفي: الآلهة والطواغيت، والأنداد، والأرباب - فالإله ما قصدته بشيء من جلب خير أو دفع ضر، وما قصدته كذلك فأنت متخذه إلها. والطواغيت من عبد وهو راض أو ترشح للعبادة. والأنداد ما جذبك عن دين الإسلام من أهل أو مسكن أو عشيرة أو مال، فهو ند لقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} - والأرباب من أفتاك بمخالفة الحق وأطعته، لقوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} . وتثبت أربعة أنواع: (القصد) كونك ما تقصد إلا الله، والتعظيم والمحبة لقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} والخوف والرجاء لقوله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} ، والبراءة من الشرك وأهله كما فعل إبراهيم كسر الأصنام وتبرء من عبادها. قال الله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ ... } الآية (الممتحنة: 4) . هذا ما تنفيه وتثبته كلمة لا إله إلا الله 1.   1 الدرر السنية، ط2 ج 2 ص62، ومؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 19 ص 124 ورقم 7 ص 44، 46، والقسم الأول، التوحيد ص 33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 542 فلا إله إلا الله تجمع الدين كله، والأعمال الصالحة الخالصة كلها من لا إله إلا الله 1. ولذا كانت: "لا إله إلا الله " كلمة التوحيد، وكلمة الفرقان، الفارقة بين الكفر والإيمان وكلمة التقوى، والعروة الوثقى، وشعار الحنيفية ملة إبراهيم، وهي الكلمة التي جعلها إبراهيم عليه السلام كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون، والتي خلقت لأجلها المخلوقات وبها قامت الأرض والسموات، ولأجلها أرسلت الرسل وأنزلت الكتب. فمن قالها لا بد أن يأتي بحقها، وهو العمل بمقتضاها، ومعاداة من خالفها وإن كانوا من القرابة، فإن أبا طالب لم يمتنع من قول "لا إله إلا الله " إلا من أجل ملة عبد المطلب، لأنه لو قالها، لكان معنى ذلك البراءة من آبائه. ولذا يقول الشيخ في المسائل من باب قول الله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ... } من كتاب التوحيد، فيه "المسألة الكبرى: وهي تفسير قوله: (قل لا إله إلا الله) بخلاف ما عليه من يدعي العلم " 2 يشير بذلك إلى أن يدعي العلم وهو ليس عالماً يرى أن قول لا إله إلا الله، ولاء   1 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 18 ص 122 ورقم 22 ص 154. والقسم الرابع، التفسير، الحجر ص 196. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} ص 55. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 543 من غير براء وهذا خلاف مراد النبي صلى الله عليه وسلم منها وفهم أبي طالب لها. ولذا كان أصل ديننا وأوله وآخره وأسه ورأسه هو "شهادة أن لا إله إلا الله " ومعرفة معناها ومحبة أهلها وجعلهم إخواننا ولو كانوا بعيدين، والكفر بالطواغيت (وهم الذين يناقضونها) ومعاداتهم وبغضهم، وبغض من أحبهم، أو جادل عنهم، أو لم يكفرهم، أو قال ما علي منهم، أو قال ما كلفني الله بهم، فقد كذب هذا على الله وافترى، لأن الله تعالى كلفه بهم، وافترض عليه الكفر بهم، والبراءة منهم، ولو كانوا إخوانهم وأولادهم 1. نعم. فليس المراد من قوله: (لا إله إلا الله) قولها باللسان مع الجهل بمعناها، فالمنافقون يقولنها، وهم تحت الكفار، في الدرك الأسفل من النار، مع كونهم يصلون ويتصدقون، ولكن المراد قولها مع معرفتها بالقلب، ومحبة أهلها وبغض من خالفها ومعاداته، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من قال لا إله إلا الله مخلصاً " 2 وفي رواية "خالصاً من قلبه " 3 وفي رواية   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، تفسير كلمة التوحيد ص 363، 368، والدرر السنية، ط 2 ج2 ص 52- 53، ومؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 14 ص 96 ورقم 23ص 163، والقسم الأول، العقيدة، كشف الشبهات ص 157 ومسائل الجاهلية ص 342، 351. 2 رواية مخلصاً هي في مسند الإمام أحمد ج1/ 307، 518. وج 4/ 44 وج 5/ 236. 3 رواية خالصاً من قلبه أو نفسه هي صحيح البخاري، ج1 ك العلم باب 23، ص 33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 544 "صادقاً من قلبه " 1 وفي حديث آخر "من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله " 2. إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على المراد منها رغم جهالة أكثر الناس بذلك 3. والعجب أن الكفار الجهال على زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمون أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمة هو إفراد الله تعالى بالتعلق، والكفر بما يعبد من دون الله والبراءة منه واتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فإنه لما قال لهم قولوا لا إله إلا الله - قالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} (ص: 5) . والإله عندهم هو الذي يقصد لأجل الدعاء أو النذر أو الذبح أو الاستغاثة، أو غير ذلك من أنواع العبادة يريدون بذلك شفاعة المقصود والتقرب إلى الله بهذا العمل التعبدي، فالإله عند هؤلاء العرب هو الَّذي   1 رواية صادقاً من قلبه، هي في مسند أحمد، بلفظ ((صادقاً بها)) ج4/ 402، 411. 2 رواية من قال "لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله" هي في صحيح مسلم كتاب الإيمان ج1/ ص 53. 3 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، تفسير كلمة التوحيد ص 363. وانظر: كتاب التوحيد، باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب ص 12- 14 وباب الدعاء إلى شهادة "أن لا إله إلا الله" ص 20- 23، باب تفسير التوحيد وشهادة "أن لا إله إلا الله" ص 24- 26، وباب ما جاء ص 98، وباب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا ص 100، وباب من حقق التوحيد ص 15- 17، والقسم الخامس، الشخصية رقم 23 ص 162. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 545 يقصد لأجل هذه الأمور سواء كان ملكا أو نبيا أو وليا أو شجرة أو قبرا أو جنيا، ولم يريدوا أن الإله هو الخالق الرازق المدبر فإنهم يعلمون أن ذلك لله وحده كما تقدم. وأعجب العجب ممن يدعي الإسلام وهو لا يعرف من تفسير هذه الكلمة ما عرفه جهال الكفار، بل يظن أن ذلك هو التلفظ بحروفها من غير اعتقاد القلب لشيء من المعاني والحاذق منهم يظن أن معناها لايخلق ولا يرزق إلا الله ولا يدبر الأمر إلا الله فلا خير في رجل جهال الكفار أعلم منه بمعنى "لا إله إلا الله" 1 وتقدم قبل قليل إشارة إلى هذا. يقول الشيخ بعد أن ذكر قصة موت أبي طالب على ملة عبد المطلب وحضور أبي جهل ذلك: أن أبا جهل ومن معه يعرفون مراد النبي صلى الله عليه وسلم إذ قَال للرجل: " قل: لا إله إلا الله" فقبح الله من أبو جهل أعلم منه بأصل الإسلام2. ويعقد الشيخ بابا كبيرا في كتاب التوحيد ترجمته:" باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله" أورد تحته نصوصا من الوحي يفسر بها ترجمة الباب ثم قَال وشرح هذه الترجمة ما بعدها من الأبواب، فجعل ما   1مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كشف الشبهات ص157، 158. والدرر السنية ط2، ج1 ص69-71. 2مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {إنك لاتهدي من أحببت} ص55. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 546 بعده من أبواب وتبلغ واحدا وستين بابا هي في بيان شيء من أَفْرادِ التوحيد، وبيان ضده، وشيء من أفراد ضده أو ضد كماله، وبراهين بطلان الشرك وإمكان وقوعه وأسبابه. شرحا لهذه الترجمة. ومن النصوص المفسرة للتوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله التي أوردها الشيخ تحت هذا الباب قول الله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} (الاسراء: 57) . وفي هذه الآية بين الله تعالى فيها الرد على المشركين الذين يدعون الصالحين بأن دعاءهم إياهم هذا هوالشرك الأكبر حيث قال سبحانه قبلها: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} الآية. (الاسراء: 56، 57) . وأورد الشيخ تحت ذلك الباب قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (الزخرف: 26-28) . وقال الشيخ: قول الخليل للكفار: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} فيه أنه استثنى من المعبودين الله ربه وذكر الله سبحانه أن هذه البراءة، وهذه الموالاة هي تفسير شهادة أن لا إله إلا الله فقال: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 547 وأورد الشيخ تحت الباب أيضا قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} (التوبة: 31) . ثم يقول: في هذه الآية: "بين فيها أن أهل الكتاب اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، وبين أنهم لم يؤمروا إلا بأن يعبدوا إلها واحدا مع أن تفسيرها الذي لا اشكال فيه: طاعة العلماء والعباد في المعصية، لا دعاؤهم إياهم. وكذلك أورد الشيخ في تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} (البقرة:165) . قال الشيخ: إن هذه في الكفار الذين قال الله فيهم {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} ذكر أنهم يحبون أندادهم كحب الله. فدل على أنهم يحبون الله حبا عظيما ولم يدخلهم في الإسلام، فكيف بمن أحب الند أكبر من حب الله؟ فكيف بمن لم يحب إلا الند وحده ولم يحب الله؟ وأورد الشيخ من نصوص تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله ما في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه. وحسابه على الله عز وجل " صحيح مسلم، كتاب الإيمان ج1، ص 53. قال الشيخ قوله صلى الله عليه وسلم: "من قال: لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 548 الله، حرم ماله ودمه، وحسابه على الله " هذا من أعظم ما يبين معنى "لا إله إلا الله" فانه لم يجعل التلفظ بها عاصما للدم والمال، بل ولا معرفة معناها مع لفظها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، بل لا يحرم ماله ودمه حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله. فإن شك أو توقف لم يحرم ماله ودمه، فيالها من مسألة ما أعظمها وأجلها، ويا له من بيان ما أوضحه وحجة ما أقطعها للمنازع" 1. انتهى. وفي ثلاثة الأصول أصناف في تفسير "لا إله إلا الله " قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} 2 (آل عمران: 64) . ومن عبد شيئا غير الله فقد اتخذ إلها من دون الله. فإنَّ بني إسرائيل، لما اعتقدوا في عيسى بن مريم وأمه - قال الله   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله ص 24-26، والقسم الخامس، الشخصية رقم 22 ص154. والدررالسنية، ط 2، ج 2، ص 44، (هذه كلمات في معرفة شهادة أن لا اله إلا الله وأن محمدا رسول الله،. ومؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، ثلانة الأصول ص 190. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة ص 19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 549 تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} ففي هذا دليل على أن من اعتقد في مخلوق لجلب منفعة أو دفع مضرة فقد اتخذه إلها، فاذا كان الاعتقاد في الأنبياء هذا حكمه فما دونهم أولى، وأيضا فان من تبرك بحجر أو شجرة أو مسح على قبر أو قبة يتبرك بأصحابها أو بالحجر والشجر، فقد اتخذها آلهة والدليل على ذلك أن الصحابة لما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط يريدون بذلك التبرك قال: "الله أكبر إنها السنن قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} فمثل قول الصحابة في ذات أنواط بقول بني إسرائيل وسماه إلها، ففي هذا دليل على أن من فعل شيئا مما ذكرفقد اتخذه إلها، وجميع ذلك باطل إلا إله واحد وهو الله وحده تبارك وتعالى علوا كبيرا كما هو معنى لا إله إلا الله1. وقال الشيخ: "إذا فهمت ذلك فتأمل الألوهية التي أثبتها الله لنفسه   1 الدرر السنية، ط 2، ج2، ص 63-65 بتصرف قليل وتقديم وتأخير. ومؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير ص 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 550 ونفاها عن محمد صلى الله عليه وسلم وجبريل وغيرهما أن يكون لهم منها مثقال ذرة من خردل فاعلم أن هذه الألوهية هي التي تسميها العامة في زماننا السر والولاية، والإله معناه الولي الذي فيه السر، وهو الذي يسمونه الفقير والشيخ تسميه العامة السيد وأشباه هذا. وذلك أنهم يظنون أن الله جعل لخواص الخلق عنده منزلة يرضى أن يلتجىء الإنسان إليهم ويرجوهم ويستغيث بهم ويجعلهم واسطة بينه وبين الله، فالذين يزعم أهل الشرك في زماننا أنهم وسائطهم هم الذين يسميهم الأولون الألهة والواسطة هو الإله، فقول الرجل: لا إله إلا الله، إبطال للوسائط. إذا عرفت هذا عرفت معنى: "لا إله إلا الله " وعرفت أن من دعا نبيا أوملكا أو جنيا أو ندبه أو استغاث به أو نذر له أو ذبح فقد خرج من الإسلام، وهذا هو الكفر الذي قاتلهم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم " 1. ويفسر الشيخ قوله: والإله معناه الولي الذي فيه السر، فيقول في جواب له عن سؤال وجه إليه رحمه الله تعالى: إن الإله الذي فيه السر فمعلوم أن اللغات تختلف فالمعبود عند العرب والإله الذي يسميه عوامنا السر لأن السر عندهم هو القدرة على النفع والضر، وكونه يصلح أن   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، تفسير كلمة التوحيد ص 364-366، والقسم الخامس، الشخصية رقم 19 ص 125 ورقم 7 ص 44، 46. والدرر السنية ط 2، ج2، ص 61، ((فرض معرفة الشهادة)) ص 63، 64، ((اعلم أرشدك الله)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 551 يدعى ويرجى ويخاف ويتوكل عليه، فإذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " وسأل بعض العامة ما فاتحة الكتاب؟ ما فسرت له إلا بلغة بلده، فتارة تقول هي فاتحة الكتاب وتارة تقول هي أم القرآن، وتارة تقول هي الحمد، وأشباه هذه العبارات التي معناها واحد، ولكن إن كان السر في لغة عوامنا ليس هذا، وأن هذا ليس هو الإله في كلام أهل العلم فهذا وجه الإنكار فبينوا لنا1. ويقول- رحمه الله-: "ومن أفرض عبادته عليك معرفة لا إله إلا الله علما وقولا وعملا والجامع لذلك قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} وقوله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} - فاعلم أن وصية الله لعباده هي كلمة التوحيد الفارقة بين الكفر والإسلام، فعند ذلك افترق الناس سواء جهلا أو بغيا أو عنادا، والجامع لذلك اجتماع الأمة على وفق قول الله {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} وقوله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} . فالواجب على كل أحد إذا عرف التوحيد وأقر به أن يحبه بقلبه، وينصره بيده ولسانه وينصر من نصره ووالاه- وإذا عرف الشرك وأقر به أن يبغضه بقلبه، ويخذله بلسانه ويخذل من نصره ووالاه، باليد واللسان   1 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 11 ص 76. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 552 والقلب، هذه حقيقة الأمرين، فعند ذلك يدخل في سلك من قال الله فيهم: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} . وفيما قدمنا يتبين أن المراد من قول (لا إله إلا الله) هو قولها باللسان وبالقلب وبالأركان تطبيقا لمعناها، وعملا بمقتضاها، وهذا ما يقرره الشيخ1. ويقرر الشيخ أن الخلاف بين الرسل وأعدائهم ليس في أصل العبادة ولكن في توحيد العبادة وذلك في مثل قولهم: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} 2 ولذلك عادى المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم كما هي سنة الله تعالى الحكيمة. قال الشيخ: "اعلم أن الله سبحانه من حكمته لم يبعث نبيا بهذا التوحيد إلا جعل له أعداء كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} (الأنعام: 112) . وقد يكون لأعداء التوحيد علوم كثيرة، وكتب. وحجج كما قال الله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} (غافر:83) .   1 انظر: الدرر السنية، ط 2، ج 2، ص 62، 63، ومؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، قصة موسى وفرعرن ص 295، والقسم الأول، مسائل الجاهلية ص 341. والقسم الخامس، الشخصية رقم 19 ص 124 ورقم 20 ص، ص 36-139. والدرر السنية ج2، ص 44-45، وص 53. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، الأعراف ص 104. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 553 إذا عرفت ذلك، وعرفت أن الطريق إلى الله لابد له من أعداء قاعدين عليه، أهل فصاحة وعلم وحجج. فالواجب عليك أن تتعلم من دين الله ما يصير سلاحا لك تقاتل به هؤلاء الشياطين الذين قال إمامهم ومقدمهم لربك عزوجل: {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} (الأعراف: 6 ا-17) . ولكن إذا أقبلت على الله وأصغيت إلى حججه وبيناته فلا تخف ولا تحزن: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} (النساء: 75) . والعامي من الموحدين يغلب ألفاً من علماء هؤلاء المشركين. كما قال تعالى: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} (الصافات: 173) . فجند الله هم الغالبون بالحجة واللسان، كما أنهم الغالبون بالسيف والسنان. وإنما الخوف على الموحد الذي يسلك الطريق وليس معه سلاح، وقد منَّ الله تعالى علينا بكتابه الذي جعله: {تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى} (النحل: 89) . فلا يأتي صاحب باطل بحجة إلا وفي القرآن ما ينقضها ويبين بطلانها، كما قال تعالى: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} (الفرقان: 33) . قال بعض المفسرين هذه الآية عامة في كل حجة يأتي بها أهل الباطل إلى يوم القيامة1.   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كشف الشبهات ص 159-. 16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 554 ويقرر الشيخ أن هذا التوحيد لا يدرك إلا بالتعلم والتفقه في الدين عن طريق الرسول محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم المتصل بالتواتر أو بالرواية الصحيحة والحجة، فهو من العلم الذي لا يدرك إلا بالوحي من الله تعالى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، والبصيرة في ذلك من أعظم الفرائض، كما قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (يوسف: 108) 1. ولا بد من التحرز العظيم من ضده لأن فائدة ذلك تصحيح التوحيد، ولذا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحقق التوحيد ويعلمه أمته، وجاء بحماية جناب التوحيد وسد كل طريق يوصل إلى الشرك بالأدب والعلم والتحفظ في الأقوال والأعمال والاعتقاد حتى أبعد أمته عن هذا الحمى غاية البعد، ونهاهم عن كل قول يفضي إلى الغلو كما في حديث عبد الله بن الشخير رضي الله عنه، قال: "إنطلقت في وفد بني عامر إلى رسول- الله صلى الله عليه وسلم، فقلنا: أنت سيدنا. فقال: السيد الله تبارك وتعالى. قلنا: وأفضلنا فضلا، وأعظمنا طولا، فقال: قولوا بقولكم، أو ببعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان" رواه أبو داود بسند جيد. وعن أنس رضي الله عنه: "أن ناسا قالوا: يا رسول الله، يا خيرنا، وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا. فقال: يا أيها الناس، قولوا بقولكم، ولا   1 انظر: مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد ص 20- 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 555 يستهوينكم الشيطان، أنا محمد عبد الله ورسوله، ما أحب أن ترفعونى فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل" رواه النسائي بسند جيد1. ونهى صلى الله عليه وسلم أن يقول قائل: عبدي وأمتي- كما في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقل أحدكم: أطعم ربك، وضىء ربك. وليقل سيدي ومولاي، ولا يقل أحدكم عبدي وأمتي وليقل فتاي وفتاتي وغلامي" وهذا من تحقيق التوحيد حتى في الألفاظ2. وقال صلى الله عليه وسلم لرجل قال له: ما شاء الله وشئت،: "أجعلتني لله ندا" بل ما شاء الله وحده. رواه النسائي. وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم من أراد أن يحلف أن يقول ورب الكعبة بدلا من الحلف بها وأن يقول ما شاء الله ثم شئت بدلا من أن يقول: ما شاء الله وشئت - رواه النسائي وصححه. ونهى عن الحلف بغير الله. وقال: " من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك " رواه الترمذي   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، التوحيد باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله ص 21. وباب ماجاء في حماية النبي صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد ص 146-147، ومفيد المستفيد ص 292-293. 2 المرجع السابق، باب لا يقول عبدي وأمتي ص 127، والقسم الرابع، مختصر زاد المعاد ص 22 ا-124 وص 156،157. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 556 وحسنه، وصححه الحاكم1. ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأعمال التي تفضي إلى الشرك مثل ما رواه أبو داود باسناد حسن- قال الشيخ: ورواته ثقات- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجعلوا بيوتكم قبورا، ولا تجعلوا قبري عيدا، وصلوا علي فإِن صلاتكم تبلغني حيث كنتم ". وهذا من تحقيق التوحيد في الأعمال. وقال صلى الله عليه وسلم في مرض موته: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، يحذر ما صنعوا، وقال: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد". وقال الشيخ فيما ينقله عن ابن تيمية:"ولهذا اتفق العلماء على أنه من سلم على النبي صلى الله عليه وسلم عند قبره أنه لا يتمسح بحجرته ولا يقبلها لأنه إنما يكون ذلك لأركان بيت الله فلا يشبه بيت المخلوق ببيت الخالق، كل هذا لتحقيق التوحيد الذي هو أصل الدين ورأسه الذي لا يقبل الله عملا إلا به ويغفر لصاحبه ولا يغفر لمن تركه كما قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} الآية. ولهذا كانت كلمة التوحيد أفضل الكلام وأعظمه، وأعظم آية في القرآن   1 القسم الأول، العقيدة، باب قول ما شاء الله يشرك وشئت ص 112-113، وباب قول الله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً} ص 109، 110، ومفيد المستفيد ص 292. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 557 آية الكرسي {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ... } وقال صلى الله عليه وسلم من كان آخركلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة- والإله هو الذي تألهه القلوب عبادة له واستغاثة به ورجاء له وخشية وإِجلالا 1. ويقرر الشيخ أن من عرف أحوال المشركين القدامى2 والأمر الذي صاروا به مشركين وهو دعاؤهم غير الله طلبا للزلفى والشفاعة عند الله، وعرف حالة أكثر الناس تبين له صفة الإسلام الذي دعا إليه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وتبين له أن كثيرا من الناس عنه بمعزل، وتبين معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ". لذلك كان تعلم هذه المسألة العظيمة، من أعظم واجبات الشريعة كيف لا؟ وهي حق الله على العبيد، أهم الأمور، والصحابة رضى الله عنهم لم يعرفوها إلا بعد التعلم، ومن الشرك أشياء ما عرفوها إلا بعد سنين. بل إن الأنبياء لم يعرفوا هذا إلا بعد أن علمهم الله تعالى- قال الله تعالى لأعلم الخلق محمد صلى الله عليه وسلم {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} - وقال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ   1 المرجع السابق، باب ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد وسده كل طريق يوصل إلى الشرك ص 66،67، ومفيد المستفيد ص 292 وص 293. وانظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية جمع ابن قاسم ج 3/ 397- 400. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، تفسير كلمة التوحيد ص 367. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 558 عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} فإِذا كان هذا نبينا صلى الله عليه وسلم - فكيف بمن دونه؟ وما بال الخليل صاحب الملة الحنيفية، وما كان من المشركين يخاف على نفسه وعلى بنيه وهم أنبياء حيث قال: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} . وها هو يوصي أولاده وهم أنبياء- قال الله تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 1. وهذا موسى عليه السلام لما قال يارب علمنى شيئا أذكرك وأدعوك به قال: "قل ياموسى "لا إله إلا الله" قال: يارب كل عبادك يقولون هذا.- قال: يا موسى لو أن السموات السبع وعامرهن غيرى، والأرضين السبع في كفة- ولا إله إلا الله في كفة، مالت بهن لا إله إلا الله " رواه ابن حبان والحاكم وصححه. قال الشيخ: فيه أن الأنبياء يحتاجون للتنبيه على فضل لا إله إلا الله والتنبيه لرجحانها بجميع المخلوقات مع أن كثيرا ممن يقولها يخف ميزانه"2. لأنه لم يعمل بمقتضاها، وعمل بنقيضها.   1 الدرر السنية، ط 2، ج2 ص 56، ومؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، ص 10، والقسم الرابع، التفسير ص 345. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب، ص 12-14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 559 وهؤلاء أهل الكتاب يدعون أول ما يدعون إلى أن يوحدوا الله- وفي رواية إلى شهادة أن لا إله إلا الله- كما في الصحيحين عن ابن عباس وسهل بن سعد رضى الله عنهم- وهذا يدل على أنهم وهم. أهل الكتاب لا يعرفونها أو يعرفونها ولا يعملون بها1. كل هذا يؤكد أهمية تعلم التوحيد لاسيما وأن التوحيد له أعداء من الشياطين يصدون عنه ويجادلون كما تقدم بيانه. وهذا كله يؤكد أهمية تعلم التوحيد وضده والعمل بالتوحيد وترك ضده، أهمية بالغة وبالنسبة لكل إنسان مهما كان، ويؤكد عدم الالتفات لقول من يقول التوحيد عرفناه وفهمناه وأمره سهل وليس للشرك وجود ولا خطر2. بل إذا عرف الإنسان أن الله أمر بهذا التوحيد ونهى عن ضده..   1 المرجع السابق، باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله ص 20-23 وباب قول الله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} ص 47، والقسم الرابع، التفسير، آيات من الزمر ص 345، والقسم الخامس، الشخصية رقم11 ص67، وملحق المصنفات، مسائل ملخصة، مسألة رقم92 ص79-82. 2 الدرر السنية ط 2 ج2 ص 56، ومؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، باب الخوف من الشرك ص 18-19. وكشف الشبهات ص 158-160 والقسم الخامس، الشخصية رقم 22 ص 156-157. والقسم الرابع، التفسير، البقرة ص 28-29، وص 40-44، والأنعام ص 53-54 وص 59-63، وص 63-68. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 560 وجب عليه أن يعلم المأمور به ويسأل إلى أن يعرفه، وأن يعلم المنهى عليه ويسأل إلى أن يعرفه وأن يحبه ويعزم ويعمل، ولو تغيرت دنياه أو عارضه أحد من المعظمين، وأن يخلص ذلك لله وأن يجعله صوابا علي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يخشى من محبطات عمله وأن يثبت عليه ويخاف من سوء الخاتمة1. وبعد أن بينا تفسير التوحيد عند الشيخ والمراد من قوله "لا إله إلا الله" وفرضه ومكانته وأهميته وفضله نبين: أن الشيخ رحمه الله يستدل على التوحيد وتفسيره. وعلى أن هذا التوحيد هو المطلوب الذي يرضاه الله ولا يرضى ضده بالبراهين العظيمة التى احتج الله بها على خلقه واستدل بها رسل الله ومن تبعهم على الأمم المخالفة، فاستدل بربوبية الله العامة للعالمين، وبآثار صفات الوحدانية لله تعالى بالقدرة والغنى والعلم على وجه الكمال فى مخلوقاته واستدل بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته وبالوحي المنزل عليه المعجز، وبسنته الصحيحة من أقواله وأفعاله وتقريره. واستدل بمخلوقات الله تعالى وعبوديتها له وفقرها وحاجتها إليه طوعا وكرها. ويقرر الشيخ تقريب الله التوحيد بالعقل، والنقل، والأئمة، والأدلة   1 الدرر السنية ط2 ج2 ص 38 - 39 بتصرف قليل. ومؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 23 ص 162. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 561 المصرفة يقول الشيخ: "فأما العقل فكون الإنسان الذي فى عقله: أنك تلجأ إلى الحى ولا تلجأ إلى الميت، وتطلب الحاضر ولا تطلب الغائب، وتطلب الغنى ولا تطلب الفقير. وأما النقل ففي القرآن أكثر من أربعين مثلا. وأما الأئمة فمثل ما يعرف أن الناس متعلقة قلوبهم بالعلماء، ويقال من أكبر الأئمة؟ ومعلوم أنه محمد وإبراهيم عليهما السلام. فأما إبراهيم فكما قال تعالى: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} (البقرة: 124) . ولما جعله الله إماما معلوم أنه فى التوحيد، وما جرى عليه من قومه أوقدوا له نارا إذا مر الطير من فوقها سقط فيها. ومحمد صلى الله عليه وسلم، فأي شىء هو مرسل به دعوة الصالحين هو مرسل يهدمها أو يقيمها؟ أو ساكت عنها لا قال شينة ولا زينة؟ ومعلوم أنه ما تفارق هو وقومه إلا عندها. وأما الأدلة المصرفة فبحر لا ساحل له كل ما رأيت فهو يدل على الوحدانية1. وكم كان استدلال الشيخ بربوبية الله تعالى وصفاته على التوحيد، فلقد قرر وأكد الاستدلال بالآيات والبراهين الكثيرة فى مواضع شتى من   1 الدرر السنية، ج2 ص 40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 562 آثاره ومؤلفاته- رحمه الله- ولا أدل على ذلك من المبحث المتقدم فى الربوبية والأسماء والصفات الذي هو توحيد المعرفة والاثبات فهو توحيد العلم وقدمناه لأنه برهان توحيد الطلب فليراجع. ونزيد ذلك إيضاحا بما نذكره هنا من الإشارة إلى وجه الاستدلال فنقول: إن الشيخ رحمه الله يرى أن توحيد الربوبية هو الإقرار بربوبية الله والإقرار بصفاته صفات الكمال دليل عظيم وبرهان ساطع على توحيد الإلهية. فربوبية الله للعالمين من أخص صفاته سبحانه وتعالى، وهذا أمر مسلم به حتى من الكفار، فإن الكفار الذين كانوا على زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرون بتوحيد الربوبية. قال الشيخ: "توحيد الربوبية هو الذي أقر به الكفاركما فى قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} (يونس: 31) . هذا الإقرار بتوحيد الربوبية يلزم منه أن يقروا بتوحيد الإلهية وأن لا يعبدوا إلا الله تعالى ولكنهم لم يقروا باللازم بل نازعوا فيه وأعلنوا استنكارهم له فقالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} - يعنون رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال لهم قولوا: "لا إله إلا الله ". لأن الإله فى كلام العرب هو الذي يقصد للعبادة، وكانوا يقولون: إن الله سبحانه هو إله الآلهة، لكن يجعلون معه آلهة أخرى، مثل الصالحين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 563 والملائكة وغيرهم يقولون إن الله يرضى هذا ويشفعون لنا عنده، فكذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الله سبحانه يستدل عليهم باقرارهم بتوحيد الربوبية على بطلان مذهبهم هذا، لأنه إذا كان هو المدبر وحده وجميع من سواه لا يملكون مثقال ذرة فكيف يدعون معه غيره مع إقرارهم بهذا؟ 1. وكذلك المنازعون للشيخ فى التوحيد هم يقرون بتوحيد الربوبية لكنهم قد أضافوا على اقتصارهم فى التوحيد على الربوبية دون الإلهية دعوى أنهم إذا قالوا لا يخلق ولا يرزق ولا يضر ولا ينفع إلا الله فقد قالوا بمقتضى لا إله إلا الله كما يقولونها بألسنتهم. ومن هنا صار الشيخ يبين التوحيد، والفرق بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وأنه لا نزاع فى توحيد الربوبية. قال الشيخ مستدلا على منازعيه بما أقروا به: "فإذا قيل لا خالق إلا الله لا يشاركه فى ذلك ملك مقرب ولا نبى مرسل، وإذا قيل لا يرزق إلا الله فكذلك فاذا قيل لا إله إلا الله فكذلك"، ثم قال الشيخ يخاطب بعض من يراسلهم: " فتفكر رحمك الله فى هذا واسأل عن معنى الإله كما تسأل عن معنى الخالق والرازق، واعلم أن معنى الإله هو المعبود، وهذا هو تفسير   1 مؤلفات الشيخ، القسم الثالث، الفتاوى رقم7 ص 42. ومؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، القواعد الأربع ص 200-202. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 564 هذه اللفظة باجماع أهل العلم فمن عبد شيئا فقد اتخذه إلها من دون الله، وجميع ذلك باطل إلا إله واحد، وهو الله تبارك وتعالى علوا كبيرا" 1. ويقول الشيخ فى تفسير قول الله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (البقرة: 131) فيه أن إبراهيم استجاب لله فيما أمره به وهو الإسلام، الذي هو سبب الكلام والخصومة، وأن إبراهيم وصف ربه سبحانه بما يوضح المسألة، وهو الربوبية للعالم كله، فانظر رحمك الله تعالى إلى هذا التقرير والثناء والتوضيح للإسلام" 2. وقال الشيخ فى ذكر بعض ما فى قوله تعالى: {قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} إلى قوله: {يَعْمَلُونَ} 3 من بيان الحق وإبطال الباطل. الأولى: إذا كانت المحاجة فى الله سبحانه من أقرب ما يكون إليه من المختلفين فى مسألة التوحيد، فإذا كان الله رب الجميع وأنه عدل لا يظلم بإقرار الجميع ثم افترقنا فى كوننا قاصدينه مخلصين له الدين وأنتم قصدتم   1 الدرر السنية ط 2 ج2 ص 53، 54. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير ص 35. 3 قال تعالى: {قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} سورة البقرة: 139-141. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 565 غيره فكيف يساوى بيننا وبينكم أو يخص بكرامته من أعرض عنه دون من قصده؟ هذا لا يدخل عقل عاقل. وبيان ذلك بمعرفة الله تعالى فيما اجتمعنا وإياكم عليه، ومعرفة حالنا وحالكم فى المسألة، وذلك أنا مجمعون على استوائنا وإياكم فى العبودية، بخلاف ملوك الدنيا فان بعض الناس يكون أقرب إليهم من بعض بالقرابة وغيرها، ونحن مجمعون أيضا أنه لا يظلم أحدا من عبيده، بل كل نفس {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} (البقرة: 286) ، بخلاف ملوك الدنيا فانهم يأخذون مال هذا ويعطون هذا، فإذا كان الأمركذلك فكيف تدعون أنكم أولى بالله منا، ونحن له مخلصون وأنتم به مشركون؟ وكيف يظن به أنه يساوى بين من قصده وحده لا شريك له، ومن قصد غيره وأعرض عنه؟ وهل يظن عاقل أو سفيه برجل من بني آدم خصوصا إذا كان كريما، أن من قصده وضاف عنده يكرهه ولا يضيفه، ويخص بالرضا والكرامة والضيافة من أعرض عنه وضاف عند غيره مع استواء الجميع فى القرب منه والبعد؟ هذا لا يظن فى الآدمى فكيف يظن برب العالمين؟ فتبين بقضية العقل أن ما جاءت به الرسل من الإخلاص هو الموافق للعقل، وما فعل المشركون هو العجاب المخالف للعقل، فيالها من حجة ما أعظمها وأبينها، لكن لمن فهمها كما ينبغى1.   1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، ص 28-29، وانظر: ص 40، 41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 566 ويستدل الشيخ بمفهوم الإله عند العرب وعند أهل العلم وأنه المعبود وأن صفة الله بالإله صفة يختص بها لا يشركه فيها غيره ولذا كان قول: لا إله إلا الله والعمل بمقتضاها هو الدخول فى التوحيد المطلوب والتحقق به. لأن الله تعالى هو الإله الحق الذي لا إله حقيقة إلا هو، ومعنى أنه الإله أى المألوه، والمألوه هو أعلى الغايات عند المسلم والكافر، إلا أن الكافر يزعم أن الله هو الإله الأكبر لكن معه آلهة أخرى تشفع عنده، والمتكلم ممن يدعى الإسلام جنى عليه اعراضه عن الوحى وإقباله على معقولات البشر فضل عن معرفة معنى الإله فظن أن معنى الإله هو القدرة على الخلق. ثم قال التوحيد لا يتم إلا بنفى الصفات فنفاها فصار الكافر أعقل منه، أما المسلمون حقا فأجمعوا مع الأنبياء فى إجماعهم على أن الإله وصف يختص الله به وهو الجامع لصفات الكمال فانه يدل على العلم العظيم والقدرة العظيمة وهاتان الصفتان أصل جميع الصفات- كما قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} (الطلاق: آخرها) . وقال الشيخ: "فمن أنكر الصفات فهو معطل والمعطل شر من المشرك ولهذا كان السلف يسمون التصانيف فى إثبات الصفات كتب التوحيد وختم البخارى صحيحه بذلك- قال: كتاب التوحيد ثم ذكر الصفات بابا بابا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 567 فبين السلف أن العبادة إذا كانت كلها لله عن جميع المخلوقات فلا تكون إلا بإثبات الصفات والأفعال فتبين أن منكر الصفات منكر لحقيقة الألوهية لكن لا يدرى وتبين لك أن من شهد أن لا إله إلا الله صدقا من قلبه لابد أن يثبت الصفات والأفعال" 1. فنكتة المسألة أن المتكلمين يقولون: التوحيد لا يتم إلا بإنكار الصفات- فقال أهل السنة لا يتم التوحيد إلا بإثبات الصفات وتوحيدكم هو التعطيل ولهذا آل هذا القول ببعضهم إلى إنكار الرب تبارك وتعالى، ثم يقرر الشيخ: أن أكابر أهل العلم قد يغلطون فى مفهوم الإله ومن ثم يغلطون فى مسمى التوحيد، وينقل عن الشيخ تقى الدين ابن تيمية قوله: قد غلط فى مسمى التوحيد طوائف من أهل النظر والكلام ومن أهل الإرادة والعبادة، حتى قلبوا حقيقته، فطائفة ظنت أنه نفى الصفات وسموا أنفسهم أهل التوحيد، وطائفة ظنت أنه ليس إلا الإقرار بتوحيد الربوبية، وأطالوا الكلام فى تقرير هذا الموضع، إما بدليل أن الاشتراك يوجب نقص القدرة، واستقلال كل من الفاعلين بالفعل محال، وإما بغير ذلك ولم يعلموا أن مشركي العرب مقرون بهذا التوحيد- قال الله تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (الآيات من سورة المؤمنين من آية 84 إلى آية   1 الدرر السنية، ط 2 ج1ص 70- 71. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 568 89) . وهذا من التوحيد الواجب لكن لا يخلص من الشرك بالله الذي لا يغفره الله، بل لابد أن يخلص لله الدين فيكون دينه لله، والإله هو المألوه وكونه يستحق ذلك مستلزما لصفات الكمال، فلا يستحق أن يكون معبودا ومحبوبا لذاته إلا هو، فكل عمل لا يراد به وجهه فهو باطل وعبادة غيره وحب غيره يوجب الفساد {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (الأنبياء: 22) وقد بينَّا أن الآية لم يقصد بها دليل التمانع فانه يمنع وجود المفعول لإفساده بعد وجوده1. ويستدل الشيخ- رحمه الله- على التوحيد بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم أيضا فيقول: "ولما أراد الله سبحانه إِظهار توحيده وإكمال دينه، وأن تكون كلمته هي العليا. وكلمة الذين كفروا هي السفلى، بعث محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وحبيب رب العالمين2 إلى الناس كافة فأتاهم النبى صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى كلمة التوحيد وهي "لا إله إلا الله ". والمراد من هذه الكلمة معناها لا مجرد لفظها3- كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 4 (الأنبياء:   1 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 11 ص 67 وملحق المصنفات، مسائل ملخصة مسألة رقم 92 ص 79-82. 2 الدرر السنية، ط 2 ج2 ص 46. 3 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كشف الشبهات ص 157. 4 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، الأنعام ص 64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 569 25) . ففي هذه الآية دليل على أن الله أوحى إلى رسله جميعا أنه مختص بالإلهية. وفى هذه الآية كما فى غيرها من الآيات الخبر عن أكبر المسائل على الإطلاق وهي تفرد الله بالإلهية وهذا هو التوحيد1، وفى الآية التعقيب المباشر بالأمر بلازم التوحيد، وهو إفراد الله بالعبادة، وذلك مثل قوله لموسى عليه وعلى محمد الصلاة والسلام {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} (طه: 14) . ذكر الشيخ أن فيه: أَمره بالاستماع لما يوحى وأن أول ذلك أكبر المسائل على الإطلاق وهو تفرده بالإلهية، وأمره بلازم التوحيد وهو إفراده بالعبادة2. ومثله قول الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} (الكهف: آخرها) . وينبه الشيخ إلى طريقة القرآن فى الاستدلال والبرهنة على التوحيد وهي الطريقة العقلية الشرعية فهي عقلية حيث أن العقل يشهد بصحتها وشرعية حيث أن الشرع جاء بها ومن ذلك ما قاله الشيخ فى قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ   1 الدرر السنية ط 2 ج1 من كلام للشيخ محمد بن عبد الوهاب ص ص 69- 71. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، ص 295. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 570 الْعَالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً عَمِينَ} (الأعراف: 59-64) . قال الشيخ فيه: "تعريفهم أن هذا الذي استغربوا ونسبوا من قاله إلى الجهالة والجنون هو الواجب فى العقل وهو أيضا حظهم ونصيبهم من الله، لأنه سبب الرحمة ففى هذا الكلام من أوله إلى آخره من تحقيق الحق وذكر أدلته العقلية على تحقيقه وإبطال الباطل وذكر الأدلة العظيمة على بطلانه ما لا يخفى على من له بصيرة1. ومن ذلك ما نبه إليه الشيخ فى قوله تعالى فى سورة الأنعام عن محاجة إبراهيم لقومه. قال الشيخ- رحمه الله- فى تفسيره ومن قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ} - إلى قوله- {إِنْ هُوَ إلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} 2- فيه مسائل-:   1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسبر، الأعراف ص 101، 102. 2 أورد كامل الأيات بنصها من المصحف الكريم لتتبين إشارات الشيخ في استنباطاته فهو رحمه الله يشير إشارات موجزة لا تفهم إلا بعد قراءة الآيات التي أشار إليها وذلك لأن المفروض هو استحضار الآيات عن ظهر قلب- قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ فَلَمَّا رَأى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلّاً هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلّاً فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِل اَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} (الأنعام:74-90) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 571 الأولى: قوله: {أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً} السؤال عن معنى الآلهة فإنها جمع إله وهو أعلى الغايات عند المسلم والكافر فكيف يتخذ جمادا، وهذا أعجب وأبعد عن العقل من جعل الحمار قاضيا، لأن الحيوان أكمل من الجماد فإذا كان هذا من خشب أو حجر لم يعص الله، فكيف بمن اتخذ فاسقا إلها مثل نمرود وفرعون، فإن كان اتخذه بعد موته فأعجب وأعجب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 572 الثانية: القدح فى حجتهم لأن السواد الأعظم ليس لهم حجة إلا هي، فيدل على الرسوخ فى مخالفتهم بالأدلة اليقينية لقوله: {إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} . الثالثة: قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فإن ذلك من أعظم الأدلة على المسألة ببديهة العقل، لأن من رأى نخلاً كثيراً لا يخالجه شك أن المدبر له ليس نخلة واحدة منه. فكيف بملكوت السموات والأرض؟ الرابعة: أَن هذا النفي إنما نفي لأجل الاثبات. الخامسة: {وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} فلم يكمل غيره حتى كمل. السادسة: عظم مرتبة اليقين عند الله لجعله التعليم علة لإيصاله إليه. السابعة: براءته من شركهم نفى أولا كونها: تستحق. ونفى ثانيا عن نفسه الالتفات إليها. الثامنة: نفي النقائص عن ربه. التاسعة: ذكر توجهه الذي هو العمل. العاشرة: ذكر الدليل الذي دله على النفي والاثبات. الحادية عشرة: تحقيقه ذلك بكونه حنيفا، وهذه المسألة التي قال الله فى ضدها {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} (يوسف: 106) . الثانية عشرة: تصريحه لهم بما ذكرولم يدار مع كثرتهم ووحدته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 573 الثالثة عشرة: تصريحه بالبراءة منهم بقوله: {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} . الرابعة عشرة: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ} ولم يذكرحجتهم، لأن كلامه كاف عن كل ما يقولون. الخامسة عشرة: أنهم لما خصموا رجعوا إلى التخويف كفعل أمثالهم، فذكر أنه لا يخاف إلا الله، لتفرده بالضر والنفع بخلاف آلهتهم فذكر النفى والاثبات. السادسة عشرة: سعة العلم وما قبله سعة القدرة، وهاتان هما اللتان خلق العالم العلوى والسفلى لأجل معرفتنا بهما. السابعة عشرة: أن من ادعى معرفتهما وأشكل عليه التوحيد فعجب، ولذلك قال: {أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} . الثامنة عشرة: قوله: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ} إلى آخره يدل على أنها حجة عقلية تعرفها عقولهم. التاسعة عشرة: قوله: {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} يدل على أن من أشكلت عليه هذه الحجة فليس له علم. العشرون: البشارة العظيمة والخوف الكثير فى فصل الله هذه الخصومة، إذا عرف ما جرى للصحابة، وما فسرها لهم به النبى صلى الله عليه وسلم. الحادية والعشرون: تعظيمه سبحانه هذه الحجة باضافتها إلى نفسه، وأنه الذي أعطاها إبراهيم عليه السلام عليهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 574 الثانية والعشرون: أن العلم بدلائل التوحيد وبطلان الشبه فيه يرفع الله به المؤ من درجات. الثالثة والعشرون: معرفة أن الرب تبارك وتعالى حكيم يضع الأشياء فى مواضعها. الرابعة والعشرون: كونه عليم بمن هو أهل لها كما قال تعالى: {وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} (الفتح: 26) . الخامسة والعشرون: ذكر نعمته على إبراهيم بذريته التى أنعم عليهم بالهداية. السادسة والعشرون: أن العلم والهداية أفضل النعم لقوله: {وَنُوحاً هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ} . السابعة والعشرون: هداية المذكورين أصولهم وفروعهم ومن فى درجتهم. الثامنة والعشرون: ذكره الذي هداهم الله إليه. وهو الصراط المستقيم، وهو المقصود من القصة. التاسعة والعشرون: التنبيه على الإستقامة. الثلاثون: القاعدة الكلية أن هذا الطريق هو هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ليس للجنة طريق إلا هو. الحادية والثلاثون: التنبيه على أن الهداية إليه بمشيئته ليظهر العجب وتشكر النعمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 575 الثانية والثلاثون: العظيمة التى لم يعرفها أكثر من يدعي الدين، وهي مسألة تكفير من أشرك وحبوط عمله، ولو كان أعبد الناس وأزهدهم. الثالثة والثلاثون: ذكره أنه أعطاهم ثلاثة أشياء: الكتاب، والحكم، والنبوة، فلا يرغب عن طريقهم إلا من سفه نفسه. الرابعة والثلاثون: ما فى قوله {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ} إلى آخره من العبر والتحريض على الحرص على طلب العلم من طريقهم وما فيه من النفور من الجهل وتقسيمه. الخامسة والثلاثون: قوله: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} أن دينهم واحد وأن شرعهم شرع لنا. السادسة والثلاثون: النهى عن البدع فان فى التحريض عليه نهى عن ضده. السابعة والثلاثون: كون النذير البشير مع مقاساة الشدائد فى ذلك لم يطلب منا أجرا عليه. الثامنة والثلاثون: كونه ذكرى، ففيه الرد على من يقرأ بلا تدبر. التاسعة والثلاثون: قوله: {لِلْعَالَمِينَ} فيه تكذيب من قال: لا يعرفه إلا المجتهد. الأربعون: الحصر فيما ذكر، والله سبحانه أعلم1.   1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، الأنعام ص 63-68. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 576 ومن ذلك ما قرره من مسائل على آيات من سورة يوسف- قال تعالى: {قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ؟ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (الآيات: 37- 40) . يقول عليه السلام إني عليم بتعبير الرؤيا هذه وغيرها {قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ} قبل إِتيانه فكيف بغير ذلك؟ ففيه مسائل: الأولى: ذكر العالم أنه من أهل العلم عند الحاجة ولا يكون من تزكية النفس. الثانية: إِضافة هذه النعمة العظيمة إلى معطيها سبحانه لا إلى فهم الإنسان واجتهاده. الثالثة: ذكر سبب اكرام الله له بهذا الفضل وهو الترك والفعل فترك الشرك الذي هو مسلك الجاهلين واتبع التوحيد الذي هو سبيل أهل العلم من الأنبياء وأتباعهم. الرابعة: ذكره أنه من هؤلاء الأكرمين فانتسب إلى البيت التي هو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 577 أشرف بيوت أهل الأرض، وهذا جائز على غير سبيل الافتخار خصوصاً عند الحاجة. الخامسة: أنه صرح لهم بأنهم إبراهيم وإسحاق ويعقوب. السادسة: أن الجد يسمى أباً كما ذكر ابن عباس واحتج بالآية على زيد بن ثابت. السابعة: قوله: {مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} قيل معناه أن الله عصمنا، وهذه الفائدة من أكبر الفوائد وأنفعها لمن عقلها، والجهل بها أضر الأشيا وأخطرها. الثامنة: قوله: "من شيء" عام كل ما سوى الله، وهذه المسألة هي التي غلط أذكياء العالم وعقلاء بني آدم، كما قَال تعالى: {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} (الشورى: 13) . التاسعة: ذكر سبب معرفتهم بالمسألة وعلمهم بها وثباتهم عليها، وهو مجرد فضل الله فقط عليهم. العاشرة: أن فضله سبحانه ليس مخصوصاً بنا بل عام للناس كلهم لكن منهم من قبله ومنهم من رده، وذلك أنه أعطى الفطرة ثم العقول، ثم بعث الرسل وأنزل الكتب. الحادية عشرة: إزالة الشبهات عن المسألة التي هي أكبر الشبه، وذلك أن الله إذا تفضل بهذا كله خصوصا البيان فما بال الأكثر لم يفهم ولم يتبع فما أكثر الجاهلين بهذا وما أكثر الشاكين فيه، فقد ذكر تعالى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 578 أن السبب أن جمهور الناس لم يشكر فأما من عرف النعمة فلم يلتفت إليها فلا إشكال فيه. وأما من لم يعرف فذلك لإعراضه ومن أعرض فلم يطلب معرفة دينه فلم يشكر. الثانية عشرة: دعوته إياهما عليه السلام إلى التوحيد في تلك الحال فلم تشغله عن النصيحة والدعوة إلى الله فدعاهما أولا بالعقل، ثم بالنقل: وهي الثالثة عشرة. الرابعة عشرة: قوله: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} فهذه حجة عقلية شرحها في قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً} الآية (الزمر: 29) . الخامسة عشرة: أن الَّذي في الجانب الآخر هو الَّذي جبلت القلوب وأقرت الفطر أنه ليس كفو. السادسة عشرة: أنه هو القهار مع كونه واحدا، وما سواه لايحصيهم إلا هو فهذا قوله، وهذا عجزهم فكيف يعدل به واحد منهم، أو عشرة أو مائة. السابعة عشرة: بيان بطلان ما عبدوا من دونه بأنها أسماء لا حقيقة لها. الثامنة عشرة: التنبيه على بطلانها بكونها بدعة ابتدعها من قبلكم فتبعتموهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 579 التاسعة عشرة: بيان الواجب على العبد في الأديان السؤال عما أمر الله به ونهى عنه، وهو السلطان المنزل من السماء لايعبد بالظن وما تهوى الأنفس. العشرون: القاعدة الكلية التي تفرع عنها تلك الجزئية وهي أن أحكام الدين والدنيا إلى الله لا إلى آراء الرجال - كما قَال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (الشورى:10) . الحادية والعشرون: إذا ثبت أن الحكم له وحده دون الظن وما تهوى الأنفس فإنه سبحانه حكم بأن العبادة كلها محصورة عليه ليس لأحد من أهل السماء وأهل الأرض منها شيء. الثانية والعشرون: أن هذه المسألة هي الدين القيم وكلما خالفها أو ليس منها فليس بقيم بل أعوج، فعلامة الحق أن العقول السليمة تعرف اعوجاج غيره بالفطرة، ومع هذا أنزل الله السلطان من السماء بتحقيق هذا والإلزام به، وتبطيل ذلك وتغليظ الوعيد عليه. الثالثة والعشرون: المسألة الكبيرة العظيمة التي لو تجعلها نصب عينيك ليلا ونهارا لم يكن كثيرا، وأيضا تبين لك كثيرا من المسائل التي أشكلت على الناس وهي أن الله بين لنا بيانا واضحا أن الأكثر والجمهور الَّذي يضيقون الديار ويغلون الأسعار من أهل الكتاب والأميين لا يعلمون هذه المسألة: مع إيضاحها بالعقل والنقل والفطرة، والآيات النفسية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 580 والأفقية 1. وفي استنباطات الشيخ من سورة النحل الآيات (1-22) يشير إلى الأدلة والمدلول عليه قَال الله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ. يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاتَّقُونِ. خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ. خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ. وَالأنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ. وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ. وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ. وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ. هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ. يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ. وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ. وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ. وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ. وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ. أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ. وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ   1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، ص 144-147. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 581 اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ. وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ. وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ. أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ. إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} قال الشيخ: فيها ذكر الحكمة في إنزال الروح وهو إنذار الخلق عن الشرك، وفيها الاستدلال بخلق السموات والأرض وأنه بالحق، والاستدلال بخلق الإنسان، فذكر أولا: الخلق العام ثم الخاص وفيها الاستدلال بخلق الأنعام على اختلافها وأن ذلك لنا، وذكر الخيل والبغال والحمير في الاستدلال، والتنبيه على خلق ما لا نعلم، وفيها اللاستدلال بانزال المطر والاستدلال بخلق الليل والنهار والعلويات وتسخيرها لنا بأمره وأنها آيات مخصوصة بالذين يعقلون، وفيها الاستدلال بخلق ما في الأرض لنا على اختلافه وكثرته والآيات في ذلك وتخصيص المتفكرين بفهمها، وتسخير الله البحر وأنه الذي فعله لا غيره، والاستدلال بخلق الجبال وفي قوله تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} الدليل القاطع البديهي الفطري الضروري، وأن الذين يدعون من دون الله ليس لهم قدرة ولا لهم علم فلا يخلقون شيئا ولا يدرون متى يبعثون، وأنهم أموات غير أحياء وذكر المدلول عليه وهو توحيد الإِلهية وأنه مع تكاثر هذه الأدلة ووضوحها أنكرته قلوب هؤلاء وسببه عدم الإيمان بالآخرة لاخفاء الأدلة وأن الشرك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 582 وعدم الإيمان بالآخرة متلازمان1. ومن ذلك أيضا ما ورد في سورة الزمر- قال الله تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} (الزمر: 1-8) . قال الشيخ في مسائله المستنبطة من هذه السورة: الآية الأولى: فيها منته بالكتاب.   1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، ص 199-205. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 583 الثانية: إنزاله من السماء. الثالثة: منه سبحانه. الرابعة: ذكر عزته في هذا الموضع. الخامسة: ذكر حكمته فيه. والآية الثانية: فيها الأولى والثانية (يعنى منته بالكتاب، وإنزاله من السماء) . الثالثة: إنزاله بالحق، فيفيد الرد على أكثر الناس في مسائل كثيرة. الرابعة: تخصيصه الرسول صلى الله عليه وسلم بإنزاله فالنعقة عليه أكبر، وعليه من الشكر أكثر، وكذلك من خص بما يشابه ذلك. الخامسة: نتيجة إِنزاله بالحق ونتيجة الإِنعام به وهي عبادة الله بالإِخلاص- وهذه الخامسة هي الدين كله، وجعلها بين الرابعة والسادسة وهي أن الدين الخالص لله، وغير الخالص ليس له وهما قاعدتان عظيمتان. الآية الثالثة: فيها إِبطال اتخاذ الأولياء من دونه. والثانية: إِبطال ما غرَّهم به الشيطان أن قصدهم وجه الله لا غير، وما أجلها من مسألة. الثالثة: الوعيد الشديد على ذلك. الرابعة: ذكره تكفير من فعل ذلك. الخامسة: تكذيبه. السادسة: ذكره أنه لا يهدي هذا، وهي من مسائل الصفات. الآية الرابعة: فيها نفي اتخاذ الولد على سبيل الاصطفاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 584 الثانية: ذكر خطئهم في القياس لأنه لو يفعله لم يكن مما قالوا. الثالثة: أنه مسبة لله بقوله سبحانه. الرابعة: ذكره الوحدانية في هذا. الخامسة: ذكره القهر فيه. السادسة: الاستدلال بالأسماء والصفات على النفي والاثبات، وهي مسائل كبيرة عظيمة. الآية الخامسة: فيها ذكر البراهين على ما تقدم من الدين الحق وضده وهذه البراهين هي: الأولى: خلق السموات والأرض. الثانية: أنه بالحق. الثالثة: تكوير المكورين. الرابعة: تسخير النير ين. الخامسة: ذكر عزته في هذا. السادسة: ذكر مغفرته. الآية السادسة: في البراهين أيضا: الأولى: خلقنا من نفس واحدة مع هذه الكثرة. الثانية: خلقه منها زوجها. الثالثة: إِنزاله لنا من الأنعام هذه النعم العظيمة. الرابعة: خلقنا في البطون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 585 الخامسة: أنه خلق من بعد خلق. السادسة: أنه في الظلمات الثلاث. السابعة: كلمة الإِخلاص. الثامنة: التعجب من الغلط في هذا مع كثرة هذه البراهين ووضوحها. الآية السابعة: فيها سبع جمل كل واحدة مستقلة. الآية الثامنة: فيها ذكر حال الإنسان مع ربه. والثانية: هذه المسألة العجيبة من حاله. الثالثة: برهان التوحيد. الرابعة: حِلْمهُ سبحانه. الخامسة: أن الكافر مقر بتوحيد الربوبية. السادسة: أنه يخلص لله وينيب في الضر. السابعة: أن الإِجابة في هذا لا تدل على المحبة. الثامنة: تدل على أن الحق عليه أكبر. التاسعة: ومعرفة قدر الدنيا. العاشرة: شدة الوعيد على هذا. الحادية عشرة: أن الحجة عليه أكبر. الثانية عشرة: ما ابتدع قوم بدعة إلا نزع عنهم من السنة مثلها. الثالثة عشرة: ما كفاه النسيان حتى جعل الشكرجعل الأنداد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 586 الرابعة عشرة: أمر المؤمن أن يعظ الفاعل1. ويستدل الشيخ بعبودية ما سوى الله طوعا وكرها وفقر المخلوقات مهما كانت إلى الله تعالى ويبين أن كل ما سوى الله عبد مربوب مخلوق محتاج للإله الحق وليس له في الألوهية حق. كما قال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} . وقال تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً} . وقال تعالى: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} 2 الآية (النحل: 111) . وإذا كان الله قد أنكر عبادة من لا يملك لعابده نفعا ولا ضرا كما قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (يونس:18) . وقال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} . فمعلوم أن هذا يستلزم علمه بحاجة العباد ناطقها وبهيمها، ويستلزم   1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، الزمر ص 317-321 وص 325-326. 2 الدرر السنية ط 2 ج2 ص 53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 587 القدرة على قضاء حوائجهم، ويستلزم الرحمة الكامنة واللطف الكامل وغير ذلك من صفات الكمال ونعوت الجلال1. وهذا معنى الإله، والإله هو الجامع لصفات الكمال، فهو أعلى الغايات المعبود المحبوب المطلوب لهذه المخلوقات. ويرى الشيخ أن مخلوقات الله من أظهر الآيات الدالة على التوحيد2- ويقول: إذا قيل لك: من ربك؟ - فقل ربى الله الذي رباني وربى جميع العالمين بنعمه وهو معبودي ليس لى معبود سواه والدليل قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وكل ما سوى الله عالم وأنا واحد من ذلك العالم. فإذا قيل لك: بم عرفت ربك؟ فقل بآياته ومخلوقاته3، ومن آياته أن خلق وصور وشق السمع والبصر ووهب جميع الحواس4. والخلق أظهر آياته سبحانه، خاصة خلقه للإنسان، {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} 5.   1 انظر: الدرر السنية، ط 2، ج1ص 69-71. ومؤلفات الشيخ، القسم الأول، كتاب التوحيد ص 42. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسبر، العلق ص 369. 3 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، ثلاثة الأصول ص 187. 4 مؤلفات الشيخ، ملحق المصنفات، الخطب المنبرية ص 58-60، 47،48. 5 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، العلق ص 369، والنحل مسألة 15 ص 204 وقصة موسى وفرعون ص 299، 305 والزمر ص 339. والقسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، باب 14ص 45. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 588 ومن آياته المخلوقة التى خلقها وسخرها وهي دالة عليه الليل والنهار والشمس والقمر والسموات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهما1. والدليل قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (فصلت: 37) . وقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 2 (الأعراف: 54) . ويستدل الشيخ بمثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 21،22) . قال ابن كثير- رحمه الله- الخالق لهذه الأشياء هو المستحق للعبادة3.   1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، الحجر ص186-189. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، ثلاثة الأصول ص186، 187وص 370. 3 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، ثلاثة الأصول ص 187. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 589 ويقول الله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} . يقول الشيخ: بعد أن أورد هذه الآية- ثم ذكر الدليل فقال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} 1 (البقرة: 163-165) . هذا وقد عقد الشيخ بابا في كتاب التوحيد ترجم له بقوله: باب قول الله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} أورد فيه من براهين التوحيد بيان عجز المخلوقات وكل ما سوى الله عن الخلق، وفقر العالمين جميعا إلى الله تعالى بالعقل والشرع- كما وردت في النصوص الموحى بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل قول الله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} (الأعراف: 191، 192) . ومثل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} . وفي الصحيح عن أنس، قال: "شج النبى صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وكسرت رباعيته فقال: كيف يفلح قوم شجوا نبيهم؟ فنزلت: {ليس لك من الأمرشىء}   1 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 16 ص 106. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 590 (آل عمران: 128) . وفيه عن ابن عمر رضى الله عنهما: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر: "اللهم العن فلانا وفلانا، بعد ما يقول: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد " فأنزل الله {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} الآية. وفي رواية: "يدعو على صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو والحارث بن هشام فنزلت {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} . وفيه عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: "قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل عليه {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} (الشعراء: 214) فقال: يا معشر قريش (أو كلمة نحوها) اشتروا أنفسكم، لا أغنى عنكم من الله شيئا، يا عباس بن عبد المطلب لا أغنى عنك من الله شيئا، يا صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أغنى عنك من الله شيئا، يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت، لا أغني عنك من الله شيئا". قال الشيخ في مسألة: قوله للأبعد والأقرب "لا أغني عنك من الله شيئا" فإذا صرح وهو سيد المرسلين بأنه لا يغني شيئا عن سيدة نساء العالمين، وآمن الإنسان أنه صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا الحق ثم نظر فيما وقع في قلوب خواص الناس اليوم تبين له التوحيد وغربة الدين1.   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، كتاب التوحيد ص45-47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 591 قال الشيخ ابن سعدي- رحمه الله- في القول السديد الذي علق به على كتاب التوحيد تحت هذه الترجمة باب قول الله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} - هذا شروع في براهين التوحيد وأدلته فالتوحيد له من البراهين النقلية والعقلية ما ليس لغيره، فتقدم أن التوحيدين توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات من أكبر براهينه وأضخمها، فالمتفرد بالخلق والتدبير، والمتوحد في الكمال المطلق من جميع الوجوه هو الذي لا يستحق العبادة سواه. وكذلك من براهين التوحيد معرفة أوصاف المخلوقين ومن عبد مع الله فان جميع ما يعبد من دون الله من ملك وبشر ومن شجر وحجر وغيرها كلهم فقراء إلى الله عاجزون ليس بيدهم من النفع مثقال ذرة، ولا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون ضراً ولا نفعاً ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، والله تعالى هو الخالق لكل مخلوق وهو الرازق لكل مرزوق المدبر للأمور كلها الضار النافع المعطى المانع الذي بيده ملكوت كل شىء وإليه يرجع كل شىء وله يقصد ويصمد ويخضع كل شىء. فأي برهان أعظم من هذا البرهان الذي أعاده الله وأبداه في مواضع كثيرة من كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فهو دليل عقلي فطري كما أنه دليل سمعي نقلي على وجوب توحيد الله وأنه الحق وعلى بطلان الشرك. وإذا كان أشرف الخلق على الإِطلاق لا يملك نفع أقرب الخلق إليه وأمسهم به رحما فكيف بغيره؟ فتباً لمن أشرك بالله وساوى به أحدا من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 592 المخلوقين، لقد سلب عقله بعد ما سلب دينه فنعوت البارى تعالى وصفات عظمته وتوحده في الكمال المطلق أكبر برهان على أنه لا يستحق العبادة إلا هو. وكذلك صفات المخلوقات كلها، وما هي عليه من النقص والحاجة والفقر إلى ربها في كل شؤونها، وأنه ليس لها من الكمال إلا ما أعطاها ربها من أعظم البراهين على بطلان إلهية شىء منها. فمن عرف الله وعرف الخلق اضطرته هذه المعرفة إلى عبادة الله وحده وإِخلاص الدين له والثناء عليه، وحمده وشكره بلسانه وقلبه وأركانه، وانصرافه عن التعلق بالمخلوقين خوفا ورجاء وطمعا1. ا. هـ بتصرف قليل. والشيخ رحمه الله كثيرا ما يورد النصوص من الوحي الدالة على التوحيد مثل قول الله تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (يونس: 106، 107) . وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (العنكبوت: 17) . وقوله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ   1 القول السديد بهامش كتاب التوحيد، ص 61-64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 593 دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} (الأحقاف: 5، 6) . وقوله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} (النمل: 62) 1. هذا ومن الأبواب التى عقدها الشيخ وتعد بيانا لبراهين التوحيد في كتاب التوحيد هي: 1- باب قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} 2 (سبأ: 23) . 2- باب الشفاعة3 وفي قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (سبأ: 22، 23) . قال الشيخ فيها الحجة على ابطال الشرك خصوصا ما تعلق على الصالحين وهي الآية التي قيل: إنها تقطع عروق الشرك من القلب. 3- باب: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، كتاب التوحيد ص 42-44. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، كتاب التوحيد ص 48-50. 3 المصدر السابق، ص 51-53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 594 (القصص: 56) 1. 4- باب: (لا يستشفع بالله على خلقه) 2. 5- باب: في (حماية النبى صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد) 3. 6- باب قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} 4. 7- باب ما جاء في قول الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} 5 وغير ذلك من الأبواب التى يطرقها الشيخ في مؤلفاته: للدلالة على التوحيد. ومن أدلة الشيخ التاريخية على معنى التوحيد استعراضه لما جرى بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قومه- فمن ذلك يقول الشيخ: "وجرى بينه وبينهم ما يطول وصفه. وقص الله سبحانه بعضه في كتابه. ومن أشهرذلك: قصة عمه أبى طالب لما حماه بنفسه وماله وعياله وعشيرته. وقاسى في ذلك الشدائد العظيمة. وصبر عليها، ومع ذلك كان مصدقا له، مادحا لدينه محبا لمن اتبعه، معاديا لمن عاداه، لكن لم يدخل فيه، ولم يتبرأ من دين آبائه واعتذر عن ذلك بأنه لا يرضى بمسبة آبائه.   1 المصدر السابق، ص 54- 55. 2 المصدر السابق، ص 145. 3 المصدر السابق، ص 66-67، 146-147. 4 المصدر السابق، ص 124. 5 المصدر السابق، ص 148- 151. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 595 ولولا ذلك لاتبعه. ولما مات- وأراد النبى صلى الله عليه وسلم الاستغفارله- أنزل الله عليه: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} 1 (براءة:113) . ويذكرالشيخ عن أبى محمد بن قدامة أن أبا طالب كان يقر بنبوة النبى صلى الله عليه وسلم وله في ذلك أشعار منها: ألا أبلغا عنى على ذات بيننا ... لؤيا وخصا من لؤى بنى كعب بأنا وجدنا في الكتاب محمداً ... نبياً كموسى خط في أول الكتب وأن عليه في العباد محبة ... ولاخير2 ممن خصه الله بالحب ومنها: تعلم خيار الناس أن محمدا ... وزيرا لموسى والمسيح ابن مريم فلا تجعلوا لله ندا وأسلموا ... فإن طريق الحق ليس بمظلم ولكنه أبى أن يدين بذلك خشية العار. ولما حضرته الوفاة دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل، وعبد الله بن أبى أمية- فقال: "ياعم قل: لا إله إلا الله، كلمة: أحاج لك بها عند الله" فقالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل صلى الله عليه وسلم يرددها عليه، وهما يرددان عليه حتى كان آخركلمة قالها: "هو على ملة عبد المطلب" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم   1 مؤلفات الشيخ، القسم الثالث، مختصر السيرة ص 30-31. 2 ولا خير: أي لا أخير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 596 "لأستغفرن لك ما لم أنه عنك" فأنزل الله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} (التوبة: 113) ، ونزل قوله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (القصص: 56) . وقصة وفاة أبى طالب أخرجها البخارى ومسلم عن سعيد بن المسيب عن أبيه، ورواها أحمد ومسلم والترمذى من حديث أبي هريرة1. وقصة أبي طالب يتضمنها الحديث الثاني من عشرين حديثا من صحيح مسلم قام بدراسة أسانيدها وشرح متونها الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد2. ويعلق الشيخ على هذه القصة فيقول: فيالها من عبرة ما أبينها، ومن عظة ما أبلغها. ومن بيان ما أوضحه3.   1 مؤلفات الشيخ، القسم الثالث، مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ص 61، 62، والقسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} ص 54- 55. 2 عشرون حديثا من صحيح مسلم، دراسة أسانيدها وشرح متونها ص 44-57. 3 مؤلفات الشيخ، القسم الثالث، مختصر السيرة ص 31، والقسم الأول، العقيدة، شرح ستة مواضيع من السيرة، الموضع الرابع ص 357-358. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 597 ومن أدلة الشيخ على التوحيد أيضا ما وقع في التاريخ الإسلامى من ذلك قصة الردة المشهورة، وموقف أبى بكر منها، وقصة أناس من بنى حنيفة وموقف ابن مسعود منهم في الكوفة، وموقف علي بن أبي طالب رضي الله عنه ممن اعتقد فيه الإِلهية. وقصة المختار بن أبي عبيد الثقفي لما زعم أنه يوحى إِليه، وموقف عبد الله بن الزبير منه ومن امرأته لما لم تتبرأ منه. وقصة الجعد بن درهم وكان من أشهر الناس بالعلم والعبادة وموقف خالد بن عبد الله القسري منه حين قتله وإِجماع العلماء على استحسان قتله كما ذكر ابن القيم. وقصة بني عبيد القداح وقد كانوا مظهرين لشرائع الإسلام فلما أظهروا كفرهم، أجمع أهل العلم أنهم كفَّار وأن دارهم دار حرب مع إِظهارهم شعائر الإسلام وقصة التتارلما أسلموا ولم يعملوا بما يجب عليهم من شرائعه ومع هذا كفرهم العلماء وغزوهم حتى أزالهم الله عن بلدان المسلمين. قال الشيخ: "وفيما ذكرناه كفاية لمن هداه الله، وأما من أراد الله فتنته: فلو تناطحت الجبال بين يديه لم ينفعه ذلك. ولو ذكرنا ما جرى من السلاطين والقضاة من قتل من أتى بأمور يكفر بها ولو كان يظهر شعائر الإسلام وقامت عليه البينة باستحقاقه للقتل، مع أن في هؤلاء المقتولين من كان أعلم الناس وأزهدهم وأعبدهم في الظاهر مثل الحلاج وأمثاله. ويكتفي الشيخ بذكر هذه الأمثلة ويقول: فلو ذكرنا قصص هؤلاء لاحتمل مجلدات ولا نعرف رجلا واحدا بلغ كفره كفر البدو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 598 الذين يقول عنهم من يزعم إسلامهم- إِنه ليس معهم من الإسلام شعرة إلا قول: "لا إله إلا الله". أي باللسان فقط مع اظهارهم نقيضها فهم لم يقولوها في الحقيقة ولم يعتقدوا التوحيد الذي هو حق الله على العبيد، ولم يعملوا بمقتضاها بل أظهروا كما يقول الشيخ إنكارهم للإسلام واستهزأوا به على عمد، وأظهروا كفرهم بالقرآن ودين الرسول صلى الله عليه وسلم كله وكذبوا بالبعث وأنكروا الشرع الذي شرعه الله وزعموا أن شرعهم الباطل الذي أحدثه لهم آباؤهم هو حق الله. ويتعجب الشيخ من بعض من يدعي العلم والكتب بأيديهم والتي يزعمون أنهم يعرفونها ويعملون بها وفيها مسائل الردة يفتون بمحاربة التوحيد الذي أقروا أنه دين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وبمناصرة الشرك وهم يقرون بأنه الشرك ولكن يقول إِنها من أكبر آيات الله1. ولا يقتصر استدلال الشيخ- رحمه الله- على التوحيد بما ذكرنا، بل إِنه يستدل بكلام أهل العلم من جميع المذاهب الأربعة فيقول: "وها أنا أذكر مستندي في ذلك، من كلام أهل العلم من جميع الطوائف فرحم الله من تدبرها بعين البصيرة، ثم نصر الله ورسوله وكتابه ودينه، ولم تأخذه في ذلك لومة لائم. فأما كلام الحنابلة فقال الشيخ تقي الدين- رحمه الله- لما ذكر   1 مؤلفات الشيخ، القسم الثالث، مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ص 36-50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 599 حديث الخوارج: فإذا كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه ممن قد انتسب إلى الإسلام من مرق منه مع عبادته العظيمة، فيعلم أن المنتسب إلى الإسلام والسنة قد يمرق أيضا وذلك بأمور منها: الغلو الذي ذمه الله تعالى كالغلو في بعض المشائخ كالشيخ عدي بل الغلو في علي بن أبي طالب بل الغلو في المسيح ونحوه، فكل من غلا في نبي أو رجل صالح، وجعل فيه نوعا من الإِلهية، مثل أن يدعوه من دون الله بأن يقول: ياسيدي فلان أغثني، أو أجرني، أو أنت حسبي، أو أنا في حسبك، فكل هذا شرك وضلال، يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل، فإِن الله أرسل الرسل ليعبد وحده، لا يجعل معه إله آخر، والذين يجعلون مع الله آلهة أخرى مثل الملائكة أو المسيح أو العزير أو الصالحين أو غيرهم، لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق وترزق، وإنما كانوا يدعونهم، يقولون: "هؤلاء شفعاؤنا عند الله" فبعث الله الرسل تنهى أن يدعى أحد من دون الله، لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة انتهى، وقال في الاقناع أول باب حكم المرتد: إن من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم فهو كافر إِجماعاً. وأما كلام الحنفية فقال الشيخ قاسم: في شرح (درر البحار) النذر الذي يقع من أكثر العوام بأن يأتي إلى قبر بعض الصلحاء قائلا: ياسيدي إِن رد غائبي أو عوفي مريضي، أو قضيت حاجتي فلك من الذهب أو الطعام أو الشمع كذا وكذا باطل إِجماعا بوجوه: منها: أن النذر للمخلوق لا يجوز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 600 ومنها: أنه ظن الميت يتصرف في الأمر واعتقاد هذا كفر إلى أن قال: وقد ابتلي الناس بذلك ولاسيما في مولد الشيخ أحمد البدوي. وقال الإمام البزازاي في (فتاويه) : إِذا رأى رقص صوفية زماننا هذا في المساجد مختلطا بهم جهال العوام، الذين لا يعرفون القرآن والحلال والحرام بل لا يعرفون الإسلام والإيمان، لهم نهيق يشبه نهيق الحمير، يقول: هؤلاء لا محالة اتخذوا دينهم لهوا ولعبا، فويل للقضاة والحكام حيث لا يغيرون هذا مع قدرتهم. وأما كلام الشافعية: فقال الإمام محدث الشام أبو شامة (أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم) : في كتاب (الباعث على إنكار البدع والحوادث) : لكن نبين من هذا ما وقع فيه جماعة من جهال العوام، النابذين لشريعة الإسلام، وهو ما يفعله الطوائف من المنتسبين إلى الفقر الذي حقيقته الافتقار من الإيمان من مؤاخات النساء والأجانب واعتقادهم في مشائخ لهم، وأطال- رحمه الله الكلام- إلى أن قال:- وبهذه الطرق وأمثالها كان مبادىء ظهور الكفر من عبادة الأصنام وغيرها، ومن هذا ما قد عم الابتلاء به من تزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان والعمد وسرج مواضع مخصوصة في كل بلد يحكي لهم حاك أنه رأى في منامه بها أحدا ممن شهر بالصلاح ثم يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم، ويرجون الشفاء لمرضاهم وقضاء حوائجهم بالنذر لها وهي ما بين عيون وشجر وحائط، وفي مدينة دمشق صانها الله من ذلك مواضع متعددة ثم ذكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 601 رحمه الله الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال له بعض من معه اجعل لنا ذات أنواط قال: "الله أكبر قلتم والذي نفس محمد بيده كما قال قوم موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة" انتهى كلامه رحمه الله، ويعلق الشيخ بقوله: وقال: أي شيخ الإسلام ابن تيمية في "اقتضاء الصراط المستقيم" إِذا كان هذا كلامه صلى الله عليه وسلم في مجرد قصد شجرة لتعليق الأسلحة والعكوف عندها فكيف بما هو أعظم منها الشرك بعينه بالقبور ونحوها؟ وأما كلام المالكية: فقال أبو بكر (الطرطوشي) في كتاب (الحوادث والبدع) لما ذكر حديث الشجرة ذات أنواط فانظروا رحمكم الله أين ما وجدتم سدرة أو شجرة، يقصدها الناس ويعظمون من شأنها، ويرجون البرء والشفاء لمرضاهم من قبلها، فهي ذات أنواط فاقطعوها، وذكر حديث العرباض بن سارية الصحيح، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: "إِنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإِن كل بدعة ضلالة" قال في البخاري: عن أبي الدرداء أنه قال: والله ما أعرف من أمر محمد شيئا إلا أنهم يصلون جميعا، وروى مالك في الموطأ عن بعض الصحابة أنه قال: ما أعرف شيئا مما أدركت عليه الناس إلا النداء بالصلاة، قال الزهري: دخلت على أنس بدمشق وهو يبكي.. فقال: ما أعرف شيئا مما أدركت إلا هذه الصلاة وهذه الصلاة قد ضيعت، قال الطرطوشي رحمه الله: فانظروا رحمكم الله إذا كان في ذلك الزمن طمس الحق، وظهر الباطل، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 602 حتى ما يعرف من الأمر القديم إلا القبلة فما ظنك بزمانك هذا والله المستعان. قال الشيخ: "وليعلم الواقف على هذا الكلام من أهل العلم أعزهم الله أن الكلام في مسألتين: الأولى: أن الله سبحانه بعث محمدا صلى الله عليه وسلم لإِخلاص الدين لله لا يجعل معه أحد في العبادة والتأله، لا ملك ولا نبي ولا قبر ولا حجر ولا شجر ولا غير ذلك وأن من عظم الصالحين بالشرك بالله فهو يشبه النصارى، وعيسى عليه السلام بريء منهم. الثانية: وجوب اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك البدع، وإِن اشتهرت بين أكثر العوام، وليعلم أن العوام محتاجون إلى كلام أهل العلم من تحقيق هذه المسائل، ونقل كلام العلماء، فرحم الله من نصر الله ورسوله ودينه ولم تأخذه في الله لومة لائم1. وهكذا فالشيخ رحمه الله ينقل كلام العلماء من أهل المذاهب الأربعة مما يدل على أن الشيخ في كل أمره خصوصا مسألة التوحيد، لم يخرج عن إِجماعهم فضلا عن أن يخرج عن مذهب أي أحد منهم، وهي التي اعتبره الناس فيها مبتدعاً مذهباً خامساً فاعجب لذلك إِنْ تعجب والله   1 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 26 ص 177-180ورقم 11 ص 68-70 وانظر: رقم 28 ص 189-190. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 603 المستعان. والمقصود بيان أن الشيخ رحمه الله سلك مسالك متعددة في البرهنة على التوحيد والاستدلال عليه يمكن أن نجمل بعضها فيما يلي: 1- أنه يستدل بالدليل ويورده ثم يعقب على ذلك بذكر المدلول عليه كالدليل الذي أورده من سورة النمل1: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} (النمل: 62) . وقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 2 ونحو ذلك من الأدلة. ومن هذا الباب استدلال الشيخ بربوبية الله وأسمائه وصفاته على التوحيد فانظر مثلا تفسير سورة الفاتحة3، وانظر مبحث توحيد المعرفة والاثبات4. 2- أنه يذكر المدلول عليه ثم يعقب بذكر دليله كالدليل الذي أورده من سورة البقرة وهو قول الله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، التوحيد ص 42. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، كتاب التوحيد ص 7. 3 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، الفاتحة ص11-13. 4 انظر: (1/468) من هذا المبحث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 604 الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 1 (البقرة: 163-164) . 3- الاكتفاء بذكرعجز وفقر العالمين وهم كل ما سوى الله وأنه ليس من صفاتهم شيء من الألوهية ولا لهم شيء من الملك ولا النفع ولا الضركالدليل الذي أورده الشيخ في باب قوله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} (الأعراف: 191، 192) 2. والحاصل أن الشيخ طرق المسالك الثلاثة التي وردت في القرآن للدلالة على التوحيد ولم يقتصر الشيخ على واحد منها. وهكذا يقرر الشيخ التوحيد ويبين لازمه ويستدل عليه بما استدل به الله ورسله وأتباع رسله من البراهين اليقينية الظاهرة الجلية، بمثل ربوبية الله للعالمين، واختصاصه بها سبحانه، وبصفات الكمال، والتي تجمعها صفة الألوهية، وبمثل عبودية جميع من سوى الله من العالمين، وفقرها وحاجتها عبودية عامة وخاصة طوعا وكرها. وبمثل نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم والوحي المنزل عليه الذي أعجز الله به من خاصم وفجر، إلى يوم القيامة. بكل ذلك وبنحوه يستدل الشيخ على أن حق الله على العبيد أن   1 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 16 ص 106. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، كتاب التوحيد، ص 45. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 605 يفردوه بجميع أنواع العبادة وأن يوحدوه بها فهي حقه الخاص لا شريك له على الإِطلاق ولو غلط في ذلك من غلط، وأعرض عن تعلمه من أعرض. فتبين من هذه الأدلة والبراهين أن التوحيد هو إِفراد الله بالعبادة، وأن العبادة هي التوحيد فمن لم يأت بالتوحيد لم يعبد الله كما قال تعالى {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} . العبادة وأنواعها: والعبادة اسم جنس لها أنواع1، وهي ما أمر به شرعا من غير اطراد عرفي ولا اقتضاء عقلي2، ومعنى التوحيد أن تصرف جميع العبادات من الأقوال والأفعال لله وحده لا يجعل فيها شيء لا لملك مقرب ولا نبي مرسل3. والعبادة لا تسمى عبادة لله إلا مع توحيده بجميع أنواع العبادة، كما أن الصلاة لا تسمى صلاة إلا مع الطهارة4، وصرف شيء من أنواع العبادة لغير الله كصرف جميعها لأنه سبحانه أغنى الشركاء عن   1 مؤلفات الشيخ، القسم الخاص، الشخصية رقم 16 ص106. 2 المرجع السابق رقم 13 ص 90. 3 المرجع السابق رقم 13 ص 88. 4 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، القواعد الأربع ص 199. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 606 الشرك، ولا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا كما قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (الزمر:2، 3) . فأخبر سبحانه أنه لا يرضى من الدين إلا ما كان خالصا لوجهه وأخبر أن المشركين يدعون الملائكة والأنبياء والصالحين ليقربوهم إلى الله زلفي ويشفعوا لهم عنده، وأخبر أنه لا يهدي من هو كاذب كفَّار فكذبهم في هذه الدعوى وكفرهم فقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} 1. وقال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} . يقول الشيخ: "فلم يؤمروا إلا بما تعرفه العقول، وبما ينبغي للعاقل أن يلتزمه ولا يبتغي به بديلا لحسنه وسهولته ومن حسنه أنه تنزيه لله على المسبة، كما أن من قبح ضده أنه مسبة لله تعالى2. وما من شك أن معنى " لا إله إلا الله " هو إِخلاص القصد والنية   1 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 17 ص 111، 112، والقسم الرابع، التفسير، الزمر ص 318. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، ص 376، 381 والقسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، باب الدعاء إليه ص 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 607 والإِرادة في العبادة المشروعة لوجه الله تعالى، وأن المألوه هو المقصود المعتمد عليه1، ولذا كان الإِخلاص شرطا في صلاح التعبد وقبوله، وقد عقد الشيخ- رحمه الله- في كتاب التوحيد بابين هما: (باب ما جاء في الرياء) و (باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا) يوضح فيهما هذا الجانب الهام. ووفي هذين البابين بما يناسبهما من أدلة الكتاب والسنة لأنه يعالج بهما القصد والنية والإِرادة لتستقيم على إِخلاصها لله تعالى وما من شك أن إِخلاص القصد والنية والإِرادة في العبادة المشروعة هو شرط صلاحها. وأورد تحت الباب الأول قول الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} (الكهف: 110) . وعن أبي هريرة مرفوعا: قال تعالى: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه" رواه مسلم. وعن أبي سعيد مرفوعا: "ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ قالوا: بلى يارسول الله. قال: الشرك الخفي، يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل" رواه أحمد. قال الشيخ فيه مسائل:   1 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصبة رقم 19 ص 124. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 608 الأولى: تفسير آية الكهف. الثانية: الأمر العظيم في رد العمل الصالح إذا دخله شيء لغير الله. الثالثة: ذكر السبب الموجب لذلك وهوكمال الغنى. الرابعة: أن من الأسباب: أنه تعالى خير الشركاء1. الخامسة: خوف النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه من الرياء. السادسة: أنه فسر ذلك بأن يصلي المرء لله، لكن يزينها لما يرى من نظر رجل إليه2. وأورد الشيخ تحت الباب الثاني: قول الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (هود: 15، 16) . وما في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة، إن اعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس. وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إِن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإِن كان في الساقة   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، كتاب التوحيد ص 98-99. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، كتاب التوحيد ص 98-99. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 609 كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع" 1. وقال الشيخ: فيه مسائل: الأولى: إِرادة الإنسان الدنيا بعمل الآخرة. الثانية: تفسير آية هود. الثالثة: تسمية الإنسان المسلم عبد الدينار والدرهم والخميصة. الرابعة: تفسير ذلك بأنه إِن أعطي رضي، وإِن لم يعط سخط. الخامسة: قوله: "تعس وانتكس". السادسة: قوله: "وإذا شيك فلا انتقش" 2. السابعة: الثناء على المجاهد الموصوف بتلك الصفات3. وقال الشيخ في قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (هود: 15، 16) . وقد ذكر عن السلف من أهل العلم فيها أنواع مما يفعل الناس اليوم   1 رواه البخاري في الجهاد ج3/223 وفي الرقاق ج7/ 175. 2 قال الحافظ ابن حجر قوله: "تعس وانتكس واذا شيك فلا انتقش" في شرح الطيبي قال فيه الترقي في الدعاء عليه لأنه إذا تعس انكب على وجهه فإذا انتكس أنقلب على رأسه" فتح الباري ج11/ 254. 3 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، التوحيد ص100-101- وانظر: الدرر السنية ج2 ص42-43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 610 ولا يعرفون معناه: الأول: من ذلك العمل الصالح الذي يفعل كثير من الناس ابتغاء وجه الله من صدقة وصلاة واحسان إلى الناس ونحو ذلك، وكذلك ترك ظلم أو كلام في عرض ونحو ذلك مما يفعله الإنسان أو يتركه خالصا لله، لكنه لا يريد ثوابه في الآخرة إنما يريد أن يجازيه بحفظ ماله وتنميته، وحفظ أهله وعياله وادامة النعمة عليهم ونحو ذلك، ولا همة له في طلب الجنة ولا الهرب من النار فهذا يعطي ثواب عمله في الدنيا، وليس له في الآخرة نصيب، وهذا النوع ذكر عن ابن عباس في تفسير الآية. وقد غلط بعض مشائخنا بسبب عبارة في شرح الإقناع في أول باب النية لما قسم الإِخلاص مراتب وذكر هذا منها ظن أنه يسميه إِخلاصا مدحا له وليس كذلك، وإنما أراد أنه لا يسمى رياء وإلا فهو عمل حابط في الآخرة. والنوع الثاني: وهو أكبر من الأول وأخوف وهو الذي ذكر مجاهد أن الآية نزلت فيه وهو أن يعمل أعمالا صالحة ونيته رئاء الناس لا طلب ثواب الآخرة، وهو يظهر أنه أراد وجه الله وإنما صلى أو صام أو تصدق أو طلب العلم لأجل أن الناس يمدحونه ويجل في أعينهم، فإِن الجاه من أعظم أنواع الدنيا، ولما ذكر لمعاوية حديث أبي هريرة1 في الثلاثة الذين   1 رواه مسلم (كتاب الإِمارة) والنسائي (كتاب الجهاد) وأحمد في مسنده ج2 /322. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 611 هم أول من تسعر بهم النار وهو: الذي تعلم العلم ليقال له عالم حتى قيل، وتصدق ليقال جواد، وجاهد ليقال شجاع، بكى معاوية بكاء شديدا ثم قرأ هذه الآية. النوع الثالث: أن يعمل الأعمال الصالحة ومقصده بها مالا مثل أن يحج لمال يأخذه لا لله، أو يهاجر لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، أو يجاهد لأجل المغنم فقد ذكر هذا النوع أيضا في تفسير هذه الآية كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة"1 0 الخ. وكما يتعلم العلم لأجل مدارسة أهله أو مكسبهم أو رياستهم، أو يقرأ القرآن ويواظب على الصلاة لأجل وظيفة المسجد كما هو واقع كثيرا، وهؤلاء أعقل من الذين قبلهم لأنهم عملوا لمصلحة يحصلونها، والذين قبلهم عملوا لأجل المدح والجلالة في أعين الناس ولا يحصل لهم طائل، والنوع الأول أعقل من هؤلاء كلهم لأنهم عملوا لله وحده لا شريك له، لكن لم يطلبوا منه الخير العظيم وهو الجنة ولم يهربوا من الشر العظيم وهو العذاب في الآخرة. النوع الرابع: أن يعمل الإنسان بطاعة الله مخلصا في ذلك لله وحده لا شريك له، لكنه على عمل يكفره كفرا يخرجه عن الإسلام مثل اليهود والنصارى إذا عبدوا الله وتصدقوا أو صاموا ابتغاء وجه الله والدار   1 رواه البخاري وابن ماجة عن أبي هريرة مرفوعا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 612 الأخرة، ومثل كثير من هذه الأمة الذين فيهم شرك أكبر أو كفر أكبر يخرجهم عن الإسلام بالكلية إذا أطاعوا الله طاعة خالصة يريدون بها ثواب الله في الدار الآخرة، لكنهم على أعمال تخرجهم من الإسلام، وتمنع قبول أعمالهم، فهذا النوع أيضا قد ذكر في الآية عن أنس بن مالك وغيره، وكان السلف يخافون منه كما قال بعضهم: لو أعلم أن الله تقبل مني سجدة واحدة لتمنيت الموت لأن الله يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (المائدة: 27) - فهذا قصد وجه الله والدار الآخرة، لكن فيه من حب الدنيا والرياسة والمال ما حمله على ترك كثير من أمر الله ورسوله أو أكثره فصارت الدنيا أكبر قصده، فلذلك قيل قصد الدنيا وصار ذلك القليل كأنه لم يكن كقوله صلى الله عليه وسلم: "صل فإِنك لم تصل" 1. والأول أطاع الله ابتغاء وجهه لكن أراد من الله الثواب في الدنيا، وخاف على الحظ والعيال مثل ما يقر- الفسقة فصح أن يقال: قصد الدنيا والثاني والثالث واضح. لكن بقي أن يقال إذا عمل الرجل الصلوات الخمس والزكاة والصوم والحج ابتغاء وجه الله طالبا ثواب الآخرة، ثم بعد ذلك عمل   1 الحديث رواه البخاري في كتب الايمان والأذان والاستئذان ومسلم في كتاب الصلاة وأبو داود في كتاب الصلاة والترمذي كتاب المواقيت والنسائي كتاب الافتتاح والدارمي كتاب الصلاة كما رواه أَحمد في مسنده ج2 ص 437. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 613 ِِِ أعمالا كثيرة أو قليلة قاصدا بها الدنيا مثل أن يحج فرضه لله ثم يحج بعده لأجل الدنيا كما هو الواقع كثيرا فالجواب أن هذا عمل للدنيا والآخرة ولا ندري ما يفعل الله في خلقه، والظاهرأن الحسنات والسيئات تدافعا وهو لما غلب عليه منهما. وقد قال بعضهم: إن القرآن كثيرا ما يذكر أهل الجنة الخلص وأهل النار الخلص، ويسكت عن صاحب الشائبتين، وهو هذا وأمثاله، ولهذا خاف السلف من حبوط الأعمال1. فلابد من الإِخلاص، إِخلاص القصد والإِرادة والنية لله تعالى وفق ما شرعه الله من شريعة رسوله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم بجميع القربات التي بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها ولم يترك منها قربة تقرب إلى الله وإلى ما عنده من الخير إلا ووضحها، كما لم يترك شيئا يبعد عن الله ويوقع في الشر إلا وبينها وحذر منها حتى تركنا على المحجة البيضاء التي لا يزيغ عنها إلا هالك. ولذا كانت المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في العبادة وعدم عبادة الله بغير ما شرع رسوله صلى الله عليه وسلم شرط في قبول الأعمال- قال الشيخ- رحمه الله- إذا كان عملك صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل، وإذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، فلابد أن يكون خالصا صوابا على شريعة محمد صلى الله عليه وسلم. ولذا قال سبحانه في علماء أهل الكتاب وعبادهم وقرائهم {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ}   1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، هود ص20-123، والقسم الئالث، الفتاوى رقم 1ص 5-8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 614 أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} وقال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً} وهذه الآيات ليست في أهل الكتاب خاصة بل كل من اجتهد في علم أو عمل أو قراءة وليس موافقا لشريعة محمد صلى الله عليه وسلم فهو من الاخسرين أعمالا الذين ذكرهم الله تعالى في محكم كتابه العزيز وإِن كان له ذكاء وفطنة، وفيه زهد وأخلاق فهذا العذر لا يوجب السعادة والنجاة من العذاب إلا باتباع الكتاب والسنة، وإنما قوة الذكاء بمنزلة قوة البدن وقوة الإِرادة فالذي يؤتى فضائل علمية وإِرادة قوية وليس موافقا للشريعة بمنزلة من يؤتى قوة في جسمه وبدنه. وفي صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يخرج فيكم قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم وعلمكم مع علمهم، يقرؤن القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية" الحديث. وساق الشيخ أحاديث في شأن الخوارج وعبادتهم وجدالهم، وأحاديث في قيام طائفة على الحق- إلى أن قال: "وقد تبين أن الواجب طلب علم ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من الكتاب والحكمة ومعرفة ما أراد بذلك كما كان عليه الصحابة والتابعون ومن سلك سبيلهم، فكلما يحتاج إليه الناس فقد بينه الله ورسوله بيانا شافيا كافيا فكيف أصول التوحيد والإيمان؟! ثم إذا عرف ما بينه الرسول نظر في أقوال الناس وما أرادوا بها فعرضت على الكتاب والسنة والعقل الصريح الذي هو موافق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 615 للرسول صلى الله عليه وسلم فانه في الميزان مع الكتاب فهذا سبيل الهدى". ثم بين الشيخ- سبيل الضلال والبدع والجهل والأدلة على أنها تكون في هذه الأمة كما كانت في الأمم السابقة، وأحاديث في التحذير من التشدد والتعمق ومجاوزة السنة واتباع المتشابه وأحاديث في الحث على التمسك بالسنة وترك الاختلاف وأحاديث في فضل الغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس من السنة إلى أن قال: "وإذا كانت سعادة الأولين والآخرين هي باتباع المرسلين فمن المعلوم أن أحق الناس بذلك أعلمهم بآثار المرسلين، وأتبعهم لذلك فالعالمون بأقوالهم وأفعالهم المتبعون لها هم أهل السعادة في كل زمان ومكان، وهم الطائفة الناجية من أهل كل ملة، وهم أهل السنة والحديث من هذه الأمة، والرسل عليهم البلاغ المبين، وقد بلغوا البلاغ المبين، وخاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم أنزل الله عليه كتابه مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه، فهو المهيمن على جميع الكتب، وقد بين أبين بلاغ وأتمه وأكمله، وكان أنصح الخلق لعباد الله، وكان بالمؤمنين رؤوفاً رحيما، بلغ الرسالة وأدى الأمانة وجاهد في الله حق جهاده وعبد الله حتى أتاه اليقين، فأسعد الخلق وأعظمهم نعيما وأعلاهم درجة أعظمهم اتباعا له، وموافقة علما وعملا"1.   1 الدرر السنية، ط 2 ج2 ص 7-12، ومؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 16ص 104-107. ورقم 26 ص 180. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 616 يقول الشيخ: فان قيل فما الجامع لعبادة الله وحده؟! قلت: طاعته بامتثال أوامره واجتناب نواهيه1، مع كمال المحبة وكمال الخضوع والخوف والذل2 والجمع بين الخوف والرجاء في العبادة3. وجميع العبادة بكل أنواعها مبناها على الأمر4 الشرعي الذي هو أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته- قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} (الأحزاب: 21) . وقال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (الشورى: 13) . وللبخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه قال: "جاء ثلاثة رهط إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فلما أخبروا كأنهم تقالوها فقالوا: أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟! فقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبداً، وقال الآخر أنا أصوم النهار أبداً ولا أفطر، وقال الآخر أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، الأصل الجامع لعبادة الله وحده ص 379. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، الفاتحة ص 16. 3 المرجع السابق، الزمر ص 327. 4 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، التوحيد، باب من تبرك بشجر أو حجر أو نحوهما ص 34، وكشف الشبهات ص 164. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 617 إليهم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟! أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني" 1. وفي حديث العرباض بن سارية قال صلى الله عليه وسلم: "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة" رواه أبو داود والترمذي وصححه. وابن ماجه وفي رواية له "تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا"، ثم ذكره بمعناه، ولمسلم عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما بعد: فخير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة". وللبخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قيل: ومن أبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى". وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به" رواه البغوي في شرح السنة وصححه النووي2.   1 انظر: صحيح البخاري ج6/ كتاب النكاح، باب1ص 116. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، أصول الإيمان ص 262-264 وفضل الإسلام ص 207، 226. وانظر: الدرر السنية، ط 2، ج2 ص 7-12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 618 وعن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه مرفوعا: "أن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودا فلا تعتدوها وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها" حديث حسن رواه الدارقطني وغيره. وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما نهيتكم عنه فاجتنبوا، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم فانمإِ هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم" 1. وهذا ما توضحه سورة الفاتحة فإِنها قد اشتملت على أركان العبادة، والاخلاص فيها والمتابعة والرد على المبتدعين. وأركان العبادة ثلاثة هي: المحبة والرجاء والخوف، فمن زعم أنه يعبد الله تعالى بالمحبة وحدها فهو لم يعبده كما هو شأن منحرفي الصوفية. ومن عبد الله بالرجاء وحده على زعمه فهو لم يعبد الله كما هو شأن المرجئة. ومن عبد الله بالخوف وحده على وهمه فهو لم يعبده كما هو شأن الخوارج. وذلك في أولها: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} هذه   1 المرجع السابق، أصول الايمان ص 267،26، وانظر: الدرر السنية، ط 2 ج2 ص7-12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 619 الأركان الثلاثة: فالآية الأولى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فيها المحبة لأن الله منعم، والمنعم يحب على قدر انعامه. والآية الثانية: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فيها الرجاء لأن الله {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . والآية الثالثة: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} فيها الخوف، لأن الله مالك يوم الدين، يوم الجزاء والحساب وحده لا شريك له، ولا شفيع، {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} . وقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} أي أعبدك يارب بهذه الثلاثة بمحبتك ورجائك وخوفك وهذا هو توحيد الألوهية، أو العبادة بأركانه. ومعنى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} أَنك تعاهد ربك أن لا تشرك به في عبادته أحدا، لا ملكا ولا نبيا ولا غيرهما. {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، فيها توحيد الربوبية وفيها توحيد طلب الإِعانة مع التوكل والتبري من الحول والقوة إلا بالله. وقدم المفعول، وهو إياك وكرر، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} للاهتمام والحصر أي لا نعبد إلا إياك، ولا نتوكل إلا عليك، وهذا هو كمال الطاعة، والدين كله يرجع إلى هذين المعنيين: فالأول: التبرء من الشرك، والثاني: التبرء من الحول والقوة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 620 وقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} هو الدعاء الصريح الذي هو حظ العبد من الله، وهو التضرع والإِلحاح عليه أن يرزقه هذا المطلب العظيم، الذي لم يعط أحد في الدنيا والآخرة أفضل منه، فليتأمل العبد ضرورته له والهداية المطلوبة هنا التوفيق والارشاد، وتتضمن العلم النافع والعمل الصالح على وجه الاستقامة والكمال والثبات على ذلك إلى أن يَلْقى الله تعالى. والصراط: الطريق الواضح المستقيم: الذي لا عوج فيه والمراد بذلك الدين الذي أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم وهو صراط الذين أنعم الله عليهم وهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وكل ما خالفه من طريق أو علم أو عبادة، فليس بمستقيم بل معوج. وفي ذلك الرد على المبتدعين. وهذه أول الواجبات من هذه الآية وهو إعتقاد ذلك بالقلب اجمالا وتفصيلا والحذر من خداع الشيطان، وهو اعتقاد ذلك مجملا، وتركه مفصلا، فإِن أكفر الناس من المرتدين يعتقدون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحق وأن ما خالفه باطل، لكن كذبوا وبغوا بما لا تهوى أنفسهم مما جاء به كما قال تعالى: {فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ} (المائدة:70) . وقوله: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} المغضوب عليهم: العلماء الذين لم يعملوا بعلمهم، والضالون: العاملون بلا علم، فالأول: صفة اليهود. والثاني: صفة النصارى. ومعنى هذا الدعاء هو الإقرار بفرضيته دائما في الصلاة حذرا من طريقي أهل هذه الصفات على الداعي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 621 وكل هذا مع استصحاب أركان العبادة والدين وهي: الحب والرجاء والخوف1 في كل نوع من العبادة. ويرى الشيخ أن المحبة لله مدار الولاء والبراء لأنها أعظم أعمال القلب، بل هي أصل أعمال القلب الأربع التي لا تنال ولاية الله إلا بها، ولا يجد أحد طعم الإيمان إلا بها. وقد عقد الشيخ لها بابا في كتاب التوحيد هو باب قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} ، الآيات (البقرة: 165) . وأورد الشيخ تحت هذا الباب قول الله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} (التوبة: 24) . وما رواه البخاري ومسلم عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب اليه من ولده ووالده والناس أجمعين". وللبخاري ومسلم عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، الرسالة الثامنة، بعض فوائد سورة الفاتحة ص 382-384. والقسم الرابع، التفسير، سورة الفاتحة ص 7-19. والقسم الثاني، الفقه، المجلد الثاني ص 7-9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 622 الله منه كما يكره أن يقذف في النار ". وفي رواية " لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى" إلى آخره. