الكتاب: طريق الهجرتين وباب السعادتين المؤلف: محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (المتوفى: 751هـ) الناشر: دار السلفية، القاهرة، مصر الطبعة: الثانية، 1394هـ عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- طريق الهجرتين وباب السعادتين ابن القيم الكتاب: طريق الهجرتين وباب السعادتين المؤلف: محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (المتوفى: 751هـ) الناشر: دار السلفية، القاهرة، مصر الطبعة: الثانية، 1394هـ عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] مقدمة طريق الهجرتين وباب السعادتين: للإمام العلامة شيخ الإسلام محمد بن أبى بكر بن سعد بن جرير الزرعى ابن قيم الجوزية خطبة الكتاب للمؤلف الحمد لله الذى نصب الكائنات على ربوبيته ووحدانيته حججاً، وحجب العقول والأَبصار أن تجد إلى تكييفه منهجاً وأَوجب الفوز بالنجاة لمن شهد له بالوحدانية شهادة لم يبغ لها عوجاً، وجعل لمن لاذ به واتقاه من كل ضائقة مخرجاً، وأَعقب من ضيق الشدائد وضنك الأَوابد لمن توكل عليه فرجاً، وجعل قلوب أَوليائه متنقلة من منازل عبوديته من الصبر والتوكل والإِنابة والتفويض والمحبة والخوف والرجا فسبحان من أَفاض على خلقه النعمة، وكتب على نفسه الرحمة، وضمن الكتاب الذى كتبه، أَن رحمته تغلب غضبه. أسبغ على عباده نعمه الفرادى والتوءام، وسخر لهم البر والبحر والشمس والقمر والليل والنهار والعيون والأَنهار والضياءَ والظلام، وأَرسل إليهم رسله وأَنزل عليهم كتبه يدعوهم إلى جواره فى دار السلام، {فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً} [الأنعام: 125] ، فسبحان من {أَنْزَلَ عَلَىَ عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لّهُ عِوَجَا} [الكهف: 1] ، ورفع لمن ائتمَّ به فأَحلَّ حلالَهُ وحرَّمَ حرامَهُ وعمل بمحكمه وآمن بمتشابهه فى مراقى السعادة درجاً، ووضع قهره على من أَعرض عنه ولم يرفع به رأسه ونبذه وراءَ ظهره وابتغى الهدى من غيره، فجعله فى دركات الجحيم متولجاً، فإِنه الذكر الحكيم والصراط المستقيم والنبأُ العظيم وحبل الله المتين المديد بينه وبين خلقه، وعهده الذى من استمسك به فاز ونجا. وأَشهد أن لا إِله إِلا الله وحده لا شريك له ولا سمى له ولا كفو له ولا صاحبة له ولا ولد ولا شبيه له ولا يحصى أَحد ثناءً عليه بل هو كما أَثنى على نفسه وفوق ما يثنى عليه خلقه، شهادة من أصبح قلبه بالإيمان بالله وأَسمائه وصفاته مبتهجاً، ولم يدع إلى شبه الجاحدين المعطلين معرجاً. وأَشهد أَن محمداً عبده ورسوله، وخيرته من خلقه وأَمينه على وحيه وسفيره بينه وبين عباده، أَرسله رحمة للعالمين وقدوة للعاملين ومحجة للسالكين وحجة على العباد أجمعين. أَرسله على حين فترة من الرسل، فهدى به إلى أَقوم الطرق وأَوضح السبل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 وافترض على العباد طاعته ومحبته وتعزيره وتوقيره والقيام بحقوقه، وسدَّ إلى جنته جميع الطرق فلم يفتح لأَحد إلا من طريقه، فشرح له صدره، ورفع له ذكره، ووضع عنه وزره وجعل الذلة و [الصغار] على من خالف أَمره. فهدى به من الضلالة وعلَّم به من الجهالة. وكثَّر به بعد القلَّة، وَأعزَّ به بعد الذلَّة وأَغنى به بعد العَيْلَة، وبصَّر به من العمى، وأَرشد به من الغى وفتح برسالته أَعيناً [عمياً] وآذاناً صماً وقلوباً غلفا، فَبَلَّغ الرسالة وأَدَّى الأَمانة ونصح الأُمة وجاهد فى الله حق جهاده وعَبَدَ الله حتى أَتاه اليقين فلم يدع خيراً إلا دل أمته عليه ولا شراً إِلا حذر منه ونهى عن سلوك الطريق الموصلة إليه. ففتح القلوب بالإِيمان والقرآن، وجاهد أَعداءَ الله باليد والقلب واللسان. فدعا إلى الله على بصيرة، وسار فى الأُمة- بالعدل والإِحسان وخلقه العظيم- أَحسن سيرة، إلى أَن أَشرقت برسالته الأَرض بعد ظلماتها، وتأَلفت به القلوب بعد شتاتها. وسارت دعوته سير الشمس فى الأَقطار وبلغ دينه القيم ما بلغ الليل والنهار. واستجابت لدعوته الحق القلوب طوعاً وإذعاناً، وامتلأَت بعد خوفها وكفرها أَمناً وإِيماناً، فجزاه الله عن أُمته أَفضل الجزاءِ، وصلى عليه صلاة تملأُ أَقطار الأَرض والسماء، وسلم تسليماً كثيراً. أَما بعد.. فإِن الله سبحانه غرس شجرة محبته ومعرفته وتوحيده فى قلوب من اختارهم لربوبيته، واختصهم بنعمته، وفضلهم على سائر خليقته، فهى {كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السّمَآءِ تُؤْتِيَ أُكُلَهَا كُلّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبّهَا} [إبراهيم: 24-25] ، فَكَذَلِكَ شَجَرَةُ الإِيمان أَصلها ثابت فى القلب وفروعها الكلم الطيب والعمل الصالح فى السماءِ، فلا تزال هذه الشجرة تخرج ثمرها كل وقت بإِذن ربها من طيب القول وصالح العمل ما تقرُّ به عيون صاحب الأَصل وعيون حفظته وعيون أَهله وأَصحابه ومن قرب منه، فإِن من قرت عينه بالله سبحانه قرت به كل عين وأَنس به كل مستوحش وطاب به كل خبيث وفرح به كل حزين وأَمن به كل خائف وشهد به كل غائب، وذكرت رؤيته بالله، فإِذا رؤى ذكر الله فاطمأَن قلبه إلى الله وسكنت نفسه إلى الله وخلصت محبته لله وقصر خوفه على الله وجعل رجاءَه كله لله، فإِن سمع سمع بالله وإِن أَبْصر أَبصر بالله وإن بطش بطش بالله وإِن مشى مشى بالله، فبه يسمع وبه يبصر وبه يبطش وبه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 يمشى، فإِذا أَحب فللَّه وإِذا أَبغض [أبغض] لله وإِذَا أَعطى فللَّه وإِذَا منع فللَّه، قد اتخذ الله وحده معبوده ومرجوه ومخوفه وغاية قصده ومنتهى طلبه، واتخذ رسوله وحده دليله وإِمامه وقائده وسائقه، فوحد الله بعبادته ومحبته وخوفه ورجائِهِ وإفراد رسوله بمتابعته والاقتداءِ به والتخلق بأَخلاقه والتأَدب بآدابه فله فى كل وقت هجرتان: هجرة إلى الله بالطلب والمحبة والعبودية والتوكل والإِنابة والتسليم والتفويض والخوف والرجاءِ والإِقبال عليه وصدق اللجإِ والافتقار فى كل نفس إِليه، وهجرة إِلى رسوله فى حركاته وسكناته الظاهرة والباطنة، بحيث تكون موافقة لشرعه الذى هو تفصيل محابّ الله ومرضاته، ولا يقبل الله من أَحد ديناً سواه، وكل عمل سواه فعيش النفس وحظها لا زاد المعاد، وقال شيخ الطريقة وإِمام الطائفة الجنيد بن محمد قدّس الله روحه: الطرق كلها مسدودة إلا طريق من اقتفى آثار النبى صلى الله عليه وسلم، فإِن الله عَزَّ وجَلَّ يقول: "وَعِزَّتِى وَجَلالِى لَوْ أَتُونِى مِنْ كُلِّ طَرِيقٍ، وَاسْتَفْتَحُوا مِنْ كُلِّ بَابٍ، لَمَا فَتَحتُ لَهُمْ حَتَّى يَدخُلُوا خَلْفَكَ". وقال بعض العارفين: كل عمل بلا متابعة فهو عيش النفس. ولما كانت السعادة دائرة- نفياً وإِثباتاً- مع ما جاءَ به كان جديراً بمن نصح نفسه أَن يجعل لحظات عمره وقفاً على معرفته وإِرادته مقصورة على محابه، وهذا أَعلى همة شمر إليها السابقون وتنافس فيها المتنافسون، فلا جرم ضمنَّا هذا الكتاب قواعد من سلوك الهجرة المحمدية، وسميناه طريق الهجرتين، وباب السعادتين، وابتدأناه بباب الفقر والعبودية؛ إذ هو باب السعادة [الأعظم] وطريقها الأَقوم الذى لا سبيل إلى دخولها إِلا منه، وختمناه بذكر طبقات المكلَّفين من الجن والإِنس فى [الدنيا و] الآخرة ومراتبهم فى دار السعادة والشقاوة. فجاءَ الكتاب غريباً فى معناه، عجيباً فى مغزاه لكل قوم منه نصيب، ولكل وارد منه مشرب [وما كان فيه من حق وصواب فمن الله هو المانّ به فإنما التوفيق بيده] وما كان فيه من [خطأ و] زلل فمنى ومن الشيطان، والله ورسوله منه براءٌ. فيا أَيها القاريء له والناظر فيه، هذه بضاعة صاحبها المزجاة مسوقة إليك، وهذا فهمه وعقله معروض عليك، لك غنمه وعلى مؤلفه غرمه. ولك ثمرته، وعليه عائدته. فإن عدم منك حمداً وشكراً، فلا يعدم منك [مغفرة و] عذراً، وإِن أبيت إلا الملام فبابه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 مفتوح، وقد: استأْثر الله بالثناءِ وبالْحمـ ـد وولى الملامة الرجلا والله المسئول أَن يجعله لوجهه خالصاً، وينفع به مؤلفه وقارئه وكاتبه فى الدنيا والآخرة، إِنه سميع الدعاءِ، وأَهل الرجاءِ، وهو حسبنا ونعم الوكيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 فصل: فى أن الله هو الغنى المطلق والخلق فقراء محتاجون إليه قال الله سبحانه: {يَأَيّهَا النّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَآءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15] ، بيَّن سبحانه فى هذه الآية أَن فقر العباد إِليه أَمر ذاتى لهم لا ينفك عنهم، كما أَن كونه غنياً حميداً [أمر] ذاتى له، فغناه وحمده ثابت له لذاته لا لأمر أَوجبه، وفقر من سواه إليه ثابت لذاته لا لأَمر أَوجبه، فلا يعلل هذا الفقر بحدوث ولا إِمكان، بل هو ذاتى للفقير: فحاجة العبد إِلى ربه لذاته لا لعلة أَوجبت تلك الْحاجة، كما أَن غنى الرب سبحانه لذاته لا لأَمر أَوجب غناه، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والفقر لى وصفُ ذاتٍ لازم أبداً ... كما الغنى أبداً وصفٌ له ذاتي فالخلق فقير محتاج إلى ربه بالذات لا بعلة، وكل ما يذكر ويقرر من أَسباب الفقر والحاجة فهى أدلة على الفقر والحاجة لا علل لذلك، إذ ما بالذات لا يعلل، فالفقير بذاته محتاج إلى الغنى بذاته، فما يذكر من إِمكان وحدوث واحتياج فهى أَدلة على الفقر لا أَسباب له، ولهذا كان الصواب فى مسأَلة علة احتياج العالم إلى الرب سبحانه غير القولين اللذين يذكرهما الفلاسفة والمتكلمون، فإن الفلاسفة قالوا: علة الحاجة الإمكان، والمتكلمون قالوا: علة الحاجة الحدوث، والصواب أن الإمكان والحدوث متلازمان، وكلاهما دليل الحاجة والافتقار، وفقر العالم إلى الله [عز وجل] أَمر ذاتى لا يعلل، فهو فقير بذاته إلى ربه الغنى بذاته، ثم يستدل بإِمكانه وحدوثه وغير ذلك من الأَدلة على هذا الفقر. والمقصود أنه سبحانه أَخبر عن حقيقة العباد وذواتهم بأَنها فقيرة إِليه [عز وجل] ، كما أَخبر عن ذاته المقدسة وحقيقته أَنه غنى حميد، فالفقر المطلق من كل وجه ثابت لذواتهم وحقائقهم من حيث هى، والغنى المطلق من كل وجه ثابت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 لذاته تعالى وحقيقته من حيث هى، فيستحيل أن يكون العبد إِلا فقيراً، ويستحيل أَن يكون الرب سبحانه إِلا غنياً، كما أَنه يستحيل أَن يكون العبد إلا عبداً والرب إِلا رباً. إِذا عرف هذا فالفقر فقران: فقر اضطرارى، وهو فقر عام لا خروج لبرّ ولا فاجر عنه، وهذا لا يقتضى مدحاً ولا ذماً ولا ثواباً ولا عقاباً، بل هو بمنزلة كون المخلوق مخلوقاً ومصنوعاً. والفقر الثانى فقر اختيارى هو نتيجة علمين شريفين: أَحدهما معرفة العبد بربه، والثانى معرفته بنفسه. فمتى حصلت له هاتان المعرفتان أَنتجتا [له] فقراً هو عين غناه وعنوان فلاحه وسعادته، وتفاوت الناس فى هذا الفقر بحسب تفاوتهم فى هاتين المعرفتين، فمن عرف ربه بالغنى المطلق عرف نفسه بالفقر المطلق، ومن عرف ربه بالقدرة التامة عرف نفسه بالعجز التام، ومن عرف ربه بالعز التام عرف نفسه بالمسكنة التامة، ومن عرف ربه بالعلم التامّ والحكمة عرف نفسه بالجهل، فالله سبحانه أَخرج العبد من بطن أمه لا يعلم شيئاً ولا يقدر على شيء، ولا يملك شيئاً ولا يقدر على عطاءٍ ولا منع ولا ضر ولا نفع ولا شيء البتة، فكان فقره فى تلك الحال إلى ما به كما له أَمراً مشهوداً محسوساً لكل أَحد، ومعلوم أَن هذا له من لوازم ذاته، وما بالذات دائم بدوامها. وهو لم ينتقل من هذه الرتبة إِلى رتبة الربوبية والغنى، بل لم يزل عبداً فقيراً بذاته إِلى بارئه وفاطره. فلما أَسبغ عليه نعمته، وأَفاض عليه رحمته وساق إِليه أَسباب كمال وجوده ظاهراً وباطناً، وخلع عليه ملابس إِنعامه، وجعل له السمع والبصر والفؤاد، وعلمه وأَقدره وصرفه وحركه، ومكنه من استخدام بنى جنسه، وسخر له الخيل والإِبل، وسلطه على دواب الماءِ، واستنزال الطير من الهواء وقهر الوحش العادية، حفر الأَنهار، وغرس الأَشجار، وشق الأَرض، وتعلية البناءِ، والتحيل على مصالحه، والتحرز والتحفظ لما يؤذيه، ظن المسكين أَن له نصيباً من الملك، وادعى لنفسه ملكاً مع الله سبحانه، ورأى نفسه بغير تلك العين الأُولى، ونسى ما كان فيه من حالة الإِعدام والفقر والحاجة، حتى كأَنه لم يكن هو ذلك الفقير المحتاج، بل كأَن ذلك شخصاً آخرغيره كما روى الإِمام أَحمد فى مسنده من حديث بسر بن جحاش القرشى أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم بصق يوماً فى كفه فوضع عليها إِصبعه ثم قال: "قال اللهُ تعالى: يَا ابن آدمَ أَنَّى تُعْجِزُنِى وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ مثْلِ هَذِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 حَتَّى إِذَا سَوَّيْتُكَ وَعَدَلْتُكَ مَشَيْتَ بَيْنَ بُرْدَيْنَ وَللأَرْضِ مِنْكَ وَئِيد، فَجَمَعْتَ وَمَنْعْتَ حَتَّى إِذَا بَلَغْتَ التَّراقى، قُلْتَ: أَتَصَدَّقُ، وَأَنَّى أَوَانُ الصَّدَقَةِ"، ومن هاهنا خذل من خذل ووفق من وفق، فحجب المخذول عن حقيقته ونسى نفسه فنسى فقره وحاجته وضرورته إلى ربه، فطغى [وبغا] وعتا فحقت عليه الشقوة، قال تعالى: {كَلاّ إِنّ الإِنسَانَ لَيَطْغَىَ أَن رّآهُ اسْتَغْنَىَ} [العلق: 6-7] ، وقال: {فَأَمّا مَنْ أَعْطَىَ وَاتّقَىَ وَصَدّقَ بِالْحُسْنَىَ فَسَنُيَسّرُهُ لِلْيُسْرَىَ وَأَمّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَىَ وَكَذّبَ بِالْحُسْنَىَ فَسَنُيَسّرُهُ لِلْعُسْرَىَ} [الليل: 5-10] ، فأَكمل الخلق أكملهم عبودية وأَعظمهم شهوداً لفقره وضرورته وحاجته إِلى ربه وعدم استغنائه عنه طرفة عين، ولهذا كان من دعائه صلى الله عليه وسلم: "أَصلح لى شأنى كله، ولا تكلنى إِلى نفسى طرفة عين ولا إِلى أَحد من خلقك"، وكان يدعو: "يا مقلِّب القُلُوبِ ثَبِّتْ قلبِى عَلَى دينك". يعلم صلى الله عليه وسلم أَن قلبه بيد الرحمن عَزَّ وجَلَّ لا يملك منه شيئاً، وأَن الله سبحانه يصرفه كما يشاءُ كيف وهو يتلو قوله تعالى: {وَلَوْلاَ أَن ثَبّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} [الإسراء: 74] ، فضرورته صلى الله عليه وسلم إِلى ربه وفاقته إِليه بحسب معرفته به، وحسب قربه منه ومنزلته عنده. وهذا أَمر إِنما بدا منه لمن بعده ما يرشح من ظاهر الوعاءِ، ولهذا كان أَقرَبَ الخلق إِلى الله وسيلة وأَعظمهم عنده جاهاً وأَرفعهم عنده منزلة، لتكميله مقام العبودية والفقر إِلى ربه عز وجل، وكان يقول لهم: "أَيهَا النَّاسُ، مَا أُحبُّ أَنْ تَرْفَعُونِى فَوْقَ مَنْزِلَتِى إِنَّمَا أنا عَبْدُ"، وكان يقول: "لا تُطْرونِى كَمَا أَطْرَتِ النصارى المسيح ابن مريم وإِنما أَنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله". وذكره الله سبحانه بسمة العبودية فى أَشرف مقاماته، مقام الإِسراءِ ومقام الدعوة ومقام التحدى، فقال: {سُبْحَانَ الّذِي أَسْرَىَ بِعَبْدِهِ لَيْلاً} [الإسراء:1] ، وقال: {وَأَنّهُ لّمَا قَامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ} [الجن: 19] ، وقال: {وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مّمّا نَزّلْنَا عَلَىَ عَبْدِنَا} [البقرة: 23] ، وفى حديث الشفاعة: "إِنَّ الْمَسِيحَ يَقُولُ لَهُمْ [يوم القيامة] : اذْهَبُوا إِلَى مُحَمَّدٍ عَبْدٍ غَفَرَ اللهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ"، فنال ذلك المقام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 بكمال عبوديته لله وبكمال مغفرة الله له، فتأَمل قوله تعالى فى الآية: {أَنْتُمُ الفُقَرَآءُ إِلَى اللهِ} [فاطر: 15] ، [فعلق الفقر إليه باسمه] دون اسم الربوبية ليؤذن بنوعى الفقر، فإِنه كما تقدم نوعان: فقر إِلى ربوبيته وهو فقر المخلوقات بأَسرها، وفقر إِلى أُلوهيته وهو فقر أَنبيائه ورسله وعباده الصالحين، وهذا هو الفقر النافع والذى يشير إِليه القوم ويتكلمون عليه ويشيرون إِليه هو الفقر الخاص لا العام، وقد اختلفت عباراتهم عنه ووصفهم له، وكل أَخبر عنه بقدر ذوقه وقدرته على التعبير، قال شيخ الإِسلام الأَنصارى: "الفقر اسم للبراءَة من رؤية الملكة، وهو على ثلاث درجات: الدرجة الأُولى فقر الزهاد وهو نفض اليدين من الدنيا ضبطاً أَو طلباً، وإِسكات اللسان عنها ذماً أَو مدحاً، والسلامة منها طلباً أَو تركاً، وهذا هو الفقر الذى تكلموا فى شرفه. الدرجة الثانية: الرجوع إِلى السبق بمطالعة الفضل، وهو يورث الخلاص من رؤية الأَعمال، ويقطع شهود الأَحوال، ويمحص من أَدناس مطالعة المقامات. والدرجة الثالثة: صحة الاضطرار والوقوع فى يد التقطع الوحدانى والاحتباس فى بيداءِ قيد التجريد وهذا فقر الصوفية". فقوله: "الفقر اسم للبراءَة من رؤية الملكة" يعنى أَن الفقير هو الذى يجرد رؤية الملك لمالكه الحق، فيرى نفسه مملوكة للَّه لا يرى نفسه مالكاً بوجه من الوجوه، ويرى أَعماله مستحقة عليه بمقتضى كونه مملوكاً عبداً مستعملاً فيما أَمره به سيده، فنفسه مملوكة، وأَعماله مستحقة بموجب العبودية، فليس مالكاً لنفسه ولا لشيء من ذراته ولا لشيء من أَعماله. بل كل ذلك مملوك عليه مستحق عليه، كرجل اشترى عبداً بخالص ماله ثم علّمه بعض الصنائع، فلما تعلمها قال له: اعمل وَأَدّ إِلى فليس لك فى نفسك ولا فى كسبك شيء، فلو حصل بيد هذا العبد من الأَموال والأَسباب ما حصل لم ير له فيها شيئاً، بل يراه كالوديعة فى يده، وأَنها أَموال أُستاذه وخزائنه ونعمه بيد عبده، مستودعاً متصرفاً فيها لسيده لا لنفسه، كما قال عبد الله ورسوله وخيرته من خلقه: "والله إِنى لا أَعطى أحداً ولا أَمنع أَحداً، وإِنما أَنا قاسم أَضع حيث أُمرت"، فهو متصرف فى تلك الخزائن الأَمر المحض تصرف العبد المحض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 الذى وظيفته تنفيذ أَوامر سيده، فالله هو المالك الحق، وكل ما بيد خلقه هو من أَمواله وأَملاكه وخزائنه أَفاضها عليهم ليمتحنهم فى البذل والإِمساك، وهل يكون ذلك منهم على شاهد العبودية لله عَزَّ وجلَّ، فيبذل أَحدهم الشيء رغبة فى ثواب الله ورهبة من عقابه وتقرباً إِليه وطلباً لمرضاته؟ أَم يكون البذل والإِمساك منهم صادراً عن مراد النفس وغلبة الهوى وموجب الطبع فيعطى لهواه ويمنع لهواه؟ فيكون متصرفاً تصرف المالك لا المملوك، فيكون مصدر تصرفه الهوى ومراد النفس، وغايته الرغبة فيما عند الخلق من جاه أَو رفعة أو منزلة أَو مدح أَو حظ من الحظوظ، أَو الرهبة من فوت شيء من هذه الأَشياء، وإِذا كان مصدر تصرفه وغايته هو هذه الرغبة والرهبة رأَى نفسه لا محالة مالكاً، فادعى الملك وخرج عن حد العبودية ونسى فقره، ولو عرف نفسه حق المعرفة لعلم أَنما هو مملوك ممتحن فى صورة ملك متصرف كما قال تعالى: {ثُمّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يونس: 14] ، وحقيق بهذا الممتحن أَن يوكل إِلى ما ادعته نفسه من الحالات والمَلَكات مع المالك الحق سبحانه، فإِن من ادعى لنفسه حالة مع الله سبحانه وكل إِليها، ومن وكل إِلى شيء غير الله فقد فتح له باب الهلاك والعطب، وأَغلق عنه باب الفوز والسعادة، فإِن كل شيء ما سوى الله باطل، ومن وكل إِلى الباطل بطل عمله وضل سعيه ولم يحصل إِلا على الحرمان، فكل من تعلق [بشيء غير] الله انقطع به أَحوج ما كان إِليه، كما قال تعالى: {إِذْ تَبَرّأَ الّذِينَ اتّبِعُواْ مِنَ الّذِينَ اتّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبَابُ} [البقرة: 166] ، فالأَسباب التى تقطعت بهم هى العلائق التى بغير الله ولغير الله، تقطعت بهم أَحوج ما كانوا إليها، وذلك لأَن تلك الغايات لما اضمحلت وبطلت اضمحلت أَسبابها وبطلت، فإِن الأَسباب تبطل ببطلان غاياتها وتضمحل باضمحلالها، وكل شيء هالك إِلا وجهه سبحانه، وكل عمل باطل إِلا ما أُريد به وجهه. وكل سعى لغيره باطل ومضمحل، وهذا كما يشاهده الناس فى الدنيا من اضمحلال السعى والعمل والكد والخدمة التى يفعلها العبد لمتولٍ أَو أَمير أَو صاحب منصب أَو مال، فإِذا زال ذلك الذى عمل له عدم ذلك العمل وبطل ذلك السعى ولم يبق فى يده سوى الحرمان، ولهذا يقول الله تعالى يوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 القيامة: "أليس عدلاً منى أَنى أُولى كل رجل منكم ما كان يتولى فى الدنيا"، فيتولى عباد الأصنام والأَوثان أَصنامهم وأَوثانهم فتتساقط بهم فى النار، ويتولى عابدو الشمس والقمر آلهتهم، فإِذا كوِّرت الشمس وانتثرت النجوم اضمحلت تلك العبادة وبطلت وصارت حسرة عليهم: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النّارِ} [البقرة: 167] ، ولهذا كان المشرك من أَخسر الناس صفقة وأغبنهم يوم معاده، فإِنه يحال على مفلس كل الإِفلاس بل على عدم، والموحد حوالته على المليء الكريم، فيا بُعدَ ما بين الحوالتين. وقوله: "البراءَة من رؤية الملكة" ولم يقل من الملكة لأن الإِنسان قد يكون فقيراً لا ملكة له فى الظاهر وهو عرى عن التحقق بنعت الفقر الممدوح أَهله الذين لا يرون ملكة إلا لمالكها الحق ذى الملك والملكوت، وقد يكون العبد قد فوض إِليه من ذلك شيء وجعل كالخازن فيه، كما كان سليمان بن داود أُوتى ملكاً لا ينبغى لأَحد من بعده، وكذلك الخليل وشعيب والأَغنياءُ من الأَنبياءِ، [عليهم الصلاة والسلام] وكذلك أَغنياءُ الصحابة، فهؤلاء لم يكونوا بريئين من الملكة فى الظاهر وهم بريئون من رؤية الملكة لنفوسهم فلا يرون لها ملكاً حقيقياً، بل يرون ما فى أَيديهم لله عارية ووديعة فى أَيديهم ابتلاهم به لينظر هل يتصرفون فيه تصرف العبيد أَو تصرف الملاك الذين يعطون لهواهم ويمنعون لهواهم، فوجود المال فى يد الفقير ليس يقدح فى فقره، إِنما يقدح فى فقره رؤيته لملكته، فمن عوفى من رؤية الملكة لم يتلوث باطنه بأَوساخ المال وتعبه وتدبيره واختياره، وكان كالخازن لسيده الذى ينفذ أَوامره فى ماله، فهذا لو كان بيده من المال [مثال] جبال الدنيا لم يضره ومن لم يعاف من ذلك ادعت نفسه الملكة وتعلقت به النفس تعلقها بالشيء المحبوب المعشوق، فهو أَكبر همه ومبلغ علمه، إِن أعطى رضى، وإِن منع سخط، فهو عبد الدينار والدرهم، يصبح مهموماً ويمسى كذلك [فيبيت] مضاجعاً له، تفرح نفسه إذا ازداد وتحزن وتأَسف إِذا فات منه شيء، بل يكاد يتلف إِذا توهمت نفسه الفقر وقد يؤثر الموت على الفقر، والأَول مستغن بمولاه المالك الحق الذى بيده خزائن السموات والأَرض، وإِذا أَصاب المال الذى فى يده نائبة رَأَى أَن المالك الحق هو الذى أَصاب مال نفسه فما للعبد وما للجزع والهلع، وإِنما تصرف مالك المال فى ملكه الذى هو وديعة فى يد مملوكه، فله الحكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 فى ماله: إِن شاءَ أَبقاه، وإِن شاءَ ذهب به وأَفناه، فلا يتهم مولاه فى تصرفه فى ملكه ويرى تدبيره هو موجب الحكمة فليس لقلبه بالمال تعلق ولا له به اكتراث، لصعوده عنه وارتفاع همته إِلى المالك الحق، فهو غنى به وبحبه ومعرفته وقربه منه عن كل ما سواه، وهو فقير إِليه دون ما سواه، فهذا هو البريء عن رؤية الملكة الموجبة للطغيان، كما قال تعالى: {كَلاّ إِنّ الإِنسَانَ لَيَطْغَىَ أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6-7] ، ولم يقل: إن استغنى، بل جعل الطغيان ناشئاً عن رؤية غنى نفسه، ولم يذكر هذه الرؤية فى سورة الليل بل قال: {وَأَمّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَىَ وَكَذّبَ بِالْحُسْنَىَ فَسَنُيَسّرُهُ لِلْعُسْرَىَ} [الليل: 8-10] ، وهذا- والله أَعلم لأَنه ذكر موجب طغيانه وهو رؤية غنى نفسه، وذكر فى سورة الليل موجب هلاكه وعدم تيسيره لليسرى، وهو استغناؤه عن ربه بترك طاعته وعبوديته، فإِنه لو افتقر إِليه لتقرب إِليه بما أَمره من طاعته، فعل المملوك الذى لا غنى له عن مولاه طرفة عين ولا يجد بداً من امتثال أَوامره، ولذلك ذكر معه بخله وهو تركه إِعطاء ما وجب عليه من الأَقوال والأَعمال وأداءِ المال، وجمع إِلى ذلك تكذيبه بالحسنى وهى التى وعد بها أَهل الإِحسان بقوله: {لّلّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَىَ وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] ، ومن فسرها بشهادة أَن لا إِله إِلا الله فلأَنها أَصل الإِحسان، وبها تنال الحسنى. ومن فسرها بالخلف فى الإِنفاق فقد هضم المعنى حقه وهو أَكبر من ذلك. وإِن كان الخلف جزءاً من أَجزاءِ الْحسنى، والمقصود أَن الاستغناءَ عن الله سبب هلاك العبد وتيسيره لكل عسرى، ورؤيته غنى نفسه سبب طغيانه، وكلاهما مناف للفقر والعبودية. قوله: "الدرجة الأُولى فقر الزهاد، وهو نفض اليدين من الدنيا ضبطاً أَو طلباً، وإِسكات اللسان عنها ذماً أو مدحاً، والسلامة منها طلباً أَو تركاً، وهذا هو الفقر الذى تكلموا فى شرفه". فحاصل هذه الدرجة فراغ اليد والقلب من الدنيا والذهول عن الفقر منها والزهد فيها، وعلامة فراغ [اليد نفض اليدين من الدنيا ضبطاً أو طلباً فهو لا يضبط يده] مع وجودها شحاً وضناً بها، ولا يطلبها مع فقدها سؤالاً وإِلحافاً وحرصاً. فهذا الإعراض والنفض دال على سقوط منزلتها من القلب، إِذ لو كان لها فى القلب منزلة لكان الأَمر بضد ذلك، وكان يكون حاله الضبط مع الوجود لغناه بها، ولكان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 يطلبها مع فقدها لفقره إِليها. وأَيضاً من أَقسام الفراغ إِسكات اللسان عنها ذماً ومدحاً لأَن من اهتم بأَمر وكان له فى قلبه موقع اشتغل اللسان بما فاض على القلب من أَمره مدحاً أَو ذماً، فإنه إن حصلت له مدحها، وإِن فاتته ذمها. ومدحها وذمها علامة موضعها من القلب وخطرها فحيث اشتغل اللسان بذمها كان بذلك لخطرها فى القلب، لأَن الشيء إِنما يذم على قدر الاهتمام به، والاعتناءُ شفاءُ الغيظ منه بالذم. وكذلك تعظيم الزهد فيها إِنما هو على قدر خطرها فى القلب، إِذ لولا خطرها وقدرها لما صار للزهد فيها خطر، وكذلك مدحها دليل على خطرها وموقعها من قلبه، فإِن من أَحب شيئاً أَكثر من ذكره، وصاحب هذه الدرجة لا يضبطها مع وجودها ولا يطلبها مع عدمها ولا يفيض من قلبه على لسانه مدح لها يدل على محبتها، ولا يفيض من القلب على اللسان ذم يدل على موقعها وخطرها، فإِن الشيء إِذا صغر أَعرض القلب عنه مدحاً أَو ذماً، وكذلك صاحب هذه الدرجة سالم عن النظر إلى تركها وهو الذى تقدم من ذكر خطر الزهد فيها، لأَن نظر العبد إِلى كونه تاركاً لها زاهداً فيها تتشرف نفسه بالترك [وتتلذذ به دليل على شغله بها ولو على وجه الترك] ، وذلك من خطرها وقدرها. ولو صغرت فى القلب لصغر تركها والزهد فيها لو اهتم القلب بمهم من المهمات المطلوبة التى هى مذاقات أَهل القلوب والأَرواح لذهل عن النظر إِلى نفسه والترك بالزهد. فصاحب هذه الدرجة معافى من هذه الأَمراض كلها: من مرض الضبط، والطلب، والذم، والمدح، والترك. فهى بأَسرها، وإِن كان بعضها ممدوحاً فى العلم مقصوداً يستحق المتحقق به الثواب والمدح، لكنها آثار وأَشكال مشعرة بأَن صاحبها لم يذق حال الخلو والتجريد الباطن، فضلاً عن أَن يتحقق من الحقائق المتوقعة المتنافس فيها، فصاحب هذه الدرجة متوسط بين درجتى الداخل بكليته فى الدنيا قد ركن إِليها واطمأَن إِليها واتخذها وطناً وجعلها له سكناً، وبين من نفضها بالكلية من قلبه ولسانه، وتخلص من قيودها ورعونتها وآثارها، وارتقى إِلى ما يسر القلب ويحييه ويفرحه ويبهجه من جذبات العزة فهو فى البرزخ كالحامل المقرب ينتظر ولادة الروح والقلب صباحاً ومساءً، فإِن من لم تولد روحه وقلبه ويخرج من مشيمة نفسه ويتخلص من ظلمات طبعه وهواه وإِرادته فهو كالجنين فى بطن أُمه الذى لم ير الدنيا وما فيها. فهكذا هذا الذى بعد فى مشيمة النفس، والظلمات الثلاث هى: ظلمة النفس، وظلمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 الطبع، وظلمة الهوى. فلا بد من الولادة مرتين كما قال المسيح للحواريين: إِنكم لن تجلوا ملكوت السماءِ حتى تولدوا مرتين. ولذلك كان النبى صلى الله عليه وسلم أَباً للمؤمنين كما فى قراءَة أُبِى: "النبى أَولى بالمؤمنين من أَنفسهم وهو أَب لهم"، ولهذا تفرع على هذه الأبوة أَن جعلت أَزواجه أُمهاتهم، فإن أَرواحهم وقلوبهم ولدت به ولادة أُخرى غير ولادة الأُمهات، فإِنه أَخرج أَرواحهم وقلوبهم من ظلمات الجهل والضلال والغى إِلى نور العلم والإِيمان وفضاءِ المعرفة والتوحيد، فشاهدت حقائق أُخر وأُموراً لم يكن لها بها شعور قبله، قال تعالى: {الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النّاسَ مِنَ الظّلُمَاتِ إِلَى النّورِ بِإِذْنِ رَبّهِمْ} [إبراهيم: 1] ، وقال: {هُوَ الّذِي بَعَثَ فِي الاُمّيّينَ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ} [الجمعة: 2] وقال: {لَقَدْ مَنّ اللهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مّبِينٍ} [آل عمران: 164] ، والمقصود أَن القلوب فى هذه الولادة ثلاثة: قلب لم يولد ولم يأْن له بل هو جنين فى بطن الشهوات والغى والجهل والضلال وقلب قد ولد وخرج إِلى فضاءِ التوحيد والمعرفة وتخلص من مشيمة الطباع وظلمات النفس والهوى، فقرت عينه بالله وقرت عيون به وقلوب، وأَنست بقربه الأَرواح، وذكرت رؤيته بالله، فاطمأَن بالله، وسكن إِليه، وعكف بهمته عليه، وسافرت هممه وعزائمه إِلى الرفيق الأَعلى، لا يقر بشيء غير الله، ولا يسكن إِلى شيء سواه، ولا يطمئن بغيره، يجد من كل شيء سوى الله عوضاً ومحبته وقوته، لا يجد من الله عوضاً أبداً، فذكره حياة قلبه ورضاه غاية مطلبه، ومحبته قوته، ومعرفته أَنيسه، عدوه من جدب قلبه ورضاه غاية مطلبه، ومحبته قوته، ومعرفته أَنيسه، عدوه من جذب قلبه عن الله: "وإِن كان القريب المصافيا". ووليه من رده إِلى الله وجمع قلبه عليه "وإن كان البعيد المناويا"، فهذان قلبان متباينان غاية التباين. وقلب ثالث فى البرزخ ينتظر الولادة صباحاً ومساءً، قد أَصبح على فضاءِ التجريد، وآنس من خلال الديار أَشعة التوحيد، تأْبى غلبات الحب والشوق إِلا تقرباً إِلى من السعادة كلها بقربه، والحظ كل الحظ فى طاعته وحبه، وتأْبى غلبات الطباع إِلا جذبه وإيقافه وتعويقه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 فهو بين الدّاعين تارة وتارة قد قطع عقبات وآفات، وبقى عليه مفاوز وفلوات. والمقصود أَن صاحب هذا المقام إِذا تحقق به ظاهراً وباطناً، وسلم عن نظر نفسه إِلى مقامه واشتغاله به ووقوفه عنده، فهو فقير حقيقى، ليس فيه قادح من القوادح التى تحطه عن درجة الفقر. واعلم أَنه يحسن إِعمال اللسان فى ذم الدنيا فى موضعين: أَحدهما موضع التزهيد فيها للراغب، والثانى عندما يرجع به داعى الطبع والنفس إِلى طلبها ولا يأْمن من إِجابة الداعى، فيستحضر فى نفسه قلة وفائها وكثرة جفائها وخسة شركائها، فإنه إن تم عقله وحضر رشده زهد فيها ولا بد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 فصل: في تفسير الفقر ودرجاته وقوله: "الدرجة الثانية: الرجوع إِلى السبق بمطالعة الفضل وهو يورث الخلاص من رؤية الأَعمال، ويقطع شهود الأَحوال ويمحص من أَدناس مطالعة المقامات"، فهذه الدرجة أَرفع من الأولى وأَعلى، والأُولى كالوسيلة إِليها، لأَن فى الدرجة الأولى يتخلى بفقره عن أَن يتأَله غير مولاه الحق، وأَن يضيع أَنفاسه فى غير مرضاته، وأَن يفرق همومه فى غير محابه، وأَن يؤثر عليه فى حال من الأَحوال. فيوجب له هذا الخلق وهذه المعاملة صفاء العبودية، وعمارة السر بينه وبين الله وخلوص [الوداد والمحبة] ، فيصبح ويمسى ولا هم له غير ربه، قد قطع همه بربه عنه جميع الهموم وعطلت إرادته جميع الإِرادات ونسخت محبته له من قلبه كل محبة لسواه، كما قيل: لقدكان يسبى القلب فى كل ليلة ... ثمانون بل تسعون نفساً وأَرجح يهيم بهذا ثم يأْلف غيره ... ويسلوهم من فوره حين يصبح وقد كان قلبى ضائعاً قبل حبكم ... فكان بحب الخلق يلهو ويمرح فلما دعا قلبى هواك أَجابه ... فلست أَراه عن خبائك يبرح حرمت الأَمانى منك إِن كنت كاذباً ... وإِن كنت فى الدنيا بغيرك أَفرح وإِن كان شيء فى الوجود سواكم ... يقرَّ به القلب الجريح ويفرح إِذا لعبت أَيدى الهوى بمحبكم ... فليس له عن بابكم متزحزح فإِن أَدركته غربة عن دياركم ... فحبكم بين الحشا ليس يبرح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 وكم مشتر فى الخلق قد سام قلبه ... فلم يره إِلا لحبك يصلح هوى غيركم نار تلظى ومحبس ... وحبكم الفردوس أَو هو أَفسح فيا ضيم قلب قد تعلق غيركم ... ويا رحمة مما يجول ويكدح والله سبحانه لم يجعل لرجل من قلبين فى جوفه، فبقدر ما يدخل القلب من هم وإِرادة وحب يخرج منه هم وإِرادة وحب يقابله، فهو إِناءٌ واحد والأَشربة متعددة، فأَى شراب ملأَه لم يبق فيه موضع لغيره، وإِنما يمتليء الإناءُ بأَعلى الأَشربة إِذا صادفه خالياً، فأَما إِذا صادفه ممتلئاً من غيره لم يساكنه حتى يخرج ما فيه ثم يسكن موضعه، كما قال بعضهم: أَتانى هواها قبل أَن أَعرف الهوى ... فصادف قلباً خالياً فتمكنا ففقر صاحب هذه الدرجة تفريغه إِنائه من كل شراب غير شراب المحبة والمعرفة، لأَن كل شراب فمسكر ولا بد، و"ما أَسكر كثيره فقليله حرام"، وأَين سكر الهوى والدنيا من سكر الخمر، وكيف يوضع شراب التسليم-الذى هو أَعلى أَشربة المحبين-فى إِناءٍ ملآن بخمر الدنيا والهوى ولا يفيق من سكره ولا يستفيق، ولو فارق هذا السكر القلب لطار بأَجنحة الشوق إِلى الله والدار الآخرة، ولكن رضى المسكين بالدون، وباع حظه من قرب الله ومعرفته وكرامته بأَخس الثمن صفقة خاسر مغبون، فسيعلم أى حظ أَضاع إِذا فاز المحبون، وخسر المبطلون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 فصل: في أن حقيقة الفقر توجه العبد بجميع أحواله إلى الله وإِذا كان التلوث بالأَعراض قيداً يقيد القلوب عن سفرها إِلى بلد حياتها ونعيمها الذى لا سكن لها غيره، ولا راحة لها إِلا فيه، ولا سرور لها إِلا فى منازله، ولا أَمن لها إِلا بين أَهله، فكذلك الذى باشر قلبه روح التألة، وذاق طعم المحبة، وآنس نار المعرفة، له أَعراض دقيقة حالية تقيد قلبه عن مكافحة صريح الحق، وصحة الاضطرار إِليه والفناءِ التام به، والبقاءِ الدائم بنوره الذى هو المطلوب من السير والسلوك، وهو الغاية التى شمر إِليها السالكون، والعلم الذى أَمَّه العابدون ودندن حوله العارفون، فجميع ما يحجب عنه أَو يقيد القلب نظره وهمه يكون حجاباً يحجب الواصل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 ويوقف السالك وينكس الطالب، فالزهد فيه على أَصحاب الهمم العلية متعين تعين الواجب الذى لا بد منه، وهو كزهد السالك إِلى الحج فى الظلال والمياه التى يمر بها فى المنازل، فالأَول مقيد عن الحقائق برؤية الأعراض، والثانى مقيد عن النهايات برؤية الأَحوال، فتقيد كل منهما عن الغاية المطلوبة، وترتب على هذا القيد عدم النفوذ، وذلك مؤخر مخلف. وإذا عرف العبد هذا وانكشف له [علمه] تعين عليه الزهد فى الأَحوال والفقر منها، كما تعين عليه الزهد فى المال والشرف وخلو قلبه منهما. ولما كان موجب الدرجة الأولى من الفقر الرجوع إِلى الآخرة، فأَوجب الاستغراق فى هم الآخرة نفض اليدين من الدنيا ضبطاً أَو طلباً، وإِسكات اللسان عنها مدحاً أَو ذماً. وكذلك كان موجب هذه الدرجة الثانية الرجوع إِلى فضل الله [عز وجل] ومطالعة سبقه الأَسباب والوسائط، فبفضل الله ورحمته وجدت منه الأَقوال الشريفة، والمقامات العلية، وبفضله ورحمته وصلوا إِلى رضاه ورحمته، وقربه وكرامته وموالاته وكان سبحانه هو الأَول فى ذلك كله كما أَنه الأَول فى كل شيء، وكان هو الآخر فى ذلك كما هو الآخر فى كل شيء، فمن عبده باسمه الأَول والآخر حصلت له حقيقة هذا الفقر، فإن انضاف إِلى ذلك عبوديته باسمه الظاهر والباطن فهذا هو العارف الجامع لمتفرقات التعبد ظاهراً وباطناً فعبوديته باسمه الأَول تقتضى التجرد من مطالعة الأسباب والوقوف عليها والالتفات إِليها، وتجريد النظر إِلى مجرد سبق فضله ورحمته، وأَنه هو المبتديء بالإِحسان من غير وسيلة من العبد، إِذ لا وسيلة له فى العدم قبل وجوده، وأَى وسيلة كانت هناك، وإِنما هو عدم محض، وقد أَتى عليه [حين] من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً، فمنه سبحانه الإِعداد ومنه الإِمداد وفضله سابق على الوسائل، والوسائل من مجرد فضله وجوده لم تكن بوسائل أُخرى. فمن نزَّل اسمه الأَول على هذا المعنى أَوجب له فقراً خاصاً وعبودية خاصة، وعبوديته باسمه الآخر تقتضى أيضاً [عدم ركونه ووثوقه بالأسباب والوقوف معها فإنها تعدم لا محالة وتنقضى] بالآخرية، ويبقى الدائم الباقى بعدها، فالتعلق بها تعلق بما يعدم وينقضى، والتعلق بالآخر عز وجل تعلق بالحى الذى لا يموت ولا يزول فالمتعلق به حقيق أَن لا يزول ولا ينقطع، بخلاف التعلق بغيره مما له الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 آخر يفنى به، كذا نظر العارف إِليه بسبق الأَولية حيث كان قبل الأَسباب كلها، فكذلك نظره إِليه ببقاء الآخرية حيث يبقى بعد الأسباب كلها، فكان الله ولم يكن شيء غيره، وكل شيء هالك إلا وجهه. فتأمل عبودية هذين الاسمين وما يوجبانه من صحة الاضطرار إِلى الله وحده ودوام الفقر إِليه دون كل شيءٍ سواه، وأَن الأَمر ابتدأَ منه وإِليه يرفع، فهو المبتديء بالفضل حيث لا سبب ولا وسيلة، وإِليه ينتهى الأمر حيث تنتهى الأَسباب والوسائل فهو أَول كل شيء وآخره، وكما أَنه رب كل شيء وفاعله وخالقه وبارئه، فهو إلهه وغايته التى لا صلاح له ولا فلاح ولا كمال إِلا بأَن يكون هو غايته كما أنه لا وجود له إلا بكونه وحده هو ربه وخالقه وكذلك لا كمال له ولا صلاح إلا بكونه تعالى وحده هو غايته وحده ونهايته ومقصوده، فهو الأَول الذى ابتدأَت منه المخلوقات، والآخر الذى انتهت إِليه عبوديتها وإِرادتها ومحبتها، فليس وراءَ الله شيء يقصد ويعبد ويتأَله كما أَنه ليس قبله شيء يخلق ويبرأَ، فكما كان واحداً فى إِيجادك فاجعله واحداً فى تأَلهك وعبوديتك، وكما ابتدأ وجودك وخلقك منه فاجعله نهاية حبك وإِرادتك وتأَلهك إِليه لتصح لك عبوديته باسمه الأَول والآخر، وأَكثر الخلق تعبدوا له باسمه الأَول، وإِنما الشأْن فى التعبد له باسمه الآخر فهذه عبودية الرسل وأَتباعهم، فهو رب العالمين وإِله المرسلين سبحانه وبحمده. وأَما عبوديته باسمه الظاهر فكما فسره النبى صلى الله عليه وسلم بقوله: "وأَنتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيءٌ، وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيء". فإِذا تحقق العبد علوه المطلق على كل شيء بذاته، وأَنه ليس فوقه شيء البتة، وأَنه قاهر فوق عباده يدبر الأَمر من السماءِ إِلى الأَرض ثم يعرج إِليه {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطّيّبُ وَالْعَمَلُ الصّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] ، صار لقلبه [أَملاً] يقصده، ورباً يعبده، وإِلهاً يتوجه إِليه. بخلاف من لا يدرى أَين ربه فإِنه ضائع مشتت القلب ليس لقلبه قبلة يتوجه نحوها ولا معبود يتوجه إِليه قصده. وصاحب هذه الحال إِذا سلك وتأله وتعبد طلب قلبه إِلهاً يسكن إِليه ويتوجه إِليه، وقد اعتقد أَنه ليس فوق العرش شيء إِلا العدم، وأَنه ليس فوق العالم إِله يعبد ويصلى له ويسجد، وأَنه ليس على العرش من يصعد إِليه الكلم الطيب ولا يرفع إِليه العمل الصالح، جال قلبه فى الوجود جميعهُ فوقع فى الاتحاد ولا بد، وتعلق قلبه بالوجود المطلق السارى فى المعينات، فاتخذ إِلهه من دون الإِله الحق وظن أَنه قد وصل إِلى عين الحقيقة، وإِنما تأَله وتعبد لمخلوق مثله، أو لخيال نحته بفكره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 واتخذه إِلهاً من دون الله سبحانه، وإِله الرسل وراءَ ذلك كله: {إِنّ رَبّكُمُ اللهُ الّذِي خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتّةِ أَيّامٍ ثُمّ اسْتَوَىَ عَلَى الْعَرْشِ يُدَبّرُ الأمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللهُ رَبّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكّرُونَ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقّاً إِنّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ} [يونس: 3- 4] وقال تعالى: {اللهُ الّذِي خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتّةِ أَيّامٍ ثُمّ اسْتَوَىَ عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مّن دُونِهِ مِن وَلِيّ وَلاَ شَفِيعٍ أَفَلاَ تَتَذَكّرُونَ يُدَبّرُ الأمْرَ مِنَ السّمَآءِ إِلَى الأرْضِ ثُمّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مّمّا تَعُدّونَ ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرّحِيمُ الّذِيَ أَحْسَنَ كُلّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِن طِينٍ ثُمّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مّن مّآءٍ مّهِينٍ ثُمّ سَوّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ قَلِيلاً مّا تَشْكُرُونَ} [السجدة: 4- 9] . فقد تعرف سبحانه إِلى عباده بكلامه معرفة لا يجحدها إِلا من أَنكره سبحانه، وإِن زعم أَنه مقربه. والمقصود أَن التعبد باسمه الظاهر يجمع القلب على المعبود، ويجعل له رباً يقصده وصمداً يصمد إِليه فى حوائجه وملجأً يلجأُ إِليه فإِذا استقر ذلك فى قلبه وعرف ربه باسمه الظاهر استقامت له عبوديته وصار له معقل وموئل يلجأُ إِليه ويهرب إِليه ويفر كل وقت إِليه. وأَما تعبده باسمه الباطن فأَمر يضيق نطاق التعبير عن حقيقته، ويكلّ اللسان عن وصفه، وتصطلم الإِشارة إِليه وتجفو العبارة عنه، فإِنه يستلزم معرفة بريئة من شوائب التعطيل مخلصة من فرث التشبيه، منزهة عن رجس الحلول والاتحاد وعبارة مؤدية للمعنى كاشفة عنه، وذوقاً صحيحاً سليماً من أَذواق أهل الانحراف. فمن رزق هذا فهم معنى اسمه الباطن وصح له التعبد به. وسبحان الله كم زلت فى هذا المقام أَقدام وضلت فيه أَفهام، ونظم فيه الزنديق بلسان الصديق، فاشتبه فيه إِخوان النصارى بالحنفاء المخلصين، لنبو الأَفهام عنه وعزة تخلص الحق من الباطل فيه، والتباس ما فى الذهن بما فى الخارج إِلا على من رزقه الله بصيرة فى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 الحق، ونوراً يميز به بين الهدى والضلال، وفرقاناً يفرق به بين الحق والباطل، ورزق مع ذلك اطلاعاً على أَسباب الخطأْ وتفرق الطرق ومثار الغلط، فكان له بصيرة فى الحق والباطل، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاءُ والله ذو الفضل العظيم. وباب هذه المعرفة والتعبد هو معرفة إِحاطة الرب [تبارك وتعالى] بالعالم وعظمته، وأَن العوالم كلها فى قبضته، وأَن السموات السبع والأَرضين السبع فى يده كخردلة فى يد العبد، قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنّ رَبّكَ أَحَاطَ بِالنّاسِ} [الإسراء: 60] ، وقال: {واللهُ مِنْ وَرَآئِهِمْ مُحِيطُ} [البروج: 20] ، ولهذا يقرن سبحانه بينَ هذين الاسمين الدالين على هذين المعنيين: اسم العلو الدال على أَنه الظاهر وأَنه لا شيء فوقه، واسم العظمة الدال على الإِحاطة وأَنه لا شيء دونه، كما قال تعالى: {وَهُوَ الْعَلِىُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255] [الشورى: 4] ، وقال تعالى: {وَهُوَ الْعَلِىُّ الْكَبِيرُ} [سبأ: 23] ، وقال: {وَللهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلّواْ فَثَمّ وَجْهُ اللهِ إِنّ اللهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 115] ، هو تبارك وتعالى كما أَنه العالى على خلقه بذاته فليس فوقه شيء، فهو الباطن بذاته فليس دونه شيء، بل ظهر على كل شيء فكان فوقه، وبطن فكان أَقرب إِلى كل شيء من نفسه، وهو محيط به حيث لا يحيط الشيء بنفسه وكل شيء فى قبضته وليس شيء فى قبضة نفسه، فهذا أَقرب لإِحاطة العامة. وأما القرب المذكور فى القرآن والسُّنَّة فقرب خاص من عابديه وسائليه وداعيه، وهو من ثمرة التعبد باسمه الباطن قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186] ، فهذا قربه من داعيه، وقال تعالى: {إِنّ رَحْمَةَ اللهِ قَرِيبٌ مّنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56] ، فوجد الخبر وهو قريب عن لفظ الرحمة وهى مؤنثة [إيذاناً] بقربه تعالى من المحسنين، فكأنه قال: إِن الله برحمته قريب من المحسنين. وفى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ"، و"أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِنْ عَبْدِهِ فِى جَوْفِ اللَّيْلِ"، فهذا قرب خاص غير قرب الإِحاطة وقرب البطون. وفى الصحيح من حديث أَبى موسى أَنهم كانوا مع النبى صلى الله عليه وسلم فى سفر، فارتفعت أصواتهم بالتكبير فقال: "أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 عَلَى أَنْفُسكُمْ [فإنكم] لا تَدْعُونَ أَصمَّ وَلا غاَئِباً، إِنَّ الَّذِى تَدْعُونَهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ، أَقْرَبُ إِلَى أَحدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ"، فهذا قربه من داعيه وذاكره، يعنى فأى حاجة بكم إِلى رفع الأَصوات وهو لقربه يسمعها وإِن خفضت، كما يسمعها إِذا رفعت، فإِنه سميع قريب. وهذا القرب هو من لوازم المحبة فكلما كان الحب أَعظم كان القرب أَكثر، وقد استولت محبة المحبوب على قلب محبه بحيث يفنى بها عن غيرها، ويغلب محبوبه على قلبه حتى [كأنه يراه ويشاهده] . إن لم يكن عنده معرفه صحيحة بالله وما يجب له ويستحيل عليه وإِلا طرق باب الحلول إن لم يلجه، وسببه ضعف تمييزه وقوة سلطان المحبة، واستيلاءُ المحبوب على قلبه بحيث يغيب عن ملاحظة سواه، وفى مثل هذه الحال يقول: سبحانى، أَو: ما فى الجبة إِلا الله. ونحو هذا من الشطحات التى نهايتها أَن يغفر له ويعذر لسكره وعدم تمييزه فى تلك الحال. فالتعبد بهذا الاسم هو التعبد بخالص المحبة وصفو الوداد، وأَن يكون الإله أَقرب إِليه من كل شيء وأَقرب إِليه من نفسه، مع كونه ظاهراً ليس فوقه شيء، ومن كيف ذهنه وغلظ طبعه عن فهم هذا فليضرب عنه صفحاً إلى ما هو أَولى به، فقد قيل: إِذا لَمْ تَسْتَطعْ شَيئاً فَدَعْه ... وجاوزه إِلى ما تستطيع فمن لم يكن له ذوق من قرب المحبة، ومعرفة بقرب المحبوب من محبة غاية القرب، وإِن كان بينهما غاية المسافة- ولا سيما إِذا كانت المحبة من الطرفين، وهى محبة بريئة من العلل والشوائب والأَعراض القادحة فيها- فإِن المحب كثيراً ما يستولى محبوبه على قلبه وذكره ويفنى عن غيره ويرق قلبه وتتجرد نفسه، فيشاهد محبوبه كالحاضر معه القريب إِليه وبينهما من البعد ما بينهما، وفى هذه الحال يكون فى قلبه وجوده العلمى، وفى لسانه وجوده اللفظى، فيستولى هذا الشهود عليه ويغيب به، فيظن أَن فى عينه وجوده الخارجى للغلبة حكم القلب والروح، كما قيل: خيالك فى عينى وذكرك فى فمى ... ومثواك فى قلبى فأَين تغيب هذا ويكون ذلك المحبوب بعينه بينه وبين عدوه من البعد وما بينهما وإِن قربت الأَبدان وتلاصقت الديار. والمقصود أَن المثال العلمى غير الحقيقة الخارجية وإِن كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 مطابقاً لها لكن المثال العلمى محله القلب والحقيقة الخارجية محلها الخارج فمعرفة هذه الأَسماءِ الأَربعة وهى: الأَول، والآخر، والظاهر، والباطن هى أَركان العلم والمعرفة، فحقيق بالعبد أَن يبلغ فى معرفتها إِلى حيث ينتهى به قواه وفهمه. واعلم أَن لك أَنت أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً، بل كل شيء فله أَول وآخر وظاهر وباطن، حتى الخطرة واللحظة والنفس وأَدنى من ذلك وأكثر. فأَولية الله عَزَّ وجَلَّ سابقة على أَولية كل ما سواه، وآخريته ثابتة بعد آخرية كل ما سواه فأَوليته سبقه لكل شيء، وآخريته بقاؤه بعد كل شيء، وظاهريته سبحانه فوقيته وعلوه على كل شيء، ومعنى الظهور يقتضى العلو، وظاهر الشيء هو ما علا منه وأحاط بباطنه. وبطونه سبحانه إِحاطته بكل شيء [بحيث يكون أقرب إليه من نفسه وهذا قرب غير قرب المحب] من حبيبه، هذا لون وهذا لون. فمدار هذه الأَسماءِ الأَربعة [على الإحاطة وهى إحاطتان زمانيه ومكانيه فأحاطت] أَوليته وآخريته بالقبل والبعد، فكل سابق انتهى إِلى أَوليته وكل آخر انتهى إِلى آخريته فأَحاطت أَوليته وآخريته بالأَوائل والأَواخر، وأَحاطت ظاهريته وباطنيته بكل ظاهر وباطن، فما من ظاهر إلا والله فوقه، وما من باطن إِلا والله [دونه] [وما من أول إلا والله قبله وما من آخر إلا والله بعده] فالأَول قدمه، والآخر دوامه وبقاؤه والظاهر علوه وعظمته، والباطن قربه ودنوه. فسبق كل شيء بأَوليته وبقى بعد كل شيء بآخريته، وعلا على كل شيء بظهوره، ودنا من كل شيء ببطونه [فلا توارى منه سماء سماء ولا أرض أرضا] ، ولا يحجب عنه ظاهر باطن بل الباطن له ظاهر، والغيب عنده شهادة، والبعيد منه قريب، والسر عنده علانية، فهذه الأَسماءُ الأَربعة تشتمل على أَركان التوحيد، فهو الأَول فى آخريته والآخر فى أَوليته، والظاهر فى بطونه والباطن فى ظهوره، لم يزل أَولاً وآخراً وظاهراً وباطناً. والتعبد بهذه الأَسماءِ رتبتان: الرتبة الأولى أَن تشهد الأَولية منه تعالى فى كل شيء والآخرية بعد كل شيء والعلو والفوقية فوق كل شيء والقرب والدنو دون كل شيء، فالمخلوق يحجبه مثله عما هو دونه فيصير الحاجب بينه وبين المحجوب، والرب جل جلاله ليس دونه شيء أَقرب إِلى الخلق منه والمرتبة الثانية من التعبد أَن يعامل كل اسم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 بمقتضاه، فيعامل سبقه تعالى بأَوليته لكل شيء [وسبقه] بفضله وإِحسانه الأَسباب كلها بما يقتضيه ذلك من إِفراده وعدم الإِلتفات إِلى غيره والوثوق بسواه والتوكل على غيره، فمن ذا الذى شفع لك فى الأَزل حيث لم تكن شيئاً مذكوراً حتى سماك باسم الإسلام، ووسمك بسمة الإِيمان، وجعلك من أَهل قبضة اليمين، وأَقطعك فى ذلك الغيب عمالات المؤمنين، فعصمك عن العبادة للعبيد، وأَعتقك من التزام الرق لمن له شكل ونديد، ثم وجه وجهة قلبك إِليه [تبارك وتعالى] دون ما سواه، فاضرع إِلى الذى عصمك من السجود للصنم، وقضى لك بقدم الصدق فى القدم، أَن يتم عليك نعمة هو ابتدأَها وكانت أَوليتها منه بلا سبب منك، واسمُ بهمتك عن ملاحظة الاختيار ولا تركنن إِلى الرسوم والآثار، ولا تقنع بالخسيس الدون، وعليك بالمطالب العالية والمراتب السامية التى لا تنال إِلا [بطاعة الله. فإن الله عز وجل قضى أن لا ينال ما عنده إلا] بطاعته، ومن كان لله كما يريد كان الله له فوق ما يريد، فمن أَقبل إِليه تلقاه من بعيد ومن تصرف [بحوله] وقوته أَلان له الحديد، ومن ترك لأَجله أَعطاه فوق المزيد، ومن أَراد مراده الدينى أَراد ما يريد. ثم اسم بسرك إِلى المطلب، واقصر حبك وتقربك على من سبق فضله وإِحسانه إِليك كل سبب منك، بل هو الذى جاد عليك بالأسباب، وهيأَ لك وصرف عنك موانعها وأَوصلك بها إلى غايتك المحمودة. فتوكل عليه وحده وعامله وحده [وآثر رضاه وحده. وأجعل حبه ومرضاته هو كعبة قلبك التى لا تزال طائفاً بها. مستلماً لأركانها] ، واقفاً بملتزمها، فيا فوزك ويا سعادتك إِن اطلع سبحانه على ذلك من قلبك، ماذا يفيض عليك من ملابس نعمه وخلع أفضاله: "اللَّهُمَّ لا مانع لما أَعطيت ولا معطى لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد سبحانك وبحمدك"، ثم تعبد له باسمه الآخر بأَن تجعله وحده غايتك التى لا غاية لك سواه، ولا مطلوب لك وراءَه فكما انتهت إِليه الأَواخر، وكان بعد كل آخر فكذلك اجعل نهايتك إِليه، فإِن إِلى ربك المنتهى، إِليه انتهت الأسباب والغايات فليس وراءَه مرمى ينتهى إِليه. وقد تقدم التنبيه على ذلك وعلى التعبد باسمه الظاهر. وأَما التعبد باسمه الباطن، فإِذا شهدت إِحاطته بالعوالم وقرب العبيد منه وظهور البواطن له وبدوِّ السرائر له وأَنه لا شيء بينه وبينها فعامله بمقتضى هذا الشهود، وطهر له سريرتك فإِنها عنده علانية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 وأَصلح له غيبك فإِنه عنده شهادة وزكِّ له باطنك فإِنه عنده ظاهر. فانظر كيف كانت هذه الأَسماءُ الأَربعة جماع المعرفة بالله، وجماع العبودية له. فهنا وقفت شهادة العبد مع فضل خالقه ومنته فلا يرى لغيره شيئاً إِلا به وبحوله وقوته، وغاب بفضل مولاه الحق عن جميع ما منه هو مما كان يستند إِليه أَو يتحلى به أَو يتخذه عقدة أَو يراه ليوم فاقته أَو يعتمد عليه فى [مهم] من مهماته، فكل ذلك من قصور نظره وانعكاسه عن الحقائق والأَصول إِلى الأَسباب والفروع كما هو شأَن الطبيعة والهوى وموجب الظلم والجهل، والإِنسان ظلوم جهول فمن جلى الله سبحانه صدأَ بصيرته وكمَّل فطرته وأوقفه على مبادئ الأُمور وغاياتها ومناطها ومصادرها ومواردها أَصبح كمفلس حقاً من علومه وأَعماله وأَحواله وأَذواقه يقول: أَستغفر الله من علمى ومن عملى، أَى من انتسابى إِليهما وغيبتى بهما عن فضل من ذكرنى بهما وابتدأَنى بإعطائهما من غير تقدم سبب منى يوجب ذلك. فهو لا يشهد غير فضل مولاه وسبق منته ودوامه، فيثيبه مولاه على هذه الشهادة العالية بحقيقة الفقر الأَوسط بين الفقرين الأَدنى والأَعلى ثوابين: أَحدهما الخلاص من رؤية الأَعمال حيث كان يراها ويمتدح بها ويستكثرها فيستغرق بمطالعة الفضل غائباً عنها ذاهباً عنها فانياً عن رؤيتها، الثواب الثانى أَن يقطعه عن شهود الأَحوال- أى عن شهود نفسه فيها متكثرة بها- فإِن الحال محله الصدر والصدر بيت القلب والنفس، فإِذا نزل العطاءُ فى الصدر للقلب وثبتت النفس لتأْخذ نصيبها من العطاءِ فتتمدح به وتدل به وتزهو وتستطيل وتقرر إِنيتها لأَنها جاهلة ظالمة وهذا مقتضى الجهل [والظلم] . فإِذا وصل إِلى القلب نور صفة المنة، وشهد معنى اسمه المنان، وتجلى سبحانه على قلب عبده بهذا الاسم مع اسمه