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "من أحب في الله، وأبغض في الله ووالى في الله وعادى في الله، فإِنما تنال ولاية الله بذلك. ولن يجد عبد طعم الإيمان وإِن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك. وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يجدي على أهله شيئا" رواه ابن جرير. وقال ابن عباس في قوله تعالى: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} قال: "المودة". قال الشيخ: فيه مسائل: الأولى: تفسير آية البقرة. الثانية: تفسير آية براءة. الثالثة: وجوب محبته صلى الله عليه وسلم وتقديمها على النفس والأهل والمال. الرابعة: نفي الإيمان لا يدل على الخروج من الإسلام. الخامسة: أن للإيمان حلاوة قد يجدها الإنسان وقد لا يجدها. السادسة: أعمال القلب الأربع التي لا تنال ولاية الله إلا بها، ولا يجد أحد طعم الإيمان إلا بها. السابعة: فهم الصحابي للواقع: أن عامة المؤاخاة على أمر الدنيا. الثامنة: تفسير {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} . التاسعة: أن من المشركين من يحب الله حبا شديدا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 623 العاشرة: الوعيد على من كان الثمانية أحب إليه من دينه. الحادية عشرة: أن من اتخذ ندا يساوي محبته محبة الله فهو الشرك الأكبر1. وهكذا يستدل الشيخ على أن المحبة من العبادة بقول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} الآية (من سورة البقرة) 2. ولأن المنعم يحب على قدر إِنعامه والله سبحانه وتعالى هو المنعم على الإِطلاق فيجب أن يحب على الإِطلاق ولا يعادل حبه شيء آخر. كما في الآية الأولى من سورة الفاتحة {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، ففيها أن الله رب العالمين وفيها استغراق الحمد له لأنه رب العالمين3. ومما يزرع حب الله في القلب مع معرفة صفاته معرفة نعمه على الإنسان ومن هذه النعم وهي أعظمها على الاطلاق ما جرى ذكره من قصة آدم وإبليس، وذلك من صنعه سبحانه بالإنسان وتشريفه، وتفضيله إياه على الملائكة وفعله بإبليس ما فعل لما أبى أن يسجد له، وخلقه إياه   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، التوحيد ص 88-90. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، الأصل الجامع ص 380-381. 3 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، بعض فوائد سورة الفاتحة ص 82. وانظر: القسم الرابع، تفسير الفاتحة ص 10، 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 624 بيده ونفخه فيه من روحه، وإِسكانه جنته وقد خاطب الله سبحانه بني إسرائيل الموجودين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بما فعل مع آبائهم وذكرهم بذلك واستدعاهم به وذكرهم أنه فعله لهم كقوله: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} (البقرة: 50) - وغير ذلك، وذكر النعم التي هي أصل الشكر الذي هو الدين، لأن شكرها مبني على معرفتها وذكرها فمعرفة النعم من الشكر بل هي أم الشكر كما في الحديث "من أسدي إليه معروف فذكره فقد شكره فان كتم فقد كفره "- هذا في الأشياء التي تصدر من بني آدم فكيف بنعم المنعم على الحقيقة والكمال؟ واجتمع الصحابة يوما في دار يتذاكرون ما من الله عليهم به من بعثة محمد صلى الله عليه وسلم. وقوله في الحديث: (من أسدى إليه معروف ... الخ) روى بمعناه عن ابن عباس ورواه أحمد في مسنده بمعناه عن عائشة1. ويرى الشيخ أن برهان محبة الله الصحيحة هي اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرعه كما قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 2 (آل عمران:31) . كما قدمنا قبل قليل3.   1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير ص 91-92. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، مسائل الجاهلية ص 347. 3 انظر: (ص 622) وما بعدها من هذا البحث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 625 ويقسم الشيخ المحبة فيقول: "والمحبة تنقسم إلى أربعة أنواع: محبة شركية وهم الذين قال الله فيهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} إلى قوله: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} . المحبة الثانية: حب الباطل وأهله وبغض الحق وأهله، وهذه صفة المنافقين. المحبة الثالثة: محبة طبيعية وهي محبة المال والولد وإِذا لم تشغل عن طاعة الله ولم تعن على محارم الله فهي مباحة. المحبة الرابعة: حب أهل التوحيد وبغض أهل الشرك وهي أوثق عرى الإيمان، وأعظم ما يعبد به العبد ربه1. وأما ذكر الله تعالى فهو من أفضل العبادات والقرب، والمحب يديم ذكر محبوبه ولله عز وجل من المحبة أعلاها وهي حب العبادة الذي يصحبه ذل العابد وانقياده له وعدم نسيانه، وأن الذكر بالقلب واللسان أفضل من الذكر بالقلب وحده2. وللذكر ودوامه تأثير عجيب في انشراح الصدر3.   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، بعض فوائد سورة الفاتحة ص 382. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير ص 370. 3 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، مختصر زاد المعاد ص 77. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 626 ولكن الشيخ يقتفي في ذلك هدْي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول في ذلك: كان النبي صلى الله عليه وسلم أكمل الناس ذكرا لله عز وجل، بل كان كلامه كله في ذكر الله وما والاه، وكان أمره ونهيه وتشريعه ذكرا منه لله، وإِخباره عن أسماء الرب وصفاته، وأحكامه وأفعاله، ووعده ووعيده ذكرا منه له، وثناؤه عليه بآلائه وتمجيده وتسبيحه وتحميده ذكرا منه له، وسكوته ذكرا منه له بقلبه، فكان ذكره لله يجري مع أنفاسه قائما وقاعدا وعلى جنبه، وفي مشيه وركوبه، وسيره ونزوله، وظعنه واقامته1. ويحث الشيخ على الإعتبار بأيام الله مثل قصة الفيل2، وما في قصة موسى وفرعون في سورة القمر والمزمل لهذه الأمة من عبرة3 والاعتبار بأبي لهب، وأن المال والولد وشرف البيت والسيادة يعطاه من هو أكفر الناس وأن العامة   1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، مختصر زاد المعادص 128، 154، 155. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير ص 380. 3 المرجع السابق ص 316. ويشير الشيخ إلى الآيات في سورتي القمر والمزمل قال الله تعالى في سورة القمر: {وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ كَذَّبُوا بِآياتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ أكفاركم أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} الآيات. وقال تعالى: في سورة المزمل: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً} الآيات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 627 أشربوا حب دينهم، وصبروا على المشقة فيه مع أنهم لا يعرفون جنة ولا نارا1. والاعتبار بالبيت الحرام وآيات الله فيه وكيف ابتدع أهل الأهواء مقامات تضاهيه، وكيف ترك أهل الكتاب تعظيمه، مع أن الذي بناه إبراهيم2. هذا وأنواع العبادة التي أمر الله بها مثل الإسلام والإيمان والإحسان ومنه الدعاء والتوكل، والرغبة والرهبه، والخشوع والخشية، والإنابة والاستعانة، والاستعاذة والاستغاثة، والذبح والنذر3. ومن أنواع العبادة أيضا الاستعاذة والاستغاثة والخوف، والتأله والركوع والسجود، والهجرة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام4 والجهاد في سبيل الله تعالى والتذلل والتعظيم الذي هو من خصائص الإلهية5. وغير ذلك من أنواع العبادة التي أمر الله بها وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بها كلها لله تعالى وحده لا شريك له، أما   1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، ص 379، وص 376. 2 المصدر السابق ص 31، 32، وانظر استدلال الشيخ على التوحيد 1/487 وما بعدها من هذا البحث. 3 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، ثلاثة الأصول، ص 187-188. 4 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، ثلاثة الأصول ص 187-189. والأصل الجامع لعبادة الله وحده ص 379-381. 5 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، ثلاثة الأصول ص 194-196. والقسم الرابع، التفسير ص 95، ومختصر زاد المعاد ص 196-225. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 628 الإسلام فهو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإِقام الصلاة وايتاء الزكاة، وصوم رمضان وحج بيت الله الحرام. وهذه هي أركانه الخمسة. ودليل الشهادة قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (آل عمران: 18) 1. ودليل شهادة أن محمدا رسول الله قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} (التوبة: 128) 2. ودليل الصلاة والزكاة قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (البينة: 5) . ودليل الصيام قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 183) 3. ودليل الحج قوله تعالى: {لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (آل عمران: 97) 4.   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، ثلاثة الأصول ص 189- 190. 2 المرجع السابق، ص 190. 3 المرجع السابق ص190. 4 المرجع السابق ص191. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 629 وأما الإيمان فهو بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان. وهو أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدرخيره وشره. وهذه هى أركانه الستة والدليل عليها قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} 1. ودليل القدر- قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (القمر: 49) . وأما الاحسان فهو أن تعبد الله كأنك تراه فان لم تكن تراه فانه يراك- والدليل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} (النحل: 128) . وقوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (الشعراء: 217-. 22) . وقوله تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِل اَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} (يونس: 61) . والدليل من السنة حديث جبرائيل المشهورعن عمر رضى الله عنه قال: "بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، ثلاثة الأصول ص 191. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 630 وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام؟ قال: "أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتى الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا" فقال: صدقت. فعجبنا له يسأله ويصدقه! قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره" قال: صدقت. قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: "أن تعبد الله كأنك تراه فان لم تكن تراه فانه يراك " قال: فأخبرني عن الساعة؟ قال: "ما المسئول عنها بأعلم من السائل" قال: فأخبرني عن أماراتها؟ قال: "أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان" قال: "فمضى فلبثنا مليا، فقال: ياعمر أتدرى من السائل؟ قلت الله ورسوله أعلم، قال: هذا جبرائيل أتاكم يعلمكم أمر دينكم" 1. أما الدعاء فيعرفه الشيخ فيقول: "وهو الطلب بياء النداء لأنه ينادى به القريب والبعيد وقد يستعمل في الاستغاثة، أو يأخذ أخواتها من حروف النداء، فإن العبادة اسم جنس، فأمر الله تعالى عباده أن يدعوه، ولا يدعوا معه غيره فقال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (غافر: 60) . ومن أدوية الهم والغم والحزن، التوسل في الدعاء بأحب الأشياء إلى   1 مؤلفات الشيخ، القسم االأول، العقيدة، ثلاثة الأصول ص 191-192. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 631 الله، وهو أسماؤه وصفاته، ومن أجمعها لمعاني الأسماء والصفات (الحي القيوم) 1. وقال تعالى في النهي عن دعاء غيره: {وأن المساجدَ لله فلا تَدعوا مَع الله أحْداً} (الجن: 18) . ومن الأدلة أيضا قوله تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (المؤمنون: 117) . وقوله تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} إلى قوله: {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} (الرعد: 14) . وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} (الأحقاف: 5، 6) . وقال تعالى: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} (الشعراء: 213) . وقال تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (يونس: 106-107) .   1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، مختصر زاد المعاد ص 310، والتفسير، البقرة ص 32، 33، 34، والأعراف ص 100، 98، 78. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 632 وعن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدعاء هو العبادة" ثم قرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} رواه أحمد وأبوداود والترمذي. قال ابن كثير بعد أن ساق هذا الحديث عن الإمام أحمد: "وهكذا رواه أصحاب السنن الترمذي والنسائي وابن ماجة وابن أبي حاتم وابن جريركلهم من حديث الأعمش به وقال الترمذي حسن صحيح ورواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن جرير أيضا من حديث شعبة عن منصور والأعمش كلاهما عن زر به وكذا رواه ابن يونس عن أسيد بن عاصم بن مهران حدثنا النعمان بن عبد السلام حدثنا سفيان الثوري عن منصورعن زر: [به] ، ورواه ابن حبان والحاكم في صحيحهما وقال الحاكم صحيح الإسناد1. وقد روى الترمذي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الدعاء مخ العبادة". قال الشيخ- قال العلقمي في شرح الجامع الصغير2 حديث "الدعاء مخ العبادة" قال شيخنا: قال في النهاية مخ الشيء خالصه، وإنما   1 تفسير القرآن العظيم لابن كثير، ج 4 ص 85. 2 العلقمي (897-969 هـ) هو محمد بن عبد الرحمن بن علي بن أبي بكر العلقمي القاهري الشافعي فقيه محدث تتلمذ لجلال الدين السيوطي ودرس بالأزهر ومن آثاره الكوكب المنير لشرح الجامع الصغير، المشار إليه في ثلاثة مجلدات طبع منها المجلد الأول- انظر: معجم المؤلفين ج1/ 144- كشف الظنون: 445، 560، الأعلام للزركلي 6/ 195، 196، شذرات الذهب 8/338 والكواكب السائرة 2/ 41وفهرس الفهارس 206. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 633 كان مخها لأمرين: أحدهما: أنه امتثال أمر الله تعالى حيث يقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} فهو محض العبادة وهو خالصها. الثاني: أنه إذا رأى نجاح الأمور من الله قطع أمله عما سواه ودعاه لحاجته وحده. وهذا هو أصل العبادة ولأن الغرض من العبادة الثواب عليها وهو المطلوب بالدعاء1. وقوله: الدعاء هو العبادة- قال شيخنا- قال: الطيبي- أتى بالخبر المعرف باللام ليدل على الحصر وأن العبادة ليست غير الدعاء- انتهى كلام العلقمي2. قال الشيخ: "إذا تقرر هذا، فنحن نعلم بالضرورة، أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمته أن يدعوا أحدا من الأموات، لا الأنبياء ولا الصالحين، ولا غيرهم بل نعلم أنه نهى عن هذه الأمور كلها وأن ذلك من الشرك الأكبر الذي حرمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وأورد الشيخ بعض الأدلة المتقدمة من القرآن ثم قال: وهذا من معنى: "لا إله إلا الله"3. ومن ذلك طلب الشفاعة، فلا   1 انظر: نص كلام ابن الأثير في النهاية في الجزء الرابع، باب الميم مع الخاء. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 16 ص 104- 105. 3 انظر: مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، ثلاثة الأصول ص 188. والرسالة السابقة، الأصل الجامع لعبادة الله وحده ص 379. والقسم الخامس، الشخصية رقم 16 ص 104- 105. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 634 تطلب الشفاعة من غير الله تعالى، لأن الشفاعة كلها له سبحانه- قال تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} (الزمر: 44) - ولا يشفع أحد في أحد إلا من بعد أن يأذن الله تعالى كما قال: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} (البقرة: 255) ، وكما قال: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} (الأنبياء: 28) ، والله لا يرتضى غير التوحيد لله بالعبادة. وحقيقة الشفاعة: أن الله سبحانه هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع، ليكرمه وينال المقام المحمود1. ودليل الاستعانة قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . وفى الحديث: "إذا استعنت فاستعن بالله"2. ومعنى الاستعانة في قوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} هو سؤال الإعانة من الله وهو التوكل والتبري من الحول والقوة فهي من نصف العبد، لأن الفاتحة   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، باب الشفاعة ص 52،53. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، ثلاثة الأصول- ص 188-189. والأصل الجامع لعبادة الله وحده ص 380. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 635 سبع آيات ثلاث ونصف لله، وثلاث ونصف للعبد، كما ورد في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يقول الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قال الله: حمدني عبدي- فإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قال الله: أثنى علي عبدي- فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قال الله: مجدني عبدني، فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قال الله: هذا بيني وبين عبد ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} قال الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل- انتهى الحديث1. وفعل السبب مع الاستعانة بالله من أكبر الأسباب في حصول المقصود ففى البسملة إذا قلت بسم الله فمعناها أدخل في هذا الأمر من قراءة أو دعاء أو غير ذلك باسم الله لا بحويى ولا بقوتي بل أفعل هذا الأمر مستعينا بالله متبركا باسمه تبارك وتعالى، هذا في كل أمر تسمي في أوله من أمر الدين أو أمر الدنيا فإذا أحضرت في نفسك أن دخولك في القراءة بالله مستعينا به متبرءا من الحول والقوة كان هذا أكبر الأسباب في حضور القلب، وطرد الموانع من كل خير ولذا كان أول اقرأ فيه الاستعانة   1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، الفاتحة ص 16 ص 8، والقسم الأول، العقيدة، بعض فوائد سورة الفاتحة ص 384. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 636 وأول المدثر فيه العبادة1. والاستعانة بالله من أدوية الكرب والهم والحزن2. ودليل التوكل قوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (المائدة: 23) وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (الطلاق: 3) . وقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (الأنفال: 2) . وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (الأنفال: 64) . وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال: "حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا له: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (آل عمران: 173) - رواه البخاري والنسائي. وهذه الأدلة قد عقد لها الشيخ باباً في كتاب التوحيد- وقال فيه مسائل: الأولى: أن التوكل من الفرائض. الثانية: أنه من شروط الإيمان.   1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، ص 9 وص 366. 2 المصدر السابق، مختصر زاد المعاد ص 308- 311. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 637 الثالثة: تفسير آية الأنفال. الرابعة: تفسير الآية في آخرها. الخامسة: تفسير آية الطلاق. السادسة: عظم شأن هذه الكلمة أنها قول إبراهيم ومحمد صلى الله عليه وسلم في الشدائد1. والله حقيق أن يتوكل عليه كل عاقل والتوكل لا يستقيم إلا خالصا2، والتوكل واليقين لا ينافي السبب وفعله، وقد غلط طائفتان في التوكل: إِحداهما: زعمت أن التوكل سبب مستقل، فعطلت الأسباب التى اقتضتها حكمة الله تعالى. والثانية: قامت بالأسباب وأعرضت عن التوكل3. ودليل الاستعاذة قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} إلى آخر السورة   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، كتاب التوحيد ص 93، 94 وانظر: ص 380. وانظر: القسم الرابع، التفسير ص 309، ص 331 وص 367 وص 369، ومختصر زاد المعاد ص 308- 311. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، الزمر ص 331، وانظر: القسم الأول، العقيدة، مسائل الجاهلية ص 352. 3 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسبر، يوسف ص 163 والقصص 283، مختصر زاد المعاد ص 127. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 638 و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} إلى آخر السورة. وعن خولة بنت حكيم قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من نزل منزلا، فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شرما خلق. لم يضره شيء حتى يرحل من منزله ذلك) رواه مسلم. قال الشيخ: "إِن العلماء يستدلون بالحديث على أن كلمات الله غير مخلوقة لأن الاستعاذة بالمخلوق شرك"1. ودليل الاستغاثة- قوله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} (الأنفال: 9) 2. وقوله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (يونس: 107) . وقوله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} (النمل: 62) .   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، ثلاثة الأصول ص 189 وص 380 وكتاب التوحيد باب من الشرك الاستعاذة بغير الله ص 41. ومؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير ص 9 وص 378، 379، 385. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، ثلاثة الأصول ص 189، والأصل الجامع لعبادة الله وحده ص 380. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 639 يقول الشيخ: إن الدعاء عام والاستغاثة خاصة1- أي أن الاستغاثة دعاء لكن عند الاضطرار والشدة. ويفعل السبب مع الاستغاثة بالله كما فعل موسى فيما ذكرالله عنه- فقال تعالى: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} 2 (القصص:21) . ودليل الذبح قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الأنعام: 163) . وقوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} . ومن السنة: "لعن الله من ذبح لغير الله" 3. ودليل النذر قوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} (الإنسان: 7) 4. وقوله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} (البقرة:270) .   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره ص 42-44. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، القصص ص 287. 3 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، كتاب التوحيد، باب ما جاء في من ذبح لغير الله ص 35،38،189 وص380. رواه مسلم 3/1567 والإمام أَحمد والنسائي. 4 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، ثلاثة الأصول ص 189، والأصل الجامع لعبادة الله وحده ص 380. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 640 وفى الصحيح عن عائشة رضى الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصى الله فلا يعصه". قال الشيخ: "فيه وجوب الوفاء بالنذر، وإذا ثبت كونه عبادة لله فصرفه إلى غيره شرك وقد ثبت أنه عبادة بمقتضى مشروعية الوفاء به- وقد بوب الشيخ لهذا بقوله: (باب من الشرك النذر لغير الله) 1. ودليل الخوف قوله تعالى: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 2 (آل عمران: 175) . فإِخلاص الخوف لله من الفرائض، ومن فعله له ثواب عظيم، ومن تركه له عقاب كبير- كما في حديث عائشة رضى الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من التمس رضى الله بسخط الناس رضى الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأَسخط عليه الناس" رواه ابن حبان في صحيحه. ذكر الشيخ هذا الحديث تحت باب قوله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 3 لكن هناك خوف غير مذموم مثل ما حكاه الله عن موسى: {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ} .   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول كتاب التوحيد، باب من الشرك النذر لغير الله ص 40. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، ثلاثة الأصول 189، والأصل الجامع ص 380-381. 3 المصدر السابق، كتاب التوحيد ص91، 92. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 641 وإن مما يخاف منه على المؤمن الاتكال على سعة رحمة الله من قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ: "لا تبشرهم فيتكلوا" متفق عليه1. ولابد من لزوم الخوف من الله وعدم الأمن حتى البشرى عند الموت من الملائكة2. فإن إبراهيم وإسماعيل طلبا من الله أن يرزقهما الإسلام في قوله تعالى عنهما: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} (البقرة: 128) ، والغفلة عن هذا من العجائب، وطلبا من الله أن يتوب عليهما وهما هما ففى ذلك خوفهما من الذنوب3. ودليل الرجاء- قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} (الكهف: 110) 4. ومن أنواع العبادة الهجرة والتوبة5. والدليل على أن الهجرة فريضة على هذه الأمة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام وأنها باقية إلى أن تقوم الساعة- قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ   1 المصدر السابق، القسم الأول ص 9، 10. 2 المصدر السابق، القسم الرابع، التفسير، ص 84، 85 وص 11 وص 286-287. 3 المصدر السابق، ص 32، 33. 4 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، ثلاثة الأصول ص 189 والأصل الجامع ص 380-381 والقسم الرابع، التفسير ص 370. 5 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، مختصر زاد المعاد ص 308-310. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 642 الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} (النساء: 97-99) . وقوله تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} (العنكبوت:56) . يقول الشيخ: قال البغوى- رحمه الله تعالى- سبب نزول هذه الآية في المسلمين الذين بمكة لم يهاجروا ناداهم الله باسم الإيمان. والدليل على الهجرة من السنة قوله صلى الله عليه وسلم: " لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها" 1. والجهاد في سبيل الله من أفضل العبادة، وذروة سنام الإسلام وفق منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . (البقرة: 218) 2.   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، ثلاثة الأصول ص 193 وص 358، 359 والقسم الرابع، مختصر زاد المعاد ص 211، والقسم الثالث، مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ص 35. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، ثلاثة الأصول ص 196، التوحيد ص 101، 142 - 143، مفيد المستفيد ص 284، والقسم الرابع، مختصر زاد المعاد ص 158-284. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 643 ومن أنواع العبادة زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم - قال ما معناه: "وزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم حسب المشروع من أفضل الأعمال" 1. وعلى العموم فالشيخ يرى أن زيارة القبور مستحبة ويعني بها الزيارة المشروعة ومن غير شد رحل لذلك وهي: التى شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعلها فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزور قبور أصحابه للدعاء لهم والاستغفار لهم وهذه هى الزيارة التى سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرهم إذا زاروها أن يقولوا: "السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية"، وكان يقول صلى الله عليه وسلم ويفعل عند زيارتها من جنس ما يقوله عند الصلاة على الميت وأمر بزيارة القبور من أجل تذكر الآخرة ودعاء للميت وهذا هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم هدي توحيد وإيمان وإحسان إلى الميت، فأبى المشركون إلا دعاء الميت والإشراك به وسؤاله الحوائج والاستعانة به والتوجه إليه تحريا للإجابة عنده مما هو عكس هديه صلى الله عليه وسلم 2. ودليل الإنابة قوله تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} 3 (الزمر: 54) . ودليل الرغبة والرهبة والخشوع قوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، التوحيد ص 67. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، مختصر زاد المعاد ص 68. 3 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، الأصل الجامع لعبادة الله وحده ص 380. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 644 الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} (الأنبياء:90) . وقوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً} (آل عمران: 199) . ودليل الخشية قوله تعالى: {فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} (البقرة: 150) . وقوله تعالى: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} (المائدة: 44) 1- وخشية الله جامعة للدين كله2. ودليل التأله قوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (البقرة: 163) . ودليل الركوع والسجود- قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 3 (الحج: 77) . وغير ذلك من أنواع العبادة التي شرع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وهي كثيرة لكن يجمعها شرع الله لرسوله صلى الله عليه وسلم فشرع الله جامع مانع. جامع: لكل أنواع العبادة الموصلة إلى رضوان الله تعالى.   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، الأصل الجامع ص 380- 381. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير ص 377. 3 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، الأصل الجامع، ص 380- 381 وثلاثة الأصول ص 189. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 645 مانع: من دخول شيء خارج عن الشريعة مما يحبه الله ويرضاه فالعبادة كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة. قال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين في تعريف العبادة في الشرع اختلفت عباراتهم والمعنى واحد، فعرفها طائفة- بقولهم: هي ما أمر به شرعا من غير اطراد عرفي ولا اقتضاء عقلي، وعرفها طائافة بأنها كمال الحب مع كمال الخضوع. وقال أبو العباس- رحمه الله تعالى: "هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، فالصلاة والزكاة والحج وصدق الحديث وأداء الأمانة وبر الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهد والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وجهاد الكفار والمنافقين والإِحسان إلى الجار واليتيم والمسكين والمملوك من الآدميين والبهائم والدعاء والذكر والقراءة وأمثال ذلك من العبادة، وكذلك حب الله ورسوله وخشية الله والإنابة إليه وإِخلاص الدين له والصبر لحكمه والشكر لنعمته والرضا بقضائه والتوكل عليه والرجاء لرحمته والخوف من عذابه وأمثال ذلك فالدين كله داخل في العبادة. انتهى1.   1 الدرر السنية، ط 2، ج2 ص138-139. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 646 الخلاصة أن جميع أنواع العبادة وأَفرادها موضحة في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تحتاج إلى زيادة ولا نقصان، كما قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} . فكل اعتقاد أو قول أو عمل ثبت أنه مأمور به من الشارع، أو مدحه الشارع أو أثنى علىمن قام به فهو عبادة وقربة، وكل أمر ثبت النهي عنه من الشارع، أو ذمه الشارع أو ذم من قام به فإِن الانتهاء عنه وتركه، والبعد عنه عبادة أيضا وقربة، وطاعة الله في جميع ذلك هي توحيد وإيمان وعبادة واخلاص، وصرفه أو صرف نوع منه أو فرد من أفراده لغير الله شرك وكفر1، فإِن الجامع لعبادة الله وحده طاعته بامتثال أوامره واجتناب مناهيه وهي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة وهي حق الله تعالى على عباده يختص بها دون غيره ولا يجوز أن يشاركه فيها لا ملك مقرب ولا نبي مرسل فضلا عن غيرهما. فمن صرف شيثا من أنواع العبادة لغير الله تعالى فقد اتخذه ربا وإلها وأشرك مع الله غيره، وصرف شيء من أنواع العبادة لغير الله كصرف   1 انظر: قول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي في حد الشرك في تعليقته على كتاب التوحيد المسمى القول السديد ص 52، 53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 647 جميعها، لأنه سبحانه أغنى الشركاء عن الشرك ولا يقبل من العبادة ما لم يكن خالصا له- كما قال تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} . وبذلك ينتهى هذا الفصل، الذي هو تفصيل للركن الأول، وهو الإيمان بالله تعالى، من أركان الإيمان الستة. وقد ذكرنا مجمل اعتقاد الشيخ في تلك الأركان في الفصل الذي قبله. ويلاحظ أن كثرة ما كتبناه من عقيدة الشيخ هو في التوحيد لاسيما توحيد الألوهية حتى إِننا نرى في كل آثار الشيخ وإِن تطرقت إلى سائر فنون العلم ترابطا ينظمه توحيد الألوهية وتنبثق هذه الآثار من توحيد الألوهية، المبني على الكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح. وذلك أن الشيخ قد تفاعل مع حاجة أهل عصره، ولبى ما يقتضيه الواجب الإِلهي نحو مجتمعه، فهو عالم رباني، وطبيب داء الجهل الذي أصيب به الناس في زمانه فسارع بمهارة في تشخيص دائه وتركيب دوائه، وأجاد- رحمه الله في ذلك وحاز مقام الرباني- كما قال الإمام ابن قيم الجوزية: فالوحي كاف للذي يعنى به ... شاف لداء جهالة الإنسان وتفاوت العلماء في أفهامهم ... للوحي فوق تفاوت الأبدان والجهل داء قاتل وشفاؤه ... أمران في التركيب متفقان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 648 نص من القرآن أو من سنة ... وطبيب ذاك العالم الرباني1 ولذا فقد وجدنا تفصيلا من عقيدته في التوحيد خصوصا توحيد الألوهية، وهو داخل في الإِيمان بالله، الركن الأول من أركان الإيمان، أما بقية أركان الإيمان ومباحثه، فلم نجد للشيخ تفصيلا فيه كما وجدناه له في التوحيد، ولذلك نكتفي بما تقدم ذكره في مجمل عقيدته في ذلك. وننتقل من عرض العقيدة إلى جانب الدفاع عنها والتحذير من نواقضها وهو ما يتضمنه الفصل التالي: في التحذير من نواقض عقيدة السلف الصالح أو نواقض كمالها فإلى ذلك وبالله التوفيق، ولا حول ولا قوة إلا به.   1 القصيدة النونية للإمام ابن قيم الجوزية، فصل في بيان الاستغناء بالوحي المنزل من السماء عن تقليد الرجال والآراء ص 189. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 649 المجلد الثاني تابع (الباب الأول) : خلاصة كتاب عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية الفصل الرابع: في التحذير من نقيض عقيدة السلف الصالح أو نقيض كمالها ... الفصل الرابع: في التحذير من نقيض عقيدة السلف الصالح أو نقيض كمالها لما كانت الفصول المتقدمة، هي في عقيدة الشيخ، التي هي عقيدة السلف الصالح، ناسب أن نتبعها بفصل يتضمن التحذير من ما يناقض عقيدتهم، أو يناقض كمالها وينقصه، ببيان ذلك المناقض. وهذا أمر عظيم يستحق الاهتمام، ولذا كان جانبا بنَّاءً من عقيدة الشيخ- رحمه الله تعالى- كيف لا؟. وهو بيان ما ينقض البنيان من أساسه للحذر منه والتحرز عنه قال الله تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً ... } الآية (النحل:92) . وما من شك أن بيان النواقض للإيمان أو لكماله للحذر منها من الأمور البناءة لأنها حماية للبناء أن ينهدم، قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: "كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني"1. ولذا فالشيخ يحذر من نواقض الإيمان ومبطلاته ويبينها ويبعدها عن   1 صحيح البخاري، ج8 كتاب الفتن، باب كيف الأمر إذا لم تكن جماعة، ص 92، 93. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 663 المسلمين ويبعد المسلمين عنها بكل ما استطاع. ولقد اهتم بذلك أيما اهتمام، حتى كاد أن يستأثر هذا الجانب بكل همته، كما كاد أن يستأثر بالواقع، في بداية الإِصلاح، ولأن مشكلة العالم الإسلامي تكمن في هذه الناحية، وكيد الشيطان يتركز على هذا الجانب، حيث يكيد للمسلم، ويزين له ما يحبط عمله ويفسده، ثم بعد ذلك يصل الشيطان إلى غرضه، فلا يضيره كثرة عمل المسلم وضخامته مادام أنه على شيء يناقضه ويفسده، ولذا فالشيخ رحمه الله كرس جهودا عظيمة في بيان هذه النقطة التي هي مفرق الطريق، ومنها يتميزالمسلم المستقيم الثابت من الذي ينقض دينه، سواء علم أو لم يعلم. ولئن كان أبو حيان قد أصاب في مدحه ابن تيمية بقوله: لما أتانا تقيُّ الدينِ لاحَ لنَا ... داعٍ إلى اللهِ فَرْدٌ ما له وَزَرُ عَلى محياه منْ سيما الأُلى صَحِبوا ... خيرَ البريَّةِ نُورٌ دونهُ القَمَرُ حَبْر تَسربل مِنه دهْرهُ حِبر ... بحرٌ تقاذفُ منْ أَمواجهِ الدُّررُ قامَ ابن تَيمية في نصْر شِرعتِنَا ... مقامَ سَيدِ تَيمٍ إذْ عصتْ مُضَرُ وأَظهرَ الحقَّ إذ آثارهُ اندرَستْ ... وأخمدَ الشرَّ إذْ طارتْ لَهُ شَررُ1 فإن من يصف الشيخ محمد بن عبد الوهاب بهذا الوصف، يصيب أيما إصابة حيث إِنه رحمه الله قد أظهر الحق، اذ اندرست آثاره، وأخمد   1 عن الدرر الكامنة، في أعيان المئة الثامنة، تأليف الحافظ أحمد بن حجر العسقلاني، ج1ص 152. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 664 الشر بعد أن طار شرره، وقام مقام سيد تيم، أبي بكر رضي الله عنه لما ارتد غالب العرب، وعصوا من بعد ما سمعوا، ونقضوا غزلهم، وأفسدوا صلاحهم وأبطلوا أعمالهم، ففسدت قوتهم العلمية والعملية. كما سبق أن بينا ذلك في وصف البيئة التي ظهر عليها الشيخ رحمه الله1. فكان الشيخ يركز دفاعه على الاحتراز من إِفساد هاتين القوتين، القوة العلمية والقوة العملية. يقول- رحمه الله- في استنباطه من قول الله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} (يوسف: 105،106) يقول فيها: أن الذي أتاهم من الآيات ليست هذه وحدها (يعني قصة يوسف) بل كم وكم من آية من الآيات السماوية والأرضية يمرون عليها، ويعرضون عن الانتفاع بها، وليس هذا قصورا في البيان، فانه مشاهد، بل القلوب غير قابلة. وفيها: المسألة العظيمة، وهي إِخباره تبارك وتعالى أن أكثر هذا الخلق، لو آمن أفسد إيمانه بالشرك، فهذه فساد القوة العملية، والتي قبلها فساد القوة العلمية. وفيها: التنبيه على الاحتراز من اجتماع الإيمان مع الشرك المفسد له خصوصا لما ذكر أن هذا حال الجمهور2. هذا وقد بلغت آيات القرآن الكريم التي فيها لفظة الشرك وما   1 انظر: (1/37) وما بعدها من هذا البحث. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير، ص 177-178. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 665 تصرف منها في الحكم على الشرك وأهله حسب استقرائي ما يقارب مائة وخمسا وستين آية ما عدا الآيات الأخرى التي فيها ذم له بغير لفظه، أما الأحاديث الصحيحة من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكثيرة جداً. إذاً فلا غرابة إذا كثرت ألفاظ الشرك في التحذير عنه وذمه وذم أهله، والبراءة منه ومن أهله في أعمال الشيخ ومؤلفاته1. ذلك أن الشرك أعظم مفسد للعلم والعمل المبتغى بهما رضوان الله والسعادة وليس أضر على الإنسان من إِفساد عمله وعلمه، ولذا كان من أشد الناس خسرانا من اتصف بالناصية الكاذبة الخاطئة. ويقول الشيخ: قوله تعالى: {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} فيه الجمع بين الكذب والخطأ في وصف هذه الناصية فدل على وصفه بفساد القول والعمل2. فما من شك أن الاهتمام بهذا الجانب لاجتناب الفساد حق. فلنبدأ بنواقض الإسلام نبينها لتعرف فتجنب. يقول الشيخ: اعلم أن نواقض الإسلام عشرة نواقض: الأول: الشرك في عبادة الله تعالى، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ   1 انظر: مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، ثلاثة الأصول، كشف الشبهات، ومفيد المستفيد، والقواعد الأربع، والأصل الجامع وغيرهما. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير ص 372. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 666 ِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (النساء. رقم 48 ورقم 116) . وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} (المائدة: 72) . ومنه الذبح لغير الله كمن يذبح للجن أو للقبر. وفي كتاب التوحيد عقد الشيخ بابا في ذلك: هو باب ما جاء في الذبح لغير الله تعالى وأورد تحته أدلة منها قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (الأنعام: 162-163) وقوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (الكوثر: 2) . وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات: لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من لعن والديه، لعن الله من آوى محدثا، لعن الله من غير منار الأرض" رواه مسلم من طرق بمعنى ما ذكره المصنف وفيه قصة، ورواه الإمام أحمد كذلك1. وقال الشيخ فيه تفسير: {إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي} وتفسير {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} والبداء بلعنة من ذبح لغير الله2.   1 تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد ص 156، 157.وانظر: صحيح مسلم، ج3 ص 1567. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، ص 35، 36. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 667 ويقول الشيخ سليمان في تيسير العزيز الحميد "قال النووي: المراد به أن يذبح باسم غير الله تعالى، كمن يذبح للصنم أو للصليب أو لموسى أو لعيسى صلى الله عليهما وسلم أو للكعبة ونحو ذلك، فكل هذا حرام، ولا تحل هذه الذبيحة سواء كان الذابح مسلما أو نصرانيا أو يهوديا، نص عليه الشافعي، واتفق عليه أصحابنا، فان قصد مع ذلك تعظيم المذبوح له غير الله تعالى والعبادة له، كان ذلك كفرا، فإن كان الذابح مسلما قبل ذلك صار بالذبح مرتدا. ذكره في "شرح مسلم"1 ونقله غير واحد من الشافعية وغيرهم2. قال الشيخ: وقال أبو العباس رحمه الله في كتاب "اقتضاء الصراط المستقيم" في الكلام على قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} ظاهره: أنه ما ذبح لغير الله سواء لفظ به أو لم يلفظ وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه النصراني للحم وقال فيه باسم المسيح ونحوه، كما أن ما ذبحناه نحن متقربين به إلى الله سبحانه كان أزكى مما ذبحناه للحم وقلنا عليه بسم الله فإن عبادة الله سبحانه بالصلاة له والنسك له أعظم من الاستعانة باسمه في فواتح الأمور. والعبادة لغير الله أعظم كفرا من الاستعانة بغير الله. فلو ذبح لغير الله متقربا به إليه لحرم، وإن قال فيه بسم الله كما قد يفعله   1 صحيح مسلم بشرح النووي ج13 ص 141. 2 تيسير العزيز الحميد ص 157. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 668 طائفة من منافقي هذه الأمة وإن كان هؤلاء مرتدين لا تباح ذبائحهم بحال، لكن يجتمع في الذبيحة مانعان، ومن هذا ما يفعل بمكة وغيرها من الذبح للجن1 انتهى. قال الشيخ معلقا: فانظر أرشدك الله إلى تكفيره من ذبح لغير الله من هذه الأمة وتصريحه أن المنافق يصير مرتدا بذلك، وهذا في المعين، إذ لا يتصور أن تحرم إلا ذبيحة معين2. ويذكر الشيخ في جوابه لمن سأله عن الذبح للجن، أن العلماء صرحوا أن الذبح للجن ردة تخرج من الملة، وقالوا: الذبيحة حرام ولو سمى عليها، قالوا: لأنها يجتمع فيها مانعان: الأول: أنها مما أهل به لغير الله. والثاني: أنها ذبيحة مرتد، والمرتد لا تحل ذبيحته وإن ذبحها للأكل وسمى الله عليها، وقول العلماء إنه منهي عنها أو حرام أو مكروهة أو لا تنبغي، ألفاظ عامة، تستعمل في المكفرات والمحرمات التي هي دون الكفر وفي المكروهات كراهة التنزيه التي هي دون الحرام، ومثال استعمالها في المكفرات- قوله: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً} وقولهم: "لا تنبغي العبادة إلا لله وحده"، وقوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} . قال الشيخ: " وكلام العلماء لا ينحصر في قولهم: " يحرم كذا " لما   1 انظر: اقتضاء الصراط المستقيم، ص 259. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، مفيد المستفيد ص 285، 286. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 669 صرحوا في مواضع أخرى أنه كفر، وقولهم: "يكره " لما هو كفركقوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (الإسراء 23) إلى قوله: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} (الإسراء: 38) . وأما كلام الإمام أحمد في قوله: "أكره كذا" فهو عند أصحابه على التحريم. والمقصود من هذا هو إزالة شبهة أو ردها السائل وهي أن قول العلماء: الذبح للجن منهي عنه أو محرم هل يفهم من قولهم هذا أنه دون الكفروالشرك الأكبر لأن هذا القول ليس صريحا بأنه شرك؟. وقد جادل بهذه الشبهة على أقوال العلماء تلك مجادلون رد عليهم الشيخ بمثل ما قدمت عنه وكشف الشبهة وبين حكم الذبح لغير الله وأنه شرك أكبر. الثاني: من نواقض الإسلام: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم الشفاعة ويتوكل عليهم كفر إجماعا. وسئل الشيخ عن قوله في الإقناع باب حكم المرتد: "أو جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم ويدعوهم ويسألهم كفر إجماعا"1. فأجاب بقوله: وكذلك أي يكفر من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم ويتوكل عليهم إجماعا، وذكروا أن هذا بعينه هو الذي يفعله أهل زمانهم عند القبور، فكيف بزماننا؟ يبينه لك قول الشارح، لما   1 الإِقناع في فقه الإمام أحمد لأبي النجا موسى الحجاوي، ج4 ص 297. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 670 ذكر هذا وذكر بعده أنواعا من الكفر المخرج عن الملة، قال: وقد عمت البلوى بهذه الفرق، وأفسدوا كثيرا من عقائد أهل التوحيد، نسأل الله العفو والعافية.. انتهى كلامه في شرح الإقناع1،2. الثالث: من نواقض الإسلام: من لم يكفر المشركين أو شك في كفرهم أو صحح مذهبهم كفر. الرابع: من نواقض الإسلام: من اعتقد أن غير هدي النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه، أو أن حكم غيره أحسن من حكمه، كالذي يفضل حكم الطواغيت على حكمه فهو كافر. الخامس: من نواقض الإسلام: من أبغض شيئا مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولو عمل به كفر إجماعا والدليل- قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} . وقد سئل الشيخ عن معنى قوله في باب حكم المرتد من كتاب الإقناع، في الفقه الحنبلي: "أو كان مبغضا لما جاء به الرسول اتفاقا"3.   1 كشف القناع عن متن الإِقناع للبهوتي، ج 6 ص 170. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الثالث، الفتاوى رقم 14 ص 62، 63. 3 انظر: الإِقناع في فقه الإمام أحمد، لأبي النجا موسى الحجاوي، ط، مصطفى محمد، ج4 ص 297. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 671 فأجاب الشيخ: إن معناه إذا كان مبغضا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وإن لم يشرك بالله، لكن أبغض السؤال عنه ودعوة الناس إليه، كما هوحال من يدعي العلم ويقرر أنه دين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويبغضونه أكثر من بغض دين اليهود والنصارى، بل يعادون من التفت إليه، ويحلون دمه وماله، ويرمونه عند الحكام. وكذلك يقرون أن الرسول صلى الله عليه وسلم أتى بالإنذار عن الشرك، بل هو أول من أنذر عنه وأعظم ما أنذر عنه، ثم يقولون: "خلق الله ما يتيهون، وينصرون الشرك بالقلب واللسان واليد". والتكفير بالاتفاق فيمن أبغض النهي عن الشرك وأبغض الأمر بمعاداة أهله، ولو لم يتكلم ولم ينصر، فكيف إذا فعل ما فعل1. السادس: من نواقض الإسلام: من استهزأ بشيء من دين الرسول صلى الله عليه وسلم، أو ثواب الله، أو عقابه، كفر - والدليل- قوله تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} (التوبة: 66) . وقال الشيخ في كتاب التوحيد، باب من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول صلى الله عليه وسلم. وقول الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} (التوبة: 65) .   1 مؤلفات الشيخ، القسم الثالث، الفتاوى رقم 14 ص 62. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 672 وعن ابن عمر، ومحمد بن كعب، وزيد بن أسلم، وقتادة- دخل حديث بعضهم في بعض- أنه قال رجل في غزوة تبوك: "ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا، ولا أكذب ألسنا، ولا أجبن عند اللقاء، يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه القراء. فقال عوف بن مالك: كذبت، ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذهب عوف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره، فوجد القرآن قد سبقه. فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ارتحل وركب ناقته، فقال يارسول الله، إنما كنا نخوض ونتحدث حديث الركب، نقطع به عنا الطريق. قال ابن عمر: كأني أنظر إليه، متعلقا بنسعة ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الحجارة تنكب رجليه، وهو يقول: إنما كنا نخوض ونلعب فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} ما يلتفت إليه، وما يزيده عليه". يقول الشيخ سليمان في تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد: "هذا الأثر ذكره المصنف مجموعا من رواية ابن عمر، ومحمد بن كعب، وزيد بن أسلم، وقتادة وقد ذكره قبله كذلك شيخ الإسلام. فأما أثر ابن عمر فرواه ابن جرير1، وابن أبي حاتم، وغيرهما بنحو مما ذكر المصنف. وأما أثر محمد بن كعب، وزيد بن أسلم وقتادة فهي معروفة   1 ج 10 ص 172،173. من تفسير ابن جرير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 673 لكن بغير هذا اللفظ"1. قال الشيخ: فيه مسائل: الأولى: وهي العظيمة- أن من هزل بهذا: أَنه كافر. الثانية: أن هذا هو تفسير الآية فيمن فعل ذلك كائنا من كان2. وقد سئل الشيخ عن قول مؤلف الإقناع في الفقه الحنبلي في باب حكم المرتد "أو استهزأ بالله أو كتبه أو رسله أو أتى بقول أو فعل صريح في الاستهزاء بالدين.. كفر"3 ما وصف هذا الاستهزاء المكفر؟ فأجاب: بأن العلماء استدلوا عليها بقوله تعالى في حق بعض الناس في غزوة تبوك {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} (التوبة: 65) . قال الشيخ: فذكر السلف والخلف أن معناها عام إلى يوم القيامة فيمن استهزأ بالله أو القرآن أو الرسول صلى الله عليه وسلم. وصفة كلامهم: أنهم قالوا: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا ولا أكذب ألسنا ولا أجبن عند اللقاء. يعنون بذلك رسول الله والعلماء من أصحابه، فلما نقل الكلام عوف بن مالك، أتى القائل يعتذر، أنه قاله على وجه اللعب كما يفعل المسافرون فنزل الوحي أن هذا كفر بعد الإيمان، ولو كان على وجه المزح. والذي يعتذر يظن أن الكفر إذا قاله   1 تيسير العزيز الحميد، ص 555-556. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، ص 117-118. 3 الإِقناع في فقه الإمام أحمد لأبي النجا موسى الحجاوي، ج4 ص 297. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 674 جادا لا لاعبا. وهذا قول صريح في الاستهزاء بالدين. إذا فهمت أن هذا هو الاستهزاء فكثير من الناس يتكلم في الله عز وجل، بالكلام الفاحش عند وقوع المصائب، على وجه الجد وأنه لا يستحق هذا، وأنه ليس بأكبر الناس ذنبا. وكذلك من يدعي العلم والفقه- إذ أستدللنا عليه بآيات الله- أظهر الإستهزاء1 وأما صفة الاستهزاء الفعلي فمثل مد الشفة واخراج اللسان أورمز العين، مما يفعله كثير من الناس، عندما يؤمر بالصلاة والزكاة، فكيف بالتوحيد2. ويقول الشيخ في ملخصه عن ابن تيمية في الآية: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} (التوبة: 65) : "الآية تدل على أن الاستهزاء بالله كفر، وبآياته كفر، وبالرسول كفر، من جهة الاستهزاء بالله وحده كفر بالضرورة فلم يكن ذكر الآيات والرسول شرطا، فعلم أن الاستهزاء بالرسول كفر، وإلا لم يكن لذكره فائدة، وكذلك الآيات، وأيضا فالاستهزاء بهذه الأمور متلازم"3.   1 مؤلفات الشيخ، القسم الثالث، الفتاوى ص 61، 62، 65. 2 المصدر السابق ص 65. 3 مؤلفات الشيخ، ملحق المصنفات، مسائل ملخصة رقم 110 ص 104-106. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 675 السابع: من نواقض الإسلام: السحر، ومنه الصرف والعطف، فمن فعله أو رضي به كفر. والدليل قوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} (البقرة: 102) . الثامن: من نواقض الإسلام: مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين- والدليل- قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (المائدة: 51) . التاسع: من نواقض الإسلام: من اعتقد أن بعض الناس يسعه الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى عليه السلام فهو كافر. العاشر: من نواقض الإسلام: الإعراض عن دين الله تعالى لا يتعلمه ولا يعمل به- والدليل- قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} (السجدة: 22) . وهذه النواقض التي ذكرها الشيخ هي مسألة التكفير لخصها الشيخ من كلام العلماء، قال الشيخ: "وذكر (أي الشيخ أبو النجا مؤلف الإقناع) في الإقناع إجماع المذاهب كلها على ذلك"1.   1 انظر: الإِقناع باب حكم المرتد، ج4 ص 297-308. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 676 ثم قال: "فإن كان عند أحد كلمة تخالف ما ذكروه في مذهب من المذاهب فيذكرها وجزاه الله خيرا"1 والغالب أنه ليس عند أحد علم يخالف ما ذكروه وإنما العناد. فيقول الشيخ: "وإن كان يبغي يعاند كلام الله، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلام العلماء، ولا يصغي لهذا أبدا فاعرفوا أن هذا الرجل معاند ما هو بطالب حق، وقد قال الله تعالى: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (آل عمران: 80) . ثم يبين الشيخ أن هؤلاء الذين يعتذرون بالتكفير ليس لأنه مشكل عليهم تكفير أناس بأعيانهم قد اشتبه أمرهم بل إذا تأمل المتأمل أحوالهم يجد أن هؤلاء أعداء للموحدين، يبغضونهم ويستثقلونهم، والمشركين والمنافقين هم ربعهم الذين يستأنسون إليهم كما جرى من رجال في الدرعية وفي العيينة الذين ارتدوا وأبغضوا الدين2. ثم يقول الشيخ بعد أن أورد النواقض العشرة: "ولا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازل والجاد والخائف، إلا المكره. وكلها من أعظم ما يكون خطرا، ومن أكثر ما يكون وقوعا. فينبغى للمسلم أن يحذرها ويخاف منها على نفسه"3.   1 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 32 ص 212. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 32 ص 212. 3 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، نواقض الإسلام، ص 385-387. والقسم الخامس، الشخصية رقم 32 ص 212-214، والدرر السنية، ج 8 ص 89، 90 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 677 ويقرر الشيخ أنها تقع من المعينين وممكن أن يرتد المسلم ويكفر بعد إسلامه والعياذ بالله من ذلك، فقد عرف المرتد في باب حكم المرتد بأنه المسلم الذي يكفر بعد إسلامه1، فهذا يفيد الحذر والخوف والاستعاذة بالله. وقد بين الشيخ لرجل من أهل الإحساء استشكل تكفير المعين لأنه يقول لا إله إلا الله وإن عبد الأوثان مع هذا عبادة أكبر من عبادة اللات والعزى وسب دين الرسول صلى الله عليه وسلم بعدما شهد به مثل سب أبي جهل. فالشيخ يبين له أحكام هذه المسألة من كلام أهل العلم المتقدمين والمتأخرين فيقول مخاطبا هذا المستشكل: "فأول ما أنصحك به أنك تفكر هل هذا الشرك الذي عندكم هو الشرك الذي ظهر نبيك صلى الله عليه وسلم ينهى عنه أهل مكة، أو شرك أهل مكة نوع آخر أغلظ منه أم هذا أغلظ؟ فإذا أحكمت المسألة، وعرفت أن غالب من عندكم سمع الآيات، وسمع كلام أهل العلم، من المتقدمين والمتأخرين، وأقر به، وقال أشهد أن هذا هو الحق ونعرفه قبل ابن عبد الوهاب، ثم بعد ذلك يصرح بمسبة ما شهد أنه الحق، ويصرح بحسن الشرك واتباعه وعدم البراءة من أهله، فتفكر هل هذه المسألة إلا مسألة الردة الصريحة التي   1 الإِقناع ج 4 ص 297. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 678 ذكرها أهل العلم في الردة؟ ولكن العجب من دلائلك التي ذكرت كأنها أتت ممن لايسمع ولا يبصر. أما استدلالك بترك النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده تكفير المنافقين وقتلهم فقد عرفه الخاص والعام ببديهة العقل أنهم لو يظهرون بكلمة واحدة أو فعلا واحدا من عبادة الأوثان أو مسبة التوحيد الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم أنهم يقتلون شر قتلة، فإن كنت تزعم أن الذين عندكم أظهروا اتباع الدين الذي تشهد أنه دين الرسول صلى الله عليه وسلم، وتبرؤا من الشرك بالقول والفعل، ولم يبق إلا أشياء خفية تظهر على صفحات الوجه أو فلتة لسان في السر، وقد تابوا من دينهم الأول، وقتلوا الطواغيت وهدموا البيوت المعبودة فقل لي، وإن كنت تزعم أن الشرك الذي خرج عليه الرسول صلى الله عليه وسلم أكبر من هذا فقل لي؟ وان كنت تزعم أن الإنسان إذا أظهر الإسلام لا يكفرإذا أظهرعبادة الأوثان، وزعم أنها الدين وأظهر سب دين الأنبياء وسماه دين أهل العارض وأفتى بقتل من أخلص لله الدين واحراقه وحل ماله فهذه مسألتك، وقد قررتها وذكرت أن من زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا لم يقتلوا أحدا ولم يكفروه من أهل الملة، أما ذكرت قول الله تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ... } إلى قوله: {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً} (الأحزاب: 60، 61) . وقوله: {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا ... } الآية (النساء: 91) . واذكر قوله في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 679 الاعتقاد في الأنبياء: {أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (آل عمران: 80) . واذكر ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أشخص رجلاً معه الراية إلى من تزوج امرأة أبيه ليقتله ويأخذ ماله فأي هذين أعظم؟ تزوج امرأة الأب أو سب دين الأنبياء بعد معرفته، واذكر أنه هم بغزو بني المصطلق لما قيل انهم منعوا الزكاة حتى كذب الله من نقل ذلك. واذكر قوله في أعبد هذه الأمة وأشدهم اجتهادا "لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم يوم القيامة". واذكر قتال الصديق وأصحابه مانعي الزكاة وسبي ذراريهم وغنيمة أموالهم. واذكر إِجماع الصحابة على قتل أهل مسجد الكوفة وكفرهم وردتهم لما قالوا كلمة في تقرير نبوة مسيلمة، ولكن الصحابة اختلفوا في قبول توبتهم لما تابوا والمسألة في صحيح البخاري وشرحه في الكفالة1. واذكر إِجماع الصحابة لما استفتاهم عمر على أن من زعم أن الخمر تحل للخواص مستدلا بقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} (المائدة: 93) مع كونه من أهل بدر، وأجمع الصحابة على كفر من اعتقد في علي مثل اعتقاد هؤلاء في عبد القادر وردتههم وقتلهم، فأحرقهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهم أحياء فخالفه ابن عباس   1 صحيح البخاري، ج3 ك/ الكفالة، ب1ص 56. وانظر فتح الباري 4 / 470. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 680 في الإِحراق وقال: يقتلون بالسيف، مع كونهم من أهل القرن الأول أخذوا العلم عن الصحابة. واذكر إِجماع أهل العلم من التابعين وغيرهم على قتل الجعد بن درهم، قال ابن القيم: شكر الضحية كل صاحب سنة لله درك من أخي قربان قال الشيخ: ولو ذهبنا نعدد من كفره العلماء مع ادعائه الإسلام وأفتوا بردته وقتله لطال الكلام، لكن من آخرما جرى قصة بني عبيد ملوك مصر، وطائفتهم وهم يدعون أنهم من أهل البيت، ويصلون الجمعة والجماعة ونصبوا القضاة والمفتين، أجمع العلماء على كفرهم وردتهم وقتالهم وأن بلادهم بلاد حرب يجب قتالهم. واذكر كلامه في الإقناع وشرحه في الردة كيف ذكروا أنواعا كثيرة موجودة عندكم، ثم قال منصور: وقد عمت البلوى بهذه الفرق وأفسدوا كثيراً من عقائد أهل التوحيد نسأل الله العفو والعافية. هذا لفظه بحروفه، ثم ذكر قتل الواحد منهم وحكم ماله1. هل قال واحد من هؤلاء الصحابه (أو أحد من العلماء) إلى زمن منصور إن هؤلاء يكفر أنواعهم لا أعيانهم؟.   1 انظر: الإِقناع ج4 ص 297-308 وكشاف القناع عن متن الإِقناع لمنصور البهوتي فرغ من تأليفه سنة 1046 والمتوفى سنة 1051هـ ج6 ص 167-187. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 681 ثم أخذ الشيخ يبين عبارة شيخ الإسلام ابن تيمية في تكفير المعين فيقول: "وأما عبارة الشيخ التي لبسوا بها عليك فهي أغلظ من هذا كله ولو نقول بها لكفرنا كثيرا من المشاهير بأعيانهم فإنه صرح فيها بأن المعين لا يكفر إلا إذا قامت عليه الحجة. ثم أخذ الشيخ يقرر معنى قيام الحجة وأن معناها أن المعين إن عرف الحق وخالف كفر بعينه، وإلا لم يكفر- ثم أخذ الشيخ يذكر له من كلام شيخ الاسلام ابن تيمية ما يصدق هذا من اقتضاء الصراط المستقيم وغيره1. وكما بينا في منهج الشيخ أنه يعتبر قيام الحجة وبلوغها فمن لم تبلغه الحجة وتقوم عليه فإنه لا يكفره2. وقد سئل الشيخ عن قوله في الإقناع: "أو نطق بكلمة كفر ولم يعلم معناها فلا يكفر بذلك" 3. هل المعنى: نطق بها ولم يعرف شرحها أو نطق بها ولم يعلم أنها تكفره؟. فأجاب الشيخ: بأنه إذا نطق بكلمة الكفر ولم يعلم معناها صريح واضح أنه يكون نطق بما لا يعرف معناه، أي فلا يكفر- وأما كونه لا   1 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 33 ص 216-224. 2 انظر: (1/328- 329) من هذا البحث. 3 انظر الإِقناع ج 4 ص 297. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 682 يعرف أنها تكفره يعني إذا نطق بكلمة الكفر التي يعرف أنها كفر، لكن يظن أنه إذا نطق بالكفر، هازلا أو مازحا أو يريد مصلحة من المصالح الدنيوية أن هذا لا يكفره. قال الشيخ: فيكفي فيه قوله: {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} ، فهم يعتذرون للنبي صلى الله عليه وسلم ظانين أنهم حين يقولونها على وجه اللعب أنها لا تكفرهم- ثم أورد الشيخ أدلة توضح هذه النقطة وهي قوله تعالى: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} (الكهف: 104) . وقوله تعالى: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} (الأعراف: 35) . وقوله تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} (الزخرف: 37) 1. وهؤلاء الذين ذكرهم الله في هذه الآيات الكريمة كفار مع أنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ويحسبون أنهم مهتدون. وكما ذكرنا في منهج الشيخ- أن الشيخ يفرق بين الكفر المخرج من الملة والكفر الذي لا يخرج من الملة. وقد سئل الشيخ عن قولهم: "ومن أطلق الشارع كفره كدعواهم لغير أبيهم إلى آخره، فللعلماء فيه أقوال أيها أقرب إلى الصواب؟ فأجاب: أن من أطلق الشارع كفره بالذنوب فالراجح فيها قولان: أحدهما: ما عليه الجمهور أنه لا يخرج من الملة. والثاني: الوقف كما قال الإمام أحمد: أمروها كما جاءت يعني لا   1 مؤلفات الشيخ، القسم الثالث، الفتاوى ص 58 وص 65، 66. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 683 يقال يخرج ولا ما يخرج وما سوى هذين القولين غير صحيح1. وإذا تأملنا هذه النواقض نجد أَنها تدور على الشهادتين شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأن من ارتكب ناقضا منها فهو إما لأنه جنى على الألوهية فأشرك بالله تعالى وإما لأنه جنى على النبوة، وإما لأنه جنى عليهما معا غير أن المشكلة التي واجهها الشيخ محمد بن عبد الوهاب هي الجناية على الألوهية بالشرك، لذا فسيكون بيان الشرك أهم ما في هذا الفصل وأوسعه. أما تعريف الشرك ما هو؟ فيعرفه الشيخ رحمه الله بقوله: "هو أن يدعو مع الله غيره، أو يقصده بغير ذلك من أنواع العبادة التي أمر الله بها". فمن صرف شيئا من أنواع العبادة لغير الله تعالى أو قصد غير الله بشيء من أنواع العبادة فقد اتخذ هذا الغير رباً وإلها من دون الله تعالى وأشرك مع الله غيره الشرك الأكبر الذي نهى عنه وأنكره على المشركين وأخبر أنه لا يغفره فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (النساء: 48، 116) . وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} (المائدة: 72) 2.   1 مؤلفات الشيخ، القسم الثالث، الفتاوى ص 58، 66. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، ثلاثة الأصول ص 186 والأصل الجامع لعبادة الله وحده ص 381. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 684 ويقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن في قرة عيون الموحدين ما مضمونه: إن صرف القصد بالعبادة لغير الله شرك بالله لالتفاته في التعبد إلى غيره تعالى فيما يرغب فيه أو يرهب، وكل هذه الأبواب التي ذكرها المصنف رحمه الله تعالى تدل على أن من أشرك مع الله غيره بالقصد والطلب فقد خالف ما نفته (لا إله إلا الله) وعكس مدلولها فأثبت ما نفته ونفى ما أثبته من التوحيد1. فصرف أي نوع من أنواع العبادة التي أمرالله بها عن طريق رسوله محمد صلى الله عليه وسلم يعتبر شركاً بالله تعالى. وصرف شيء من العبادة لغير الله كصرف مجموعها لأن الله سبحانه أغنى الشركاء عن الشرك ولا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا- كما قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (الزمر: 2، 3) . أما صفة إِشراك المشركين فيقول عنها الشيخ2: واعلم أن   1 قرة عيون الموحدين، باب من الشرك: النذر لغير الله، ص 67 ط السلفية بمصر، ضمن مجموعة التوحيد. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير ص 318، والقسم الخامس، الشخصية رقم 17 ص 111، 112. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 685 المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم صفة إِشراكهم أنهم يدعون الله ويدعون معه الأصنام والصالحين، مثل عيسى وأمه والملائكة، يقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله وهم يقرون أن الله سبحانه هو النافع الضار المدبر، كما ذكر الله عنهم في قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} (يونس: 31) . فإذا عرفت هذا- وعرفت أن دعوتهم الصالحين وتعلقهم عليهم أنهم يقولون ما نريد إلا الشفاعة. وأن النبي صلى الله عليه وسلم قاتلهم ليخلصوا الدعوة لله ويكون الدين كله لله. وعرفت أن ذلك هو الشرك بالله الذي لا يغفر لمن فعله، وهو عند الله أعظم من الزنا وقتل النفس، مع أن صاحبه يريد به التقرب من الله، ثم مع هذا عرفت أمرا آخر وهو أن أكثر الناس ما عرف هذا، منهم الذين يسمونهم العلماء في سدير والوشم وغيرهم إذا قالوا نحن موحدون الله نعرف ما ينفع ولا يضر إلا الله، وأن الصالحين لا ينفعون ولا يضرون، وعرفت أنهم لا يعرفون إلا توحيد الكفار، توحيد الربوبية، عرفت كبر نعمة الله عليك، خصوصا إذا عرفت أن الذي يواجه الله وهو لا يعرف التوحيد أو عرفه ولم يعمل به أنه خالد في النار ولو كان من أعبد الناس- الجزء: 2 ¦ الصفحة: 686 كما قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} 1 (المائدة: 72) . وقال الشيخ في تلخيصه عن ابن تيمية: والمشركون يزعمون أن عبادتهم إما واجبة وإما مستحبة، ثم منهم من عبد غير الله فيتقرب به إلى الله، ومنهم من ابتدع دينا عبد به الله كما أحدثه النصارى من العبادات، وأصل الضلال في الأرض إنما نشأ من هذين إما اتخاذ دين لم يشرعه الله أو تحريم ما لم يحرمه، ولهذا كان الأصل الذي بنى عليه أحمد وغيره مذهبهم أن الأعمال عبادات وعادات فالأصل في العبادات أن لا يشرع منها إلا ما شرعه الله، والأصل في العادات أن لا يحظر منها إلا ما حظره الله، وهذه المواسم المحدثة إنما نهى عنها لما أحدث فيها من الدين الذي يتقرب به إلى الله2. ويذكر الشيخ من مسائل الجاهلية: أنهم يتعبدون بإشراك الصالحين في دعاء الله وعبادته يريدون شفاعتهم عند الله لظنهم أن الله يحب ذلك وأن الصالحين يحبونه- كما قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} . وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} وهذه أعظم مسألة خالفهم فيها رسول   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، الرسالة الثالثة عشرة ص 399. 2 مؤلفات الشيخ، ملحق المصنفات، مسائل ملخصة رقم 100 ص 93، 94. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 687 الله صلى الله عليه وسلم 1. ويقرر الشيخ في القواعد الأربع الأمر الذي صار به الكفار الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مشركين مع أنهم مقرون بأن الله تعالى هو الخالق المدبر، ولكن ذلك لم يدخلهم في الإسلام لجحدهم توحيد الله بالألوهية- ويستدل بقول الله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} (يونس: 31) . وأن هؤلاء المشركين يقولون: ما دعوناهم وتوجهنا إليهم إلا لطلب القربة والشفاعة والدليل على قولهم هذا- قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (الزمر: 3) - هذا دليل القربة، أما دليل الشفاعة فقوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} (يونس:18) . ثم إن هؤلاء المشركين متفرقون في عبادتهم منهم من يعبد الملائكة، ومنهم من يعبد الأنبياء والصالحين، ومنهم من يعبد الأشجار والأحجار، ومنهم من يعبد الشمس والقمر. وقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفرق بينهم والدليل قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} (البقرة:193) .   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، مسائل الجاهلية ص 334. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 688 والدليل على عبادتهم الشمس والقمر قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (فصلت: 37) . والدليل على عبادتهم الملائكة قوله تعالى: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً} (آل عمران: 80) . ودليل عبادتهم الأنبياء- قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} (المائدة: 116) . ودليل عبادتهم الصالحين- قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} (الإِسراء: 57) . ودليل عبادتهم الأشجار والأحجار- قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} . وحديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه قال: "خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا: يارسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط " الحديث، قال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 689 الشيخ: رواه الترمذي وصححه وهو كما قال1. ويقول الشيخ في تفسير كلمة التوحيد: "ولنختم الكلام بآية ذكرها الله تعالى في كتابه تبين لك أن كفر المشركين من أهل زماننا أعظم من كفر الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْأِنْسَانُ كَفُوراً} (الإِسراء: 67) . فقد ذكر الله عن الكفار أنهم إذا مسهم الضر تركوا السادة والمشائخ فلم يدعوا أحدا منهم ولم يستغيثوا به، بل يخلصون لله وحده لا شريك له ويستغيثون به وحده فإذا جاء الرخاء أشركوا وأنت ترى المشركين من أهل زماننا- ولعل بعضهم- يدعي أنه من أهل العلم وفيه زهد واجتهاد وعبادة- إذا مسه الضر قام يستغيث بغير الله مثل معروف أوعبد القادر الجيلاني وأجل من هؤلاء مثل زيد بن الخطاب والزبير وأجل من هؤلاء مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم فالله المستعان، وأعظم من ذلك وأطم أنهم يستغيثون بالطواغيت والكفرة والمردة2. وبعد مقارنة أحوال مشركي زمان الشيخ بأحوال مشركي الجاهلية الأولى يقول الشيخ: "إن مشركي زماننا أغلظ شركا من الأولين، لأن الأولين يشركون في الرخاء ويخلصون في الشدة، ومشركو زماننا شركهم   1 انظر: تصحيح الترمذي في أعلا صحائف تحفة الأحوذي ج6 ص 407-408. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، التفسير كلمة التوحيد ص 367-369. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 690 دائم في الرخاء والشدة". ويدلل أيضا على أن شرك الأولين أخف- بقوله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} (العنكبوت: 65) أما المشركون في زمان الشيخ فشركهم يكون دائما في الرخاء والشدة ودليله الواقع المشهود1. والذين قاتلهم الرسول صلى الله عليه وسلم أصح عقولا وأخف شركا من هؤلاء2. وخلاصة ما تقدم من تعريف للشرك هو: أن يصرف شيء من أنواع العبادة لغير الله تعالى طلبا للزلفى عند الله. وهذه نظرة المشركين إلى شركهم أنه عبادة لله تعالى وقربة إليه، ولذا كان أشبه بهم أهل البدع الذين يتعبدون لله بالبدع، والشرك أكبر البدع في العبادة. أما حكم الشرك فإنه أعظم ما نهى الله عنه في مثل قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} (النساء: 36) . وغير ذلك من الآيات الكثيرة. والشرك أول المحرمات كما قال الله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} الآيات (الأنعام: 151-153) 3.   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، القواعد الأربع، ص 199-202. 2 المصدر السابق، كشف الشبهات ص 171. 3 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، التوحيد ص 8، 9. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 691 والله سبحانه يقرن بين الشرك والكذب كما يقرن بين الصدق والاخلاص ولهذا في الصحيح عدلت شهادة الزور الاشراك بالله ثم قرأ قوله: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} (الحج:30- 31) . وقال: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} (القصص: 74، 75) إلى قوله: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} . وقوله: {أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} (الصافات: 87) . وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (الزمر: 3) . وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ} الآية (الاعراف: 152) . قال أبو قلابه: هي لكل مبتدع من هذه الأمة إلى يوم القيامة، وكل من كان أقرب إلى الشرك كان أقرب إلى الكذب كالرافضة الذين هم أكذب طوائف أهل الأهواء وأعظمهم شركا1. وينقسم الشرك إلى: أكبر وأصغر. فالأكبر مخرج من الملة- والأصغر لا يخرج من الملة2. وقد مثل الشيخ للشرك الأصغر فقال: كيسير الرياء والحلف بغير الله   1 مؤلفات الشيخ، ملحق المصنفات، مسائل ملخصة رقم 99 ص 91، 92. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد، ص 28 وص 33 وص 86 وص 110 وص 113 وص 123 ومفيد المستفيد ص 295. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 692 وقول هذا من الله ومنك وأنا بالله وبك وما لى إلا الله وأنت وأنا متوكل على الله وعليك ولولا أنت لم يكن كذا وكذا. قال الشيخ: وقد يكون هذا شركا أكبر بحسب حال قائله ومقصده1. ويمثل الشيخ للشرك الأكبر بطلب الحوائج من الموتى ودعائهم لذلك، والنذر لهم ليشفعوا عند الله لداعيهم والناذرلهم. ويقول الشيخ: عن هذا إنه الشرك الأكبر الذي بعث الله النبي محمدا صلى الله عليه وسلم بالنهي عنه فكفر من لم يتب منه وقاتله وعاداه ثم يشير إلى ما ذكر في الإقناع عن الشيخ تقي الدين أن من دعا علي بن أبي طالب فهو كافر، وأن من شك في كفره فهو كافر. ويقول الشيخ: "فإذا كان هذا حال من شك في كفره مع عداوته له ومقته له فكيف بمن يعتقد أنه مسلم ولم يعاده؟ فكيف بمن أحبه؟ فكيف بمن جادل عنه وعن طريقته وتعذر أنا لا نقدر على التجارة أوطلب الرزق إلا بذلك2. ويقول الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي- رحمه الله تعالى- في كتابه "القول السديد على مقاصد التوحيد": "حد الشرك الأكبر وتفسيره الذي يجمع أنواعه وأفراده أن يصرف العبد نوعا أو فردا من أفراد العبادة   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، مفيد المستفيد ص 295. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، مفيد المستفيد ص 296-297. والدرر السنية ج 2 ص 4- 5. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 693 لغير الله " فكل اعتقاد أو قول أو عمل ثبت أنه مأمور به من الشارع فصرفه لله وحده توحيد وإيمان وإخلاص وصرفه لغيره شرك وكفر، فعليك بهذا الضابط للشرك الأكبر الذي لا يشذ عنه شيء. كما أن حد الشرك الأصغر هو: كل وسيلة وذريعة يتطرق منها إلى الشرك الأكبر من الإرادات والأقوال والأفعال التي لم تبلغ رتبة العبادة، فعليك بهذين الضابطين للشرك الأكبر والأصغر، فإنه مما يعينك على فهم الأبواب السابقة واللاحقة من هذا الكتاب10 "يعني كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب". وفي كتاب التوحيد عقد الشيخ أبوابا كثيرة في بيان أشياء من أفراد الشرك بنوعيه الأكبر والأصغر مما ينافي التوحيد أو ينافي كماله وهي كما يلي: باب من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه2. وباب ما جاء في الرقى والتمائم3. وباب من تبرك بشجرة أوحجر ونحوهما4. وباب ما جاء في الذبح لغير الله 5.   1 القول السديد في مقاصد التوحيد ص 52،53. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد ص 27-28. 3 المصدر السابق ص 29-31. 4 المصدر السابق ص 32-34. 5 المصدر السابق ص 35-37. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 694 وباب من الشرك: النذر لغير الله 1. وباب من الشرك: الاستعاذة بغير الله 2. وباب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره3. وباب ما جاء في السحر4. وباب بيان شيء من أنواع السحر5. ووجه إِدخالهما في ذلك أن كثيرا من أقسام السحر لا يتأتى إلا بالشرك والتوسل بالأرواح الشيطانية إلى مقاصد الساحر. فالسحر يدخل في الشرك من جهتين: من جهة ما فيه من استخدام الشياطين ومن التعلق بهم وربما تقرب إليهم بما يحبون والشرك مما يحبون فيتقرب به إليهم ليقوموا بخدمته ومطلوبه، ومن جهة ما فيه من دعوى علم الغيب ودعوى مشاركة الله في علمه وسلوك الطرق المفضية إلى ذلك وهذا من شعب الشرك6.   1 المصدر السابق ص 40. 2 المصدر السابق ص 41. 3 المصدر السابق ص 42-44. 4 المصد ر السابق ص 72-73. 5 المصدر السابق ص 74- 75. 6 القول السديد في مقاصد التوحيد للشيخ عبد الرحمن بن سعدي ص 93- 95. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 695 وباب ما جاء في الكهان ونحوهم1. وباب ما جاء في النشرة2. وهي حل السحر بسحرمثله. وباب ما جاء في التطير3، وهو التشاؤم بالطيور والأسماء والألفاظ والبقاع وغيرها. وباب ما جاء في التنجيم4، وهو زعم تأثير الأحوال الفلكية في الحوادث الكونية. وباب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء5. أي نسبة السقي ومجيء المطر إليها. وباب قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} (البقرة: 165) 6. فاتخاذ الأنداد التي تجذب بمحبتها عن محبة الله من الشرك. وباب قول الله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد ص76-78. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول العقيدة، كتاب التوحيد ص 79-80. 3 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد ص 81-83. 4 المصدر السابق ص 84. 5 المصدر السابق ص 85-87. 6 المصدر السابق ص 88-90. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 696 كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (آل عمران: 175) 1. فخوف العبادة من غير الله تعالى من الشرك. وباب قول الله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} 2 (الاعرأف: 99) . وقوله: {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} (الحجر: 56) . فالأمن من مكر الله أو القنوط من رحمة الله من شعب الشرك. وباب ما جاء في الرياء3. وباب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا4. وباب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرم الله فقد اتخذهم أربابا من دون الله5. وباب قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} الآية6. لأن الله تعالى له الحكم القدري، وله الحكم الشرعي، وكذلك الحكم الجزائي له وحده   1 المصدر السابق ص 91-92. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد ص 81-83. 3 المصدر السابق ص 98-99. 4 المصدرالسابق ص100- 101. 5 المصدر السابق ص 102-103. 6 المصدر السابق ص 104- 105. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 697 لا شريك له، فاذا قدم العبد طاعة الأمراء والعلماء على طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وتحاكم إلى الطاغوت وترك التحاكم إلى شريعة الله، فهذا من شعب الشرك1. ومن أفراد الشرك أو من أفراد أبوابه ووسائله التي عقد الشيخ لها أبوابا في كتابه كتاب التوحيد، باب من جحد شيئا من الأسماء والصفات2. فذلك من شعب الكفر ونسبته إلى غير الله من الشرك كما قالوا: لا نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة3. وباب قول الله تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} 4 (النحل: 83) . فإِنكار نعمة الله بعد معرفتها هو بنسبتها إلى غيره وهذا من الشرك. وباب قول الله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 5 (البقرة: 22) . فجعل الأنداد من الشرك. وباب ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله وذكر تحته النهي عن الحلف بغير الله كالحلف بالآباء ونحو ذلك6.   1 انظر: القول السديد في مقاصد التوحيد ص 130-134. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، كتاب التوحيد ص 106-107. 3 انظر: تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد للشيخ سليمان 511،512. 4 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، كتاب التوحيد ص 108. 5 المصدر السابق ص 109-110. 6 المصدرالسابق ص 111. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 698 وباب قول ما شاء الله وشئت1. وباب من سب الدهر فقد آذى الله2، لأن الله يقلب الليل والنهار. وباب التسمي بقاضي القضاة ونحوه) 3. وباب من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول صلى الله عليه وسلم 4 وباب قول الله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} 5 أي فيمن يزعم أن ما أوتيه من النعم والرزق إنما هو بكده وحذقه وفطنته. وباب قول الله تعالى: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} 6 (الأعراف: 190) - أي يسمونه باسم معبد لغير الله تعالى. وباب قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي   1 المصدر السابق ص 112-113. 2 المصدر السابق ص 114. 3 المصد ر السابق ص 115. 4 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد ص117-118. 5 المصدر السابق ص 119-121. 6 المصدر السابق ص 122-123. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 699 أَسْمَائِهِ} (الأعراف: 180) . والمقصود الذين يلحدون في أسمائه أي يشركون1. وباب لا يقال السلام على الله2 لأن الله هو السلام. وباب قول: اللهم اغفر لي إن شئت3، لأن الله لا مكره له. وباب لا يقول: عبدي وأمتي4. للبعد عن الألفاظ التي فيها إيهام التشريك. وباب لا يرد من سأل بالله5. وباب لا يسأل بوجه الله إلا الجنة6. فإن رد من سأل بالله والسؤال بوجه الله غير الجنة ترك لتعظيم الرب إلى تعظيم من سواه بغير إِذنه. وباب ما جاء في اللو7،لأن لو تفتح عمل الشيطان.   1 المصدر السابق ص 124. 2 المصدر السابق ص 124. 3 المصدر السابق ص126. 4 المصدر السابق ص 127. 5 المصدر السابق ص 128. 6 المصدر السابق ص 129. 7 المصد ر السابق ص 130-131. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 700 وباب النهي عن سب الريح1، لأنها مأمورة فيستعاذ بالله من شر ما أمرت به. وباب قول الله تعالى: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ} 2 الآية (آل عمران: 154) - لأنهم لم يوحدوا الله توحيد المعرفة والإِثبات في الأسماء والصفات. وباب ما جاء في منكري القدر3. وباب ما جاء في المصورين4، الذين يضاهئون بخلق الله. وباب ما جاء في كثرة الحلف5، لأن كثرته من غير داع شرعي استخفاف بحق الله تعالى. وباب ما جاء في: "ذمة الله وذمة نبيه صلى الله عليه وسلم " 6 لأن نقضها ترك لتعظيم الله من أجل غيره. وباب ما جاء في الإِقسام على الله7.   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد ص 132. 2 المصد ر السابق ص 133-134. 3 المصدر السابق ص 135-137. 4 المصدر السابق ص 138-139. 5 المصد ر السابق ص 140-141. 6 المصد ر السابق ص 142-143. 7 المصد ر السابق ص 144. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 701 وباب لا يستشفع بالله على خلقه1، لأن في الإقسام والتألي على الله أن لا يغفر لفلان وفي الاستشفاع بالله على خلقه سوء أدب. فالأول: من العجب بالنفس- والثاني: من تعظيم غير الله- وهذان من شعب الشرك. وباب ما جاء في قول الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} 2 ومن أشرك لم يقدر الله حق قدره. ولهذا الشرك أسباب ووسائل يبينها الشيخ رحمه الله ويهتم ببيانها للحذر منها وقد عقد في ذلك أبوابا في كتاب التوحيد أيضا وهي: باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين3. وباب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانا تعبد من دون الله 4. وباب ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح، فكيف إِذا عبده؟ 5.   1 المصد ر السابق ص 145. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد ص 148-151. 3 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة ص 56-59. 4 المصدر السابق ص 64- 65. 5 المصدر السابق ص 60-63. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 702 وباب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما1. (أي باب ما جاء فيمن تبرك) . وباب لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله2. وباب ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد وسده كل طريق يوصل إلى الشرك3. ويقصد بهذا الباب حماية- التوحيد من جانب الأعمال. وباب آخر يشبهه في العنوان وهو: باب ما جاء في حماية النبي صلى الله عليه وسلم التوحيد وسده طرق الشرك 4، ويقصد بهذا الباب حماية التوحيد من جانب الألفاظ والأقوال. وعن أسباب الشرك أيضا فالشيخ يبينها في مثل استنباطه من قول الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (الزمر: 67) . قال الشيخ في هذه الآية: التنبيه على سبب الشرك وهو أن المشرك بان له شيء من جلالة الأنبياء والصالحين، ولم يعرف الله سبحانه وتعالى،   1 المصدر السابق ص 32-34. 2 المصدر السابق ص 38-39. 3 المصدر السابق ص 66-67. 4 المصدر السابق ص 146-147. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 703 وإلا لو عرفه لكفاه وشفاه عن المخلوق وهذا معنى قوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} الآية1. ويقول الشيخ في بيانه سبب الشرك: "لأن الناس يعرفون الرجل الصالح وبركته ودعاءه فيعكفون على قبره ويقصدون ذلك فتارة يسألونه وتارة يسألون الله عنده. وتارة يصلون ويدعون الله عند قبره، ولما كان هذا بدء الشرك سد النبي صلى الله عليه وسلم هذا الباب. ففي الصحيحين أنه قَال في مرض موته " لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذر ما صنعوا2الخ. وسيأتي هذا الحديث للاستدلال به وبغيره من الأدلة على أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد سد أبواب الشرك. وقال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: "والغلو في الصالحين لا شك أنه هو الباب المفضي إلى الشرك قديما وحديثا. فالغلو فيهم هو مجاوزة الحد بأن يجعل للصالحين من حقوق الله الخاصة به شيء، فإن حق الله الَّذي لايشاركه فيه مشارك، هو الكمال المطلق، والغنى المطلق، والتصرف المطلق، من جميع الوجوه، وأنه لا يستحق العبادة والتأله أحد سواه.   1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير ص 345، 346. 2 الدرر السنية، ط 2، ج 2 ص 5. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 704 فمن غلا بأحد من المخلوقين حتى جعل له نصيبا من هذه الأشياء فقد ساوى به رب العالمين، وذلك أعظم الشرك. ومن رفع أحداً من الصالحين فوق منزلته التي أنزله الله بها فقد غلا فيه، وذلك وسيلة إلى الشرك وترك الدين. والناس في معاملة الصالحين ثلاثة أقسام: 1- أهل الجفاء الَّذين يهضمونهم حقوقهم ولا يقومون بحقهم من الحب والموالاة لهم والتوقير والتبجيل. 2- وأهل الغلو الَّذين يرفعونهم فوق منزلتهم التي أنزلهم الله بها. 3- وأهل الحق الَّذين يحبونهم ويوالونهم ويقومون بحقوقهم الحقيقية ولكنهم يبرأون من الغلو فيهم وادعاء عصمتهم. 4- والصالحون أيضا يتبرأون من أن يدعو لأنفسهم حقا من حقوق ربهم الخاصة، كما قَال الله عن عيسى صلى الله عليه وسلم: {سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} . واعلم أن الحقوق ثلاثة: حق خاص لله لا يشاركه فيه مشارك وهو التأله له وعبادته وحده لا شريك له، والرغبة والإِنابة إليه حبا وخوفا ورجاء. وحق خاص للرسل وهو توقيرهم وتبجيلهم والقيام بحقوقهم الخاصة. وحق مشترك وهو الإيمان بالله ورسله وطاعة الله ورسله، ومحبة الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 705 ومحبة رسله، ولكن هذه لله أصلا وللرسل تبعا لحق الله. فأهل الرسل يعرفون الفرقان بين هذه الحقوق الثلاثة فيقومون بعبودية الله وإِخلاص الدين له ويقومون بحق رسله وأوليائه على اختلاف منازلهم ومراتبهم.. والله أعلم"1. وأورد الشيخ تحت باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين، أدلة مناسبة من الكتاب والسنة، مثل قول الله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} (النساء: 171) . واختصر الشيخ ما في صحيح البخاري: عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} (نوح: 23) . قال: "هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا، وسموها بأسمائهم، ففعلوا، ولم تعبد، حتى اذا هلك أولئك ونُسي العلم عبدت". ثم يقول الشيخ: وقال ابن القيم: قال غير واحد من السلف: "لما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم".   1 القول السديد في مقاصد التوحيد للشيخ عبد الرحمن بن سعدي، المطبوع بهامش كتاب التوحيد ص 75-79. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 706 ويسوق الشيخ حديثا عن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم. إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله" أخرجه البخاري في صحيحه1. ثم ذكر الشيخ رحمه الله تعالى حديثا عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو". رواه أحمد في المسند (ج1 ص 215 وص 347) . ولمسلم عن ابن مسعود: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هلك المتنطعون قالها ثلاثا". يقول الشيخ فيه: أن من فهم هذا الباب وبابين بعده ويعني بهما باب ما جاء في التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبده؟، وباب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانا تعبد من دون الله. قال الشيخ: من فهم هذه الأبواب الثلاثة تبين له غربة الإسلام، ورأى من قدرة الله، وتقليبه للقلوب العجب. وفيه معرفة أول شرك حدث في الأرض: أنه بشبهة الصالحين. وأول شيء غير به دين الأنبياء، وسبب ذلك مع معرفة أن الله أرسلهم. وفيه قبول الناس البدع، مع كون الشرائع والفطر تردها. وأن سبب   1 وهو الحديث الخامس عشر من عشرين حديثا من صحيح البخاري، قام بدراسة أسانيدها الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد مع شرح متونها، (عشرون حديثا ... ص 169) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 707 ذلك كله مزج الحق بالباطل، فالأول: محبة الصالحين. والثاني: فعل أناس من أهل العلم شيئا أرادوا به خيرا، فظن من بعدهم أنهم أرادوا به غيره. وفيه تفسير الآية التي في سورة نوح وبيان جبلة الآدمي، في كون الحق ينقص في قلبه والباطل يزيد. وفيه شاهد لما نقل عن السلف أن البدع سبب الكفر. وفيه بيان سبب محبة الشيطان للبدعة لمعرفته بما تؤول إليه، ولوحسن قصد الفاعل. وفيه معرفة القاعدة الكلية، وهي النهي عن الغلو ومعرفة ما يؤول إليه. وفيه مضرة العكوف على القبر لأجل عمل صالح. ومعرفة النهي عن التماثيل والحكمة في إزالتها. ومعرفة شأن هذه القصة وشدة الحاجة إليها مع الغفلة عنها. وفيه فائدة وهي أعجب وأعجب: قراءة بعض أهل الزمان هذه المسألة إياها في كتب التفسير والحديث، ومعرفتهم بمعنى الكلام، وكون الله حال بينهم وبين قلوبهم حتى اعتقدوا أن فعل قوم نوح أفضل العبادات، واعتقدوا أن نهي الله ورسوله هو الكفر المبيح للدم والمال. وفيه التصريح بأن هؤلاء الذين دعوا صور الصالحين لم يريدوا إلا الشفاعة من الصالحين وظنهم أن الناس الذين صوروا الصور أرادوا ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 708 وفيه: البيان العظيم في قوله: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم" فصلوات الله وسلامه على من بلغ البلاغ المبين. ونصيحته إيانا بهلاك المتنطعين. والتصريح بأنها لم تعبد حتى نسي العلم، ففيها بيان معرفة قدر وجوده، ومضرة فقده. وأن سبب فقد العلم موت العلماء1. وتحت باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانا تعبد من دون الله أورد الشيخ أن مالكاً روى في الموطأ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد. اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". ولابن جرير بسنده عن سفيان عن منصورعن مجاهد: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} (النجم: 19) - قال: كان يلت لهم السويق فمات فعكفوا على قبره". وكذا قال أبو الجوزاء عن ابن عباس كان يلت السويق للحاج. ويقول الشيخ في ملخصه عن ابن تيمية: سبب عبادة اللات تعظيم قبر رجل صالح وهذه هي العلة في تغليظه صلى الله عليه وسلم في النهي عن اتخاذ قبور الصالحين مساجد، ونهيه عن الصلاة في المقبرة وقد نبه عليها بقوله: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد" وقد ذكرهذه العلة   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد ص 56-59، وانظر: تيسير العزيز الحميد في شرح التوحيد ص 270-272،275. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 709 الشافعي، وأبو بكر الأثرم، وغيرهما من العلماء، وهي التي أوقعت كثيراً من الأمم إِما في الشرك الأكبر أو ما دونه، فإِن الشرك بقبر الذي يعتقد نبوته أو صلاحه أعظم من أن يشرك بخشبة أو حجر على تمثاله، ولهذا نجد قوما كثيراً يتضرعون عندها، ويتعبدون بقلوبهم عبادة لا يعبدونها في المسجد ولا في السحر، فهذه المفسدة هي التي حسم صلى الله عليه وسلم مادتها حتى نهى عن الصلاة في المقبرة مطلقا، وإِن لم يقصد بركة البقعة، كما يقصد بركة المساجد الثلاثة، كما نهى عن الصلاة وقت الطلوع والغروب والاستواء، لأنها الأوقات التي يقصد المشركون بركة الصلاة للشمس فيها فنهى المسلم عن الصلاة حينئذ، وإن لم يقصد ذلك الوقت سدا للذريعة فأما إذا قصد الصلاة عند قبور الصالحين متبركاً فهذا عين المحادة لله ورسوله، والمخالفة لدينه وابتداع دين لم يأذن الله به، فنهى صلى الله عليه وسلم من اتخاذها مساجد، وعن الصلاة عندها، وعن اتخاذها عيدا، ودعا الله أن لا يجعل قبره وثنا يعبد واتخاذ المكان عيدا هو اعتياد إِتيانه لعبادة أو غيرها، وتقدم النهى الخاص عن الصلاة عندها وإليها، وذكرنا ما في دعاء المرء لنفسه من الفرق بين قصدها لأجل الدعاء والدعاء ضمنا وتبعا1. وينقل الشيخ عن شيخ الإسلام ابن تيمية قوله:" وكانت الطواغيت الكبار التي تشد إليها الرحال ثلاثة: اللات   1 مؤلفات الشيخ، ملحق المصنفات، مسائل ملخصة رقم 98 ص 90، 91. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 710 والعزى ومناة وكل واحد منها لمصر من أمصار العرب فكانت اللات لأهل الطائف ذكروا أنه كان في الأصل رجلاً صالحا يلت السويق للحجاج فلما مات عكفوا على قبره. وأما العزى فكانت لأهل مكة قريباً من عرفات وكانت هناك شجرة يذبحون عندها ويدعون. وأما مناة فكانت لأهل المدينة وكانت حذو قديد من ناحية الساحل. ومن أراد أن يعلم كيف كانت أحوال المشركين في عبادتهم الأوثان ويعرفه حقيقة الشرك الذي ذمه الله وأنواعه حتى يتبين له تأويل القرآن فلينظر إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأحوال العرب في زمانه وما ذكره الأزرقي في أخبار مكة وغيره من العلماء ولما كان للمشركين شجرة يعلقون عليها أسلحتهم ويسمونها ذات أنواط فقال بعض الناس يارسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال: الله أكبر إِنها السنن لتركبن سنن من كان قبلكم فأنكر صلى الله عليه وسلم مجرد مشابهتهم للكفار في اتخاذ شجرة يعكفون عليها معلقين عليها أسلحتهم فكيف بما هو أطم من ذلك من الشرك بعينه إلى أن قال: "فمن ذلك عدة أمكنة بدمشق" مثل مسجد يقال له مسجد الكف. فيه تمثال كف يقال إنه كف علي بن أبي طالب حتى هدم الله ذلك الوثن وهذه الأمكنة كثيرة موجودة في البلاد وفي الحجاز منها مواضع ثم ذكر كلاما طويلاً في نهيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة عند القبور فقال: العلة لما يفضي إليه ذلك من الشرك ذكر ذلك الشافعي وغيره وكذلك الأئمة من أصحاب مالك وأحمد كأبي بكر الأثرم وعللوا بهذه العلة وقد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 711 قال تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} الآية. ذكر ابن عباس وغيره من السلف أن هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم. ذكر هذا البخاري في صحيحه وأهل التفسير كابن جرير وغيره مما يبين صحة هذه العلة أنه لعن من يتخذ قبور الأنبياء مساجد. ومعلوم أن قبور الأنبياء لا يكون ترابها نجسا وقال عن نفسه: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد" فعلم أن نهيه عن ذلك كنهيه عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها سدا للذريعة لئلا يصلي في هذه الساعة وإن كان المصلي لا يصلي إلا لله ولا يدعو إلا الله لئلا يفضي ذلك إلى دعائها والصلاة لها. وكلا الأمرين قد وقع. فإِن من الناس من يسجد للشمس وغيرها من الكواكب ويدعوها بأنواع الأدعية. وهذا من أعظم أسباب الشرك الذي ضل به كثير من الأولين والآخرين حتى شاع ذلك في كثير ممن ينتسب إلى الإسلام وصنف بعض المشهورين فيه كتاباً على مذهب المشركين مثل أبي معشر البلخي وثابت بن قرة وأمثالهما ممن دخل في الشرك وآمن بالطاغوت والجبت وهم ينتسبون إلى الكتاب كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} انتهى كلام الشيخ رحمه الله1.   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، مفيد المستفيد ص 286-288. وقد نقل الشيخ هذا الكلام من اقتضاء الصراط المستقيم لشيخ الإسلام ابن تيمية كما ذكر، وقد اختصره من مواضع من الكتاب. انظر: ص 313، 314، 316، 318، 404، 405. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 712 ويختار الشيخ تحليلات جيدة للأمور التي ضل منها من ضل من المشركين وأشباههم من المتفلسفة حيث جعلوا ما يجري بين الخلق بعضهم مع بعض من الأسباب هو مثل ما بينهم وبين الخالق تعالى الله عن ذلك فيقول الشيخ في تلخيصه لهذه النقطة عن شيخ الإسلام ابن تيمية: إِن ما بين الخلق من الأسباب الكسبية التي بها يتساءلون ويشفع بعضهم إلى بعض هي من جنس المشاركة، والسبب الآخر الولادة، فالأسباب والصلات التي بينهم لا تخرج عن سبب خلقي وهو الولادة، أو كسبي من جنس المشاركة، والمعاوضة، ولهذا افتتح سورة النساء بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} الآية فذكر في السورة حكم الأسباب من هذا وهذا، فذكر ما يتعلق بالولادة من القرابة والرحم، وما يتعلق بذلك من المواراث والمناكح، وكذلك ما يحصل بينهم بالعقود من المناكح والمواريث والوصايا على اليتامى فالنسب من الأول، والصهر من الثاني، كما قال: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً} (الفرقان: 54) فافتتحها بقوله: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} ثم قال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 713 أي تتعاهدون وتتعاقدون والأرحام فدخل في الأول ما بينهم من التساؤل والتعاقد الذي يجمع المعاوضة والمشاركة وفي الثاني الولادة وفروعها، وقد نزه الله نفسه المقدسة عنهما، فقال: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً} الآية (الإِسراء: 111) وقال: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} الآيتين (الفرقان: 1-2) وقال: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ} الآيتين (الأنعام: 100) وقال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ} إلى آخرها. ومن هنا ضل من ضل من المشركين وأشباههم من المتفلسفة حيث جعلوا لله ما نسبو إليه نسب الولادة، أو جعلوه كالشريك ولهذا كانوا يتخذون هؤلاء شفعاء فإِنهم يعبدونهم ليقربوهم إلى الله زلفى، ويتخذونهم وسيطا ووسائل كما يتخذون ذلك عند المخلوقين، فهذا أصل مادة هؤلاء الجهلة الضلال ونحوهم، والقرآن قد حسم هذه المادة، وجرد التوحيد، وبين أنه لا نسبة بين المخلوق والخالق إلا نسبة العبودية المحضة، كما قال: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} (الأنبياء: 26) وقال: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ} (النساء: 172) وقال: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} 1 (مريم: 90) وفي قياس الصابئة المشركين طريقتهم في اتخاذ النجوم وسائط معبودة على اتخاذ الحنفاء الرسل متبوعين ينقل الشيخ ما يفسد هذا القياس من كلام ابن   1 مؤلفات الشيخ، ملحق المصنفات، مسائل ملخصة رقم 102 ص 95، 96. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 714 تيمية أيضا فيقول: المشركون من الصابئة ونحوهم لما عبدوا الكواكب والملائكة، وجعلوها وسائط بين الله وبين خلقه، جادلوا الحنفاء الذين يتبعون الرسل ولا يعبدون إلا الله فقالوا: نحن نتخذ الروحانيين وسائط، وأنتم تتخذون البشر. فأخذ يعارضهم طائفة كالشهرستاني في الملل والنحل وغيره، ويذكرون أن توسط البشر أولى من توسط الروحانيين فبنوا معارضتهم على أصل فاسد، وهومقايسة وسائط أولئك بوسائط الحنفاء، وهذا جهل بدين الحنفاء، فإنه ليس بينهم وبين الله واسطة في العبادة، وإنما الرسل بلَّغتهم أمر الله فهم وسائط في التبليغ كدليل الحاج، وإمام الصلاة، وبعض من دخل دين الصابئة والمشركين ظنوا أن شفاعة الرسول لأمته لا تحتاج إلى دعاء منه، بل الرحمة التي تفيض على الرسول تفيض على المستشفع من غير شعور من الرسول ولا دعاء منه ومثلوا ذلك بانعكاس شعاع الشمس إذا وقع على جسم صقيل ثم انعكس على غيره، وكما أن انعكاس الشعاع يحتاج إلى المحاذاة فكذلك الفيض لابد فيه من توجه الإنسان إلى النفوس الفاضلة، وجعلوا الفائدة في زيارة قبورهم من هذا الوجه، وقالوا إن الأرواح المفارقة تجتمع هي والأرواح الزائرة فيقوى تأثيرها، وهذه المعاني ذكرها طائفة من الفلاسفة، ومن أخذ عنهم كابن سينا وأبي حامد وغيرهم، وهذه من أصول عباد الأصنام، وهي من المقاييس التي قال فيها بعض السلف: ما عبدت الشمس والقمر إلا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 715 بالمقاييس1. وينقل الشيخ أيضا عن ابن تيمية أن أصل كل شرك في العالم إنما حدث برأي أئمة هؤلاء المتكلمين أصحاب المقاييس المعارضة للوحي فيقول بعد أن ذكر بعض أحوالهم المخالفة: "كل شرك في العالم إنما حدث برأي جنسهم فهم الآمرون بالشرك والفاعلون له، ومن لم يأمر منهم بالشرك فلم ينه عنه بل يقر هؤلاء وهؤلاء، وإِن رجح الموحدين ترجيحا ما فقد يرجح في غيره المشركين، وقد يعرض عن الأمرين جميعا فتدبر هذا فإِنه نافع جدا. ولهذا كان رؤوسهم المتقدمون والمتأخرون يأمرون بالشرك. وكذلك الذين كانوا في ملة الإسلام لا ينهون عن الشرك. ويوجبون التوحيد بل يسوغون الشرك أو يأمرون به أو لا يوجبون التوحيد وقد رأيت من مصنفاتهم في عبادة الملائكة وعبادة الأنفس المفارقة. أنفس الأنبياء وغيرهم ما هو أصل الشرك، وهم إذا ادعوا التوحيد فإنما توحيدهم بالقول لا بالعبادة والعمل، والتوحيد الذي جاءت به الرسل لابد فيه من التوحيد بإِخلاص الدين لله وعبادته وحده لا شريك له وهذا شيء لا يعرفونه فلو كانوا موحدين بالقول والكلام لكان معهم التوحيد دون العمل وذلك لا يكفي في السعادة والنجاة بل لابد من أن يعبد الله وحده ويتخذه إلها دون ما سواه وهذا هو معنى "لا إله إلا الله". انتهى كلام الشيخ ابن تيمية.   1 المصدر السابق رقم 103 ص 96، 97. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 716 ويقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب1: فتأمل رحمك الله هذا الكلام فإِنه مثل ما قال الشيخ فهو نافع جدا ومن أكبر ما فيه من الفوائد يبين حال من أقر بهذا الدين وشهد أنه الحق وأن الشرك هو الباطل وقال بلسانه ما أريد منه ولكن لا يدين بذلك إما بغضا له أو عدم محبته كما هي حال المنافقين الذين بين أظهرنا. وإما إِيثاراً للدنيا مثل تجارة أو غيرها فيدخلون في الإسلام ثم يخرجون منه كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} الآية. وقال تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ} إلى قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ} فإذا قال هؤلاء بألسنتهم نشهد أن هذا دين الله ورسوله ونشهد أن المخالف له باطل وأنه الشرك بالله غرَّ هذا الكلام ضعيف البصيرة. ويقول الشيخ سليمان في شرحه، ولما كان عباد القبور إنما دُهُوا من حيث ظنوا أنهم محسنون، فرأوا أن أعمالهم القبيحة حسنة، كما قال تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} (فاطر: 8) نوع المصنف التحذير من الافتتان بالقبور وأخرجه في أبواب مختلفة ليكون أوقع في القلب وأحسن في التعليم، وأعظم في الترهيب2. ويقول الشيخ في ملخصه عن ابن تيمية: ومما يتبين حكمة الشريعة   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، مفيد المستفيد ص 299-300. 2 تيسير العزيز الحميد، ص 277. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 717 أنها كسفينة نوح أن الذين خرجوا عن المشروع خرجوا إلى الشرك، وطائفة منهم يصلون للميت ويدعو أحدهم الميت، فيقول اغفر لي وارحمني، ومنهم من يستقبل القبر ويصلى لله مستدبراً الكعبة، ويقول القبر قبلة الخاصة والكعبة قبلة العامة1، وهذا يقوله: من هو أكثر عبادة وزهدا، وهو شيخ متبوع، ولعله أمثل أصحاب شيخه، لقوله في شيخه وآخر من أعيان الشيوخ المتبوعين أصحاب الصدق والاجتهاد في العبادة والزهد يأمر المريد أول ما يتوب أن يذهب إلى قبر الشيخ فيعكف عليه عكوف أهل التماثيل عليها وجمهور هؤلاء المشركين بالقبور يجدون عند عبادة القبور من الرقة والخشوع وحضور القلب ما لا يجدونه في المساجد، وآخرون يحجون إلى القبور وطائفة صنفوا كتباً وسموها مناسك حج المشاهد، وآخرون يسافرون إلى قبور المشايخ وإِن لم يسموه منسكا وحجا، فالمعنى واحد وبعض الشيوخ المشهورين بالزهد والصلاح صنف كتاب الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم ... وذكر في مناقب هذا الشيخ أنه حج مرة   1 وقد سمعت عام 1398 هـ نحو هذه العبارة بل أشد من رجل يتكلم العربية وأظنه من الهنود اللاجئين إلى باكستان جاء زائرا إلى المسجد النبوي، وقد رأيته متجها نحو القبر يدعو رافعا يديه من مسافة بعيدة عن القبر منحرفا إليه عن القبلة، فلما نبهته إلى القبلة قال لي مثل هذه العبارة وزاد بتكفير من يخالفه وقال يخاطبني: "وهابي كافر"! وهذه الظاهرة نذير خطر من أخطار الشرك وقد كثرت في هذه الأيام وأقل ما فيها انها بدعة منكرة نسأل الله السلامة والاستقامة والهداية إنه هو السميع العليم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 718 وكان قبر النبي صلى الله عليه وسلم منتهى قصده، ثم رجع ولم يذهب إلى الكعبة، وجعل هذا من مناقبه وبسبب الخروج عن الشريعة صار بعض الشيوخ ممن يقصده القضاة والعلماء قيل عنه إِنه كان يقول: البيوت المحجوجة ثلاثة، مكة وبيت المقدس، والذي بالهند الذي للمشركين. لأنه يعتقد أن دين اليهود والنصارى حق وجاءه بعض إِخواننا العارفين قبل أن يعرف حقيقته، فقال له أريد أن أسلك على يدك فقال له على دين اليهود، أو النصارى، أو المسلمين؟، فقال له: اليهود والنصارى أليسوا كفارا؟ قال لا تشدد عليهم ولكن الإِسلام أفضل، ومن الناس من يجعل مقبرة الشيخ كعرفات يسافرون إليها وقت الموسم، فيعرفون بها كما يفعل بالمغرب والمشرق، وهؤلاء وأمثالهم صلاتهم ونسكهم لغير الله فليسوا على ملة إبراهيم والاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته موجود في كلام بعض الناس، مثل يحيى الصرصري ومحمد بن النعمان، وهؤلاء لهم صلاح لكن ليسوا من أهل العلم بل جروا على عادة كعادة من يستغيث بشيخه في الشدائد ويدعوه، وكان بعض الشيوخ الذين أعرفهم وله فضل وعلم وزهد إذا نزل به أمر خطا إلى جهة الشيخ عبد القادر خطوات واستغاث به وهذا يفعله كثير من الناس، وهؤلاء مستندهم مع العادة قول طائفة: قبر معروف أو غيره ترياق مجرب، ومعهم أن طائفة استغاثوا بحي أوميت فرأوه أتى في الهوى، وقضى بعض الحوائج، وهذا كثير واقع في المشركين الذين يدعون الملائكة أو الأنبياء أو الكواكب والأوثان فإِن الشيطان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 719 يتمثل لهم، ولو ذكرت ما أعلم من الوقائع الموجودة في زماننا من هذا لطال المقال، وقد طاف هذا بجوابه يعني الذي ذكر فيه جواز الاستغاثة بالنبي على علماء مصر ليوافقه واحد منهم فما وافقوه، وطلب منهم أن يخالفوا الجواب الذي كتبته فما خالفوه مع أن قوما كان لهم غرض، وفيهم جهل بالشرع قاموا في ذلك قياما عظيما، واستعانوا بمن له غرض من ذوي السلطان مع فرط تعصبهم، وكثرة جمعهم، وقوة سلطانهم ومكائد شيطانهم1. ويورد الشيخ آثاراً في سد ذرائع الشرك فيقول: "وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج". قال الشيخ رواه أهل السنن. ويقول الشيخ: فيه تفسير الأوثان2، وتفسير العبادة وأنه صلى الله عليه وسلم لم يستعذ إلا مما يخاف وقوعه، وقرنه صلى الله عليه وسلم بدعائه أن لا يجعل الله قبره وثنا يعبد إِخباره بوعيد اتخاذ قبور الأنبياء مساجد "وذكر شدة الغضب من الله على ذلك وفيه ما هو من أهم هذه المسائل وهو صفة معرفة اللات التي هي من أكبر الأوثان ومعرفة أنه قبر رجل صالح، وأنه اسم صاحب القبر، وذكر معنى التسمية ولعنه زوارات القبور، ولعنه من أسرجها3.   1 مؤلفات الشيخ، ملحق المصنفات، رقم 104 ص 97-99. 2 وقوله: تفسبر الأوثان. أي في الحديث بيان معنى الوثن. 3 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد ص 64- 65. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 720 قال الشيخ سليمان في شرحه تيسير العزيز الحميد لكتاب التوحيد: أراد المصنف رحمه الله بهذه الترجمة أمورا: الأول: التحذيرمن الغلو في قبور الصالحين. الثاني: أن الغلو فيها يؤول إلى عبادتها. الثالث: أنها إذا عبدت سميت أوثانا ولو كانت قبور الصالحين. الرابع: التنبيه على العلة في المنع من البناء عليها واتخاذها مساجد1. وتحت باب ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح، فكيف إذا عبده؟ أورد الشيخ أحاديث فقال في الصحيح ويعني في الصحيحين2، عن عائشة: أن أم سلمة ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رَأَتْها بأرض الحبشة وما فيها من الصور، فقال: أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح، أو العبد الصالح، بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله". قال الشيخ: فهؤلاء جمعوا بين فتنتين: فتنة القبور، وفتنة التماثيل. قال الشيخ ولهما أي للبخاري ومسلم عنها أي عن عائشة قالت: "لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم، طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها   1 ص 293-294. 2 تيسير العزيز الحميد ص 277. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 721 كشفها. فقال- وهو كذلك-: "لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر ما صنعوا، ولولا ذلك أبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا" أخرجاه أي البخاري ومسلم. ولمسلم عن جندب بن عبد الله قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس، وهو يقول: "إِني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فان الله قد اتخذني خليلا، كما اتخذ إبراهيم خليلا، ولو كنت متخذا من أمتي خليلا، لاتخذت أبا بكر خليلا، ألا وإِن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإِني أنهاكم عن ذلك". قال الشيخ: فقد نهى عنه في آخرحياته. ثم إِنه لعن- وهو في السياق- من فعله. والصلاة عندها من ذلك وإِن لم يبن مسجد، وهو معنى قولها: "خشي أن يتخذ مسجدا"، فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجدا، وكل موضع قصدت الصلاة فيه فقد اتخذ مسجدا، بل كل موضع يصلى فيه يسمى مسجدا، كما قال صلى الله عليه وسلم: "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا". وقال الشيخ: ولأحمد بسند جيد عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعا "إِن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد" ورواه أبو حاتم في صحيحه. وقال الشيخ فيه: ما ذكر الرسول فيمن بنى مسجدا يعبد الله فيه عند قبر رجل صالح، ولو صحت نية الفاعل. وفيه: النهي عن التماثيل فاذا اجتمع الأمران غلظ الأمر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 722 وفيه: العبرة في مبالغته صلى الله عليه وسلم في ذلك. كيف بين لهم هذا أولا ثم قبل موته بخمس، قال: ما قال، ثم لما كان في السياق لم يكتف بما تقدم. وفيه: نهيه عن فعله عند قبره قبل أن يوجد القبر. وبيانه أنه من سنن اليهود والنصارى في قبور أنبيائهم. ولعنه إياهم على ذلك. وأن مراده تحذيره إيانا عن قبره. وفيه: بيان العلة في عدم ابراز قبره. وبيان معنى اتخاذها مسجدا. وأنه قرن بين من اتخذها مساجد وبين من تقوم عليه الساعة فذكر الذريعة إلى الشرك قبل وقوعه مع خاتمته. وذكره في خطبته قبل موته بخمس: الرد على الطائفتين اللتين هما شرار أهل البدع، بل أخرجهم بعض أهل العلم من الثنتين والسبعين فرقة وهم الرافضة والجهمية. وبسبب الرافضة حدث الشرك وعبادة القبور، وهم أول من بنى عليها المساجد1. ومن أسباب الشرك ووسائله التي يجب القضاء عليها ومنعها: لمس القبر والتمسح به وبناء القباب على القبور والصلاة عندها وقصدها لأجل الدعاء عندها معتقداً أن الدعاء هناك أفضل من الدعاء في غيره أو النذر لله في هذا المكان ونحو ذلك فهذا ليس من دين المسلمين بل هو مما أحدث من البدع القبيحة التي هي من شعب الشرك. قال الشيخ: أما بناء القباب على القبور فيجب هدمها ولا علمت   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد ص 60-62. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 723 أنه يصل إلى الشرك الأكبر، وكذلك الصلاة عنده أي القبر وقصده لأجل الدعاء فكذاك لا أعلمه يصل إلى ذلك، ولكن هذه الأمور من أسباب حدوث الشرك، فيشتد نكير العلماء لذلك، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" وذكر العلماء أنه يجب التغليظ على هذه الأمور لأنه يفتح باب الشرك، كما أنه أول ما حدث في الأرض بسبب ود وسواع ويعوق ونسر، لما عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم يتذكرون بها الآخرة، ثم بعد ذلك بقرون عبدوا، فكذلك في هذه الأمة كما قال صلى الله عليه وسلم: "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه" 1 فأول ما حدث الصلاة عند القبور والبناء عليها من غير شرك، ثم بعد ذلك بقرون وقع الشرك. وأول ما جرى من هذا أن بني أمية لما بنوا مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وسعوه واشتروا بيوتاً حوله، ولم يمكنهم إِدخال بيت النبي صلى الله عليه وسلم الذي فيه قبره وقبر صاحبيه، ولكن أدخلوا البيت في المسجد2 لأجل توسيع المسجد ولم يقصدوا تعظيم الحجرة بذلك، لكن قصدوا تعظيم المسجد، ومع هذا أنكره علماء المدينة حتى قتل خبيب بن عبد الله بن الزبير بسبب   1 انظر: تخريجه في (1/ 268) من هذا البحث. 2 يعني ببيت النبي صلى الله عليه وسلم، الحجرة التي ضمت قبره وقبر صاحبيه فهذه قد أَحاطوها بثلاثة جدران على شكل مثلث قاعدته جنوبي الحجرة لأنه لا يمكنهم إِدخالها في المسجد، أما بقية بيوت أزواجه فأدخلوها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 724 إِنكاره ذلك، فانظر إلى سد العلماء الذرائع. وأما النذر له "أي للقبر" أو صاحبه ودعائه والخضوع له فهو من الشرك الأكبر، فتأمل ما ذكره البغوي في تفسير سورة نوح في قوله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً} الآية (نوح: 23) . وما ذكره أيضا في سورة النجم في قوله: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} (النجم: 19) أن اللات قبر رجل صالح فتأمل الأصنام التي بعثت الرسل بتغييرها كيف تجد فيها قبور الصالحين1. ويقول الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي: الممنوع مما يفعل عند القبور: نوعان: أحدهما: محرم ووسيلة للشرك كالتمسح بها والتوسل إلى الله بأهلها، والصلاة عندها وكإِسراجها والبناء عليها، والغلو فيها وفي أهلها إذا لم يبلغ رتبة العبادة. والنوع الثاني: شرك أكبر كدعاء أهل القبور والاستغاثة بهم وطلب الحوائج الدنيوية والأخروية منهم، فهذا شرك أكبر، وهو عين ما يفعله عباد الأصنام مع أصنامهم.   1 مؤلفات الشيخ، القسم الثالث، الفتاوى، ص 60وص 69- 71. وانظر: مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، مختصر زاد المعاد، ص 67-68. والقسم الأول، مسائل الجاهلية ص 347 ص 348. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 725 ولا فرق في هذا بين أن يعتقد الفاعل لذلك أنهم مستقلون في تحصيل مطالبه، أو متوسطون إلى الله، فإِن المشركين يقولون {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} و {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} فمن زعم أنه لا يكفر من دعا أهل القبور حتى يعتقد أنهم مستقلون بالنفع ودفع الضرر، وأن من اعتقد أن الله هو الفاعل وأنهم وسائط بين الله وبين من دعاهم واستغاث بهم لا يكفر. من زعم ذلك فقد كذب ما جاء به الكتاب والسنة، وأجمعت عليه الأمة من أن من دعا غير الله فهو مشرك كافر في الحالين المذكورين سواء اعتقدهم مستقلين أو متوسطين. وهذا معلوم بالضرورة من دين الإسلام. فعليك بهذا التفصيل الذي يحصل به الفرقان في هذا الباب المهم الذي حصل به من الاضطراب والفتنة ما حصل، ولم ينج من فتنته إلا من عرف الحق واتبعه1. وتحت باب لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله- يورد الشيخ قول الله تعالى: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} (التوبة: 158) . وعن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه قال: " نذر رجل أن ينحر إبلاً ببوانه، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية   1 القول السديد في مقاصد التوحيد، ص82- 84. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 726 يعبد؟ قالوا: لا- قال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قالوا: لا- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوف بنذرك، فانه لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم " قال الشيخ: رواه أبو داود وإِسناده على شرطهما. قال الشيخ فيه: تفسير قوله {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً} والمنع من تخصيص البقعة بالنذر إذا كان فيها وثن من أوثان الجاهلية، ولو بعد زواله أو كان فيه عيد من أعيادهم ولو بعد زواله والحذر من مشابهة المشركين في أعيادهم ولو لم يقصده1. ويذكر الشيخ أن الشيطان والعياذ بالله منه أظهر لهؤلاء الغلاة، الذين غلوا في الصالحين وفي قبورهم أن دعاءهم أو اتخاذ قبورهم مساجد يدعون عندها ويصلون في صورة المحبة لهؤلاء الصالحين أو القيام بحقوقهم والتعظيم لهم، أما من يخلص لله الدين ولا يغلو في الأولياء والصالحين فقد أظهر الشيطان عمله هذا لهؤلاء الغلاة في صورة تنقص الصالحين والتقصير في حقوقهم2. وتحت باب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما يورد الشيخ قول الله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} (النجم: 19- 20) .   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، التوحيد ص 38-39. 2 انظر: مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، ستة أصول عظيمة مفيدة ص 393، وانظر: مفيد المستفيد ص 291. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 727 وعن أبي واقد الليثي قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها ذات أنواط، فمررنا بسدرة: فقلنا: يارسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكبر، إِنها السنن قلتم والذي نفسي بيده، كما قالت بنو إسرائيل لموسى {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} (الأعراف: 138) . لتركبن سنن من كان قبلكم". قال الشيخ رواه الترمذي وصححه. يقول الشيخ فيه: تفسير آية النجم ومعرفة صورة الأمر الذي طلبوا، وكونهم لم يفعلوا، وكونهم قصدوا التقرب إلى الله بذلك، لظنهم أنه يحبه، وأنهم إذا جهلوا هذا فغيرهم أولى بالجهل، وأن لهم من الحسنات والوعد بالمغفرة ما ليس لغيرهم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعذرهم بل رد عليهم بقوله: "الله أكبر إِنها السنن لتتبعن سنن من كان قبلكم" فغلظ الأمر بهذه الثلاث، وفيه الأمر الكبير وهو المقصود أنه أخبر أن طلبهم كطلب بني إسرائيل لما قالوا لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً} وأن نفي جعل ذات الأنواط للتبرك والعكوف عندها من معنى لا إله إلا الله مع دقته وخفائه على أولئك، ولذا حلف على الفتيا وهو لا يحلف إلا لمصلحة وفيه أن الشرك فيه أكبر وأصغر لأنهم لم يرتدوا بهذا. وقولهم: "ونحن حدثاء عهد بكفر" فيه أن غيرهم لا يجهل ذلك. وفيه سد الذرائع والنهي عن التشبه بالجاهلية وأن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 728 العبادات مبناها على الأمر، وأن سنة أهل الكتاب مذمومة كسنة المشركين وما ذم الله به اليهود والنصارى في القرآن تحذير لنا أن نقع فيه وأن المنتقل من الباطل الذي اعتاده قلبه لا يؤمن أن يكون في قلبه بقية من تلك العادة، لقولهم: "ونحن حدثاء عهد بكفر" 1. ويقول الشيخ: هذه القصة تفيد أن المسلم بل العالم قد يقع في أنواع من الشرك لا يدرى عنها- فتفيد التعلم والتحرز، ومعرفة أن قول الجاهل "التوحيد فهمناه" أن هذا من أكبر الجهل ومكائد الشيطان. وتفيد أيضا أن المسلم المجتهد إذا تكلم بكلام كفر وهو لا يدري فنبه على ذلك فتاب من ساعته أنه لا يكفر كما فعل بنو إسرائيل، والذين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم. وتفيد أيضا أنه لو لم يكفر فإِنه يغلظ عليه الكلام تغليظاً شديداً كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم 2. وفي بيان حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على إِبطال أسباب الشرك العملي يورد الشيخ تحت باب: ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد وسده كل طريق يوصل إلى الشرك: قول الله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، التوحيد ص 32-34. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كشف الشبهات ص 175. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 729 الْعَظِيمِ} (التوبة: 128، 129) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجعلوا بيوتكم قبورا، ولا تجعلوا قبري عيدا، وصلوا علي، فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم" قال الشيخ: رواه أبو داود باسناد حسن، رواته ثقات. وعن علي بن الحسين: "أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فيدخل فيها فيدعو، فنهاه، وقال: ألا أحدثكم حديثا سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تتخذوا قبري عيدا، ولا بيوتكم قبورا، وصلوا علي، فإن تسليمكم يبلغني أين كنتم " رواه في المختارة1. قَال الشيخ فيه: تفسير آية براءة وإِبعاده أمته عن هذا الحمى غاية البعد. وذكر حرصه علينا ورأفته ورحمته ونهيه عن زيارة قبره على وجه مخصوص، مع أن زيارته من أفضل الأعمال ونهيه عن الإِكثار من الزيارة. وحثه على النافلة في البيت. وأنه متقرر عندهم أنه لا يصلى في المقبرة. وتعليله ذلك بأن صلاة الرجل وسلامه عليه يبلغه وإِن بعد، فلا حاجة إلى ما يتوهمه من أراد القرب. وكونه صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم في البرزخ تعرض أعمال أمته في الصلاة والسلام عليه2.   1 المختارة: كتاب جمع فيه مؤلفه الأحاديث الجياد الزائدة على الصحيحين، ومؤلفه هو أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي الحافظ ضياء الدين الحنبلي أحد الأعلام، توفي سنة 643 هـ. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد ص66، 67. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 730 أما بيان حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على إِبطال أسباب الشرك حتى في الأقوال فيورد الشيخ تحت الباب: ما جاء في حماية النبي صلى الله عليه وسلم - حمى التوحيد وسده طرق الشرك: حديثا عن عبد الله بن الشخير رضي الله عته قَال: " انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلنا أنت سيدنا. فقال: السيد الله تبارك وتعالى. قلنا: وأفضلنا فضلا، وأعظمنا طولا. فقال: "قولوا بقولكم، أو بعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان" قَال الشيخ: رواه أبو داود بسند جيد. وعن أنس رضي الله عته: "أن ناسا قالوا: يا رسول الله، يا خيرنا، وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا. فقال: "يا أيها الناس، قولوا بقولكم ولايستهوينكم الشيطان أنا محمد عبد الله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل" قَال الشيخ: رواه النسائي بسند جيد. قَال الشيخ فيه: تحذير الناس من الغلو. وما ينبغي أن يقول: من قيل له: أنت سيدنا. وقوله: " لا يستجرينكم الشيطان " مع أنهم لم يقولوا إلا الحق. وقوله: " ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي " 1. وعن خطورة الشرك وقبحه وضرره فالشيخ يبين ذلك بيانا بليغاً من   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد ص146-147. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 731 القرآن والسنة وأن الحكمة في كون الله سبحانه يغفر الكبائر ولا يغفر الشرك هي لأنه أقبح المسبة لله تعالى، وهو الذي لا يبرأ من السوء والنقص والعيب سواه، ولا ينبغي الحمد والثناء مطلقاً إلا له سبحانه لكماله، فالشرك أعظم الظلم، ولا تسعه المغفرة التي هي صفة كمال له سبحانه وتعالى عما يشركون1. ويقرر الشيخ أن الشرك إذا دخل في العبادة بطلت ولم تقبل وأن كل ذنب يرجى له العفو إلا الشرك، والدليل قوله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (الزمر: 65) . وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً} (النساء: 115) . وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} 2 (المائدة: 75) . ويقول الشيخ في موضع آخر: إن العبادة لا تسمى عبادة إلا مع التوحيد، كما أَن الصلاة لا تسمى صلاة إلا مع الطهارة، فإذا دخل الشرك في العبادة فسدت، كالحدث إذا دخل في الطهارة، فإذا عرفت أن   1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير ص 347، والقسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد ص 20،21. 2 الدرر السنية، ج2 ص 3، 4. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 732 الشرك إذا خالط العبادة أفسدها وأحبط العمل وصار صاحبه من الخالدين في النار عرفت أن أهم ما عليك معرفة ذلك لعل الله أن يخلصك من هذه الشبكة وهي الشرك بالله تعالى1. ويقرر الشيخ في موضع ثالث خطورة هذا الشرك ببيان أن الإنسان إذا لم يجتنب الشرك فهو كافر ولو كان من أعبد هذه الأمة يقوم الليل ويصوم النهار قال الله تعالى في الأنبياء: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأنعام: 88) وتصير عبادته كلها كمن صلى ولم يغتسل من الجنابة أو كمن يصوم في شدة الحر وهو يزني في أيام الصوم. ويبين الشيخ أهمية معرفة هذا الشرك قبل معرفة الزنا وغيره من المحرمات2. ولما كان الشرك ناقضا للعبادة ومفسدا لها وظلما عظيما وأقبح مسبة لله تعالى كان أعظم ذنب عصي الله به، ولهذا رتب الله عليه من عقوبات الدنيا والآخرة ما لم يرتبه على ذنب سواء من إباحة دماء أهله وأموالهم وسبي نسائهم وأولادهم، وعدم مغفرته من بين الذنوب إلا بالتوبة منه. ولما كان الشرك خطيراً مخوفا من وقوعه عقد الشيخ باباً في مؤلفه كتاب التوحيد أورد فيه ما جاء من التخويف منه والتحذير وبيان   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، القواعد الأربع ص 199- 202. 2 الدررالسنية ج 1ص 93. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 733 أنه يقع في الأمة ولذا يخاف منه المسلم فقال الشيخ باب الخوف من الشرك، ثم أورد تحت هذا الباب الأدلة من الكتاب والسنة مثل قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (النساء: 48، 116) . وقول الله تعالى عن الخليل أَنه قال يدعو ربه: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} (إبراهيم: 35) . وفي الحديث: " أخوف ما أخاف عليكم: الشرك الأصغر، فسئل عنه. فقال: الرياء" رواه أحمد والطبراني والبيهقي. وعن ابن مسعود رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من مات وهو يدعو من دون الله ندا دخل النار" رواه البخاري. ولمسلم عن جابر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئا دخل النار". قال الشيخ فيه: الخوف من الشرك وأن الرياء من الشرك الأصغر، وأنه أخوف ما يخاف على الصالحين وأن من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة ومن لقيه يشرك به شيئا دخل النار ولو كان من أعبد الناس. وفيه المسألة العظيمة: سؤ ال الخليل له ولبنيه وقاية عبادة الأصنام، واعتباره بحال الأكثر لقوله: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} وفضيلة من سلم من الشرك1.   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد ص 18-19، وانظر: ص21، وانظر: تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد ص 89، 90. والقول السديد في مقاصد التوحيد ص 29-31. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 734 إذاً: فالشرك خطير، ينافي التوحيد ويوجب دخول النار والخلود فيها وحرمان الجنة إذا كان أكبر ولا تتحقق وتكمل السعادة إلا بالسلامة منه وكان حقا على العبد أن يخاف منه أعظم خوف وأن يسعى في الفرار منه ومن طرقه ووسائله وأسبابه ويسأل الله العفو والعافية منه كما فعل ذلك الأنبياء والأصفياء وخيار الخلق1. ولأن عباد القبور، الذين يفعلون الشرك يقولون: إِنه لا يقع الشرك في هذه الأمة المحمدية وهم يقولون: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ولو ظهر منهم دعاء الأموات والذبح لهم والطواف حول قبورهم والنذر لهم والاعتقاد فيهم فهذا ليس شركاً، والشرك لا يقع فقد أراد الشيخ الرد عليهم بالباب الذي عقده في كتاب التوحيد وترجمته باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان وأورد تحته ما يناسب من أدلة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بين فيها ما يدل على تنوع الشرك في هذه الأمة ورجوع كثير منها إلى عبادة الأوثان، وإن كانت طائفة منها لا تزال على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى2.   1 انظر: القرل السديد في مقاصد التوحيد لابن سعدي ص 30، 31. 2 انظر: تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد ص 315. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 735 وهذه الأدلة هي قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} (النساء: 50) . وقوله تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} (المائدة: 60) . وقوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} (الكهف:21) . عن أبي سعيد رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذه بالقذه1 حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قالوا يارسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ " أخرجاه. ولمسلم، عن ثوبان رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها. وإِن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها وأعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض. وإِني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة، وأن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم. وأن ربي قال: يا محمد، إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد. وإِني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة وأن لا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم. ولو اجتمع عليهم من بأقطارها، حتى يكون بعضهم يهلك بعضا، ويسبي بعضهم بعضا" رواه البرقاني في صحيحه وزاد: "وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين. وإذا وقع عليهم   1 القذة- بضم القاف- واحدة القذذ وهو ريش السهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 736 السيف لم يرفع إلى يوم القيامة. ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان. وأنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون، كلهم يزعم أنه نبي وأنا خاتم النبيين. لا نبي بعدي. ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله، تبارك وتعالى" 1. قال الشيخ فيه: تفسير آية النساء. وتفسير آية المائدة. وتفسير آية الكهف. وفيها:- وهي أهمها- ما معنى الإيمان بالجبت والطاغوت؟ هل هو اعتقاد قلب، أو هو موافقة أصحابها مع بغضها ومعرفة بطلانها؟. يقصد الشيخ: أن الذين أوتوا نصيباً من الكتاب وافقوا المشركين في الظاهر أما في قلوبهم فيعتقدون بطلانها ويعرفونه ومع ذلك قالوا: إِن الكفار الذين يعرفون كفرهم أهدى سبيلا من المؤمنين فبمجرد هذه الموافقة للمشركين في الظاهر فقد آمنوا بالجبت والطاغوت2.   1 تقدم إيراد هذا الحديث وتخريجه، وترجمة البرقاني أيضا (انظر: (1/ 416-417) من هذا البحث) . 2 انظر: سبب نزولها في تفسير ابن جرير الطبري قال ابن جريرحدثنا محمد بن المثنى ثنا ابن أبى عدي عن داود عن عكرمة عن ابن عباس قال لما قدم كعب بن الأشرف مكة قالت له قريش أنت خير أهل المدينة وسيدهم قال نعم قالوا ألا ترى إلى هذا الصنبور المنبتر من قومه يزعم أَنه خيرٌ منا ونحن أهل الحجيج وأهل السدانة وأهل السقاية؟ قال أنتم خير منه، قال: فأنزلت: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} ، ونزلت: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} إلى قوله: {فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً} ابن جرير، التفسير، ج5 ص 133. والحديث ذكره الحافظ ابن كثير في تفسيره من رواية الإِمام أحمد قال حدثنا محمد بن أَبي عدي به. وذكر قريباً منه من رواية ابن أبي حاتم ثم قال ابن كثير وقد روى هذا من غير وجه عن ابن عباس وجماعة من السلف. (ابن كثير، التفسير ج1ص 513) . وأخرجه ابن حبان في صحيحه كما في موارد الظمان في زوائد ابن حبان ص 428. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 737 قال الشيخ وفيها مسألة: وهي المقصودة بالترجمة أن هذا لابد أن يوجد في هذه الأمة، كما تقرر في حديث أبي سعيد. وفيها: التصريح بوقوعها، أعني عبادة الأوثان في هذه الأمة في جموع كثيرة. وفيها: العجب العجاب: خروج من يدعي النبوة مثل المختار، مع تكلمه بالشهادتين، وتصريحه بأنه من هذه الأمة، وأن الرسول حق، وأن القرآن حق. وفيه: أن محمدا خاتم النبيين، ومع هذا يصدق في هذا كله مع التضاد الواضح، وقد خرج المختار في آخر عصر الصحابة، وتبعه فئام كثيرة، يعني فلا يستبعد. تصديق من يدعي أن الشرك الأكبر لا يكفر صاحبه إذا كان يقول "لا إله إلا الله" كما جرى من المختار. وفيه. البشارة بأن الحق لا يزول بالكلية، كما زال فيما مضى، بل لا تزال عليه طائفة. والآية العظمى: أنهم مع قلتهم لا يضرهم من خذلهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 738 ولا من خالفهم. وأن ذلك الشرط إلى قيام الساعة. وفيها: حصر الخوف على أمته من الأئمة المضلين. والتنبيه على معنى عبادة الأوثان1 ويعلق الشيخ عبد الرحمن بن سعدي في القول السديد على هذا الباب: "باب ما جاء أن بعض هذه الأمة تعبد الأصنام" فيقول: "مقصود هذه الترجمة الحذر من الشرك والخوف منه، وأنه أمر واقع في هذه الأمة لا محالة، والرد على من زعم أن من قال "لا إله إلا الله" وتسمى بالإسلام أنه يبقى على إسلامه ولو فعل ما ينفيه من الاستغاثة بأهل القبور ودعائهم وسمى ذلك توسلا لا عبادة فان هذا باطل. فإن الوثن اسم جامع لكل ما عبد من دون الله لا فرق بين الأشجار والأحجار والأبنية ولا بين الأنبياء والصالحين والطالحين في هذا الموضع وهو العبادة فانها حق الله وحده فمن دعا غير الله أو عبده فقد اتخذه وثنا وخرج بذلك عن الدين، ولم ينفعه انتسابه إلى الإسلام، فكم انتسب إلى الإسلام من مشرك وملحد وكافر ومنافق! والعبرة بروح الدين وحقيقته لا بمجرد الأسامي والألفاظ التي لا حقيقة لها2.   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد ص68-71، مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد ص 296-310 وص 311. 2 القول السديد في مقاصد التوحيد ص 89 -92. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 739 وقد ذكر الشيخ معنى الطاغوت ورؤوس أنواعه وصفة الكفر به، فقال: الطاغوت عام فكل ما عبد من دون الله ورضي بالعبادة من معبود أو متبوع أو مطاع في غير طاعة الله ورسوله فهو طاغوت ورؤوسهم خمسة: الشيطان الداعي إلى عبادة غير الله تعالى، والحاكم الجائر المغير لأحكام الله تعالى، والذي يحكم بغير ما أنزل الله، والذي يدعي علم الغيب من دون الله، والذي يعبد من دون الله وهو راض بالعبادة. وأما صفة الكفر بالطاغوت فهو أن تعتقد بطلان عبادة غير الله وتتركها وتبغضها وتكفر أهلها وتعاديهم1. وما ذكره الشيخ عن معنى الطاغوت هو ما ذكره ابن جرير الطبري في تفسيره - فقال ابن جرير الطبري: "الجبت والطاغوت اسمان لكل معظم بعبادة من دون الله أو طاعة أو خضوع له، كائنا ما كان ذلك المعظم، من حجر أو إنسان أو شيطان، وإذا كان كذلك وكانت الأصنام التي كانت الجاهلية تعبدها كانت معظمة بالعبادة من دون الله فقد كانت جبوتاً وطواغيت، وكذلك الشياطين التي كانت الكفار تطيعها في معصية الله، وكذلك الساحر والكاهن اللذان كان مقبولا منهما ما قالا في أهل الشرك بالله وكذلك حيي بن أخطب، وكعب بن الأشرف، لأنهما كانا مطاعين في أهل ملتهما من اليهود في معصية الله والكفر به وبرسوله صلى الله عليه وسلم،   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، معنى الطاغوت ص 376-378. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 740 فكانا جبتين وطاغوتين1. وكذلك ابن القيم ذكر معنى الطاغوت فقال: الطاغوت كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع، فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله. فهذه طواغيت العالم إذا تأملتها وتأملت أحوال الناس رأيت أكثرهم عدلوا عن عبادة الله إلى عبادة الطاغوت، وعن التحاكم إلى الله وإلى الرسول إلى التحاكم إلى الطاغوت وعن طاعة الله ومتابعة رسوله إلى طاعة الطاغوت ومتابعته، وهؤلاء لم يسلكوا طريق الناجين الفائزين من هذه الأمة - وهم الصحابة ومن تبعهم- ولا قصدوا قصدهم، بل خالفوهم في الطريق والقصد معا2. هذا وللمشركين شبه كثيرة وحجج ومعارضات يتوصلون بها إلى الشرك وإبطال التوحيد، ولو قامت شبههم لقامت الفتنة وأصبح الدين مفرقا ليس كله لله تعالى ولكن الشيخ كشف شبههم واحدة واحدة، ونقضها حتى أبطلها جميعا وحاصل هذه الشبة يمكن تصويره في سبع شبهات هي: 1- أن الشرك لا يكون فيمن يشهد أن الله هو النافع الضار المدبر   1 تفسير ابن جرير الطبرى 5/133. 2 إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن قيم الجوزيه ج 1ص 50. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 741 ولكنه يقصد أولياء الله والصالحين لأن لهم جاها وشفاعة عند الله تعالى وهو مذنب فيدعوهم ويستغيث بهم ويذبح لهم وينذر لهم ليشفعوا له عند الله تعالى لا غير. 2- والشرك إنما هو في من يعبد الأصنام. والأولياء والصالحون ليسوا مثل الأصنام فمن يدعوهم ليس مثل من يدعو الأصنام. 3- أن من يقصد الصالحين والأولياء بالدعاء والاستغاثة والذبح والنذر وغير ذلك ليس مشركاً وليست هذه الأمور شركاً لأنه وهو يفعل ذلك لا يريد منهم وإنما يطلب من الله شفاعتهم فهذا ليس عبادة لهم ولا شركاً بالله تعالى بل توسل بهم. 4- إنه وهو يقصدهم بهذا الفعل إنما يطلبهم مما أعطاهم الله تعالى وقد أعطاهم الشفاعة والجاه والقرب لديه ولا سيما رسول الله صلى الله عليه وسلم. 5- قالوا وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن الناس يوم القيامة يستغيثون بآدم ثم بنوح، ثم بإبراهيم، ثم بموسى، ثم بعيسى، فكلهم يعتذرون حتى ينتهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك في قصة إبراهيم عليه السلام لما ألقي في النار أن جبريل عرض عليه الاغاثة. قالوا فهذا يدل على أن الاستغاثة بغير الله ليست شركاً. 6- ويقولون: إن المشركين هم الذين نزل فيهم القرآن أولا وهم لا يشهدون أن لا إله إلا الله ويكذبون الرسول صلى الله عليه وسلم وينكرون البعث ويكذبون القرآن ويجعلونه سحراً، ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 742 رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصدق القرآن ونؤمن بالبعث ونصلي ونصوم فكيف تجعلوننا مثل أولئك المشركين لأننا قصدنا أولياء الله ليشفعوا لنا فحسب؟! 7- ويقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على أسامة قتل من قال لا إله إلا الله. وقال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله"، وأحاديث أخرى بهذا المعنى في الكف عمن قالها، فمن قالها لا يكفر ولا يقتل ولو فعل ما فعل. هذا هو حاصل الشبه التي يشبه بها المشركون ممن يدعي الإسلام، ويريد قلب الحقائق فيجعل التوحيد إلحادا، والإلحاد توحيدا- وقد كشف الشيخ هذه الشبه ونقضها فبطلت بكتاب الله المحكم وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الحاكمة، والحق القائم الذي أحقه الله بكلماته الكونية كما أحقه بكلماته الشرعية. ونورد كيف بين الشيخ كشفه لهذه الشبهات فقال ما معناه: إن الشبهة الأولى وهي قولهم إِن الشرك لا يكون فيمن يشهد أن الله هو النافع الضار المدبر، ولو دعا غيره واستغاث به وذبح له ونذر له ليشفع له ويقربه عند الله أن هذه مقالة المشركين الأوائل سواء بسواء وهم الذين كفرهم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم واستحل دماءهم وأموالهم وسبي نساءهم وذراريهم مع إِقرارهم بأن الله هو النافع الضار الخالق المدبر بدليل قول الله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 743 السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} (يونس: 31) . وغير هذه الآية من الآيات الكثيرة وأن هؤلاء المشركين يقولون ما دعوناهم وتوجهنا إليهم إلا لطلب القربى والشفاعة بدليل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (الزمر: 3) . وقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} (يونس: 18) . وكشف الشيخ الشبهة الثانية وهي قولهم إِن الشرك إنما هو فيمن يعبد الأصنام. والأولياء، والصالحون ليسوا مثل الأصنام فمن يدعوهم ليس مثل من يدعو الأصنام بما ذكر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في الكتاب والسنة من الحكم بكفر جميع من يدعو غير الله تعالى مهما كان هذا الغير، سواء كان نبيا أو ملكا أو من دونهما أو دعا طاغوتاً أو صنما فالحكم على من دعا غير الله واحد، ولم يفرق الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم بين من يعبد الأصنام وبين من يعبد الصالحين في الحكم بل الجميع يحكم عليهم بأنهم مشركون بالله. ويقول الشيخ في قوله تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} إلى قوله تعالى: {سبحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (الزمر: 67) . فيه مسائل: فيها أنواع من بطلان الشرك وتقبيحه: الأولى: الجواب عن قول المشركين: هذا في الأصنام وأما الصالحون فلا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 744 قوله: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ} عام فيما سوى الله. الثانية: أن المسلم إذا أطاع من أشار عليه في الظاهر كفر، ولو كان باطنه يعتقد الإيمان، فإِنهم لم يريدوا من النبي صلى الله عليه وسلم تغيير عقيدته، ففيه بيان لما يكثر وقوعه ممن ينتسب إلى الإسلام في إِظهار الموافقة للمشركين خوفا منهم، ويظن أنه لا يكفر إذا كان قلبه كارها له. الثالثة: أن الجهل وسخافة العقل هو موافقتهم في الظاهر، وأن العقل والفهم والذكاء هو التصريح بمخالفتهم ولو ذهب مالك، خلافاً لما عليه أهل الجهل من اعتقاد أن بذل دينك لأجل مالك هو العقل، وذلك في آخر الآية: {أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} 1 ويقول الشيخ: فإِن قال قائل من المشركين: نحن نعرف أن الله هو الخالق الرازق المدبر، لكن هؤلاء الصالحين مقربون، ونحن ندعوهم وننذر لهم وندخل عليهم ونستغيث بهم ونريد بذلك الوجاهة والشفاعة وإلا فنحن نفهم أن الله هو الخالق الرازق المدبر. فقل: كلامك هذا مذهب أبي جهل وأمثاله، فإِنهم يدعون عيسى وعزيراً والملائكة والأولياء يريدون ذلك كما قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (الزمر: 3) .   1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع، التفسير ص344. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 745 وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} (يونس: 18) . وكشف الشيخ الثالثة وهي قولهم أن من يقصد الصالحين بالدعاء والاستغاثة والذبح والنذر وغير ذلك ليس مشركاً وليست هذه الأمور شركاً بل هي توسل بهؤلاء الأولياء. فأجاب الشيخ: بأن الدعاء والاستغاثة والذبح والنذر ونحوها مما أمر الله أن يتقرب العبد به إليه فهو عبادة وكل أنواع العبادة لا يجوز صرف شيء منها لغير الله تعالى، والشرك إنما هو في العبادة وفي أنواعها، وصرف شيء من أنواعها كصرف مجموعها لأن الله أغنى الشركاء عن الشرك، فمن أشرك معه غيره تركه وشركه وقولهم إِن التوجه بالدعاء والاستغاثة والذبح والنذر ونحوها إلى غير الله لا يريد منه إنما يريد من الله بشفاعته ليس عبادة قد أبطله الله بأنه سماه عبادة كما تقدم من قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 1 (يونس:18) . وقال الشيخ- رحمه الله- في كشف تسميتهم دعاء الأموات والأولياء بالتوسل ليتوصلوا إلى جوازه: "الدعاء الذي يفعل في هذا الزمان أنواع: النوع الأول: دعاء الله وحده لا شريك له الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم.   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، كشف الشبهات، ص160 وما بعدها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 746 النوع الثاني: أن يدعو الله ويدعو معه نبيا أو وليا، ويقول أريد شفاعته وإلا فأنا أعلم ما ينفع ولا يضر إلا الله، لكن أنا مذنب، وأدعو هذا الصالح لعله يشفع لي فهذا الذي فعله المشركون وقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يتركوه ولا يدعو مع الله أحدا لا لطلب شفع ولا نفع. النوع الثالث: أن يقول: اللهم إني أتوسل إليك بنبيك أو بالأنبياء أو الصالحين فهذا ليس شركا ولا نهينا الناس عنه (على أَنه شرك) ولكن المذكورعن أبي حنيفة وأبي يوسف وغيرهم أنهم كرهوه لكن ليس مما نختلف نحن وغيرنا فيه1. وسئل الشيخ رحمه الله عن قول بعض الفقهاء في الاستسقاء: لا بأس بالتوسل بالشيوخ والعلماء المتقين، وقولهم: يجوز أن يستشفع إلى الله برجل صالح، وقيل يستحب، وقول أحمد: إنه يتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم في دعائه والفرق بين هذا القول وقول أحمد وغيره في قوله عليه الصلاة والسلام "أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق" الاستعاذة لا تكون بمخلوق، فما معنى هذا؟ وما العمل عليه منهما؟ فأجاب بقوله: قولهم في الاستسقاء لابأس بالتوسل بالصالحين. وقول أحمد: يتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، مع قولهم إنه لا يستغاث بمخلوق فالفرق ظاهر جدا، وليس الكلام مما نحن فيه فكون بعض يرخص بالتوسل   1 الدرر السنية، ط 2، ج2، ص 43. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 747 بالصالحين وبعضهم يخصه بالنبي صلى الله عليه وسلم وأكثر العلماء ينهى عن ذلك ويكرهه، فهذه المسألة من مسائل الفقه، ولو كان الصواب عندنا قول الجمهور أَنه مكروه فلا ننكر على من فعله ولا إِنكار في مسائل الاجتهاد لكن إنكارنا على من دعا المخلوق أعظم مما يدعو الله تعالى، ويقصد القبر يتضرع عند ضريح الشيخ عبد القادر أو غيره يطلب فيه تفريج الكربات، وإِغاثة اللهفات، وإعطاء الرغبات، فأين هذا؟ ممن يدعو الله مخلصاً له الدين لا يدعو مع الله أحداً ولكن يقول في دعائه: أسألك بنبيك أو بالمرسلين أو بعبادك الصالحين، أو يقصد قبر معروف أو غيره يدعو عنده، ولكن لا يدعو إلا الله مخلصاً له الدين، فأين هذا مما نحن فيه؟! 1. وهكذا يكشف الشيخ تلبيسهم حيث جعلوا دعاء غير الله توسلا ببيان ما هو التوسل الحقيقي في الدعاء والفرق بينه وبين دعاء غير الله تعالى وأن التوسل مسألة خارجة عن موضوع النزاع وهو دعاء غير الله تعالى. وكشف الشيخ الرابعة وهي قولهم: إنهم يطلبون الأنبياء والأولياء مما أعطاهم الله تعالى وقد أعطاهم الشفاعة والجاه والقرب لديه ولا سيما رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الله تعالى وإن أعطاهم ما أعطاهم فقد نهى أن يطلب منهم الشفاعة والزلفى عند الله، وأمر بأن يطلب ذلك منه وحده لا   1 مؤلفات الشيخ، القسم الثالث، الفتاوى ص 59، 60، 68، 69. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 748 شريك له فيقول: "اللهم شفع في نبيك" مثلا، ذلك أن الشفاعة لله جميعا ولا يشفع عند الله أحد إلا من بعد إذنه، والله سبحانه لم يأذن بأن نطلب من الميت ذلك، وأما الحي فالذي يطلب منه دعاؤه وهذا عام في جميع الصالحين الأحياء القادرين على الدعاء. والمقصود أن الدعاء والذبح والنذر والاستغاثة ونحوها مما أمر الله أن يعبد به، لابد من أن تؤدى لله خَالِصَةً لا يشركه فيها ملك مقرب ولا نبي مرسل كما قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} وغير ذلك من الآيات والأحاديث الكثيرة التي بينها الشيخ للدلالة على الإِخلاص في جميع أنواع العبادة ومن أنواعها طلب الشفاعة من الله لديه فيتوجه بذلك الطلب والرغبة والقصد إلى الله مباشرة وبدون واسطة كما قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (البقرة: 186) . فلا تطلب الشفاعة من غير الله تعالى لأن الشفاعة كلها له سبحانه، قال تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} (الزمر: 44) . ولا يشفع أحد في أحد إلا من بعد أن يأذن الله تعالى كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} (البقرة: 255) . وكما قال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} (الأنبياء: 28) . والله لا يرتضي أن تطلب الشفاعة من أحد إلا بإذنه، وهو سبحانه لا يرضى إلا التوحيد. قال الله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 749 وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً} . وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} (النساء: 47) . وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} (سبأ 22،23) . قال الشيخ: قال أبو العباس: "نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون فنفى أن يكون لغيره ملك أوقسط منه، أويكون عونا لله. ولم يبق إلا الشفاعة. فبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب. كما قال: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون هي منتفية يوم القيامة، كما نفاها القرآن وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم "أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده، لا يبدأ بالشفاعة أولا " ثم يقال له: ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعط، واشفع تشفع وقال أبو هريرة "من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه " فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله، ولا تكون لمن أشرك بالله. وحقيقته: أن الله سبحانه هو الذي يتفضل على أهل الإِخلاص فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع، ليكرمه وينال المقام المحمود. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 750 فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها من شرك ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا تكون إلا لأهل التوحيد والإِخلاص " ا. هـ كلام ابن تيمية. قال الشيخ: "فإذا كانت الشفاعة كلها لله، ولا تكون إلا من بعد إذنه، ولا يشفع النبي صلى الله عليه وسلم ولا غيره في أحد حتى يأذن الله فيه، ولا يأذن إلا لأهل التوحيد. تبين لك أن الشفاعة كلها لله فاطلبها منه وقل: اللهم لا تحرمني شفاعة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم شفعه فيَّ وأمثال هذا". وأيضاً فإن الشفاغة أعطيها غير النبي صلى الله عليه وسلم، فصح أن الملائكة يشفعون، والأولياء يشفعون، والأَفراط يشفعون أتقول: إن الله أعطاهم الشفاعة فاطلبها منهم فإِن قلت هذا: رجعت إلى عبادة الصالحين التي ذكر الله في كتابه وإِن قلت: لا. بطل قولك: أعطاه الله الشفاعة وأنا أطلبه مما أعطاه الله1. وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن في فتح المجيد: "وأما الاستشفاع بالرسول صلى الله عليه وسلم في حياته، فالمراد به استجلاب دعائه وليس خاصاً به صلى الله عليه وسلم بل كل حي صالح يُرجى أن يستجاب له، فلا بأس أن يطلب منه أن يدعو   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، كشف الشبهات ص 65 -166، وكتاب التوحيد باب الشفاعة ص 51-53، ومسائل الجاهلية ص 351، والقسم الخاص، الشخصية رقم 17، ص 112،113، ورقم 8، ص 52، 54. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 751 للسائل بالمطالب الخاصة والعامة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر لما أراد أن يعتمر من المدينة: "لا تنسنا يا أخي من صالح دعائك" 1. والحديث رواه الإمام أحمد في المسند عن عبد الله بن عمر "أن عمر استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في العمرة فأذن له فقال: يا أخي أشركنا في صالح دعائك، ولا تنسنا " قال عبد الرزاق في حديثه. فقال عمر: "ما أحب أن لي بها ما طلعت عليه الشمس لقوله: يا أخي" 2 وكشف الشيخ الخامسة وهي قولهم: يستدلون على جواز الاستغاثة بالرسول صلى الله عليه وسلم بعد وفاته ودعائه كذلك: بأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن الناس يوم القيامة يستغيثون بآدم، ثم بنوح، ثم بإبراهيم، ثم بموسى، ثم بعيسى، فكلهم يعتذرون حتى ينتهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويستدلون كذلك بقصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما ألقي في النار عرض جبريل الإِغاثة فلو كانت شركا لم يعرضها جبريل عليه السلام- فكشفها الشيخ ببيان أن المنكر هو استغاثة العبادة التي تفعل عند القبر وسائر القبور، أو تفعل في غيبة المستغاث به والتي يطلب بها ما لا يقدر عليه إلا الله وحده من غير الله تعالى. أما استغاثة الناس يوم القيامة بالأنبياء ليدعوا لهم فهذا جائز بل يجوز في الدنيا والآخرة أن يطلب الشخص من حي صالح حاضر يسمع قوله   1 فتح المجيد، شرح كتاب التوحيد ص 515 طبعة راجعها الشيخ عبد العزيز بن باز. 2 انظر: المسند ج1/ ص 29، ج 2/ ص 59. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 752 ويقدر أن يدعو الله له. وكذلك استغاثة إبراهيم بجبريل لو وقعت فهي في أمر يقدر عليه جبريل عليه السلام فهو كما وصفه الله شديد القوى ففي مقدوره أن يغيث إبراهيم مثل قوي في مقدوره أن يغيث عاجزا بقوته كما فعل موسى بالقبطي إِغاثة للذي من شيعته. وكشف الشيخ السادسة- وهي أنهم يقولون: إِن الذين نزل فيهم القرآن لا يشهدون أن: (لا إله إلا الله) ويكذبون الرسول صلى الله عليه وسلم وينكرون البعث، ويكذبون القرآن ويجعلونه سحراً، ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ونصدق القرآن، ونؤمن بالبعث. ونصلّي، ونصوم. فكيف تجعلوننا مثل أولئك؟! فكشفها الشيخ ببيان نواقض الإسلام وبيان أحكام المرتد وأنه الذي يكفر بعد إسلامه، وبيان أن النواقض للإسلام لا يصح معها إسلام ولا عمل كما لا تصح الصلاة مع ناقض من نواقض الوضوء- فالشرك مثلا يفسد العبادة ويفسد قول "لا إله إلا الله" مهما كانت العبادة كثيرة ولو أمثال الجبال فالشرك يفسدها ويحبطها ويجعلها هباءاً منثوراً، لأن الإسلام والشرك لا يجتمعان فمن ادعى بقاء إسلامه مع ممارسته الشرك فهوكاذب. قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (الزخرف: 65) . قال الشيخ فيها: المسألة الكبرى وهي كشف شبهة علماء المشركين الذين يقولون: هذا شرك ولكن لا يكفرمن فعله لكونه يؤدي الأركان الخمسة فإذا كان الأنبياء لو يفعلونه كفروا فكيف بغيرهم؟! وأن الذي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 753 يكفر به المسلم ليس هو عقيدة القلب خاصة، فإن هذا الذي ذكرهم الله لم يريدوا منه صلى الله عليه وسلم تغيير العقيدة، بل إذا أطاع المسلم من أشار عليه بموافقتهم لأجل ماله أوبلده أو أهله مع كونه يعرف كفرهم ويبغضهم فهذا كافر إلا من أكره1. وقال تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأنعام: 88) . ويقول الشيخ إِنه لا خلاف بين العلماء كلهم أن الرجل إذا صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء وكذبه في شيء أنه كافر لم يدخل في الإسلام، وكذلك إذا آمن ببعض القرآن وجحد بعضه. كمن أقر بالتوحيد وجحد وجوب الصلاة، أو أقر بالتوحيد والصلاة وجحد وجوب الزكاة، أو أقر بهذا كله وجحد الصوم أو أقر بهذا كله وجحد الحج. ولما لم ينقد أناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم للحج، أنزل الله في حقهم {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (آل عمران: 97) . ومن أقر بهذا كله وجحد البعث كفر بالإجماع، وحل دمه وماله كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً} (النساء: 150، 151) .   1 مؤلفات الشيخ، القسم الرابع التفسير ص 345. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 754 فإذا كان الله قد صرح في كتابه أن من آمن ببعض وكفر ببعض فهو الكافرحقاً وأنه يستحق ما ذكرت زالت الشبهة. وهذه هي التي ذكرها بعض أهل الأحساء في كتابه الذي أرسله إلينا. ويقال أيضاً إن كنت تقر أن من صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في كل شيء وجحد وجوب الصلاة أَنه كافر حلال الدم والمال بالإجماع، وكذلك إذا أقر بكل شيء إلا البعث. وكذلك لو جحد وجوب صوم رمضان وصدق بذلك كله لا تختلف المذاهب فيه، وقد نطق به القرآن كما قدمنا. فمعلوم أن التوحيد هو أعظم فريضة جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم وهو أعظم من الصلاة والزكاة والصوم والحج، فكيف إذا جحد الإنسان شيئا من هذه الأموركفر ولو عمل بكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وإذا جحد التوحيد الذي هو دين الرسل كلهم لا يكفر؟ سبحان الله! ما أعجب هذا الجهل! ويقال أيضا: هؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلوا بني حنيفة، وقد أسلموا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويؤذنون ويصلون. فإن قال إنهم يقولون: إن مسيلمة نبي، فقل هذا هو المطلوب، إذا كان من رفع رجلا إلى رتبة النبي صلى الله عليه وسلم كفر وحل ماله ودمه ولم تنفعه الشهادتان ولا الصلاة فكيف بمن رفع شمسان أو يوسف؟ أوصحابيا أونبيا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 755 إلى مرتبة جبار السموات والأرض، سبحان الله! ما أعظم شأنه! {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} (الروم: 59) . ويقال أيضا: الذين حرقهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالناركلهم يدعون الإسلام، وهم من أصحاب علي، وتعلموا العلم من الصحابة ولكن اعتقدوا في علي مثل الاعتقاد في يوسف وشمسان وأمثالهما، فكيف أجمع الصحابة على قتلهم وكفرهم؟! أتظنون أن الصحابة يكفرون المسلمين؟! أم تظنون أن الاعتقاد في تاج وأمثاله لا يضر والاعتقاد في علي بن أبي طالب يكفر؟! ويقال أيضا: بنو عبيد القداح الذين ملكوا المغرب ومصر في زمان بني العباس كلهم يشهدون أن "لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله " ويدعون الإسلام، ويصلون الجمعة والجماعة، فلما أظهروا مخالفة الشريعة في أشياء دون ما نحن فيه أجمع العلماء على كفرهم وقتالهم، وأن بلادهم بلاد حرب، وغزاهم المسلمون حتى استنقذوا ما بأيديهم من بلدان المسلمين. ويقال أيضا: إذا كان الأولون لم يكفروا إلا أنهم جمعوا بين الشرك وتكذيب الرسول والقرآن وإنكار البعث وغير ذلك، فما معنى الباب الذي ذكر العلماء في كل مذهب: "باب حكم المرتد". وهو المسلم الذي يكفر بعد إسلامه. ثم ذكروا أنواعا كثيرة لكل نوع منها يكفر ويحل دم الرجل وماله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 756 حتى إِنهم ذكروا أشياء يسيرة عند من فعلها، مثل كلمة يذكرها بلسانه دون قلبه، أوكلمة يذكرها على وجه المزح واللعب. ويقال أيضا: الذين قال الله فيهم: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ} (التوبة: 74) . أما سمعت الله كفرهم بكلمة مع كونهم في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويجاهدون معه ويصلون ويزكون ويحجون ويوحدون؟ وكذلك الذين قال الله فيهم: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (التوبة: 65، 66) . فهؤلاء الذين صرح الله فيهم أَنهم كفروا بعد إيمانهم وهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، قالوا كلمة ذكروا أنهم قالوها على وجه المزح فتأمل هذه الشبهة وهي قولهم: تكفرون من المسلمين أناساً يشهدون أن "لا إله إلا الله" ويصلون ويصومون، ثم تأمل جوابها فإنه من أنفع ما في هذه الأوراق. ومن الدليل على ذلك أيضاً ما حكى الله عن بني إسرائيل مع إسلامهم وعلمهم وصلاحهم، أنهم قالوا لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} (الأعراف: 138) . وقول أناس من الصحابة "اجعل لنا ذات أنواط" فحلف النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا نظير قول بني إسرائيل اجعل لنا إلها. ولكن للمشركين شبهة يدلون بها عند هذه القصة: وهي أنهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 757 يقولون: إِن بني إسرائيل لم يكفروا بذلك. وكذلك الذين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل لنا ذات أنواط لم يكفروا. فالجواب أن تقول إِن بني إسرائيل لم يفعلوا ذلك وكذلك الذين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعلوا ذلك. ولا خلاف أن بني إسرائيل لو فعلوا ذلك لكفروا. وكذلك لا خلاف في أن الذين نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم لولم يطيعوه واتخذوا ذات أنواط بعد نهيه لكفروا، وهذا هو المطلوب، ولكن هذه القصة تفيد أن المسلم بل العالم قد يقع في أنواع من الشرك لا يدري عنها فتفيد التعلم والتحرز، ومعرفة أن قول الجاهل (التوحيد فهمناه) أن هذا من أكبر الجهل ومكائد الشيطان. وتفيد أيضاً أن المسلم المجتهد إذا تكلم بكلام كفر وهو لا يدري، فنبه على ذلك، فتاب من ساعته أنه لا يكفر كما فعل بنو إسرائيل، والذين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم. وتفيد أيضاً أنه لولم يكفر فإِنه يغلظ عليه الكلام تغليظا شديدا كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.. انتهى. ويقول الشيخ إن هذه الشبهة هي من أعظم شبههم فأصغ سمعك لجوابها 1. لذا نقلت جوابه بنصه، وأشير إلى أن الشيخ ألف رسالة أخرى في هذه المسألة وهي (مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد) 2.   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كشف الشبهات ص 171- 175. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، مفيد المستفيد فى كفر تارك التوحيد ص 279-329. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 758 وكشف الشيخ الشبهة السابعة وهي قولهم إِن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على أسامة قتل من قال: (لا إله إلا الله) ، وكذلك قوله: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" وأحاديث أخر في الكف عمن قالها ومراد هؤلاء الجهلة أن من قالها لا يكفر ولا يقتل ولو فعل ما فعل، فكشف الشيخ هذه الشبهة ببيان أن من قالها وجب الكف عنه إلا إن تبيَّنَ منه ما يناقض ذلك كدعاء الأولياء وقصدهم فيما هومن حق الله تعالى، فأما حديث أسامة فإنه قتل رجلا ادعى الإسلام بسبب أنه ظن أنه ما ادعى الإسلام إلا خوفا على دمه وماله. والرجل إذا أظهر الإسلام وجب الكف عنه حتى يتبين منه ما يخالف ذلك. وأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} (النساء: 94) . أي فتبينوا فالآية تدل على أنه يجب الكف عنه والتثبت فإذا تبين منه بعد ذلك ما يخالف الإسلام قتل لقوله تعالى: "فتبينوا" ولو كان لا يقتل إذا قالها لم يكن للتثبت معنى. وكذلك الحديث الآخر وأمثاله. معناه ما ذكر أن من أظهر التوحيد والإسلام وجب الكف عنه إلى أن يتبين منه ما يناقض ذلك. والدليل على هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال: "أقتلته بعدما قال: (لا إله إلا الله) ؟! وقال: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا (لا إله إلا الله) هو الذي قال في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 759 الخوارج: "أينما لقيتموهم فاقتلوهم لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد" مع كونهم من أكثر الناس عبادة وتهليلا وتسبيحا، حتى إِن الصحابة يحقرون صلاتهم عندهم وهم تعلموا العلم من الصحابة فلم تنفعهم (لا إله إلا الله) ولاكثرة العبادة، ولا ادعاء الإسلام لما ظهرمنهم مخالفة الشريعة. وكذلك ما ذكر في جوابه في السادسة وكشفها من قتال اليهود وهم يقولونها وقتال الصحابة بني حنيفة، وكذلك أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يغزو بني المصطلق لما أخبره رجل أنهم منعوا الزكاة، حتى أنزل الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} (الحجرات: 6) - وكان الرجل كاذباً عليهم. قال الشيخ: "وكل هذا يدل على أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث التي احتجوا بها وجوب الكف عمن قالها حتى يتبين منه مخالفتها"1. وبهذا انتهى هذا الفصل وبنهايته ينتهى الباب الأول وهو ما يخص عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية وحيث قد أتينا على ذكر عقيدة الشيخ من جانبيها جانب عرضها من خلال بيان منهجه وجملة عقيدته في الإيمان وأركانه وفي التوحيد من مقاميه المقام الخبري والمقام الطلبي، وفي نواقض عقيدة السلف الصالح أو نواقض كمالها للتحذير من ذلك في هذا الباب الأول. بقي علينا أن نتعرف على أثرها وذلك ما يتضمنه الباب الثاني وهو ما يلي.   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كشف الشبهات ص 155- 181. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 760 الباب الثاني: أثر عقيدة محمد بن عبد الوهاب السلفية وأثرها في العالم الإسلامي الفصل الأول: في ظهور دعوة الشيخ إلى عقيدة السلف الصالح وأسباب ومبادئ تأثيرها ... الفصل الأول: في ظهور دعوة الشيخ إلى عقيدة السلف الصالح وأسباب ومبادئ تأثيرها لقد اتضح لنا مما سبق بيانه عن الشيخ وعقيدته أنها عقيدة السلف الصالح؛ عقيدة سليمة، تعتمد على الكتاب والسنة غاية ووسيلة، وعلماً وعملا ومضمونا ومنهجا، ونزيد هنا شيئا من التوضيح فنقول: أما الغاية فإنها تتضح من مواقف الإيمان التي وقفها الشيخ بقوة، وكم نراه فيما قدمنا من سيرته وفيما سنذكر إن شاء الله من مواقفه الجهادية وجهوده المرضية في سبيل الله مثالا للرجل المؤمن بالغيب القوي في إيمانه بذلك، البعيد عن البدع والمحدثات في دين الله. ولقد اعتقد الشيخ عقيدة السلف الصالح في حين غربتها وضعف تأثير أصحابها في المجتمع كما بينا ذلك في مبحث البيئة التي كانت سائدة في عصر الشيخ، ثم لما قام الشيخ بالدعوة إلى عقيدة السلف الصالح أصبح أثرها ينتشر شيئاً فشيئاً لا في الجزيرة العربية فحسب بل في العالم الإسلامي كله، ولا أحد ينكر صحوة نشطة في المسلمين تنشد سنة الرسول صلى الله عليه وسلم والعمل على نشرها ونشر ما كان عليه سلفهم الصالح. وهذا المسلك السلفي الصالح قد اشتهر كأنه طابع خاص بالشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه – رحمهم الله تعالى – على الرغم من أنه لا يخص الشيخ وليس من عنده وإنما هو ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 763 حتى أن الشيخ مُلاَّ عمران بن رضوان صاحب لنجة لما تبين له حقيقة معتقد الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأنه التمسك باتباع النبي محمد ابن عبد الله صلى الله عليه وسلم قام بتأييده فلقبوه بالوهابي يشنعون عليه ومقصدهم ليترك اتباع النبي صلى الله عليه وسلم ولا ذنب للوهابي عندهم إلا أنه لم تأخذه في اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم لومة لائم – فقال الشيخ مُلاَّ عمران في الرد على هؤلاء الشانئين منظومة منها: إن كان تابعُ أحمدٍ متوهباً ... فأنَا المقرُ بأنني وهابي أَنفي الشريك عن الإله فليس لي ... ربٌّ سِوى المتفرد الوهاب لا قبة ترجى ولا وثنٌ ولا ... قبرٌ له سبب من الأسباب كلا ولا شجرٌ ولا حجرٌ ولا ... عيٌن ولا نصب من الأنصاب أيضاً ولستُ معلقاً لتميمة ... أو حلقةٍ أو وَدَعَةٍ أو ناب لرجاء نفع أو لدفعِ بلية ... الله ينفعني ويدفعُ ما بي والابتداع وكل أمرٍ محدثٍ ... في الدين ينكره أولوا الألباب1 وما من شك أن تأثير العقيدة واستمرارها يتم إذا توفر لها أسباب هي: أولا: وقبل كل شيء: توفيق الله تعالى ومنته بالفضل والهداية. ثانيا: صلاح النية وسمو الغاية وحسن القصد بالأعمال الصالحة،   1 نقلا عن الهدية السنية جمع الشيخ سليمان بن سحمان ص 119- 120 ط المنار سنة 1344هـ والهدية السنية ط مكة عام 1393 هـ ص 148 - 149. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 764 التي هي من لوازم العقيدة. ثالثا: كون العقيدة حقا ثابتا في نفس الأمر والواقع لايأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. رابعا: علم صاحب العقيدة وبصيرته. خامساً: سلامة منهج صاحب العقيدة. سادساً: الإمارة الراشدة والسلطان الوازع. سابعا: استمرار وجودها بوجود حملتها من عالم وارث للميراث النبوي وسلطان مناصر قوي. وفيما يلي توضيح لذلك: أما توفيق الله تعالى ومنته بالفضل والهداية فهو أمر ظاهر من منته سبحانه على أهل هذه الجزيرة العربية خصوصاً وأهل الأرض عموماً بآخر الرسالات النبوية بالقرآن العظيم المبين والرسول العربي الخاتم، وبيت الله الحرام، وضمانته سبحانه لحفظ دينه ونصرته إلى قيام الساعة ودليله القرآن الَّذي هو كلام الله محفوظاً في الصدور ومتلوا بالألسن ومكتوباً بالمصاحف لا يوجد له نظير من الكلام في جلب الخير ودفع الشر، كما أن رسول الله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم بشخصه لانظير له في الأشخاص وسنته موجودة ودينه باق وهديه خير الهدي وهو مستمر إلى قيام الساعة ولا نظير له في الهدى وبيت الله الحرام فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولا نظير له في بيوت الله في الأرض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 765 وكل هذه الخصوصيات التي امتن الله بها على أهل هذه الجزيرة، ووفق من شاء منهم للقيام بحقوقها، كل ذلك له دور كبير في التأثير، وما من شك أن من وفقه الله للقيام بحقوقها فقد حاز نفوذا وتأثيرا قويا لا نظير له، وللشيخ وأنصاره نصيب من هذا كبير، فبناء عقيدته السلفية إنما هو على كلام الله الَّذي هو خير الكلام وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الَّذي هو خير الهدي، وعلى نهج سلف هذه الأمة الَّذين هم خير هذه الأمة. وأما سمو الغاية من العقيدة، وكون العقيدة حق ومتانة علم صاحبها وقوة بصيرته وسلامة منهجه فقد بيناه فيما سبق من بيان عقيدته ومنهجه وشيء من سيرته ولا مانع من زيادة توضيح هنا لهذه الجوانب المؤثرة. وفيما يلي أنقل بعضاً من كلمات الشيخ تبين سمو الغاية، وتجردها من الحظوظ الدنيوية الزائلة. يقول الشيخ في مخاطبته لعبد الوهاب بن عيسى: "إن كنت تظن في خاطرك أنا نبغي أن نداهنك في دين الله، ولو كنت أجل عندنا مما كنت فأنت مخالف، فإن كنت تتهمني بشيء من أمور الدنيا فلك الشرهة" 1. وفي مخاطبته لعبد الوهاب المذكورة ولأبيه مرة أخرى يقول:" أشوف2   1 مؤلفات الشيخ القسم الخامس، الشخصية رقم 40 ص 280. 2 أشوف: أي "أرى" وفي مختار الصحاح: شاف الشيء جلاه وبابه قَال ودينار مشوف أي مجلو إلى أن قَال: وتشوف إلى الشيء تطلع ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 766 غايتكم قريبة وتحملون الأمر على غير محمله" 1. ويقول الشيخ لبعض من توجس منهم غاية قريبة: " إن الخطر عظيم فإن الخلود في النار جزاء الردة الصريحة ما تسوى بضيعة تربح تومانا أو نصف تومان2، ويحيل في هذه المسألة على الإيمان بالله ويستدل بقول الله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (العنكبوت:60) . ويقول الشيخ في مخاطبة بعض من أحس منه خمولاً عن الموافقة: "إن كان جارياً مني شيء تنقده فتراني أحب أن تنبهني عليه، لا تترك بيان شيء في خاطرك من قبلي، وإن كنتم متجرفين على التغير، أو جتكم3 الفتنة وودكم ببرد الأرض4 فهذا شيء آخر" إلى أن قال يذكره بالإيمان والغاية: "فهذا لا ينبغي منك، ولا يطاع أحد في معصية الله، فإن وافقتمونا على الجهاد في سبيل الله وإعلاء كلمة الله فلكم الحظ الأوفر   1 المصدر السابق رقم 49 ص 315. 2 التومان عملة نقدية. مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 34ص 224. 3 "جتكم الفتنة": أي "جاءتكم" وقد عبر الشيخ باللهجة التي يفهمونها ليكون أبلغ في نفوسهم. 4 "ودكم ببرد الأرض": أي "تودون التثاقل إلى الأرض والتخلي عن القيام بأعباء الدعوة والجهاد لنصرة دين الله ورسوله زهداً منكم بأجر ذلك في الآخرة وإيثاراً للحياة الدنيا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 767 وإلا لن تضروا الله شيئاً، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: أن الطائفة المنصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم "وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار" وقد ذم الله الذي لا يثبت على دينه إلا عندما يهواه فقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} الآية (الحج: 11) – وينبغي لكم إذا عجزتم أو جبنتم أنكم ما تلوموننا، ونحمد الله الَّذي يسر لنا هذا، وجعلنا من أهله، وقد أخبر أنه عند وجود المرتدين، فلا بد من وجود المحبين، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} الآية (المائدة: 45) – جعلنا الله وإياكم من الذين لا تأخذهم في هذا لومة لائم" 1. ولقد كانت هذه الغاية ووسيلتها واضحة تمام الوضوح لدى الشيخ فقد ذكر في الإيمان بالله والإيمان بالرسل أَن هاهنا غاية ووسيلة، فأما الغاية فهي الإيمان بالله وأما الوسيلة فهي الإيمان بالرسل، وقال الشيخ: "الإيمان بالله مثل الماء والإيمان بالرسل مثل الدلو والرشاء"2. ولقد صدق الشيخ ما يقول، وطبق ما كان ينادي به ويقرره ويدعو إليه لأنه عقيدته فلما بين أن من أطاع الرسول صلى الله عليه وسلم ووحد الله لا يجوز له موالاة من حاد الله ورسوله ولو كان أقرب قريب بدليل قوله تعالى: {لا   1 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 50 ص 319- 320. 2 الدرر السنية، ط2، جـ1 ص 107. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 768 تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 1 (المجادلة: 22) . وابتلي الشيخ نفسه ولكنه صبر وثبت حتى جاوز الامتحان والابتلاء وما ذلك إلا تأييد الله له بروح منه وتقويته لإيمانه، وأمثلة ذلك في حياته كثيرة. ولنأخذ مثلاً من أحوال الشيخ التي وقعت؛ ففي حالة إخراجه من العيينة طريداً منها قد افتقد كل حظ من حظوظه الدنيوية المباحة افتقد ثقة الأمير وثقة الناس من حوله به، وبما يدعوا إليه من عقيدة السلف الصالح، وافتقد المسكن، والمكانة والجاه والنفوذ، وجميع الحظوظ النفسية، والغايات الدنيوية، ومشى وحيداً أعزل من أي سلاح ليس بيده إلا مروحة من خوص النخل، ولا يأمن مثله على نفسه أن يقتل بأهون قتلة لمن أراد ذلك ولن يأبه له أحدٌ، فيما يظهر من طبائع الأمور المعتادة، لكن كان على ثقة من ربه والله قد قوى إيمانه حتى صغر في ميزانه أمر صاحب الأحساء، وخذلان ابن معمر له وفراق الوطن والمال والأهل والزوجة   1 مؤلفات الشيخ، القسم الاول، العقيدة، ثلاثة الأصول ص 186. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 769 والمسكن، وما بقي لديه سوى الإيمان القوي بصحة عقيدة السلف الصالح وحسن الظن بالله تعالى والثقة به سبحانه وأنه سيجعل له فرجاً ومخرجاً وأن الله سينصر دينه ويعلي كلمته. وكأني بالشيخ في حالته تلك قد ترك الناس وهو محتاج أحوج ما يكون من أجل الله ليس لديه منعة من أَتباع وجنود، ولا حمية من عشيرة أو حلف، ولا غيرهم من أَصدقاء وأصحاب ونحوهم، ومع هذا كله مضى ثابتاً على عقيدته وإيمانه بأن الله تعالى سوف يجعل له وللمؤمنين فرجاً ومخرجاً وإِن غاب عنه ذلك، ولم يفكر في استرضاء الأمير، والإبقاء على أي حظ من حظوظ النفس البشرية بالتنازل عن هذه العقيدة، أو المهادنة فيها طلباً للراحة والإبقاء على شيء من حظوظ النفس ورغباتها، ولو إلى أن تحين الفرصة كما يتحين المتربصون، بل مضى في سبيل الله عليه من الله الرحمة، والإيمان زاده، الإيمان القوي بعزيمة الواثق بموعود الله وحده في الغيب، وبصيرة من ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم، يتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم، وما جرى عليه من أذى قومه وطرد ثقيف له من الطائف وغير ذلك، لا يطلب غايته العظيمة وعوض ما فقده في سبيل الله إلا من الله تعالى وحده، وهو الله الأحد الصمد الَّذي لايخيب من رجاه لقد سار من العيينة إلى الدرعية يمشي راجلا ليس معه إلا مروحة من خوص النخل في غاية الحر في فصل الصيف، لايلتفت عن طريقه، ويَلْهجُ بقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} ، ويلهج بالتسبيح: سبحان الله والحمد لله، ولاإله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 770 إلا الله والله أكبر، ولما وصل الدرعية قصد بيت ابن سويلم العريني فلما دخل عليه ضاقت عليه داره، وخاف على نفسه من محمد بن سعود فوعظه الشيخ وأسكن جأشه، وقال سيجعل الله لنا ولك فرجا ومخرجا" 1. ما أقوى هذا الإيمان والاتكال على الله تعالى في قلب هذا الشيخ رحمه الله في تلك الأحوال والأهوال التي بلغت معها القلوب الحناجر وتواردت من أجلها الظنون الفواقر، وإيمان الشيخ ثابت في نفسه قادر على طمأنة الآخرين المتزلزلين وتثبيتهم أيضاً هذا هو الشيخ المؤمن القوي، القوي بالإيمان لا بالحديد والنار، والدولة والمال، فقد ذهب عن هذا كله، ولم يتبعه منها شيء، ولم يبق معه سوى مهفة من خوص النخل لارغبة لأحد بها، وأصبح غريبا، يستوحش منه فهذا أقرب تلامذته إليه في منفاه إلى الدرعية يضيق به وبنزوله عليه ذرعا، قد خشي عاقبة أداء الحق في ضيافة الشيخ، وهي أدنى الحقوق وما ذاك إلا لشدة غربة الشيخ وهَوَان دعوته على الناس، وطمعهم في الباطل، وإعجابهم بمنافاة الحق ما يكون، وتسلط الملوك والأمراء على دعاة الخير وأهله تسلطا ملأ الأفئدة رعباً وزلزل القلوب عن بصيرتها واستنارتها، ولكن الشيخ مازال قاعدة صلبة في ثباته على الحق وقوة إيمانه، ومضاء عزيمته على المسير فيما دعا إليه من دين الإسلام بالطريقة التي سار عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم.   1 ابن بشر عنوان المجد 1/11. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 771 يقول الشيخ محمد بن أحمد الحفضي (1178-1237هـ) 1: دعا إلى الله وبالتهليلة ... يصرخ بين أظهر القبيلة مستضعفا وما له مناصر ... ولا له معاون موازر في ذلة وقلة وفي يده ... مهفة تغنيه عن مهنده كأنها ريح الصبا في الرعب ... والحق يعلو بجنود الرب قد أذكرتني درة لعمر ... وضرب موسى بالعصا للحجر ولم يزل يدعو إلى دين النبي ... ليس إلى نفس دعا أو مذهب يعلم الناس معاني أشهد ... أن لا إله غير فرد يعبد محمد نبيه وعبده ... رسوله إليكم وقصده أن تعبدوه وحده لا تشركوا ... شيئا به والابتداع فاتركوا2 ما أعظمها من عقيدة وما أسمى غايتها، لقد تطهرت عقيدته بل وتجردت غايته حتى صارت خالصة لله وحده وبقي إيمانه قويا لم يهن، ثابتا لم يتزعزع، ماضيا لم يتراجع حتى كانت له العاقبة، وحتى لقي الله وهو على عقيدته لم يتغير بالنصر والظفر والغنيمة، وتلك سنة رسول الله   1 الأعلام للزركلي، 6/ 17. 2 الهدية السنية للشيخ سليمان بن سحمان ص 124- وانظر الشيخ محمد بن عبد الوهاب.. لأحمد بن حجر آل بوطامي ص 82، 83، وتاريخ البلاد العربية السعودية للدكتور منير العجلاني ص 327، وتذكرة أولى العرفان لإبراهيم بن عبيد، ج 1/ 29. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 772 صلى الله عليه وسلم في ثباته وصموده كما قَال الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (يوسف: 108) . قَال الشيخ فيها: "إن الدعوة إلى الله طريق من اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم والتنبيه على الإخلاص، لأن كثيرا لو دعا إلى الحق، فهو يدعو إلى نفسه، وأن البصيرة من الفرائض، وأن من دلائل حسن التوحيد أنه تنزيه الله تعالى عن المسبة وأن من قبح الشرك كونه مسبة لله تعالى، وإبعاد المسلم عن المشركين لأن لا يصير منهم ولو لم يشرك وهي من أهم ما فيها" 1. وقَال الشيخ عبد الرحمن بن قاسم عنه رحمه الله: " وفيه مشابهة لنبينا صلى الله عليه وسلم فيما ناله من الرؤساء والأحبار في ابتداء دعوته، فإنه رحمه الله لما أظهر الدعوة إلى توحيد الله وإفراده بالعبادة استصرخوا بأهل الحرمين، والنجرانيين وبني خالد وغيرهم عليه وألبت تلك الطوائف فثبته الله ومن آواه ونصره على قلة منهم وضعف، وصبروا على مخالفة الناس وتحملوا عداوة كل من عادى هذا الدين، بل أَشْبَهَ أمر الشيخ ما جرى لخاتم النبيين حتى في مهاجره وأنصاره وكثرة من عاداه وناوأه كما هو حال الحق، في المبادئ يرده الكثيرون وينكرونه ويقبله القليل وينصرونه، ثم تكون الغلبة له " 2 اهـ.   1 مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، كتاب التوحيد ص 21. 2 الدرر السنية 12/7. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 773 ولا شك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو القدوة المُثْلى والإمام الأعلى لجميع المسلمين وكل من كان في محبته واتباعه أتم كان في أحواله إليه أقرب صلى الله عليه وسلم. وقد أفصح عن هذا الاتباع في هذه الحالة إلى علماء الإسلام، آنس الله بهم غربة الدين، وأحيا بهم سنة إمام المتقين، ورسول رب العالمين صلى الله عليه وسلم، ففي هذا المنشور شكا إلى علماء الإسلام ما جرى من الفتنة بسبب نهيه العوام عن عاداتهم الشركية التي نشؤوا عليها، وعظمت في نفوسهم أن تنقطع عاداتهم تلك، وساعدهم بعض أدعياء العلم وهم من أبعد الناس عنه إذ العالم من يخشى الله – فتوهموا أن النهي عن الشرك تنقص للأنبياء والصالحين وهذا بعينه هو الذي جرى على رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ذكر أن عيسى عليه السلام عبد مربوب ليس له من الأمر شيء قالت النصارى: إنه سب المسيح وأمه، وهكذا قالت الرافضة لمن عرف حقوق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحبهم ولم يغْلُ فيهم، رموه ببغض أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا هؤلاء، لما ذكر لهم ما ذكره الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وما ذكره أهل العلم من جميع الطوائف من الأمر بإخلاص الدين لله والنهي من مشابهة أهل الكتاب من قبلنا في اتخاذ الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله قَالوا له تنقصتم الأنبياء والصالحين والأولياء1، والله تعالى ناصر لدينه ولو كره   1 ولقد أحسن الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي في كتابه: "التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل" حيث قَال: " من أوسع أودية الباطل الغلو في الأفاضل، ومن أمضى أسلحته أن يرمي الغالي كل من يحاول رده إلى الحق ببعض أولئك الأفاضل ومعاداتهم، يرى بعض أهل العلم أن النصارى أول ما غلو في عيسى عليه السلام كان الغلاة يرمون كل من أنكر عليهم بأنه يبغض عيسى ويحقره ونحو ذلك" ج1/6. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 774 المشركون " 1. فكان هذا من أعظم ما ساعد على انتشار الغلو لأن بقايا أهل الحق كانوا يرون أنهم إذا أنكروا على الغلاة نسبوا إلى ما هم أشد الناس كراهية له من بغض عيسى وتحقيره ومقتهم الجمهور وأوذوا، فثبطهم هذا عن الإنكار، وخلا الجو للشيطان وقريب من هذا حال الغلاة الروافض، وحال القبوريين، وحال غلاة المقلدين2. ويقول حافظ وهبه: " إن الشيخ محمد بن عبد الوهاب مصلح مجدد داع إلى الرجوع إلى الحق، فليس للشيخ محمد تعاليم خاصة، ولا آراء خاصة وكل ما يطبق في نجد من الفروع هو طبق مذهب الإمام أحمد ابن حنبل، وأما في العقائد فهم يتبعون السلف الصالح، ويخالفون من عداهم، وتكاد تكون عقائدهم وعباداتهم مطابقة تمام المطابقة لما كتبه ابن تيمية وتلاميذه في كتبهم وإن كانوا يخالفونهم في مسائل معدودة من فروع الدين. وهم يرون فوق ذلك أن ما عليه أكثر المسلمين من العقائد   1 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 26ص 176- 177. 2 التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل تأليف الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي، ج1/ 6. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 775 والعبادات لا ينطبق على أساس الدين الإسلامي الصحيح. إلى أن قَال عن الشيخ وأتباعه: " وبالجملة: فهم يحرصون على العبادات الشرعية أن تكون على السنة التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم بلا زيادة ولا نقص" 1. هذا وقد شهد للشيخ محمد بن عبد الوهاب، بأنه متبع وغير مبتدع وأنه إمام مجدد وداع إلى الله على بصيرة كثيرون من الكتاب والعلماء لا يحصون كثرة من الشرق والغرب، من الموالين وغير الموالين من المسلمين وغير المسلمين. وقد سبقنا إلى جمع هذه الآراء والشهادات جمع من العلماء والباحثين ونذكر منهم الشيخ أحمد بن حجر آل بوطامي في كتابه: "الشيخ محمد بن عبد الوهاب عقيدته السلفية ودعوته الإصلاحية وثناء العلماء عليه" فقد قَال إِن العلماء السلفيين والمؤرخين المحققين قد أكثروا من الثناء على الشيخ والتنويه بدعوته القائمة على دعائم الكتاب والسنة. ثم نقل عن اثنين وأربعين عالما وكاتباً وباحثا ومفكرا من المسلمين وغيرهم ومن الموالين وغير الموالين ومن مستشرقين وغيرهم، في أزمنة مختلفة وأمكنة متعددة ومن مصادر مختلفة. واستغرق ما نقله من ذلك إحدى وأربعين صفحة من ص80 –121.   1 جزيرة العرب في القرن العشرين، تأليف حافظ وهبه ص322-323. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 776 ومن هؤلاء المشايخ الَّذين سبقونا في جمع هذه الشهادات وتدوينها الشيخ عبد الله بن سعد الرويشد في كتابه الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب في التاريخ فقد عقد في الجزء الثاني من كتابه فصلا هو الفصل العاشر في آراء العلماء والباحثين والمفكرين من الشرق والغرب وذكر من ذلك نقولا عن أربعة وأربعين شخصاً تزيد وتنقص عما أورده الشيخ أحمد بن حجر آل بوطامي، وهي آراء من أناس كثيرين مختلفي المشارب والمذاهب والأزمنة والأمكنة وكلها تجمع على أن الشيخ يعتقد عقيدة السلف الصالح ويذهب مذهبهم، وما خرج عنهم قيد شعرة واستغرق ما نقله من ص 277- 360. وأورد أيضاً الدكتور عبد الله عبد الماجد إبراهيم كثيراً من هذه النقول في بحثه الَّذي قدمه لمؤتمر أسبوع الشيخ محمد ابن عبد الوهاب بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية تضمنت كثيراً من كلام العلماء والباحثين من مسلمين وغيرهم، واستغرق ما نقله وجمعه ص 139- 162. وقد نقلوا شهادات كثيرة حتى من الأَعداء، تجعلنا نتمثل بقول القائل: مناقبٌ شهدَ العدو بفضلِها ... والفضلُ ما شَهدتْ به الأعداءُ والمقصود أن نشير إلى ما توصل إليه من سبقونا في جمع هذه الشهادات المختلفة زماناً ومكاناً وعقيدةً ألا وهو أن جميع هذه الشهادات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 777 تتفق من غير تواطئ وتواعد بين أصحابها على حقيقة واقعية رأوها جميعاً على اختلاف رؤيتهم وهي أن عقيدة الشيخ ومنهجه هو ما يقتضيه الإسلام الخالص الذي أتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن أعداء عقيدة الشيخ ومنهجه هم أعداء الإسلام في الحقيقة. وقد أوردنا فيما تقدم شيئاً من هذه الشهادات وسنورد إن شاء الله تعالى بعضاً من هذه الشهادات والآراء الصحيحة والأقوال السديدة التي تبين أثر عقيدة الشيخ الحسن وانتشارها الواسع سيما فيما خرج عن سلطان أنصارها1. أما في هذا الفصل فمن أجل إستكشاف أسباب ومبادئ تأثير عقيدة الشيخ نستعرض جهود الشيخ وجهاده قبل مناصرة آل سعود له، وقبل ذلك أجيب عن سؤال ملح هو: كيف أثر الشيخ في البيئة من حوله دون سائر مشائخه، والمشائخ في عصره؟ وكيف اختص بذلك دون غيره منهم؟ والجواب هو: مع ما سبق أن بينا أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب أخذ العلم عن أجل علماء نجد في بلده كما أخذ العلم عن أجل علماء الحرمين والبصرة والتقى بعلماء الأحساء وغيرهم من علماء الأقطار التي التي زارها وفيهم عدول زمانهم اتصل بهم سند الشيخ إلى من قبلهم ممن اتصل سنده بالسلف الصالح وجميع العلماء الَّذين أخذ عنهم قد أجازوه   1 انظر: (2/1019) من هذا البحث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 778 وقرروا له التوحيد. واستحسنوا اتجاهه وأقروه على معرفته النيرة لحقيقة الإسلام الَّذي بعث الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم به وحرروا له المعتقد السليم، عقيدة السلف الصالح وشاركوه في مقت الأعمال المنكرة الشائعة في بلاد المسلمين وأن بعضها قد وصل إلى الشرك الأكبر الَّذي لا يغفره الله ولا يصح معه إسلام ولكن عذرهم عدم المساعد لهم في تحقيق ما تضمنه الكتاب والسنة من إقامة الدين وإخلاصه لرب العالمين، وإلا فهم يدينون لله بأنه لايستحق العبادة سواه في أنفسهم وأهليهم وما يقدرون عليه، أما إزالة هذه البدع ونهي الناس عما اعتقدوه وعملوه من منافاة الدين فيحتاج إلى سيف قائم وإمام عادل وكان ذلك متعذرا في وقتهم1. أما علماء السوء الذين آثروا الحظ الأدنى على الحظ الأعلى، واشتروا الحياة الدنيا بالآخرة {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} فقد جانب الشيخ محمد بن عبد الوهاب طريقهم وتركهم وترك منهاجهم. قَال ابن غنام عن الشيخ: إنه رحمه الله "رفض منهج الغلول والخيانة، وأدى من العلم الأمانة، وترك ما كان علماء السوء قبله له سالكون، وفي قعره العميق راكسون" 2. ثم قيض الله للشيخ أميرا راشدا ينصر دعوته إلى عقيدة السلف   1 انظر: التوضيح عن توحيد الخلاق، ص 19، وانظر: مقالة الشيخ ابن حميد ص 90 المطبوعة ضمن تحفة الناسك ورسائل أخرى ط 7. 2 روضة ابن غنام ج1 /28. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 779 الصالح وينشر دين الله ورسوله بسلطانه وسيفه فالشيخ يبين العلم والأمير يقوم بتنفيذه بل إن كلا من الشيخ والأمير قد توحدت جهودهما وتكاملت فحصل لكلام الشيخ بالحق نفاذ لم يحصل لمشائخه وغيرهم وهذا فضل من الله تعالى أكرمه به والله يؤتي فضله من يشاء، وتصديق لما أخبر الله به من نصرة من ينصر دين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما هي القاعدة في كرامات الأولياء حسب ما حققه شيخ الإسلام أحمد بن تيمية من أن الكرامة الخارقة للعادة عند اشتداد الحاجة إلى إقامة الحجة وتكون على يد أَتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم امتدادا لآيات نبوته صلى الله عليه وسلم ومعجزاته وهي في نفس الوقت كرامة من الله لهم على قدر أَتباعهم، والكرامة فعل الله تعالى وليست فعلا لمن وقعت له فلله الحمد والشكر1.. والله أعلم. جهود الشيخ المؤثرة في نشر عقيدة السلف الصالح واستعداده: عاد الشيخ من رحلاته العلمية المباركة إلى حريملاء، وكان أبوه قد انتقل إليها من العيينة، ولما استقر الشيخ في هذه البلدة مع أبيه وأسرته أخذ يدرس على أبيه وإن كان مستواه العلمي لا يقل عن مستوى أبيه إن لم يزد عليه، لكنه من باب أدبه وتواضعه مع والده وشيخه الأول وموجهه2، ومع ذلك أخذ ينكر ما يفعله الجهال من البدع والشرك في   1 انظر: قاعدة في المعجزات والكرامات وأنواع خوارق العادات ... من قواعد شيخ الإسلام ابن تيمية ص2- 36، ط1، 1349 مطبعة المنار. 2 ابن بشر، عنوان المجد1/8، وانظر مبحث عودة الشيخ من رحلاته العلمية ص113 من هذا البحث، ومبحث نتيجة رحلاته العلمية 1/ 180 من هذا البحث أيضاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 780 الأقوال والأفعال. قَال ابن بشر: " وكثر منه الإنكار لذلك ولجميع المحظورات حتى وقع بينه وبين أبيه كلام وكذلك وقع بينه وبين أناس في البلد فأقام على ذلك مدة سنين حتى توفي أبوه عبد الوهاب في سنة ثلاث وخمسين ومائة وألف، ثم أعلن بالدعوة والإنكار والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتبعه أناس من أهل البلد مالوا معه واشتهر بذلك " 1. ويقول ابن غنام يصف دعوته وجهوده بعد عودته من رحلته إلى حريملاء ما معناه: "وانتظم في سلكه رجال فحول، قرأوا عليه كتب الحديث والفقه والتفسير، وحقق لهم منهج الدعوة إلى الله أتم التحقيق وكان رحمه الله يعلن بالتوحيد ويدعو إليه وينادي بإِبطال دعاء غير الله وينكر على من يمارسه جهارا إذا لم يكف الإسرار، وينصح من عدل عن الحق بأسلوب سديد، ويزجر الناس عموما عن الشرك والفساد، وجد واجتهد في تعليم الواجب وبذل المناصحة للخاص والعام ونشر شرائع الإسلام وإقامة سنة محمد صلى الله عليه وسلم وكشف الشبه ودحض المفتريات وتحذير الناس – إن داموا على ما هم فيه – وقوع النقمة والعذاب، وكل ذلك قياما بأمانة العلم رغبة   1 ابن بشر، عنوان المجد1/8، 9. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 781 فيما عند الله وما أعده تعالى للقائمين بذلك وخشية من الوقوع في الوعيد الوارد في القرآن المجيد {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} (البقرة:159) " 1. يقول حافظ وهبه: "عندما رجع الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى وطنه جد به العزم أن ينقذ نجدا مما حل بها فبدأ يدعو الناس أن يعودوا إلى دين الله الصحيح ويتركوا ما جد من البدع وغيرها مما يتنافى مع نصوص الكتاب والسنة. وفي الوقت نفسه طلب إلى الأمراء ذوي الشأن أن يطبقوا أحكام الشرع، وقد قام بدعوته مسالما لا يدعو إلى شدة أوعنف وراسل علماء عصره في البلاد الإسلامية الأخرى وأظهر ألمه لما أصاب المسلمين. وحضهم على أن يكونوا من زمرة المصلحين الدينيين فكان ذلك سببا طبيعياً لغضب خصومه، أولئك الذين خافوا على سلطانهم من دعوته" 2. ويصف ابن غنام استعداد الشيخ في دعوته إلى عقيدة السلف الصالح فيقول: ما معناه "وكان الشيخ رحمه الله قد أعطاه الله استعدادا قوياً فلم يخف في الله لومة لائم، وصار له توكل على ربه واعتصام به فلم يبال بجحافل الأعداء وجهامة الباطل3 وكيد شياطين الجن والإنس ووحي   1 روضة ابن غنام ج1/ 28، 29. 2 جزيرة العرب في القرن العشرين، تأليف حافظ وهبه، ص 320. 3 قال في مختار الصحاح: (الجهام) بالفتح السحاب الذي لا ماء فيه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 782 بعضهم إلى بعض بزخرف القول وغرروه وما رموه به من القوادح والمفتريات وما صوبوا له من سهام البغي والحسد والتكبر والتجبر، وأقام رحمه الله كما يذكر ابن غنام في بلد حريملاء على هذه الصفة سنين، ولم يحددها ابن غنام ولا ابن بشر بعدد لكنهما ذكراها بصيغة الجمع. وكان الشيخ على ما يصفه ابن غنام في تلك المدة يروع كل معاند ومعارض فاشتهر حاله في جميع بلدان العارض في حريملاء والعيينة والدرعية والرياض ومنفوحة وجعل الله لدعوته قبولاً في هذه البلدان وهو لايزال في حريملاء، فكان له في كل بلد من هذه البلدان أَتباع كما أَن له معارضين وأعداء حسب سنة الله تعالى فقد جعل لمن يقوم بالحق معارضين وأعداء حتى الأنبياء فكيف بأَتباعهم ولكن الله يجعل العاقبة للمتقين، ولقد قبل دعوة الشيخ أناس لهم مكانتهم في بلدانهم كالأمير عثمان بن معمر، وكان يفد إليه الناس من جميع ما حوله ممن سمع به وهو مقيم في حريملاء ويسمعون بيانه ودروسه حتى كثر محبوه وتابعوه وانضم لدعوته جم غفير، وكلما زاد شأن الدعوة كلما تباين الناس فيه حتى انقسموا إلى فريقين- فريق فرح بالشيخ وأحبه وأحب دعوته وعاهده على ذلك وبايعه على نشر الإسلام والقيام به وفريق أنكر عليه وأبغضه وكره دعوته وقام وقعد في الصد عن الإسلام وإِلقاء الشبه على القائمين بها ليصدوهم ويثنوا سيرهم الحميد وفي هؤلاء الفريق المعارض كثير من ذوي العلم والأَفهام ولكن انسلخوا من علمهم واتبعوا أهواءهم وركضوا مع الرؤساء الظلمة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 783 والجهلة واستهوتهم الشياطين فقلدهم العوام والطغام وهم الأكثر فاشتدت المحنة ولكن أَتباع الشيخ على بصيرة من الأمر يعلمون أَن هذه سنة الله تعالى في الذين خلوا من قبل وهي جارية لا تبديل لها ولا تحويل فمن سنة الله تعالى أن الناس إذا جاءهم بيان الهدى فمنهم من يقبله وهو من سبقت لهم السعادة، ومنهم من يرفضه وهو من كتب عليه الشقاء قال الله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (البقرة: 213) . ولذا كان فريق الشيخ مع قلتهم مصممين على المضي معه في بيان الواجب حتى لا يخسروا دينهم مهما كانت النتائج فأثابهم الله تعالى لما علم صدق نيتهم بأن جعل شأنهم يرتفع وكفتهم ترجح وكل يوم يمر كان في زيادتهم ونقصان معارضيهم فكان شأن المعارضين بعد أَن بلغ نهايته في البغي ينخفض ويخف، أما أتباع الشيخ فهم يزيدون في قوتهم وعددهم وبصيرتهم وعلومهم ويقينهم بوضوح رشد طريقتهم وهدايتهم كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (العنكبوت: 69) 1. ولكن حريملاء كانت غير صالحة لأن تكون منطلقاً للدعوة إلى الله تعالى فقد كان رؤساؤها منقسمين إلى قبيلتين أصلهما قبيلة واحدة، وكل منهم يدعي أن القول له وليس للأخرى على الثانية قول وما كان لحريملاء   1 انظر: روضة ابن غنام 1/28-30. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 784 رئيس يزع الجميع ويجنبهم هذا الاختلاف وكان في البلد عبيد لإحدى القبيلتين كثير تعديهم وفسقهم فأراد الشيخ أن يمنعوا عن الفساد وينفذ فيهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلم يحصل ذلك لعدم وجود الرئيس الوازع بل إِن هؤلاء العبيد المفسدين في الأرض هموا أن يفتكوا بالشيخ ويقتلوه بالليل سرا، فلما تسوروا عليه الجدار علم بهم أناس فصاحوا بهم فهربوا فانتقل الشيخ بعدها من حريملاء إلى العيينة1. والمصادر الأولى كما قال الدكتور العثيمين لا تشير إلى سنة انتقال الشيخ من حريملاء إلى العيينة2 ويميل الدكتور منير العجلاني إلى أَن المدة التي قضاها الشيخ في حريملاء لا تتجاوز أربعة أعوام سنتين قبل وفاة أبيه ثم سنتين بعد وفاته3، وإذا علمنا أَن والده توفي سنة 1153 هـ4 فيكون عام ارتحاله هوما يقارب 1155 هـ، والله أعلم. تحليل أسباب انتقال الشيخ بدعوته من حريملاء إلى العيينة: وبالرغم من القبول الذي جعله الله لدعوة الشيخ إلى الإسلام وهو لايزال في حريملاء إلا أن حريملاء كما ذكرنا ما كانت تنعم برئيس مطاع يزع جميع سكانها إلى الحق والدعوة إلى الإسلام وإِن كان الإسلام حقاً   1 ابن بشر، عنوان المجد 1/9. 2 الشيخ محمد بن عبد الوهاب ... للدكتور العثيمين ص42. 3 تاريخ البلاد العربية السعودية ص 211. 4 انظر 1/ 182- 183 من هذا البحث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 785 فإنه لابد لها من أمير مطاع يزع الله به الناس جميعاً فيكون بمثابة المرجع للجميع يجد فيه المحق تأييدا وتشجيعاً وضمانا لحقه ورعاية لجهوده، كما يجد فيه المبطل رادعاً قوياً يمنعه من الفوضوية والتعدي وتخريب أمن مجتمعه وحياة مواطنيه. قال الله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} (البقرة: 251) . وقال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج: 40) . ولذا يقول العالم الاجتماعي ابن خلدون في "مقدمته" تحت عنوان: (ضرورة العمران البشري إلى السلطان الوازع بعضهم عن بعض) : " إِن الاجتماع الإنساني ضروري ... ثم إن هذا الاجتماع إذا حصل للبشر ... وتم عمران العالم بهم، فلابد من وازع يدفع بعضهم عن بعض لما في طباعهم الحيوانية من العدوان والظلم ... فيكون ذلك الوازع واحدا منهم يكون له عليهم الغلبة والسلطان واليد القاهرة حتى لا يصل أحد إلى غيره بعدوان وهذا هو معنى الملك، وقد تبين لك بهذا أَن للإنسان خاصة طبيعية، ولابد لهم منها، وقد يوجد في بعض الحيوانات العجم على ما ذكره الحكماء كما في الجراد والنحل لما استقرىء فيها من الحكم والانقياد والاتباع لرئيس من أشخاصها متميز عنهم في خلقه وجثمانه إلا أن ذلك موجود لغير الإنسان بمقتضى الفطرة والهداية، لا بمقتضى الفكرة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 786 والسياسة {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} 1 (طه: 50) ". لذلك بعد مواجهة الشيخ للوضع السياسي في حريملاء أدرك رحمه الله أَنه لابد للبناء والعمران الإسلامي من سلطان يحميه من هدم الآخرين وأن البناء لا يبلغ تمامه إذا كان يوجد بجانب من يبني أحد غيره يهدم، وأدرك رحمه الله أَن السلطان مختل في تلك البلدة وإذا كان مختلا فلا تصلح لأن تكون مقراً للدعوة لما في طباع البشر من العدوان عند فقد السياسة الشرعية أو السلطة الوازعة. عندئذ تعين لدى الشيخ أن السياسة الشرعية في بناء البيئة الإسلامية وهدم البيئة الجاهلية تقتضي البحث عن أمير قوي لا ينازع وليس مجرد أمير قوي لا ينازع فحسب بل مع ما أعطاه الله من السيادة وحسن السياسة وتدبير الملك والرعية وجودة الرأي والفكرة، مع هذا يكون بصيراً في الدين، يدين بالإسلام، ويقتنع بصحة الدعوة إليه والقيام بنصرته. وحريملاء ليس فيها من هذه صفته، وكان عثمان بن معمر أمير العيينة ممن توفر فيهم صفة الأمير، وكان الشيخ قد أَبلغه الدعوة إلى الإسلام فقبل فكان المرشح من قبل الشيخ لسد الحاجة إلى أمير يحمي منجزات الدعوة بسيفه، وينشرها بقيادته وجهاده ونصرته فانتقل إلى العيينة، واختارها منطلقاً للدعوة.   1 مقدمة ابن خلدون، ط مصطفى محمد المصرية، ص 41. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 787 قال ابن غنام: "ثم بعد ذلك عزم على المسير عنها (يعني حريملاء) والارتحال والاقامة بالعيينة فجد في الرحيل والانتقال، وذلك بعد أن هدى الله تعالى عثمان بن معمر لقبول هذا الدين الذي أحياه ذو القلب المنور فدخل منه شيء في قلبه " 1. هذا هو حقيقة سبب انتقال الشيخ من حريملاء إلى العيينة الذي هو كما نرى سعي في مصلحة الدعوة إلى عقيدة السلف الصالح التي هي الإسلام، وليس شوقاً إلى مسقط رأسه ومرتع صباه العيينة ولكن هو ما ظهر له من أن العيينة أصلح بلد تنطلق منه الدعوة إلى الله تعالى على نهج السلف الصالح واعتقادهم السليم ولذلك لما جفاه أميرها وخذله على ما سنبينه بحول الله هاجر من العيينة وهجر مرتع صباه ومسكنه يبحث عن ضالته في غيرها. أثر إقامة الشيخ في حريملاء: لقد كان لإقامة الشيخ في حريملاء تلك المدة أثر كبير في ما يعود على دعوته إلى الله بالفائدة فكانت إِقامته وجهوده خصوصا بعد وفاة أبيه المرحلة الأولى التأسيسية وهي مرحلة البيان والنشر، فإِن الشيخ بعد أن توفي والده أصبح أكبر شخصية علمية في البلدة والتفتت الأنظار إليه وإلى ما يقول من بيان للتوحيد الذي هو حق الله على العبيد، مما لا عهد لأكثر الناس به حيث كانوا في غفلة عن تقرير التوحيد ونقد المجتمع والبيئة في   1 روضة ابن غنام 1/ 30. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 788 ُعْدِهم عنه والبراءة من الشرك وأهله حتى ولو كان أهل الشرك من الأقرباء والمعارف والأصحاب، وهذا زاد من انتشار سمعته في المناطق الأخرى، وجعل بعض الأفراد من بلدان العارض المختلفة يفدون إليه في حريملاء ليستمعوا ما يقول وما يدعو إليه، وبهذه الوسيلة التى هيأها الله له جعل يوضح حقيقة الإسلام الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى، ويبين ما يضاده وينقضه من أنواع الشرك والكفر ثم يقارنه بالواقع من هذه الأمور في البيئة من حوله فانتشرت عقيدة السلف الصالح وبدأ الناس ينتبهون لما كانوا في غفلة عنه وبدأ الإِحساس يقوى واليقظة تزيد، ولقيت دعوة الشيخ إلى عقيدة السلف الصالح قبولاً وأنصاراً في بعض المدن كالعيينة والدرعية وقدم عليه طائفة من أهل العارض إلى حريملاء وكان أعظم رجل كسبه إلى الدعوة إلى الله خلال هذه المرحلة هو أمير العيينة عثمان بن معمر، والذي كان على يديه بداية تطبيق الدعوة عمليا1. أثر عقيدة الشيخ في العيينة: انتقل الشيخ إلى العيينة، وكان أميرها هو عثمان بن حمد بن عبد الله بن معمر بعد أخيه محمد بن حمد الملقب "خرفاش "، وقد هداه الله   1 انظر: تاريخ البلاد العربية السعودية للدكتور منير العجلاني، ص 211، والشيخ محمد بن عبد الوهاب ... للدكتور العثيمين، ص 41، 42. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 789 تعالى فاقتنع بدعوة الشيخ، وأعلَنَ ذلك بين رجاله المقربين، وتلقى الشيخ بالقبول وأكرمه، وتزوج الشيخ عمته الجوهرة بنت عبد الله بن معمر، وكانت ذات مكانة عالية فقد ذكر المؤرخون أن محمد بن سعود ورفاقه لم ينزلوا من موضع تحصنهم عقب قتل محمد بن حمد بن عبد الله بن معمر الملقب خرفاش لزيد بن مرخان إلا بعد أن أعطتهم الأمان سنة 1139 هـ1 ولعل الشيخ يترسم بذلك الزواج منها خطى رسول الله صلى الله عليه وسلم من خديجة ذات المكانة العالية رضي الله عنها، وما من شك أن العلاقة بالمصاهرة تزداد متانة سيما وأَن الشيخ يرجو نصرة هذا الأمير، لأَنه رأى بعد ما وجده في حريملاء أن المتعين اتخاذ سياسة راشدة لحماية منجزات الدعوة ومكاسبها، والقيام بنصرتها لأنه لا دين إلا بجماعة ولا جماعة إلا بإمامة ولا إمامة إلا بالسمع والطاعة والسمع والطاعة إنما تكون للأمير الذي توفرت فيه ملكات الإِمارة مع صحة دينه وكان عثمان هذا من المرجوين لهذا المقام الجليل على حد قول الشاعر: قد هيؤوك لأمر لو فطنت له ... فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل لذا فإن الشيخ جاء إلى العيينة وعرض على عثمان هذه الرغبة وبين خطورة هذا الشأن وأهميته وقيمته العظمى ورشحه لمقام الإمامة فيه فقال له بعد أن استعرض ما قام به ودعا إليه من التوحيد ورغب إليه في   1 عنوان المجد، ابن بشر، سابقة سنة 1139 هـ ج 1/ 234، 235، وانظر: الدكتور العثيمين، في كتابه الشيخ محمد ... ص 43. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 790 نصرة دين الله: "إني أرجو إِن أنت قمت بنصر لا إله إلا الله، أَنْ يظهرك الله تعالى وتملك نجدا وأَعرابها" 1. ثم بعد ذلك الذي عرضه الشيخ على ابن معمر ورغبه فيه من أمل الخير لمن ينصر الإسلام في الدنيا ثم الآخرة قام عثمان وساعد الشيخ فأعلن بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتبعه أناس من أهل العيينة2. قال المؤرخ ابن غنام: "قام معه عثمان وقعد وساعده على ذلك واجتهد وأمر الناس بالاتباع، وعدم المشاققة له والنزاع وأَلزَم الخاصة والعامة أَن يمتثلوا أمره وكلامه ويسلكوا سبل الاستقامة ويظهروا توقيره وإِكرامه فكان بعد ذلك الأمر والإِلزام، وصدور ذلك الاعتناء التام وشدة الرغبة والاهتمام وإِبداء التعظيم له والاحتشام تسمع أقواله وتطاع وتملأ الصدور والأَسماع فصار للزيغ ارتداع وقمع وإِقلاع وللحق والهدى أَتباع، ففشا الدين في بلدان العارض المعروفة، وأكثرهم قلوبهم عن ذلك النور مصروفة، وعلى ما كانوا عليه من الأمور المألوفة ملازمة محبوسة موقوفة. ولكن لم يصبر على الإِقامة بذلك المكان مع مشاهدته فيه الأوثان فعند ذلك أمر الشيخ محمد، الأمير عثمان بهدم القبب والمساجد المبنية في الجبيلة على قبور الصحابة، وقطع الأشجار التي كانت الخلق لها في كل   1 عنوان المجد ... لابن بشر 1/9. 2 عنوان المجد ... لابن بشر 1/9. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 791 ساعة منتابة؛ فبادر عثمان لذلك وامتثل وخرج الشيخ معه وجماعتهم على عجل وخرجوا بالمعاول، والكل للأجر آمِل فهدموا تلك المساجد وأزالوا رفيع المشاهد، وأزالوا جميع المحظور عن جميع تلك القبور، وعدلت على السنن المشروع واندرس الأمر الممنوع وهدم رفيع ذلك البناء، وبطل ذلك التعظيم لها والاعتناء، وخر شامخ الأحجار وخر ما في العارض من معبدات الأشجار كشجرة قريوة وأبي دجانة والذيب فلم يكن أحد إلى التبرك بهما ينيب، ولم تسألها من لمْ تتزوج مثل العادات زوجا حبيب1، وليس في تلك الأزمان بغريب وليس وقوع أقبح منه بعجيب، وكان الشيخ رحمه الله تعالى هو الذي باشر قطع شجرة الذيب بيده مع بعض أصحابه فنال من ربه جزيل أجره وثوابه، وقطع شجرة قريوة ثنيان بن سعود ومشاري بن سعود وأحمد بن سويلم وجماعة سواهم فأدركوا من الفوز مناهم، فلم يبق وثن في البلدان التي كانت تحت يد عثمان، وشاع ذلك واستبان ونعم بذلك أهل الإيمان وصلحوا حالا من ذلك المكان وانتشر الحق من ذلك الأوان واشتهر الأمر وبان وسارت بذلك الركبان"2 انتهى. وقد نقلته بنصه من تاريخ ابن غنام لأنه تضمن وصفاً واضحا لحماسة الأمير عثمان بن معمر في مناصرة الشيخ ودقيقاً في ذكره ما تم   1 الصحيح (حبيبا) وإنما جرى على السجع. 2 روضة ابن غنام ج1/ 30- 31. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 792 من تنفيذ أمور العقيدة السلفية وما كان لها من أثر في انتشار توحيد الله بالعبادة، وزوال الشرك وعقده من أعمال الناس وقلوبهم، فإِنهم إذا كانوا يعتقدون مثلا أَن قبر الولي يحميهم، وأَن الولي فيه سر النفع والضر ثم وجدوا هذا الولي غير قادر على حماية مقامه وعظمته في النفوس ولا حماية القبة المبنية على قبره والثأر ممن هدمها وأهانه عرفوا بأنهم كانوا على خطأٍ في الاعتقاد بقدرته على النفع والضر ومن ثم خشيته ورجائه وتقريب النذور والقرابين إليه وبذلك تكون الأعمال أَمضى في إِقناع الناس من الأقوال وأنفع من كلام لا نفاذ له فرحم الله الشيخ رحمة واسعة. ونستخلص وصفاً للحالة النفسية والمقاومة العملية من خلال ما يذكره المؤرخ ابن بشر من قصة هدم القبة المبنية على قبر الصحابي زيد بن الخطاب رضي الله عنه التي عند الجبيلة: " قال الشيخ لعثمان دعنا نهدم هذه القبة التي وضعت على الباطل وضل بها الناس عن الهدى. فقال: دونكها فاهدمها، فقال الشيخ: أخاف من أهل الجبيلة أَن يوقعوا بنا، ولا أَستطيع هدمها إلا وأنت معي، فسار معه عثمان بنحو ستمائة رجل، فلما قربوا منها ظهر عليهم أهل الجبيلة يريدون أن يمنعوها، فلما رآهم عثمان علم ما هموا به. فتأهب لحربهم وأمر جموعه أن تتعزل للحرب فلما رأوا ذلك كفوا عن الحرب وخلوا بينهم وبينها، وقال ابن بشر ذكر لي أن عثمان لما أتاها قال للشيخ: نحن لا نتعرضها. فقال الشيخ أعطوني الفأس فهدمها الشيخ بيده حتى ساواها. ثم رجعوا فانتظر تلك الليلة جهال البدو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 793 وسفهاؤهم ما يحدث على الشيخ بسبب هدمها فأصبح في أحسن حال" 1 انتهى. لا شك أن هذه الأعمال التنفيذية لعقيدة السلف الصالح حين تأتي في مناسبتها من أعظم وسائل التطهير وإِقناع الناس بصحة ما يقوله الداعية من بيان لساني، وإيقاظ الضمائر المتبلدة، وإِحياء القلوب المريضة وتصحيح العقائد السقيمة. ولا أدل على ذلك التيقظ والإِحساس بالحياة من قصة امرأة من أهل العيينة استيقظ قلبها بالشعور الغامر بفحش الزنا والرغبة في الطهارة منه على ضوء شرع الله الذي طهر به الشيخ محمد بن عبد الوهاب العيينة من مظاهر الوثنية بهدمها وإِهانتها وإقامة توحيد الله بالخشية والرغبة والمراقبة والتقوى، فما كان من هذه المرأة إِلا أَن تندفع بصدقها في التوبة وتأتي إلى الشيخ فتعترف عنده بالزنا والإِحصان ترغب في تطهير نفسها من هذه الفاحشة لتنال ثواب المطهرات عند الله فأعرض الشيخ عنها وتكرر منها الإِقرار، فأراد الشيخ تطبيق سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وكذلك فعل فلقد التمس هل لها من عذر؟ وسأل عن عقلها فإذا هي صحيحة العقل وقال لعلك مغصوبة؟ وأمهلها الشيخ أياماً فلم تزل مستمرة على إقرارها بذلك فكانت أقرت أربع مرات في أيام متواليات بما يوجب إِقامة الحد   1 ابن بشر، عنوان المجد 1/9، 10. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 794 الشرعي الذي هو الرجم، فلم يكن للشيخ مندوحة عن الأمر برجمها لإِقامة حد من حدود الله تعالى.. "فخرج الوالي عثمان وجماعة من المسلمين فرجموها حتى ماتت، وكان أول من رجمها عثمان المذكور، فلما ماتت أمر الشيخ أن يغسلوها وأن تكفن ويصلى عليها1 كما جرى من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل هذه الواقعة. وهكذا كان الشيخ- رحمه الله- يطبق عقيدة السلف الصالح في بلد العيينة يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويعلم الناس دينهم ويميت ما قدر عليه من البدع ويقيم الحدود ويأمر الوالي بإقامتها، ويراسل العلماء والزعماء من غير بلدة العيينة يدعوهم إلى إِقامة دين الله، ويرسل الدعاة إلى البلدان النائية لبيان الدين وإِرشاد الناس إليه ومن بين تلك البلدان الدرعية فقد راسل قاضيها عبد الله بن عيسى وابنه عبد الوهاب وراسل ثنيان بن سعود وعبد العزيز بن محمد بن سعود وأحمد بن سويلم وراسل أهل الرياض وابن عبد اللطيف من أهل الأحساء وغيرهم من أهل البلدان الأخرى. نهاية معارضة علماء السوء أمام جهاد الشيخ: إن جهود الشيخ ودعوته إلى عقيدة السلف الصالح قد لقيت معارضة حتى من العلماء! (علماء السوء) عارضوا دعوة الشيخ، وهي   1 انظر: روضة ابن غنام 2/2 وابن بشر في عنوان المجد 1/ ص 10. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 795 نشر لميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم وإحياء لسنته واتباع لملته، ولكل قوم وارث فكما أن الشيخ رحمه الله وأتباعه يرثون سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلابد أن يكون للشيخ أعداء من شياطين الإنس والجن، الذين يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا، وكلما كان الإتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم أتم كلما كانت المشابهة في تطور الأحوال أشد. ولقد بدأ أعداء الله وأعداء رسوله صلى الله عليه وسلم من علماء السوء في مقاومة الشيخ والكيد له ولدعوته منذ كان في حريملاء؛ ففي إحدى الرسائل التي بعثها الشيخ من العيينة إلى عبد الوهاب بن عبد الله ذكر الشيخ أن عبد الوهاب هذا منذ خمس سنوات وهو يجاهد جهادا كبيراً في رد دين الإسلام فإذا جاءه مساعد أو ابن راجح أو صالح بن سليم وأشباه هؤلاء الذين يلقنهم الشيخ شهادة أن لا إله إلا الله وأن عبادة المخلوقات كفر وأَن الكفر بالطاغوت فرض قام عبد الوهاب يجاهد ويبالغ في نقض ذلك ويستهزىء به1. وقال ابن غنام ما حاصله: "وأشر الناس والعلماء إنكارا ًعليه وأعظمهم تشنيعاً وسعياً بالشر إليه سليمان بن سحيم وأبوه محمد فقد أَتْهَمَ في ذلك وأَنجد، وجدَّ في التحريش عليه والتحريض، وأرسل بذلك إلى الأحساء والحرمين والبصرة وحشر علماء السوء ونادى وكذب عليه   1 انظر: روضة ابن غنام 1/157، 158 وقارن بما في كتاب: الشيخ محمد بن عبد الوهاب ... للدكتور العثيمين ص 45. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 796 وبهت وزور، وبعث الطروس مترعة بالباطل والمَيْنِ إلى علماء السوء من تلك الأقطار فقاموا معه فوراً بالإِنكار وأَفتوا للحكام والسلاطين والأشرار بأن القائم بدعوة التوحيد خارجي وأصحابه خوارج، وليس له تثبت في الحق، وجزم كثير من علماء الأمصار وهم علماء السوء بأن هذا المبين لآثار السلف الصالح من أقبح الضلال وأشر الخوارج وحسبوا أَنهم إذا حرشوا عليه الحكام يفوزون بقتله وطمس دعوته مع أَن بعضهم قد عرف أَن الذي جاء به الحق. ولكنهم لذلك كانوا يكتمون: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} فصنفوا المصنفات في تبديعه وتضليله وزعمهم تغييره للشرع النبوي وتبديله وعدم معرفته بأسرار العلوم وتجهيله وسطروا فيها الجزم بكفره وبطلان حجته ودليله، وحكموا بأن الشيخ ساحر وكذاب ومفترى وكافر حلال الدم والمال وأوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً فأطبق أهل الباطل والضلال على قبيح تلك الأقوال وأرهفوا أسنة المقال والكل خاض في الإِفك ونال، والذي تولى منهم هذا الأمر الكبير واقتحم لجج موجه الخطير وشمر فيه أعظم التشمير وتنادى عليه مع أعوانه لأَجل التغيير حسدا وبغياً بالإضافة إلى سليمان بن سحيم وأبيه محمد من مطاوعة أهل الرياض كما تقدم عبد الله بن عيسى المشهور بالمويس ولد في بلد حرمة من بلدان وادي سدير وعبد الله بن محمد بن عبد اللطيف، ومحمد بن عبد الرحمن بن عفالق من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 797 الأحساء" 1. ولقد عارض الشيخ غير هؤلاء ممن يدعي الرفعة والشأن والقدم الراسخة في العلم والعرفان مع أن أكثرهم يقر على نفسه ويعترف بأن ما أتى به محمد بن عبد الوهاب هو الحق والصواب وأَن هذا هو التوحيد المطلوب، ومَن لم يتحقق به لم يفرق بين الرب والمربوب لكن انفت قلوبهم واستنكفوا وخشوا أَن يكون اقرارهم وموافقتهم سببا في أن تسلب منهم رئاستهم ودنياهم وجاههم بين الناس فأنكروا بعد المعرفة وأصبحت ألسنتهم في ذلك مسرفة ووجوههم عن الحق منصرفة حتى أنكروا من الشرع الأمور المعروفة. قال ابن غنام: "فذكر لنا عن تحقيق ويقين أَنهم أنكروا على عثمان ابن معمر أدبه من تخلف عن الصلاة في جماعة المسلمين وتأديبهم من لم يصل جملة وجبايته الزكاة وغير ذلك من أمور الدين. وكان كثير من علماء السوء في نجد يأتون إلى رؤساء البدو ويحذرونهم وقوع الصلاة في حيهم وسماع الأذان، ويحثونهم على التمسك بقبيح تلك الأديان، وما كانوا عليه من الفسق والعصيان2، وقد أنكروا على الشيخ أمره الوالي باقامة الحدود فزعموا أَن الشيخ لا صفة له تخوله الحكم والأمر برجم من استوجبه مثلا، وقد رد عليهم الشيخ وبين لهم أَن ما فعله هو حكم الله   1 روضة ابن غنام 1/ 31-32 بتصرف واختصار. 2 روضة ابن غنام 1/37-38 بتصرف واختصار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 798 المؤيد بالسنة والجماعة ومما قاله الشيخ أن الأئمة من كل مذهب مجمعون على أن من تغلب على بلد أو بلدان له حكم الإمام في جميع الأشياء ولولا هذا ما استقامت الدنيا، لأن الناس من زمن طويل قبل الإمام أحمد إلى يومنا هذا، ما اجتمعوا على إمام واحد، ولا يعرف أَنّ أحدا من العلماء ذكر ان شيئا من الأحكام لا يصح إلا بالإمام الأعظم، إلى أن يقول: "ولكن أعداء الله يجعلون هذه الشبهة حجة في رد ما لا يقدرون على جحده، كما إني لما أمرت برجم الزانية، قالوا لابد من إذن الإمام". قال الشيخ: "فإن صح كلامهم لم تصح ولايتهم القضاء، ولا الإمامة ولا غيرها" 1. هذا وقد مر بنا في مبحث البيئة من حول الشيخ أن نجدا لم يدخلها السلطان العثماني تحت نفوذه قبيل ظهور الشيخ، وإنما كانت مجزأة بين أمراء متعددين، وكل أمير مستقل بما تحت يده2. ومن أسباب مقاومة هؤلاء المخالفين أن الشيخ جاءهم بشيء استغربوه وخالف ما اعتادوه وألفوه وأشربوه في قلوبهم، ألا وهو إِعلان الشيخ رحمه الله تعالى وجوب التمسك والاعتصام بالكتاب والسنة والعمل بما جاء من هدي الأصحاب وبما اختاره الأئمة الأربعة الذين   1 المصدر السابق: 1/207. 2 انظر: 1/ 40 - 41 من هذا البحث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 799 شاعت مذاهبهم في الأمة، فهو وإن كان يختار مذهب الحنابلة فإِنه لا يقدمه على النص القاطع ولا يتعصب له بل يختار من المذاهب الأخرى مذهب من هو أقرب إلى الدليل والصواب الموافق للشريعة، وقد أسفر كلام الشيخ عن هذا الاتجاه وظهر وشاع، فلذا طارت قلوب متعصبة المذاهب والمقلدة في العمى فرقاً من هذا النور، والذي مداره على اتباع ما أمر الله به من الرد في حال التنازع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم 1. مع أن الرد إلى الكتاب والسنة هو الصواب المتعين والحق المطلوب من دين الإسلام بالضرورة. وفيه من أسباب الأَلفة والاجتماع والتوحيد بين المسلمين، ودحر الشر والتفرق ما يغيض تجار الحروب، ومستغلي فرص التفريق والمنازعات ليسودوا ويثروا على أَنقاض الدمار والفساد وعبادة الأوثان والأنداد. وكذلك قد اعتبروا الرد إلى الكتاب والسنة بدعة والحادا وخروجا عن الدين وقد زين لهم الشيطان شبهة أنهم لا يقدرون على فهم كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وكلام السلف الصالح وأن الأخذ بظاهر الكتاب والسنة من أصول الكفر2.   1 روضة ابن غنام 1/38، 39، 0 4. 2 انظر: رسالة الشيخ إلى عبد اللطيف في روضة ابن غنام ج1/53-57، وانظر: تنزيه السنة والقرآن عن أن يكونا من أصول الضلال والكفران بقلم أحمد بن حجر آل بوطامي ص 11. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 800 ويمكن أن نحصر نقطة الخلاف بين الشيخ وخصومه من علماء السوء وغيرهم في أنه يقول: كل ما يعبد الله به بجميع أنواعه يجب أن يكون خالصا لله وحده فلا يصرف منه شيء لغيره كالدعاء والذبح والنذر والتوكل والاستغاثة والاستعاذة والاستعانة وغير ذلك مما ورد به شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم فبين للناس ذلك وأمرهم بإخلاصه لله وحده ونهاهم عن الشرك بذلك وبين لهم أن من الشرك ما هو واقع من أكثر الناس حين يدعون الأنبياء والأولياء والصالحين بل وغيرهم من الفسقة والطواغيت والمجانين من أهل القبور والمقامات والمشاهد وغيرهم من الأموات والأحياء يتعلقون بهم ويذبحون لهم وينذرون ويتقربون إليهم بأشياء إنما هي من حقوق الله التي شرعها تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم وأمته ليتعبد له بها، وبين الشيخ أَن أول من أَدخل الشرك في هذه الأمة هم الرافضة الملعونة الذين يدعون علياً وغيره ويطلبون منهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات. لذلك لم يستطع العلماء المكابرون الصمود للشيخ في ميدان الحجة والبرهان، وغلبهم بيان الحق وأسكتهم برهانه عن الرد عليه ومناظرته ودحضت حججهم وكشفت شبهاتهم وهم قد أشربوا محبة ما اعتادوه ووجدوا عليه مجتمعهم وكبراءهم وأسلافهم من الآباء والأجداد من الشرك والفسوق وأكل الربا والسحت فلجأوا إلى الافتراء والكذب والمكر والحيل والاستعانة بتخويف الملوك والحكام وأصحاب المناصب من فوات حظهم بظهوره فكتبوا إلى رئيس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 801 الأحساء وبني خالد "سليمان بن محمد" لأن هؤلاء الشياطين والعياذ بالله عرفوا كيف يدخلون على أمير العيينة من جهته فهو يدور فِي فلكه وله عهد خارج ومصالح، وينقاد إلى أمره. فقالوا لأمير الأحساء فيما قالوه من الأكاذيب: إن عثمان بن معمر قد آوى مطوعا1، يريد إخراجكم من ملككم، وإثارة الناس عليكم، وأقل ما يقوله للعامة أن المكوس والعشور التي يأخذها الأمراء باطلة لايقرها الدين، وها هو يرجم امرأة من أجل الزنا بغير أذن منكم ... إلى غير هذا من التحريش والبهتان. ولإثارة الملوك بما يثيرهم ويخوفهم مهما كان. ويذكر ابن غنام أَنه لما جرت قضية إقامة حد الرجم في العيينة كثرة القيل والقال من أهل البدع والضلال وطارت قلوبهم خوفا وداخلهم من حصول تلك القضية مالم يعاينوا قبله مثله ولم يسمعوا به منذ زمن، وذلك لما ألفوه من الفواحش مقارنة لما كانوا عليه من الشرك، ثم لما أعياهم أن يردوا الحكم المشروع بالسنة والإجماع أمام الشيخ وأنصاره، لجأوا إلى ردها بالمكر والحيلة فشكوه إلى شيخهم الظالم سليمان آل محمد رئيس بني خالد والأَحساء وكان قبحه الله مغرما بالزنا مجاهراً به غير مختف بذلك، وحكايته في ذلك مشهورة وقصصه فيه غير محصورة، فأغروه به وصاحوا عنده وقالوا إن هذا يريد أن يخرجكم من ملككم،   1 المطوع اصطلاح في نجد أنه الَّذي يصلي بالناس ويكون عنده شيء من المعرفة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 802 ويسعى في قطع ما أنتم عليه من الأمور والإِمكاس والعشور1، فلما خوفوه بزوال محبوبه وتفويت مطلوبه كتب إلى عثمان يأمره بقتله أو إجلائه عن وطنه وألزم عليه وشدد وهدد. وكذلك ابن بشر في تاريخه يذكر أن قضية الرجم كانت من الأمور التي استغلها أعداء الشيخ في التحريش عليه، قَال ابن بشر:"فلما صدرت منه هذا أعني رجم المرأة اشتهر أمره في الآفاق. فبلغ خبره سليمان بن محمد غرير الحميدي قائد الأَحساء والقطيف وما حوله من العربان وقيل له أن في بلد العيينة عالما فعل كذا وكذا وقال كذا وكذا فأرسل سليمان إلى عثمان كِتَاباً وقال: إن هذا المطوع الَّذي عندك فعل وفعل. وتهدد عثمان وقال اقتله فإن لم تفعل قطعنا خراجك الَّذي عندنا في الأَحساء وخراجه عندهم كثير" 2. أما ابن معمر فإنه انهزم أمام تهديد ابن غرير ولم يثبت على المبدأ والعهد، فخذل الشيخ واستجاب لداعي الشيطان.   1 روضة ابن غنام 2/ 2، 3. 2 ابن بشر عنوان المجد 1/ 10 وانظر تاريخ البلاد العربية السعودية للدكتور منير العجلاني ص217، وتاريخ الجزيرة العربية في عصر الشيخ تأليف حسين خلف الشيخ خزعل ص 141. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 803 مواصلة الشيخ جهوده رغم خذلان ابن معمر له: قَال ابن غنام إن ابن معمر " آثر الدنيا على الدين وسلك منهج المبطلين وأمر الشيخ بالخروج ولم يكن إلى قتله سلم ولا عروج، وذلك لما اقتضته الحكمة الإلهية والعناية الصمدانية من إحياء دارس السنة المحمدية والآثار السلفية فخرج الشيخ إلى بلد الدرعية " 1. ويفصل ابن بشر وصف حالة ابن معمر لما ورد عليه كتاب صاحب الأحساء بقوله " فلما ورد عليه كتابه، وما وسع مخالفته، واستعظم أمره في صدره، لأنه لم يعلم قدر التوحيد، ولا لمن نصره وقام به من العز والتمكين، في الدنيا ودخول الجنة في الآخرة فأرسل إلى الشيخ وقال له: إِنه أتانا خط من سليمان قائد الأَحساء وليس لنا طاقة بحربه ولا إغضابه. فقال له الشيخ: إن هذا الَّذي أنا قمت به ودعوت إليه كلمة لا إله إلا الله وأركان الإسلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن أنت تمسكت به ونصرته فإن الله سبحانه يظهرك على أعدائك فلا يزعجك سليمان ولا يفزعك فإني أرجو أن ترى من الظهور والتمكين والغلبة ما ستملك به بلاده وما وراءها وما دونها " فاستحيا عثمان وأعرض عنه ثم تعاظم في صدره أمر صاحب الأَحساء وباع بالآجل العاجل. وذلك لما علم الله سبحانه الَّذي يعلم السر وأخفى يعز من يشاء   1 روضة ابن غنام 2/3. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 804 ويذل من يشاء بيده الخير وهو على كل شيء قدير، أن نصر هذا الدين والظهور والغلبة والتمكين يكون لغيره، وعلى يد غيره، فأرسل إلى الشيخ ثانياً وقال: إن سليمان أمرنا بقتلك ولا نقدر على غضبه ولا مخالفة أمره لأنه لا طاقة لنا بحربه وليس من الشيم والمرؤة أن نقتلك في بلادنا فشأنك ونفسك وخل بلادنا" 1 اهـ. مما نقلناه عن ابن غنام وابن بشر نتبين أن ابن معمر آثر الدنيا على الدين وباع العاجل بالآجل لما تعارض في صدره أمر صاحب الأحساء وأمر الله تعالى فأمر الشيخ بالخروج، وقد كان الشيخ يهيء ابن معمر لأمر عظيم، ويرجوه لمكان جليل، وملك عريض ولكن خاب الظن فيه، ولم ينفذ القتل الَّذي أمر فيه لأن الله تعالى أراد ظهور هذا الدين على يد غيره، وهو العليم الحكيم، يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير. وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} (آل عمران: 145) . أما الشيخ فانه كان رغم ما جرى له من خذلان ابن معمرله على ثقة من ربه، وقد قوى الله إيمانه حتى صغر في نفسه وفي ميزان إيمانه بعقيدة السلف الصالح أمر صاحب الأَحساء وخذلان ابن معمر له، واخراجه من الوطن والمال والأهل والمسكن وبقي لديه إيمانه بصحة عقيدة السلف الصالح وأَن الله ناصر دينه، وبقي حسن الظن بالله تعالى والثقة به وحده لا شريك له.   1 ابن بشر، عنوان المجد 1/ 10، 11. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 805 قال الشيخ حسين بن غنام: فقد جاءنا يدعو إلى الدين بعدما ... عفى رسمه والأرض من نوره قفر فجادله الأحبار فيما أتى به ... من الحق والبرهان يكشفه السبر ونوظر حتى الزم الخصم عجزه ... وصار إليه الفلج والورد والصدر فعودي بغياً واهتظاما ونصرة ... لملة آباء عليها مضى العمر وهموا بمالم يدركوا من وقيعة ... فما ناله مما أرادوا به ضر نفته العدا لما جفته أقارب ... فآواه بل ساواه من خصه البر فجاهد حتى أطلع الله بدره ... بآل سعود حين شد له ازر1 والآن إلى الفصل الثاني. وهو: "بحث أثر عقيدة الشيخ في الدور الأول من أدوار دولة أنصارها آل سعود".   1 روضة ابن غنام ج 2/ ص 240، وانظر: عنوان المجد في تاريخ نجد لابن بشر، ط المعارف ج1 ص 145،146. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 806 الفصل الثاني: أثرها في الدور الأول من أدوار دولة أنصارها آل سعود الشيخ في الدرعية: فيما يلي أسوق خلاصة خبر وصول الشيخ إليها وما جرى له: "لما وصل الشيخ بلد الدرعية دخلها من أعلاها وقت العصر فنزل على عبد الله بن سويلم تلك الليلة فأقام عنده ذلك اليوم ولعله هو الذي تبرم بوجود الشيخ عنده خوفاً على نفسه من محمد بن سعود1 ثم إِن الشيخ انتقل من عنده إلى بيت تلميذه الشيخ أحمد بن سويلم، فعلم به خصائص من أهل الدرعية فزاروه خفية ورأوه لا يزال على سبيل الرسول صلى الله عليه وسلم ثابتاً يدعو إلى الله على بصيرة ويقرر لهم التوحيد الذي هو أساس الدين والذي وقعت فيه الخصومة فاستقر التوحيد في قلوب هؤلاء الخصائص فأرادوا أن يخبروا محمد بن سعود ويشيروا عليه بنصرته فهابوه فأتوا إلى زوجته (موضي بنت أبي وهطان من آل كثير) 2 وأخيه ثنيان الضرير، وكانت المرأة ذات عقل ودين ومعرفة فأخبروهما بمكان الشيخ وصفة ما يأمر به وينهى عنه، فوقر في قلوبهما معرفة التوحيد، وقذف الله في قلوبهما محبة   1 الشيخ محمد بن عبد الوهاب للدكتور العثيمين ص 54. 2 في الأصل من تاريخ ابن بشر بياض والزيادة من بحث حمد الجاسر: المرأة في حياة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ص 3، 4. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 807 الشيخ1. اللقاء التاريخي بالأمير الراشد: وهذه خلاصة أيضا أنقلها عن ابن بشر وابن غنام: دخل محمد بن سعود على زوجته فأخبرته بمكان الشيخ، وقالت له: إن هذا الرجل ساقه الله إليك، وهو غنيمة، فاغتنم ما خصك الله به فقبل قولها، ثم دخل عليه أخوه ثنيان وأخوه مشاري وأشاروا عليه بمساعدته ونصرته، وألقى الله سبحانه في قلبه للشيخ المحبة، فأراد أن يرسل إليه فقالوا سر إليه برجلك في مكانه وأظهر تعظيمه والاحتفال به لعل الناس أن يكرموه ويعظموه، فقام محمد بن سعود من فوره وسار إليه ومعه أخواه ثنيان ومشاري، فدخلوا عليه في بيت أحمد بن سويلم فسلم عليه ورحب به وأبدى غاية الإِكرام والتبجيل، وأخبره أنه يمنعه بما يمنع به نساءه وأولاده، وقال أبشر ببلاد خير من بلادك، وأبشر بالعز والمنعة، فقال الشيخ: وأنا أبشرك بالعز والتمكين، وهذه كلمة (لا إله إلا الله) من تمسك بها وعمل بها ونصرها ملك بها البلاد والعباد وهي كلمة التوحيد، وأول ما دعت إليه الرسل من أولهم إلى آخرهم وأنت ترى نجدا وأقطارها أطبقت على الشرك والجهل والفرقة وقتال بعضهم لبعض، فأرجو أن تكون إماما يجتمع عليه المسلمون وذريتك من بعدك.. 2 وهكذا تم اللقاء   1 انظر: ابن بشر، عنوان المجد ج1/ 11،12 وط 3 ص 24 وروضة ابن غنام ج 1/3. 2 انظر: ابن بشر، عنوان المجد ج1/ 11، 12، وطبع وزارة المعارف ج1/ 24، وروضة ابن غنام ج 1/3. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 808 التاريخي، وحصلت البيعة المباركة على ذلك كما سيأتي إن شاء الله. وأما ما يقال عن اختلاف ابن بشر عن ابن غنام في تفصيلات ما حدث للشيخ محمد منذ وصوله إلى الدرعية حتى اتفاقه مع أميرها محمد ابن سعود1. فهو ليس اختلافا ينقض بعضه بعضا ولكن غايته أن ابن بشر انفرد بذكر أمور فيها زيادة بيان مثل ذكره خوف ابن سويلم من نتائج حلول الشيخ في بيته، وزيارة بعض كبار أهل البلد له سرا، وإخبارهم زوجة الأمير بالقضية واشتراكها بإِقناع زوجها بأن يستقبله استقبالا حسنا وهذه الزيادات التي انفرد بها ابن بشر لا تتعارض مع ما اتفقا فيه مثل كون الأمير محمد بن سعود سار إلى الشيخ في بيت ابن سويلم ورحب به، ووعده النصر والحماية وكون الأمير محمد بن سعود اشترط على الشيخ مقابل تأييده له، عدم مغادرته بلدته، وأن الشيخ وافقه على ذلك، وكذلك ما انفرد بذكره ابن بشر وهو شرط آخر اشترطه محمد بن سعود على الشيخ وهو أن يقره على ما اعتاد أن يأخذه من أهل الدرعية، أقول إِن هذه الأمور التي زادها ابن بشر على ما ورد في تاريخ   1 انظر: تاريخ البلاد العربية السعودية للدكتور منير العجلاني 90- 91 فقد جعل هذا الاختلاف سببا في تضعيف رواية ابن بشر وتبعه على ذلك الدكتور العثيمين (الشيخ محمد ... حياته وفكره) ص 54-55. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 809 ابن غنام ليست معارضة مع ما اتفقنا على ذكره، فلا يسوغ تضعيفها بمجرد انفراد ابن بشر بها عن ابن غنام فإن ابن بشر موثوق، ولا محل لترجيح ما ذكره أحدهما لعدم التعارض بينهما. وكون أمر الشيخ معروفا لدى خصائص من أهل الدرعية لا ينفي ما ذكره ابن بشر، ولايضعفه1. ولا شك أن أمر الشيخ ودعوته إلى عقيدة السلف الصالح منذ ابتدأ به في حريملاء والعيينة من قبل ليس مجهولا في الدرعية، بل كان فيها من يعرفه معرفة جيدة وكان له فيها أَتباع وتلاميذ كانوا يترددون عليه في العيينة ويحضرون حلقات دروسه ويأخذون عنه ويكاتبونه ويجيبهم من هؤلاء الذين يعرفونه ثنيان ومشاري أخوا الأمير محمد بن سعود والشيخ أحمد بن سويلم وجماعة سواهم2 وعبد العزيز بن محمد بن سعود فقد كان يكاتب الشيخ وكتب له الشيخ تفسير سورة الفاتحة3 وبين له من خلال تفسيره الأمر العظيم الذي خلق الله لأجله الجن والإنس وهو عبادة الله وحده وعدم الإِشراك به في العبادة وفي ثنايا تفسيره كأن الشيخ يرمز   1 انظر: تاريخ البلاد العربية السعودية للدكتور منير العجلاني 90- 91، والشيخ محمد بن عبد الوهاب حياته وفكره للدكتور العثيمين ص 54-55. 2 روضة ابن غنام 1/ 31، وانظر: تاريخ البلاد العربية السعودية للدكتور العجلاني ص 97. 3 روضة ابن غنام 1/222. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 810 لعبد العزيز بمقام من يقوم بالتوحيد فيستشهد له ببيت الشعر المعروف والذي هو: قد هيئوك لأمر لو فطنت له ... فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل1 ولقد كان أتباع الشيخ في الدرعية يتتبعون أخباره ويتشوفون إلى نصرته. البَيْعة المباركة: بعد أن تم لقاء الأمير محمد بن سعود بالشيخ محمد بن عبد الوهاب كما أسلفت في بيت ابن سويلم وسلامه على الشيخ وذكر الشيخ ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وما دعا إليه وما عليه أصحابه وما أعزهم الله به من الجهاد في سبيله وأغناهم به وجعلهم إخوانا، ثم ذكر ما عليه أهل نجد في زمانهم من مخالفتهم بالشرك والبدع والاختلاف والجور والظلم، فتحقق محمد بن سعود معرفة التوحيد وفضله ورأى بعد الناس في الواقع عنه فقال للشيخ ياشيخ!: إن هذا دين الله ورسوله، الذي لا شك فيه وأبشر بالنصرة لك ولما أمرت به، والجهاد لمن خالف التوحيد، ولكن أريد أن أشترط عليك اثنتين: الأولى: نحن إذا قمنا في نصرتك والجهاد في سبيل الله، وفتح الله لنا ولك البلدان أخاف أن ترحل عنا وتستبدل بنا غيرنا.   1 المصدر السابق 1/ 223. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 811 الثانية: إِن لي على أهل الدرعية قانوناً آخذه منهم في وقت الثمار، وأخاف أن تقول: "لا تأخذ منهم شيئا". فقال الشيخ: أما الأولى: فابسط يدك. الدم بالدم والهدم بالهدم. وأما الثانية: فلعل الله أن يفتح لك الفتوحات فيعوضك الله من الغنائم ما هو خير منها1. ويقول الدكتور العثيمين2 إن إجابة الشيخ عن الشرط الثاني غير حاسمة ولكن من الواضح أَن الشيخ قارن بين المصلحة العامة لدعوته وبين مسألة جزئية كان واثقاً من حلها مستقبلا بسهولة، وهو كما قال ثم إِن محمدا بسط يده وبايع الشيخ على دين الله ورسوله والجهاد في سبيل الله وإِقامة شرائع الإسلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فقام الشيخ ودخل معه البلد واستقر عنده. ووقع تحقيق ظن الشيخ فإنه أتى إليهم غنيمة، فقال الشيخ للأمير: هذا أكثرمما أنت أخذته على أهل بلدك فتركها بعد ذلك3. ولا أدل على بركة الإسلام ولله الحمد مما أولاه الله من نعم على هذه البلاد من المال والأمن منذ العهد المبارك والبيعة الصادقة إلى يومنا   1 ابن بشر، عنوان المجد 1/12. 2 الشيخ محمد بن عبد الوهاب ... ص 55. 3 ابن بشر، عنوان المجد 1/12. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 812 هذا وما تخلف شيء من ذلك إلا بسبب المخالفة وكلما راجع القوم عهدهم عاد الله عليهم بعائدته ولله الحمد والمنة. ومعنى قول الشيخ: الدم بالدم والهدم بالهدم أي أقبر حيث تقبرون ومنزلكم منزلي، وإِن طلب دمكم فقد طلب دمي وإن هدر دمكم فقد هدر دمي1 وهذا فيه إِشارة إلى ما ورد في سيرة ابن هشام أن أبا الهيثم ابن التيهان قال يارسول الله! إِن بيننا وبين الرجال حبالا وإنا قاطعوها- يعني اليهود- فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله أَن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ قال فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: "بل الدم بالدم، والهدم بالهدم أنا منكم وأنتم مني أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم". قال ابن هشام. ويقال: الهدم الهدم أي ذمتي ذمتكم وحرمتي حرمتكم2. أثر العقيدة السلفية ينشط في الدرعية: ولما استقر الشيخ في الدرعية ومنع ونصر وجهر بالدعوة إلى الله تعالى معززا، ينشر الإسلام وساعده على ذلك الأمير محمد بن سعود بكل ما لديه بلا فتور ولا ضجر وقام مع الأمير وزراؤه وأعوانه وأنصاره من أهل الدرعية وإخوانه ومن مشاهيرهم ثنيان بن سعود ومشاري بن سعود وفرحان بن سعود والشيخ أحمد بن سويلم والشيخ عيسى بن قاسم   1 انظر: لسان العرب 185. 2 الروض الأنف 2/ 189، 214. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 813 ومحمد الحزيمي وعبد الله بن دغيثر وسليمان الوشيقري وحمد بن حسين وأخوه محمد وغيرهم فجردوا للدعوة هممهم وعزائمهم وقاموا بها من غير كسل ولا تهاون وكانت بداية هذه القومة في سنة سبع وخمسين ومائة وألف من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم 1. وبقي الشيخ- رحمه الله- على مناصحة الناس وعرض الحق وبيانه وكشف الشبه عنه قريبا من سنتين، وخلال ذلك كان قد تسلل إليه أنصاره الذين في العيينة ومن ينتسب إلى الدين ومعهم أناس من رؤساء المعامرة منهم عبد الله بن محسن وأَخواه زيد وسلطان المعامرة معاكسين لعثمان بن معمر على ما يقول ابن بشر2 وعبد الله بن غنام وأخوه موسى وهاجر مع هؤلاء خلق كثير كما أخذ كثير من أنصار الشيخ وتلامذته في مختلف بلدان نجد يقدمون عليه ويهاجرون إليه3، حتى إِن عثمان بن معمر نفسه على ما يقول ابن بشر لما علم أن محمد بن سعود آوى الشيخ ونصره وأن أهل الدرعية فرحوا به والذين كانوا عنده في بلده هاجروا وتركوه وأَن أمر الشيخ قوي وصار إلى زيادة، ندم ابن معمر على ما فعل من إخراجه وعدم نصرته، وخاف منه أمور تفاقم عليه، فركب في عدة رجال من أهل العيينة ورؤسائها فقدم على الشيخ في الدرعية، وحاوله   1 روضة ابن غنام 2/ 3- 4. 2 عنوان المجد 1/ 12 وروضة ابن غنام 2/ 4 والمقصود بالمعامرة- آل معمر. 3 المصدر السابق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 814 على الرجوع معه ووعده نصره ومنعه- فقال الشيخ: ليس هذا إلي إنما هو إلى محمد بن سعود، فإِن أراد أن أذهب معك ذهبت، وإِن أراد أن أقيم عنده أقمت ولا أستبدل برجل تلقاني بالقبول غيره، إلا أَن يأذن لي فأتى عثمان إلى محمد، فأبى عليه ولم يجد إلى ما أتى إليه سبيلا فرجع إلى بلده1 وكان أهل الدرعية في غاية الجهالة وقد وقعوا فيما وقعوا من الشرك الأكبر والأصغر، والتهاون بالصلاة والزكاة، ورفض شعائر الإسلام2 وهم يومئذ في غاية الضعف وضيق المؤونة3، فتخولهم الشيخ بتعليمهم وتلقينهم التوحيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأمر بتعلم معنى (لا إله إلا الله) وأَنها نفي وإثبات. (فلا إله) تنفي جميع المعبودات- (وإلا الله) تثبت العبادة لله وحده لا شريك له. ثم أمرهم بتعلم ثلاثة الأصول: وهي معرفة الله تعالى بآياته ومخلوقاته الدالة على ربوبيته وإلهيته، كالشمس والقمر والنجوم والليل والنهار والسحاب المسخر بين السماء والأرض وما عليها من الآدلة من القرآن. ومعرفة الإسلام وأَنه تسليم الأمر لله وهو الانقياد لأمر الله والانزجار عن مناهيه. ومعرفة أركانه التي بني عليها وما عليها من الأدلة   1 عنوان المجد 1/13. وروضة ابن غنام 2/ 4. 2 المصدر السابق 1/ 14. 3المصدر السابق1/ 13. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 815 من القرآن ومعرفة النبي صلى الله عليه وسلم واسمه ونسبه ومبعثه وهجرته ومعرفة أول ما دعا إليه وهي (لا إله إلا الله) ثم معرفة البعث وأن من أنكره أوشك فيه فهو كافر. وما على ذلك من الأدلة من القرآن والسنة، ومعرفة دين محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهو التوحيد ودين أبي جهل وأتباعه وهو الشرك بالله تعالى. فلما استقر في قلوبهم معرفة التوحيد بعد الجهالة أشرب في قلوبهم محبة الشيخ وأحبوا المهاجرين وآووهم1. وكان المهاجرون في أضيق عيش وأشد حاجة وابتلوا بلاء شديدا، وكان الشيخ ينفق عليهم ما استطاع ويستدين لذلك وكانوا في الليل يأخذون الأجرة ويحترفون، وفي النهار يجلسون عند الشيخ في درس الحديث والمذاكرة2. انطلاق الدعوة وبدء الجهاد: ثم إن الشيخ كاتب أهل البلدان ورؤساءهم وقضاتهم ومدعي العلم منهم فمنهم من قبل واتبع الحق، ومنهم من اتخذه سخرياً واستهزؤا به ونسبوه إلى الجهل وعدم المعرفة ومنهم من نسبه إلى السحر، ومنهم من رماه بأشياء هو بريء منها3، واستمر الشيخ على المناصحة والدعوة والمكاتبة مدة سنتين حتى عام 1159 هـ من غير غزو ولا مقاتلة وممن   1 المصدر السابق 1/ 14. 2 المصدر السابق 1/ 13. 3 المصدر السابق 1/ 14. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 816 قام الشيخ والأمير محمد بن سعود بمناصحته دهام بن دواس رئيس بلد الرياض فاجتهدا في مناصحته غاية الاجتهاد ولكن دهاما لم يقبل الحق وأعرض عنه واشترى الحياة الدنيا بالآخرة، فحمله ذلك على البغي والحسد فأبطن عداوة أهل الدين رغم إقراره بأنه دين الحق وأَظهر موالاة المبطلين. وكان قد فشا الإسلام والسنة في بلده ودخل في ذلك كثير منهم فصار إذا رأى من جماعته من يحب هذا الدين ويفشيه أخذ يصادره ويتعرض له بصنوف الأذى، وإذا رأى عدوا قربه وآواه وجعل يتزايد في العداوة ويتظاهر بقمع الحق ويعلن القبائح الشنيعة وقد كانت أخلاقه القديمة وأفعاله السابقة غير محمودة ولما جاءه الحق زاد في طغيانه وشره، وحاكى بأفعاله الفاجرة نمرود وفرعون فأخاف أهل منفوحة لأنهم دخلوا في دعوة الشيخ وتبعوا الإمام محمد بن سعود فعدا عليهم صباحا ومعه بعض البوادي من آل ظفير على غرة وغفلة لأنهم ما كانوا يتوقعون ذلك منه وهو صديق لمحمد بن سعود فيما يتظاهر به لأن محمد بن سعود سبق أن أعانه على ثورة من أهل الرياض ضده ولكنه فجأهم واحتل قصر الإمارة وقهرهم ساعة ثم إن الله سبحانه أعقب أهل منفوحة بالنصر والفرج فكانت الدائرة على دهام وحزبه وقتل من أشرارهم ورؤسائهم أحد عشر رجلا تقريبا وجرح دهام نفسه وعقر حصانه فهرب هو ومن معه وقد باء بالفشل، ولكنه قد افتضح بإظهاره عداوة أهل الدين فزاده ذلك تمادياً وأعلن محاربة محمد بن سعود لأجل ذلك ونذر جزوراً لتاج بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 817 شمسان إن تغلب على ابن سعود1. عند ذلك أمر الشيخ بالجهاد وحض عليه2، وكان هذا في سنة 1159 هـ بعد مضي سنتين من اتفاق الأمير محمد بن سعود مع الشيخ على القيام بالإسلام لأن وقت الجهاد قد حان وهو من واجبات الدين والخطر أصبح وشيكاً على النفس والحرمة والفتنة كائنة على أهل السنة وليس من ذنب ينقمه العدو إلا الإيمان بالله وإقامة سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وقد قامت عليه الحجة. والأمر كما قال أبو تمام: وما هوَ إلا الوحي أوْ حَدّ مُرْهَفٍ ... تُمِيلُ ظُبَاهُ أَخْدَعَيْ كل مائل فهذا دواء الداء من كلِ عاقل ... وَهذا دواءُ الداءِ من كلِ جاهل هو الحق إن تستيقظوا فيه تغنَموا ... وإنْ تَغفلوا فالسيف ليس بغافل3 وكما قال شوقي يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم: قالوا غزوت ورسل الله ما بعثوا ... لقتل نفس ولاجاؤا لسفك دم جهل وتضليل وأحلام وسفسطة ... فتحت بالسيف بعد الفتح بالقلم لما أتى لك عفوا كل ذي حسب ... تكفل السيف بالجهال والعمم4   1 روضة ابن غنام 2/ 6، 7. 2 ابن بشر، عنوان المجد 1/ 14. 3 العقد الثمين من شعر محمد بن عثيمين ص 84، وابن بشر، عنوان المجد من تعليق عبد الرحمن بن عبد اللطيف 1/ ص 26. 4 الشوقيات ج1/ 242. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 818 وكما قال شاعر: وما الدين إلا أن تقام شريعة ... وتأمن سبل بيننا وشعاب1 وأبلغ من ذلك قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} (البقرة: 193) . وقد قال الشيخ في رسالته إلى السويدي: "وأما القتال فلم نقاتل أحدا إلى اليوم إلا دون النفس والحرمة وهم الذين أتونا في ديارنا ولا أبقوا ممكنا2 ولكن قد نقاتل بعضهم على سبيل المقابلة (وجزاء سيئة سيئة مثلها) وكذلك من جاهر بسب دين الرسول صلى الله عليه وسلم بعدما عرفه والسلام"3. ومنذ بلغ ابن سعود وإخوانه من المسلمين غدر دهام بن دواس واعتداؤه على أهل الدين حدثوا نفوسهم بالجهاد في سبيل الله تعالى وحين رآه الشيخ متعيناً لمثل غدرات ابن دواس وغيره بأصحاب السنة المحمدية، أمر به وحض عليه فتعاهدوا على أن تكون أول عدوة يعدونها مبتدئين بها جهاد أعداء الدين على دهام بن دواس في قصره، فكان ذلك ووفوا بعهدهم4.   1 العقد الثمين من شعر محمد بن عثيمين ص 84. 2 المعنى: لم يبقوا شيئا ممكنا من أَذانا إلا فعلوه. 3 روضة ابن غنام1/ 154. 4 روضة ابن غنام 2/7، عنوان المجد ... لابن بشر 1/17،1. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 819 فأقاموا علم الجهاد في سبيل الله، لأن الجهاد في سبيل الله من الواجبات الدينية وهو ذروة سنام أمر الدين1. وما زالوا على ذلك يجاهدون في سبيل الله وينشرون دين الله تعالى ومحمد بن سعود إمامهم صابر على عداوة الأدنى والأقصى من أهل نجد ومن الملوك المجاورين من كل جهة، وقتل أولاده فيصل بن محمد، وسعود ابن محمد، فما زاده إلا قوة وصلابة في دينه على ضعف منه وقلة في العدد والعدة، وكثرة من عدوهم ووفاء بعهده والتزاما بوعده، واحتسابا لموعد ربه لمن نصر دينه، وفيما جرى منه شبه بما جرى من الأنصار في بيعة العقبة2. وليس الأمر كما يزعمه بعض الباحثين في عصرنا هذا حتى ماثل بعض المستشرقين من غير قصد أَن الحروب الإسلامية كان يدفعها جوع المسلمين ومشكلات دنيوية فزعم هذا الباحث أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب كان يخطط لدعوته مراحل، وأَنه أمر بالجهاد "لتنتقل دعوته إلى مرحلة جديدة ينال فيها بالقوة ما عجز عنه بطريقة الإِقناع والإِغراء" 3 وأن الأمير محمد بن سعود كان مستعدا للقتال من أجل الدعوة خاصة أَنها وسيلة من وسائل توسيع نفوذه، وإِمكان تحقيق كثير من النجاح   1 انظر: آخر رسالة الأصول الثلاثة للشيخ. 2 انظر: الدرر السنية ج11/ ص 61، 62. 3 الشيخ محمد بن عبد الوهاب حياته وفكره للدكتور العثيمين ص 85. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 820 العسكري في بداية الأمر دون تدخل خارجي، وأن إمكانيات الدرعية الاقتصادية محدودة وكان على قادتها أَن يجدوا حلا لمشكلة ازدياد الوافدين إليها من أنصارهم الفقراء، وأَن هؤلاء الوافدين مؤهلون لأن يلعبوا دوراًكبيراً في تأسيس جيش قوي1. فكل هذه الالتواءات والتعليلات مكشوفة يراد منها أَن الشيخ وابن سعود وأَتباعهم إنما قاتلوا للظفر والنفوذ وحل المشكلة الاقتصادية. وهذا غير صحيح. أما أن الشيخ رحمه الله أمر بالجهاد فنعم أمر به حين رأى أن وقت الجهاد قد حان تعبدا لله تعالى وجهادا في سبيله بكل أنواع الجهاد وأحواله التي تحدث لهم بحول الله وتدبيره والشيخ يرصد حاله وأحوال من معه وما يجري لها من تغيرات ويستلهم من شريعة الله أحكام تلك الأحوال المتغيرة فيقوم بتنفيذها تعبدا لله وقياما بالواجب الذي فقهه من دين الله تعالى، وكذلك من كان معه على شيء من فقه الإسلام. والتحدث عن مقاصد الشيخ ومقاصد أمثاله وأعوانه على ضوء قياسها بمقاصد أهل السياسة الدنيوية والخطط الماكرة في سبيل الدنيا يعتبر ظلما وتعدياً عليه وقصوراً عن مستوى حسن الظن بالمسلم ولكن الواجب إذا تحدثنا عن مقاصد الشيخ ونواياه أن نتحدث عنها على ضوء   1 المصدر السابق، نفس الموضع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 821 ما يظهره ويدعو إليه، أما السرائر وما لا نعلمه فنكله إلى الله تعالى مع وجوب حسن الظن فيمن يظهر منه الخير والرشد والصلاح، وكذلك محمد بن سعود لا نظن به أَنه قام بنصرة الإسلام لأنه وسيلة لتوسيع نفوذه أو استقلاله عن سيادة الأَتراك كما يقوله صاحب كتاب الفكر السامي1. فإنه إنما قام بنصرته لأنه دين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بالدرجة الأولى- كما قال ذلك عند لقائه بالشيخ رحمه الله، وما كانت ظروف الدرعية المشكلة من ناحية الاقتصاد هي الدافع للقتال فإِن أولئك القوم تركوا تنمية اقتصادهم مختارين ليقوموا بتنمية دينهم وعلمهم به فكيف ينحرفون لحل مشكلاتهم الاقتصادية بالقتال وسفك الدماء ليأخذوا أموال الناس ويستولوا على أملاك الغير، بطريقة جاهلية؟! أَلا يمكن حل مشكلتهم الاقتصادية بالتجارة ومزاولة أسباب المعيشة ولو في خارج البلدة لو كانوا إنما أرادوا حل المشكلة الاقتصادية؟! لكنهم بالجهاد أرادوا إِعلاء كلمة الله ونشر الإسلام وما جاءهم من الغنائم من غير أن يقصد، قبلوه وتعاملوا به على ما يرضي الله تعالى. وليس صحيحا ما يزعمه مؤلف كتاب الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي الفاسي من أَن ابن سعود توصل بنشر دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب لأمنيته وهي الاستقلال   1 الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي ج 2 ص 374. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 822 والتملص من سيادة الأتراك1. والواقع أن ابن سعود ونجدا كلها لم تكن تحت سيادة الأتراك كما أثبتناه فيما سبق2، وابن سعود كان مستقلا ليس لأحد عليه ولاية من الأمراء والسلاطين حتى إِن العداء كان قائما بينه وبين سليمان بن محمد زعيم بني خالد ورئيس الأحساء3. محمد بن سعود مؤسس دولة آل سعود: يتفق الدكتور العجلاني والدكتور العثيمين على استقرار إمارة الدرعية عشرين سنة في يد محمد بن سعود قبل مبايعته للشيخ مما يدل على حكمة الرجل وحسن سياسته وقضائه على دسائس المنافسين في الداخل والدفاع ضد الأعداء والطامعين من الخارج ويبدو أَنه على صلات حسنة مع أمير العيينة لأن ابنه عبد العزيز تزوج بنت عثمان بن معمر، وأما أمير الرياض دهام بن دواس فإنه كان مدينا لمحمد بن سعود ببقائه في الإِمارة لأنه أنجده بعدد من الجنود حينما ثار عليه أهل الرياض فاستقر له الحكم4.   1 الفكر السامي ... 2/ 374. 2 انظر 1/40- 41 من هذا البحث. 3 الشيخ محمد بن عبد الوهاب ... للدكتور العثيمين ص 53. 4 روضة ابن غنام 2/ 5، 6، وانظر: تاريخ البلاد العربية السعودية للدكتور العجلاني ص 63، 64 - وانظر: الشيخ محمد بن عبد الوهاب للدكتور العثيمين ص 53. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 823 وعلى أية حال فإذا كان ليس أحد يصلح للسياسة والحكم 1 فإن محمد بن سعود قد امتاز على غيره بما وهبه الله من ملكات الإِمارة والحكم وأنه كما يقول المؤرخ حسين بن غنام: "كان في جاهليته بحسن السيرة معروفا وبالوفاء وحسن المعاملة موصوفا، مشهوراً بذلك دون من هنالك وكان من وفائه أَن وفى بكفالته لزيد بن مرخان وفاء كلفه ثمنا باهظا أدى إلى قتل عمه مقرن بن محمد لما خفر الأخير ذمة ابن أخيه بقتله زيد بن مرخان غدرا2. ثم إِن الأمير محمد بن سعود3 قد أدرك بصفاء بصيرته وسلامة تفكيره أَنه لا مطمع للشيخ في الإِمارة ولا في الرئاسة ولا في أي علو في الأرض ولا فساد من دعوته، بل إن دعوته إلى صلاح الدين والدنيا معاً، إلى عقيدة السلف الصالح وتيقن من خلال ما سمعه من الشيخ ورآه أَن نصيحته صادقة وعرضه صحيح، وأن القيام بنصر دين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم سبب للنصر والعز والتمكين وحصول الملك، وزاد يقين الأمير رسوخا ما بينه الشيخ له من أَن الله سيمكن من يقوم بنصر (لا إله إلا الله) ويُعزه ويورثه الملك، وأَن الأمة بحاجة إلى إقامة الدين، وإِصلاح ما أفسد الناس،   1 انظر: فكرة القومية العربية على ضوء الإسلام، رسالة ماجستير، أعدها صالح العبود ص/ 125-126. 2 روضة ابن غنام 2/3. 3 انظر: عنوان المجد لابن بشر سابقة سنة 1139 ج1/ 234- 235. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 824 وأن هذا واجب عليه. فقبل محمد بن سعود وأصبح هو المؤسس لدولة آل سعود وهو الذي سن سنة حسنة لبنيه بمناصرة دين الله وإكرام علماء السنة وهذا ما يحققه الدكتور العجلاني أيضاً حيث يقرر أَن مؤسس دولة آل سعود هو محمد بن سعود بمبايعته للشيخ محمد بن عبد الوهاب على إِخلاص العبادة لله وحده واتباع حكم الإسلام الصحيح في سياسة البلاد1 وإقامة علم الجهاد في سبيل الله تعالى. وأقول إن مبايعته للشيخ على ذلك لدليل على عظيم عقله، وبعد همته وطموحه وتوفيق الله له. قال الشيخ عبد الرحمن بن قاسم: "وكفى برهاناً على شجاعته وثبات جأشه وشهامته وإرادته الحديدية، وعزمه البات، وقوة إيمانه وسائر خصاله الحميدة إِيواؤه للشيخ، وقيامه بنصرته، وقد رأى وعلم ما وراء ذلك من الأخطار، وتأليب الملوك والأمراء، وعامة الناس عليه، ولولا أَنه هو الأوحد، فرد زمانه، لما نجح في توطيد دعائم ملكه ونشرسلطته على البلدان وتوحيد كلمة التوحيد تحت لوائه بين خطوب سود، ونظراء أقوياء، وتكالب من جميع أطراف جزيرة العرب، فلهو القائد الباسل، والأوحد الحلاحل، فما قام بنصرة هذا الشيخ والأخذ بساعده إلا عن   1 تاريخ البلاد العربية السعودية ص 46، 47. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 825 اعتقاد راسخ وإيمان قوي1. ونستطيع أَن ندرك من خلال حديث اللقاء والبيعة بينه وبين الشيخ أنه مدرك لحقيقة الإسلام ومميز لما هو من دين الله ورسوله من غيره بما آتاه الله من صفاء الفطرة ونفوذ البصيرة وما بلغه من الحجة على يد الشيخ وغيره فكان من صدقه ووفائه استجابته وعدم استنكافه عن قبول الحق لما جاءه وإِن كان قد جاءه من مستضعف ثم أدرك شيئا بعيدا فاشترط على الشيخ إِن نصرهم الله أن لا يرتحل عنهم إلى غيرهم لأنه رحمه الله ذو فراسة وذكاء ومن أعظم العقلاء، وأَنه حين لقي الشيخ ورآه عرف الصدق في وجهه وبديهته وتحقق في قوله وحاله حلية أولياء الله وكل عاقل يرغب في أولياء الله وفي قربهم وفعلاً وقع ما كان يتوجسه محمد ابن سعود من مجيء ابن معمر نادما يطلب عودة الشيخ إليه2. وحيث كان شأن العاقل أَن ينقاد لأولياء الله فقد انقاد الأمير محمد ابن سعود للشيخ محمد بن عبد الوهاب لأن الأمير من أعظم عقلاء زمانه والشيخ من أعظم أولياء زمانه. قال أبو نعيم في حلية الأولياء: "واعلم أن لأولياء الله تعالى نعوتاً ظاهرة وأعلاما شاهرة، ينقاد لموالاتهم العقلاء والصالحون، وذكر من نعوت هؤلاء الأولياء ما رواه بسنده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رب أشعث ذي   1 الدرر السنية 12/29. 2 انظر: 2/ 814 من هذا البحث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 826 طمرين تنبو عنه أعين الناس لو أقسم على الله عز وجل لأبره"1. وكان الشيخ في تلك الآونة ضعيفا مستضعفا أشعث من السفر قد نَبَتتْ عنه أعين الناس، أهل الدنيا والبأس إلا أنه من أولياء الله ومن العلماء بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم الأمناء، فلا ينقاد له ويوافقه إلا ذو عقل صريح كما هو الشأن من موافقة العقل الصريح للنقل الصحيح فكان بتوفيق الله ومعونته وفضله على أهل الجزيرة أَن وفق لأمير عظيم الفراسة كبير القلب راجح العقل حيث اغتنم أعظم فرصة وغنيمة سيقت إليه وكانت سبب ارتفاعه وارتفاع ذكره وذكر نسله من بعده وعزه في الدنيا والآخرة إن شاء الله تعالى فرحمة الله عليه وعلى خلفه من أسلاف صالحين وبارك في المعاصرين من خلفه وثبتهم على أسباب رضى رب العالمين، الذي هو عزهم وسبب نصرهم آمين. هذا ومازال الإمام محمد بن سعود وفياً بالعهود حتى لقي ربه. وبعد وفاة الإمام محمد بن سعود سنة 1179 هـ بويع لابنه عبد العزيز بن محمد إماما للمسلمين، بايعه الخاص والعام، والشيخ محمد هو رأس ذلك النظام2. وللإمام عبد العزيز مكانة خاصة من أثر عقيدة الشيخ محمد بن   1 حلية الأولياء وطبقات الأصفياء للحافظ أبي نعيم 1/5-7. 2 روضة ابن غنام 2/ 74. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 827 عبد الوهاب السلفية فمنذ أَن كان صغير السن كان له اهتمام بعلم الشيخ فلقد كتب للشيخ والشيخ إذ ذاك في العيينة عند ابن معمر يسأله أَن يكتب له تفسير الفاتحة، فكتب الشيخ ذلك، وقد ضمن تفسير سورة الفاتحة عقيدة السلف الصالح، وأرسلها إلى الأمير عبد العزيز وقد ناهز الاحتلام1، وما من شك أن تلقي العلم في هذه الفترة من العمر له كبير الأثر والرسوخ. ولذا فقد اجتمع في الإمام عبد العزيز مؤهلات الإِمارة وملكاتها ومواهبها مع رسوخه في العلم وسلامة العقيدة منذ نعومة أَظفاره فهو ليس أميراً يناصر الحق بقوة السلطان فحسب بل مع ذلك عالم ينصر الحق بقوة الحجة والبرهان. ولهذا الإمام رسالة جليلة القدر، لها أثر كبير وواسع في نشر عقيدة السلف الصالح افتتحها بالثناء على الله والصلاة والسلام على رسوله صلى الله عليه وسلم ثم قال: من عبد العزيز بن محمد بن سعود إلى من يراه من العلماء والقضاة في الحرمين والشام ومصر والعراق وسائر علماء المشرق والمغرب ثم أخذ يشرح عقيدة السلف الصالح بالبيان الواضح والأدلة القويمة والبراهين العظيمة فتكلم عن الحكمة من إيجاد الله الخلق، ومعنى كلمة التوحيد والشفاعة والوساطة وحق الله وحق رسوله صلى الله عليه وسلم وأوليائه،   1 انظر: روضة ابن غنام، ج1ص 222.وما بعدها. وانظر: 2/ 810 من هذا البحث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 828 وعن خصوم أنصار العقيدة السلفية خصوصا أنصار الشيخ الإمام، وعن إِرادة الله القدرية الكونية وإرادته الشرعية، وأن المشروع للموتى وللنبي صلى الله عليه وسلم الدعاء لهم لا دعاؤهم، وبيان ما يفعل عند قبره صلى الله عليه وسلم والمأثور من نهيه عن اتخاذ قبره صلى الله عليه وسلم عيدا وحديث شد الرحال، والنهي عن اتخاذ القبور مساجد، وإنكار عبادة القبور بالدعاء وغيره وبيان كونها شركا، وأن حقيقة التوحيد تقتضي الإيمان بالله وعبادته وحده وعدم الشرك به ووصف دين المشركين وبيان الشرك الأصغر والأكبر وبيان التوسل الصحيح، والنهي عن الإِقسام على الله بمخلوق، ثم يبيّن ما هي الوسيلة؟ ويكمل وجوه الرد على المشبهين بالحديث لتجويز دعاء غير الله تعالى، ويبين أن العادة هي عداوة القبوريين لأهل التوحيد ورميهم إياهم بالعظائم والجرائم، ونسبة كل قبيح إليهم وتنفير الناس عن الموحدين بأنهم يتنقصون الصالحين، ثم ختام هذه الرسالة بالتوجيه إلى القرآن الكريم وإلى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم والعمل بهما والاستغناء بالسنة النبوية عن البدع والشرك والتخرصات والشطحات التي هي وساوس الشيطان والنفوس المتبعة للهوى. وقد استغرقت هذه الرسالة ما يقارب من (34) صفحة كبيرة1. وله رسالة إلى من يراه من أهل بلدان العجم والروم أرسلها مع رجل منهم اسمه محمد خلف النواب وفد عليهم وأَقام عندهم مدة طويلة   1 الهدية السنية لابن سحمان، أولها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 829 وأشرف على ما هم عليه من الدين الحق وما يدعون إليه الناس ويقاتلونهم عليه ويأمرونهم به وينهونهم عنه ويقول في تلك الرسالة: " إِن حقائق ما عندنا يخبركم بها أَخونا محمد من الرأس" وذكر لهم جملة ما هم عليه من عقيدة السلف الصالح1. وكتب أيضا إلى أهل المخلاف السليماني بناء على طلب واحد منهم اسمه الشريف أحمد قدم عليهم ورأى ما هم عليه وتحقق صحة ذلك لديه ثم التمس من الإمام عبد العزيز أَن يكتب له ما يزيل الاشتباه ليعرف أهل هذا المخلاف دين الإسلام وعقيدة السلف الصالح فضمنها ذلك رحمه الله ومما قال: " فلما من الله علينا بمعرفة ذلك وعرفنا أَنه دين الرسل اتبعناه، ودعونا الناس إليه، وإلا فنحن قبل ذلك على ما عليه غالب الناس من الشرك بالله من عبادة أهل القبور والاستغاثة بهم والتقرب إلى الله بالذبح لهم وطلب الحاجات منهم مع ما ينضم إلى ذلك من فعل الفواحش والمنكرات وارتكاب الأمور المحرمات وترك الصلوات وترك شعائر الإسلام حتى أظهر الله تعالى الحق بعد خفائه وأَحيى أثره بعد عفائه على يد شيخ الإسلام فهدى الله تعالى به من شاء من الأنام وهو الشيخ محمد ابن عبد الوهاب أَحسن الله له في آخرته المآب فأبرز لنا ما هو الحق والصواب من كتاب الله المجيد وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وكلام الأئمة الأعلام   1 الدرر السنية ج1 ص 143، 146. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 830 الذين أجمعت الأمة على درايتهم. ثم مضى يبين ما هم عليه من التزام عقيدة السلف الصالح. وله رسائل أخرى ونصائح رحمه الله موزعة في الدرر السنية وغيرها1. وطلب الإمام عبد العزيز من الشيخ محمد، أن يكتب رسالة موجزة في أصول الإسلام ليتعلمها الناس، فكتب الشيخ ثلاثة الأصول، وهي معرفة العبد الرب المعبود، والرسول صلى الله عليه وسلم، ودين الإسلام بالأدلة، مبنية على مسائل القبر الثلاث من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ وأرسلها الإمام عبد العزيز إلى جميع النواحي وأمر الناس أن يتعلموها في المساجد على يد أئمتها وطلبة العلم، وأَن يعملوا بها جميعاً بدون استثناء، فصاروا يسألون الناس في المساجد كل يوم بعد صلاة الصبح وبين العشاءين عن معرفة ثلاثة الأصول2. وقد كتب بصيغ مختلفة مطولة ومختصرة وباللغة الفصحى وبالعامية على حسب طبقات الناس، وعلى مستوى كل طبقة وما يناسبها وكان الشيخ يعلمها الناس في الدرعية ويأمرهم بتعلمها3، وأَلحق بها شروط الصلاة   1 الدرر السنية ج 1 ص 146- 148 وانظر: ص 152، 153. 2 الدرر السنية ج 1 ص 87- 89. 3 عنوان المجد لابن بشر ج1/ ص 14، وص 90- 91. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 831 وأركانها ونحو ذلك من أمور الدين التي لا يسع أحدا من المسلمين جهله. وأرسل الإمام عبد العزيز برسائل للشيخ منها "كتاب التوحيد" إلى الوزير سليمان باشا في بغداد نصيحة له1، فأحالها الباشا إلى عبد الله أفندي الراوي البغدادي خطيب المسجد المنسوب للوزير سليمان باشا، فقام الراوي بالرد عليها برسالة مضمونها أنَّ التوحيد مختص بمعنى الربوبية فالإله اسم مختص بالخالق الرازق الضار النافع فحسب2، فرد عليه محمد ابن علي بن غريب بالكتاب المسمى: " التوضيح عن توحيد الخلاق في جواب أهل العراق" وفند شبهه، وكسر تحدياته وأرسل إليهم في العراق ووجد مخطوطا في بغداد عند رجل يقال له الملا دليم- ليس له عنوان، وليس عليه اسم مؤلفه. ثم طبع عام 1319 هـ بالمطبعة الشرقية بمصر وجعل اسمه: "التوضيح عن توحيد الخلاق في جواب أهل العراق" ونسب تأليفه للشيخ سليمان بن الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وليس له، وإنما هو لشيخه محمد بن غريب المذكور، ذلك أن في الكتاب مسائل يبعد أن تصدر من الشيخ سليمان في علمه وتحقيقه، مثل قوله: " فالله تعالى كان ولا مكان، ثم خلق المكان، وهو تعالى كما كان   1 الدولة السعودية الأولى، للدكتور عبد الرحيم عبد الرحمن ص 192. 2 انظر: التوضيح عن توحيد الخلاق في جواب أهل العراق ص 10، 17. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 832 قبل أن يخلق المكان"1 ومثل هذه العبارة ليست على طريقة السلف في العقيدة فإن المعطلة يقصدون بها: نفي استواء الرب على عرشه استواء حقيقياً يليق بجلاله2 بالإِضافة إلى أن صاحب السحب الوابلة ذكر أن ابن غريب هو الذي رد على أهل العراق. ويوجد لكتاب "التوضيح" هذا نسخة خطية في المكتبة السعودية بالرياض ناقصة من الآخر قليلا بخط حسن، وعليها تملك الشيخ عبد الله ابن عبد اللطيف آل الشيخ عام 1319هـ ثم انتقلت منه إلى أخيه الشيخ محمد بن عبد اللطيف3. وبغض النظر عن الغلط الموجود في الكتاب كما ذكرنا فهو ذو أثر بالغ في نشر عقيدة السلف الصالح خصوصا في بيان معنى التوحيد. ويقول ابن بشر: وكان عبد العزيز كثير الخوف من الله والذكر. آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر لا تأخذه في الله لومة لائم، ينفذ الحق ولو في أهل بيته وعشيرته لا يتعاظم عظيماً إذا ظلم فيقمعه عن الظلم، وينفذ الحق فيه، ولا يتصاغرحقيراً ظلم فيأخذ له الحق، ولوكان بعيد الوطن. وكان لا يكترث في لباسه ولا سلاحه، بحيث إِن بنيه وبنى بنيه محلاة   1 انظر: التوضيح ... ص 43. 2 حاشية، بقلم محمد بن مانع على كتاب تحفة المستفيد، قسم 2 ص 104 حاشية رقم (1) . وعلماء نجد خلال ستة قرون للبسام 3/915، 916. 3 علماء نجد خلال ستة قرون 3/915/ 916. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 833 سيوفهم بالذهب والفضة ولم يكن في سيفه شيء من ذلك إلا قليلا. وكان لا يخرج من المسجد بعد صلاة الصبح حتى ترتفع الشمس، ويصلي فيه صلاة الضحى. وكان كثير الرأفة والرحمة بالرعية، وخصوصا أهل البلدان بإعطائهم الأموال وبث الصدقة لفقرائهم والدعاء لهم، والتفحص عن أحوالهم. يقول ابن بشر: "وقد ذكر لي بعض من أثق به أَنه يكثر الدعاء لهم في ورده، قال وسمعته يقول: اللهم ابق فيهم كلمة لا إله إلا الله حتى يستقيموا عليها ولا يحيدوا عنها. وكانت الأقطار والرعية في زمنه آمنة مطمئنة في عيشة هنيئة. وهو حقيق بأن يلقب مهدي زمانه. لأن الشخص الواحد يسافر بالأموال العظيمة أي وقت شاء، شتاءً وصيفاً، يمناً وشاماً، شرقاً وغرباً في نجد والحجاز واليمن وتهامة وعمان وغير ذلك، لا يخشى أحدا إلا الله، لا سارقاً ولا مكابراً، وكانت جميع بلدان نجد من العارض والخرج والقصيم والوشم والجنوب وغير ذلك من النواحي، في أيام الربيع يسيبون جميع مواشيهم في البراري والمفالي1 من الإبل والخيل والجياد، والبقر والأغنام، ليس لها راعٍ ولا مراعٍ بل إذا عطشت وردت على البلدان ثم تصدر إلى مفاليها حتى ينقضي الربيع، أويحتاجون لها أهلها لسقي زروعهم ونخيلهم. وربما تلقح وتلد، ولا يدري أهلها إلا إذا جاءت   1 عنوان المجد لابن بشر ج1/ 124، 125. والمفالي: جمع مفلى أي مراعى بلغة اهل نجد العامية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 834 وولدها معها، إلا الخيل الجياد فإن لها من يتعاهدها في مفاليها لسقيها وحدها بالحديد. وكانت إبل أهل سدير ونجائبهم وخيلهم مسيبات أيام الربيع في الحمادة وفي أراط والعبلة، ومعها رجل واحد يتعاهدها ويسقيها ويزور أهله ويرجع إليها وهي في مواضعها فيصلح أَربطها وقيودها ثم يغيب عنها. وكذلك خيل أهل الوشم ونجائبهم في الحمادة وفي روضة محرقة وغيرهما. وهكذا يفعلون بها. وكذلك خيل عبد العزيز وبنيه وعشيرته في النقعة، الموضع المعروف قرب بلد ضرمي، وفي الشعيب المعروف بقرى عبيد من وادي حنيفة، وليس عندها إلا من يتعاهدها لمثل ما ذكرنا، وكذلك جميع النواحي تفعل ذلك. وكان رحمه الله تعالى من رأفته بالرعية شديدا على من جني جناية من الأعراب أوقطع سبلاً أوس رق شيئا من مسافر أو غيره بحيث من فعل شيئا من ذلك أخذ ماله نكالا أو بعض ماله أوشيئا منه على حسب جنايته. وأدبه غير ذلك أدبا بليغاً". .:ويذكر ابن بشر: أن السبل والطرق تأمنت كثيراً في عهد الإمام عبد العزيز فكان أهل الأسفار يسافرون ويرجعون إلى أوطانهم لا يخشون أحدا من جميع البوادي مما احتوت عليه هذه المملكة لا بحرب ولاسرق، وليس يؤخذ منهم شيء من الإِتاوات والقوانين والجوائز التي يأخذها الأعراب على الدروب يحيون بها سنن الجاهلية فبطلت جميعها ولله الحمد، وصار بعض العمال إذا جاءوا بالأَخماس والزكاة من أقاصي البلاد يجعلون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 835 مزاود الدراهم أطنابا لخيمتهم وربطا لخيلهم بالليل لا يخشون سارقا ولا غيره ونمت المواشي والثمار وساد الأمن جميع البلاد وهذا من أثر عقيدة السلف الصالح التي أظهرها الشيخ. قال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} . وكان الإمام عبد العزيز يوصي عماله بتقوى الله وأخذ الزكاة على الوجه المشروع وإِعطاء الضعفاء والمساكين ويزجرهم عن الظلم وأخذ كرائم الأموال، ويكثر العطاء والصدقات للرعية من الوفود والأمراء والقضاة وأهل العلم وطلبته ومعلمة القرآن والمؤذنين وأئمة المساجد، حتى أئمة مساجد نخيل البلدان ومؤذنيهم. وإذا أراد من الناس الغزو معه أو مع ابنه سعود، بعث رسله إلى رؤساء القبائل من العربان وواعد جميعهم يوما معلوما على ماء معلوم، فلا يتخلف أحد عن ذلك الموعد لا حقير ولا جليل، لا من بوادي الحجاز ولا العراق ولا الجنوب ولا غير ذلك فمن ذكر متخلفا ممن تعين عليه الأمر من راجل أو فارس، أدب أدبا بليغا وأخذ من ماله نكالا، والرجل الواحد أو الاثنان إذا أرسلهم عبد العزيز وابنه سعود إلى البوادي من جميع أقطار جزيرة نجد أخذوا منهم النكال من الأموال والخيل والإبل وغير ذلك، ويضربون الرجال ويعذبون المجرم بأنواع العذاب، ولا يتجاسر أحد أن يقول لهم شيئا، أو يشفع فيه، بل كلهم طائعون مذعنون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 836 قال ابن بشر: " وهذا الذي ذكرت من جهة الأمن وطاعة الحاضر والباد وغير ذلك اتفق في زمنه وزمن ابنه سعود وصدر من ولاية عبد الله". ثم مضى ابن بشر يذكر أمراء عبد العزيز وقضاته1، ومن هؤلاء القضاة: الشيخ حسين بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي أخذ عن أبيه واستكمل فنون العلم وفاق بالمعرفة أقرانه حتى صار الخليفة بعد أبيه والقاضي في بلد الدرعية2، وكان له دور كبير في نشر عقيدة السلف الصالح وتأثره بها وتأثيره في الناس لحملها ونشرها وتطبيقها، وله عدة بنين طلبة علم وقضاة. قال ابن بشر: "ومعرفتي منهم بعلي وحمد وحسن وعبد الرحمن وعبد الملك. فأما علي فهو الشيخ الفاضل وحاوي الفضائل العلامة في الأصول والفروع الجامع بين المعقول والمشروع كشاف المشكلات، مفتاح خزائن أسرار الآيات، قاضي الدرعية بوجود أعمامه، وخليفتهم فيها إذا غابوا زمن سعود وابنه عبد الله، ثم ولي القضاء لتركي بن عبد الله رحمه الله   1 عنوان المجد في تاريخ نجد ج1، ص 126 – 129، وفي طبعة وزارة المعارف سنة 1394 هـ ص 168 – 178. 2 الدرر السنية 12/46 ومشاهير علماء نجد وغيرهم ص 28. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 837 تعالى في حوطة بني تميم، ثم كان قاضياً في بلد الرياض عند الإمام فيصل ابن تركي أسعده الله تعالى" اهـ1. وذكر ابن بشر أن له اليد الطولى في معرفة الحديث ورجاله، وأَنه علق شرحا على كتاب التوحيد تأليف جده محمد بن عبد الوهاب2، لكن عبد الرحمن بن عبد اللطيف المعلق على عنوان المجد ينكر وجود هذا الشرح3، ولا وجه لإِنكاره فقد يكون في زمن مبكر، وله رسائل وفتاوى نشرت مفرقة في الدرر السنية التي جمعها عبد الرحمن بن قاسم وفي الرسائل والمسائل النجدية طبع محمد رشيد رضا4. ومن هؤلاء القضاة أيضا الشيخ الزاهد الورع عبد العزيز بن عبد الله بن إبراهيم الحصين- الذي طبق بركة علمه الآفاق، وشهد له بالفضل أهل الآفاق القاضي في ناحية الوشم زمن عبد العزيز وابنه سعود وابنه عبد الله5. أخذ الفقه في صغره عن الشيخ إبراهيم بن محمد بن إسماعيل ثم   1 ابن بشر، عنوان المجد 1/93. 2 المرجع السابق. 3 هامش ص 87 رقم (1) من جزء (1) من عنوان المجد، طبعة وزارة المعارف سنة 1387 هـ. 4 الدرر السنية 12/ 45 ومشاهير علماء نجد ص 49. 5 ابن بشر، عنوان المجد ... 1/ 94، والدرر السنية 12/ 49، 50. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 838 أخذ العلم عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب وابنه الشيخ عبد الله، والشيخ حسين، والشيخ حمد بن ناصر بن معمر وخلق غيرهم، له مجالس في التدريس مشهورة، وأوقاته بالعبادة معمورة، وله رسالة في معنى التوحيد وفتاوى، ولي القضاء في الوشم في ولاية الإِمام عبد العزيز بن محمد وأول ولاية الإمام سعود وأخذ عنه عدة من العلماء منهم الشيخ عبد الله أبا بطين والشيخ إبراهيم بن سيف والشيخ غنيم بن مسفر والشيخ عبد الله ابن سيف والشيخ محمد بن عبد الله الحصين والشيخ عثمان بن منصور والشيخ علي بن يحيى بن مساعد والشيخ عبد الله بن سليمان بن عبيد والشيخ محمد بن سيف والشيخ إبراهيم بن حجي والشيخ عثمان بن عبد المحسن أبا حسين والشيخ محمد بن نشوان والشيخ عبد الله القضيبي ولم يل القضاء، والشيخ عبد الكريم بن معيقل وغيرهم ممن لم يل القضاء الجم الغفير1. وكان للشيخ عبد العزيز الحصين جهود خاصة في نشر عقيدة السلف الصالح لدى شريف مكة وعلمائها حيث كان الذي وقع عليه الاختيار من قبل الشيخ والإمام عبد العزيز ليكون مفوضا عنهما في شرح المعتقد وبيان حقيقة الدعوة بناء على طلب شريف مكة. يقول السباعي: " في سنة 1185 هـ طلب الشريف أحمد بن   1 ابن بشر، عنوان المجد 1/ 232، 233، 234، والدرر السنية 12/ 50. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 839 سعيد من الإمام عبد العزيز بن محمد ومن الشيخ محمد بن عبد الوهاب أن يرسلا إليه فقيها منهم، يبين له حقيقة الدعوة بمحضر من علماء مكة، فأرسلا الشيخ عبد العزيز الحصين، ووقعت المناظرة مع بعض علماء مكة منهم مفتي السلطان في مكة بحضور الشريف أحمد في ثلاث مسائل: 1- في التهمة المفتراة على الشيخ وهي: التكفير بالعموم. 2- هدم القباب التي على القبور. 3- طلب الشفاعة عند الله من الأموات1. ويذكر ابن غنام أَن الإمام عبد العزيز والشيخ محمد كتبا مع الشيخ عبد العزيز الحصين رسالة إلى الشريف أحمد بن سعيد، يهيبان به أَن ينصر الشريعة المحمدية ومن تبعها وأَن يعادى من خرج عنها، كما هو الواجب على ولاة الأمور، ويذكران أَنهما تجاوبا مع طلبه أن يرسلا إليه طالب علم يشرح له ولعلماء مكة عقيدة السلف الصالح التي قاما بنصرتها، فأرسلا إليه الشيخ الحصين للحضور مع علماء الحرم في مجلس الشريف فإن اجتمعوا فالحمد لله، وإِن اختلفوا أَحضر الشريف كتبهم وكتب الحنابلة، مع قصد وجه الله ونصرة رسوله صلى الله عليه وسلم وقد أخذ الله الميثاق على الأنبياء إِن أدركوا محمدا صلى الله عليه وسلم أن يؤمنوا به وينصروه فكيف بأمته فلابد من الإيمان به ونصرته، لا يكفي أحدهما عن الآخر، وأحق الناس وأولاهم   1 تاريخ مكة للسباعي ج2 ص 77، 124. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 840 بذلك أهل البيت الذين بعثه الله منهم، وأحق أهل البيت بذلك، من كان من ذريته صلى الله عليه وسلم 1. وقال ابن غنام: "فذكر لهم الشيخ عبد العزيز الحصين أَن نسبة التكفير بالعموم إلينا زور وبهتان علينا، وأما هدم القباب، فهو الحق والصواب كما هو مقرر بالأدلة في كتب كثيرة، وليس لدى العلماء فيه شك، وأما دعاء الصالحين وطلب الشفاعة منهم والاستغاثة بهم في النوازل فقد نص عليه الأئمة أَنه من الشرك الذي فعله الأولون ولا يجادل فيه إلا جاهل ظالم. ثم أحضروا من كتب الحنابلة الإِقناع فرأوا عبارته في الوسائط وحكايته الإجماع فاقتنعوا وأقروا وتفوهوا بأن هذا دين الله، وانتشر فيما بينهم وشاع، وقالوا هذا مذهب الإمام أحمد، وانصرف عبد العزيز مبجلا ومكرما"2. ويبدو أن الشريف قد اقتنع بصحة العقيدة وأنها عقيدة السلف الصالح، ولكن ثار آل مساعد على عمهم أحمد بن سعيد هذا، وانتزعوا من يده ولاية مكة بالقوة فأخرجوه منها، ووضعوا مكانه شريفا آخر هو ابن أخيه سرور بن مساعد سنة 1186هـ، فمنع أهل نجد من الحج إلا   1 روضة ابن غنام، ج2 ص 80، 81. 2 روضة ابن غنام 2/ 81. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 841 بضريبة ثم تولى أخوه غالب. وفي سنة أربع ومائتين وألف للهجرة أرسل غالب الشريف إلى الإمام عبد العزيز كتابا، وذكر في أثنائه أَنه يريد إنسانا عارفا من أهل الدين حتى يعرف حقيقة الأمر، فأرسل إليه الشيخ عبد العزيز الحصين، وكتب معه الشيخ رسالة يبين فيها عقيدة السلف الصالح التي يدعو إليها ونصها: بعد البسملة من محمد بن عبد الوهاب إلى العلماء الأعلام في البلد الحرام نصر الله بهم سيد الأنام عليه أفضل الصلاة والسلام وتابعي الأئمة الأعلام، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد، جرى علينا من الفتنة ما بلغكم وبلغ غيركم، وسببه هدم بنيان في أرضنا على قبور الصالحين، ومع هذا نهيناهم عن دعوة الصالحين، وأمرناهم بإخلاص الدعاء لله، فلما أظهرنا هذه المسألة مع ما ذكرنا من هدم البناء الذي على القبور، كبر على العامة وعاضدهم بعض من يدعي العلم لأسباب ما تخفى على مثلكم، أعظمها اتباع الهوى مع أسباب أخر فأشاعوا عنا أنا نسب الصالحين، وأنا على غير جادة العلماء، ورفعوا الأمر إلى المشرق والمغرب وذكروا عنا أشياء، يستحي العاقل من ذكرها، وأنا أخبركم بما نحن عليه بسبب أن مثلكم ما يروج عليه الكذب على أناس متظاهرين بمذهبهم، عند الخاص والعام، فنحن ولله الحمد متبعون لا مبتدعون على مذهب الإمام أحمد بن حنبل. وتعلمون أعزكم الله، أن المطاع في كثير من البلدان، لو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 842 يتبين1 بالعمل بهاتين المسألتين أَنها تكبر على العامة، الذين درجوا هم وآباؤهم على ضد ذلك وأنتم تعلمون رحمكم الله أَن في ولاية الشريف أحمد بن سعيد، وصل إليكم الشيخ عبد العزيز بن عبد الله، وأشرفتم على ما عندنا، بعدما احضروا كتب الحنابلة التى عندنا عمدة كـ "التحفة" و"النهاية" عند الشافعية، فلما طلب منا الشريف غالب أعزه الله ونصره امتثلنا وهو إليكم واصل، فإِن كانت المسألة إجماعاً فلا كلام، وإِن كانت مسألة اجتهاد فمعلومكم أَنه لا إنكار في مسائل الاجتهاد، فمن عمل بمذهبه في محل ولايته لا ينكر عليه، وأنا أشهد الله وملائكته وأشهدكم أني على دين الله ورسوله وإني متبع لأهل العلم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ثم ذكر ابن غنام أَن غالبا أكرم عبد العزيز الحصين لما قدم عليه في مكة المشرفة بهذه الرسالة واجتمع معه مرات عديدة وعرض عليه رسالة الشيخ المفيدة فعرف ما بها من الحق والهدى وما نفته من الباطل والردى فأذعن بذلك وأقر ثم بعد مدة تنكر وتمسك بقديم سنته وطلب منه عبد العزيز الحصين أن يحضر العلماء معه فيقف على كلامهم ويسمعه ويناظرهم في أصول التوحيد، فأبوا عن الحضور وقالوا هؤلاء الجماعة ليس عندهم بضاعة إلا إزالة نهج آبائك وأجدادك ورفع يدك عن معتادك   1 يتبين بالعمل- معناه: يظهر العمل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 843 وجوائز بلادك، فطار لبه وارتعش قلبه1. فصار يقاتل أهل التوحيد ثم لم يربح، بل خسر حيث عاند الحجة التي أقامها عليه الشيخ عبد العزيز الحصين2. ومن هؤلاء القضاة في عهد الإمام عبد العزيز الشيخ العالم حمد بن ناصر بن عثمان بن معمر- ولد في الدرعية وأخذ عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، حتى كان فقيها محدثا زاهدا عابدا كثير الخير، له قدم راسخ في الفتوى وله رسائل وأجوبة تبلغ مجلدا فرقها الشيخ عبد الرحمن بن قاسم في مواضع من الدرر السنية حسب ترتيبه لها3. ومن هذه الرسائل رسالة جيدة ألفها الشيخ حمد بعنوان: النبذة الشريفة في الرد على القبوريين، جوابا لأسئلة أوردها بعض المجادلين على الشيخ محمد بن أحمد الحفظي اليمني في جمادى الثانية من شهور سنة سبع عشرة بعد المائتين والألف من الهجرة فطلب جوابها واستغرقت ستا وستين صفحة وله أيضا في مجموعة الرسائل والمسائل رسالة له في معرفة الدليل والتقليد واستغرقت ثلاثين صفحة، وعدة رسائل أخر في مسائل فقهية   1 روضة ابن غنام ج 2 ص 144، 145. 2 انظر: تاريخ مكة للسباعي 2/77، 80، 92-94، 123، 124، وعنوان المجد ... لابن بشر 1/ 122، وروضة ابن غنام ج 2 ص 145- 150. 3 ابن بشر، عنوان المجد ... 1/ 94 والدرر السنية 12/47. وتوجد في مجموعة الرسائل والمسائل النجدية ج4 ص 591- 662. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 844 واستغرقت اثنتين وستين صفحة1. وكان قاضياً في الدرعية، وغيرها. ثم أرسله الإمام سعود قاضياً ومعلما في مكة المكرمة وأقام فيها مدة وتوفي فيها سنة 1225 هـ2. ويذكر الشيخ حسين بن غنام في حوادث سنة 1211هـ من تاريخه الجزء الثاني أَنه في هذه السنة أرسل غالب الشريف رسلا إلى عبد العزيز يطلب منه علماء من أهل الدين والتوحيد ويزعم أَنه يقصد بذلك تحقيق هذا الأمر، ولينجلي له في مناظرتهم ما كان خافياً عليه، وكان من حسن سيرة عبد العزيز وعظيم فضل الله عليه أَنه يدعو إلى الله تعالى بالتي هي أحسن وأحكم ويرشد العباد للتي هي أقوم، فرأى إجابة الشريف غالب إلى ما طلب، فعسى أن يكون له سببا للسعادة، وأرسل إليه جماعة من أهل الدين والعلم، المشهورين بحسن المحاضرة في المناظرة بالبراهين وكبيرهم حمد بن ناصربن معمر ورئيسهم وأميرهم، فلما وصلوا دخلوا مكة معتمرين ومعهم جزر مهداة من سعود تذبح في الحرم فنحروها في المروة من شعائر الله، فقابلهم الشريف بالإِكرام وأحضرهم لديه مع علمائهم ليال وعقدوا للمناظرة مجالس فكانت الغلبة بالحجة للشيخ حمد   1 انظرها في مجموعة الرسائل والمسائل النجدية ج 2 تحت عنوان رسائل وفتاوى للشيخ حمد بن ناصر بن معمر. 2 الدرر السنية ... 12/ 47. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 845 ابن معمر وأصحابه على علماء الشريف غالب، لكن علماء الشريف غالب أجمعوا على المغالطة في الألفاظ فأبرموا ذلك ولكنهم لم يعثروا في حجج الشيخ وما سرده من صحيح السنة القامعة على شيء فيه لبس لدى العلماء المنصفين سوى لفظة جرى اللسان فيها على اللحن في الأعراب فارتفع من بعضهم عند ذلك التخطئة في الجواب مبادرين ومعاجلين، رغم أَن الحجة فالجة وقاطعة وملزمة، لكنهم جحدوا وشوشوا! وصفة ما جرى أَنهم حضروا ببيت الشريف تجاه بيت الله الحرام وجرت المناظرة بينهم في مسألتين: مسألة قتال الموحدين الناس ما وجهها؟ فطلب من حمد بيان الحجة والدليل والبرهان فأتى لهم بالنصوص القاطعة، وأصل لهم الأصول الواضحة، وأسمعهم من نصوص الآيات والأحاديث الصحيحة الراجحة والأدلة الواضحة، وأوقفهم على المنصوص في الكتب المعتبرة عندهم، وكانوا من قبل ينكرون وجودها في الكتب أصلا، وتفوهوا بذلك بحضرة الشريف. فلما أوقفهم حمد عليها خجلوا وخافوا فأقروا وسلموا لتلك النصوص، ثم تفاوضوا بعد ذلك في مجالس عديدة في دعوة الأموات فأبدى لهم حمد من النصوص الصحيحة والآثار الراجحة والأقوال السديدة ما أدهش العقول مما لا يسع المنصف إنكاره، ولكنهم جحدوا أن يقع ذلك في الوجود وأنكروا وجوده في الأقطار رغم وجوده عندهم واقعاً مشهودا يشهده الخلق عيانا عندهم وجهارا. ثم يقول ابن غنام: لا بدع فيما جرى منهم فقد قال كبيرهم أول ما قال وتأهب للمناظرة، وجر ذيول المفاخرة: أعلم أَني لا أناظرك بالدليل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 846 من الكتاب والسنة، ولا أطالبك بما قاله علماء المذاهب سوى ما قال به إمامي أبو حنيفة لأني مقلدله فيما قال فلا أسلم لغير قوله، ولو قلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قال الله تعالى، لأنه أعلم مني ومنك، والأخذ بغير قول الأئمة مهلك. ويقول ابن غنام: فلما انقضت تلك الأيام والليالي وانتهت ساعات الجدال والمناظرة، طلبوا من حمد بن ناصر بن معمر تأصيل ما برهن به واحتج به وقرره، وكتابة ما سجله عليهم أثناء المناظرة، فانتدب لذلك، فحرر من الكتب التي عندهم ما أرادوه رسالة أوجز فيها ما فيه حجة ودلالة، تكفي المنصف العاقل للشهادة بفضل محررها وصحة وصدق مضمونها، ثم أورد الشيخ ابن غنام نصها وشغلت ما يقارب ثلاثين صفحة، من الجزء الثاني من تاريخ ابن غنام1 وهي في الهدية السنية التي جمعها الشيخ سليمان بن سحمان وشغلت خمساً وثلاثين صفحة2. واستغرقت في الدرر السنية ثمانياً وعشرين صفحة3. وقد أشار إلى هذه المناظرة الشيخ محمد بن علي الشوكاني حيث قال في ترجمة الشريف غالب: "وبلغنا أَنه وصل إلى مكة، بعض علماء   1 روضة ابن غنام ج2/ ص 203-232. 2 الهدية السنية، ط. المنار، ص 51-87. 3 الدرر السنية ج2 ص 176- 204. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 847 نجد، لقصد المناظرة فناظر علماء مكة بحضرة الشريف في مسائل تدل على ثبات قدمه وقدم صاحبه في الدين" 1. وطبعت في رسالة مستقلة بمؤسسة النور بالرياض ويذكر ناشرها أَنه سمى أجوبة الشيخ حمد المذكورة "الفواكه العذاب في الرد على من لم يحكم السنة والكتاب" 2. ومن هؤلاء القضاة في زمن الإمام عبد العزيز، الشيخ سعيد بن حجي، رحل إلى الدرعية فقرأ على الشيخ وأخذ عن ابني الشيخ حسين وعبد الله وقرأ على الشيخ حمد بن ناصر بن معمر وعلى غير هؤلاء من علماء الدرعية وكان قاضياً في حوطة بني تميم زمن عبد العزيز وابنه سعود، وله رسائل في كلمة الإِخلاص، وفي أجوبة فقهية محررة سديدة نشرت في مجموعة الرسائل والمسائل النجدية3. ومن هؤلاء القضاة: الشيخ حمد بن راشد العريني القاضي في ناحية سدير زمن عبد العزيز4. ومنهم الشيخ: عبد الرحمن بن خميس الذي صار عالما وإماما في   1 البدر الطالع ج2 ص 7. 2 المقدمة ص 2-3. 3 مجموعة الرسائل والمسائل النجدية ج4 ص840ـ 876 وج1 ص 601-725. وانظر: عنوان المجد في تاريخ نجد لابن بشر 1/94، وعلماء نجد خلال ستة قرون1/273. 4 عنوان المجد في تاريخ نجد لابن بشر 1/94، وعلماء نجد خلال ستة قرون 1/223. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 848 قصر آل سعود وقاضياً في الدرعية زمن عبد العزيز وابنه سعود1. ومنهم: الشيخ حسين بن عبد الله بن عيدان الذي صار قاضياً في بلد حريملاء زمن عبد العزيز ودرس وأفتى في مقر عمله2. ومنهم: الشيخ محمد بن سويلم الذي صار بسبب الأخذ عن الشيخ محمد عالما وقاضياً في بلد الدلم وناحية الخرج زمن عبد العزيز3. ومنهم الشيخ عبد العزيز بن سويلم العريني الذي صار عالما قاضياً في ناحية القصيم زمن عبد العزيز وابنه سعود وابنه عبد الله، وكان مقره مدينة بريدة وما حولها فاستمر في القضاء مدة طويلة ودرس وأفتى فانتفع بعلمه جماعة منهم الشيخ عبد الله بن صقيه، وبقي بعد خراب الدرعية وهو لايزال القاضي والمدرس في القصيم حتى توفي فتولى القضاء بعده تلميذه عبد الله بن صقيه4. وغير هؤلاء من القضاة عدد كبير. وكان القضاة لا يعينون إلا بمشورة من الشيخ محمد لأن منصب القضاء منصب مهم له تأثير كبير، فبالإِضافة إلى القضاء يتولون الإمامة والخطابة والتدريس والفتوى والإِرشاد ويكونون أصحاب الكلمة الفاصلة   1 عنوان المجد في تاريخ نجد لابن بشر 1/94، 129، 169، 175. 2 عنوان المجد ... لابن بشر 1/94، وعلماء نجد 1/ 214. 3 ابن بشر، عنوان المجد 1/ 94. 4 ابن بشر: عنوان المجد.. 1/ 94، وعلماء نجد 2/ 463، 559. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 849 في البلد الذي يتولون القضاء فيه، ولا يخفى ما يكون لهم من أثر كبير وعظيم في نشر عقيدة السلف الصالح رحمهم الله تعالى. وقد كان لخلق كثير، وجم غفير أثر في عقيدة السلف الصالح التى تلقوها عن الشيخ محمد زمن الإمام عبد العزيز وبعد زمنه ممن ولي القضاء وممن لَمْ يله من العلماء والأعيان ومن دونهم1. ومن هؤلاء ابن الشيخ: الشيخ علي. قال ابن بشر: "كان عالما جليلا ورعاً كثير الخوف من الله وكان يضرب به المثل في بلد الدرعية بالورع والديانة وله معرفة في الفقه والتفسير وغير ذلك، وراودوه على القضاء فأبى عنه، وأبناؤه صغار ماتوا قبل التحصيل إلا محمدا فإنه طالب علم وله معرفة" اهـ 2. ومنهم أيضا ابن الشيخ: الشيخ إبراهيم. قال ابن بشر: "رأيت عنده حلقة في التدريس وله معرفة في العلم ولكنه لم يل القضاء قرأت عليه في صغري في كتاب التوحيد سنة أربع وعشرين ومائتين وألف3") . وأبناء الشيخ على العموم ممن حمل ميراث أبيهم ونشره بصفة   1 ابن بشر، عنوان المجد ... 1/ 94، 95 ومجلة الدارة ع 2/ رجب/ 1398 هـ صورة اللوحة من كتاب رفع النقاب رقم 74، 75 ص 97. 2 عنوان المجد 1/ 93. 3 عنوان المجد 1/ 93. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 850 خاصة كيف لا وهو عقيدة السلف الصالح وميراث العلماء الصالحين رحمهم الله ورضي عنهم؟! قال ابن بشر عنهم: "ولقد رأيت لهؤلاء الأربعة العلماء حسين وعبد الله وعلي وإبراهيم مجالس ومحافل في التدريس في الدرعية عندهم من طلبة العلم من أهل الدرعية وأهل الآفاق الغرباء ما يفضي لمن حكاه إلى التكذيب، ولهؤلاء الأربعة المذكورين من المعرفة ما فاقوا به أقرانهم، وكل واحد منهم قرب بيته مدرسة فيها طلبة العلم الغرباء ونفقتهم من بيت المال، ويأخذون عنهم العلم في كل وقت" 1. قال محمد الحفظي بعد ثنائه على الشيخ محمد بن عبد الوهاب في أولاد الشيخ: أولاده مشائخ التحقيق وسدرة في منتهى الطريق2 ومن هؤلاء غير أبناء الشيخ: الشيخ أحمد بن مانع الوهيبي التميمي. انتقل من أَشيقر إلى الدرعية في أول عهد الدعوة السلفية فقرأ على الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأَدرك حظه من العلوم الشرعية، وكان من الموالين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب المدافعين عنها قال ابن بسام: "وقد اطلعت له على رسالة يرد بها على عبد الله المويس أحد علماء نجد المعادين   1 عنوان المجد 1/ 93. 2 هو محمد بن أحمد بن عبد القادر الحفظي (1178-1237 هـ) من أهل عسير. الدرر السنية 1/2 47 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 851 لدعوة الشيخ محمد" في ترخيصه للناس في التخلف عن صلاة الجماعة وتهوين أمرها بحجة ان الإمام من أتباع ابن عبد الوهاب فبين أَن ابن عبد الوهاب إنما يدعو الناس إلى التوحيد والتبرّي من الشرك وأهله وهذا دين النبي صلى الله عليه وسلم فلا يسع المسلم غيره وبين الأدلة الشرعية على وجوب صلاة الجماعة على الأعيان، وقد توفي في الدرعية في شهر رمضان عام 1186 هـ1. وقد كان لبعض المشائخ الكبار الذين ليسوا من تلاميذ الشيخ المتخرجين على يديه جهود طيبة في نشر عقيدة السلف الصالح متأثرين بعقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ومنهم: الشيخ المؤرخ حسين بن غنام- قد التقى بالشيخ محمد بن عبد الوهاب واستفاد منه، ودون كثيرا من علم الشيخ ورسائله، وأرخ للشيخ وأنصاره وللإمام من آل سعود تاريخا مباشرا من أشمل التواريخ، ودون كثيرا من أخبارهم فتاريخه من أوثق التواريخ التي كتبت في هذا الشأن، وسبق أن طلب العلم على علماء بلده (الأحساء) ولذا لما وصل الدرعية كان أهلا لأن يجلس للتدريس. قال عبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ: "نزح من الأحساء إلى مدينة الدرعية فقدمها على الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود والشيخ   1 علماء نجد خلال ستة قرون1/183. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 852 محمد بن عبد الوهاب فأكرماه وأنزلاه المنزلة الرفيعة. فاستقر في الدرعية وجلس فيها لطلبة العلم يقرأون عليه في علم النحو والعروض فقط، فأخذ عنه جملة من علماء الدرعية وذكرمن فضلائهم سليمان بن عبد الله بن الشيخ، وعبد العزيز بن حمد بن معمر، وعبد الرحمن بن حسن بن الشيخ" 1. ويعتبر الشيخ حسين بن غنام ممن شهد بالحق لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ومن الذين ناصروها بالقلم وبيان الحق والعلم فمن ذلك ست قصائد قالها وهي: 1- قصيدة في رثاء الشيخ وذكر محاسنه وسبق أن ذكرناها2. 2- قصيدة بمناسبة جلاء دهام بن دواس ومطلعها: كشف الحق ظلمة الأغلاس ... ومحا الدين جملة الأرجاس3 3- وموعظة لبعض من تزعزع عن لزوم الحق ومطلعها: نفوس الورى إِلا القليل ركونها ... وإلى الغي لا يلفى لدين حنينها4   1 مشاهير علماء نجد وغيرهم ص 147. 2 انظر: 1/ 234- 237 من هذا البحث. 3 روضة ابن غنام ج 2/ ص 68-88. 4 روضة ابن غنام ج2/ ص 71-72. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 853 4- والرابعة رد على قصيدة محمد بن عبد الله بن فيروز ومطلعها: على وجهها الموسوم بالشؤم قد خطا ... عروس هوى ممقوتة زارت الشطا1 5- والخامسة بمناسبة قتل ثويني وتهنئة الأمير سعود ووالده الإمام عبد العزيز بن محمد حين فتح الأحساء ومطلعها: تلألأ نور الحق وانصدع الفجر ... وديجور ليل الشرك مزقه الظهر2 6- والسادسة بمناسبة تهنئة سعود بن عبد العزيز بالحج وذكر في أولها مدح الشيخ محمد ومطلعها: غياهب ليل الشرك مزقه الفجر ... فأصبح دين الحق طالعه الغفر3 وله تقريرات حسنة، وكشف شبهات يبين بها عن الحق الذي دعا إليه الشيخ محمد ويشهد له، وقد ألف كتابا سماه: "العقد الثمين في شرح أصول الدين" بإشارة من الإمام عبد العزيز كما يقول4 بعد وفاة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ولا يزال الكتاب مخطوطا، وهوكتاب مفيد ولكن في مسألة القرآن سلك فيها مسلك الأشعرية، وقد نبه على ذلك تلميذه   1 المصدر السابق، ص 190-192. 2 المصدر السابق، ص 237-242، وعنوان المجد في تاريخ نجد لابن بشر، ط وزارة المعارف، ج1ص 145 ومابعدها. 3 انظر: عنوان المجد في تاريخ نجد ط وزارة المعارف ج1ص 123- 125. 4 انظر: كتاب العقد الثمين في شرح أُصول الدين مخطوطة في المكتبة السعودية بالرياض تحت رقم 86/ 57، الغلاف ولوحة رقم 13. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 854 الشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ1، وكذلك الشيخ محمد بن مانع2. ومن آثار عقيدة الشيخ في عهد الإمام عبد العزيز أَن بعض معارضيه كأخيه الشيخ سليمان بن عبد الوهاب بعد أَن كان معارضا يؤلف كتبا ضدها اتضح له الحق وتاب إلى الله، ووفد على أخيه الشيخ محمد في الدرعية واستقر بها إلى أن توفي، ذكر ذلك الشيخ عبد العزيز بن باز في تعليقه على كتاب: "الشيخ محمد بن عبد الوهاب ... للشيخ أحمد بن حجرآل بوطامي3، ونص هذا الخبر في عنوان المجد في تاريخ نجد لابن بشر في حوادث 1190هـ 4، وفي روضة ابن غنام كذلك وقال ابن غنام: "وكان من الشيخ إلى أخيه سليمان أعظم تحنن واهتشاشة فدثر حاله حينئذ وأَراشه، ووسع عليه قوته ومعاشه، فكان ذلك سببا لإنقاذ سليمان وصدقه مع أهل الإيمان وتحققه بهذا الشأن، فقام في هذا الدين بتحقيق وجزم ويقين، وأقر على نفسه واعترف، بما قدمه قبل وأسف، ووفى بما عاهد عليه وما أَخلف ومات ولله الحمد على حالة رضى، بعد ما جرى منه ومضى، فلم يوافه القضا إلا بعد ما رفض ما كان عليه   1 الدرر السنية في الأجوبة النجدية ج1ص 157 ط 2. 2 انظر: حاشية مخطوطة كتاب العقد الثمين في شرح أصول الدين، المحفوظة بالمكتبة السعودية بالرياض تحت رقم 86/57، لوحة رقم 28. 3 هامش ص 74. 4 عنوان المجد ص 65. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 855 وانقضى" 1 وتوفي سنة 1208 هـ 2. وفي مصباح الظلام للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن نص رسالة من سليمان بن عبد الوهاب فيها رجوعه3، وكذلك في كتاب الضياء الشارق، تأليف سليمان بن سحمان4، وفي كتاب صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان5. وفي هذا رد على الشيخ عبد الله ابن بسام في قوله: إن سليمان بقي مصراً على مباينة الدعوة السلفية وأصحابها إلا أنه رضخ لسلطتها وقوتها ... ". وقال: "إِن الرسالة المذكورة يرجح أَنها نسبت إليه لغرض حسن الظن به، وإبعاد المسبة عن أبنائه العلماء الصالحين، أو لغرض الرد على أعداء الدعوة الذين نفروا عنها بحجة أَن أقرب الناس إلى صاحبها باينه فيها أو لغير ذلك من المقاصد". وأمور الترجيح هذا لدى البسام هي باختصار: لأنه قام وقعد بمحاربة الدعوة السلفية مع علماء وقته- وقال: ولم نر أحدا من هؤلاء رجع،   1 روضة ابن غنام ج2 ص 96. 2 علماء نجد خلال ستة قرون 1/304. 3 مصباح الظلام، تأليف الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن ص 96،103. 4 الضياء الشارق، تأليف الشيخ سليمان بن سحمان ص 22-25، ط 1، المنار 1344. 5 صيانة الانسان عن وسوسة الشيخ دحلان ص 468-473. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 856 وكل أتباعها هم تلاميذ الشيخ محمد، ولذكر ابن لعبون في تاريخه المخطوط انه لم ينزل الدرعية إلا كرها، ولأن ابن بسام لم ير له نشاطا في الدعوة غير هذه الرسالة، ولأن ابن بسام اطلع على جواب تلك الرسالة وفيها الترحم على الشيخ محمد مما يدل على أَنها كتبت بعد وفاة الشيخ محمد فلو كانت حقيقة لكان جواباً في عهد الشيخ محمد لا بعده1. انتهى ملخصا. ولا يخفى أن الشيخ البسام عارض رواية الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن والشيخ سليمان بن سحمان –ودليلهما وهو الرسالة المذكورة من سليمان– ولم يذكر البسام رواية ابن بشر وابن غنام، وكان الشيخ عبد العزيز بن باز قد ذكر رجوعه بناء على ما ذكره ابن بشر والبسام عارض هذا كله بظنون، والظن لا يبني عليه شيء؛ فكيف يعارض به روايات الثقات، ويرجع هذا الظن عليها بأمور لا تقوم ولا تتم؟!. فأما الأمر الأول فما يدريه عن رجوع من رجع وتاب ثم إنه يجوز ويمكن أَن من قام وقعد في محاربة الحق أَن يتضح له الحق ويرجع ويتوب، يجوز ذلك في العقل والواقع والشرع، وكونه لم ير له نشاطا، فالنشاط ليس بلازم، وربما كان له نشاط غير ظاهر، مع أَن ابن غنام حكى ذلك   1 علماء نجد خلال ستة قرون ج1ص 304-306. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 857 عنه، وكون ابن لعبون ذكر في مخطوطته التي عند البسام أن سليمان قدم كرها فهذا معارض برواية ابن بشر وابن غنام. الثانية: ثم لو كان الأمر صحيحاً فلا مانع من كون العاقبة رجوعه إلى الحق، أنسي أن من أهل الجنة من يقاد إليها بالسلاسل؟! وكون ابن بسام اطلع على رسالة يذكر كاتبها أَنها من هؤلاء الثلاثة الذين كتب لهم سليمان تلك الرسالة المذكورة وأَنها جواب له وأن تاريخها متأخر بعد موت الشيخ محمد لا بعد موت الشيخ سليمان بل هي في حياته فتأخر تاريخها هذا إِن صح ليس فيه ما يبرر أنها مزيفة أيضا، مادام أن هذه الرسالة حصلت في حياة الشيخ سليمان والتي استمرت سنتين بعد وفاة أخيه الشيخ محمد واستنتاج البسام من هذه الرسالة أَن سليمان كان ساكتا في حياة أخيه على معتقده الأول ثم بعد وفاة أخيه يعلن رجوعه وموافقته لأخيه وأَن هذا الأمر من البعيد جدا، فلو صح الاستنتاج لكان من القريب جدا أَن سليمان كان في حياة أخيه يجد في نفسه، ثم لما مات زال ذلك الوجد المانع من قبول الحق فأعلنه وكم أسلم من أسلم، بعد وفاة من كان يدعوه إلى الإسلام ويأبى في حياته، وقد قال الإمام أحمد: "قولوا لأهل البدع: بيننا وبينكم الجنائز" 1. وزعمه أَن كل أَتباع عقيدة الشيخ هم تلاميذه يرده الواقع السلفي.   1 انظر: تخريج هذه الرواية في 1/ 233 –234 من هذا البحث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 858 وعلى كل فعقيدة الشيخ محمد السلفية رحمه الله مؤثرة بعد مماته، كما كانت في حياته وربما أكثر لأنها تكشفت عنها الشبهات، وتجردت من كل ما يخالف عقيدة السلف الصالح، وأثمرت اتحاد الكلمة، واجتماع الشمل، وائتلاف القلوب والأمن والهدى سيما في عهد الإمام عبد العزيز، فلعمر الله قد أصبحت سلفية خالصة لا يشوبها شائبة، فما للقلوب النافرة عنها أدنى عذر ولا حجة.. والله أعلم. وأذكر ما يقول ابن بشر معقبا على ما وصف في عهد الإمام عبد العزيز من اتساع دولة أنصار العقيدة وقوتها وما أنعم الله به عليها من الأمن وطاعة الرعية وانتظام ولايتهم فيقول: "وهذا الأمر في هذه المملكة شيء وضعه الله تعالى في قلوب العباد من البادي والحاضر في كل ما احتوت عليه هذه المملكة مع الرعب العظيم في قلوب من عادى أهلها وذلك والله أعلم من سببين: أحدهما: أَن الراعي إذا عف عفت رعيته، فإذا عمل الإمام بطاعة الله وبذل العدل في الرعية، وصار القريب والبعيد، والغني والفقير والجليل والحقير في الحق سواء، وكان متواضعاً يحب العلماء وطلبة العلم وحملة القرآن، ويعظمهم ويحب الفقراء والمساكين ويعطيهم حقهم ويضع في المسلمين فيئهم جعل الله له الهيبة في القلوب وتداعى له كل مطلوب. والسبب الثاني: أَن الله جعل لكل شيء ضدا مخالفا له منافيا أو معاديا، فجعل الشرك ضد التوحيد والعلم ضد الجهل إلى غير ذلك من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 859 الأضداد المنافية بعضها لبعض، وأما الأضداد المعادية بعضها لبعض كعداوة الحية لبني آدم وعداوة إبليس لهم، وعداوة السباع لأضدادها وعداوة البادي لأهل القرى عداوات قديمة طبيعية فلا يصلح هذه العداوة بين أهل القرى وبينهم بذل المال، فإِنه إذا بذل لهم أصلح عداوتهم الظاهرة نحو أسبوع أوشهر، وأما عداوتهم الباطنة كالسرق ونحوه (كالخيانة) فإِنه لا يصلحها ويصلح الظاهرة معها إلا السيف، ولما عرف عبد العزيز رحمه الله هذا الداء عرف الدواء فاستعمل لمن عاداه منهم السيف ولمن والاه منهم قوة الجانب والغلظة والشدة فكان يأخذ منهم الأموال الكثيرة على السرقة وقطع السبل، ويجعل رؤساءهم في السجن وأَغلال الحديد حتى إنه جعل الحميدي بن هذال رئيس بوادي عنزه ورجلا هتيميا في حديد واحد، وربط وطبان الدويش وابن هذال في حديد واحد ويأخذ النكال الكثير من أموالهم على من تخلف منهم عن المغزى مع المسلمين من فرس أو ذلول معروفة أو رجل معروف حتى ذكر لي أَنه لم يوجد عند مطير إلا فرس أوفرسان وذلك لأن بوادي هذه الجزيرة لم يحتاجوا لها لأنهم لم يخافوا من أحد ولا يخاف منهم أحد ولا يطمعون في أحد، قد حجز عبد العزيز جميع القبائل ويأخذ منهم هذه الأموال مع زكواتهم ويفرقها على أهل النواحي والبلدان " ... إلى أن قال ابن بشر: "فصار البلد الواحد من قرايا نجد بهذا السبب يركب من هذا الغزو معه ومع ابنه سعود سبعون أو ستون مطية أوأقل أوأكثر، وإذا أرسل عماله لقبض الزكاة من الأعراب أمرهم أن لا يأخذوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 860 من الزكاة عقالا حتى يأخذوا لصاحب الدين حقه ولمن سرق له شيء قيمة ما له والنكال، فقويت البلدان واشتدت وطأتهم على عدوهم، فصار الأعرابي يرفع يده ولا يخفضها على شيء من مال أهل القرى ولا من مال البوادي، بعضهم من بعض في مفازة خالية فضلا عن غيرها، وصارهذا مطردا سائغا في زمنه وزمن ابنه سعود، وصدرمن ولاية عبد الله"1. ولما توفي الإمام عبد العزيز بن محمد شهيدا سنة 1128هـ، تولى بعده ابنه سعود فصار هو الإمام، وكان الشيخ محمد بن عبد الوهاب قد أمر أهل بلدان نجد وغيرهم أن يبايعوه وأن يكون ولي العهد بعد أبيه، وذلك في السنة الثانية بعد المائتين والألف (1202 هـ) بناء على أمر الإمام عبد العزيز، فبايعه جميعهم2. وهوصاحب السيرة الحسنة في السلم والحرب يتتبع سيرة السلف الصالح في كل ذلك ويطبق مقتضى عقيدتهم السليمة وكان كثيرا ما يذكر رعيته خصوصا جيوش المسلمين بما أنعم الله عليهم من الاجتماع على كلمة الإسلام، وأَن سببه العمل بطاعة الله والصبر في مواطن اللقاء وأَن النصر لا ينال إلا بالصبر. يقول ابن بشر: " وكان متيقظا بعيد الهمة، يسر الله له من الهيبة عند   1 عنوان المجد في تاريخ نجد لابن بشر، طبعة وزارة المعارف سنة 1394 هـ، ج1/ ص 170-171. 2 عنوان المجد في تاريخ نجد لابن بشر ج1 ص 83. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 861 الأعداء والحشمة في قلوب الرعايا ما لم يره أحد، وكانت له المعرفة التامة في تفسير القرآن، أخذ العلم عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب أقام مدة سنين يقرأ عليه ثم كان يلازم على مجالس الدرس عنده وله معرفة في الحديث والفقه وغير ذلك، بحيث إِنه إذا كتب نصيحة لجميع رعاياه من المسلمين أتى فيها بالعجب العجاب وبهرت عقول أولي الأَلباب، وكان أول ما يصدر النصيحة بالوصية بتقوى الله تعالى ومعرفة نعمة الإسلام ومعرفة التوحيد والاجتماع بعد الفرقة، ثم الحض على الجهاد في سبيل الله، ثم الزجر عن جميع المحظورات من الزنى والغيبة والنميمة وقول الزور والمعاملات الربوية وغير ذلك، وكل نوع من ذلك يأتي عليه بالأدلة من الكتاب والسنة وكلام العلماء، فمن وقف على شيء من مراسلاته ونصائحه عرف بلاغته ووفور علمه، وإذا تكلم في المحافل بنصيحة أو مذاكرة بهر عقل من لم يكن قد سمعه، وخال في نفسه أَنه لم يسمع مثل قوله وحسن منطقه، وعليه الهيبة العظيمة التي ما سمعنا بها في الملوك السالفة، بحيث إِن ملوك الأقطار لا تتجاسر على مراجعته الكلام، ولا ترمقه بأبصارها إعظاما له وهو مع ذلك في الغاية من التواضع للمساكين وذوي الحاجة وكثير المداعبة والانبساط لخواصه وأصحابه ... " إلخ ما وصفه به من صفات كريمة، هي من أثر التمسك بعقيدة السلف الصالح1.   1 عنوان المجد في تاريخ نجد ج1/165-176. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 862 وقال الشيخ راشد بن علي الحنبلي في كتابه مثير الوجد في معرفة أنساب ملوك نجد عن الإمام سعود بن عبد العزيز "تولى ملك نجد وجند منها جنودا تزيد على أربعمائة ألف ما بين فارس وراجل، وأَخضع جزيرة العرب، وحاول مناهضة ملوك الدنيا وانتزاع الممالك. وكان مدة حياته لم تهزم له راية، وكان عالما ذكيا يحسن الخط والقراءة، وعليه من الأبهة والهيبة والجلال ما يبهر العقول، وكان فصيحا، إذا تكلم أنصت له كل سامع"1. وعلى الجملة فهو شجاع فارس صادق في الحديث وعالم راسخ في العلم، وتقي دين، سلم لأولياء الله حرب على أعدائه، اجتمعت فيه ملكات الحكم والإِمارة ومواهب العلم والإمامة رحمه الله تعالى وقد تم على يديه دخول الحجاز في ولاية الدولة السعودية الأولى. وكان انتشار عقيدة السلف الصالح في عهده انتشارا مستمرا وواسعاً حتى شمل الحرمين وساد في أَرجاء الجزيرة وما حولها. وقد قام الإمام سعود بن عبد العزيز بتقديم كتاب كان موجها إلى سليمان باشا يشرح فيه عقيدة السلف الصالح والتي قام بها الشيخ محمد ابن عبد الوهاب والإمام محمد بن سعود ومن خلفه من أبنائه وفند مطاعن الأعداء وكشف شبهاتهم وأَن كل ما قالوه ضد عقيدة الشيخ وأنصاره   1 مثير الوجد ص 42. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 863 باطل وليس لهم حجة إلا من جنس ما يحتج به أعداء الرسل على الرسل وعلى أَتباعهم إلى يوم القيامة فاطلع عليه أهل مكة وعلماؤهم، ووقع عليه علماء مكة وقضاتها وأرباب الفتوى فيها من جميع المذاهب الأربعة ووقع الشريف غالب بن مساعد على ذلك وكذلك علماء المدينة المنورة، وكلهم يقولون نشهد أن هذا الدين الذي قام به الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ودعانا إليه إمام المسلمين سعود بن عبد العزيز من توحيد الله عز وجل ونفي الشرك الذي ذكره أَنه هو الحق الذي لا شك فيه ولا ريب، الذي جاء به النبي محمد صلى الله عليه وسلم وأن ما وقع في مكة والمدينة سابقا ومصر والشام وغيرها، من البلاد إلى الآن، من أنواع الشرك المذكورة في هذا الكتاب أَنه الكفر المبيح للدم والمال والموجب للخلود في النار، ومن لم يدخل في هذا الدين ويعمل به، ويوالي أهله، ويعادي أعداءه فهو عندنا كافر بالله واليوم الآخر، وواجب على إمام المسلمين والمسلمين جهاده وقتاله حتى يتوب إلى الله مما هو عليه ويعمل بهذا الدين. ومن هؤلاء المشائخ: الشيخ عبد الملك بن عبد المنعم القلعي الحنفي مفتي مكة المكرمة، والشيخ محمد صالح بن إبراهيم مفتي الشافعية بمكة، والشيخ محمد بن محمد عربي البناني مفتي المالكية بمكة المشرفة، والشيخ محمد بن أحمد المالكي، والشيخ محمد بن يحيى مفتي الحنابلة بمكة المكرمة وغيرهم1.   