الأَول، ذهل القلب والنفس به وصار العبد فقيراً إِلى مولاه بمطالعة سبق فضله الأَول، فصار مقطوعاً عن شهود أَمر أَو حال ينسبه إِلى نفسه بحيث يكون بشهادته لحاله مفصوماً مقطوعاً عن رؤية عزة مولاه وفاطره وملاحظة صفاته. فصاحب شهود الأَحوال منقطع عن رؤية منة خالقه وفضله ومشاهدة سبق الأَولية للأَسباب كلها، وغائب بمشاهدة عزة نفسه عن عزة مولاه، فينعكس هذا الأمر فى حق هذا العبد الفقير وتشغله رؤية عزة مولاه ومنته ومشاهدة سبقه بالأَولية عن حال يعتز بها العبد أَو يشرف بها. وكذلك الرجوع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 إلى السبق بمطالعة الفضل يمحص من أَدناس مطالعات المقامات، فالمقام ما كان راسخاً فيه، والحال ما كان عارضاً لا يدوم. فمطالعات المقامات [وشرفه] بها وكونه يرى نفسه صاحب مقام قد حققه وكمله فاستحق أَن ينسب إِليه ويوصف به مثل أَن يقال زاهد صابر خائف راج محب راض، فكونه يرى نفسه مستحقاً بأَن تضاف المقامات إِليه وبأَن يوصف بها- على وجه الاستحقاق لها- خروج عن الفقر إِلى الغنى، وتعد لطور العبودية، وجهل بحق الربوبية فالرجوع إِلى السبق بمطالعة الفضل يستغرق همة العبد ويمحصه ويطهره من مثل هذه الأَدناس، فيصير مصفَّى بنور الله [عز وجل] عن رذائل هذه الأَرجاس. [الدرجة الثالثة من درجات الفقر] قوله: "والدرجة الثالثة صحة الاضطرار، والوقوع فى يد التقطع الوحدانى، والاحتباس فى بدء قيد التجريد، وهذا فقر الصوفية". وهذه الدرجة فوق الدرجتين السابقتين عند أَرباب السلوك، وهى الغاية التى شمروا إِليها وحاموا حولها، فإِن الفقر الأَول فقر عن الأَعراض الدنيوية، والفقر الثانى فقر عن رؤية المقامات والأَقوال، وهذا الفقر الثالث فقر عن ملاحظة الموجود الساتر للعبد عن مشاهدة الوجود، فيبقى الوجود الحارث فى قبضة الحق عز وجل الهباء المنثور فى الهواءِ، يتقلب بتقليبه إِياه، ويسير فى شاهد العبد كما هو فى الخارج، فتمحو رؤية التوحيد عن العبد شواهد استبداده واستقلاله بأَمر من الأُمور، ولو فى النفس واللمحة والطرفة والهمة والخاطر والوسوسة، إِلا بإِرادة المريد الحق سبحانه وتدبيره وتقديره ومشيئته، فيبقى العبد كالكرة الملقاة بين صولجانات القضاءِ والقدر، تقلبها كيف شاءَت بصحة شهادة قيومية من له الخلق والأَمر وتفرده بذلك دون ما سواه. وهذا الأَمر لا يدرك بمجرد العلم، ولا يعرفه إِلا من تحقق به أَولاح له منه بارق، وربما ذهل صاحب هذا المشهد عن الشعور بوجوده لغلبة شهود وجود القيوم عليه، فهناك يصح من مثل هذا العبد الاضطرار إِلى الحى القيوم، وشهد فى كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة فقراً تاماً إِليه من جهة كونه رباً ومن جهة كونه إلهاً معبوداً لا غنى له عنه كما لا وجود له بغيره. فهذا هو الفقر الأَعلى الذى دارت عليه رحى القوم، بل هو قطب تلك الرحى. وإِنما يصح له هذا بمعرفتين لا بد منهما: معرفة حقيقة الربوبية والإلَهية، ومعرفة حقيقة النفس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 والعبودية، فهنالك تتم له معرفة هذا الفقر، فإِن أعطى هاتين المعرفتين حقهما من العبودية اتصف بهذا الفقر حالاً، فما أَغناه حينئذ من فقير، وما أَعزه من ذليل، وما أَقواه من ضعيف، وما آنسه من وحيد. فهو الغنى بلا مال القوى بلا سلطان، العزيز بلا عشيرة، المكفى بلا عتاد. قد قرت عينه بالله [فقرت به كل عين، واستغنى بالله] فافتقر إِليه الأَغنياءُ والملوك. ولا يتم له ذلك إِلا بالبراءَة من فرث الجبر ودمه فإِنه إِن طرق باب الجبر انحل عنه نظام العبودية، وخلع ربقة الإِسلام من عنقه وشهد أَفعاله كلها طاعات للحكم القدرى الكونى وأَنشد: أَصبحت منفعلاً لما يختاره ... منى، ففعلى كله طاعات وإِذ قيل له: اتق الله ولا تعصه، يقول: إِن كنت عاصياً لأَمره، فأَنا مطيع لحكمه وإِرادته َ، فهذا منسلخ من الشرائع، بريء من دعوة الرسل، شقيق لعدو الله إِبليس بل وظيفة الفقير فى هذا [الموضع] ، وفى هذه الضرورة مشاهدة الأَمر والشرع، ورؤية قيامه بالأَفعال وصدورها منه كسباً واختياراً، وتعلق الأَمر والنهى بها طلباً وتركاً، وترتب الذم والمدح عليها شرعاً وعقلاً، وتعلق الثواب والعقاب بها آجلاً وعاجلاً، فمتى اجتمع له هذا الشهود الصحيح إِلى [شهود] الاضطرار فى حركاته وسكناته، والفاقة التامة إِلى مقلب القلوب ومن بيده أَزمة الاختيار ومن إِذَا شاءَ شيئاً وجب وجوده، وإِذا لم يشأْ امتنع وجوده، وأَنه لا هادى لمن أضله ولا مضل لمن هداه وأنه هو الذى يحرك [القلوب بالإرادات والجوارح بالأعمال وأنها مدبرة تحت] تسخيره مذللة تحت قهره، وأنها أعجز وأضعف من أَن تتحرك بدون [مشيئته، وأن] مشيئته نافذة فيها كما هى نافذة فى حركات الأفلاك والمياه والأَشجار وأَنه حرك كلا منها بسبب اقتضى تحريكه وهو خالق السبب المقتضى وخالق السبب خالق للمسبب، فخالق الإِرادة الحازمة التى هى سبب الحركة والفعل الاختيارى خالق لهما، وحدوث الإِرادة بلا خالق محدث محال، وحدوثها بالعبد بلا إِرادة منه محال، وإِن كان [بإرادته] فإِرادته للإِرادة كذلك ويستحيل بها التسلسل، فلا بد من فاعل أوجد تلك الإرادة التى هى سبب الفعل، فهنا يتحقق الفقر والفاقة والضرورة التامة إِلى مالك الإِرادات ورب القلوب ومصرفها كيف شاءَ، فما شاءَ أَن يزيغه منها أَزاغه، وما شاءَ أَن يقيمه منها أَقامه: {رَبّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لّدُنْكَ رَحْمَةً إِنّكَ أَنْتَ الْوَهّابُ} [آل عمران: 8] ، فهذا هو الفقر الصحيح المطابق للعقل والفطرة والشرع، ومن خرج عنه وانحرف إِلى أَحد الطرفين زاغ قلبه عن الهدى، وعطل مالك الملك الحق وانفراده بالتصرف والربوبية عن أَوامره وشرعه وثوابه وعقابه. وحكم هذا الفقير المضطر إِلى خالقه فى كل طرفة عين وكل نَفَس أَنه إِن حرك بطاعة أَو نعمة شكرها وقال: هذا من فضل الله ومنَّه وجوده فله الحمد. وإِن حرك بمباديء معصيته صرخ ولجأَ واستغاث وقال: "أَعوذ بك منك، يا مقلب القلوب ثبت قلبى على دينك يا مصرف القلوب صرف قلبى على طاعتك"، فإن تم تحريكه بالمعصية التجأَ التجاءَ أَسير قد أسره عدوه وهو يعلم أَنه لا خلاص له من أَسره إِلا بأَن يفكُّه سيده من الأَسر، ففكاكه فى يد سيده ليس فى يده منه شيء البتة، ولا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، فهو فى أَسر العدو ناظر إِلى سيده وهو قادر [على تخليصه] ، قد اشتدت ضرورته إِليه، وصار اعتماده كله عليه. قال سهل: إِنما يكون الالتجاءُ، على معرفة الابتلاء، يعنى وعلى قدر الابتلاءِ تكون المعرفة بالمبتلى ومن عرف قوله صلى الله عليه وسلم: "وأَعُوذ بك منك"، وقام بهذه المعرفة شهوداً وذوقاً، وأَعطاها حقها من العبودية، فهو الفقير حقاً، ومدار الفقر الصحيح على هذه الكلمة، فمن [زرق] فهم سر هذا [فهم سر] الفقر المحمدى، فهو سبحانه الذى ينجى من قضائه بقضائه، وهو الذى يعيذ بنفسه من نفسه، وهو الذى يدفع ما منه بمامنه، فالخلق كله له، والأَمر كله له والحكم كله له، وما شاءَ كان وما لم يشأْ لم يكن، وما شاءَ لم يستطع أَن يصرفه إِلا مشيئته، وما لم يشأْ لم يمكن أَن يجلبه إِلا مشيئته، فلا يأتى بالحسنات إِلا هو، ولا يذهب بالسيئات إِلا هو، ولا يهدى لأَحسن الأَعمال والأَخلاق إِلا هو، ولا يصرف سيئها إِلا هو: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدّ لِفَضْلِهِ} [يونس: 107] ، والتحقق بمعرفة هذا يوجب صحة الاضطرار وكمال الفقر والفاقة، ويحول بين العبد وبين رؤية أَعماله وأَحواله والاستغناءِ بها والخروج عن رفقة العبودية إِلى دعوى ما ليس له. وكيف يدعى مع الله حالاً أَو ملكة أَو مقاماً من قلبه وإِرادته وحركاته الظاهرة والباطنة بيد ربه ومليكة لا يملك هو منها شيئاً، وإِنما هى بيد مقلب القلوب ومصرفها كيف يشاءُ فالإِيمان بهذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 والتحقق به نظام التوحيد، ومتى من القلب انحل نظام التوحيد، فسبحان من لا يوصل إِليه إِلا به. ولا يطاع إِلا بمشيئته، ولا ينال ما عنده من الكرامة إِلا بطاعته ولا سبيل إِلى طاعته إِلا بتوفيقه ومعونته فعاد الأَمر كله إِليه كما ابتدأَ الأَمر كله منه، فهو الأَول والآخر وأن إِلى ربك المنتهى. ومن وصل إِلى هذا الحال وقع فى يد التقطع والتجريد، وأَشرف على مقام التوحيد الخاص، فإِن التوحيد نوعان: عام وخاص، كما أَن الصلاة نوعان، والذكر نوعان، وسائر القرب كذلك خاصية وعامية، فالخاصية ما بذل فيها العامل نصحه وقصده بحيث يوقعها على أَحسن الوجوه وأكملها، والعامية ما لم يكن كذلك. فالمسلمون كلهم مشتركون فى إِتيانهم بشهادة أن لا إِله إِلا الله، وتفاوتهم فى معرفتهم بمضمون هذه الشهادة وقيامهم باطناً وظاهراً أَمر لا يحصيه إِلا الله عَزَّ وجَلَّ، وقد ظن كثير من الصوفية أَن التوحيد الخاص أَن يشهد العبد المحرك له ويغيب عن المتحرك وعن الحركة فيغيب بشهوده عن حركته، ويشهد نفسه شبحاً فانياً يجرى على تصاريف المشيئة، كمن غرق فى البحر فأَمواجه ترفعه طوراً وتخفضه طوراً، فهو غائب بها عن ملاحظة حركته فى نفسه، بل قد اندرجت حركته فى ضمن حركة الموج وكأَنه لا حركة له بالحقيقة، وهذا وإِن ظنه كثير من القوم غاية، وظنه بعضهم لازماً من لوازم التوحيد فالصواب أَن من ورائه ما هو أَجل منه، وغاية هذا الفناءِ فى توحيد الربوبية، وهو أَن لا يشهد رباً وخالقاً ومدبراً إِلا الله، وهذا هو الحق، ولكن توحيد الربوبية وحده لا يكفى فى النجاة فضلاً عن أَن يكون شهوده والفناءُ فيه هو غاية الموحدين ونهاية مطلبهم، فالغاية التى لا غاية وراءَها ولا نهاية بعدها الفناءُ فى توحيد الإلهية وهو أَن يفنى بمحبة ربه عن محبة كل ما سواه، وبتأَلهه عن تأَله ما سواه، وبالشوق إِليه وإِلى لقائه عن الشوق إِلى ما سواه، وبالذل [والفقر] له والفقر إِليه من جهة كونه معبوده وإِلهه ومحبوبه عن الذل إِلى كل ما سواه، وكذلك يفنى بخوفه ورجائه عن خوف ما سواه ورجائه، فيرى أَنه ليس فى الوجود ما يصلح له ذلك إِلا الله، ثم يتصف بذلك حاله وينصبغ به قلبه صبغة ثم يفنى بذلك عما سواه، فهذا هو التوحيد الخاص الذى شمر إِليه العارفون، والورد الصافى الذى حام حوله المحبون، ومتى وصل إليه العبد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 صار فى يد التقطع والتجريد، واشتمل بلباس الفقر الحقيقى، وفرق حب الله من قلبه كل محبة وخوفه كل خوف ورجاؤه كل رجاءٍ، فصار حبه وخوفه ورجاؤه وذله وإِيثاره وإِرادته ومعاملته كل ذلك واحد لواحد، فلم ينقسم طلبه ولا مطلوبه، فتعددُ المطلوب وانقسامه قادح فى التوحيد والإِخلاص، وانقسام الطلب قادح فى الصدق والإِرادة، فلا بد من توحيد الطلب والإِرادة وتوحيد المطلوب المراد، فإِذا غاب بمحبوبه عن حب غيره وبمذكوره عن ذكر غيره وبمأَلوهه عن تأَله غيره صار من أَهل التوحيد الخاص، وصاحبه مجرد عن ملاحظة سوى محبوبه أَو إِيثاره أَو معاملته أَو خوفه أَو رجائه. وصاحب توحيد [الربوبية] فى قيد التجريد عن ملاحظة فاعل غير الله وهو مجرد عن ملاحظة وجوده، وهو كما كان صاحب الدرجة الأُولى مجرداً عن أَمواله وصاحب الثانية مجرداً عن أَعماله وأَحواله، فصاحب الفناء فى توحيد الإِلهية مجرد عن سوه [مراضى محبوبه وأوامره قد فنى بحبه وابتغاء مرضاته عن] حب غيره وابتغاءِ مرضاته. وهذا هو التجريد الذى سمت إِليه همم السالكين، فمن تجرد عن ماله وحاله وكسبه وعمله ثم تجرد عن شهود تجريده فهو المجرد عندهم حقاً، وهذا تجريد القوم الذى عليه يحومون، وإِياه يقصدون، ونهايته عندهم التجريد بفناءِ وجوده، وبقاؤه بموجوده، بحيث يفنى من لم يكن ويبقى من لم يزل، ولا غاية عندهم وراء هذا. ولعمر الله إِن وراءَه [تجريداً] أَكمل منه، ونسبته إِليه كفتلة فى بحر وشعرة فى [ظهر] بعير، وهو تجريد الحب والإِرادة عن الشوائب والعلل والحظوظ، فيتوحد حبه كما توحد محبوبه، ويتجرد عن مراده من محبوبه [بمراد محبوبه] منه، بل يبقى مراد محبوبه هو من نفس مراده، وهنا يعقل الاتحاد الصحيح وهو اتحاد المراد، فيكون عين مراد المحبوب هو عين مراد المحب، وهذا هو غاية الموافقة وكمال العبودية، ولا تتجرد المحبة عن العلل والحظوظ التى تفسدها إِلا بهذا. فالفرق بين محبة حظك ومرادك من المحبوب وأَنك إِنما تحبه لذلك وبين محبة مراد المحبوب منك ومحبتك له لذاته أَنه أَهل أَن يحب. وأَما الاتحاد فى الإِرادة فمحال كما أَن الاتحاد فى المريد محال، فالإِرادتان متباينتان. وأَما مراد المحب والمحبوب إِذا خلصت المحبة من العلل والحظوظ فواحد. فالفقر والتجريد والفناء من واد واحد. وقد جعله صاحب "منازل السائرين" من قسم النهايات، وحدَّه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 بأَنه الانخلاع [من] شهود الشواهد، وجعله على ثلاث درجات: الدرجة الأُولى تجريد الكشف عن كسب اليقين، والثانية تجريد عين الجمع عن درك العلم، والثالثة تجريد الخلاص من شهود التصريح. (يتبع ... ) فقوله فى الأُولى: "تجريد الكشف عن كسب اليقين" يريد كشف الإِيمان ومكافحته للقلب، وهذا وإِن حصل باكتساب اليقين من أَدلته وبراهينه، فالتجريد أَن يشهد سبق الله تعالى بمنته لكل سبب ينال به اليقين أَو الإِيمان، فيجرد كشفه لذلك عن ملاحظة سبب أَو وسيلة، بل يقطع الأَسباب والوسائل وينتهى نظره إِلى المسبب، وهذه إِن أُريد تجريدها عن كونها أسباباً فتجريد باطل، وصاحبه ضال وإن أريد تجريدها عن الوقوف عندها ورؤية انتسابها إِليه وصيرورتها عنوان اليقين إِنما كان به وحده، فهذا تجريد صحيح ولكن على صاحبه إِثبات الأَسباب، فإِن نفاها عن كونها أسباباً فسد تجريده. وقوله فى الدرجة الثانية: "تجريد عين الجمع عن درك العلم" لما كانت الدرجة الأُولى تجريداً عن الكسب وانتهاءً إِلى عين الجمع الذى هو الغيبة بتفرد الرب بالحكم عن إِثبات وسيلة أَو سبب، اقتضت تجريداً آخر أَكمل من الأَول وهو تجريد هذا الجمع عن علم العبد به. فالأُولى تجريد عن رؤية السبب والفعل، والثانية تجريد عن العلم والإِدراك وهذا يقتضى أيضاً تجريداً ثالثاً أكمل من الثانى وهو تجريد التخلص من شهود التجريد، وصاحب هذا التجريد الثالث فى عين الجمع قد اجتمعت همته على الحق، وشغل به عن ملاحظة جمعه وذكره وعلمه به، قد استغرق ذلك قلبه، فلا سعة فيه لشهود علمه بتجريده ولا شعوره به، فلا التفات له إِلى تجريده، ولو بقى له التفات إِليه لم يكمل تجريده. ووراءُ هذا كله تجريد نسبة هذا التجريد إِليه كشعرة من ظهر بعير إِلى جملته، وهو تجريد الحب والإِرادة عن تعلقه بالسوى، وتجريده عن العلل والشوائب والحظوظ التى هى مراد النفس، فيتجرد الطلب والحب عن كل تعلق يخالف مراد المحبوب، فهذا تجريد الحنيفية. والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إِلا به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 فصل: فى تقسيم الغنى إِلى عال وسافل ولما كان الفقر إِلى الله عز وجل هو عين الغنى به- فأَفقر الناس إِلى الله أَغناهم به، وأَذلهم له أَعزهم، وأَضعفهم بين يديه أَقواهم، وأَجهلهم عند نفسه أَعلمهم بالله وأَمقتهم لنفسه أَقربهم إِلى مرضاة الله- كأن ذكر الغنى بالله مع الفقر إِليه متلازمين متناسبين، فنذكر فصلاً نافعاً فى الغنى العالى. واعلم أَن الغنى على الحقيقة لا يكون إِلا لله الغنى بذاته عن كل ما سواه، وكل ما سواه فموسوم بسمة الفقر كما هو موسوم بسمة الخلق والصنع، وكما أَن كونه مخلوقاً أَمر ذاتى له، فكونه فقيراً أَمر ذاتى له كما تقدم بيانه، وغناه أَمر نسبى إِضافى عارض له، فإِنه إِنما استغنى بأَمر خارج عن ذاته فهو غنى به فقير إِليه، ولا يوصف بالغنى على الإِطلاق إِلا من غناه من لوازم ذاته، فهو الغنى بذاته عما سواه، وهو الأَحد الصمد الغنى الْحميد. والغنى قسمان: غنى سافل، وغنى عال. فالغنى السافل الغنى بالعوارى المستردة من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأَنعام والحرث وهذا أَضعف الغنى، فإِنه غنى بظل زائل، وعارية ترجع عن قريب إِلى أَربابها، فإِذا الفقر بأَجمعه بعد ذهابها، وكَأن الغنى بها كان حلماً فانقضى، ولا همة أَضعف من همة من رضى بهذا الغنى الذى هو ظل زائل. وهذا غنى أَرباب الدنيا الذى فيه يتنافسون، وإِياه يطلبون، وحوله يحومون، ولا أَحب إِلى الشيطان وأَبعد عن الرحمن من قلب ملآن بحب هذا الغنى والخوف من فقده. قال بعض السَلَف: إِذا اجتمع إبليس وجنوده لم يفرحوا بشيء كفرحهم بثلاثة أَشياءَ: مؤمن قتل مؤمناً، ورجل يموت على الكفر، وقلب فيه خوف الفقر. وهذا الغنى محفوف بفقرين: فقر قبله، وفقر بعده، وهو كالغفوة بينهما. فحقيق بمن نصح نفسه أن لا يغتر به ولا يجعله نهاية مطلبه، بل إذا حصل له جعله سبباً لغناه الأَكبر وسيلة إِليه، ويجعله خادماً من خدمه لا مخدوماً له، وتكون نفسه أَعز عليه من أَن يعبِّدها لغير مولاه الحق، أَو يجعلها خادمة لغيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 فصل: فى الغني العالي أَما الغنى العالى فقال شيخ الإِسلام: "هو على ثلاث درجات: الدرجة الأُولى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 غنى القلب، وهو سلامته من السبب، ومسالمته للحكم، وخلاصه من الخصومة، والدرجة الثانية غنى النفس، وهو استقامتها على المرغوب، وسلامتها من الحظوظ، وبراءَتها من المراءَاة. والدرجة الثالثة: الغنى الحق وهو ثلاث مراتب: الأُولى شهود ذكره إِياك، والثانية: دوام مطالعة أَوليته، والثالثة: الفوز بوجوده". قلت: ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم أَنه قال: "ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس"، ومتى استغنت النفس استغنى القلب، ولكن الشيخ قسم الغنى إِلى هذه الدرجات بحسب متعلقة فقال: "غنى القلب سلامته من السبب، ومسالمته للحكم، وخلاصه من الخصومة ومعلوم أَن هذا شرط فى الغنى، لا أَنه نفس الغنى، بل وجود المنازعة والمخاصمة وعدم المسالمة مانع من الغنى، فهذه السلامة والمسالمة دليل على غنى القلب، لا أَن غناه بها نفسها، وإِنما غنى القلب بالدرجة الثالثة فقط كما سيأتى بيانه إِن شاءَ الله، فالغنى إِنما يصير غنياً بحصول ما يسد فاقته ويدفع حاجته. وفى القلب فاقة عظيمة وضرورة تامة وحاجة شديدة لا يسدها إِلا فوزه بحصول الغنى الحميد الذى إِن حصل للعبد حصل له كل شيء، وإِن فاته فاته كل شيء. فكما أَنه سبحانه الغنى على الحقيقة ولا غنى سواه، فالغنى به هو الغنى فى الحقيقة ولا غنى بغيره أَلبتة، فمن لم يستغن به عما سواه تقطعت نفسه على السوى حسرات، ومن استغنى به زالت عنه كل حسرة وحضره كل سرور وفرح، والله المستعان. وإِنما قدم شيخ الإسلام الكلام على غنى القلب على الكلام على غنى النفس لأَن كمال صلاح النفس غناها بالاستقامة من جميع الوجوه، وبلوغها إِلى درجة الطمأْنينة لا يكون إِلا بعد صلاح القلب، وصلاح النفس متقدم على صلاح القلب هكذا قيل، وفيه ما فيه، لأن صلاح كل واحد منهما مقارن لصلاح الآخر. ولكن لما كان القلب هو الملك وكان صلاحه صلاح جميع رعيته كان أَولى بالتقديم، وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ فِى الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سِائِرُ الْجَسَدِ، أَلا وَهِى القلب"، والقلب إِذا استغنى بما فاض عليه من مواهب ربه وعطاياه السنية خلع على الأُمراءِ والرعية خلعاً تناسبها، فخلع على النفس خلع الطمأْنينة والسكينة والرضا والإِخبات، فأَدت الحقوق سماحة لا كظماً بانشراح ورضا ومبادرة، وذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 لأَنها جانست القلب حينئذ ووافقته فى أَكثر أُموره، واتحد مرادهما غالباً فصارت له وزير صدق، بعد أَن كانت عدواً مبارزاً بالعداوة، فلا تسأَل عما أَحدثت هذه المؤازرة والموافقة من طمأْنينة ولذة عيش ونعيم هو دقيقة من نعيم أَهل الجنة. هذا ولم تضع الحرب أَوزارها فيما بينهما بل عدتها وسلاحها كامن متوار، لولا قوة سلطان القلب وقهره لحاربت بكل سلاح، فالمرابطة على ثغرى الظاهر والباطن فرض متعين مدة أَنفاس الحياة. وتنقضى الحرب محموداً عواقبها ... للصابرين، وحظ الهارب الندم وخلع على الجوارح خلع الخشوع والوقار، وعلى الوجه خلعة المهابة والنور والبهاءِ، وعلى اللسان خلعة الصدق والقول السديد الثابت والحكمة النافعة، وعلى العين خلعة الاعتبار فى النظر والغض عن المحارم، وعلى الأُذن خلعة استماع النصيحة واستماع القول النافع استماعُه للعبد فى معاشه ومعاده، وعلى اليدين والرجلين خلعة البطش فى الطاعات أَين كانت بقوة وأَيد، وعلى الفرج خلعة العفة والحفظ. فغدا العبد وراح يرفل فى هذه الخلع ويجر لها فى الناس أَذيالاً وأَردانا. فغنى النفس مشتق من غنى القلب وفرع عليه، فإِذا استغنى سرى الغنى منه إِلى النفس. وغنى القلب ما يناسبه من تحقيقه بالعبودية المحضة التى هى أَعظم خلعة تخلع عليه، فيستغنى حينئذ بما توجبه هذه العبودية له من المعرفة الخاصة والمحبة الناصحة الخالصة، وبما يحصل له من آثار الصفات المقدسة وما تقتضيه من الأَحكام والعبوديات المتعلقة بكل صفة على الانفراد ومجموعها قائمة بالذات، وهذا أَمر تضيق عن شرحه عدة أَسفار بل حظ العبد منه علماً وإِرادة كما يدخل إِصبعه فى اليم، بل الأَمر أَعظم من ذلك. والله عز وجل: {أَنَزَلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد: 17] ، فإذا استغنى القلب بهذا الغنى الذى هو غاية فقره استغنت النفس غنى يناسبها، وذهبت عنها البرودة التى ثقلها وكسلها وإخلادها إلى الأرض وصارت لها حرارة توجب حركتها وخفتها فى الأوامر وطلبها الرفيق الأعلى، وصارت برودتها فى شهواتها وحظوظها ورعوناتها وذهبت أيضاً عنها اليبوسة المضادة للينها وسرعة انفعالها وقبولها، فإِنها إِذا كانت يابسة قاسية كانت بطيئة الانفعال بعيدة القبول لا تكاد تنقاد، فإِذا صارت برودتها حرارة، وبوبستها رطوبة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 وسقيت بماءِ الحياة الذى أَنزله الله عَزَّ وجَلَّ [من السماء] على قلوب أنبيائه وجعلها قراراً ومعيناً له ففاض منها على قلوب أَتباعهم فأَنبتت من كل زوج كريم، فحينئذ انقادت بزمام المحبة إِلى مولاها الحق مؤدية لحقوقه قائمة بأَوامره راضية عنه مرضية له بكمال طمأْنينتها: {يَأَيّتُهَا النّفْسُ الْمُطْمَئِنّةُ ارْجِعِي إِلَىَ رَبّكِ رَاضِيَةً مّرْضِيّةً} [الفجر: 27- 28] ، فلنرجع إِلى كلامه. فقوله فى الدرجة الأُولى وهى غنى القلب: "إِنَّهُ سلامته من السبب" أَى من الفقر إِلى السبب وشهوده والاعتماد عليه والركون إِليه والثقة به، فمن كان معتمداً على سبب [غناه] واثقاً به لم يطلق عليه اسم الغنى، لأَنه فقير إِلى الوسائط، بل لا يسمى صاحبه غنياً إِلا إِذا سلم من علة السبب استغناءً بالمسبب، بعد الوقوف على رحمته وحكمته وتصرفه وحسن تدبيره، فلذلك يصير صاحبه غنياً بتدبير الله عز وجل. فمن كملت له السلامة من علة الأَسباب، ومن علة المنازعة للحكم بالاستسلام له والمسالمة- أَى بالانقياد لحكمه- حصل الغنى [فحمى] للقلب بوقوفه على حسن تدبيره ورحمته وحكمته، فإِذا وقف العبد على حسن تدبيره واستغنى القلب به لم يتم له الاستغناءُ بمجرد هذا الوقوف، ان لم ينضم إِليه المسالمة للحكم وهو الانقياد له، فإِن المنازعة للحكم إِلى حكم آخر دليل على وجود رعونة الاختيار، وذلك دال على فقر صاحب الاختيار إِلى ذلك الشئ المختار، ومن كان فقيراً إِلى شيء لم يرده الله [عز وجل] لم يطلق عليه اسم الغنى بتدبير الله عز وجل، فلا يتم الغنى بتدبير الرب عز وجل لعبده إِلا بالمسالمة لحكمه بعد الوقوف على حسن تدبيره، ثم يبقى عليه الخلاص من معنى آخر وهو مخاصمة الخلق بعد الخلاص من مخاصمة الرب سبحانه. فإِن منازعة الخلق دليل على فقره إِلى الأَمر الذى وقعت فيه الخصومة من الحظوظ العاجلة، ومن كان فقيراً إِلى حظ من الحظوظ- يسخط لفوته ويخاصم الخلق عليه- لا يطلق عليه اسم الغنى حتى يسلم الخلق من خصومته بكمال تفويضه إِلى وليه وقيومه ومتولى تدبيره، فمتى سلم العبد من علة فقره إلى السبب، ومن علة منازعته لأَحكام الله [عز وجل] ومن علة مخاصمته للخلق على حظوظ، استحق أَن يكون غنياً بتدبير مولاه مفوضاً إِليه لا يفتقر قلبه إِلى غيره ولا يسخط شيئاً من أَحكامه ولا يخاصم عباده إِلا فى حقوق ربه فتكون مخاصمته لله وبالله، ومحاكمته إِلى الله، كما كان النبى صلى الله عليه وسلم يقول فى استفتاح صلاة الليل: "اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 أَنبت، وَبِكَ خَاصَمْتُ وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ"، فتكون مخاصمة هذا العبد لله لا لهواه وحظه ومحاكمته خصمه إِلى أَمر الله وشرعه لا إِلى شيء سواه، فمن خاصم لنفسه فهو ممن اتبع هواه وانتصر لنفسه، وقد قالت عائشة: "ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه قط"، وهذا لتكميل عبوديته. ومن حاكم خصمه إِلى غير الله ورسوله فقد حاكم إِلى الطاغوت، وقد أمر أن يكفر به، ولا يكفر العبد بالطاغوت حتى يجعل الحكم لله وحده كما هو كذلك فى نفس الأَمر. والحكم نوعان: حكم كونى قدرى، وحكم أمرى دينى، فهذا الذى ذكره الشيخ فى منازل السائرين وشرحه عليه الشارحون، إنما مراده به الحكم الكونى القدرى، وحينئذ فلا بد من تفصيل ما أَجملوه من مسالمة الحكم والاستسلام له وترك المنازعة له، فإِن هذا الإِطلاق غير مأْمور به ولا ممكن للعبد فى نفسه والحكم نوعان: حكم كونى قدرى، وحكم أمرى دينى، فهذا الذى ذكره الشيخ فى منازل السائرين وشرحه عليه الشارحون، إنما مراده به الحكم الكونى القدرى، وحينئذ فلا بد من تفصيل ما أَجملوه من مسالمة الحكم والاستسلام له وترك المنازعة له، فإِن هذا الإِطلاق غير مأْمور به ولا ممكن للعبد فى نفسه بل الأَحكام ثلاثة: حكم شرعى دينى، فهذا حقه أَن يتلقى بالمسالمة والتسليم وترك المنازعة، بل بالانقياد المحض، وهذا تسليم العبودية المحضة فلا يعارض بذوق ولا وجد ولا سياسة ولا قياس ولا تقليد، ولا يرى إِلى خلافه سبيلاً البتة، وإِنما هو الانقياد المحض والتسليم [والإذغان والقبول فإذا تلقى بهذا التسليم والمسألة إقراراً] وتصديقاً بقى هناك انقياد آخر وتسليم آخر له إِرادة وتنفيذاً وعملاً، فلا تكون له شهوة تنازع مراد الله من تنفيذ حكمه، كما لم تكن له شبهة تعارض وإِقراره، إِيمانه وهذا حقيقة القلب السليم الذى سلم من شبهة تعارض الحق وشهوة تعارض الأَمر، فلا استمتع بخلاقه كما استمتع به الذين يتبعون الشهوات، ولا خاض فى الباطن خوض الذين يتبعون الشبهات، بل اندرج خلاقه تحت الأَمر، واضمحل خوضه فى معرفته بالحق فاطمأن إِلى الله معرفة به ومحبة له وعلماً بأَمره وإِرادته لمرضاته، فهذا حق الحكم الدينى. بل الأَحكام ثلاثة: حكم شرعى دينى، فهذا حقه أَن يتلقى بالمسالمة والتسليم وترك المنازعة، بل بالانقياد المحض، وهذا تسليم العبودية المحضة فلا يعارض بذوق ولا وجد ولا سياسة ولا قياس ولا تقليد، ولا يرى إِلى خلافه سبيلاً البتة، وإِنما هو الانقياد المحض والتسليم [والإذغان والقبول فإذا تلقى بهذا التسليم والمسألة إقراراً] وتصديقاً بقى هناك انقياد آخر وتسليم آخر له إِرادة وتنفيذاً وعملاً، فلا تكون له شهوة تنازع مراد الله من تنفيذ حكمه، كما لم تكن له شبهة تعارض وإِقراره، إِيمانه وهذا حقيقة القلب السليم الذى سلم من شبهة تعارض الحق وشهوة تعارض الأَمر، فلا استمتع بخلاقه كما استمتع به الذين يتبعون الشهوات، ولا خاض فى الباطن خوض الذين يتبعون الشبهات، بل اندرج خلاقه تحت الأَمر، واضمحل خوضه فى معرفته بالحق فاطمأن إِلى الله معرفة به ومحبة له وعلماً بأَمره وإِرادته لمرضاته، فهذا حق الحكم الدينى. الحكم الثانى: الحكم الكونى القدرى الذى للعبد فيه كسب واختيار وإِرادة، والذى إِذا حكم به يسخطه ويبغضه ويذم عليه، فهذا حقه أَن ينازع ويدافع بكل ممكن ولا يسالم البتة، بل ينازع بالحكم الكونى أَيضاً، فينازع حكم الحق بالحق للحق ويدافع به، وله كما قال شيخ العارفين فى وقته عبد القادر الجيلانى: "الناس إِذا دخلوا إِلى القضاءِ والقدر أَمسكوا، وأَنا انفتحت لى روزنة فنازعت أَقدار الحق بالحق للحق، والعارف من يكون منازعاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 للقدر لا واقفاً مع القدر" اهـ، فإِن ضاق ذرعك عن هذا الكلام وفهمه فتأمل قول عمر ابن الخطاب- وقد عوتب على فراره من الطاعون فقيل له-: "أتفر من قدر الله؟ فقال: نفر من قدر الله إِلى قدره"، ثم كيف ينكر هذا الكلام من لا بقاءَ له فى هذا العالم إِلا به، ولا تتم له مصلحة إِلا بموجبه، فإِنه إذا جاءَه قدر من الجوع والعطش أَو البرد نازعه وترك الانقياد له ومسالمته، ودفع بقدر آخر من الأَكل والشرب واللباس، فقد دفع قدر الله بقدره، وهكذا إِذا وقع الحريق فى داره فهو بقدر الله، فما باله لا يستسلم له ويسالمه ويتلقاه بالإِذعان؟ بل ينازعه ويدافعه بالماءِ والتراب وغيره حتى يطفيء قدر الله بقدر الله وما خرج فى ذلك عن قدر الله، وهكذا إِذا أصابه مرض بقدر الله دافع هذا القدر ونازعه بقدر آخر يستعمل فيه الأَدوية الدافعة للمرض فحق هذا الحكم الكونى أَن يحرص العبد على مدافعته ومنازعته بكل ما يمكنه، فإِن غلبه وقهره، حرص على دفع آثاره وموجباته بالأَسباب التى نصبها الله لذلك، فيكون قد دفع القدر بالقدر ونازع الحكم بالحكم، وبهذا أُمر، بل هذا حقيقة الشرع والقدر، ومن لم يستبصر فى هذه المسأَلة ويعطها حقها لزمه التعطيل للقدر أَو الشرع شاءَ أَو أَبى، فما للعبد ينازع أَقدار الرب [تعالى] بأَقداره فى حظوظه وأَسباب معاشه ومصالحه الدنيوية ولا ينازع أَقداره فى حق مولاه وأَوامره ودينه؟ وهل هذا إِلا خروج عن العبودية ونقص فى العلم بالله وصفاته وأَحكامه؟ ولو أَن عدواً للإِسلام قصده لكان هذا بقدر الله، ويجب على كل مسلم دفع هذا القدر بقدر يحبه الله وهو الجهاد باليد أو المال أو القلب دفعا لقدر الله بقدره فما للاستلام والمسالمة هنا مدخل فى العبودية، اللهم إلا إذا بذل العبد جهده فى المدافعة والمنازلة وخرج الأمر عن يده. فحينئذ يبقى من أهل الحكم الثالث وهو الحكم القدري الكوني الذي يجري على العبد بغير اختياره ولا طاقة له بدفعه ولا حيلة له في منازعته، فهذا حقه أن يتلقى بالاستسلام والمسالمة وترك المخاصمة وأن يكون فيه كالميت بين يدي الغاسل، وكمن انكسر به المركب في لجة البحر وعجز عن السباحة وعن سبب يدنيه من النجاة فههنا يحسن الاستسلام والمسالمة، مع أن عليه في هذا الحكم عبوديات أخر سوى التسليم والمسالمة، وهي أن يشهد عزة الحاكم في حكمه، وعدله في قضائه، وحمكته في جريانه عليه، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 أخطأه لم يكن ليصيبه، وإن الكتاب الأول سيق بذلك قبل بدء الخليفة، فقد جف القلم بما يلقاه كل عبد، فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط، ويشهد أن القدر ما أصابه إلا لحكمة اقتضاها اسم الحكيم جل جلاله وصفته الحكمة، وإن القدر قد أصاب مواقعه وحل في المحل الذي ينبغي له أن ينزل به، وأن ذلك أوجبه عدل الله وحكمته وعزته وعلمه وملكه العادل، فهو موجب أسمائه الحسنى وصفاته العلى، فله عليه أكمل حمد وأتمه، كما له الحمد على جميع أفعاله وأوامره، وإن كان حظ العبد من هذا القدر الذم فحق الرب تعالى منه الحمد والمدح، لأنه موجب كماله وأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وهو موجب نقص العبد وجهله وظلمه وتفريطه، فاقتسم الرب والعبد الحظين في هذا القدر، وكان للرب سبحانه فيه الحمد والنعمة والفضل والثناء الحسن، والعبد حظه الذم واللوم والإساءة واستحقاق العقوبة. استأثر الله بالمحامد والف ... ضل وولى الملامة الرجلا ويتبين هذا المقام في أربع آيات. إحداها قوله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} الثانية قوله: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} الثالثة قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} الرابعة قوله تعالى: {وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْأِنْسَانَ كَفُورٌ} فمن نزل هذه الآيات على هذا الحكم علما ومعرفة وقام بموجبها إرادة وعزما وتوبة واستغفار فقد أدى عبودية الله في هذا الحكم، وهذا قدر زائد على مجرد التسليم والمسالمة، والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 فصل: فى تفسير غنى النفس قوله فى غنى النفس أنه: "استقامتها على المرغوب، وسلامتها من الحظوظ وبراءتها من المراءاة"، يريد استقامتها على الأمر الدينى الذى يحبه الله ويرضاه، وتجنيها لمناهيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 التى يسخطها ويبغضها، وأن تكون هذه الاستقامة على الفعل والترك تعظيما لله سبحانه وأمره، وإيمانا يه، واحتسابا لثوابه، وخشية من عقابه، لا طلبا لتعظيم المخلوقين له ومدحهم، وهربا من ذمهم وازدرائهم، وطلبا للجاه والمنزلة عندهم، فإن هذا دليل على غاية الفقر من الله، والبعد عنه وأنه أفقر شئ إلى المخلوق. فسلامة النفس من ذلك واتصافها بضده دليل غناها، لأنها إذا أذعنت منقادة لأمر الله طوعا واختيارا ومحبة وإيمانا واحتسابا، بحيث تصير لذاتها وراحتها ونعيمها وسرورها فى القيام بعبوديته كما كان النبى صلى الله عليه وسلم يقول: "يا بلال أرحنا بالصلاة"، وقال صلى الله عليه وسلم: "حبِّبَ إِلىَّ منْ دُنياَكُم النسَاءُ والطِّيبُ وجُعِلتْ قُرَّة عَينى فِى الصلاة"، فقرة العين فوق المحبة، فجعل النساء والطيب مما يحب، وأخبر أن قرة العين التى يطمئن القلب بالوصول إليها ومحض لذته وفرحه وسروره وبهجته إنما هو فى الصلاة التى هى صلة بالله وحضور بين يديه ومناجاة له واقتراب منه، فكيف لا تكون قرة العين، وكيف تقر عين المحب بسواها. فإذا حصل للنفس هذا الحظ الجليل فأي فقر يخشى معه، وأي غنى فاتها حتى تلتفت إليه؟ ولا يحصل لها هذا حتى ينقلب طبعها ويصير مجانسا لطبيعة القلب، فتصير بذلك مطمئنة بعد أن كانت لوامة، وإنما تصير مطمئنة بعد تبادل صفاتها وانقلاب طبعها، لاستغناء القلب بما وصل إليه من نور الحق جل جلاله، فجرى أثر ذلك النور في سمعه وبصره وشعره وبشره وعظمه ولحمه ودمه وسائر مفاصله، وأحاط بجهاته من فوقه وتحته ويمينه ويساره وخلفه وأمامه، وصارت ذاته نورا وصار عمله نورا، وقوله نورا، ومدخله نورا ومخرجه نورا وكان في مبعثه ممن انبهر له نوره فقطع به الجسر. وإذا وصلت النفس إلى هذه الحال استغنت بها عن التطاول إلى الشهوات التي توجب اقتحام الحدود المسخوطة، والتقاعد عن الأمور المطلوبة المرغوبة، فإن فقرها إلى الشهوات هو الموجب لها التقاعد عن المرغوب المطلوب، وأيضا فتقاعدها عن المطلوب بينهما موجب لفقرها إلى الشهوات، فكل منهما موجب للآخر، وترك الأوامر أقوى لها من افتقرها إلى الشهوات، فإنه بحسب قيام العبد بالأمر تدفع عنه جيوش الشهوة، كما قال تعالى: {إنَّ الصَّلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} [العنكبوت: 45] ، وقال تعالى: {إنَّ الله يدافع عن الذِينَ آمنُوا} [الحج: 38] ، وفي القراءة الأخرى (يدفَعُ) ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 فكمال الدفع والمدافعة بحسب قوة الإيمان وضعفه، فإذا صارت النفس حرة طيبة مطمئنة غنية بما أغناها به مالكها وفاطرها من النور الذي وقع في القلب ففاض منه إليها استقامت بذلك الغنى على الأمر الموهوب، وسلمت به عن الأمر المسخوط وبرئت من المراءاة، ومدار ذلك كله على الاستقامة باطنا وظاهرا، ولهذا كان الدين كله في قوله تعالى: {فاستقم كما أمرت} [هود: 112] ، وقال سبحانه: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون} [الأحقاف: 13] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 فصل: فيما يغنى القلب ويسدُ الفاقة وهذه الاستقامة ترقيها إِلى الدرجة الثالثة من الغنى، وهو الغنى بالحق تبارك وتعالى عن كل ما سواه، وهى أَعلى درجات الغنى. فأَول هذه الدرجة أَن تشهد ذكر الله عَزَّ وجَلَّ إِياك قبل ذكرك له، وأَنه تعالى ذكرك فيمن ذكره من مخلوقاته ابتداءً قبل وجودك وطاعتك وذكرك، فقدر خلقك ورزقك وعملك وإِحسانه إِليك ونعمه عليك حيث لم تكن شيئاً البتة، وذكرك سبحانه بالإٍِسلام فوفقك له واختارك له دون من خذله، قال تعالى: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج: 78] فجعلك أهلاً لما لم تكن أهلاً له قط، وإِنما هو الذى أَهلك بسابق ذكره، فلولا ذكره لك بكل جميل أَولاكه لم يكن لك إِليه سبيل، ومن الذى ذكرك سواه باليقظة حتى استيقظت وغيرك فى رقدة الغفلة مع النوام؟ ومن الذى ذكرك سواه بالتوبة حتى وفقك لها، وأَوقعها فى قلبك، وبعث دواعيك عليها، وأَحيى عزماتك الصادقة عليها، حتى تُبْتَ إِليه وأَقبلت عليه، فذقت حلاوة التوبة وبردها ولذاتها؟ ومن الذى ذكرك سواه بمحبته حتى هاجت من قلبك لواعجها وتوجهت نحوه سبحانه ركائبها، وعمر قلبك بمحبته بعد طول الخراب، وآنسك بقربه بعد طول الوحشة والاغتراب ومن تقرب إِليك أَولاً حتى تقربت إِليه، ثم أَثابك على هذا التقرب تقرباً آخر فصار التقرب منك محفوفاً بتقربين منه تعالى: تقرب بعده وتقرب قبله، والحب منك محفوفاً بحبين منه: حب قبله وحب بعده، والذكر منك محفوفاً بذكرين: ذكر قبله وذكر بعده، فلولا سابق ذكره إِياك لم يكن من ذلك كله شيء، ولا وصل إِلى قلبك ذرة مما وصل إِليه من معرفته وتوحيده ومحبته وخوفه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 ورجائه والتوكل عليه والإِنابة إِليه والتقرب إِليه، فهذه كلها آثار ذكره لك، ثم إِنه سبحانه ذكرك بنعمه المترادفة المتواصلة بعدد الأَنفاس، فله عليك فى كل طرفة عين ونفس نعم عديدة ذكرك بها قبل وجودك، وتعرف بها إِليك وتحبب بها إِليك مع غناه التام عنك وعن كل شيء، وإِنما ذلك مجرد إِحسانه وفضله وجوده، إِذ هو الجواد المفضل المحسن لذاته لا لمعاوضة ولا لطلب جزاءٍ منك ولا لحاجة دعته إِلى ذلك كيف وهو الغنى الحميد، فإِذا وصل إِليك أَدنى نعمة منه فاعلم أنه ذكرك بها، فلتعظم عندك لذكره لك بها، فإِنه ما حقرك من ذكرك بإِحسانه وابتدأَك بمعروفه وتحبب إِليك بنعمته، هذا كله مع غناه عنك. فإذا شهد العبد ذكر ربه تعالى له، ووصل شاهده إِلى قلبه شغله ذلك عما سواه، وحصل لقلبه به غنى عال لا يشبهه شيء، وهذا كما يحصل للمملوك الذى لا يزال أُستاذه وسيده يذكره ولا ينساه، فهو يحصل له- بشعوره بذكر أُستاذه له- غنى زائد على إِنعام سيده عليه وعطاياه السنية له، فهذا هو غنى ذكر الله للعبد. وقد قال صلى الله عليه وسلم، فيما يروى عن ربه تبارك وتعالى: "مَنْ ذَكرَنِى فى نفسه ذَكَرْتُهُ فِى نَفْسِى، وَمَنْ ذَكَرَنِى فِى مَلأٍ ذَكرْتُهُ فِى مَلأٍ خَيْرٍ مِنْهُ" فهذا ذكر ثان بعد ذكر العبد لربه غير الذكر الأَول الذى ذكره به حتى جعله ذاكراً، وشعور العبد بكلا الذكرين يوجب له غنى زائداً على إِنعام ربه عليه وعطاياه له، وقد ذكرنا فى كتاب- الكلم الطيب والعمل الصالح- من فوائد الذكر استجلاب ذكر الله سبحانه لعبده، وذكرنا قريباً من مائة فائدة تتعلق بالذكر كل فائدة منها لا نظير لها، وهو كتاب عظيم النفع جداً والمقصود أَن شعور العبد وشهوده لذكر الله له يغنى قلبه ويسد فاقته، وهذا بخلاف من نسوا الله فنسيهم، فإن الفقر من كل خير حاصل لهم، وما يظنون أَنه حاصل لهم من الغنى فهو من أَكبر أَسباب فقرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 فصل: فى بيان الدرجة الثانية من درجات الغنى بالله عَزَّ وجَلَّ الدرجة الثانية من درجات الغنى بالله عَزَّ وجَلَّ دوام شهود أَوَّليته تعالى، وهذا الشهود عند أَرباب السلوك أَعلى مما قبله، والغنى به أَتم من الغنى المذكور، لأَنه من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 مباديء الغنى بالحقيقة، لأَن العبد إِذا فتح الله لقلبه شهود أَوليته سبحانه حيث كان ولا شيء غيره، وهو الإِلَه الحق الكامل فى أَسمائه وصفاته، الغنى عما سواه، الحميد المجيدُ بذاته قبل أَن يخلق من يحمده ويعبده ويمجده، فهو معبود محمود حى قيوم له الملك وله الحمد فى الأَزل والأَبد، لم يزل ولا يزال موصوفاً بصفات الجلال، منعوتاً بنعوت الكمال، وكل شيء سواه فإِنما كان به، وهو تعالى بنفسه ليس بغيره فهو القيوم الذى قيام كل شيء به، ولا حاجة به فى قيوميته إِلى غيره بوجه من الوجوه. فإِذا شهد العبد سبقه تعالى بالأولية ودوام وجوده الحق وغاب بهذا عما سواه من المحدثات فنى فى وجوده من لم يكن [كأنه لم يكن] وبقى من لم يزل، واضمحلت الممكنات فى وجوده الأَزلى الدائم بحيث صارت كالظلال التى يبسطها ويمدها ويقبضها، فيستغنى العبد بهذا المشهد العظيم ويتغذى [بها] عن فاقاته وحاجاته. وإِنما كان هذا عندهم أَفضل مما قبله لأَن الشهود الذى قبله فيه شائبة مشيرة إِلى وجود العبد، وهذا الشهود الثانى سائر الموجودات كلها سوى الأَول تعالى قد اضمحلت وفنيت فيه، وصارت كأوليتها وهو العدم، فأَفنتها أَولية الحق [تبارك وتعالى] ، فبقى العبد محواً صرفاً وعدماً محضاً، وإِن كانت انيته مشخصة مشاراً إِليها لكنها لما نسبت إِلى أَولية الحق عَزَّ وجَلَّ اضمحلت وفنيت وبقى الواحد الحق الذى لم يزل باقياً، فاضمحل ما دون الحق تعالى فى شهود العبد كما هو مضمحل فى نفسه، وشهد العبد حينئذ أَن كل شيء ما سواى [الله] باطل، وأَن الحق المبين هو الله وحده، ولا ريب أَن الغنى بهذا الشهود [دائم] من الغنى بالذى قبله، وليس هذا مختصاً بشهود أَوليته تعالى فقط بل جميع ما يبدو للقلوب من صفات الرب [جل جلاله] يستغنى العبد بها بقدر حظه وقسمه من معرفتها وقيامه بعبوديتها. فمن شهد مشهد علو الله على خلقه وفوقيته لعباده واستوائه على عرشه كما أَخبر به أَعرف الخلق وأَعلمهم به الصادق المصدوق وتعبد بمقتضى هذه الصفة بحيث يصير لقلبه صمد يعرج القلب إِليه مناجياً له مطرقاً واقفاً بين يديه وقوف العبد الذليل بين يدى الملك العزيز. فيشعر بأن كلمه وعمله صاعد إِليه معروض عليه مع أَوفى خاصته وأَوليائه، فيستحى أَن يصعد إِليه من كلمه ما يخزيه ويفضحه هناك، ويشهد نزول الأَمر والمراسيم الإِلهية إِلى أَقطار العوالم كل وقت بأَنواع التدبير والمصرف- من الإِماتة والإِحياءِ والتولية والعزل والخفض والرفع والعطاءِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 والمنع وكشف البلاءِ وإِرساله وتقلب الدول ومداولة الأَيام بين الناس- إِلى غير ذلك من [التصرف] فى المملكة التى لا يتصرف فيها سواه، فمراسمه نافذة كما يشاءُ {يُدَبّرُ الأمْرَ مِنَ السّمَآءِ إِلَى الأرْضِ ثُمّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مّمّا تَعُدّونَ} [السجدة: 5] فمن أعطى هذا المشهد حقه معرفة وعبودية استغنى به. وكذلك من شهد مشهد العلم المحيط الذى لا يعزب عنه مثقال ذرة فى الأَرض ولا فى السموات ولا فى قرار البحار ولا تحت أَطباق الجبال بل أَحاط بذلك علمه علماً تفصيلياً ثم تعبد بمقتضى هذا الشهود من حراسة خواطره وإِرادته وجميع أَحواله وعزماته وجوارحه علم أَن حركاته الظاهرة والباطنة وخواطره وإِرادته وجميع أَحواله ظاهرة مكشوفة لديه علانية له بادية لا يخفى عليه منها شيء. وكذلك إِذا أشعر قلبه صفة سمعه تبارك وتعالى لأصوات عباده على اختلافها وجهرها وخفائها [وسواء] عنده من أسرّ القول ومن جهر به لا يشغله جهرُ من جهرَ عن سمعه لصوت من أَسرّ ولا يشغله.. سمع عن سمع ولا تغلطه الأصوات على كثرتها واختلافها واجتماعها بل هى عنده كلها كصوت واحد، كما أن خلق الخلق جميعهم وبعثهم عنده بمنزلة نفس واحدة وكذلك.. إذا شهد معنى اسمه البصير جل جلاله الذى يرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء فى حندس الظلماء، ويرى تفاصيل خلق الذرة الصغيرة ومخها وعروقها ولحمها وحركتها ويرى مد البعوضة جناحها فى ظلمة الليل، وأعطى هذا المشهد حقه من العبودية بحرس حركاتها وسكناتها وتيقن أنها بمرأى منه [تبارك وتعالى] ومشاهدة لا يغيب عنه منها شئ وكذلك إِذا شهد مشهد القيومية الجامع لصفات الأفعال وأنه قائم على كل شيء، وقائم على كل نفس [بما كسبت] ، وأنه تعالى هو القائم بنفسه المقيم لغيره القائم عليه بتدبيره وربوبيته وقهره وإيصال جزاء [المحسن إليه وجزاء المسيء إليه وأنه بكمال قيوميته لا ينام ولا ينبغى له أن] ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل، لا تأخذه سنة ولا نوم ولا يضل ولا ينسى. وهذا المشهد من أرفع مشاهد العارفين، وهو مشهد الربوبية. وأعلى منه مشهد الإلهية الذى هو مشهد الرسل وأتباعهم الحنفاء، وهو شهادة أن لا إله إلا هو وأن إلهية ما سواه باطل ومحال، كما أن ربوبية ما سواه كذلك فلا أحد سواه يستحق أن يؤله ويعبد، ويصلى له ويسجد، ويستحق نهاية الحب مع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 نهاية الذل لكمال أسمائه وصفاته وأفعاله، فهو المطاع وحده على [الحقيقة] ، والمألوه وحده، وله الحكم وحده، فكل عبودية لغيره باطلة وعناء وضلال، وكل محبة لغيره عذاب لصاحبها، وكل غنى لغيره فقر [وفاقة] ، وكل عز بغيره ذل وصغار، وكل تكثر بغيره قلة وذلة، فكما استحال أن يكون للخلق رب غيره فكذلك استحال أن يكون لهم إله غيره، فهو الذى انتهت إليه الرغبات وتوجهت نحوه الطلبات، ويستحيل أن يكون معه إله آخر، فإن الإله على [الحقيقة] هو الغنى الصمد [الكامل فى أسمائه وصفاته الذى حاجة كل أحدٍ إليه] ولا حاجة به إلى أحد، وقيام كل شيء به وليس قيامه بغيره، ومن المحال أن يحصل فى الوجود اثنان كذلك، ولو كان فى الوجود إلهان لفسد نظامه أعظم فساد واختل أعظم اختلال، كما [أنه] يستحيل أن يكون له فاعلان متساويان كل منهما مستقل بالفعل، فإن استقلالهما ينافى استقلالهما واستقلال أحدهما يمنع ربوبية الآخر فتوحيد الربوبية أعظم دليل على توحيد الإلهية، [وذلك] وقع الاحتجاج به فى القرآن أكثر مما وقع بغيره، لصحة دلالته وظهورها وقبول العقول والفطر لها، ولاعتراف أهل الأرض بتوحيد الربوبية، وكذلك كان عباد الأصنام يقرون به وينكرون توحيد الإلهية ويقولون: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلهاً وَاحِداً} [ص: 5] ، مع اعترافهم بأن الله وحده هو الخالق لهم وللسموات والأرض وما بينهما، وأنه المنفرد بملك ذلك كله، فأرسل الله تعالى الرسل يذكر بما فى فطرهم الإقرار به من [توحيده] وحده لا شريك له وأنهم لو رجعوا إِلى فطرهم وعقولهم لدلتهم على امتناع إله آخر معه واستحالته وبطلانه، فمشهد الأُلوهية هو مشهد الحنفاء، وهو مشهد جامع للأَسماء والصفات، ولذلك كان الاسم الدال على هذا المعنى هو اسم الله جل جلاله، فإِن هذا الاسم هو الجامع، ولهذا تضاف الأَسماءُ الحسنى كلها إليه فيقال: الرحمن الرحيم العزيز الغفار القهار من أَسماء الله، ولا يقال: الله من أَسماءِ الرحمن، قال الله تعالى: {وَللهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الأعراف: 180] فهذا المشهد تجتمع فيه المشاهد كلها وكل مشهد سواه، فإنما هو مشهد لصفة من صفاته، فمن اتسع قلبه لمشهد الإِلهية وقام بحقه من التعبد الذى هو كمال الحب بكمال الذل والتعظيم والقيام بوظائف العبودية، فقد تم له غناه بالإِله الحق، وصار من أَغنى العباد، ولسان حال مثل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 هذا يقول: غنيت بلا مال عن الناس كلهم ... وإِن الغنى العالى عن الشيء لا به فياله من غنى ما أَعظم خطره وأَجل قدره، تضاءَلت دونه الممالك فما دونها، وصارت بالنسبة إِليه كالظل من الحامل له، والطيف الموافى فى المنام الذى يأتى به حديث النفس ويطرده الانتباه من النوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 فصل: فى بيان الدرجة الثالثة من درجات الغنى بالرب الدرجة الثالثة من درجات الغنى بالرب [جل جلاله] الفوز بوجوده، هذا الغنى [بالغ] أعلى درجات الغنى، لأَن الغنى الأَول والثانى كانا من آثار ذكر الله والتوجه [إليه] ، ففاض على القلب من صدق التوجه أَنوار الصفات المقدسة، واستغنى القلب بذلك وحصل أَيضاً أَنوار الشعور بكفالته وكفايته لعبده وحسن وكالته وقيوميته بتدبيره وحسن تدبيره فاستغنت النفس بذلك أَيضاً. وأَما هذا الغنى الثالث- الذى هو الغنى بالحق- فهو من آثار وجود الحقيقة، وهو إِنما يكون بعد ترقيه من آثار الصفات إِلى آثار وجود الذات، وإِنما يكون هذا الوجود بعد مكاشفة عين اليقين عندما يطلع فجر التوحيد، فهذا أَوله وكماله عند طلوع شمسه فينقطع ضباب الوجود الفانى وتشرق شمس الوجود الباقى فينقطع لها كل ضباب، وهذا عبارة عن نور يقذف فى القلب يكشف له بذلك النور عن عظمة الذات كما كشف له بالنور الذى قبله عن عظمة الصفات، فإِذا كان أَثر من آثار صفات الذات أَو صفات الأَفعال يغنى القلب والنفس فما ظنك بما تكاشف به الأَرواح من أَنوار قدس الذات المتصفة بالجلال والإكرام فهذا غنى لا يناله الوصف ولا يدخل تحت الشرح فيستغنى العبد الفقير بوجود سيده العزيز الرحيم، فيا لك من فقر ينقضى ومن غنى يدوم ومن عيش أَلذ من المنى، فلا تستعجز نفسك عن البلوغ إِلى هذا المقام فبينك وبينه صدق الطلب، وإِنما هى عزمة صادقة ونهضة حر ممن لنفسه عنده قدر وقيمة يغار عليها أَن يبيعها بالدون، وقد جاءَ فى أثر إلهى يقول الله عَزَّ وجَلَّ: "ابْنَ آدَمَ خَلَقْتُكَ لِنَفْسِى [فلا تلعب وتكفلت برزقك فلا تتعب ابن آدم أطلبنى تجدنى] فَإِن وجدتَنِى وَجَدْتَ كُلَّ شَيءٍ، وَإِنْ فُتَّكَ فَاتَكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 كُل شَيءٍ، وَأَنَا أَحَبُّ إِلَيْكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ"، فمن طلب الله بصدق وجده، ومن [وجده] أغناه وجوده عن كل شيء، فأَصبح حراً فى غنى ومهابة على وجهه أَنواره وضياؤه، وإِن فاته مولاه جل جلاله تباعد ما يرجو وطال عناؤه، ومن وصل إِلى هذا الغنى قرت به كل عين لأنه قد قرت عينه بالله والفوز بوجوده، ومن لم يصل إِليه تقطعت نفسه على الدنيا حسرات، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَصْبَحَ وَالدُّنْيَا أَكْبَرُ هَمِّهِ جَعَلَ اللهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَشَتَّتَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلا مَا قُدِّرَ لَهُ، ومَنْ أَصْبَحَ وَالآخِرَةُ أَكْبَرُ هَمِّهِ جَعَلَ اللهُ غِنَاهُ فِى قَلْبِهِ، وَجَمَعَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِى رَاغِمَةٌ، وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ خَيْرٍ إِليهِ أَسْرَعُ"، فهذا هو الفقر الحقيقى والغنى الحقيقى، وإِذا كان هذا غنى من كانت الآخرة أَكبر همه فكيف من كان الله [عز وجل] أكبر همه، فهذا من باب التنبيه والأَولى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 فصل: فى ذكر كلمات عن أرباب الطريق فى الفقر والغني قال يحيى بن معاذ: الفقر أن لا تستغنى بشيء غير الله ورسمه عدم الأَسباب كلها. قلت: يريد عدمها فى الاعتماد عليها والطمأْنينة بها، بل تصير عدماً بالنسبة إِلى سبق مسببها بالأوَلية، وتفرده بالأَزلية. وسئل محمد بن عبد الله الفرغانى عن الافتقار إِلى الله [تعالى] والاستغناء به فقال: إِذا صح الافتقار إِلى الله تعالى صح الاستغناءُ به، وإذا صح الاستغناءُ به صح الافتقار إِليه، فلا يقال أَيهما أَكمل لأَنه لا يتم أَحدهما إِلا بالآخر. قلت: الاستغناءُ بالله هو عين الفقر إِليه، وهما عبارتان عن معنى واحد، لأَن كمال الغنى به هو كمال عبوديته، وحقيقة العبودية كمال الافتقار إِليه من كل وجه، وهذا الافتقار هو عين الغنى به، فليس هنا شيئان يطلب تفضيل أَحدهما على الآخر، وإِنما يتوهم كونهما شيئين بحسب المستغنى عنه والمفتقر إِليه، فهى حقيقة واحدة ومقام واحد يسمى "غنى" بالنسبة إِلى فراغه عن الموجودات الفانية، و"فقراً" بالنسبة إِلى قصر همته وجمعها على الله [عز وجل] ، فهى همة سافرت عن شيء واتصلت بغيره، فسفرها عن الغير غنى، وسفرها إِلى الله فقر، فإِذا وصلت إِليه استغنت به بكمال فقرها إِليه، إذ يصير لها بعد الوصول فقر آخر غير فقرها الأول، وإِنما يكمل فقرها بهذا الوصول. وسئل رويم عن الفقر فقال: إِرسال النفس فى أَحكام الله تعالى. قلت: إِن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 أَراد الحكم الدينى فصحيح، [أو] إِن أَراد الحكم الكونى القدرى فلا يصح هذا الإِطلاق بل لا بد فيه من التفصيل كما تقدم بيانه. وإِرسال النفس فى أَحكامه التى يسخطها ويبغضها، وإِرسالها فى أَحكامه التى يجب منازعتها ومدافعتها بأَحكامه خروج عن العبودية. وقيل: نعت الفقير ثلاثة أَشياءَ: حفظ سره، وَأَداءُ فرضه وصيانة فقره.. قلت: حفظ السر كتمانه صيانة له من الأَغيار، وغيرة عليه أَن ينكشف لمن لا يعرفه ولا يؤمن عليه. وَأَداءُ الفرض قيام بحق العبودية وصيانة الفقر حفظه عن لوث مساكنة الأَغيار، وحفظه عن كل سبب يفسده وكتمانه ما استطاع. وقال إبراهيم بن أَدهم: طلبنا الفقر فاستقبلنا الغنى، وطلب الناس الغنى فاستقبلهم الفقر. وسئل يحيى بن معاذ عن الغنى فقال: هو الأَمن بالله عَزَّ وجَلَّ. وسئل أَبو حفص: بماذا ينبغى أَن يقدم الفقير على ربه؟ فقال: ما ينبغى للفقير أن يقدم على ربه بشيء سوى فقره. وقال بعضهم: إِن الفقير الصادق ليخشى من الغنى حذراً أَن يدخله فيفسد عليه فقره، كما يخشى الغنى الحريص من الفقر أَن يدخله فيفسد عليه غناه. وقال بشر بن الحارث: أَفضل المقامات اعتقاد الصبر على الفقر إلى القبر. قلت: ومن هاهنا قال القائل: قالوا: غدا العيد ماذا أَنت لابسه؟ ... فقلت: خلعة ساق رحبه جرعا فقر وصبر هما ثوبان تحتهما ... قلب يرى أُلفة الأَعياد والجمعا الدهر لى مأْتم إِن غبت يا أَملى ... والعيد ما دمت لى مرَأى ومستمعا وسئل ابن الجلاءِ: متى يستحق الفقير اسم الفقر؟ فقال: إِذا لم يبق عليه بقية منه. فقيل له: كيف ذلك؟ فقال: إِذا كان له فليس له، وإِذا لم يكن له فهو له. قلت: معنى هذا أَنه لا يبقى عليه بقية من نفسه، فإِذا كان لنفسه فليس لها بل قد أَضاع حقها وضيع سعادتها وكمالها. وإِذا لم يكن لنفسه بل كان كله لربه فقد أحرز كل حظ له وحصل لنفسه سعادتها فإنه إذا كان لله كان الله له، وإذا لم يكن لله لم يكن الله له فكيف تكون نفسه له؟ فهذا من الذين خسروا أَنفسهم. وقيل: حقيقة الفقر أن لا يستغنى الفقير فى فقره بشيء إلا بمن إليه فقره. وقال أَبو حفص: "أحسن ما توسل به العبد إِلى مولاه دوام الفقر إِليه على جميع الأَحوال، وملازمة السنة فى جميع الأَفعال، وطلب القوت من وجه حلال". وقال بعضهم: "ينبغى للفقير أَن لا تسبق همته خطوته". قلت: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 يشير إلى تعلق همته بواجب وقته، وأَنه لا تتخطى همته واجب الوقت قبل إكماله. وأَيضاً يشير إلى قصر أَمله، وأَن همته غير متعلقة بوقت لا يحدّث نفسه ببلوغه وأَيضاً يشير إلى جمع الهمة على حفظ الوقت، وأن لا يضعفها بتقسيمها على الأَوقات. وقيل: أَقل ما يلزم الفقير فى فقره أَربعة أَشياءَ: علم يسوسه، وورع يحجزه، ويقين يحمله، وذكر يؤنسه. وقال أبو سهل الخشاب لمنصور المغربى: إنما هو فقر وذل. فقال منصور: بل فقر وعز. فقال أَبو سهل: فقر وثرى، فقال منصور: بل فقر وعرش. قلت: أَشار أَبو سهل إِلى البداية ومنصور إِلى الغاية. وقال الجنيد: إِذا لقيت الفقير فالقه بالرفق ولا تلقه بالعلم، فإن الرفق يؤنسه والعلم يوحشه. فقلت: يا أَبا القاسم، كيف يكون فقير يوحشه العلم؟ فقال: نعم، الفقير إِذا كان صادقاً فى فقره، فطرحت عليه العلم ذاب كما يذوب الرصاص فى النار. وقال أبو المظفر القرميسينى: الفقير هو الذى لا يكون له إِلى الله حاجة. قال أَبو القاسم القشيرى: وهذا اللفظ فيه أَدنى غموض على من سمعه على وصف الغفلة عن مرمى القوم، وإِنما أَشار قائله إِلى سقوط المطالبات، وانتفاءِ الاختيار، والرضى بما يجريه الحق سبحانه بتارك وتعالى. قلت: وبعد فهو كلام مستدرك خطأٌ فإِن حاجات هذا العبد إِلى الله بعدد الأَنفاس إِذ حاجته ليست كحاجات غيره من أَصحاب الحظوظ والأَقسام، بل حاجات هؤلاءِ فى حاجة هذا العبد كتفلة فى بحر، فإِن حاجته إِلى الله فى كل طرفة عين أَن يحفظ عليه حاله ويثبت قلبه ويرقيه فى مقامات العبودية ويصرف عنه ما يفسدها عليه ويعرفه منازل الطريق ومكامنها وأَوقاتها ويعرفه مواقع رضاه ليفعلها ويعزم عليها ومواقع سخطه ليعزم على تركها ويجتنبها، فأَى حاجات أَكثر وأَعظم من هذه؟ فالصواب أَن يقال: الفقير هو الذى حاجاته إِلى الله بعدد أَنفاسه أَو أَكثر، فالعبد له فى كل نفس ولحظة وطرفة عين عدة حوائج إِلى الله لا يشعر بكثير منها، فأَفقر الناس إِلى الله من شعر بهذه الحاجات وطلبها من معدنها بطريقها، وإِن كان لا بد من إِطلاق تلك العبارة على أَن منها كل بد فيقال: هو الذى لا حاجة له إِلى الله تخالف مرضاته وتحطه عن مقام العبودية إِلى منزلة الاستغناء، وأَما أَن يقال لا حاجة له إِلى الله فشطح قبيح. وأَما حمل أَبِى القاسم لكلامه على إِسقاط المطالبات وانتفاءِ الاختيار والرضى بمجارى الأَقدار فإنما يحسن فى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 بعض الحالات، وهو فى القدر الذى يجرى عليه، بغير اختياره ولا يكون مأْموراً بدفعه ومنازعته بقدر آخر كما تقدم. وأَما إِذا كان مأْموراً بدفعه ومنازعته بقدر هو أَحب إِلى الله منه- وهو مأْمور به أَمر إِيجاب أَو استحباب- فإِسقاط المطالبات وانتفاءُ الاختيار فيه والسعى عين العجز، والله تعالى يلوم على العجز. وقال ابن خفيف: الفقر [عدم الأملاك، والخروج عن أحكام الصفات، قلت: يريد عدم إضافة شيء] إِليه إِضافة ملك، وأَن يخرج عن أَحكام صفات نفسه ويبدلها بأَحكام صفات مالكه وسيده مثاله أَن يخرج عن حكم صفة قدرته واختياره التى توجب له دعوى الملك والتصرف والإِضافات ويبقى بأَحكام صفة القدرة الأَزلية التى توجب له العجز والفقر والفاقة، كما فى دعاءِ الاستخارة: "اللَّهم إِنى أَستخيرك بعلمك، وأَستقدرك بقدرتك وأَسأَلك من فضلك العظيم، فإِنك تقدر ولا أَقدر، وتعلم ولا أَعلم وأَنت علام الغيوب"، فهذا اتصاف بأَحكام الصفات العلى فى العبد، وخروج عن أَحكام صفات النفس. وقال أبو حفص: لا يصح لأَحد الفقر حتى يكون العطاءُ أَحب إِليه من الأَخذ وليس السخاءُ أَن يعطى الواجدُ المعدمَ، وإِنما السخاءُ أَن يعطى المعدمُ الواجدَ. وقال بعضهم: الفقير الذى لا يرى لنفسه حاجة إِلى شيء من الأَشياء سوى ربه تبارك وتعالى. وسئل سهل بن عبد الله: متى يستريح الفقير؟ فقال: إِذا لم ير لنفسه غير الوقت الذى هو فيه. وقال أبو بكر ابن طاهر: من حكم الفقير أَن لا يكون له رغبة، وإِن كان لا بد فلا تجاوز رغبته كفايته وسئل بعضهم عن الفقير الصادق فقال: الذى لا يَملك ولا يُملك وقال ذو النون: دوام الفقر إِلى الله مع التخليط أحب إلى من دوام الصفاء مع العجب والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 فصل: فى تحقيق نعت الفقير فجملة نعت الفقير حقاً أَنه المتخلِّى من الدنيا تطرفاً والمتجافى عنها تعففاً. لا يستغنى بها تكثراً، ولا يستكثر منها تملكاً، وإِن كان مالكاً لها بهذا الشرط لم تضره، بل هو فقير غناه فى فقره، وغنى فقره فى غناه.. ومن نعته أَيضاً أَن يكون فقيراً من حاله وهو خروجه عن الحال تبرياً، وترك الالتفات إِليه تسلياً، وترك مساكنة الأَحوال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 .. ... ... والرجوع عن موافقتها فلا يستغنى بها اعتماداً عليها ولا يفتقر إِليها مساكنة لها. ومن نعته أَنه يعمل على موافقة الله [و] الصبر والرضى والتوكل والإِنابة، فهو عامل على مراد الله منه لا على موافقة هواه وهو تحصيل مراده من الله، فالفقير خالص بكليته لله عز وجل، ليس لنفسه ولا لهواه فى أَحواله حظ ولا نصيب، بل عمله بقيام شاهد الحق وفناءِ شاهد نفسه، قد غيبه شاهد الحق عن شاهد نفسه فهو يريد الله بمراد الله، فمعَّوله على الله، وهمته لا تقف دون شيء سواه، قد فنى بحبه عن حب ما سواه وبأَمره عن هواه وبحسن اختياره له عن اختياره لنفسه، فهو فى واد والناس فى واد خاضع متواضع سليم القلب، سلس القيادة للحق، سريع القلب إِلى ذكر الله، بريء من الدعاوى لا يدعى بلسانه ولا بقلبه ولا بحاله، زاهد فى كل ما سوى الله، راغب فى كل ما يقرب إِلى الله، قريب من الناس أَبعد شيء منهم، يأْنس بما يستوحشون منه ويستوحش مما يأْنسون به، متفرد فى طريق طلبه لا تقيّده الرسوم ولا تملكه العوائد ولا يفرح بموجود لا يأْسف على مفقود، من جالسه قرت عينه به ومن رآّه ذكرته رؤيته بالله سبحانه، قد حمل كله ومؤنته عن الناس، واحتمل أذاهم وكف أذاه عنهم، وبذل لهم نصيحته وسبل لهم عرضه ونفسه لا لمعاوضة ولا لذلة وعجز، لا يدخل فيما لا يعنيه ولا يبخل بما لا ينقصه، وصفه الصدق والعفة والإِيثار والتواضع والحلم والوقار والاحتمال، لا يتوقع لما يبذله للناس منهم عوضاً ولا مدحة، لا يعاتب ولا يخاصم ولا يطالب ولا يرى له على أَحد حقاً ولا يرى له على أَحد فضلاً، مقبل على شأْنه مكرم لإِخوانه بخيل بزمانه حافظ للسانه، مسافر فى ليله ونهاره ويقظته ومنامه لا يضع عصا السير عن عاتقه حتى يصل إِلى مطلبه، قد رفع له علم الحب فشمر إِليه، وناداه داعى الإشتياق فأَقبل بكليته عليه، أَجاب منادى المحبة إِذ دعاه حى على الفلاح، ووصل السرى فى بيداءِ الطلب، فحمد عند الوصول سراه، وإِنما يحمد القوم السرى عند الصباح: فحى على جنات عدن فإِنها ... منازلك الأُولى وفيها المخيم ولكننا سبى العدو، فهل تري ... نعود إِلى أَوطاننا ونسلم وحى على روضاتها وخيامها ... وحى على عيش بها ليس يسأم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 وحى على يوم المزيد وموعد ال ... المبين، طوبى للذى هو منهم وحى على واد بها هو أَفيح ... وتربته من أذفر المسك أعظم ومن حولها كثبان مسك مقاعد ... لمن دونهم هذا الفخار المعظم يرون به الرحمن جل جلاله ... كرؤية بدر التم لا يتوهم أَو الشمس صحواً ليس من دون أُفقها ... ضباب ولا غيم هناك يغيم وبينا فى عيشهم وسرورهم ... وأَرزاقهم تجرى عليهم وتقسم إِذا هم بنور ساطح قد بدا لهم ... فقيل ارفعوا أبصاركم، فإِذا هم بربهم من فوقهم وهو قائل: ... سلام عليكم طبتم وسلمتم فيا عجبا، ما عذر من هو مؤمن ... بهذا ولا يسعى له ويقدم فبادر إِذا ما دام فى العمر فسحة ... وعدلك مقبول وصرفك قيم فما فرحت بالوصل نفس مهينة ... ولا فاز قلب بالبطالة ينعم فجدَّ وسارع واغتنم ساعة السري ... ففى زمن الإِمكان [تسعى وتغنم] وسر مسرعاً فالسير خلفك مسرع ... وهيهات ما منه مفر ومهزم فهن المنأيا أى واد نزلته ... عليها [قدوم] أو عليك ستقدم وإن تك قد عاقتك سعدى فقلبك ال ... معنى رهين فى يديها مسلم وقد ساعدت بالوصل غيرك فالهوى ... لها منك [والواشى] بها يتنعم فدعها وسلّ النفس عنها بجنة ... من الفقر فى روضاتها الدر [يبسم] ومن تحتها الأنهار تخفق دائماً ... وطير الأَمانى فوقها يترنم وقد ذللت منها القطوف فمن يرد ... جناها ينله كيف شاءَ وينعم وقد فتحت أبوابها وتزينت ... لخطابها فالحسن فيها [مقسم] [أقام علي] أبوابها داعى الهدي ... هلموا إِلى دار السعادة تغنموا وقد طاب منها نزلها ومقيلها ... فطوبى لمن حلوا بها وتنعموا وقد غرس الرحمن فيها غراسه ... من الناس، والرحمن بالغرس أعلم فمن كان من غرس الإِله فإنه ... سعيد وإلا فالشقا متحتم فيا مسرعين السير بالله ربكم ... قفوا بى على تلك الربوع وسلموا وقولوا: محب قاده الشوق نحوكم ... قضى نحبه فيكم [تعيشوا وتسلموا] قضى الله رب العالمين قضية ... بأَن الهوى يعمى القلوب ويبكم وحبكم أَصل الْهدى ومداره ... عليه وفوز للمحب ومغنم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 وتفنى عظام الصب بعد مماته ... وأَشواقه وقف عليه محرم فيا أَيها القلب الذى ملك الهوي ... أَعنته، حتام هذا التلوُّم وحتام لا تصحو وقد قرب المدي ... ودقت كئوس السير والناس نوم بلى سوف تصحو حين ينكشف الغطا ... ويبدو لك الأَمر الذى كنت تكتم ويا موقداً ناراً لغيرك ضؤوها ... وحر لظاها بين جنبيك يضرم أهذا جنى العلم الذى قد غرسته ... وهذا الذى قد كنت ترجوه تطعم وهذا هو الحظ الذى قد رضيته ... لنفسك فى الدارين لو كنت تفهم وهذا هو الربح الذى قد كسبته ... لعمرك لا ربح ولا الأَصل يسلم بخلت بشيء لا يضرك بذله ... وجدت بشيءٍ مثله لا يقتوَّم وبعت نعيماً لا انقضاءَ له ولا ... نظبر ببخس عن قليل سيعدم فهلا عكست الأَمر إن كنت حازماً ... ولكن أَضعت الحزم إن كنت تعلم وتهدم ما تبنى بكفك جاهداً ... فأنت مدى الأَيام تبنى وتهدم وعند مراد الحق تفنى كميت ... وعند مراد النفس تسدى وتلحم وعند خلاف الأَمر تحتج بالقضا ... ظهيراً على الرحمن للجبر تزعم تنزه تلك النفس عن سوء فعلها ... وتغتاب أَقدار الإله وتظلَم وتزعم مع هذا بأنك عارف ... كذبت يقيناً فى الذى أنت تزعم وما أنت إلا جاهل ثم ظالم ... وإِنك بين الجاهلين مقدم إذا كان هذا نصح عبد لنفسه ... فمن ذا الذى منه الهدى يتعلم وفى مثل هذا كان قد قال من مضي ... وأحسن فيما قاله المتكلم فإن كنت لا تدرى فتلك مصيبة ... وإن كنت تدرى فالمصيبة أَعظم ولو تبصر الدنيا وراءَ ستورها ... رأَيت خيالاً فى منام سيصرم كحلم بطيف زار فى النوم وانقضى ال ... منام وراح الطيف والصب معرم وظل أَرته الشمس عند طلوعها ... سيقلص فى وقت الزوال ويفصم ومزنة صيف طاب منها مقيلها ... فولت سريعاً والحرور تضرّم فجزها ممراً لا مقراً، وكن بها ... غريباً تعش فيها حميداً وتسلم أو ابن سبيل قال فى ظل دوحة ... وراح وخلى ظلها يتقسم أخا سفر لا يستقر قراره ... إلى أَن يرى أَوطانه يسلم فيا عجباً كم مصرح عطبوا به ... بنوها ولكن عن مصارعها عموا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 سقتهم بكأْس الحب حتى إذا انثنوا ... سقتهم كئوس السم والقوم قد ظموا وأعجب ما فى العبد رؤية هذه ال ... عظائم منها وهو فيها متيم وأَعجب من ذا أَن أَحبابها الأْلي ... تهين وللأعداء تراعى وتكرم وذلك برهان على أَن قدرها ... جناح بعوض أَو أَدق وأَلأَم وحسبك ما قال الرسول ممثلاً ... لها ولدار الخلد والحق يفهم كما يدخل الإنسان فى اليم إصبعا ... وينزعها منه فما ذاك يغنم أَلا ليت شعرى هل أَبيتن ليلة ... على حذر منها وأَمرى محكم وهل أَردن ماءَ الحياة وأَرتوي ... على ظمأ من حوضه وهو مفعم وهل تبدون أَعلامهم بعد ما سفت ... عليها السوافى تستبين وتعلم وهل أفرشن خدى ثرى عتباتهم ... خضوعاً لهم كيما يرقوا ويرحموا وهل أَرين نفسى طريحاً ببابهم ... وطير أَمانى الحب فوقى تحوّم فوا أَسفى تفنى الحياة وتنقضي ... وعتبكم باق، بقيتم وعشتم فما منكم بد ولا عنكم غني ... وما لى من صبر فأَسلوَ عنكم فمن شاءَ فليغضب سواكم فلا أَذي ... إِذا كنتم عن عبدكم قد رضيتم وعقبى اصطبارى فى رضاكم هوى لكم ... حميد ولكنه عقاب ومغرم وما أَنا بالشاكى لما ترتضونه ... ولكننى أَرضى به وأُسلم وحسبى انتسابى من بعيد إِليكم ... وذلك حظ مثله يتيمم إِذا قيل هذا عبدهم ومحبهم ... تهلل بشراً ضاحكاً يتبسم وها هو قد أَبدى الضراعة قائلاً ... لكم بلسان الحال والحال يعلم أَحبتنا عطفاً علينا فإِننا ... بنا ظمأُ، والمورد العذب أَنتم فيا ساهياً فى غمرة الجهل والهوى ... صريع الأَمانى عن قليل ستندم أَفق قد دنا الوقت الذى ليس بعده ... سوى جنة أَو حر نار تضرم وبالسنة الغراءِ كن متمسكاً ... هى العروة الوثقى التى ليس تفصم تمسك بها مسك البخيل بماله ... وعض عليها بالنواجذ تسلم وإِياك مما أَحدث الناس بعدها ... فمرتع هاتيك الحوادث أَوخم وهيء جواباً عندما تسمع الندا ... من الله يوم العرض: ماذا أجبتم به رسلى لما أَتوكم، فمن يجب ... سواهم سيخزى عند ذاك ويندم وخذ من تقى الرحمن أَسبغ جنة ... ليوم به تبدو عياناً جهنم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 وينصباك الجسر من فوق متنها ... فهاوٍ ومخدوش وناج مسلم ويأْتى إله العالمين لوعده ... فيفصل ما بين العباد ويحكم ويأْخذ للمظلوم إِذ ذاك حقه ... فيا ويح من قد كان للخلق يظلم وينشر ديوان الحساب وتوضع ال ... موازين بالقسط الذى ليس يظلم فلا مجرم يخشى هناك ظلامة ... ولا محسن من أجره الذر يهضم وتشهد أَعضاءُ المسيء بما جني ... لذاك على فيه المهيمن يختم ويا ليت شعرى كيف حالك عندما ... تطاير كتب العالمين وتقسم أتأْخذ باليمنى كتابك أَم تري ... بيسراك خلف الظهر منك يسلم وتقرأُ فيه كل شيء عملته ... فيشرق منك الوجه أَو هو يظلم تقول كتابى هاؤمُ اقرؤُوه لي ... تبشر بالجنات حقاً وتعلم وإِن تكن الأُخرى فإِنك قائل ... ألا ليتنى لم أَوته فهو مغرم فلا والذى شق القلوب وأَودع ال ... محبة فيها حيث لا تتصرم وحملها قلب المحب وإِنه ... ليضعف عن حمل القميص ويأْلم وذللها حتى استكانت لصولة ال ... محبة لا تلوى ولا تتلعثم وذلل فيها أَنفساً دون ذلها ... حياض المنايا فوقها هى حوم لقد فاز أَقوام وحازوا مرابحا ... بتركهم الدنيا والإقبال منهم على ربهم طول الحياة وحبهم ... على نهج ما قد سنه فهم هم قاعدة شريفة عظيم القدر حاجة العبد إِليها أَعظم من حاجته إِلى الطعام والشراب والنفس بل وإِلى الروح التى بين جنبيه. اعلم أَن كل حى سوى الله فهو فقير إِلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره، والمنفعة للحى من جنس النعيم، واللذة والمضرة من جنس الأَلم والعذاب. فلابد من أَمرين: أحدهما: هو المطلوب المقصود المحبوب الذى ينتفع به ويتلذذ به، والثانى: هو المعين الموصل المحصل لذلك المقصود والمانع لحصول المكروه والدافع له بعد وقوعه. فها هنا أَربعة أَشياءَ: أَمر محبوب مطلوب الوجود، والثانى أمر مكروه مطلوب العدم، والثالث الوسيلة إِلى حصول المحبوب، والرابع الوسيلة إلى دفع المكروه. فهذه الأُمور الأَربعة ضرورية للعبد بل ولكل حى سوى الله، لا يقوم صلاحه إِلا بها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 إِذا عرف هذا فالله سبحانه وتعالى هو المطلوب المعبود المحبوب وحده لا شريك له وهو وحده المعين للعبد على حصول مطلوبه، فلا معبود سواه ولا معين على المطلوب غيره، وما سواه هو المكروه المطلوب بعده وهو المعين على دفعه، فهو سبحانه الجامع للأُمور الأَربعة دون ما سواه، وهذا معنى قول العبد: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِين} [الفاتحة: 5] ، فإن هذه العبادة تتضمن المقصود المطلوب على أكمل الوجوه، والمستعان هو الذى يستعان به على حصول المطلوب ودفع المكروه. فالأَول من مقتضى أُلوهيته، والثانى من مقتضى ربوبيته، لأَن الإِله هو الذى يؤله فيعبد محبة وإِنابة وإِجلالاً وإِكراماً، والرب هو الذى يرب عبده فيعطيه خلقه ثم يهديه إِلى جميع أَحواله ومصالحه التى بها كماله، ويهديه إِلى اجتناب المفاسد التى بها فساده وهلاكه. وفى القرآن سبعة مواضع تنتظم هذين الأَصلين: أحدها قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِيْنُ} [الفاتحة: 5] ، الثانى قوله تعالى: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88] [الشورى: 10] ، الثالث قوله تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123] ، الرابع قوله تعالى: {عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا} [الممتحنة: 4] ، الخامس قوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَى الَّذِى لا يُمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} [الفرقان: 58] ، السادس قوله: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَاب} [الرعد: 30] ، السابع قوله: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً رَبُّ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} [المزمل: 8- 9] ، ومما يقرر هذا أن الله خلق الخلق لعبادته الجامعة لمعرفته والإنابة إليه ومحبته والإخلاص له، فبذكره تطمئن قلوبهم وبرؤيته فى الآخرة تقر عيونهم، ولا شيء يعطيهم فى الآخرة أحب إِليهم من النظر إِليه، ولا شيء يعطيهم فى الدنيا أَحب إِليهم من الإيمان به ومحبتهم له ومعرفتهم به، وحاجتهم إِليه فى عبادتهم له وتأَلههم له كحاجتهم إِليه بل أَعظم فى خلقه وربوبيته لهم ورزقه لهم، فإِن ذلك هو الغاية المقصودة التى بها سعادتهم وفوزهم، وبها ولأَجلها يصيرون عاملين متحركين، ولا صلاح لهم ولا فلاح ولا نعيم ولا لذة ولا سرور بدون ذلك بحال، فمن أَعرض عن ذكر ربه فإِن له معيشة ضنكاً، ويحشره يوم القيامة أَعمى، ولهذا لا يغفر الله لمن يشرك به شيئاً ويغفر ما دون ذلك لمن يشاءُ، ولهذا كانت: "لا إِله إِلا الله" أفضل الحسنات. وكان توحيد الإِلهية الذى كلمته لا إله إلا الله رأْس الأَمر، فأَما توحيد الربوبية الذى أَقر به كل المخلوقات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 فلا يكفى وحده، وإِن كان لا بد منه، وهو حجة على من أَنكر توحيد الأُلوهية. "فحق الله على العباد أَن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً وحقهم عليه إِذا فعلوا ذلك أَن لا يعذبهم"، وأَن يكرمهم إِذا قدموا عليه، وهذا كما أَنه غاية محبوب العبد ومطلوبه وبه سروره ولذته ونعيمه فهو أَيضاً محبوب الرب من عبده ومطلوبه الذى يرضى به، ويفرح بتوبة عبده إذا رجع إليه وإلى عبوديته وطاعته أعظم من فرح من وجد راحلته التى عليها طعامه وشرابه فى أرض مهلكة بعد أن فقدها وأيس منها، وهذا أعظم فرح يكون، وكذلك العبد فلا فرح له أعظم من فرحه بوجود ربه وأُنسه به وطاعته له وإِقباله عليه وطمأنينته بذكره وعمارة قلبه بمعرفته والشوق إِلى لقائه، فليس فى الكائنات ما يسكن العبد إِليه ويطمئن به ويتنعم بالتوجه إِليه إِلا الله سبحانه، ومن عبد غيره وأَحبه- وإِن حصل له نوع من اللَّذة والمودَّة والسكون إِليه والفرح والسرور بوجوده- ففساده به ومضرته وعطبه أَعظم من فساد أكل الطعام المسموم اللذيذ الشهى الذى هو عذب فى مبدئه عذاب فى نهايته كما قال القائل: مآرب كانت فى الشباب لأهلها ... [عذاباً] فصارت فى المشيب عَذَاباً {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاّ اللهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللهِ رَبّ الْعَرْشِ عَمّا يَصِفُونَ} [الأنبياء: 22] ، فإن قوام السموات والأرض والخليقة بأن تأله الإله الحق، فلو كان فيهما إله آخر غير الله لم يكن إلهاً حقاً، إذ الإله الحق لا شريك له ولا سمى له ولا مثل له، فلو تأَلهت غيره لفسدت كل الفساد بانتفاء ما به صلاحها، إذ صلاحها بتأَله الإله الحق كما أَنها لا توجد إلا باستنادها إلى الرب الواحد القهار ويستحيل أَن تستند فى وجودها إِلى ربين متكافئين، فكذلك يستحيل أَن تستند فى بقائها وصلاحها إِلى إِلهين متساويين. إِذا عرف هذا فاعلم أَن حاجة العبد إِلى أن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً فى محبته ولا فى خوفه ولا فى رجائه ولا فى التوكل عليه ولا فى العمل له ولا فى الحلف به ولا فى النذر له ولا فى الخضوع له ولا فى التذلل والتعظيم والسجود والتقرب أَعظم من حاجة الجسد إِلى روحه والعين إِلى نورها. بل ليس لهذه الحاجة نظير تقاس به، فإِن حقيقة العبد روحه وقلبه ولا صلاح لها إِلا بإلهها الذى لا إِله إِلا هو، فلا تطمئن فى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 الدنيا إِلا بذكره وهى كادحة إِليه كدحاً فملاقيته، ولا بد لها من لقائه، ولا صلاح لها إِلا بمحبتها وعبوديتها له ورضاه وإِكرامه لها ولو حصل للعبد من اللذات والسرور بغير الله ما حصل لم يدم له ذلك. بل ينتقل من نوع إِلى نوع ومن شخص إِلى شخص ويتنعم بهذا فى وقت ثم يتعذب به ولا بد فى وقت آخر، وكثيراً ما يكون ذلك الذى يتنعم به ويلتذ به غير منعم له ولا ملذ، بل قد يؤذيه اتصاله به ووجوده عنده ويضره ذلك، وإنما يحصل له بملابسته من جنس ما يحصل للجرب من لذة الأَظفار التى تحكه، فهى تدمى الجلد وتخرقه وتزيد فى ضرره، وهو يؤثر ذلك لما له فى حكها من اللذة، وهكذا ما يتعذب به القلب من محبة غير الله هو عذاب عليه ومضرة وأَلم فى الحقيقة لا تزيد لذته على لذة حك الجرب، والعاقل يوازن بين الأَمرين ويؤثر أَرجحهما وأَنفعهما، والله الموفق المعين، وله الحُجَّة البالغة كما له النعمة السابغة. والمقصود أَن إِله العبد الذى لا بد له منه فى كل حالة وكل دقيقة وكل طرفة عين فهو الإِله الحق الذى كل ما سواه باطل، والذى أَينما كان فهو معه، وضرورته إليه وحاجته إِليه لا تشبهها ضرورة ولا حاجة بل هى فوق كل ضرورة وأَعظم من كل حاجة، ولهذا قال إِمام الحنفاء: {لآ أُحِبّ الاَفِلِينَ} [الأنعام:76] والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 فصل: فى بيان أصلين عظيمين مبنى عليهما ما تقدم وهذا مبنى على أصلين: أحدهما: أن نفس الإِيمان بالله وعبادته ومحبته وإخلاص العمل له وإفراده بالتوكل عليه هو غذاءُ الإِنسان وقوته وصلاحه وقوامه، كما عليه أَهل الإيمان، وكما دل عليه القرآن، لا كما يقوله من يقول: إن عبادته تكليف ومشقة على خلاف مقصود القلب ولذته بل لمجرد الامتحان والابتلاء كما يقوله منكرو الحكمة والتعليل، أو لأجل التعويض بالأجر لما فى إيصاله إليه بدون معاوضة منه تكدره، أو لأجل تهذيب النفس ورياضتها واستعدادها لقبول العقليات كما يقوله من يتقرب إلى النبوات من الفلاسفة بل الأمر أعظم من ذلك كله وأجل، بل أوامر المحبوب قرة العيون وسرور القلوب ونعيم الأرواح ولذات النفوس وبها كمال النعيم، فقرة عين المحب فى الصلاة والحج، وفرح قلبه وسرره ونعيمه فى ذَلِكَ وفى الصيام والذكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 والتلاوة، وأَما الصدقة فعجب من العجب، وأما الجهاد والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، والدعوة إِلى الله والصبر على أعداء الله سبحانه، فاللذة بذلك أمر آخر لا يناله الوصف ولا يدركه من ليس له نصيب منه، وكل من كان به أقوم كان نصيبه من الالتذاذ به أعظم، ومن غلظ فهمه وكثف طبعه عن إدراك هذا فليتأَمل إِقدام القوم على قتل آبائهم وأَبنائهم وأَحبابهم ومفارقة أَوطانهم وبذل نحورهم لأَعدائهم ومحبتهم للقتل وإيثارهم على البقاءِ وإيثار لوم اللائمين وذم المخالفين على مدحهم وتعظيمهم، ووقوع هذا من البشر بدون أَمر يذوقه من حلاوته ولذته وسروره ونعيمه ممتنع، والواقع شاهد بذلك، بل ما قام بقلوبهم من اللَّذة والسرور والنعيم أَعظم مما يقوم بقلب العاشق الذى يتحمل ما يتحمله فى موافقة رضى معشوقه، فهو يلتذ به ويتنعم به لما يعلم من سرور معشوقة به: فيا منكراً هذا تأَخر فإِنه ... حرام على الخفاش أَن يبصر الشمسا فمن كان مراده وحبه الله، وحياته فى معرفته ومحبته فى التوجه إِليه وذكره، وطمأْنينته به وسكونه إِليه وحده عرف هذا وأَقر به. الأصل الثانى: كمال النعيم فى الدار الآخرة أَيضاً به سبحانه وتعالى: برؤيته وسماع كلامه وقربه ورضوانه لا كما يزعم من يزعم أَنه لا لذة فى الآخرة إِلا بالمخلوق من المأْكول والمشروب والملبس والمنكوح، بل اللّذة والنعيم التام فى حظهم من الخالق تعالى أعظم وأعظم ما يخطر بالبال أَو يدور فى الخيال، وفى دعاءِ النبى صلى الله عليه وسلم الذى رواه الإِمام أَحمد فى مسنده وابن حبان والحاكم فى صحيحيهما: "أَسْأَلُكَ لَذَّةَ الْنَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقِ إِلَى لِقَائِكَ، فِى غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَفِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ" ولهذا قال تعالى فى حق الكفار: {كَلاّ إِنّهُمْ عَن رّبّهِمْ يَوْمَئِذٍ لّمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ} [المطففين: 15- 16] ، فعذاب الحجاب من أَعظم أَنواع العذاب الذى يعذب به أَعداءَه، ولذة النظر إِلى وجه الله الكريم أَعظم أَنواع اللذات التى ينعم بها أَولياؤه، ولا تقوم حظوظهم من سائر المخلوقات مقام حظهم من رؤيته وسماع كلامه والدنو منه وقربه. وهذان الأَصلان ثابتان بالكتاب والسُّنَّة، وعليهما أَهل العلم والإِيمان، ويتكلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 فيهما مشايخ الطريق العارفون وعليهما أَهل السُّنَّة والجماعة، وهما من فطرة الله التى فطر الناس عليها، ويحتجون على من ينكرهما بالنصوص والآثار تارة وبالذوق والوجد وبالفطرة تارة وبالقياس والأَمثال تارة. وقد ذكرنا مجموع هذه الطرق فى كتابنا الكبير فى المحبة الذى سميناه "المورد الصافى، والظل الضافى" فى المحبة وأَقسامها وأَنواعها وأَحكامها وبيان تعلقها بالإله الحق دون ما سواه، وذكرنا من ذلك ما يزيد على مائة وجه. ومما يوضح ذلك ويزيده تقريراً أَن المخلوق ليس عنده للعبد نفع ولا بضر ولا عطاء ولا منع بل ربه سبحانه الذى خلقه ورزقه وبصره وهداه وأَسبغ عليه نعمة وتحبب إليه بها مع غناه عنه ومع تبغض العبد إِليه بالمعاصى مع فقره إِليه، فإِذا مسه الله بضر فلا كاشف له إِلا هو، وإِذا أَصابه بنعمه فلا رادَّ لها ولا مانع كما قال تعالى: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرّحِيمُ} [يونس: 107] ، و {مّا يَفْتَحِ اللهُ لِلنّاسِ مِن رّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [فاطر: 2] ، فالعبد لا ينفع ولا يضر ولا يعطى ولا يمنع إِلا بإِذن الله، فالأَمر كله لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً، هو مقلب القلوب ومصرفها كيف يشاءُ، المتفرد بالضر والنفع والعطاءِ والمنع والخفض والرفع، ما من دابة إِلا هو آخذ بناصيتها، أَلا له الخلق والأَمر تبارك الله رب العالمين، وهذا الوجه أَعظم لعموم الناس من الوجه الأَول، ولهذا خوطبوا به فى القرآن أَكثر من الأَول، لكن من تدبر طريقة القرآن تبين له أَن الله سبحانه يدعو عباده بهذا الوجه إِلى لأول، فهذا الوجه يقتضى التوكل على الله والاستعانة به والدعاءَ له ومسألته دون ما سواه، ويقتضى أيضاً محبته وعبادته لإِحسانه إِلى عبده وإِسباغ نعمه عليه، فإِذا عبده وأَحبه وتوكل عليه من هذا الوجه دخل فى الوجه الأَول. وهكذا كمن نزل به بلاءٌ عظيم وفاقة شديدة أَو خوف مقلق فجعل يدعو الله ويتضرع إِليه حتى فتح له من لذيذ مناجاته له باب الإِيمان به والإِنابة إِليه وما هو أَحب إِليه من تلك الحاجة التى قصدها أولا لكنه لم يكن يعرف ذلك أَولا حتى يطلبه ويشتاق إِليه فعرفه إِياه بما أَقامه له من الأَسباب التى أَوصلته إِليه. والقرآن مملوء من ذكر حاجة العباد إِلى الله دون ما سواه ومن ذكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 نعمائه عليهم، ومن ذكر ما وعدهم به فى الآخرة من صنوف النعيم واللذات، وليس عند المخلوق شيء من هذا. فهذا الوجه يحقق التوكل على الله والشكر له ومحبته على إِحسانه. ومما يوضح ذلك ويقويه أَن فى تعلق العبد بما سوى الله مضرة عليه إِذا أَخذ منه القدر الزائد على حاجته المعينة له على عبودية الله ومحبته وتفريغ قلبه له، فإِنه إِن نال من الطعام الشراب فوق حاجاته ضره أَو أَهلكه، وكذلك من النكاح واللباس، وإِن أَحب شيئاً بحيث يُخالِلُهُ فلا بد أَن يسأَمه أَو يفارقه، فالضرر حاصل له إِن وجد أَو فقد، فإِن فقد تعذب بالفراق وتَأَلم، وإِن وجد فإِنه يحصل له من الأَلم أَكثر مما يحصل له من اللذة. وهذا أَمر معلوم بالاعتبار والاستقراء أَن كل من أَحب شيئاً دون الله لغير الله فإِن مضرته أَكثر من منفعته وعذابه أَعظم من نعيمه، ويزيد ذلك إيضاحاً أَن اعتماده على المخلوق وتوكله عليه يوجب له الضرر من جهته، فإِنه يخذل من تلك الجهة. وهذا أيضاً معلوم بالاعتبار والاستقراء فأَنه ما علق العبد رجاءَه وتوكله بغير الله إِلا خاب من تلك الجهة، ولا استنصر بغيره إِلا خذل، قال تعالى: {وَاتّخَذُواْ مِن دُونِ اللهِ آلِهَةً لّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً كَلاّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} [مريم: 81- 82] ، وقال تعالى: {وَاتّخَذُواْ مِن دُونِ اللهِ آلِهَةً لّعَلّهُمْ يُنصَرُونَ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مّحْضَرُونَ} [يس: 74-75] . وقال تعالى عن إِمام الحنفاء أَنه قال للمشركين: {إِنّمَا اتّخَذْتُمْ مّن دُونِ اللهِ أَوْثَاناً مّوَدّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا ثُمّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [العنكبوت: 25] ، ولما كان غاية صلاح العبد فى عبادة الله وحده واستعانته وحده كان فى عبادة غيره والاستعانة بغيره غاية مضرته. ومما يوضح الأَمر فى ذلك ويبينه أَن الله سبحانه غنى حميد كريم رحيم، فهو محسن إِلى عبده مع غناه عنه يريد به الخير ويكشف عنه الضر، لا لجلب منفعة إِليه سبحانه ولا لدفع مضرة، بل رحمة وإِحساناً وجوداً محضاً فإنه رحيم لذاته محسن لذاته جواد لذاته كريم لذاته كما أَنه غنى لذاته قادر لذاته حى لذاته، فإِحسانه وجوده وبره ورحمته من لوازم ذاته لا يكون إِلا كذلك، كما أَن قيامه قدرته وغناه من لوازم ذاته فلا يكون إِلا كذلك، وأَما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 العباد فلا يتصور أَن يحسنوا إِلا لحظوظهم، فأَكثر ما عندهم للعبد أَن يحبوه ويعظموه ليجلبوا له منفعة ويدفعوا عنه مضرة، وذلك من تيسير الله وإِذنه لهم به، فهو فى الحقيقة ولى هذه النعمة ومسديها ومجريها على أَيديهم، ومع هذا فإِنهم يفعلون ذلك إِلا لحظوظهم من العبد، فإنهم إذا أحبوه طلبوا أن ينالوا غرضهم من محبته سواءٌ أَحبوه لجماله الباطن أَو الظاهر فإِذا أَحبوا الأَنبياءَ والأَولياءَ فطلبوا لقاءَهم فهم يحبون التمتع برؤيتهم وسماع كلامهم ونحو ذلك، وكذلك من أَحب إِنساناً لشجاعته أَو رياسته أَو جماله أَو كرمه فهو يحب أَن ينال حظه من تلك المحبة ولولا التذاذه بها لما أَحب ذلك، وإِن جلبوا له منفعة أَو دفعوا عنه مضرة- كمرض وعدو- ولو بالدعاءِ فهم يطلبون العوض إِذا لم يكن العمل لله، فأَجناد الملوك وعبيد المماليك وأَجراءُ المستأْجر وأَعوان الرئيس كلهم إِنما يسعون فى نيل أَغراضهم به، لا يعرج أَكثرهم على قصد منفعة المخدوم إِلا أَن يكون قد علم وهذب من جهة أُخرى فيدخل ذلك فى الجهة الدينية، أَو يكون فيه طبع عدل وإِحسان من باب المكافأَة والرحمة، وإِلا فالمقصود بالقصد الأَول هو منفعة نفسه، وهذا من حكمة الله التى أقام بها مصالح خلقه إِذ قسم بينهم معيشتهم فى الحياة الدنيا ورفع بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 فصل: فى بيان منفعة الحق، ومنفعة الخلق، وما بينهما من التباين إِذا تبين هذا ظهر أَن أَحداً من المخلوقين لا يقصد منفعتك بالمقصد الأَول، بل إِنما يقصد منفعته بك، وقد يكون عليك فى ذلك ضرر إِذا لم يراع المحب العدل، فإِذا دعوته فقد دعوت من ضرُّه أَقرب من نفعه. وأَما الرب تبارك وتعالى فهو يريدك لك ولمنفعتك لا لينتفع بك، وذلك منفعة لك محضة لا ضرر فيها، فتدبر هذا حق التدبر وراعه حق المراعاة، فملاحظة تمنعك أَن ترجو المخلوق أَو تطلب منه منفعته لك فإِنه لا يريد ذلك البتة بالقصد الأَول، بل إِنما يريد انتفاعه بك عاجلاً أَو آجلاً، فهو يريد نفسه لا يريدك، ويريد نفع نفسه بك لا نفعك بنفسه، فتأَمل ذلك فإن فيه منفعة عظيمة وراحة ويأْساً من المخلوقين، سداً لباب عبوديتهم وفتحاً لباب عبودية الله وحده، فما أَعظم حظ من عرف هذه المسأَلة ورعاها حق رعايتها. ولا يحملنك هذا على جفوة الناس وترك الإِحسان إِليهم واحتمال أَذاهم، بل أَحسن إِليهم لله لا لرجائهم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 فكما لا تخافهم فلا ترجوهم، ومما يبين ذلك أَن غالب الخلق يطلبون إِدراك حاجتهم بك وإِن كان ذلك ضرراً عليك، فإِن صاحب الحاجة أعمى لا يرى إلا قضاءَها، فهم لا يبالون بمضرتك إِذا أَدركوا منك حاجتهم، بل لو كان فيها هلاك دنياك وآخرتك لم يبالوا بذلك. وهذا إِذا تدبره العاقل علم أَنه عداوة فى صورة صداقة، وأَنه لا أَعدى للعاقل اللبيب من هذه العداوة، فهم يريدون أن يصيروك كالكير ينفخ بطنك ويعصر أَضلاعك فى نفعهم ومصالحهم، بل لو أَبيح لهم أَكلك لجزروك كما يجزرون الشاة، وكم يذبحونك كل وقت بغير سكين [لمصالحهم] ، وكم اتخذوك جسراً ومعبراً لهم إِلى أَوطارهم وأَنت لا تشعر، وكم بعت آخرتك بدنياهم وأَنت لا تعلم، وربما علمت. وكم بعت حظك من الله بحظوظهم منك ورحت صفر اليدين، وكم فَوَّتُوا عليك من مصالح الدارين وقطعوك عنها وحالوا بينك وبينها، وقطعوا طريق سفرك إِلى منازلك الأُولى ودارك التى دعيت إِليها وقالوا: نحن أَحبابك وخدمك، وشيعتك وأَعوانك، والساعون فى مصالحك. وكذبوا والله إِنهم لأَعداءٌ فى صورة أَولياءَ وحرب فى صورة مسالمين، وقطاع طريق فى صورة أَعوان. فواغوثاه ثم واغوثاه بالله الذى يغيث ولا يغاث {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِنّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن: 14] ، {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون: 9] . فالسعيد الرابح من عامل الله فيهم ولم يعاملهم فى الله، وخاف الله فيهم ولم يخفهم فى الله وأَرضى الله بسخطهم ولم يرضهم بسخط الله، وراقب الله فيهم ولم يراقبهم فى الله، وآثر الله عليهم ولم يؤثرهم فى الله، وأَمات خوفهم ورجاءَهم وحبهم من قلبه وأَحى حب الله وخوفه ورجاءَه فيه، فهذا هو الذى يكتب عليهم، وتكون معاملته لهم كلها ربحاً، بشرط أَن يصبر على أَذاهم ويتخذه مغنماً لا مغرماً وربحاً لا خسراناً. ومما يوضح الأَمر أَن الخلق لا يقدر أَحد منهم أَن يدفع عنك مضرة البتة إِلا بإِذن الله ومشيئته وقضائه وقدره فهو فى الحقيقة الذى لا يأْتى بالحسنات إِلا هو، ولا يذهب بالسيئات إِلا هو: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدّ لِفَضْلِهِ} [يونس: 107] ، قال النبى صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس: "وَاعْلَمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 أَنَّ الْخَليقَةَ لَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلا بِشَيءٍ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يضروك لم يضروكَ إِلا بِشَيءٍ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ"، وإِذا كانت هذه حال الخلقة فتعليق الخوف والرجاء بهم ضار غير نافع. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 فصل: فى بيان أن المنفعة والمضرة لا تكون إلا من الله وحده وجماع هذا أَنك إِذا كنت غير عالم بمصلحتك ولا قادر عليها ولا مريد لها كما ينبغى فغيرك أَولى أَن لا يكون عالماً بمصلحتك ولا قادراً عليها ولا مريداً لها، والله سبحانه هو يعلم ولا تعلم ويقدر ولا تقدر، ويعطيك من فضله لا لمعوضة ولا لمنفعة يرجوها منك، ولا لتكثر بك ولا لتعززَّ بك ولا يخاف الفقر ولا تنقص خزائنه على سعة الإِنفاق، ولا يحبس فضله عنك لحاجة منه إِليك واستغناه بحيث إِذا أَخرجه أَثر ذلك فى غناه، وهو يحب الجود والبذل والعطاءَ والإِحسان أَعظم مما تحب أَنت الأَخذ والانتفاع بما سأَلته، فإِذا حبسه عنك فاعلم أَن هناك أمرين لا ثالث لهما: أَحدهما أن تكون أنت الواقف فى طريق مصالحك وأنت المعوِّق لوصول فضله إِليك وأَنت حجر فى طريق نفسك، وهذا هو الأَغلب على الخليقة، فإِن الله سبحانه فيما قضى قضى به أَن ما عنده لا ينال إِلا بطاعته، وأَنه ما استجلبت نعم الله بغير طاعته، ولا استديمت بغير شكره، ولا عوقت وامتنعت بغير معصيته، وكذلك إِذا أَنعم عليك ثم سلبك النعمة فإِنه لم يسلبها لبخل منه ولا استئثار بها عليك وإِنما أَنت المسبب فى سلبها عنك، فإِن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأَنفسهم: {ذَلِكَ بِأَنّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىَ قَوْمٍ حَتّىَ يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 53] ، فما أُزيلت نعم الله بغير معصيته: إِذا كُنْتَ فِى نِعْمَةٍ فَارْعَهَا ... فَإِنَّ المعاصِى تُزِيلُ النِّعَم فآقتك من نفسك، وبلاؤك من نفسك، وأَنت فى الحقيقة الذى بالغت فى عداوتك، وبلغت من معاداة نفسك ما لا يبلغ العدو منك، كما قيل: مَا يَبْلُغُ الأَعْدَاءُ مِنْ جَاهِلٍ ... مَا يَبْلُغُ الْجَاهِلُ مِنْ نَفْسهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 ومن العجب أَن هذا شأْنك مع نفسك وأَنت تشكو المحسن البريء عن الشكاية، وتتهم أَقداره وتعانيها وتلومها، فقد ضيعت فرصتك وفرطت فى حظك، وعجز رأَيك عن معرفة أَسباب سعادتك وإِرادتها، ثم قعدت تعاتب القدر بلسان الحال والقال، فأَنت المعنى بقول القائل: وعاجز الرأَى مضياع لفرصته ... حتى إِذا فات أَمر عاتب القدرا ولو شعرت برأْيك، وعلمت من أَين دهيت ومن أَين أُصبت، لأَمكنك تدارك ذلك، ولكن قد فسدت الفطرة وانتكس القلب وأَطفأ الهوى مصابيح العلم والإِيمان منه فأَعرضت عمن هو أَصل بلائك ومصيبتك منه وأقبلت تشكو من كل إِحسان دقيق أَو جليل وصل إِليك فمنه فإِذا شكوته إِلى خلقه كنت كما قال بعض العارفين- وقد رأَى رجلاً يشكو إِلى آخر ما أَصابه ونزل به- فقال: يا هذا تشكو من يرحمك، إِلى من لا يرحمك. وإِذا أَتَتْكَ مصيبة فاصبر لها ... صبر الكريم فإِنه بك أَرحم وإِذا شكوت إِلى ابن آدم إِنما ... تشكو الرحيم إِلى الذى لا يرحم وإِذا علم العبد حقيقة الأَمر، وعرف من أَين أُتى ومن أَى الطرق أُغير على سرحه ومن أَى ثغرة سرق متاعه وسلب استحى من نفسه- إِن لم يستح من الله- أَن يشكو أَحداً من خلقه أَو يتظلمهم أَو يرى مصيبته وآفته من غيره، قال تعالى {وَمَآ أَصَابَكُمْ مّن مّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} [الشورى:30] ، وقال: {أَوَ لَمّا أَصَابَتْكُمْ مّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنّىَ هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165] ، وقال: {مّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيّئَةٍ فَمِن نّفْسِكَ} [النساء: 79] . فإِن أَصررت على اتهام القدر وقلت: فالسبب الذى أُصبتُ منه وأُتيت منه ودهيت منه قد سبق به القدر والحكم وكان فى الكتاب مسطوراً، فلا بد منه على الرغم منى، وكيف لى أَن أَنفك منه وقد أُودع الكتاب الأَول قبل بدءِ الخليقة والكتاب الثانى قبل خروجى إِلى هذا العلم وأنا فى ظلمات الأحشاء حين أمر الملك بكتب الرزق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 والأَجل والسعادة والشقاوة فلو [جريت] إِلى سعادتى ما جريت حتى بقى بينى وبينها شبر لغلب على الكتاب فأَدركتنى الشقاوة، فما حيلة من قلبه بيد غيره يقلبه كيف يشاءُ ويصرفه كيف أَراد، إِن شاء أَن يقيمه أقامه، وإِن شاءَ أَن يزيغه أَزاغه، وهو الذى يحول بين عوارى المرءِ وقلبه، وهو الذى يثبت قلب العبد إِذا شاءَ ويزلزله إِذا شاءَ، فالقلب مربوب مقهور تحت سلطانه لا يتحرك إِلا بإِذنه ومشيئته، قال أَعلم الخلق بربه صلوات وسلامه عليه: "ما من قلب إِلا وهو بين إِصبعين من أَصابع الرحمن، إِن شاءَ أَن يقيمه أَقامه، وإِن شاءَ أَن يزيغه أَزاغه"، ثم قال: "اللَّهم مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك"، وكان أَكثر يمينه: "لا ومقلب القلوب" وقال بعض السَلَف: "مثل القلب مثل الريشة فى أَرض فلاة تقلبها الرياح ظهراً لبطن"، فما حيلة قلب هو بيد مقلبه ومصرفه، [وقل] له مشيئة بدون مشيئته، كما قال تعالى: {وَمَا تَشَآءُونَ إِلاّ أَن يَشَآءَ اللهُ رَبّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 29] ، وروى عن عبد العزيز ابن أبى حازم عن أَبيه عن سهل بن سعد قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله عَزَّ وجَلَّ: {أَفَلاَ يَتَدَبّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىَ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ} [محمد: 24] ، وغلام جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بلى والله يا رسول الله، إِن عليها لأَقفالها، ولا يفتحها إِلا الذى أَقفلها. فلما ولَى عمر بن الخطاب طلبه ليستعمله وقال: "لم يقل ذلك إِلا من عقل"، قال طاوس: أدركت ثلاثمائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: كل شيء بقدر. وقال أَيوب السختيانى: أَدركت الناس وما كلامهم إِلا: إِن قضى، إِن قدر. وقال عطاءُ عن ابن عباس فى قوله تعالى: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُون} [الجاثية: 29] ، قال: كتب الله أَعمال بنى آدم وما هم عاملون إِلى يوم القيامة. قال: والملائكة تستنسخ ما يعمل بنو آدم يوماً بيوم فذلك قوله: {إِنّ كُنّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية 29] وفى الآية قول آخر: إِن استنساخ الملائكة هو كتابتهم لما يعمل بنو آدم بعد أَن يعملوه وقد يقال وهو الأَظهر: إِن الآية تعم الأَمرين، فيأْمر الله ملائكته فتستنسخ من أُم الكتاب أَعمال بنى آدم ثم يكتبونها عليهم إِذا عملوها فلا تزيد على ما نسخوه من أُم الكتاب ذرة ولا تنقصها، وقال على بن أَبى طلحة عن ابن عباس فى قوله تعالى: {إِنّا كُلّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49] ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 خلق الله الخلق كلهم بقدر، وخلق الخير والشر، فخير الخير السعادة وشر الشر الشقاوة. وفى صحيح مسلم عن أَبى الأسود الدؤلى قال: قال لى عمران بن حصين: أَرأَيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون، أَشيء قضى عليهم ومضى عليهم من قدر قد سبق، أَو فيما يستقبلون ممن أَتاهم به نبيهم وثبتت به الحجة؟ قال: قلت: لا، بل فيما قضى عليهم ومضى قال: أَفيكون ذلك ظلماً؟ قال: ففزعت فزعاً شديداً، وقلت: إِنه ليس شيء إِلا خلقه وملكه: {وَلا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] ، فقال: سددك الله إِنما سَألتك لأُحرز عقلك. إن رجلاً من مزينة- أَو جهينة- أَتى النبى صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أَرأَيت ما يعمل الناس ويتكادحون فيه، أشيء قضى عليهم ومضى، أو فيما يستقبلون مما أَتاهم به نبيهم؟ قال: فيما قضى عليهم ومضى. فقال الرجل: ففيم العمل؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان خلقه الله لإِحدى المنزلتين فسيستعمله لها"، وتصديق ذلك فى كتاب الله عَزَّ وجَلَّ: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَألْهَمَهَا فُجُ ورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 7- 8] ، وقال مجاهد فى قوله تعالى: {إِنَنِّى أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُون} [البقرة: 30] ، قال: علم إِبليس المعصية وخلقه لها. وقال تعالى: {فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ} [الأعراف: 30] ، قال ابن عباس: إِن الله سبحانه بدأَ خلق ابن آدم مؤمناً وكافراً ثم قال: {هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِن} [التغابن: 2] ، ثم يعيدهم يوم القيامة كما بدأَ خلقهم مؤمن وكافر. وقال سعيد بن جبير: عن ابن عباس فى قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال: 24] ، قال: يحول بين المؤمن والكفر ومعاصى الله، ويجول بين الكافر والإِيمان وطاعة الله. وقال ابن عباس ومالك وجماعة من السَلَف فى قوله تعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلا مَن رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118- 119] ، قالوا: خلق أَهل الرحمة للرحمة، وأَهل الاختلاف للاختلاف. وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا} [البقرة: 253 {وَلَوْ شِئْنَا لاَتَيْنَا كُلّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة:13] ، {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِى الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً} [يونس: 99] ، {وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَي} [الأنعام: 35] ، {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام: 112] ، وقال تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمّنِ افْتَرَىَ عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذّبَ بِآيَاتِهِ أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مّنَ الْكِتَابِ} [الأعراف: 37] أَى نصيبهم مما كتب لهم. وقال: {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِى قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} [الشعراء: 200] ، قال الحسن وغيره: الشرك والتكذيب. وقال تعالى: {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِى سِجّين} [المطففين: 7] ، قال محمد بن كعب القرظى: رقم الله سبحانه كتاب الفجار فى أَسفل الأَرض، فهم عاملون بما قدر رقم عليهم فى ذلكَ الكتاب ورقم كتاب الأَبرار فجعله فى عليين، فهم يؤتى بهم حتى يعملوا ما قدر رقم عليهم فى ذلك الكتاب. وقال ابن عباس: {تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ} [المسد: 1] ، بما جرى من القلم فى اللوح المحفوظ، وقال مجاهد فى قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِن بَيْنَ أَيْدِيَهِمْ سَدَّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدَّاً} [يس: 9] ، قال: عن الحق. وفى قوله: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّة} [الإسراء: 46] ، قال: فالجعبة فيها السهام، وقال ابن عباس فى قوله تعالى: {وأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْم} [الجاثية: 23] ، قال: أَضله فى سابق علمه، وقال فى قوله تعالى حكاية عن عدوه إِبليس: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِى} [الأعراف: 16] ، قال: أَضللتنى، وقال فى قوله: {مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 162- 163] ، قال: من قضيت له أَنه صال الجحيم. وقال عمر بن عبد العزيز: لو أَراد الله أن لا يعصى لم يخلق إِبليس، وقد فصل لكم وبين لكم ما أَنتم عليه بفاتنين إِلا من قدَّر أَن يصلى الجحيم. وقال وهيب بن خالد: أَنبأنا خالد قال: قلت للحسن: أَلهذه خلق آدم- يعنى السماءَ- أَم للأَرض؟ فقال: لا بل للأَرض. قال: قلت أَرأَيت لو اعتصم من الخطيئة فلم يعملها، أَكان ترك فى الجنة؟ قال: سبحانه الله أَكَان له بد من أَن يعملها؟ وقال تعالى: {وَجَعَلَنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [الأنبياء:73] ، وقال تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} [القصص: 41] ، وقال: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان: 74] ، أَى أَئمة يهتدى بنا، ولا تجعلنا أَئمة ضالين يدعون إِلى النار، وقال: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: 28] ، وقال: {وَنُقَلّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوّلَ مَرّةٍ} [الأنعام: 110] ، وقال: {وَلَوْ أَنّنَا نَزّلْنَآ إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلّمَهُمُ الْمَوْتَىَ وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلّ شَيْءٍ قُبُلاً مّا كَانُواْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 لِيُؤْمِنُوَاْ إِلاّ أَن يَشَآءَ اللهُ} [الأنعام: 111] ، وقال زيد بن أسلم: والله ما قالت القدرية كما قال الله ولا كما قال رسله ولا كمال قال أَهل الجنة ولا كما قال أَهل النار ولا كما قال أَخوهم إِبليس، قال الله عز وجل: {وَمَا تَشَاءُون إِلا أَن يَشَاءَ الله} [الإنسان: 30] [التكوير: 29] ، وقالت الملائكة: {لا عِلمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة: 32] ، وقال شعيب: {وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نّعُودَ فِيهَآ إِلاّ أَن يَشَآءَ اللهُ} [الأعراف: 89] ، وقال أَهل الجنة: {الْحَمْدُ للهِ الّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلآ أَنْ هَدَانَا اللهُ} [الأعراف: 43] ، وقال أَهل النار: {غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} [المؤمنون: 106] ، وقال أَخوهم إِبليس: {رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي} [الحجر: 39] ، وقال مجاهد فى قوله: {وَكُلّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء: 13] ، قال: مكتوب فى عنقه شقى أَو سعيد. وقال ابن عباس فى قوله: {وَمَن يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً} [المائدة: 41] يقول: ومن يرد الله ضلالته لم تغن عنه شيئاً. وذكر الطبرى وغيره من حديث سويد بن سعدٍ عن سوار بن مصعب عن أبى حمزة عن مقسم عن ابن عباس: صعد النبى صلى الله عليه وسلم المنبر، فحمد الله وأَثنى عليه، ثم بسط يده اليمنى فقال: "بسم الله الرحمن الرحيم، كتاب من الله الرحمن الرحيم لأَهل الجنة بأَسمائهم، وأَسماءِ آبائهم وقبائلهم وعشائرهم، فجمل أولهم على آخرهم، لا ينقص منهم ولا يزاد فيهم، فرغ ربكم وقد يسلك بأهل السعادة طريق الشقاءِ حتى يقال [لا ينقض منهم ولا يزاد فيهم. فرغ ربكم. وقد يسلك بأهل السعادة طريق الشقاء حتى يقال] كأَنهم هم بل هم هم، ما أَشبههم بهم بل هم هم فيردهم ما سبق لهم من الله من السعادة، فيعمل بعمل أَهل الجنة فيدخلها قبل موته بفواق ناقة، وقد يسلك بأَهل الشقاءِ طريق السعادة حتى يقال كأَنهم هم بل هم هم، ما أَشبههم بهم بل هم هم، فيردهم ما سبق لهم من الله، فيعمل بعمل أَهل النار فيدخلها ولو قبل موته بفواق ناقة، فصاحب الجنة مختوم له بعمل أَهل الجنة وإِن عمل عمل أَهل النار، وصاحب النار مختوم له بعمل أَهل النار وإِن عمل بعمل أَهل الجنة، ثم قال رسول الله: "الأَعمال بخواتيمها"، وقال على بن أبى طلحة عن ابن عباس فى قوله تعالى: {إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6] ، وفى قوله: {وَلَوْ شَآءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَىَ} [الأنعام:35] ، وفى قوله {فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلّهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً} [الأَنعام: 125] ، وفى قوله: {مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَن يَشَآءَ الله} [الأنعام: 111] ، وفى قوله: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13] ، وقوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِى الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً} [يونس: 99] ، وقوله: {إِنَّا جَعَلْنَا فِى أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً} [يس: 8] ، وقوله: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا} [الكهف: 28] ، ونحو هذا من القرآن، إِن رسول الله كان يحرص أَن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى، فأَخبره الله أَنه لا يؤمن إِلا من سبق له من الله السعادة فى الذكر الأَول، ثم قال لنبيه: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَن لا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3] ، ويقول: {إِن نّشَأْ نُنَزّلْ عَلَيْهِمْ مّنَ السّمَآءِ آيَةً فَظَلّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 4] ، ثم قال: {مّا يَفْتَحِ اللهُ لِلنّاسِ مِن رّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ} [فاطر: 2] ، ويقول: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيءٌ} [آل عمران: 128] ، وفى صحيح مسلم عن طاووس: أَدركت ناساً من أَصحاب رسول الله يقولون: كل شيء بقدر. وسمعت عبد الله بن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل شيء بقدر، حتى العجز والكيس"، وفى صحيح مسلم [أيضاً] عن عبد الله بن [عمر] قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كتب الله مقادير الخلق قبل أَن يخلق السماوات والأَرض بخمسين أَلف سنة وعرشه على الماءِ"، وفى صحيحه أَيضاً عن أَبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن القوى خير وأَحب إِلى الله من المؤمن الضعيف، وفى كل خير. فاحرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإِن أصابك شيء فلا تقل: لو أَنى فعلت كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاءَ الله فعل. فإِن لو تفتح عمل الشيطان"، وفى صحيحه أَيضاً عن أَبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ النّذْرَ لا يُقَدِّرُ لابن آدمَ شَيئاً لَمْ يَكُنِ اللهُ قَدَّرَهُ وَلَكِنِ النَّذْرُ يُوافِقُ الْقَدَرَ فَيُخْرِجُ ذَلِكَ مِنَ الْبَخِيلِ مَا لَمْ يَكُنْ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَهُ" وفي حديث جبرائيل وسؤاله النبى صلى الله عليه وسلم عن الإِيمان قال: "الإِيمانُ أَنْ تُؤمنَ باللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ"، وفى الصحيحين حديث ابن مسعود فى التخليق وفيه: "فوالذى لا إِله غيره إِن أَحدكم ليعمل بعمل أَهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إِلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أَهل النار فيدخل النار، وإِن أَحدكم ليعمل بعمل أَهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إِلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 فيعمل بعمل أَهل الجنة فيدخلها"، وذكر الطبرى الحسن بن على الطوسى أَنبأَنا محمد بن يزيد الأَسفاطى البصرى محدِّث البصرة قال: رأَيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فى النوم فقلت: يا رسول الله، حديث عبد الله بن مسعود حدثنى الصادق المصدوق- أَعنى حديث القدر- فقال: إى والله الذى لا إِله إِلا هو حدثت به، رحم الله عبد الله بن مسعود حيث حدث به، ورحم الله حيث حدث به، ورحم الله الأَعمش حيث حدث به، ورحم الله من حدث به قبل الأَعمش، ورحم الله من يحدث به بعد الأَعمش. وفى صحيح مسلم عن ابن مسعود: "الشقى من شقى فى بطن أُمه، والسعيد من وعظ بغيره"، وقد روى حديث تقدير السعادة والشقاوة فى بطن الأُم من حديث عبد الله بن مسعود، وأَنس بن مالك، وعبد الله بن عمر، وعائشة أُم المؤمنين، وحذيفة بن أُسيد، وأَبى هريرة. وقال أَبو الحسن بن عبيد الحافظ: سمعت أَبا عبد الله بن أَبى خيثمة يقول: سمعت عمرو بن على الفلاس يقول: انحدرت من سرَّ من رأَى إِلى بغداد فى حاجة لى فبينما أَنا أَمشى فى بعض الطريق إِذا بجمجة قد نحرت فأَخذتها، فإِذا على الجبهة مكتوب "شقى" والياءُ مكسورة إِلى خلف. وهؤلاءِ كلهم أَئمة حفاظ، ذكره الطبرى فى السنة. وفى الصحيحين حديث [على عن] النبى صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من أحد إِلا كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة"، فقالوا: يا رسول الله، أَفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ فقال: "اعملوا، فكل ميسر لما خلق له: أَما من كان من أَهل السعادة فييسر لعمل أَهل السعادة، وأَما من كان من أَهل الشقاوة فييسر لعمل أَهل الشقاوة"، ثم قرأ: {فأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَي} [الليل: 5- 10] وفى الصحيحين عن عمران بن حصين أَن النبى صلى الله عليه وسلم سئل: أَعلم أَهل الجنة من أَهل النار؟ قال: "نعم"، قيل [له] : ففيم يعمل [العالمون] ؟ قال: "نعم، كل ميسر لما خلق له". وفى صحيح مسلم عن عائشة قالت: "دعى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] إِلى جنازة غلام من الأَنصار، فقلت: يا رسول الله، طوبى لهذا، عصفور من عصافير الجنة، لم يدرك السوءَ ولم يعمله، قال: "أَو غير ذلك، إن الله تعالى خلق للجنة أَهلا، خلقهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 لها وهم فى أصلاب آبائهم وخلق للنار أَهلا خلقهم لها وهم فى أَصلاب آبائهم"، وفى الصحيحين عن ابن عباس عن أُبى بن كعب عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "الغلام الذى قتله الخضر طبع يوم طبع كافراً، ولو عاش لأَرهق أَبويه طغياناً وكفراً" وفى مسند الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إِنَّ اللهَ خَلَقَ الْخَلْقَ فِى [ظُلْمَةٍ ثم ألقى عليهم من نوره وفى لفظ فجعلهم فى] وَاحِدَةٍ، فَأَخَذَ مِنْ نُورِهِ فَأَلْقَاهُ عَلَى تِلْكَ الظُّلْمَةِ، فَمَنْ أَصَابَهُ النُّورُ اهْتَدَى، ومَنْ أَخْطَأَهُ ضَلَّ، فَلِذَلِكَ أَقُولُ: جَفَّ القَلَمُ عَلَى عِلْم الله"، وذكر راشد بن سعد عن أبى عبد الرحمن السلمى أن أَبا قتادة سمع النبى صلى الله عليه وسلم يقول: "خَلَقَ اللهُ آدَمَ وَأَخْرَجَ الْخَلْقَ مِنْ ظهْرِهِ فَقَالَ: هَؤُلاءِ فِى الْجَنَّةِ وَلا أُبَالِى، وَهَؤُلاءِ فِى النَّارِ وَلا أُبَالِى"، قال: قيل: على ما نعمل؟ قال: "عَلَى مَوَاقعِ الْقَدَرِ"، وذكر أبو داود فى كتاب القدر عن عبد الله بن مسعود أَنه مر على رجل فقالوا: هذا هذا.. ونالوا منه، فقال عبد الله: أَرأَيتم لو قطعتم يده، كنتم تستطيعون أن تخلقوا له يداً؟ قالوا: لا [قال فلو قطع رجله أكنتم تستطيعون أن تخلقوا له رجلاً؟ قالوا لا] . قال: فلو قطع رأْسه، كنتم تستطيعون أن تخلقوا له رأَساً؟ قالوا: لا، قال: فكما لا تستطيعون أن تغيروا خلقه لا تستطيعون أَن تغيروا خُلقه، إِن النطفة إذا وقعت فى الرحم بعث الله ملكاً فكتب أَجله وعمله ورزقه وشقى أَو سعيد. وذكر فيه عن ابن مسعود مرفوعاً: " إِنَّمَا هُمَا اثْنَتَان: الْهَدْى وَالْكَلام فَأَحْسَنُ الْكَلامِ كَلامُ اللهِ، وَأَحْسَنُ الْهَدْى هَدْى مُحَمَّد، وَشَرُّ الأُمُورِ مُحَدَثَاتُهَا، وَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ، وَإِنَّ كُلَّ مَا هُوَ آتِ قَرِيب وَإِنَّ الشَّقِى مَنْ شَقِى فِى بَطْن أُمِّهِ وَالسَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ "، وقال ابن وهب: أخبرنى يونس عن ابن شهاب أن عبد الرحمن ابن هنيدة حدثه أَن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَرَاد اللهُ أَنْ يَخْلُقَ النَّسَمَة قَالَ مَلَكُ الأَرْحَام تَعْرُّفاً: يَا رَبّ، أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ فَيَقْضِى اللهُ أَمْرَهُ [ثم يقول: يا رب أشقى أم سعيد؟ فيقضى الله أمره] ، ثُمَّ يَكْتُبُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ مَا هُوَ لاقٍ حَتَّى النَّكْبَةُ يُنْكَبُهَا" وقال الليث عن عقيل عن ابن شهاب: أخبرنى أَبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فذكره سواء. قال الزهرى: وحدثنى عبد الرحمن بن أُذينة عن ابن عمر.. مثل ذلك. وذكر أَبو داود أيضاً عن عائشة يرفعه: "إِن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 الله حين يريد أَن يخلق الْخلق يبعث ملكاً فيدخل على الرحم فيقول: أَى رب ماذا؟ فيقول: غلام، أَو جارية، أَو ما شاءَ الله أَن يخلق فى الرحم. فيقول: أَى رب، أَشقى أم سعيد؟ فيقول: شقى أو سعيد. فيقول: أى رب، ما أضله، فيقول كذا وكذا. فتقول أى رب، ما خلقه؟ فيقول: كذا وكذا، قال: فيقول: يا رب، ما خلائقه؟ فيقول: كذا وكذا، قال: فمَا من شيء إِلا وهو يخلق معه فى الرحم" وذكر ابن وهب عن ابن لهيعة عن بكر بن سوادة عن أَبى تميم الجيشانى عن أبى ذر أن المنى إِذا مكث فى الرحم أربعين ليلة أَتاه ملك النفوس فعرج به إِلى الرب [تعالى] فى راحته فيقول: يا رب عبدك ذكر أم أُنثى؟ فيقضى الله ما هو قاض. أَشقى أَم سعيد؟ فيكتب ما هو لاق بين عينية. قال أَبو تميم: وقرأ أَبو ذر من فاتحة سورة التغابن خمس آيات. وقال ابن وهب: أَخبرنى ابن لهيعة عن كعب بن علقمة عن عيسى بن هلال عن عبد الله ابن عمرو بن العاص أَنه قال: إِذا مكثت النطفة فى رحم المرأَة أَربعين يوماً جاءَها ملك فاختلجها، ثم عرج بها إلى الرحمن عز وجل فقال: اخلق يا أَحسن الخالقين. فيقضى الله فيها بما يشاءُ من أَمره، ثم يدفع إِلى الملك، فيسأَل الملك عن ذلك فيقول: يا رب، سقط أَم تم؟ فيبين له، ثم يقول: يا رب واحد أَو توأَم؟ فيبين له، ثم يقول: يا رب ذكر أَم أُنثى؟ فيبين له، فيقول: يا رب، أناقص الأجل أم تام الأجل؟ فيبين له ذلك، ثم يقول: يا رب، أشقى أَم سعيد؟ فيبين له، ثم يقول: يا رب، اقطع رزقه مع [خلقه] ، فيهبط بهما جميعاً. فوالذى نفسى بيده ما ينال من الدنيا إِلا ما قسم له، فإِذا أَكل رزقه قبض". وفى صحيح مسلم: عن حذيفة بن أُسيد يبلغ به النبى صلى الله عليه وسلم قال: "يدخُلُ الْمَلَكُ على النطفة بعد ما تستقر فى الرحم بأَربعين أَو خمس وأَربعين ليلة فيقول: يا رب، أشقى أَم سعيد؟ فيكتبان، فيقول: يا رب أَذكر أَم أُنثى؟ فيكتبان، ويكتب عمله وأَثره ورزقه، ثم تطوى الصحف ولا يزاد فيها ولا ينقص". وفى الصحيحين عن أَنس بن مالك- ورفع الحديث- قال: "إِنَّ اللهَ وَكَّلَ بِالرَّحِمِ مَلَكاً فَيَقُولُ: أَى رَبِ نُطْفَة، أَى رَب عَلَقَة، أَى رَب مُضْغَة، فَإِذَا أَرَادَ اللهُ أَنْ يَقْضِى خَلْقاً قَالَ الْمَلَكُ: أَى رب ذكر أَو أُنثى؟ شقى أَو سعيد، فما الرزق، فما الأَجل؟ فيكتب ذلك فى بطن أُمِّه". وفى الصحيحين من حديث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 ابن مسعود عن النبى صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِى بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْماً ثُم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم ينفخ فيه الروح، ويبعث إِليه الملك فيؤمر بأَربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقى أَو سعيد". وفى حديث ابن مسعود أَن هذا التقدير وهذه الكتابة فى الطور الرابع من أَطوار التخليق عند نفخ الروح فيه، وفى الأَحاديث التى ذكرت أَيضاً آنفاً أَن ذلك فى الأَربعين الأُولى قبل كونه علقة ومضغة، وفى رواية صحيحة: "إِذا مر بالنطفة ثنتان وأَربعون ليلة بعث الله إِليها ملكاً فصورها، وخلق سمعها وبصرها وجلدها" وفى رواية: "إِن ذلك يكون فى بضع وأَربعين ليلة" والله أعلم. فصل: فى الجمع بين الروايات المتقدمة الجمع بين هذه الروايات أَن للملك ملازمة ومراعاة بحال النطفة، وأنه يقول: يا رب هذه نطفة، هذه علقة، هذه مضغة فى أوقاتها. فكل وقت يقول فيه ما صارت إليه بأمر الله [تعالى] ، وهو أعلم بها وبكلام الملك، فتصرفه فى أوقات: أحدها حين يخلقها الله نطفة ثم ينقلها علقة، وهو أول أوقات علم الملك بأنه ولد، لأنه ليس كل نطفة تصير ولداً، وذلك بعد الأربعين الأُولى فى أول الطور الثانى. ولهذا- والله أعلم- وقعت الإشارة إليه فى أول سورة أنزلها على رسوله: {إقرأ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذى خَلَقَ خلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [العلق: 1- 2] إذ خلقه من علقة هو أول مبدء الإِنسانية، وحينئذ يكتب رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته ثم للملك فيه تصرُّف آخر [فى وقت آخر] وهو تصويره وتخليق سمعه وبصره وجلده وعظمه ولحمه وذكوريته وأُنوثيته وهذا إنما يكون فى الأربعين الثالثة قبل نفخ الروح فيها فإن نفخ الروح لا يكون إلا بعد تمام تصويره. فها هنا تقديران وكتابان: التقدير الأول عند ابتداء تعليق التخليق فى النطفة وهو إذا مضى عليها أربعون ودخلت فى طور العلقة. ولهذا فى إحدى الروايات: "إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة". والتقدير الثانى الكتابة [الثانية] إذا كمل تصويره وتخليقه وتقدير أعضائه وكونه ذكراً أو أنثى. فالتقدير الأول تقدير لما يكون للنطفة بعد الأربعين، والتقدير الثانى تقدير لما يكون للجنين بعد تصويره، ثم إذا ولد قدر مع ولادته كل سنة ما يلقاه فى تلك السنة، وهو ما يقدر ليلة القدر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 من العام إلى العام فهذا التقدير أخص من التقدير الثانى، والثانى أخص من الأول ونظير هذا أيضاً أن الله [سبحانه] قدر مقادير الخلائق قبل أَن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، ثم قدر مقادير هذا الخلق حين خلقهم وأوجدهم ثم يقدر كل سنة فى ليلة القدر ما يكون فى ذلك العام. وهكذا تقدير أمر النطفة وشأنها يقع بعد تعلقها بالرحم، وبعد كمال تصوير الجنين، وقد تقدم ذكر تقدير شأْنها قبل خلق السموات والأرض فَهو تقدير بعد تقدير. ونظير هذا أيضاً رفع الأعمال وعرضها على الله فإن عمل العام يرفع فى شعبان كما أخبر به الصادق المصدوق أنه شهر ترفع فيه الأعمال، قال: "فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِى وَأَنَا صَائِمٌ"، ويعرض عمل الأُسبوع يوم الاثنين والخميس كما ثبت ذلك عن النبى صلى الله عليه وسلم، ويعرض عمل اليوم فى آخره والليلة فى آخرها كما فى حديث أبى موسى الذى رواه البخارى عن النبى صلى الله عليه وسلم: "أن الله لا ينام ولا ينبغى له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل"، فهذا الرفع والعرض اليومى أخص من العرض يوم الاثنين والخميس، والعرض فيها أخص من العرض فى شعبان، ثم إذا انقضى الأجل رفع العمل كله وعرض على الله وطويت الصحف، وهذا عرض آخر. وهذه المسائل العظيمة القدر من أَهم فإن قيل: ما تقولون فى قوله: "إِذَا مَرّ بِالنُّطْفَةِ ثِنْتَانِ وَأَرْبَعُونَ لَيْلَة بَعَثَ اللهُ إِلَيْهَا مَلَكاً فَصَوَّرَهَا وَخَلَقَ سَمْعَهَا وَبَصَرَهَا وَجِلْدَهَا وَلَحْمَهَا وَعَظْمَهَا ثُمَّ قَالَ: يَا رَب أَذكر أَم أُنثى؟ فيقضى ربك ما شاءَ ويكتب الملك. ثم يقول: يا رب أَجله؟ فيقول ربك ما شاءَ ويكتب الملك"، وهذه بعض أَلفاظ مسلم فى الحديث، وهذا يوافق الرواية الأُخرى: "يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر فى الرحم بأَربعين أَو خمس وأَربعين ليلة فيقول: يا رب أشقى [أم] سعيد؟ " ويوافق مسائل الإيمان بالقدر، فصلوات الله وسلامه على كاشف الغمة وهادى الأُمة محمد صلى الله عليه وسلم. الرواية الأُخرى: "إن النطفة تقع فى الرحم أربعين ليلة ثم يتسور عليها الملك، وهذا يدل على أن تصويرها عقيب الأربعين الأُولى. قيل: لا ريب أن التصوير المحسوس وخلق الجلد والعظم واللحم إنما يقع فى الأَربعين الثالثة، لا يقع عقيب الأُولى، هذا أمر معلوم بالضرورة، فأما أن يكون المراد بالأَربعين فى هذه الألفاظ الأربعين الثالثة وسمى المضغة فيها نطفة اعتباراً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 بأول أحوالها وما كانت عليه، أو يكون المراد بها الأربعين الأولى وسمى كتابة [تصويرها وتخليقها] وتقديره اعتباراً بما يئول، فيكون قوله: "صورها وخلق سمعها وبصرها" أى قدر ذلك وكتبه وأعلم به، ثم يفعله به بعد الأربعين الثالثة أو يكون المراد به- أى الأربعين- الأربعين الأولى وحقيقة التصوير فيها، فيتعين حمله على تصوير خفى لا يدركه إحساس البشر، فإن النطفة إذا جاوزت الأربعين انتقلت علقة، وحينذ يكون أول مبدإٍ التخليق فيكون مع هذا المبدإ مبدأُ التصوير الخفى الذى لا يناله الحس ثم إذا مضت الأربعون الثالثة صورت التصوير المحسوس المشاهد فأحد التقديرات الثلاثة يتعين ولا بد، ولا يجوز غير هذا البتة، إذ العلقة لا سمع فيها ولا بصر ولا جلد ولا عظم، وهذا التقدير الثالث أليق بألفاظ الحديث وأشبه وأدل على القدر، والله أعلم بمراد رسوله، غير أنا لا نشك أن التخليق المشاهد والتقسيم إلى الجلد والعظم واللحم إنما يكون بعد الأربعين الثالثة والمقصود أن كتابة الشقاوة والسعادة وما هو لاق، [كان] عند أول تخليقه. ويحتمل وجهاً رابعاً وهو أن النطفة فى الأربعين الأولى لا يتعرض إليها ولا يعتنى بشأْنها، فإذا جاوزتها وقعت فى أطوار التخليق طوراً بعد طور، ووقع حينئذ التقدير والكتابة. فحديث ابن مسعود صريح بأن وقوع ذلك بعد الطور الثالث عند تمام كونها مضغة، وحديث حذيفة بن أُسيد وغيره من الأحاديث المذكورة إنما فيه وقوع ذلك بعد الأربعين، ولم يوقت فيها البعدية بل أطلقها، وقد قيدها ووقتها فى حديث ابن مسعود، والمطلق فى مثل هذا يحمل على المقيد بلا ريب، فأخبر بما تكون النطفة بعد الطور الأول من تفاصيل شأنها وتخليقها وما يقدر لها وعليها، وذلك يقع فى أوقات متعددة، وكله بعد الأربعين الأُولى، وبعضه متقدم على بعض، كما أن كونها علقة يتقدم على كونها مضغة وكونها مضغة متقدم على تصويرها والتصوير متقدم على نفخ الروح مع ذلك، فيصح أن يقال: إن النطفة بعد الأَربعين تكون علقة ومضغة، ويصور خلقها، وتركب فيها العظام والجلد، ويشق لها السمع والبصر، وينفخ فيها الروح ويكتب شقاوتها وسعادتها. وهذا لا يقتضى وقوع ذلك كله عقيب الأربعين الأولى من غير فصل. وهذا وجه حسن جداً. والمقصود أن تقدير الشقاوة والسعادة والخلق والرزق سبق خروج العبد إلى دار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 الدنيا، فأسكنه الجنة أو النار وهو فى بطن أمه. وفى الصحيحين عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا أَدْرَكَ ذَلِكَ لا مَحَالَةَ" الحديث. وفى صحيح البخارى عن أبى سعيد عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "مَا بَعَثَ اللهُ مِنْ نَبِى وَلا اسْتَخْلَفَ مَنْ خَلِيفة إِلا كَانَ لَهُ بِطَانَتَانِ: بِطانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْخَيْرِ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ وَالْمَعْصُوم مَنْ عَصَمَهُ اللهُ" وفى سنن ابن ماجه عن عدى بن حاتم أنه قال: أَتيت النبى صلى الله عليه وسلم فقال: "يَا عدِى أَسْلِمْ تَسْلَم" قلت: وما الإسلام؟ قال: "تَشْهَدُ أَنَّ لا إلَهَ إِلا اللهُ وَأَنِّى رَسُولُ اللهِ، وَتُؤْمِنُ بِالأَقْدَارِ كُلِّهَا خَيْرِها وَشَرِّهَا وَحُلْوَهَا وَمُرِّهَا" وفى صحيح البخارى من حديث الحسن عن عمرو بن تغلب قال: أتى النبى صلى الله عليه وسلم مال، فأعطى قوماً ومنع آخرين فبلغه أنهم عتبوا، فقال: "إِنِى أَعْطِى الرَّجُل وَأَدَعُ الرَّجُلَ، وَالَّذِى أَدَعُ أَحَبُّ إِلَى مِنَ الَّذِى أَعْطِى، أَعْطِى أَقْوَاماً لِمَا فِى قُلُوبِهِمْ مِنَ الْجَزَعِ وَالهَلَع، وَأَكِلُ أَقْوَاماً إِلَى مَا جَعَلَ اللهُ فِى قُلُوبِهِمْ مِنَ الْقَنَاعَةِ وَالْخَيْرِ الحديث. وفى الصحيحين من حديث عمران بن حصين عن النبى صلى الله عليه وسلم: "كَانَ اللهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيءِ قَبْلَهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ وَخَلقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَكَتَبَ فِى الذَكْرِ كُلَّ شَيءٍ". وفى الصحيح عن ابن عباس أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لأشجّ عبد القيس: "إِنَّ فِيك لَخُلُقَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ: الْحِلْمُ وَالأَنَاةُ" قال: يا رسول الله خلقين تخلقت بهما، أم جبلت عليهما؟ قال: "بَلْ جُبِلْتَ عَلَيْهِمَا" قال: الْحمد لله الَّذى جبلنى على خلقين يحبهما اللهُ. وقال أبو هريرة: قال النبى صلى الله عليه وسلم: "جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا أَنْتَ لاقٍ" رواه البخارى تعليقاً. وذكر البخارى أيضاً عن ابن عباس فى قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 61] قال: سبقت لهم السعادة. وفى سنن أبى داود وابن ماجه من حديث عبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وأُبَى بن كعب، وزيد بن ثابت: "أَن الله لو عذب أَهل سماواته وأَهل أَرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم كانت رحمته لهم خيراً لهم من أعمالهم، ولو أنفقت مثل أحد ذهباً فى سبيل الله ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقْدَر، وتعلم أَن ما أَصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأَك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير هذا لدخلتَ النار" وقاله زيد بن ثابت عن النبى صلى الله عليه وسلم. وفى سنن أبى داود عن أبى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 حفص الشامى قال: قال عبادة بن الصامت: يا بنى، إنك لن تجد طعم الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللهُ الْقَلَمَ فَقَالَ لَهُ: اكتب، قال: يا رَبِّ وَمَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُل شَيءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ" يا بنى، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ مَاتَ عَلَى غَيْر هَذَا فَلَيْسَ مِنِّى". وفىالصحيحين عن على رضى الله عنه قال: كنا فى جنازة فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ببقيع الغرقد، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس ومعه مخصرة، فجعل ينكت بالمخصرة فى الأرض، ثم رفع رأْسه فقال: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إِلا قَدْ كُتِبَ مَكَانُهَا من النَّارِ أَوْ الْجَنَّةِ، إِلا قَدْ كُتِبَتْ شَقِيَّةٌ أَوْ سَعِيدَةٌ". قال: فقال رجل من القوم: يا نبى الله أو لا نتكل على كتابنا وندع العمل، فمن كان من أهل السعادة ليكونن إلى السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة ليكونن إلى الشقاوة؟ قال: "اعْمَلُوا، فَكُل مُيَسَّر، أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَة فَيُيَسَّرُونَ لِلسَّعَادَةِ، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِلشَّقَاوَةِ"، ثم قرأ نبى الله: {فَأَمّا مَنْ أَعْطَىَ وَاتّقَىَ وَصَدّقَ بِالْحُسْنَىَ فَسَنُيَسّرُهُ لِلْيُسْرَىَ وَأَمّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَىَ وَكَذّبَ بِالْحُسْنَىَ فَسَنُيَسّرُهُ لِلْعُسْرَىَ} [الليل:5-10] . وفى السنن الأربعة عن مسلم بن يسار الجهنى أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية: {وَإِذْ أَخَذَ رَبّكَ مِن بَنِيَ آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرّيّتَهُمْ} [الأعراف: 172] ، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سئل عنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خَلَقَ الله آدَم ثُمَّ مَسَحَ ظهْرَهُ بِيَمِينِهِ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً فَقَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلاءِ لِلْجَنَّةِ، وَبِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَعْمَلُونَ، ثُمَّ مَسَحَ ظَهرَهُ فَاستخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً فَقَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلاءِ لِلنَّار، وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ" قال رجل: يا رسول الله، ففيم العمل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الله تَعَالَى إِذَا خَلَقَ العَبْدَ لِلْجَنَّةِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَملِ أَهْلِ الجَنَّةِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعمَالِ أَهْلِ الجَنَّةِ فَيُدْخِلَهُ بِهِ الجَنَّةِ، وَإِذَا خَلَقَ العَبْدَ لِلنَّارِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أهْلِ النَّارِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِن أَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ فَيُدْخِلَهُ بِهِ النَّارَ" وفى الترمذى عن أبى موسى الأشعرى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الله خَلَقَ آدَمَ مِن قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الأرضِ، فجَاءَ بَنُو آدَمَ عَلَى قَدْرِ الأَرْضِ، جَاءَ مِنْهُم الأَحْمَرُ وَالأَبْيَض وَالأسْوَدُ وَبَيْنَ ذَلِكَ وَالسَّهْل والْحزْن وَالْخَبِيث وَالطَّيِّب". قال الترمذى: حديث حسن صحيح. وذكر الطبرى من حديث مالك بن عبد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لابن مسعود: "لا [تكثر] هَمُّكَ، ما يُقَدَّرْ يَكُنْ، وَمَا تُرْزَق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 يَأْتِكَ" وذكر عن طارق بن شهاب عن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بُعِثْتُ دَاعِياً وَمُبَلِّغاً، وَلَيْسَ إِلَى مِنْ الْهُدَى شَيءٌ. وَخُلِقَ إِبْلِيس مُزَيَّناً، وَلَيْسَ إِلَيْهِ مِنَ الضَلالةِ شَيءٌ"، وقال ابن وهب: [أخبرنا] عبد الرحمن بن سليمان عن عقيل عن عكرمة عن ابن عباس قال: خرج النبى صلى الله عليه وسلم فسمع ناساً من أصحابه يذكرون القدر فقال: إِنَّكُمْ قَدْ أخَذْتُمْ فِى شُعْبَتَيْنِ بَعِيدَتِى الغَوْرِ، فِيهمَا هَلَكَ أَهْلُ الْكِتَابِ مِنْ قَبْلِكُمْ"، ولقد أخرج يوماً كتاباً فقال: "هَذَا كِتَابٌ مِن الله الرَّحمن الرَّحيم فيه تَسْمِيَةُ أَهْل الجَنَّةِ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ وقَبَائِلهِمْ وَعَشائِرِهِمْ فَحَمَلَ عَلَى آخِرِهِمْ لا يَنْقُصُ مِنْهُمْ أَحَدٌ: فَرِيقٌ فِى الجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِى السَّعِيرِ". وفى الترمذى عن ابن عباس قال: ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فقال: "يا غُلامُ، أَلا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللهُ بِهِنَّ؟ احْفَظ الله يَحْفَظْكَ، احْفَظ الله تَجِدهُ أَمامَكَ، تَعَرَّف إِلَى الله فِى الرَّخاءِ يَعْرِفَكَ فِى الشِّدَّةِ إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأل الله، وَإذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِالله، رُفِعَت الأَقْلامُ وَجَفَّت الصُحُف، لَوْ جَهِدت الأُمَّة عَلَى أَنْ يَنفَعُوكَ بِشَيءٍ لَمْ يَنْفعُوكَ إِلا بِشَيءٍ قَدْ كَتَبَهُ الله لك ولو جهدت الأمة على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عَلَيْكَ، وَاعْلَم أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ وَأَنَّ الْفَرَج مَعَ الكَرْبِ وَأَنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً". وفى بعض روايات الحديث فى غير الترمذى: "فَلَوْ أَنَّ النَّاسَ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَعْطُوكَ شَيئاً لَمْ يُعْطِهِ اللهِ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، وَلَوْ أَنَّ النَّاسَ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَمْنَعُوكَ شَيئاً قَدَّرَهُ اللهُ لَكَ مَا اسْتَطاعُوا، فَاعْبُدِ اللهَ مَعَ الصَّبْر عَلَى الْيَقِينِ" وقال على بن الجعد: أَنبأَنا عبد الواحد بن سليم البصرى عن عطاء بن أبى رباح قال: سألت [الوليد بن] عبادة بن الصامت: كيف كانت وصية أبيك حين حضره الموت؟ قال: جعل يقول: يَا بنى اتق الله، واعلم أنك لن تتقى الله ولن تبلغ العلم حتى تعبد الله وحده وتؤمن بالقدر خيره وشره. قلت: يا أبت كيف لى أن أُؤمن بالقدر خيره وشره؟ قال: تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وأن ما [أخطأك] لم يكن ليصيبك، فإن مت على غير هذا دخلت النار، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللهُ الْقَلَم [فَقَالَ] لَهُ: اكْتُبْ، فَقَالَ: مَا أَكْتُبُ؟ فَجَرَى تِلْكَ السَّاعَة بِمَا كَانَ وَما هُوَ كَائِنٌ إِلَى الأَبَدِ" وذكر الطبرى من حديث بقية أَنبأَنا أبو بكر العنسى عن يزيد بن أبى حبيب ومحمد بن يزيد قالا: حدثنا نافع عن ابن عمر قال: قالت أُم سلمة: يا رسول الله، لا تزال نفسك فى كل عام وجعة من تلك الشاة الْمسمومة التى أَكلتها؟، قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 "ما أَصابَنِى [من] شَيْء مِنْهَا إِلا وَهُوَ مَكْتُوبٌ عَلَى وَآدَمُ فِى طِينَتِهِ". وفى صحيح مسلم من حديث ابن عباس فى خطبة النبى صلى الله عليه وسلم: " الْحَمْدُ للهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضَلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِى لهُ، وَأَشْهَدُ أَن لا إِلَهَ إِلا الله وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ". وفى صحيحه أيضاً عن زيد بن أرقم: كان النبى صلى الله عليه وسلم يقول: "اللَّهُمَ آت نَفْسِى تَقْوَاهَا، وَزَكِّها أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلاهَا ". وفى صحيحه أيضاً عن على [رضى الله عنه] عن النبى صلى الله عليه وسلم فى دعاءِ الاستفتاح: "اللهم اهْدِنِى لأحْسَنِ الأَخلاق، لا يَهْدِى لأَحْسَنِهَا إِلا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّى سَيِّئَ الأَخْلاقِ، لا يَصْرِفُ عَنِّى سَيِّئهَا إِلا أَنْتَ"، وفى الترمذى والمسند من حديث عمران بن حصين أن النبى صلى الله عليه وسلم علم أباه هذا الدعاء: "اللُّهُمَّ أَلْهِمْنِى رُشْدِى، وَقِنِى شرّ نَفْسِى ". وروى سفيان الثورى عن خالد الحذاء عن عبد الله بن الحارث قال: قام عمر بن الخطاب [بالجابية] خطيباً فقال فى خطبته: "مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لهُ وَمَن يُضْلِلْ فَلا هَادِى لَهُ" وعنده الجاثليق يسمع ما يقول، قال: فنفض ثوبه كهيئة المنكر، فقال عمر: ما تقولون؟ قالوا: يا أمير المؤمنين يزعم أنَّ الله لا يضل أحداً، قال: كذبت يا عدو الله خلقك وهو أضلك، وهو يدخلك النار إن شاء الله، أما والله لولا عهد لك لضربت عنقك، إن الله خلق الخلق فخلق أهل الجنة وما هم عاملون، وخلق أهل النار وما هم عاملون قال: هؤلاء لهذه وهؤلاء لهذه. وذكر الطبرى عن أبى بكر الصديق قال: خلق الله الخلق فكانوا فى قبضته، فقال لمن فى يمينه: ادخلوا الجنة بسلام، وقال لمن فى يده الأُخرى: ادخلوا النار ولا أُبالى، فذهبت إلى يوم القيامة، وقال ابن عمر: جاءَ رجل إلى أبى بكر فقال: أرأيت الزنا بقدر الله؟ فقال: نعم. قال: فإن الله قدره على ثم يعذبنى؟ قال: نعم يا ابن اللخناءِ، أما والله لو كان عندى إنسان أمرت أَن يجأَ أَنفك. وذكر عن علي رضى الله عنه أَنه ذكر عنده القدر يوماً فأَدخل إصبعيه السبابة والوسطى فى فيه فرقم بهما باطن يده فقال: [أشهد] أن هاتين الرقمتين كانتا فى أُم الكتاب. وذكر عنه أيضاً أَنه قال: إن أحدكم لن يخلص الإيمان إلى قلبه حتى يستيقن يقيناً غير ظن أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أَخطأَه لم يكن ليصيبه ويقر بالقدر كله. وذكر البخارى عن ابن مسعود أنه قال فى خطبته: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 الشقى من شقى فى بطن أُمه، والسعيد من وعظ بغيره. وقال ابن مسعود: لأن أعض على جمرة أو أن أقبض عليها حتى تبرد فى يدى أحب إلى من أن أقول لشيءٍ قضاه الله: ليته لم يكن. وقال: لا يطعم رجل طعم الإيمان حتى يؤمن بالقدر ويعلم أنه ميت، وأنه مبعوث من بعد الموت، وقال الأعمش عن [خثمة عن] ابن مسعود: إنَّ العبد ليهمّ بالأمر من التجارة والإمارة حتى يتيسر له، نظر الله إليه من فوق سبع سمواتٍ فيقول للملائكة: اصرفوه عنه، فإنى إن يسرته له أدخلته النار. قال: فيصرفه الله عنه، قال: فيقول: من أين دهيت؟ أو نحو هذا وما هو إلا فضل الله [عز وجل] . وذكر الزهرى عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف أن عبد الرحمن بن عوف مرض مرضاً شديداً، واغمى عليه وأفاق فقال: أغمى على؟ قالوا نعم قال أنه أتانى رجلان غليظان فأخذا بيدى فقالا: أنطلق نحاكمك إلى العزيز الأمين فنطلقا بى فتلقهما رجل فقال: أين تريدان به؟ قالا: نحاكمه إلى العزيز الأمين فقال: دعاه فإن هذا ممن سبقت له السعاده وهو فى بطن أمه وقال ابن جريج عن أنبأنا طاوس عن ابيه قال: أشهد [أنى] سمعت ابن عباس يقول: العجز والكيس بقدر وقال مجاهد: قيل لابن عباس: إن ناساً يقولون فى القدر: قال: يكذبون بالكتاب إن أحدث أحدهم شعراً لاتصونه إن الله عزوجل كان على عرشه قبل أن يخلق شيئاً، فخلق القلم، فكتب ماهو كائن إلى يوم القيامة، فإنه يجرى الناس على أمر قد فرغ منه وقال ابن عباس أيضاً: القدر نظام التوحيد، فمن وحد الله ولم يؤمن بالقدر كان كفره بالقضاء نقضاً للتوحيد، ومن وحد الله وآمن بالقدر كانت العروة الوثقى لاانفصام لها وقال عطاء بن رباح: كنت عند ابن عباس، فجاءه رجل فقال: ياابن عباس، أرأيت من صدنى عن الهدى وأوردنى دار الضلالة وارداً، إلا تراه قد ظلمنى؟ فقال: إن كان الهدى شئ كان لك عنده فمنعكه فقد ظلمك، وإن كان الهدى هو له يؤتيه من يشاء فلا يظلمك. قم ولا تجالسنى. قال عكرمة عن ابن عباس: كان الهدهد يدل سليمان على الماء فقلت له: فكيف ذاك؟ الهدهدد ينصب له الفخ عليه التراب فقال أعضك الله بهن أبيك ن إذا جاء القضاء ذهب البصر وقال الإمام أحمد: أنبأنا إسماعيل، أنبأنا أبا هارون الغنوى، أنبأنا [ابو] سليمان الذدى عن أبى يحيى "مولى بنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 عفراء" قال اتيت ابن عباس، ومعى رجلان من الذين يذكرون القدر- أو ينكرونه- فقلت يا ابن عباس ما تقول فى القدر؟ فإن هؤلاء يسألونك عن القدر، إن زنى وإن سرق وإن شرب فحسر قميصه حتى أخرج منكبيه وقال: يا يحيى لعلك من الذين ينكرون القدر ويكذبوون به، والله لو أعلم أنك منهم وهذين معك لجاهدتكم، إن زنى بقدر، وإن سرق بقدر وإن شرب الخمر فبقدر وصح عن ابن عمر أن يحيى ابن يعمر قال له: إن ناساً يقولون: لا قدر، وأن الأمر أنف فقال: إذا لقيت هؤلاء فأخبرهم أن ابن عمر برئ منهم وأنهم براء منه، وقد تقدم قول أبي ابن كعب، وحذيفة وابن مسعود، وزيد ابن ثابت: لو أنفقت مثل جبل أحداً ذهباً فى سبيل الله ما قبل منك حتى تؤمن بالقدر وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطأك وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وإن مت على غير ذلك دخلت النار وتقدم قول عبادة ابن الصامت: لن تؤمن حتى تؤمن بالقددر خيره وشره، وتؤمن أنه ما أصابك لم يكن ليخطأك وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك وقال قتادة عن أبى السوار عن الحسن بن على قال: قضى القضاء وجف القلم، وأمور بقظاء قد خلا وقال عمرو بن العاص: انتهى عجبى إلى ثلاث: المرء يفر من القدر وهو لقيه، ويرى فى عين أخيه الفذة ويكون فى عينه مثل الجذع فلا يعيبها، ويكون فى دابته الطفر قيقومه جهده ويكون فى نفسه الطفر فلا يقومها قال أبو الدرداء: ذروة الإيمان أربع الصبر للحكم، والرضا بالقدر، والإخلاص للتوكل، والاستسلام للرب وقال الحجاج الأزدى: سألنا سلمان ما الإيمان بالقدر؟ فقال: أن تعلم إن ما أصابك لم يكن ليخطأك وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وقال سلمان أيضاً: إن الله لم خلق أدم مسح ظهره فأخرج منها زرارى إلى يوم القيامة، وكتب الأجال والأعمال والأرزاق والشقاوة والسعادة فمن علم السعادة فعل الخير ومجالس الخير ومن علم الشقاوة فعل الشر ومجالس الشر، وقال جابر ابن عبد الله: لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وقال هشام بن عروة بن الزبير عن أبيه عن عائشة: إن العبد ليعمل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 الزمان بعمل أهل الجنة وإنه عند الله مكتوب من أهل النار، والأثار فى ذلك أكثر من أن تذكر، وإنما أشرنا إلى بعضها أشارة فصل فالجواب: أن هاهنا مقامين: مقام إيمان وهدى ونجاة، ومقام ضلال وردى وهلاك زلت فيه أقدام فهوت بصاحبها إلى دار الشقاء فأما مقام الإيمان والهدى والنجاة فمقام إثبات القدر والإيمان به، وإسناد جميع الكائنات إلى مشيئة ربها وبارئها وفاطرها، وأن ماشاء كان وإن لم يشأ الناس، وما لم يشأ لم يكن وإن شاء الناس، وهذه الأثاركلها تحقق هذا المقام وتبين أن من لم يؤمن بالقدر فقد أنسلخ من التوحيد ولبس جلباب الشرك، بل لم يؤمن بالله ولم يعرفه، وهذا فى كل كتاب انزله الله على رسله وأما المقام الثانى: وهو مقام الهدى وهو مقام الضلال والردى والهلاك فهو الاحتجاج به على ذنبه على الله وحمل العبد ذنبه على ربه وتنزيه النفس الجاهلة الظالمة الأمارة بالسوء وجعل أرحم الراحمين وأعدل العادلين وأحكم الحاكمين وأغنى الأغنياء أضر على العباد من أبليس، كما صرح به بعضهم واحتج عليه بما خصمه فيه من لا تدحض حجته ولا تطاق مغالبته حتى يقول قائل هؤلاءِ: ما حيلة العبد والأقدار جارية ... عليه فى كل حال أيها الرائي ألقاه فى اليم مكتوفاً وقال له ... إياك إياك أن تبتل بالماء ويقول قائلهم: دعانى وسد الباب دونى فهل إلى ... دخولى سبيل؟ بينوا لى قصتي ويقول الآخر: وضعوا اللحم للبزاة ... على ذروتى عدن ثم لاموا البزاة إذ ... خلعوا عنهم الرسن لو أرادوا صيانتى ... سَتروا وَجْهَك الحسن وقال بعضهم- وقد ذكر له ما يخاف من إفساده- فقال: لى خمس بنات لا أخاف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 على إفسادهن غيره وصعد رجل يوماً على سطح دار له، فأشرف على غلام له يفجر بجاريته فنزل وأخذهما ليعاقبهما، فقال الغلام: إن القضاء والقدر لم يدعانا حتى فعلنا ذلك. فقال: لعلمك بالقضاء والقدر أحب إلى من كل شيء، أنت حر لوجه الله. ورأى آخر رجلاً يفجر بامرأته، فبادر ليأخذه فهرب، فأقبل يضرب المرأة وهى تقول: القضاءُ والقدر. فقال: يا عدوة الله أتزنين وتعتذرين بمثل هذا؟ فقالت: أو تركت السنة وأخذت بمذهب ابن عباس، فتنبه ورمى بالسوط من يده واعتذر إليها وقال: لولاك لضللت، ورأى آخر رجلاً آخر يفجر بامرأته فقال: ما هذا؟ فقالت: هذا قضاءُ الله وقدره. فقال: الخيرة فيما قضى الله، فلقب بالخيرة فيما قضى الله، وكان إذا دعى به غضب، وقيل لبعض هؤلاء: أليس [الله عز وجل] يقول: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: 7] فقال: دعنا من هذا، رضيه وأحبه وأراده، وما أفسدنا غيره، ولقد بالغ بعضهم فى ذلك حتى قال: القدر عذر لجميع العصاة، وإنما مثلنا فى ذلك كما قيل: إذا مرضنا أَتيناكم نعودكم ... وتذنبون فنأْتيكم فنعتذر وبلغ بعض هؤلاء أن علياً مر بقتلى النهروان فقال: بؤساً لكم، لقد ضركم من غركم. فقيل: من غرّهم؟ فقال: الشيطان، والنفس الأمارة بالسوءِ، والأمانى، فقال هذا القائل: كان على قدرياً، وإلا فالله غرهم وفعل بهم ما فعل وأوردهم تلك الموارد. واجتمع جماعة من هؤلاء يوماً فتذاكروا القدر، فجرى ذكر الهدهد وقوله: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} [النمل: 24] فقال: كان الهدهد قدرياً أضاف العمل إليهم والتزيين إلى الشيطان، وجميع ذلك فعل الله. وسئل بعض هؤلاء عن قوله تعالى لإبليس: {مَا مَنْعَك أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدِى} [سورة ص: 75] : أيمنعه، ثم يسأله ما منعه؟ قال: نعم، قضى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 عليه فى السر ما منعه فى العلانية ولعنه عليه، قال له: فما معنى قوله: {وَمَاذَا عَلَيْهِم لَوْ آمَنُوا بِالله} [النساء: 39] إذا كان هو الذى منعهم؟ قال: استهزاءً بهم. قال: فما معنى قوله: {مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وآمنتم} [النساء: 147] قال: قد فعل ذلك بهم من غير ذنب جنوه، بل ابتدأهم بالكفر ثم عذبهم عليه، وليس للآية معنى، وقال بعض هؤلاء- وقد عوتب على ارتكابه معاصى الله فقال: إن كنت عاصياً لأمره فأنا مطيع لإرادته. وجرى عند بعض هؤلاء ذكر إبليس وإبائه وامتناعه من السجود لآدم، فأخذ الجماعة يلعنونه ويذمونه، فقال: إلى متى هذا اللوم؟ ولو خلى لسجد، ولكن منع. وأخذ يقيم عذره فقال بعض الحاضرين: تباً لك سائر اليوم، أتذب عن الشيطان وتلوم الرحمن؟ وجاء جماعة إلى منزل رجل من هؤلاء فلم يجدوه، فلما رجع قال: كنت أصلح بين قوم فقيل له: وأصلحت بينهم؟ قال: أصلحت، إن لم يفسد الله. فقيل له: بؤساً لك، أتحسن الثناء على نفسك وتسيء الثناء على ربك؟ ومُرَّ بلصّ مقطوع اليد على بعض هؤلاء فقال: مسكين، مظلوم، أجبره على السرقة ثم قطع يده عليها، وقيل لبعضهم: أترى الله كلف عباده ما لا يطيقون ثم يعذبهم عليه؟ قال: والله قد فعل ذلك، ولكن لا نجسر أن نتكلم. وأراد رجل من هؤلاء السفر، فودع أهله وبكى. فقيل: استودعهم الله واستحفظهم إياه. فقال: ما أخاف عليهم غيره، وقال بعض هؤلاء: ذنبة أذنبها أحب إلى من عبادة الملائكة. قيل: ولم؟ قال: لعلمى بأن الله قضاها على وقدرها، ولم يقضها إلا والخيرة لى فيها وقال بعض هؤلاء: العارف لا ينكر منكراً، لاستبصاره بسر الله فى القدر. ولقد دخل شيخ من هؤلاء بلداً، فأول ما بدأ به من الزيارات زيارة المواخير المشتملة على البغايا والخمور، فجعل يقول: كيف أنتم فى قدر الله. وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: عاتبت بعض شيوخ هؤلاء فقال لى: المحبة نار تحرق من القلب ما سوى مراد المحبوب والكون كله مراده، فأى شيء أبغض منه؟ قال: فقلت له إذا كان المحبوب قد أبغض بعض من فى الكون وعاداهم ولعنهم، فأحببتهم أنت وواليتهم، أكنت ولياً للمحبوب أو عدواً له؟ قال: فكأنما ألقم حجراً. وقرأ قاريء بحضرة بعض هؤلاء: {قَالَ يَإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ} [ص: 75] ، فقال: هو والله منعه، ولو قال إبليس ذلك لَكَانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 صادقاً، وقد أخطأ إبليس الحجة، ولو كنت حاضراً لقلت له: أنت منعته، وسمع بعض هؤلاء قارئاً يقرأ: {وَأَمّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبّواْ الْعَمَىَ عَلَى الْهُدَىَ} [فصلت: 17] فقال: ليس من هذا شئ، بل أضلهم وأعماهم. قالوا: فما معنى الآية؟ قال: مخرقة يمخرق بها. فيقال: الله أكبر على هؤلاء الملاحدة أعداء الله حقاً الذين ما قدروا الله حق قدره، ولا عرفوه حق معرفته، ولا عظموه حق تعظيمه، ولا نزهوه عما لا يليق به، وبغضوه إلى عباده وبغضوهم إليه سبحانه، وأساؤوا الثناء عليه جهدهم وطاقتهم، وهؤلاء خصماءُ الله حقاً الذين جاء فيهم الحديث: "يُقَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةَ: أَيْنَ خُصَمَاءُ الله؟ فَيُؤمَرُ بِهِمْ إِلَى النَّارِ". قال شيخ الإسلام ابن تيمية فى تائيته: ويدعى خصوم الله يوم معاده ... إلى النار طراً فرقة القدرية سواءٌ نفوه أو سعوا ليخاصموا ... به الله أو ماروا به للشريعة وسمعته يقول: القدرية المذمومون فى السنة وعلى لسان السلف هم هؤلاء الفرق الثلاث: نفاته، وهم القدرية المجوسية، والمعارضون به للشريعة الذين قالوا: {لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا} [الأنعام: 148] ، وهم القدرية الشركية والمخاصمون به للرب سبحانه وهم أعداءُ الله وخصومه وهم القدرية الإبليسية. وشيخهم إبليس، وهو أول من احتج على الله بالقدر فقال: {بِمَا أَغْوَيْتَنِى} [الحجر: 39] ، ولم يعترف بالذنب يَبُوءُ به كما اعترف به آدم، فمن أقر بالذنب وباءَ به ونزّّه ربه فقد أشبه أباه آدم، ومن أشبه أباه فما ظلم. ومن برأ نفسه واحتج على ربه بالقدر فقد أشبه إبليس. ولا ريب أن هؤلاء القدرية الإبليسية والشركية شر من القدرية النفاة، لأن النفاة إنما نفوه تنزيهاً للرب [تعالي] وتعظيماً له أن يقدر الذنب ثم يلوم عليه ويعاقب، ونزهوه أن يعاقب العبد على ما لا صنع للعبد فيه البتة بل هو بمنزلة طوله وقصره وسواده وبياضه [وحوله] ونحو ذلك، كما يحكى عن بعض الجبرية أنه حضر مجلس بعض الولاة فأتى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 بطرّار أحول فقال له الوالى: ما ترى فيه؟ فقال: اضربه خمسة عشر- يعنى سوطاً- فقال له بعض الحاضرين ممن ينفى الجبر: بل ينبغى أن يضرب ثلاثين سوطاً [خمسة عشر] لطره، [ومثلها] لحوله. فقال الجبرى: كيف يضرب على الحول ولا صنع له فيه؟ فقال: كما يضرب على الطر ولا صنع له فيه عندك، فبهت الجبرى. وأما القدرية الإبليسية والشركية فكثير منهم منسلخ عن الشرع، عدو لله ورسله، لا يقر بأمر ولا نهى، وتلك وراثة عن شيوخهم الذين قال الله فيهم: {سَيَقُولُ الّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ اللهُ مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذّبَ الّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتّىَ ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ إِن تَتّبِعُونَ إِلاّ الظّنّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاّ تَخْرُصُونَ} [الأنعام: 148] ، وقال تعالى: {وَقَالَ الّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ اللهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نّحْنُ وَلآ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرّسُلِ إِلاّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النحل:35] ، وقال تعالى: {وَقَالُواْ لَوْ شَآءَ الرّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاّ يَخْرُصُونَ} [الزخرف: 20] ، وقال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ مِمّا رِزَقَكُمُ الله قَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لِلّذِينَ آمَنُوَاْ أَنُطْعِمُ مَن لّوْ يَشَآءُ اللهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاّ فِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ} [يس: 47] ، فهذه أربعة مواضع فى القرآن بين سبحانه فيها أن الاحتجاج بالقدر من فعل المشركين المكذبين للرسل. وقد افترق الناس فى الكلام على هذه [الآيات] أربعة فرق: الفرقة الأولى: جعلت هذه الآيات حجة صحيحة، وأن للمحتج بها الحجة على الله. ثم افترق هؤلاء فرقتين: فرقة كذبت بالأمر والوعد والوعيد، وزعمت أن الأمر والنهى والوعد والوعيد بعد هذا يكون ظلماً، والله لا يظلم من خلقه أحداً وفرقة صدقت بالأمر والنهى والوعد والوعيد وقالت: ليس ذلك بظلم، والله يتصرف فى ملكه [كما] يشاءُ، ويعذب العبد على ما لا صنع له فيه، بل يعذبه على فعله هو سبحانه لا على فعل عبده، إذ العبد لا فعل له، والملك ملكه ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون. فإن هؤلاء الكفار إنما قالوا هذه المقالة التى حكاها الله عنهم استهزاءً منهم، ولو قالوها اعتقاداً للقضاء والقدر وإسناداً لجميع الكائنات إلى مشيئته وقدرته لم ينكر [ذلك] عليهم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 ومضمون قول هذه الفرقة أن هذه حجة صحيحة إذا قالوها على وجه الاعتقاد لا على جهة الاستهزاء فيكون للمشركين على الله الحجة، وكفى بهذا القول فساداً وبطلاناً. الفرقة الثانية: جعلت هذه الآيات حجة لها فى إبطال القضاء والقدر والمشيئة العامة إذ لو صحت المشيئة العامة وكان الله عز وجل قد شاء منهم الشرك والكفر وعبادة الأوثان لكانوا قد قالوا الحق وكان الله [عز وجل] يصدقهم عليه ولم ينكر عليهم، فحيث وصفهم بالخرص الذى هو الكذب، ونفى عنهم العلم، دل على أن هذا الذى قالوه ليس بصحيح، وأنهم كاذبون فيه إذ لو كان علماً لكانوا صادقين فى الإخبار به ولم يقل لهم: {هَلْ عِندَكُمْ مِنْ عِلْمٍ} [الأنعام: 148] ، وجعلت هذه الفرقة هذه الآيات حجة لها على التكذيب بالقضاء والقدر، وزعمت بها أن يكون فى ملكه ما لا يشاءُ، ويشاء ما لا يكون، وأنه لا قدرة له على أفعال عباده من الإنس والجن والملائكة ولا على أفعال الحيوانات، وأنه لا يقدر أن يضل أحداً ولا يهديه ولا يوفقه أكثر مما فعل به، ولا يعصمه من الذنوب والكفر ولا يلهمه رشده، ولا يجعل فى قلبه الإيمان، ولا هو الذى جعل المصلى مصلياً والبر براً والفاجر فاجراً والمؤمن مؤمناً والكافر كافراً، بل هم الذين جعلوا أنفسهم كذلك. فهذه الفرقة شاركت الفرقة التى قبلها فى إِلقاء الحرب والعداوة بين الشرع والقدر: فالأولى تحيزت إلى القدر وحاربت الشرع، والثانية تحيزت إلى الشرع وكذبت القدر. والطائفتان ضالتان، وإحداهما أضل من الأخرى. والفرقة الثالثة: آمنت بالقضاء والقدر، وأقرت بالأمر والنهى، ونزلوا كل واحد منزلته. فالقضاءُ والقدر يؤمن به ولا يحتج به، والأمر والنهى يمتثل ويطاع. فالإيمان بالقضاء والقدر عندهم من تمام التوحيد وشهادة أن لا إلَه إلا الله، والقيام بالأمر والنهى موجب شهادة أن محمداً رسول الله. وقالوا: من لم يقر بالقضاء والقدر ويقوم بالأمر والنهى فقد كذب بالشهادتين وإن نطق بهما بلسانه. ثم افترقوا فى وجه هذه الآيات فرقتين: فرقة قالت: إنما أنكر عليهم استدلالهم بالمشيئة العامة والقضاء والقدر على رضاه ومحبته لذلك، فجعلوا مشيئته له وتقديره له دليلاً على رضاه به ومحبته له، إذ لو كرهه وأبغضه لحال بينهم وبينه، فإن الحكيم إذا كان قادراً على دفع ما يكرهه ويبغضه دفعه ومنع من وقوعه وإذا لم يمنع من وقوعه لزم إماعدم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 قدرته وإما عدم حكمته، وكلاهما ممتنع فى حق الله، فعلم محبته لما نحن عليه من عبادة غيره ومن الشرك به، وقد وافق هؤلاء من قال: إن الله يحب الكفر والفسوق والعصيان ويرضى بها، ولكن خالفهم فى أنه نهى عنها وأمر بأضدادها ويعاقب عليها، فوافقهم فى نصف قولهم وخالفهم فى الشطر الآخر، وهذه الآيات من أكبر الحجج على بطلان قول الطائفتين، وأن مشيئة الله تعالى العامة وقضاءَه وقدره لا يستلزم محبته ورضاه لكل ما شاءَه وقدَّره. وهؤلاء المشركون لما استدلوا بمشيئته على محبته ورضاه كذبهم وأنكر عليهم وأخبر أنه لا علم لهم بذلك وأنهم خارصون مفترون فإن محبة الله [تعالى] للشيء ورضاه به إنما يعلم بأمره به على لسان رسوله لا بمجرد خلقه له، فإنه خلق إبليس وجنوده وهم أعداؤه وهو تعالى يبغضهم ويلعنهم وهم خلقه، فهكذا فى الأفعال خلق خيرها وشرها، وهو يحب خيرها ويأمر به ويثيب عليه ويبغض شرها وينهى عنه ويعاقب عليه وكلاهما خلقه ولله تعالى الحكمة البالغة التامة فى خلقه ما يبغضه ويكرهه من الذوات والصفات والأفعال، كل صادر عن حكمته وعلمه كما هو صادر عن قدرته ومشيئته. وقالت الفرقة الثانية: إنما أنكر عليهم معارضة الشرع بالقدر ودفع الأمر بالمشيئة، فلما قامت عليهم حجة الله ولزمهم أمره ونهيه دفعوه بقضائه وقدره، فجعلوا القضاءَ والقدر إبطالاً لدعوة الرسل ودفعاً لما جاؤوا به، وشاركهم فى ذلك إخوانهم وذريتهم الذين يحتجون بالقضاء والقدر على المعاصى والذنوب فى نصف أقوالهم وخالفوهم فى النصف الآخر وهو إقرارهم بالأمر والنهى. فانظر كيف انقسمت هذه المواريث على هذه السهام وورث كل قوم أئمتهم وأسلافهم، إما فى جميع تركتهم وإما فى كثير منها. وإما فى جزء منها. وهدى الله بفضله ورثة أنبيائه ورسله لميراث نبيهم وأصحابه فلم يؤمنوا ببعض الكتاب ويكفروا ببعض، بل آمنوا بقضاء الله وقدره ومشيئته العامة النافذة، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه مقلب القلوب ومصرفها كيف أراد، وأنه هو الذى جعل المؤمن مؤمناً والمصلى مصلياً والمتقى متقياً، وجعل أئمة الهدى يهدون بأمره وأئمة الضلالة يدعون إلى النار، وأنه ألهم كل نفس فجورها وتقواها؛ وأنه يهدى من يشاءُ بفضله ورحمته ويضل من يشاءُ بعدله وحكمته، وأنه هو الذى وفق أهل الطاعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 لطاعته فأطاعوه ولو شاء لخذلهم فعصوه وأنه حال بين الكفار وقلوبهم فإنه يحول بين المرء وقلبه فكفروا به ولو شاء لوفقهم فآمنوا به وأطاعوه، وأنه من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له، وأنه لو شاء لآمن من فى الأرض كلهم جميعاً إيماناً يثابون عليه ويقبل منهم ويرضى به عنهم، وأنه لو شاء ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد: {ولَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 112] . والقضاءُ والقدر عندهم أربع مراتب جاءَ بها نبيهم وأخبر بها عن ربه تعالى: الأولى: علمه السابق بما هم عاملوه قبل إيجادهم. الثانية كتابة ذلك فى الذكر عنده قبل خلق السموات والأرض. الثالثة مشيئته المتناولة لكل موجود، فلا خروج لكائن عن مشيئته كما لا خروج له عن علمه. الرابعة خلقه له وإيجاده وتكوينه، فإنه لا خالق إلا الله، والله خالق كل شيء. فالخالق عندهم واحد وما سواه فمخلوق ولا واسطة عندهم بين الخالق والمخلوق، ويؤمنون مع ذلك بحكمته، وأنه حكيم فى كل ما فعله وخلقه، وأن مصدر ذلك جميعه عن حكمة تامة هى التى اقتضت صدور ذلك وخلقه، وإن حكمته حكمة حق عائدة إليه قائمة به كسائر صفاته، وليست عبارة عن مطابقة علمه لمعلومه وقدرته لمقدوره كما يقوله نفاة الحكمة الذين يقرون بلفظها دون حقيقتها، بل هى أمر وراء ذلك، وهى الغاية المحبوبة له المطلوبة التى هى متعلق محبته وحمده، ولأجلها خلق فسوَّى وقَدَّر فهدى، وأمات وأحيا وأسعد وأشقى، وأضل وهدى ومنع وأعطى، وهذه الحكمة هى الغاية، والفعل وسيلة إليها، فإثبات الفعل مع نفيها إثبات للوسائل ونفى للغايات وهو محال، إذ نفي الغاية مستلزم لنفى الوسيلة، فنفي الوسيلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 وهى الفعل لازم لنفى الغاية وهى الحكمة، ونفى قيام الفعل والحكمة به نفى لهما فى الحقيقة، إذ فعل لا يقوم بفاعله وحكمة لا تقوم بالحكيم شيء لا يعقل، وذلك يستلزم إنكار ربوبيته وإلهيته، وهذا لازم لمن نفى ذلك، ولا محيد له عنه وإن أبى التزامه، وأما من أثبت حكمته وأفعاله على الوجه المطابق للعقل والفطرة وما جاءت به الرسل لم يلزم من قوله محذور البتة، بل قوله حق، ولازم الحق حق كائناً ما كان والمقصود أن ورثة الرسل وخلفاءَهم- لكمال ميراثهم لنبيهم- آمنوا بالقضاء والقدر والحكم والغايات المحمودة فى أفعال الرب وأوامره، وقاموا مع ذلك بالأمر والنهى، وصدقوا بالوعد والوعيد، فآمنوا بالخلق الذى من تمام الإيمان به إثبات القدر والحكمة، وبالأمر الذى من تمام الإيمان به الإيمان بالوعد والوعيد وحشر الأجساد والثواب والعقاب، فصدقوا بالخلق والأمر، ولم ينفوهما بنفى لوازمهما كما فعلت القدرية المجوسية والقدرية المعارضة للأمر بالقدر، وكانوا أسعد الناس بالخلق وأقربهم عصبة فى هذا الميراث النبوى، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. واعلم أن الإيمان بحقيقة القدر والشرع والحكمة لا يجتمع إلا فى قلوب خواص الخلق ولب العالم، وليس الشأن فى الإيمان بألفاظ هذه المسميات وجحد حقائقها كما يفعل كثير من طوائف الضلال، فإن القدرية تؤمن بلفظ القدر، ومنهم من يرده إلى العلم، ومنهم من يرده إلى الأمر الدينى ويجعل قضاءه وقدره هو نفس أمره ونهيه ونفس مشيئة الله لأفعال عباده بأمره لهم بها وهذا حقيقة إنكار القضاءِ والقدر. وكذلك الحكمة، فإن الجبرية تؤمن بلفظها ويجحدون حقيقتها، فإنهم يجعلونها مطابقة علمه تعالى لمعلومه تعالى، وإرادته لمراده تعالى، فهى عندهم وقوع الكائنات على وفق علمه وإرادته. والقدرية النفاة لا يرضون بهذا، بل يرتفعون عنه طبقة ويثبتون حكمة زائدة على ذلك، لكنهم ينفون قيامها بالفاعل الحكيم ويجعلونها مخلوقاً من مخلوقاته كما قالوا فى كلامه وإرادته فهؤلاء كلهم أقروا بلفظ الحكمة وجحدوا معناها وحقيقتها. وكذلك الأمر والشرع، فإن من أنكر كلام الله وقال: إن الله لم يتكلم ولا يتكلم، ولا قال ولا يقول، ولا يحب شيئاً ولا يبغض شيئاً، وجميع الكائنات محبوبة له وما لم يكن فهو مكروه له، ولا يحب ولا يرضى ولا يغضب، ولا فرق فى نفس الأمر بين الصدق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 والكذب [والبر] والفجور، والسجود للأصنام والشمس والقمر والسجود له، ولم يكلف أحداً ما يقدر عليه بل كل تكليفه [تكليف] ما لا يطاق ولا قدرة للمكلف عليه البتة، ويجوز أن يعذب رجالاً إذ لم يكونوا نساءً ويعذب نساءً إذ لم يكونوا رجالاً وسوداً حيث لم يكونوا بيضاً وبيضاً حيث لم يكونوا سوداً، ويجوز أن يظهر المعجزة على أيدى الكذابين ويرسل رسولاً يدعو إلى الباطل وعبادة الأوثان، ويأمر بقتل النفوس وأنواع الفجور. ولا ريب أن هذا يرفع الشرائع والأمر والنهى بالكلية، ولولا تناقض القائلين به لكانوا منسلخين من دين الرسل [صلوات الله وسلامه عليه] ولكن مشى الحال بعض المشى بتناقضهم وهو خير لهم من طرد أصولهم والقول بموجبها. والمقصود أنه لم يؤمن بالقضاء والقدر والحكمة والأمر والنهى والوعد والوعيد حقيقة [الإيمان] إلا أتباع الرسل وورثتهم، والقضاءُ والقدر منشؤُه عن علم الرب وقدرته، ولهذا قال الإمام أحمد: القدر قدرة الله، واستحسن ابن عقيل هذا الكلام من أحمد غاية الاستحسان وقال: إنه شفى بهذه الكلمة وأفصح بها عن حقيقة القدر المنكرون للقدر فرقتين: فرقة كذبت بالعلم السابق ونفته، وهم غلاتهم الذين كفرهم السلف والأئمة وتبرأ منهم الصحابة. وفرقة جحدت كمال القدرة وأنكرت أن تكون أفعال العباد مقدورة لله تعالى وصرحت بأن الله لا يقدر عليها، فأنكر هؤلاء كمال قدرة الرب، وأنكرت الأخرى كمال علمه، وقابلتهم الجبرية فجاءت على إثبات [القدرة] والعلم وأنكرت الحكمة والرحمة، ولهذا كان مصدر الخلق والأمر والقضاءِ والشرع عن علم الرب وعزته وحكمته، ولهذا يقرن تعالى بين الاسمين [والصفتين] من هذه الثلاثة كثيراً كقوله: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنَ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} [النمل:6] ، وقال: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِن الله الْعَزِيز} [الحكيم] [الزمر: 1] ، وقال: {حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ الله الْعَزِيزِ العَلٍيمِ} [غافر: 1-2] وقال: فى حم فصلت بعد ذكر تخليق العالم: {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [فصلت: 12] وذكر نظير هذا [فى الأنعام] فقال: {فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ الْلّيْلَ سَكَناً وَالشّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [الأنعام: 96] . فارتباط الخلق بقدرته التامة يقتضى أن لا يخرج موجود عن قدرته، وارتباطه بعلمه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 التام يقتضى إحاطته به وتقدمه عليه، وارتباطه بحكمته يقتضى وقوعه على أكمل الوجوه وأحسنها واشتماله على الغاية المحمودة المطلوبة للرب [تعالى] . وكذلك [ارتباط] أمره بعلمه وحكمته وعزته، فهو عليم بخلقه وأمره حكيم فى خلقه عزيز فى خلقه وأمره. ولهذا كان الحكيم من أسمائه الحسنى والحكمة من صفاته العلى، والشريعة الصادرة عن أمره مبناها على الحكمة، والرسول المبعوث بها مبعوث بالكتاب والحكمة، والحكمة هى سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وهى تتضمن العلم بالحق [والعمل] به [والخبر] عنه والأمر به، فكل هذا يسمى حكمة وفى الأثر "الحكمة ضالة المؤمن"، وفى الحديث: "إن من الشعر حكمة"، فكما لا يخرج مقدور عن علمه وقدرته ومشيئته فهكذا لا يخرج عن حكمته وحمده وهو محمود على جميع ما فى الكون من خير وشر حمداً استحقه لذاته وصدر عنه خلقه وأمره، فمصدر ذلك كله عن الحكمة، فإنكار الحكمة إنكار لحمده فى الحقيقة والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 فصل: فى تفصيل ما أجمل فيما مر وتوضيحه وإنما يتبين هذا ببيان وجود الحكمة فى كل ما خلقه الله وأمر به ، وبيان أنه كله خير من جهة إضافته إليه سبحانه، وأنه من تلك الإضافة خير وحكمة، وأن جهة الشر منه من جهة إضافته إلى العبد، كما قال [النبى] صلى الله عليه وسلم فى دعاءِ الاستفتاح: "لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ فِى يديك، والشر ليس إليك"، فهذا النفى يقتضى امتناع إضافة الشر إليه تعالى بوجه، فلا يضاف إلى ذاته ولا صفاته ولا أسمائه ولا أفعاله، فإن ذاته تعالى منزهة عن كل شر، وصفاته كذلك إذ كلها صفات كمال ونعوت جلال لا نقص فيها بوجه من الوجوه، وأسماؤه كلها حسنى ليس فيها اسم ذم ولا عيب، وأفعاله كلها حكمة ورحمة ومصلحة وإحسان وعدل لا تخرج عن ذلك البتة، وهو المحمود على ذلك كله فيستحيل إضافة الشر إليه، وتحقيق ذلك أن الشر ليس هو إلا الذنوب وعقوباتها كما فى خطبته صلى الله عليه وسلم: "الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا"، فتضمن ذلك الاستعاذة من شرور النفوس ومن سيئات الأعمال وهى عقوباتها. وعلى هذا فالإضافة على معنى "اللام" من باب إضافة المتغايرين، أو يقال: المراد السيئات من الأعمال، فعلى هذا الإضافة بمعنى "من" وهى من باب إضافة النوع إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 جنسه، ويدل على الأول قوله تعالى: {وَقِهِمُ السّيّئَاتِ وَمَن تَقِ السّيّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ} [غافر: 9] قال شيخنا: وهذا أشبه [أنه] إذا أريد السيئات من الأعمال، فإن أريد ما وقع منها فالاستعاذة إنما تكون من عقوباتها، إذ الواقع [لا يمكن دفعه وإن استعاذه منها قبل وقوعها لئلا تقع فهذا هو الاستعاذة] من شر النفس. وأيضاً فلا يقال فى هذه التى لم توجد بعد سيئات أعمالنا فإنها لم تكن بعد أعمالاً فضلاً عن أن تكون سيئات، وإضافة الأعمال إلينا تقتضى وجودها إذ لم يوجد بعد ليس هو من أعمالنا إلا أن يقال: من سيئات الأعمال التى إذا [عملناها] كانت سيئات. ولمن رجح التقدير الثانى أن يقول: العقوبات ليست لجميع الأعمال، بل للمحرمات منها، والأعمال أعم وحملها على المحرمات خاصة خلاف ظاهر اللفظ، بخلاف ما إذا كانت الإضافة على معنى "من" فتكون الأعمال على عمومها والسيئات بعضها، فتكون السيئات على عمومها. ويترجح أيضاً أن الاستعاذة تكون قد اشتملت على أصول الشر كله، وهو شر النفس الكامن فيها الذى لم يخرج إلى العمل، وشر العمل الخارج الذى سولته النفس فالأول شر الطبيعة والصفة التى فى النفس والثانى شر العمل المتعلق بالكسب والإرادة، ويلزم من المعافاة من هذين الشرين المعافاة من موجبهما وهو العقوبة، فتكون الاستعاذة قد شملت جميع أنواع الشر بالمطابقة واللزوم، وهذا هو اللائق بمن أوتى جوامع الكلم، فإن هذا من جوامع [كلمة] البديعة العظيمة الشأن التى لا يعرف قدرها إلا أهل العلم والإيمان. وإذا عرف هذا وأنه ليس فى الوجود شر إلا الذنوب وموجباتها، وكونها ذنوباً تأتى من نفس العبد، فإن سبب الذنب الظلم والجهل وهما من نفس العبد، كما أن سبب الخير الحمد والعلم والحكمة والغنى وهى أمور ذاتية للرب [تعالى] وذات الرب [تعالى] مستلزمة للحكمة والخير والجود، وذات العبد مستلزمة للجهل والظلم، وما فيه من العلم والعدل فإنما حصل له بفضل الله عليه وهو أمر خارج عن نفسه، فمن أراد الله به خيراً أعطاه هذا الفضل فصدر منه بوحيه من الإحسان والبر والطاعة، ومن أراد به شراً أمسكه عنه وخلاه ودواعى نفسه وطبعه وموجبها فصدر منه موجب الجهل والظلم من كل شر وقبيح، وليس منعه لذلك ظلماً منه [تعالى] ، فإنه فضله، وليس من منع فضله ظالماً، لا سيما إذا منعه عن محل لا يستحقه ولا يليق به. وأيضا فإن هذا الفضل هو توفيقه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 وإرادته من نفسه أن يلطف بعبده ويوفقه ويعينه ولا يخلى بينه وبين نفسه، وهذا محض فعله وفضله، وهو سبحانه أعلم بالمحل الذى يصلح لهذا الفضل ويليق به ويثمر [فيه] ويزكو به. وقد أشار الله تعالى إلى هذا المعنى بقوله {وَكَذَلِكَ فَتَنّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لّيَقُولوَاْ أَهَؤُلآءِ مَنّ اللهُ عَلَيْهِم مّن بَيْنِنَآ أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشّاكِرِينَ} [الأنعام: 53] ، فأخبر سبحانه أنه أعلم بمن يعرف قدر هذه النعمة ويشكره عليها. عليها فإن أصل الشكر هو الاعتراف بإنعام المنعم على وجه الخضوع له والذل والمحبة، فمن لم يعرف النعمة، بل كان جاهلاً بها لم يشكرها، ومن عرفها ولم يعرف المنعم بها لم يشكرها أيضاً، ومن عرف النعمة والمنعم لكن جحدها كما يجحد المنكر لنعمة المنعم عليه بها فقد كفرها، ومن عرف النعمة والمنعم وأقر بها ولم يجحدها ولكن لم يخضع له ويحبه ويرض به وعنه لم يشكرها أيضاً، ومن عرفها وعرف المنعم بها وأقربها وخضع للمنعم بها وأحبه ورضى به وعنه واستعملها فى محابه وطاعته فهذا هو الشاكر لها. فلا بد فى الشكر من علم القلب، وعمل يتبع العلم- وهو الميل إلى المنعم ومحبته والخضوع له- كما فى صحيح البخارى عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سَيِّدُ الاسْتِغْفَار أَنْ يَقُولَ العَبْدُ: اللَّهُم أَنْتَ رَبِّى لا إلَهَ إِلا أَنْتَ، خَلَقْتَنِى وأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ أَعُوذُ بِكَ مِن شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَى، وَأَبُوءُ بِذَنْبِى، فَاغْفِرْ لِى فَإِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا أَنْتَ، مَنْ قَالَهَا إِذَا أَصْبَحَ مُوقِناً بِهَا فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ ومن قالها إذا أمسى موقناً بها فمات من ليلته دخل الجنة، فقوله: "أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَى" يتضمن الإقرار والإنابة إلى الله بعبوديته، فإن المباءَة هى التى يبوءُ إليها الشخص- أى يرجع إليها رجوع استقرار- والمباءَة هى المستقر، ومنه قوله [صلى الله عليه وسلم] : " مَنْ كَذِبَ علَى مُتَعَمِداً فَلْيَتَبَوّأْ مَقْعَدَه مِنَ النَّارِ"، أى ليتخذ مقعده من النار مباءَة يلزمه ويستقر فيه، لا كالمنزل الذى ينزله ثم يرحل عنه. فالعبد يبوءُ إلى الله [عز وجل] بنعمته عليه، ويبوءُ بذنبه، ويرجع إليه بالاعتراف بهذا وبهذا رجوع مطمئن إلى ربه منيب إليه، ليس رجوع من أقبل عليه ثم أعرض عنه، بل رجوع من لا يعرض عن ربه بل لا يزال مقبلاً عليه إذا كان لا بد له منه، فهو معبوده وهو مستغاثه، لا صلاح له إلا بعبادته، فإن لم يكن معبوده هلك وفسد، ولا يمكن أن يعبده إلا بإعانته. وفى الحديث: "مثَلُ الْمُؤْمِنِ مَثَلُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 الْفَرَسِ فِى آخِيَتِهِ يَجُولُ ثُمَّ يَرْجَعُ إِلَى آخِيَتِهِ، كَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ يَجُولُ ثُمَّ يَرْجَعُ إِلَى الإِيْمَانِ". فقوله: "أبوءُ" يتضمن أنى وإن جلت كما يجول الفرس- إما بالذنب وإما بالتقصير فى الشكر- فإنى راجع منيب أوّاب إليك، رجوع من لا غنى له عنك. وذكر النعمة والذنب لأن العبد دائماً يتقلب بينهما، فهو بين نعمة من ربه وذنب منه هو، كما فى الأثر الإلهى: "ابنَ آدم خيرى إليك نازل، وشرك إلى صاعد، كم أتحبب إليك بالنعم وأنا غنى عنك، وكم تتبغض إلى بالمعاصى وأنت فقير إلى ولا يزال الملك الكريم يعرج إلى منك بعمل قبيح" وكان فى زمن الحسن البصرى شاب لا يرى إلا هـ، وحدفسأله الحسن عن ذلك فقال: إنى أجدنى بين نعمة من الله وذنب منى فأريد أن أُحدث للنعمة شكراً وللذنب استغفاراً، فذلك الذى شغلنى عن الناس أو كما قال. فقال له: أنت أفقه [عندى] من الحسن. فالخير كله من الله كما قال تعالى: {وَمَا بِكُم مِّنْ نِعمَةٍ فَمِنَ الله} [النحل: 53] ، وقال تعالى {وَاعْلَمُوَاْ أَنّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مّنَ الأمْرِ لَعَنِتّمْ وَلَكِنّ اللهَ حَبّبَ إِلَيْكُمُ الأِيمَانَ وَزَيّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرّاشِدُونَ فَضْلاً مِّنَ الله وَنعْمَةً} [الحجرات: 7- 8] ، وقال: {يَمُنّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاّ تَمُنّواْ عَلَيّ إِسْلاَمَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ إِنُ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات: 17] ، وقال تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 6- 7] ، وهؤلاء المنعم عليهم هم المذكورون فى قوله: {وَمَن يُطِعِ اللهَ وَالرّسُولَ فَأُوْلئِكَ مَعَ الّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مّنَ النّبِيّينَ وَالصّدّيقِينَ وَالشّهَدَآءِ وَالصّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} [النساء:69] فالنعم كلها [من نعم الدين والدنيا وهو أن الأعمال فى الدنيا والآخرة] من نعم الله ومنه وفضله على عبده وهو سبحانه- وإن كان أجود الأجودين وأرحم الراحمين وأكرم الأكرمين- فإنه أحكم الحاكمين وأعدل العادلين، لا يضع الأشياء إلا فى مواضعها اللائقة بها ولا يناقض جوده ورحمته وفضله حكمته وعدله. ولو رأى العقلاءُ واحداً منهم قد وضع المسك فى الحشوس والأخلية ووضع النجاسات والقاذورات فى مواضع الطيب والنظافة لاشتد نكيرهم عليه والقدح فى عقله ونسبوه إلى السفه وخلاف الحكمة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 وكذلك لو وضع العقوبة موضع الإحسان والإحسان موضع العقوبة لسفهوه وقدحوا فى عقله، كما قال القائل: ووضع الندى موضع السيف بالعلا ... مضر كوضع السيف فى موضع الندي وكذلك لو وضع الدواء موضع الغذاء والغذاء موضع الدواء، والاستفراغ حيث يكون اللائق به عدمه والإمساك حيث يليق الاستفراغ وكذلك وضع الماءَ موضع الطعام والطعام موضع الماءِ، وأَمثال ذلك مما يخل بالحكمة، بل لو أقبل على الحيوان البهيم يريد تعليمه ما لم يخلق له من العلوم والصنائع، فمن بهرت حكمته العقول والألباب كيف ينبغى له أن يضع الأشياء فى غير مواضعها اللائقة بها؟ ومن المعلوم أن أَجلَّ نعمة على عبده نعمة الإيمان به ومعرفته ومحبته وطاعته والرضا به والإنابة إليه والتوكل عليه والتزام عبوديته. ومن المعلوم أيضاً أن الأرواح منها الخبيث الذى لا أخبث منه، ومنها الطيب، وبين ذلك، وكذلك القلوب منها القلب الشريف الزكى، والقلب الخسيس الخبيث، وهو سبحانه خلق الأضداد كما خلق الليل والنهار والبرد والحر والداء والدواء والعلو والسفل وهو أعلم بالقلوب الزاكية والأرواح الطيبة التى تصلح لاستقرار هذه النعم فيها، وإيداعها عندها، ويزكو [بذروها] فيها، فيكون تخصيصه لها بهذه النعم كتخصيص الأرض الطيبة القابلة [للبذر] بالبذر، فليس من الحكمة أن يبذر البذر فى الصخور والرمال والسباخ، وفاعل ذلك غير حكيم فما الظن ببذر الإيمان والقرآن والحكمة ونور المعرفة والبصيرة فى المحال التى هى أخبث المحال. فالله [عز وجل] أعلم حيث يجعل رسالاته أصلاً وميراثاً فهو أعلم بمن يصلح لتحمل رسالته فيؤديها إلى عباده بالأمانة والنصيحة وتعظيم المرسل والقيام بحقه والصبر على أوامره والشكر لنعمه والتقرب إليه، ومن لا يصلح لذلك. وكذلك هو سبحانه أعلم بمن يصلح من الأُمم لوراثة رسله والقيام بخلافتهم وحمل ما بلغوه عن ربهم قال عبد الله بن مسعود: إن الله نظر فى قلوب العباد فرأى قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 قلوب أهل الأرض فاختصه برسالته، ثم نظر فى قلوب العباد فرأى قلوب أصحابه خير قلوب العباد فاختارهم لصحبته. وفى أثر بنى إسرائيل أن الله تعالى قال لموسى: أتدرى لم اخترتك لكلامى؟ قال: لا يا رب. قال: إنى نظرت فى قلوب العباد فلم أر فيها أخضع من قلبك لى. أو نحو هذا. فالرب سبحانه إذا علم من محل أهلية لفضله ومحبته ومعرفته وتوحيده حبب إليك ذلك ووضعه فيه وكتبه فى قلبه ووفقه له وأعانه عليه ويسر له طرقه وأغلق دونه الأبواب التى تحول بينه وبين ذلك، ثم تولاه بلطفه وتدبيره وتيسيره وتربيته أعظم من تربية الوالد الشفيق الرحيم المحسن لولده الذى هو أحب شئ إليه، فلا يزال يعامله بلطفه ويختصه بفضله ويؤثره برحمته ويمده بمعونته ويؤيده بتوفيقه ويريه مواقع إحسانه إليه وبره به، فيزداد العبد به معرفة وله محبته وإليه إنابة وعليه توكلاً، ولا يتولى معه غيره ولا يعبد معه سواه، وهذا هو الذى عرف قدر النعمة وعرف المنعم وأقر بنعمته وصرفها فى مرضاته. واقتضت حكمة الرب [تعالى] وجودُه وكرمه وإحسانه أن بذر فى هذا القلب بذر الإيمان والمعرفة. وسقاه ماء العلم النافع والعمل الصالح، وأطلع عليه من نوره شمس الهداية، وصرف عنه الآفات المانعة من حصول الثمرة، فأنبتت أرضه الزاكية من كل زوج كريم، كما فى الصحيح من حديث أبى موسى عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "مَثَلُ مَا بَعَثَنِى اللهُ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ أَرْضاً، فَكَانَ منها طَائِفَة طَيَّبَة قَبِلَت الْمَاء فَأنْبَتَتْ الْكلأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ مِنْهَا طَائِفَةٌ أَجَادِبُ أَمْسَكَت الماءِ فَسُقِى النَّاسُ وَزَرَعُوا، وَأَصَابَ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى إِنَّمَا هِى قِيعَانٌ لا تَمْسِكَ مَاءً وَلا تُنْبِتُ كَلأَ، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقِهَ فِى دِينِ الله وَنَفَعَهُ بِمَا بَعَثَنِى اللهُ بِهِ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسَاً وَلَمْ يَقْبَل هُدَى اللهُ الَّذِى أُرْسِلْتُ بِهِ" فمثّل القلوب بالأرض التى هى محل النبات والثمار ومثل الوحى الذى وصل إليها من بارئها وفاطرها بالماءِ الذى ينزله على الأرض، فمن الأَرض أرض طيبة قابلة للماءِ والنبات، فلما أصابها الماءُ أنبتت ما انتفع به الآدميون والبهائم وأَقوات المكلفين وغيرهم، وهذه بمنزلة القلب القابل لهدى الله ووحيه المستعد لزكائه فيه وثمرته ونمائه، وهذا خير قلوب العالمين. ومن الأرض أرض صلبة منخفضة غير مرتفعة ولا رابية، قابلة لحفظ الماءِ واستقراره فيها، ففيها قوة الحفظ وليس فيها قوة النبات فلما حصل فيها الماءُ أَمسكته وحفظته فورده الناس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 لشربهم وشرب مواشيهم وسقوا منه زروعهم، وهذا بمنزلة القلب الذى حفظ الوحى وضبطه وأَداه إلى من هو أفهم له منه وأَفقه منه وأَعرف بمراده، وهذا فى الدرجة الثانية. ومن الأرض أرض قيعان- وهى المستوية التى لا تنبت إما لكونها سبخة أو [رمالاً] ، ولا يستقر فيها الماء- فإذا وقع عليها الماءُ ذهب ضائعاً لم تمسكه لشرب الناس ولم تنبت به كلأَ لأنها غير قابلة لحفظ الماءِ ولا لنبات الكلإِ والعشب وهذا حال أَكثر الخلق وهم الأَشقياءُ الذين لم يقبلوا هدى الله ولم يرفعوا به رأْساً، ومن كان بهذه المثابة فليس من المسلمين، بل لا بد لكل مسلم أن يزكو الوحى فى قلبه فينبت من العمل الصالح والكلم الطيب ونفع نفسه وغيره بحسب قدرته، فمن لم ينبت قلبه شيئاً من الخير البتة فهذا من أشقى الأشقياءِ. فصلوات الله وسلامه على من الهدى والبيان والشفاءُ والعصمة فى كلامه وفى أمثاله. والمقصود أن الله سبحانه أَعلم بمواقع فضله ورحمته وتوفيقه، ومن يصلح لها ومن لا يصلح، وأَن حكمته تأْبى أَن يضع ذلك عند غير أَهله، كما تأْبى أن يمنعه من يصلح له. وهو سبحانه الذى جعل المحل صالحاً وجعله أَهلاً وقابلاً، فمنه الإعداد والإمداد، ومنه السبب والمسبب. ومن اعترض بقوله: فهلا جعل المحالّ كلها كذلك، وجعل القلوب على قلب واحد، فهو من أَجهل الناس وأضَلهم وأسفههم، وهو بمنزلة من يقول: لم خلق الأَضداد، وهلا جعلها كلها شيئاً واحداً، فلم خلق الليل والنهار والفوق والتحت والحر والبرد والدواءَ والداءَ والشياطين والملائكة والروائح الطيبة والكريهة والحلو والمر والحسن والقبيح؟ وهل يسمح خاطر من له أَدنى مسكة من عقل بمثل هذا السؤال الدَّالَّ على حمق سائله وفساد عقله؟ وهل ذلك إلا موجب ربوبيته وإلاهيته وملكه وقدرته ومشيئته وحكمته، ويستحيل أن يتخلف موجب صفات كماله عنها؟ وهل حقيقة الملك إلا بإكرام الأولياءِ وإهانة الأَعداءِ؟ وهل تمام الحكمة وكمال القدرة إِلا بخلق المتضادات والمختلفات وترتيب آثارها عليها وإِيصال ما يليق بكل منها إِليه؟ وهل ظهور آثار أَسمائه وصفاته فى العالم إلا من لوازم ربوبيته وملكه؟ فهل يكون رزّاقاً وغفاراً وعفوّاً ورحيماً وحليماً ولم يوجد من يرزقه، ولا من يغفر له ويعفو عنه ويحلم عنه ويرحمه؟ وهل انتقامه إلا من لوازم ربوبيته وملكه؟ فممن ينتقم إن لم يكن له أعداء ينتقم منهم، ويرى أولياءه كمال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 نعمته عليهم واختصاصه إياهم دون غيرهم بكرامته وثوابه؟ وهل فى الحكمة الإلهية تعطيل الخير الكثير لأجل شر جزئى يكون من لوازمه؟ فهذا الغيث الذى يحيى به الله البلاد والعباد والشجر والدواب. كم يحبس من مسافر، ويمنع من قصاد، ويهدم من بناءٍ، ويعوق [عن] مصلحة؟ ولكن أين هذا مما يحصل به من المصالح؟ وهل هذه المفاسد فى جنب مصالحه إلا كتفلة فى بحر؟ وهل تعطيله لئلا تحصل به هذه المفاسد إلا موجباً لأعظم المفاسد والهلاك؟ وهذه الشمس التى سخرها الله لمنافع عباده وإنضاج ثمارهم وأقواتهم وتربية أبدانهم وأبدان الحيوانات والطير، وفيها من المنافع والمصالح ما فيها كم تؤذى مسافراً وغيره بحرّها، وكم تجفف رطوبة وكم تعطش حيواناً، وكم تحبس عن مصلحة، وكم [تشف] من مورد وتحرق من زرع؟ ولكن أين يقع هذا فى جنب ما فيها من المنافع والمصالح الضرورية المكملة؟ فتعطيل الخير الكثير لأجل الشر اليسير شر كثير، وهو خلاف موجب الحكمة الذى تنزه الله سبحانه عنه. قلت لشيخ الإسلام: فقد كان من الممكن خلق هذه الأمور مجردة عن المفاسد مشتملة على المصلحة الخالصة فقال: خلق هذه الطبيعة بدون لوازمها ممتنع، فإن وجود الملزوم بدون لازمه محال، ولو خلقت على غير هذا الوجه لكانت غير هذه، ولكان عالماً آخر غير هذا. قال: ومن الأشياء ما تكون ذاته مستلزمة لنوع من الأمور لا ينفك عنه- كالحركة مثلاً المستلزمة لكونها لا تبقى- فإذا قيل: لما لم تخلق الحركة المعينة باقية؟ قيل: لأن ذات الحركة تتضمن النقلة من مكان إلى مكان والتحول من حال إلى حال، فإذا قدر ما ليس كذلك لم يكن حركة. ونفس الإنسان هى فى ذاتها جاهلة عاجزة فقيرة كما قال تعالى: {وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِن بُطُونِ أُمَّهَاتِكِمْ لا تَعْلَمُونَ شَيئاً} [النحل: 78] ، وإنما [يأتيها] العلم والقدرة والغنى من الله بفضله ورحمته، فما حصل لها من كمال وخير فمن الله، وما حصل لها من عجز وفقر وجهل يوجب الظلم والشر فهو منها ومن حقيقتها. وهذه أمور عدمية، وليس لها من نفسها وجود ولا كمال والأمور العدمية من لوازم وجودها، ولو جعلت على غير ذلك لم تكن هى هذه النفس الإنسانية بل مخلوقاً آخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 فحقيقة نفس الإنسان جاهلة ظالمة فقيرة محتاجة، والشر الذى يحصل لها نوعان: عدم، ووجود. فالأول كعدم العلم والإيمان والصبر وإرادة الخيرات وعدم العمل بها، وهذا العدم ليس له فاعل إذ العدم المحض لا يكون له فاعل، لأن تأثير الفاعل إنما هو فى أمر وجودى، وكذلك عدم استعدادها للخيرات والكمالات هو عدم محض ليس له فاعل، فإن العدم ليس بشئ أصلاً، وما ليس بشيء لا يقال إنه مفعول لفاعل، فلا يقال إنه من الله، إنما يحتاج إلى الفاعل الأمور الوجودية، ولهذا من قول المسلمين كلهم: "ما شاءَ الله كان، وما لم يشأ لم يكن" فكل كائن فبمشيئته كان وما لم يكن فلعدم مشيئته. والعدم يعلل بعدم السبب أو الشرط تارة، وبوجود المانع أخرى. وقد يقال علة العدم عدم العلة. وبعض الناس يقول: الممكن لا يترجح أحد طرفيه إلا بمرجح، فلا يوجد إلا بسبب، ولا يعدم إلا بسبب قال: والتحقيق فى هذا أن العدم ليس له فاعل ولا علة فاعلة أصلاً [بل] ، إذا أضيف إلى عدم السبب أو عدم الشرط فمعناه الملازمة، أى عدم العلة استلزم عدم المعلول وعدم الشرط استلزم عدم المشروط. فإذا قيل: عدم لعدم [عليه أى عدم عليه] مستلزمة لعدمه، والنفس تطلب سبب العدم، فتقول: لما لم يوجد كذا؟ فيقال: لعدم كذا، فيضاف عدم المعلوم إلى عدم علته، لا إضافة تأثير ولكن إضافة استلزام وتعريف، وأما التعليل بالمانع فلا يكون إلا مع قيام السبب إذا جعل المانع مقتضياً للعدم، وأما إذا أريد قياس الدلالة فوجود المانع يستلزم عدم الحكم سواءٌ كان المقتضى موجوداً أو لم يكن. والمقصود أن ما عدمته النفس من كمالها فمنها فإنها لا تقتضى إلا [العدم] ، أى عدم استعداد نفسها وقوتها هو السبب فى عدم هذا الكمال، فإنه كما يكون أحد الوجودين سبباً للآخر فكذلك أَحد العدمين يكون سبباً لعدم الآخر، والموجود الحادث يضاف إلى السبب المقتضى لإيجاده وأما المعدوم فلا يحتاج استمراره على العدم إلى فاعل يحدث العدم، بل يكفى فى استمراره عدم مشيئة الفاعل المختار له، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، لانتفاءٍ مشيئته، فانتقاء مشيئة كونه سبب عدمه، وهذا معنى قولهم: عدم علة الوجود علة العدم، وبهذا الاعتبار الممكن القابل للوجود والعدم لا يترجح أحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 طرفيه على الآخر إلا بمرجح، فمرجح عدمه عدم مرجحه، ومعنى الترجيح والسببية [هاهنا] الاستلزام لا التأثير كما تقدم، فظهر استحالة إضافة هذا الشر إلى الله عز وجل. وأما الشر الثانى، وهو الشر الوجودى- كالعقائد الباطلة والإرادات الفاسدة- فهو من لوازم ذلك العدم، فإنه متى عدم ذلك العلم النافع والعمل الصالح من النفس لزم أن يخلفه الشر والجهل وموجبهما ولا بد، لأن النفس لا بد لها من أحد الضدين، فإذا لم تشتغل بالضد النافع الصالح اشتغلت بالضد الضار الفاسد، وهذا الشر الوجودى هو من خلقه تعالى إذ لا خالق سواه، وهو خالق كل شيء، لكن كل ما خلقه الله فلا بد أن يكون له فى خلقه حكمة لأجلها خلقه، لو لم يخلقه فاتت تلك الحكمة، وليس فى الحكمة تفويت هذه الحكمة التى هى أحب إليه سبحانه من الخير الحاصل بعدمها، فإن فى وجودها من الحكمة والغايات التى يحمد عليها سبحانه أضعاف ما فى عدمها من ذلك، ووجود الملزوم بدون لازمه ممتنع، وليس فى الحكمة تفويت هذه الحكمة العظيمة لأجل ما يحصل للنفس من الشر مع ما حصل من الخيرات التى لم تكن تحصل بدون هذا الشر، ووجود الشيء لا يكون إلا مع وجود لوازمه وانتفاء أضداده، فانتفاء لوازمه يكون ممتنعاً لغيره، وحينئذ فقد يكون هدى هذه النفوس الفاجرة [وسعادتها] مشروطاً بلوازم لم تحصل، أو بانتفاء أضداد لم تنتف. فإن قيل: فهلا حصلت تلك اللوازم وانتفت تلك الأضداد، فهذا هو السؤال الأول، وقد بينا أن لوازم هذا الخلق وهذه النشأة وهذا العالم لا بد منها، فلو قدر عدمها لم يكن هذا العالم بل عالماً آخر ونشأة أخرى وخلقاً آخر، وبينا أن هذا السؤال بمنزلة أن يقال: هلا تجرد الغيث والأنهار عما يحصل به من تغريق [وتعويق] وتخريب وأذى؟ وهلا تجردت الشمس عما يحصل منها من حر وسموم وأذى؟ وهلا تجردت طبيعة الحيوان عما يحصل له من ألم وموت وغير ذلك؟ وهلا تجردت الولادة عن مشقة الحمل والطلق وألم الوضع، هلا تجرد بدن الإنسان عن قبوله للآلام والأوجاع واختلاف الطبائع الموجبة لتغير أحواله؟ وهلا تجردت فصول العام عما [يحدث] فيها من البرد الشديد القاتل والحر الشديد المؤذى؟ فهل يقبل عاقل هذا السؤال أو يورده؟ وهل هذا إلا بمنزلة أن يقال: لم كان المخلوق فقيراً محتاجاً والفقر والحاجة صفة نقص، فهلا تجرد منها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 وخلعت عليه خلعة الغنى المطلق والكمال المطلق؟ فهل يكون مخلوقاً إذا كان غنياً غنى مطلقاً؟ ومعلوم أن لوازم الخلق لا بد منها فيها، ولا بد للعلو من سفل، والسفل من مركز ولوازم العلو من السعة والإضاءة والبهجة والخيرات وما هناك من الأرواح العلوية النيرة المناسبة لمحلها وما يليق بها ويناسبها من الابتهاج والسرور والفرح والقوة والتجرد من علائق المواد العلية لا بد منها، ولوازم السفل والمركز من الضيق والحصر ولوازم ذلك من [الظلمة والغلط] والشر وما هنالك من الأرواح السفلية المظلمة الشريرة وأعمالها وآثارها لا بد منها، فهما عالمان علوى وسفلى ومحلان وساكنان تناسبهما مساكنهما وأعمالهما وطبائعهما، وقد خلق كلا من المحلين معموراً بأهليه وساكنيه حكمة بالغة وقدرة قاهرة، وكل من هذه الأرواح لا يليق بها غير ما خلقت له مما يناسبها ويشاكلها قال تعالى: {قُلْ كُلٌ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} [الإسراء: 84] أى على ما يشاكله ويناسبه ويليق به، كما يقول الناس: "كل إناءٍ بالذى فيه ينضح"، فمن أرادت من الأرواح الخبيثة السفلية أن تكون مجاورة للأرواح الطيبة العلوية فى مقام الصدق بين الملأ الأعلى فقد أراد ما تأباه حكمة أحكم الحاكمين، ولو أن ملكاً من ملوك الدنيا جعل خاصته وحاشيته سفلة الناس وسقطهم وغرتهم الذين تتناسب أقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم فى القبح والرداءة والدناءة لقدح الناس فى ملكه وقالوا: لا يصلح للملك، فما الظن بمجاورى الملك الأعظم مالك الملوك فى داره وتمتعهم برؤية وجهه وسماع كلامه ومرافقتهم للملأ الأعلى الذين هم أطيب خلقه وأزكاهم وأشرفهم، أفيليق بذلك الرفيق الأعلى والمحل الأسنى والدرجات العلى روح سفلية أرضية قد أخلدت إلى الأرض وعكفت على ما تقتضيه طبائعها مما [تشاركها] فيه بل قد تزيد على الحيوان البهيم وقصرت همتها عليه وأقبلت بكليتها عليه لا ترى نعيماً ولا لذة ولا سروراً إلا ما وافق طباعها من كل مأكل ومشرب ومنكح من أين كان وكيف اتفق، فالفرق بينها وبين الحمير والكلاب والبقر بانتصاب القامة ونطق اللسان والأكل باليد، وإلا فالقلب والطبع على [شاكله] قلوب هذه الحيوانات وطباعها، وربما كانت طباع الحيوانات خيراً من طباع هؤلاء وأسلم وأقبل للخير ولهذا جعلهم الله سبحانه شر الدواب فقال تعالى: {إِنّ شَرّ الدّوَابّ عِندَ اللهِ الصّمّ الْبُكْمُ الّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلّواْ وّهُمْ مّعْرِضُونَ} [الأنفال: 22- 23] ، فهل يليق بحكمة العزيز الحكيم أن يجمع بين خير البرية وأزكى الخلق وبين شر البرية وشر الدواب فى دار واحدة يكونون فيها على حال واحدة من النعيم أو العذاب؟ قال الله تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم: 35- 36] ، فأَنكر عليهم الحكم بهذا وأخرجه مخرج الإنكار لا مخرج الإخبار لينبه العقول على هذا مما تحيله الفطر وتأْباه العقول السليمة، وقال تعالى: {لاَ يَسْتَوِيَ أَصْحَابُ النّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنّةِ أَصْحَابُ الْجَنّةِ هُمُ الْفَآئِزُونَ} [الحشر: 20] ، وقال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتّقِينَ كَالْفُجّارِ} [ص:28] ، وقال تعالى: {قَلْ هَلْ يَسْتَوَى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوا الأَلْبَابِ} [الزمر: 9] بل الواحد من الخلق لا تستوى أعاليه وأسافله، فلا يستوى عقبه وعينه، ولا رأسه ورجلاه، ولا يصلح أحدهما لما يصلح له الآخر فالله عز وجل قد خلق الخبيث والطيب والسهل والحزن والضار والنافع، وهذه أجزاء الأرض: منها ما يصلح جلاءً للعين ومنها ما يصلح للأتون والنار. وبهذا ونحوه يعرف كمال القدرة وكمال الحكمة: فكمال القدرة بخلق الأضداد. وكمال الحكمة تنزيلها منازلها ووضع كل منها فى موضعه والعالم من لا يلقى الحرب بين قدرة الله وحكمته- فإن آمن بالقدرة قدح فى الحكمة وعطلها وإن آمن بالحكمة قدح فى القدرة ونقصها- بل يربط القدرة بالحكمة، ويعلم شمولها لجميع ما خلقه الله ويخلقه، فكما أنه لا يكون إلا بقدرته ومشيئته فكذلك لا يكون إلا بحكمته. وإذا كان لا سبيل للعقول البشرية إلى الإحاطة بهذا تفصيلاً، فيكفيها الإيمان بما تعلم وتشاهد منه، ثم تستدل على الغائب بالشاهد وتعتبر ما علمت بما لم تعلم. وقد ضرب الله الأمثال لعباده فى كتابه وبَيَّن لهم ما فى لوازم ما خلقه لهم وأنزله عليهم من الغيث الذى به حياتهم وأقواتهم وحياة الأرض والدواب وما خلقه لهم من المعادن التى بها صلاح أبدانهم وأقواتهم وصنائعهم من الشر والخير وبين المغمور بالإضافة إلى الخير الحاصل بذلك فقال تعالى: {أَنَزَلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السّيْلُ زَبَداً رّابِياً وَمِمّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النّارِ ابْتِغَآءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مّثْلُهُ كَذَلِكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 يَضْرِبُ اللهُ الْحَقّ وَالْبَاطِلَ فَأَمّا الزّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمّا مَا يَنفَعُ النّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الأمْثَالَ} [الرعد: 17] فأخبر سبحانه أن الماء [سبب] بمخالطته الأرض إذا سال فلا بد من أن يحمل السيل من الغثاءِ والوسخ وغيره زبداً عالياً على وجه السيل، فالذى لا يعرف ما تحت الزبد يقصر نظره عليه ولا يرى إلا غثاءً ووسخاً ونحو ذلك ولا يرى ما تحته من مادة الحياة، وكذلك ما يستخرج من المعادن من الذهب والفضة والحديد والنحاس وغيرها إذا أوقد عليها فى النار ليتهيأ الانتفاع بها خرج منها خبث ليس من جوهرها ولا ينتفع به، وهذا لا بد منه فى هذا وهذا يجاوزه بصره. وقد ذم تعالى من ضعفت بصيرته من المنافقين، وعمى عما فى القرآن مما به ينال كل سعادة وعلم وهدى وصلاح وخير فى الدنيا والآخرة لمن لم يجاوز بصره وسمعه وعود وعيده وبروقها وصواعقها وما أعد الله لأعدائه من عذابه ونكاله وخزيه وعقابه [الذى هو - بالإضافة إلى ما فيه من حياة القلوب] والأرواح ومن المعارف الإلهية يبين طريق العبودية التى هى غاية كمال العبد، وهو مقصود لتكميل ذلك وتمامه. قال تعالى {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاّ يُبْصِرُونَ صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ أَوْ كَصَيّبٍ مّنَ السّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِيَ آذَانِهِم مّنَ الصّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ} [البقرة: 17-20] ، فهكذا حال كل من قصر نظره فى بعض مخلوقات الرب سبحانه على ما لا بد منه من شر جزئى جداً بالإضافة إلى الخير الكثير، ولو لم تكن فى هذه النشأة الإنسانية إلا خاصته وأولياؤه من رسله وأنبيائه وأتباعهم لكفى بها خيراً ومصلحة، ومن عاداهم- وإن كانوا أضعاف أضعاف أضعافهم- فهم كالقش والزبالة وغثاءِ السيل، لا يعبأُ بكثرتهم ولا يقدح فى الحكمة الإلهية، بل وجود الواحد الكامل من هذا النوع يغتفر معه [آلاف] مؤلفة من النوع الآخر فإنه إذا وجد واحد يوازن البرية ويرجح عليها كان الخير الحاصل بوجوده والحكمة والمصلحة أضعاف الشر الحاصل من وجود أضداده، وأثبت وأنفع وأحب إلى الله من فواته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 بتفويت ذلك الشر المقابل له، وهذا كالشمس: فإن الخير الحاصل بها أنفع للخلق وأكثر وأثبت وأصلح من تفويته بتفويت الشر المقابل له بها، وأين نفع الشمس وصلاح النبات والحيوان بها من نفع الرسل وصلاح [القلوب] الوجود بهم؟ بل أين ذلك من نفع سيد ولد آدم وصلاح الأبدان والدين والدنيا والآخرة به؟ وقد ضرب للنفس الإِنسانية وما فيها من الخير والشر مثل بدولاب أَو طاحون شديد الدوران، أَى شيء خطفه أَلقاه تحته وأَفسده، وعنده قيِّمة الذى يديره وقد أَحكم أَمره لينتفع به ولا يضر أَحداً، فربما جاءَ الغر الذى لا يعرف فيتقرب منه فيخرق ثوبه [أوبدنه] أَو يؤذيه، فإذا قيل لصاحبه: لم لم تجعله ساكناً لا يؤذى من اقترب منه؟ قال: هذه الصفة اللازمة التى كان بها دولاباً وطاحوناً، ولو [جعل] على غير هذه الصفة لم تحصل به الحكمة المطلوبة منه. وكذلك إذا أوقدنا نار الأَتون التى تحرق ما وقع فيها وعندها وقاد حاذق يحشوها، فإذا غفل عنها أَفسدت وإذا أَراد أحد أَن يقرب منها نهاه وحذره، فإذا استغفله من قرب منها حتى أَحرقته لم يقل لصاحب النار: هلا قللت حرها لئلا تفسد من يقرب منها وتحرقه؟ فإنه يقول: هذه صفتها التى لا يحصل المقصود منها إلا بها، ولو جعلتها دون ذلك لم تحرق أَحجار الكلس، ولم تطبخ الآجر، ولم تنضج الأَطعمة الغليظة ونحو ذلك، فما يحصل من الدولاب والطاحون ومن النار من نفعها هو من فضل الله ورحمته، وما يحصل بها من شر هو من طبيعتها التى خلقت عليها والتى لا تكون ناراً إلا بها، فلو خرجت عن تلك الطبيعة لم تكن ناراً، وكذلك النفس: فما يحصل لها من شر فهو منها ومن طبيعتها ولوازم نقصها وعدمها وما يحصل لها من خير فهو من فضل الله ورحمته، والله خالقها وخالق كل شيء قام بها من قدرة وإرادة وعلم وعمل وغير ذلك، فأَما الأُمور العدمية فهى باقية على ما [كانت] عليه من العدم، والإِنسان جاهل ظالم بالضرورة كما قال تعالى: {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب: 72] ، فإِن الله أَخرجه من بطن أُمه لا يعلم شيئاً [والظلم هو النقص، كما قال تعالى: {آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمِ مّنْهُ شَيْئاً} [الكهف: 33] أى ما نقص منه شيئاً] ، وهى ظالمة نفسها فهى الظالمة والمظلومة، إِذ كانت منقوصة من كمالها بعدم الكمالات أَو أَكثرها بها، وتلك أُخرى فصار عدمها مستلزماً لعدم تلك الكمالات [فعظم النقص والتعب كسبه وفقدت من لذاتها وسرورها ونعيمها وبهجتها وروحها بحسب ما فعلت من تلك الكمالات] التى لا سعادة لها بدونها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 فإِن أَحد الموجودين قد يكون مشروطاً بالآخر فيستحيل وجوده بدونه، لأَن عدم الشرط يستلزم عدم المشروط، فإذا عدمت النفس هذا الكمال المستلزم لكمال آخر مثله أَو أَعلى منه وهى- موصوفة بالنقص الذى هو الظلم والجهل ولوازمها من أَصل الخلقة- صارت متسلزمة للشر، وقوة شرها وضعفه بحسب قوتها وضعفها فى ذاتها. وتأَمل أَول نقص دخل على أَبى البشر وسرى إِلَى أَولاده كيف كان من عدم العلم والعزم. قال تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَىَءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} [طه: 115] والنسيان سواءٌ كان عدم العلم أَو عدم الصبر كما فسر بهما [هاهنا] فهو أَمر عدمى، ولهذا قال آدم لما رأَى ما دخل عليه من ذلك: {رَبّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23] ، فإِنه إذا اعترف خص نفسه- بما حصل لها من عدم العلم والصبر- بالنسيان الذى أَوجب فوات حظه من الجنة، ثم قال: {وَإِن لّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23] ، فإِنه سبحانه لم يغفر السيئات الوجودية فيمنع أَثرها وعقابها [ونقى] العبد من ذلك وإلا ضرته آثارها ولا بد، [كآثار] الطعام المسموم إِن لم يتداركه المداوى بشرب الترياق ونحوه وإلا ضره ولا بد، وإِن لم يرحمه سبحانه بإِيجاد ما به يصلح النفس وتصير عالمة [بالحق عاملة به] وإِلا خسر. ، والمغفرة تمنع الشر، والرحمة توجب الخير، والرب سبحانه إن لم يغفر للإِنسان فيقيه السيئات ويرحمه فيؤتيه الحسنات وإِلا هلك ولا بد، إذ كان ظالماً لنفسه ظلوماً بنفسه، فإِن نفسه ليس عندها خير يحصل لها منها، وهى متحركة بالذات فإِن لم تتحرك إلى الخير تحركت إلى الشر فضرت صاحبها، وكونها متحركة بالذات من لوازم كونها نفساً لأَن ما ليس حساساً متحركاً بالإِرادة فليس نفساً، [فى] الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم "أَصْدَقُ الأَسْمَاءِ حَارِثٌ وَهَمَّام"، فالحارث الكاسب العامل، والهمام الكثير الهم والهم مبدأُ [الإرادة فالنفس لا تكون إلا مريدة عاملة، فإن لم توفق] [للإرادة] الصالحة وإلا وقعت فى الإِرادة الفاسدة والعمل الضار، وقد قال تعالى: {إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلا الْمُصَلِّينَ} [المعارج: 19- 22] ، فأَخبر [تعالى] أَن الإنسان خلق على هذه الصفة، وإن من كان على غيرها فلأَجل ما زكاه الله به من فضله وإِحسانه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 وقال تعالى: {وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفاً} [النساء: 28] ، قال طاووس ومقاتل وغيرهما: لا يصبر عن النساءِ. وقال الحسن: هو خلقه من ماءٍ مهينٍ. وقال الزجاج: ضعف عزمه عن قهر الهوى. والصواب أَن ضعفه يعم هذا كله، وضعفه أَعظم من هذا وأَكثر: فَإنه ضعيف البنية، ضعيف القوة، ضعيف الإرادة، ضعيف العلم ضعيف الصبر، والآفات إليه [مع] هذا الضعف أَسرع من السيل فى صيب الحدود. فبالإِضطرار لا بد له من حافظ معين يقويه ويعينه وينصره ويساعده، فإن تخلى عنه هذا المساعد المعين فالهلاك أَقرب إليه من نفسه. وخلقه على هذه الصفة هو من الأُمور التى يحمد عليها الرب [جل جلاله] ويثنى عليه بها. وهو موجب حكمته وعزته، فكل ما يحدث من هذه الخلقة ويلزم عنها فهو بالنسبة إلى الخالق [عز وجل] خير وعدل وحكمة، إِذ مصدر هذه الخلقة عن صفات كماله من غناه وعلمه وعزته وحكمته ورحمته، وبالنسبة إِلى العبد تنقسم إِلى خير وشر وحسن وقبيح، كما تكون بالنسبة إليه طاعة ومعصية وبراً وفجوراً، بل أَخص من ذلك، مثل كونها صلاة وصياماً وحجاً [وزكاة] وسرقة وأْكلاً وشرباً، إِذ [ذلك] موجب حاجته وظلمه وجهله وفقره وضعفه، وموجب أَمر الله له ونهيه، ولله سبحانه الحكمة البالغة والنعمة السابغة والحمد المطلق على تجميع ما خلقه وأَمر به، وعلى ما لم يخلقه مما لو شاءه لخلقه، وعلى توفيقه الموجب لطاعته وعلى خذلانه الموقع فى معصيته، وهو سبقت رحمته غضبه وكتب على نفسه الرحمة، وأحسن كل شيء خلقه وأتقن كل ما صنع وما يحصل للنفوس البشرية من الضرر والأذى فله فى ذلك سبحانه أعظم حكمة مطلوبة وتلك الحكمة إِنما تحصل على الوجه الواقع المقدر بما خلق لها من الأَسباب التى لا تنال غاياتها إِلا بها، فوجود هذه الأَسباب بالنسبة إلى الخالق الحكيم سبحانه هو من الحكمة، ولهذا يقرن سبحانه فى كتابه بين اسمه الحكيم واسمه العليم تارة وبين اسمه العزيز تارة كقوله: {وَالله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النساء: 26] [الأنفال: 71] ، {وَالله عَزِيز حَكِيمٌ} [البقرة: 240] [المائدة: 38] ، وقوله: {وَكَانَ اللهُ عزِيزاً حَكِيماً} [النساء: 158، 165] [الفتح: 7، 19] ، {وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً} [النساء: 170] [الفتح: 4] ، {وَإِنّكَ لَتُلَقّى الْقُرْآنَ مِن لّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} [النمل: 6] فإن العزة تتضمن القوة، ولله القوة جميعاً، يقال: عز يعز- بفتح العين- إذا اشتد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 وقوى، ومنه الأرض العزاز: الصلبة الشديدة، وعز يعز بكسر العين إذا امتنع ممن يرومه وعز يعز بضم العين إذا غلب وقهر، فأعطوا أقوى الحركات وهى الضمة- لأقوى المعانى وهو الغلبة والقهر للغير وأضعفها وهى الفتحة لأَضعف هذه المعانى وهو كون الشئ فى نفسه صلباً، ولا يلزم من ذلك أَن يمتنع عمن يرومه والحركة المتوسطة وهى الكسرة للمعنى المتوسط وهو القوى الممتنع عن غيره، ولا يلزم منه أن يقهر غيره ويغلبه، فأعطوا الأقوى للأقوى والأضعف للأضعف والمتوسط للمتوسط. ولا ريب أن قهر [المريد] عما يريده من أقوى أوصاف القادر، فإِن قهره عن إرادته وجعله مريداً كان أَقوى أنواع القهر، والعز ضد الذل، والذل أصله الضعف والعجز فالعز يقتضى كمال القدرة [والعزة] ، ولهذا يوصف به المؤمن ولا يكون ذماً له بخلاف الكبر. قال رجل للحسن البصرى: إنك متكبر. فقال: لست متكبراً، ولكنى [عزز] . وقال تعالى: {وَللهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينِ} [المنافقون: 8] ، وقال ابن مسعود: ما زلنا أعزة الإسلام [منذ أسلم عمر. وقال النبى صلى الله عليه وسلم "اللهم أعز] بأحد هذيْنِ الرَّجُلَيْنِ: عُمَرَ بْنَ الْخَطَّاب، أَو أَبِى جَهْل بْن هِشَام"، وفى بعض الآثار: إِن الناس بطلبون العزة فى أبواب الملوك، ولا يجدونها إِلا فى طاعة الله عز وجل. وفى الحديث: "اللَّهُمَّ أَعِزَّنَا بِطَاعَتِكَ وَلا تُذِلَّنَا بِمعْصِيتكَ" وقال بعضهم: من أَراد عزاً بلا سلطان، وكثرة بلا عشيرة، وغنى بلا مال، فلينتقل من ذل المعصية إلى عز الطاعة. فالعزة من جنس القدرة والقوة وقد ثبت فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم أَنه قال: "الْمُؤْمِنُ الْقَوِى خَيْر وَأَحَبُّ إِلَى اللهُ مَنَ الْمُؤْمِنِ الضعيف، وفى كل خير". فالقدرة إن لم يكن معها حكمة بل كان القادر يفعل ما يريده بلا نظر فى العاقبة، ولا حكمة محمودة يطلبها بإرادته ويقصدها بفعله، كان [فعلة] فساداً كصاحب شهوات الغى والظلم، الذى [يفعله] بقوته ما يريده من شهوات الغى فى بطنه وفرجه ومن ظلم الناس، فإِن هذا وإن كان له قوة وعزة لكن لما لم يقترن بها حكمة كان ذلك معونة على شره وفساده. وكذلك العلم كماله أن [نقترن به الحكمة وإلا فالعالم الذى لا يريد ما] تقتضيه الحكمة وتوجبه، بل يريد ما يهواه، سيفه غاوٍ، [وعلمه عون له على الشر والفساد هذا إذا كان عالماً قادراً] مريداً له إِرادة من غير حكمة، وإِن قدر أنه لا إرادة له فهذا أولاً ممتنع من الحى، فإن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 وجود الشعور بدون حب ولا بغض ولا إِرادة ممتنع كوجود إرادة بدون الشعور، وأما القدرة والقوة إذا قدر وجودها بدون إرادة فهى كقوة الجماد، فإن القوة الطبيعية التى هى مبدأُ الفعل والحركة [لا إِرادة لها] وقد قال بعض الناس: إِن [للجماد] شعوراً يليق به واحتج بقوله تعالى: {وَإِنّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجّرُ مِنْهُ الأنْهَارُ وَإِنّ مِنْهَا لَمَا يَشّقّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَآءُ وَإِنّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ} [البقرة: 74] ، وبقوله تعالى: {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضّ} [الكهف: 77] وهذه المسألة كبيرة تحتاج إلى كلام يليق بهذا الموضع. والمقصود أَن العلم والقدرة المجردين عن الحكمة لا يحصل بهما الكمال والصلاح وإِنما [يحصل] ذلك بالحكمة معها، واسمه سبحانه "الحكيم" يتضمن حكمته فى خلقه وأَمره فى إِرادته الدينية الكونية وهو حكيم فى كل ما خلقه وأَمر به. والناس فى هذا المقام أَربع طوائف: الطائفة الأُولى الجاحدة لقدرته وحكمته فلا يثبتون له [تعالى] قدرة ولا حكمة، كما يقوله من ينفى كونه تعالى فاعلاً مختاراً وأَن صدور العالم عنه بالإِيجاب الذاتى لا بالقدرة والاختيار وهؤلاء يثبتون حكمة يسمونها عناية إلهية، وهم من أشد الناس تناقضاً، إِذ لا يعقل حكيم لا قدرة له ولا اختيار، وإِنما يسمون ما فى العالم من المصالح والمنافع عناية إلهية من غير أَن يرجع منها إِلى الرب [تعالى] إِرادة ولا حكمة وهؤلاءِ كما أَنهم مكذبون لجميع الرسل فإِنهم مخالفون لصريح العقل والفطرة، قد نسبوا الرب [تعالى] إِلى أَعظم النقص، وجعلوا كل قادر مريد مختار أَكمل منه وإِن كان من كان، بل سلبهم القدرة والاختيار والفعل عن رب العالمين شر من شرك عباد الأَصنام به بكثير، وشر من قول النصارى أَنه- تعالى عن قولهم- ثالث ثلاثة وأَن له صاحبة وولداً، فإِن هؤلاءِ أَثبتوا له قدرة وإِرادة واختياراً وحكمة، ووصفوه مع ذلك بما لا يليق به. وَأَما أُولئك فنفوا ربوبيته وقدرته بالكلية وأَثبتوا له أَسماءَ لا حقائق لها ولا معنى. والطائفة الثانية أقرت بقدرته وعموم مشيئته للكائنات وجحدت حكمته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 وما له فى خلقه من الغايات المحمودة المطلوبة له سبحانه التى يفعل لأَجلها ويأْمر لأَجلها، فحافظت على القدر وجحدت الحكمة، وهؤلاءِ هم النفاة للتعليل والأَسباب والقوى والطبائع فى المخلوقات، فعندهم لا يفعل لشيء ولا لأجل شيء، وليس فى القرآن عندهم لام تعليل ولا باءُ تسبب، وكل لام توهم التعليل فهى عندهم لام العاقبة وكل باءٍ تشعر بالتسبب فهى عندهم باءُ المصاحبة وهؤلاء سلطوا نفاة القدر عليهم [بما نفوه من الحكمه والتعليل والأسباب فاستطالوا عليهم بذلك] ، ووجدوا مقالاً واسعاً بالشناعة فقالوا وشنعوا، ولعمر والله إنهم لمحقون فى أَكثر ما شنعوا عليهم به، إِذ نفى الحكمة والتعليل والأَسباب له لوازم فى غاية الشناعة، والتزامها بمكابرة ظاهرة لعامة [عند عامة] العقلاءِ. والطائفة الثالثة أقرت بحكمته أثبتت الأَسباب والعلل والغايات فى أَفعاله وأَحكامه، وجحدت كمال قدرته، فنفت قدرته على شطر العالم وهو أَشرف ما فيه من أَفعال الملائكة والجن والإِنس وطاعاتهم، بل عندهم [هذه] كلها لا تدخل تحت مقدوره [تعالى] ، ولا يوصف بالقدرة عليها ولا هى داخلة تحت مشيئته ولا ملكه، وليس فى مقدوره عندهم أَن يجعل المؤمن مؤمناً والمصلى مصلياً والموفق موفقاً، بل هو الذى [جعل] نفسه كذلك. وعندهم أَن أَفعال العباد من الملائكة والجن والإِنس كانت بغير مشيئته واختياره فتعالى الله عن [قولهم] ، وهؤلاءِ سلطوا عليهم نفاة الحكمة والتعليل والأَسباب فمزقوهم كل ممزق ووجدوا طريقاً وسيعاً إلى الشناعة عليهم، وأَبدوا تناقضهم فقالوا وشنعوا، ورموهم بكل داهية. أو نفى قدرة الرب [تعالى] على شطر المملكة له لوازم فى غاية الشناعة والقبح والفساد، والتزامها مكابرة ظاهرة عند عامة العقلاءِ، ونفى التزامها تناقض بين، فصاروا بذلك بين التناقض- وهو أحسن حالهم- وبين التزام تلك العظائم التى تخرج عن الإِيمان، كما كان نفاة الحكمة والأَسباب والغايات كذلك. فهدى الله الطائفة الرابعة لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدى من يشاءُ إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 صراط مستقيم، فآمنوا بالكتاب كله، وأقروا بالحق جميعه، ووافقوا كل واحدة من الطائفتين على ما معها من الحق، وخالفوهم فيما قالوه من الباطل، [فآمنوا] بخلق الله وأَمره بقدرته وشرعه وأَنه سبحانه المحمود على خلقه وأَمره، وأَنه له الحكمة البالغة والنعمة السابغة، وأَنه على كل شيء قدير: فلا يخرج عن مقدوره شيء من الموجودات أَعيانها وأَفعالها وصفاتها، كما لا يخرج عن علمه، فكل ما تعلق به علمه من العالم تعلقت به قدرته ومشيئته. وآمنوا مع ذلك بأَن له الحجة على خلقه، [وأنه لا حجة لأحد عليه بل لله الحجة البالغة] وأَنه لو عذب أَهل سماواته وأَهل أَرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، بل كان تعذيبهم منه عدلاً منه وحكمة لا بمحض المشيئة المجردة عن السبب والحكمة كما يقوله الجبرية، ولا يجعلون القدر حجة لأَنفسهم ولا لغيرهم، بل يؤمنون به ولا يحتجون به ويعلمون أَن الله سبحانه أَنعم عليهم بالطاعات وأَنها من نعمته عليهم وفضله وإِحسانه، وأَن المعاصى من نفوسهم الظالمة الجاهلة، وأَنهم هم جناتها وهم الذين اجترحوها، ولا يحملونها على القضاء والقدر مع علمهم بشمول قضائه وقدره لما فى العالم من خير وشر وطاعة وعصيان وكفر وإِيمان، وأَن مشيئة الله سبحانه محيطة بذلك كإحاطة علمه به، وأَنه لو شاءَ أَلا يعصى لما عصى وأَنه [سبحانه] أَعز وأَجل من أَن يعصى قسراً، والعباد أَقل من ذلك وأَهون، وأَنه ما شاءَ الله كان وكل كائن فهو بمشيئته، وما لم يشأْ لم يكن، وما لم يكن فلعدم مشيئته، فله الخلق والأَمر وله الملك والحمد وله القدرة التامة والحكمة الشاملة البالغة. فهذه الطائفة هم أَهل البصر التام، والأولى لهم العمى المطلق، والثانية والثالثة كل طائفة منهما [لهم] عين عمياءُ، ومع هذا فسرى العمى من العين العمياءِ إلى العين الصحيحة فأَعماها ولا يستكثر تكرار هذا الكلمات من يعلم شدة الحاجة إليها وضرورة النفوس إِليها، فلو تكررت فالحاجة إليها فى محل الضرورة. والله المستعان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 فصل: فى إِثبات الحمد كله لله عَزَّ وجَلَّ ويجمع هذين الأَصلين العظيمين أَصل ثالث هو عقد نظامهما وجامع شملهما، وبتحقيقه وإِثباته على وجهه يتم بناءُ هذين الأَصلين وهو إِثبات الحمد كله لله رب العالمين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 فإِنه المحمود على ما خلقه وأَمر به ونهى عنه، فهو المحمود على طاعات العباد ومعاصيهم وإِيمانهم وكفرهم، وهو المحمود على خلق الأَبرار والفجار والملائكة والشياطين وعلى خلق الرسل وأَعدائهم، وهو المحمود على عدله فى أَعدائه كما هو المحمود على فضله وإِنعامه على أَوليائه، فكل