1 انظر: الدرر السنية، ج1ص 318-.32. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 864 وبهذا كسر الطاغوت وأرغم الشيطان ولله الحمد، نصر من الله وفتح قريب، وهذا النصر العزيز والفتح المبين هو من آثار عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وفوقه مدخل إلى الجنة كريم إن شاء الله تعالى. ومن أشهرالعلماء العاملين في زمن الإمام سعود: ابن الشيخ، الشيخ عبد الله العالم الجليل. قال ابن بشر: "هو الخليفة بعد أخيه حسين والقاضي في بلد الدرعية زمن سعود فكان آية في العلم ومعرفته ومعرفة فنونه" 1. وحصَّل علماً كثيرا حيث أوقف حياته على تحصيل العلم وتعليمه ونشره وأخذ عنه خلق كثير من فطاحل العلماء، وصار مرجع القضاة وله مؤلفات عديدة وفتاوى كثيرة منها رد على بعض علماء الزيدية فيما اعترض به على دعوة التوحيد السلفية، ومختصرة السيرة النبوية، والكلمات النافعة، ورسالة طويلة كتبها حال دخوله مكة المكرمة مع الإمام سعود فاتحاً سنة 1218 هـ اشتملت على بيان عقيدة شيوخ الدعوة وما هم عليه ورد مفتريات أعداء الإسلام. جاء في هذه الرسالة: "بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين والتابعين، وبعد فإِنا معاشر الموحدين لما من الله علينا وله الحمد بدخول   1 عنوان المجد 1/ 93. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 865 مكة المشرفة نصف النهار يوم السبت في ثامن شهر المحرم الحرام سنة 1218 بعد أن طلب أشراف مكة وعلماؤها وكافة العامة من أمير الغزو سعود الأمان، وقد كانوا تواطؤا مع أمراء الحجيج وأمير مكة على قتاله أو الإقامة في الحرم ليصدوه عن البيت فلما زحفت أجناد الموحدين ألقى الله الرعب في قلوبهم، فتفرقوا شذر مذركل واحد يعد الإياب غنيمة وبذل الأمير حينئذ الأمان لمن بالحرم الشريف ودخلنا وشعارنا التلبية آمنين محلقين رؤوسنا ومقصرين غير خائفين من أحد من المخلوقين بل من مالك يوم الدين، ومن حين دخل الجند الحرم وهم على كثرتهم مضبوطون متأدبون لم يعضدوا به شجرا، ولم ينفروا صيدا ولم يريقوا دما إلا دم الهدي أو ما أحل الله من بهيمة الأنعام على الوجه المشروع ولما تمت عمرتنا جمعنا الناس ضحو الأحد وعرض الأمير رحمه الله على العلماء ما نطلب من الناس ونقاتلهم عليه وهو إخلاص التوحيد لله تعالى وعرفهم أَنه لم يكن بيننا وبينهم خلاف له وقع إلا في أمرين: أحدهما إخلاص التوحيد لله تعالى، ومعرفة أنواع العبادة وأَن الدعاء من جملتها، وتحقيق معنى الشرك الذي قاتل الناس عليه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، واستمر دعاؤه برهة من الزمان بعد النبوة إلى ذلك التوحيد، وترك الإِشراك قبل أن تفرض عليه أركان الإسلام الأربعة. والثاني: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي لم يبق عندهم إلا اسمه وانمحى أثره ورسمه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 866 فوافقونا على استحسان ما نحن عليه جملة وتفصيلا وبايعوا الأمير على الكتاب والسنة وقبل منهم وعفى عنهم كافة فلم يحصل على أحد منهم أدنى مشقة ولم يزل يرفق بهم غاية الرفق لا سيما العلماء، ونقرر لهم حال اجتماعهم وحال انفرادهم لدينا أدلة ما نحن عليه، ونطلب منهم المناصحة والمذاكرة وعرفناهم بأن صرح لهم الأمير حال اجتماعهم بأنا قابلون ما وضحوا برهانه من كتاب أو سنة أو أثر عن السلف الصالح كالخلفاء الراشدين المأمورين باتباعهم بقوله صلى الله عليه وسلم "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي " أوعن الأئمة الأربعة المجتهدين ومن تلقى العلم عنهم إلى آخر القرن الثالث لقوله صلى الله عليه وسلم "خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" وعرفناهم أَنا دائرون مع الحق أينما دار وتابعون للدليل الجلي الواضح ولا نبالي حينئذ بمخالفة ما سلف عليه من قبلنا، فلم ينقموا علينا أمرا. فألحينا عليهم في مسألة طلب الحاجات من الأموات إِن بقي لديهم شبهة. فذكر بعضهم شبهة، أو شبهتين فرددناها بالدلايل القاطعة من الكتاب والسنة حتى أذعنوا ولم يبق عند أحد منهم شك ولا ارتياب فيما قاتلنا الناس عليه أَنه الحق الجلي الذي لا غبار عليه، وحلفوا لنا الأيمان المغلظة من دون استحلاف لهم على انشراح صدورهم وجزم ضمائرهم أَنه لم يبق لديهم شك في أَن من قال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يا ابن عباس، أو يا عبد القادر أو غيرهم من المخلوقين طالبا بذلك دفع شر أو جلب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 867 خير من كل ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى من شفاء المريض والنصر على العدو والحفظ من المكروه ونحو ذلك إِنه مشرك شركا أكبر يهدر دمه ويبيح ماله وإِن كان يعتقد أن الفاعل المؤثر في تصريف الكون هوالله تعالى وحده لكنه قصد المخلوقين بالدعاء متشفعاً بهم ومتقربا بهم لتقضى حاجته من الله بسرهم وشفاعتهم له فيها أيام البرزخ، وأَن ما وضع من البناء على قبور الصالحين صارت في هذه الأزمان أصناما تقصد لطلب الحاجات ويتضرع عندها ويهتف بأهلها في الشدائد كما كانت تفعله الجاهلية الأولى، وكان من جملتهم مفتي الحنفية الشيخ عبد الملك القلعي وحسين المغربي مفتي المالكية، وعقيل بن يحيى العلوي فبعد ذلك أزلنا جميع ما كان يعبد بالتعظيم والاعتقاد فيه ويرجى النفع والضر بسببه من جميع البناء على القبور وغيرها حتى لم يبق في تلك البقعة المطهرة طاغوت يعبد فالحمد لله على ذلك ثم رفعت المكوس والرسوم، وكسرت آلات التنباك، ونودي بتحريمه وأحرقت أماكن الحشاشين والمشهورين بالفجور ونودي بالمواظبة على الصلوات في الجماعات، وعدم التفرق في ذلك بأَن يجتمعوا في كل صلاة على إمام واحد، ويكون ذلك الإمام من أحد المقلدين للأربعة رضوان الله عليهم، واجتمعت الكلمة حينئذ، وعبد الله وحده، وحصلت الألفة وسقطت الكلفة، وأمر عليهم، واستتب الأمر من دون سفك دم ولا هتك عرض ولا مشقة على أحد والحمد لله رب العالمين. ثم دفعت لهم الرسائل المؤلفة للشيخ محمد في التوحيد المتضمنة للبراهين وتقرير الأدلة على ذلك بالآيات المحكمات والأحاديث المتواترة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 868 مما يثلج الصدر واختصر من ذلك رسالة مختصرة للعوام تنشر في مجالسهم وتدرس في محافلهم ويبين لهم العلماء معانيها ليعرفوا التوحيد فيتمسكوا بعروته الوثيقة فيتضح لهم الشرك فينفروا عنه وهم على بصيرة آمنين. وكان فيمن حضر مع علماء مكة وشاهد غالب ما صار حسين بن محمد بن الحسين الإبريقي الحضرمي ثم الحياني ولم يزل يتردد علينا ويجتمع بسعود وخاصته من أهل المعرفة، ويسأل عن مسألة الشفاعة التي جرد السيف بسببها من دون حياء ولا خجل لعدم سابقة جرم له؛ فأخبرناه بأن مذهبنا في أصول الدين مذهب أهل السنة والجماعة وطريقتنا طريقة السلف التي هي الطريق الأسلم بل والأعلم والأحكم خلافا لمن قال طريق الخلف أعلم". ومضى الشيخ يبين عقيدتهم السلفية في الأصول والفروع في رسالته هذه وهي طويلة ونقلت منها ما نقلت لتضمنه وصفا لأثر عقيدة الشيخ في نشر دين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وقد أثنى عليها العلماء وصدقوها وزكوها وما علمت أن أحدا نفى ما جاء فيها من وصف ما جرى وما هو واقع. يقول محمد كرد علي الدمشقي في كتابه "القديم والحديث " عن هذه الرسالة: "ورسالة عبد الله بن عبد الوهاب التي كتبها حين فتح الحرمين الشريفين شاهد عدل أَنه بريء من تلك الافتراءات التي افتروها على عقائده وعقائد أبيه، وبنوا عليها تلك الزلازل والقلاقل وأن مذهبه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 869 عين مذهب الأئمة المحدثين والسلف الصالحين" 1. والحق أن الشيخ أنصف ولم يترك لأحد مقالا، وأحال إلى الواقع الذي لا يقدر أحد أن ينكره يقول في رسالته تلك: "ومن شاهد حالنا وحضر مجالسنا، وتحقق ما عندنا علم قطعاً أن جميع ذلك وضعه وافتراه علينا أعداء الدين وإخوان الشياطين تنفيرا للناس عن الإِذعان بإخلاص التوحيد لله تعالى بالعبادة وترك أنواع الشرك الذي نص الله عليه بأن الله لا يغفره ويغفر ما دونه لمن يشاء". ويشير إلى ما كذب عليهم من أنهم مخالفون لعقيدة أهل السنة والجماعة في أي مسألة من مسائل العقيدة2. ومن هؤلاء القضاة في زمن الإمام سعود: الشيخ عبد الرحمن بن نامي الذي صار قاضيا في بلد العيينة، ثم صار قاضيا في الأحساء زمن سعود وابنه عبد الله3. والشيخ محمد بن سلطان العوسجي قاضي المحمل صار قاضيا في الأحساء زمن سعود 4 وقد حصل في التوحيد والتفسير والحديث والفقه وأصول هذه العلوم، وقام بنشر عقيدة السلف الصالح في الاحساء5.   1 نقلا عن هامش عنوان المجد في تاريخ نجد لابن بشر تهميش عبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ ص 164 ط المعارف 1394 هـ. 2 انظر: نص رسالة الشيخ عبد الله كاملا في الدرر السنية ج1ص 123- 134. 3 عنوان المجد في تاريخ نجد 1/94. 4 عنوان المجد في تاريخ نجد 1/94. 5 علماء نجد خلال ستة قرون 3/809. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 870 والشيخ عبد الرحمن بن عبد المحسن أبا حسين الذي صار قاضيا في حريملاء وبلَدِ الزلفي وغيرهما زمن سعود وابنه عبد الله1. وعن الأثر العمراني والحضاري لهذه العقيدة السلفية التي لا ينسى صاحبها نصيبه من الدنيا ويحسن كما أحسن الله إليه- يحدثنا المؤرخ ابن بشر عن مثال رآه وشاهده فيقول:"ولقد رأيت في الدرعية بعد ذلك في زمن سعود رحمه الله تعالى وما فيه أهلها من الأَموال وكثرة الرجال والسلاح المحلى بالذهب والفضة الذي لا يوجد مثله، والخيل الجياد والنجايب العمانيات والملابس الفاخرة وغير ذلك من الرفاهيات ما يعجز عن عده اللسان ويكل عن حصره الجنان والبنان ولقد نظرت إلى موسمها يوما في مكان مرتفع، وهو في الموضع المعروف بالباطن، بين منازلها الغربية التي فيها آل سعود، والمعروفة بالطريف، ومنازلها الشرقية المعروفة بالبجيري، التي فيها أبناء الشيخ، ورأيت موسم الرجال في جانب وموسم النساء في جانب وموسم اللحم في جانب وما بين ذلك من الذهب والفضة والسلاح والإبل والأغنام والبيع والشراء، والأخذ والعطاء وغير ذلك، وهو مد البصر، لا تسمع فيه إلا كدوي النحل من النجناج، وقول: بعت وشريت، والدكَاكِين على جانبيه الشرقي والغربي وفيها من الهدم والسلاح والقماش مالا يعرف ولا يوصف2.   1 عنوان المجد في تاريخ نجد 1/94. 2 تاريخ نجد 1/13، 14. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 871 "وكان قوة هذه البلد وعظم مبانيها، وقوة أهلها وكثرة رجالها وأموالها لا يقدر الواصف صفتها، ولا يحيط العارف بمعرفتها، فلو ذهبتُ أعد رجالها وإقبالهم فيها وإدبارهم في كتائب الخيل والنجائب العمانيات وما يدخل على أهلها من أحمال الأموال من سائر الأجناس التي لهم مع المسافرين من أهلها، ومن أهل الأقطارلم يسعه كتاب ولرأيت العجب العجاب، وكأن الداخل في موسمها لا يفقد أحدا من أهل الآفاق من اليمن وتهامه والحجاز، وعمان والبحرين وبادية الشام، ومصر وأناس من حاضرتهم، إلى غير ذلك من أهل الآفاق ممن يطول عدهم، هذا داخل فيها وهذا خارج منها، وهذا مستوطن فيها. وكانت الدور لا تباع فيها إلا نادرا، وأثمانها سبعة آلاف ريال وخمسة الآف ريال والداني بألف ريال وأقل وأكثر وكل شيء بقدره، على هذا التقدير، وكروة الدكان الواحد في الشهر خمسة وأربعون ريالا وسائر الدكاكين الواحد بريال في اليوم، وشيء نصف ريال، وذكر لي أن القافلة من الهدم إذا أتت إليها، بلغت كروة الدكان في اليوم الواحد أربعة أريل، وأراد رجل منهم أن يوسع بيته ويعمره، فاشترى نخيلات تحت هذا البيت، يريد قطعها وتعمير موضعها، كل نخلة بأربعين ريالا وخمسين ريالا، فقطع النخل وعمر البيت، ولكنه وقع عليه الهدم1 قبل تمامه.   1 يعني هدم الدرعية على يد إبراهيم باشا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 872 وذكر لي من أثق به أن رجلا من أهل الدرعية قال له: إني أردت ميزابا في بيتي، فاشتريت خشبة طولها ثلاثة أذرع بثلاثة أريل، وأجرة نجره وبناه ريال. وكان غلا الحطب فيها والخشب إلى حد الغاية حتى قيل إن حمل الحطب بلغ خمسة أريل وستة، والذراع من الخشبة الغليظة بريال وكل بيوتها مقاصير وقصور. كأن ساكنيها لم يكونوا من أبناء ساكني القبور. فإذا وقفت في مكان مرتفع ونظرت موسمها وكثرة ما فيها من الخلائق وتزايلهم فيه وإقبالهم وإدبارهم ثم سمعت رنتهم ونجناجهم فيه فكأنه دوي السيل القوي إذا صب من عالي جبل"1 اهـ. لا شك أن هذا الوصف يصور تطورا عمرانيا وحضاريا متفوقا على جميع الأقطار من حولهم حيث كان الداخل في موسمها لا يفقد أحدا من أهل الآفاق من اليمن وتهامة والحجاز، وعمان والبحرين، وبادية الشام ومصر وأناس من حاضرتهم ... ، إلى غير ذلك من أهل الافاق ممن يطول عدهم الخ كلام ابن بشر الذي رأى ذلك زمن الإمام سعود. وأما الإمام عبد الله بن سعود؛ فيقول الشيخ راشد بن علي بن جريس في كتابه " مثير الوجد في معرفة أنساب ملوك نجد" بعد أن ذكر وفاة الإمام سعود بن عبد العزيز سنة 1229 هـ؛ قال: " لما توفي الإِمام سعود تولى الإمامة بعده ابنه عبد الله بن سعود   1 عنوان المجد في تاريخ نجد لابن بشر 1 ص 214. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 873 فسار سيرة والده إلاَّ أَنَّ إخوته لا يوافقونه على إرادته وكان لا يخالفهم ونازعه أخوه فيصل بن سعود فكان يأمر وفيصل يأمر، فتفرقت شوكتهم ونفرمنهم فئام من العرب، واتسع الخرق في قوتهم، فحاربتهم الدولة المصرية، وانحاز إلى المصريين أكثر العرب من نجد والحجاز واليمن والعراق والشام وكان عبد الله شجاعاً ديناً عفيفاً كريماً سخياً، إلا أنه ليس له من الرأي والألمعية كما لوالده، فلذلك أضاع من سياسة الرعية شيئا عظيما فوافاه القدر المحتوم فتوفي في مدينة قسطنطينية سنة 1233هـ"1. وقال ابن بشر: "وهذا الذي ذكرت من جهة الأمن وطاعة الحاضر والباد وغير ذلك اتفق في زمن عبد العزيز وزمن ابنه سعود وصدر من ولاية عبد الله" 2. حاصل أثر عقيدة الشيخ في هذا الدور: يمكننا تحصيل أبرز آثار عقيدة الشيخ في هذا الدور من أدوار دولة أنصارها في نقاط هي: إشراق نور الحق من نجد، وإمامة الأئمة والملوك من آل سعود، وتحقيق أَن منهج السلف يأتي بالخلافة في الأرض، وتحقيق أَن عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية قامت عليها دولة عظيمة فاقت أهل زمانها، وهي صالحة لأن تقوم عليها دولة عصرية تفوق أهل هذا الزمان بحول الله وقوته.   1 ص 42. 2 عنوان المجد 1/ 128. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 874 وهذه النقاط يمكن استعراضها بشكل موجز فيما يلي: إشراق نور الحق من نجد: لقد أشرق نُورُ الحق وأضاء نور هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما أثار طواغيت العالم حوله القتام من نجد هذه المرة كما قال حسين بن غنام: تلألأ نور الحق وانصدع الفجر ... وديجور ليل الشرك مزقه الظهر وشمس الأماني أشرقت في سعودها ... ولاح بأفق السعد أنجمه الزهر وجلا ظلام الخطب بيض صنائع ... كأن سناها في غياهبه بدر وأسفر وجه الوقت بعد تعبس ... وحالت بصنع الله أَحواله الكدر إلى أن قال: تشعشع من خمسين عاما ضياؤه ... ولم تبق أرض ليس فيها له ذكر1 ومن عادة المؤرخين أنهم لا يهتمون في تاريخهم بتدوين الحوادث في الأزمنة والأمكنة ما لم تكن لها دولة ذات شأن، ولذا فإن الباحث في أية ناحية من نواحي التاريخ المتعلقة ببلاد نجد وما جاورها في القرون التي تلت القرن الثالث الهجري حتى زمن ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعوزه المصادر ولا يرى اهتماما من المؤرخين بحوادثها، وكل من كتب من المؤرخين المحدثين يبني تاريخه على الشهرة القديمة في صدر الإسلام ويعول على ما ذكره متقدمو المؤرخين عنها 2، أما بعد أن   1 روضة الأفكار، ج 2 ص 237، وص 340. 2 انظر: حمد الجاسر في كتابه: مدينة الرياض عبر أطوار التاريخ ص 45- 79، 80- 100، ومقدمته لتاريخ بعض الحوادث لابن عيسى ص 5- 6. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 875 أنعم الله على هذه البلاد بظهور دعوة الشيخ إلى عقيدة السلف الصالح وإصلاح ما فسد وانحرف من عقائد الناس على أيدي الغر الميامين آل سعود فقد عمت بركتها وشمل يمنها الجزيرة وما جاورها وبلغت أقصى أقطار المعمورة وكان ذلك موضع اهتمام المؤرخين والعلماء فكان همهم الأكبر فهم حقيقة تلك النهضة التي هي حقيقة الإسلام خالصا من كل شائبة. وكان أول من قام بتدوين تاريخ قيام هذه النهضة المباركة وتصوير كفاح أولئك الأبطال الذين حموا حوزتها، ودافعوا عنها بالنفس والنفيس عالم جليل من بلاد الأحساء هوالشيخ حسين بن غنام (ت 1225هـ) فسجل حوادث ما يزيد على نصف قرن من الزمان، وجاء بعده عالم جليل آخر هو عثمان بن بشر (1210-1290هـ) فسجل أهم حوادث أكثر من قرن كامل من الزمان بطريق التسلسل، (من سنة 1158 إلى سنة 1268هـ) 1. ويلاحظ أن ابن بشر قد خصص كتابه لتاريخ تلك النهضة المباركة   1 إبراهيم بن صالح بن عيسى، عقد الدرر فيما وقع في نجد من الحوادث والعبر في آخر القرن الثالث عشر والرابع عشرعام 1372 باشراف عبد الله الحاتم ص 101. وانظر: حمد الجاسر: مقدمته لتاريخ بعض الحوادث.. لابن عيسى ص 5-7، وعلماء نجد ... 3/ 700، 703. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 876 والدولة الميمونة وما دونه من نتف قبلها اعتبرها سوابق سبقت تلك العصور الزاهرة وقال: "إنما دونتها ليعرف من وقف عليها نعمة الإسلام والجماعة والسمع والطاعة ولا تعرف الأشياء إلا بأضدادها" 1. ويرى الدكتور منير العجلاني أن مبدأ تاريخ نجد الحديث والجزيرة العربية والشرق الأدنى هو من السنة التي هاجر فيها الشيخ محمد ابن عبد الوهاب إلى الدرعية قال: "ففيها بدأت نجد تكتشف نفسها، وتعي رسالتها، وتصنع وحدتها، وتبني نهضتها، وقبل ذلك وحتى القرن الثاني عشر، كانت (نجد) تعبيرا تاريخيا أو (جغرافيا) في الكتب القديمة، وأما في الواقع فما كان شيء يذكر بوحدتها أو وجودها ... وإنما كانت هناك مجموعة كبيرة من الإمارات والمشيخات تنفرد كل واحدة منها بسلطانها، وتعتز باسمها ولا ترى شيئا فوقه، وقد تتحالف أحيانا لقتال الآخرين واستباحة ديارهم وأموالهم، ولكنها متى فرغت من قتال عدوها عادت تتقاتل فيما بينها، ولما يجف مداد عهدها ودم جندها". إلى أن قال: "فلما تأسست دولة الإسلام في الدرعية، أخذت الصفوف تتجمع والبلدان تتوحد، فنشأت وحدة في العارض، ثم وحدة في نجد، ثم توسع مدلول نجد نفسه، فنشأت دولة نجد الكبرى إن صح هذا التعبير " 2.   1 ابن بشر 1/ 157، 158. 2 تاريخ البلاد العربية السعودية ص 35، 36، 40، 41، 42. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 877 ولقد أيد الدكتور العجلاني هذا الرأي بنقول عن صحيفة "الخليج الفارسي " وعن الدكتور فيليب حتى في كتابه "تاريخ العرب"، وعن "دائرة المعارف الإسلامية النسخة الإنكليزية، الطبعة الجديدة" 1. وإذا اعتبرنا- وهو اعتبار صحيح يؤيده الواقع التاريخي- أن وجود العلماء والمؤرخين إنما يكون بقيام الدول الإسلامية لأن من شأنها الاستقرار والعدل والقضاء على الظلم والجهل فإننا نستطيع القول بأن التاريخ أشرق مرة أخرى بقيام دولة آل سعود بنصرعقيدة السلف الصالح منذ عقد الإمامان المحمدان العهد بينهما على نصرة دين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم عام 1158هـ. إمامة الأئمة والملوك من آل سعود وتاريخهم: قال الله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . فمن آتاه الله الملك وسار فيه على النهج السوي كانت له هيبة مأثورة ومكانة مرهوبة وأنساب محفوظة، وتاريخ مجيد، وآل سعود منذ آووا شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ونصروه في دعوته إلى عقيدة أهل السنة والجماعة، قد جعل الله لهم ملكا قائما وتاريخا مجيدا بالفضائل مشرقا، ودونت أنسابهم وسلسلت أَعلامهم في مشجرات الأنساب،   1 انظر: ص 42- 45 من المرجع السابق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 878 وحفظت في تواريخ ومؤلفات ومن هذه المؤلفات كتاب: "مثير الوجد في معرفة أنساب ملوك نجد"، تأليف شيخ من أفاضل السلفيين هو راشد بن علي الحنبلي من آل جريس من قرية نعام ومن أهل القرن الثالث عشر كان معاصرا لصديق حسن خان وله ترجمة في "التاج المكلل" لصديق حسن خان1. ولعل الدكتور منير العجلاني لم يطلع على هذا الكتاب فإِنه في بحثه نسب آل سعود، قصر سلسلة نسبهم على مانع الجد السابع لمحمد بن سعود، وقال: "هذه هي سلسلة النسب التي نجدها في كل كتاب يبحث في تاريخ الدولة السعودية لأنها قريبة العهد، وأما ما فوق مانع من الآباء، فبعض المؤلفين يهمله وبعضهم ينقص منه، وبعض يغلط فيه، ولكن المؤلفين يجمعون على أن مانعاً يتحدر من ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان" 2. ثم عدد الدكتور العجلاني المراجع التي اطلع عليها وناقش ماورد فيها من معلومات ومشجرات لهذا النسب ولم يذكر "مثير الوجد في معرفة أنساب ملوك نجد" هذا، وهو لعالم من علماء النسب في نجد   1 انظر: مقدمة محب الدين الخطيب، لكتاب مثير الوجد، ط السلفية بالقاهرة 1379هـ ص 3- 8. وانظر: التاج المكلل ص 517. ط. الهند عام 1382 هـ. 2 تاريخ البلاد العربية السعودية ص 67. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 879 الأثبات كما يبدو من ترجمته1، وقد ذكرفيه مشجر ربيعة وتميم الذي تضمن ذكر من فوق مانع حتى ربيعة2، وفي ظني أنه مشجر صحيح. وعلى كل حال فإن ذلك الغموض في تاريخ من فوق محمد بن سعود يؤكد بأن هذه الأسرة الكريمة لم يظهر صيتها، ولم يهتم بها المؤرخون حتى آتى الله آل سعود الملك ببركة إتفاق جدهم محمد بن سعود مع محمد ابن عبد الوهاب على نصرة الإسلام. يقول الدكتور العثيمين: " إن تاريخ الأسرة السعودية في بلدة الدرعية يعود إلى منتصف القرن التاسع الهجري وكان جد هذه الأسرة مانع المريدي، مقيماً في مكان يقال له الدرعية ناحية القطيف، وكان ابن عمه، ابن درع، مستقراً في حجر اليمامة، ونتيجة لمراسلات بينهما انتقل مانع إلى منطقة نفوذ ابن عمه سنة 850" اهـ3. ويقول أيضاً: "والمتأمل في تاريخ هذه الأسرة خلال أكثرمن قرنين ونصف القرن يجد أنه لا يختلف عن تاريخ كثير من الأسر التي كانت في نجد آنذاك على العموم: كانت هذه الأسرة في بدايتها ضعيفة،   1 المصدر السابق ص 67- 79، وعلماء نجد خلال ستة قرون للشيخ البسام 1/257-260، وروضة الناظرين عن مآثر علماء نجد لمحمد القاضي1/104-105. والتاج المكلل.. لصديق حسن ص 517. 2 مثير الوجد في معرفة أنساب ملوك نجد ص 30-39. 3 الشيخ محمد بن عبد الوهاب ص 51. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 880 ثم قويت وتوسعت على حساب جيرانها آل يزيد- وكغيرها من الأسر قام بين أفرادها صراع حول السلطة والنفوذ حتى ضعف مركزها، وانتقلت رئاسة بلدة الدرعية إلى رجل من خارج هذه الأسرة يسمى سلطان بن محمد القبس سنة 1107 هـ، وعلى أية حال؛ فإن رئاسة البلدة عادت بالقوة إلى أصحابها السابقين بعد ثلاثة عشر عاما وأصبح موسى بن ربيعة أميرا لكنه ما لبث أن أبعد عن الإِمارة وحل محله سعود بن محمد بن مقرن، وحين توفي سعود سنة 1137 هـ لم يتول ابنه محمد الإِمارة بعده وإنما تولاها زيد بن مرخان على أن محمداً كان له تأثير قوي على سير الحوادث في الإِمارة، وكان قد حل بالعيينة وباءٌ سنة 1138 هـ مات فيه أميرها عبد الله بن معمر وعدد كبير من رجالها واستغلالا لذلك أخذ زيد بن مرخان يعد العدة لمهاجمتها، لكن خطته فشلت حين استدرجه أمير العيينة الجديد محمد بن معمر وقتله غدرا في السنة التالية وحينما عاد بقية من كانوا معه إلى الدرعية بقيادة محمد بن سعود أصبح هذا الأخير أميراً لها" 1. ويقول الدكتور العجلاني: "وبقي محمد بن سعود رئيسا للدرعية قبل هجرة الشيخ إليها نحو عشرين سنة أي منذ عام 1139 هـ إلى عام 1157 هـ ولسنا نعرف شيئا من أخبار هذه الفترة الطويلة، ولعله لم   1 المصدر السابق ص 52، 53. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 881 يكن فيها شيء يستحق الذكر" اهـ1. هذا هو تاريخ الأسرة السعودية فقبل قيامها بدين الله على منهج السلف الصالح نجده تاريخا لا يختلف عن تاريخ أي أسرة من الأسر النجدية الأخرى التي كانت كل واحدة منها دولة وفي كل بلدة من بلدانها إمارة أو مشيخة. تحقيق أن منهج السلف الصالح يأتي بالخلافة في الأرض: لما قام آل سعود بدين الله على منهج السلف الصالح وفازوا على غيرهم بإِيواء حامل لوائه ونصرته ووفوا بما عاهدوا عليه الله آتاهم الله الملك، واستخلفهم في الأرض كما قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} الآية (النور: 55) . فكانت لهم مكانة مرهوبة وهيبة مأثورة وأنساب وتاريخ محفوظ ولا غرو في ذلك لأنهم نصروا منهج السلف الصالح وامتازوا بذلك على غيرهم، ومنهج السلف الصالح هو الأساس في بناء الأمة الإِسلامية وهو قطب رحاها فكما أن الأمة الإِسلامية وسط بين الأمم فكذلك منهج السلف الصالح وسط بين المناهج والفرق الإِسلامية، والدين الراشد هو الأمر الوحيد الذي ينقاد له العرب، وبالدين يأتيهم الملك كما قرر   1 تاريخ البلاد العربية السعودية ص 63. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 882 هذا عالم الاجتماع عبد الرحمن بن خلدون في "مقدمته"، فقال: "إن العرب لا يحصل لهم الملك إلاَّ بصبغة دينية من نبوَةٍ أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة، والسبب في ذلك أنهم لخلق التوحش الذي فيهم أصعب الأمم انقيادا بعضهم لبعض، للغلظة والأنفة وبعد الهمة والمنافسة في الرئاسة، فقلما تجتمع أهواؤهم، فإذا كان الدين بالنبوة أو الولاية كان الوازع لهم من أنفسهم وذهب خلق الكبر والمنافسة منهم فسهل انقيادهم واجتماعهم وذلك بما يشملهم من الدين المذهب للغلظة والأنفة، الوازع عن التحاسد والتنافس فإذا كان فيهم النبي أو الولي الذي يبعثهم على القيام بأمر الله يذهب منهم مذمومات الأخلاق ويأخذهم بمحمودها ويؤلف كلمتهم لإِظهار الحق تم إجتماعهم وحصل لهم الملك والتغلب" 1. وقال أيضا: "إن الدولة العامة الاستيلاء، العظيمة الملك أصلها الدين إما من نبوة أودعوة حق، وذلك لأن الملك إنما يحصل بالتغلب، والتغلب إنما يكون بالعصبية واتفاق القلوب وتأليفها إنما يكون بمعونة من الله في إقامة دينه قال تعالى: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} وسره أن القلوب إذا تداعت إلى أهواء الباطل والميل إلى الدنيا حصل التنافس وفشا الخلاف، وإذا انصرفت إلى الحق ورفضت الدنيا والباطل   1 مقدمة ابن خلدون ص 151. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 883 وأقبلت على الله اتحدت وجهتها فذهب التنافس وقلَّ الخلاف، وحسن التعاون والتعاضد واتسع نطاق الكلمة لذلك فعظمت الدولة" 1 اهـ. وهكذا فإن دولة آل سعود التي عظمت إنما أصلها الدين، أصلها الدعوة إلى الإِسلام والسنة التي قام بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب فقبلوها وأقاموها خالصة من أي شيء يخالف عقيدة السلف الصالح ونهجهم السليم. إن الشيخ وابن سعود وأتباعهم قصدوا إقامة دين الله ونشر الإِسلام وإقرار السنة وإماتة البدعة فجعل الله سبحانه وتعالى لهم عاقبة حميدة ونصرهم في نهاية جهادهم وأوصلهم ما كانوا يأملون به رغم كثرة الخصوم وشراستهم، وعداوة الأمراء والملوك من حولهم لهم ولما قاموا به، بالإضافة إلى استمرار معارضة علماء السوء وما أكثرهم وابتلاء الأمة بأشخاص عرفوا بالعلم والديانة ثم انسلخوا من أداء الأمانة وقول الصدق وشهادة الحق في شأن الشيخ وأنصاره وما دعوا إليه من الدين وراحوا يشبهون ويفترون على الإِسلام والمسلمين، ولم تحل خشية الله بينهم وبين كتمان ما أنزل الله من البينات بل لم تحل بينهم وبين افتراء الكذب ولبس الحق بالباطل. ومع ذلك فإن الله سبحانه وتعالى كتب لدعوة الشيخ النجاح ولمناصريه العز والتمكين ولخاذليه الذل والإِزالة فها هو عثمان بن معمر   1 مقدمة ابن خلدون ص 157. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 884 الذي طرد الشيخ مهابة من ملك الأَحساء، يجد نفسه وقد ذهبت عنه تلك المهابة وبطل عنه كل ما كان يجد من دون الله تعالى وما وجد غير أن يأتي إلى الدرعية نادما تائبا يرجو من الشيخ أن يعود معه، ثم لما رأى بالبصيرة أن اغتنام بقاء الشيخ قد فاته وظفر به ابن سعود1 لم يجد بدا من أن ينضوي تحت لواء ابن سعود يجاهد في سبيل الله، وهذا مقتضى العقل وعين الحق الذي لا مفر منه ثم نلمح الوفاء والكرم من الشيخ ومحمد بن سعود يكرمون هذا العزيز الذي ذل ويجعلونه أمير الغزو كله بمثابة القائد العام للجيوش التي هي عدد الأمة وعدتها يريدون بذلك إعادة اعتباره بين قومه، والإِبقاء على مكانته وإشباع طموحه في الزعامة والذي كان هو سبب ضعفه عن نصرة الإِسلام عسى أن يجد في الإِسلام ما فقده في غيره وعسى أن يغتبط بهذا الفضل وينسى ما يطمح إليه وقد قصر عن مستواه2، ولكنه ظل متأرجحاً بين الحق والباطل ثم أدركه حب الرياسة والاستقلال، وأعمته الأنفة عن طريقه الذي سلكه وهو الصواب، ولم يصبر على ما توهم أنه تبعية مذلة لابن سعود وابن عبد الوهاب فنزعت به نفسه إلى سلوك ما يريب منه ويشينه ويفتح عليه باب المؤاخذة والعقوبة فيقتله بعض جماعته من أهل العيينة بسبب ذلك3، والعيينة يحرسها الله   1 روضة ابن غنام 2/ 4. 2 ابن بشر، عنوان المجد 1/ 21، وروضة ابن غنام 2/9، 10، 11، 12، 13، 14. 3 المرجع السابق ابن بشر 1/23، 24. وروضة ابن غنام 2/ 9، 10، 11، 13،14. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 885 بولائها للشيخ وابن سعود من استشراء الفتن فيها وتمزيقها لها فما كان إلاَّ أن تداركها الله بسرعة مجيء الشيخ إليها وتعيين أمير يخلف الراحل وتستمر العيينة بأهلها في مسيرتها تحت لواء الدعوة استمرارا يسحق ما يقف في طريقها حتى ولو كان الواقف في طريقها أميرهم عثمان1 أو قصر آل معمر فيها2. وفشلت كل معارضات علماء السوء النجديين، وخططهم وسعاياتهم، وانكشفت تشبيهاتهم وزهق باطلهم بانتشار دعوة الحق ودولتها حتى انهزم أمير الرياض وافتتحها عبد العزيز بن محمد بعد حروب استمرت حوالي ثمانية وعشرين عاماً تخللتها فترات صلح يلجأ إليها دهام ابن دواس حين يحس بضعف موقفه فيظهر الطاعة ثم ينكث وأخيرا هرب منها فأدخلوها تحت حكمهم الراشد، وغنموا ما فيها من عائدات الدولة3. وخاضت دولة الدعوة معارك في زمان محمد بن سعود كثيرة مع أعداء كثيرين وشرسين من أعظمهم في زمان محمد بن سعود ثلاثة أمراء: أمير الرياض وأمير نجران وأمير الأحساء فكانا يشتركان بالهجوم على الدرعية، وينضم معهم كثير من بلدان نجد وبواديها يرمونهم عن قوس   1 روضة ابن غنام 2/ 14. 2 روضة ابن غنام 2/57. وابن بشر في عنوان المجد 1/ 43. 3 روضة ابن غنام 2/83-88. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 886 واحدة، وكانت نهاية النجراني ومن تبعه الخذلان عام 1188- 1189 هـ في ولاية عبد العزيز خذلانا عظيما ويرجع إلى بلاده مقهورا مدحورا هالكا1. أما أمير الأحساء الذي كان يخشاه ابن معمرفقد هلك بعد أن أذله الله وقام خلفه عرعر بن دجين وجمع جموعاً من عشائر بني خالد وعددا كبيرا من بلدان نجد المناوئين من أهل سدير والوشم والرياض والخرج وغيرهم وبواديهم من عنزة والظفير وتحزبوا أحزابا هائلة اشرأب الباطل لها ونقضت عهود لأجلها ووقعت بينه وبين أهل الجبيلة والدرعية عدة وقائع وقتل من جنده عدة قتلى ولم يحصل على طائل فنكس على عقبيه قد فشل وفشل من نقض العهد لأجله2، ثم عاد مع النجراني وأتباعه ليحارب ابن سعود معه ولكن الله لم يوفق بينه وبين النجراني فلم يدرك شيئا مما أراده ورجع إلى الأحساء3. ثم إن سعدون بن عريعر الذي تولى أمر الأحساء بعده جاء ليحارب ابن سعود مساعدة لأعدائه ومعه المدافع ولم يفز ورجع إلى بلاده وترك مدافعه في اليمامة فغنمها أهل الإِسلام وذلك في سنة خمس وتسعين ومائة وألف4.   1 روضة ابن غنام 2/88-89، 1 9-93. 2 روضة ابن غنام 2/68-72. 3 روضة ابن غنام 2/66-68. 4 روضة ابن غنام 2/ 110. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 887 ثم في سنة مائتين وألف دب الخلاف والفتن بين بني خالد بما كسبت أيديهم فصار ذلك لعز الإِسلام مقدمة واستولت دولة الدعوة على الأحساء وما حولها1، ثم تجمعت أحزاب ثويني من بغداد وعلماء السوء لديه فهاجموا الأَحساء فهزمهم الله على يد آل سعود تحت راية التوحيد. وهكذا تم القضاء على بقية الأمراء الذين وقفوا في وجه الإِسلام وطما على بلدانهم ملك أنصاره؛ كما جرى للسابقين الأَولين، وكما قال الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} الآية (النور: 55) ... والحمد لله رب العالمين. قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن في نصيحته للإمام عبد الله بن فيصل: "تفهم أن أول ما قام به جداك محمد وعبد الله وعمك عبد العزيز أنها خلافة نبوة يطلبون الحق ويعملون به ويقومون ويغضبون له ويرضون ويجاهدون، وكفاهم الله أعداءهم على قوتهم، إذا مشى العدوكسره الله قبل أن يصل لأنها خلافة نبوة ولا قاموا على الناس إلا بالقرآن والعمل به كما قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} وأخذ عمك في الإسلام   1 الدرر السنية 11/47. وانظر: عنوان المجد، لابن بشر ص 124، 128. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 888 حتى جاوز الثمانين في العمر، والإسلام في عز وظهور وأهله يزيدون وحصل لهم مضمون قوله {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} وصار أهل الأمصار يخافونهم" 1. وما من شك أن عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية هي التي قامت عليها هذه الدولة العظيمة، فإنه لم يتوف إلا ومنطقة الأحساء تكاد كلها تخضع لها2. وقد استمرت هذه الدولة في تطور عظيم كلما قامت بنشر العقيدة السلفية وحمايتها ولقد يسر الله من يقوم بنشرها من العلماء والأمراء حتى بعد وفاة الشيخ محمد سنة 1206 هـ كما كانوا في حياته على ما قدمنا ذكره حتى تمكنت دولة العقيدة السليمة من ضم الأَحساء ومناطق كبيرة من الساحل الغربي للخليج العربي وعمان كما تمكنت من صد حملتين عسكريتين وجههما إليها باشا بغداد، واستطاعت أيضاً أن تستولي على الحجاز وما يقع إلى الجنوب منه حتى أواسط اليمن وتمكنوا من صد الحملة المصرية وهزيمتها، في حياة سعود وبتلك العقيدة في أقل من عشرين عاما من وفاة الشيخ أصبحت مساحة دولة الدرعية تمتد من الشام والعراق شمالا حتى أواسط اليمن جنوبا ومن البحر الأَحمر غربا حتى الخليج العربي   1 الدرر السنية 11/47 وانظر: عنوان المجد، لابن بشر ص 124، 128. 2 عنوان المجد 1/128. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 889 وأواسط عمان شرقا، وبذلك تعدى نفوذ سلطانها خارج جزيرة العرب وأصبحت تشن الغارات داخل الأراضي العراقية والشامية حتى بات كثير من القبائل الموجودة هناك تدفع إليها الزكاة1. قال الشاعر: وقد ملكوا نجدا وغوراً واتهموا ... وشاماً إلى البصرى بل الغربَ والشرْقَا حنيفية في دينها سَلفية ... وكانوا أولي بأس فسلْ كل من تَلْقَى2 مجمل إصلاحات الشيخ السلفية: والشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله هو الذي دعى إلى عقيدة السلف الصالح وقام معه أنصاره بهذا الدين على حين غربة فنشره الله في الآفاق وبارك الله في جهوده وجهاده فكل امرىء أخذ منه حظه وقسمه وبعثت العمال لقبض الزكاة بعد أن كانوا يسمون قبل ذلك عند الناس مكاسا وعشارا، ونشرت راية الجهاد بعد أن كانت فتنا وقتالا، وعرف الصغير والكبير التوحيد بعد أن كان لا يعرفه إلا الخواص، واجتمع الناس على الصلوات والدروس والسؤال عن أصل الإسلام وشروط الصلاة وأركانها وواجباتها ومعاني قراءتها وتعلمها الصغير والكبير والقارئ والأمي بعد أن كان لا يعرفها إلا الخصائص، وانتفع بعلمه أهل الآفاق لأنهم يسألون عما يأمر به وينهى عنه، فيقال لهم يأمر بالتوحيد وينهى عن   1 انظر الشيخ محمد بن عبد الوهاب حياته وفكره للدكتور العثيمين ص 65. 2 الدرر السنية لابن قاسم 12/ 30. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 890 المنكر، ويقال لهم إِن أهل نجد يمقتونكم بذلك، فانتهى أناس كثير من أهل الآفاق بسبب ما سمعوا من أوامره ونواهيه وهدم المسلمون جميع القباب والمشاهد التي بنيت على القبور وغيرها من جميع المواضع الشركية في أقاصي الأقطار من الحرمين واليمن وتهامة وعمان والأحساء ونجد وغير ذلك، حتى لا تجد فيمن شملته ولاية المسلمين الشرك الأصغر فضلا عن غيره إلا الرياء الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل" وأمر جميع أهل البلدان من أهل النواحي يسألون الناس في المساجد كل يوم بعد صلاة الصبح وبين العشاءين عن معرفة ثلاثة الأصول: معرفة الله ومعرفة دين الإسلام ومعرفة أركانه وما ورد عليها من الأدلة من القرآن ومعرفة محمد صلى الله عليه وسلم ونسبه ومبعثه وهجرته وأول ما دعا إليه وهي: لا إله إلا الله، ومعرفة معناها، والبعث بعد الموت وشروط الصلاة وأركانها وواجباتها وفروض الوضوء ونواقضه وما يتبع ذلك من تحقيق التوحيد من أنواع العبادة التي لا تنبغي إلا لله كالدعاء والذبح والنذر والخوف والرجاء والخشية والرغبة والرهبة والتوكل والإنابة وغير ذلك كما سبق ذكره، وذلك يسأل عنه الناس ويلزمون بتعلمه كل على قدر مستواه. وكان الشيخ هو المرجع في أمور الدين وما يتعلق به من الأمور الأخرى، فهو المرجع في شئون الإِفتاء، وكان هو الذي يختار القضاة ويعينهم، كما كان يرسل المرشدين إلى المناطق المختلفة ويبعث العلماء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 891 لمناقشة من يود أن يعرف ما كان يدعو إليه كما طلب الشريف فأرسل إليه الشيخ عبد العزيز الحصين وغيره وقد شرح لعلماء مكة حقيقة الدعوة، وللشيخ دور كبير في تدريس وتخريج كثير ممن أصبحوا قادة في ميادين العلوم الدينية المختلفة وقاموا بأدوار إصلاحية هامة1. وكان رحمه الله تعالى هو الذي يجهز الجيوش ويبعث السرايا ويكاتب أهل البلدان ويكاتبونه، والوفود إليه والضيوف عنده والداخل والخارج من عنده2. ولم يزل الشيخ مجاهدا حتى أَذعن أهل نجد وتابعوا، وعمل فيها بالحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبايعوه، فعمرت نجد بعد خرابها وصلحت بعد فسادها ونال الفخر والملك من آواه، وصاروا ملوكا بعد الذل والتفرق والقتال وهكذا كل من نصر الشريعة من قديم الزمان وحديثه فإِن الله يظهره على أعدائه ويجعله مالكا لمن عاداه، وما مات إلا وقد قرت عينه بنصر الله لدين الإسلام فكان كثيرا ما يتمثل شاكرا لربه بثلاثة أبيات هي: بأي لسان أشكر الله إنه ... لذو نعمة قد أعجزت كل شاكر حباني بالإسلام فضلا ونعمة ... علي وبالقرآن نور البصائر وبالنعمة العظمى اعتقاد ابن حنبل ... عليها اعتقادي يوم كشف السرائر3   1 الشيخ محمد بن عبد الوهاب حياته وفكره للدكتور العثيمين ص 71 بتصرف. 2 ابن بشر، عنوان المجد 1/ 90. والدرر السنية 11/ 31. 3 ابن بشر، عنوان المجد 1/ 91. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 892 ويلهج دائما بقوله تعالى: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} وكان قد ثقل في آخر عمره. فكان يخرج لصلاة الجماعة يتهادى بين رجلين حتى يقام في الصف. فكان لا يزال قدوة حتى وهو في هذه الحال، إلى أن توفي رحمه الله تعالى. ويمكننا أن نتبين مجمل إصلاحات الشيخ السلفية حسبما ذكره الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن عن ذلك، فقال رحمه الله: "فأتاح الله بمنه في هذه البلاد النجدية والجهات العربية من أحبار الإسلام وعلمائه الأَعلام من يكشف الشبهة، ويجلو الغمة وينصح الأمة، ويدعو إلى محض الحق وصريح الدين، الذي لا يخالطه ولا يمازجه دين الجاهلية المشركين فنافح عن دين الله ودعا إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصنف الكتب والرسائل وانتصب للرد على كل مبطل ومماحل، وعلم من لديه كيف يطلب العلم؟ وأين يطلب؟، وبأي شيء يقهر المشبه المجادل ويغلب؟ واجتمع له من عصابة الإسلام والإيمان طائفة يأخذون عنه وينتفعون بعلمه، وينصرون الله ورسوله حتى ظهر واستنار ما دعا إليه وأشرقت شموس ما عنده من العلم وما لديه، وعلت كلمة الله حتى أغشى إشراقها وضوؤها كلَ مبطل ومماحل، وذل لها كل منافق مجادل، وحقق الله وعده لأوليائه وجنده كما قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} وقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 893 الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ... } الآية. فزال بحمد الله ما كان بنجد وما يليها من القباب والمشاهد والمزارات والمغارات وقطع الأشجار التي يتبرك بها العامة، وبعث السعاة لمحو آثار البدع الجاهلية من الأوتار والتعاليق والشركيات، وألزم بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وحج البيت وبسائر الواجبات، وحث من لديه من القضاة والمفتين على تجريد المتابعة لما صح وثبت عن سيد المرسلين مع الاقتداء في ذلك بأئمة الدين والسلف الصالح المهديين ونهاهم عن ابتداع قول لم يسبقهم إليه إمام يقتدى به، أوعلم يهتدى به وأنكر ما كان الناس عليه في تلك البلاد وغيرها من تعظيم الموالد والأعياد الجاهلية التي لم ينزل في تعظيمها سلطان، ولم يرد به حجة شرعية ولا برهان، لأن ذلك فيه مشابهة للنصارى الضالين، في أعيادهم الزمانية والمكانية وما هو باطل مردود في شرع سيد المرسلين. وكذلك أنكر ما أحدثه جهلة المتصوفة وضلال المبتدعة من التدين والتعبد باللهو واللعب والمكاء والتصدية، والأغاني التي صدهم بها الشيطان عن سماع آيات القرآن وصاروا بها من أشباه عباد الأوثان، الذين قال الله فيهم: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} وكل من عرف ماجاء به الرسول تبين له أن هؤلاء من أضل الفرق وأخبثهم نحلة وطريقة، والغالب على كثير منهم النفاق وكراهة سماع كلام الله. وأنكر رحمه الله ما أحدثته العوام والطغام من اعتقاد البركة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 894 والصلاح في أناس من الفجار والطواغيت الذين يترشحون لتأله العباد بهم وصرف قلوبهم إليهم باسم الولاية والصلاح وأَن لهم كرامات ومقامات ونحو هذا من الجهالات فإن هؤلاء من أضر الناس على أديان العامة. وأنكر رحمه الله ما يعتقده العامة في البله والمجاذيب وأشباههم الذين أحسن أحوال أحدهم أن يرفع عنه القلم ويلحق بالمجانين. وأرشد رحمه الله إلى ما دل عليه الكتاب وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، وساق الأدلة الشرعية التي يتميز بها كل فريق ويعتمدها أهل الإيمان والتحقيق، فإن الله جل ذكره وصف الأبرار ونعتهم بما يمتازون به ويعرفون، بحيث لا يخفى حالهم ولا يلتبس أمرهم وكذلك وصف تعالى أولياء الشيطان من الكفار والفجار ونعتهم بما لا يخفى معه حالهم ولا يلتبس أمرهم، على من له أدنى نظر في العلم وحظ من الإيمان. وكذلك قام بالنكير على أجلاف البوادي وأمراء القرى والنواحي فيما يتجاسرون عليه ويفعلونه، من قطع السبيل وسفك الدماء ونهب الأموال المعصومة حتى ظهر العدل واستقر، وفشا الدين واستمر، والتزمه كل من كانت عليه الولاية من البلاد النجدية وغيرها، والحمد لله على ذلك1.   1 مجموعة الرسائل والمسائل النجدية ج 4 ص 440- 441. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 895 أسباب زوال الدولة وتسليط العدو: ثم إنه حصلت ذنوب من الناس بعد ذلك وأمور من التقصير والاختلاف فكانت سببا في تسليط الأعداء على المسلمين، ابتلاء وامتحانا وتمحيصا واختبارا كما هي سنة الله تعالى العزيز الحكيم. وقد تنبه إليها أبناء الشيخ وهم حسين وإبراهيم وعبد الله وعلي منذ حدوثها واستنكروها ونصحوا كافة المسلمين بمنشورهم إليهم، وحثوا على التوبة منها قبل أن تحل العقوبة وتنزل الكارثة فلا ينفع حينئذ ندم نادم. ومن هذه الأمور المخالفة: ترك المحافظة على الصلوات الخمس، وهي عمود الإسلام من حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع ومنها الغفلة عن التفقه في دين الإسلام، حتى إن من الناس من ينشأ وهو ما يعرف دين الإسلام ومنهم من يدخل فيه وهو ما يعرفه ولا يفعله ظنا منه أن الإسلام هوالعهد، ومعرفة الإسلام والعمل به واجب على كل أحد ولا ينفع فيه التقليد. ومنها أن من الناس من يمنع الزكاة، والذي ما يقدر على المنع يحبسها، والزكاة ركن من أركان الإسلام. ومنها ظهور عقوق الوالدين وقطيعة الرحم من كثير من الناس. ومنها ما يجري من بعض الأمراء والعامة من الغلول من المغانم، ومن لم يستطع يتحيل على الغلول بالشراء ولا ينقد الثمن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 896 ومنها ظلم بعض الأمراء، يأخذون من أموال الناس بصورة الجهاد ولا يصرفه في الجهاد بل يأكله، وبعض الأمراء يأخذ جميع الزكاة ولا يعطي المساكين منها شيئا، وربما يجري من هؤلاء تحميل الناس ما لا يستطيعون. ومنها اختلاط الجيد بالرديء، وصاحب الدين بالمنافق، ولا يميز هذا من هذا، ووقع بسببه ظهور الكلام الباطل والذي لو يظهر من أحد في أول أمر هذه العقيدة أدب أدبا بليغا وعرف أَن قائله منافق. ومنها الظلم والوقوع فيما حرم الله من الدماء والأموال والأعراض، والغيبة والنميمة وقول الزور وبهت المسلم بما ليس فيه، وصار هذا ما يستنكر فإذا بان كذبه وتزويره ما سقط من العيون. ومنها الجسرة على ذمة المسلم فإذا أعطى أحد من المسلمين أحدا من الكفار ذمته خفر في دمه أو ماله، والعجب أَن بعض الجهال يفعل هذا ديانة ويظن أنه معاداة للكفار، واستحلال المحرم أعظم من ارتكابه مع معرفة تحريمه. ومنها أن بعض الناس يغضب إذا أنكر على رجاله أو من له علاقة إذا فعل المنكر وأنكر عليه، وهذا أمر ما يحل. ومنها التعاطي بمعاملات من الربا، ويمحق الله الربا. ومنها التثاقل عن الجهاد ومعصية الإمام في ذلك وغيره وقد فرض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 897 الله الجهاد على المسلمين، وبهذا الجهاد أعزهم الله بعد الذلة، وقواهم بعد أن كانوا مقهورين. ومنها ما يجري من تطليق على غير السنة، يطلق الرجل زوجته بطريقة مخالفة لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك من الأمور التي تجري من الناس قبيل نكبتهم على يد إبراهيم باشا. والعلماء من آل الشيخ وغيرهم من حملة العقيدة السلفية ينبهون على ذلك وينصحون وينكرون وكذلك الإمام سعود وابنه عبد الله لهما في ذلك نصائح، وقد ذكر الشيخ عبد الرحمن بن قاسم هذه النصائح وأوردها بنصوصها وتفاصيلها1، وقد اختصرت منها ما ذكرته من تلك الأمورالتي كانت أسبابا في التغير قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} . وأهم هذه الأمور والتي كأنها نتيجة لتلك الأمور المنكرة المتقدمة، وسراية لها ما يذكره الشيخ راشد بن علي الحنبلي في رسالته: "مثير الوجد في معرفة أنساب ملوك نجد" من تنازع على الإمارة والسلطة واختلاف بسبب ذلك بين القادة فقال ما نصه عن الإمام عبد الله بن سعود: (فسار سيرة والده إلا أن إخوته لا يوافقونه على إرادته، وكان لا يخالفهم، ونازعه أخوه فيصل بن سعود، فكان يأمروفيصل يأمرفتفرقت شوكتهم، ونفر منهم فئام من العرب واتسع الخرق في قوتهم، فحاربتهم الدولة   1 انظر: الدرر السنية، ج 12، كتاب النصائح ص 3- 21. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 898 المصرية وانحاز إلى المصريين أكثر العرب من نجد والحجاز واليمن والعراق والشام" 1. ويجمل ابن بشر ذلك بقوله: "إِن الدولة المصرية سلطت على المسلمين بسبب الذنوب" 2. والمقصود بيان أثر عقيدة الشيخ السلفية حين تقرر وتطبق أما إذا جرى أمور تخالفها فيكون الأثر عَكسياً ولا حول ولا قوة إلا بالله. ولقد أثر العدوان على القائمين بها وخذلانُهم دمارا رهيبا يصوره لنا ابن بشر رحمه الله في تاريخه فيقول في سنة حلول النكبة المصرية: "وكانت هذه السنة قد كثر فيها الاضطراب والاختلاف ونهب الأموال وقتل الرجال وتقدم أناس وتأخر آخرين وذلك بحكمة الله سبحانه وقدرته وقد أرخها بعض الإخوان من أهل سدير وهو محمد بن عمر الفاخري فقال: عامٌ به الناس جالوا حسبما جالوا ... قال الأَخلاء أرِّخْهُ فقلت لهم ونال منا الأعادى فيه ما نالوا ... أَرخت قالوا بماذا قلت غِرْبَال3 والشاهد كلمة غربال فإنها بحسب حروف الجمل تساوي 1233،   1 مثير الوجد في معرفة أنساب ملوك نجد، للشيخ راشد بن علي الحنبلي، ط السلفية بالقاهرة 1379 هـ ص 42. 2 عنوان المجد 1/ 128. 3 عنوان المجد 1/ 210. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 899 وهي السنة التي حصلت فيها النكبة. ويقول ابن بشر: "انحلَّ نظام الجماعة والسمع والطاعة وعدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى لا يستطيع أحد أن ينهى عن منكر أو يأمر بطاعة، وعمل بالمحرمات والمكروهات جهرا، وليس للطاعات ومن عمل بها قدر. وجرى الرباب والغناء في المجالس، وسفت الذواري على المجامع والمدارس، وعمرت المجالس بعد الأذان في الصلاة واندرس معرفة ثلاثة الأصول وأنواع العبادات وسل سيف الفتنة بين الأنام، وصار الرجل في وسط بيته لا ينام، وتعذرت الأسفار بين البلدان، وتطاير شرر الفتن في الأوطان، وظهرت دعوى الجاهلية بين العباد وتنادوا بها على رؤوس الأشهاد، فلم تزل هذه المحن على الناس متتابعة وأجنحة ظلامها بينهم خاضعة" 1. ويقول الشيخ عبد العزيز بن الشيخ حمد بن ناصر بن معمر من قصيدة نظمها في رثاء أهل الدرعية وذكر ما جرى لهم وعليهم وأولها قوله: إليك إله العرش أشكو تضرعاً ... وأدعوك في الضراء ربي لتسمعاَ إلى أن قال: وكم قتلوا من عصبة الحق فتيةً ... هداةً وُضاة ساجدين وركعاً   1 عنوان المجد في تاريخ نجد لابن بشر: ج1/ 210- 211. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 900 وكم دمروا من مربع كان آهلا ... فقد تركوا الدار الأنيسة بلقعا فأصبحت الأموال فيهم نهائبا ... وأصبحت الأيتام غرثى وجوعا وَفَرَّ عن الأوطان من كان قاطنا ... وفرق ألف كان مجتمعاً معاً إلى أن قال: عسى وعسى أن ينصر الله ديننا ... ويجبر منا ما قد تصدعا ويعمر للسمحا ربوعا تهدمت ... ويفتح سبلا للهداية مهيعا ويظهر نور الحق يعلو ضياؤه ... فيضحى ظلام الشرك والشك مُقْشِعاَ إلهي فحقق ذا الرجاء وكن بنا ... رؤرفا رحيما مستجيبا لنا الدعا إلى أن قال: ألا أيها الإِخوان صبرا فإنني ... أرى الصبر للمقدور خيرا وأنفعا ولا تيأسوا من كشف ما ناب إِنه ... إذا شاء ربي كشف ذاك تمزعا وماقلت ذا أشكو إلى الخلق نكبة ... ولا جزعا مما أصاب فأوجعا فما كان هذا الأمر إلا بقدرة ... بها قهر الله الخلائق أجمعا وذلك عن ذنب وعصيان خالق ... أخذنا به حينا فحينا لنرجعا وقد آن أن نرجو رضاه وعفوه ... وأن نعرف التقصير منا فنقلعا فيا محسنا قد كنت تحسن دائما ... ويا واسعا قدكان عفوك أوسعا نعوذ بك الله من سوء صنعنا ... فإِن لنا في العفو منك لمطمعا أغثنا أغثنا وادفع الشدة التي ... أَصابت وصابت واكشف الضر وارفعا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 901 وتفضل بالذي أنت أهل ... من العفو والغفران ياغيث من دعا1 وبذلك نأتي إلى نهاية هذا الفصل، وقد تضمن ذكر أثر عقيدة الشيخ السلفية في الدور الأول من أدوار دولة أنصارها، التي بحول الله وقوته لا تنقطع أبدا فإلى الفصل التالي وهو الفصل الثالث من الباب الثاني، باب أثر عقيدة الشيخ السلفية ويتضمن أثرها في الدور الثاني من أدوار دولة أنصارها.   1 عنوان المجد في تاريخ نجد لابن بشر، 2 / 34،35 وفي ط المعارف ص 43-45. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 902 الفصل الثالث: أثر عقيدة الشيخ السلفية في الدور الثاني قال الشيخ أحمد بن علي بن مشرف في قصيدة له: واقسم قوم أَنها دولة مضت ... وليس لما قد فات عود ولا رد وقلنا لهم نصر الإله لحزبه ... به جاء في القرآن والسنة الوعد فعادت كما كانت بفضل ورحمة ... من الله مولانا له الشكر والحمد فهذا إمام المسلمين مؤيدا ... له النصر والإِقبال والحل والعقد1 إنه رغم حلول النكبة وإِصابة المصيبة فإن عقيدة الشيخ السلفية لم تمت ولم تنته ولم تزل ولله الحمد، لقد أَتاح الله لعقيدة السلف الصالح، عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب بعد ذلك الذي جرى نوراً ساطعا، وسيفاً لمن أثار الفتنة قاطعا، فكشف الله بسببه المحن، وشهره من غمده في رؤوس أهل الفتن، الإمام الوافي بالعقود والمتم للعهود تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود. وذلك بعد سنوات من حلول النكبة تقارب خمس سنوات أو ستا. قال ابن بشر عن الإمام تركي: "أطفأ الله به نار الفتنة بعد اشتعال ضرامها وهان على كثير من الناس دينها وإسلامها كأنهم لم يكونوا حدثا بإسلام، ولم يجتمعوا على إمام، وتهاون كثير منهم بالصلاة، وأَفطروا في   1 ديوان ابن مشرف ص 47. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 903 البلدان في شهر رمضان، وصار هذا الشهر العظيم عندهم كأنه جمادى أو شعبان وتعذرت بين البلدان الأسفار واتخذوا دعوى الجاهلية لهم شعارا، فحارب البلدان وقاتل العربان، ودعاهم إلى الجماعة والسمع والطاعة حتى ضرب الإسلام بجرانه وسكنت الأمة في أمنه وأمانه"1. وكان من شأن الإمام تركي فيما يتعلق بنصره دين الله وعطفه على الرعية وحزمه مع أمرائه ما يذكره ابن بشر؛ قال: "لما خرج من الدهناء نزل على غدير يقال له وثيلان، فأمر على رؤساء النواحى أن يجتمعوا، فلما حضروا قام فيهم وذكرهم نعمة الله عَلَيْهِمْ بالاجتماع بعد الفرقة والأخوة بعد العداوة، والغنى بعد العَيْلَةِ، واعترف عند ذلك بنعمة الله عليه وضعفه وعجزه وتقصيره وحقر نفسه، ثم إِنه أَغلظ الكلام على الأمراء وتهددهم وتوعدهم عن ظلم الرعايا والأخذ منهم غير الحق، ثم قال وإنكم إذا ورد أمري عليكم بالمغزا؛ حملتموهم زيادة لكم، وإياكم وذلك فإنه ما منعني أن أجعل على أهل البلدان زيادة ركاب في غزوهم إلا الرفق بهم وإني ما حملتهم إلا بعض ما حملهم الذين من قبلي والله تعالى يقول: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} وإنه إذا ورد عليكم أمري فرحتم بذلك لتأكلوا في ضمنه وصرتم كراصد النخل يفرح بشدة الريح ليكثر الساقطة عليه، واعلموا أني لا أبيحكم أن تأخذوا من الرعايا شيئا   1 انظر: تاريخ ابن بشر، عنوان المجد، ج2/ ص 8. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 904 ومن حدث منه منكم ظلم على رعيته، فليس أدبه عزله بل أجليه عن وطنه. ثم قال للرعايا: أيما أمير ظلمكم؛ فأخبروني، فقام أمير بريدة عبد العزيز بن محمد بن عبد الله بن حسن، فقال: "يا إمام المسلمين خص بقولك ولا تعم به فإن كنت نقمت على أحد منا فأخبره بفعله، فقال: إنما القول فيك وفي أمثالك، تحسبون أَنكم ملكتم البلدان بسيوفكم وإنما أخذها لكم وذللها سيف الإِسلام والاجتماع على إمام" 1. وكان من توفيق الله للإمام تركي أَن أتاح له شيخا من شيوخ العقيدة السلفية هو الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ قدم على الإمام تركي من مصر ففرح به الإمام وأكرمه، ووضعه بالمكان الرفيع وقربه إليه فأحيا الله به مدارس العلم بعد ما عطلت وتزينت بدروسه المساجد بعدما أقفرت وكان الشيخ من أعلام عقيدة السلف الصالح ومن علمائها العاملين، كان قد أخذ عن جده شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في صغره، وولي القضاء في الدرعية زمن سعود وابنه عبد الله2. ثم أخذ مع من أخذ إلى مصر، ولكن الله تعالى منَّ عليه بالعودة سنة إحدى وأربعين ومائتين بعد الألف مع ما من به عليه من ثبات على   1 تاريخ ابن بشر، عنوان المجد، ج3 ص 44. 2 عنوان المجد في تاريخ نجد لابن بشر، ج1ص 94، ج2 ص 20. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 905 العقيدة، وإِتاحة الناصر لها من آل محمد بن سعود وزاده الله في العلم النافع بسطة فاغتبط بطلعته المسلمون خاصهم وعامهم، وبذل وقته لطالبي العلم وانتفع بعلمه كثير من المستفيدين1. قال ابن بشر عن الشيخ عبد الرحمن بن حسن: "فممن انتفع به وتفقه عليه حتى صار قاضياً يرجع في الفتوى إليه من ذريته وذرية جده محمد بن عبد الوهاب عدد كثير منهم العالم الفاضل ابنه الشيخ عبد اللطيف قدم من مصر سنة أربع وستين ومائتين وألف ومعه كتب كثيرة وانتفع الناس بعلمه وكان عنده حلقة في التدريس وكان أخذ العلم عن أبيه في مصر وأخذ أيضاً عن غير أبيه واستعمله الإمام فيصل قاضيا في الأحساء، ثم كان قاضياً مع أبيه في الرياض، وتفقه على الشيخ عبد الرحمن بن حسن أيضاً الشيخ العالم عبد الرحمن بن القاضي حسين بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وكان قاضياً في ناحية الخرج، وتفقه عليه أيضاً الشيخ العالم الفقيه حسن بن حسين بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب قاضي الإمام تركي في الرياض، ولم تطل مدته مات شاباً سنة خمس وأربعين ومائتين وألف، وتفقه عليه أيضاً الشيخ العالم عبد الملك بن حسين بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب القاضي في حوطة بني تميم للإمام فيصل، وتفقه عليه أيضاً الشيخ حسين بن حمد بن حسين بن الشيخ محمد   1 المصدر السابق ج2 ص 20. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 906 ابن عبد الوهاب القاضي في الحريق للإمام فيصل، وتفقه عليه أيضاً الشيخ حسين بن علي بن حسين بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب القاضي في الرياض للإمام فيصل، وتفقه عليه أيضاً الشيخ عبد الله بن حسن بن حسين بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأخذ عنه ممن لم يل القضاء من ذرية الشيخ، وهو الآن في طلب العلم يترقى: حسن بن علي بن حسين، وأبناء الشيخ محمد بن علي بن الشيخ، وهم: عبد الله وعبد العزيز وعلي وعبد الرحمن وأبناء القاضي علي بن حسين وهما: عبد الله وحسن". وقد أخذ عن الشيخ عبد الرحمن بن حسن من غير قرابته من علماء نجد عدد كثير وجم غفير ممن ولي القضاء وغيرهم، فمنهم العالم الشيخ عبد العزيز بن القاضي عثمان بن عبد الجبار بن شبانه قاضي بلدان منيخ1، والزلفي والغاط للإمام تركي ثم لابنه فيصل وأخذ عنه أيضاً العالم الشيخ عبد الله بن نصير القاضي في الرياض للإمام تركي ثم في ضرما، وأخذ عنه الشيخ ناصر بن عيد القاضي للإمام تركي في بلد الحلوة وأخذ عنه أيضاً الشيخ محمد بن سلطان قاضي بلد عرقه للإمام تركي ثم لابنه فيصل وأخذ عنه الشيخ عبد الرحمن بن حمد الثميري القاضي في سدير للإمام تركي ثم كان قاضياً في الزلفي للإمام فيصل وأخذ عنه الشيخ عبد   1 منيخ اسم كان يطلق على المجمعة وما حولها من واديها (معجم اليمامة ج2/ ص 402) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 907 الله بن جبر القاضي في منفوحة وأخذ عنه الشيخ محمد بن إبراهيم بن سيف القاضي في جبل شمر عند ابن رشيد، وأخذ عنه العالم عبد العزيز بن حسن بن يحيى القاضي في حريملاء والمحمل للإمام فيصل، وأخذ عنه الشيخ محمد بن إبراهيم بن عجلان القاضي في الحريق وأخذ عنه الشيخ عبد الله ابن علي بن مرخان القاضي في ضرما للإمام فيصل، وأخذ عنه أيضاً الشيخ حمد بن عبد العزيز بن القاضي محمد بن عبد العزيز قاضي بلد ثادق للإمام فيصل وأخذ عنه الشيخ عبد الرحمن بن عدوان. وأما من أخذ عنه ممن لم يل القضاء فعدد كثير ونفع الله الطلبة بعلمه بحيث إن الطالب لا يلبث إلا يسيراً عنده حتى يكون فائقا بفهمه فضربت إليه أَباط الإبل من أقطار نجد والأحساء وظهرت آثار بركات علمه وتعليمه" 1. وللشيخ عبد الرحمن بن حسن المؤلفات والفتاوى والرسائل المشهورة، والتي عمرت بها المدارس من بعده مثل "فتح المجيد في شرح كتاب التوحيد"، وهو تهذيب واختصار لشرح التوحيد المسمى "تيسير العزيز الحميد" للشيخ سليمان بن عبد الله بن الشيخ، و"قرة عيون الموحدين"، وردود كثيرة على أهل الشبه وأعوان الباطل. يقول ابن بشر: "وقد صنف الشيخ عبد الرحمن بن حسن مصنفات في الأصول والفروع أكثرها رد على أهل المقالات ومن غالط منهم في   1 ابن بشر، عنوان المجد في تاريخ نجد 2/ 21، 22. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 908 الصفات، وله مصنف فيما يحل ويحرم من الحرير، فمن طالعه دله على علمه الغزير". ويقول ابن بشر: "كتبت له مرة، ودعوت له في آخرالكتاب، وقلت في ختام الدعاء: إنه على ما يشاء قدير. فكتب إلي وقال في أثناء جوابه إِن هذه الكلمة اشتهرت على الألسن من غير قصد، وهو قول الكثير إذا سأل الله تعالى؛ قال: وهو القادرعلى ما يشاء، وهذه الكلمة يقصدون بها أهل البدع شراً، وكل ما في القرآن: وهو على كل شيء قدير، وليس في القرآن والسنة ما يخالف ذلك أصلا لأن القدرة شاملة كاملة وهي والعلم صفتان شاملتان يتعلقان بالموجودات والمعدومات وإنما قصد أهل البدع بقولهم وهو القادر على ما يشاء، أي إِن القدرة لا تتعلق إلا بما تعلقت به المشيئة" انتهى. وقال ابن بشر: " وكتبت إليه مرة أهنيه بقدوم ابنه الشيخ عبد اللطيف من مصر وتوسلت إلى الله في دعائي بصفاته الكاملة التي لا يعلمها إلا هو فكتب إلي فقال: وقد ذكرت وفقك الله في وسيلة دعوتك جزاك الله عني أحسن الجزاء عن تلك الدعوات قلت وأتوسل إليك بصفاتك الكاملة التي لا يعلمها إلا أنت. فاعلم أيها الأريب الأديب أَن الذي لا يعلمها إلا هو كيفية الصفة وأما الصفة فيعلمها أهل العلم بالله كما قال الإمام مالك: الاستواء معلوم والكيف مجهول، ففرق هذا الإمام بين ما يعلم من معنى الصفة على ما يليق بالله فيقال استواء لا يشبه استواء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 909 المخلوق ومعناه ثابت لله كما وصف به نفسه وأما الكيف فلا يعلمه إلا الله فتنبه لمثل هذا فالإمام مالك تكلم بلسان السلف. يقول ابن بشر: "فانظر إلى سعة علومه واطلاعاته، ومفهومه وما لديه من التحقيق والتدقيق، وكان كثيراً ما يتعاهد أهل بلدان نجد بالمراسلات والنصائح يعلمهم ما يجب عليهم من أمر دينهم ويذكرهم نعمة هذا الدين، واجتماع شمل أهل الإسلام عليه، وما منَّ الله به على أهل نجد في آخر هذا الزمان" 1. ويقول ابن بشر عن رسالة للشيخ عبد الرحمن بن حسن: "وورد علينا منه رسالة بعثها إلى بلدان نجد وأحببت أن أذكرها في ترجمته لأنه ذكر فيها بَدْءَ أمر الشيخ جده محمد بن عبد الوهاب وأول ظهور هذا الدين على يديه في نجد، وأوردها كما أوردها ابن بشر للغرض نفسه ولتأكيد وراثة الشيخ عبد الرحمن بن حسن لجده الشيخ محمد في حمل عقيدة السلف الصالح ونشرها والتأثير على الناس في العودة إلى دين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم كما فعل الشيخ محمد بن عبد الوهاب وكأنها بيان للخطة التي يسير عليها عالم الدولة في دورها الثاني. قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن: "بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، إياك نعبد وإياك   1 عنوان المجد في تاريخ نجد لابن بشر ج2 ص 22-23. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 910 نستعين، وصلى الله على محمد سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد: فالذي أوجب هذا الكتاب ذكر ما أنعم الله به عليكم من نعمة الإسلام الذي عرفكم به وهداكم إليه وتسمون به فلا يعني باسم المسلمين إلا أنتم وما أعطاكم الله تعالى في هذا الدين من النعم أكثر من أن تحصر لكن منها نعم كل واحدة منها حصولها نعمة عظيمة لأن المعارض لها قوي جدا أولها كون الدعوة إلى دين الإسلام ما قام في بيانها والدعوة إليها إلا رجل واحد فلما شرح الله صدره واستنار قلبه بنور الكتاب والسنة وتدبر الآيات وطالع كتب التفسير وأقوال السلف في المعنى والأحاديث الصحيحة سافر إلى البصرة ثم إلى الأحساء والحرمين لعله أن يجد من يساعده على ما عرف من دين الإِسلام فلم يجد أحدا، كلهم قد استحسن العوائد وما كان عليه غالب الناس في هذه القرون المتأخرة إلى منتصف القرن الثاني عشر، ولا يعرف أن أحدا دعا فيها إلى توحيد الله وأنكر الشرك المنافي له، بل قد ظنوا جواز ذلك واستحبابه وذلك قد عمت به البلوى من عبادة الطواغيت والقبور والجن والأشجار والأحجار في جميع القرى والأمصار والبوادي وغيرهم فما زالوا كذلك إلى القرن الثاني عشر فرحم الله كثيراً من هذه الأمة بظهور شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وكان قد عزم وهو بمكة أن يصل الشام مع الحاج فعاقه عائق فقدم المدينة وأقام بها ثم إِن العليم الحكيم رده إلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 911 نجد رحمة لمن أراد أن يرحمه بمن يؤويه وينصره وقدم على أبيه وصنوه وأهله ببلد حريملاء فبادأهم بالدعوة إلى التوحيد ونفي الشرك والبراءة منه ومن أهله، وبين لهم الأدلة على ذلك من الكتاب والسنة وكلام السلف فقبل منه من قبل - وهم الأقلون - وأما الملأ والكبراء الظلمة الفسقة؛ فكرهوا دعوته فخافهم على نفسه وأتى العيينة وأظهرالدعوة بها وقبل منه كثير منهم حتى رئيسهم عثمان بن حمد بن معمر، ثم إن أهل الأحساء - وهم خاصة العلماء - أنكروا دعوته وكتبوا شبهات تبين جهلهم وضلالهم وأغروا به شيخ بني خالد فكتب لابن معمر أَن يقتل هذا الشيخ أو يطرده فما تحمل مخالفته فنفاه من بلده الدرعية فتلقاه محمد بن سعود بالقبول وبايعه على أن يمنعه مما يمنع منه أهله وولده وهذا أيضاً نعمة عظيمة وكون الله أتاح له من ينصره ويؤويه والذي أقوى من ابن سعود لم يحصل منه ذلك وصبر محمد على عداوة الأقصى والأدنى من أهل نجد والملوك من كل جهة وبادأهم دهام ابن دواس بالحرب فهجم على الدرعية على حين غفلة من أهلها وقتل أولاد محمد فيصل وسعودا فما زاد محمدا إلا قوة وصلابة في دينه على ضعف منه وقلة في العدد والعدة وكثرة من عدوهم وذلك من نعمة الله علينا وعليكم فرحم الله هذا الشيخ الذي أقامه الله مقام رسله وأنبيائه في الدعوة إلى دينه ورحم الله من آواه ونصره فلله الحمد على ذلك. وفيما جرى من ابن سعود شبه مما جرى من الأنصارفي بيعة العقبة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 912 ثم إِن بني خالد وأهل نجد وأهل العراق والأشراف والبوادي وغيرهم تجردوا لعداوة هذا الشيخ ومن كان آواه ونصره وأَقبلوا على حربهم بجدهم وجنودهم فأَبطل الله كيد من عاداهم وكل من رام من هؤلاء الملوك وأعوانهم أن يطفيء هذا النورأطفأ الله ناره وجعلها رمادا وجعل كثيراً من أموالهم فيئا للمسلمين. وهذه عبرة عظيمة ونعمة جسيمة. ثم إِن الله بفضله وإحسانه أظهر هذا الدين في نجد وأذل من عاداه فعمت النعمة أهل نجد ومن والاهم شرقا وغرباً وحفظ الله عليكم نعمة الإسلام التي رضيها سبحانه لعباده دينا فلم يقدر أحد أن يقدرها بقوته وقدرته فاشكروا ربكم وأَقبلوا على التوحيد تعلما وتعليما والأمر بما يحبه من طاعته والنهي عما نهى الله عنه من المعاصي. فالواجب علينا وعليكم التواصي بهذه النعمة العظيمة والتنافس في هذا الدين الذي منَّ الله به عليكم وهو الذي بعث الله به رسوله وأنزل به كتبه وأكمله ورضيه لعباده كما قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الآية، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} الآيات. فاحذروا نسيان ربكم عما افترضه عليكم وأَقبلوا على توحيده وطاعته واطلبوا بذلك الجنة والنجاة من النار فكونوا أئمة في هذا الدين الذي هو معنى "لا إله إلا الله" وقد بين الله معناه في آيات كثيرة من كتابه فإنها دلت على نفي الشرك والبراءة منه وممن فعله وإِخلاص العبادة لله وحده وذلك في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 913 آي كثير فمن ذلك قوله تعالى: {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} فقوله فأقم وجهك، فيه الإِخلاص وحنيفاً فيه نفي الشرك ولا تكونن من المشركين فيه البراءة منهم ومن دينهم- قال تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} " والآيات في معنى لا إله إلا الله أكثرمن أن تحصر كقوله: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} . والمراد فتح الباب لكم في معنى التوحيد الذي فيه الفلاح والنجاة وصلاح الدنيا والآخرة فلا تنسوا ربكم بالإِعراض عن الهدى فينسيكم أنفسكم، ومن عقوبة الإعراض عمى البصر في الدنيا والآخرة ولا باق معكم إلا دينكم لمن من الله عليه بحفظه والإِقبال عليه والعمل به وإِلا تفهمون أن الدنيا ما للإنسان منها إلا ما كان لله، وغير ذلك زائل. هذا ما نوصيكم به وندلكم عليه عامة والعلماء والأمراء خاصة. فيجب عليكم أن تكونوا صدراً في هذا الدين بالرغبة فيه والترغيب وأن تكونوا سندا وعونا لمن أمر بالمعروف ونهى عن المنكر ويتفقدون أهل بلدهم في صلاتهم وتعليمهم دينهم وكفهم عن السفاهة وما يحرم عليهم لأن الله سائلهم عنهم ومن أحب شيئا أكثرمن ذكره.. وبالله التوفيق وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين" 1. وللشيخ عبد الرحمن بن حسن ردود ونصائح ورسائل وفتاوى   1 عنوان المجد ج 2 ص 23-26. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 914 كثيرة في مجموعة الرسائل والمسائل النجدية والدرر السنية في الأجوبة النجدية التي جمعها ابن قاسم وكلها في شرح عقيدة السلف الصالح وبيانها والرد على من عارضها وألصق فيها التهم وشبه عليها. وقد بارك الله في عمر الشيخ عبد الرحمن بن حسن كما بارك في علمه. قال عبد الرحمن بن عبد اللطيف في تعليقه على عنوان المجد: "عاصر الشيخ عبد الرحمن بن حسن ستة من ملوك آل سعود الذين تعاقبوا على الحكم وهم الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود وابنه سعود ابن عبد العزيز وابنه عبد الله بن سعود بن عبد العزيز ثم الإمام تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود وابنه الإمام فيصل بن تركي وابنه عبد الله بن فيصل بن تركي ومات الشيخ عبد الرحمن في أول حكم عبد الله بن فيصل سنة (1285هـ) رحمه الله تعالى" 1. وفي هذه المدة كلها كان الشيخ عبد الرحمن بن حسن وريث جده وشيخه في العلم والعمل، كما كان الإمام تركي وابنه فيصل وريثي جدهما محمد بن سعود وأبنائه الأئمة في مناصرة دين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بعد أن خرب أهل البغي مدينة الدرعية وحضارتها الإسلامية وبعد أن ظن الناس كل الظن أن لا رجوع لهم فالحمد لله الذي لا إله إلا هو، صدق   1 هامش ص 266 من جزء (1) من عنوان المجد، ط المعارف 1387 هـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 915 وعده، وجعل العاقبة للمتقين وصدق رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا تزال طائفة من أمته ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يقاتل آخرهم الدجال ويأتي أمر الله فتنتهي الدنيا وتقوم الساعة وتأتي الآخرة والله المستعان. هذا؛ وقد ساعده على حمل راية العلم والسنة ابنه الشيخ عبد اللطيف فقد كتب رسائل كثيرة في بيان عقيدة السلف الصالح التي قام بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب ورد ما ألصق فيها من تهم باطلة وخصص "جامع الرسائل والمسائل النجدية" الجزء الثالث من مجموعة الرسائل والمسائل لبعضها، فبلغت ستاً وسبعين رسالة في أربعمائة وثلاث وخمسين صفحة (453) وهي ليست كل رسائله ومؤلفاته وفتاويه فهي كثيرة موزعة في أجزاء مجموعة الرسائل والمسائل النجدية الأخرى وفي الهدية السنية جزء منها وفي الدرر السنية منها كثير. وعلى سبيل المثال ألخص فصلا كتبه الشيخ عبد اللطيف في سيرة جده الشيخ محمد بن عبد الوهاب وعقيدته فقال: "قد عرف واشتهر واستفاض من تقارير الشيخ ومراسلاته ومصنفاته المسموعة والمقروءة عليه، وما ثبت بخطه، وعرف واشتهر من أمره ودعوته، وما عليه الفضلاء والنبلاء من أصحابه وتلامذته، أنه على ما كان عليه السلف الصالح وأئمة الدين وأهل الفقه والفتوى في باب معرفة الله وإثبات صفات كماله ونعوت جلاله التي نطق بها الكتاب العزيز وصحت بها الأخبار النبوية وتلقاها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقبول والتسليم، يثبتونها ويؤمنون بها، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 916 ويمرونها كما جاءت من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل وقد درج على هذا من بعدهم من التابعين وتابعيهم من أهل العلم والإيمان وسلف الأمة وأئمتها. وفي توحيد العبادة والإلهية فلا خلاف بين أهل الإسلام فيما قاله الشيخ وثبت عنه من المعتقد الذي دعا إليه، فقد دعا إلى أصل الإسلام وقاعدته شهادة أن لا إله إلا الله، وهي أصل الإيمان وأفضل شعبه في العلم والعمل والإقرار بإجماع المسلمين. ثم أخذ الشيخ عبد اللطيف يفصل هذه الجملة، ويستدل بالآيات الكريمة ويبين الأنواع التي تدخل في العبادة وضدها، وبين أن مجرد الإتيان بلفظ الشهادة من غير علم بمعناها ولا عمل بمقتضاها لا يكون به المكلف مسلما بل هوحجة على ابن آدم، وبيّن مسألة التكفير، وأن الشيخ فيها على ما كان عليه العلماء قاطبة كما هو مذكور في المختصرات من كتب المذاهب الأربعة، بل إن الشيخ لم يكفر أحدا إلا بما أجمع عليه العلماء وهو ترك التوحيد، وبين مسائل القدر والجبر والإرجاء والإمامة والتشيع ونحو ذلك من المقالات والنحل، وأن الشيخ فيها على ما كان عليه السلف الصالح وأئمة الهدى والدين، وبين عقيدة الشيخ في القرآن، وَرَفْض الشيخ للبدع الصوفية وغيرها، وبين تقرير الشيخ على شهادة أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيان ما تستلزمه هذه الشهادة وتستدعيه وتقتضيه؛ من تجريد المتابعة، والقيام بحقوق النبي صلى الله عليه وسلم من الحب والتوقير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 917 والنصرة والطاعة، وتقديم سنته على كل سنة وقول، والوقوف معها حيث وقفت في أصول الدين وفروعه باطنه وظاهره، ثم صار يبين مآثر الشيخ ومناقبه، ثم أورد الشيخ عبد اللطيف ما قاله أبو الحسن الأشعري من جملة ما عليه أصحاب الحديث وأهل السنة من المعتقد1. وقد لخصت هذا عن الشيخ عبد اللطيف في هذا الموضع لبيان أثر عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب فيهم وأنهم حملوها بقوة في العلم والحجة والسلطان رحمهم الله تعالى. وفي هذا المجال نذكر من قضاة الإمامين تركي وفيصل الشيخ العلامة عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، فله مكان كبير من أثر عقيدة الشيخ ونشرها والدفاع عنها تجاه أباطيل المغرضين والأعداء وله رسائل وفتاوى في مجموعة الرسائل والمسائل النجدية، وقد أفرد بعضها مثل الرد على داود بن سليمان بن جرجيس طبع بمطبعة الحلبي سنة 1344هـ وقد توفى سنة 1282هـ رحمه الله تعالى، وسبق أن عينه الإمام سعود بن عبد العزيز قاضياً على الطائف وملحقاته عام 1220هـ2. ولا ننسى عالماً من علماء عقيدة السلف الصالح ومن مشائخ الدعوة إليها وارثي الشيخ محمد بن عبد الوهاب عن طريق سنده المتصل إليه،   1 انظر: الهدية السنية، ط المنار، الرسالة الرابعة ص 88-100. وانظر: مجموعة الرسائل والمسائل النجدبة ج3 ص 367-377. 2 علماء نجد خلال ستة قرون ج2/ 567-573. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 918 ذلك العالم هوالشيخ الإمام العلامة الثقة في العقيدة والهمة والشجاعة حمد ابن علي بن محمد بن عتيق أخذ العلم عن الشيخ عبد الرحمن بن حسن وابنه الشيخ عبد اللطيف والشيخ علي بن حسين وغيرهم، وبرع في العلوم وكان له حظ من المعرفة، وإقدام وشهامة وعبادة وتهجد وطول صلاة ولهج بالذكر، شديد المحبة للعلم وكتابته ومطالعته وتصنيفه والحث عليه1 وهو الذي يعنيه الشاعر محمد بن عثيمين وهو يرثي ابنه الشيخ سعد بن حمد بقوله: بَنَى لكم حَمَدٌ ياللعتيق علا ... لم يبنها لكم مال ولا خطر لكنه العلم يسمو من يسود به ... على الجهول ولو من جده مضر2 ويقول فيه الشيخ سليمان بن سحمان: يعز علينا أن نرى اليوم مثله ... لحل عويص المشكلات البوادر وللشبهات المعضلات وردها ... إذا ما تبدت من كفور مقامر فلِلَّهِ من حبر تصعد للعلى ... فحل على هام النجوم الزواهر إلى أن قال: ويقفو لآثار النبي وصحبه ... يجدد من منهاجهم كل داثر ويحيى علامات من العلم قد عفت ... ويعمر من بنيانه كل دامر   1 الدرر السنية ... ج12/ ص 77-79. 2 العقد الثمين من شعر محمد بن عثيمين ص 480. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 919 إمام تزيَّى بالعبادة فاستما ... بها وارتقى مجدا سَمِيَّ المظاهِر إلى أن قال: عليم بفقه الأقدمين محقق ... وقد كان ذا علم بفقه الأواخر وقد حاز في علم الحديث محلة ... تسامى بها فوق النجوم الزواهر1 ولي مناصب القضاء في عهد حكم الإمام فيصل بن تركي في الخرج ثم في الحوطة ثم في الأفلاج. وأخذ عنه العلم ابنه الشيخ سعد وابنه الشيخ عبد العزيز وابنه الشيخ عبد اللطيف وأخذ عنه الشيخ الحبر عبد الله بن عبد اللطيف والشيخ محمد بن عبد اللطيف، والشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ، والشيخ سليمان بن سحمان وغيرهم خلق كثير2. وله مؤلفات جيدة منها كتاب "إبطال التنديد باختصار شرح التوحيد" وهو حاشية على "كتاب التوحيد" للشيخ محمد بن عبد الوهاب، و"بيان النجاة والفكاك من موالاة المرتدين وأهل الإشراك" و"الرد على ابن دعيج"، و"الفرقان المبين بين مذهب السلف وابن سبعين" وله رسائل ونصائح ومكاتبات مع أعيان البلاد من حكام وعلماء من أجل الدعوة والإصلاح. وتوفي على رأس القرن سنة 1301هـ 3 ورثاه تلميذه الشيخ   1 ديوان بن سحمان ص 286-287. 2 الدرر السنية ج12 ص 78-79. 3 مقدمة الطبعة الثالثة لكتاب إبطال التنديد بقلم اسماعيل بن سعد آل عتيق ص 4. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 920 سليمان بن سحمان بقصيدة مطلعها: على الحبر بحر العلم بدر المنابر ... وشمس الهدى فليبك أهل البصائر ومنها: فما حمد في العلم إلا متوج ... حميد المساعي مشمعل المآثر1 ويحسن أن نذكر في هذا الدور شيخا من الأحساء وشاعراً مجيدا قد تأثر أثراً طيباً وإيجابياً بعقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية، هو الشيخ الفقيه المحدث الأديب السلفي أحمد بن علي بن حسين بن مشرف الوهيبي، ولد بالأحساء في أوائل القرن الثالث عشر الهجرى، ولما بلغ من النمو أشده وتلقى العلم في ذلك العهد المبارك، عهد إشراق شمس التوحيد وعقيدة السلف الصالح بدعوة الشيخ محمد ونصرة آل سعود، أدرك في سائر العلوم إدراكاً طيباً ونظم مقدمة "رسالة ابن أبي زيد القيرواني"، وهي مقدمة مختصرة مفيدة في عقيدة السلف الصالح نظمها نظماً طريفاً ليسهل حفظها على طالبيها واختصر "صحيح الإمام مسلم" ثم توفي في بلدته الأحساء في سنة 1285هـ2. وهو صاحب الديوان المسمى " ديوان ابن مشرف في العقائد والتوحيد والفقه والأدب"، وطبع بمطبعة السنة المحمدية، ونشره إبراهيم   1 ديوان بن سحمان ص 287. 2انظر: ترجمته بقلم محمد حامد الفقي- في أول ديوان ابن مشرف ص- د- و. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 921 المحمد الضبيعي ومحمد العبد الله الحواسي، عام 1370هـ، ونورد من ديوانه قطعة من قصيدة جيدة، وسببها أَنه في السنة التاسعة والستين بعد المائتين والألف حدث أَن استولى عايض بن مرعي العسيري على اليمن وأرسل بهدية للإمام فيصل بن تركي ومعها قصيدة لقاضيهم علي بن الحسين الحفظي ومن هذه القصيدة قوله يوصي المرسول: وأشرف على وادي اليمامة قائلا ... ودمعك سفاحاً على الخد والثدى سلام على عبد العزيز وشيخه ... وتابع رشد للإمام المُمَجَّدِ دعا الناس دهراً للهدى فأجابه ... فئام فمنهم عالمون ومقتدى وقفاهما حذوا سعود بسيفه ... مميّزٌ مجوَدِّ النقود من الردي وعرِّجْ بها ذات اليمين وقد هوت ... على عرصات للرياض بمقصِدِ وناد بأعلا الصوت بشرى لفيصل ... ومن نسل سادات الملوك مسدد إلى آخر القصيدة فأجابه عن الإمام فيصل الشيخ أحمد بن علي بن مشرف بقصيدة كما ذكرت، ضمنها مدح آل سعود على إيوائهم الشيخ ونصرتهم للتوحيد، منها: هموا نصروا التوحيد بالبيض والقنا ... فنال المنى بالنصر كل موحد وآووا إماماً قام لله داعياً ... يسمى بشيخ المسلمين محمد لقد أوضح الإسلام عند اغترابه ... وقد جد في اخفائه كل ملحد وجدد منهاج الشريعة إذ عفت ... فأكرم به من عالم ومجدد وأحيا بدرس العلم دارس رسمها ... كما قد أمات الشرك بالقول واليد وكم شبهة للمشركين أزاحها ... بكل دليل كاشف للتردد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 922 وألف في التوحيد أوجز نبذة1 ... بها قد هدى الرحمن للحق من هدى نصوصاً من القرآن تشفى من العمى ... وكل حديث للأئمة مسند فوازره عبد العزيز ورهطه ... على قلة منهم وعيش منكد فما خاف في الرحمن لومة لائم ... ولم يثنه صولات باغ ومعتد وقفى سعود إثره طول عمره ... إلى حين ووري في الصفيح الملحد وقد جاهدوا في الله أعداء دينه ... فما وهنوا للحرب أو للتهدد إلى أن قال: وكم سنة أحيوا وكم بدعة نفوا ... وكم هدموا بنيان شرك مشيد إلى أن قال: وكم لهم من وقفة شاع صيتها ... بها أيد الرحمن سنة أحمد وكم فتحوا من قرية ومدينة ... ودانت لهم بَدْوٌ وسكَّان أَبْلُدِ وكم ملكوا ما بين ينبع بالقنا ... ومابين جعلان2 إلى جنب مربد ومن عدن حتى تنيخ بأيلة ... قلوصك من مبدأ سهيل إلى الجدي وقد طهروا تلك الديار وطردوا ... ذوى الشرك والإفساد كل مطرد بأمر بمعروف ونهي عن الردى ... وبالصلوات الخمس للمتعبد   1 يعني كتاب التوحيد الذي ألفه الشيخ. 2 جعلان: بلد في عمان في الجنوب منه، ومربد: يقصد مربد البصرة وعدن في اليمن والجنوب، وأيلة بالشام. والشيخ الشاعر يذكر حدود مملكة آل سعود من الغرب إلى الشرق ومن الجنوب إلى الشمال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 923 وقد هدموا الأوثان في كل قرية ... كما عمرت أيديهموا كل مسجد إلى آخر القصيدة وهي طويلة جدّاً1 ومما قال رحمه الله في قبة عين نجم بالأحساء بعد أن هدمت بأمر الإمام فيصل رحمه الله سنة 1277هـ: فغادروها كبنيان الذين بنوا ... على شفا جرف للشك والرين بأمر وال طبيب في رعيته ... مبارك الأمر محمود الفِعَاليْن إذ قام يحمي من التوحيد ... جانبه وما أصاخ لأهل الزور والمين لكن أطاع هداة المسلمين بما ... أَفتوا وسل حساما ذا غرارَيْنِ إلى قوله: فقال كم قبة للشرك قد هدمت ... بسيفنا في عمان والعراقين فكيف نرضى بها تبنى مشيدة ... فى أرضنا وهي ما بين الخميسين جزاه ربي بنصر الدين نصرته ... ونال من رحمة الرحمن كفلين2 وقال في الإمام فيصل سنة 1263هـ قصيدة مطلعها: إلى الله نشكو حادثات النوائب ... ودهراً دهانا صرفه بالعجائب إلى أن قال: وساءلت هل في دهرنا من مساعد ... على جبر مطلوب وإسعاف طالب فلم أر إلا الألمعي أخا الندا ... إمام الهدى نسل الكرام الأطايب   1 انظر: ديوان ابن مشرف، ص 56-59. 2 ديوان ابن مشرف، ص 28-29. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 924 كريم المساعي فيصل من يراعه ... على طرسه يحكي هتون السحائب فيممت من أرض هجر عشية ... وأَعملت عيسَ اليعملاتِ النجائبِ إلى آخرها1، وقد مدح الإمام فيصل بما هو أهل له من الكرم وتجديد معالم الدين على ضوء ما فعله أسلافه الميامين2 وكان عثمان بن سند البصري قد أنشأ قصيدة أَقذع فيها بسَبِّ المسلمين وشمت بهم حين نزل إبراهيم باشا الدرعية وقال يخاطب إبراهيم باشا: لقد فُتحت للدين أَعينه الرمد ... لدى لاح من بين السيوف له السعد فأجابه الشيخ أحمد بن مشرف بقصيدة عصماء كبحهُ بها وذلك في عهد الإمام فيصل ومطلعها: أليلٌ غَشَا الدنيا أم الأفق مسودُّ ... أم الفتنةُ الظلماءُ قد أَقبلتْ تعدُو إلى أن قال: وقد أقذعَ البصريُّ في ذمِّ شيخنا ... وأنصاره، تباً لما قالهُ الوغد أيهجو إماما هادياً أرشد الورى ... إلى منهجِ التوحيد فاتضح الرشد وبَصَّرهم نهجَ المحجة فاهتدوا ... وآبوا إلى الإسلام من بعد أن صدوا إلى أن قال: فلما مضت تلك العصابة لم يقم ... بَعَدْلِهُمُ مَنْ ضَمَّهُ الشام والسِّنْد   ـ1 انظر: ديوان ابن مشرف ص 39-40. 2 انظر: الديوان، ص 39-42 وص 47-52 وص 59-69، وص 72. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 925 ولكن فشا فيها الزنى وبدا الخنا ... فلم تنكر الفحشا ولم يقم الحد فكم فتنة عمت وكم طَلَّ من دم ... حرام وكم ضلت عصائب وارتدوا وكم قطع السبل البوادى وأَفسدوا ... فصاروا بها مثل الذئاب التي تعدوا فإن كان هذا عنده الدين والهدى ... فقد فتحت للدين أعينه الرمد ... الخ 1. أسباب نهاية الدور الثاني لدولة أنصار عقيدة الشيخ: لقد حصل خلل في التمسك بعقيدة السلف الصالح من الأمر بالاجتماع ونبذ الفرقة والاختلاف بسبب ما جرى من فتنة بين المسلمين وخروج بعضهم على بعض قد جرت له بيعة وانعقدت له ولاية شرعية في الجملة وقد وصف لنا الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن كيف كان أول هذه الفتنة في رسالته إلى الشيخ حمد بن عتيق2 وفى غيرها3 وصفاً دقيقا حكيماً صادقا لأنه رحمه الله عايش تلك الأمور واتفق أن وقعت الفتنة والشقاق في زمنه وهو العالم الخبير، وقد أدرك رحمه الله تعالى ببعد فراسته وصدقها أن من وراء تلك الفتنة أصابع الدولة العثمانية، لا بل أصابع أعداء الإسلام المتسترين بثياب الناصحين، وكثيراً ما يجري من الماكرين الاستحواذ على السلطات بالمخادعة والنفاق، وهم أعداء ألِدّاءَ   1 انظر: الديوان، ص 45-47. 2 مجموعة الرسائل ... ج3 ص 273-276. 3 المصدر السابق، ص 162-172، وص 69-72. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 926 لعقيدة أصحاب السلطة، فكان الشيخ عبد اللطيف رحمه الله في كثير من رسائله يقيم الحجج والبراهين على وجوب معاداة العساكر التي أرسلت باسم الدولة التركية لإِبطال التوحيد ومستشاريهم الذين غايتهم بث الشبه والشكوك في العقيدة، فكان رحمه الله يبين وجوب البراءة من هؤلاء الأعداء ومجاهدتهم وهجرهم ومقاطعتهم وتحريم موالاتهم ومساكنتهم ومساكنة أنصارهم والاجتماع بهم في كل ذلك يجاهد جهاد دفاع 1 وجهاد اتباع يجاهد الابتداع. ويهمنا في هذه النقطة أن نبين أثر عقيدة الشيخ السلفية حين تستقر في النفوس وأثر مخالفتها، فيحسن أن نقتبس من قصيدة للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن أبياتاً تصف لنا بدقة أثر مخالفة عقيدة السلف الصالح في تلك الفترة فقال: ودارت على الإسلام أكبر فتنة ... وسلت سيوف البَغْي من كل غادر وذلت رقاب من رجال أعزة ... وكانوا على الإسلام أهل تناصر وأضحى بنو الإسلام في كل مأزق ... تزورهموا غرثى السباع الضوامر وهتك ستر للحرائر جهرة ... بأيدى غواة من بواد وحاضر وجاءوا من الفحشاء مالا يعده ... لبيب ولا يحصيه نظم لشاعر إلى أن قال: وقد جاءهم فيما مضى خير ناصح ... إمام هدى يبنى رفيع المفاخر   1 المصدر السابق ص 179- 181، وص 256-262. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 927 وينقذهم من قعر ظَلْمَا مُضِلَّةٍ ... لسالكها حر اللظى والمساعر ويخبرهم أن السلامة في التي ... عليها خيار الصحب من كل شاكر فلما أتاهم نصر ذي العرش واحتوى ... أكابرهم كنز اللهى والذخائر سعواجهدهم في هدم ما قد بنى لهم ... مشائخهم واستنصروا كل داغر وساروالأهل الشرك واستسلموالهم ... وجاءوا بهم من كل أفك1 وساحر ومذ أرسلوها أرسلوها ذميمة ... تهدم من ربع الهدى كل عامر وباؤوا من الخسران بالصفقة التي ... يبوء بها من دهره كل خاسر وصار لأهل الرفض والشرك صولة ... وقام بهم سوق الردى والمناكر وعاد لديهم للواط وللخنا ... معاهد يغدو نحوها كل فاجر وشتت شمل الدين وانْبَتَّ حَبْلُه ... وصار مضاعاً بين شر العساكر وأَذَّنَ بالناقوس والطبل أهلها ... ولم يرض بالتوحيد حزب المزامر وأصبح أهل الحق بين معاقب ... وبين طريد في القبائل صائر2 ... إلخ قصيدته رحمه الله. وإنها تشخيص ممن شاهد الداء، ويصف الدواء بقوله: "وكلما حصل لهذه الطائفة قوة وسلطان في جهة أو بلد حصل من الملك والعز والظهور لهم بقدر تمسكهم بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، ولذلك صار لشيخنا شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ولطائفته وأنصاره من الملك   1 أفك على وزن أشر أى كثير الإفك. 2 الدرر السنية، ج7 ص 89 1، 0 9 1. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 928 والظهور والنصر بحسب نصيبهم وحظهم من متابعة نبيهم صلى الله عليه وسلم والتمسك بدينه فقهروا جمهور العرب من الشام إلى عمان ومن الحيرة إلى اليمن، وكلما كان أتباعهم وأنصارهم أقوى تمسكاً كانوا أعز وأظهر وربما نال منهم العدو وحصل عليهم من المصائب ما تقتضيه الذنوب والمخالفة والخروج عن متابعة نبيهم صلى الله عليه وسلم وما يعفو الله عنه من ذلك أكثر وأعظم، والمقصود أن كل خير ونصر حصل وعز وسرور اتصل، فهو بسبب متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم وتقديم أمره في الفروع والأصول1. ومن المشائخ الذين لهم تأثير حسن رغم ضعف المناصر في شرح عقيدة السلف الصالح في الحجاز الشيخ أحمد بن إبراهيم بن عيسى المتوفى عام 1328هـ قاضى المجمعة في مطلع القرن الرابع عشر الهجري وصاحب المؤلفات التالية: 1- "الرد على المدراسى والسندي والحلبي" في "مجموعة الرد الوافر". 2- "شرح نونية ابن قيم الجوزيه". 3- "الرد على ما جاء في تاريخ خلاصة الكلام عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب ودعوته لدحلان". 4- " الرد على شبهات المستعينين بغير الله تعالى ". ألفه عام   1 مجموعة الرسائل والمسائل ج4 ص 443-444 وج 3 ص 198. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 929 1294هـ بمكة نشر محمد نصيف طبع دار مصر للطباعة بدون تاريخ (61 ص) . قال عنه الشيخ محمد نصيف في ترجمته له في أول مؤلفه "الرد على شبهات المستعينين بغير الله تعالى" المذكور: كان رحمه الله يشتغل إلى جانب عمله في القضاء بالتجارة، وغالب تجارته في الأقمشة القطنية، جالس أمير مكة الشريف عون الرفيق بن محمد بن عون المتوفى عام 1323هـ فأَقنعه بهدم القباب المشيدة على قبور الصالحين في مكة وجدة والطائف إلا قبة القبر المزعوم أَنه قبر حواء، أم البشر في جدة، وقبة السيدة خديجة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وقبة قبر آمنة المزعوم أنه في مكة، وقبة قبر ابن عباس بالطائف، فإِنه لم يهدمها خوفاً من السلطان عبد الحميد العثماني أن يعزله من الإمارة، فالسلاطين والملوك يبنون القباب على قبور الصالحين وقبور أجدادهم، وقد رأيتها في استانبول وبورسة، والعلماء في كل عصر منهم الخائف من تهمة أنه وهابي، وأما المتصوفة فجاءت على أهوائهم، وفى كل عصر للتهم أنواع، والمسلمون والعرب مظلومون من الأقوياء، سلطهم الله بعضهم على بعض وجعل بأسهم بينهم شديدا. وكان يتردد بين جدة ومكة لشراء الأقمشة من الشيخ عبد القادر ابن مصطفى التلمساني أحد تجار جدة، ومن ذوي الأملاك في القطر المصري، كان يدفع له أربعمائة جنيه ويشترى بألف، ويسدد الباقي على أقساط بضمانة الشيخ مبارك المساعد البسام من التجار ومن أهل عنيزة. وقد دام التعامل بينه وبين الشيخ التلمساني زمنا طويلا وكان لصدقه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 930 وأمانته ووفائه بوعده أثر طيب في نفس الشيخ التلمسانى، حتى إِنه لم ير ضرورة للضامن وأخذ يبيعه ما يحتاج إليه بوثيقة تسدد فيما بعد على أقساط، وقال له: " إني عاملت الناس أكثر من أربعين عاما فما وجدت أحسن من التعامل معك ياوهابي، يظهر أَن ما يشاع عنكم يا أهل نجد مبالغ فيه من خصومكم السياسيين بسبب الحروب التي وقعت بينكم وبين أشراف مكة والمصريين والأتراك، فقد أشاعوا عنكم أقوالا منكرة " فسأله الشيخ أحمد أن يبينها له؟ فقال الشيخ التلمساني يقولون إنكم لا تصلون على النبي صلى الله عليه وسلم ولا تحبونه. فأجابه المؤلف "سبحانك! هذا بهتان عظيم! كيف ومن لم يصل عليه في التشهد في الصلاة فصلاته باطلة، ومن لا يحبه فكافر؟!، وإنما نحن أهل نجد ننكر الاستغاثة والاستعانة بالأموات ولا نستغيث إلا بالله وحده، ولا نستعين إلا به سبحانه، كما كان على ذلك سلف الأمة" وقد استمر النقاش بينه وبين الشيخ التلمساني ثلاثة أيام. وأخيراً هدى الله الشيخ التلمساني للحق، وصار موحدا ظاهراً وباطنا، ثم سأله الشيخ التلمساني أن يوضح له بعض أوجه الخلاف بينهم وبين خصومهم، فقال: إننا نعتقد أن الله فوق سماواته، مستو على عرشه، استواء يليق بجلاله، من غير تشبيه ولا تجسيم ولا تأويل، وهكذا في جميع آيات الصفات والأحاديث كما هي عقيدة السلف الصالح وكما جاء عن الإمام أبي الحسن الأشعري في كتابيه: "الإبانة في أصول الديانة" و"مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 931 وقد دامت المناظرة بينهما خمسة عشر يوماً لأن الشيخ التلمساني كان أشعرياً درس في الجامع الأزهر كتب العقائد "السنوسية" و"أم البراهين" و"شرح الجوهرة" وغيرها، وقد انتهت هذه المناقشات الطويلة باقتناع الشيخ التلمساني بأن عقيدة السلف هي الأسلم والأحكم والأعلم، ثم صار الشيخ التلمساني داعياً من دعاة العقيدة السلفية، وطبع على نفقته كتباً كثيرة كان يوزعها بالمجان مثل: "الصارم المنكى في الرد على السبكي" لابن عبد الهادي و "القصيدة النونية المسماة الشافية" لابن قيم الجوزيه و "الاستعاذة من الشيطان الرجيم" لابن مفلح، و"المؤمل في الرجوع إلى الأمر الأول" لابن أبي شامة المؤرخ الدمشقي و"الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" لابن تيمية و "الرد الوافر" لابن ناصر الدين الدمشقي، مع رسائل أخرى ضمن "الرد الوافر" و "غاية الأماني في الرد على (شواهد النبهاني) " لمحمود شكري الألوسي البغدادي" وشاركتُه في نفقات الطبع واشترى نسخا من تفسير الطبري ووزعها على بعض الناس رحمهم الله أجمعين. وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد هدى الشيخ التلمساني على يد الشيخ أحمد بن عيسى، فقد هداني- أنا أيضاً على يده ... وكان له تلاميذ كثيرون، ومن أشهرهم: الشيخ عبد القادر التلمساني المغربي، والشيخ أبو بكر بن محمد عارف خوقير المكي الكتبي، وأما في نجد فكثيرون" 1 اهـ.   1 مقدمة الناشر محمد نصيف، ص 3- 5. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 932 وقال الشيخ أحمد بن إبراهيم بن عيسى في كتابه هذا بعد حمد الله والثناء عليه، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما بعد، فقد وقفت على كراسة لبعض العصريين من أهل العراق، سماها "أُنموذج الحقائق "، وضمنها كثيراً من الهذيان والشقاشق، مضمونها الانتصار للشرك بالله، المسمى بالتوسل وتجويز دعوة الأموات والغائبين من دون الله تعالى واستحبابه، والتشنيع على من يمنع من ذلك وسبابه، فأحببت أن أبين بطلان ما تضمنته كراسته من الشبهات الواهية، والترهات المتناهية وأن أزيح شبهاته ببراهين التوحيد الساطعة وأوضح ضلالاته بحجج الكتاب والسنة القاطعة، وكلام علماء الإسلام ومصابيح الاهتداء في الظلام. والرسالة المذكورة شبه لا شيء، لكن ربما يخيل إلى بعض قاصري الأَفهام، أو لعله يحصل عليهم بها إِيهام، ونحن نكتب على بعضها ما تنتقض به شبهاته، وتبطل به خيالاته وترهاته ... وقد تصدى للرد على رسائله التي مضمونها الدعوة إلى الشرك بالله ووسائله، وانتصب لقمع أباطيله، وإِيضاح تلبيسه وأضاليله، جمع من العلماء، وجل من الأئمة الفهماء منهم: شيخنا العلامة فقيه زمانه وقدوة عصره وأوانه، عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، وشيخنا العلامة، واللوذعي الهمام، ناصر الموحدين، وقامع الملحدين عبد الرحمن بن حسن، ومنهم شيخنا العلامة عبد اللطيف بن عبد الرحمن، ومنهم العلامة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 933 المحدث، فخر الديار اليمنية، الشريف محمد بن ناصر الحازمي، والشيخ العلامة المحقق نعمان بن محمود البغدادي". انتهى باختصار1. ولقد كان لهؤلاء العلماء الصادقين مؤهلات عالية وأفكار صالحة في رأب الصدع وجمع الكلمة، واتحاد القوة، ودحض الفرقة ونبذ الخلاف. فهذا الشيخ العلامة عبد الله بن عبد اللطيف الذي سنتحدث عنه وعن سطوع نجمه في عهد الملك عبد العزيز له رسالة إلى المشائخ وكافة الإِخوان من طلبة العلم نتبين منها قوة أثر عقيدة السلف الصالح في علمه وفكره، أولها بعد البسملة: "من عبد الله بن عبد اللطيف إلى جناب الفضلاء والأعلام والمشائخ الكرام إبراهيم بن عبد الله وحمد بن حسين وزيد بن محمد وحمد بن عتيق وصالح الشثري ومحمد بن علي وعلي بن إبراهيم الشثري وإبراهيم بن عميقان وسعود بن مفلح وكافة الإخوان من طلبة العلم ... الخ. وفيه بين الشيخ وجوب النصيحة لله ولكتابه وللأئمة والعامة من المسلمين بالأدلة من الكتاب والسنة، وحث على التفكير المتزن على ضوء الكتاب والسنة ومن أجل رضى الله وابتغاء ما عنده يوم القيامة، وأَنه لابد في التوحيد من العلم به والعمل والدعوة إليه كما هي طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم وأَتباعه في كل زمان ومكان، وهذا واجب على كل إنسان بحسبه وليس   1 الرد على شبهات المستعيين بغير الله، تأليف الشيخ أحمد بن إبراهيم بن عيسى، ص 6-7. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 934 مقصوراً على العالم لعلمه أو على الفاضل لفضله، بل كل بحسبه ومقداره، يجب عليه العلم بالتوحيد والعمل والدعوة، ومع ذلك فالأُخوة الإسلامية باقية، لا يشوبها هوى ولا استكبار عن اتباع الحق مع من كان معه، فإن أشكل فالرد بينهم إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم عند موارد النزاع، والفتن كثيراً ما يلتبس فيها الحق بالباطل، ولكن يجب على المسلم معرفة الحق في ذلك بالبحث والمذاكرة وإظهار ما يعتقده ويدين به، فإن كان حقا سأل ربه الثبات والاستقامة وشكره على التوفيق والإِصابة، وإلا رده إلى من هو أعلم منه بحجة يجب المصير إليها ويقف المرشد عليها، والله عند لسان كل قائل وقصده، ومجازيه بعمله، فلابد من زلة قلم، وعثرة قدم، {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} ، {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} . ثم ذكرهم بنعم الله وأعظمها: بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإسلام وظهوره. ثم شخص أسباب الكفر وبينها، وأهمها موانع في النفوس من هوى وإِرادات ورياسات لا يقوم ناموسها ولا يحصل مقصودها إلا بمخالفة الحق وترك الاستجابة له، وهذا هو المانع في كل زمان ومكان ولولا ذلك ما اختلف من الناس اثنان، ولا اختصم في الإيمان بالله وإِسلام الوجه له خصمان. ثم تطرق إلى تذكيرهم باختصاص الله إياهم بنعمة التوحيد من بين سائر الأمم وأصناف الناس في هذه الأزمان، فأَتاح لهم من أحبار الأمة وعلمائها حبراً جليلا وعلما نبيلا فقيها عارفاً بما كان عليه الصدر الأول، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 935 خبيراً بما انحل من عرى الإسلام، فتجرد للدعوة إلى الله ورد الناس إلى ما كان عليه سلفهم الصالح في باب العلم والإيمان وباب العمل الصالح والإحسان، وترك التعلق على غير الله من الأنبياء والصالحين وعبادتهم، والاعتقاد في الأحجار والأشجار، وتجريد المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الأقوال والأفعال، وهجر ما أحدثه الخلوف والأغيار. وأثنى الشيخ ابن عبد اللطيف على من وازر الشيخ محمد بن عبد الوهاب في تلك الدعوة من أسلاف آل سعود الماضين وقال: "إن الله أظهر لهم من الدولة والصولة ما ظهروا به على كافة العرب، وغدت لهم الرياسة والإمامة رتبة بمجرد السابقة والعادة لا تزحمهم فيها العرب العربا، ولا يتطاول إليها بنو ماء السماء، وصالحهم يرجو فوق ذلك مظهرا، وجاهلهم يرتع في ثياب مجد لا يعرف من حاكها ولا درى، فلم يزل الأمر في مزيد حتى توفى الله شيخ هذه الدعوة ووزيره العبد الصالح رحمهما الله رحمة واسعة، ثم حدث من فتنة الشهوات ما أفسد على الناس الأعمال والإِرادات، وجرى من الابتلاء والتطهير ما يعرفه الفطن الخبير، ثم أدرك سبحانه من رحمته وإِلطافه أهل هذه الدعوة ما رد لهم به الكرة ونصرهم ببركته المرة بعد المرة، وبعضكم أدرك هذا ورآه، ومن لم يدركه بلغه كيف كثر الابتلاء والامتحان لأهل هذه الدعوة ثم تكون لهم العاقبة، وذلك سنة الله السابقة، في أنبيائه ورسله، أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على قدر دينه، وله في ذلك حكمة بالغة". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 936 ثم أورد الشيخ ابن عبد اللطيف الأدلة على بعض أَفراد هذه الحكمة. ثم يصف تلك المحنة ويقول: "إِنها فتنة عم شرها وطار شررها وتفرق الناس فيها أحزاباً وشيعاً ما بين ناكث لعهده، خالع لبيعة إمامه بغير حجة ولا برهان، بغضاً للجماعة ومحبة للفرقة والشناعة، وبين مجتهد لما رأى إِمامه صدر مكاتبة للدولة، وبين واقف عند حده يلوح بين عينيه، إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان، والرابع ضعيف العنان خوار الجنان، مع هؤلاء تارة ومع الآخرين تارة يتبع طمعه، وكل فرقة من هذه الفرق تضلل الأخرى وتفسقها أو تكفرها بل وتنتسب إلى طالب علم تأتم به وتقلده وتحتج بقوله عياذا بالله، والمعصوم من عصمه الله، وحساب الجميع على الله، وهو أعلم بسرائرهم وسيحكم بينهم سبحانه بعلمه". ويقول:"ثم أذهب الله ذلك بالعود إلى الجماعة وتجديد الأخوة الإسلامية، وذهاب الشحناء، وعاد الأمر إلى ما كان عليه من ثبوت الإمامة والدعوة إلى الجماعة وتجديد العهود والمواثيق على ذلك؛ فحمدنا الله تعالى وسألناه المزيد من فضله ورحمته، وكنا مغتبطين وأَذهب الله عنا هباء الشبهات وأطفأ نار تلك الضلالات". ثم جعل الشيخ ابن عبد اللطيف يحذر هؤلاء العلماء خاصة وينصحهم من بوادر بدرت تريد المشاقة وفل جميع المسلمين - إلى أن قال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 937 محذرا: "فاستأنف النهار يا ابن جبير قبل أن تنفرج ذات البين بينكم معشر العلماء ويضلل بعضكم بعضاً أو يفسقه أو يكفره فتكونوا بذلك فتنة لجاهل مغرور، أو ضحكة لذي دهاء وفجور تستباح بذلك أعراضكم، ولا ينتفع بعلمكم، فاعقدوا لكم محضرا، ولو طال منا ومن بعضكم لأجله سفر، للنظر فيما يصلح الإسلام، وتقوم به الحجة، ولو لم يعمل به عامل، تسدوا بذلك عنكم باب الفرقة، نصحاً لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، فأنا والله لا أخال الجرح يندمل، ولا الحية تموت، إلا أن يشاء ربي شيئا، وذلك لكثرة الطلاب لهذا الأمر، فقد وقع والله بكثرتهم البأس وأَعضل واحتاج العاقل للنظر فيما هو الأصلح لدينه، والأرْضى لربه، بالاجتماع على الأسَدِّ فالأسدّ، والأجدِّ فالأجدّ1، والأصلح فالأصلح، فإن الشيطان متكىء على شماله متحيل بيمينه فاتح حصنه لأهله، يدأب بين الأمة بالشحناء والعدواة عنادا لله ولرسوله ولدينه تأليباً وتأنيباً يوسوس بالفجور، ويدلي بالغرور، ويزين بالزور، ويمني أهل الفجور والشرور، يوحي إلى أوليائه بالباطل دأباً له منذ كان، وعادة له منذ أهانه الله في سالف الأزمان، لا ينجو منه إلا من أحب الآجل وغض الطرف عن العاجل، وقط هامة عدو الله وعدو الدين باتباع الحق والعمل   1 انظر: الدرر السنية، ففيها نص هذه الرسالة كاملا ج7 ص 265-272. والأجد فالأجد يعني الأكثر جدا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 938 به، رضي ذلك من رضيه وسخطه من سخطه". هذا هو الشيخ عبد الله ذو الرأي السديد، والعقيدة السليمة، والعلم الرشيد وقد كان الملك عبد العزيزكما سيأتى الحديث عنه في الدور الثالث كان موفقا غاية التوفيق حيث اختاره وقربه إليه، واعتبره المرجع في بيان منهج السلف الصالح وعقيدتهم، التي صمم العزم على نصرتها واستعادة مكاسبها، كما صمم أسلافه عزمهم وإِرادتهم التي تضعضعت أمامها الممالك والقوى من حولهم. هذا وما زال مشائخ الدعوة في تلك الفترة بعد انتهاء الدور الثاني من أدوار دولة آل سعود مازال مشائخ الدعوة يحملون عقيدة السلف الصالح، ويبثون العلم بها بين الناس رغم ضعفهم وقلتهم وهوانهم على الناس وغيبة الناصر لها لأن الله سبحانه وتعالى تكفل بحفظ دينه، وكما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنه لا تزال طائفة على الحق لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم إلى قيام الساعة وقد أنعم الله سبحانه على هاتين الأسرتين الكريمتين. فمهما بقيت عداوة من يعاديهما من أجل عقيدة السلف الصالح والمحافظة عليها، فسوف يبقي الله هاتين الأسرتين ما يغيظ أعداءهم الذين ما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد، وهذا هو أثر عقيدة السلف الصالح الذي لا يتخلف أبدا حتى قيام الساعة كما قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} ولذا فقد قيض الله لأهل هذه العقيدة السلفية السليمة الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 939 آل سعود. وبقيام الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود يبدأ الدور الثالث من أدوار دولة أنصار عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية- فإلى ذلك في الفصل التالي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 940 الفصل الرابع: أثر عقيدة الشيخ السلفية في الدور الثالث الحاضر إن الله سبحانه وتعالى عاد بعائدته، كما جرت به سنته للطائفة المنصورة فقيض الله لعقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية إماما راشدا وسلطاناً نصيرا وملكا حاميا، ألا وهو أبو الملوك، الملك عبد العزيز ابن عبد الرحمن آل سعود رحمهم الله تعالى، الذي سار على سنة آبائه في نصرة عقيدة السلف الصالح وإِعزاز أهل الدين الحق واستعادة مكاسب آبائه من ذلك وتجديد مجدهم وإِحياء سنتهم الراشدة. يقول الشاعر الأديب العالم محمد بن عثيمين رحمه الله يخاطبه: أرضيتَ آباءك الغر الكرام بما ... جددت من مجدهم من بعد ما بانوا نبهت ذكراً توارى منه حين علا ... للمارقين ضباب فيه دخان فجئت بالسيفِ والقرآن معتزما ... تُمضي بسيفك ما أَمضاه قرآن حتى انجلى الظلم والإظلام وارتفعت ... للدين في الأرض أعلام وأركان دين ودنيا وبأس في الوغى وندى ... تفيض من كفه بالجود خُلْجَانُ1   1 العقد الثمين، من شعر محمد بن عثيمين، جمعه ورتبه وشرح ألفاظه سعد بن عبد العزيز بن رويشد ص 82- 85. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 941 ويقول فيه أيضا: تلألأت بك للإسلام أنوار ... كما جرت بك للإسعاد أقدار إن الذي قدَّر الأشيا بحكمته ... لما يريد من الخيرات يختار والعبد إن صلحت لله نيته ... لابد يبدو لها في الكون آثار إلى أن قال يخاطبه: تألفتْ بك أهواءٌ مفرقةٌ ... تَأَجَّجت بينهم من قَبْلِك النار فأصبحوا بعد توفيق الإله لهم ... بعد الشَّقَا والجفا في الدين أخيار إلى أن قال: كنا نمر على الأموات نغبطهم ... من قَبْله إذ تولَّى الأمر أشرارُ فالآن طابت به الأيام إذ أخذت ... به لأهل الهدى والدين أوتارُ1 ويقول فيه أيضا: إمام هدى للرشد يهدي ويهتدي ... مقيم سواء بالرعيةِ يرفق إلى أن قال: فيا معشر الإخوان دَعْوَة صارخ ... لكم ناصحٌ بالطبع لا مُتخلِّق يود لكم ما يمتنيه لنفسه ... ويعلم أن الحب في الله أوثق تحاموا على دين الهدى مع إمامكم ... وكونوا له بالسمع جندا توفقوا وإياكم والافتراق فإنه ... هو المهلك في الدنيا وللدين يوبق   ـ1 المصدر السابق ص 108، 109-110. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 942 فو الله ثم الله لا رب غيره ... يمين امرىء لا مفتر يتملَّق لما علمت نفسي على الأرض مثله ... إماما على الإسلام والخلق يشفق1 وصدق ابن عثيمين، فإن عبد العزيز، الإمام لما خرج من الكويت، خرج وهو يريد أن يسترد مكاسب العقيدة السلفية، التي اكتسبها آباؤه، حين تأثروا بعقيدة السلف الصالح، وطبقوها، وقد علم يقينا أن مفتاح استردادها هو العمل لنصرتها كما كان آباؤه وأجداده، ولن يصلح آخرهم إلا ما صلح أولهم ولا سبيل لبلوغ هذه الغاية إلا التمسك بالشريعة السمحاء وإقامة حدود الله والحكم بما أنزل الله وفي سبيل ذلك لابد من نشر العلم والمعرفة بعقيدة سلفنا الصالح، وتعليم فرائض الدين وأحكام الشريعة كما كان هذا هو منهجهم أيضا. وما أن أظهره الله بالاستيلاء على الرياض إلا وكان أول همته تقريبه العلماء، وتكريمه لآل الشيخ من أجل الشيخ وعهده مع جده، ولأجل ما يتصفون به من علم راسخ وعمل ثابت. وقد كان الملك يشارك العلماء في البيان والنصيحة وبيان منهج السلف الصالح في تطبيق العقيدة تطبيقا عملياً لرعيته حتى يجنبهم المخاطر ودروب الهلاك والفرقة مع كونه يجمعهم مع العلماء في مجالس يبينون لهم، ويكشفون عنهم الشبه، ومن ذلك مجلس عقده وفيه جمع من العلماء،   1 المصدر السابق، ص 122-123. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 943 وبعده وجه نداء عاما شرح فيه حقيقة ما هو عليه من العقيدة هذا نصه: "بسم الله الرحمن الرحيم من عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل آل سعود إلى الإِخوان وفقنا الله وإياهم إلى فعل الخيرات وترك المنكرات آمين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد ذلك: تفهمون أَن الله سبحانه وتعالى قد أنعم علينا بنعمة الإسلام ومن علينا بأن جعلنا من أهله، ولا يخفى عليكم ما مضى عليه أسلافكم من الأعراب من انحرافهم عن الدين والتقيد بشريعة سيد المرسلين، بما يأتونه من ارتكاب الأمور التي تغضب الله ورسوله، من استحلال الدماء ونهب الأموال وترك فرائض الإسلام، فأنتم اليوم لما أنَّ الله جل شأنه مَنَّ عليكم بهدايته لكم على دينه القويم وجب عليكم أن تقيدوا تلك النعمة بالشكر للمنعم تبارك وتعالى، وأعظم الشكر لله هو اتباع أمره واجتناب نهيه، على وفق ما جاء به نبيه الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام، وأَن لا تحيدوا عنه ذات اليمين وذات الشمال، فتكونوا من الهالكين. إني أريد أن أشرح لكم حقيقة ما نحن عليه من العقيدة في الدين، التي أشار إليها العلماء في جوابهم السابق في هذا المجلس، فاسمعوا واحفظوا عني ما أقوله لكم تنجوا من المهالك: إن أصل الدين كتاب الله تعالى، وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان، فهم السلف الصالح ثم الأئمة الأربعة من بعدهم، أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل رضى الله عنهم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 944 وعن سلف الأمة من الصحابة ومن تبعهم إلى يوم القيامة، فإن هؤلاء الأئمة المقتدى بهم عند جميع المسلمين من أهل الكتاب والسنة، فإنه لا خلاف بينهم في أصل الدين، من توحيد الله تعالى في ربوبيته وفي أُلوهيته وأسمائه وصفاته وهذا - والحمد لله - ثابت في كتبهم الموجودة بين أيديكم، وإن حصل بينهم اختلاف في الفروع، فما ذاك إلا من شدة حرصهم وتمسكهم بكتاب ربهم، وما صح عن نبيهم صلى الله عليه وسلم واستخراج معانيهما، كل منهم على قدر ما آتاه الله من العلم والفهم في دينه، وكلهم إن شاء الله تعالى على حق، ومن سلك طريقهم وحذا حذوهم إلى يوم القيامة. فهذا الذي ندين لله به، وهو اعتقادنا نحن واعتقاد مشايخنا وأسلافنا وهو الصراط المستقيم، والميزان العدل، فمن استقام عليه فهو المتبع المهتدي ومن حاد عنه وهو جاهل فيجب عليه الرجوع والتوبة إلى الله تبارك وتعالى، ومن خالفه معتقدا بطلانه فهذا ليس على شيء من الدين، لا أصله ولا فرعه، نعوذ بالله من ذلك، ولا يقال عن هذا إِنه مكذب للمشايخ، بل مكذب لكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. وإِن من حضر منكم هذا المجلس المبارك، وسمع كلام العلماء بغير واسطة، فقد قامت عليه الحجة، وليس هو بمعذور بما يأتيه من المخالفة وعلى الشاهد أن يبلغ الغائب، وإني أحذركم من التفرق في الدين وتتبع الخلافات فيه، فإن هذا من أعظم أسباب الهلاك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 945 وإنكم في زمن قد تشعبت فيه الأمة الإسلامية وكثرت فيها الفرق وفشت فيها البدع، ودنس وجه الدين بما ليس منه، وكثرت فيه شبه الضالين المضلين، غير أَنه بحمد الله لم يخل زمان من قائم لله في أمر دينه ينفي عنه غلو الغالين وانتحال المبطلين، أولئك هم علماء الدين، وهم ورثة الأنبياء وهم الحافظون لدين الله تعالى، حيث أقامهم لذلك: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} وكل يدعي أَنه القائم لله بحفظ دينه، ولكن ميزان العدل في ذلك هو اتباع هذا النبي الكريم: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} . إني أرشدكم إلى أعظم قائم لله تعالى في نصر دينه، بعد الأئمة الأربعة رضي الله عنهم، وذلك بعد أن كثرت الملل والنحل، وتشعبت الأهواء، وتفرق الناس شيعا كل حزب بما لديهم فرحون، ذلك: هو شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه الإمام محمد بن قيم الجوزية - رحمهما الله تعالى-، ومن هو على طريقتهم في الدعوة والتحقيق إلى يوم القيامة، فقد قام هذان الشيخان بما أوجبه الله على العلماء من بيان الحق، وعدم كتمانه، ولم تأخذهما في الله لومة لائم، فقد توفي الشيخ ابن تيمية رحمه الله بينما كان محبوسا في قلعة دمشق، وما ذنبه إلا بيان الحق والدعوة إليه وإبطال ما خالفه من العقائد الزائفة، والطرائق الضالة الفاسدة، فهذه كتب هذين الشيخين بحمد الله بين أيديكم قد سهل الله نشرها بعد أن كانت مدفونة في زوايا الترك والإِهمال، فعليكم بمطالعتها، فإنها بأَدلة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 946 الكتاب والسنة تجلو عن القلوب صداها، وبمآثر الصحابة وهديهم تميط عن الأبصار غشاها. وهذا شيخنا ذلك الإمام1 الوحيد في زمانه، الجليل القدر رحمه الله تعالى، قد قام بما قام به هذان الشيخان من الدعوة إلى تحقيق التوحيد لله تعالى في أسمائه وصفاته وتوحيده في أُلوهيته، بإِفراده بالعبادة له، وحده لا شريك له بجميع أنواعها، وهذا التوحيد هو أصل بعثة الرسل من نوح إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 2. وهذا التوحيد هو أصل الأصول للدين، الذي لا يجوز التقليد فيها، فعليكم بالتفقه في دينكم واتباع نبيكم صلى الله عليه وسلم وسلفكم الصالح من الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم القيامة. وقد تقدم لكم البيان بأَننا في الأصل على القرآن، وفي الفروع على مذهب الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه. إن هذا المقام ليس مقام تفصيل وإِطالة، بل هو مقام نصيحة وتنبيه لكم فيما تأتونه من أمور دينكم بأن تكونوا فيه على بصيرة، قال تعالى:   1 يعني الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى. 2 سورة الأنبياء: 25. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 947 {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 1 وقال تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} 2. فمن كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر وقصده في هجره البداوة، وانتسابه إلى الخير طلب رضا الله تعالى والتماس ما عنده من الثواب لمن تاب إليه وأناب؛ فلا يتمسك أحدكم بأموردينه برأيه، وليس الدين بالاستحسان، فكل طريق إلى الحق غير طريق نبيه صلى الله عليه وسلم فإنه مسدود، وكل عمل على غير سنته فهو إلى صاحبه مردود فاتبعوا ولا تبتدعوا، وقاربوا فمن سار على الدرب وصل. وهذا ما يجب لكم علينا من النصيحة، فمن خالف ما بيناه لكم بقول أو فعل فذمتنا وذمة المسلمين منه بريئة ولا يأمن البطش بنفسه وبحلاله ومن أنذر فقد أعذر. نرجو الله أن يوفقنا وإياكم للخير، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته وأن يجعلنا وإياكم من أنصار دينه وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين" 3. وفي موضع آخر يقول الملك عبد العزيز: " على أَنه في آخر الأمر   1 سورة الحشر: 7. 2 سورة الأنبياء: 7. 3 تاريخ المملكة العربية السعودية فى ماضيها وحاضرها، تأليف صلاح الدين المختار، ج2 ص 152- 155. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 948 أظهر الله شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم ثم بعدهما الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله ونفع بهم الإسلام والمسلمين، وخصوصا محمد بن عبد الوهاب، عندما اندرست أعلام الإسلام، وكثرت الشبهات والبدع، فلما رأى أسلافنا موافقة أقوالهم وأفعالهم لما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم قبلوا ذلك وقاموا بما أظهره الله على أيديهم، ونحن إن شاء الله على سبيلهم ومعتقدهم، نرجو أن يحيينا على ذلك، ويميتنا عليه، وقد عرفناكم بذلك لموجب ذكر المشائخ في الاعتقاد، والعمدة على ما ذكروه". إلى أن قال: "ومن أَشكل عليه شيء من الأمور فليرده إلى طالب العلم المنصوب عندكم بأمر الولاية ورضى المشائخ" 1. وله رسالة إلى من يراه من علماء المسلمين وإخوانهم المنتسبين في سنة 1339هـ يقرر فيها ما كتبه إليهم المشائخ: حسن بن حسين، وسعد ابن حمد بن عتيق، وسليمان بن سحمان، وصالح بن عبد العزيز، وعبد الرحمن بن عبد اللطيف، وعمر بن عبد اللطيف، وعبد الله بن حسن، ومحمد ابن إبراهيم بن عبد اللطيف، وكافة آل الشيخ؛ حيث كتبوا يذكرون بما أظهر الله على يد الشيخ محمد بن عبد الوهاب من دين الإسلام والعمل به، ثم ذريته من بعده سلكوا على منواله، وأيدهم الله   1 نجد وملحقاته، وسيرة عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل آل سعود، ملك الحجاز ونجد وملحقاتهما تأليف أمين الريحاني ط 3 ص 435-436. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 949 بولاة الأمر من آل سعود، وآخر من قام بهذا الأمر في زمانهم الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف، ثم يبينون أَنه من المتعين على الجميع لزوم الاقتداء بهم، والسلوك على منهاجهم، وأَنه لا ينبغى لأحد من الناس العدول عن طريقة آل الشيخ، ومخالفة ما استمروا عليه من أصول الدين؛ فإِنه الصراط المستقيم، الذي من حاد عنه فقد سلك طريق أصحاب الجحيم، وكذلك في مسائل الأحكام والفتوى لا ينبغى العدول عما استقاموا عليه، واستمرت عليه الفتوى منهم، لأن الاختلاف بين الناس - خصوصا في جهة نجد - لابد أن يكون سبب شر وفساد وفتنة، وسد باب الشر والفتن والفساد أمر مطلوب في الشريعة، بل من أعظم مقاصدها؛ كما لا يخفى. فقرر الملك على ذلك قائلا: "هذا كتاب إخوانكم المشائخ تشرفون عليه والعمل إن شاء الله على مافيه، ثم بعد ذلك ما هو بخافيكم أول منشأ هذا الأمر وتقويمه إنه من الله ثم أسباب الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، وأوائلنا رحمهم الله، وما جرى على المسلمين من اختلاف ولايتهم مرارا وكلما اختلف الأمر وشارف الناس لنقض دين الله وإِطفاء نوره؛ أَبَى الله وأخرج من ها الحمولتين من يقوم بذلك حتى إِن آخرهم والدنا وشيخنا الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 950 إلى أن قال الملك: "والحمد لله ما حنا1 في شك من أمر ديننا، وتفهمون أَنه من حين أظهر الله الشيخ محمد بن عبد الوهاب في قرن أطيب من وقتنا ورجال أطيب من رجالنا وعلماء أطيب من علمائنا، فسدد الله به، وقام بهذه الكلمة وجدد الله أمر هذا الأصل، وأنقذ الله بأسبابه الناس من الظلمات إلى النور، فبان أمره لأولي الأبصار وخفي ذلك على كثير من الناس، وعاند من أزاغ الله قلبه وأعمى بصيرته، وقبل هذا الحق ورضيه آباؤنا وأجدادنا وعلماء المسلمين فيما أتى به من الأصل والفروع ويتعين علينا إن شاء الله أن نقتدى بما اقتدوا به". إلى أن قال الملك: " فالآن يكون الأمر على ما ذكر المشائخ أعلاه فمن أفتى أو تكلم بكلام مخالف لما عليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأولاده عبد الله وعبد الرحمن وعبد اللطيف وعبد الله بن عبد اللطيف فهو متعرض للخطر، لأننا نعرف أَنه ما يخالفهم إلا إنسان مراوز للشر والفتنة بين المسلمين". إلى أن قال الملك مستثنيا: "إلا إِن كان هنا إنسان عنده في مخالفتهم دليل من الكتاب أو السنة" ... إلخ ما قاله رحمه الله2.   1 الدرر السنية ج11 ص 131-134، ويلاحظ أن الملك يتكلم بلهجة عامة الرعية وذلك أبلغ فى أنفسهم، ومعنى: (ماحنا) : أي ما نحن، و (مراوز للشر) : هو من يريد موافقة الشر. 2 انظر: الحاشية السابقة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 951 ومن كلمات الملك عبد العزيز وخطبه قوله: " إني مسافر إلى مكة لا للتسلط عليها بل لرفع المظالم والمغارم التي أرهقت كاهل عباد الله، إني مسافر إلى حرم الله لبسط أحكام الشريعة وتأييدها، فلن يكون بعد اليوم سلطان إلا للشرع. ثم استطرد قائلا: " ... الذي أبغيه من هذه الديار أن تعمل بما في كتاب الله وسنة نبيه في الأمور الأصلية أما في الأمور الفرعية فاختلاف الأئمة رحمة " 1. ومن خطبة له بمكة يقول: "أَنا بذمتكم وأنتم بذمتى، إن الدين النصيحة، أنا منكم وأنتم مني، هذه عقيدتنا في الكتب، بين أيديكم؛ فإن كان فيها ما يخالف كتاب الله، فردونا عنه واسألونا عما يشكل عليكم فيها، والحكم بيننا كتاب الله وما جاء في كتب الحديث والسنة". ويقول: "ما كنا عرباً إلا بعد ما كنا مسلمين، كنا عبيدا للعجم، ولكن الإسلام جعلنا سادة، ليس لنا فضيلة إلا بالله وطاعته واتباع محمد، ويجب أن نعرف حقيقة ديننا وعربيتنا، ولا ننساهما. كل حرية باطلة، إلا حرية الإسلام، والإنسان لا ينفع إلا بالدين، ونحن لا نبغي محاربة أوربا، وإنما نطلب حقوقنا باتحادنا فنعتصم بالله،   1 تاريخ المملكة العربية السعودية، للصف الثالث المتوسط، ط 1 عام 1394 هـ ص 210. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 952 والإسلام أكبر وسيلة وأكبر حصن، هو أكبر مزايا الحسب والنسب، فيجب على المسلم محبة دينه وشعبه ووطنه". ويقول في خطبة له بمكة أيضا: "يسموننا بالوهابيين، ويسمون مذهبنا بالوهابي. باعتبار أَنه مذهب خاص وهذا خطأ فاحش، نشأ عن الدعايات الكاذبة التي كان يبثها أهل الأغراض، "نحن لسنا أصحاب مذهب جديد، أوعقيدة جديدة، ولم يأت محمد ابن عبد الوهاب بالجديد، فعقيدتنا هي عقيدة السلف الصالح التي جاءت في كتاب الله وسنة رسوله وما كان عليه السلف الصالح، ونحن نحترم الأئمة الأربعة، ولا فرق بين الأئمة مالك والشافعى وأحمد وأبي حنيفة؛ كلهم محترمون في نظرنا" 1. ومن خطبتين له في مكة إحداهما عام 1353هـ يقول: " هذه عقيدتنا في الكتب التي بين أيديكم، فإن كان فيها ما يخالف كتاب الله فردونا عنه ... والحكم بيننا وبينكم كتاب الله وما جاء في كتب الحديث والسنة. إننا لم نطع (ابن عبد الوهاب) وغيره إلا في ما أيدوه بقول من كتاب الله وسنة رسوله، وقد جعلنا الله، أنا وآبائي وأجدادي مبشرين ومعلمين بالكتاب والسنة وما كان عليه السلف الصالح، ومتى وجدنا الدليل القوي في أي مذهب من المذاهب الأربعة، رجعنا إليه وتمسكنا به،   1 الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز، تأليف خير الدين الزركلى ص 217. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 953 وأما إذا لم نجد دليلا قويا؛ أخذنا بقول الإمام أحمد؛ فهذا كتاب " الطحاوية " في العقيدة الذي نقرأه وشرحه للأحناف وهذا تفسير " ابن كثير" وصاحبه شافعي1. ويقول ينبه بعض المستعمرين: " قد فاتكم أن الراعي مسئول عن رعيته وقد فاتكم أن صاحب السيادة لا يستقيم أمره إلا بالعدل والإحسان، وقد فاتكم أن العرب لا ينامون على الضيم، ولا يبالون إذا خسروا كل ما لديهم وسلمت كرامتهم" 2. ولما دخلت بلاد الحجاز في ولاية الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود حصل اتفاق بين علماء مكة ونجد وقد نشرته رئاسة إدارات البحوث العلمية والإِفتاء والدعوة والإِرشاد بالمملكة العربية السعودية بعنوان: " البيان المفيد فيما اتفق عليه علماء مكة ونجد عن عقائد التوحيد"، وقد اشتمل على بيان ما يجب على الأمة الإسلامية اعتقاده من توحيد الله تعالى وإفراده بالعبادة وتحذيرها من كل ما يخالف كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كدعاء غير الله والاستغاثة والاستعانة بالأموات وطلب الشفاعة منهم، والذبح والنذر لغير الله، وكالحلف بغير الله وتعظيم القبور   1 تاريخ البلاد العربية السعودية، تأليف الدكتور منير العجلاني ص 229. 2 تاريخ المملكة العربية السعودية للصف الثالث المتوسط ط 1 عام 1394 هـ ص 211. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 954 بغير ما شرع الله من البناء عليها واتخاذها مساجد وشد الرحال إليها والطواف حولها والتبرك بها مما عمت به البلوى، وقد سبق نشرها في جريدة أم القرى في أجزاء متفرقة في سنة 1343 هـ ثم جمعت في رسالة تحت عنوان: " البيان المفيد فيما اتفق عليه علماء مكة ونجد من عقائد التوحيد " وطبعت عام 1344هـ ثم ضم إِليها مناظرة في نفس الموضوع جرت بين علماء مكة ونجد نشرتها " جريدة أم القرى " يوم الجمعة 15/5/ 1343هـ، وطبعت بمطابع دار الثقافة بمكة عام 1398هـ طبعتها الثانية، وأولها نداء عام من علماء بلد الله الحرام إِلى أمتنا الكريمة وإلى شعبنا النبيل، بينوا فيه ذلك المضمون الذي ذكرناه، ووقعه كل من الشيخ محمد المرزوقي قاضي مكة المكرمة والشيخ عبد الله بن إبراهيم حمدوه، والشيخ سعد وقاص، والشيخ حسين مكي الكتبي، والشيخ عيسى دهان، والشيخ عبد القادر أبو الخير مرداد، والشيخ محمد سعيد أَبو الخير، والشيخ أَبو بكر ابن محمد خوقير، والشيخ حسين عبد الغني، والشيخ محمد نور محمد الفطاني، والشيخ محمد عرابي سجيني، والشيخ عباس المالكي، والشيخ محمد أَمين فوده، والشيخ محمد جمال المالكي، والشيخ محمد عبد الهادي كتبي، والشيخ درويش عجيمي. ثم أَعقبه خطاب رئيس القضاة الشيخ عبد الله بن بليهد الذي ألقاه في الاجتماع الذي عقد بين علماء نجد وعلماء مكة المكرمة، ثم ذكر المناظرة التي وقعت بين علماء مكة وعلماء نجد وما توصلوا إليه واتفقوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 955 عليه في بيان نذكر نصه كما يلي: " بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده: من علماء حرم الله الشريف وأئمته الشيخ محمد حبيب الله الشنقيطي، والشيخ عمر باجنيد أَبي بكر، والشيخ درويش عجيمي، والشيخ محمد مرزوقي، والشيخ أحمد بن علي النجار، والشيخ جمال المالكي، والشيخ عباس المالكي، والشيخ حسين بن سعيد بن محمد بن سعيد عبد الغني، والشيخ حسين مفتي المالكية والشيخ عبد الله حمدوه، والشيخ عبد الستار، والشيخ سعد وقاص، والشيخ عمر بن صديق خان، والشيخ عبد الرحمن الزواوي إِلى من يراه من علماء الحكومات الإِسلامية وملوكهم وأمرائهم ... أما بعد؛ فقد اجتمعنا نحن المذكورين مع مشايخ نجد حين قدومهم إِلى الحرم الشريف مع الإمام عبد العزيز حفظه الله، وهم: الشيخ عبد الرحمن بن عبد اللطيف، والشيخ عبد الله بن حسن، والشيخ عبد الله بن عبد الوهاب بن زاحم، والشيخ عبد الرحمن بن محمد بن داود، والشيخ محمد بن عثمان الشاوي، والشيخ مبارك بن عبد المحسن بن باز، والشيخ إبراهيم بن ناصر بن حسين، فجرى بيننا وبين المذكورين والمحترمين مباحثة فعرضوا علينا عقيدة أهل نجد وعرضنا عليهم عقيدتنا، فحصل الاجتماع بيننا وبينهم بعد البحث والمراجعة في مسائل أصولية: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 956 منها: أن من أقر بالشهادتين وعمل بأركان الإِسلام الخمسة ثم أتى بمكفر ينقض إِسلامه قولي أو فعلي أو اعتقادي إنه يكون كافرا بذلك يستتاب ثلاثا، فإن تاب وإلا قتل. ومنها: من جعل بينه وبين الله وسائط من خلقه؛ يدعوهم في جلب نفع أو دفع ضر، أو يقربونه إلى الله زلفى أنه كافر يحل دمه وماله، ومن طلب الشفاعة من غير الله لا يقدر عليه إلا الله؛ أن ذلك شرك، فإِن الشفاعة ملك لله ولا تطلب إلا منه، ولا يشفع أَحد إلا بإذنه، كما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} (البقرة: 255) . وهو لا يأذن إلا فيمن رضي قوله وعمله؛ كما قال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} (الأنبياء: 28) وهو لا يرضى إِلا بالتوحيد والإخلاص. ومنها: تحريم البناء على القبور، وإسراجها وتحري الصلاة عندها أن ذلك بدعة محرمة في الشريعة. ومنها: أن من سأل الله بجاه أحد من خلقه فهو مبتدع مرتكب حراما. ومنها: أَنه لا يجوز الحلف بغير الله لا الكعبة ولا الأمانة ولا النبي ولا غير ذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من حلف بغير الله فقد أشرك". فهذه المسائل كلها لما وقعت المباحثة فيها حصل الاتفاق بيننا وبين المذكورين ولم يحصل خلاف في شيء، فاتفقت بذلك العقيدة بيننا معاشر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 957 علماء الحرم الشريف وبين إخواننا علماء أهل نجد، نسأل الله أن يوفق الجميع لما يحبه ويرضاه آمين وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم" انتهى. وهكذا يحصل الاتفاق على الحق، ويحصل زهوق الباطل " إن الباطل كان زهوقا". وكتب الملك عبد العزيز إلى الشيخ أبي اليسار الدمشقي، وناصر الدين الحجازي نزيل دمشق، كتب إِليهما في الشام كتابا يعتبر منشورا إعلاميا وبيانا لما عليه الملك عبد العزيز من عقيدة السلف الصالح، ونورد نصه لأنه وثيقة لا يقدر أحد أن ينكرها: " بسم الله الرحمن الرحيم من عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل إلى جناب الأخوين المكرمين الشيخ الفاضل أبو اليسار الدمشقي، وناصر الدين الحجازي، سلمهما الله تعالى، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. " أما بعد فإِني أحمد إليكما الله الذي لا إِله إلا هو على نعمه التي من أجلِّها نعمة الإسلام، ونشكره سبحانه إذ جعلنا من أهلها وأَنصارها والذابين عنها، ونسأله أن يصلي على عبده ورسوله وحبيبه وخيرته من خلقه محمد وآله وصحبه وحزبه. وغير ذلك ورد علينا ردكم على عبد القادر الإسكندراني فرأيناه ردا سديدا وجوابا صائبا مفيدا، وافيا بالمقصود، فحمدنا الله على ما من به عليكم من معرفة الحق والبصيرة فيه، وعرضناه على مشائخ المسلمين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 958 فاستحسنوه وأجازوه. فالحمد لله الذي جعل لأهل الحق بقية وعصابة تذب عن دين المرسلين وتحمي حماه عن زيغ الزائغين، وشبه المارقين والملحدين، فلربنا الحمد لا نحصي ثناء عليه، بل هو كما أَثنى على نفسه، وفوق ما يثنى به عليه خلقه. وهذه منة عظيمة، ومنحة جليلة جسيمة، حيث جعلكم الله في هذه الأزمان التي غلب على أَكثر أهلها الجهل والهوى والإعراض عن النور والهدى، واستحسنوا عبادة الأَصنام والأَوثان، وصرفوا لها خالص حق الملك الديان، ورأوا أَن ذلك قربة ودينا يدينون به، ولم يوجد من أَزمان متطاولة من ينهى عن ذلك أو يغيره، فعند ذلك اشتدت غربة الإِسلام واستحكم الشر والبلاء، وطمست أَعلام الهدى، وصار من ينكر ذلك ويحذر عنه خارجيا قد أَتى بمذهب لا يعرف لأنهم لا يعرفون إِلا ما أَلفته طباعهم وسكنت إِليه قلوبهم، وما وجدوا عليه أَسلافهم وآباءهم من الكفر والشرك والبدع والمنكرات الفظيعة، فالعالم بالحق والعارف له والمنكر للباطل والمغير له يعد بينهم وحيدا غريبا. فاغتنموا رحمكم الله الدعوة إِلى الله وإِلى دينه وشرعه، ودحض حجج من خالف ما جاءت به رسله ونزلت به كتبه من البينات والهدى، وأَن تكون الدعوة إِلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة بالحجة والبيان، حتى يمن الله عليكم بمن يساعدكم على هذا، فإِن القيام في ذلك من أوجب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 959 الواجبات، وأهم المهمات وأفضل الأَعمال الصالحات لا سيما في هذا الزمان الذي قلَّ خيره وكثر شره، قال صلى الله عليه وسلم: "من دعا إلى هدى، كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أَن ينقص من أجورهم شيء"، وقال لعلي بن أَبي طالب رضي الله عنه: "فو الله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم" ونحن إن شاء الله من أنصاركم وأعوانكم. ومن حسن توفيق الله لكم أن أقامكم في آخر هذا الزمان دعاة إلى الحق وحجة على الخلق فاشكروه على ذلك، واعلموا أن من أقامه الله هذا المقام لابد أن يتسلط عليه الأعداء بالأذى والامتحان، فليقتد بمن سلف من الأنبياء والمرسلين، ومن على طريقهم من الأئمة المهديين، ولا يثنيه ذلك عن الدعوة إلى الله، فإن الحق منصور وممتحن، والعاقبة للمتقين في كل زمان ومكان. وهذه1 هدية نهديها إليكم من كلام علماء المسلمين وبيان ما نحن ومشائخنا عليه من الطريقة المحمدية والعقيدة السلفية ليتبين لكم حقيقة ما نحن عليه وما ندعو إليه، نحن وسلفنا الماضون نسأل الله لنا ولكم التوفيق، والهداية لأقوم منهج وطريق، والسلام"2.   1 إشارة إلى كتاب الهدية السنية للشبخ سليمان بن سحمان المطبوعة بمصر سنة 1344 هـ. 2 الدرر السنية ج1ص 303-305. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 960 والهدية السنية التي أشار إليها الملك عبد العزيز وقال إنها تبين حقيقة ما نحن عليه وما ندعو إليه، نحن وسلفنا الماضون هي مجموعة رسائل خمس لكبار أئمة نجد وعلمائها جمع وترتيب الشيخ سليمان بن سحمان طبعت بأمر ملك الحجاز وسلطان نجد عبد العزيز آل سعود، وقف على طبعها وعلق عليها بعض الفوائد والإِيضاحات محمد رشيد رضا، الطبعة الثانية في سنة 1344هـ، بمطبعة المنار بمصر وأعيد طبعها في مطابع دار الثقافة بمكة المكرمة، على نفقة فهد بن قاسم بن علي آل ثاني عام 1393هـ، وهي عبارة عن: رسالة من الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود إلى من يراه من العلماء والقضاة في الحرمين والشام ومصر والعراق وسائر علماء المشرق والمغرب يشرح فيها حقيقة العبادة ويبين التوحيد والفرق بين حق الله وحق أنبيائه وأوليائه ويحذر من الشرك ويبينه ما هو ليجتنب، وسبق ذكرها في أثر عقيدة الشيخ في الدور الأول من أدوار دولة أنصارها1. والثانية من الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد، وسبق ذكرها في أثر عقيدة الشيخ في الدور الأول من أدوار دولة أنصارها2، وفيها شرح مذهب الشيخ وأنصاره وأتباعه، وأنه مذهب أهل السنة والجماعة، وهي   1 انظر: الفصل الثاني من الباب الثاني من هذا البحث. 2 انظر: الفصل الثالث من الباب الثاني من هدا البحث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 961 عبارة عن محضر سجل ما وقع بالفعل ووثيقة تاريخية لا يقدر أحد أن ينكرها. والرسالة الثالثة هي: "الفواكه العذاب في الرد على من لم يحكم السنة والكتاب" للشيخ حمد بن ناصر بن معمر، وهي كذلك وثيقة تاريخية سجلت مناظرة وقعت بين الشيخ حمد بن معمر وأصحابه وبين علماء مكة وأعيانها في دعاء غير الله وتمييز الشرك من التوحيد وفي حكم تارك الصلاة والزكاة وفي حكم البناء على القبور، وسبق ذكرها أيضا في أثر عقيدة الشيخ في الدور الأول من أدوار دولة أنصارها1. والرسالة الرابعة للشيخ عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ في نبذة من سيرة جده الشيخ محمد بن عبد الوهاب ومجمل عقيدته وأَتباعه، وهي نبذة أصيلة من مؤتمن لا يشك في أمانته العلمية، فتعتبر أصدق مرجع في زمانها يؤخذ منه حقيقة ما عليه الشيخ محمد وأتباعه وأنصاره، وسبق ذكرها في الدور الثاني من أدوار دولة أنصارها2. والرسالة الخامسة للشيخ محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ تتضمن سجلا بما عمله الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن من بعثه هذا الشيخ إلى اليمن وعسير وتهامة لينشر عقيدة السلف الصالح هناك ويبين التوحيد   1 انظر: الفصل الثالث من الباب الثاني (2/ 924) من هدا البحث. 2 انظر: الفصل الثالث من الباب الثاني (2/921) من هدا البحث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 962 ليعمل به والشرك ليجتنب، وهي وثيقة تاريخية جليلة لا يقدر أحد أن ينكرها أو أن ينكر صلتها الحاضر بالماضي وبيانها أن الحاضرلم ينحرف عن الماضى، وإنما على سننه- كما قال الملك عبد العزيز: "هدية نهديها إليكم من كلام علماء المسلمين، وبيان ما نحن ومشائخنا عليه من الطريقة المحمدية، والعقيدة السلفية، ليتبين لكم حقيقة ما نحن عليه، وما ندعو إليه، نحن وسلفنا الماضون". ثم ختامها بقصيدة دالية للشيخ سليمان بن سحمان في جملة عقيدة الشيخ السلفية وقصيدة من صاحب لنجه في بيان طريقة الشيخ، وأرجوزة للعلامة محمد بن الشيخ أحمد الحفظي الحجازي اليمني في بيان عقيدة الشيخ وذكر مآثر آل سعود لما استجابوا لداعي الحق حتى ظهر دين الله وبان منهاج الشريعة المحمدية1. ولا شك أن الملك عبد العزيز كان كأسلافه عقيدته سلفية وكان نصيرا لعقيدة السلف ويستشير العلماء في أمور الدين وينفذ أحكامهم ويعمل بنصائحهم وفتاويهم مع أَنه ذو فكر سديد، وإدراك عميق، واعتقاد سليم، مبني على استقلال في الشخصية، وحرية في الاختيار، وقوة   1 انظر: الهدية السنية، والتحفة الوهاببة النجدبة، لجميع إِخواننا الموحدين من أهل الملة الحنيفية، والطريقة المحمدية، جمع وترتيب الشيخ سليمان بن سحمان النجدى، طبعت بأمر جلالة ملك الحجاز وسلطان نجد عبد العزيزآل سعود، بمطبعة المنار، الطبعة الثانية سنة 1344 هـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 963 في الإِرادة، ومضاء في العزيمة، وسعة في الأُفق، ويشاركهم في التوجيه والنصائح والإِرشاد والدعوة إلى عقيدة السلف الصالح كما ذكرنا1 مما يدل على علمه ورسوخ قدمه في عقيدة السلف الصالح وأَن عليها اعتقاده رحمه الله تعالى، لكنه مع ذلك يدرك أهمية العالم المتخصص، المعروف بالديانة والصدق ويضعه في مكانه، ويعلم أن ذلك هو منهج الصواب. وكان من أبرز هؤلاء المشائخ الذين استعان بهم هو العلامة التقي الورع شيخ الإسلام الشيخ عبد الله بن الشيخ عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ولد في الأَحساء سنة 1265هـ وقدم بلد الرياض سنة 1272هـ وأخذ العلم عن أبيه وجده والشيخ حمد بن عتيق وغيرهم وبرع في جميع الفنون، الأصول والفروع والتفسير والنحو وغيرها، وصار رفيع القدر جم الفضائل، انتهت إليه الرئاسة في العلم والرأي والكرم، له اليد الطولى في التدريس ومجالسه المحفوفة بفحول العلماء والمدرسين وأهل الرأي، وله صدور المجالس والمحافل، وإلى قوله المنتهى في الفصل بين العشائر والقبائل، له رسائل وفتاوى ونصائح كثيرة مفيدة ورأي راجح في الحوادث المدلهمة، وهيبة أَلبسها بين الأمة، وأخذ عنه العلم جم غفير ترعرعوا ونموا في مدرسته ونالوا من إِكرام الملك ونصرته ما تمم نموهم وإِدراكهم فكانوا خير عون   1 وانظر أيضا: الدرر السنية ج11 ص 156-160، ص 171-174. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 964 له، وعلى رأس هؤلاء التلاميذ للشيخ عبد الله علامة الديار النجدية ومفتى المملكة العربية السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله. وهذه قائمة بأسماء التلامذة الأوائل الذين ضمتهم مدرسة الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف وأخذوا عنه مباشرة، وقربهم الملك عبد العزيز واستعان بهم: 1- الشيخ عبد الملك بن عبد الله. 2- الشيخ عبد اللطيف بن عبد الله. 3- الشيخ محمد بن عبد الله. 4- الشيخ صالح بن عبد الله. 5- الشيخ إسحق بن عبد الرحمن بن حسن. 6- الشيخ محمد بن عبد اللطيف. 7- الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف. 8- الشيخ عبد العزيز بن عبد اللطيف. 9- الشيخ عبد الرحمن بن عبد اللطيف. 10- الشيخ صالح بن عبد العزيز بن عبد الرحمن. 11- الشيخ محمد بن إبراهيم. 12- الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم. 13- الشيخ عبد الرحمن بن إسحق. 14- الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن عبد اللطيف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 965 15- الشيخ عبد الملك بن إبراهيم بن عبد الملك. 16- الشيخ عبد الله بن حسن بن ابراهبم بن عبد الملك. 17- الشيخ على بن عبد العزيز. 18- الشيخ عمر بن حسن. 19- الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد. 20- الشيخ عبد الرحمن بن عبد العزيز بن محمد. 21- الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري. 22- الشيخ عبد الله بن فيصل. 23- الشيخ عبد العزيز بن بشر. 24- الشيخ عبد الرحمن بن سالم. 25- الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن داود. 26- الشيخ عبد العزيز بن حمد بن عتيق. 27- الشيخ عبد الله بن سليمان السياري. 28- الشيخ عبد الله بن حمد الدوسري. 29- الشيخ سالم الحناكي. 30- الشيخ محمد الحناكي. 31- الشيخ عمر بن سليم. 32- الشيخ عبد الرحمن بن عودان. 33- الشيخ محمد بن عثمان الشاوي. 34- الشيخ ناصر بن سعود بن عيسى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 966 35- الشيخ مبارك بن عبد المحسن. 36- الشيخ عبد الله بن زاحم. 37- الشيخ عبد الله بن بليهد. 38- الشيخ عبد العزيز بن عبد الله النمر. 39- الشيخ سعد بن سعود. 40- الشيخ فيصل بن عبد العزيز آل مبارك. 41- الشيخ إبراهيم بن سليمان بن راشد. 42- الشيخ عبد الله بن عتيق. 43- الشيخ عبد اللطيف بن عتيق. 44- الشيخ إبراهيم بن حسين. 45- الشيخ عبد الرحمن بن حسين. 46- الشيخ عبد الله بن رشيدان. 47- الشيخ سليمان بن حمدان. 48- الشيخ محمد بن علي البيز. 49- الشيخ فالح بن عثمان بن صغير. 50- الشيخ عبد العزيز الشثري. 51- الشيخ عبد العزيز بن مرشد. 52- الشيخ حمد بن محمد بن موسى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 967 وقال الشيخ عبد الرحمن بن قاسم وأخذ عن الشيخ عبد الله خلق لا يحصيهم إلا الله تعالى1. وقد أخذ عن هؤلاء أضعاف مضاعفة ممن صاروا علماء وقضاة ودعاة إلى عقيدة السلف الصالح2. وتوفي الشيخ عبد الله سنة 1339هـ رحمه الله تعالى- ورثاه العلماء والشعراء وممن رثاه: الشيخ محمد بن إبراهيم بقصيدة مطلعها: على الشيخ عبد الله بدر المحافل ... نريق كصوب الغاديات الهواطل ورثاه غيره3، ومن الشعراء: الشاعر محمد بن عثيمين والذي من مرثيته قوله: شيخ مضى طاهرَ الأخلاق متبعا ... طريقة المصطفى بالله معتصما بحر من العلم قد فاضت جداوله ... لكنه سائغ في ذوق من طعِما تنشقُّ أصدافه في البحث عن درر ... تهدي إلى الحق مفهوما وملتزما فكم قواعد فقه قد أبان وكم ... أشاد رسما من العليا قد انثلما نعى إلينا العلا والبر مصرعه والعلم ... والفضل والإحسان والكرما   1 الدرر السنية ج 12 ص 98 – 99. 2 انظر: تراجمهم في كتاب علماء نجد خلال ستة قرون لابن بسام ثلاثة اجزاء، ومشاهير علماء نجد وغيرهم للشيخ عبد الرحمن بن عبد اللطيف. 3 انظر: الدرر السنية ج12 ص 96-104، وروضة الناظرين عن مآثر علماء نجد، لمحمد بن عثمان القاضي ج1/ 362، 363 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 968 هذي الخصال التي كانت تفضله ... على الرجال فاضحى فيهم علما فليت شعري من للمشكلات إِذا ... ما حل منها عويص يبهم الفهما وللعلوم التي تخفى غوامضها ... على الفحول من الأحبار والعلما إلى أن قال: لهفي عليه ولهف المسلمين معي ... لو أَن لهفا شفى من لاهف سدما ولهف مدرسة بالذكر يعمرها ... ومسجد كان فيه ينشر الحكما1 ولا ننسى في خضم هذا الأثر علما بارزا من تلاميذه هو الشيخ سليمان بن سحمان، العالم العلامة حَسَّان زمانه وشاعر عقيدة السلف الصالح في وقته، المجاهد بنثره ونظمه والمنافح بجهده وبيانه عن عقيدة الشيخ السلفية، أخذ العلم عن الشيخ عبد الرحمن بن حسن وابنه عبد اللطيف وابنه عبد الله، وكان له دور في التدريس ونشر العلم النافع، وهو من العلماء الذين استعان بهم الملك عبد العزيز في الدعوة إلى التمسك بالعقيدة السليمة، وطلب العلم النافع والالتزام بالعمل الصالح وتخريج العلماء وتنشئتهم، وقد تخرج على يديه الكثير من العلماء الذين نفع الله بهم، وله المؤلفات النافعة منها: 1- " الضياء الشارق، في رد شبهات الماذق المارق ".   1 العقد الثمين من شعر محمد بن عثيمين ص 461- 465. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 969 2- " الهدية السنية " جمعها ورتبها وفي آخرها " المنظومة الدالية " له. 3- "تبرئة الشيخين الإمامين من تزوير أهل الكذب والمين ". 4، 5- "منهاج أهل الحق والاتباع "، و"إرشاد الطالب ". في مجلد واحد. 6- "الصواعق المرسلة ". 7- وديوان شعر، ومؤلفات غيرها. وهو القائل: نعم نحن وهابية حنفية ... حنيفية نَسْقِي لمن غاضنا المرا ومن هاضنا أو غاضنا بمغيضة ... سنصعقه صعقا ونكسره كسرا وكم من أخي جهل رمانا بجهله ... فعاد حسيرا خاسئا نائلا شرا بمحكم آيات وسنة أحمد ... نصول على الأعدا فنأطرهم إِطرا إلى أن قال: وأَلفت كتبا نثرها ونظامها ... يؤيد أهل الحق أَرجو بها الأجرا1 وله جهود في جمع وتحقيق رسائل علماء الدعوة إلى عقيدة السلف الصالح كمجموعة الرسائل والمسائل النجدية أربعة أجزاء في مجلدات كبار، وقد طبعها الملك عبد العزيز ونشرها ضمن ما اتفق عليه وعلى   1 ديوان ابن سحمان، ص 52 وص 59 طبعة هندية قديمة، وانظر: الدرر السنية ج12 ص 92. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 970 طبعه من كتب علماء العقيدة السلفية في جميع فنون العلم. وقال في الانتصار لها الشاعر محمد بن عثيمين سنة 1346هـ: شموس من التحقيق في طالع السعد ... تجلت فأجلت ظلمة الهزل والجد قواطعُ من آي الكتاب كأنها ... بأَعناق أهل الزيغ مرهفة الحد إلى أن قال: كفاناهم من لم يزل متجردا ... لنصر الهدى والدين أكرم به مهدي سليمانُ من سارت فضائلُ مجده ... مسير مهب الريح في الغور والنجد إلى أن قال: تمسك بما في محكم النص ظاهرا ... وبالسنة الغرا عن الصادق المهدي وطالع تصانيف الإمام محمد ... وأبنائه أهل الدراية والنقد فإن بها ما يُطْفِيُء الغلَّة التي ... بها من أُوار الجهل وَقْدُ على وقْدِ هُمُ قدوة في ذا الزمان وحجة ... وميزان عدل لا يميمل عن القصد1 وكانت وفاة الشيخ سليمان سنة 1349هـ في الرياض رحمه الله تعالى2. وقد رثاه حمد الجاسر، ورثى معه سعد بن عتيق- ومن ذلك قوله: مضى عنها سُليمان محثا ... يَؤم إِمامه قد سارَ سعد فأَضحى العلم بعدهما يتيماً ... يحاربه كثير وهو فَرد3   1 العقد الثمين من شعر محمد بن عثيمين ص 437-442. 2 الدرر السنية ج12 ص 92. 3 المصدر السابق ص 93. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 971 ومن هؤلاء العلماء الجهابذة الذين حملوا عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية، وقربهم الملك عبد العزيز وصدر عن علمهم، العالم الحافظ الشيخ سعد بن الشيخ حمد بن عتيق، أخذ العلم عن والده، ثم سافر لطلب العلم نحو تسع سنين فأخذ عن الشيخ نذير حسين الدهلوي، والشيخ شريف حسين، والشيخ محمد بشير السهسواني، والشيخ سلامة الله الهندي والشيخ أحمد بن إبراهيم بن عيسى النجدي، وكلهم أجازوه، وأخذ عن جماعة من علماء مكة منهم: الشيخ حسب الله الهندي، والشيخ عبد الله الزواوي، والشيخ أحمد أبو الخير، وجم غفير، ولما رجع من رحلته لطلب العلم من الهند ثم من مكة إلى بلده الأفلاج قال الشيخ سليمان بن سحمان فيه: على بلد الأفلاج أشرق سعدُه ... فآبت لها الألطاف من كل جانب هنيئا لكم أهل العَمَارِ1 بمن له ... مآثر تزهو كالنجوم الثواقب هنيئا لكم هذا القدوم بعالم ... سلالة حبر فاضل ذي مناقب ولما فتح الملك عبد العزيز الرياض عام 1319هـ، واستولى على الأفلاج، نقله منها إلى الرياض قاضيا في جميع قضايا البادية وجميع الدماء من القتل فما دونه من أنواع الجراحات، كما عينه الملك عبد العزيز إماما   1 ديوان ابن سحمان ص 247،248، وانظر: الدرر السنية ج12/ ص 93-96. والعمار من قرى الأفلاج جنوب الرياض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 972 في جامع الرياض الكبير، وفي هذا المسجد الواسع عقد له حلقتين للتدريس إحداهما بعد طلوع الشمس حتى امتداد النهار، والثانية بعد صلاة الظهر، وكان حريصا على ما يلقيه من الدروس، شديد التثبت لمعنى ما يقرأ عليه، فلا يلقي درسه، ولا يسمعه من الطالب، حتى يراجع عليه شروحه وحواشيه، وما قاله العلماء عليه، وضبطه لغة ونحوا وصرفا حتى يحرر الدرس تحريرا بالغا، وقد أوقع الله محبته في القلوب، وأمده بسعة العلم، وكان كثير الدعاء والابتهال، متواضعا عند العامة، رفيع القدر عند الخاصة، مجالسه معمورة بالعلماء، مشحونة بالفقهاء والمحدثين، مشتغلا بنفسه، وبإلقاء الدروس المفيدة على أصحابها كما وصفنا، وأخذ العلم عنه الجم الغفير، منهم أبناؤه محمد وعبد العزيز وحمد، وأخذ عنه إخوته الشيخ عبد العزيز والشيخ عبد اللطيف والشيخ عبد الله، ومحمد بن أخيه عبد العزيز، والشيخ محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ، والشيخ محمد، والشيخ عبد اللطيف، والشيخ عبد الملك أبناء الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ، والشيخ عبد الله والشيخ عمر أبناء الشيخ حسن بن حسين والشيخ سعد بن سعود بن رشود، والشيخ عبد الرحمن وإبراهيم ابنا حسين، وعبد الرحمن بن الشيخ إسحاق، والشيخ عبد اللطيف بن محمد بن عبد الرحمن آل الشيخ، والشيخ محمد بن عثمان الشاوي، والشيخ سليمان بن حمدان، والشيخ عبد الله بن حمد الدوسري، والشيخ إبراهيم بن سليمان، والشيخ فيصل بن عبد العزيز آل مبارك، والشيخ عبد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 973 العزيز بن مرشد، والشيخ عبد الله بن حسن بن إبراهيم بن عبد الملك، والشيخ عبد العزيز بن محمد الشثري، والشيخ عبد الله بن رشيدان، والشيخ عبد الرحمن بن عودان، والشيخ محمد بن رشيد، والأستاذ حمد الجاسر، وغيرهم خلق كثير1. كما تصدى لنشر العلم بالكتابة والرسائل والنصائح، وحرر الفتاوى والأجوبة على الأسئلة فرقها الشيخ ابن قاسم في مجموعه المسمى: "الدرر السنية"، و"نظم مختصر المقنع" المسمى "زاد المستقنع" حتى كاد أن يتمه، وأتمه الشيخ عبد الرحمن بن عبد العزيز بن سحمان وطبع بعنوان: "نيل المراد بنظم متن الزاد " بمراجعة الشيخ إسماعيل بن سعد بن عتيق، وله رسالة سماها: "حجة التحريض في تحريم الذبح للمريض" في مكتبة جامعة الملك سعود برقم 215، ورسالة أخرى سماها: "عقيدة الطائفة النجدية في توحيد الألوهية" وقد طبعت، قال فيها بعد أن حمد الله وصلى وسلم على رسوله اللهم صل وسلم على رسولك: "أما بعد؛ فقد سألني بعض الأحباب أن أكتب ما أَعتقده ويعتقده مشايخي من أهل بلدي فيمن يأتي إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويقول يا رسول الله أغثني أو اشفع لي أو غير ذلك من أنواع السؤال، وكذلك ما نعتقده في   1 انظر: الدرر السنية ج12/ ص 93-95، وعلماء نجد خلال ستة قرون ج1/ 266-269. وروضة الناظرين عن مآثر علماء نجد لمحمد بن عثمان القاضي ج1/106- 111. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 974 شد الرحل إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وما نعتقده في التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم ". ثم أورد عقيدة السلف الصالح، أهل السنة والجماعة، الفرقة الناجية إلى أن قال: " ونعوذ بالله من كل قول أو فعل يخالف ما شرعه الله ورسوله، ومن يعرف أحوالنا يعلم أنما ينسبه إلينا أكثر الناس لا أصل له، بل هو من البهتان، وسبب ذلك أن الرجل المشهور الذي أقام الله به هذه الملة الحنيفية ونفع بدعوته جمعا غفيرا من الأمة وهو شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، لما دعا إلى تجريد التوحيد وإِخلاص العبادة لله والتخلي من الرسوم العادية والوسائل الشركية شرق بذلك أكثر الناس واستعظموه قائلين ما قال إخوانهم الأولون: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} 1 وجنوا عليه وعلى أتباعه بالسب والتكفير، واستحلوا دماءهم وأموالهم وسعوا لهم بالغوائل. كل ذلك عند قوله: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 2 كما قال رحمه الله تعالى في تفسير الفاتحة: "ومن عرف البردة ومن فتن بها عرف غربة الإسلام، وعرف أن العداوة واستحلال   1 سورة ص: 5- 7. 2 الأعراف: 59. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 975 دمائنا وأبنائنا ونسائنا ليس عند التكفير والقتال، فإنهم الذين بدأونا بالقتال، بل عند قوله: {فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} 1 وعند قوله: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} 2 وعند قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} 3 انتهى. وجعل أهل العداوة والحسد خصوصا بعض علماء السوء، يرمونه بالعظائم ويلفقون من الأكاذيب ما الله به عليم، ومرادهم بذلك تنفير الناس عنه وعن ما دعا إليه، يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولوكره الكافرون، والكلام في هذه المادة على وجه الكمال لا تحتمله هذه الأوراق. ومما يجب أن يعلم أَن أكثر الناس في هذه الأزمان قد غرهم الشيطان ولبس عليهم حتى وقعوا في الشرك وغيروا اسمه وأسموه توسلا فتجدهم يدعون الأنبياء والصالحين من الأموات والغائبين ويسألونهم ما لا يقدر عليه إلا الله ويسمون ذلك توسلا فيخدعون الجهال بهذه التسمية ويلبسون على خفافيش البصائر بقولهم هذا الذي نفعل توسلا وليس بشرك، والله يعلم وملائكته وعباده المؤمنون أنه هو الشرك الذي قال الله   1 الجن: 18. 2 الرعد: 14. 3 الإسراء: 57. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 976 فيه: {مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} 1 2. على العموم فكتاباته وفتاواه تدل على غزارة علمه وسعة اطلاعه وحسن تصوره، وهو في عداد كبار علماء نجد المقربين من الملك عبد العزيز ويعتمد عليه في مهام الأمور الدينية كما ذكرنا وهو معزز محترم عند علماء الدعوة إلى عقيدة السلف الصالح يجلونه ويقدرونه ويعرفون له حقه ومكانته العلمية ونشاطه في الدعوة إلى عقيدة السلف الصالح وموالاة أهلها، ومازال على أحواله الكريمة وسجاياه الحميدة، حتى توفي في الرياض في اليوم الثالث عشر من جمادى الأولى عام 1349هـ ودفن في مقبرة العود في الرياض وبكاه الناس ورثاه الشعراء3. وممن رثاه الشاعر محمد بن عثيمين بالقصيدة التي مطلعها: أهكذا البدرُ تُخفِي نوره الحفرُ ... ويفقدُ العلمُ لا عينٌ ولا أثرُ إلى أن قال: وابْكِ على العَلَمِ الفرد الذي حَسُنَتْ ... بذكر أفعاله الأخبار والسير من لم يبال بحق الله لائمةً ... ولا يحابي امرءا في خده صعر بَحْرٌ من العلم قد فاضت جداوله ... أضحى وقد ضمه في بطنه المدر   1 المائدة: 72. 2 عقيدة الطائفة النجدية في توحيد الألوهية تأليف الشيخ سعد بن عتيق ص 5- 21. 3 انظر: علماء نجد خلال ستة قرون، للشيخ البسام 1/268-269. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 977 فليت شعري من للمشكلات إِذا ... حارت بغامضها الأفهام والفكر من للمدارس بالتعليم يعمرها ... ينتابها زمر من بعدها زمر هذي رسوم علوم الدين تندبه ... ثكلى عليه ولكن عزها القدر طوتك يا سعد أيام طوت أمما ... كانوا فبانوا وفي الماضين معتبر إن كان شخصك قد واراه مَلْحَدُهُ ... فعلمك الجم في الآفاق منتشر والأسوة المصطفى نفسي الفداء له ... بموته يتأسى البدو والحضر بَنَى لكم حَمَدٌ ياللعقيق علاً ... لم يبنها لكم مال ولا خطر لكنه العلم يسمو من يسود به ... على الجهول ولو من جده مضر1 ورثاه الشيخ عبد الملك بن إبراهيم بن عبد اللطيف بمرثية مطلعها: مصاب دهى بالمعضلات النوازل ... وَرُزْءٌ عظيم قد أَهاج بلابل إلى أن قال: لدن جاءنا الناعى مساءا مخبرا ... بموت إمام العلم زاكي الشمائل هو الشيخ سعد من غدا متفردا ... بكل فنون العلم بين القبائل إمام لعمري ناسك متورع ... تقي نقي ما له من مماثل إمام لعمري كان بالعلم عاملا ... يراقب ربا ليس عنه بغافل إمام لعمري كان للعلم باذلا ... يقرر للتوحيد بين المحافل   1 العقد الثمين من شعر محمد بن عثيمين ص 474-482. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 978 إلى أن قال: له مجلس بالعلم يزهر دائما ... تشد إليه مضمرات الرواحل يؤمّونه الطلاب من كل وجهة ... تراهم عكوفا بين قار وسائل فيلقون حبرا للغوامض كاشفا ... يحل عويص مشكلات المسائل1 رحمه الله رحمة واسعة ورحم جميع العلماء وسائر المسلمين. ومن هؤلاء العلماء المحققين المجاهدين ذوي العقول الكبيرة صاحب السماحة ذو العقل الراجح، الطود الثابت والعالم الراسخ الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ مفتي المملكة العربية السعودية، ورئيس قضاتها ومرجع علمائها ورئيس رابطة العالم الإسلامى، والجامعة الإسلامية في زمانه، رحمه الله تعالى رحمة واسعة. حفظ القرآن عن ظهر قلب ثم أخذ في تلقي العلم عن والده الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف الذي كان قاضيا لمدينة الرياض في مطلع القرن الرابع عشر الهجرى، وقد قرأ على والده في مختصرات الشيخ محمد بن عبد الوهاب ومبادىء النحو والفرائض، ثم أخذ العلم عن عمه الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف وقد مر ذكره قبل قليل2، قرأ على عمه هذا، "كتاب التوحيد " تأليف جده شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب   1 الدرر السنية، ج 12/ 96. 2 انظر: 2/ 965. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 979 وغيره من كتب عقيدة السلف الصالح كالواسطية والحموية وقرأ على عمه أيضا في أصول التفسير والحديث، وقرأ على الشيخ سعد بن الشيخ حمد بن عتيق في الفقه ومصطلح الحديث ولازمه ملازمة تامة، وقرأ على الشيخ حمد بن فارس في الألفية وغيرها من المؤلفات النحوية وفي الفقه، وقرأ على الشيخ عبد الله بن راشد بن جلعود في الفرائض. ولم يزل مجدا في طلب العلم إلى أن صار مرجع العلماء وأبرز الفقهاء ونادرة الأذكياء. وكان عمه وشيخه الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف كما ذكرنا من قبل ممن أعان الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل بعلمه وعمله ومحض النصيحة والولاء والإخلاص، فلما مرض مرض موته أوصى الملك عبد العزيز به خيرا وأخبره بكفاءته العلمية والدينية وأنه بموجب ذلك يصلح أن يكون خليفة بعده وتوفي سنة 1339هـ، فعينه الملك عبد العزيز خلفا لعمه في الفتيا وإمامة المسجد والتدريس فباشر ذلك بكفاءة وإخلاص، وعزيمة ومضاء وفي سنة 1345هـ أرسله جلالة الملك عبد العزيز إلى أهل الغطغط لما شددوا تشديدا ينافي الشرع فمكث عندهم ستة شهور يبين لهم معاني الكتاب والسنة وعبارات رسائل علماء دعوة التوحيد السلفية، ويحذرهم من الغلو ومجاوزة الحدود ثم رجع إلى الرياض واستمر في نشر العلم وتعليمه. ويقول مؤلف كتاب "مشاهير علماء نجد": "وكان رحمه الله لا يدع طالب العلم المبتدىء يقرأ عليه في الفقه والمطولات حتى يقرأ في مختصرات شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، وهي "شروط الصلاة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 980 وأركانها" و"أربع القواعد"، و"ثلاثة الأصول"، و"كشف الشبهات"، و"آداب المشي إلى الصلاة"، و"كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد"، فإذا قرأ عليه هذه المختصرات عن ظهر قلب سمح له في القراءة عليه في مختصر المقنع وغيره من كتب الفقه، وفي القراءة في بلوغ المرام وغيره من كتب أحاديث الأحكام وشروحها، والروض المربع شرح زاد المستنقع وهذه قاعدته وقاعدة من تقدمه من علماء دعوة التوحيد السلفية- رحمهم الله1. وما زال الشيخ مستمرا في إمامة مسجد عمه المعروف بمسجد الشيخ وتدريس الطلاب فيه من عام 1339هـ إلى قبيل وفاته رحمه الله. وقد تخرج على يديه أفواج من العلماء كثيرون شغلوا مناصب القضاء والتدريس والدعوة إلى الله والإرشاد والبحث العلمي. وأذكر اثنين هم أبرزهم: 1- الشيخ العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز- رحمه الله - الذي كان نائبه في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، ثم أسندت إليه رئاسة الجامعة بعد وفاة شيخه ورئيسها ثم أسند إليه منصب رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد. 2- الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد- رحمه الله - وكان آخر ما   1 مشاهير علماء نجد وغيرهم ص 139. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 981 أسند إليه منصب رئيس المجلس الأعلى للقضاء. وقد قضى خمسين عاما من بعد وفاة عمه في الدعوة إلى عقيدة السلف الصالح والجهاد في سبيل الله، والذب عن الإسلام بجد وحزم وصبر. هذا ومع أعماله الكثيرة التي قام بها وهي تشق على الجماعة من الرجال، قد خلف وراءه من الفتاوى ما يبلغ المجلدات الكثيرة وقد جمع بعضها الشيخ عبد الرحمن بن قاسم وأكثرها في ملفات دار الإفتاء ويجري طبعها حاليا، وطبع منها حتى الآن عدة مجلدات. وله نصائح توجيهية عامة وخاصة، ورسائل قيمة كبيرة الفائدة قد طبع كثير منها1. وتوفي رحمه الله عام 1389هـ _ ورثي بمراثي كثيرة ما بين شعر ونثر ومنها قصيدة للشيخ عبد الله بن إدريس تبلغ أبياتها عشرين بيتا- ومطلعها: ما عاش إلا للعلوم وشرعة الإنصاف ... وقضى الحياة مكرم الأَوصاف ومنها قصيدة للدكتور كامل الفقي تبلغ اثنين وثلاثين بيتا ومطلعها: دهى الجزيرة خطب ليس يحتمل ... فلتنفطر مهج ولتنهمر مقل2 وقد أصدرت صحيفة الدعوة التي تصدر بالرياض عددا خاصا عنه، وذلك عددها231 الصادر يوم الإثنين 13 شوال عام 1389هـ يشتمل   1 عالم جهبذ وملك فذ، ص 12-13. 2 مشاهير علماء نجد وغيرهم ص 142، وعلماء نجد خلال ستة قرون ج1 ص 96. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 982 على سبع وعشرين مقالة نثرا وشعرا1. وقد عُني بترجمته وتدوينها أتم ما يعنى بتراجم علماء الأمة الإسلامية، الذين هم لأمتهم رواسى، ترسيهم أن يجهلوا أو يميدوا، كما هي الجبال، أوتاد ورواسى للأرض أن تميد أو تضطرب2، أولئك حملة عقيدة السلف الصالح والمتأثرون بها والدعاة إليها، وناشروها ومعلمو أممهم إياها- والذين وصفهم الشاعر المفلق محمد بن عثيمين بقوله: الثابتين على الإيمان جَهْدَهُمُ ... والصادقين فما خانوا ولا ختروا الصادعين بأمر الله لو سخطوا ... أهل البسيطة ما بالو ولو كثروا والسالكين على نهج الرسول على ... ما قررت محكم الآيات والسور والعادلين عن الدنيا وزهرتها ... والآمرين بخير بعدما ائتمروا لم يجعلوا سلما للمال علمهم ... بل نزهوه فلم يعلق به وضر3 إلى أن قال: هذى المكارم لا تزويق أبنية ... ولا الشفوف التي تكسى بها الجدر4   1 عالم جهبذ وملك فذ، ص 18- 22. 2 انظر: علماء نجد خلال ستة قرون للبسام ج1/ ص88-97، ومشاهير علماء نجد وغيرهم ص 134-146، وروضة الناظرين عن مآثر علماء نجد ج2 ص 302 - 308، وعالم جهبذ وملك فذ ترجمتان موجزتان للشيخ محمد بن إبراهيم والملك فيصل رحمهما الله ص 7-17. 3 العقد الثمين من شعر محمد بن عثيمين ص 477. 4 المصدر السابق ص 478. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 983 ولقد صدق الشاعر العثيمين في وصفهم فإنهم قد سلكوا منهج الرسول صلى الله عليه وسلم وصدعوا بأمر الله غير مبالين، ولا طامعين في الدنيا بديلا عن الآخرة. وذلك الذي ذكرته عن العلماء ونشرهم العقيدة السلفية هو من آثار قيام الشيخ محمد بن عبد الوهاب بالدعوة إلى عقيدة السلف الصالح. وقد كانوا في عهد الملك عبد العزيز وعهد أبنائه من بعده. وما ذكرناه من ذلك أمثلة يسيرة، ثم لا يعزب عن البال أَن الحاضرة من الناس تبع لهؤلاء العلماء ويصدرون عنهم في عقيدتهم وعبادة ربهم لاسيما تحت حزم الحكومة على ذلك. أما ما يختص بالبادية الذين شملهم الله تعالى بنعمة الأمن والاستقرار تحت ولاية الملك عبد العزيز وقيادته وحزمه الموفق، فقد شمل إكرامه جميع عشائر البدو الرحل، وسعى في تحضيرهم ولم شملهم وتشجيعهم على الاستقرار يعاونهم على بناء المدن والقرى وهي ما يسمى بالهجر وسكناها لأن حياة البداوة والغزو والسلب والتفرق وسفك الدماء لا تقوم معها حياة دينية ولا دنيوية صحيحة مستقرة فأخذ يسكنهم هذه الهجر ويشجعهم على التعلم وتلقي علوم دينهم وأصول عقيدة السلف الصالح ومختصرات الشيخ محمد بن عبد الوهاب في ذلك على أيدي المشايخ وأئمة المساجد وطلبة العلم وصار يبعث إليهم من يعلمهم ويرشدهم ويبث فيهم عقيدة السلف الصالح بكل عناية وحزم. وذلك ابتداء من سنة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 984 1330هـ تقريبا، حيث كانت هجرة الأرطاوية أول هجرة بنيت سنة 1330هـ1. ويقول حافظ وهبه: إن من أعظم المشروعات الإصلاحية التي قام بها الملك عبد العزيز: مشروع تحضير البادية وإِقطاعهم الأراضي للسكنى والزراعة، وتعليم المبادىء الدينية ومكارم الأخلاق، ولا شك أَنه حصل نجاح عظيم لإصلاحات الملك عبد العزيز وإِقبال على دين الله خاصة من البدو الرحل فقد أَقبلوا على الهجر يبنونها بمساعدة الملك عبد العزيز، ويبني لهم المساجد، ويبعث إليهم المشايخ والأئمة وطلبة العلم يعلمونهم دين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، حتى تم تهجيرهم وأَقبل الناس على بناء حضارة إسلامية، وأغدق الله عليهم من نعمه الكثيرة في الدين والدنيا، والعلم والقراءة، والأمن والاستقرار، وما لا يحصى من النعم. ويذكر حافظ وهبة: أنه في سنة 1347هـ في ثامن شهر جمادى الأولى أمر الملك بعقد المؤتمر النجدي أو الجمعية العمومية2، وكان مؤتمرا عاما، وفي هذا المؤتمر، قال الملك علنا وبصراحة تامة: "إني لم أطلب منكم أَن تجتمعوا اليوم في هذا المكان خشية منكم، فإني قد أسست هذه المملكة بقدرة الله وحده الذي عاضدني وساعدني والذي كتب لي الفوز وكتب   1 حافظ وهبه، جزيرة العرب في القرن العشرين ص 289. 2 جزيرة العرب في القرن العشرين ص 298. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 985 لي التوفيق، وإن خوفي من الله وحده هو الذي حدا بي لأن أجمع شملكم اليوم لنتباحث معا وقد فعلت ذلك حتى لا أقع في نقيصة الإعجاب بالنفس والكبرياء". وقال الملك: "أيها الإِخوان! تعلمون عظم المنة التي من الله بها علينا بدين الإسلام إذ جمعنا به بعد الفرقة، وأعزنا به بعد الذلة، واذكروا قوله تعالى: {فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ ... } الآية، إِن شفقتي عليكم وعلى ما منَّ الله به علينا وخوفي من تحذيره سبحانه وتعالى بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} كل هذا دعاني لأن أجمعكم في هذا المكان لتذكروا: أولا: ما أنعم الله به علينا فنرى ما يجب عمله لشكران هذه النعمة. وثانيا: لأمر بدا في نفسي وهو أنني خشيت أن يكون في صدر أحد شيء يشكوه مني أو من أحد نوابي وأمرائي بإساءة كانت عليه أو بمنعه حقا من حقوقه، فأردت أن أعرف ذلك منكم لأخرج أمام الله بمعذرة من ذلك وأكون قد أديت ما علي من واجب. وثالثا: لأسألكم عما في خواطركم وما لديكم من الآراء وما ترونه يصلحكم في أمر دينكم ودنياكم". وقال الملك: "إن القوة لله جميعا، وكلكم يذكر أنني خرجت عليكم وكنتم فرقا وأحزابا يقتل بعضكم بعضا، وينهب بعضكم بعضا، وجميع من ولاه الله أمركم من عربي أو أجنبي كانوا يدسون لكم الدسائس؛ لتفريق كلمتكم، وإضعاف قوتكم لذهاب أمركم، ويوم خرجت كنت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 986 محل الضعف وليس لي من عضد وساعد إلا الله وحده ولا أملك من القوة إلا أربعين رجلا تعلمونهم، ولا أريد أن أقص عليكم ما من الله به علي من فتوح ولا بما فعلت من أعمال معكم كانت لخيركم، إن تاريخ ذلك منقوش في صدركل واحد منكم وأنتم تعلمونه جميعا وكما قيل: السيرة تبين السريرة. إنني لم أجمعكم اليوم في هذا المكان خوفا أورهبا من أحد منكم، فقد كنت وحدي من قبل وليس لي مساعد إلا الله فما باليت الجموع والله هو الذي نصرني، وإنما جمعتكم كما قلت لكم خوفا من ربي ومخافة من نفسي أن يصيبها زهو أو استكبار، جمعتكم هنا في هذا المكان لأمر واحد ولا أجيز لأحد أن يتكلم في غيره، ذلك هو النظر في أمر شخصي وحدي فيجب أن تجتنبوا في هذا المجلس الشذوذ عن هذا الموضوع، أما الأشياء الخارجة عن هذا فسأعين لكم اجتماعات خاصة وعامة ننظر فيها. أريد منكم أن تنظروا أولا فيمن يتولى أمركم غيري، وهؤلاء أفراد الأسرة أمامكم فاختاروا واحدا منهم ومن اتفقتم عليه فأنا أقره وأساعده وكونوا على يقين بأنني لم أقل هذا استخباراً. لأنني ولله الحمد لا أرى لأحد منكم منة علي في مقامي هذا بل المنة لله وحده، ولست في شيء من مواقف الضعف حتى أترك الأمر لمنازع بقوة، ولا يحملني على القول إلا أمران: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 987 الأول: محبة راحتي في ديني ودنياي. والثاني: إني أعوذ بالله من أن أتولى قوما وهم لي كارهون، فإن أَجبتموني إلى هذا فذلك مطلبي ولكم أمان الله، فإن من يتكلم في هذا فهو آمن ولا أعاتبه لا آجلا ولا عاجلا، فإن قبلتم طلبي هذا فالحمد لله، وإن لا تزالوا مصرين على ما كلمتموني به على إثر دعوتي لكم فإني أبرأ إلى الله أن أخالف أمر الشرع وفي اتباع ما تجمعون عليه مما يؤيد شرع الله". ثم قال: "ابحثوا في شخصي وأعمالي، من كان له علي أنا عبد العزيز شكوى أو حق أو انتقاد في أمر دين أودنيا فليبينه، ولكل من أراد الكلام عهد الله وميثاقه وأمانه إنه حر في كل نقد يبينه ولا مسؤولية عليه، وإني لا أبيح لإنسان من العلماء ولا من غيرهم أن يكتم شيئا من النقد في صدره، وكل من كان عنده شيء فليبينه ولكم علي أن كل نقد تذكرونه أسمعه فما كان واقعاً أقررت به وبينت سببه وأَحْلت حكمه للشرع يحكم فيه، وما كان غير بين وهو عندكم من قبيل الظنون فلكم علي عهد الله وميثاقه أنني أبينه ولا أكتم عليكم منه شيئا، وأحكم في كل ما تقدم شرع الله فما أثبته أثبته وما نفاه نفيته. أنتم أيها الإِخوان: ابدوا ما بدا لكم وتكلموا بما سمعتموه وبما يقوله الناس من نقد ولي أمركم أو من نقد موظفيه المسؤول عنهم. وأنتم أيها العلماء! اذكروا أن الله سيوقفكم يوم العرض وستسألون عما سئلتم عنه اليوم، وعما أمنكم عليه المسلمون، فابدوا الحق في كل ما تسألون عنه، ولا تبالوا بكبير ولا صغير، وبينوا ما أوجب الله للرعية على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 988 الراعي، وما أوجب للراعى على الرعية في أمر الدين والدنيا، وما تجب فيه طاعة ولي الأمر، وما تجب فيه معصيته، وإياكم وكتمان ما في صدوركم في أمر من الأمور التي تسألون عنها ولكل من تكلم الحق عهد الله وميثاقه أنني لا أعاتبه. إني أكون مسرورا منه، وإني أنفذ قوله الذي يجمع عليه العلماء، والقول الذي يقع الخلاف بينكم فيه أيها العلماء، فإني أعمل فيه عمل السلف الصالح، إذ أقبل ما كان أقرب إلى الدليل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو قول أحد العلماء الأعلام، المعتمد عليهم، عند أهل السنة والجماعة، وإياكم أيها العلماء أن تكتموا شيئاً من الحق تبتغون بذلك مرضاة وجهي، فمن كتم أمرا يعتقد أَنه يخالف الشرع فعليه من الله اللعنة، أظهروا الحق وبينوه وتكلموا بما عندكم" 1. وقد بين الملك لهم أنه فاوض البريطانيين حول المخافر التي بنيت على حدود السعودية من جهة العراق ولكنهم أصروا على ذلك وتمسكوا بمبانيهم بسبب ما افتاته الدويش عليه حيث غزاهم بحجة الجهاد من غير إذن الإمام فقتلوا عمال المخفر وبعض شرطته وأخذوا أموالهم واستباحوها غير مرة وبدون إذن الإمام فالدويش هو المسؤول عن فشل المفاوضات التي لولا ما فعله الدويش لنجحت، وعلى كل فالجهاد لابد فيه من إذن   1 انظر: تذكرة اولى النهى والعرفان، للشيخ إبراهيم بن عبيد، ج3 ص 183-186. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 989 الإمام فهو يرى ما فيه المصلحة وهو نائب عن المسلمين ورأيه لهم خير من رأيهم لأنفسهم. ولنعد إلى خطبة الملك نتأمل ما ورد فيها على ضوء عقيدتنا السلفية كما هو موضوعنا: فهذا الملك قد خرج من الكويت ممتشقا سيفه يقطع به رؤوس الفتن ويخضع به كل معاند مستكبر حتى ذلت له كل صعبة وانقاد له كل مستعص وأمسك بيده زمام الأمور حتى أصبح أعظم ملك في زمانه عندئذ قال كلمة العقيدة السلفية الخالصة قالها من مركز القوة، مركز من يقول ويفعل، لأنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له، وقالها من مركز التضحية والفداء، لأن بذل حظوظ النفس بسخاء هكذا، دليل صدق القائل بقوله. أما مكاسب عقيدة السلف الصالح التي نصرها واستردها من غاصبيها فذلك أمر لا يتنازل عنه بحال، كيف؟ وقد كان يوم خروجه من الكويت يسترد مكاسب عقيدتهم السلفية على ما وصف من القلة والذلة ومع ذلك لم يبال بالجموع ولا من بأقطارها من الدول ثقة بالله وحده وطمعا في نصره سبحانه لهذه العقيدة المهضوم أهلها، والمستباح بيضتهم من أنفسهم. ولكنه كان مستعدا لتنازله عن مكاسبه الشخصية وحظوظه النفسية، وهي وإن كان يستحقها لكنه يتنازل عنها في سبيل ظهور العقيدة السلفية وانتصارها وعدم المساس بشيء من مكاسبها التي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 990 استردها، فحين يحيل في خطابه المؤتمرين إلى أحد أفراد الأسرة ليختاروا منها غيره هو دليل صدقه في تنازله عن حظوظه الشخصية مع عدم تفريطه بأي شيء من مكاسب عقيدة السلف الصالح. والأسرة السعودية هي من مكاسب عقيدة السلف الصالح التي دعا إليها الشيخ، فلم تنعم الجزيرة كما هو المعروف من التاريخ بأنصار لعقيدة السلف مثل هذه الأسرة المباركة كما أن هذه الأسرة لم يكن لها شأن يميزها بالأفضلية قبل أن تنصر عقيدة السلف الصالح، وكأن الكلام الذي جرى بين الأمير محمد بن سعود والشيخ محمد ابن عبد الوهاب "الدم بالدم والهدم بالهدم" هو ترجمان هذا الالتحام المصيري ومنذ تبايعا وتعاهدا وتعاقدا على نصرة دين الله ورسوله كان قد تم ظهور عقيدة السلف الصالح بائتلاف علماء العقيدة السلفية مع أنصارها لأن هذا الائتلاف من ماهية هذه العقيدة ومن ذاتيتها لا يتخلف إلا إذا تخلفت قلوب الناس عنها. ولذا فإن حملة العقيدة السلفية لا ينسون لهذه الأسرة تاريخها ولا يرتابون في صدق وفائها لعهودها وعقودها، ولا يمكن أن تطمئن نفوسهم من خلال تجاربهم التاريخية لغيرهم، وحملة عقيدة السلف الصالح هم أهل الحل والعقد، لأن هذه العقيدة هي مركز ثقل المسلمين وثقتهم وقد جَرَّبُوا غياب هذه الأسرة عن الحكم فرأوا في غيبتهم ضعف العقيدة والتفرق وعدم الأمن، وهذا ما يفهمه الملك عبد العزيز راسخا في نفوس المؤتمرين، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 991 بل إِنه يذهب إلى أبعد من ذلك في سبيل تحقيق مكاسب عقيدة السلف الصالح، إنه لا يتأخر عن تقديم نفسه وأسرته ضحية في سبيل ذلك. قال رحمه الله من خطبة له: "أنا مبشر أدعو لدين الإسلام، ولنشره بين الأقوام. أنا داعية لعقيدة السلف الصالح، وعقيدة السلف الصالح هي التمسك بكتاب الله وسنة رسوله وما جاء عن الخلفاء الراشدين، أما ما كان غير موجود فيها، فأرجع بشأنه إلى أقوال الأئمة الأربعة، فآخذ منها ما فيه صلاح المسلمين. أنا مسلم، وأحب جمع كلمة الإسلام والمسلمين. وليس أحب عندي من أن تجتمع كلمة المسلمين ولو على يد عبد حبشي، وإنني لا أتأخر عن تقديم نفسي وأسرتي ضحية في سبيل ذلك" 1. ويقول: "ليس لهذا الملك وعظمته عندي من قيمة وإنما الذي أحبه وأريده هو رضاء الله تعالى". ويقول: "أرجو الله أن يوفقنا للخير، وافهموا أننا لا نُعِزُّ أحدا ولا نذل أحدا، وإنما المعز والمذل هو الله سبحانه وتعالى، ومن التجأ إليه نجا ومن اعتز بغيره هلك" 2. وقد بين العلماء ونصحوا كما أمرهم الملك الإمام وقد كانوا من   1 الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز، تأليف خير الدين الزركلي، ط 2 ص 216. 2 تاريخ المملكة العربية السعودية، للصف الثالث المتوسط، ط1 عام 1394 هـ ص 210. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 992 أول الأمر ينصحون للراعي والرعية، وما زالوا يسايرون الأحداث ويداوونها بعقيدة السلف الصالح رحمهم الله تعالى. وكم كان للشيخ عبد الله بن عبد اللطيف من مواقف حاسمة وإرشادات صحيحة تُنْبِئُ عنها مراسلاته للإخوان في عهد الملك عبد العزيز يحذرهم الضلال والفرقة ويبين الهدى والجماعة، وهذه المراسلات موجودة في الدرر السنية في الجزء7 من ص 265 –278 ومن ذلك قوله في بعضها: " قد بلغني عن بعض من غره الغرور من الطعن في العلماء ورميهم بالمداهنة وأشباه هذه الأقاويل التي صدت أكثر الخلق عن دين الله وزين لهم الشيطان بسبب ذلك الطعن في الولاية بأمور حقيقتها البهتان والطعن بالباطل" 1. وقد كتب هو وعدد من العلماء للملك عبد العزيز رسالة سنة 1338هـ هذا أولها بعد البسملة: " من عبد الله بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن، وحسن بن حسين، وسعد بن حمد بن عتيق، ومحمد بن عبد اللطيف، إلى جناب عالي الجناب الإمام المفخم والرئيس المقدم عبد العزيز ابن الإمام عبد الرحمن آل فيصل".   1 الدرر السنية ج 7 ص 376. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 993 ثم ذكروا السبب لتحريره وأَنه محض النصيحة وبينوا له نعمة الإسلام، ومن ذلك أنه لا إسلام إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بالسمع والطاعة، كما لا يخفى على الملك ولا على أحد له معرفة بالإسلام، ومن ذلك منة الله تعالى في آخر هذا الزمان الذي اشتدت فيه غربة الإسلام، بهداية غالب بادية أهل نجد خصوصا رؤساؤهم وما جعله الله من حظ وافر للملك عبد العزيز في إعانتهم ببناء مساجدهم ومدنهم، وفشو الإسلام في نجد جنوبا وشمالا، وعناية الله بعباده، وحكمته لا يعلمها إلا هو، ولكن الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف ومن معه رأوا أمرا يوجب الخلل على أهل الإسلام ويدخل التفرق في دولتهم وهو الاستبداد من دون إمامهم بزعمهم أنه بنية الجهاد، ولم يعلموا أن حقيقة الجهاد ومصالحة العدو وبذل الذمة للعامة وإقامة الحدود أنها مختصة بالإمام ومتعلقة به، ولا لأحد من الرعية دخل في ذلك إلا بولايته، والذي يعقد له راية ويمضي في أمر من دون إذن الإمام ونيابته فلا هو من أهل الجهاد في سبيل الله، إلى آخر ما دونوه في هذه الرسالة1. وفي رسائل أخرى ومناسبات متعددة كان جميع المشايخ من علماء الدعوة يبينون عقيدة السلف الصالح للناس ويحثونهم على الجماعة والسمع والطاعة، ويبينون حقوق الراعي والرعية وما يجب لكل وما يجب عليه   1 الدرر السنية ج 7 ص 277، 278. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 994 ويحذرون من خطر القول على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم بلا علم، والتحذير من أمور الشيطان التي يدخلها على أهل الدين من المسارعة في التكفير والتهاجر والتقاطع واتهام علماء المسلمين بالمداهنة وإساءة الظن بهم وعدم الأخذ عنهم مما هو سبب للحرمان من العلم النافع وإساءة الظن بولي الأمر وعدم الطاعة له وعلى العموم فقد كانت للمشايخ فتاوى سديدة ومواقف حميدة، تجاه كل حادثة وفي كل مناسبة وما قصروا في بيان عقيدة السلف الصالح واستقصاء ذلك يطول، وحصره يصعب، ومن أراد الاطلاع على شيء من ذلك فنحيله على مجموعة الدرر السنية ج7 ص 277- 345. وهكذا كان أثر عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية يخمد الفتن ويداوي الأمراض ويجمع الأمة تحت راية واحدة، ويُلم شعثها على إمام واحد، وينبذ الفرقة والخلاف ولا يقر الشذوذ والاعتساف، ويميت الهوى والبدعة، ويدعو إلى الائتلاف وإقامة السنة ولا غرو فعقيدة الشيخ هي مذهب أهل السنة والجماعة وعقيدة السلف الصالح رحمهم الله تعالى. وما زال أثر عقيدة الشيخ يحمله العلماء والزعماء وكلما مضى علماء وزعماء ورثهم علماء وزعماء آخرون حتى وصل إلينا عن طريق علمائنا وزعمائنا المعاصرين وأذكر منهم بالثناء طبقة الشيخ محمد بن إبراهيم وتلاميذه الذين كانت لهم حلقات علم في المساجد وغيرها. وكذلك من تخرج من الكليات الشرعية في جامعات المملكة وتلقى عقيدة السلف الصالح بالقبول والرضى والعمل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 995 وأخص بالذكر الرّئاسة العامة للكليات والمعاهد العلمية والتي تحولت إلى جامعة باسم جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية وتعددت فروعها في أنحاء المملكة خصوصا معاهدها العلمية، فقد كان لها أثر طيب في نشر عقيدة السلف الصالح. وأذكر بالثناء والولاء والعرفان الزعماء الذين عاصروا أولئك العلماء إلى يومنا هذا من آل سعود ومن وازرهم في نشر الإسلام، منذ الملك عبد العزيز رحمه الله. كما ذكرنا جانبا من أثر عقيدة الشيخ السلفية على يديه ويدي من بعده إلى يومنا هذا، وأنه بعد أن توفي الملك عبد العزيز تولى بعده الملك سعود بن عبد العزيزرحمه الله والذي تم على يديه فتح الجامعة الإسلامية، وكان في المناسبات يشكر الله على ما حبا به الشعب السعودي من نعمة التمسك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في السمع والطاعة ولزوم طريق أهل السنة والجماعة. ويذكر أن أول ما يهم الجميع هو الاعتصام بحبل الله المتين واتخاذ الوسائل التي تمكن روح التوحيد الخالص في قلوب أفراد الشعب كافة حتى يخلص الجميع العبادة لله وحده، والسير في ذلك بهدي الكتاب والسنة في الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة في كل مجال وعلى الأخص في المدارس، ومراقبة ذلك وحث الناس على كل ما يأمر به الشرع الإسلامي ومنعهم من كل ما ينهى عنه، لأن في ذلك خيري الدنيا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 996 والآخرة ولأنه ليس شيء من الخير، إلا أمر به الإسلام، وليس شيء من الشر إلا ينهى عنه الإسلام1. ثم الملك فيصل بن عبد العزيز ذو الأفق الواسع والجهد الصادق في السير مع المسلمين والدول الإسلامية في ما يحقق للمسلمين جميعا تضامنهم عملا بقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} 2 ومادام أن العالم الإسلامي يشكل كتلة واحدة تربط أجزاءه وشعوبه عقيدة واحدة، كما ورد ذلك في القرآن الكريم {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: 92) ، ويتعرض العالم الإسلامي كله لهجمات سياسية وفكرية من أعدائهم فكل ذلك يحتم على المسلمين أن يتضامنوا لاسيما في مقابل تضامن أعدائهم عليهم من اليهود والصهيونية في كل أنحاء العالم، وأن جَمْعَ أكثر من ستمائة مليون مسلم على الشعور بالرابطة الإسلامية وتوحيدهم بذلك كفيل بالوقوف دون أعدائهم أن يستبيحوا بيضتهم وأن يتسلطوا عليهم، ويحتلوا ديارهم كفلسطين وغيرها. ولهذا تبنى الملك فيصل رحمه الله الدعوة إلى مؤتمر القمة الإسلامي   1 انظر: تاريخ الدولة السعودية، عهد سعود بن عبد العزيز، تأليف أمين سعيد، المجلد الثالث ص 17-18. 2 سورة آل عمران آية: 103. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 997 بالرباط سنة 1389هـ، ثم تلته مؤتمرات إسلامية أخرى. ومن خطاب له ألقاه في موسم الحج للدعوة إلى تضامن المسلمين: " إخواني ... إننا اليوم في هذا العصر الذي يتعرض فيه الإسلام إلى امتحان واختبار، نتجه بأفئدتنا إلى العلي القدير ضارعين أن يثبتنا جميعا وأن يهدينا سواء السبيل، وأن ينير لنا طريقنا القويم. أيها الإخوة ... إن الإسلام هو دين المحبة دين الأخوة دين السلام، دين القوة، دين العلم، دين البناء، دين التقدم، دين الفضيلة ... لم يبق فضيلة ولا مكرمة إلا دعا إليها، ولم يبق رذيلة إلا حذر منها، فحينما نقوم بالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى وإلى اتباع ما جاء به في كتابه وسنة نبيه، فإنما تؤدون واجبا مفروضا عليكم تجاه ربكم ودينكم وتجاه أنفسكم، وإن واجب المسلمين أن يتكاتفوا وأن يثبتوا لما يصيبهم من مكاره وما يعترض سبيلهم من صعاب، وعليهم أن يسعوا إلى ما يؤلف قلوبهم ويقرب بينهم، ويبذر بذور المحبة والأخوة والتعاون فيما يصلح دينهم ودنياهم " 1. وقال رحمه الله في خطبته التي ألقاها في موسم الحج عام 1388هـ، وهو يتحدث عن تحرير المسجد الأقصى: " أيها الإخوة المسلمون! نريدها غضبة ونهضة إسلامية، لا تدخلها   1 تاريخ المملكة العربية السعودية، للصف الثالث المتوسط ط 1 عام 1394 هـ ص 291. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 998 قومية ولا عنصرية ولا حزبية، إنما دعوة إسلامية دعوة إلى الجهاد في سبيل الله، في سبيل ديننا وعقيدتنا دفاعا عن مقدساتنا وحرماتنا، وأرجوا الله سبحانه وتعالى أنه إذا كتب لي الموت أن يكتب لي الموت شهيداً في سبيل الله" انتهى. ونرجو أن يكون قد نال الشهادة التي تمناها1. ومن كلمة له ارتجلها في الحفل الذي أقامته الجامعة الإسلامية بمناسبة زيارته لها قال: " ليس غريباً أن أرى وأسمع وألمس في هذه الجامعة ما يثلج الصدور ويبهج الخاطر من انطلاقة إسلامية كبرى وأرجو لها النجاح وأرجو أن تؤتي ثمارها في أقطار العالم الإسلامي لخدمة هذه الدعوة المباركة والنهوض بها والسعي إلى نشرها بين أبناء الملة الإسلامية والدعوة إليها بين أبناء الملل الأخرى وإنني لأرجو لها نجاحا باهرا مادامت ترتكز على مثل هذه السواعد ومثل هذه الروح الوثابة المنطلقة بحول الله لنشر هذا الدين والدعوة إليه والجهاد في سبيله. أيها الإخوة: إن المسئولية الملقاة على عواتقكم وعواتق الجميع مسئولية كبرى فاسعوا إلى التفقه في دينكم ومعرفة كل ما يمكن معرفته لتكونوا مسلحين   1 عالم جهبذ وملك فذ، بقلم عبد المحسن العباد ص 26، 27. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 999 بسلاح العلم وسلاح الفقه وبسلاح المعرفة حتى تكونوا مستعدين لما يجابهكم من صعاب ومن دعوات مضلله ومن مجهودات يرغب ويأمل أصحابها أن يأخذوا من هذا الدين وأن يحطوا من قدره وأن يهاجموه بكل ما أوتوا من قوة، وإنني لأرجو الله مخلصا أن يهبكم الصبر والشجاعة والقوة لتكافحوا في سبيل هذا الدين ولتبصروا الناس بما يحتويه هذا الدين وما تحتويه هذه الدعوة والشريعة من مزايا ومن مكارم ومن أسس هي أصلح ما يكون للبناء الذي يهدف إلى صالح البشر وإلى خير الأمة ولا يهدف إلى التزوير وإلى البدع والمضللات وإلى هدم الكيانات البشرية وإلى هدم الأخلاق وكل ما هو كريم في بني الإنسان. أيها الإخوة: إن أمامكم طريقا شاقا وطريقا طويلا وصعابا جمة، وأرجو أن تتسلحوا لها بالعلم والعرفان والنفس المطمئنة الصابرة الحكيمة في الدعوة إلى الله - وقد قال سبحانه وتعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} وجادل الكفرة وجادل المشركين وجادل المرتدين والملحدين والمعاندين حتى تلقمهم الحجة وتتغلب عليهم بالحكمة والعقل والصبر، فهذا هو السبيل إلى الدعوة وهذا هو السبيل إلى تنوير أذهان الناس وتبصيرهم فيما تحتويه هذه الدعوة وما يحتويه الشرع الإسلامي، والدين الإسلامي من مزايا وخصائص لا يمكن أن تخطر على قلب بشر ولا يمكن أن ينكرها أو يجحدها إلا جاحد أو مكذب ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1000 إلى أن قال: " إن ما نقوم به في سبيل نشر العلم والدعوة إلى الله ونشر الثقافة الإسلامية ما هو إلا قليل مما يجب علينا، ولكننا نسير حسب الإمكانيات وحسبما يتحمله أو يقتدر عليه مجهود البشر، ولكن ثقوا بحول الله، أننا سائرون بكل ما أوتينا من قوة لنصر ديننا ولخدمة الإسلام وللدفاع عنه ولتبصير الناس به، فمن أراد الحق ومن أراد الخير فسبيله واضح، ومن أراد غير ذلك استعنا عليه بالله سبحانه وتعالى، ثم بقوة العقيدة والإصرار على التمسك بها، فإن أخشى ما يخشى على المسلمين هو إدخال الشك في نفوسهم من عقيدتهم ومن دينهم، وهذا ما يخشى على المسلمين منه، وإنني أرجو الله مخلصا أن يجعلنا وإياكم من أنصار دينه وأن يحفظنا بالإسلام وأن يوفقنا لسبيل الحق والصواب " 1. ومن كلمات الملك فيصل رحمه الله: " إن غيرنا من الحكام مقلدون وليسوا مبتكرين ونحن لسنا في حاجة إلى استيراد تقاليدنا من الخارج، وقد كان لنا تأريخ مجيد وقدنا العالم، نحن لنا أجداد وأمجاد وتاريخ وتراث، فلماذا نتنصل من هذا ونلتفت يمينا وشمالا نتلمس الطريق ونتلمس المبادىء، تراثنا أشرف تراث وتاريخنا أشرف تاريخ وأمتنا خير أمة أخرجت للناس ونحن لا نقبل أبدا أن يقال   1 المرجع السابق ص 32-38. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1001 عن ديننا وعن شريعتنا إنه دين التأخر والجمود نحن نريد لأمتنا أن تكون قائدة لا مقودة وأن تكون في المقدمة لا في المؤخرة وبإمكاننا أن نتقدم ونمسك الأمر إذا اتبعنا كتاب الله وسنة نبيه" 1. ومن ضمن ما تدعو إليه مفاوضات الملك فيصل مع رؤساء الدول الإسلامية هو التمسك برسالة الإسلام الخالدة نصا وروحا. وقام الملك فيصل برحلات إلى الأقطار الأفريقية والآسيوية وبعض الدول الأوربية لشرح وجهة نظر المملكة من منطلق إسلامي تجاه الخطر الصهيوني على العرب والمسلمين. وكان فيصل رحمه الله قد تربى في بيت جده لأمه العلامة الحبر الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف آل الشيخ والذي تقدم ذكر شيء عنه. وتعهده منذ نعومة أظفاره بتلقينه أصول الدين الحنيف ومبادىء العلوم، وحفظ في رحاب أبيه الملك عبد العزيز كثيرا من تجاربه، وقال: "إن والدي هو مدرستي الحقيقية" 2. ثم الملك خالد وكان - رحمه الله - رجلا فاضلا متواضعا ذا سجايا حسنة وأخلاق فاضلة وزامل كبار تلاميذ الشيخ محمد بن إبراهيم في   1 تاريخ المملكة العربية السعودية للصف الثالث المتوسط، ط 1 عام 1394 هـ، ص289-290. 2 انظر: تاريخ المملكة العربية السعودية للصف الثالث المتوسط وفق المنهج الجديد، ط 1 عام 1394هـ ص 221-291. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1002 الدراسة، كالشيخ عبد الله بن حميد- وقد حدثني بذلك الشيخ ابن حميد رحمه الله. وكان مما أعلنه الملك خالد في أول جلسة لمجلس الوزراء بعد توليه الملك شعوره بعظم المسؤولية ومشقتها التي تحملها هو وأعضاء حكومته وبين أن الواجب هو الإستعانة بالله وحده والحرص على بذل المجهود والاهتمام بكل ما من شأنه إِسعاد هذه الأمة وحفظ دينها وإصلاح دنياها وبين أن البلاد السعودية ليست مثل بلاد العالم من الناحية الإسلامية لأن كل المسلمين يتطلعون إليها وأن أهل هذه البلاد مغبوطون بشريعة الله وسنة رسوله كما هم مغبوطون بثروتهم المادية. وقد عاضده ولي عهده الملك فهد بن عبد العزيز وإخوانه في تحمل هذه المسؤولية وفي عهده عقد مؤتمر القمة الإسلامي في مكة والطائف وعن ذلك المؤتمر صدر بلاغ مكة للعالم الإسلامي. ثم الملك فهد بن عبد العزيز أيده الله وأعز به الإسلام، وهو الرئيس الأعلى للجامعة الإسلامية، وكان في كل مناسبة يحث على التمسك بالعقيدة الإسلامية ويؤكد أن قوتنا مستمدة من العقيدة الإسلامية وتنفيذ العقيدة الإسلامية حرفياً ونفتخر بذلك. ويقول: " هذه الجامعة عندما أسست قصد بها شيء معين في الواقع هو المساهمة في بث روح العقيدة الإسلامية الصحيحة الخالية من الشوائب". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1003 ويقول عن نشاط الجامعة في الخارج: "نؤكد أن الأساس هو كيف يمكن أن تعطى المملكة مجالا بواسطة الجامعة الإسلامية وأن تبرز العقيدة الإسلامية في إطارها الصحيح الخالي من الشوائب وأظن الإخوان يدركون تماما أنه فاتت مئات السنين وأدخلت على العقيدة الإسلامية أمور كثيرة والعقيدة الإسلامية براء منها، وقد أدخل هذه الأمور من أراد أن يبرز العقيدة الإسلامية بأنها عقيدة غير صالحة وغير مفيدة وأن دورها انتهى، والواقع أن دور العقيدة الإسلامية يتجدد دائما ...... كذلك أبانت الطريق وأنارته لما فيه خير المجتمع سواء كان من ناحية العبادات أو من ناحية التشريع وبهذا يكون البشر سعيدا إذا التزم بمبادىء العقيدة الإسلامية. هذا الباب طُرِقَ من مستشرقين غير مسلمين وأبانوا بشكل أو بآخر التنظيمات والتشريعات التي أنزلها رب العزة والجلال على نبيه، على أنها صالحة في هذا العصر وفي هذا الوقت، لأن العالم جرب مبادىء وعقائد مادية مختلفة ووجد أنها غير كافية ولا تستطيع أن تسعد البشر ووجد في العقيدة الإسلامية الرأفة والرحمة والمحبة والقوة التي تبني على الحق، فلذلك نأمل أن نوفق ونؤدي واجبنا في هذا الإطار" إلى أن قال: " الآن وهذا من فضل الله أصبحت البلاد الإسلامية وغير الإسلامية حرة تتمتع بالحرية التامة وقادة المسلمين فيها هم المسؤلون مسئولية مباشرة عن أن يجعلوا العقيدة الإسلامية هي الأساس في تكوينهم سواء في العبادات أو في أمورهم الخاصة والعقيدة الإسلامية والحمد لله صريحة وواضحة المعالم ومن سلك الطريق الإسلامي على الأسس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1004 الصحيحة، لابد أن يصل إلى فضيلتين: فضيلة ما ينعم به الله عليه في هذه الدنيا والرصيد الأكبر في الآخرة، ربنا أبان لنا الطريق ... إنما الدنيا كلها زائلة ولا يبقى إلا ما قدم الإنسان من عمل صالح ". ثم قال: " بقي شيء واحد وهو أن أوجه كلمة قصيرة لطلبة الجامعة الإسلامية هي أن يواصلوا هذا المجهود الخير، سواء في ذلك إخواننا الذين قدموا من جميع البلدان الإسلامية أو من السعوديين الموجودين فيها، أن يستبصروا العقيدة الإسلامية التبصر الصحيح ... العقيدة الإسلامية والحمد لله أبانت الأمور بشكل غير قابل للنقاش إلا من أراد أن يوهم بأشياء أخرى.. الدين الإسلامي وسط.. لا رهبنة في الإسلام.. لأنه يمكن الكثير يعتقد في ناحية التصوف أو النواحي الأخرى التي هي بعيدة عن منطق الإسلام. هذا هو الإسلام. بالعكس الإسلام فيه المرونة والمحبة والتقوى والعمل والجد والنشاط، لم تأمر العقيدة الإسلامية بالكسل أو التكاسل أو التصوف على غير معنى ... لأن هذا البلد والحمد لله بلد إسلامي وكل ما أرجوه أن يكونوا رسل البلاد الإسلامية الذين شرفوا المملكة العربية السعودية ورحبت بهم أن يعودوا إلى أوطانهم دعاة للإسلام في الإطار الصحيح كلنا نعرف ما أدخل على العقيدة الإسلامية والسبب من المسلمين أنفسهم.. ليس من العقيدة الإسلامية.. العقيدة الإسلامية إلى أن تقوم الساعة وهي القمة فلذلك أرجو أن ندرك معنى العقيدة الإسلامية، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1005 ولا نقع فيما وقع فيه الغير بواسطة من يريد أن يبعدنا عن مسار العقيدة الإسلامية الصحيح ". إلى أن قال: " وسوف نسير في الخط المستقيم إن شاء الله، ونجعله دائما الهدف الرئيسى ... نتمسك بعقيدتنا الإسلامية وربنا وعدنا بالحق: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} (محمد:7) ." وكل هذه الكلمات قد سمعناها من الملك فهد خلال لقائه مع منسوبي الجامعة الإسلامية وغيرهم بالمدينة المنورة يوم الثلاثاء16 محرم 1403هـ1. وعلى العموم فولاة الأمر قد فهموا أَن من واجبهم واللازم عليهم أن يكونوا حماة لمهد الإسلام ومكاسب عقيدة السلف الصالح، والتي تحققت على أيديهم وأن يكونوا أمناء على خدمة الإسلام ونشره بالنفس والنفيس، وأن يكونوا قدوة في التمسك بعقيدة السلف الصالح والعمل بأحكام الشريعة الإسلامية. يقول حافظ وهبة في أثر التمسك بعقيدة السلف الصالح:   1 انظر: الكتيب الذي أصدرته وزارة الإعلام- الإعلام الداخلي، بعنوان الفهد فى رحاب الجامعة الإسلامية ص، ص 0 1، 16-17، 23-34، 31، 39، 40. وانظر الكتاب الذي أصدرته إدارة العلاقات العامة بالجامعة الإسلامية فى 30 صفر 1403 هـ. عن لقاء الملك فهد بن عبد العزيز مع أبنائه طلاب الجامعة الإسلامية، وبلغت صفحاته (239) صفحة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1006 "إن العقيدة الراسخة عند النجديين- أمرائهم وعلمائهم- أن الله مكنهم في جزيرة العرب، وأن سلطانهم في تلك الجزيرة لإحياء معالم الشريعة، وإظهار دين الله وجعل سلطان التوحيد في الجزيرة هو السلطان الأول. وإزالة كل أثر من آثار الشرك". ولقد قال الإمام سعود في خطبته بعد دخول مكة سنة 1218هـ: "إنا كنا من أضعف العرب، ولما أراد الله ظهور هذا الدين دعونا إليه، وكل يهزأ بنا ويقاتلنا". وكان الملك عبد العزيز رحمه الله في كل مناسبة يشير إلى هذا ذاكرا فضل الله عليه وعلى أجداده من قبل وأن ما وقع على آل سعود في أيامهم الأولى لم يكن إلا عقوبة لهم من الله تعالى لتهاونهم في أمر المحافظة على الدين والانصراف إلى أمور الدنيا. ولذا فإن المشايخ من وقت لآخر مازالوا يقدِّمون النصيحة لإمامهم ويوصونه بالمحافظة على الدين والأخذ على أيدى المتهاونين به، إذا رأوا شيئا من التراخي والتهاون من ذوي النفوذ والسلطان " 1. وكما قال حافظ وهبة: " لا يزال العلماء وذوو الحجى في كل عهد يقدمون النصيحة ولا يتوانون في لفت نظر ولي الأمر منهم إلى ما فيه مصلحة الإسلام والمسلمين ويذكرونه بعاقبة التفريط وأن الله لا يغير ما   1 جزيرة العرب في القرن العشرين، تأليف حافظ وهبة ص 328. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1007 بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " 1. وقد ثبت الله بهؤلاء جميعا الأمة، ونفع بعلم العلماء منهم الناس وقمع بهم بوادر الفتن بسلطان العلم، وسلطان السيف كما قال الشاعر في الملك عبد العزيز: فجئت بالسيف والقرآن معتزم ... تمضي بسيفك ما أمضاه قرآن وأبلغ من ذلك قول الله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحديد: 25) . هذا ومن يتأمل عهد آل سعود وأثر عقيدة الشيخ السلفية فيه يجده متكامل البناء متصل الحلقات، وكم لهم من يد طولى في نشركتب السلف الصالح وطباعتها وبذل الأموال الطائلة على التعليم ونشر الإسلام في الآفاق وهم بذلك أسبق أمم أهل الأرض في هذا الزمان قاطبة وأسدهم منهجا، وأسلمهم طريقا، فمنذ عهد الملك عبد العزيز وكتب السلف تطبع وتنشر وتوزع مجانا، هذه مجموعة الرسائل والمسائل النجدية، والدرر السنية، ومجموعة فتاوى ابن تيمية، وكتب ابن القيم، وكتب الفقه، والتفسير، والحديث، في ذلك بين أيدينا شاهدة بآثارهم، وغيرها مما لا يحصيه إلا الله تعالى وقد تمت طباعة ذلك ونشره في هذا العهد المبارك، مما   1 المصدر السابق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1008 كان له أعظم سبب في نشر عقيدة السلف الصالح ولولا فضل الله تعالى بهذا العهد الميمون ما وصل إلينا من ذلك عين ولا أثر، ونخص رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالذكر لما لها من اختصاص بهذه الناحية وأعمال جليلة ظاهرة من نشر لكتب السلف، ودعوة وإرشاد وإفتاء في عقيدة السلف الصالح رحمهم الله. انتشار مؤلفات وآثار الشيخ محمد بن عبد الوهاب: ويحسن هنا استعراض كيفية انتشار مؤلفات وآثارالشيخ محمد بن عبد الوهاب بصفة خاصة لما لها من أثر في نشر عقيدة السلف الصالح وإعادة الناس إليها غير أنه تمشيا مع ما تقتضيه طبيعة الدراسة الجامعية وهي الإِفادة من جهود السابقين إذا كانت جهودا علمية صادقة وعدم إهدارها أو إغفالها، لأن الدراسات العلمية متكاملة، وتهدف إلى الوصول إلى الحقيقة العلمية، فسأكتفي في هذه النقطة بالإحالة على مجهود سبقني قد أتى عليها وفرغ من بحثها صاحبه ألا وهو: دليل ببليوجرافي: أصدره الدكتور أحمد الضبيب وهو عميد شؤون المكتبات بجامعة الرياض في كتاب عنوانه: "آثار الشيخ محمد بن عبد الوهاب، سجل ببليوجرافي لما نشرمن مؤ لفاته" 1.   1 طبع طبعة أولى في الرياض، بالمطابع الأهلية للأوفست في 199 ص عام 1397 هـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1009 ومقصود مؤلفه أن يجد الباحث بغيته ميسرة، توخى فيه مؤلفه أن يكون كتابا جامعا للمتفرق من أعمال الشيخ ولجميع ما سطره مما وصل إلى علمه مطبوعا، يدل على مظانها وتواريخ طبعها، وأماكن نشرها، وعدد هذه الطبعات وصورها المختلفة. وجعلها في ثلاثة أبواب خصص أولها وأضخمها لما كتبه الشيخ في العقيدة ذلك أن معظم ما كتبه الشيخ يتعلق بالعقيدة، والثانى لما كتبه الشيخ في الفقه، والثالث لما كتبه الشيخ في التفسير والحديث والسيرة النبوية. وقسم الباب الأول إلى فصول ثلاثة: 1- الكتب والرسائل والنبذ، ويشتمل على ما كتبه مستقلا في شكل كتاب، أو عالجه في رسائل قصيرة أو مطولة، أو سطره في هيئة نبذ قصيرة تتعلق بموضوعات معينة وقد طبع بعض ذلك مستقلا، وطبع بعضه ضمن مجموعات الدعوة السلفية. 2- المسائل والأجوبة، وأكثر هذه ردود على أسئلة موجهة للشيخ حول موضوعات معينة في العقيدة، أجاب عنها إجابات تختلف طولا وقصرا. 3- المكاتبات، وتشمل رسائله الخاصة التي بعثها إلى أشخاص الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1010 بأعيانهم أو منشوراته العامة التي يوجهها إلى أهالي القرى والمدن ومن يراها من المسلمين. والباب الثاني لما كتبه الشيخ في الفقه، وضمنه فصلين:- الأول: الكتب والرسائل والنبذ. الثاني: الفتاوى والأجوبة الفقهية. والباب الثالث: لما كتبه الشيخ في تفسير القرآن الكريم والتعليق على بعض آياته، وما ألفه في الحديث والسيرة النبوية، واشتمل هذا الباب على فصلين: الأول: ما كتبه في تفسير القرآن الكريم والتعليق على بعض آياته واستمداد بعض المسائل من هذه الآيات. والثاني: ما كتبه في الحديث والسيرة النبوية، وتعليقات الشيخ على بعض الأحاديث. إلا أن الباحث في عقيدة الشيخ السلفية لا يستغني بهذا القسم الذي سماه الدكتور قسم العقيدة عن ما كتبه الشيخ رحمه الله في التفسير والحديث والسيرة وفروع الدين مما له صلة وثيقة بالعقيدة، فإن الشيخ رحمه الله بين الوحدة الموضوعية الجامعة لهذا الدين برسالته العظيمة الأصول الثلاثة، الرب، المعبود، والعبادة ودين الإسلام بمراتبه الثلاث وأدلته من الكتاب والسنة، والرسول بخصائصه وحقوقه صلى الله عليه وسلم. ولذا لابد من الإلمام بجميع ما أثر عن الشيخ بقدر الطاقة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1011 وقد ألحق الدكتور الضبيب بكتابه فصلا مستقلاً يشتمل على بعض ما كتب من شروح على بعض مؤلفات الشيخ، وضم إلى ذلك قائمة ببعض الكتب التي تناولت شخصية الشيخ بالترجمة. وهذا السجل لا يستوفي جميع ما سطره الإمام المجدد ونشر من بعده وللمؤلف عذره في هذا، لكن فاته مما توخى أشياء: فإنه مثلا أغفل ذكر مجموعة الرسائل والمسائل النجدية، الأجزاء1، 2، 3 وفي الأول منها آثارللشيخ ورسائل، بينما نجده ذكر الجزء الرابع من هذه المجموعة وذكر جميع أجزاء الدرر السنية حتى جزئي: 9، 11 رغم خلوهما من ما سطره الشيخ ولم يذكر نبذة كتبها الشيخ وهي موجودة في الجزء الثاني من الدرر السنية في صفحة 12، كما لم يذكر وجود النبذة التي أولها: " الواجب عليك أن تعرف إرسال الرسل في الدرر السنية ج 1ص 95. ولم يحقق نسبة بعض ما نسب للشيخ من مؤلفات وآثار كما وقع له في كتاب "نصيحة المسلمين بأحاديث سيد المرسلين" ونسبه للشيخ1. وهو ليس له كما حققناه في الكلام عن مؤلفاته في المدخل. وانظر. المواد 69-74، ص 32، 33، ومادة 889- 891، ص 153-154 من كتابه المذكور.   1 المقدمة ص 9. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1012 وجعل لرسالة قواعد الدين الأربع عنوانين للمطولة عنوان وللمختصرة عنوان آخر وموضوعهما واحد، إلا أن الأولى مطولة، والثانية مختصرة ووقع خطأ في ترقيم الصفحات المحال عليها في المادة 429 ص 87- وقد التزم أن يذكر طرفا من أول كل مادة1، في كتابه ولم يذكر أول المادة رقم 34-35 ص 27. وكرر مادة واحدة من غير فائدة فانظر: مادة 297 هي مادة 311، ومادة 298 هي مادة 312. وخلط في الإحالة على الصفحات مادة مع مادة، في المادة رقم 213 ص 52 "كلمة لا إله إلا الله.. " دمج معها رسالة أخرى أولها "اعلم أرشدك الله.." وكان قد ذكرها تحت المادة 211 ص 51 بعنوان: كلمة التوحيد، ولم يذكر وجودها في الدرر السنية، ج2 ص 62-65. وحصل خطأ في كتابه تعليق على مادة"422" وهو إنما يصلح لمادة 416. وعلى الرغم من ذلك فهو أول دليل يسجل معظم أعمال الشيخ محمد بن عبد الوهاب من مؤلفات وآثار حسب قواعد علم الببليوجرافيا الحديثة وهو نافع في ذلك، ففيه مادة لا يستغني عنها باحث جاد في آثار الشيخ، وقد استفدت منه ونسأل الله أن يجزيه خيرا ولله الحمد والمنة.   1 المقدمة ص 9. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1013 سأكتفي بهذه الإحالة فيما يختص بهذه النقطة تفاديا للتكرار والإطالة بذلك. غير أني أذكر ما جَدَّ في هذا الموضوع وهو ما قامت به جامعة الإمام محمد بن سعود فقد طبعت جل مؤلفات الشيخ محققة ومقابلة على مخطوطات، وطبعت مؤلفات للشيخ لأول مرة كما سبقت الإشارة إلى ذلك عند ذكر مؤلفات الشيخ في المدخل، ثم قامت بتوزيع هذه المؤلفات على كثير من الباحثين في البلدان الإسلامية، ووفرت لديهم ذلك، وهذا له قيمته الواضحة في تأثير عقيدة الشيخ أثرا صحيحا مباشرا من آثار الشيخ الصحيحة الموثوقة وفي تعريف طلاب العلم على حقيقة عقيدته والبحث الموضوعي العلمي في ذلك، وعلى أثر ذلك استكتبت الجامعة عددا كثيرا من العلماء والباحثين عن دعوة الشيخ وعقيدته ثم وصلتها بحوث في ذلك قامت بطبعها أيضا ولكن على الآلة الكاتبة وبلغت ما يقرب من ستة مجلدات ثم وزعتها على مجموعة كبيرة من طلبة العلم والكتاب والعلماء والمثقفين ومن ضمن ذلك مصورات جغرافية تبين أماكن انتشار أثر عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في العالم الإسلامي بلغت أربعا وعشرين لوحة يمكن من أراد ذلك مراجعتها. وهذا عمل يبين مدى أثر عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب. وما من شك أن هذا الاعتناء والنشر لمؤلفات الشيخ وآثاره، يوضح جانبا من أثر عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، وما كان ليتم بهذا الشكل الجيد ولا يكون لعقيدة الشيخ هذا الأثر لولا ما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1014 أنعم الله به على أهل المملكة العربية السعودية رعاة ورعية وعلى الخصوص ورثة الشيخ في علمه وورثة أنصار الشيخ في قوتهم وسلطانهم. هذا ومن أعظم ما قامت به حكومة المملكة العربية السعودية تجاه العالم الإسلامي لتعليم العلم النافع والدعوة إلى الخير هو إنشاء الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة في عام 1381هـ1، وهي مؤسسة علمية، ذات فائدة ومنفعة كبيرة في الدين والدنيا، عامة وخاصة. فهي منذ تأسيسها تؤتي ثمارها ويتخرج منها أفواج من أبنائها، ينتشرون في أنحاء المعمورة محققين بذلك بحول الله وقوته ما تهدف إليه الحكومة من تأسيسها، فنرجوا الله سبحانه أن يفتح بها آذاناً صماً عن استماع الحق وقلوبا غلفا قد استحكم عليها غلافها حتى صارت بعيدة عن الحق، وأعينا عميا عن النظر في الأدلة والبراهين التي نصبها الله لتدل على وجوده وأنه المستحق للعبادة دون ما سواه. وكذلك إنشاء رابطة العالم الإسلامي للقيام بمهمة الدعوة لدين الله الحق، والعمل في سبيل الله، والدفاع عن الإسلام وحث المسلمين على احترام الأخوة الإسلامية والدعوة إلى التضامن الإسلامي بالحكمة والموعظة الحسنة.   1 الشيخ عبد المحسن العباد، عالم جهبذ وملك فذ ص 5.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1015 وأَنَّ ما ينعم فيه أهل البلاد السعودية من نعمة لا مثيل لها في العالم كله في هذا الزمان من أمن في الأوطان وصحة في الأبدان، واتحاد تحت راية التوحيد تحت ولاية آل سعود ما هذا إلا من أثر تلك العقيدة السلفية. وإننا ولله الحمد كما يشهد الواقع نمتاز في هذه المملكة عن جميع من حولنا ومن في أقطار المعمورة كلها بهذه الميزة، وكلما كنا متمسكين بعقيدة السلف الصالح كلما كانت آثارها من الأمن والهداية أرسخ وأقوى كما قال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (الأنعام: 82) . ومن يخالجه شك فليستقرىء الواقع في العالم الإسلامي بل وفي غيره وسيجده شاهدا بذلك، وهذا شأن عقيدة السلف الصالح لأنها قطب رحى المسلمين، ويوم يحققونها تكون لهم الإمامة والتمكين وعد الله لا يخلف الميعاد قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (النور: 55) . ونزل الوحي في الجزيرة العربية، ومن الجزيرة أضاء، والمسلمون جميعا يستقبلون البيت الحرام ويأتمون بأهل الحرم وحماته وولاته فهم في وحدة مدارها على عقيدة السلف الصالح، عقيدة الشيخ محمد بن عبد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1016 الوهاب، وكذلك تنتصر عقيدة السلف الصالح ولله الحمد. وعلى كل حال فالكلام عن أثر عقيدة الشيخ في داخل سلطانها مهما بلغ من استيعاب ودقة لا يفي بوصف الواقع كما أن وصف الواقع يعجز عنه جهد الباحث ويخرج بنا عن حدود ما رسم لهذا البحث من حجم وجهد ووقت، ولكن حسبنا أن نبين صلة هذا الأثر الحاضر بالماضى ليعلم مشاهد هذا البناء الضخم المتماسك في وحدة المملكة العربية السعودية أن سنده وأساسه وأصله هو عقيدة السلف الصالح التي اعتقدها الشيخ محمد بن عبد الوهاب ودعا إليها ونصرها الإمام محمد بن سعود رحمه الله تعالى، فأظهرها الله بذلك على ما سواها وتوارثها بعدهم بنوهم إلى يومنا هذا ونسأل الله بأنه الأحد الصمد الذي لا إله إلا هو أن يثبتهم على عقيدة السلف الصالح وأن يوفقهم لنشرها والقيام بحقوقها وهو المجيب القريب الجواد الكريم. وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه. ولعل فيما قدمته من نقول وبيان كفاية في الدلالة على أثر عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية في داخل المملكة العربية السعودية. وحيث عرفنا أثر تلك العقيدة السلفية في بناء ذلك السلطان القوي، والذي هو أصل أثرها في خارج سلطانها ننتقل إلى تعرف أثرها في الخارج وهو ما يشتمل عليه الفصل التالي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1017 الفصل الخامس: أثرها في خارج سلطانها تمهيد من الثابت في الحقيقة أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله لم يأت الناس بعقيدة جديدة، بل هو عالم عامل بين عقيدة السلف الصالح، وعمل على تطبيقها ووفق بأنصار أحرار ينصرون عقيدة السلف الصالح عن وعي وإدراك كما قال الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل رحمه الله بعد أن ذكر الإمام ابن تيمية وتلميذه الإمام ابن القيم والشيخ محمد بن عبد الوهاب قال: "فلما رأى أسلافنا [يعني آل سعود] موافقة أقوالهم وأفعالهم [يعني هؤلاء الأئمة] لما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم قبلوا ذلك وقاموا بما أظهره الله على أيديهم، ونحن إن شاء الله على سبيلهم ومعتقدهم، نرجو الله أن يحيينا ويميتنا عليه" 1. والدليل على ذلك أننا نسمع دائما لمز المتمسك بالسنة والمجانب للبدعة صوفية أوكلامية أو غيرها ليعمل بالسنة فهو وهابي وطريقته وهابية، ولو لم يكن قد أخذ عن الشيخ أولقيه أوعاصره أو أخذ عمن أخذ عنه، أو درس حتى كتبه. وهؤلاء الذين يحاولون لمز من يعمل على نشر سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوهابية على حد قولهم إنما يريدون محاربة انتشار   1 نجد وملحقاته وسيرة عبد العزيز ... أمين الريحاني ص 436. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1019 السنة والطريقة التي كان عليها السلف الصالح بذلك فيلمزون كل من عمل بالسنة وجانب البدعة أنه ينشر الوهابية، ويقصد توسيع نفوذ سلطانها ومد رقعتها فيحاربونه بهذه الفرية ويصمونه بأنه عميل يعيش على أموال السعوديين لينشر ما يسمونه بالوهابية وبأمثال هذه التشنيعات يحاربون سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وطريقة السلف الصالح ومعلوم أن أصل مذهب السلف الصالح هو اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين وسبيل المؤمنين ولم ينفرد به الشيخ محمد بن عبد الوهاب وحده، ولم ينحصر في دعوته واعتقاده، بل حمله عدول عن عدول. في كل زمان وفي أمكنة متباعدة ليس في زمان عن زمان ولا مكان عن مكان. والشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله صار إماما كغيره من أئمة السنة وشرف ونبل بذلك وكذلك أتباعه وأنصاره شرفوا باتباعهم مذهب السلف الصالح، واتخاذ طريقهم في الوسيلة والغاية. لذلك فإني في هذا البحث لا أزعم أن كل أثر من آثار عقيدة السلف الصالح هو من أثر عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية، إلا إذا وجد ما يدل على ذلك، لأن السلفية كما ذكرنا ليست محصورة إلا من طريق الشيخ، فأتباع السلف الصالح لا يزالون في كل زمان ومكان يقومون لله بحجته على خلقه قياما يفيد العلم اليقيني إلى قيام الساعة ولله الحمد والمنة. كما أنني لا أزعم أيضا أن الدعوات الاصلاحية أو الحركات السياسية في العالم الإسلامي قد تأثرت بدعوة الشيخ وحركته وحركة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1020 أنصاره من أجلها ما لم أجد دليلا يفيد ذلك سيما وأن أكثر هذه الحركات والدعوات مشوبة بما يخالف عقيدة الشيخ السلفية إما في الوسيلة أو في الغاية وإن كان ينتسب هؤلاء الدعاة المصلحون والمتحركون السياسيون إلى الإسلام والسنة، فليس اجتماع حركة الشيخ وأنصاره مع غيرها من الحركات في قدر مشترك في الذهن يسوغ لنا أن نحكم بأن تلك الحركات متأثرة بحركة الشيخ، لأن الشيخ وأنصاره إنما قاموا بنصرة دين الله ليس لهم غرض سوى ذلك، لا يبتغون زعامة ولا دنيا، إلا أنهم يريدون رضوان الله وما وعدهم الله به، فإن جاءهم فضل من الله لا منة لأحد فيه، أو مكسب لا يمس عقيدتهم، وليس على حساب تنازل منهم عن شىء من عقيدة السلف الصالح فهم يقبلونه شاكرين، وليس من عقيدتهم تصدير الحركات السياسية والثورات والاغتيالات في بلدان العالم، ولا من شأنهم التفريق وتشتيت الشمل والتحزبات والشيع، على العكس من ذلك، إنهم دعاة تأليف واجتماع واتحاد على الحق، دعاة إلى الله على طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسرهم أن يجيب المدعوون داعي الله وأن يقبلوا هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم لينجي هؤلاء المدعوون أنفسهم من الهلاك ويهتدوا إلى الصراط المستقيم إلى سعادة من أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، والشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله يقول: "نشهد الله على ما يعلمه من قلوبنا بأن من عمل بالتوحيد وتبرأ من الشرك وأهله فهو المسلم في أي زمان وأي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1021 مكان"، ولا يقول: "إن من تبع دين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ما يكفيه حتى يجىء عندنا ويوالينا ولا يقول: "إن الذي ما يدخل تحت طاعتى فهو كافر" ولا يقول: "إنه مبطل مذاهب أهل السنة والجماعة، وإنه ليس لهم كتب إلا ما بيده، وليس لهم علماء إلا من شهد له بالعلم لا يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب هذا ولا غيره مما وصفه به أعداء الحق وليس من عقيدته ذلك بل مراده اتباع دين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وإظهاره في أي أرض وطائفة كانت1 ومن أي جهة. وقد سئل أبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله تعالى، من لم تشمله دائرة إمامتكم ويتسم بسمة دولتكم هل داره دار كفر وحرب على العموم؟. فأجابوا: الذي نعتقده وندين الله به أن من دان بالإسلام وأطاع ربه فيما أمر وانتهى عما نهى عنه وزجر فهو المسلم حرام المال والدم كما دل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع الأمة ولم نكفر أحدا دان بدين الإسلام لكونه لم يدخل في دائرتنا ولم يتسم بسمة دولتنا بل لا نكفر إلا من كفر الله ورسوله، ومن زعم أنا نكفر الناس بالعموم أو نوجب الهجرة إلينا على من قدر على إظهار دينه ببلده فقد كذب وافترى2. وإذا كانت عقيدة الشيخ السلفية هكذا إنما هي تمسك بالكتاب   1 انظر: مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصبة رقم 10 ص 60 ورقم 9 ص 58 ورقم 1ص 12 ورقم 11 ص 64. 2 الدرر السنية، ج 7 ص 355. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1022 بالكتاب والسنة ودعوة إلى الله وحده بهذا التمسك الراشد. فكذلك هي ليست مصدر تزمت وترك للدنيا ورفض للمصالح فيها. وإنما هي عقيدة الصلاح والأصلح في الدنيا والآخرة، كيف لا وهي مبنية على أن صريح العقل يوافق صحيح النقل؟! وعلى ضوء هذا التمهيد وضوء ما قدمت في الفصل الأول من الباب الثاني عن أسباب تأثير عقيدة الشيخ السلفية سأبحث عن أثر عقيدة الشيخ السلفية في خارج سلطانها في هذا الفصل. فأقول إنه ما من شك أن تطهير البيت للطائفين والركع السجود وتطهير الحرمين عموما من عبادة القبور، وأنواع البدع والفجور والضرب على أيدي العابثين وتأمين الطرق إليهما من القطاع والسراق مع تعظيم حرمتهما، وخدمة حجاج بيت الله، والعمل على تيسير أدائهم فريضة الحج التي هي الركن الخامس من أركان الإسلام بكل وسائل الأمن والراحة والمعيشة أيضا. هو أثر من آثار عقيدة السلف الصالح رحمهم الله فهذا شأنهم في ولاية البيت، قال تعالى: {إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} (الأنفال: 34) . وبالتالي فله من الأثر العظيم في انتشار عقيدة الشيخ السلفية في العالم الإسلامي ما لا يستطيع أحد جحده وإنكاره، وكلما يدرك بالبداهة أثر ولاية أنصار العقيدة السلفية الطيب المشكور غير أن تتبع ذلك الأثر ليس في وسع الباحث، وحسبنا بهذا إشارة إليه. ونشير إلى سبب آخر وهو الرسائل التي كان يرسلها أئمة وعلماء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1023 عقيدة السلف الصالح من ورثة الشيخ وورثة أنصاره إلى عموم المسلمين في الخارج فلها أثر بالغ أيضا. فمنذ ظهور الشيخ محمد رحمه الله، وتلك الرسائل تتوالى فقد أرسل الشيخ نفسه إلى السويدي عالم من أهل العراق يجيبه على كتاب ورد إلى الشيخ منه فبين الشيخ في جوابه أنه متبع وليس بمبتدع وأن عقيدته ودينه الذي يدين الله به هو مذهب أهل السنة والجماعة الذي عليه أئمة المسلمين مثل الأئمة الأربعة وأتباعهم إلى يوم القيامة1. ورسالة إلى فاضل آل مزيد رئيس بادية الشام، بناء على ما ذكر راشد بن عربان للشيخ من كلام حسن عن فاضل وأنه طالب منه المكاتبة بسبب ما يجيئه من الكلام فذكر له الشيخ صفة الأمر وأنه الدعوة إلى الإسلام2. ورسالته إلى البكيلى صاحب اليمن3، وإلى إسماعيل الجراعي 4، وإلى عبد الله بن عبد الله الصنعاني5، ورسالته إلى أهل المغرب6. وغير هذه الرسائل، من رسائل شخصية ورسائل عامة   1 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 5 ص 36-38. 2 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية. رقم 4 ص 32-33. 3 مؤلفات الشيخ، القسم الخامس، الشخصية رقم 14 ص 94-98. 4 المصدر السابق رقم 15 ص100- 101. 5 المصدر السابق رقم 16 ص 103-107. 6 المصدر السابق رقم 17 ص110- 115 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1024 ومؤلفات شاملة تبعث في كل اتجاه حسب القدرة والطاقة كما فعل الإمام عبد العزيز بن محمد حين بعث كتاب التوحيد وغيره إلى والي بغداد1، كل ذلك لا شك أن له أثرا في انتشار عقيدة السلف الصالح وتأثيرها في تلك المواطن خارج سلطانها. ومن بعد الشيخ محمد مازالت الرسائل ترسل فتلك الرسالة المهمة الجليلة رسالة الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود التي أرسلها إلى من يراه من العلماء والقضاة في الحرمين والشام ومصر والعراق وسائر علماء المشرق والمغرب يبين فيها حكمة خلق الله الخلق وأنها ليعبدوه فأمرهم بها وحذرهم مخالفته وأن الجزاء واقع لا محالة وأخذ يشرح ذلك ويدلل عليه من الكتاب والسنة وهي رسالة عظيمة التأثير. والرسالة الأخرى التي أرسلها الإمام عبد العزيز بن محمد2 إلى من يراه من بلدان العجم والروم وشرح فيها عقيدة السلف الصالح بعثها مع محمد خلف النواب الذي قدم الدرعية مع الحاج وجلس مدة يتعلم العقيدة فلما فقه أرسل معه تلك الرسالة وأحالهم عليه ليبين لهم. ورسالته أيضا إلى من يراه من أهل المخلاف السليماني مع الشريف أحمد الذي قدم عليهم ورأى وحقق صحة ما هم عليه، والتمس أن يرسل الإمام معه إلى قومه   1 انظر: 2/ 831 من هذا البحث. 2 الدرر السنية ج1ط 2 ص 143-46 1.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1025 رسالة فكتبها1. وسبق ذكر شىء من ذلك2. ورسالة الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب التي كتبها لما مكنهم الله مع الإمام سعود بن عبد العزيز بن محمد من ولاية الحرمين وقد شرح فيها دعوة الشيخ محمد وبين عقيدتهم وأنها عقيدة السلف الصالح وشرح مذهب أهل السنة والجماعة في الأصول والفروع ورد المفتريات عليهم بالقول والفعل وكل يشهد مصداق ذلك، وما من شك أنها تقدم للحجاج والعمار والوافدين من خارج الدولة فيكون لها تأثير بالغ عظيم وسبق ذكرها3. ومن الإمام سعود بن عبد العزيز بن محمد إلى سليمان باشا جوابا على خطاب من سليمان مبني على خطاب سابق من الإمام سعود إلى يوسف باشا، يبين فيها الإمام أنهم متبعون ما أمر الله به رسوله وعباده المؤمنين، ويرد عليه افتراءاته وتلبيساته، ويبين له طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتابعيهم بإحسان4. وللشيخ إسحاق بن الشيخ عبد الرحمن بن حسن رسالة جليلة في بيان معتقد الشيخ وكان قد سافر للهند بطلب العلم على أهل الحديث   1 المصدر السابق ج1 ط 2 ص 146-148. 2 انظر: 2/ 831 من هذا البحث. 3 انظر: 2/ 869 من هذا البحث. 4 الدرر السنية ج1 ص305-318. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1026 وعلماء السنة هناك وينشر الحق باستطاعته ولعله كتبها لمواجهة بعض الإشاعات والترويجات على الشيخ في الهند وغيره فنشرها بين طلبة العلم وجاء فيها بعد الثناء على الله سبحانه وبحمده والصلاة والسلام على رسوله صلى الله عليه وسلم، أما بعد فإنه ابتلي من استحوذ عليه الشيطان بعداوة شيخ الإسلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ومسبته وتحذير الناس عنه وعن مصنفاته لأجل ما قام بقلوبهم من الغلو في أهل القبور وما نشؤوا عليه من البدع التي ملأت الصدور، فأردت أن أذكر طرفا من أخباره وأحواله ليعلم الناظر فيه حقيقة أمره فلا يروج عليه الباطل، ولا يغتر بحائد عن الحق مائل مستنده ما ينقله أعداؤه الذين اشتهرت عداوتهم له في وقته وبالغوا في مسبته، إلى أن قال: والذي يقضي به العجب قلة إنصافهم وفرط جورهم واعتسافهم وذلك أنهم لا يجدون زلة من المنتسبين إليه، ولا عثرة إلا نسبوها إليه وجعلوا عارها راجعا عليه وهذا من تمام كرامته وعظم قدره وإمامته. وقد عرف من جهالهم، واشتهر من أعمالهم أنه ما دعا إلى الله أحد، وأمر بمعروف ونهى عن منكر في أي قطر من الأقطار إلا سموه (وهابيا) وكتبوا فيه الرسائل إلى البلدان بكل قول هائل يحتوي على الزور والبهتان ومن أراد الإنصاف وخشي مولاه وخاف، نظر في مصنفات هذا الشيخ. أهـ ثم ذكر الشيخ بعض ما وقف عليه من كلامه وما عرف واشتهر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1027 واستفاض من تقارير الشيخ ومراسلاته ومصنفاته المسموعة المقروءة عليه وما ثبت بخطه وعرف واشتهر من أمره ودعوته وما عليه الفضلاء النبلاء من أصحابه وتلامذته أنه على ما كان عليه السلف الصالح وأئمة الدين أهل الفقه والفتوى ثم سرد عقيدة الشيخ رحمه الله حسب ما ذكر1. وهذا سنلاحظ أثره الواضح في تلك الديار التي سافر إليها في الهند وغيرها كما في صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان للشيخ محمد بشير السَّهواني الهندي، وغيره فيما يأتي من بحث أثر عقيدة الشيخ السلفية في الهند. ثم في عهد الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن، كانت رسائل مثل رسالة محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن إلى من يراه من أهل القرى ورؤساء القبائل من أهل اليمن وعسير وتهامة وشهران وبني شهر وقحطان وغامد وزهران وكافة أهل الحجاز يقول فيها: إنه لما كان في سنة تسع وثلاثين وثلثمائة وألف من الهجرة: (بعثنا الإمام المقدم، والرئيس المفضل المفخم، صاحب السعادة والسيادة عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل آل سعود، أعلا الله سعوده، وأدام للمسلمين وجوده، لأجل تعليمكم ما أوجبه الله عليكم وتعبدكم به من دين الإسلام، الذي معرفته والعمل به والبصيرة فيه سبب لدخول الجنة،   1 الدرر السنية، ج1ص 256، 268. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1028 والجهل به والإعراض عنه وعدم قبوله والانقياد له سبب لدخول النار. فلما قدمنا بعض جهاتكم رأينا أهلها قد جال بهم الشيطان والهوى، وتمادوا في الغي والطغيان والإعراض عن النور والهدى، وفرقوا أمرهم وكانوا شيعا، وغلب عليهم الجهل وإيثار الشهوات، واستجابوا لداعي الشبهات، فوقعوا في وادى جهل خطير، فهم على شفا حفرة من السعير، وغلب على أكثرهم الاعتقاد في أهل القبور والأحجار والغيران، وتعظيم أهل الصلاح من المقبورين، وهذا هو دين أهل الجاهلية الأولين. ثم أخذ يشرح عقيدة السلف الصالح ويدعو إليها بالحجج والبراهين1. ورسالة أخرى من الشيخ محمد بن عبد اللطيف إلى من ذكرنا في الرسالة التي قبلها من أهل تلك الجهات ومنها جهة اليمن، وفي هذه الرسالة يركز الشيخ محمد بن عبد اللطيف على أن عقيدتهم ودينهم هو دين الإسلام، وهو عقيدة أهل الحق، أهل السنة والجماعة، وهم السلف الصالح2. وما من شك أن مثل تلك الجهود والرسائل كان لها أثر جيد في جهات اليمن مما خرج عن سلطان أنصارها، على ما سنبينه قريبا في مبحث أثرها في اليمن ويضاف إلى ما تقدم من الأسباب تشجيع ولاة   1 الدرر السنية، ج1ص 283-290. 2 الدرر السنية، ج1ص 290-291. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1029 الأمور في المملكة للوافدين من أجل طلب العلم وتوفير المنح الدراسية لهم من جميع أنحاء العالم الإسلامي لاسيما في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة أول عاصمة للخلافة الإسلامية. ويشكل الطلاب الوافدون إليها من خارج المملكة من غير السعوديين، من أبناء العالم الإسلامي في شتى أقطار المعمورة وينتمون إلى (88) قطرا، يشكلون 85% من طلاب الجامعة الإسلامية البالغ عددهم (6665) طالبا حسب احصائيات شهرجمادى الآخرة عام 1403 هـ. وهؤلاء الطلاب الوافدون يتلقون العلم المستمد من الكتاب والسنة وفقا لما كان عليه سلف الأمة الإسلامية. ولا ننسى ما تسهم به جامعة الإمام محمد بن سعود في هذا المجال لاسيما بالفروع التي تم فتحها في خارج المملكة وهي تابعة لها كمعهد تعليم اللغة العربية بأندونيسيا والمعهد العلمي برأس الخيمة، والمعهد العلمي في موريتانيا. وكذلك رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد في نشاطها خارج المملكة ومن ذلك مبتعثيها في سائر أنحاء العالم للدعوة والإرشاد. وهذا له أثر حسن في نشر عقيدة السلف الصالح، وكل ذلك من أثر عقيدة الشيخ السلفية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1030 أثرها في اليمن: يذكر محمد رشيد رضا أن علماء السنة في اليمن قد بلغهم كل ما قيل في الشيخ محمد بن عبد الوهاب فبحثوا وتثبتوا وتبينوا كما أمر الله تعالى فظهر لهم أن الطاعنين فيه مفترون لا أمانة لهم وأثنى عليه فحولهم في عصره وبعد عصره، وعدوه من الأئمة المصلحين المجددين للإسلام ومن فقهاء الحديث كما نراه في كتبهم1. وإذا تذكرنا قصيدة الإمام الصنعاني التي يمدح فيها الشيخ محمد بن عبد الوهاب ويثني على طريقته ويؤيد عقيدته ومسلكه، بدا لنا كيف وصل تأثير عقيدة الشيخ إلى هناك، ودورها في نشر عقيدة السلف الصالح، يقول الأمير الصنعاني بين يدي قصيدته الدالية المشهورة التي مطلعها: سلام على نجد ومن حل في نجد ... وإن كان تسليمي على البعد لا يجدي قال: لما طارت الأخبار بظهور عالم في نجد يقال له محمد بن عبد الوهاب ووصل إلينا بعض تلاميذه وأخبرنا عن حقائق أحواله وتشميره في التقوى وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اشتاقت النفس إلى مكاتبته بهذه الأبيات سنة 1163 هـ. وأرسلناها من طريق مكة المشرفة   1 مقدمة محمد رشيد رضا، لكتاب صيانة الإنسان تأليف محمد بشير السهسواني ص 14 ط 5. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1031 وهي: ثم أوردها في ديوانه ويقول فيها: قفي وأسألي عن عالم سوحها ... به يهتدي من ضل عن منهج الرشد محمد الهادي لسنة أحمد ... فيا حبذا الهادي ويا حبذا المهدي لقد أنكرت كل الطوائف قوله ... بلا صدر في الحق منهم ولا ورد وما كل قول بالقبول مقابل ... ولا كل قول واجب الرد والطرد سوى ما أتى عن ربنا ورسوله ... فذلك قول جل قدرا عن الرد وأما أقاويل الرجال فإنها ... تدور على قدر الأدلة في النقد وقد جاءت الأخبار عنه بأنه ... يعيد لنا الشرع الشريف بما يبدي وينشر جهرا ماطوى كل جاهل ... ومبتدع منه فوافق ما عند ويعمر أركان الشريعة هادما ... مشاهد ضل الناس فيها عن الرشد أعادوا بها معنى سواع ومثله ... يغوث وود بئس ذلك من ود وقد هتفوا عند الشدائد باسمها ... كما يهتف المضطر بالصمد الفرد وكم عقروا في سوحها من عقيرة ... أهلت لغير الله جهلا على عمد وكم طائف حول القبور مقبل ... وملتمس الأركان منهن باليد إلى أن قال يصف ما في دلائل الخيرات من غلو: غلو نهى عنه الرسول وبدعة ... بلا مرية فاتركه إن كنت تستهدي أحاديث لا تعزى إلى عالم فلا ... تساوى فليسا إن رجعت إلى النقد1   1 انظر: مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، مفيد المستفيد ص 310. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1032 وصيرها الجهال للذكر ضرة ... يرى درسها أزكى لديهم من الحمد لقد سرني ما جاء لي من طريقه ... وكنت أرى هذى الطريقة لي وحدي إلى آخر قصيدته الطويلة المفيدة، والتي تدل على أن الأرض لا تخلو من قائم لله بحجته غير أن الشيخ رحمه الله رزق بأنصار يبتغون وجه الله وحده، وهذا فضل من الله تعالى، ويدل كلام الأمير الصنعاني في قصيدته هذه على أن أثر الشيخ في إِظهار مذهب أهل السنة والجماعة قد وصل إلى اليمن، وانظر الأمير يقول في قصيدته هذه التي قالها في الشيخ ومن أجله وإصلاحه: سلام على أهل الحديث فإنني ... نشأت على حب الأحاديث من مهدي هم بذلوا في حفظ سنة أحمد ... وتنقيحها من جهدهم غاية الجهد إلى أن قال: إليك طوت عرض الفيافي وطولها ... فكم جاوزت غورا ونجدا الى نجد أناخت بنجد واستراح ركابها ... وعاد خليا عن رحيل وعن شد فأحسن قراها بالقراءة ناظما ... جوابا فقد أضحت لديك من الوفد وصل على المختار والآل أنها ... لحسن ختام النظم واسطة العقد1   1 ديوان الأمير الصنعاني ص 128-132. وانظر: بعضها في عنوان المجد في تاريخ نجد لابن بشر، ج1ص 54. 55. وانظر: بيتا واحدا منها في مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، مفيد المستفيد ص 310. وانظر: تبرئة الشيخين الإمامين من تزوير أهل الكذب والمين للشيخ العلامة سليمان بن سحمان، طبع بأمر الإمام السلطان عبد العزيز آل سعود بمطبعة المنار سنة 1343 هـ. وانظر: روضة ابن غنام، ج1ص 46-49. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1033 وكانت ولادة الصنعاني سنة 1099 هـ. ووفاته سنة 1182 هـ1. ونجد في اليمن عالما جليلا من علمائه الأعلام هو الشيخ حسين بن مهدي النعمي التهامي ثم الصنعاني، وفد من مدينة صبيا بتهامة إلى صنعاء لطلب العلم- فأخذ بها في العلوم النقلية والعقلية الفرعية والأصولية. فأقرأ في كتب السنة في صنعاء وكثر الآخذون عنه من الخاصة والعامة، وعملوا بالسنن من رفع اليدين عند الركوع والرفع، وقبضهما على الصدر، وتأمين الإمام والمأموم وغيرها من السنن في الصلاة وهو معاصر للأمير الصنعاني، واستمر على الإِقراء في كتب السنة، والعمل بها مجللا محترما وقد أذن له المهدى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإِن كان المخالف من خاصة المهدي. وتوفي في سنة 1187 هـ. وخلفه تلميذه يحيى بن حسن الكبسي، وطريقته طريقة شيخه المذكور، انتهى ملخصا مما نقله سليمان بن عبد الرحمن الصنيع من مخطوط كتاب (نشر العرف لنبلاء اليمن بعد الألف) 2.   1 انظر: مقدمة الديوان، ص 5، 12. 2 انظر: ترجمته في أول كتاب: معارج الألباب في مناهج الحق والصواب ص13-15 ط 2 سنة 1393 هـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1034 وقد عرضت عليه أجوبة علماء الحرم الشريف من مختلف المذاهب والتي اتفقت أجوبتهم على إِبقاء القباب والأضرحة والأبنية على القبور، بناء على سؤال رفع إليهم بشأن هدم القباب وتسوية القبور، بسبب ظهور أمر الشيخ محمد بن عبد الوهاب بذلك وسعيه في هدم تلك الأضرحة ومحاربة ما ترتب على وجودها من وثنية وعبادة لغير الله من دونه فتصدى هذا الشيخ النعمي للرد عليها وجعله كتابا اسمه ((معارج الألباب في مناهج الحق والصواب)) ، وبإِمعان النظر فيه يتضح لنا ما وهبه الله من المقدرة وسعة الاطلاع وقوة اليقين مما حمله على إعلان الحق وعدم المبالاة بمخالفة الناس والمفتين وأرباب المناصب والجاه1. قال الشيخ النعمي في مقدمة كتابه هذا: وبعد: فلما كان في شهر ربيع الآخر من شهور سنة سبع وسبعين ومائة وألف من الهجرة النبوية. وقفت على صورة سؤال، وغير ما جواب في شأن ما يسر الله هدمه وافتقاده من المشاهد والقباب، وإزالة ما أزيل منها بالتدمير والخراب لما تفاحشت خطوب مفاسدها في هذا الزمان، وضاهت رسوم الجاهلية الجهلاء المنافية للتوحيد والإيمان. مع كون وضع القباب أمرا صادم المأثور الصحيح من النهي الصريح فهو بمجرده ممنوع شرعا كما قد شرحت ما جاء فيه ضمن   1 انظر: كلمة الإفتتاح للطبعة الثانية لكتاب معارج الألباب في مناهج الحق والصواب، للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين، ص 3،14. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1035 رسالة مستقلة وجيزة، أسفرت عن وجهه الصبيح واسمها: (مدارج العبور، على مفاسد القبور. وكان قبل هذا التاريخ بمدة يسيرة: ألقي إلي بعض أعيان الزمن بمدينة صنعاء اليمن ... كتابا ورد عليه من مكة المشرفة، ذكر فيه ما حاصله أنه وصل إلى هنالك سؤال في هذه المسألة وأنه أجاب فيه مفتوا الأربعة المذاهب. بما يتضمن التشنيع على من دل على هدم القباب والمشاهد، وأشار بتخريب تلك المعاقل والمعاهد1. ثم ذكر أنه اطلع على الأجوبة وإذا هي أحموقات حرية بالإطراح، وأغاليط خليقة أن يتسلى عنها ويستراح، وأن لا يرفع لبيب إليها رأسا، ولا يتسنم للرد عليها قرطاسا، لأنها لم ترح رائحة التحقيق، ولا تمسك من تحرى السداد بحبله الوثيق2. ثم قال: (ولولا وجوب النصح والإرشاد، ورفع اللبس: لاتجه في السكوت عن فتاويهم إِلحاق اليوم بالأمس) 3. وذكر أن المجيبين أضاعوا عهود العلم والهدى وأهملوها، وليس سبيل من هذا شأنه إلا التنبيه، وإِزاحة الضرر عمن لم يعلم ما في مقاله من التمويه، لأنه لم يسلك معك مسلك المحاورات بين أهل التحصيل، بل سد عليك طريق أخد الحكم من دليله، فما الذي تبتغيه عنده بعد؟! وأي سفاهة علمت أقبح مما صنع هؤلاء الجماعة؟! ويقول: (إن طفقنا نقول   1 معارج الألباب في مناهج أهل الحق والصواب ص 21. 2 معارج الألباب في مناهج أهل الحق والصواب ص 22. 3 معارج الألباب في مناهج أهل الحق والصواب ص 20-22. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1036 لهم: هذا حرام لدلالة هذه الأحاديث الصحيحة على ذلك، أجابوا: بأنه صرح به في المنهاج وشرحه، وهو الذي فهمه ابن عبد الحق من عبارة الروضة بالجواز، قلنا ما هي الحجة على الآخر؟ قالوا: لا يحل لنا ولا لك. أن نقول: يحل كذا، يحرم كذا، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، ومحال في زماننا هذا شيء من ذلك، فلم يبق حجة إلا ما ذكر سنان أفندى في كتاب ((تبيين المحارم)) ، والشيخ زكريا في شرح المنهاج، وحواشيه لنور الدين الزيادي، وما ذكرته مطرح وأنت عاص بهذا الصنيع) إلى آخر ما ذكره عنهم من أصلهم الذي حرروه وهو امتناع أخذ الحكم من دليله، وتعذر ذلك في هذه الأعصار مع أنهم نقضوه بشيء كثير من كلامهم. فأورد أمثلة من قولهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذا وكذا، مرارا كثيرة وهو من عجيب ما يستظرفه العقلاء، ودليل على بطلان أصلهم بديهة وطبعاً ووضعا إلى آخر ما قال1. ثم حصر الكلام في ثلاثة أبواب: الأول في أبحاث متفرقة تتعلق بتلك الأجوبة2. والباب الثاني في ذكر جملة شافية من الأحاديث الصحيحة، والأخبار الصريحة الشاهدة بأن وضع القباب والبناء على القبور من أصله   1 انظر: معارج الألباب في مناهج أهل الحق والصواب، ص 22-28. 2 من ص 28 إلى ص 105. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1037 وتشريفها، والكتابة عليها وتجصيصها واتخاذها مساجد، وما يتصل بذلك: أمر تقرر في الشرع منعه، وسبق الحكم الجازم بالنهي عنه، والكف عن ارتكابه، وثبتت القضية في ذلك، ومضت كلمة الحق بسد ذريعته، تحذيرا لنا أن نسلك سنن من قبلنا، مع قطع النظر عن المفاسد المترتبة على ذلك1. والباب الثالث في سوق ألفاظ من ذلك السؤال وتلك الأجوبة، مع الإِشارة إلى ما فيها من فساد2. وهو كتاب عظيم النفع، سديد في جوابه وبيانه رحم الله مؤلفه وجزاه خيرا عن الإسلام والمسلمين. ومن بعد الأمير الصنعاني والشيخ حسين النعمي الإمام الشوكاني المولود سنة 1173 هـ. والمتوفي سنة 1250هـ3 وقد عايش الشوكاني أحداث باشا مصر وما حل من مصائبه، وكان لهذه الأحداث وما يصحبها من إِشاعات وبلبلة في الأخبار وتضارب أثر في ما يكتبه إلا أنه لا يشك في الإمام سعود ومعتقده فقد قال: "وبعض الناس يزعم أنه يعتقد اعتقاد الخوارج، وما أظن ذلك صحيحا، فإِن صاحب نجد وجميع أتباعه يعملون بما تعلموه من محمد بن   1 من ص 105 إلى ص 137. 2 من ص 137 إلى ص 255. 3 انظر: البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع ج1ص 478، وج2 ص 214. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1038 عبد الوهاب وكان حنبليا ثم طلب الحديث بالمدينة المشرفة فعاد إلى نجد وصار يعمل باجتهادات جماعة من متأخري الحنابلة كابن تيمية وابن القيم وأضرابهما وهما من أشد الناس على معتقدي الأموات، وقد رأيت كتابا من صاحب نجد الذي هو الآن صاحب تلك الجهات أجاب به على بعض أهل العلم وقد كاتبه وسأله بيان ما يعتقده فرأيت جوابه مشتملا على اعتقاد حسن موافق للكتاب والسنة1. ويقول: وبلغنا أنه وصل إلى مكة بعض علماء نجد لقصد المناظرة فناظر علماء مكة بحضرة الشريف في مسائل تدل على ثبات قدمه وقدم صاحبه في الدين وفي سنة (1215 هـ) وصل من صاحب نجد المذكور مجلدان لطيفان أرسل بهما إلى حضرة مولانا الإمام حفظه الله أحدهما يشتمل على رسائل لمحمد بن عبد الوهاب كلها في الإرشاد إلى إخلاص التوحيد والتنفير من الشرك الذي يفعله المعتقدون في القبور وهي رسائل جيدة مشحونة بأدلة الكتاب والسنة والمجلد الأخر يتضمن الرد على جماعة من المقصرين من فقهاء صنعاء وصعدة ذاكروه في مسائل متعلقة بأصول الدين وبجماعة من الصحابة فأجاب عليهم جوابات محررة مقررة محققة تدل على أن المجيب2   1 البدر الطالع ج2 ص 6-7. 2 ويعنى به الشيخ عبد الله الشيخ محمد في جوابه لهم المسمى: جواب أهل السنة في نقض كلام الشيعة والزيدية. انظره في مجموعة الرسائل والمسائل النجدبة ص 547-222. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1039 من العلماء المحققين العارفين بالكتاب والسنة وقد هدم عليهم جميع ما بنوه وأبطل جميع ما دونوه لأنهم مقصرون متعصبون فصار ما فعلوه خزياً عليهم وعلى أهل صنعاء وصعدة وهكذا من تصدر ولم يعرف مقدار نفسه وأرسل صاحب نجد مع الكتابين المذكورين بمكاتبة منه إلى سيدي المولى الإمام فدفع حفظه الله جميع ذلك إليّ فأجبت عن كتابه الذي كتب إلى مولانا الإمام حفظه الله على لسانه بما معناه أن الجماعة الذين أرسلوا إليه بالمذاكرة لا ندرى من هم وكلامهم يدل على أنهم جهال والأصل والجواب موجودان في مجموعي1. ويقول الشوكاني عن الإمام سعود سمعنا أنه قد استولى على بلاد الأحساء والقطيف وبلاد الدواسر وغالب بلاد الحجاز. ومن دخل تحت حوزته أقام الصلاة والزكاة والصيام وسائر شعائر الإسلام ودخل في طاعته من عرب الشام الساكنين ما بين الحجاز وصعدة غالبهم إما رغبة وإما رهبة وصاروا مقيمين لفرائض الدين بعد أن كانوا لا يعرفون من الإسلام شيئا ولا يقومون بشيء من واجباته إلا مجرد التكلم بلفظ الشهادتين على ما في لفظهم بها من عوج. وبالجملة فكانوا جاهلية جهلاء كما تواترت بذلك الأخبار إلينا ثم صاروا الآن يصلون الصلوات لأوقاتها ويأتون بسائر الأركان الإسلامية على أبلغ صفاتها2.   1 البدر الطالع، ج2 ص 7. 2 البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع ج2 ص5. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1040 وقد صارت جيوش صاحب نجد في بلاد يام وفي بلاد السراة المجاورين لبلاد أبي عريش ومن تبعه من هذه الأجناس اغتبط بمتابعته وقاتل من يجاوره من الخارجين عن طاعته فبهذا السبب صار معظم تلك البلاد راجعا إليه1. ويقول: وفي سنة 1217 هـ. دخلت بلاد أبي عريش وأشرافها في طاعة صاحب نجد ثم تزلزلت الديار اليمنية بذلك واستولى أصحابه على بعض ديار تهامة وجرت أمور يطول شرحها وهي الآن في سريان وقد أفردت ما بلغنا من ذلك في مصنف مستقل لأن هذه الحادثة قد عمت وطمت وارتجفت لها أقطار الديار الشامية والمصرية والعراقية والرومية بل وسائر الديار لاسيما بعد دخول أصحاب النجدي مكة المشرفة وطرد أشرافها عنها ولله أمر هو بالغه. ثم في سنة (1222) وصل إلينا جماعة من صاحب نجد سعود بن عبد العزيز لبعضهم معرفة في العلم ومعهم مكاتيب من سعود إلى الإمام المنصور بالله رحمه الله تعالى وإليّ أيضا ثم وصل جماعة آخرون كذلك في سنة (1227) ثم وصل جماعة آخرون كذلك في سنة (1228) ودار مع هؤلاء الواردين ومع غيرهم من المكاتبة ما لا يتسع المقام لبسطه2.   1 البدر الطالع ج2 ص 6. 2 البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع ج2 ص 7- 8. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1041 ويقول في ترجمة الإمام سعود بن عبد العزيز "وكان جده محمد بن سعود شيخا لقريته التي هو فيها فوصل إليه الشيخ العلامة محمد بن عبد الوهاب الداعي إلى التوحيد المنكر على المعتقدين في الأموات". فأجابه وقام بنصره ومازال يجاهد من يخالفه وكانت تلك البلاد قد غلبت عليها أمور الجاهلية وصار الإسلام فيها غريبا ثم مات محمد بن سعود وقد دخل في الدين بعض البلاد النجدية وقام ولده عبد العزيز مقامه فافتتح جميع الديار النجدية والبلاد العارضية والحسا والقطيف وجاوزها إلى فتح كثير من البلاد الحجازية ثم استولى على الطائف ومكة والمدينة وغالب جزيرة العرب. وغالب هذه الفتوح على يد ولده سعود ثم قام بعده ولده سعود فتكاثرت جنوده واتسعت فتوحه ووصلت جنوده إلى اليمن فافتتحوا بلاد أبي عريش وما يتصل بها، ثم تابعهم الشريف حمود بن محمد شريف أبي عريش وقد تقدمت ترجمته وأمدوه بالجنود ففتح البلاد التهامية كاللحية والحديدة وبيت الفقيه وزبيد وما يتصل بهذه البلاد ومازال الوافدون من سعود يفدون إلينا إلى صنعاء إلى حضرة الإمام المنصور وإلى حضرة ولده الإمام المتوكل بمكاتيب إليهما بالدعوة إلى التوحيد وهدم القبور المشيدة والقباب المرتفعة ويكتب إلي أيضا مع ما يصل من الكتب إلى الإماميين. ثم وقع الهدم للقباب والقبور المشيدة في صنعاء وفي كثير من الأمكنة المجاورة. لها وفي جهة ذمار وما يتصل بها1.   1 البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع ج1ص 262-263. وانظر: الدرر السنية 12/ 20-24. وتذكرة أولى النهى والعرفان لإبراهيم بن عبيد 1/ 50-54 . وأثر الدعوة الوهابية لمحمد حامد الفقى ص 78-80. والشعر يواكب الدعوة لابن خميس، بحث قدم إلى أسبوع الشيخ ص 2-3. والإمام الشوكاني مفسرا، رسالة دكتوراه إعداد محمد حسن بن أحمد الغامدي ص 32 في جامعة أم القرى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1042 ولنذكر قصيدته الجيدة التي رثى بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب لما توفي ومطلعها: مصاب دهى قلبي فأذكى غلائلي ... وأصمى بسهم الافتجاع مقاتلي إلى أن قال: إمام الهدى ما حي الردى، قامع العدى ... ومروى الصدى من فيض علم ونائل وقال عنه: إمام الورى علامة العصر قدوتي ... وشيخ الشيوخ الحبر فرد الفضائل محمد ذو المجد الذي عز دركه ... وجل مقاما عن لحوق المطاول إلى عابد الوهاب يعزى أنه ... سلالة أنجاب زكي الفضائل إلى أن قال: لقد أشرقت نجد بنور ضيائه ... وقام مقامات الهدى بالدلائل إلى آخر القصيدة وهي طويلة تنيف على المائة بيتا أوردت منها شطرا في ترجمة الشيخ فيمن رثاه رحمه الله، وما أوردته هناك يناسب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1043 ايراده هنا ولكن تفاديا للتكرار أحيل عليه. وأما في العصر الحاضر ففي اليمن كثير من أهل السنة والجماعة وبعضهم كان سبب هدايته إلى مذهب السلف هو ما تلقاه في جامعات المملكة، وما سمعه من مشايخ الدعوة وما توصل إليه من بحثه في ميراث الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله فاقتنع اقتناعا حرا بصحة عقيدة السلف الصالح، وصار من الدعاة إليها وإلى نشرها في بلاده. أثرها في الشام: وفي الشام كان لها أثر جيد وقد اطلعت على رسالتين صغيرتين إحدهما بعنوان: النفخة على النفحة لمؤلفها الشيخ ناصر الدين الحجازي الأثري وقد شغلت 56 صفحة من الوسط، والثانية بعنوان: نظرة في النفحة الزكية في الرد على الوهابية مؤلفها أبو اليسار الدمشقي الميداني في 34 صفحة من الوسط وكأنها ذيل للأولى وتعليق. عليها طبعتا في مجلد واحد سنة 1340 هـ. بمطبعة الترقي بدمشق. والأولى عبارة عن رد بليغ صدر من عالم محقق يتقي الله، ويلتزم في رده الحكمة والموعظة الحسنة والإنصاف في المحاجة. جاء في أولها بعد البسملة والحمد لله، والثناء على الله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه بينما كان سائرا في إحدى طرق مدينة دمشق إذ بصر برجل عليه سيما العلم وبيده رسائل يوزعها فأهداه رسالة وهو يرتجف ويشير إلى أنه أبدع فيما كتب، فذهب ناصر الدين إلى أحد مساجد البلد ووجد أحد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1044 أهل العلم فيه فلما أبصره والرسالة بيده هز رأسه وقال ما هذه الرسالة؟ فأجابه بأنه رأى عنوانها وأن من حاكها أسماها (النفحة الزكية في الرد على شبه الفرقة الوهابية) ومؤلفها يزعم أنه من أكابر علماء دمشق يقال له الشيخ عبد القادر الإسكندراني المنتحل لنفسه لقب الكيلاني، فأجابه ذلك العالم الذي في المسجد بأن مُدعِي هذه الرسالة إنما أغار على كتاب الفجر الطالع لجميل صدقي الزهاوي وعلى ما لفقه الشيخ دحلان فأخذ ما اختاره منهما ولم يزد من عنده إلا أحرفا يسيرة فدهش ناصر الدين وأخذ الرسالة يتصفحها ثم رآها على غير قاعدة المحققين، وإنما هي تلفيقات فانتدب لنقضها بأسلوب العالم المتزن ومسلك المحقق الذي بينه كمنهج لرده. ويمكن تلخيصه، بنقاط هي: 1- أن المحققين ينزهون أنفسهم عن السباب والشتم لمن يردون عليه. 2- يجعلون نصب أعينهم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} . 3- وإن من يرد على أحد في كلامه يأخذ جملة من كلامه فيبين الغلط فيها ثم جملة وجملة حتى يستوفي الكلام بلا تحامل ولا اعتساف. 4- وأن يتلو قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} . ولكن صاحب الرسالة كما قال ناصر الدين لم يسلك في رده ذلك المسلك فأراد ناصر الدين خدمة الحقيقة فقال إن صاحب النفحة صدر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1045 رسالته بما لفقه الشيخ أحمد دحلان في آخرتاريخ أمراء البيت الحرام وسلك موطىء قدمه حذو النعل بالنعل بلا تأمل ولا تدبر، ولاشك أن الله تعالى يجمع الكل يوم القيامة ثم ينبئهم بما كانوا يعملون. قال ناصر الدين: وقبيح بمؤلف يملأ كتابه بالإِفتراء والتعدي وفي قصة الإفك أعظم رادع لمن كان يؤمن بالله ورسوله، ويطلب النجاة لنفسه فيحاسبها خاليا، {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} . ومهما تملق المتملقون، واستتر المراؤون فإن الله لا تخفى عليه خافية، ولابد أن يشف الباطل عن الحق، فيظهر ناصعا واضحا، وإليك جملا من كلام صاحب الرسالة تدل على افترائه بما ادعاه. إلى أن قال: "ومن طبعه الوقوع في أعراض الناس يرى لذلك لذة ولا يحلو في ذوقه إلا الغيبة والنميمة واتباع الهوى" ثم نقل عنه قوله عن محمد بن سعود. أمير الدرعية بلاد مسيلمة فقال ناصر الدين له: "هب أننا سلمنا أنها بلاد مسيلمة فما الذي تراه من ذمها؟! أليست مصر كانت بلاد فرعون وهامان وقارون؟. وما الإسكندرية إلا من بعض بلاد مصر؟! أليست بابل كانت بلاد نمرود؟! أليست مكة كانت موطن أبي جهل وأبي لهب وأضرابهما؟! أليست فلسطين كانت بلاد قوم لوط؟! هل ضر هذه البلاد شيء من ذلك؟ أم هل تناقص قدرها؟! أَلم تعلم أن أول من أسس هذا القياس من أخبر الله عنه أنه قال: "أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين"؟ وما إِخالك يرعاك الله إلا أنك بعد هذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1046 تتبع الحق وتحسن النظر في القضية. وقال ناصر الدين عن صاحب الرسالة أنه قال عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب: "وممن أخذ عنهم الشيخ محمد حياة السندي والشيخ محمد ابن سليمان الكردي وكانا يتفرسان فيه الالحاد ويحذران الناس دسائسه" فقال ناصر الدين: أقول "لو أنصف لعلم أنه يطعن في هذين العالمين وذلك أن كلا منهما أجاز ابن عبد الوهاب بإِجازة مطولة، وأجاز له أيضا الشيخ عبد الله بن إبراهيم نزيل المدينة والمشهور بها كما ذكره صاحب كتاب التوضيح عن توحيد الخلاق، وأخذ أيضا عن الشيخ إِسماعيل العجلوني محدث الديار الشامية والشيخ علي أفندي الداغستاني وكلهم أجاز له. فكيف يتفرسان فيه الإلحاد ويجيزانه ويمدحانه في إجازاتهما؟! وهل هذا إلا مكابرة؟! إلى غير ذلك ممَّا افتراه من غير دليل ولا ثبت، سوى سوء الظن بذلك الرجل فالله يلهمنا رشدنا ويهدينا سواء السبيل. وقال ناصر الدين: "ادعى ذلك الكاتب أنه يتعجب من شر ذمة تروج في دمشق العقيدة الفاسدة والآراء المضللة الخ". فقال ناصر الدين يالله العجب! هل من يدعو إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وإلى عقيدة السلف يعد ضالا مضلا؟! والذي يدعو إلى الترهات يعد صالحا؟! على رسلك! تمهل! وانظر ما كان عليه السلف الصالح والأئمة المجتهدون من الاعتقاد، وتأمل مقالات أبي الحسن الأشعري في الإبانة وعقيدة الإمام الطحاوي، وما قاله الإمام البيهقي في كتاب الأسماء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1047 والصفات، وما قاله الإمام الذهبي وغيرهم من أساطين العلماء في التوحيد ثم ارجع إلى نفسك وقل ما شئت وتأمل أيضا ما قاله علماء المذاهب الأربعة الموثوق بهم فيما الناس عليه من البدع ثم احكم بما شئت (ألم يأتك والأنباء تنمي ما قاله الإمام الشاطبي وابن الحاج في المدخل وأبو شامة في كتابه الباعث وابن وضاح وغيرهم من الأئمة، فإِن كنت تعد أمثال هؤلاء وهابية فيا برد الذي قالت على كبدي. وهكذا يمضي حتى أجهز على نفحته التي ليست بزكية بنفخة أطارتها. وكذلك الرسالة الثانية والتي عنوانها: نظرة في رسالة النفحة الزكية في الرد على شبه الفرقة الوهابية مؤلفها أبو اليسار الدمشقي الميداني. قال إن صاحب هذه النفحة تناول في ذمه النجديين والشاميين، وآذى في سبه وشتمه الأحياء والأموات، وجعل في طليعة نفحته ترجمة للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى ما أظن أن أحدا ممن رزق حظا من التحقيق والمعرفة بحال المترجم وجانبا من الإِنصاف يرضى عنها، لاسيما إذا خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى. وقال: لا أحب أن أخوض معه فيما كتبه عن الوهابيين ومن يتهمه بالانتساب إليهم من الدمشقيين، فإن السب لا يعمد إليه إلا عاجز أو صاحب هوى. ثم نقل عنه قوله: فوا خجلتاه كيف يروق للشرذمة المنتسبة إليهم الموجودة في دمشق المتصفة بالتمدن والحضارة أن تكون تابعة لسكان البوادي وتفتتن بعقائدهم البديهية البطلان، مع أن فيهم من ينتسب إلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1048 العلم، ويدعي الفهم؟ إلى أن قال: كيف افتتنوا بتلك الترهات، وانخدعوا بالمموهات، ونهضوا يروجون تلك العقائد الزائفة، والأضاليل الباطلة، ويبثون في أفكار العوام هذا المذهب الذي أطبقت عقلاء الأمة على فساده؟!)) اهـ. قال أبو اليسار: أقول هذه جمل من عباراته العالية، وآدابه السامية، في وصف إخوانه الدمشقيين – دع النجديين وما وصفهم به- عرضناها على القارىء الكريم ليعرف بها مبلغه من الأدب، ودرجته من الحرص على جمع الكلمة والتأليف بين المسلمين في هذا اليوم الأيوم. وقد نقل لنا غير واحد عن هذا الرجل أنه صار في درسه يذم بعض علماء دمشق وغيرهم من أموات وأحياء ويصرح بأسمائهم وأسماء بعض محلاتهم وأحيائهم وينفر ممن أخذ العلم عنهم، أو سمع شيئا منهم. إلى أن قال: ثم ليت شعري كيف يتهم الفئة الدمشقية بالانتساب إلى الشيخ محمد ابن عبد الوهاب وجماعته، ثم يقول بعد: وقد سألت رجلا منهم (يعني الدمشقيين) عن مذهبه يوما: أشافعي أو حنفي؟ فأجابني بأنه أثري يعني لا ينتسب إلى أحد من المجتهدين رضي الله عنهم. اهـ. فإذا كنت تفسر قوله بأنه أثري بعدم الانتساب إلى أحد من الأئمة المجتهدين أنفسهم (رحمهم الله تعالى ورضي عنهم) فكيف تنسبه إلى رجل من أتباع أحمد بن حنبل وهو محمد بن عبد الوهاب (رحمه الله تعالى) ؟! وكيف يمكنك أن تطابق بين الدعوى والدليل؟! ثم كيف جاز لك أن تملأ رسالتك من دعوى أن الوهابيين قاطبة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1049 يكفروننا ويزعمون أنا مشركون وها نحن أولاء نراهم في مساجدنا يصلون خلف أئمتنا مقتدين بهم، ولا تكاد تدخل مسجدا من المساجد وقت الصلاة إلا وتجد بعضهم يؤدي الصلاة فيه مؤتما بإمامه؟! فإذا كانوا يرموننا بالشرك كما زعمت فكيف يقتدون بنا ويصلون معنا؟! وهب أنه كان التطرف والرمي بالشرك والكفر من بعض جهالهم وغلاتهم فهل يصح أن يؤخذ الكل بذنب البعض، ألم يقل تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ؟! وهل يمكنك أن تبرىء جهالنا وغلاتنا من مثل هذا التطرف؟! ولم لا تنصح لعوامنا وتندد بهم وتزجرهم عن تكفير غيرهم كما فعلت بأولئك؟! ثم ما معنى قوله: كيف يروق للشرذمة المنتسبة إليهم الموجودة في دمشق، المتصفة بالتمدن والحضارة أن تكون تابعة لسكان البوادي؟! أي مدخل للتمدن والحضارة فيما نحن فيه؟! أليس الكلام في التوحيد وما دخله من البدع؟! أليست العقائد والعبادات من الدين الذي أكمله الله تعالى على يد رسوله صلى الله عليه وسلم؟! أليس مبنى الدين على الاتباع المحض؟! هل يجوز فيه التغيير والتبديل والزيادة والنقصان؟! ما معنى التمدن والحضارة في هذا المقام؟! ثم أي تمدن وحضارة تعني؟! إن كنت تعني مدنيتنا وحضارتنا في هذا الزمان فالجواب أَنّا لا نرى أثرا لهذه المدنية بيننا لا في اختراع ولا في صناعة ولا زراعة ولا تجارة! وإن كنت تريد مدنية أسلافنا فلا يحق لنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1050 أن نفتخر بها ونحن قد أضعناها. ولقد تذكرت أن أحد الأوربيين كان يذكر لأحد أفاضل المسلمين ما انتهت إليه أوربا من البسطة في العلم، والسعة في الملك، والاختراع في الفن ويباهي بذلك، فقال له المسلم لنا الفخر لأن هذا الرقي قد أخذتموه عن أساتذتكم العرب وهم آباؤنا. فأجابه الأوربي: لا حق لكم بهذا الفخر ونحن أحق به منكم لأنا أخذنا علوم سلفكم ونشرناها فكنا بعلمهم عاملين، أما أنتم فقد أضعتموها وكنتم لهم عاقين. قال أبو اليسار: "وإن كنت ترى المدنية في الافتتان باللباس والتفنن بالطعام والشراب والإستكثار من الوظائف والمرتبات من أجل ذلك، فهذا أقبح ما سرى إلى صنف العلماء من الأمور الذميمة، وصدهم عن تخريج الطلاب في العلوم والأدب وتصنيف الكتب وإحياء العلوم. إلى أن قال وإن عند كثير من علمائنا الأغنياء من العلوم والمال ما يستطيعون أن يخدموا به كثيرا من الطلاب، فلو كانت هممهم متوجهة لإِحياء العلوم الشرعية والعربية لقاموا بهذه الوظيفة المقدسة حق القيام، وإذا لازدهرت هاتيك العلوم في هذه الديار أيما ازدهار. وإنك لتجد بعض الشبان والكهول من المشتغلين المجدين الذين قضوا شطرا كبيرا من حياتهم في الجمع بين المعقول والمنقول، والتدقيق في الفروع والأصول، يفتشون عن وظيفة علمية تسند إليهم لينفعوا بعلمهم ويستزيدوا منه ويتمرنوا على العمل، وليستعينوا بالمرتب على أمر معيشتهم فلا يجدون إلى ذلك سبيلا، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1051 ولا من أحد من أهل العلم مساعدة، ولو بالتخلي عن وظيفة ومرتب زائدين عن حاجتهم، فيضطرون هناك إلى الاشتغال بما يقيهم ذل السؤال والأمر لله. وقد كان الواجب يتقاضى من يزعم الغيرة على الدين وأهله، ويدعي أنه من حماته ودعاته، أن يساعدهم بكل ما يمكن رحمة بهم، وبمئات الطلاب التي كان يمكن أن تحصل عندهم وتخرج على أيديهم. من ذا الذي يخدم الدين للدين، والعلم للعلم خدمة خالصة من كل شائبة لا يتقاضى عليها أجرا أو ليس له في مقابلها شيء؟! ألا ليت أصحاب الوظائف الموكول إليهم أمرها يقومون بها ويوفونها حقها كيلا يأكلوا أجورها من دون عمل وهي لم توقف أوتخصص إلا لمن عمل. ثم يقارن أبو اليسار بين الفريقين فيقول: (حالنا وحال النجديين) ((إذا أردنا أن نقابل بيننا معشر أهل التمدن والحضارة وبين سكان البوادي النجديين الذين تزعم، وتوازن بين سخائنا على نشر العلم وسخائهم وغيرتنا على الدين وغيرتهم، وكانت حالنا ما قدمنا- ورأينا كثيرا من كتب العلم الديني قد طبعها تجارهم، وجعلوها وقفا لله تعالى، ووزعوا الألوف منها على المسلمين في عامة الأقطار، سواء في ذلك أهل البوادى وسكان المدن والأمصار، ولايزالون دائبين على طبع الكتب النفيسة، حريصين على نشرها مجانا يخرجون بها الناس من ظلمات الجهل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1052 إلى نور العلم والمعرفة ولم تكن تلك الكتب من تأليف أهل نجد فحسب، بل معها كتب أئمتنا وأَجلائنا الدمشقيين وغيرهم كابن تيمية وابن القيم وابن قدامة، وهم يطبعونها ويوزعونها على المسلمين لا يريدون منهم جزاء ولا شكورا، فأي المدنيتين قد عم خيرها، وظهر أثرها، وحق أن يفخر بها أهلها المدنية التي أفسدت علينا ديننا ومرؤتنا، وسلبتنا جل أوصافنا الحميدة، وأكسبتنا أخلاقا ذميمة كالبخل، والكذب، والكبر، والبذخ، والرياء، وتقديم المصلحة الخاصة على المصلحة العامة، أم تلك المدنية الفطرية التي لم تشبها شائبة الفساد؟! بربك انصف ثم احكم. وهكذا حتى انتهى منها فوقع الحق وبطل ما كانوا يأفكون. وقد نقلت ما نقلت من هاتين الرسالتين لأبين كيف يعاني أصحاب العقيدة السليمة عقيدة السلف الصالح وكيف يعاني من تأثر بالحق والتزمه حيث لا سلطان له، وكيف يتكلمون بالحق وليس معهم سيف ولكن الله يؤيدهم بلطفه ويُيَسِّر لهم من ينصرهم كما نصر الذين من قبلهم ويستخلفهم كما استخلف الذين من قبلهم. وقد كتب الإمام الملك عبد العزيز كما ذكرنا في الفصل الرابع لهما كتابا يحمد الله فيه إليهما على ما من به عليهما من معرفة الحق والبصيرة فيه ومعه هدية هي مجموعة الهدية السنية التي جمعها الشيخ سليمان بن سحمان ويوصيهما بلزوم الحق والاستمرار والصبر عليه ويؤيدهما ويدعو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1053 لهما ويشكرهما على ذلك. وتقدم إيرادنا نص رسالته1. وفي مقدمة هذه المجموعة التي كتبها الشيخ سليمان بن سحمان يقول بعد البسملة والثناء على الله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم. (أما بعد) فقد وقفت على ما كتبه العالمان الجليلان التقيان المنصفان الشيخ ناصر الدين الحجازي الأثري نزيل دمشق والشيخ أبو اليسار الدمشقي الميداني على ما افتراه ... الاسكندراني، مما لفقه من الأكاذيب الشنيعة، والمفتريات الواهية الوضيعة، أوتلقاه عن جميل أفندي البغدادي2. وقد اعتمد هذا وغيره في كل ما افتروه على ما لفقه إمام ضلالتهم أو بدعتهم أحمد بن زيني دحلان3. من الخرافات والخزعبلات، التي لا تصغي إليها إلا القلوب المقفلات {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} (فاطر: 8)   1 انظر: ص 2/965 من هذا البحث. 2 قال محمد رشيد رضا هو جميل الزهاوي المتفلسف الذي طعن في الشريعة بأشد مما طعن في المستمسكين بعروتها من أهل نجد وقد نشر طعنه وإِنكاره لتعدد الزوجات وقسمة الميراث في الإسلام في جريدة المؤيد المصرية فكفره بها العلماء الكثيرون. 3 قال محمد رشيد: هو الذي كان مفتيا في مكة زمن ظهور الدعوة وكتب ما كلفه كتابته سادته وموظفوه من الأمراء والحكام، من غير تبين ولا تثبت فيما جاء به أولئك الفساق الطغام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1054 وقوله تعالى: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} (الأنعام: 113) . فلما تصدر وانتصب هذا الرجل لعداوة أهل الإسلام أتباع الملة الحنيفية والطريقة المحمدية، وشرق بهذا الدين، الذي من الله به على إخواننا الدمشقيين لما تبين لهم حقيقة ما عليه أهل الإسلام الموحدين من أهل نجد المشهورين بالوهابية وأنهم كانوا على ما كان عليه سلف هذه الأمة وأئمتها من إِخلاص العبادة لله رب العالمين وترك عبادة ما سواه مما كان عليه أهل الكفر والشرك برب العالمين، وإنكار البدع المحدثة في الدين، وكتب رداً على الوهابية، المستمسكين بالطريقة المحمدية والملة الحنيفية، ورماهم بما هم برئيون منه من هذه الأكاذيب والأوضاع، التي تمجها الطباع وتستك عند سماعها الأسماع، وبئس ما انتحله من الأكاذيب والأوضاع الوبية، وقد تبع فيها أقوال قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل. رد عليه هذان العالمان الجليلان، وغارا لله وللمسلمين من تلفيق أهل الكذب والبهتان، فأزالا بما كتباه من الرد عن القلوب صداها، وأماطا به عن العيون قذاها. فجزاهما الله عن الإسلام والمسلمين أفضل الجزاء، فلما قرأناها وتأملناها علمنا وتحققنا أن في الزوايا خبايا، وأَنه قد بقي من فحول الرجال بقايا فله الحمد وله الشكر والمنة. ثم اعلموا أيها الإِخوان، أنا على ما كان عليه أئمتنا أهل الإسلام، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1055 والعلماء الأئمة الأعلام، الذين ينفون عن كتاب الله وسنة رسوله تحريف الغالين، وتأويل الجاهلين وانتحال المبطلين، كشيخ الإسلام وعلم الهداة الأعلام، تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني، وتلميذه شمس الدين محمد بن أبي بكر (ابن قيم الجوزية) والحافظ الذهبي الشافعي والعماد ابن كثير الشافعي، ومحمد بن جرير الطبري، والحافظ الإمام عبد الرحمن بن رجب الحنبلي1 وغيرهم من علماء أهل الإسلام الذين هم القدوة، وبهم الأسوة، وقد كان لهم قدم صدق في العالمين، فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خيرا. وقد سلك شيخ الإسلام، وعلم الهداة الأعلام، الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله على طريقهم وسار على منهاجهم وأثرهم في الدعوة إلى الله وإقامة حججه وبيناته، وساعده على ذلك أئمة أهل الإسلام من آل سعود رحمهم الله. فنصروه وآووه وجاهدوا في الله حق جهاده، حتى ظهر دين الله وانتشر في البلاد والعباد فله الحمد وله الشكر. ثم إنا لما تحققنا ما أنتما عليه من الحق والتحقيق، وسلوك طريقة أهل الهداية والتوفيق، أحببنا أن نهدي إليكما ونخبركما بما كنا عليه من المعتقد وما ندين الله به وما كان عليه أئمتنا من مشايخ أهل الإسلام، وما قالوه وما قلناه في ذلك نظما ونثرا، والله المسئول المرجو الإجابة، أن يسلك بنا   1 قال محمد رشيد: إنما خص هؤلاء بالذكر لما في كتبهم المتداولة من النصوص الواضحة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1056 وبكما وإخواننا الموحدين طريق الإِصابة، وأن يجزل لنا ولكما الأجر والإثابة، إنه ولي ذلك والقادر عليه وإليكما وإلى جميع إخواننا المسلمين، ما نهديه ونرفعه ليعلم حقيقة ما كنا عليه بعد علم اليقين عين اليقين. انتهى1. فما من شك ولا ريب أن هذا النشر والبيان لعقيدة الشيخ وأنصاره له أثركبير في نشر عقيدة السلف الصالح في الشام وتمكين الله أنصارها في الأرض، ونصرهم لما نصروا دين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. ونجد من علماء الشام الشيخ محمد بهجة البيطار الذي عينه الملك عبد العزيز رحمه الله مديرا لدار التوحيد بالطائف أول ما أنشئت ومن مؤلفاته "حياة شيخ الإسلام ابن تيمية، محاضرات ومقالات ودراسات، ونشره المكتب الإسلامي بدمشق عام 1385 هـ". ويرد في هذا الكتاب على (الفريد غيوم) في كتابه الإسلام، ترجمة محمد مصطفى هدارة، والدكتور شوقي اليماني السكري الطبعة الأولى سنة 1958 م بالقاهرة ومن رده عليه رده ما جاء في ص 100 من كتابه، وهو قوله: (في المملكة الوهابية) (حيث يسود المذهب الوهابي) قال محمد بهجة البيطار: الجواب: ليس للوهابية، ولا للإمام محمد بن عبد   1 الهداية السنية والتحفة الوهابية النجدية لجميع إِخواننا الموحدين من أهل الملة الحنيفية والطريقة المحمدية جمع الشيخ سليمان بن سحمان ص 6-8. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1057 الوهاب مذهب خاص، ولكنه رحمه الله كان مجددا لدعوة الإسلام، ومتبعا لمذهب أحمد بن محمد بن حنبل1. هذا وللمكتب الإسلامي في دمشق وبيروت نشاط ملموس في طبع ونشر مؤلفات الشيخ وسائر مؤلفات السلف الصالح. ومن تعليق للأمير شكيب أرسلان من أهل الشام على الوهابية على حد تعبيره نقتطف من قوله ما نصه: (ولكن المقرر أنها حركة إنابة إلى العقيدة الحق وهدى السلف الصالح واقتفاء أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة، ونبذ الخرافات والبدع وحظر الإستغاثة بغير الله ومنع التمسح بالقبور والتعبد عند مقامات الأولياء، ولذلك يسمونها عقيدة السلف، ويلقب الوهابيون أنفسهم سلفيين، وأكثر اعتمادهم في الاجتهاد على الإمام أحمد ابن حنبل، والإمام ابن تيمية، وتلميذه ابن قيم الجوزية2.اهـ. وشكيب أرسلان عضو من أعضاء المجمع العلمي العربي بدمشق، وكانت له صلة وثيقة بمحمد رشيد رضا، وقد قابل الملك عبد العزيز أثناء رحلته إلى الحجاز سنة 1354 هـ3. وقال: "لله در الملك ابن سعود يقول: ما أخشى على المسلمين إلا من المسلمين ما أخشى من الأجانب   1 حياة شيخ الإسلام ابن تيمية، بقلم محمد بهجة البيطار ص 200. 2 هامش حاضر العالم الإسلامي ج1ص 264. 3 انظر: الأعلام للزركلي، ج3 ص173-175. وانظر كتابه: لماذ تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم، تأليف الأمير شكيب أرسلان مقدمة ص 25-27. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1058 كما أخشى من المسلمين، وهو كلام أصاب كبد الصواب، فإِنه ما من فتح فتحه الأجانب من بلاد المسلمين إلا كان نصفه أو قسم منه على أيدي أناس من المسلمين، منهم من تجسس للأجانب على قومه، ومنهم من بث لهم الدعاية بين قومه، ومنهم من سل لهم السيف في وجه قومه، وأسال في خدمتهم دم قومه. وقال محمد رشيد رضا مضيفاً إلى ما نقله شكيب أرسلان عن الملك عبد العزيز من كلام صائب أَنه في حفل حافل بحجاج الأقطار- وقد طالب مصري أزهري الملك عبد العزيز بمحاربة الإِنكليز والفرنسيين المعتدين على المسلمين ذاكرا عداوتهم لهم فقال الملك عبد العزيز: الإِنكليز والفرنسيين معذورون إذا عادونا لأنه لا يجمعنا بهم جنس ولا دين ولا لغة ولا مصلحة، ولكن المصيبة التي لا عذر لأحد فيها أن المسلمين أصبحو أعداء أنفسهم، وأنا والله لا أخاف الأجانب وإنما أخاف من المسلمين، فلو حاربت الإِنكليز لما حاربوني إلا بجيش من المسلمين1. وهذا محمد كرد علي من أهل الشام في كتابه (القديم والحديث) منتقيات من مقالاته، وهو عضو في المجمع العلمي العربي بدمشق يقول: وما ابن عبد الوهاب إلا داعية، هداهم من الضلال، وساقهم إلى   1 انظر: كتاب: لماذا تأخر المسلمون؟ ولماذا تقدم غيرهم، تأليف الأمير شكيب أرسلان ص 63. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1059 الدين السمح وإذا بدت شدة من بعضهم، فهي ناشئة من نشأة البادية، وقلما رأينا شعبا من أهل الإسلام يغلب عليه التدين والصدق والإِخلاص، مثل هؤلاء القوم. وقد اختبرنا عامتهم وخاصتهم، سنين طويلة، فلم نرهم حادوا عن الإسلام قيد غلوة، وما يتهمهم به أعداؤهم، فزور لا أصل له1. أثرها في بلدان الخليج العربي: نجد في قطر أن حكامه آل ثاني كانوا يسهمون إسهاما كبيرا في طبع مؤلفات علماء السلف الصالح ولا تنكر صلتهم الوثيقة بأنصار عقيدة الشيخ من قديم وكان في قطر من العلماء الذين يحملون عقيدة سلفية سليمة، ولهم دور لا ينكر في ذلك الأثر الحميد، كالشيخ محمد بن عبد العزيز بن مانع الذي كان مديرا عاما للمعارف في المملكة العربية السعودية ثم طلبه أخيرا حكام قطر، ليستفيدوا من علمه، ويشير عليهم بما كانوا متقبلين له، من نصر لعقيدة السلف الصالح ونشر لكتبهم كمجموعة التوحيد النجدية وكتب فقه الحنابلة وغيرها. وأخيرا يخرج إلينا كتاب للشيخ أحمد بن حجر بن محمد آل بوطامي قاضي المحكمة الشرعية بقطر، قدم له وصححه سماحة الشيخ عبد العزيز ابن عبد الله بن باز وأمر بطبعه الملك فيصل بن عبد العزيز، عام 1395 هـ.   1 نقلا عن كتاب: الشيخ محمد بن عبد الوهاب للشيخ أحمد بن حجر آل بوطامى ص 96. وانظر الاعلام للزركلى ج 6 ص 202-203. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1060 وهو عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب وعقيدته السلفية ودعوته الإِصلاحية وثناء العلماء عليه، وهوكتاب علمي جيد، من أجود ما كتب في هذا الموضوع، قال في مقدمته: إن الشيخ محمد بن عبد الوهاب النجدي الداعي إلى توحيد الله تعالى من المجددين العدول والمصلحين المخلصين قام يدعو إلى تجريد التوحيد، وإِخلاص العبادة لله وحده بما شرعه الله في كتابه وعلى لسان رسوله خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، وقام بنبذ البدع والمعاصى وعبادة الأولياء والصلحاء والأشجار والغيران، ويأمر بإِقامة شرائع الإسلام المتروكة وتعظيم حرماته المنتهكة. ومع ذلك فالناس لازالوا من عصره إلى اليوم بين مادح وقادح. ثم يبين أن السبب في القدح هو دعاية الأتراك وأشراف مكة في ما مضى ضد ما قام به الشيخ وأنصاره والتي نالت رواجا وانتشارا في الأقطار الإسلامية وتأثر بها الأكثرون، بالإِضافة إلى كتب ألفها بعض أدعياء العلم ينقدون عقيدة الشيخ وأنصاره بما لفق عليها من غير تثبت وراجت الدعاية لدى الجمهور وظنوا أنها صحيحة. وقد جهل أولئك المؤلفون أو تجاهلوا: أن الواجب على الشخص ولاسيما من انتسب إلى العلم- أن لا يقبل كل ما يقال عن شخص أومذهب أو طائفة حتى يثبت لديه بأنه يسمع من ذلك المنسوب إليه ما أذيع عنه، أو يقرأ كتابه ويتأكد من صحة نسبة الكتاب إليه، وهكذا القول فيما سمعه عن مذهب أو طائفة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1061 ثم يقول الشيخ أحمد بن حجر: أما في هذا العصر، فقد خفت وطأة تلك الدعاية السيئة، وعرف كثير من العقلاء في سائر الأقطار والبلدان، حقيقة دعوة الشيخ وصحتها، وذلك بفضل انتشار العلم والوعي في العالم، وبفضل ما اتصفت واشتهرت به الدولة السعودية من التوحيد، وتحكيم الشرع المبين، وإِقامة شعائر الإسلام، وإِقامة الحدود الشرعية، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ونشر العدل والأمان، وتمسكها بالسنة الصحيحة والقرآن ومحاربة أهل البدع، والاهتمام بالعلم والتعليم، ونشر المدارس والمعاهد والكليات في سائر أرجاء المملكة العربية السعودية، وفتح الأبواب للطلاب الوافدين من مختلف البلدان، وإعانتهم بالوسائل النافعة الكافية، كما اشتهرت بالكرم والبذل، لجميع الوافدين إليها من غير فرق بين مذهب وبلد وعنصر. ثم قال الشيخ أحمد: وبالرغم مما قلنا من انتشار الوعي واتصاف الدولة العربية السعودية بتلك الصفات الكريمة، لازال كثير من المنتسبين إلى العلم، فضلا عن العوام، يزعمون أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، لم يكن على الصواب، وأن الفئة الوهابية، تكفر المسلمين، ولا ترى للأنبياء مقاما ولا احتراما ولا شفاعة كما لا تحترم الأولياء والصالحين ولا ترى زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم ولا غيره. إلى غير ذلك من الأقاويل الزائفة التي لا تعتمد إلا على الوراثة والسماع عن الماضين الجاهلين، والاغترار ببعض كتب المخرفين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1062 قال: فمن أجل ذلك رأيت أن أكتب في سيرة الشيخ المجدد لما اندرس من معالم الإيمان والإسلام، وعقيدته، ودعوته الإصلاحية مؤلفا وسطا، اعتمدت فيه على ما ذكر المؤرخون لنجد كابن غنام، وابن بشر، والألوسي، والريحاني وغيرهم ممن ذكر الشيخ ودعوته في ثنايا كتبهم كما اعتمدت على بعض رسائل إمام الدعوة وأبنائه وأحفاده، وسأختمه- إن شاء الله- بثناء العلماء الراسخين، وبعض المؤرخين المحققين من المسلمين والغربيين، على ذلك الإمام الجليل الذي شغل عصره، وبعده بعلومه وآرائه وإصلاحه. ودعوته المقيدة بالكتاب والسنة والذي دوى صوته بعلومه ودعوته في نجد وفي الخارج، وجادل وناضل بقوة جنانه وفصاحة لسانه، وواضح برهانه1. وللشيخ محمد بن حسن المرزوقي القطري رد على النبهاني في تهجمه على شيخ الإسلام ابن تيمية ومحمد رشيد رضا، وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب2.   1 الشيخ محمد بن عبد الوهاب ... بقلم أحمد بن حجر آل بوطامي ص10-13. 2 ترجمة الألوسي في أول كتابه غاية الأماني في الرد على النبهاني، بقلم الشيخ محمد ابن عبد الله السبيل ص 11 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1063 أما عن أثرها في البحرين: فننقل قصة طريفة جرت إبان نكبة الدرعية والتجاء بعض علماء الدعوة إلى البحرين وإلى عمان وغيرهما. قال الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ في مقدمة الطبعة الثالثة لكتاب منحة القريب المجيب في الرد على عباد الصليب، تأليف الشيخ عبد العزيز بن حمد بن ناصر بن عثمان بن معمر في قصة تأليف الكتاب المذكور ما ملخصه (إن الإنكليز أرسلوا مندوبا إلى البحرين من القسس، ليعمل على بث الدعاية النصرانية وشكوكها، لفتنة الناس في البحرين عن دينهم، كما هي سياسة أعداء الإسلام من الصليبيين في الشرق الإسلامي كله، فقام ذلك القسيس بتأليف كتاب ضمنه شبهاتهم حول الإسلام، ودفعه إلى أمير البحرين عبد الله بن خليفه وطلب منه أن يعرضه على المشايخ ليقولوا رأيهم، فرد عليه الشيخ عبد العزيز بن حمد آل معمر بكتابه: (منحة القريب المجيب في الرد على عباد الصليب) ودفعه إلى أمير البحرين ففرح به الأمير أشد الفرح ودعا القنصل الإنكليزي القسيس وأعطاه الرد فاندهش جدا لأنه كان يظن عجز علماء البحرين، ثم قال: (هذا الرد لا يكون من هنا، وإنما هو من البحر النجدي)   1 انظر: كتاب منحة القريب المجيب في الرد على عباد الصليب، ط 3 منشورات دار تثقيف بالطائف، ص 3-5. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1064 ولعل ما نقلناه فيما تقدم يبين لنا مدى أثر عقيدة الشيخ السلفية في نشر الحق والعمل به واتباع السلف الصالح في منهجهم الإصلاحي والحكم بعدل وإنصاف على عقيدة الشيخ السلفية في تلك الربوع الخليجية وغيرها. أثرها في العراق: وإذا جاوزنا الخليج إلى العراق فإننا نجد مدرسة أهل السنة والجماعة يتصدرها آل الألوسي أمثال العلامة نعمان خير الدين الألوسي، والعلامة محمود شكري الألوسي. أما نعمان خير الدين الألوسي الشهير بابن الألوسي البغدادي ولد سنة 1252 هـ. وولي القضاء في أماكن متعددة في العراق ثم ترك المناصب، وزار مصر في طريقه إلى الحج ثم الإستانه ومكث سنين هناك ثم عاد يحمل لقب رئيس المدرسين فعكف على التدريس والتصنيف إلى أن توفي ببغداد سنة 1317 هـ.. وله مؤلفات كثيرة ويعنينا منها مؤلفه: شقائق النعمان في رد شقاشق ابن سليمان ويعني داود بن سليمان بن جرجيس وسيأتى طرف من خبره. وكذلك مؤلفه الآخر المشهور جلاء العينين في محاكمة الأحمدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، وأحمد بن محمد ابن حجر الهيتمي وهو دفاع عن شيخ الإسلام ابن تيمية ما اتهمه به وتهجم به عليه أحمد بن حجر وقد أقزع ابن حجر في السباب والشتم والمهاترة تجاه شيخ الإسلام من غير دليل، ولا حجة ولكن عمي البغي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1065 وصمم الهوى، يدفعان صاحبهما إلى مجاوزة حدود أدنى العقول1. أما صاحبنا نعمان الألوسي فكما قال فيه بهجت الأثري في كتاب أعلام العراق كان عقله أكبر من علمه، وعلمه أبلغ من إِنشائه وإِنشاؤه أمتن من نظمه، وكان جواداً، وفياً، زاهداً، حلو المفاكهة سمح الخلق2. وقد انتهج في انتصاره لشيخ الإسلام ابن تيمية في عقيدة السلف الصالح أسلوب المناقشة في هدوء وإِقامة الدليل، وتوضيح الحجة، وسطوع البرهان بروح العالم الراسخ، والعاقل الثابت، وهذا منهج يرتضيه علماء السلف الصالح من أهل السنة والجماعة3. وأما العلامة محمود شكري الألوسي أبو المعالي فهو ابن أخي نعمان خير الدين الذي تقدم ذكره ولد سنة ثلاث وسبعين ومائتين وألف من الهجرة أبوه عالم أديب وكاتب بارع اسمه عبد الله بهاء الدين، وأما جده فهو الإمام محمود شهاب الدين صاحب التصانيف المشهورة وأشهرها روح المعاني في التفسير وقد أخذ محمود شكري العلم عن أبيه وتأثر به في حسن السمت، وصفاء الطوية، وحب الأدب والعلم، ولما توفي أبوه عام 1291 هـ. كفله عمه العلامة نعمان خير الدين الألوسي الذي سبق   1 انظر: جلاء العينين: ص 16-37، وص 119 وغيرها. 2 انظر الأعلام للزركلى، ط 4 ج 8 ص 42 ومعجم المؤلفين العراقيين، كوركيس عواد ج 3 ص 399. 3 انظر مقدمة جلاء العينين للمدني، ص 2-6. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1066 ذكره آنفا ثم أخذ العلم من مشايخ بغداد وجد واجتهد في مواصلة الدرس ومتابعة البحث، وكلّف بالتاريخ والسيرة واللغة، وزاول الكتابة، له الاطلاع الواسع، والمادة الغزيرة والتحقيق النادر، والرأى الصائب، وتصدر للتدريس في داره، وفي جامع عادل خاتون، وعين مدرسا رسميا في جامع الحيدرية، ثم في جامع السيد سلطان علي، ثم عين مدرسا في مدرسة مرجان، وجعل رئيس المدرسين، ونفع الله به وتخرج منها خلق كثير1. وله نشاط في إحياء الكتب الدينية، ونشر مذهب السلف وله اليد الطولى في إِذاعتها ونشرها، وكان يرى أن مذهب السلف هو الواسطة الوحيدة لتحرير العقول من رق التعصب الذميم ولم يكن يحب الفخر والظهور، وإنما يرمي إلى حصول الغرض من أي طريق، مباشر أو غير مباشر، وكان يحمل على أهل البدع في درسه وفي داره وفي المسجد. ويرد عليهم برسائل فعاداه كثير من الناس، وسعوا به لدى والي بغداد عبد الوهاب باشا، فكتب عبد الوهاب إلى مرجعه السلطان عبد الحميد الثاني العثماني فصدر الأمربنفيه إلى بلاد الأنا ضول، فلما وصل إلى الموصل في سنة 1320 هـ. قام أعيانها فمنعوه من تجاوزها، وكتبوا للسلطان يحتجون، فسمح له بالعودة إلى بغداد فعاد إليها، وقد اتصل بالملك عبد   1 ترجمة مؤلف كتاب غاية الأماني بقلم الشيخ محمد بن عبد الله السبيل، ص7-8. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1067 العزيز بن عبد الرحمن آل سعود في نجد عام (1333 هـ) ، وبحث مع الملك بعض الشؤون ثم عاد مكرما محترما. ولما كان في سنة 1342 هـ. توفي في العراق رحمه الله1. ولأصالتهم في عقيدة السلف الصالح فإننا لنجد عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية لديهم يحكيها العلامة أبو المعالي. محمود شكري الألوسي في مؤلفه تاريخ نجد فقد قال رحمه الله: "اعلم أن أهل نجد كلهم مسلمون موحدون بل وجميع سكنة جزيرة العرب وقد دخلوا في الإسلام في العصر الأول عند ظهور أنوار الشريعة الغراء. وهم على عقائد السلف الصالح ثم ذكر اعتقادهم في الله تعالى وذكر اعتقادهم في الرسول صلى الله عليه وسلم واعتقادهم في الآل والأصحاب إلى أن قال: والحاصل أن مذهبهم في أصول الدين مذهب أهل السنة والجماعة وأن طريقتهم طريقة السلف التي هي الطريق الأسلم، بل الأحكم". ثم ذكر: "وأنهم في الفروع على مذهب الإمام أحمد بن حنبل نضر الله وجهه ولا ينكرون على من قلد أحدا من الأئمة الأربعة دون غيرهم لعدم ضبط مذهب الغير كالشيعة والزيدية والكرامية ونحوهم. إلى آخر ما حكاه في هذا الموضوع إلى أن قال:   1 انظر: ترجمته في كتاب غاية الأماني بقلم الشيخ محمد بن عبد الله السبيل ص10- 11. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1068 وأما ما يكذب عليهم سترا للحق، وتلبيسا على الخلق، بأنهم يفسرون القرآن برأيهم، ويأخذون من الحديث ما وافق فهمهم من دون مراجعة شرح ولا معول على شيخ، وأنهم يضعون من رتبة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه ليس له شفاعة وأن زيارته غير مندوبة، وأنهم لا يعتمدون أقوال العلماء وأنهم يتلفون مؤلفات أهل المذاهب لكون الحق والباطل فيها وأنهم مجسمة، وأنهم يكفرون الناس على الإِطلاق من بعد الستمائة إلى هذا الزمان إلا من كان على ما هم عليه، وأنهم لا يقبلون بيعة أحد إلا إذا أقر عليه أَنه كان مشركا وأن أبويه ماتا على الشرك بالله، وأنهم ينهون عن الصلاة على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وأنهم يحرمون زيارة القبور المشروعة مطلقا، وأنهم لا يرون حقا لأهل البيت، وأنهم يجبرونهم على تزويج غير الكفء لهم، إلى غير ذلك من الإفتراءات، فكل ذلك زور عليهم وبهتان وكذب محض من خصومهم أهل البدع والضلال، بل أقوالهم وأفعالهم وكتبهم على خلاف ذلك كله. فمن روى عنهم شيئا من ذلك أو نسبه إليهم فقد كذب عليهم وافترى، ومن شاهد حالهم وحضر مجالسهم وتحقق ما عندهم علم قطعا أن جميع ذلك وضعه عليهم، وافتراه أعداء الدين، وإخوان الشياطين، تنفيرا للناس عن الإِذعان لإخلاص التوحيد لله تعالى بالعبادة، وترك أنواع الشرك الذي نص الله على أنه لا يغفره، وأنه يغفر ما دون ذلك لمن يشاء. فإنهم يعتقدون أن من فعل أنواعا من الكبائركالقتل للمسلم بغير حق، والزنى، والربا، وشرب الخمر، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1069 وتكرر منه ذلك لا يخرج بفعل ذلك عن دائرة الإسلام، ولا يخلد في دار الانتقام، إذا مات موحدا لله تعالى في جميع أنواع العبادة ... والذي اعتقدوه في رتبة النبي صلى الله عليه وسلم أن رتبته أعلى مراتب المخلوقين على الإِطلاق، وإِنه حي في قبره حياة مستقرة أبلغ من حياة الشهداء المنصوص عليها في التنزيل إذ هو صلى الله عليه وسلم أفضل منهم بلا ريب. وأنه يسمع سلام من يسلم عليه، وأنه تسن زيارته غير أن لا تشد الرحال إلا لزيارة المسجد والصلاة فيه، وإذا قصد مع ذلك الزيارة فلا بأس، ومن أنفق أنفس أوقاته بالصلاة عليه الواردة عنه فقد فاز بسعادة الدارين وكفي همه وغمه كما جاء في الحديث. وأنهم لا ينكرون كرامات الأولياء، ويعترفون لهم بالحق، وأنهم على هدى من ربهم مهما ساروا على الطريقة الشرعية، والقوانين المرعية، غير أنهم لا يستحقون شيئا من أنواع العبادة لا حال الحياة ولا بعد الممات. بل يطلبون من أحدهم الدعاء في حال الحياة، بل ومن كل مسلم، فقد جاء في الحديث ((دعاء المرء مستجاب لأخيه)) ويثبتون الشفاعة للنبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة حيثما ورد وكذا سائر الأنبياء والملائكة والأولياء والأطفال حيثما ورد أيضا. ويسألونها من الله تعالى المالك لها والإذن فيها لمن شاء من الموحدين الذين هم أسعد الناس بها كما ورد، فإنهم يقولون متضرعين إلى الله تعالى: اللهم شفع نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم فينا يوم القيامة أوعبادك الصالحين أو ملائكتك ونحو ذلك. ولا يلزم أن يكونوا مجسمة وإن قالوا بالجهة كما ورد الحديث بها. ويقولون فيمن مات تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1070 يعملون. ولا يقولون بكفرمن صحت ديانته واشتهر صلاحه وعلمه وورعه وزهده، وحسنت سيرته، وبالغ في نصح الأمة وإن كان مخطئا في هذه المسألة أو غيرها (كابن حجر الهيتمي المكي) رحمه الله، فإِنهم يعلمون كلامه في (الدر المنظم) ولا ينكرون سعة علمه، ولهذا يعتبرون ما بقي من كتبه كشرح الأربعين، والزواجر وغيرها، ويعتمدون على نقله. هذا ما هم عليه. وقد كتبوا في ذلك عدة رسائل خاطبوا بها من له عقل وعلم وهو متصف بالإِنصاف، خال من الميل إلى التعصب والاعتساف، ينظر إلى ما يقال، لا إلى من قال. وأما من شأنه لزوم مألوفه وعادته سواء كان حقا أو غير حق مقلدا فهو ممن قال: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} عادته وجبلته أن يعرف الحق بالرجال، لا الرجال بالحق، فلا يخاطب هذا وأمثاله فجنود التوحيد بحمد الله منصورة، وراياتهم بالسعد والإقبال منشورة. وما كتبناه في هذا الحاصل هو مضمون رسالة كتبها أحد فضلاء علماء نجد وهو الشيخ (عبد الله ابن العلامة الشيخ محمد بن عبد الوهاب) عليهم الرحمة، وقد قرئت عند دخول الأمير (سعود بن عبد العزيز في الحرمين الشريفين بمحضر علماء المذاهب الأربعة وبمسمع منهم. فمن الواجب على طالب معرفة الحق وإدراك الحقائق أن لا يبادر بالإنكار قبل التبصر، ولا يحكم على شيء قبل الوقوف على حقيقة الحال، فالخطأ في ذلك عظيم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1071 فلا تحكم بأول ما تراه ... فأول طالع فجر كذوب والقصد بما ذكرناه التنبيه على خطأ من نسب إلى القوم ما هم بريئون منه مما يخل بالديانة، حتى أساء الظن بقسم عظيم من الأمة العربية وانطوى على بغضهم الذي هو من أعظم أسباب النفاق. وغالب من أشاع ذلك هم أهل البدع والأهواء الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا، وكذبوا بأقوالهم وأفعالهم على الدين المبين الذي هو بعيد عنهم بمراحل. وهم الدجالون الجالبون على الإسلام كل عار، وإلا فأهل الإيمان هم الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه. ثم (ذكرمناظرة جرت بين عراقي ونجدي تحريرا) فقال: هذه مناظرة اتفقت بين عالم عراقي من سكنة بغداد، وبين فاضل كامل، وعالم عامل من علماء نجد: كتب بها العراقي إلى العالم النجدي، فأجاب عنها بما سيأتى: ولكونها تزيد الحق وضوحا والواقع بيانا أدرجناها على سبيل التلخيص والاختصار ليتجلي بها الحق المستور، ويرد بها الباطل المشهور، رجاء الفوز بثواب ذلك إن شاء الله تعالى. ثم ذكرها ويقصد بالعراقي داود بن سليمان بن جرجيس صاحب التلبيس والذي زار عنيزة واتصل بالشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين في أثناء عشر سنين ومائتين وألف وحصلت منه تشبيهات لينصر دعواه: أن وقوع الشرك في الأمة المحمدية مستحيل ويزعم أن دعاء غير الله طلبا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1072 للزلفى عند الله ليس شركا. ثم رد عليها الشيخ عبد الله المذكور بكتاب طبع سنة 1344 هـ. بمطبعة الحلبي بعنوان: كتاب تأسيس التقديس في كشف تلبيس داود بن سليمان بن جرجيس، استوفى مائة وعشرين صفحة، ثم طبع ملخصا بعنوان الانتصار لحزب الله الموحدين والرد على المجادل عن المشركين، عني بنشره الشيخ عبد الملك بن إبراهيم آل الشيخ وكان طبعه بالمطبعة السلفية بالقاهرة واستوفى تسعا وثلاثين صفحة: وقد رد عليه أيضا شيخ المسلمين ومفتي نجد الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ، وكذلك ابنه الشيخ عبد اللطيف رد على داود هذا بمؤلف اسمه (منهاج التأسيس والتقديس في كشف شبهات داود بن جرجيس) . والألوسي يعني بالعالم النجدي الشيخ عبد اللطيف فإن من مؤلفاته تتمة لمنهاج التأسيس الذي ألفه الشيخ عبد اللطيف، وقد لخصها الشيخ الألوسي على شكل مناظرة فيقول: قال السائل العراقي: ثم يورد قوله وبعد نهايته يقول: قال العالم النجدي: ثم يورد جوابه وبيانه حتى أتى على شبهات الخصوم أعداء التوحيد الذي هو حق الله على العبيد، ثم ذكر الألوسي طرفا من معتقد المغالين في القبور والصالحين، وحقيقة ما هم عليه من الدين المخالف لدين المرسلين ليعلم الواقف عليه أي الفريقين أحق بالأمن إن كان الواقف ممن اختصه الله بالفضل والمن؛ لئلا يلتبس الأمر بتسميتهم لكفرهم ومحالهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1073 تشفعا وتوسلا واستظهارا مع ما في التسمية من الهلاك المتناهي عند من عقل الحقائق ثم أخذ يبين ذلك. ولما انتهى من البيان، أخذ يقص شيئا من سيرة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ويذكر طرفا من أخباره، وأحواله ليعلم الناظر فيه حقيقة أمره، فلا يروج عليه تشنيع من استحوذ عليه الشيطان وأغواه، وبالغ في كفره واستهواه، ثم مضى في ذلك يقرر الحق ويبين الرشد ويقارن أقوال الشيخ بأقوال من سلف من علماء المسلمين وأئمتهم المهديين، ونقل عبارة أبي الحسن الأشعري في كتابه مقالات الإِسلاميين واختلاف المصلين في نقله جملة ما عليه أصحاب الحديث وأهل السنة، إلى نهايتها وهي قوله: ((فهذه جملة ما يأمرون به ويستعملونه ويرونه. وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول وإليه نذهب وما توفيقنا إلا بالله وهو حسبنا ونعم الوكيل، وانتهى الألوسي من بحثه هذه المسألة عند ذلك1. هذا وللألوسي رحمه الله مؤلف جيد في نقض شبه المخالفين للرسل والسالكين غير منهج السلف الصالح من المسلمين والمؤمنين هذا المؤلف هو ((غاية الأماني في الرد على النبهاني)) وكان قد ألفه ولم يصرح بذكر اسمه عليه، ولكنه كنى عنه: بأبي المعالى الحسيني وزاد عليها السلامي   1 انظر: تاريخ نجد للألوسي ص 40-87. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1074 الشافعي لئلا يتضح اسمه خوفا على نفسه، ويقول محمد رشيد رضا في تقريظه: غاية الأماني في الرد على النبهاني، كتاب مؤلف من سفرين كبيرين، لأحد علماء العراق الأعلام، المكنى بأبي المعالي الحسيني السلامي الشافعي، رد فيها ما جاء به النبهاني في كتابه شواهد الحق من الجهالات والنقول الكاذبة، والآراء السخيفة، والدلائل المقلوبة، في جواز الاستغاثة بغير الله تعالى، وما تعدى به طوره في سب أئمة العلم وأنصار السنة، كشيخ الإسلام ابن تيمية، إلى أن قال: وفي هذا الكتاب ما لا أحصيه من الفوائد العلمية في التوحيد، والحديث، والتفسير، والفقه، والتاريخ، والأدب، وما انفرد به بعض المشاهير فأنكره العلماء عليه، كالإنكار على الغزالي وابن عربي الحاتمي وغيرهما.. فعلى هذا الكتاب نحيل الذين يكتبون إلينا في الشرق والغرب، يسألوننا أن نرد على النبهاني، وكذا من اغتروا بقوله ونقوله، وظنوا أن قولنا في الاعتذار عن عدم قراءة كتبه والرد عليها أنه لا يوثق بعمله ولا نقله هو من قبيل السب، وحاشا لله ما هو إلا ما نعتقده فيه وفي كتبه بعد النظر في بعضها، ورؤية ما فيها من الأحاديث الموضوعة والنقول المكذوبة، والاستنباطات الباطلة ممن جعل نفسه بالاستنباط مجتهدا وهو ينكر الاجتهاد، ويعترف بأنه ليس أهلا له. انتهى كلام صاحب المنار1. ولتأليفه هذا الكتاب دون أن يصرح باسمه عليه   1 المنار 12 ص 785 نقلا عن ترجمة مؤلف كتاب غاية الأماني في الرد على النبهاني، بقلم الشيخ محمد بن عبد الله السبيل، في نفس الكتاب ج1ص 9، 10. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1075 قصة ذكرها الشيخ محمد السبيل في ترجمته للألوسي فقال: عندما عزمت على كتابة هذه الترجمة اتصلت بالعالم السلفي، الشيخ محمد نصيف بجدة، والذي كان له مساهمة فعالة في سبب تأليف الكتاب وطبعته الأولى، فأفاد بما ملخصه: أنه عندما ظهر كتاب النبهاني المسمى (شواهد الحق) وقرأه الشيخ محمد نصيف، ورأى ما فيه من التلفيق والتحريف الواهي، وتهجمه على المحققين من علماء السلف، وتجويزه دعاء الأموات والاستغاثة بهم، وغير ذلك ما يخالف صريح الكتاب وصحيح السنة، عندما قرأه كتب للعالم العلامة الشيخ محمود شكري الألوسي، يطلب منه أن يقوم بالرد على النبهاني، ويدحض أباطيله، وينتصر للحق وأهله، فلم يمض سنة إلا وقد جاء الرد المسمى (غاية الأماني في الرد على النبهاني) للشيخ محمود شكري الألوسي، واتفق الشيخ محمد نصيف والشيخ عبد القادر التلمساني، من تجار جدة المحسنين، والعلماء السلفيين، على أن يقوما بطبعه وتكاليف الطبع بينهما نصفين. وكان الشيخ التلمساني آنذاك في مصر، فاتفقا أن يقوم بطبعه فرج زكي الكردي بمطبعته في مصر فقام بطبعته الأولى وقد وضع المؤلف على طرة الكتاب: تأليف أبي المعالي الحسيني، إشارة إلى كنيته ونسبه الحسيني، وزاد عليها السلامي الشافعي لئلا يتضح اسمه خوفا على نفسه، وذلك أن العلماء السلفيين في ذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1076 العصر يخافون على أنفسهم من معارضة أهل البدع والخرافيين - كالنبهاني وغيره- والسبب في ذلك أن السلطان عبد الحميد سلطان الدولة العثمانية قد قرب المشايخ من أهل الطرق، من الصوفية أنصار البدع، فلذلك خاف السيد محمود شكري الألوسي من إِظهار اسمه على طرة الكتاب، وكذلك صاحب المطبعة فرج الله زكي خاف على نفسه، ولم يذكر اسمه إلا رمزا (ف، ج، ز) ولا اسم مطبعته، ولا البلد التي فيها المطبعة، وكذلك الشيخ عبد القادر التلمساني والشيخ نصيف خافا على أنفسهما من نفس العلة، لأن السلطان عبد الحميد في ذلك الوقت له النفوذ في بغداد ومصر والحجاز وهي البلدان التي فيها المؤلف والطابع والمطبعة، ولهذه المضايقات والخوف عندما تم طبع الكتاب لم يتمكنوا من توزيعه إلا عندما أخذت حكومة اسطنبول بالقوانين الوضعية الأوربية وأعلنت الدستور وكان الدستور يقضي بحرية العقائد والأديان، فعند ذلك أرسلت حصة الشيخ محمد نصيف من الكتاب إليه في الحجاز، ووزعها، ووضع على كل نسخة وزعها اسم المؤلف بخط يده، وكذلك الشيخ عبد القادر وزع نسخه في مصر وغيرها، ثم إن الشيخ محمد نصيف عندما لم يخف من جراء إظهار الكتاب أعلن في جرائد بيروت في ذلك الحين أن لديه كتابا في الرد على النبهاني للشيخ الألوسي اسمه (غاية الأماني في الرد على النبهاني) ، ثم انبرى بعض تلامذة النبهاني وأعلن عن الرد، وحاول أن يحط من قدر الكتاب ولكن كما قيل: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1077 وقل للعيون الرمد للشمس أعين ... سواك تراها في مغيب ومطلع1 وله مؤلفات كثيرة منها غير ما تقدم في خدمة السنة: 1- الآية الكبرى على ضلال النبهاني في رائيته الصغرى، ألفه ردا على النبهاني لما شن الغارة في سب شيخ الإسلام ابن تيمية، ورشيد رضا، وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب. 2- (فتح المنان) تتمة منهاج التأسيس للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرجمن بن حسن آل الشيخ. 3- فصل الخطاب في شرح مسائل الجاهلية للشيخ محمد بن عبد الوهاب، طبع بعنوان مسائل الجاهلية2. وهذا في بغداد أحمد بن سعيد البغدادي قال في كتابه (نديم الأديب) : كما نقله الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز فقال: إليك أيها، القارى نص كلام أحمد سعيد منقولا بتمامه من كتاب (نديم الأديب) ص 11 (وأما) حقيقة هذه الطائفة فإنها حنبلية المذهب وجميع ما ذكر المؤرخون عنها من جهة الاعتقاد محرف، وفيه تناقض كلي لمن اطلع عليه   1 ترجمة مؤلف كتاب غاية الأماني، في نفس الكتاب ج1ص 8- 9. 2 انظر: ترجمة مؤلف كتاب غاية الأماني في الرد على النبهاني، في أول الكتاب المذكور بقلم محمد بن عبد الله السبيل ص10- 11. ومعجم المؤلفين العراقيين تأليف كوكيس عواد ص 274- 275. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1078 بتأمل لأن غالب مؤرخي الشرقيين ينقلون عن الكتب الإفرنجية، فإن كان المؤرخ المنقول عنه صاحب دراية وصادق الرواية تجد أن من يترجم كتابه يجعل الترجمة على قدر اللفظ فيضيع مزية الأصل، وإِن كان المؤرخ غير صادق الرواية فمن باب أولى، ومنهم من يقول إن هذه الطائفة تنهى عن وصف النبي صلى الله عليه وسلم بأوصاف المدح والتعظيم، ويقول إِنها تؤمن بقدم القرآن1، وبهذا يظهر بداهية التناقض لأن من يؤمن بقدم القرآن يؤمن بما فيه، وفي القرآن الشريف مدح النبي عليه الصلاة والسلام قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} 2 وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} 3 وآيات غير هذه كثيرة، أما ما نهى عنه محمد   1 القرآن كلام الله، ونوع كلامه سبحانه قديم وآحاد كلامه محدثة وليس كل محدث مخلوقاً قال الله تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} (الأنبياء:2) وقال تعالى: {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ} (الشعراء: 5) ويعني بالذكر القرآن، قال ابن كثير: أي جديد إنزاله كما قال ابن عباس: "ما لكم تسألون أهل الكتاب عما في أيديهم وقد حرفوه وبدلوه وزادوا فيه ونقصوا منه وكتابكم أحدث الكتب بالله تقرأونه محضا لم يشب" رواه البخارى، انظر: تفسير ابن كثير ج3 ص 174. وانظر: صحيح البخارى، كتاب الشهادات باب 29 ص 163، وكتاب الاعتصام باب 35 ص160، وكتاب التوحيد باب 43 ص 208. 2 سورة الأحزاب: (56) . 3 سورة القلم: (4) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1079 ابن عبد الوهاب إنما هو الوصف بأوصاف الألوهية كالقدرة والإرادة وعلم الغيب كما وصف النصارى عيسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم السلام فقد قال عليه الصلاة والسلام: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد" ومن أراد أن يعرف جليا اعتقاد هذه الطائفة فليطالع كتب مذهب الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه فإِنه مذهبهم، وأما سبب حرب صاحب مصر لهذه الطائفة فقد ذكره المؤرخ الشهير الموسيو (سيديو) الفرنساوي، وكلامه هذا محذوف من ترجمة كتابه التي أمر بها المرحوم علي باشا مبارك وخلاصة معناه هي: أن انكلترا وفرنسا حين علمتا بقيام محمد بن عبد الوهاب وابن سعود وبانضمام جميع العرب إليهما لأن قيامهما كان لإحياء كلمة الدين، خافتا أن ينتبه المسلمون فينضمون إليهما، وتذهب عنهم غفلتهم ويعود الإسلام كما كان في أيام عمر رضي الله عنه فيترتب على ذلك حروب دينية وفتوحات إسلامية ترجع أوربا منها في خسران عظيم فحرضتا الدولة العلية على حربهم، وهي فوضت ذلك إلى محمد علي باشا، وحصل ما حصل (ولكل أجل كتاب) وهذه الطائفة بريئة مما ينسب إليها الجاهلون ومن سبها يأثم والله أعلم بغيبه وأحكم. انتهى ما كتبه المذكور في كتابه نديم الأديب بكماله1.   1 انظر: حاشية كتاب: الشيخ محمد بن عبد الوهاب، بقلم أحمد بن حجر آل بوطامي رقم 1ص 97. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1080 أثرها في فارس والهند: وإذا تجاوزنا العراق وعرجنا على فارس في طريقنا إلى الهند، فإننا نجد في ((لنجة)) بلد من البلدان الفارسية الشيخ ملا عمران بن علي بن رضوان يرد على بعض قصائد الملحدين المعادين للشيخ ويثني خلال ذلك على الشيخ بقصيدة، هذا مطلعها: جاءت قصيدتهم تروح وتغتدي ... في سب دين الهاشمي محمد إلى أن قال: الشيخ شاهد بعض أهل جهالة ... يدعون أصحاب القبور الهمد تاجا وشمسانا ومن ضاهاهما ... من قبة أو تربة أو مشهد يرجون منهم قربة وشفاعة ... ويؤملون كذلك أخذا باليد ورأى لعباد القبور تقربا ... بالنذر والذبح الشنيع المفسد ما أنكر القراء والأَشياخ ما ... شهدوا من الفعل الذي لم يحمد بل جوزوه وشاركوا في أكله ... من كان يذبح للقبور ويفتدي فأتاهم الشيخ المشار إليه بالنصـ ... ـح المبين وبالكلام الجيد يدعوهم لله أن لا يعبدوا ... إلا المهيمن ذا الجلال السرمد لا يشركوا ملكا ولا من مرسل ... كلا ولا من صالح أو سيد فتنافروا عنه وقالوا ليس ذا ... إِ عجيب عندنا لم يعهد ما قاله آباؤنا أيضا ولا ... أجدادنا أهل الحجى والسؤدد إِنا وجدنا جملة الآبا على ... هذا فنحن بما وجدنا نقتدي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1081 فالشيخ لما أن رأى ذا الشأن من ... أهل الزمان اشتد غير مقلد إلى أن قال: لو أنصفوا لرأوا له فضلا على ... إِظهار ما قد ضيعوه من اليد ودعوا له بالخير بعد مماته ... ليكافئوه على وفاق المرشد لكنهم قد عاندوا وتكبروا ... ومشوا على منهاج قوم حسد ورموه بالبهتان والإِفك الذي ... هم يعملون به ومنهم يبتدي كمقالهم هو للمتابع قاطع ... بدخول جنات وحور خرد حاشا وكلا ليس هذا شأنه ... بل إِنه يرجو بها لموحد إلى أن قال: قالوا له ياكافرا يا فاجرا ... ما ضره قول العداة الحسد قالت قريش قبلهم للمصطفى ... ذا ساحر ذا كاهن ذا معتدي إلى أن قال: هل قال إلا وحدوا رب السما ... وذروا عبادة ما سوى المتفرد وتمسكوا بالسنة البيضا ولا ... تتنطعوا بزيادة وتردد هذا الذي جعلوه غشا وهو قد ... بعثت به الرسل الكرام لمن هدي من عهد آدم ثم نوح هكذا ... تترا إلى عهد النبي محمد وكذلك الخلفاء بعد نبيهم ... والتابعون وكل حبر مهتدي منهاجهم هذا عليه تمسكوا ... من كان مستناً بهم فليقتد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1082 إلى آخر القصيدة وهي طويلة مفيدة1. وقد أوردت في أول هذا الباب للشيخ ملا عمران هذا أبياتا سبعة من قصيدة له أخرى مطلعها: إن كان تابع أحمد متوهبا ... فأنا المقر بأنني وهابي2 ومن فارس إلى الهند فنجد علماء السنة في الهند قد بلغهم ما يقوله دحلان وأمثاله في الشيخ فبحثوا وتثبتوا وتبينوا كما أمر الله تعالى، وكما هو منهج أهل السنة والجماعة من سلفنا الصالح، فظهر لهم أن الطاعنين في الشيخ مفترون لا أمانة لهم فأثنى عليه فحولهم في عصره وبعد عصره وعدوه من أئمة المصلحين المجددين للإسلام ومن فقهاء الحديث كما نراه في كتبهم وكما قال محمد رشيد رضا3.   1 انظر: ص 3/ 118. 2 انظر: كتاب كشف غياهب الظلام عن أوهام جلاء الأوهام نأليف الشيخ سليمان بن سحمان ص 138-143. وكتاب الأسنة الحداد في رد شبهات علوى الحداد تأليف الشيخ سليمان بن سحمان ص 58-62. وانظر: كتاب الامام الشيخ محمد بن عبد الوهاب في التاريخ، تأليف عبد الله بن سعد الرويشد ج2، ص 357-359، انظر كتاب: الشيخ محمد بن عبد الوهاب، بقلم أحمد بن حجر آل بوطامي ص118. 3 مقدمة محمد رشيد رضا، الطبعة الثانية من صيانة الإنسان ص 14 من الطبعة الخامسة عام (1395 هـ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1083 ومن هذه الكتب: كتاب صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان، تأليف العلامة الكبير، المحدث الفقيه النحرير، محمد بشير السهسواني الهندي، يقول عنه مؤلف كتاب: ((الياقوت والمرجان)) ، في ذكر علماء سهسوان ما ملخصه: كان من المجددين وأحد المحققين المتأخرين، ولد في أواخر القرن الثالث عشر الهجري، وتعلم في لكنو، ثم ذهب إلى دهلي فأخذ عن سيد نذيرحسين كتب الصحاح والسنن الستة وغيرها سماعا وقراءة، واستجاز من الشيخ حسين بن محسن الأنصاري اليمني، والشيخ أحمد بن إبراهيم بن عيسى النجدى نزيل مكة والشيخ محمد السهارنبوي المهاجر بمكة. وبعد فراغه من الطلب اشتغل بالتدريس وكان وحيد عصره في سعة المعلومات والاطلاع على مذاهب السلف، يصرف أكثر أوقاته في التدريس والتصنيف والوعظ والإِرشاد، وله من المؤلفات إِتمام الحجة على من أوجب الزيارة كالحجة، وكان الشيخ محمد بشير على جانب عظيم من الورع والتقوى والعبادة وقيام الليل، وكان يغلب عليه في وعظه رقة القلب والخشية حتى تدمع عيناه، وفي 5 المحرم سنة 1295 هـ. استدعاه النواب صديق حسن خان بهادير من آكره إلى بهوبال وفوض إليه رئاسة المدارس الدينية في إمارة بهوبال. وقد أقر له أهل الهند كافة بقوة الاجتهاد والفضيلة العلمية واعترفوا له بها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1084 تناظر الشيخ محمد بشير والشيخ أحمد دحلان مفتي مكة في مسألة التوحيد، فكتب الشيخ ردا عليه، كتابه المسمى (صيانة الإنسان، عن وسوسة الشيخ دحلان) . واشتهر الكتاب وطبعه علماء نجد ولم يرد عليه أحد من المخالفين. وناظر مرزا غلام أحمد القادياني في دلهي بأمر بيكم بهوبال زوجة صديق حسن خان حتى انقطع القادياني عن المناظرة. وتوفي رحمه الله سنة (1326 هـ) عن عمر بلغ أربعا وسبعين سنة1. وفي مقدمة كتابه صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان قال الشيخ محمد بشير بعد البسملة والحمدَلة والثناء على الله والشهادتين والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما بعد فإني وقفت على الرسالة التي جمعها الشيخ أحمد بن زيني دحلان، أنقذه الله من دحلان الخذلان، وسماها (الدرر السنية، في الرد على الوهابية) ورأيت مؤلفها يدعي في ديباجة رسالته الباطلة الساقطة الدنية الردية، أنه جمع فيها ما تمسك به أهل السنة في زيارة النبي صلى الله عليه وسلم والتوسل به من الدلائل والحجج القوية، من الآيات والأحاديث النبوية.   1 انظر: ترجمته في أول كتاب صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان ص 18-23. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1085 فتعجبت منه التعجب الصراح، كيف وليس في الباب حديث واحد حسن فضلا عن الصحاح؟! فتأملت فيها تأمل الناقد البصير، لكي أعلم أنه هل صدق في تلك الدعوى أم كذب كذب المجادل الضرير، فوجدت دعواها عارية عن لباس الصدق والحق المبين، محلاة بحلية الزور والكذب الباطل المهين، فإِنه ليس فيها من الأحاديث إلا ما أورده التقي السبكي (في شفاء الأَسقام) وهي دائرة بين الاحتمالات الثلاثة السقام: إِما موضوعة عملتها أيدى الوضاع اللئام، أو ضعاف واهية رواها من وسم بمثل كثرة الغلط والأوهام. أو شيء يسير من الصحيح والحسن في زعمه، قاصر عن إِفادة المرام، كما بين ذلك كله الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادى في (الصارم المنكى) وليس فيها من الآيات والأحاديث الصحاح والحسان ما يدل على المطلوب المحكي. وكان حقا على المؤلف تعاطي واحد مما يذكر، لئلا يعد كلامه مما يهجر وينكر: أما إِيراده لأحاديث صحيحة أوحسنة دالة على المطلوب غير ما أورد في الشفاء أو الإِجابة عما تكلم به عليها صاحب الصارم وغيره من الأئمة الأذكياء. وإذ لم يفعل هذا ولا ذاك فليس لها فائدة ولا يؤول هذا الطول الى منفعة وعائدة. ومن عجائب صنيعه أن المؤلف مع زعمه أنه من جملة المقلدين، يستدل بالأدلة الشرعية وهو منصب المجتهدين. فعن لي أن أنبه على ما وقع فيه من مساوىء المفاهيم وزخارف الأقوال، وأراجيف الاستدلال، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1086 لئلا يغتر بها من يقف عليها ممن لا خبرة له بحقائق علم السنة من المتون والرجال1. ثم صار يورد جملة من كلامه وبعدها يَقُومُ بردها وبيان زيفها. ولقد انتصر للشيخ المظلوم، وذب عن عرضه، ونصرالتوحيد بحجته ومنطقه وآزر الحق بدلائل القرآن والسنة، وكل ذلك بأسلوب العالم المنصف، قال عنه محمد رشيد رضا: (ومن فضائل هذا الكتاب ومؤلفه علو أدبه في عباراته، وتحاميه المبالغة في ذم المذموم، ومدح الممدوح، فهو لا يطري الإمام المجدد الذي يدافع عنه، ولا يهجو المتجرم الذي يرد عليه هجوا شعريا يدخل في مفهوم السباب المذموم وإِن كان جزاءا وفاقا، ومقابلة للسيئة بمثلها، فتراه يقول في كل فرية من مفترياته على الشيخ نفسه، أو نقوله غير المسندة: هذا قول لم تصح به رواية فليأتنا بروايته وما قيل في تعديل رواتها لنجيب عنها. وجملة ما يقال في هذا الكتاب إِنه ليس ردا على الشيخ دحلان وحده، ولا على من احتج بما نقله عنهم من الفقهاء مما لاحجة فيه كالشيخ تقي الدين السبكي والشيخ أحمد بن حجر الهيتمي المكي بل رد على جميع القبوريين والمبتدعين حتى الذين جاءوا بعده إلى زماننا هذا2.   1 صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان، ص 25، 26. 2 مقدمة محمد رشيد رضا لكتاب: (صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان) ص16،17. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1087 وفيما يلي أسوق مثالا من كلامه الذي ينصر به الحق وهو قوله حين يرد على دحلان في افترائه على الشيخ أنه يكفر الأمة إلا من وافقه، قال الشيخ السهسَواني: وأما قوله (فسعى بالتكفير للأمة خاصها وعامها، وقاتلها على ذلك جملة إلا من وافقه على قوله) فهذه العبارة تدل على تهور في الكذب، ووقاحة تامة، وفي الحديث "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت". وصريح هذه العبارة أن الشيخ كفر جميع الأمة من المبعث النبوي1 إلى قيام الساعة، إلا من وافقه على قوله الذي اختص به، وهل يتصور هذا عاقل عرف حال الشيخ، وما جاء به ودعا إليه؟! بل أهل البدع كالقدرية والجهمية والرافضة والخوارج لا يكفرون جميع من خالفهم، بل لهم أقوال وتفاصيل يعرفها أهل العلم. والشيخ رحمه الله لا يعرف له قول انفرد به عن سائر الأمة، ولا عن أهل السنة والجماعة منهم، وجميع أقواله في هذا الباب- أعني ما دعا إليه من توحيد الأسماء والصفات، وتوحيد العمل والعبادات- مجمع عليه عند المسلمين، لا يخالف فيه إلا من خرج عن سبيلهم، وعدل عن مناهجهم،   1 قال محمد رشيد رضا في تعليقه: وزعم غير هذا المعترض أنه كفر الأمة منذ مئات من السنين، لا من أَولها كما اقتضاه إِطلاقه، بل منذ فشا فيها تشييد القبور، وبناء المساجد عليها، والطواف بها، ودعاء الموتى، فإن هذا لم يكن في القرون الأولى ولكن الحق الواقع أن الشيخ لم يكفر الأمة كلها في زمنه، فضلا عما قبله، وإنما كفر من أشرك بالله بغير عذر الجهل. وهو كما قال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1088 كالجهمية والمعتزلة، وغلاة عباد القبور، بل قوله مما اجتمعت عليه الرسل، واتفقت عليه الكتب، كما يعلم ذلك بالضرورة من عرف ما جاءوا به وتصوره، ولا يكفر إلا على هذا الأصل، بعد قيام الحجة المعتبرة، فهو في ذلك على صراط مستقيم متبع لامبتدع وهذا كتاب الله، وسنة رسوله، وكلام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من أهل العلم والفتوى معروف مشهور، مقرر في محله، في حكم من عدل بالله وأشرك به وتقسيمهم الشرك إلى أكبر وأصغر، والحكم على المشرك الشرك الأكبر بالكفر مشهور عند الأمة، لا يكابر فيه إلا جاهل لا يدري ما الناس فيه من أمر دينهم وما جاءت به الرسل. وقد أفرد هذه المسألة بالتصنيف غير واحد من أهل العلم، وحكى الإِجماع عليها، وأنها من ضروريات الإسلام، كما ذكره تقي الدين ابن تيمية وابن قيم الجوزية وابن عقيل، وصاحب الفتاوي البزازية، وصنع الله الحلبي والمقريزي والشافعي، ومحمد بن حسين النعيمي الزبيدى، ومحمد بن إسماعيل الصنعاني، ومحمد بن علي الشوكاني وغيرهم من أهل العلم1،2.   1 قال محمد رشيد رضا يعني أن هؤلاء وأمثالهم صرحوا بأن ما عليه كثير من المسلمين الجاهلين من عبادة القبور ودعاء الموتى شرك جلي، وأما أصل المسألة فقد أجمع عليها الفقهاء قبلهم. 2 صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان ص 426-427. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1089 ويظهر من مطالعة كتاب صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان، أن مؤلفه الشيخ محمد بشير السهسواني الهندي، قد وصلته رسائل كتبها الشيخ محمد بن عبد الوهاب واطلع على كثير من مؤلفاته ومؤلفات من بعده فهو ينقل عن الشيخ نفسه من كتبه ورسائله وينقل عن المؤرخ ابن غنام من تاريخه روضة الأفهام وينقل عن ابن الشيخ عبد الله وينقل عن حفيد ابنه الشيخ عبد اللطيف1. ولا نغفل ذكر العلامة النواب أمير بهوبال صديق حسن خان، الذي أحيا بمصنفاته السنة، وانتشرت بسببه علومها المولود سنة 1248هـ.، ولما شب تلقى العلم عن شيوخ جهابذة كالشيخ أحمد بن عبد الرحيم المدعو بـ (شاه ولي الله المحدث الدهلوي، والشيخ حسين بن محسن السبعي الأَنصاري اليمني تلميذ الشريف محمد بن ناصر الحازمي تلميذ الإمام الشوكاني. والشيخ عبد الحق بن فضل الهندي تلميذ الإمام الشوكاني أيضا2، وهو الذي استدعى الشيخ بشير السهسواني صاحب كتاب صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان سنة 1295 هـ. من آكره إلى بهوبال وفوض إليه رئاسة المدارس الدينية في إمارة بهوبال3.   1 انظر مثلا: صيانة الإِنسان عن وسوسة الشيخ دحلان ص 408-422 وص 423- 431، وص 464-487. 2 ترجمة صديق حسن خان في أول مؤلفه: الدين الخالص ج1ص ز- ح. 3 صيانة الإنسان ص 20 ط 5 عام 1395 هـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1090 وكان معجبا بالإمام الشوكاني، ومحصلا لمؤلفاته وله كتاب الدين الخالص في التوحيد والتحذير من ضده. وجرت من بعض مشايخ الدعوة له مكاتبات كالشيخ حمد بن عتيق، فقد أرسل إليه الشيخ حمد رسالة أولها بعد البسملة: (من حمد بن عتيق إلى الإمام المعظم، والشريف المقدم محمد الملقب صديق زاده الله من التحقيق، ... وذكر الشيخ حمد أنه وصله تفسيره، وأثني عليه وبين له أمورا لاحظها وهي بسيطة بجانب ما أحسن فيه من تفسيره1. ورحل إليه الشيخ سعد بن حمد بن عتيق وأخذ عنه في الهند وعن غيره2. كما ارتحل الشيخ إسحق بن الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ إلى بهوبال وأخذ عن الشيخ محمد بشير السهسواني والشيخ حسين بن محسن الأنصاري شيخ صديق حسن خان 3 وغيرهما في مدرسة بهوبال السلفية تحت رعاية عالمها صديق حسن خان رحمه الله تعالى. وكذلك الشيخ سعد بن الشيخ حمد بن عتيق رحل إليهم لطلب العلم ولما سألوه عن معتقد مشايخه من أهل بلده أجابهم سنة 1352 هـ وكتب لهم في   1 الدرر السنية ج10 ص 11. 2 الدرر السنية ج12 ص 93. 3 الدرر السنية ج12 ص 80. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1091 ذلك1. وممن ألف في سيرة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ودعوته من كلية ندوة العلماء بالهند الأستاذ مسعود عالم الندوي وهو من الأحناف في أول أمره، وتتلمذ على الدكتور محمد تقي الدين الهلالي من أول سنة 1349 هـ إلى سنة 1352 هـ. في الهند ثم في بغداد بعد ذلك التاريخ أقام عند الدكتور الهلالي مدة سنة وبصحبة الأستاذ عاصم الحداد، وكان أحد رؤساء الجماعة الإسلامية التي يرأسها الأستاذ المودودي فسجن معه في الباكستان وبقي سنين في السجن فلم يجد سبيلا إلى التأليف فعكف على نيل الأوطار للشوكاني فتبين له أن التعصب للمذهب الحنفي من غير حجة لا يرضاه الله ولا يرضاه السلف الصالح ومنهم الإمام أبو حنيفة نفسه فرجع عن التعصب والتزم اتباع الكتاب والسنة2. وقد ألف هذا الأستاذ كتابا عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب كما ذكرنا وعنوانه: محمد بن عبد الوهاب مصلح مظلوم ومفترى عليه باللغة الأردية، وترجمه منها إلى اللغة العربية الأستاذ عبد العليم بن عبد العظيم البستوي، وقدم له الدكتور محمد تقي الدين الهلالي فقال فيه: "وإذا كان الفضل في إِخراج هذه الدرة الثمينة يرجع إلى تلميذي مسعود عالم   1 طبع تحت عنوان ((عقيدة الطائفة النجدية في توحيد الألوهية)) انظر المقدمة ص 3. 2 انظر: مقدمة الدكتور تقي الدين الهلالي على كتاب: محمد بن عبد الوهاب، لمسعود الندوي ص 7-8. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1092 الندوي، فإن الفضل في إِخراجها من عالم العجمية إلى عالم العربية إلى تلميذي عبد العليم بن عبد العظيم البستوي المتخرج في الجامعة الإِسلامية" 1. ويقول المترجم وهو زميلنا عبد العليم عبد العظيم البستوي ما ملخصه: إن الشيخ محمد بن عبد الوهاب من المجددين المجاهدين، ولذا درست سيرته وتعرفت طريقته في كتب كثيرة ألفت في ذلك فرأيت كتاب الأستاذ مسعود عالم الندوي رحمه الله يمتاز بأنه ألف لنصرة الحق وأداء الواجب والتزم الإِنصاف في ما ناقشه من قضايا وبحوث مع الاطلاع على كثير من الكتب حول الشيخ من عربية وأعجمية، وسيجد القارىء في هذا الكتاب سيرة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ودعوته وأنها سيرة إسلامية ودعوة إسلامية خالصة وأنها دعوة تحاول أن تعود بالمسلمين إلى الرقي والمجد والازدهار كما كانوا في القرون الأولى إِنها دعوة دعا إليها جميع الأنبياء والمرسلين، وإِن محمد بن عبد الوهاب لم يبتدع شيئا من عنده ولا خرج عن عقيدة المسلمين التي اتفق عليها أئمة الإسلام كلهم2. وفي الهند جهود مخلصة في خدمة السنة المطهرة يتحدث عنها زميلنا عبد الرحمن عبد الجبار الفريوائي في كتابه بهذا العنوان الذي نشرته   1 مقدمة الدكتور تقي الدين الهلالي على كتاب محمد بن عبد الوهاب، لمسعود الندوي ص 8. 2 انظر: كتاب محمد بن عبد الوهاب، لمسعود الندوي، كلمة المترجم، ص 11، 12. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1093 إِدارة البحوث الإِسلامية والدعوة والإِفتاء بالجامعة السلفية في بنارس بالهند. وحركة الانطلاق الفكري بالهند وجهود الشاه ولي الله الدهلوي وفي غيرها من نشاطات إسلامية والجامعة السلفية في بنارس بالهند التي أنشئت في سنة 1383 هـ. تحت إِشراف جمعية أهل الحديث الهندية. وهذه كلها وإِن لم تكن قد أخذت عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب عقيدته السلفية مباشرة فهي تلتقي معه في عقيدة السلف الصالح على الأغلب، وهذا ما تحرص على أن تؤكده كتاباتهم ففي كتاب بعنوان حركة الانطلاق الفكري بالهند وجهود الشاه ولي الله الدهلوي تأليف محمد إسماعيل السلفي وتعريب مقتدي حسن الأعظمي: يقولون إِن تسمية ما هم عليه بالوهابية كذب محض وافتراء عظيم، فالمركز الرئيسي للوهابيين الحجاز ونجد. ويقولون: إنهم هم الذين أخذوا علم الحديث من الهند، أو استفادوا من العلامة حياة السندي والحافظ الشوكاني في الحديث، فكأن الوهابيين أيضا قد أخذوا السلفية من الهند أو اليمن والحجاز1. وكانت تطبع بعض مؤلفات الشيخ بالهند وتاريخ ابن غنام، وينتشر هناك ما ينتشر من ذلك ولهذا أثر كبير في بث الوعي الإسلامي السليم والعقيدة السلفية بالهند.   1 نقلا عن مجلة الجامعة السلفية (صوت الجامعة) السنة السادسة العدد الأول شعبان 1394 هـ. ص 77-78. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1094 أثرها في مصر: ونعود من الهند إلى مصر، وما أدراك ما مصر؟! إذا تذكرنا الحملة المصرية وما أعقبها من ترحيل من قدروا عليه من آل سعود وآل الشيخ من الدرعية إلى مصر بحريمهم وذراريهم ومعهم علمهم وعقيدتهم السليمة، التي لا تزول وإن زالت الدولة والرواسي، فالعقيدة أمر ثابت يبقى ولا يزيله حتى الموت ومفارقة الروح الجسد سيما إذا كانت عقيدة صحيحة ولا حول ولا قوة إلا بالله، ومع هذه الحال لا بد وأن يظهر أثر العقيدة ونلتمس مما كتبه المؤرخ المصري الشيخ عبد الرحمن الجبرتي ما يبين أثر هذه العقيدة، فنجده ينتقد محمد علي باشا وجميع من شاركه في محاربته، وينتقد احتفالهم الهائل بوصول من قدروا على أسره من أنصار العقيدة السلفية وحملتها: ويقول عن احتفالهم: وكان ذلك من أغرب الأعمال التي لم يقع نظيرها بأرض مصر، وما يقرب من ذلك". إلى أن قال: وقد ذهب في هاتين الملعبتين من الأموال ما لا يدخل تحت الحصر، وأهل الاستحقاق يتلظَّوْنَ من الفشل والتفليس مع ما هم فيه من غلاء الأسعار في كل شيء وانعدام الأدهان. إلى أن قال: وأعصوان المحتسب مرصدون لمن يرد من الفلاحين والمسافرين بالسمن فيحجزونه لمطالب الدولة ومطايخهم ودورهم في هذه الولائم والجمعيات) 1.   1 نقلا عن كتاب: من أخبار الحجاز ونجد في تاريخ الجبرتي تلخيص محمد أديب غالب ص 194. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1095 وكان قد ذكر زينتهم ووصف إسرافهم وألمح إلى أن معظمها كان حيث مساكن الأفرنج والأرمن فإِنهم تفننوا في عمل التصاوير والتماثيل وأشكال السُّرُجِ وغيرها، وذكر أنها ملاهي وأغاني وتسماعات وقيان وجنك رقاصات1. وتظهر العقيدة في مقابلة الباشا المزهو بغرور النصر المؤقت للإمام عبد الله المصاب الصابر ويحدثنا عن ذلك الجبرتي فيقول: "وصل عبد الله الوهابي فذهبوا به إلى بيت إسماعيل باشا ابن الباشا فأقام يومه وذهبوا به في صبحها عند الباشا بشبرا فلما دخل عليه قام له، وقابله بالبشاشة وأجلسه بجانبه، وحادثه وقال له (ما هذه المطاولة؟) فقال: "الحرب سجال" قال: "وكيف رأيت إبراهيم باشا؟ " قال: "ما قصر وبذل همته، ونحن كذلك.. حتى كان ما كان قدره المولى" فقال: "أنا إن شاء الله تعالى أترجى فيك عند مولانا السلطان" فقال: "المقدر يكون ... " 2. ثم لما قتل الإِمام عبد الله شهيدا ومن معه قال الجبرتي: "فذهبوا مع الشهداء" 3 وهذا يعني تأثره بعقيدة السلف الصالح.   1 المصدر السابق ص 190. 2 المصدر السابق، ص 194- 195. 3 نقلا عن كتاب: من أخبار الحجاز ونجد في تاريخ الجبرتي، ص 197، 199. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1096 وذكر أَن ابن الإمام عبد الله هو وخواصه ومن معهم نحو أربعمائة نسمة أسكنوا بدور بالقشلة، ولم يكن على ابن الإمام هو وخواصه حرج يذهبون ويجيئون ويترددون على المشايخ وغيرهم ويمشون في الأسواق ويشترون البضائع والاحتياجات. ونجد الجبرتي ينكر بيعهم بعض الأسرى ويقول "هم مسلمون أحرار" 1. وهذا قديم في أمثالهم فقد باعوا يوسف عليه وعلى نبينا محمد أفضل الصلاة والسلام. ولعل هذا مما دس على الجبرتي، إذ الحوادث التي جرت أثناء تلك الحروب مشهورة، وهذا ليس منها في الشهرة. وما من شك أن مثل هذه الأمور تبين همجية أعداء السلف الصالح وبعدهم عن الشريعة الإسلامية. وتبين صفاء العقيدة لدى أصحابها ونقاءها حتى في الحالات التي قد ذهب عنهم كل شيء وفسدت دنياهم عليهم هم لا يزالون مشاعل خير وعلامات رشد تدعو إلى عقيدة السلف الصالح إن لم يكن بلسان مقالهم وسلطانهم فبلسان حالهم. وقد ذكرت قبل قليل كلام أحمد سعيد البغدادي في بحث أثر عقيدة الشيخ السلفية في العراق ومن كلامه ذلك كلامه عن سبب حرب   1 نفس الهامش السابق: نقلا عن كتاب من أخبار الحجاز ونجد في تاريخ الجبرتي ص 197، 199. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1097 صاحب مصر لهذه الطائفة، وأنه كما ذكره (سيديو) الفرنسي وخلاصته أن إِنكلترا وفرنسا حين علمتا بقيام محمد بن عبد الوهاب وابن سعود وبانضمام جميع العرب إليهما لأن قيامهما كان لإِحياء كلمة الدين، خافتا أن ينتبه المسلمون فينضمون إليهما وتذهب عنهم غفلتهم ويعود الإسلام كما كان في أيام عمر رضي الله عنه فيترتب على ذلك حروب دينية وفتوحات إسلامية ترجع أوروبا منها في خسران عظيم فحرضتا الدولة العلية على حربهم وهي فوضت ذلك إلى محمد علي باشا وحصل ما حصل (ولكل أجل كتاب) 1. ويؤيد ما أفاد به أحمد سعيد الكاتب الأمريكي لوثروب ستودارد حيث يقول وبدافع من ولائه للصليبية عن محمد علي في حملته المشؤومة على المسلمين ما نصه: "وكان هذا المقدام الألباني سيد مصر وأميرها، واقفاً حق الوقوف على قدرة أوربة وشدة بأسها وتفوقها، فدعا إليه ضباطا من أهل الغرب فنظموا له جيشا قويا، ودَرَّبُوه تدريبا على الطراز الغربي، وجهز بمعدات الأسلحة الغربية، وكان غالب هذا الجيش مؤلفا من المقاتلة الألبانيين الأشداء، فسرعان ما أجاب محمد علي نداء السلطان فأيقن حينئذ أن الوهابيين على شدة غيرتهم الدينية وحماستهم لن يستطيعوا بعد الوقوف في وجه البنادق والمدافع الأوربية يطلق عيارها جنود مجربون"2.   1 انظر: 2/ 1079 من هذا البحث. 2 حاضر العالم الإسلامي، ج 1/ 262. وأحب أن أوضح بأنه ليس سبب هزيمة المسلمين، أَمام محمد علي هو قدرة أوربة الصليبية وشدة بأسها وتفوقها كما يقول الكاتب الأمريكي لوثروب وغيره ولكنه كما ذكرنا في نهاية البحث في أثر عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية في الدور الأول لدولة أنصارها، وخلاصته أنه التغير الذي حصل في نفوس المسلمين عن الاستمساك التام بعقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية كما كان عليه الشيخ وأئمة آل سعود وعلماؤهم فإِنهم لما كانوا على حالة مستقيمة على عقيدة السلف الصالح نصرهم الله وأعزهم وجعل لهم الغلبة والتمكين كما كان في عهدهم الأول ثم لما حصل ما حصل من التغير تغيرت الأحوال والدولة، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (الرعد: 12) وانظر: آية 54 من الأنفال. انظر: ص 926-931 من هذا البحث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1098 ويذكر الأستاذ مسعود الندوي: أن الحكومة البريطانية هنأت إبراهيم باشا على تدميره الدرعية وقضائه على حضارتها1 وهذا تأكيد على أن عدو عقيدة الشيخ وأنصارها هم أعداء الإسلام والمسلمين. وها هو الشيخ الجبرتي المؤرخ المصري المشهور يصف إبراهيم باشا بما هو متصف به من صفات يتصف بها كل أضداد السلف الصالح ذوي الإسلام الخالص. فيقول: "ورجع إبراهيم باشا من هذه الغيبة متعاظما في نفسه جدا وداخله من الغرور ما لا مزيد عليه حتى إن المشايخ لما ذهبوا   1 انظر: محمد بن عبد الوهاب مصلح مظلوم مفترى عليه، تأليف الأستاذ مسعود الندوي ص 150-154. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1099 للسلام عليه والتهنئة بالقدوم عليهم فلما أقبلوا عليه- وهو جالس في ديوانه- لم يقم لهم ولم يرد عليهم السلام فجلسوا وجعلوا يهنئونه بالسلام فلم يجبهم ولا بالإِشارة بل جعل يحادث شخصا سخرية عنده. وقاموا على مثل ذلك منصرفين ومنكسرين1. ولا شك أن مثل هذا يكون حافزا للمشايخ وغيرهم من أهل مصر أن يعيدوا النظر في عقيدة السلف الصالح التي يحملها من أوفدوا عليهم ويعلموا أن إبراهيم باشا المتسلط إنما احتقرهم لأنه إنما كان قد انتصرعلى أمثالهم فكيف يهنئونه على ذلك لولا هوانهم عند أنفسهم وقد احتقرهم لأنهم كذلك، وهذا دليل لهم صارخ على أن من حاربهم الباشا من أهل نجد ما حاربهم إلا لأنهم مسلمون من أتباع السلف الصالح من المسلمين وأن نظرته إلى جميع المنتسبين إلى الإسلام واحدة هي نظرة ازدراء واحتقار لهم ولما اتسموا به من الإسلام فهو قد انتصر عليهم بزعمه وعلى دينهم فلم يبق في نفسه لهم احترام وإِن كانوا من المشايخ العظام، وأصحاب العلوم والفهوم. وهذا بلا شك يعطي ردود فعل متعاطفة مع أبناء الشيخ العلماء وسائر حملة عقيدة السلف الصالح خصوصا الذين نقلهم الباشا إلى مصر، ويكون له دوركبير في التأثير، ومؤشره تأثر الشيخ عبد الرحمن الجبرتي رحمه الله تعالى والذي ألمحنا لطرف منه هنا. ونورد ما ذكره عبد   1 انظر: كتاب (من أخبار الحجاز ونجد في تاريخ الجبرتى) تأليف محمد أديب غالب ص 200، بإِشراف دار اليمامة ط (1) عام 1395 هـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1100 الرحمن بن عبد اللطيف بن عبد الله آل الشيخ في تعليقه على عنوان المجد من أسماء آل الشيخ الذين نقلهم الباشا إلى مصر، فيقول ما خلاصته إن ابن بشر لم يذكر في تاريخه أسماءهم مع أنهم محدودو العدد ومشهورو الأسماء بل هم قادة الدعوة وزعماء الإِصلاح في ذلك الوقت ولمزيد الفائدة نذكر أسماءهم فهم: الشيخ عبد الله بن الشيخ وصحبته حرمه وابنه الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله، والشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد وصحبته حرمه وابنه الشيخ عبد اللطيف، وكان عمر الشيخ عبد اللطيف ذلك الوقت لا يزيد عن ثمان سنوات. والشيخ علي بن الشيخ محمد، والشيخ إبراهيم بن الشيخ محمد. هؤلاء هم الذين نقلهم الباشا إلى مصر، فأما الشيخ عبد الرحمن بن حسن فمكث بمصر ثمان سنوات ثم رجع إلى الرياض بعد تولي الإمام تركي بن عبد الله الحكم بسنة أي سنة 1241 هـ. وأما ابنه الشيخ عبد اللطيف فبقي بمصر واحدا وثلاثين عاما ثم رجع إلى الرياض في ولاية الإمام فيصل بن تركي سنة 1264هـ1. وأما الشيخ عبد الله بن الشيخ فتوفي بمصر سنة 1242هـ2. ويقول ابن بشر: "وكان لعبد الله المذكور ابن اسمه عبد الرحمن   1 هامش عنوان المجد في تاريخ نجد، تأليف عثمان بن بشر، تحقيق وتعليق عبد الرحمن ابن عبد اللطيف آل الشيخ، طبعة وزارة المعارف سنة 4 139 هـ. ص 286. 2 الدرر السنية 12/45 ومشاهير علماء نجد ص 49. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1101 جلب معه إلى مصر وهو صغير وذكر لي أنه اليوم في رواق الحنابلة في الجامع الأزهر وعنده طلبة علم وله معرفة تامة ودراية عظيمة1. ولعل ذلك من عوامل نشر عقيدة السلف الصالح وإقامة الحجة بها وكذا الشيخ علي بن الشيخ فقد توفي بمصر في سنة 1245هـ. على أغلب الظن كما يقول عبد الرحمن بن عبد اللطيف2. وكذلك الشيخ إبراهيم بن الشيخ فإنه توفي بمصر ولم يقف ابن قاسم على تاريخ وفاته لكنه كان موجودا سنة 1251هـ. في مصر3. ووجود مثل هؤلاء المشايخ إلى هذا الزمن في مصر، واحتكاكهم بطلبة العلم والمشايخ والعلماء سيكون له أثر في نشر عقيدة السلف الصالح وهم أبناء الشيخ المشهود لهم بالعلم والتحقيق كما قال الحفظي: أولاده مشايخ التحقيق ... وسدرة في منتهى الطريق4 وعلى كل حال فالأثرلم يبد بارزا حتى أعاد الله الكرة لعقيدة السلف الصالح بالإمام الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل. عندئذ وجدنا مطبعة المنار بمصر، ومجلة المنار بمصر وصاحبها محمد رشيد رضا، يقبل الخير ويتجاوب مع الملك عبد العزيز في نشرمؤلفات وآثار علماء   1 عنوان المجد في تاريخ نجد 1/93، وط المعارف سنة 1394 هـ. ص 118، 119. 2 مشاهير علماء نجد وغيرهم ص 51 وانظر الدرر السنية 12/47. 3 الدرر السنية 12 / 46. 4 الدرر السنية 12/ 47. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1102 الدعوة وعلى رأسهم الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب. فهذه مجموعة الرسائل والمسائل النجدية أربعة مجلدات كبار وغيرها وكثير من كتب السلف الصالح في الفقه والتفسير والحديث وغير ذلك بلغ المجلدات الكبار وبلغ قدرا كبيرا من ذلك كان له أثر كبير في بث الوعي بين المسلمين ونشر ضالتهم من الحق في تلك المؤلفات السلفية ومحمد رشيد رضا يخدمها بالتعليق والإِشراف على طبعها وكانت له مواقف حميدة وكتابات منصفة وبيانات للحق ناصعة في مجلته الكبيرة مجلة المنار التي بلغت ما يربو على عشرين مجلدا واستمر صدورها سنين عديدة وكان ينشر دفاعا مجيدا عن دعوة السلف الصالح، وما يدفعه إلى ذلك إلا تأثره بعقيدة السلف الصالح وتطلعه إلى نهضة المسلمين إذا استيقظوا من غفلتهم إلى دينهم بهذه العقيدة السليمة ومن كتاباته أجد بين يدي طائفة من المقالات نشرت في مجلة المنار، وجريدة الأهرام جمعت وأصدرت بعنوان: ((الوهابيون والحجاز)) وكانت طبعتها الأولى سنة 1344 هـ. وأصبحت كتابا بذلك العنوان ويضم من الأبحاث أضواءا على حقيقة العقيدة السلفية، مثل تسجيله: شهادة التاريخ للوهابيين، وبيان عجز الشريف الحسين عن القيام بعقيدة السلف الصالح وأنه وإلى الأجانب على العرب وجعل الحجاز دولة حربية ونفسه ملكا للعرب وعزم على إِخضاع نجد واليمن بالقوة مع عداوته لابن سعود وطعنه في عقيدته السلفية مما جعلها الله أسبابا لزحف ابن سعود على الحجاز وتمكينه من ولايته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1103 وتطهيره ثم شخص السبب لعداوة أشراف مكة المستولين عليها لأهل نجد عن مؤرخ مصري، وأنه ليس السبب في غير العقيدة، فأهل نجد يعتقدون عقيدة السلف الصالح، وأولئك على خلافها، ثم ذكر أشهر وقائع تعدى أهل الحجاز على النجديين ومنها منعهم من الحج ودسائس الشريف في نجد وإِغراؤه جيرانها بها وإِحباطه مؤتمر الكويت1 والوثائق الرسمية لنجد على أهل الحجاز ثم يتحدث عن صبر سلطان نجد وأنه صبر لم يعهد له نظير من قوى يعتدى عليه دينيا ودنيويا حتى علم هو وأمته بعد التروي واستفتاء العلماء أن إِنقاذ الحرمين من الحسين واجب شرعا ولو لم يكن لذلك موجب إلا منع أهل نجد من الحج لكفى. ويقول محمد رشيد رضا فكيف إذا أضيف إلى ذلك سائر ما أشرنا إليه فيما أجملناه في الأهرام وفصلناه في المنار من إلحاده بالظلم لأهل الحرمين والحجاج، وإِدخاله للنفوذ الأجنبي في البلاد وخطره على الأمة العربية وما بقي لها من البقعة الصغيرة المستقلة في جزيرتها وتكفيره للترك وللمصريين كالنجديين ثم تنحله منصب الخلافة. أما السلطان عبد العزيز ففي تصريحه نص قطعي باعترافه هو وعلماء بلاده بإسلام جميع الشعوب الإسلامية والرغبة في   1 انظر: الملك عبد العزيز ومؤتمر الكويت، 1342 هـ 1923-1924 م، رسالة ماجستير من جامعة أم القرى بمكة المكرمة 1401هـ، إِعداد موضي بنت منصور بن عبد العزيز آل سعود، ط 1 عام 1402 هـ. نشر مؤسسة تهامة جدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1104 التعارف والتواد معها وبأن هؤلاء الأمراء الحجازيين ورثوا عن سلَفِهمْ تكفير النجديين والطعن فيهم والتنفير منهم. وقال محمد رشيد: وقد استفتينا واستفتى غيرنا في شأن هذا البَاغِي الشريف حسين في سنة 1341 هـ. فأفتى بعض علماء الأزهر بأنه من البغاة المتغلبين الذين يجب قتالهم على إمام المسلمين وكتبنا فتوى مطولة نشرناها في المنار الذي صدر في ذى الحجة من تلك السنة ج8 م 24 ص 593-616 ونشرناها في جريدة الأهرام أيضا أجملنا فيها صفاته وجناياته، ولكننا استدركنا على من جعل حكمه حكم البغاة متسائلين أين إمام المسلمين الأعظم الذي يجب عليه قتاله؟ ثم بينا أن إِنقاذ الحرمين من بغيه وظلمه يجب على كل من يقدرعليه من جماعات المسلمين وأمرائهم وأن أقدرهم على ذلك سلطان نجد وإمام اليمن وذكرنا ما يقال في المانع المشترك لهما من ذلك وهو الخوف أن يفضي إلى تدخل الإِنكليز في الحجاز لأنه جعله تحت حمايتهم1. وفي مقالة لمحمد رشيد رضا يبين نهضة الوهابيين كما يسميهم بالإِصلاح وما آلوا إليه وأن آل سعود أهل نهضة إصلاحية إِسلامية وخصوصا السلطان عبد العزيز، السلطان العامل الصامت بخلاف ملوك الدعاية القوالين ثم كتب ملخصا لسيرة السلطان ابن سعود وملخصا   1 انظر: ص 40- 41 من الكتاب المذكور. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1105 لسيرة الشريف. ورد على الدعايات الكاذبة1. إلى آخر ما كتب وبين فكان لكتاباته أثر في تنبيه المصريين خصوصا والمسلمين عموما إلى رشد حملة عقيدة السلف من أهل نجد وصحة عقيدتهم، وأَنه لأثر كبير لاشك فيه، سيما والشيخ محمد رشيد رضا عالم محقق يأمر بالسنة وينهى عن البدعة خصوصا بدع القبورين في العبادة كما في مقالاته هذه ويقصد نهضة المسلمين جميعا ويهدف لمصلحتهم، ومحمد رشيد رضا حين يدعو للملك الإمام عبد العزيز وللعلماء الذين معه، يعلم أن عقيدتهم السلفية هي الأصلح للمسلمين عامة. ويقول الشيخ محمد رشيد رضا في رسالته التي بعنوان: (السنة والشيعة أو الوهابية والرافضة) : "ولما رأيت ما رأيت من سوء أمر مؤتمر النجف لشيعة العراق، ومن أمارات نشر الإِلحاد في إِيران والأفغان، ومن تجديد الشيخ العاملي في تواليفه والشيخ عارف الزين في مجلته الطعن في السنة، وتنفير المسلمين من دولتها الوحيدة في إِقامتها ونصرها، ومن بث الرفض والخرافات بين المسلمين، رأيت من الواجب علي أن أظهر للمسلمين ما يخفى على جمهورهم من الحقائق التي لم يكن العاملي ولا الزين يعلمان بوقوفي عليها، لعلهما يفيئان إلى أمر الله، فكتبت الفصول الآتية بهذه النية". وتشير الرسالة إلى أن العاملي المسمى محسن الأمين وهو الرافضي   1 انظر: كتاب ((الوهابيون والحجاز)) ط 1344 هـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1106 المتعصب ألف كتابا استغرق خمسمائة صفحة، جعل عنوانه (الرد على الوهابية) . ودس فيه ما يبغي من الخرافات القبورية والرفضية، والطعن في حكم الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود وعلى ابن تيمية وابن القيم وابن عبد الهادي والشيخ محمد بن عبد الوهاب ويرد الشيخ محمد رشيد رضا بقوله: "أقول: أولا: إن الوهابية يدعون بحق أنهم موحدون وحامون لحمى التوحيد من تطرق الشرك، وكان يدعي هذه الدعوى بحقٍ قبلهم شيخ الإسلام. يعني ابن تيمية. ثانياً: أن الوهابية لم يدعوا أنهم هم الموحدون وحدهم وأن غيرهم من جميع المسلمين، مشركون كما افترى عليهم هذا الرافضي المتعصب وغيره، بل لم يدعوا أنهم فرقة أو أهل مذهب مستقل ... وإنما يقولون كما يقول غيرهم من العلماء بتوحيد الله الذي دعت إليه جميع رسله" 1. ويأتي من بعد المنار وصاحبه، جماعة أنصار السنة المحمدية ورئيسها محمد حامد الفقي ومطبعتهم، فقد كان لهم دور في بث العقيدة السلفية ونشر كتب عقيدة السلف الصالح وبيان الحق والرد على طوائف الصوفية المنحرفة عن السنة، وكان لرئيس جماعة أنصار السنة المحمدية الشيخ محمد حامد الفقي نشاط خاص في هذا المجال وله كتاب سماه أثر الدعوة الوهابية في الإِصلاح الديني والعمراني في جزيرة العرب وغيرها كتبه   1 نقلا عن كتاب انتشار دعوة الشيخ ... تأليف محمد كمال جمعة ص 169. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1107 وتحدث به في نادي جماعة أنصار السنة المحمدية بمصر وهذا النادي يحضره كثير من المصريين وغيرهم وقد نفع الله به وطبع عام 1354 هـ. بمطبعة النهضة بشارع عبد العزيز بمصر، وقال الشيخ محمد حامد الفقي في مقدمته: أما بعد فهذ نبذة لطيفة في بيان حقيقة الدعوة الوهابية وإمامها وشيعتها وأنصارها وقصة إِزاحة الأوهام وإِبطال الأكاذيب التي نسجت حولها. وذلك لتخبط الكثير من الناس في شأنها1. وغيرهما، ويتعاون معهم في نشر عقيدة السلف الصالح بدافع من إيمانه وإيمان جماعته بسلامة منهجهم. ونذكرمن أبرزهم شيخنا الدكتور محمد خليل هراس فقد كتب عن منهج الشيخ وأنصاره وسمى ما كتبه: الحركة الوهابية وهو رد على مقال للدكتور محمد البهي في نقده للوهابية وطبعته الجامعة الإِسلامية بالمدينة المنورة عام 1396 هـ. وقال في مقدمته ما ملخصه: لأستاذنا الدكتور محمد البهي كتيب نشرته (دار الفكر ببيروت) عالج فيه الفكر الإِسلامي في أدواره وعقد فيه فصلا عن الحركة الوهابية وملأه بمزاعم لا تتفق مع الحق، ولا سند لها من الواقع، ونقدها نقدا جانب فيه الإِنصاف ولم يراع فيه موازين البحث العلمي2.   1 أثر الدعوة الوهابية، لمحمد حامد الفقى ص1-2. 2 الحركة الوهابية بقلم الدكتور محمد خليل هراس ص 7. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1108 ثم إن الدكتور الهراس نقض نقده ورد عليه ردا منصفا أجاد فيه وأفاد رحمه الله تعالى. ولا ننسى محمد منير بن عبده آغا النقلي الدمشقي الأزهري: صاحب ((دار الطباعة المنيرية)) في القاهرة. تفقه في الأزهر سلفيا وأصبح من علمائه. وأنشأ دار الطباعة المنيرية (1337 هـ) ونشركثيرا من المصنفات القديمة والحديثة. وصنف كتاب: نموذج من الأعمال الخيرية في إدارة الطباعة المنيرية- مطبوع أنجزه في شعبان 1358 هـ. وله (إِرشاد الراغبين في الكشف عن آي القرآن المبين) مطبوع وتوفي بالقاهرة1، وله المجموعة المنيرية وهي مجموعة رسائل سلفية لشيخ الإسلام ابن تيمية والصنعاني والشوكاني والصابوني وَأَبي محمد الجويني وغيرهم. وسماها المجموعة المنيرية وله عليها تعليقات وقد خدم كثيرا من رسائل السلف خاصة ومؤلفاتهم، ومن ذلك مجموعة بعنوان: (الأصول الثلاثة وأدلتها ويليها شروط الصلاة وواجباتها وأركانها، والقواعد الأربع للشيخ محمد ابن عبد الوهاب علق عليها وصحح أصولها وكساها حواشي مفيدة محمد منير الدمشقي، طبعت في القاهرة، إدارة الطباعة المنيرية بلا تاريخ2   1 الأعلام للزركلي، ط 4 ج7 ص 310. 2 آثار الشيخ محمد بن عبد الوهاب سجل ببليوجرافي مادة رقم 18 ص 25 ومادة رقم 52 ص 30. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1109 ومنها: كتاب التوحيد الذي هوحق الله على العبيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب نشر المكتبة القيمة، بمباي والقاهرة، دار الطباعة المنيرية سنة 1344 هـ1. ومنها: كشف الشبهات للشيخ محمد بن عبد الوهاب علق عليه وصححه محمد منير الدمشقي، وفي ذيله نبذة في الحث على اتباع الكتاب والسنة والعمل بهما للمعلق طبع القاهرة في إدارة الطباعة المنيرية، سنة 1351 هـ2. وفي مقدمة الأصول الثلاثة وأدلتها يقول الشيخ محمد منير عبده أغا الدمشقي الأزهري بعد الثناء على الله والصلاة والسلام على رسوله صلى الله عليه وسلم. أما بعد: سألني كثير من أهل العلم والمعرفة أن أطبع رسالة الإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في الأصول الثلاثة وأدلتها وشروط الصلاة وواجباتها وأركانها وأنشرها بين المسلمين لاسيما العوام منهم لينتفعوا بها ويعملوا بأحكامها، وهى سهلة موجزة صحيحة على مذاهب أهل السنة والجماعة فأجبتهم لذلك3. كما نذكر المطبعة السلفية ومكتبتها وصاحبها محب الدين الخطيب،   1 المرجع السابق مادة رقم 97 ص 36. 2 المرجع السابق مادة رقم 196 ص 49. 3 ص 2. ضمن مجموعة تضم الأصول الثلاثة وأدلتها وكتاب التوحيد والأربعين النووية وغيرها. مطابع الإشعاع- الرياض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1110 وقد طبعت كثيرا من كتب السلف الصالح مع التحقيق والعناية من ذلك طبعهم لمجموعة التوحيد النجدية وعنايتهم بها، ولازالت حتى بعد وفاة مؤسسها تحت إِشراف ابنه قصي. وكذلك مطبعة المدني المؤسسة السعودية في مصر وغيرها من المطابع التي تطبع آثار الشيخ ومؤلفاته وسائر مؤلفات السلف الصالح مما يكون له تأثير في نشر العقيدة السلفيلية. وما يزال مدد تأثير عقيدة السلف الصالح في زيادة واستمرار خصوصا لما نهضت المملكة بالتعليم واستوفدت مدرسين من مصر لجامعة الإمام محمد بن سعود والجامعة الإِسلامية، وغيرهما من جامعات المملكة فإن هؤلاء الأساتذة يعودون بانطباعات ومشاعر يحملونها ويبثونها في مجتمعاتهم وهذا ليس خاصا بمصر غير أنه في مصر أكثر ظهورا، ونذكر على سبيل المثال أستاذا زائرا بجامعة الإمام محمد بن سعود الإِسلامية في العام الجامعي 1395-1396 هـ. وهو المستشار عبد الحليم الجندي، والرئيس السابق لإِدارة قضايا الحكومة في جمهورية مصر العربية ورئيس لجنة تجلية مبادىء الشريعة الإسلامية بالمجلس الأعلى للشئون الإسلامية، وعضو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، وعضو لجنة الشريعة بالمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، جاءنا زائرا ثم عاد يخرج كتابا اسمه (الإمام محمد بن عبد الوهاب أو انتصار المنهج السلفي) يقول في مقدمته: ومن أجل الاعتبار بما صنعه ابن عبد الوهاب وحاجة العصر الحالي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1111 إلى التأسي بكل كلمة قالها وكل صنيع صنعه وضع هذا الكتاب، ليذكر كل ذي بصر أن صفحات هذا التاريخ العظيم تتكرر ويعني تاريخ الإسلام إلى أن يقول: "بهذا أصبحت المملكة العربية السعودية دولة رائدة في المجتمع العالمي، معلمة للمجتمع الإسلامي، بانتصار الشريعة على الجريمة والرذيلة والتواكل والجهل والفشل بسيادة العدالة والطمأنينة وانتشار الجامعات وازدهار الأخلاق الرغيبة والائتمار بالمعروف والتناهي عن المنكر. وبهذا قامت جماعة إسلامية حقا هي آدىٍ للأمانة وآكد في التعامل، وأبعد من التبذل، وأصون للحرمات، تتواصل فيها الطبقات وتكدح، وتجد وتجتهد، وتثبت لعالم تتخاذل دوله، وتتسلل شعوبه أن العذاب يحل بالأمم من أنفسها، ولا يصيب الذين ظلموا خاصة، وأن الله صادق وعده ناصر جنده، وإن غبي عن ذلك عبدة القوة أو المادة، أو عمي الآخرون عن رؤية الواقع" 1.   1 انظر تقديم كتاب: الإمام محمد بن عبد الوهاب أو انتصار المنهج السلفي ص 8 ـ 9. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1112 حول مايقال في تأثر بعض الحركات والدعوات بعقيدة الشيخ السلفية وما قيل من تأثر بعض الحركات والدعوات في خارج سلطان أنصار عقيدة الشيخ مثل حركة السنوسي في ليبيا وحركة أحمد بن عرفان في الهند، وحركة الفرائضيين في الهند، وحركة نزار علي في الهند أيضا، وحركات البدري الثلاث في أندونيسيا، وحركة الإِخوان المسلمين، وبعض دعاة في البلدان قيل إنهم تأثروا بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب مثل الشيخ محمد عبده، وجمال الدين الأفغاني، والجمعية الشرعية في مصر، وما قيل أيضا أن الثورات التي انطبعت بطابع ديني تأثرت بدعوة الشيخ كالثورة المهدية في السودان وثورة ايش محمد كول في التركستان، وما قيل من أن إِصلاح سلطان المغرب المولى سليمان بن محمد في المغرب، وعبد الحميد بن باديس في الجزائر، قد تأثروا بدعوة الشيخ1، كل ذلك   1 انظر: دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأثرها في العالم الاسلامي رسالة دكتوراه على الآلة الكاتبة، ص 439- 491. وكتاب انتشار دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب خارج الجزيرة العربية، تأليف محمد كمال جمعة، مطبوعات دارة الملك عبد العزيز وطبع على نفقة وزارة التعليم العالى ص 97- 105 وص 213- 220 وص 223-225. الفصول: الثالث والرابع، والخامس، والسادس، والسابع، والثامن. وكتابات الدكتور محمد عبد الله ماضي أستاذ التاريخ بكلية أصول الدين في حاضر العالم الإِسلامي، النهضات الحديثة في جزيرة العرب. في المملكة العربية السعودية ص 62-70 ط 2 عام 1372 هـ الحلبي. وانظر: بحث الدكتور محمد سلام مدكور من مصر ص 16- 21 وبحث الدكتور وهبه مصطفى الزحيلي من الشام ص 21- 41. وبحث عبد الفتاح مقلد الغنيمي، عن غرب أفريقيا ص 3-19 وبحث أنور الجندى عضو المجلس الأعلى للشؤن الإسلامية القاهرة ص 2، 4-9. وبحث الدكتورعبد الحليم عويس ص 14-19، 20- 31. وبحث الشيخ عطية محمد سالم ص 14-16، 21-22، 35-36. وبحث الدكتور مصطفى محمد سعد هرجس 8، 16-17، 18. وبحث الدكتور محمد السعيد جمال الدين بعنوان دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأصداؤها في فكر محمد إِقبال وكل هذه البحوث قدمت لمؤتمر أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب فكتبت على الآلة وجمعت في مجلد سمي: (تأثر الدعوات الإِصلاحية بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب) ثم وزع على المشاركين في المؤتمر وبعض الحضور والمدعويين وهو المنعقد في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في 21/4/ 1400هـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1113 يحتاج إلى دقة وتحقيق ودليل يثبت أن هذه الدعوات والحركات تأثرت بعقيدة الشيخ وحركته ودعوته وقيام أنصاره. وأغلب ما تعتمد عليه هذه الأقاويل على مصادر غربية بعيدة معادية لا دقة لديها ولا تحقيق، ولكن تعتمد على الظنون وما تريده من تشويه للصورة الصحيحة حتى لا يفهم الناس الحقيقة. والحقيقة أن هذه الدعوات والحركات والثورات نابعة من أهلها، وهم بأنفسهم لا يذكرون أَنهم من أتباع الشيخ ولا أنهم تتلمذوا عليه أو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1114 قرأوا كتبه ومؤلفاته وأرادوا تطبيقها ولا أحد يثبت ذلك فيذكره، بل إن هؤلاء لا يعترفون بهذه التبعية، ولا بالتأثر به. وربما أن أكثرهم لا يعرفه إلا عن طريق أعدائه ودعاياتهم الكاذبة وبصورة مشوهة غير حقيقية، أو يعرفه بعضهم ولكن لا يعترف بطريقته السلفية وإِن كان ينتسب إلى السلف، كما هو شأن الأشعرية والصوفية وأهل الكلام وأهل السياسة الدنيوية التي تريد العلو في الأرض والرئاسة أو تريد الدنيا ولا تريد الآخرة. فكل هذه المذاهب وما كان على هذه الشاكلة لا تعترف بعقيدة السلف الصالح وهي العقيدة التي يعتقدها الشيخ. فأصحابها يخالفونها في كثير أو قليل والأمثلة على ذلك كثيرة فهذا السنوسي قد سئل عنه أبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب والشيخ حمد بن ناصر بن معمر رحمهم الله فقال السائل السنوسي المغربي مصنف السنوسية المعروفة بعلم الصفات فهل تنقمون عليه شيئا من ذلك؟ الخ. فكان جوابهم أن السنوسي ليس من أئمة السنة والجماعة فإن أهل السنة والجماعة هم الذين نعتهم النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكرأن (بني إسرائيل افترقت على ثنتين وسبعين فرقة وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة) قالوا ما هي يارسول الله؟ قال: "من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي" 1 والسنوسي المذكور صنف كتابه أم البراهين على مذهب الأشاعرة وفيها أشياء كثيرة   1 سبق تخريجه في 1/ 254 من هذا البحث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1115 مخالفة ما عليه أهل السنة، فإن الأشاعرة خالفوا ما عليه السلف الصالح في مسائل، منها: مسألة العلو، ومسألة الصفات، ومسألة الحرف والصوت. الخ جوابهم1. وبعضهم الآخر قي نصوص الصفات سلك مسلك من يفوض المعنى والكيف ولا يقول بأن، المعنى معلوم والكيف مجهول إذ لا فرق عنده بين المعنى والكيف، ثم صحح مذهب الخلف أهل التأويل المذموم وهو صرف اللفظ عن معناه الراجح من ظاهره إلى المعنى المرجوح بحجة فرارهم من التشبيه والتمثيل وهم قد وقعوا في شر مما توهموه وفروا عنه، ورجح مذهب أهل التفويض وجعلهم هم السلف2، ولم يذكر مذهب السلف الصحيح الذي عبر عنه الإمام مالك حيث قال: "الاستواء معلوم والكيف مجهول، ففرق بين المعنى والكيف وأن المعنى معلوم والكيف مجهول"، وكذلك الإمام الطحاوي قال العلم علمان علم موجود وعلم مفقود3، فالموجود علم المعنى والمفقود علم الكيف في باب صفات الله المقدسة. وقد رد الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ قول من قال في وسيلة دعوته الله وأتوسل إليك بصفاتك الكاملة التي لا يعلمها إلا أنت فقال الشيخ عبد الرحمن: اعلم أن الذي لا يعلمها إلا هو كيفية الصفة،   1 الدرر السنية ج 3 ص 191. 2 انظر: العقائد، للإمام الشيخ حسن البنا، ص 70 -78. 3 انظر: العقيدة الطحاوية، شرح وتعليق محمد ناصر الدين الألباني ص 34. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1116 وأما الصفة فيعلمها أهل العلم بالله كما قال الإمام مالك: "الاستواء معلوم والكيف مجهول" ففرق هذا الإمام بين ما يعلم منه معنى الصفة على ما يليق بالله فيقال استواء لا يشبه استواء المخلوق ومعناه ثابت لله كما وصف به نفسه، وأما الكيف فلا يعلمه إلا الله فتنبه لمثل هذا فالإمام مالك تكلم بلسان السلف1. ويدعي هذا البعض من أولئك الدعاة أن في نصوص الصفات ما يوهم التمثيل والتشبيه2. بينما أنه ليس في نصوص الصفات ما يوهم ظاهره اللائق بالله تعالى تمثيلا أو تشبيها، ومن توهم شيئا من ذلك فهو لأنه لم يعط النص حقه من التأمل والتدبر وإمعان النظر، ولو فعل ذلك لم يجد في ظاهره اللائق بجلال الله تعالى ما يوهم تمثيلا أوتشبيها وحاشا أن يكون ظاهركلام الله وكلام رسوله يوهم ذلك، والسلف والأئمة لم يكونوا يتوهمون أن ظاهرها التمثيل ولا يرضون بذلك كما حققه شيخ الإسلام ابن تيمية3 وعلى ذلك الشيخ محمد بن عبد الوهاب وسائر السلف الصالح. وفي تعاليمهم أن أركان بيعتهم عشرة أولها: الفهم ويريدون بالفهم   1 الدرر السنية، ج3 ص 299. 2 انظر: العقائد، للإمام الشيخ حسن البنا، ص 74- 75. 3 انظر: التدمرية، القاعدة الثالثة ص 27 ضمن مجموعة نفائس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1117 أن يفهم الإسلام في حدود ما يسمونه بالأصول العشرين وفي أكثرها نظر. ومن ذلك تأصيلهم أن الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعا فهو دولة ووطن أوحكومة وأمة وهو خلق وقوة أورحمة وعدالة وهو ثقافة وقانون أو علم وقضاء وهومادة وثروة أو كسب وغنى وهو جهاد ودعوة أو جيش وفكرة كما هو عقيدة صادقة وعبادة1. وهذه كلمات مجملة غامضة يدخل فيها ما هو من الإسلام وما ليس منه، ولا يفهم منها تحديد للمقصود كما يفهم من تعريف السلف الصالح للاسلام وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما سأله جبريل عن الإسلام قال: "الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقيم الصلاة وتؤتى الزكاة وتصوم رمضان وتحج بيت الله الحرام إن استطعت إليه سبيلا" 2. وقال صلى الله عليه وسلم بني الإسلام على خمس "شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإِقام الصلاة وإِيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج بيت الله الحرام" 3.   1 رسالة التعاليم، للإمام الشيخ حسن البنا ص 3. 2 انظر: صحيح البخارى، كتاب الإِيمان، باب 37، 34، وكتاب الشهادات باب 26 وتفسير سورة 31 ... وصحيح مسلم، الإِيمان 5، 7، 8 وغيرهما. 3 انظر: صحيح البخارى، كتاب الإِيمان باب 1، 2 تفسبر سورة 2، 30 وصحيح مسلم، الإِيمان 19- 22 وغيرهما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1118 ولما كان أصل هذه المباني هو شهادة أن لا إله إلا الله كما بين الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك حين بدأ بها وحين بعث معاذا إلى اليمن أمره أن يبدأهم بها وقد ذكر ذلك البخاري في أول كتاب التوحيد من صحيحه لذلك قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب "الإسلام هو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله وهو ثلاث مراتب الإسلام والإيمان والإحسان وكل مرتبة لها أركانٌ فأركان الإسلام خمسة ... " الخ1. ويرون الاستعاذة بالمقبورين ونداءهم لذلك وطلب قضاء الحاجات منهم عن قرب أو بعد والنذر لهم. وما يلحق بذلك من المبتدعات كبائر2 بينما هي شرك ينقض الإسلام وليست مجرد كبائر ومبتدعات على المصطلح في مفهوم الكبائر والمبتدعات التي لا تخرج من الملة، وهكذا. لا يركزون في دعوتهم على إِبعاد الناس عن الشرك مثل دعاء غير الله والنذر له طلبا للنفع ودفع الضر ليصححوا التوحيد وهو أول شيء ولكن يركزون على الحاكمية تركيزا جعل دعوتهم أشبه بدعوة سياسية تطلب الحكم بينما دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب تتركز على أنه لا يدعى إلا الله ولا يذبح إلا له ولا يصرف شيء من أنواع العبادة المشروعة   1 انظر: مؤلفات الشيخ، القسم الأول، العقيدة، ثلاثة الأصول ص 189 وما بعدها. 2 رسالة التعاليم للإِمام الشيخ حسن البنا ص 6. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1119 لغيره فهي دعوة توحيد الله بالعبادة التي شرعها الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ولأتباعه. ثم طلب من الأمير الموهوب ملكات الإِمارة أن ينصر ذلك. وبين له أن الدولة والملك ثواب لمن نصر ذلك لا أن الإسلام هو الدولة كما توهمه تعاليمهم بأن الإسلام دولة ووطن أو حكومة وأمة. وضياع الحكومة والملك من المسلمين إنما يكون عقوبة للتفريط منهم بدينهم فإذا عادوا إلى حفظ دينهم وصححوا توحيدهم عاد الله عليهم بالعز والتمكين، كما في حديث ابن عباس "احفظ الله يحفظك" فمشكلة المسلم ليست في نزع الملك من يده وإنما مشكلة المسلم هي عدم تصحيحه شهادة أن لا إله إلا الله فإذا صححها وعمل بمقتضاها وصبر على ذلك ملكه الله بها العرب ودانت له بها العجم والله أعلم. وهذا الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في رسالة التوحيد التي ألفها لا يذكر تعريف التوحيد الذي هوحق الله على العبيد حين أراد أن يعرف علم التوحيد ويبين معناه وقد استدرك عليه تلميذه محمد رشيد رضا فقال: (فات الأستاذ أن يصرح بتوحيد العبادة، وهو أن يعبد الله وحده ولا يعبد غيره بدعاء ولا بغير ذلك مما يتقرب به المشركون إلى ما عبدوا معه من الصالحين والأصنام المذكرة بهم، وغير ذلك كالنذور والقرابين التي تذبح بأسمائهم أو عند معابدهم، وهذا التوحيد هو الذي كان أول ما يدعو إليه كل رسول قومه، بقوله: "اعبدوا الله ما لكم من إله غيره" 1.   1 رسالة التوحيد، تأليف محمد عبده، تعليق محمد رشيد رضا، الطبعة 12 عام 1366هـ. ص 4. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1120 وقال شيخنا محمد خليل هراس: "وقد غلط الشيخ عبده في اعتباره توحيد الربوبية والانفراد بالخلق هو الغاية العظمى من بعثة الرسل عليهم الصلاة والسلام فإن هذا النوع من التوحيد كانت تقر به الأمم التي بعثت إليها الرسل، ولم يقع فيه نزاع بينهم وبين الرسل، وإنما كان النزاع في توحيد الإِلهية والعبادة، ولهذا لم يجىء على لسان الرسل عليهم السلام الدعوة إلى اعتقاد أن الله وحده هوالخالق، وإنما كان مدار دعوتهم هو عبادة الله وحده لا شريك له، فكل منهم كان مفتتح دعوته لقومه "اعبدوا الله ما لكم من إله غيره". إلى أن قال الشيخ الهراس: "ولعل فضيلة الشيخ عبده في هذا كان متأثرا بالأشعرية الذين جعلوا الانفراد بالخلق هو أخص خصائص الإِلهية، واهتموا في كتبهم بإقامة البراهين على هذا النوع من التوحيد دون أن يشيروا إلى توحيد الإِلهية الذي هو أقصى الغايات ونهاية النهايات" 1. وغير ذلك من شطحاته في الملائكة والجن ونحو ذلك كما في تفسير المنار نقلا عنه. وذلك المهدي في السودان رضي أن يطلق عليه المهدي، بل أعلن أنه   1 دعوة التوحيد، أصولها، الأدوار التي مرت بها- مشاهير دعاتها، تأليف حمد خليل هراس ص 9،10. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1121 قد رأى رؤية للنبي صلى الله عليه وسلم يدعوه فيها إلى قيادة المؤمنين كمهدي مخلص أرشده الله. وتدافع عليه الآلاف يحلفون له على الطاعة1. وهذا يدل على أنه اغتر بنفسه أنه المهدي بناء على إِعلانه أنه رأى رؤية للنبي صلى الله عليه وسلم، ثم إن هذه الرؤية لم يبين هل هي منام أو يقظة كما يدعيه جهلة الصوفية أنهم أو أحدهم يرى النبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة ويحضر المولد أوما أشبه ذلك- وهذا أقبح الغلط وغاية التلبيس وأعظم الخطأ المخالف للكتاب والسنة وإِجماع أهل العلم لأن الموتى إنما يخرجون من قبورهم يوم القيامة لا في الدنيا ومن قال خلاف ذلك فهو كاذب كذبا بينا أوغالط ملبس عليه لم يعرف الحق الذي عرفه السلف الصالح ودرج عليه أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعهم بإحسان. ولو تبين أن هذه الرؤية رؤية منام فعلى كلا الاحتمالين هي ليست بصحيحة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدعو إلى خلاف الحق ولا يشير ولا يقول بخلاف الحق لا في حياته ولا بعد موته2 وقد تبين أن مهدي السودان ليس هو المهدي الذي يقود المؤمنين كمهدي مخلص أرشده الله، بل لم يخلص حتى أهل السودان من الخرافات ومخالفة التوحيد، ومن الاستعمار النصراني فقد استولى كتشز الإنكليزي على السودان وأمر بتدمير قبر   1 انتشار دعوة الشيخ ... تأليف محمد كمال جمعة، ص 224. 2 انظر: التحذير من البدع للشيخ عبد العزيز بن باز- رحمه الله - ص 18-19. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1122 المهدي والتمثيل بجثته وعرض رأسه في القاهرة1 وكان أتباعه يعتقدون بمعجزة رجوعه2. وقد سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله عن الرؤيا السارة في المنام فقال: "الرؤيا أرجو أنها من البشرى، ولكن الرؤيا تسر المؤمن ولا تغره" 3. وكل تلك الدعوات والحركات لا تخلو واحدة من سمة تدل على عدم ارتباطها بعقيدة الشيخ دلالة واضحة فليس من عقيدة الشيخ شيء من هذه الطرق الصوفية ولا الأشعرية ولا القبورية ولا المذاهب السياسية التي تريد التسلط ولا النزعات الثورية كل ذلك ليس من عقيدة الشيخ السلفية كما هو ليس من عقيدة السلف الصالح جميعا في شيء، وما وافقوا فيه الإسلام من أمور فهذه الموافقة ليست دليلا على أنهم تأثروا بالشيخ كما قررنا وكون أحدهم حج مرة أومرتين وحتى لو قابل أحدا من حملة عقيدة السلف الصالح ليس هذا اللقاء مقتضيا لتأثره ما لم يثبت دليل من أدلة التأثر أوصيغة من صيغ التحمل والاقتناع. هذا بالإِضافة إلى أن هؤلاء لا يقولون بأنهم من أتباع الشيخ كما قررنا ولا الشيخ وأتباعه   1 انظر: انتشار دعوة الشيخ ... تأليف محمد كمال جمعة، ص 224- 225. 2 المصدر السابق. 3 مؤلفات الشيخ، القسم الثالث، الفتاوى رقم 11 ص 51. وانظر: روضة ابن غنام ج1/ 198. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1123 وأنصاره يحتضنون شيئا من هذه الدعوات بقصد احتوائهم وجعلهم تبعا لهم. ولا يطمئنون لبعض طرقهم المخالفة كالنزعات الصوفية أو الكلامية، أو البدع الأخرى، حتى في تعريف العبادة فأكثر هؤلاء لا يعرف أن العبادة مبناها على الأمر الشرعي ولا يعرف أن التوحيد من مقامين مقام توحيد المعرفة والإِثبات، ومقام توحيد القصد والطلب ولا يعرف أن توحيد القصد والطلب الذي هو توحيد الألوهية والعبادة متضمن لتوحيد الربوبية ولا عكس لكن توحيد الربوبية يستلزم توحيد الألوهية وكثير منهم إذا عرف التوحيد إنما يعرفه بأنه هو توحيد الربوبية كما ذكرت عن الشيخ محمد عبده، وسائر من تأثر بالأشاعرة، الذين اشتهر عنهم هذا المنهج في تعريفهم التوحيد. ومعلوم أن الإِقرار بتوحيد الربوبية لا يكفي عن الإِتيان بلازمه وهو توحيد الألوهية، وكم من يقر بالربوبية وينكر توحيد الإِلهية؟!. ولعل في ذلك كفاية في بيان عدم صحة الرأي القائل بأن مثل هذه الدعوات والحركات متأثرة بالشيخ ودعوته وحركته وحركة أنصاره من أجل نصرة دين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والله أعلم. وبهذا نأتي على ختام هذا الفصل وبختامه أختم الباب الثاني في أثر عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية في العالم الإسلامي ونأتي إلى خاتمة البحث كله سائلين الله حسن الخاتمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1124 الخاتمة: وتشتمل على خلاصة البحث ونتيجته نحمد الله تبارك وتعالى ونشكره على ما يسر من هذا البحث وقد أتيت فيه على مقدمة بدأتها بالثناء على الله بما هو أهله وثنيت بالصلاة والسلام على رسوله صلى الله عليه وسلم، وأشرت إلى خير الحديث وخير الهدى، وحالة الناس حين أرسل الله خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم، وظهور دين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على الدين كله. ثم حدوث ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من الفتن في الأمة الإِسلامية، وبقاء طائفة منها على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم إلى قيام الساعة لتقوم بهم الحجة الرسالية ومن هذه الطائفة المجددون في الإسلام، ومن هؤلاء المجددين الشيخ محمد بن عبد الوهاب ومن ناصره من آل سعود. وإنني اخترت عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية وأثرها في العالم الإسلامي موضوعاً لرسالة الدكتوراه التي أدرس للحصول عليها إن شاء الله تعالى، لأهمية هذا الموضوع، ولأسباب ركزتها في ثلاثة خلاصتها أنها عقيدة نعتمدها في ديننا ودنيانا وهي أساس وحدة المملكة العربية السعودية، فأردت تذكير ناشئة الجيل الجديد بها على هذا المستوى الجامعي، ليكون اعتقادنا السليم عن علم واتباع لا عن تقليد وابتداع. وفي ضمن ذلك أردت الرد بأسلوب علمي على أعدائها والمفترين عليها وذلك عن طريق عرضها عرضا أصيلا وصحيحا من مصادرها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1125 الكثيرة الأصلية وبينت فضائل من سبقني في ذلك وشكرت من أسدى إلي معروفا ودونت خطة البحث ومنهجه. ثم أتيت إلى المدخل واشتمل على مبحثين أولهما في البيئة من حول الشيخ في العالم الإسلامي وثانيهما في حياة الشيخ خصوصا الناحية العلمية، وقد ذكرت في مبحث البيئة وصفا لها من الناحية السياسية والدينية وما يتبع ذلك من الناحية الاجتماعية والاقتصادية وغير ذلك من النواحي المتفرعة وتوصلت إلى أنها بيئة يغلب عليها أمر الجاهلية من عبادة غير الله تعالى كالذبح للمقبورين ودعائهم والإستغاثة بهم والنذر لهم من أجل أن يشفعوا لفاعل ذلك عند الله تعالى، ومن فوضى واضطراب وتفرق وعداوة ونهب وسلب وخيانة ومعاملات كانت كلها سببا في دمار الاقتصاد وخرابه وفساد في الأخلاق وخوف وقلاقل وفتن هذا في الغالب فبينت أن البيئة بما غلب عليها من غربة لهذا الدين شديدة كانت بحاجة إلى مصلح يعيد للدين ظهوره وانتشاره وعهده بعد غربته فقيض الله الشيخ محمد بن عبد الوهاب أبرز هؤلاء المصلحين. وأما مبحث حياة الشيخ فقد تضمن ترجمته ونشأته ورحلاته العلمية وشيوخه وتلاميذه ومؤلفاته ووفاته ورثاءه، وذكرت مصادر ترجمته وما يعتمد عليه وما لا يعتمد عليه منها، ونسبه، وأسرته العلمية، ونشأته في هذه الأسرة نشأة علمية، ورحلاته من ناحية خط سيرها وزمانها والأمكنة التي رحل إليها، وشيوخه من أهل الحديث وغيرهم في الحرمين والبصرة والأَحساء وذكرت أن نتيجة هذه الرحلات زيادة معرفة الشيخ وتسلحه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1126 بسلاح العلم النافع، واليقين الراسخ وحرر علم التوحيد الذي هو حق الله على العبيد من الكتاب والسنة على علماء أهل السنة والجماعة في مهابط الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وامتلأ وطابه من الآثار وعلم السنة وبرع في مذهب أحمد بن حنبل رضي الله عنه، ورجع من رحلاته وهو في مستوى علمي يفوق علماء زمانه. وفي ذكري لمؤلفاته بينت عدم صحة نسبة بعض المؤلفات إليه وحققت نسبة بعض منها إليه وهي التي حصل تشكيك من البعض في نسبتها إليه. هذا مع ذكر شيء عن كل مؤلف وأثر من مؤلفات الشيخ من ذكر مكان وجوده وصفته وشيء من موضوعه بشكل موجز ومختصر. ثم وصلت إلى الباب الأول وهو ما يختص بعقيدة الشيخ السلفية وقد تضمن أربعة فصول أما الفصل الأول فهو في منهج الشيخ في عقيدته ودعوته وتوصلت إلى أن منهجه هو منهج السلف الصالح في العلم والعمل، وأما الفصل الثاني فهو في مجمل عقيدة الشيخ السلفية وتوصلت إلى أنه يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الأخر وبالقدرخيره وشره جملة وتفصيلا كما يؤمن بذلك سلفنا الصالح رضوان الله عليهم، ويقول في الإيمان ما يقولونه واكتفيت بذكر أدلته من الكتاب والسنة على كل مسألة من مسائل عقيدته لبيان أصالة اعتقاده وصلته بمذهب السلف الصالح والتقائه معهم في المصير والمرجع كما التقى معهم في المنهج والوسيلة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1127 وأما الفصل الثالث فهو في التوحيد من مقاميه المقام العلمي والعملي ويكمن فيه الأمر الذي واجه به الشيخ مجتمعه واستنكره عليه عامة الناس ثم أظهره الله به على من ناوأه وعاداه، وأما بقية أركان العقيدة فلم يحصل فيها من النزاع ما حصل في التوحيد، ولأنها في الحقيقة مبنية على التوحيد، فلذا لم أجد من تفاصيلها ما وجدته في التوحيد فاكتفيت بما ذكرته منها عن الشيخ في مجمل عقيدته. وقد أتيت في هذا الفصل الثالث على ذكر عقيدة الشيخ في التوحيد من مقاميه المقام العلمي الخبري والمقام العملي الطلبي فالمقام الأول هو توحيد المعرفة والإِثبات ويدخل فيه توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات والمقام الثاني توحيد الطلب والقصد ويدخل فيه توحيد الألوهية والعبادة. وتوصلت إلى أن الشيخ يعتقد في كل ذلك عقيدة السلف الصالح وما خرج عنها في شيء من ذلك يين هذا من أدلته وبراهينه من الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة واتفاق أهل المذاهب الأربعة، مذهب أبي حنيفة ومذهب مالك ومذهب الشافعي ومذهب أحمد بن حنبل إمام كل حنبلي في أصول العقيدة السلفية وفي مسائلها الأصلية ودلالتها. والفصل الرابع تضمن التحذير من نواقض عقيدة السلف الصالح أو نواقض كمالها وأتيت فيه على نواقض الإسلام وتفاصيل عن الشرك وأقسامه وأفراده وخطره وإمكان وقوعه وبيان وسائله وأسبابه وطرق مقاومته والحذر الشديد من ذلك وحماية جناب التوحيد وتصحيح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1128 الاعتقاد بترك الشرك كله وسد ذرائعه والرد على شبهات المشركين وكشفها ثم وصلت إلى الباب الثاني وهو ما يختص بأثر عقيدة الشيخ السلفية في العالم الإسلامي وقد تضمن خمسة فصول، فالفصل الأول ذكرت فيه أسباب ومبادىء تأثير عقيدة الشيخ وأول ظهورها في حريملاء لما رجع من رحلاته العلمية ثم أثرها في العيينة وما حصل عليه من آثار في البلدان الأخرى وأتباع في تلك المرحلة قبل قيام دولة العقيدة. ثم في الفصل الثاني بينت كيف تم لقاء الشيخ بالأمير محمد بن سعود وكيف تأثر بما عرضه الشيخ محمد من عقيدة السلف الصالح وحصلت البيعة المباركة وبينت أن ذلك التأثر دليل على فضل الأمير وطيب معدنه وخيريته ورجحان عقله وشجاعته وبينت أنه المؤسس لمكاسب آل سعود من دولة إسلامية بسبب تلك العقيدة السلفية التي من شأنها أنها تأتي بالخلافة والملك الإسلامي، وأن من مكاسبهم صلاح دينهم ودنياهم وظهورهم على الملوك والأمراء ونصرهم على أعدائهم واتساع مملكتهم حتى شملت غالب جزيرة العرب وما حولها وارتفع ذكرهم في الخافقين، وبينت ظهور الدين وانتشاره، واندحار الشرك واختفاءه وحصول الأمن والأمان. وفي الفصل الثالث وهو ما يخص الدور الثاني من أدوار دولة أنصارها، بينت ما تم من أثرها على يد الإمام تركي بن عبد الله بن محمد ابن سعود وابنه فيصل وما تم من آثارها العلمية على يد الشيخ عبد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1129 الرحمن بن حسن آل الشيخ وابنه عبد اللطيف وغيرهما من علماء الدعوة وأتباعها. وفي الفصل الرابع بينت كيف عاد الله بعائدته على أهل هذه الجزيرة المرة بعد المرة وهيأ لها الإمام الملك عبد العزيز يستعيد مكاسب عقيدة السلف الصالح التي حققها أجداده وآباؤه، ويعمل على نشر هذه العقيدة والقيام بما تقتضيه وهو الدور الثالث الحاضر الذي لايزال متصل الحلقات، يرتبط حاضره بماضيه، ويعمل لمستقبله منطلقا من حاضره وبينت أبرز ما في هذا الدور من أثر العقيدة وهو استعادة مكاسبها وتوحيد البلاد تحت راية واحدة واسم واحد والتقيد بأحكام الشرع وتطبيقها ومحاربة البدع والمنكرات ومظاهر الشرك والقضاء على الأفكار الإِلحادية المنافية للعقيدة، ودعوة العالم الإسلامي للتضامن ونشر الدعوة إلى الإسلام وبذل الجهود في التعليم وبناء المساجد وتعميرها والاهتمام بخدمة الحرمين الشريفين، وذلك الأمن الوارف الذي لا يوجد في غير هذه المملكة العربية السعودية كل ذلك من أثر عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب. وأما الفصل الخامس وهو الأخير فهو يختص بأثر عقيدة الشيخ في خارج سلطان أنصارها من بلدان العالم الإسلامي بينت فيه كيف وصل أثرها إلى خارج سلطانها وأثرها في اليمن ثم في الشام ثم في بلدان الخليج والعراق وفارس والهند ومصر وبينت عدم ثبوت صلتها بالحركات السياسية والدعوات وإِن كانت منتمية إلى الإسلام مثل حركة السنوسي في ليبيا، والفرائضيين في الهند، وأحمد بن عرفان الشهيد في الهند، والبدري الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1130 في أندونيسيا، ومثل دعوة محمد عبده وجمال الدين الأفغاني والإِخوان المسلمين، والجمعية الشرعية وثورة المهدي في السودان وايش محمد كول في تركستان وإصلاح سلطان المغرب وابن باديس في الجزائركل ذلك لم يثبت شيء منه أنه تأثر بعقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ودعوته فبينت ذلك. والنتيجة العامة التي توصلت إليها من بحثي هي: أن عقيدة السلف الصالح قطب رحى المسلمين، وأنها تعود على المتمسك بها بالنصر والتمكين في العاقبة ومن تخلى عن نصرتها فقد تخلى عن نصرة الإسلام الخالص وتكون عاقبته الهلاك والزوال، وكلما رجع المسلمون إلى دينهم وعادوا إلى عقيدتهم السليمة كلما عاد الله عليهم بعائدته ورد لهم الكرة بعد الكرة: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} . وأما النتيجة الخاصة فاني وجدت أن نور الحق والإسلام الخالص قد أشرق بدعوة الشيخ واستجابة آل سعود إلى نصرة عقيدة السلف الصالح، وبسبب ذلك صار ورثة الشيخ من أبنائه وغيرهم الذين ورثوا علمه فصاروا مشايخ الدعوة الإسلامية، وصار أنصارها من آل سعود هم الأئمة والملوك، وتحققت أن منهج الشيخ منهج السلف الصالح الذي يأتي بالخلافة والملك الإسلامي في الأرض، كما تحققت أن عقيدة الشيخ السلفية كما قامت عليها دولة سعودية فاقت أهل زمانها فهي صالحة لأن تقوم عليها دولة سعودية معاصرة تفوق أهل هذا الزمان في الدين والدنيا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1131 والعلم والعمران في جميع أقطار المعمورة بحول الله وقوته، كيف لا وهي تحقيق لا إله إلا الله، التي تميل كفتها بكل كفة؟! وإننا على الطريق إن شاء الله سائرون، قال الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (النور: 55) . والحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1132 مصادر ومراجع ... أبو محمد عبد الله بن أبى زيد القيرواني، المتوفي سنة 386. 116- كتاب الجامع في السنن والآداب والمغازى والتاريخ. حققه وقدم له وعلق عليه: محمد أبو الأجفان وعثمان بطيخ. ط 1 عام 1402 هـ. نشر المكتبة العتيقة تونس ومؤسسة الرسالة بيروت. عبد الله بن سعد الرويشد. 117- الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب في التاريخ. نشر مكتبة عيسى البابى الحلبي بمصرعام 1392 هـ. الدكتور عبد الله الصالح العثيمين. 118- الشيخ حمد بن عبد الوهاب، حياته وفكره، ط مطبعة المتوسط، بدون تاريخ نشر، دار العلوم- الرياض. 119- مثال في مجلة الدارة ع 3 س 4، شوال 1398 هـ. بعنوان: (نجد من القرن العاشر الهجري حتى ظهور الشيخ محمد بن عبد الوهاب) ، الحالة الدينية ص 32- 46. 120- (الرسائل الشخصية للشيخ محمد بن عبد الوهاب) طبع على الآلة ضمن مجلد حياة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وآثاره العلمية وهو مجموعة بحوث في ذلك قدمت لمؤتمر أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب عام 1400هـ. الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين. 121/أ- تأسيس التقديس في كشف تلبيس داود بن سليمان بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 قائمة بالمراجع من الكتب - القرآن الكريم. - السنة الشريفة. رتبت ما يلى من الكتب حسب حروف الهجاء من أسماء المؤلفين أو المحققين أو الجامعين. ((أ)) إبراهيم بن صالح بن عيسى. 1- تاريخ بعض الحوادث الواقعة فى نجد ووفيات بعض الأعيان وأنسابهم وبناء بعض البلدان (من 750 هـ إلى 1340 هـ) . أشرف على طبعه وقدم له وحققه ووضع له فهارس حديثة وعلق عليه الأستاذ حمد الجاسر. ط 1 عام 1386 هـ. منشورات د ار اليمامة- الرياض. إبراهيم بن عبد الله بن إبراهيم الفرضي. 2- العذب الفائض شرح عمدة الفارض. المقدمة ط 1/ 1372 هـ. الحلبي، على نفقة الشيخ عبد الرحمن الطبيشي. إبراهيم بن عبيد آل عبد المحسن. 3- تذكرة أولى النهى والعرفان- الجزء الأول، مطابع النور، الرياض- الطبعة الأولى. إبراهيم فصيح بن صبغة الله الحيدري البغدادي (1235-1300 هـ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1135 4- عنوان المجد في بيان أحوال بغداد والبصرة ونجد، ألفه سنة 1286 هـ. وصورة مخطوطته بقسم المخطوطات فى المكتبة المركزية بالجامعة الاسلامية، بخط عبد الرزاق الملا محمد الحاج فليح البغدادي في 2 جمادى الأولى عام 1350 هـ. الإمام أبو إسحاق: إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي ت 795 هـ. 5- الاعتصام وبه تعريف العلامة محمد رشيد رضا، مطبعة السعادة. أحمد أمين. 6- زعماء الاصلاح في العصر الحديث. سنة 1965م، مكتبة النهضة المصرية. أحمد بن حجر بن محمد آل بوطامي آل بن علي. قاضي المحكمة الشرعية بدولة قطر. 7- الشيخ محمد بن عبد الوهاب، عقيدته السلفية ودعوته الاصلاحية، وثناء العلماء عليه. تقديم وتصحيح الشيخ عبد العزيزبن عبد الله بن باز- مطبعة الحكومة بمكة المكرمة 1395 هـ. 8- تنزيه السنة والقرآن عن أن يكونا من أصول الضلال والكفران- طبع بمطابع مؤسسة دار العلوم، الدوحة- قطر. الإمام أحمد بن حنبل (164-214 هـ) . 9- الرد على الجهمية والزنادقة، فيما شكوا فيه من متشابه القرآن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1136 وتأولوه على غير تأويله. ويليه: كتاب السنة. تصحيح إسماعيل الأنصاري- نشر رئاسة البحوث العلمية السعودية. 10- مسند الإمام أحمد بن حنبل. وبهامشه منتخب كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، تصوير المكتب الاسلامى ودار صادر للطباعة والنشر، بير وت. أحمد السباعى. 11- تاريخ مكة. دراسات في السياسة والعلم والاجتماع والعمران. ط 2، مطابع دار قريش بمكة 1382 هـ. شيخ الاسلام، أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني (661-728 هـ) . 12- اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم، تحقيق محمد حامد الفقي، ط 2 عام 1369 هـ. مطبعة السنة المحمدية. 13- التدمرية ضمن مجموعة نفائس بتحقيق محمد حامد الفقي- الطبعة الثالثة 1374 هـ. مطبعة السنة المحمدية، 14- رسالة الفتوى الحموية الكبرى وقف على تصحيحها بقدر الامكان وتعليق حواشيها محمد عبد الرزاق حمزة- الطبعة السادسة، مطبعة المدني. 15- نقض المنطق. حقق الأصل المخطوط وصححه الشيخ محمد ابن عبد الرزاق حمزة والشيخ سليمان بن عبد الرحمن الصنيع، وصححه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1137 ووضع عنوانه محمد حامد الفقي بمشورة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، وكتب مقدمته الشيخ عبد الرحمن الوكيل وعمل فهارسه رشاد سالم. الطبعة الأولى عام 1370 هـ. بمطبعة أنصار السنة المحمدية. وهو جواب سؤال عن مذهب السلف في الاعتقادذ ومذهب غيرهم من المتأخرين ما الصواب منهما؟.. 16- العقيدة الواسطية. بشرح وتحقيق الشيخ محمد بن مانع. مطبعة الاقتصاد بالقاهرة، وط المطبعة السلفية بالقاهرة عام 1347 هـ. 17- قاعدة في المعجزات والكرامات وأنواع خوارق العادات ومنافعها ومضارها ضمن مجموعة الرسائل والمسائل للشيخ وهي القسم الثالث من أقسام المجموعة. ط مطبعة المنار بمصر. الطبعة الأولى عام 1349 هـ. أحمد عبد الغفور عطار. 18- محمد بن عبد الوهاب- الطبعة السادسة عام 1397 هـ. الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني المتوفي (430 هـ) . 19- حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، ط 3 عام 1400هـ. أحمد بن عطية بن عبد الرحمن الزهراني. 20- دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأثرها في العالم الاسلامي. رسالة مقدمة لنيل درجة الدكتوراه في العقيدة من جامعة أم القرى بمكة المكرمة عام 1402هـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1138 الحافظ المؤرخ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت المعروف بالخطيب البغدادي (392-463 هـ) . 21- تقييد العلم- تحقيق يوسف العش- ط 2 سنة 1974م، نشرته دار إحياء السنة النبوية. 22- كتاب اقتضاء العلم العمل- تحقيق محمد ناصرالدين الألباني ضمن رسائل أربع من كنوز السنة، نشر وتوزيع دار الأرقم- الكويت. الحافظ ابن حجر، أحمد بن علي بن محمد بن الكناني العسقلاني (773-2 85 هـ) . 23- فتح الباري بشرح صحيح الإمام أبى عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري. تصحيح وتحقيق واشراف ومقابلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز. نشر وتوزيع رئاسة إدارات البحوث العلمية والافتاء والدعوة والارشاد بالمملكة العربية السعودية. ط السلفية بمصر- بدون تاريخ الطبع ولا عدد الطبعة. 24- الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة. ط 1 بمطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية في الهند سنة (1348) . الشيخ أحمد بن علي بن مشرف الاحسائي تلميذ المؤرخ حسين بن غنام. 25/أ- ديوان بن مشرف- ط 3 عام 1375 هـ، مطبعة السنة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1139 المحمدية. الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو بن أبى عاصم الضحاك بن مخلد الشيباني ت (287 هـ) . 25/ ب- كتاب السنة ومعه ظلال الجنة في تخريج السنة بقلم محمد ناصر الدين الألباني، ط 1، 1400 هـ. المكتب الاسلامي. أحمد محمد شاكر. 26- تحقيق ترجمة الإمام أحمد من تاريخ الاسلام للحافظ الذهبي- ط دار المعارف للطباعة والنشرعام 1365 هـ. الدكتور أحمد محمد الضبيب. 27- آثار الشيخ محمد بن عبد الوهاب سجل بيليوجرافي لما نشر من مؤلفاته ط 1 عام 1397 هـ.- الرياض المطابع الأهلية. أبو المنتهى أحمد بن محمد المغنيساوي الحنفي. 28- كتاب شرح الفقه الأكبر- ضمن مجموعة بعنوان الرسائل السبعة (هكذا) في العقائد، الطبعة الثانية بمطبعة جمعية دائرة المعارف العثمانية، حيدرآباد الدكن عام 1367 هـ. الحافظ ابن كثير، الإمام الحافظ أبو الفداء إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي (ت 774) . 29- تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير) ط 3، الاستقامة بالقاهرة 1376 هـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1140 30/أ- البداية والنهاية (تاريخ ابن كثير) ج 5-6 المجلد الثالث ط/1398 هـ. دار الفكر بيروت. 30/ب- البداية والنهاية (تاريخ ابن كثير) ج 1، 3 تحقيق ومراجعة وتعليق وتصحيح محمد عبد العزيز. النجار، طبعة جديدة منقحة كاملة، يطلب من مكتبة الفلاح بالرياض، مطبعة الفجالة الجديدة- مصر. المحدث الشيخ إسماعيل بن محمد العجلوني. 31- كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما أشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس. ط 3 سنة 1351 هـ. تصوير دار إحياء التراث العربي- بيروت. الشيخ إسماعيل الأنصارى. 32- بحث ضمن مجلد (حياة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وآثاره العلمية) وهو عبارة عن بحوث مقدمة لمؤتمر أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب المنعقد في الفترة من 21/4/ 1400هـ إلى نهاية 27/4/ 1400هـ. أمين الريحاني. 33- نجد وملحقاته وسيرة عبد العزيز ط 3، دار الريحاني للطباعة والنشر- بيروت 1964م. أمين سعيد. 34- تاريخ الدولة السعودية، عهد سعود بن عبد العزيز، المجلد الثالث، ط 1 توزيع دار الكاتب العربي، بير وت 1385 هـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1141 ((ت)) تركي بن محمد بن تركي بن ماضي أمير أبها سابقا توفي رحمه الله. 35- تاريخ آل ماضي، طبع سنة 1376 هـ. مطبعة الشبكشي بالأزهر. ((ح)) حافظ وهبه (1307-1387 هـ) . 36- جزيرة العرب في القرن العشرين، ط 5، القاهرة، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1387 هـ. الإمام حسن البنا. 37- العقائد، طبع ونشر دار الكتاب العربي بالقاهرة عام 1371هـ. 38- رسالة التعاليم، مطابع دار الثقافة للطباعة بمكة المكرمة. حسين خلف الشيخ خزعل. 39- تاريخ الجزيرة العربية في عصر الشيخ محمد بن عبد الوهاب، حياة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، طبعة أولى 1968، مطابع دار الكتب، نشر دار ومكتبة الهلال، بيروت- لبنان. الشيخ حسين بن غنام. 40- تاريخ نجد، المسمى روضة الأفكار والافهام لمرتاد حال الإمام وتعداد غزوات ذوى الإسلام. جزءان. الطبعة الأولى عام 1368 هـ. على نفقة الشيخ عبد المحسن بن عثمان أبا بطين، صاحب المكتبة الأهلية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1142 بالرياض نجد، مطبعة الحلبي بمصر. 41- كتاب العقد الثمين في شرح أصول الدين- مخطوط. حسين بن مهدى النعمى (ت سنة 1187هـ) . 42- معارج الألباب في مناهج الحق والصواب، حققه للمرة الأولى محمد حامد الفقي، ط 2 عام 1393 هـ. بمطابع الرياض. الشيخ حمد الجاسر. 43- مدينة الرياض عبر أطوار التاريخ ط1 عام 1386 هـ. من منشورات دار اليمامة للبحث والترجمة والنشر. 44- المرأة في حياة إمام الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب. بحث قدمه إلى أمانة أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب. 45- جمهرة أنساب الأسر المتحضرة في نجد. جزءان- ط 1 عام 1401هـ. منشورات دار اليمامة للبحث والترجمة والنشر- الرياض. 46- مقدمة وتعليق على تاريخ بعض الحوادث الواقعة في نجد، لإبراهيم بن صالح بن عيسى، ط1 عام 1386 هـ. منشورات دار اليمامة- الرياض. 47- مجلة العرب، الجزء التاسع، السنة الأولى ربيع الأول سنة 1387 هـ. ص 953-957. 48- والجزء التاسع والعاشر الربيعان سنة 1398 هـ. ص 129. 49- مجلة العرب، الجزء العاشر، السنة الرابعة، ربيع الثاني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1143 1390هـ. ص 941. 50- مجلة العرب، الجزءان التاسع والعاشر، السنة الثانية عشرة (الربيعان سنة 1398 هـ) . و ((السحب الوابلة)) ومؤلفها، النجديون المترجمون في ((السحب الوابلة)) ص641- 736. الشيخ حمد بن علي بن محمد بن عتيق. توفى سنة 1301هـ. 51- ابطال التنديد باختصار شرح التوحيد، الطبعة الثالثة عام 1388-1389 هـ. 52- مجموعة رسائل الشيخ حمد بن علي بن عتيق- تقديم محمود أحمد غضنفر السلفي، طبع عام 1396 هـ. بلاهور- باكستان. حمد بن ناصر بن عثمان بن معمر ت 1225 بمكة المكرمة. 53- الفواكه العذاب، في الرد على من لم يحكم السنة والكتاب (تحرير أجوبته على ثلاث مسائل من علماء مكة المكرمة) طبعت مفردة في مؤسسة النور بالرياض. ((خ)) خير الدين الزركلي. 54- الاعلام، قاموس تراجم لأشهر الرجال والنساء من العرب والمستعربين والمستشرقين، ط 4 عام 1979م، دار العلم للملايين. 55- شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز، ط1 عام 1390 هـ، مطابع دار القلم، بيروت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1144 56- الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز، ط 2، على مطابع الشركة العامة للمطابع، بيروت سنة 1392 هـ. ((ر)) الشيخ العالم راشد بن علي بن جريس الحنبلى النجدى من قرية نعام ومن أفاضل القرن الثالث عشر الهجرى. 57- مثير الوجد في معرفة أنساب ملوك نجد- تقديم محب الدين الخطيب، ط بالمطبعة السلفية ومكتبتها بالقاهرة 1379 هـ. ((س)) ساطع الحصري. 58- البلاد العربية والدولة العثمانية- دار العلم للملايين- بيروت، ط2، 1960 م. سعدبن حمد بن عتيق (ت 1349 هـ) . 59- عقيدة الطائفة النجدية في توحيد الألوهية، كتبها فى الهند سنة 1352 هـ. طبع بالمطابع الأهلية للأوفست- الرياض. الحافظ أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني (260-360 هـ) . 60- المعجم الكبير- حققه وخرج أحاديثه حمدى عبد المجيد السلفي. ط1 الدار العربية للطباعة- بغداد. الإمام الحافظ أبو داود- سليمان بن الاشعث بن اسحاق الازدى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1145 السجستانى. 61- سنن أبى داود، تعليق أحمد سعد علي، ط1، سنة 1371 هـ. مطبعة الحلبي بمصر. الشيخ العلامة سليمان بن سحمان (268 ا-1349 هـ) . 62- مجموعة الرسائل والمسائل النجدية 4 أجزاء، طبعة المنار في 1344هـ 1345هـ. الهدية السنية والتحفة الوهابية النجدية مجموعة خمس رسائل لكبار أئمة نجد وعلمائها، ط2 المنار سنة 1344 هـ. وط مطابع دار الثقافة بمكة المكرمة عام 1393 هـ. 63- كتاب الضياء الشارق في رد شبهات الماذق المارق. الطبعة الأولى، مطبعة المنار سنة 1344 هـ. 64- الأسنة الحداد في رد شبهات علوي الحداد. ط 2 في سنة 1376 هـ. مطابع الرياض. 65- كتاب تبرئة الشيخين الإمامين من تزوير أهل الكذب والمين. ط بمطبعة المنار بمصر سنة 1343 هـ. 66- كشف غياهب الظلام عن أوهام جلاء الأوهام. ط 2 عام 1376هـ. مطابع الرياض. 67- ديوان بن سحمان. طبعة هندية قديمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1146 الشيخ سليمان بن عبد الرحمن الحمدان. 68- الدر النضيد على أبواب التوحيد، ط1 عام 1396هـ. بالمطبعة السلفية بالقاهرة. الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب (1200-1233هـ) . 69- تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد. نشر مكتبة الرياض الحديثة. سليمان بن وائل التويجري. 70- حصر مخطوطات مكتبات القصيم ومكتبات منطقة حائل- بحث نشر في مجلة البحث العلمي والتراث الاسلامي، ع 2 عام 1399 هـ. وع 3 عام 1400هـ. ((ش)) الأمير شكيب أرسلان. عضو المجمع العلمي العربي بسورية. 71- فصول وتعليقات وحواش مستفيضة عن دقائق أحوال الأمم الاسلامية وتطورها الحديث على هامش كتاب: حاضر العالم الاسلامي، للمؤ لف الأمريكي لوثروب ستودارد ط 1352، نشر وطبع مكتبة ومطبعة الحلبي بمصر. 72- لماذا تأخر المسلمون، ولماذا تقدم غيرهم؟. منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت عام 1965م. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1147 ((ص)) صالح بن عبد الله العبود. 73- فكرة القومية العربية على ضوء الاسلام، رسالة ماجستير وطبعت بمطبعة المدني الطبعة الأولى، نشر: دار طيبة، الرياض، السعودية. الأستاذ صالح محمد الحسن. 74- تعقيب حول مقال الدكتور العثيمين- في مجلة الدارة، ع1 س5 ربيع الثاني 1399 هـ. ص 352- 358. الشيخ صالح بن محمد العمرى الشهير بالفلاني. رحمه الله (1166-1218) . 75- ايقاظ همم أولى الأبصار للاقتداء بسيد المهاجرين والأنصار، وتحذيرهم عن الابتداع الشائع فى القرى والأمصار من تقليد المذاهب مع الحمية والعصبية بين فقهاء الاعصار. دار نشر الكتب الاسلامية- باكستان ط أولى 1395 هـ. صلاح الدين مختار. 76- تاريخ المملكة العربية السعودية فى ماضيها وحاضرها- منشورات دار مكتبة الحياة- بيروت. المستشار عبد الحليم الجندي. في جهورية مصر العربية. 77- الإمام محمد بن عبد الوهاب أو انتصار المنهج السلفي، نشر: دار المعارف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1148 ((ع)) الشيخ عبد الحي بن عبد الكبير بن محمد الحسني الادريسي الكتاني الفاسي. 78- فهرس الفهارس والاثبات ومعجم المعاجم والمشيخات والمسلسلات. طبع بالمطبعة الجديدة، ج1/ 1346 هـ. ج2/ 1347هـ. (جعله مؤلفه قاموسا عاما لتراجم المؤلفين في السنة من القرن الثامن إلى أواسط القرن الرابع عشر الهجري) . الشيخ أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل بن ابراهيبم المعروف بأبى شامة الشافعي (596-665) . 79- الباعث- على انكار البدع والحوادث، 89 ص، وسط، مطابع دار الأصفهاني وشركاه بجدة- بدون تاريخ، وعدد للطبع. الشيخ عبد الرحمن الأنصاري المدني. المولود سنة 1124 هـ. والمتوفي سنة 1197 هـ. 80- تحفة المحبين والأصحاب في معرفة ما للمدنيين من الانساب ط تونس 1390 هـ. عبد الرحمن بن حمد بن زيد المغيرى. 81- الكتاب المنتخب في ذكر قبائل العرب، صححه وأشرف على طبعه الأستاذ إبراهيم محمد الأصيل، مطبعة المدني بمصر، 1382 هـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1149 أبو الفرج، الحافظ الإمام عبد الرحمن بن رجب الحنبلى (736-795) . 82- غربة الاسلام، ويسمى: (كشف الكربة في وصف حال أهل الغربة) . تحقيق وتعليق وشرح أحمد الشرباصي من علماء الأزهر، مطابع دار الكتاب العربي بمصر ط1 1373 هـ. عبد الرحمن عبد الجبار الفريوائى. 83- جهود مخلصة في خدمة السنة المطهرة عنى بالطبع والنشر ادارة البحوث الاسلامية بالجامعة السلفية بنارس، الهند ط أولى عام 1400 هـ. عبد الرحمن بن عبد اللطيف بن عبد الله آل الشيخ. 84- تحقيق وتعليق على عنوان المجد فى تاريخ نجد بأمرمن وزارة المعارف، وطبع على نفقة وزارة المعارف بالمملكة العربية السعودية سنة 1394 هـ. ط 3 بدون ذكرلاسم المطبعة ولا مكان الطبع. 85- تحقيق وتعليق على كتاب لمع الشهاب في سيرة محمد بن عبد الوهاب، مطبوعات دارة الملك عبد العزيز رقم 2، المطابع الأهلية للأوفست الرياض. 86- مشاهير علماء نجد وغيرهم. باشراف دار اليمامة للبحث والترجمة والنشر ط 1 عام 1392 هـ. بالمملكة العربية السعودية. 87- دعوة الشيخ ومناصروها، مطبعة المدني بمصر عام 1384 هـ. 88- علماء الدعوة، مطبعة المدني بمصر عام 1368هـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1150 الشيخ الإمام عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ، (1193- 1285) . 89- فتح المجيد، شرح كتاب التوحيد. تحقيق محمد حامد الفقي، ط 9، مطابع الحكومة بمكة المكرمة 1387 هـ. وط5 عام 1391 هـ. نشرالمكتبة السلفية بالمدينة المنورة، ومخطوطة له بعنوان: (كتاب التهذيب والتجريد لشرح كتاب التوحيد) ناسخها عبد العزيز بن عبد الله العامر، فرغ من نسخها عام 1298هـ. العلامة عبد الرحمن بن خلدون. 90- مقدمة ابن خلدون- المكتبة التجارية بالقاهرة لصاحبها مصطفى محمد. الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن قاسم (1319-1329هـ) . حقق ورتب وجمع مجموعة الدرر السنية في الأجوبة النجدية ورسائلهم. 91- الجزء الأول: كتاب العقائد. 92- الجزء الثاني: كتاب التوحيد. 93- الجزء الثالث: كتاب الأسماء والصفات. 94- الجزء الرابع: كتاب العبادات. 95- الجزء الخامس: كتاب البيع. 96- الجزء السادس: كتاب النكاح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1151 97- الجزء السابع: كتاب الجهاد. 98- الجزء الثامن: كتاب أحكام المرتد. 99- الجزء التاسع: كتاب مختصرات الردود. 105- الجزء العاشر: كتاب تفسير القرآن. 101- الجزء الحادي عشر: كتاب النصائح. 102- الجزء الثاني عشر: كتاب تراجم أصحاب تلك الرسائل والأجوبة مجموعها 12 جزءا. من مطبوعات دار الافتاء بالمملكة العربية السعودية ط 2 عام 1385 هـ. ط 2 مطابع المكتب الاسلامي بيروت. ماعدا التاسع والحادي عشر فقد طبعا في مطابع شركة المدينة للطباعة والنشرط 2 عام 1388 هـ. باشراف وتصحيح الأستاذ عبد العزيز بن سليمان الهيشه. والعاشر والثاني عشر فقد طبعا بمؤسسة النور للطباعة والتجليد- الرياض. 103- مجموعة فتاوي شيخ الاسلام ابن تيمية. جمع وترتيب. الطبعة الأولى 1381 هـ مطابع الرياض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1152 عبد الرحمن بن ناصر بن سعدى. ت سنة 1376 هـ. 104- القول السديد في مقاصد التوحيد. مؤسسة مكة للطباعة والاعلام توزيع الجامعة الاسلامية بالمدينة المنورة. العلامة الشيخ عبد الرحمن بن يحى المعلمي العتمي اليماني. رحمه الله (1313-1386 هـ) . 105- التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل. قام على طبعه وتحقيقه والتعليق عليه محمد ناصر الدين الألباني، طبع على نفقة الشيخ محمد نصيف وشركاه 1386 هـ. الدكتور عبد الرحيم عبد الرحمن عبد الرحيم. 106- الدولة السعودية الأولى 1158هـ- 1233 هـ. الطبعة الثانية مزيدة ومنقحة 1975م. معهد البحوث والدراسات العربية في المنظمة العربية للتر بية والثقافة والعلوم. الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز. رئيس إدارة البحوث العلمية والافتاء والدعوة والارشاد. 107- محاضرة بعنوان: (محمد بن عبد الوهاب، دعوته وسيرته) ، ط 2، الدار السعودية 1389 هـ. 108- مقدمة الطبعة الثانية وتعليقات على كتاب: الشيخ محمد ... بقلم أحمد بن حجر آل بوطامي. 109- مقال في مجلة البحوث الاسلامية مجلد (1) ع 2. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1153 110- التحذير من البدع، طبع في مؤسسة مكة للطباعة والاعلام، توزيع الجامعة الاسلامية عام 1396 هـ. الحافظ أبو محمد المنذرى. عبد العظيم بن عبد القوى (581-656 هـ) . 111- مختصرسنن أبى داود- تحقيق أحمد محمد شاكر ومحمد حامد الفقي، مطبعة أنصار السنة المحمدية 1367 هـ. الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم آل الشيخ ت 1386 هـ. رحمه الله. 112- مجلة راية الاسلام، العدد الأول. الشيخ عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ (1225-1292هـ) . 113- مجموعة الرسائل والمسائل النجدية، الجزء الثالث- جمعها الشيخ سليمان بن سحمان، ط 1 سنة 1345 هـ. مطبعة المنار بمصر. 114- مصباح الظلام- في الرد على من كذب على الشيخ الإمام ونسبه إلى تكفير أهل الايمان والاسلام- تعليق محمد حامد الفقي، مطبعة أنصار السنة المحمدية- مصر. الشيخ عبد الله بن إبراهيم بن عبد العزيز آل الشيخ. 115- البيان الواضح لأسرة شيخ الاسلام محمد بن عبد الوهاب حتى سنة 1393 هـ. طبع بدار بوسلام للنشر بتونس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1154 جرجيس - طبع بمطبعة دار إحياء الكتب العربية بمصر سنة 1344 هـ. 121/ب- الانتصار لحزب الله الموحدين والرد على المجادل عن المشركين. المطبعة السلفية القاهرة 1378 هـ. الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن صالح البسام. 122- علماء نجد خلال ستة قرون، مطبعة النهضة الحديثة، مكة المكرمة ط 1 1398 هـ. الإمام أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل بن بهرام الدارمي. المتوفي سنة 255هـ 123- سنن الدارمي. طبع بعناية محمد أحمد دهمان، وطبع بمطبعة الاعتدال بدمشق عام 1349 هـ. الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد. 124- مقال بعنوان: (الشيخ محمد بن عبد الوهاب وحقيقة دعوته) طبع ضمن هداية الناسك ومعه مجموعة رسائل، الطبعة السابعة 1398 هـ. 125- المجموعة العلمية السعودية من درر علماء السلف الصالح. مطبعة النهضة بمكة عام 1391هـ. الشيخ عبد الله بن محمد بن خميس. 126- الشعر يواكب الدعوة بحث قدمه لمؤتمر أسبوع الشيخ محمد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1156 ابن عبد الوهاب، طبع على الآلة الكاتبة ضمن مجلد بعنوان: تأثر الدعوات الاصلاحية بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب عام 1400هـ. عبد الله بن يوسف الشبل- الأمين العام لجامعة الأمام محمد بن سعود. 127- الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب حياته ودعوته، مطابع جامعة الإمام محمد بن سعود الاسلامية. الشيخ عبد القادر بن أحمد بن مصطفى المعروف بابن بدران (ت 1346 هـ) . 128- المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل، قام بتصحيحه ونشره جماعة من العلماء باشراف إدارة الطباعة المنيرية لصاحبها ومديرها محمد منير عبده أغا. الدمشقي. عبد المتعال الصعيدي (1313-1377 هـ) . 129- المجددون في الإسلام من القرن الأول الهجري إلى الرابع عشر 100-1370 هـ. نشر مكتبة الآداب ومطبعتها بمصر دار الحمامي للطباعة. الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد.. 130- دراسة حديث (نضر الله امرءا سمع مقالتى ... ) رواية ودراية ط عام 1401هـ. 131- عشرون حديثا من صحيح مسلم، دراسة أسانيدها وشرح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1157 متونها، ط1 عام 1391هـ. المطبعة السلفية بالقاهرة. 132- عالم جهبذ وملك فذ، ترجمتان موجزتان للشيخ محمد بن إبراهيم والملك فيصل رحمهما الله، ط في عام 1402هـ، مطابع الرشيد بالمدينة المنورة. الشيخ عثمان بن عبد الله بن بشر، المتوفي سنة 1288 هـ. أو1290 هـ. وكان قد أدرك عهد سعود بن عبد العزيز بن محمد (1218-1229هـ) . 133- عنوان المجد في تاريخ نجد. ويبتدىء هذا التاريخ من سنة 0 70-1267هـ. طبع بالمطبعة السلفية بمكة المكرمة 1349 هـ. 134- عنوان المجد في تاريخ نجد، حققه وعلق عليه عبد الرحمن بن عبد اللطيف بن عبد الله آل الشيخ بأمر من وزارة المعارف بالمملكة العربية السعودية سنة 1394 هـ. ط عام 1394 هـ الطبعة الثالثة، لم يذكر مكان الطبع ولا اسم المطبعة. الحافظ نور الدين علي بن أبى بكر الهيثمي، المتوفي سنة 807 هـ. 135- مجمع الزوائد، ومنبع الفوائد بتحرير الحاقظين الجليلين، العراقي وابن حجر- الطبعة الثالثة 1402 هـ. منشورات دار الكتاب العربي بيروت. 136- موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان حققه ونشره محمد بن عبد الرزاق حمزة، تصوير دار الكتب العلمية بيروت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1158 علي بن سلطان القارى الحنفى، المتوفي سنة 1014 هـ. 137- شرح ملا علي بن سلطان القارى الحنفي، على الفقه الأكبر للامام أبى حنيفة النعمان بن ثابت الكوفى (80-150 هـ) . الطبعة الثانية 1375 هـ- 1955م. مطبعة مصطفى البابى الحلبي وأولاده بمصر. علي بن سليمان بن يوسف. 138- اربح البضاعة فى معتقد أهل السنة والجماعة، طبع على نفقة علي آل ثاني بمشورة محمد بن عبد العزيز بن مانع ط 2 عام 1379 هـ. علي بن علي بن محمد بن أبى العز الحنفى (731-792 هـ) . 139- شرح العقيدة الطحاوية- حققها وراجعها جماعة من العلماء، وخرج أحاديثها محمد ناصر الدين الألباني. ط 4 عام 1391 هـ. المكتب الاسلامي بيروت. العلامة علاء الدين علي المتقى بن حسام الدين الهندى البراهان فورى، المتوفى سنة 975 هـ. 140- كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال. نشر وتوزيع دار اللواء - الرياض. ومكتبة التراث الاسلامي حلب. ((ك)) كوركيس عواد. 141- معجم المؤلفين العراقيين في القرنين التاسع عشر والعشرين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1159 ميلادى مطبعة الارشاد- بغداد 1969 م. ((ل)) لوثروب ستودارد الأمريكي. 142- حاضر العالم الاسلامى- نقله إلى العربية الأستاذ عجاج نويهض وفيه فصول وتعليقات وحواش مستفيضة عن دقائق أحوال الأمم الاسلامية وتطورها الحديث بقلم الأمير شكيب أرسلان (4 ب) ط 1352 هـ. نشر وطبع مكتبة ومطبعة الحلبي وشركاه بمصر. الإمام مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد الجزرى ابن الأثير 544-656 هـ. 143- النهاية في غريب الحديث والأثر تحقيق طاهر أحمد الزاوى ومحمود محمد الطناحى طبع الحلبي، الطبعة الأولى عام 1383 هـ. الحافظ الذهبي، محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز (673 ط 74) . 144- التلخيص على المستدرك على الصحيحين للحاكم، وأقره على ما لا كلام فيه وتعقب ما فيه الكلام. مطبوع بذيل المستدرك للحاكم تصويردار الكتاب العربي- بيروت. الإمام المعروف بابن قيم الجوزية، أبو عبد الله محمد بن أبى بكر بن أيوب. 145/أ- اعلام الموقعين عن رب العالمين، ط 1 عام 1374 هـ. مطبعة السعادة بمصر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1160 145/ ب- القصيدة النونية، تصوير دار المعرفة بيروت ط 1، مطبعة التقدم العلمية بمصر سنة 1345 هـ محمد بن أبى بكر بن عبد القادر الرازى ت بعد 660 هـ. 146- مختار الصحاح- طبعة 1361 هـ. مطبعة الحلبي. محمد أديب غالب. 147- من أخبار الحجاز ونجد في تاريخ الجبرتي، باشراف دار اليمامة للبحث والترجمة والنشر الطبعة الأولى 1395 هـ. أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه البخارى الجعفي (194-256هـ) . 148- صحيح البخاري- ط المكتبة الاسلامية باستانبول محمد أوزدمير محمد إسماعيل إبراهيم وزملاؤه. 149- تاريخ المملكة العربية السعودية للصف الثالث المتوسط، وفق المنهج الجديد طبعة أولى عام 1394 هـ. الامام محمد بن إسماعيل الأمير الحسينى الصنعانى. 150- ديوان الأمير الصنعانى، طبع على نفقة الشيخ علي بن ثاني 1384 هـ. مطبعة المدني، ط 1. العلامة محمد إسماعيل السلفى (1900-1968م) . 151- حركة الانطلاق الفكرى وجهود الشاه ولي الله في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1161 التجديد. تعريب الدكتور مقتدا حسن الأزهرى، مطبوعات الجامعة السلفية (1) ملتزم الطبع والنشر، إدارة البحوث الاسلامية والدعوة والافتاء بالجامعة السلفية بنارس. العلامة المحدث، الشيخ محمد بشير السهسواني الهندي (1252-1326) . 152- صيانة الانسان عن وسوسة الشيخ دحلان، ط 5عام 1395 هـ. مطابع نجد التجارية الرياض. الشيخ محمد بهجت البيطار. 153- حياة شيخ الاسلام ابن تيمية، منشورات المكتب الاسلامى للطباعة والنشر 1380 هـ.- أبو جعفر محمد بن جرير الطبري (224- 315) . 154- جامع البيان عن تأويل آي القرآن (تفسير ابن جرير الطبري) ط 2 عام 1373 هـ. مطبعة الحلبي بمصر. 155- تاريخ الطبري، تاريخ الرسل والملوك تحقيق أبي الفضل إبراهيم، ط 1 دارالمعارف بمصر 1962م. محمد حامد الفقي، رئيس جاعة أنصار السنة المحمدية بمصر، رحمه الله. 156- تقديم وتعليق على كتاب: (معارج الألياب في مناهج الحق والصواب تأليف حسين بن مهدى النعمي، لأول مرة ط 2 عام 1393 هـ. بمطابع الرياض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1162 157- أثر الدعوة الوهابية في الاصلاح الديني والعمراني في جزيرة العرب وغيرها. ط مطبعة النهضة بشارع عبد العزيز بمصر عام 1354 هـ. محمد بن الحسن الحجوى الثعالبي الفاسى (1291-1376هـ) . 158- الفكر السامي، في تاريخ الفقه الاسلامي، خرج أحاديثه وعلق عليه عبد العزيز بن عبد الفتاح القارى، ط1 أولى 1396 هـ. دار مصر للطباعة. الناشر: المكتبة العلمية بالمدينة المنورة. محمد حسن الغماري. 159- الإمام الشوكاني مفسرا، رسالة دكتوراه بجامعة أم القرى عام 1400هـ. العالم السلفي، الشيخ محمد بن حسين نصيف، من أعيان أهل الحجاز رحمه الله. 165- ترجمة للشيخ أحمد بن إبراهيم بن عيسى المتوفي عام 1328 هـ. فى أول كتاب الرد على شبهات المستعينين بغير الله للشيخ أحمد المذكور، ط دار مصر للطباعة. الشيخ العلامة محمد حياة السندي، المتوفي (1163 هـ) . 161- تحفة الأنام في العمل بحديث النبي عليه السلام. والايقاف على سبب الاختلاف ضمن مجموعة تضم رسالة أخرى بعنوان الاتباع لابن أبى العز الحنفى. تحت اشراف المكتبة السلفية بلاهور باكستان طبعة أولى 1451 هـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1163 محمد خليل هراس (ت 1395 هـ) . 162- دعوة التوحيد، أصولها- الأدوار التى مرت بها مشاهير دعاتها. ط 2مطبعة عاطف بمصر. 163- الحركة الوهابية، رد على مقال للدكتور محمد البهي في نقد الوهابية. من مطبوعات الجامعة الاسلامية بالمدينة المنورة 1396 هـ 10) . أبو الفضل محمد خليل المرادي. 164- سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر، يطلب من مكتبة المثنى ببغداد. محمد رشيد رضا (1282-1354 هـ) . منشىء مجلة المنار بمصر. 165- تاريخ الإمام محمد عبده، ط 1355 هـ. بمطبعة المنار. 166- الوهابيون، والحجاز، طائفة من مقالات نشرت في المنار والأهرام، ط 1 عام 1344 هـ. 167- مقدمة صيانة الانسان عن وسوسة الشيخ دحلان. 168- تفسير المنار، ط 4 عام 1373 هـ. محمد زهرى النجار. 169- ترجمة مؤلف الدين الخالص، محمد صديق حسن فى مقدمته ص- ص ز- ل. الدكتور محمد بن سعد الشويعر. 170- بحث: من تراثنا، ابن ضويان وآثاره 1275-1353. نشرفى مجلة الدارة، ع 2 س 4، رجب 1398 هـ. ص 82-99. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1164 محمد سعيد العامودى وأحمد علي. 171- الخصر من كتاب نشر النور والزهر فى تراجم أفاضل مكة من القرن العاشر إلى القرن الرابع عشر، تأليف الشيخ عبد الله مرداد أبو الخير. مطبوعات نادى الطائف الأدبى، الطبعة الأولى 1398 هـ. مؤسسة مكة للطباعة والاعلام. العلامة الشيخ محمد السفارينى الحنبلى. 172- نفثات صدر المكمد، وقرة عين المسعد لشرح ثلاثيات مسند الإمام أحمد. الطبعة الأولى عام 1380 هـ. منشورات المكتب الاسلامى للطباعة والنشر بدمشق. محمد شفيق غربال، باشرافه تم تأليف: 173- الموسوعة العربية الميسرة، صورة طبق الأصل من طبعة 1965م حقوق طبعها محفوظة لمؤسسة فرانكلين للطباعة وللنشر، دار الشعب بالقاهرة. محمد حسن القنوجى صديق البخارى من علماء الهند (1248-1307 هـ) . 174- الدين الخالص- مطبعة المدني عام 1379 هـ. توزيع مكتبة دار العروبة القاهرة. 175- التاج المكلل من جواهر مآثر الطراز الآخر والأول- الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1165 تصحيح وتعليق الدكتور عبد الحكيم شرف الدين، طبع على نفقة علي بن ثاني. المطبعة الهندية العربية 1382 هـ. 176- الحطة فى ذكر الصحاح الستة ألفه سنة 1282 هـ. ط1 عام 1397هـ. مطبعة المكتبة العلمية بلاهور. شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوى (831هـ 902 هـ) . 177- الضوء اللامع لأهل القرن التاسع جـ6. منشورات دار مكتبة الحياة بيروت لبنان. الحافظ محمد عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفورى 1283-1353 هـ. 178- تحفة الأحوذى بشرح جامع الترمذى. أشرف على مراجعة أصله وتصحيحه عبد الوهاب عبد اللطيف، مطبعة المدني بالقاهرة ط 2 عام 1383 هـ. محمد بن عبد الحي اللكنوى الهندى (1264-1304 هـ) . 179- الفوائد البهية فى تراجم الحنقية، مع التعليقات السنية على الفوائد البهية، عني بتصحيحه وتعليق بعض الزوائد عليه محمد بدر الدين أبو فراس النعماني. دار المعرفة للطباعة والنشر. الشيخ محمد بن الشيخ عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ. 180- ترجمة للشيخ عبد العزيز بن حمد بن معمر فى أول منحة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1166 القريب المجيب في الرد على عباد الصليب- للشيخ عبد العزيز بن معمر، ط 3 عام 1400 هـ. منشورات دار ثقيف الطائف. الشيخ محمد بن عبد الله السبيل. 181- ترجمة مؤلف غاية الأماني فى الرد على النبهاني، محمود شكرى الألوسى فى أول الكتاب المذكور ص 6-12، طبع بمطابع نجد التجارية، ط 2 عام 1391 هـ. الشيخ محمد بن عبد الله بن عبد المحسن ال عبد القادر الاحسائي الأنصاري. 182- تحفة المستفيد بتاريخ الاحساء القديم والجديد، أشرف على طبع القسم الأول وعلق عليه بعض الحواشى حمد الجاسر، ط 1-1379 هـ. بدمشق المكتب الاسلامى. والقسم الثانى باشراف محمد زهير الشاويش ط 1-1382 هـ. الدكتور محمد عبد الله ماضى. 183- حاضر العالم الاسلامى، النهضات الحديثة في جزيرة العرب، في المملكة العربية السعودية، الطبعة الثانية عام 1372 هـ. دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابى الحلبي وشركاه. الحاكم أبو عبد الله. محمد بن عبد الله بن محمد الحافظ النيسابورى المعروف بابن البيع والملقب بالححم 321-405 هـ. 184- المستدرك على الصحيحين وبذيله التلخيص للحافظ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1167 الذهبى، تصوير دار الكتاب العربي، بيروت. محمد بن عبد الله بن عثيمين (1270-1363هـ) . 185- العقد الثمين من شعر محمد بن عثيمين، جمعه ورتبه وشرح ألفاظه سعد بن عبد العزيز بن رويشد، ط دار المعارف بمصر. الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب (1115-1206هـ) . 186- الرسالة الثالثة: تفسير كلمة التوحيد ضمن مجموعة التوحيد النجدية، ط السلفية بمصر 1375 هـ، عني تجصحيحها واخراجها محب الدين الخطيب. 187- كشف الشبهات. قام بتفصيله وكتابة الترجمة والمقدمة والتعليق: علي الحمد الصالحي. وذيله الشيخ عبد الرحمن المحمد الدوسرى، ط 3 فى 1/12/ 1388 هـ. مؤسسة النور للطباعة والتجليد بالرياض. مؤلفات الشيخ الإمام: 188- القسم الأول، العقيدة، مجلد. 189- والقسم الثاني، الفقه، في مجلدين. 190- والقسم الثالث، مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم والفتاوى، مجلد. 191- والقسم الرابع، التفسير ومختصر زاد المعاد، مجلد. 192- القسم الخامس، الرسائل الشخصية، مجلد. 193- وقسم الحديث، خمسة مجلدات. 194ـ وملحق المصنفات مجلد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1168 هذه اثنا عشر مجلدا، جمعتها لجنة من جامعة الإمام محمد بن سعود الاسلامية وصنفها وأعدها للتصحيح تمهيدا لطبعها عبد العزيز بن زيد الرومي، والدكتور محمد بلتاجى، والدكتور سيد حجاب وطبعت بمطابع الرياض. 194- رسالة مخطوطة بعنوان (مسألة في رجل تفقه في مذهب من المذاهب الأربعة ... وهي حول المقلد القاصر إذا تبين له أحاديث تخالف مذهبه ويظهر أن الشيخ يخاطب عبد الله بن عيسى الملقب بالموشى في أول الأمر. وهذه الرسالة مخطوطة ضمن مجموعة رسائل مخطوطة وفيها قليل من رسائل الشيخ غير هذه وقد طبعت. وهذه المجموعة المخطوطة بالمكتبة العامة بتطوان في المغرب، أخذ عنها الشيخ حماد الأنصارى صورة ومن صورته أخذت. 195- آداب المشى إلى الصلاة. مقرر الفقه للسنة السادسة، القسم الأول والثاني قرر دراسته وعلق عليه الشيخ محمد بن عبد العزيز بن مانع مدير المعارف العام. مطابع دار الكتاب العربي بمصر. ونشر مكتبة محمد سعيد كمال بالطائف. 196- مختصر تفسير المعوذتين لابن القيم، صورة نقلت عن مخطوطة بالمتحف العراقي وقف إبراهيم فصيح الحيدرى. وانظر: تفصيل الكلام عن مؤلفات الشيخ في مبحث حياة الشيخ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1169 العلمية من المدخل ص 150- 185. 197- الرسائل المرقومة. مخطوطة، الناسخ محمد بن حبيب الحلبي الحنفى، ساكن الافلاج سنة 1317 هـ. صورة. أبو الحسن نور الدين محمد بن عبد الهادى السندى، المتوفي 1138 هـ. 198- حاشية السندى، على صحيح البخارى، طبعة نور محمد، كراتشى، ط ثانية 1381 هـ. الشيخ محمد عبده. 199- رسالة التوحيد- طبعها وصححها وعلق عليها: محمد رشيد رضا، ط 2 في سنة 1366 هـ. أصدرتها دار المنار. محمد بن عثمان بن صالح بن عثمان القاضي. 200- روضة الناظرين عن ماثر علماء نجد وحوادث السنن، ط 1 عام 1400 هـ. مطبعة الحلبي. محمد عطاء الله حنيف. 201- ترجمة للشيخ محمد حياة السندى فى أول رسالة تحفة الأنام فى العمل بحديث النبي عليه السلام للشيخ العلامة محمد حياة السندى، ضمن مجموعة رسائل له. الطبعة الأولى جمادى الأولى 1401 هـ. طبع بالمطبعة العربية باشراف المكتبة السلفية- لاهور، باكستان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1170 محمد بن علي الشوكاني (ت 1250) . 202- البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، ط 1 سنة 1348هـ. مطبعة السعادة محافظة مصر القاهرة، جزءان. تصوير: بنشر: دار المعرفة ببيروت. 203- الدر النضيد فى اخلاص كلمة التوحيد، عنى بنشره وطبعه محمد علي الكتبى، الطبعة الأولى سنة 1350 هـ. ونشرصورتها ضمن مجموعة باسم الرسائل السلفية للشوكاني، دار الكتب العلمية، بير وت. محمد بن علي بن كريب ت 1209 هـ. 254- التوضيح عن توحيد الخلاق في جواب أهل العراق وتذكرة أولي الألباب في طريقة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ونسبة تأليفه إلى سليمان بن عبد الله بن الشيخ خطأ (1) . الطبعة الأولى بالمطبعة العامرة الشرقية سنة 1319 هـ. أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة بن موسى الترمذى الحافظ ت سنة 279 هـ. 255- جامع الترمذي فى أعلا صحائف تحفة الأحوذي، أشرف على مراجعة أصوله وتصحيحه عبد الوهاب عبد اللطيف، مطبعة المدني بالقاهرة ط 2 عام 1383 هـ.   (1) انظر ص 516 عن هذا البحث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1171 محمد كمال جمعة. الباحث بدارة الملك عبد العزيز، 1397 هـ. 206- انتشار دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب خارج الجزيرة العربية. مطبوعات دارة الملك عبد العزيز. طبع على نفقة وزارة التعليم العالي بالمملكة العربية السعودية، مطابع نجد التجارية. محمد منير عبده أغا الدمشقي الأزهري المتوفي سنة 1367 هـ. 207- مجموعة الرسائل المنيرية، عنيت بنشرها وتصحيحها والتعليق عليها للمرة الأولى سنة 1346 هـ. إدارة الطباعة المنيرية. الشيخ محمد بن الموصلي. 208- مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، تأليف الإمام محمد بن أبى بكر عرف بابن قيم الجوزية، الجزء الأول بتصحيح محمد حامد الفقي، والجزء الثاني بتصحيح محمد عبد الرزاق حمزة. طبع بنفقة المطبعة السلفية بمكة المكرمة عام 1348هـ. محمد ناصر الدين الألباني. 209- سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها، منشورات المكتب الاسلامي. 210- تخريج أحاديث شرح الطحاوية. 211- تحقيق رسالة اقتضاء العلم العمل للبغدادي ضمن رسائل أربع. 212- ارواء الغليل في تخريج أحادبث منار السبيل، في مذهب الإمام أحمد. طبع المكتب الاسلامي، الطبعة الأولى عام 1399 هـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1172 213- ظلال الجنة في تخريج السنة لابن أبى عاصم، ط 1 عام 1400 هـ. المكتب الاسلامي. 214- مختصر العلو للعلى الغفار للذهبى، ط 1 عام 1401هـ. المكتب الإسلامي. 215- تخريج أحاديث كتاب اصلاح المساجد من البدع والعوائد لمحمد جمال الدين القاسمى. ط 2 سنة 1390، المكتب الاسلامي، بيروت. 216- التوسل، أنواعه وأحكامه، ط 3، المكتب الاسلامي 1401 هـ. الإمام محمد بن نصر المروزي (202-294 هـ) . 217- السنة، ط مطابع دار الفكر بدمشق، بدون تاريخ للطبع. نشر دار الثقافة الاسلامية بالرياض. محمد بن وضاح القرطبي (199-287 هـ) . 218- البدع والنهي عنها، تحقيق محمد أحمد دهمان، ط 2 عام 1400 هـ. دار البصائر بدمشق. أبو بكر محمد بن الوليد الطرطوشي المتوفي بمصر سنة 520- 525. 219- كتاب الحوادث والبدع. تحقيق محمد الطالبي (231 ص، صغير) دار الأصفهاني وشركاه بجدة، بدون تاريخ، وعدد للطبع. الحافظ أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني ابن ماجة. 220- سنن ابن ماجة. بعناية محمد فؤاد عبد الباقي، طبع بمطبعة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1173 الحلبي عام 1372 هـ. أبو المعالي محمود شكري الألوسي (1273-1342 هـ) . 221- تاريخ نجد، عنى بتحقيقه محمد بهجة الاثرى، طبع السلفية بالقاهرة عام 1343 هـ. 222- غاية الأماني في الرد على النبهاني، طبع بمطابع نجد التجارية، ط 2 عام 1391 هـ. اللواء الركن محمود شيت الخطاب. 223- بحث بعنوان الإمام محمد بن عبد الوهاب في مدينة الموصل، قدم لأسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب عام 1400هـ. مطبوع على الألة ضمن مجلد حياة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وآثاره العلمية. مسعود عالم الندوي- رحمه الله. 224- محمد بن عبد الوهاب مصلح مظلوم ومفترى عليه. ترجمة وتعليق: عبد العليم عبد العظيم البستوي، مراجعة وتقديم الدكتور محمد تقي الدين الهلالي، مطبعة زمزم، الطبعة الأولى ربيع أول 1397 هـ. الإمام أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري (206- 261 هـ) . 225- صحيح مسلم خدمة محمد فؤاد عبد الباقي، طبع رئاسة البحوث العلمية السعودية سنة 1400هـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1174 الشيخ منصور بن يونس بن ادريس البهوتي 1000- 1051 هـ. 226- كشاف القناع عن متن الاقناع. مطبعة الحكومة بمكة عام 1394 هـ. الدكتور منير العجلاني، عضو المجمع العلمي العربي بدمشق، أستاذ تاريخ الحقوق في الجامعة السورية سابقا. 227- تاريخ البلاد العربية السعودية. نشر: دار الكتاب العربي، مطابع دار الغد بيروت. المودودي (أبو الأعلى) . 228- موجز تاريخ تجديد الدين واحيائه أو واقع المسلمين وسبيل النهوض بهم. ط 1، دار الفكر بدمشق. أبو النجا شرف الدين موسى الحجاوي المقدسي، المتوفى سنة 968 هـ. 229- الاقناع- تصحيح عبد اللطيف محمد موسى السبكي- المطبعة المصرية بالأزهر سنة 1351 هـ. ((ن)) الدكتور ناصر الدين الأسد. 230- تحرير وتحقيق تاريخ نجد للشيخ الإمام حسين بن غنام. وقابله على الأصل الشيخ عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ. مطبعة المدني ط 1 عام 1381 هـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1175 الشيخ ناصر الدين الحجازي الاثرى. 231- النفخة على النفحة والمنحة. وتليها نظرة في النفحة ... لأبى اليسار الدمشقي الميداني- مطبعة الترقى سنة 1340 هـ. ((ى)) أبو عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي الرومي البغدادي ت (626 هـ) . 232- معجم البلدان. تصوير دار صادر بيروت. أبو اليسار الدمشقي الميداني. 233- نظرة في النفحة ... في الرد على الوهابية. مطبعة الترقي سنة 1340 هـ. طبعت مع النفخة كما تقدم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1176