ذرة من ذرات الكون شاهدة بحمده، ولهذا سبح بحمده السموات السبع والأَرض ومن فيهن: {وَإِن مِن شَيءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44] ، وكان فى قول النبى صلى الله عليه وسلم عند الاعتدال من الركوع: "رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْد، مِلْءَ السَّمَاءِ وَمِلْءَ الأَرْضِ، وَمِلءَ مَا بَيْنَهُمَا وَمِلءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيء بَعْد"، فله سبحانه الحمد حمداً يملأْ المخلوقات والفضاء الذى بين السماوات والأرض، ويملأُ ما يقدر بعد ذلك مما يشاءُ أَن يملأَ بحمده. وذاك يحتمل أَمرين: أحدهما أَن يملأَ ما يخلقه الله بعد السموات والأرض، والمعنى أَن الحمد ملءُ ما خلقته وملءُ ما تخلقه بعد ذلك. الثانى أَن يكون المعنى ملءُ ما شئت من شيء [بعد] يملأه حمدك، أَى يقدَّر مملوءاً بحمدك وإِن لم يكن موجوداً. ولكن [قد] يقال: المعنى الأَول أَقوى لأَن قوله: "مَا شِئْتَ مِنْ شَيء بعد" يقتضى أَنه شيء يشاؤه، وما شاءَ كان، والمشيئة متعلقة بعينه لا بمجرد ملء الحمد له. فتأَمله لكنه إذَا شاَءَ كونه فله الحمد ملأه، فالمشيئة راجعة إِلى المملوءِ بالحمد، فلا بد أَن يكون شيئاً موجوداً يملأه حمده وأَيضاً فإِن قوله: "من شيء بعد" يقتضى أَنه [شيء يشاؤه سبحانه بعد هذه المخلوقات كما يخلقه] بعد ذلك من مخلوقاته ومن القيامة وما بعدها. ولو أُريد تقدير خلقه لقيل: وملء ما شئت من شيء مع ذلك لأن المقدر يكون مع المحقق. وأَيضاً فإِنه لم يقل: ملء ما شئت أن يملأه الحمد، بل قال: ما شئت. والعبد قد حمد حمداً أَخبر به، وإِن ثناءَه ووصفه بأَنه يملأُ ما خلقه الرب سبحانه وما يشاءُ بعد ذلك، وأَيضاً قوله "وملءُ ما شئت من شيء بعد" يقتضى إِثبات مشيئة تتعلق بشيء بعد ذلك، وعلى الوجه الثانى قد تتعلق المشيئة بملء المقدر، وقد لا تتعلق وأَيضاً فإِذا قيل: "ما شئت من شيء بعد ذلك" كان الحمد مالئاً لما هو موجود يشاؤه الرب دائماً، ولا ريب أَن له الحمد دائماً فى الأُولى والآخرة، وأَما إِذا قدر ما يملأه الحمد وهو غير موجود فالمقدرات لا حد لها، وما من شيء منها إِلا يمكن تقدير شيء بعده وتقدير ما لا نهاية له كتقدير الأَعداد، ولو أُريد هذا المعنى لم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 يحتج إلى تعليقه بالمشيئة، بل قيل: "ملء ما لا يتناهى" فأَما ما يشاؤه الرب [تعالى] فلا يكون إِلا موجوداً مقدراً، وإِن كان لا آخر لنوع الحوادث أَو بقاءِ ما يبقى منها فهذا كله مما يشاؤه بعد وأَيضاً فالحمد هو الإِخبار بمحاسن المحمود على وجه الحب له ومحاسن المحمود تعالى إما قائمة بذاته وإما ظاهرة فى مخلوقاته، فأَما المعدوم المحض الذى لم يخلق ولا خلق قط فذاك ليس فيه محاسن ولا غيرها، فلا محامد فيه البتة فالحمد لله [الذى] يملأُ المخلوقات ما وجد منها ويوجد هو حمد يتضمن الثناءَ عليه بكماله القائم بذاته والمحاسن الظاهرة فى مخلوقاته، وأما ما لا وجود له فلا محامد منه ولا مذام، فجعل الحمد مالئاً له لما لا حقيقة له. وقد اختلف الناس فى معنى كون حمده يملأُ السموات والأَرض وما بينهما، فقالت طائفة على جهة التمثيل: أَى لو كان أَجساماً لملأَ السموات والأَرض وما بينهما قالوا: فإِن الحمد من قبيل المعانى والأَعراض التى لا تملأُ بها الأجسام، ولا تملأُ الأجسام [إلا بالأجسام] والصواب أَنه لا يحتاج إِلى [هذا التكلف البارد فإن من كل شيء يكون بحسب] الماليء والمملوءِ، فإِذا قيل امتلأَ الإِناءُ ماءً وامتلأَت الجفنة طعاماً فهذا الامتلاءُ نوع، وإِذا قيل: امتلأَت الدار رجالاً وامتلأَت المدينة خيلاً ورجالاً فهذا نوع آخر. وإِذا قيل: امتلأَ الكتاب سطوراً فهذا نوع آخر، وإِذا قيل: امتلأَت مسامع الناسِ حمداً أَو ذماً لفلان فهذا نوع آخر فى أثر معروف: أهل الجنة من امتلأت مسامعه من ثناءِ الناس عليه، وأَهل النار من امتلأَت مسامعه من ذم الناس له". وقال عمر بن الخطاب فى عبد الله بن مسعود كنيف مليء علماً، ويقال: فلان علمه قد ملأَ الدنيا. وكان يقال: ملأ ابن أبى الدنيا الدنيا علماً. ويقال: صيت فلان قد ملأ الدنيا وضيق الآفاق وحبه قد ملأَ القلوب، وبغض فلان قد ملأَ القلوب، وامتلأَ قلبه رعباً، وهذا أَكثر من أَن تستوعب شواهده، وهو حقيقة فى بابه وجعل الملء والامتلاءِ حقيقة للأَجسام خاصة تحكم باطل ودعوى لا دليل عليها البتة، والأَصل الحقيقة الواحدة، والاشتراك المعنوى هو الغالب على اللغة والأَفهام والاستعمال، فالمصير إِليه أَولى من المجاز والاشتراك [اللفظى] وليس هذا موضع تقرير [هذه المسأَلة] . والمقصود أن الرب أسماؤه كلها حسنى ليس فيها اسم سوء، وأوصافه كلها كمال ليس فيهاصفة نقص وأفعاله كلها حكمة ليس فيها فعل خال عن الحخكمة والمصلحة، وله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 المثل الأعلى في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم، موصوف بصفة الكمال مذكور بنعوت الجلال منزه عن الشبيه والمثال ومنزه عما يضاد صفات كماله: فمنزه عن الموت المضاد للحياة، وعن السنة والنوم والسهو والغفلة المضاد للقيومية، وموصوف بالعلم منزه عن أضداده كلها من النسيان والذهول وعزوب شيء عن علمه، موةصوف بالقدرة التامة منزه عن ضدها من العجز واللغوب والإعياء، موصوف بالعدل منزه عن الظلم، موصوف بالحكمة منزه عن العبث، موصوف بالسمع والبصر منزه عن أضدادهما من الصمم والبكم، موصوف بالعلو والفوقية منزه عن أضداد ذلك، موصوف بالغنى التام منزه عما يضاده بوجه من الوجوه، ومستحق للحمد لكه فيستحيل أن يكون غير محمود كما يستحيل أن يكون غير قادر ولا خالق ولا حي، وله الحمد كله واجب لذاته فلا يكون إلا محموةدا كما لا يكون إلا إلها وربا وقادرا فإذا قيل: "الحمد كله لله" فهذا له معنيان: أحدهما أَنه محمود على كل شيء [وبكل ما يحمد به المحمود التام وإن كان بعض خلقه يحمد أيضاً كما] يحمد رسله وأنبياؤه وأَتباعهم- فذلك من حمده تبارك وتعالى بل هو المحمود بالقصد الأَول [وبالذت وما نالوه من الحمد فإنما نالوه بحمده] فهو المحمود أَولاً وآخراً وظاهراً وباطناً، وهذا كما أَنه بكل شيء عليم، وقد علم غيره من علمه ما لم يكن يعلمه بدون تعليمه، وفى الدعاء المأْثور: "اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ كُلُهُ، ولَكَ الْمُلْكُ كُلُّهُ، وَبِيَدِكِ الْخَيْرُ كُلُّهُ، وَإِلَيْكَ يَرْجِعُ الأَمْرُ كُلُّهُ، أَسْأَلُكَ مِنَ الْخَيْرِ كله وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الشَّرِّ كُلِّهِ"، وهو سبحانه له الملك وقد آتى من الملك بعض خلقه، وله الحمد وقد آتى غيره من الحمد ما شاءَ. وكما أن ملك المخلوق داخل فى ملكه، فحمده أَيضاً داخل فى حمده، فما من محمود يحمد على شيء مما دق أَو جل إِلا والله المحمود عليه بالذات [والأَولوية] أَيضاً، وإِذا قال [الحامد] : "اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْد"، فالمراد به أَنت المستحق لكل حمد، ليس المراد به الحمد الخارجى فقط. المعنى الثانى أَن يقال: "لَكَ الْحَمْد كلُّه" أى الحمد التام الكامل فهذا مختص بالله عز وجل ليس لغيره فيه شركة. والتحقيق أَن له الحمد بالمعنيين جميعاً، فله عموم الحمد وكماله، وهذا من خصائصه سبحانه، فهو المحمود على كل حال وعلى كل شيء أكمل حمد وأَعظمه، كما أَن له الملك التام العام فلا يملك كل شيء إِلا هو وليس الملك التام الكامل إِلا له وأَتباع الرسل [صلوات الله وسلامه عليهم] يثبتون له كمال الملك وكمال الحمد فإِنهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 يقولون: إِنه خالق كل شيء وربه ومليكه، لا يخرج عن خلقه وقدرته ومشيئته شيء البتة فله الملك كله. والقدرية المجوسية يخرجون من ملكه أَفعال العباد، فيخرجون [طاعات الأنبياء والمرسلين والملائكة والمتقين من ملكه كما يخرجون] سائر حركات الملائكة والجن والإِنس عن ملكه. وأَتباع الرسل يجعلون ذلك كله داخلاً [تحت] ملكه وقدرته، ويثبتون كمال الحمد أَيضاً، وأَنه المحمود على جميع ذلك وعلى كل ما خلقه ويخلقه، لما له فيه من الحكم والغايات المحمودة المقصودة بالفعل. وأَما نفاة الحكمة والأَسباب من مثبتى القدر فهم فى الحقيقة لا يثبتون له حمداً كما لا يثبتون له الحكمة فإن الحمد من لوازم الحكمة والحكمة إِنما تكون فى حق من يفعل شيئاً لشيء فيريد بما يفعله الحكمة الناشئة من فعله فأما من لا يفعل شيئاً لشيء البتة فلا يتصور فى حقه الحكمة. وهؤلاءِ يقولون: ليس فى أَفعاله وأَحكامه لام التعليل، وما اقترن بالمفعولات من قوى وطبائع ومصالح فإِنما اقترنت بها اقتراناً عادياً، لا أَن هذا كان لأَجل هذا، ولا نشأَ السبب لأَجل المسبب، بل لا سبب عندهم ولا مسبب البتة، إِن هو إِلا محض المشيئة وصرف الإِرادة التى ترجح مثلاً على مثل، بل لا مرجح أَصلاً، وليس عندهم فى الأَجسام وطبائع وقوى تكون أَسباباً لحركاتها، ولا فى العين قوة امتازت بها على الرِّجل يبصر بها، ولا فى القلب قوة يعقل بها امتاز بها [على] الظهر، بل خص سبحانه أَحد الجسمين بالرؤية والعقل والذوق تخصيصاً لمثل على مثل بلا سبب أَصلاً ولا حكمة، فهؤلاءِ لم يثبتوا له كمال الحمد، كما لم يثبت له أُولئك كمال الملك، وكلا القولين منكر عند السلف وجمهور الأُمة. ولهذا كان منكرو الأَسباب والقوى والطبائع يقولون: العقل نوع من العلوم الضرورية كما قال القاضيان أبو بكر بن الطيب وأبو يعلى بن الفراءِ وأَتباعهما. وقد نص أَحمد على أَنه غريزة، وكذلك الحارث المحاسبى وغيرهما، فأولئك لا يثبتون غريزة ولا قوة ولا طبيعة ولا سبباً، وأبطلوا مسميات هذه الأَسماءِ جملة وقالوا: إِن ما فى الشريعة من المصالح والحكم لم يشرع الرب سبحانه ما شرع من الأَحكام لأَجلها بل اتفق اقترانها بها أَمراً اتفاقياً، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 كما قالوا نظير ذلك فى المخلوقات سواء، والعلل عندهم أَمارات محضة لمجرد الاقتران الاتفاقى. وهم فريقان: أَحدهما لا يعرجون على المناسبات ولا يثبتون العلل بها البتة، وإِنما يعتمدون على تأْثير العلة بنص أَو إِجماع، فإِن فقدوا فزعوا إِلى الأَقيسة الشبهية. والفريق الثانى أَصلحوا المذهب بعض الإِصلاح وقربوه بعض الشيء وأَزالوا تلك النفرة عنه، فأثبتوا الأَحكام بالعلل والعلل بالمناسبات والمصالح، ولم يمكنهم الكلام فى الفقه إلا بذلك، ولكم جعلوا اقتران أَحكام تلك العلل والمناسبات بها اقتراناً عادياً غير مقصود فى نفسه العلل والمناسبات أَمارات ذلك الاقتران، وهؤلاءِ يستدلون على إثبت علم الرب تعالى بما فى مخلوقاته من الأحكام والإِتقان والمصالح، وهذا تناقض بين منهم، فإِن ذلك إِنما يدل إِذا كان الفاعل يقصد أَن يفعل الفعل على وجه مخصوص لأَجل الحكمة المطلوبة منه، وأَما من لم يفعل لأَجل ذلك الإحكام والإِتقان وإِنما اتفق اقترانه بمفعولاته عادة فإِن ذلك الفعل لا يدل على العلم، ففى أَفعال الحيوانات من الإِحكام والإِتقان والحكم ما هو معروف لمن تأمله، ولكن لما لم تكن تلك الحكم والمصالح مقصودة لها لم تدل على علمها. والمقصود أَن هؤلاءِ إِذا قالوا: إِنه تعالى لا يفعل لحكمة امتنع عندهم أَن يكون الإِحكام دليلاً على العلم وأَيضاً فعلى قولهم يمتنع أَن يحمد على ما فعله لأَمر ما حصل للعباد من نفع، فهو سبحانه لم يقصد بما خلقه نفعهم ولا خلقه لنفعهم ومصالحهم، بل إنما أَراد مجرد وجوده لا لأَجل كذا ولا لنفع أَحد ولا لضره، فكيف يتصور فى حق من يكون فعله ذلك حمد؟ فلا يحمد على فعل عدل، ولا على ترك ظلم، لأَن الظلم- عندهم- والممتنع الذى لا يدخل فى المقدور، وذلك لا يمدح أَحد على تركه وكل ما أَمكن وجوده فهو عندهم عدل فالظلم مستحيل عندهم إِذ هو عبارة عن الممتنع المستحيل لذاته الذى لا يدخل تحت المقدور ولا يتصور فيه ترك اختيارى فلا يتعلق به حمد، وإخباره تعالى عن نفسه بقيامه بالقسط حقيقة عندهم مجرد كونه فاعلاً لا أَن هناك شيئاً هو قسط فى نفسه يمكن وجود ضده، وكذلك قوله: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] نفى عندهم لما هو مستحيل فى نفسه لا حقيقة له، كجعل الجسم فى مكانين فى آن واحد، وجعله موجوداً معدوماً فى آن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 واحد، فهذا ونحوه عندهم هو الظلم الذى تنزه عنه، وكذلك قوله: "يَا عِبَادِى، إِنِّى حَرَّمْتُ الْظُّلْمَ عَلَى نَفْسِى، وَجَعَلْتُهُ مُحَرَّماً بَيْنَكُمْ، فَلا تَظَالَمُوا"، فالذى حرمه على نفسه هو المستحيل الممتنع لذاته كالجمع بين النقيضين وليس هناك ممكن يكون ظلماً فى نفسه وقد حرمه على نفسه، ومعلوم أَنه لا يمدح الممدوح بترك ما لو أَراده لم يقدر عليه. وأَيضاً فإِنه قال: "وَجَعَلْتُهُ مُحُرَّماً بَيْنَكُمْ" فالذى حرمه على نفسه هو الذى جعله محرماً بين عباده وهو الظلم المقدور الذى يستحق تاركه الحمد والثناءَ. والذى أوجب لهم هذا مناقضة القدرية المجوسية ورد أُصولهم وهدم قواعدهم، ولكن ردوا باطلاً بباطل وقابلوا بدعة ببدعة وسلطوا عليهم خصومهم بما التزموه من الباطل فصارت الغلبة بينهم وبين خصومهم سجالاً مرة يغلبون ومرة يغلبون لم يستقر لهم نصرة، وإِنما النصرة الثابتة لأَهل السنة المحضة الذين لم يتحيزوا إِلى فئة غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يلتزموا غير ما جاءَ به، ولم يؤصلوا أَصلاً ببدعة يسلطون عليهم به خصومهم، بل أصلهم ما دل عليه كتاب الله وكلام رسوله وشهدت به الفطر والعقول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 فصل: فى بيان أن حمده تعالى شامل لكل ما يحدثه والمقصود بيان شمول حمده تعالى وحكمته لكل ما يحدثه من إحسان ونعمة وامتحان وبلية، وما يقضيه من طاعة ومعصية، أنه سبحانه محمود على ذلك مشكور حمد المدح وحمد الشكر، أَما حمد المدح فإنه محمود على كل ما خلق إِذ هو رب العالمين والحمد لله رب العالمين وأَما حمد الشكر فلأن ذلك كله نعمة فى حق المؤمن إِذا اقترن بواجبه من الإحسان، والنعمة إِذا [اقترنت بالشكر صارت] نعمة والامتحان والبلية إذا اقترنا بالصبر كانا نعمه، والطاعة من أَجلّ نعمه، وأَما المعصية فإِذا اقترنت بواجبها من التوبة والاستغفار والإِنابة والذل والخضوع فقد ترتب عليها من الآثار المحمودة والغايات المطلوبة ما هو نعمة أيضاً وإِن كان سببها مسخوطاً مبغوضاً للرب تعالى، ولكنه يحب ما يترتب عليها من التوبة والاستغفار، وهو سبحانه أَفرح بتوبة عبده من الرجل إِذا أضل راحلته بأَرض دوِّية مهلكة عليها طعامه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 وشرابه فأَيس منها ومن الحياة فنام ثم استيقظ فإِذا بها قد تعلق خطامها فى أَصل شجرة فجاءَ حتى أخذها، فالله أَفرح بتوبة العبد حين يتوب إِليه من هذا براحلته، فهذا الفرح العظيم الذى لا يشبهه شيء أَحب إِليه سبحانه من عدمه، وله أَسباب ولوازم لابد منها، وما يحصل بتقدير عدمه من الطاعات وإِن كان محبوباً له فهذا الفرح أَحب إليه بكثير ووجوده بدون لازمه ممتنع، فله من الحكمة فى تقدير أَسبابه وموجباته حكمة بالغة ونعمة سابغة. هذا بالإضافة إلى الرب جل جلاله، وأَما بالإِضافة إلى العبد فإِنه قد يكون كمال عبوديته وخضوعه موقوفاً على أَسباب لا تحصل بدونها، فتقدير الذنب عليه إِذا اتصل به التوبة والإنابة والخضوع والذل والانكسار ودوام الافتقار كان من النعم باعتبار غايته وما يعقبه وإِن كان من الابتلاء والامتحان باعتبار صورته ونفسه والرب تعالى محمود على الأَمرين، فإِن اتصل بالذنب الآثار المحبوبة للرب سبحانه من والتوبة والذل والإِنابة والانكسار فهو عين مصلحة العبد، والاعتبار بكمال النهاية لا بنقص البداية، وإِن لم يتصل به ذلك، فهذا لا يكون إِلا من خبث نفسه وشره وعدم استعداده لمجاورة ربه بين الأرواح الذكية الطاهرة فى الملأ الأعلى ومعلوم وأن هذه النفس فيها من الشر والخبث ما فيها، فلا بد من خروج ذلك منها من القوة إلى الفعل ليترتب على ذلك الآثار المناسبة لها ومساكنة من تليق مساكنته ومجاورة الأَرواح الخبيثة فى المحل الأَسفل، فإن هذه النفوس إِذا كانت مهيأَة لذلك فمن الحكمة أَن تستخرج منها الأسباب التى توصلها إلى ما هى مهيأَة له ولا يليق به سواه والرب تعالى محمود على إنعامه وإحسانه على أهل الإحسان والأنعام القابلين له فما كل أحد قابلاً لنعمته تعالى فحمده وحكمته تقتضى أن لا يودع وإِحسانه وكنوزه فى محل غير قابل لها. ولا يبقى إِلا أَن يقال: فما الحكمة فى خلق هذه الأرواح التى هى غير قابلة لنعمته؟ فقد تقدم من الجواب عن ذلك ما فيه كفاية. وأَن خلق الأضداد والمقابلات وترتيب آثارها عليها موجب ربوبيته وحكمته وعلمه وعزته، وأَن تقدير عدم ذلك هضم من جانب الربوبية. وأَيضاً فإن هذه الحوادث نعمة فى حق المؤمن، فإِنها إِذا وقعت فهو مأمور أن نكرها بقلبه ويده ولسانه فقط أَو بقلبه فقط، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 ومأمور أَن يجاهد أَربابها بحسب الإِمكان، فيترتب له على الإنكار والجهاد من مصالح قلبه ونفسه وبدنه ومصالح دنياه، وآخرته ما لم يكن ينال بدون ذلك، والمقصود بالقصد الأول إِتمام نعمته تعالى على أَوليائه ورسله وخاصته فاستعمال أعدائه فيما تكمل به النعمة على أُوليائه غاية الحكمة، وكان فى تمكين أَهل الكفر والفسق والعصيان من ذلك إِيصال إِلى الكمال الذى يحصل لهم بمعاداة هؤلاء وجهادهم والإِنكار عليهم والموالاة فيه والمعاداة فيه وبذل نفوسهم وأَموالهم وقواهم له، فإِن تمام العبودية لا يحصل إِلا بالمحبة الصادقة، وإِنما تكون المحبة صادقة إِذا بذل فيها المحب ما يملكه من مال ورياسة وقوة فى مرضاة محبوبة والتقرب إِليه، فإِن بذل له روحه كان هذا أعلى درجات المحبة، ومن المعلوم أَن من لوازم ذلك التى لا يحصل إِلا بها أَو يخلق ذواتاً وأَسباباً وأَعمالاً وأَخلاقاً وطبائع تقتضى [معاداة من يحبه ويؤثر مرضاته لها وعند ذلك تتحق] المحبة الصادقة من غيرها فكل أَحد يحب الإِحسان والراحة والدعة واللذة، ويجب من يوصل إِليه ذلك ويحصله له، ولكن الشأْن فى أَمر وراءَ هذا وهو محبته سبحانه ومحبة ما يحبه مما هو أَكره شيء إِلى النفوس وأَشق شيء عليها مما لا يلائمها، فعند حصول أَسباب ذلك يتبين من يحب الله لذاته ويحب ما يجب ممن يحبه لأَجل مخلوقاته فقط من المأْكل والمشرب والمنكح والرياسة، فإِن أُعطى منها رضى وإِن منعها سخط وعتب على ربه وربما شكاه وربما ترك عبادته، فلولا خلق الأضداد وتسليط أَعدائه وامتحان أَوليائه بهم لم يستخرج خالص العبودية من عبيده الذين هم عبيده، ولم يحصل لهم عبودية الموالاة فيه والمعاداة [فيه والحب فيه والبغض فيه والعطاء له والمنع له، ولا عبودية بذل الأرواح] فى جهاد أَعدائه ونصرته وعبودية مفارقة الأمر عنده أحوج ما يكون إليهم عبده فى مرضاته ما يتحسر إليهم وهو الذى عاب نفسه وملاذ بها بأيديهم قد جنى بمفارقتهم ومشايعتهم وأما من موالاة الحق عليهم، فلولا الأَضداد والأَسباب التى توجب ذلك لم تحصل هذه الآثار. وأَيضاً فلولا تسليط الشهوة والغضب ودواعيهما على العبد لم تحصل له فضيلة الصبر وجهاد النفس ومنعها من حظوظها وشهواتها محبة لله وإِيثاراً لمرضاته وطلباً للزلفى لديه والقرب منه. وأَيضاً فلولا ذلك لم تكن هذه النشأَة الإِنسانية إِنسانية، بل كانت ملكية، فإِن آلله سبحانه خلق خلقه أَطواراً: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 فخلق الملائكة عقولاً لا شهوات لها ولا طبيعة تتقاضى منها خلاف ما يراد من مادة نورية لا تقتضى شيئاً من الآثار والطبائع المذمومة، وخلق الحيوانات ذوات شهوات لا عقول لها، وخلق الثقلين- الجن والإنس وركب فيهم العقول والشهوات والطبائع المختلفة لآثار مختلفة بحسب موادها وصورها وتركيبها. وهؤلاءِ هم أَهل الامتحان والابتلاءِ، وهم المعرضون للثواب والعقاب ولو شاءَ سبحانه لجعل خلقه على طبيعة واحدة وخلق واحد ولم يفاوت بينهم، لكن ما فعله سبحانه هو محض الحكمة وموجب الربوبية ومقتضى الإلهية، ولو كان الخلق كله طبيعة واحدة ونمطاً واحداً لوجد الملحد مقالاً وقال: هذا مقتضى الطبيعة، ولو كان فاعلاً بالاختيار لتنوعت أَفعاله ومفعولاته ولفعل الشيء وضده والشيء وخلافه. وكذلك لولا شهود هذه الحوادث المشهودة لوجد الملحد أَيضاً مقالاً وقال: لو كان لهذا العالم خالقاً مختاراً لوجدت فيه الحوادث على حسب إرادته واختياره، كما روى الحسن أَو غيره قال: كان أَصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يقولون: جلَّ ربنا القديم، لم يتغير هذا الخلق لقال الشاك فى الله إنه لو كان لهذا العالم خالق لحادثه بينا هو ليل إِذ جاءَ نهار وبينا هو نهار إِذ جاءَ ليل، بينا هو صحو إِذ جاءَ غيم وبينا هو غيم إِذ جاءَ صحو، ونحو هذا من الكلام، ولهذا يستدل سبحانه فى كتابه بالحوادث تارة وباختلافها تارة، إِذ هذا وهذا يستلزم ربوبيته وقدرته واختياره ووقوع الكائنات على وفق مشيئته، فتنوع أَفعاله ومفعولاته من أَعظم الأَدلة على ربوبيته وحكمته وعلمه. ولهذا سبحانه خلق النوع الإِنسانى أَربعة أَقسام: أَحدها لا من ذكر ولا أُنثى وهو خلق أَبيهم وأَصلهم آدم، الثانى خلقه من ذكر بلا أُنثى كخلق أَمهم حواءَ من ضلع من أَضلاع آدم من غير أَن تحمل بها أُنثى أَو يشتمل عليها بطن، الثالث خلقه من أُنثى بلا ذكر كخلق المسيح عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم الرابع خلق سائر النوع الإِنسانى من ذكر وأُنثى، وكل هذا ليدل عباده على كمال قدرته ونفوذ مشيئته وكمال حكمته، وأَن الأَمر ليس كما يظنه أَعداؤه الجاحدون له الكافرون به من أَن ذلك أَمر طبيعى لم يزل هكذا ولا يزال، وأَنه ليس للنوع أَب ولا أم وأَنه ليس إِلا أَرحام تدفع وأَرض تبلغ وطبيعة تفعل ما يرى ويشاهد، ولم يعلم هؤلاءِ الجهال الضلال أَن الطبيعة قوة وصفة فقيرة إلى محلها محتاجة إِلى حامل لها، وأَنها من أَدل الدلائل على وجود أَمره فى طبعها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 وخلقها، وأَودعها الأجسام وجعل فيها هذه الأَسرار العجيبة، فالطبيعة مخلوق من مخلوقاته ومملوك من مماليكه وعبيدة مسخرة لأَمره تعالى منقادة لمشيئته، ودلائل الصنعة وإِمارات الخلق والحدوث وشواهد الفقر والحاجة شاهدة عليها بأَنها مخلوقة مصنوعة، لا تخلق ولا تفعل ولا تتصرف فى ذاتها ونفسها، فضلاً عن إِسناد الكائنات إِليها. والمقصود أن تنويع المخلوقات واختلافها من لوازم الحكمة والربوبية والملك، وهو أيضاً من موجبات الحمد فله الحمد على ذلك كله أَكمل حمد وأَتمه أَيضاً، فإِن مخلوقاته هى موجبَات أَسمائه وصفاته، فلكل اسم وصفة أَثر لا بد من ظهوره فيه واقتضائه له، فيمتنع تعطيل آثار أَسمائه وصفاته كما يمتنع تعطيل ذاته عنها، وهذه الآثار لها متعلقات ولوازم يمتنع أَن لا توجد كما تقدم التنبيه عليه. وأَيضاً فإِن تنويع أَسباب الحمد أَمر مطلوب للرب تعالى محبوب له، فكما تنوعت أَسباب الحمد تنوَّع الحمد بتنوُّعها وكثر بكثرتها ومعلوم أَنه سبحانه محمود على انتقامه من أَهل الإِجرام والإِساءة، كما هو محمود على إِكرامه لأَهل العدل والإِحسان، فهو محمول على هذا وعلى هذا، مع ما يتبع ذلك من حمده على حلمه وعفوه ومغفرته وترك حقوقه ومسامحة خلقه بها والعفو عن كثير من جنايات العبيد فنبههم باليسير من عقابه وانتقامه على الكثير الذى عفا عنه، وأَنه لو عاجلهم بعقوبته وأَخذهم بحقه لقضى إِليهم أَجلهم ولما ترك على ظهرها من دابة، ولكنه سبقت رحمته غضبه وعفوه انتقامه ومغفرته عقابه، فله الحمد على عفوه وانتقامه، وعلى عدله وإِحسانه، ولا سبيل إِلى تعطيل أَسباب حمده ولا بعضها. فليتدبر اللبيب هذا الموضع حق التدبر، وليعطه حقه يطلعه على أَبواب عظيمة من أَسرار القدر، ويهبط به على رياض منه معشبة وحدائق مونقة. والله الموفق الهادى للصواب. وأَيضاً فإِن الله سبحانه نوَّع الأَدلة الدالة عليه والتى تعرّف عباده به غاية التنوع، وصرّف الآيات وضرب الأَمثال، ليقيم عليهم حجته البالغة ويتم عليهم بذلك نعمته السابغة، ولا يكون لأحد بعد ذلك حجة عليهم سبحانه، بل الحجة كلها له والنعم كلها له والقدرة كلها له فأَقام عليهم حجته، ولو شاءَ لسوَّى بينهم فى الهداية كما قال تعالى: {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 149] : فأَخبر أَن له الحجة البالغة، وهى التى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 بلغت إِلى صميم القلب وخالطت العقل واتحدت به فلا يمكن العقل دفعها ولا جحدها، ثم أَخبر أَنه سبحانه قادر على هداية خلقه كلهم، ولو شاءَ ذلك لفعله لكمال قدرته ونفوذ مشيئته، ولكن حكمته تأْبى ذلك وعدله يأْبى تعذيب أَحد وأَخذه بلا حجة، فأَقام الحجة وصرّفَ الآيات وضرب الأمثال وَنوَّع الأدلة، ولو كان الخلق كلهم على طريقة واحدة من الهداية لما حصلت هذه الأُمور ولا تنوعت هذه الأَدلة والأَمثال، ولا ظهرت عزته سبحانه فى انتقامه من أَعدائه ونصر أَوليائه عليهم، ولا حججه التى أَقامها على صدق أَنبيائه ورسله ولا كان للناس آية فى فئتين التقتا فئة تقاتل فى سبيل الله، وأُخرى كافرة يرونهم مثليهم رأْى العين، ولا كان للخلق آية باقية ما بقيت الدنيا فى شأْن موسى وقومه وفرعون وقومه وفلق البحر لهم ودخولهم جميعاً فيه ثم إِنجاءَ موسى وقومه ولم يغرق أَحد منهم وأَغرق فرعون وقومه لم ينج منهم أَحد، فهذا التعرف إِلى عباده وهذه الآيات وهذه العزة والحكمة لا سبيل إِلى تعطيلها البتة ولا توجد بدون لوازمها. وأَيضاً فإِن حقيقة الملك إِنما تتم بالعطاءِ والمنع والإِكرام والإِهانة والإِثابة والعقوبة والغضب والرضا والتولية والعزل وإِعزاز من يليق به العز وإِذلال من يليق به الذل، قال تعالى: {قُلِ اللهُمّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمّنْ تَشَآءُ وَتُعِزّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنّكَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تُولِجُ اللّيْلَ فِي الْنّهَارِ وَتُولِجُ النّهَارَ فِي الْلّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيّ مِنَ الْمَيّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيّتَ مِنَ الْحَيّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 26- 27] ، وقال تعالى: {يَسْأَلُهُ مَن فِى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ} [الرحمن: 29] ، يغفر ذنباً ويفرّج كَرْباً ويكشف غماً وينصر مظلوماً ويأْخذ ظالماً ويفك عانياً ويغنى فقيراً ويجبر كسيراً ويشفى مريضاً ويقبل عثرة ويستر عورة ويعز ذليلاً ويذل عزيزاً ويعطى سائلاً ويذهب بدولة ويأْتى بأُخرى ويداول الأَيام بين الناس ويرفع أَقواماً ويضع آخرين يسوق المقادير التى قدرها قبل خلق السموات والأَرض بخمسين أَلف عام إلى مواقيتها فلا يتقدم شيء منها عن وقته ولا يتأَخر، بل كل منها قد أَحصاه كما أَحصاه كتابه وجرى به قلمه ونفذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 فيه حكمه وسبق به علمه، فهو المتصرف فى الممالك كلها وحده تصرف ملك قادر قاهر عادل رحيم تام الملك لا ينازعه فى ملكه منازع ولا يعارضه فيه معارض، فتصرفه فى المملكة دائر بين العدل والإِحسان والحكمة والمصلحة والرحمة فلا يخرج تصرفه عن ذلك. وفى تفسير الحافظ أَبى بكر أَحمد بن موسى بن مردويه من حديث الحمانى: حدثنا إِسحق بن سليمان عن معاوية بن يحيى عن يونس ابن ميسرة عن أَبى إدريس عن أَبى الدرداء أَنه سئل عن قوله تعالى: {كُلَّ يَوْمِ هُوَ فِى شَأْن} [الرحمن: 29] ، فقال: سئل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَغْفِرَ ذَنْباً وَيُفَرِّجَ كَرْباً وَيَرْفَعَ قَوْماً وَيَضَعَ آخَرِينَ، وفيه أيضاً من حديث حماد بن سلمة حدثنا الزبير أَبو عبد السلام عن أَيوب بن عبد الله بن مكرز عن أَبيه قال: قال عبد الله بن مسعود: إن ربكم عز وجل ليس عنده ليل ولا نهار، نور السموات والأرض من نور وجهه. أَيامكم عنده ثنتا عشرة ساعة: تعرض عليه أَعمالكم بالأَمس ثلاث ساعات من أَول النهار، فيطلع منها على ما يكره فيغضب فيكون أَول من يعلم بغضبه حملة العرش، فتسبح حملة العرش وسراداقات العرش والملائكة المقربون وسائر الملائكة، وينفخ جبريل فى القرن فلا يبقى خلق لله فى السموات ولا فى الأرض إلا سمعه إلا الثقلين، ويسبحون [ثلاث ساعات] حتى يمتليء الرحمن رحمة، فتلك ست ساعات ثم يدعو بالأَرحام فينظر فيها ثلاث ساعات: {يُصَوّرُكُمْ فِي الأرْحَامِ كَيْفَ يَشَآءُ لاَ إِلَهَ إِلاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 6] ، {يَهَبُ لِمَنْ يشَاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} [الشورى: 49] ، فتلك تسع ساعات. ثم يدعو بالأرزاق فينظر فيها ثلاث ساعات: {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الإسراء: 30] [الروم: 37] [سبأ: 36] [الزمر: 52] [الشورى: 12] فتلك اثنتا عشرة ساعة. ثم قرأَ عبد الله: {كُلَّ يومٍ هُوَ فِى شَأْن} [الرحمن: 29] ثم قال: هذا شأْنكم وشأْن ربكم عز وجل. وذكره الطبرانى فى المعجم الكبير من وجه آخر. وهذا من تمام تصرفه فى ملكه سبحانه، فلو قصر تصرفه على وجه واحد ونمط واحد لم يكن تصرفاً تاماً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 والمقصود أَن الملك والحمد فى حقه متلازمان، فكل ما شمله ملكه وقدرته شمل حمده، فهو محمود فى ملكه وله الملك والقدرة مع حمده، فكما يستحيل خروج شيء من الموجودات عن ملكه وقدرته يستحيل خروجها عن حمده وحكمته، ولهذا يحمد سبحانه نفسه عند خلقه وأَمره، لينبه عباده على أَن مصدر خلقه وأَمره عن حمده، فهو محمود على كل ما خلقة وأَمر به حمد شكر وعبودية، وحمد ثناءٍ ومدح، ويجمعهما التبارك، فتبارك الله يشمل ذلك كله، ولهذا ذكر هذه الكلمة عقيب قوله: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ، تَبَاركَ اللهُ رَبُّ العالَمِينَ} [الأعراف: 54] فالحمد أَوسع الصفات وأَعم المدائح والطرق إِلى العلم به فى غاية الكثرة، والسبيل إِلى اعتباره فى ذرّات العالم وجزئياته وتفاصيل الأَمر والنهى واسعة جداً، لأَن جميع أَسمائه تبارك وتعالى حمد، وصفاته حمد وأَفعاله حمد، وأَحكامه حمد، وعدله حمد، وانتقامه من أَعدائه حمد، وفضله فى إحسانه إلى أَوليائه حمد والخلق والأَمر إِنما قام بحمده ووجد بحمده وظهر بحمده وكان الغاية هى حمده فحمده سبب ذلك وغايته ومظهره وحامله فحمده روح كل شيء، وقيام كل شيء بحمده، وسريان حمده فى الموجودات وظهور آثاره فيه أَمر مشهود بالأَبصار والبصائر: فمن الطرق الدالة على شمول معنى الْحمد وانبساطه على جميع المعلومات معرفة أَسمائه وصفاته، وإقرار العبد بأَن للعالم إِلهاً حياً جامعاً لكل صفة كمال واسم حسن وثناءٍ جميل وفعل كريم وأَنه سبحانه له القدرة التامة والمشيئة النافذة والعلم المحيط والسمع الذى وسع الأَصوات والبصر الذى أَحاط بجميع المبصرات والرحمة التى وسعت جميع المخلوقات والملك الأَعلى الذى لا يخرج عنه ذرة من الذرات والغنى التام المطلق من جميع الجهات والحكمة البالغة المشهود آثارها فى الكائنات والعزة الغالبة بجميع الوجوه والاعتبارات والكلمات التامات النافذات التى لا يجاوزهن بر ولا فاجر من جميع البريات، واحد لا شريك له فى ربوبيته ولا فى إلهيته، ولا شبيه له فى ذاته ولا فى صفاته ولا فى أَفعاله، وليس له من يشركه فى ذرة من ذرات ملكه، أَو يخلفه فى تدبير خلقه، أَو يحجبه عن داعيه أَو مؤمليه أو سائليه، أَو يتوسط بينهم وبينه بتلبيس أَو فرية أَو كذب كما يكون بين الرعايا وبين الملوك، ولو كان كذلك لفسد نظام الوجود وفسد العالم بأَسره: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 فلو كان معه آلهة أُخرى كما يقول أَعداؤه المبطلون لوقع من النقص فى التدبير وفساد الأَمر كله ما لا يثبت معه حالٍ، ولا يصلح عليه وجود. ومن أَعظم نعمه علينا وما استوجب حمد عباده له أَن يجعلنا عبيداً له خاصة ولم يجعلنا ربنا منقسمين بين شركاءَ متشاكسين، ولم يجعلنا عبيداً لإِله نحتته الأَفكار، لا يسمع أَصواتنا ولا يبصر أَفعالنا ولا يعلم أَحوالنا ولا يملك لعابديه ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، ولا تكلم قط ولا يتكلم ولا يأْمر ولا ينهى، ولا ترفع إِليه الأَيدى ولا تعرج الملائكة والروح إِليه، ولا يصعد إِليه الكلم الطيب، ولا يرفع إِليه العمل الصالح، وأَنه ليس داخل العالم ولا خارجه ولا فوقه ولا عن يمينه ولا عن يساره ولا خلفه ولا أَمامه ولا متصلاً به ولا منفصلاً عنه ولا محاذياً له ولا مبايناً، ولا هو مستو على عرشه ولا هو فوق عباده، وحظ العرش منه حظ الحشوش والأَخلية ولا تنزل الملائكة من عنده بل لا ينزل من عنده شيء ولا يصعد إِليه شيء ولا يقرب منه شيء، ولا يحِب ولا يحَب، ولا [يلتذ] المؤمنون بالنظر إِلى وجهه الكريم فى دار الثواب، بل ليس له وجه يرى ولا له يد يقبض بها السموات وأُخرى يقبض بها الأَرض، ولا [له] فعل يقوم به ولا حكمة تقوم به، ولا كلم موسى تكليماً، ولا تجلى للجبل فجعله دكاً هشيماً، ولا يجيء يوم القيامة لفصل القضاءِ، ولا ينزل كل ليلة إلى سماءِ الدنيا فيقول [لا] أَسأَل عن عبادى غيرى، ولا يفرح بتوبة عبده إِذا تاب إِليه ويجوز فى حكمته تعذيب أَنبيائه ورسله وملائكته وأَهل طاعته أَجمعين من أَهل السموات والأرضين، وتنعيم أَعدائه من الكفار به والمحاربين والمكذبين له ولرسله، والكل بالنسبة إِليه سواءٌ ولا فرق البتة إِلا أَنه أَخبر أَنه لا يفعل ذلك، فامتنع للخبر بأَنه لا يفعله، لا لأَنه فى نفسه مناف لحكمته، ومع ذلك فرضاه عين غضبه وغضبه عين رضاه ومحبته كراهته وكراهته محبته، إِن هى إِلا إِرادة محضة ومشيئة صرفة يشاءُ بها لا لحكمة ولا لغاية ولا لأَجل مصلحة، ومع ذلك يعذب عباده على ما لم يعملوه ولا قدرة لهم عليه، بل يعذبهم على نفس فعله الذى فعله هو ونسبه إِليهم، ويعذبهم إِذا لم يفعلوا فعله ويلومهم عليه، يجوز فى حكمته أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 يعذب رجالاً إِذا لم يكونوا نساءَ ونساءً حيث لم يكونوا رجالاً وطوالاً حيث لم يكونوا قصاراً وبالعكس وسوداً إِذا لم يكونوا بيضاً وبالعكس، بل تعذيبه لهم على مخالفته هو من هذا الجنس إذ لا قدرة لهم البتة على فعل ما أُمروا به ولا ترك ما نهوا عنه. فله الحمد والمنة والثناءُ الحسن الجميل إِذ لم يجعلنا عبيداً لمن هذا شأْنه فنكون مضيعين، ليس لنا رب نقصده، ولا صمد نتوجه إِليه ونعبده، ولا إِله نعوّل عليه، ولا رب نرجع إليه بل قلوبنا تنادى فى طرق الحيرة: من دلنا وجمع علينا رباً ضائعاً لا هو داخل العالم ولا خارجه، ولا مباين له ولا محاذ له، ولا متصل به ولا منفصل عنه، ولا نزل من عنده شيء ولا يصعد إليه شيء، ولا كلَّم أَحداً ولا يكلمه أَحد، ولا ينبغى [لأحد أن يذكر صفاته ولايعرفه بها بل يذكرها بلسانه فلا يتكلم بها وبقلبه فلا يعقلها وينبغى] له أَن يعاقب بالقتل أَو بالضرب والحبس من ذكرها أَو أَخبر عنه بها أَو أَثبتها له. أَو نسبها إلِيه أَوْ عرفه بها، بل التوحيد الصرف جحدها وتعطيله عنها ونفى قيامها به واتصافه وما لم تدركه عقولنا من ذلك فالواجب نفيه وجحده [وتكفير] من أثبته واستحلال دمه وماله أو تبديعه وتضليله وتفسيقه، وكلما كان النفى أَبلغ كان التوحيد أتم، فليس كذا وليس كذا أَبلغُ فى التوحيد من قولنا هو كذا وهو كذا. فللَّه العظيم أَعظم حمد وأَتمه وأَكمله على ما منَّ به من معرفته وتوحيده والإقرار بصفاته [العلى] وأَسمائه الحسنى، وإِقرار قلوبنا بأَنه الله الذى لا إِله إِلا هو عالم الغيب والشهادة رب العالمين قيوم السموات والأرضين إِله الأَولين والآخرين، ولا يزال موصوفاً بصفات الجلال، منعوتاً بنعوت الكمال، منزهاً عن أضدادها من النقائص والتشبيه والمثال. فهو الحى القيوم الذى لكمال حياته وقيوميته لا تأْخذه سنة ولا نوم، مالك السموات والأرض الذى لكمال ملكه لا يشفع عنده أَحد إِلا بإِذنه، العالم بكل شيء الذى لكمال علمه يعلم ما بين أَيدى الخلائق وما خلفهم فلا تسقط ورقة إلا بعلمه ولا تتحرك ذرة إلا بإذنه يعلم دبيب الخواطر فى القلوب حيث لا يطلع عليها الملك ويعلم ما سيكون منها حيث لا يطلع عليه القلب، البصير الذى لكمال بصره يرى تفاصيل خلق الذرة الصغيرة وأعضائها ولحمها ودمها ومخها وعروقها، ويرى دبيبها على الصخرة الصماءِ فى الليلة الظلماءِ، ويرى ما تحت الأرضين [السبع] كما يرى ما فوق السموات السبع. السميع الذى قد استوى فى سمعه سر القول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 وجهره، وسع سمعه الأَصوات فلا تختلف عليه أَصوات الخلق ولا تشتبه عليه ولا يشغله منها سمع عن سمع ولا تغلطه المسائل ولا يبرمه كثرة السائلين، قالت عائشة: الحمد لله الذى وسع سمعه الأَصوات، لقد جاءَت المجادلة تشكو إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم [وأنه] ليخفى على بعض كلامها، فأنزل الله عز وجل: {قَدْ سَمِع اللهُ قَوْلَ الَّتِى تُجَادِلُكَ فِى زَوجِهَا وَتَشْتَكِى إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسمَعَ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1] ، القدير الذى لكمال قدرته يهدى من يشاءُ ويضل من يشاءُ ويجعل المؤمن مؤمناً والكافر كافراً والبر براً والفاجر فاجراً، وهو الذى جعل إِبراهيم وآله أَئمة يدعون إِليه ويهدون بأَمره، وجعل فرعون قومه أَئمة يدعون إِلى النار. ولكمال قدرته لا يحيط أَحد بشيء من علمه إِلا بما شاءَ سبحانه أَن يعلمه إِياه. ولكمال قدرته خلق السموات والأَرض وما بينهما فى ستة أَيام وما مسه من لغوب ولا يعجزه أحد من خلقه، ولا يفوته، بل هو فى قبضته أَين كان، فإن فر منه فإِنما يطوى المراحل فى يديه كما قيل: وكيف يفر المرءُ عنك بذنبه ... إِذا كان يطوى فى يديك المراحلا ولكمال غناه استحال إضافة الولد والصاحبة والشريك والشفيع بدون إِذنه إِليه، ولكمال عظمته وعلوه وسع كرسيه السموات والأَرض، ولم تسعه أَرضه ولا سماواته ولم تحط به مخلوقاته، بل هو العالى على كل شيء وهو بكل شيء محيط، ولا تنفد كلماته ولا تبدل، ولو أَن البحر يمده من بعده سبعة [أبحر] مداداً وأَشجار الأَرض أَقلاماً، فكتب بذلك المداد وبتلك الأَقلام، لنفد المداد وفنيت الأَقلام، ولم تنفد كلماته إِذ هى غير مخلوقة، ويستحيل أَن يفنى غير المخلوق بالمخلوق. ولو كان كلامه مخلوقاً- كما قاله من لم يقدره حق قدره، ولا أَثنى عليه بما هو أَهله- لكان أَحق بالفناءِ من هذا المداد وهذه الأَقلام، لأَنه إِذا كان مخلوقاً فهو نوع من أَنواع مخلوقاته، ولا يحتمل المخلوق إفناءَ هذا المداد وهذه الأَقلام وهو باق غير فان. وهو سبحانه يحب رسله وعباده المؤمنين ويحبونه، بل لا شيء أَحب إِليهم منه ولا أشوق إليهم من لقائه ولا أَقر لعيونهم من رؤيته ولا أحظى عندهم من قربه، وأَنه سبحانه له الحكمة البالغة فى خلقه وأمره وله النعمة السابغة على خلقه، وكل نعمة منه فضل وكل نقمة منه عدل، وأنه أرحم بعباده من الوالدة بولدها وأنه أفرح بتوبة عبده من واجد راحلته التى عليها طعامه وشرابه فى الأَرض المهلكة بعد فقدها واليأْس منها، وأَنه سبحانه لم يكلف عباده إِلا وسعهم وهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 دون طاقتهم، فقد يطيقون الشيء ويضيق عليهم، بخلاف وسعهم فإِنه ما يسعونه ويسهل عليهم ويفضل قدرهم عنه كما هو الواقع، وأَنه سبحانه لا يعاقب أَحداً بغير فعله ولا يعاقبه على فعل غيره، ولا يعاقبه بترك ما لا يقدر على فعله ولا على فعل ما لا قدرة له على تركه، وأنه [سبحانه] حكيم كريم جواد ما جد محسن ودود وصبور شكور يطاع فيشكر ويعصى فيغفر، لا أَحد أصبر على أَذى سمعه منه، ولا أَحب إِليه المدح منه ولا أحب إليه العذر منه، ولا أحد أحب إليه الإحسان منه، فهو محسن يحب المحسنين، شكور يحب الشاكرين جميل يحب الجمال، طيب يحب كل طيب، نظيف يحب النظافة، عليم يحب العلماءَ من عباده، كريم يحب الكرماءَ، قوى والمؤمن القوى أَحب إِليه من المؤمن الضعيف، بر يحب الأَبرار، عدل يحب أَهل العدل حى ستير يحب أهل الحياءِ والستر عفو غفور يحب [من] يعفو من عباده ويغفر لهم، صادق يحب الصادقين، رفيق يحب الرفق، جواد يحب [الجود] وأهله، رحيم يحب الرحماءَ، وتر يحب الوتر، ويحب أَسماءه وصفات ويحب المتعبدين له بها ويحب من يسأَله ويدعوه بها ويحب من يعرفها ويعقلها [ويثنى] عليه بها ويحمده ويمدحه بها كما فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم: "لا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنَ اللهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ، ولا أَحَدَ أَغْيَرُ مِنَ اللهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ اللهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَرْسَلَ الرُّسُلَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ"، وفى حديث آخر صحيح: "لا أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أَذَى سَمْعِهِ مِنَ اللهِ، يَجْعَلُونَ لَهُ وَلَداً وَهُوَ يَرْزفقُهُمْ وَيُعَافِيهِمْ"، ولمحبته لأَسمائه وصفاته أمر عباده بموجبها ومقتضاها، فأمرهم بالعدل والإِحسان والبر والعفو والجود والصبر والمغفرة والرحمة والصدق والعلم والشكر والحلم والأَناة والتثبت ولما كان سبحانه يحب أَسماءَه وصفاته كان أَحب الخلق إِليه من اتصف بالصفات التى يحبها، وأَبغضهم إِليه من اتصف بالصفات التى يكرهها، فإِنما أبغض من اتصف بالكبر والعظمة والجبروت لأَن اتصافه بها ظلم، إِذ لا تليق به هذه الصفات ولا تحسن منه، لمنافاتها لصفات العبيد، وخروج من اتصف بها من ربقة العبودية ومفارقته لمنصبه ومرتبته، وتعديه طوره وحدَّه، وهذا خلاف ما تقدم من الصفات كالعلم والعدل والرحمة والإِحسان والصبر والشكر فإِنها لا تنافى العبودية، بل اتصاف العبد بها من كمال عبوديته، إِذ المتصف بها من العبيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 لم يتعد طوره ولم يخرج بها من دائرة العبودية والمقصود أَنه سبحانه لكمال أَسمائه وصفاته موصوف بكل صفة كمال، منزه عن كل نقص، له كل ثناءٍ حسن ولا يصدر عنه إِلا كل فعلٍ جميل، ولا يسمى إِلا [بأَحسن] الأَسماءِ ولا يثنى [عليه] إِلا بأَكمل الثناءِ وهو المحمود [المحبوب] المعظم ذو الجلال والإِكرام على كل ما قدره وخلقه، وعلى [كل] ما أَمر به وشرعه. ومن كان له نصيب من معرفة أَسمائه الحسنى واستقر آثارها فى الخلق والأَمر، رأَى الخلق والأَمر منتظمين بها أَكمل انتظام، ورأَى سريان آثارها فيهما وعلم- بحسب معرفته بها ما يليق بكماله وجلاله أَن يفعله وما لا يليق، فاستدل بأَسمائه على ما يفعله وما لا يفعله فإِنه لا يفعل خلاف موجب [حمده] وحكمته، وكذلك يعلم ما يلبق به أَن يأْمر به ويشرعه مما لا يليق به، فيعلم أَنه لا يأْمر بخلاف موجب حمده وحكمته. فإِذا رأَى بعض الأَحكام جوراً وظلماً أَو سفهاً وعبثاً ومفسدة أَو ما لا يوجب حمداً وثناءً [فليعلم] أَنه ليس من أَحكامه ولا دينه، وأَنه بريء منه ورسوله، فإِنه إِنما أَمر بالعدل لا بالظلم وبالمصلحة لا بالمفسدة وبالحكمة لا بالعبث والسفه، وإِنما بعث رسوله بالحنيفية السمحة لا بالغلظة والشدة، وبعثه بالرحمة لا بالقسوة، فإِنه أَرحم الراحمين، ورسوله رحمة مهداة إِلى العالمين، ودينه كله رحمة، وهو نبى الرحمة وأُمته الأُمة المرحومة وذلك كله موجب أَسمائه الحسنى وصفاته العليا وأًَفعاله الحميدة، فلا يخبر عنه إِلا بحمده ولا يثنى عليه إِلا بأَحسن الثناءِ كما لا يسمى إِلا بأحسن الأسماءِ. وقد نبه سبحانه على شمول حمده لخلقه وأَمره بأن حمد نفسه فى أَول الخلق وآخره وعند الأَمر والشرع وحمد نفسه على ربوبيته للعالَمين، وحمد نفسه على [تفرده] بالإلهية وعلى حياته، وحمد نفسه على امتناع اتصافه بما لا يليق بكماله من اتخاذ الولد والشريك وموالاة أَحد من خلقه لحاجته إِليه، وحمد نفسه على علوه وكبريائه، وحمد نفسه فى الأُولى والآخرة، وأخبر عن سريان حمده فى العالم العلوى والسفلى، ونبه على هذا كله فى كتابه وحمد نفسه عليه، فتنوع حمده وأسباب حمده، وجمعها تارة وفرقها أُخرى ليتعرف إِلى عباده ويعرفهم كيف يحمدونه وكيف يثنون عليه، وليتحبب إليهم بذلك ويحبهم إذا عرفوه وأحبوه وحمدوه. قال تعالى: {الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 الرَّحْمَنِ الرّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 2- 4] ، وقال تعالى: {الْحَمْدُ للهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورِ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1] ، وقال تعالى: {الْحَمْدُ للهِ الَّذِى أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لهُ عِوَجاً قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِين} [الكهف: 1-2] ، وقال: {الْحَمْدُ للهِ الَّذِى لَهُ مَا فِى السَّمَوَاتِ وَمَا فِى الأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِى الآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرِ} [سبأ: 1] ، وقال تعالى: {الْحَمْدُ للهِ فَاطِرِ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِى أَجْنَحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِى الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فاطر: 1] ، وقال: {وَهُوَ اللهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِى الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 70] ، وقال: {هُوَ الْحَى لا إلَهَ إِلا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينِ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [غافر: 65] ، وقال: {فَسُبْحَانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِى السّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم: 17- 18] . أخبر عن حمد خلقه له بعد فصله بينهم والحكم لأهل طاعته بثوابه وكرامته والحكم لأهل معصيته بعقابه وإهانته {وَقُضِى بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيْلَ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر: 75] . وأخبر عن حمد أهل الجنة له [وأنهم] لم يدخلوها إلا بحمده، كما أن أهل النار لم يدخلوها ًإلا بحمده، فقال أهل الجنة: {الْحَمْدُ للهِ الَّذِى هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِى لَوْلا أَنْ هَدَانَا الله} [الأعراف: 43] ، و {دَعْواهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سلامٌ، وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَن الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10] ، وقال عن أهل النار: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ وَنَزَعْنَا مِن كُلّ أُمّةٍ شَهِيداً فَقُلْنَا هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوَاْ أَنّ الْحَقّ لِلّهِ وَضَلّ عَنْهُمْ مّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} [القصص: 74- 75] ، وقال: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 11] . وشهدوا على أنفسهم بالكفر والظلم وعلموا أنهم كانوا كاذبين فى الدنيا مكذبين بآيات ربهم مشركين به جاحدين لإلهيته مفترين عليه، وهذا اعتراف منهم بعدله فيهم وأخذهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 ببعض حقه عليهم وأنه غير ظالم لهم وأنهم إنما دخلوا النار بعدله وحمده وإنما عوقبوا بأفعالهم وبما كانوا قادرين على فعله وتركه، لا كما تقول الجبرية. وتفصيل هذه الحكمة مما لا سبيل للعقول البشرية إلى الإحاطة به ولا إلى التعبير عنه، ولكن بالجملة فكل صفة عليا واسم حسن وثناءٍ جميل وكل حمد ومدح وتسبيح وتنزيه وتقديس وجلال وإكرام فهو لله عز وجل على أكمل الوجوه وأتمها وأدومها، وجميع ما يوصف به ويذكر به ويخبر عنه فهو محامد له وثناءٌ وتسبيح وتقديس، فسبحانه وبحمده لا يحصى أحد من خلقه ثناءً عليه بل هو كما أثنى على نفسه وفوق ما يثنى عليه خلقه، فله الحمد أولاً وآخراً حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما ينبغى لكرم وجهه وعز جلاله ورفيع مجده وعلو جده. فهذا تنبيه على أحد نوعى حمده، وهو حمد الصفات والأسماء. والنوع الثانى حمد النعم والآلاءِ، وهذا [مشهود] [للخليقة] برها وفاجرها مؤمنها وكافرها، من جزيل مواهبه وسعة عطاياه وكريم أياديه وجميل صنائعه وحسن معاملته لعباده وسعة رحمته لهم وبره ولطفه وحنانه وإجابته لدعوات المضطرين وكشف كربات المكروبين وإغاثة الملهوفين ورحمته للعالمين وابتدائه بالنعم قبل السؤال ومن غير استحقاق بل ابتداءً منه بمجرد فضله وكرمه وإحسانه ودفع المحن والبلايا بعد انعقاد أسبابها وصرفها بعد وقوعها. ولطفه تعالى فى ذلك بإيصاله إلى من [أراده] بأحسن الألطاف، وتبليغه من ذلك إلى ما لا تبلغه الآمال، وهدايته خاصته وعباده إلى سبل دار السلام، ومدافعته عتهم أحسن الدفاع وحمايتهم عن مراتع الآثام، وحبب إليهم [الإيمان] وزينه فى قلوبهم وكرَّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان، وجعلهم من الراشدين وكتب فى قلوبهم الإيمان، وأيدهم بروح منه وسماهم المسلمين قبل أن يخلقهم، وذكرهم قبل أن يذكروه وأعطاهم قبل أن يسألوه وتحبب إليهم بنعمة مع [غناه] [عنهم] وتبغضهم إليه بالمعاصى وفقرهم إليه، ومع هذا كله فاتخذ لهم داراً وأعد لهم فيها من كل ما تشتيهه الأنفس وتلذ الأعين، وملأها من جميع الخيرات وأودعها من النعيم والحبرة والسرور [والبهجة] ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ثم أرسل إليهم الرسل يدعونهم إليها، ثم يسر لهم الأسباب التى توصلهم إليها وأعانهم عليها، ورضى منهم باليسير فى هذه المدة القصيرة جداً بالإضافة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 إلى بقاءِ دار النعيم، وضمن لهم إن أحسنوا أن يثيبهم بالحسنة عشراً وإن أساؤوا واستغفروه أن يغفر لهم، ووعدهم أن يمحو ما جنوه من السيئات بما يفعلونه بعدها من الحسنات، وذكرهم بآلائه وتعرف إليهم بأسمائه، وأمرهم بما أمرهم به رحمة منه بهم وإحساناً لا حاجة منه إليهم، ونهاهم عما نهاهم عنه حماية وصيانة لهم لا بخلاً منه عليهم وخاطبهم بألطف الخطاب وأحلاه ونصحهم بأحسن النصائح ووصاهم بأكمل الوصايا وأمرهم بأشرف الخصال ونهاهم عن أقبح الأقوال والأعمال. فحقيقة نفس الإنسان جاهلة ظالمة فقيرة محتاجة، والشر الذى. وصرف لهم الآيات وضرب لهم الأمثال ووسع لهم طرق العلم به ومعرفته وفتح لهم أبواب الهداية وعرفهم الأسباب التى تدنيهم من رضاه وتبعدهم عن غضبه، ويخاطبهم بألطف الخطاب ويسميهم بأحسن أسمائهم كقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} ، {وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ} [النور: 31] ، {يَا عِبَادِى الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الزمر: 53] ، {قَل لِعِبَادِى} [ابراهيم: 31] ، {وإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِى عَنِّى} [البقرة: 186] ، فيخاطبهم بخطاب الوداد والمحبة والتلطف كقوله: {يَأيّهَا النّاسُ اعْبُدُواْ رَبّكُمُ الّذِي خَلَقَكُمْ وَالّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ الّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِرَاشاً وَالسّمَاءَ بِنَآءً وَأَنزَلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثّمَرَاتِ رِزْقاً لّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ للهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 21- 22] ، {يَأَيّهَا النّاسُ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مّنَ السّمَآءِ وَالأرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاّ هُوَ فَأَنّىَ تُؤْفَكُونَ} [فاطر: 3] ، {يَأَيّهَا النّاسُ إِنّ وَعْدَ اللهِ حَقّ فَلاَ تَغُرّنّكُمُ الْحَيَاةُ الدّنْيَا وَلاَ يَغُرّنّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ} [فاطر: 5] ، {يَأَيهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيم الَّذِى خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعدَلَكَ} [الانفطار: 6- 7] ، {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللهَ حَقّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مّسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مّنَ النّارِ فَأَنقَذَكُمْ مّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 102- 103] ، {يَأَيّهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتّخِذُواْ بِطَانَةً مّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدّواْ مَا عَنِتّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَآءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيّنّا لَكُمُ الاَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران: 118] {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتّخِذُواْ عَدُوّي وَعَدُوّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُمْ مّنَ الْحَقّ يُخْرِجُونَ الرّسُولَ وَإِيّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِاللهِ رَبّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَآءَ مَرْضَاتِي تُسِرّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدّةِ وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلّ سَوَآءَ السّبِيلِ} [الممتحنة:1] ، {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ للهِ وَلِلرّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَاتّقُواْ فِتْنَةً لاّ تُصِيبَنّ الّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصّةً وَاعْلَمُوَاْ أَنّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَاذْكُرُوَاْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مّسْتَضْعَفُونَ فِي الأرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطّفَكُمُ النّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مّنَ الطّيّبَاتِ لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال: 24- 26] ، {يَأَيّهَا النّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ إِنّ الّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُواْ لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذّبَابُ شَيْئاً لاّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُواْ اللهَ حَقّ قَدْرِهِ إِنّ اللهَ لَقَوِيّ عَزِيزٌ} [الحج: 73- 74] ، {وَإِذَا قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لاَدَمَ فَسَجَدُوَاْ إِلاّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ أَفَتَتّخِذُونَهُ وَذُرّيّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوّ بِئْسَ لِلظّالِمِينَ بَدَلاً} [الكهف: 50] فتحت هذا الخطاب: إنى عاديت إبليس وطردته من [سمائى] وباعدته من قربى إذ لم يسجد لأبيكم آدم، ثم أنتم يا بنيه توالونه وذريته من دونى وهم أعداءٌ لكم. فليتأمل اللبيب مواقع هذا الخطاب وشدة لصوقه بالقلوب والتباسه بالأرواح وأكثر القرآن جاء على هذا النمط من خطابه لعباده بالتودد والتحنن واللطف والنصيحة البالغة، وأعلم [سبحانه] عباده أنه لا يرضى لهم إلا أكرم الوسائل وأفضل المنازل وأجل العلوم والمعارف. قال تعالى: {إِن تَكْفُرُواْ فَإِنّ اللهَ غَنِيّ عَنكُمْ وَلاَ يَرْضَىَ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُواْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7] ، وقال [تعالى] : {الْيَومَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِيْنَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} [المائدة: 3] ، وقال: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] ، وقال: {يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَاللهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الّذِينَ يَتّبِعُونَ الشّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً} [النساء: 26-28] . ويتنصل سبحانه إلى عباده من مواضع الظنة والتهمة التى نسبها إليه من يعرفه حق معرفته ولا قدره حق قدره: من تكليف عباده ما لا يقدرون عليه ولا طاقة لهم بفعله البتة، وتعذيبهم إن شكروه وآمنوا به، وخلق السموات والأرض وما بينهما لا لحكمة ولا لغاية، وأنه لم يخلق خلقه لحاجة منه إليهم، ولا ليتكثر بهم من قلة ولا ليتعزز بهم كما قال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات: 56- 57] ، فأخبر أنه لم يخلق الجن والإنس لحاجة منه إليهم، ولا ليربح عليهم، لكن خلقهم جوداً وإحساناً ليعبدوه فيربحوا هم عليه كل الأرباح كقوله: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ} [الإسراء: 7] ، {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} [الروم: 44] ، ولما أمرهم بالوضوءِ وبالغسل من الجنابة الذى يحط عنهم أَوزارهم ويدخلون به عليه ويرفع به درجاتهم، قال تعالى: {مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6] ، وقال فى الأضاحى والهدايا: {لَنْ يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج: 37] ، وقال عقيب أمرهم بالصدقة ونهيهم عن إخراج الرديء من المال: {وَلاَ تَيَمّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُوَاْ أَنّ اللهَ غَنِيّ حَمِيدٌ} [البقرة: 267] . يقول سبحانه: إنى غنى عما تنفقون أن ينالنى منه شيء، [حميد] مستحق المحامد كلها، فإنفاكم لا يسد منه حاجة ولا يوجب له حمداً، بل هو الغنى بنفسه الحميد بنفسه وأسمائه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 وصفاته [وإنفاقكم] إنما نفعه لكم وعائدته عليكم. ومن [المتعين] على من لم يباشر قلبه حلاوة هذا الخطاب وجلالته ولطف موقعه، وجذبه للقلوب والأرواح ومخالطته لها أن يعالج قلبه بالتقوى، وأن يستفرغ منه المواد الفاسدة التى حالت بينه وبين حظه من ذلك، ويتعرض إلى الأسباب التى يناله بها، من صدق الرغبة واللجإِ إلى الله أن يحيى قلبه ويزكيه ويجعل فيه الإيمان والحكمة، فالقلب الميت لا يذوق طعم الإيمان ولا يجد حلاوته ولا يتمتع بالحياة الطيبة لا فى الدنيا ولا فى الآخرة ومن أَراد مطالعة أُصول النعم فليسم سرح الذكر فى رياض القرآن، وليتأمل ما عدد الله فيه من نعمه وتعرف بها إلى عباده من أول القرآن إلى آخره حين خلق أهل النار وابتلاهم بإبليس وحزبه وتسليط أعدائهم عليهم وامتحانهم بالشهوات والإرادات والهوى لتعظم النعمة عليهم بمخالفتها ومحاربتها، [أعداء الله] على أوليائه وعباده أتم نعمة وأكملها فى كل ما خلقه من محبوب ومكروه، ونعمة ومحنة وفى كل ما أحدثه فى الأرض من وقائعه بأعدائه وإكرامه لأوليائه، وفى كل ما قضاه وقدره، وتفصيل ذلك لا تفى به أقلام الدنيا وأوراقها ولا قوى العباد، وإنما هو التنبيه والإشارة. ومن استقرئ الأسماء الحسنى وجدها مدائح وثناءً تقصر بلاغات الواصفين عن بلوغ كنهها، وتعجز الأوهام عن الإحاطة بالواحد منها ومع ذلك فالله سبحانه محامد ومدائح وأنواع من الثناء لم تتحرك بها الخواطر ولا هجست فى الضمائر ولا لاحت لمتوسم ولا سنحت فى فكر. ففى دعاء أعرف الخلق بربه تعالى وأعلمهم بأسمائه وصفاته ومحامده: "أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِى كِتَابِكَ أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَداً مِنْ خَلْقِكَ أوْ اسْتأْثَرْتَ بِهِ فِى عِلْمِ الغَيْبِ عِنْدَكَ أَن تَجْعَلَ الْقُرْآن رَبِيع قَلْبِى وَنُورَ صَدْرِى وَجَلاءَ حُزْنِى وَذَهَابَ هَمِّى وَغَمِّى". وفى الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم فى حديث الشفاعة لما يسجد بين يدى ربه قال: "فَيَفْتَحُ قَلبِى مَنْ مَحَامِدهِ بِشَيْءٍ لا أُحْسِنُهُ الآن"، وكان يقول فى سجوده: [أعوذ برضاك من سخطك وبعفوك من عقوبتك] "أَعُوذُ بِكَ مِنْكَ، لا أُحْصِى ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْت عَلَى نَفْسِكِ "، فلا يحصى أَحد من خلقه ثناءً عليه البتة، وله أسماءٌ وأوصاف وحمد وثناءٌ لا يعلمه ملك مقرب ولا نبى مرسل، ونسبة ما يعلم العباد من ذلك إلى ما لا يعلمونه كنقرة عصفور فى بحر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 فإن قيل: فكيف تصنعون بما يشاهد من أَنواع الابتلاءِ والامتحان والآلام للأَطفال والحيوانات ومن هو خارج عن التكليف ومن لا ثواب ولا عقاب عليه؟ وما تقولون فى الأَسماءِ الدالة على ذلك من المنتقم والقابض والخافض ونحوها؟ قيل: قد تقدم من الكلام فى ذلك ما يكفى بعضه لذى الفطرة السليمة والعقل المستقيم وأَما من فسدت فطرته وانتكس قلبه وضعفت بصيرة عقله فلو ضرب له من الأَمثال ما ضرب فإِنه لا يزيده إِلا عمى وتحيراً ونحن نزيد ما تقدم إيضاحاً وبياناً إِذ بسط هذا المقام أَولى من اختصاره فنقول: قد علمت أن جميع أسماء الرب سبحانه حسنى وصفاته كمال وأفعاله حكمة ومصلحة، وله كل ثناءٍ وكل حمد ومدحه وكل خير فمنه وله وبيده، والشر ليس إليه بوجه من الوجوه. لا فى ذاته ولا فى صفاته ولا فى أفعاله ولا فى أسمائه، وإن كان فى مفعولاته فهو خير بإضافته إليه وشر بإضافته إلى من صدر عنه ووقع به. فتمسك بهذا الأصل ولا تفارقه فى كل دقيق وجليل، وحكمه على كل ما يرد عليك، وحاكم إليه واجعله آخرتك التى ترجع إليها وتعتمد عليها. واعلم أن لله خصائص فى خلقه ورحمة وفضلاً يختص به من يشاءُ، وذلك موجب ربوبيته وإلهيته وحمده وحكمته، فإياك ثم إياك أَن تصغى إلى وسوسة شياطين الإنس والجن والنفس الجاهلة الظالمة إِنه هلا سوَّى بين عباده فى تلك الخصائص وقسمها بينهم على السواءِ، فإن هذا عين الجهل والسفه من المعترض به، وقد بينا فيما تقدم أن حكمته تأْبى ذلك وتمنع منه. ولكن اعلم أن الأمر قسمة بين فضله وعدله، فيختص برحمته من يشاء ُ ويقصد بعذابه من يشاءُ وهو المحمود على هذا، فالطيبون من خلقه مخصوصون بفضله ورحمته، والخبيثون مقصودون بعذابه، ولكل واحد قسطه من الحكمة والابتلاءِ والامتحان، وكل مستعمل فيما هو له مهيأَ وله مخلوق، وكل ذلك خير ونفع ورحمة للمؤمنين فإنه تعالى خلقهم للخيرات فهم لها عاملين، واستعملهم فيها فلم يدركوا ذلك إلا به ولا استحقوه إلا بما سبق لهم من مشيئته وقسمته، فكذلك لا تضرهم الأدواءُ ولا السموم، بل متى وسوس لهم العدو واغتالهم بشيء من كيده أو مسهم بشيء من طيفة تذكروا فإذا هم مبصرون، وإخوانهم يمدونهم فى الغى ثم لا يقصرون وإذا واقعوا فى معصية صغيرة أو كبيرة عاد ذلك عليهم رحمة وانقلب فى حقهم دواء وبدل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 حسنة بالتوبة النصوح والحسنات الماحية، لأنه سبحانه عرفهم بنفسه وبفضله وبأن قلوبهم بيده وعصمتهم إليه حيث نقض عزماتهم وقد عزموا أن لا يعصوه، وأراهم عزته فى قضائه، وبره وإحسانه فى عفوه ومغفرته، وأشهدهم نفوسهم وما فيها من النقص والظلم والجهل، وأشدهم حاجتهم إليه وافتقارهم وذلهم، وأنه إن لم يعف عنهم ويغفر لهم فليس لهم سبيل إلى النجاة أبداً، فإِنهم لما أعطوا من أنفسهم العزم أن لا يعصون وعقدوا عليه قلوبهم ثم عصوه بمشيئته وقدرته، عرفوا بذلك عظيم اقتداره وجميل ستره إياهم وكريم حلمه عنهم وسعة مغفرته لهم برد عفوه وحنانه وعطفه ورأْفته، وأنه حليم ذو أناة لا يعجل ورحيم سبقت رحمته غضبه، وأنهم متى رجعوا إليه بالتوبة وجدوه غفوراً رحيماً، حليماً كريماً، يغفر لهم السيئات ويقيلهم العثرات ويودهم بعد التوبة ويحبهم. فتضرعوا إليه حينئذ بالدعاء وتوسلوا إليه بذل العبيد وعزا الربوبية فتعرف سبحانه إليهم بحسن إجابته وجميل عطفه وحسن امتنانه فى أن ألهمهم دعاءه ويسرهم للتوبة والإنابة وأقبلوا بقلوبهم إليه بعد إعراضها عنه، ولم تمنعه معاصيهم وجناياتهم من عطفه عليهم وبره لهم وإحسانه إليهم فتاب عليهم قبل أن يتوبوا إليه، وأعطاهم قبل أن يسألوه فلما تابوا إليه واستغفروه وأنابوا إليه تعرف إليهم تعرفاً آخر: فعرفهم رحمته وحسن عائدته وسعة مغفرته وكريم عفوه وجميل صفحه وبره وامتنانه وكرمه وشرعه، ومبادرته قبولهم بعد أن كان منهم ما كان من طول الشرور وشدة النفور والإيضاع فى طرق معاصيه، وأشهدهم مع ذلك حمده العظيم وبره العميم، وكرمه فى أن خلى بينهم وبين المعصية فنالوها بنعمته وإعانته، ثم لم يخل بينهم وبين ما توجبه من الإهلاك والفساد الذى لا يرجى معه صلاح، بل تداركهم بالدواء الشافى فاستخرج منهم داء لو استمر معهم لأفضى إلى الهلاك، ثم تداركهم بروح الرجاء فقذفه فى قلوبهم وأخبر أنه عند ظنونهم به، ولو أشهدهم عظم الجناية وقبح المعصية وغضبه ومقته على من عصاه فقط لأورثهم ذلك المرض القاتل أو الداء العضال من اليأْس من روحه والقنوط من رحمته، وكان ذلك عين هلاكهم، ولكن رحمهم قبل البلاء وفى حشو البلاء وبعد البلاء وجعل تلك الآثار التى توجبها معصيته من المحن والبلاء والشدائد رحمة لهم وسبباً إلى علو درجاتهم ونيل الزلفى والكرامة عنده، فأشهدهم بالجناية عزة الربوبية وذل العبودية، ورقاهم بآثارها إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 منازل قربه ونيل كرامته، فهم على كل حال يربحون عليه يتقلبون فى كرمه وإحسانه، وكل قضاءٍ يقضيه للمؤمن فهو خير به يسوقه إلى كرامته وثوابه، وكذلك عطاياه الدنيوية نعم منه عليهم، فإذا استرجعها أيضاً منهم وسلبهم إياها انقلبت من عطايا الآخرة ما قيل: إن الله ينعم على عباده بالعطايا الفاخرة، فإذا استرجعها كانت عطايا الآخرة، والرب سبحانه قد تجلى لقلوب المؤمنين العارفين وظهر لها بقدرته وجلاله وكبريائه ومضى مشيئته وعظيم سلطانه وعلو شأْنه وكرمه وبره وإحسانه وسعة مغفرته ورحمته وما ألقاه فى قلوبهم من الإيمان بأسمائه وصفاته إلى حيث احتملته القوى البشرية ووراءه مما لا تحتمله قواهم ولا يخطر ببال ولا يدخل فى خلد مما لا نسبة لما عرفوه إليه. فاعلم أن الذين كان قسمهم أنواع المعاصى والفجور، وفنون الكفر والشرك والتقلب فى غضبه وسخطه وقلوبهم وأرواحهم شاهدة عليهم بالمعاصى والكفر مقرة بأن له الحجة عليهم وأن حقه قبلهم، ولا يذكر أحد منهم النار إلا وهو شاهد بذلك مقر به معترف اعتراف طائع لا مكره مضطهد، فهذه شهادتهم على أنفسهم وشهادة أوليائه عليهم والمؤمنون يشهدون فيهم بشهادة أخرى لا يشهد بها أعداؤه، ولو شهدوا بها وباؤا بها لكانت رحمته أقرب إليهم من عقوبته، فيشهدون أنهم عبيده وملكه وأنه أوجدهم ليظهر بهم مجده وينفذ فيهم حكمه ويمضى فيهم عدله، ويحق عليهم كلمته ويصدق فيهم وعيده ويبين فيهم سابق علمه، ويعمر بهم ديارهم ومساكنهم التى هى محل عدله وحكمته، وشهد أولياؤه عظيم ملكه وعز سلطانه وصدق رسله وكمال حكمته وتمام نعمته عليهم وقدر ما اختصهم به ومن أى شيء حماهم وصانهم، وأى شيء صرف عنهم، وأنه لم يكن لهم إليه وسيلة قبل وجوده يتوسلون بها إليه أن لا يجعلهم من أصحاب الشمال وأن يجعلهم من أصحاب اليمينى، وشهدوا له سبحانه بأن ما كان منه إليهم وفيهم مما يقتضيه إتمام كلماته الصدق والعدل قوله وتحقق مقتضى أسمائه فهو محض حقه. وكل ذلك منه حسن جميل له عليه أتم حمد وأكمله وأفضله، وهو حكم عدل وقضاءٌ فصل، وأنه المحمود على ذلك كله فلا يلحقه منه ظلم ولا جور ولا عبث، بل ذلك عين الحكمة ومحض الحمد وكمال أظهره فى حقه وعز أبداه وملك أعلنه ومراد له أنفذه كما فعل بالبدن وضروب الأنعام أتم بها مناسك أوليائه وقرابين عباده، وإن كان ذلك بالنسبة إلى الأنعام هلاكاً وإتلافاً، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 .. فأعداؤه الكفار المشركون به الجاحدون أو لى أن تكون دماؤهم قرابين أوليائه وضحايا المجاهدين فى سبيله، كما قال حسان بن ثابت: يتطهرون- يرونه قربانهم ... بدماءِ من علقوا من الكفار وكذلك لما ضحى خالد بن عبد الله القسرى بشيخ المعطلة الفرعونية جعد بن درهم، فإن خطبهم فى يوم أضحى، فلما أكمل خطبته قال: أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإنى مضح بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً، تعالى عما يقول الجعد علواً كبيراً، ثم نزل فذبحه، فكان ضحيته. وذكر ذلك البخارى فى كتاب خلق الأفعال، فهذا شهود أوليائه من شأن أعدائه، ولكن أعداؤه فى غفلة عن هذا لا يشهدونه ولا يقرون به، ولو شهدوه وأقروا به لأدركهم حنانه ورحمته، ولكن لما حجبوا عن معرفته ومحبته وتوحيده وإثبات أسمائه الحسنى وصفاته العليا ووصفه بما يليق به وتنزيهه عما لا يليق به صاروا أسوأ حالاً من الأنعام وضربوا بالحجاب، وأبعدوا عنه بأقصى البعد وأخرجوا من نوره إلى الظلمات، وغيبت قلوبهم فى الجهل به وبكماله وجلاله وعظمته فى غابات، ليتم عليهم أمده، وينفذ فيهم حكمه، والله عليم حكيم، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 فصل: فى أن الله خلق داريْن وخصَّ كل دار بأهل والله سبحانه مع كونه خالق كل شيء فهو موصوف بالرضا والغضب والعطاء والمنع والخفض والرفع والرحمة والانتقام، فاقتضت حكمته سبحانه أن خلق داراً لطالبى رضاه العاملين بطاعته المؤثرين لأمره القائمين بمحابة وهى الجنة، وجعل فيها كل شيء مرضى وملأها من كل محبوب ومرغوب ومشتهى ولذيذ، وجعل الخير بحذافيره فيها، وجعلها محل كل طيب من الذوات والصفات والأقوال. وخلق داراً أخرى لطالبى أسباب غضبه وسخطه، المؤثرين لأغراضهم وحظوظهم على مرضاته، العاملين بأنواع مخالفته، القائمين بما يكره من الأعمال والأقوال، الواصفين له بما لا يليق به، الجاحدين لما أخبرت به رسله من صفات كماله ونعوت جلاله لما أخبرت به رسله من صفات كماله ونعوت جلاله، وهى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 جهنم، وأودعها كل شيء مكروه وسجنها مليء من كل شيء مؤذ ومؤلم، وجعل الشر بحذافيره فيها، وجعلها محل كل خبيث من الذوات والصفات والأقوال والأعمال. فهاتان الداران هما دارا القرار. وخلق داراً ثالثة هى كالميناء لهاتين الدارين، ومنها يتزود المسافرون إليهما، وهى دار الدنيا، ثم أخرج إليها من أثمار الدارين بعض ما اقتضته أعمال أربابهما وما يستدل به عليهما، حتى كأنهما رأى عين، ليصير للإيمان بالدارين- وإن كان غيباً- وجه شهادة تستأنس به النفوس وتسدل به، فأخرج سبحانه إلى هذه الدار من آثار رحمته من الثمار والفواكه والطيبات والملابس الفاخرة والصور الجميلة وسائر ملاذ النفوس ومشتهاها ما هو نفحة من نفحات الدار التى جعل ذلك كله فيها على وجه الكمال، فإذا رآه المؤمنون ذكرهم بما هناك من الخير والسرور والعيش الرخى كما قيل: فإذا رآك المسلمون تيقنوا ... حور الجنان لدى النعيم الخالد فشمروا إليها وقالوا: اللَّهم لا عيش إلا عيش الآخرة وأحدثت لهم رؤيته عزمات وهمماً وجداً وتشميراً، لأن النعيم يذكر بالنعيم، والشيء يذكر بجنسه، فإذا رأى أحدهم ما يعجبه ويروقه ولا سبيل له إليه قال: موعدك الجنة، وإنما هى عشية أو ضحاها. فوجود تلك المشتهيات والملذوذات فى هذه الدار رحمة من الله يسوق بها عباده المؤمنين إلى تلك الدار التى هى أكمل منها، وزاد لهم من هذه الدار إليها، فهى زاد وعبرة ودليل، وأثر من آثار رحمته التى أودعها تلك الدار، فالمؤمن يهتز برؤيتها إلى ما أمامه، ويثير ساكن عزماته إلى تلك، فنفسه ذواقة تواقة، إذا ذاقت شيئاً منها تاقت إلى ما هو أكمل منه حتى تتوق إلى النعيم المقيم فى جوار الرب الكريم. وأخرج سبحانه إلى هذه الدار أيضاً من آثار غضبه ونقمته من العقوبات والآلام والمحن والمكروهات من الأعيان والصفات ما يستدل بجنسه على ما فى دار الشقاء من ذلك، مع أن ذلك من آثار النفسين الشتاء والصيف اللذين أذن الله سبحانه بحكمته لجهنم أن تتنفس بهما، فاقتضى ذانك النفسان آثاراً ظهرت فى هذه الدار كانت دليلاً عليها وعبرة. وقد أشار تعالى إلى هذا المعنى ونبه عليه بقوله فى نار الدنيا: {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لّلْمُقْوِينَ} [الواقعة: 73] ، تذكرة تذكر بها الآخرة ومنفعة للنازلين بالقواءِ وهم المسافرون، يقال: أقوى الرجل إذا نزل بالقِى والقَوَى وهى الأرض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 الخالية، وخص المقوين بالذكر وإن كانت منفعتها عامة للمسافرين والمقيمين تنبيهاً لعباده- والله أعلم بمراده من كلامه- على أنهم كلهم مسافرون وأنهم فى هذه الدار على جناح سفر ليسوا هم مقيمين ولا مستوطنين وأنهم عابرو سبيل وأبناء سفر. والمقصود أنه سبحانه أشهد فى هذه [الدار] ما أعد لأوليائه وأعدائه فى دار القرار، وأخرج إلى هذه الدار من آثار رحمته وعقوبته ما هو عبرة ودلالة على ما هناك من خير وشر، وجعل هذه العقوبات والآلام والمحن والبلايا سياطاً يسوق بها عباده المؤمنين، فإذا رأوها حذروا كل الحذر واستدلوا بما رأوه منها وشاهدوه على ما فى تلك الدار من المكروهات والعقوبات، وكان وجودها فى هذه الدار وإشهادهم إياها وامتحانهم باليسير منها رحمة منه بهم وإحساناً إليهم وتذكرة وتنبيهاً. ولما كانت هذه الدار ممزوجاً خيرها بشرها وأذاها براحتها ونعيمها بعذابها اقتضت حكمة أحكم الحاكمين أن خلص خيرها من شرها وخصه بدار أخرى هى دار الخيرات المحضة ودار السرر المحضة، فكتب على هذه الدار حكم الامتزاج والاختلاط وخلط فيها بين الفريقين، وابتلى بعضهم ببعض، وجعل بعضهم لبعض فتنة، حكمة بالغة بهرت العقول وعزة قاهرة. فقام بهذا الاختلاط سوق العبودية كما يحبه ويرضاه، ولم تكن تقوم عبوديته التى يحبها ويرضاها إلا على هذا الوجه، بل العبد الواحد جمع فيه بين أسباب الخير والشر، وسلط بعضه على بعض ليستخرج منه ما يحبه من العبودية التى لا تحصل إلا بذلك. فلما حصلت الحكمة المطلوبة من هذا الامتزاج والاختلاط أعقبه بالتمييز والتخليص، فميز بينهما بدارين ومحلين، وجعل لكل دار ما يناسبها، وأسكن فيها من يناسبها، وخلق المؤمنين المتقين المخلصين لرحمته، وأعداءه الكافرين لنقمته، والمخلصين للأمرين: فهؤلاء أهل الرحمة وهؤلاء أهل النقمة، وهؤلاء أهل النقمة والرحمة. وقسم آخر لا يستحقون ثواباً ولا عقاباً. ورتب على كل قسم من هذه الأقسام الخمسة حكمه اللائق به، وأظهر فيه حكمته الباهرة، ليعلم العباد كمال قدرته وحكمته وأنه يخلق ما يشاءُ، ويختار من خلقه من يصلح للاختيار، وأنه يضع ثوابه موضعه، ويجمع بينهما فى المحل المقتضى لذلك، ولا يظلم أحداً ولا يبخسه شيئاً من حقه ولا يعاقبه بغير جنايته، هذا مع ما فى ضمن هذا الابتلاء والامتحان من الحكم الراجعة إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 العبيد أنفسهم: من استخراج صبرهم وشكرهم وتوكلهم وجهادهم، واستخراج كمالاتهم الكامنة فى نفسهم من القوة إلى الفعل، ودفع الأسباب بعضها ببعض، وكسر كل شيء بمقابلة ومصادمته بضده، لتظهر عليه آثار القهر وسمات الضعف والعجز ويتيقن العبد أن القهار لا يكون إلا واحداً، وأنه يستحيل أن يكون له شريك، بل القهر والوحدة متلازمان: فالملك والقدرة والقوة والعزة كلها لله الواحد القهار، ومن سواه مربوب مقهور، له ضد ومناف ومشارك: فخلق الرياح وسلط بعضها على بعض تصادمها وتكسر سورتها وتذهب بها، وخلق الماءَ وسلط عليه الرياح تصرفه وتكسره، وخلق النار وسلط عليها الماءَ يكسرها ويطفئها، وخلق الحديد وسلط عليه النار تذيبه وتكسر قوته، وخلق الحجارة وسلط عليها الحديد يكسرها ويفتتها، وخلق آدم وذريته وسلط عليهم إبليس وذريته، وخلق إبليس وذريته وسلط عليهم الملائكة يشردونهم كل مشرد ويطردونهم كل مطرد، وخلق الحر والبرد والشتاء والصيف وسلط كلا منها على الآخر يذهبه ويقهره، وخلق الليل والنهار وقهر كلا منهما بالآخر، وكذلك الحيوان على اختلاف ضروبه من حيوان البر والبحر لكل منه مضاد ومغالب، فاستبان للعقول والفطر أن القاهر الغالب لذلك كله واحد وأن من تمام ملكه إيجاد العالم على هذا الوجه وربط بعضه على بعض وإحواج بعضه إلى بعض وقهر بعضه ببعض وابتلاءِ بعضه ببعض وامتزاج خيره بشره، وجعل شره لخيره الفداءِ، ولهذا يدفع إلى كل مؤمن يوم القيامة كافر فيقال له: هذا فداؤك من النار، وهكذا المؤمن فى الدنيا يسلط عليه من الابتلاء والامتحان والمصائب ما يكون فداءه من عذاب الله، وقد تكون تلك الأسباب فداءً له من شرور أكثر منها فى هذا العالم أيضاً، فليعط اللبيب هذا الموضع حقه من التدبر يتبين له حكمة اللطيف الخبير. فصل وقد تقرر أن الله سبحانه كامل الصفات له الأسماء الحسنى، ولا يكون عن الكامل فى ذاته وصفاته إلا الفعل المحكم، وهو سبحانه خلق عباده على الفطرة، وكل مولود فإنما يولد على الفطرة التى فطر الخلائق عليها، ولكن الآباء والكافلين للمولودين يخرجونهم من الفطرة، ويعدلون بهم عنها، ولو تركوهم لما اختاروا عليها غيرها، ولكن أخرجوهم عن سنن الحنيفية وأفسدوا فطرهم وقلوبهم، وهكذا بالأضداد والأغيار يخرج بعض المخلوقات عن سنن الإتقان والحكمة، ولولا تلك الأضداد والأغيار لكانت فى مرتبتها كالملودُّ فى فطرته ولذلك أمثلة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 المثال الأول: أن الماء خلقه الله طاهراً مطهراً، فلو ترك على حالته التى خلق الله عليها ولم يخالطه ما يزيل طهارته لم يكن طاهراً، ولكن بمخاطة أضداده من الأنجاس والأقذار تغيرت اوصافه وخرج عن لاخلقة التى خلق عليها، فكانت تلك لانجاسات والقاذورات بمنزلة أيوى الطفل وكافليه لاذين يهودانه وينصرونه ويمجسونه ويشركونه، وكما أن الماء إذا فسد بمخالطته الأنجاس والقاذورات لم يصلح للطهارة، فكذلك القلوب إذا فسدت فطرها بالأغيار لم تصلح لحظيرة القدس. المثال الثاني: الشراب المعتصر من العنب، فإنه طيب يصلح للدواء ولإصلاح الغذاء والمنافع التي يصلح لها، فلو خلي على حاله لم يكن إلا طاهرا طيبا ولكن أفسد بتهيئته للسكر واتخاذه مسكرا، فخرج بذلك عن خلقته التي خلق عليها من الطهارة والطيب، فصار أخبث شيء وأنجسه. فلو انقلب خلا أو زال بزوالها والله أعلم. المثال الثالث: الأغذية الطيبة النافعة إذا خالطت باطن الحيوان واستقرت هنالك خرجت عن حالتها التي خلقت عليها واكتسبت بهذه المخالطة والمجاورة خبثا وفسادا لم يكن فيها لسلوكها في غير طرقها التي بها كمالها. ولما أنزل الله الماء طاهرا نافعا فمازج الأرض سالت به أوديتها أوجد جل جلاله بينهما بسبب هذه المخالطة والممازجة أنواع الثمار والفواكه والزروع والنخيل والزيتون وسائر الأغذية والأقوات وأوجد مع ذلك المر والشوك والحنظل وغير ذلك، واللقاح واحد، ولكن الأم مختلفة، قال تعالى: {وَفِي الأرْضِ قِطَعٌ مّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنّاتٌ مّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَىَ بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضّلُ بَعْضَهَا عَلَىَ بَعْضٍ فِي الاُكُلِ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد: 4] ، ثم إنه سبحانه يصرف ما أخرجه من هذا الماء وبقلبه ويحيل بعضه إلى بعضه بالمخالطة والمجاورة عن طبيعته إلى طبيعة أخرى، وهذا كما خلق كل دابة من ماء ثم خالف بين صورها وقواها ومنافعها وأوصافها وما يصلح لها، وأمشى بعضا على بطنه وبعضا على رجلين وبعضا على أربع، حكمة بالغة وقدرة باهرة. وكذلك سبحانه يقلب الليل والنهار ويقلب ما يوجد فيهما ويقلب أحوال العالم كما يشاء ويسلك بذلك مسلك الحكمة البالغة التي بها يتم مراده ويظهر ملكه: {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 وهذا القرآن المجيد عمدته ومقصوده الإخبار عن صفات الرب سبحانه وأسمائه وأفعاله وأنواع حمده والثناء عليه والإنباء عن عظمته وعزته وحكمته، وأنواع صنعه والتقدم إلى عباده بأمره ونهيه على ألسنة رسله، وتصديقه يفهم بما أقامه من الشواهد والدلالات على صدقهم وبراهين ذلك ودلائله وتبيين مراده من ذلك كله، وكان من تمام ذلك الإخبار عن الكافرين والمكذبين وذكر ما أجابوا به رسلهم وقابلوا به رسالات ربهم ووصف كفرهم وعنادهم وكيف كذبوا على الله وكذبوا رسله وردوا أمره ومصالحه، فكان في اجتلاب ذلك من العلوم والمعارف والبيان وضوح شواهد الحق وقيام أدلته وتنوعها، وكان موقع هذا من خلقه موقع تسبيحه تعالى وتنزيهه من الثناء عليه، وإن أسماءه الحسنى وصفاته العليا هي موضع الحمد، ومن تمام حمده تسبيحه وتنزيهه عما وصفه به أعداؤه والجاهلون به مما لا يليق به. وكان في تنوع تنزيهه عن ذلك من العلوم والمعارف وتقرير صفات الكمال وتكميل أنواع الحمد ما في بيان محاسن الشيء وكماله عند معرفة ما يضاده ويخالفه، ولهذا كان تسبيحه تعالى من تمام حمده، وحمده من تمام تسبيحه، ولهذا كان التسبيح والتحميد قربتين، وكان ما نسبه إليه أعداؤه، والمعطلون لصفات كماله- من علوه على خلقه وإنزاله كلامه الذي تكلم به على رسله وغير ذلك مما نزه عنه نفسه وسبح به نفسه ن وكان في ذلك ظهور حمده في خلقه وتنوع أسبابه وكثرة شواهده وسعة طرق الثناء عليه به وتقرير عظمته ومعرفته في قلوب عباده، فلولا معرفة الاسباب التي يسبح وينزه ويتعالى عنها، وخلق من يضفيها إليه ويصفه بها، لما ينزهونه. فلما رأوا في خلقه من قد نسبه إلى ما لا يليق به وجحد من كماله ما هو أولى به سبحوه، وحينئذ تسبيح مجل له معظم له منزه عن أمر قد نسبه إليه أعداؤه والمعطلون لصفاته ونظير هذا اشتمال كلمة الإسلام- وهي شهادة أن لا إله إلا الله- على النفي والإثبات، فكان في الإتيان بالنفي في صدر هذه الكلمة من تقرير الإثبات وتحقيق معنى الإلهية وتجريد التوحيد الذي قصد بنفي الإلهية عن كل ما ادعيت فيه سوى الإله الحق تبارك وتعالى، فتجريد هذا التوحيد من العقد واللسان يتصور إثبات الإلهية لغير الله كما قاله أعداؤه المشركون ونفيه وإبطاله من القلب واللسان من تمام التوحيد وكماله وتقريره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 وظهور أعلامه ووضوح شواهده وصدق براهينه ونظير ذلك أيضاً أن تكذيب أعداِء الرسل وردهم ما جاؤوهم به كان من الأسباب الموجبة ظهور براهين صدق الرسل ودفع ما احتج به أعداؤهم عليهم من الشبه الداحضة ودحض حججهم الباطلة وتقرير طرق الرسالة وإيضاح أدلتها، فإن الباطل كلما ظهر فساده وبطلانه أسفر وجه الحق واستنارت معالمه ووضحت سبله وتقررت براهينه، فكسر الباطل ودحض حججه وإقامة الدليل على بطلانه من أدلة الحق وبراهينه. فتأمل كيف اقتضى الحق وجود الباطل، وكيف تم ظهور الحق بوجود الباطل، وكيف كان كفر أعداِ الرسل بهم وتكذيبهم لهم ودفعهم ما جاؤوا به وهو من تمام صدق الرسل وثبوت رسالات الله وقيام حججه على العباد، ولنضرب لذلك مثالاً يتبين به، وهو ملك له عبد قد توحد فى العالم بالشجاعة والبسالة والناس بين مصدق ومكذب، فمن قائل: هو كذلك ومن قائل: هو بخلاف ما يظن به فإنه لم يقابل الشجعان ولا واجه الأقران، ولو بارز الأقران وقابل الشجاعة لظهر أمره وانكشف حاله. فسمع به شجعان العالم وأبطالهم فقصدوه من كل صوب وأتوه من كل قطر، فأراد الملك أن يظهر لرعيته ما هو عليه من الشجاعة فمكن أولئك الشجعان من منازلته ومقاومته وقال: دونكم وإياه وشأنكم به. فهل تسليط الملك لأولئك على عبده ومملوكه إلا لإعلاءِ شأْنه وإظهار شجاعته فى العالم وتخويف أعدائه به، وقضاءِ الملك أوطاره به، كما يترتب على هذا إظهار شجاعة عبده وقوته وحصول مقصوده بذلك، فكذلك يترتب عليه ظهور كذب من ادعى مقاومته وظهور عجزهم وفضيحتهم وخزيهم وأنهم ليسوا ممن يصلح لمهمات الملك وحوائجه فإذا عدل بهم عن مهماته وولايته وعدل بها عنهم كان ذلك مقتضى حكمة الملك وحسن تصرفه فى ملكه وأنه لو استعملهم فى تلك المهمات لتشوش أمر المملكة وحصل الخلل والفساد والله أعلم بالشاكرين. والمقصود أن خلق الأسباب المضادة للحق وإظهارها فى مقابلة الحق من أبين دلالته وشواهده، فكان فى خلقها من الحكمة ما لو فاتت [لفاتت] تلك الحكمة، وهى أحب إلى الله من تفويتها بتقدير تفويت هذه الأسباب. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 فصل: فى بيان ما للناس فى دخول الشر فى القضاء الإلهي من الطرق والأصول التى تفرعت عنها هذه الطرق. وللناس طرق فى دخول الشر فى القضاء الإلهى فنذكرها ونذكر أصولهم التى تفرعت عليها هذه الطرق قبل ذلك. فنقول: للناس قولان: أحدهما قول أهل الإسلام وأَتباع المرسلين كلهم إِن الله سبحانه فعال لما يريد يفعل باختياره وقدرته ومشيئته، فما شاءَ كان وما لم يشأْ لم يكن، وهو الذى يعبر عنه متأخرو المتكلمين بكونه: "فاعلاً بالاختيار". وللفريق الثانى قول من نفى ذلك، وقال: صدر العلم عنه تعالى صدوراً ذاتياً كصدور النور عن الشمس والحرارة عن النار والتبريد عن الماء، ويسمى المتكلمون هذا "الإيجاب الذاتى". ومصدره موجبات الذات، وهذا قول الفلاسفة المشّائين وهو الذى يذكره ابن الخطيب وغيره عن الفلاسفة، ولا يحكى عنهم غيره، وإنما هو قول المشائين، وقرّبه متأَخرهم وفاضلهم ابن سينا إلى الإِسلام بعض التقريب، مع مباينته لما جاءت به الرسل، ولما دل عليه صريح العقل والفطرة. والفريقان متفقون على أن مصدر الكائنات بأَسرها خير محض من جميع الوجوه وكمال صرف، ووجود الشر فى العالم مشهود، والخير لا يصدر عنه إلا خير. ولا جرم اختلفت طرقهم فى كيفية دخول الشر فى القضاء الإِلهى وتنوعت إلى أَربعة طرق: الطريق الأول: طريق نفاة التعليل والحكمة والأسباب، فإنهم سدوا على أنفسهم هذا الباب وأثبتوا مشيئة محضة لا غاية لها ولا سبب ولا حكمة تفعل لأجلها، ولا يتوقف فعل المختار بها على مصلحة ولا حكمة، ولا غاية لها تفعل، بل كل مقدور يحسن منه فعله، ولا حقيقة عندهم للقبيح لولا المستحيل لذاته الذى لا يوصف بالقدرة عليه. وهؤلاء نفوا مسمى الرحمة والحكمة وإِن أَقروا بلفظ لا حقيقة له، وكان شيخهم الجهم بن صفوان يقف بأصحابه على المجذومين وهم يتقلبون فى بلائهم فقول: أَرحم الراحمين يفعل مثل هذا، يعنى أنه ليس فى الحقيقة رحمة، وإنما هو محض مشيته وصرف إرادة مجردة عن الحكمة والرحمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 وهؤلاء قابلوا أصحاب الطريق الثانى: وهم الذين أثبتوا له حكمة وغاية، وقالوا: لا يفعل شيئاً إلا لحكمة وغاية مطلوبة، ولكن حجروا عليه سبحانه فى ذلك، وشرعوا له شريعة وضعوها بعقولهم وظنوا أن ما يحسن من خلقه يحسن منه وما يقبح منهم يقبح منه، فجعلوا ما أثبتوه له من الحكمة والرحمة من جنس ما هو للخلق، ولهذا كانوا "مشبهة الأفعال" كما أن من شبهة بخلقه فى صفاته فهو "مشبه الصفات" فاقتسموا التشبيه نصفين: هؤلاء فى أفعاله، وإخوانهم فى صفاته. وقالوا: إِنه تعالى لو خصّ بعض عبيده عن بعض بإِعطائه توفيقاً وقدرة وإرادة ولم يعطها لآخر لكان ظلماً للذى منعه. وقالوا: لو شاءَ من عباده أَفعال المعاصى لكان ينزه عنه كما فى المشاهد ولو شاءَ منهم الكفر والفسوق والعصيان ثم عذبهم عليه لكان ظلماً فى المشاهد أَيضاً، فإن السيد إذا أراد من عبده شيء ففعل ما أراد سيده، فإِنه إذا عذبه عده الناس ظالماً له، وجعلوا العدل فى حقه تعالى من جنس العدل فى حق عباده، والظلم الذى تنزه عنه كالظلم الذى يتنزهون عنه، وجعلوا ما يحسن منه من جنس ما يحسن منهم وما يقبح منه من جنس ما يقبح منهم. وقالوا: لو أَراد الشر لكان شريراً كما فى المشاهد، فإن مريد الشر شرير. وقالوا: لو ختم على قلوب أَعدائه وأسماعهم وحال بينهم وبين قلوبهم وأَضلهم عن الإِيمان وجعل على أَبصارهم غشاوة وجعل من بين أَيديهم سداً ومن خلفهم سداً ثم عذبهم لكان ظالماً لهم، لأَن أَحدنا لو فعل ذلك بعبده ثم عذبه لكان ظالماً له. فهؤلاء المشبهة حقاً فى الأفعال، فعدلهم تشبيه وتوحيدهم تعطيل، فجمعوا بين التشبيه والتعطيل. وهؤلاء قسموا الشر الواقع فى العالم إلى قسمين: أحدهما: "شرور هى أفعال العباد" وما تولد منها، فهذه لا تدخل عندهم فى القضاءِ الإلهى تنزيهاً للرب عن نسبتها إليه، ولا تدخل عندهم تحت قدرته ولا مشيئته ولا تكوينه. والثانى: "الشرور التى لا تتعلق بأفعال العباد" كالسموم والأمراض وأنواع الآلام، وكإبليس وجنوده وغير ذلك من شرور المخلوقات كإيلام الأأطفال وذبح الحيوان، فهذا النوع هو الذى كدَّر على القدرية أُصولهم وشوش عليهم قواعدهم وقالوا: ذلك كله حسن لما فيه من اللطف والمصلحة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 العاجلة والآجلة. قالوا: أما الآلام والأمراض فمفعولة لغرض صحيح وهو ما ضمن الرب سبحانه لمن أصابه بها من العوض الوافى قالوا: وذلك يجرى مجرى استئجار أَجير فى فعل شاق فإِنه بفرض الاستئجار أخرج الاستئجار عن كونه عبثاً بالأُجرة عن كونه ظلماً، فكان حسناً. قالوا: فإن قيل إذا كان الله قادراً على التفضل بالعوض وبأضعافه بدون توسط الألم فأى حاجة إلى توسطه؟ وأيضاً فإذا حسن الألم لأجل العوض فهل يحسن منا أن يؤلم أحدنا [غيره] بغير إذنه لعوض يصل إليه؟ فالجواب أن الله سبحانه لا يُمرض ولا يُؤلِم إلا من يعلم من حاله أَنه لو أَطلعه على الأَعواض التى تصل إليه لرضى بالأَلم ولرغب فيه لوفور الأعواض وعظمها، وليس كذلك فى شاهد استئجار الأَجير من غير اختياره، قالوا: وليس كذلك إِيلام أَحدنا لغيره لأَجل التعويض، فإِن من قطع يد غيره أَو رجله لعوضه عنها لم يحسن ذلك منه، لأن العوض يصل إليه وهو مقطوع اليد والرجل، وليس من العقلاءِ من يختار ملك الدنيا مع ذلك، والله يوصل الأعواض فى الآخرة إلى الأحياء وهم أكمل شيءٍ خلقاً وأَتمه أَعضاءً، فلذلك افترق الشاهد والغائب فى هذا، قالوا: فإن فرضتموه فى ضرب وجلد مع سلامة الأعضاءِ قبح لأَنه عيب، فإِن فرض فيه مصلحة ورضى المضروب بذلك وعظمت الأعواض عنه فهو حسن فى العقل لا محالة. قالوا: وسر الأَمر أن بالعوض يخرج الألم عن كونه ظلماً لأنه نفع موقوف على مضرة الألم، وباعتبار كونه لطفاً فى الدين يخرج عن كونه عبثاً. قالوا: وقد رأينا فى المشاهد حسن الألم للنفع، فإنه يحسن فى المشاهد ًإيلام أنفسنا وإتعابها فى طلب العلوم والأرباح التى لا نصل إليها إلا على جنس من التعب والمشقة، قالوا: وهذا الوجه هو الذى حسن لأجله إيلام الأطفال والبهائم فإنه إيلام لنفع، فإن أبدان الأطفال لا تستقيم إلا على الأسباب الجالبة للآلام، وكذلك نفوسهم إنما تكمل بذلك، وإيلام الحيوان لنفع الآدمى به غير قبيح، قالوا: وأما الألم المستحق للعقوبة فإنه حسن فى المشاهد ولكنه غير متحقق فى الغائب بالنسبة إلى الأطفال والبهائم لعدم تكليفها، ولكن لا بد فى إيلامها من مصلحة ترجع إليها وهى ما يحصل لهم من العوض فى الآخرة. قالوا: ويجب إعادتها لاستيفاءِ ذلك الحق الذى لها وهو العوض على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 الآلام التى حصلت لها قالوا: وبقاؤها بعد الإِعادة موقوف ونعيم الأَطفال والمجانين دائم. واختلفوا فى البهائم فقال بعضهم: يدوم عوضهم، وقال آخرون بانقطاعه فإنهم يصيرون تراباً. قالوا: فإن لم يكن للبهائم عوض يجب لأجله أن تعاد لم تجب إعادتها عقلاً وتحسن إعادتها، وما يحسن قد يفعله الله وقد لا يفعله وهل تجوز الآلام للتعويض المجرد؟ فيه قولان لهم مبنيان على أصل اختلفوا فيه وهو أنه هل يحسن منه سبحانه التفضل بمثل العوض ابتداً؟ فصار بعضهم إلى امتناعه، كما يمتنع التفضل بمثل الثواب ابتداً عندهم وهم مجمعون على امتناعه لئلا يسوى بين العامل وغيره وصار من ينتمى إلى التحصيل منهم إلى أن التفضل بمقدار الأعواض ممكن غير ممتنع، فمن قال بامتناع التفضل بمقدار العوض ممكن غير ممتنع، فمن قال بامتناع التفضل بمقدار العوض الصيمرى جوز وقوع الآلام للتعويض المجرد، ومن جوز التفضل بأَمثال الأَعواض لم تحسن عنده الآلام بمجرد التعويض، بل قالوا: إِنما تحسن لوجهين لا بد من اقترانهما: أَحدهما التزام التعويض، والثانى: اعتبار غير المؤلم بتلك الآلام، وكونها أَلطافاً فى زجر غاو من غوايته إذا شاهدها فى غيره. وذهب عباد الصيمرى منهم إلى أن الآلام تحسن لمجرد الاعتبار من غير تعويض لمن أصابته، ورد عليه جماهير القدَرية ذلك، قالوا: والآلام التى يفعلها سبحانه إِما أن تكون مستحقة كعقوبات الدنيا وعذاب الآخرة، وإما للتعويض، وإما للمصلحة الراجحة. قالوا: وما يفعله فى الآخرة منها فكله للاستحقاق، وما يفعله فى الدنيا فللعوض والمصلحة، وقد يفعله عقوبة، وأَما ما شرعه من أسباب الأَلم فعقوبات محضة. وأما مشايخ القوم فقالوا: إنما يحسن منه سبحانه الإيلام لأنه المنعم بالصحة والحياة، ولأنه فى حكم من أعار تلك المنفعة لمن لا يملكها فله قطعها إذا شاء ولأنه قادر على التعويض عالم بقدره، وليس كذلك الواحد من الخلق. قالوا: فإذا استرجع عارية الصحة والحياة خلفها الألم ولا بد. وأطالوا الكلام فى الآلام وأسبابها، وما يحسن منها وما يقبح، وعلى أى وجه يقع؟ وحصروا أنفسهم غاية الحصر، فاستطالت عليهم الجبرية بالأسئلة والمضايقات وألجأوهم إلى مضايق تضايق عنها أن تولجها الإبر وأضحكوا العقلاء منهم بإبداءِ تنماقضهم، وألزموهم إلزامات لا بد من التزامها أو ترك المذهب. وسأل أبو الحسن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 الأشعرى أبا على الجبائى عن ثلاثة إخوة لأب وأم مات أحدهم صغيراً، وبلغ الآخر فاختار الإسلام، وبلغ الآخر فاختار الكفر، فاجتمعوا عند رب العالمين، فرفع درجة البالغ المسلم فقال أخوه الصغير: يا رب، ارفع درجتى حتى أبلغ منزلة أخى، فقال: إنك لا تستحق، إن أخاك بلغ فعمل أعمالاً استحق بها تلك الدرجة، فقال: يا رب، فهلا أحييتنى حتى أبلغ فأعمال عمله"، فقال: كانت تلك لمصلحة تقتضى اخترامك قبل البلوغ، لأنى علمت أنك لو بلغت لاخترت الكفر، فكانت المصلحة فى قبضك صغراً. قال: فصاح الثالث بين أطباق النار وقال: يا رب، لم لم تمتنى صغيراً؟ فما جواب هذا أيها الشيخ؟ فلم يرد إليه جواباً. قالوا: وإذا علم سبحانه من بعض العبيد أنه لا يختار الإسلام وأنه لا يكون إلا كافراً مفسداً فى الأرض، فأى مصلحة لهذا العبد فى إيجاده؟ قالوا: وأى مصلحة لإبليس وذريته الكفار فى إيجادهم؟ فإن قلتم: عرضهم للثواب، قيل لكم: كيف يعرضهم لأمر قد يعلم أنهم لا يفعلونه ولا يقع منهم البتة؟ ومن هنا أَنكر غلاتهم العلم القديم، وكفّرهم السلف على ذلك، ومن أقرَّ به منهم فإقراره به مبطل لمذهبه وأصله فى وجوب مراعاة الصلاح والأصلح. وهذا معنى قول السلف: ناظروا القدرية بالعلم، فإن جحدوه كفروا، وإن أقروا به خُصموا. قالوا: وأما حدث العوض على الآلام فالرب سبحانه قادر على إيصال تلك المنافع بدون توسط الآلام، قالوا: وهذا بخلاف المستأْجر فإن له منفعة وحاجة فى توسط تعب الأَجير واستيفاءِ منفعته، فأما من تعالى عن الانتفاع بخلقه ولا يحتاج إلى أحد منهم البتة فلا يعقل فى حقه ذلك. قالوا: وأما وقوع الآلام على وجه العقوبات فذلك إنما يحسن فى الشاهد لحصول التشفى من الجناة وإطفاءِ نار الغيظ والغضب بالاتتقام منهم، وذلك لحاجة المعاقب إلى العقاب وانتفاعه به، وقياس الغائب على الشاهد فى ذلك ممتنع. قالوا: وأما الإيلام للاعتبار بأن يعتبر الغير بالألم الواقع بغيره فيكون ذلك أدعى له إلى الإذعان والانقياد، فلا ريب أن الصبى إذا شاهد المعلم يضرب غيره على لعبه وتفريطه كان ذلك مصلحة واعتباراً له، ولعله أن ينتفع بضرب ذلك الغير أكثر من انتفاع المضروب، أو حيب لا ينتفع المضروب، ولكن إنما يحسن ذلك إذا كان المضروب مستحقاً للضرب، فأَين استحقاق الأَطفال والبهائم؟ قالوا: وكذلك تمكينه تعالى عباده أن يؤلم بعضهم بعضاً ويضر بعضهم بعضاً- مع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 قدرته على منع المؤلم المضر- أى مصلحة لمن مكن من ذلك وأُقدر عليه، وهل كانت مصلحته إلا تعجيزه وأَن يحال بينه وبين القدرة على الأَداءِ وصون العباد؟ قالوا: فهذه الشريعة التى وضعتموها لرب العباد، وأوجبتم عليه ما أوجبتم، وحرمتم عليه ما حرمتم وجحدتم عليه فى تصرفه فى ملكه بغير ما أصلتم وفرعتم بعقولكم وآرائكم، تشبيهاً له وتمثيلاً بخلقه فيما يحسن منهم ويقبح، مع أنها شريعة باطلة ما أنزل الله بها من سلطان فإنكم لم تطردوها، بل أنتم متناقضون فيها غاية التناقض، خارجون فيها عما يوجبه كل عقل صحيح وفطرة سليمة، فلا للتشبيه والتمثيل طردتم، ولا بالتعويض قلتم، ولا على حقيقة الحكمة والحمد وقفتم، بل أَثبتم له نوع حكمة لا تقوم به ولا ترجع إليه بل هى قائمة بالخلق فقط، وقد حتم بها فى تمام ملكه، كما أثبت له إخوانكم من الجبرية قدرة مجردة عن حكمة وحمد وغاية يفعل لأجلها، بل جعلوا حمده وحكمته اقتران أفعاله بما اقترنت به من المصالح عادة ووقوعها مطابقة لمشيئته وعلمه فقط، فقدحوا بذلك فى تمام حمده. وقام حزب الله وحب رسوله وأنصار الحق بلا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير حق القيام وراعوا هذه الكلمة حق رعايتها علماً ومعرفة وبصيرة، ولم يلقوا الحرب بين حمده وملكه بل أثبتوا له الملك التام الذى لا يخرج عنه شيء من الموجودات أَعيانها وأفعالها، والحمد التام الذى وسع كل معلوم وشمل كل مقدور، وقالوا: إن له فى كل ما خلقه وشرعه حكمة بالغة ونعمة سابغة لأجلها خلق وأَمر، ويستحق أن يثنى عليه ويحمد لأجلها، كما يثنى عليه ويحمد لأَسمائه الحسنى ولصفاته العليا، فهو المحمود على ذلك كله أَتم حمد وأكمله، لما اشتملت عليه صفاته من الكمال وأَسماؤه من الحسن وأفعاله من الحكم والغايات والمقتضية لحمده المطابقة لحكمته الموافقة لمحابه، فإنه سبحانه كامل الذات كامل الأسماءِ والصفات لا يصدر عنه إلا كل فعل كريم مطابق للحكمة موجب للحمد يترتب عليه من محابه ما فعل لأجله، وهذا أمر ذهب عن طائفتى الجبرية والدهرية وحال بينهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 وبينه أُصول فاسدة أصلوها وقواعد باطلة أسسوها، من تعطيل بعض صفات كماله كم عطل الفريقان حقيقة محبته: عند الجبرية مشيئته وإرادته، ومحبة العباد له إرادتهم لما يخلقه من النعيم فى دار الثوب، فالمحبة عندهم إنما تعلقت بمخلوقاته لا بذاته. وحقيقة محبته وكراهته عند القدرية: أمره ونهيه، ومحبة العباد له محبتهم لثوابه المنفصل. وأصَّل الفريقان أنه لا تقوم بذاته حكمة ولا غاية يفعل لأَجلها ثم اختلفوا فقالت الجبرية: لا يفعل لغاية ولا لحكمة أصلاً. وتكايست القدرية بعض التكايس فقالت: فعل لغاية وحكمة لا ترجع إِليه ولا تقوم به ولا يعود إليه منها وصف. وأصَّل الفريقان أيضاً أنه لا يقوم بذاته فعل البتة، بل فعله عين مفعوله، فعطلوا أَفعاله القائمة به وجعلوها نفس المخلوقات المشاهدة التى لا تقوم به، فلم يقم به عندهم فعل البتة. كما عطل غلاة الجهمية صفاته فلم يثبتوا له صفة تقوم به وإن تناقضوا، وكما عطلت "السينائية" أَتباع ابن سينا ذاته فلم يثبتوا له ذاتاً زائدة على وجود مجرد لا يقارن ماهية ولا حقيقة، وأَصلت الجبرية أنه تعالى لا ينزه عن فعل مقدور يكون قبيحاً بالنسبة إليه، بل كل مقدور ممكن فهو جائز عليه، وإن علم عدم فعله فبالسمع وإلا فالعقل يقضى بجوازه عليه فلا ينزه عن ممكن مقدور إلا ما دل عليه بالسمع فيكون تنزيهه عنه لا لقبحه فى نفسه بل لأن وقوعه يتضمن الخلق فى خبره وخبر رسوله ووقع الأمر على خلاف علمه ومشيئته، فهذا حقيقة التنزيه عند القوم. وأَصلت القدَرية أن ما يحسن من عباده يحسن منه وما يقبح منهم يقبح منه، مع تناقضهم فى ذلك غاية التناقض. فاقتضت هذه الأُصول الفاسدة والقواعد الباطلة فروعاً ولوازم كثيرة، منها مخالف لصريح العقل ولسليم الفطرة كما هو مخالف لما أخبرت به الرسل عن الله، فجعل أرباب هذه القواعد والأُصول قواعدهم وأُصولهم محكمة، وما جاءَ به الرسول متشابهاً، ثم أَصلوا أصلاً فى رد هذا المتشابه إلِى المحكم وقالوا: الواجب فيما خالف هذه القواطع العقلية بزعمهم من الظواهر الشرعية أحد أَمرين: إما يخرجها على ما يعلم العقلاء أن المتكلم لم يرده بكلامه من المجازات البعيدة والألغاز المعقدة ووحشى اللغات والمعانى المهجورة التى لا يعرف أحد من العرب عبر عنها بهذه العبارة ولا تحتملها لغة القوم البتة، وإنما هى محامل أنشئوها هم ثم قالوا: نحمل اللفظ عليها، فأنشؤوا محامل من تلقاءِ أنفسهم وحكموا على الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 أو رسله بإرادتها بكلامه، فأنشؤا منكراً وقالوا زوراً. فإذا ضاق عليهم المجال وغلبتهم النصوص وبهرتهم شواهد الحقيقة من اطرادها وعدم فهم العقلاءِ سواها ومجيئها على طريقة واحدة وتنوع الأَلفاظ الدالة على الحقيقة واحتفافها بقرائن من السياق والتأكيد وغير ذلك مما يقطع كل سامع بأن المراد حقيقتها وما دلت عليه، قالوا: الواجب ردها وأن لا يشتغل بها، وإن أحسنوا العبارة والظن قالوا: الواجب تفويضها وإن نكل علمها إلى الله من غير أن يحصل لنا بها هدى أَو علم أو معرفة بالله وأسمائه وصفاته، أو ننتفع بها فى باب واحد من أبواب الإيمان بالله وما يوصف به وما ينزه عنه، بل نجرى ألفاظها على ألسنتنا ولا نعتقد حقيقتها لمخالفتها للقواطع العقلية، فسموا أُصولهم الفاسدة وشبههم الباطلة- التى هى كبيت العنكبوت، وكما قال فيها القائل شعراً: شبه تهافتُ كالزجاج تخالها ... حقا وكل كاسر مكسور قواطع عقلية، مع اختلافهم فيها وتناقضهم فيها ومناقضتها لصريح المعقول وصحيح المنقول، فسموا كلام الله ورسوله: "ظواهر سمعية" إزالة لحرمته من القلوب ومنعاً للتعلق به والتمسك بحقيقته فى باب الإيمان والمعرفة بالله وأسمائه وصفاته، فعبروا عن كلامهم بأنه "قواطع عقلية" فيظن الجاهل بحقيقته أنه إذا خالفه فقد خالف صريح المعقول، وخرج عن حد العقلاءِ، وخالف القاطع، وعبروا عن كلام الله ورسوله بأنه "ظواهر" فلا جناح على من صرفه عن ظاهره وكذب بحقيقته واعتقد بطلان الحقيقة بل هذا عندهم هو الواجب، وقد أَشهد اللهُ سبحانه عبادَه الذين أُوتوا العلم والإِيمان أَن الأَمر بعكس ما قالوه، وأَن كلامه وكلام رسوله هو الشفاءُ والعصمة والنور الهادى والعلم المطابق لعلومه، وأنه هو المشتمل على القواطع العقلية السمعية والبراهين اليقينية، وأَن كلام هؤلاءِ المتهوكين الحيارى المتضمن خلاف ما أَخبره به عن نفسه وأَخبر به عن رسوله هو الشبهات الفاسدة والخيالات الباطلة، وأَنه كالسراب الذى يحسبه الظمآن ماءً حتى إِذا جاءَه لم يجده شيئاً، ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب، وهؤلاء هم أَهل العلم حقاً الذين شهد الله سبحانه لهم به فقال [تعالى] : {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 الْحقَّ وَيَهْدِى إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [سبأ: 6] ، ومن سواه من الصم والبكم [الذى] قال الله فيهم: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا [كنا] فِى أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10] ، وقال تعالى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أنما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى، إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوا الأَلْبَابِ} [الرعد: 19] ، وكان ما شهدوه من ذلك بالعقل والفطرة لا بمجرد الخبر، بل جاء إخبار الرب [تعالى] وإخبار رسوله مطابقاً لما فى فطرهم السليمة وعقولهم المستقيمة فتضافر على إِيمانهم به الشريعة المنزلة والفطرة المكملة والعقل الصريح فكانوا هم العقلاء حقاً وعقولهم هى المعيار، فمن خالفها فقد خالف صريح المعقول والقواطع العقلية، ومن أراد معرفة هذا فليقرأ كتاب شيخنا وهو "بيان موافقة العقل الصريح للنقل الصحيح" فإنه كتاب لم يطرق العالم له نظير فى بابه، فإِنه هدم فيه قواعد أَهل الباطل من أُسها فخرت عليهم سقوفه من فوقهم، وشيد فيه قواعد أَهل السنة والحديث وأحكمها ورفع [أعلامها وقررها بمجامع الطرق التى تقرر بها الحق] من العقل والنقل والفطرة والاعتبار فجاءَ كتاباً لا يستغنى من نصح [نفسه من أهل العلم عنه فجزاه الله عز وجل عن أهل العلم والإيمان] أفضل الجزاء، وجزى العلم والإيمان عنه [كذلك] . عدنا إلى إتمام الكلام فى كيفية دخول الشر فى القضاء الإلهى، وبيان طرق الناس فى ذلك، واختلافهم فى إِيلام الأَطفال والبهائم. وقالت "البكرية" وهم أتباع بكر ابن أُخت عبد الواحد بن زيد البصرى: إِن البهائم والأَطفال لا تأْلم البتة، والذى حملهم على هذا موجب التعليل والحكمة، ولم يرتضوا ما قالت الجبرية من نفى ذلك ولا ما قالت المعتزلة من حديث الأَعواض وما فرّعوه عليه ولم يمكنهم القول بمذهب "التناسخية" القائلين بأن الأرواح الفاجرة الظالمة تودع فى الحيوانات التى تناسبها فينالها من أَلم الضرب والعذاب بحسبها، ولا بمذاهب "المجوس" من إسناد الشر والخير إلى إلهين مستقلين كل منهما يذهب بخلقه، ولا بقول من يقول: إن البهائم مكلفة مأْمورة منهية مثابة معاقبة، وأن فى كل أُمة منها رسول ونبى منها، وهذه الآلام والعقوبات الدنيوية جزاءٌ على مخالفتها لرسولها ونبيها، فلم يجدوا بداً من التزام ما ذهبوا إليه من إنكار وقوع الآلام بها ووصولها إليها. وقد رد عليهم الناس بأنهم كابروا الحس وجحدوا الضرورة، وأَن العلم بخلاف ما ذهبوا إليه ضرورى. وقال من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 أنصف القوم: لا سبيل إلى نسبة هؤلاءِ إِلى جحد الضرورة مع كثرتهم، ولكنهم ربما رأوا أن الطفل والبهيمة لا تدرك الآلام حسبما يدركها العقلاءُ، فإن العاقل إذا أدرك تأَلم جوارحه وأَحس به تأْلم قلبه وطال حزنه وكثر هم روحه وغمها واشتدت فكرته فى ذلك وفى الأسباب الجالبة له والأسباب الدافعة له، وهذه الآلام زائدة على مجرد أَلم الطبيعة، ولا ريب أن البهائم والأطفال لا تحصل لها تلك الآلام كما يحصل للعاقل المميز، فإن أَراد القوم هذا فهم مصيبون، وإن أرادوا أنه لا شعور لها بالآلام البتة وأنها لا تحس بها فمكابرة ظاهرة، فإن الواحد منا يعلم باضطرار أَنه كان يتألم فى طفولته بمس النار له وبالضرب وغير ذلك. وقالت طائفة: كل ما يتأَلم به الطفل والبهيمة ليس من قبل الله، ولا فعل الله فيه الأَلم لما ثبت من حكمته وهذا يشبه قولهم فى أَفعال الحيوان أَنها ليست من خلق الله ولا كانت بمشيئته، لكن هذا أَشد فساداً من ذلك، فإِن هذه الآلام حوادث لا تتعلق باختيار من قامت به ولا بإِرادته فلا بد لها من محدث، إِذ وجود حادث محال والله خالقها بأسبابها المفضية إِليها، فخالق السبب خالق للمسبب. فإن أراد هؤلاءِ نفى فعلها عن الله مباشرة من غير توسط بسبب أَصلاً فهذا قد يكون حقاً، وإِن أَرادوا أَنها غير منسوبة إِلى قدرته ومشيئته البتة فباطل. وذهبت طائفة إِلى أن فى كل نوع من أَنواع الحيوانات أَنبياءَ ورسلاً، وأَنها مستحقة للثواب والعقاب، وأَن ما ينزل بها من الآلام فجزاءٌ لها وعقوبات على معاصيها ومخالفتها واحتجوا بقوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِى الأَرْضِ وَلا طَائِر يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام: 38] ، وقال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمّهِ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24] . وقالت طائفة من التناسخية: إن الله خلق خلقه كلهم جملة واحدة بصفة واحدة ثم أَمرهم ونهاهم، فمن عصى منهم نسخ روحه فى جسد بهيمة تبتلى بالذبح والقتل كالدجاج والغنم والإِبل والبقر والبراغيث والقمل، فما سلط على هذه البهائم من الآلام فهو للأَرواح الآدمية التى أَودعت هذه الأَجساد فمن كان منهم زانياً أَو زانية كوفيء بأَن جعل فى بدن حيوان ما يمكنه الجماع كالبغال، ومن كان منهم عفيفاً عن الزنا مع ظلمه وغشمه كوفيء بأَن جعل فى بدن تيس أَو عصفور أَو ديك. ومن كان منهم جباراً عنيداً كوفيء بأَن جعل فى بدن قملة أَو قرادة ونحوهما، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 َ إِلى أَن يقتص منهم ثم يردون، فمن عصى منهم بعد ردّه كرر أَيضاً عليه ذلك التناسخ هكذا أبداً حتى يطيع طاعة لا معصية بعدها أَبداً فينتقل إلى الجنة من وقته. وقد ذهب إلى هذا المذهب من المنتسبين إلى الإِسلام رجل يقال له أَحمد بن حائط طرد أُصول القدرية وشريعتهم التى شرعوها لله فأَوجبوا بها عليه وحرموا. وذهب المجوس إِلى أَن هذه الآلام والشرور من الإِله الشرير المظلم فلا تضاف إِلى الإِله الخير العادل ولا تدخل تحت قدرته، ولهذا كان أَشبه أهل البدع بهم القدرية النفاة. وقالت الزنادقة والدهرية: كل ذلك من تصرف الطبيعة وفعلها، وليس لذلك فاعل مختار مدبر بمشيئته وقدرته، ولا بد فى النار من إِحراق ونفع وفى الماءِ من إِغراق ونفع، وليس وراءَ ذلك شيء، فهذه مذاهب أَهل الأَرضِ فى هذا المقام. ولما انتهى أَبو عيسى الوراق إِلى حيث انتهت إِليه أَرباب المقالات فطاش عقله ولم يتسع لحكمة إِيلام الحيوان وذبحه صنف كتاباً سماه النوح على البهائم، فأَقام عليها المآتم وناح، وباح بالزندقة الصراح. وممن كان على هذا المذهب أَعمى البصر والبصيرة كلب معرّة النعمان المكنى بأبى العلاءِ المعرى، فإِنه امتنع من أَكل الحيوان زعم لظلمه بالإِيلام والذبح، وأَما ابن خطيب الرى فإِنه سلك فى ذلك طريقة مركبة من طريقة المتكلمين وطريقة الفلاسفة المشائين وهذبها ونقحها واعترف فى آخرها بأَنه لا سبيل إِلى الخلاص من [المطالبات] التى أَوردها على نفسه إلا بالتزام أَنه تعالى موجب بالذات لا فاعل بالقصد والاختيار، فأَقر على نفسه بالعجز عن أَجوبة تلك المطالبات إِلا بإِنكار قدرة الله ومشيئته وفعله الاختيارى، وذلك جحد لربوبيته، فزعم أَنه لا يمكنه تقرير حكمته إلا بجحد ربوبيته، ونحن نذكر كلامه بأَلفاظه. وقال فى "مباحثه المشرقية": الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 الفصل السادس: فى كيفية دخول الشر فى القضاءِ الإِلهى، وقبل الخوض فيه لا بد من تقديم مقدمتين: المقدمة الأُولى- الأُمور التى يقال لها: إِنها شر إِما أن تكون أموراً عدمية، أو أُموراً وجودية. فإِن كانت أموراً عدمية فهى على أقسام ثلاثة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 لأنها إما أن تكون عدماً لأمور ضرورية للشيء فى وجوده مثل عدم الحياة، وإما أن تكون عدماً لأُمور نافعة قريبة من الضرورة كالعمى أو أن تكون كذلك كعدم العلم بالفلسفة والهندسة. وأما الأمور الوجودية التى يقال لها شرور فهى كالحرارة المفرقة لاتصال العضو. واعلم أن الشر بالذات هو عدم ضروريات الشيء وعدم منافعه، مثل عدم الحياة وعدم البصر، فإِن الموت والعمى لا حقيقة لهما إِلا أَنهما عدم الحياة وعدم البصر، وهما من حيث هما كذلك شر، [فإذا] ليس لهما اعتبار آخر بحسبه يكونان شرين. وأما عدم الفضائل المستغنى عنها- مثل عدم العلم بالفلسفة- فظاهر أَن ذلك ليس بشر، وأما الأُمور الوجودية فإِنها ليست شروراً بالذات بل بالعرض، من حيث أنها تتضمن عدم أمور ضرورية أو نافعة، ويدل عليه أنَّا لا نجد شيئاً من الأفعال التى يقال لها شر إِلا وهو كمال بالنسبة إلى الفاعل، وأما شريته فبالقياس إلى شيء آخر، فالظلم مثلاً يصدر عن قوة ظلامة للغلبة وهى القوة الغضبية والغلبة هى كمالها وفائدة خلقتها، فهذا الفعل بالقياس إليها خير، لأنها إن ضعفت عنه فهو بالقياس إليها شر وإنما كان شراً للمظلوم لفوات المال وغيره عنه، والنفس الناطقة كمالها الاستيلاءُ على هذه القوة فعند قهر الغضبية يفوت النفس ذلك الاستيلاءُ ولا جرم كان شراً لها. وكذلك النار إذا أحرقت فإن الإحراق [كمالها] ولكنها شر بالنسبة إلى من زالت [سلامته] بسببها. وكذلك القتل وهو استعمال الآلة القطاعة فى قطع رقبة إنسان، فإن كون الإنسان قوياً على استعمال الآلة ليس شراً له بل خيراً، وكذلك كون الآلة قطاعة هو خير لها، وكذلك كون الرقبة قابلة للانقطاع كل ذلك خيرات، ولكن القتل شر من حيث أنه متضمن لزوال الحياة، فثبت بما ذكرنا أَن الأُمور الوجودية ليست شرور بالذات بل بالعرض. والله أعلم. المقدمة الثانية: أن الأشياء إما أن تكون مادية، أو لا تكون، فإن لم تكن مادية لم يكن فيها ما بالقوة فلا يكون فيها شر أصلاً، وإن كانت مادية كانت فى معرض الشر، وعروض الشر لها [إما أن يكون فى ابتداء تكونها أو بعد تكونها] أما الأول فهو أن تكون المادة التى [يتكون] إنساناً أو فرساً يعرض لها من الأسباب ما يجعلها رديئة المزاج رديئة الشكل والخلقة، فرداءة مزاج ذلك الشخص ورداءة خلقه ليس لأن الفاعل حرم بل لأن المنفعل له لم يقبل، وأما الثانى وهو أن يعرض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 الشر للشيء وطروءُ طاريء عليه بعد تكونه فذلك الطاريء إِما شيء يمنع المكمل من الإكمال مثل تراكم السحب وإظلال الجبال الشاهقات إِذ صار مانعاً من تأْثير الشمس فى [النبات] ، وإما شيء يفسد مثل البرد الذى يصل إلى النبات بسبب ذلك استعداده للنشوءِ والنمو. وإذا عرفت ذلك فنقول: قد بينا أَن الشرّ بالحقيقة إِما عدم ضروريات الشيء، وإِما عدم منافعه. [فنقول] : [الموجود] إِما أن يكون خيراً من كل الوجوه، وشراً من كل الوجوه أَو خيراً من وجه وشراً من وجه. وهذا على تقدير أقسام: فإِنه إِما أَن يكون خيره غالباً على شره، أو يكون شره غالباً على خيره، أَو متساوياً خيره وشره، فهذه أقسام خمسة. أما الذى يكون خيراً من كل الوجوه وهو موجود-[أما] الذى يكون كذلك لذاته- فهو الله تبارك وتعالى، وأما الذى يكون [خيره] لغيره فهو العقول والأَفلاك، لأن هذه الأمور ما فاتها شيء من ضروريات ذاتها ولا من [كمالاتها] أما الذى كله شر أو الغالب فيه أَو [المتساوي] فهو غير موجود لأن كلامنا فى الشيء بمعنى عدم الضروريات والمنافع، لا بمعنى عدم الكمال الزائد، [وإذا عنينا بالشر] ذلك فلا شك أن ذلك مغلوب والخير غالب لأَن الأَمراض وإن كثرت إِلا أَن الصحة أَكثر منها، فالحرق والغرق والخسف، وإن كانت قد تكثر إِلا أن السلامة أكثر منها. فأما الذى يكون خيره غالباً على شره فالأولى فيه أن يكون موجوداً لوجهين: الأَول أَنه إِن لم يوجد فلا بد وأَن يفوت الخير الغالب، وفوت الخير الغالب شر غالب، فإِذا فى عدمه يكون الشر أغلب من الخير، وفى وجوده يكون الخير أَغلب من الشر، ويكون وجود هذا القسم أولى، مثاله النار: فى وجودها منافع [كثيرة وأيضاً مفاسد كثيرة مثل إحراق الحيوانات، ولكننا إذا قابلنا منافعها] بمفاسدها كانت مصالحها أكثر بكثير من مفاسدها، ولو لم توجد لفاتت تلك المصالح، وكانت مفاسد عدمها أَكثر من مصالحها فلا جرم وجب إيجادها وخلقها. الثانى- وهو الذى يكون خيره ممزوجاً بالشر- ليس إلا الأُمور التى تحت كرة القمر فلا شك، أَنها معلولات العلل العالية، فلو لم يوجد هذا القسم لكان يلزم من عدمها عدم عللها الموجبة لها، وهى خيرات محضة، فيلزم من عدمها عدم الخيرات المحضة وذلك شر محض، فإِذاً لا بد من وجود هذا القسم. فإِن قيل: فلم لم يخلق الخالق هذه الأشياء عرية عن كل الشرور؟ فنقول: لأَنه لو جعلها كذلك لكان هذا هو القسم الأول، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 وذلك مما قد فرغ منه. وبقى فى العقل قسم آخر وهو: الذى يكون خيره غالباً على شره، وقد بينا أن الأولى بهذا القسم أن يكون موجوداً. قال: وهذا الجواب لا يعجبنى لأَن لقائل أَن يقول: إِنّ جميع هذه الخيرات والشرور إِنما توجد باختيار الله وإرادته، مثلاً الاحتراق الحاصل عقيب النار ليس موجباً من النار، بل الله تعالى اختار خلقه عقيب مماسة النار، وإِذا كان حصول الاحتراق عقيب مماسة النار باختيار الله وإِرادته فكان يمكنه أَن يختار خلق الإِحراق عندما يكون خيراً ولا يختار خلقه عندما يكون شراً، ولا خلاص عن هذه المطالبة إِلا ببيان كونه سبحانه فاعلاً بالذات لا بالقصد والاختيار، ويرجع حاصل الكلام فى هذه المسألة إلى مسأَلة القدم والحدوث. قلت: لمّا لم يكن عند الرازى إِلا مذهب الفلاسفة المشائين، والقائلين [بالموجب بالذات أو مذهب القدرية بالمعتزلة القائلين] بوجوب رعاية الصلاح أَو الإصلاح، أَو مذهب الجبرية نفاة الأَسباب والعلل والحكم، وكان الحق عنده متردداً بين هذه المذاهب الثلاثة، فتارة يرجح مذهب المتكلمين، وتارة مذهب المشائين، وتارة يلقى الحرب بين الطائفتين ويقف فى النظارة، وتارة يتردد بين الطائفتين، وانتهى إِلى هذا المضيق ورأَى أَنه لا خلاص له منه إلا بالتزام طريق الجبرية- وهى غير مرضية عنده، وإِن كان فى كتبه الكلامية يعتمد عليها ويرجع فى مباحثه إليها- أو طريق المعتزلة القائلين برعاية الصلاح وهى متناقضة غير مطردة، لم يجد بداً من تحيزه إِلى أَعداء الملة القائلين بأَن الله تعالى لا قدرة له ولا مشيئة ولا اختيار ولا فعل يقوم به. ومعلوم أن هذه المذاهب بأسرها باطلة ومتناقضة وإن كان بعضها أبطل من بعض، وإنما ألجأَه إِلى التزام القول بإِنكار الفاعل المختار فى هذا المقام تسليمه لهم الأُصول الفاسدة والقواعد الباطلة التى قادت إِلى التزام بعض أَنواع الباطل ولو أَعطى الدليل حقه، وضم ما مع كل طائفة من الحق إِلى حق الطائفة الأُخرى، وتحيز إِلى ما جاءت به الرسل على علم وبصيرة، وهو تقرير لما [جاءوا] به بجميع طرق الحق، لتخلص من تلك المطالبات مع إقراره بأَن رب العالمين فعال لما يريد يفعل بمشيئته وقدرته وحكمته، وأَن له المشيئة النافذة [والحكمة البالغة وأن تقدير تجريد النار عما خلقت] عليه من الإِحراق، والماءِ عما خلق عليه، والرياح والنفوس البشرية عما هيئت له وخلقت عليه، مناف للحكمة المطلوبة المحبوبة للرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 الله سبحانه، وأَن هذا تقرير لعالم آخر وتعطيل الأسباب التى نصبها الله سبحانه مقتضيات لمسبباتها، وأَن تلك الأَسباب مظهر حكمته وحمده وموضع تصرفه لخلقه وأمره، فتقدير تعطيلها تعطيل للخلق والأمر، وهو أَشد منافاة للحكمة وإبطالاً لها، واقتضاءُ هذه الأسباب لمسبابتها كاقتضاء الغايات لأسبابها، فتعطيلها [عنها] قدح فى الحكمة وتفويت لمصلحة العالم التى عليها نظامه وبها قوامه. ولكن الرب سبحانه قد يخرق العادة ويعطلها عن مقتضياتها أحياناً إِذا كان فيه مصلحة راجحة على مفسدة فوات تلك المسببات، كما عطل النار التى أُلقى فيها إِبراهيم وجعلها عليه برداً وسلاماً عن الإِحراق لما فى ذلك من المصالح العظيمة، وكذلك تعطيل الماءِ عن إِغراق موسى وقومه وعما خلق عليه من الإِسالة والتقاء أَجزائه بعضها ببعض هو لما فيه من المصالح العظيمة والآيات الباهرة والحكمة التامة التى ظهرت فى الوجود وترتب عليها من مصالح الدنيا والآخرة ما ترتب، فهكذا سبحانه سائر أفعاله، مع أنه أشهد عباده بذلك أنه مسبب الأسباب وأن الأسباب خلقه وملكه وأنه يملك تعطيلها عن مقتضياتها وآثارها، وأن [جعلها] كذلك لم يكن من ذاتها وأنفسها، بل هو الذى جعلها كذلك وأودع فيها من القوى والطبائع ما اقتضت به آثارها، أنه إِن شاء أن يسلبها إياها سلبها لا كما يقول أعداؤه من الفلاسفة والطبائعيين وزنادقة الأطباءِ أنه ليس فى الإِمكان تجريد هذه الأسباب عن آثارها وموجباتها ويقولون: لا تعطيل فى الطبيعة، وليست الطبيعة عندهم مربوبة مقهورة تحت قهر قاهر وتسخير مسخر يصرفها كيف يشاء، بل هى المتصرفة المدبرة، ولا كما يقول من نقص علمه ومعرفته بأسرار مخلوقاته وما أودعها من القوى والطبائع والغرائز وبالأسباب التى ربط بها خلقه وأَمره وثوابه وعقابه، فجحد ذلك كله ورد الأمر إلى مشيئة محضة مجردة عن الحكمة والغاية وعن ارتباط العالم بعضه ببعض ارتباط الأسباب بمسبباتها والقوى بمحالها. ثم المحذور اللازم من إِنكار الفاعل المختار الفعال لما يريد بقدرته ومشيئته فوق كل محذور، فإِن القائل بذلك يجعل هذه الشرور بأسرها لازمة له لزوم الطفل لحامله والحرارة للنار ولا يمكنه دفعها ولا تخليص الحرارة منها، فهم فروا من إضافة الشر إلى خلقه [ومشيئته واختياره ثم ألزموه إياه وأضافوه إليه إضافة لا يمكن إزالتها مع تعطيل قدرته ومشيئته وخلقه] وعلمه بتفاصيل أحوال عباده، وفى ذلك تعطيل ربوبيته للعاملين، ففروا من محذور بالتزام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 عدة محاذير، واستجاروا من الرمضاءِ بالنار. وهذا كما نزهه الجهمية عن استوائه على عرشه وعلوّه على مخلوقاته، فإنه فرار من التحيز والجهة، ثم جعلوه سبحانه فى كل مكان مخالطاً للقاذورات والأماكن المكروهات وكل مكان يأْنف العاقل من مجاورته، ففروا من تخصيصه بالعلوّ فعمموا به كل مكان. ولما علمت الفرعونية بطلان هذا المذهب فروا إلى شر منه فأخلوا داخل العالم وخارجه منه البتة وقالوا: ليس فوق العرش رب يعبد، ولا إِله يُصَلَى له ويسجد، ولا ترفع إليه الأَيدى، ولا يصعد إليه الكلم الطيب والعمل الصالح، ولا عرج بمحمد صلى الله عليه وسلم إليه بل عرج به إلى عدم صرف، ولا فرق بالنسبة إِليه بين العرش وبين أَسفل السافلين، ومن المعلوم أَنه ليس موجوداً فى أَسفل سافلين، فإذا لم يكن موجوداً فوق العرش فهذا إعدام له البتة وتعطيل لوجوده. فلما [رأت] الحلولية وإِخوانهم من الاتحادية أشباه النصارى ما فى ذلك من الإِحالة قالوا: بل هو هذا الوجود السارى فى الموجودات [الظاهر] فيها على اختلاف صورها وأنواعها بحسنها فهو فى الماء ماءٌ، وفى الخمر خمر، وفى النار نار، وهو حقيقة كل شيء وماهيته، فنزهوه عن استوائه على عرشه وجعلوه وجود كل موجود خسيس أو شريف، صغير أَو كبير طيب أَو غيره، تعالى الله عما يقول أعداؤه علواً كبيراً، وكذلك القائلون بقدم العالم نزهوه عن قيام الإرادات والأَفعال المتجددة به، ثم جعلوا جميع الحوادث لازمة له لا ينفك عنها، ونزهوه عن إرادته [لخلق العالم وأن يكون صدوره عن مشيئته وإرادته] وجعلوه لازماً لذاته كالمضطر إلى صدوره عنه. وكذلك المعتزلة الجهمية نزهوه عن صفات كماله لئلا يقعوا فى تشبيه، ثم شبهوه بخلقه فى أَفعاله، وحكموا عليه بحسن ما يحسن منهم وقبح ما يقبح منهم، مع تشبيه فى سلب صفات كماله بالجمادات والناقصات، وأن من فر من إثبات السمع والبصر والكلام والحياة له- لئلا يشبّهه- فقد شبهه بالأَحجار التى لا تسمع ولا تبصر ولا تتكلم. ومن عطله عن صفة الكلام لما يلزم من تشبيه بزعمه فقد شبهه بأصحاب الخرس، والآفات الممتنع منهم الكلام، ومن نزهه عن نزوله كل ليلة إلى سماءِ الدنيا، ودنوه عشية عرفة من أَهل الموقف، ومجيئه يوم [القيامة] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 للقضاء بين عباده فراراً من تشبيهه بالأجسام فقد شبهه بالجماد الذى لا يتصرف ولا يفعل ولا يجيء ولا يأْتى ولا ينزل، ومن نزهه عن أن يفعل لغرض أو حكمة أو لداع إلى الفعل حذراً من تشبيهه بالفاعلين لذلك فقد شبهه بأهل السفه والعبث [الذين] لا يقصدون بأفعالهم غاية محمودة ولا غرضاً مطلوباً محبوباً، ومن نزهه عن خلق أفعال عباده وتصرفه فيهم بالهداية والإضلال وتخصيص من شاءَ منهم بفضله أو منعه لمن شاء حذراً من الظلم بزعمه فقد وصفه بأقبح الظلم والجور حيث يخلد فى [أطباق] النيران من استنفد عمره كله فى طاعته إذا فعل قبل الموت كبيرة واحدة فإنها تحبط جميع تلك الطاعات وتجعلها هباءً منثوراً، ويخلد فى جهنم مع الكفار ما لم يتب منها، إلى غير ذلك من أصولهم الفاسدة: {فَهَدى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لَمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ، وَاللهُ يَهْدِى مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: 213] . "قاعدة": كمال العبد وصلاحه يتخلف عنه من إحدى جهتين: إما أَن تكون طبيعته يابسة قاسية غير لينة منقادة ولا قابلة لما به كمالها وفلاحها، وإما أن تكون لينة منقادة سلسة القياد، لكنها غير ثابتة على ذلك، بل سريعة الانتقال عنه كثيرة التقلب، فمتى رزق العبد انقياداً للحق وثباتاً عليه فليبشر، فقد بشر بكل خير وذلك فضل الله يؤتيه من يشاءُ. "قاعدة": إذا ابتلى الله عبده بشيء من أَنواع البلايا والمحن فإن رده ذلك الابتلاء والمحن إلى ربه وجمعه عليه وطرحه ببابه فهو علامة سعادته وإرادة الخير به. والشدة بتراء لا دوام لها وإن طالت، فتقلع عنه حين تقلع وقد عوض منها أجلّ عوض وأفضله، وهو رجوعه إلى الله بعد أن كان شارداً عنه، وإقباله عليه بعد أن كان نائباً عنه وانطراحه على بابه بعد أن كان معرضاً، وللوقوف على أبواب غيره متعرضاً. وكانت البلية فى حق هذا عين النعمة، وإن ساءَته وكرهها طبعه ونفرت منها نفسه فربما كان مكروه النفوس إِلى محبوبها سبباً ما مثله سبب وقوله تعالى فى ذلك هو الشفاءُ والعصمة: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيئاً وَهُوَ شَر لَكُمْ، وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216] ، وإِن لم يرده ذلك البلاءُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 إليه بل شرد قلبه عنه ورده إلى الخلق وأنساه ذكر ربه والضراعة إليه والتذلل بين يديه والتوبة والرجوع إليه فهو علامة شقاوته وإرادة الشر به، فهذا إذا أقلع عنه البلاء رده إلى حكم طبيعته وسلطان شهوته ومرحه وفرحه، فجاءت طبيعته القدرة بأنواع الأشر والبطر والإعراض عن شكر المنعم عليه بالسراء كما أعرض عن ذكره والتضرع إليه فى الضراء فبلية هذا وبال عليه وعقوبة ونقص فى حقه، وبلية الأول تطهير له ورحمة وتكميل. وبالله التوفيق. "قاعدة": فى مشاهد الناس فى المعاصى والذنوب الناس فى البلوى التى تجرى عليهم أحكامها بإرادتهم وشهواتهم متفاوتون- بحسب شهودهم لأَسبابها وغايتها- أَعظم تفاوت. وجماع ذلك ثمانية مشاهد: أحدها: شهود السبب الموصل إليها، والغاية المطلوبة منها فقط. وهو شهود الحيوانات، إِذ لا تشهد إلا طريق وطرها، وبرد النفس بعد تناولها. وهذا الضرب من الناس ليس بينه وبين الحيوان البهيم فى ذلك فرق إلا بدقيق الحيلة فى الوصول إِليها، وربما زاد غيره من الحيوانات عليه مع تناولها ولذاتها. المشهد الثانى: من يشهد مع ذلك مجرد [الحكم] القدرى وجريانه عليه، ولا يجوز شهوده ذلك. وربما رأى أن الحقيقة هو توفية هذا المشهد حقه، ولا يتم له ذلك إلا بالفناءِ عن شهود فعله هو جملة، فيشهد الفاعل فيه غيره والمحرك سواه، فلا ينسب إلى نفسه فعلاً ولا يرى لها إساءَة، ويزعم أن هذا هو التحقيق والتوحيد وربما زاد على ذلك أَنه يشهد نفسه مطيعاً من وجه وإِن كان عاصياً من وجه آخر فيقول: أَنا مطيع للإِرادة والمشيئة وإِن كنت عاصياً للأمر، فإِن كان ممن يرى الأَمر تلبيساً وضبطاً للرعاع عن الخبط والحرمان مع حكم الطبيعة الحيوانية فقد رأى نفسه مطيعاً لا عاصياً، كما قال قائلهم فى هذا المعنى: أصبحت منفعلاً لما يختاره ... منى ففعلى كله طاعات وأصحاب المشهد الأول أقرب إلى السلامة من هؤلاءِ وخير منهم. وهذا المشهد بعينه هو المشهد الذى يشهده المشركون عبّاد الأصنام ووقفوا عنده كما قالوا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 {لَوْ شَاءَ الرحمن مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف: 20] ، وقالوا: {لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا ولا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 148] ، {وإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقُكُم اللهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ} [يس: 47] ، فهذا مشهد من أشرك بالله ورد أَمره، وهو مشهد إبليس الذى انتهى إليه إذ يقول لربه: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِى لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِى الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 39] ، والله أعلم. المشهد الثالث: مشهد الفعل الكسبى القائم بالعبد فقط ولا يشهد إلا صدوره عنه وقيامه به، ولا يشهد مع ذلك مشيئة الرب له، ولا جريان حكمه القدرى به، ولا عزة الرب فى قضائه ونفوذ أَمره، بل قد فنى بشهود معصيته بذنبه وقبح ما اجترمه عن شهود المشيئة النافذة والقدر السابق: إِما لعدم اتساع قلبه لشهود الأمرين- فقد امتلأ من شهود ذنبه وجرمه وفعله- مع أنه مؤمن بقضاء الرب وقدره، وأن العبد أقل قدراً من أن يحدث فى نفسه ما لم يسبق به مشيئة بارئه وخالقه، وإما لإنكاره القضاءَ والقدر جملة وتنزيهه للرب [تعالى] أن يقدر على العبد شيئاً ثم يلومه عليه، فأما الأول وإن كان مشهده صحيحاً موجباً له أن لا يزال لائماً لنفسه مزرياً عليها ناسباً للذنب والعيب إليها معترفاً بأنه يستحق العقوبة والنكال، وأن الله سبحانه إن عاقبه فهو العادل فيه وأنه هو الظالم لنفسه، وهذا كله حق لا ريب فيه، لكن صاحبه ضعيف مغلوب مع نفسه غير معان عليها، بل هو معها كالمقهور المخذول، فإِنه لم يشهد عزة الرب [تعالي] فى قضائه ونفوذ أمره الكونى ومشيئته وأنه لو شاء لعصمه وحفظه، وأنه لا معصوم إلا من عصمه ولا محفوظ إلا من حفظه، وأنه هو محل لجريان أقضيته وأقداره، مسوق إليها فى سلسلة إرادته وشهوته. وأن تلك السلسلة طرفها بيد غيره فهو القادر على سوقه فيها إلى ما فيه صلاحه وفلاحه وإلى ما فيه هلاكه وشقاؤه، فهو لغيبته عن هذا المشهد وغلبة شهود المعصية والكسب على قلبه لا يعطى التوحيد حقه ولا الاستعاذة بربه والاستغاثة به والالتجاء إليه والافتقار والتضرع والابتهال حقه، بحيث يشهد سر قوله صلى الله عليه وسلم: "وأعوذ برضاك من سخطك وأعوذ [بعفوك] من عقوبتك، وأعوذ بك منك ". فإنه سبحانه رب كل شيء وخالق كل شيء، والمستعاذ منه واقع بخلقه ومشيئته، ولو شاءَ لم يكن، فالفرار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 منه إليه والاستعاذة منه به ولا ملجأ منه إلا إليه ولا مهرب منه إلا إليه لا إله إلا هو العزيز الحكيم. منكر القضاء والقدر- فمخذول محجوب عن شهود التوحيد مصدود عن شهود الحكمة الإلهية، موكول إلى نفسه [فهو] ممنوع عن شهود عزة الرب فى قضائه وكمال مشيئته ونفوذ حكمه وعن شهود عجزه هو وفقره وأنه لا توفيق له إلا بالله، وأنه إن لم يعنه الله فهو مخذول وإن لم يوفقه ويخلق له عزيمة الرشد وفعله فهو عنه ممنوع، فحجابه عن الله غليظ، فإنه لا حجاب أغلظ من الدعوى، ولا طريق إلى الله أقرب من دوام الافتقار إليه. المشهد الرابع: مشهد التوحيد والأمر، فيشهد انفراد الرب بالخلق، ونفوذ مشيئته وتعلق الموجودات بأسرها به وجريان حكمه على الخليقة وانتهاءها إلى ما سبق لها فى علمه وجرى به قلمه، ويشهد ذلك أمره ونهيه وثوابه وعقابه، وارتباط الجزاءِ بالأعمال واقتضاءها له ارتباط المسببات بأسبابها التى جعلت أسباباً مقتضية لها شرعاً وقدراً وحكمة، فشهوده توحيد الرب [تعالى] وانفراده بالخلق ونفوذ مشيئته وجريان قضائه وقدره يفتح له باب الاستعاذة ودوام الالتجاء إليه والافتقار إليه، وذلك يدنيه من عتبة العبودية ويطرحه بالباب فقيراً عاجزاً مسكيناً لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً وشهوده أمره تعالى ونهيه وثوابه وعقابه يوجب له الحمد والتشمير وبذل الوسع والقيام بالأمر والرجوع على نفسه باللوم والاعتراف بالتقصير، فيكون سيره بين شهود العزة والحكمة والقدرة الكاملة والعلم السابق والمنة العظيمة، وبين شهود التقصير والإساءة منه وتطلب عيوب نفسه وأعمالها. فهذا هو العبد الموفق المعان الملطوف به المصنوع له الذى أُقيم مقام العبودية وضمن له التوفيق، وهذا هو مشهد الرسل صلوات الله وسلامه عليهم فهو مشهد أَبيهم آدم إِذ يقول: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَّمْ تَغْفِرْ لنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23] ، ومشهد أول الرسل نوح إذ يقول: {رَبِّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْس لِى بِهِ عِلْمٌ، وإِلا تَغْفِرْ لِى وَتَرْحَمْنِى أكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود: 47] ومشهد إمام الحنفاء وشيخ الأنبياء إبراهيم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين إذ يقول: {الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِى هُوَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِى يُمِيتُنِى ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِى أَطْمَعُ أَنْ يَغْفرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء: 78- 82] ، وقال فى دعائه: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِى وَبَنِى أَن نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35] . فعلم صلى الله عليه وسلم أن الذى يحول بين العبد وبين الشرك وعبادة الأصنام هو الله لا رب غيره، فسأله أن يجنبه وبنيه عبادة الأصنام. وهذا هو مشهد موسى إذ يقول فى خطابه لربه: {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِى إِلا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِى مَنْ تَشَاءُ، أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ} [الأعراف: 155] ، أى إِنْ ذلك إلا امتحانك واختبارك، كما يقال فتنت الذهب إذا امتحنته واختبرته، وليس من الفتنة التى هى الفعل المسيء كما فى قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [البروج: 10] وكما فى قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193] فإن تلك فتنة المخلوق، فإن موسى أعلم بالله [تعالى] بأن يضيف إليه هذه الفتنة وإنما هى كالفتنة فى قوله: {وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً} [طه: 40] ، أى ابتليناك واختبرناك وصرفناك فى الأحوال التى قصها الله [سبحانه] علينا من لدن ولادته إِلَى وقت خطابه له وإنزاله عليه كتابه. والمقصود أن موسى شهد توحيد الرب وانفراده بالخلق والحكم وفعل السفهاء ومباشرتهم الشرك، فتضرع إليه بعزته وسلطانه وأَضاف الذنب إلى فاعله [وجانيه] ، ومن هذا قوله: {رَبِّ إِنِّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فَاغْفِرْ لِى} [القصص:16] ، قال تعالى: {فَغَفَرَ لَهُ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وهذا مشهد ذى النون إذ يقول: {لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّى كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِين} [الأنبياء: 87] ، فوحد ربه ونزهه عن كل عيب وأضاف الظلم إلى نفسه وهذا مشهد صاحب سيد الاستغفار إذ يقول فى دعائه: "اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّى لا إِلهَ إلا أَنْتَ، خَلَقْتَنِى وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِك وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَى، وَأَبُوءُ بِذَنْبِى، فَاغْفِرْ لِى، إِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا أَنْتَ". فأقر بتوحيد الربوبية المتضمن لانفراده سبحانه بالخلق وعموم المشيئة ونفوذها، وتوحيد الإلهية المتضمن لمحبته وعبادته وحده لا شريك له والاعتراف بالعبودية المتضمن للافتقار من جميع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 الوجوه إليه سبحانه، ثم قال: "وأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ"، فتضمن ذلك التزام شرعه وأَمره ودينه، وهو عهده الذى عهد إلى عباده، وتصديق وعده وهو جزاؤه وثوابه فتضمن التزام الأمر والتصديق بالموعود وهو الإيمان والاحتساب، ثم لما علم أن العبد لا يوفى هذا المقام حقه الذى يصلح له تعالى علق ذلك باستطاعته وقدرته التى لا يتعداها فقال: "ما استطعت" أى أَلتزم ذلك بحسب استطاعتى وقدرتى. ثم شهد المشهدين المذكورين- وهما مشهد القدرة والقوة، ومشهد التقصير من نفسه- فقال:- "أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ"، فهذه الكلمة تضمنت المشهدين معاً، ثم أضاف النعم كلها إلى وليها وأهلها والمبتديء بها، والذنب إلى نفسه وعمله، فقال: "أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَى، وَأَبُوءُ بِذَنْبِى"، فأَنْتَ المحمود والمشكور الذى له الثناء كله والإحسان كله ومنه النعم كلها. فلك الحمد كله ولك الثناءُ كله ولك الفضل كله، وأنا المذنب المسيء المعترف بذنبه المقر بخطئه كما قال بعض العارفين: العارف يسير بين مشاهدة المنة من الله، ومطالعة عيب النفس والعمل. فشهود المنة يوجب له المحبة لربه سبحانه وحمده والثناءَ عليه ومطالعة عيب النفس والعمل يوجب استغفاره ودوام توبته وتضرعه واستكانته لربه سبحانه، ثم لما قام هذا بقلب الداعى وتوسل إليه بهذه الوسائل قال: "فَاغْفِرْ لِى فإِنه لا يغفر الذنوب إِلا أَنت". ثم أصحاب هذا المشهد فيه قسمان: أحدهما من يشهد تسليط عدوه عليه وفساده إياه وسلسلة الهوى وكبحه إياه بلجام الشهوة، فهو أَسير معه بحيث يسوقه إلى ضرب عنقه وهو مع ذلك ملتفت إلى ربه وناصره ووليه، عالم بأن نجاته فى يديه وناصيته بين يديه وأَنه لو شاءَ طرده عنه وخلَّصه من يديه، فكلما قاده عدوه وكبحه بلجامه أكثر الالتفات إلى وليه وناصره والتضرع إليه والتذلل بين يديه، وكلما أراد اغترابه وبعده عن بابه تذكر عطفه وبره وإحسانه وجوده وكرمه وغناه وقدرته ورأْفته ورحمته فانجذبت دواعى قلبه هاربة إليه بتراميه على بابه منطرحة على فنائه، كعبد قد شدت يداه إلى عنقه وقدم لتضرب عنقه وقد استسلم للقتل، فنظر إلى سيده أمامه وتذكر عطفه ورأْفته به ووجد فرجة فوثب إليه منها وثبة طرح نفسه بين يديه ومد له عنقه وقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 أنا عبدك ومسكينك، وهذه ناصيتى بين يديك، ولا خلاص لى من هذا العدو إلا بك وإنى مغلوب فانتصر. فهذا مشهد عظيم المنفعة جليل الفائدة تحته من أسرار العبودية ما لا يناله الوصف، وفوقه مشهد أجلَّ منه وأعظم وأخص تجفو عنه العبارة، وإن الإشارة إليه بعض الإشارة، وتقريبه إلى الفهم بضرب مثل تعبر منه إليه وذلك مثل عبد أخذه سيده بيده وقدمه ليضرب عنقه بيده، فهو قد أحكم ربطه وشد عينيه وقد أَيقن العبد أنه فى قبضته وأنه هو قاتله لا غيره، وقد علم مع ذلك بره به ولطفه ورحمته ورأفته وجوده وكرمه، فهو يناشده بأوصافه ويدخل عليه به، قد ذهب عن وهمه وشهوده كل نسب، فانقطع تعلقه بشيء سواه، فهو معرض عن عدوه الذى كان سبب غضب سيده عليه، قد محا شهوده من قلبه، فهو مقصور النظر إلى سيده وكونه فى قبضته ناظر إلى ما يصنعه، منتظر منه ما يقتضيه عطفه وبره وكرمه. ومثل الأول مثل عبد أمسكه عدوه وهو يخنقه للموت وذلك العبد يشهد دنوَّ عدوه له، ويستغيث بسيده وسيده يغيثه ويرحمه، ولكن ما يحصل للثانى فى مشهده ذلك من الأمور العجيبة فوق ما يحصل للأول، وهو بمنزلة من قد أخذه محبوبه فهو يخنقه خنقة وهو لا يشهد إلا خنقه له، فهو يقول: اخنق خنقك، فأنت تعلم أن قلبى يحبك. وفى هذا المثل إشارة وكفاية، ومن غلظ حجابه وكتفت طباعه لا ينفعه التصريح فضلاً عن ضرب الأمثال. والله المستعان وعليه التكلان، ولا قوة إلا بالله. فهذه ستة مشاهد. المشهد السابع: مشهد الحكمة، وهو أن يشهد حكمة الله فى تخليته بينه وبين الذنب وإقداره عليه وتهيئتة أسبابه له، وأنه لو شاء لعصمه وحال بينه وبينه، ولكنه خلى بينه وبينه لحكم عظيمة لا يعلم مجموعها إلا الله: أحدها: أنه يحب التَّوابين ويفرح بتوبتهم، فلمحبته للتوبة وفرحه بها قضى على عبده بالذنب، ثم إذا كان ممن سبقت له العناية قضى له بالتوبة. الثانى: تعريف العبد عزة الله سبحانه فى قضائه ونفوذ مشيئته وجريان حكمه. الثالث: تعريفه حاجته إلى حفظه وصيانته، وأنه إن لم يحفظه ويصنه فهو هالك ولا بد، والشياطين قد مدت أيديها إليه تمزقه كل ممزق. الرابع: استجلابه من العبد استعانته به واستعاذته به من عدوه وشر نفسه ودعائه والتضرع إليه والابتهال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 بين يديه. الخامس: إرادته من عبده تكميل مقام الذل والانكسار، فإنه متى شهد صلاحه واستقامته شمخ بأنفه وظن أنه وأنه.. فإذا ابتلاه بالذنب تصاغرت عنده نفسه وذلّ وتيقن وتمنى أنه وأنه. السادس: تعريفه بحقيقة نفسه وأنها الخطائة الجاهلة، وأن كل ما فيها من علم أو عمل أو خير فمن الله منَّ به عليه لا من نفسه. السابع: تعريفه عبده سعة حلمه وكرمه فى ستره عليه، فإنه لو شاء لعاجله على الذنب ولهتكه بين عباده فلم يصف له معهم عيش. الثامن: تعريفه أنه لا طريق إلى النجاة إلا بعفوه ومغفرته. التاسع: تعريفه كرمه فى قبول توبته ومعرفته له على ظلمه وإساءَته. العاشر: إقامة الحجة على عبده، فإن له عليه الحجة البالغة، فإن عذبته فبعدله وببعض حقه عليه بل اليسير منه. الحادى عشر: أن يعامل عباده فى إساءتهم إليه وزلاتهم معه بما يجب أن يعامله الله به، فإن الجزاء من جنس العمل، فيعمل فى ذنوب الخلق معه ما يحب أن يصنعه الله بذنوبه. الثانى عشر: أن يقيم معاذير الخلائق وتتسع رحمته لهم، مع إقامة أمره الله فيهم، فيقيم أمر فيهم رحمة لهم، لا قسوة وفظاظة عليهم. الثالث عشر: أن يخلع صولة الطاعة والإحسان من قلبه، فتتبدل برقة ورأفة ورحمة. الرابع عشر: أن يعريه من رداءِ العجب بعمله كما قال النبى صلى الله عليه وسلم: "لَوْ لَمْ تُذّنِبُوا لَخِفْتُ عَلَيْكُمْ مَا هُوَ أَشدُّ مِنْهُ، العَجَبَ"، أو كما قال. الخامس عشر: أن يعريه من لباس الإدلال الذى يصلح للملوك ويلبسه لباس الذل الذى لا يليق بالعبد سواه. السادس عشر: أن يستخرج من قلبه عبوديته بالخوف والخشية وتوابعهما من البكاء والإشفاق والندم. السابع عشر: أن يعرف مقداره مع معافاته وفضله فى توفيقه وعصمته، فإن من تربى فى العافية لا يعرف ما يقاسيه المبتلى ولا يعرف مقدار العافية. الثامن عشر: أن يستخرج منه محبته وشكره لربه إذا تاب إليه ورجع إليه، فإن الله يحبه ويوجب له بهذه التوبة مزيد محبة وشكر ورضا لا يحصل بدون التوبة وإن كان يحصل توبة بغيرها من الطاعات أثر آخر، لكن هذا الأثر الخاص لا يحصل إلا بالتوبة. التاسع عشر: أنه إذا شهد إساءته وظلمه، واستكثر القليل من نعمة الله لعلمه بأن الواصل إليه منها كثير على مسيء مثله، فاستقل الكثير من عمله لعلمه بأن الذى يصلح له أن يغسل به نجاسته وذنوبه أضعاف أضعاف ما يفعله، فهو دائماً مستقل لعلمه كائناً ما كان، ولو لم يكن فى فوائد الذنب وحكمه إلا هذا وحده لكان كافياً. العشرون: أنه يوجب له التيقظ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 والحذر من مصايد العدو ومكايده، ويعرفه من أين يدخل عليه، وبماذا يحذر منه، كالطبيب الذى ذاق المرض والدواء. الثانى والعشرون: أنه يرفع عنه حجاب الدعوى، ويفتح له طريق الفاقة فإنه لا حجاب أغلظ من الدعوى، ولا طريق أقرب من العبودية، فإن دوام الفقر إلى الله مع التخليط خير من الصفاءِ مع العجب. الثالث والعشرون: أن تكون فى القلب أَمراض مزمنة لا يشعر بها، فيطلب دواءَها فيمن عليه اللطيف الخبير، ويقضى عليه بذنب ظاهر فيجد أَلم مرضه فيحتمى ويشرب الدواءَ النافع فتزول تلك الأمراض التى لم يكن يشعر بها، ومن لم يشعر بهذه اللطيفة فغلظ حجابه كما قيل: لعل عتبك محمود عواقبه وربما صحت الأجسام بالعلل الرابع والعشرون: أن يذيقه ألم الحجاب والبعد بارتكاب الذنب ليكمل له نعمته أو فرحه وسروره إذا أقبل بقلبه إليه وجمعه عليه وأقامه فى طاعته، فيكون التذاذه فى ذلك- بعد أن صدر منه ما صدر- بمنزلة التذاذ الظمآن بالماء العذب الزلال، والشديد الخوف بالأمن، والمحب الطويل الهجر بوصل محبوبه. وإن لطف الرب وبره وإحسانه ليبلغ بعبده أكثر من هذا، فيا بؤس من أعرض عن معرفة ربه ومحبته. الخامس والعشرون: امتحان العبد واختباره هل يصلح لعبوديته وولايته أم لا، فإنه إذا وقع الذنب، سلب حلاوة الطاعة والقرب، ووقع فى الوحشة. فإن كان ممن يصلح اشتاقت نفسه إلى لذة تلك المعاملة فحنت وأنَّت وتضرعت واستعانت بربها ليردَّها إلى ما عودها من بره ولطفه، وإن ركنت عنها واستمر إعراضها ولم تحن إلى تعهدها الأول ومأْلفها ولم تحس بضرورتها وفاقتها الشديدة إلى مراجعة قربها من ربها علم أنها لا تصلح لله، وقد جاء هذا بعينه فى أثر إلهى لا أحفظه. السادس والعشرون: أن الحكمة الإلهية اقتضت تركيب الشهوة والغضب فى الإنسان أو بعضها، ولو لم يخلق فيه هذه الدواعى لم يكن إِنساناً بل ملكاً، فالذنب من موجبات البَشرية، كما أن النسيان من موجباتها، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ بَنِى آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الخطَّائِينَ التَّوَّابُونَ"، ولا يتم الابتلاءُ والاختبار إلا بذلك. والله أعلم. السابع والعشرون: أن ينسيه رؤية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 طاعته ويشغله برؤية ذنبه فلا يزال نصب عينيه، فإن الله إذا أراد بعبد خيراً سلب رؤية أعماله الحسنة من قلبه والإخبار بها من لسانه، وشغله برؤية ذنبه، فلا يزال نصب عينيه حتى يدخل الجنة، فإن ما تقبل من الأعمال رفع من القلب رؤيته ومن اللسان ذكره. وقال بعض السلف: إن العبد ليعمل الخطيئة فيدخل بها الجنة، ويعمل الحسنة فيدخل بها النار، قالوا: كيف؟ قال: يعمل الخطيئة فلا تزال نصب عينيه، إذا ذكرها ندم واستقال وتضرع إلى الله وبادر إلى محوها وانكسر وذل لربه وزال عنه عجبه وكبره، ويعمل الحسنة فلا تزال نصب عينيه يراها ويمن بها ويعتد بها ويتكبر بها حتى يدخل النار. الثامن والعشرون: أن شهود ذنبه وخطيئته يوجب له أن لا يرى له على أحد فضلاً ولا له على أحد حقاً. فإنه إذا شهد عيب نفسه بفاحشة وخطأها وذنوبها لا يظن أنه خير من مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر، وإذا شهد ذلك من نفسه لم ير لها على الناس حقوقاً من الإِكرام يتقاضاهم إياها ويذمهم على ترك القيام بها، فإنها عنده أخس قدراً وأقل قيمة من أن يكون لها على عباد الله حقوق يجب مراعاتها، أو لها عليهم فضل يستحق أن يلزموه لأجله، فيرى أن من سلم عليه أو لقيه بوجه منبسط قد أحسن إليه وبذل له ما لا يستحقه فاستراح فى نفسه واستراح الناس من عتبه وشكايته فما أطيب عيشه وما أنعم باله وما أقر عينه، وأين هذا ممن لا يزال عاتباً على الخلق شاكياً ترك قيامهم بحقه ساخطاً عليهم وهم عليه أسخط؟ فسبحان ذى الحكمة الباهرة التى بهرت عقول العالمين. التاسع والعشرون: أنه يوجب له الإمساك عن عيوب الناس والفكر فيها، فإنه فى شغل بعيبه ونفسه، وطوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، وويل لمن نسى عيبه وتفرغ لعيوب الناس، فالأَول علامة السعادة، والثانى علامة الشقاوة. الثلاثون: أنه يوجب له الإِحسان إلى الناس والاستغفار لإخوانه الخاطئين من المؤمنين فيصير هجِّيراه: ربِّ اغفر لى ولوالدى وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات، فإنه يشهد أن إخوانه الخاطئين يصابون بمثل ما أُصيب به، ويحتاجون إِلى مثل ما هو محتاج إليه، فكما يحب أن يستغفر له أخوه المسلم يحب أن يستغفر هو لأخيه المسلم، وقد قال بعض السلف: إِن الله لما عتب على الملائكة فى قولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة: 30] ، وامتحن هاروت وماروت جعلت الملائكة بعد ذلك تستغفر لبنى آدم ويدعون الله لهم. الحادى والثلاثون: أنه يوجب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 له سعة إبطائه وحلمه ومغفرته لمن أساء إليه، فإنه إذا شهد نفسه مع وبه سبحانه مسيئاً خاطئاً مذنباً- مع فرط إحسانه إليه وبره وشدة حاجته إلى ربه وعدم استغنائه عنه طرفة عين وهذا حاله مع ربه- فكيف يطمع أَن يستقيم له الخلق ويعاملوه بمحض الإحسان وهو لم يعامل ربه بتلك المعاملة؟ وكيف يطمع أن يطيعه مملوكه وولده وزوجته فى كل ما يريد وهو مع ربه ليس كذلك، وهذا يوجب أن يغفر لهم ويسامحهم ويعفو عنهم ويغضى عن الاستقصاءِ فى طلب حقه قبلهم. قاعدة: كثيراً ما يتكرر فى القرآن ذكر الإِنابة والأَمر بها كقوله تعالى: {وَأَنِيبوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزمر: 54] ، وقوله حكاية عن شعيب أنه قال: {وَمَا تَوْفِيقِى إِلا باللهِ عَلَيْهِ تَوَكّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88] ، وقوله: {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [سورة ق: 8] ، وقوله: {إِنَّ الله يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} [الرعد: 27] ، وقوله عن نبيه داود: {وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} [سورة ص: 24] ، والإنابة الرجوع إلى الله وانصراف دواعى القلب وجواذبه إليه، وهى تتضمن المحبة والخشية، فإِن المنيب محب لمن أَناب إليه خاضع له خاشع ذليل. والناس فى إِنابتهم على درجات متفاوتة فمنهم المنيب إلى الله بالرجوع إليه من المخالفات والمعاصى، وهذه الإنابة مصدرها مطالعة الوعيد، والحامل عليها العلم والخشية والحذر، ومنهم المنيب إليه بالدخول فى أَنواع العبادات والقربات، فهو ساع فيها بجهده وقد حبب إليه فعل الطاعات وأَنواع القربات، وهذه الإِنابة مصدرها الرجاءُ ومطالعة الوعد والثواب ومحبة الكرامة من الله وهؤلاء أبسط نفوساً من أهل القسم الأول وأشرح صدوراً وجانب الرجاءِ ومطالعة الرحمة والمنة أغلب عليهم، وإلا فكل واحد من الفريقين منيب بالأمرين جميعاً، ولكن خوف هؤلاء اندرج فى رجائهم فأَنابوا بالعبادات، ورجاء الأَولين اندرج تحت خوفهم فكانت إِنابتهم بترك المخالفات ومنهم المنيب إلى الله بالتضرع والدعاءِ والافتقار إليه والرغبة وسؤال الحاجات كلها منه. ومصدر هذه الإنابة شهود الفضل والمنة والغنى والكرم والقدرة، فأنزلوا به حوائجهم وعلقوا به آمالهم، فإنابتهم إِليه من هذه الجهة مع قيامهم بالأَمر والنهى، ولكن إِنابتهم الخاصة إِنما هى من هذه الجهة، وأَما الأَعمال فلم يرزقوا فيها الإِنابة الخاصة وأَملهم المنيب إليه عند الشدائد والضراءِ فقط إِنابة اضطرار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 لا إِنابة اختيار كحال الذين قال الله فى حقهم: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُرُّ فِى الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدُْْعُونَ إِلا إِيَّاهُ} [الإسراء: 67] ، وقوله تعالى: {فَإِذا رَكِبُوا فِى الْفُلُكِ دَعُوُا الله مُخلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت: 65] ، وهؤلاء كلهم قد تكون نفس أَرواحهم ملتفتة عن الله سبحانه معرضة عنه إِلى مأْلوف طبيعى نفسانى قد حال بينها وبين إِنابتها بذاتها إلى معبودها وإلهها الحق، فهى ملتفتة إلى غيره ولها إليه إنابة ما بحسب إيمانها به ومعرفتها له فأَعلى أَنواع الإِنابة إنابة الروح بجملتها إليه لشدة المحبة الخالصة الغنية لهم عما سوى محبوبهم ومعبودهم وحين أَنابت إِليه أرواحهم لم يختلف منهم شيء عن الإِنابة، فإِن الأعضاءَ كلها رعيتها وملكها تبع للروح فلما أَنابت الروح بذاتها إِليه إنابة محب صادق المحبة ليس فيه عرق ولا مفصل إلا وفيه حب ساكن لمحبوبه أَنابت جميع القوى والجوارح: فأَناب القلب أَيضاً بالمحبة والتضرع والذل والانكسار. وأناب العقل بانفعاله لأوامر المحبوب ونواهيه، وتسليمه لها، وتحكيمه إياها دون غيرها، فلم يبق فيه منازعة شبهة معترضة دونها، وأنابت النفس بالانقياد والانخلاع عن العوائد النفسانية والأخلاق الذميمة والإرادات الفاسدة، وانقادت لللأمر خاضعة له وداعية فيه مؤثرة إياه على غيره، فلم يبق فيها منازعة شهوة تعترضها دون الأمر، وخرجت عن تدبيرها واختيارها تفويضاً إلى مولاها ورضى بقضائه وتسليماً لحكمه. وقد قيل: إن تدبير العبد لنفسه هو آخر الصفات المذمومة فى النفس. وأناب الجسد بالأعمال والقيام بها فرضها وسننها على أكمل الوجوه. وأنابت كل جارحة وعضو إنابتها الخاصة فلم يبق من هذا العبد المنيب عرق ولا مفصل إلا وله إنابة ورجوع إلى الحبيب الحق الذى كل محبة سوى محبته عذاب على صاحبها، وإن كانت عذبة فى مباديها فإنها عذاب فى عواقبها، فإنابة العبد ولو ساعة من عمره هذه الإنابة الخالصة أنفع له وأعظم ثمرة من إنابة سنين كثيرة من غيره، فأَين إنابة هذا من إنابة من قبله؟ وذلك فضل الله يؤتيه من يشاءُ، بل هذه روحه منيبة أبداً، وإن توارى عنه شهود إنابتها باشتغال فهى كامنة فيها كمون النار فى الزناد. وأما أصحاب الإنابات المتقدمة فإن أناب أحدهم ساعة بالدعاء والذكر والابتهال فلنفسه وروحه وقلبه وعقله التفاتات عمن قد أناب إليه، فهو ينيب ببعضه ساعة ثم يترك ذلك مقبلاً على دواعى نفسه وطبعه. والله الموفق المعين، لا رب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 غيره ولا إلَه سواه. قاعدة: فى ذكر طريق يوصل إلى الاستقامة فى الأحوال والأقوال والأعمال، وهى شيئان: أحدهما: حراسة الخواطر وحفظها، والحذر من إهمالها والاسترسال معها، فإن أصل الفساد كله من قبلها يجيء، لأنها هى بذر الشيطان، والنفس فى أَرض القلب، فإذا تمكن بذرها تعاهدها الشيطان بسقيه مرة بعد أخرى حتى تصير إرادات، ثم يسقيها حتى تكون عزائم، ثم لا يزال بها حتى تثمر الأَعمال ولا ريب أن دفع الخواطر أَيسر من دفع الإِرادات والعزائم، فيجد العبد نفسه عاجزاً أو كالعاجز عن دفعها بعد أن صارت إرادة جازمة، وهو المفرط إذا لم يدفعها وهى خاطر ضعيف، كمن تهاون بشرارة من نار وقعت فى حطب يابس، فلما تمكنت منه عجز عن إطفائها، فإن قلت: فما الطريق إلى حفظ الخواطر؟ قلت: أسباب عدة: أحدها: العلم الجازم باطلاع الرب تعالى ونظره إلى قلبك وعلمه بتفصيل خواطرك. الثانى: حياؤك منه. الثالث: إجلالك له أن يرى مثل تلك الخواطر فى بيته الذى خلقه لمعرفته ومحبته. الرابع: خوفك منه أن تسقط من عينه بتلك الخواطر. الخامس: إيثارك له أن تساكن قلبك غير محبته. السادس: خشيتك أن تتولد تلك الخواطر يستعر شرارها فتأْكل ما فى القلب من الإيمان ومحبة الله فتذهب به جملة وأنت لا تشعر. السابع: أن تعلم أن تلك الخواطر بمنزلة الحب الذى يلقى للطائر ليصاد به، فاعلم أن كل خاطر منها فهو حبة فى فخ منصوب لصيدك وأنت لا تشعر. الثامن: أن تعلم أن تلك الخواطر الرديئة لا تجتمع هى وخواطر الإيمان ودواعى المحبة والإنابة أصلاً، بل هى ضدها من كل وجه، وما اجتمعا فى قلب إلا وغلب أحدهما صاحبه وأخرجه واستوطن مكانه فما الظن بقلب غلبت خواطر النفس والشيطان فيه خواطر الإيمان والمعرفة والمحبة فأَخرجتها واستوطنت مكانها، لكن لو كان للقلب حياة لشعر بألم ذلك وأحس بمصابه. التاسع: أن يعلم أن تلك الخواطر بحر من بحور الخيال لا ساحل له، فإذا دخل القلب فى غمراته غرق فيه وتاه فى ظلماته فيطلب الخلاص منه فلا يجد إليه سبيلاً، فقلب تملكه الخواطر بعيد من الفلاح معذب مشغول بما لا يفيد. العاشر: أن تلك الخواطر هى وادى الحمقى وأَمانى الجاهلين، فلا تثمر لصاحبها إلا الندامة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 والخزى، وإذا غلبت على القلب أورثته الوساوس وعزلته عن سلطانها وأفسدت عليه رعيته وأَلقته فى الأسر الطويل كما أن هذا معلوم فى الخواطر النفسانية فهكذا الخواطر الإيمانية الرحمانية هى أصل الخير كله، فإن أرض القلب إذا بذر فيها خواطر الإيمان والخشية والمحبة والإنابة والتصديق بالوعد ورجاء الثواب، وسقيت مرة بعد مرة، وتعاهدها صاحبها بحفظها ومراعاتها والقيام عليها، أثمرت له كل فعل جميل، وملأت قلبه من الخيرات، واستعملت جوارحه فى الطاعات، واستقر بها الملك فى سلطانه واستقامت له رعيته، ولهذا لما تحققت طائفة من السالكين ذلك عملت على حفظ الخواطر، وكان ذلك هو سيرها وجل عملها وهذا نافع لصاحبه بشرطين: أحدهما: أن لا يترك به واجباً، ولا سنة، الثانى: أن لا يجعل مجرد حفظها هو المقصود بل لا يتم ذلك إلا بأن يجعل موضعها خواطر الإِيمان والمحبة والإِنابة والتوكل والخشية فيفرّغ قلبه من تلك الخواطر ويعمره بأضدادها، وإلا فمتى عمل على تفريغه منها معاً كان خاسراً، فلا بد من التفطن لهذا. ومن هنا غلط أقوام من أرباب السلوك وعملوا على إلقاء الخواطر وإزالتها جملة فبذر فيها الشيطان أنواع الشبه والخيالات فظنوها تحقيقاً وفتحاً رحمانياً، وهم فيها غالطون، وإنما هى خيالات وفتوحات شيطانية، والميزان هو الكتاب الناطق والفطرة السليمة والعقل المؤيد بنور النبوة. والله المستعان. الفصل الثاني صدق التأهب للقاءِ الله من أنفع ما للعبد وأبلغه فى حصول استقامته، فإِن من استعد للقاءِ الله انقطع قلبه عن الدنيا وما فيها ومطالبها، وحمدت من نفسه نيران الشهوات وأخبتَ قلبه إلى ربه تعالى وعكفت همته على الله وعلى محبته وإيثار مرضاته، واستحدثت همة أُخرى وعلوماً أُخر وولد ولادة أُخرى تكون نسبة قلبه فيها إلى الدار الآخرة كنسبة جسمه إِلى هذه الدار بعد أَن كان فى بطن أُمه فيولد قلبه ولادة حقيقية كما ولد جسمه حقيقة، وكما كان بطن أُمه حجاباً لجسمه عن هذه الدار فهكذا نفسه وهواه حجاب لقلبه عن الدار الآخرة، فخروج قلبه عن نفسه بارزاً إلى الدار الآخرة كخروج جسمه عن بطن أُمه بارزاً إلى هذه الدار، وهذا معنى ما يذكر عن المسيح أَنه قال: "يا بنى إسرائيل، إِنكم لن تلجوا ملكوت السماءِ حتى تولدوا مرتين"، ولما كان أَكثر الناس لم يولدوا هذه الولادة الثانية ولا تصوروها- فضلاً عن أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 يصدقوا بها- فيقول القائل: كيف يولد الرجل الكبير أَم كيف يولد القلب، لم يكن لهم إليها همة ولا عزيمة، إِذ كيف يعزم على الشيء من لا يعرفه ولا يصدقه؟ ولكن إذا كشف حجاب الغفلة عن القلب صدَّق بذلك وعلم أنه لم يولد قلبه بعد والمقصود أَن صدق التأَهب للقاءِ الله هو مفتاح جميع الأَعمال الصالحة والأَحوال الإيمانية ومقامات السالكين إلى الله ومنازل السائرين إليه، من اليقظة والتوبة والإِنابة والمحبة والرجاءِ والخشية والتفويض والتسليم وسائر أعمال القلوب والجوارح، فمفتاح ذلك كله صدق التأَهب والاستعداد للقاءِ الله، والمفتاح بيد الفتاح العليم لا إله غيره ولا رب سواه. قاعدة شريفة: الناس قسمان: علية وسفلة. فالعلية من عرف الطريق إلى ربه وسلكها قاصداً الوصول إليه، وهذا هو الكريم على ربه. والسفلة من لم يعرف الطريق إلى ربه ولم يتعرفها، فهذا هو اللئيم الذى قال الله تعالى فيه: {وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مَكْرِمٍ} [الحج: 18] . والطريق إلى الله فى الحقيقة واحد لا تعدد فيه، وهو صراطه المستقيم الذى نصبه موصلاً لمن سلكه إليه، قال الله تعالى: {وأَنَّ هذا صِرَاطِى مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُل} [الأنعام: 153] ، فوحد سبيله لأنه فى نفسه واحد لا تعدد فيه، وجمع السبل المخالفة لأنها كثيرة متعددة، كما ثبت أن النبى صلى الله عليه وسلم خط خطا ثم قال: "هذا سبيل الله، ثم خط خطوطاً عن يمينه وعن يساره ثم قال: هذا سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثم قرأ: {وَأَنَّ هذا صِرَاطِى مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سبِيلِهِ} [الأنعام:153] " ومن هذا قوله تعالى: {اللهُ وَلَى الَّذِينَ آمَنُوا يَخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة: 257] ، فوجد النور الذى هو سبيله وجميع الظلمات التى هى سبيل الشيطان. ومن فهم هذا فهم السر فى إفراد النور وجمع الظلمات فى قوله تعالى: {الْحَمْدُ للهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام:1] مع أن فيه سراً أَلطف من هذا يعرفه من يعرف منبع النور ومن أَين فاض وعماذا حصل وأن أَصله كله واحد، وأَما الظلمات فهى متعددة بتعدد الحجب المقتضية لها، وهى كثيرة جداً، لكل حجاب ظلمة خاصة، ولا ترجع الظلمات إلى النور الهادى جل جلاله أصلاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 لا وصفاً ولا ذاتاً ولا اسماً ولا فعلاً، وإِنما ترجع إلى مفعولاته سبحانه، فهو جاعل الظلمات ومفعولاتها متعددة متكثرة، بخلاف النور فإنه يرجع إلى اسمه وصفته جل جلاله، تعالى أن يكون كمثله شيء وهو نور السموات والأرض. قال ابن مسعود: ليس عند ربكم ليل ولا نهار، نور السموات والأَرض من نور وجهه ذكره الدارمى عنه. وفى صحيح مسلم عن أبى ذر قلت: يا رسول الله هل رأيت ربك؟ قال: نور، أَنَّى أَراه،. والمقصود أن الطريق إلى الله تعالى واحد، فإنه الحق المبين والحق واحد، مرجعه إلى واحد. وأما الباطل والضلال فلا ينحصر، بل كل ما سواه باطل، وكل طريق إلى الباطل فهو باطل، فالباطل متعدد، وطرقه متعددة. وأما ما يقع فى كلام بعض العلماء أَن الطريق إلى الله متعددة متنوعة جعلها الله كذلك لتنوع الاستعدادات واختلافها، رحمة منه وفضلاً، فهو صحيح لا ينافى ما ذكرناه من وحدة الطريق. وكشف ذلك وإيضاحه أن الطريق وهى واحدة جامعة لكل ما يرضى الله، وما يرضيه متعدد متنوع فجميع ما يرضيه طريق واحد، ومراضيه متعددة متنوعة بحسب الأَزمان والأَماكن والأَشخاص والأَحوال، وكلها طرق مرضاته، فهذه التى جعلها الله سبحانه لرحمته، وحكمته كثيرة متنوعة جداً لاختلاف استعدادات العباد وقوابلهم، ولو جعلها نوعاً واحداً مع اختلاف الأَذهان والعقول وقوة الاستعدادات وضعفها لم يسلكها إلا واحد بعد واحد، ولكن لما اختلفت الاستعدادات تنوعت الطرق ليسلك كل امريءٍ إلى ربه طريقاً يقتضيها استعداده وقوته وقبوله. ومن هنا يعلم تنوع الشرائع واختلافها مع رجوعها كلها إلى دين واحد بل تنوع الشريعة الواحدة مع وحدة المعبود ودينه، ومنه الحديث المشهور: " الأَنْبِيَاءُ أَوْلادُ عَلات دينهم واحد"، فأولاد العلات أن يكون الأب واحداً والأُمهات متعددة، فشبه دين الأنبياء بالأب الواحد وشرائعهم بالأمهات المتعددة، فإنها وإن تعددت فمرجعها كلها إلى أب واحد. وإذا علم هذا فمن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الذى يعد سلوكه إلى الله طريق العلم والتعليم، قد وفر عليه زمانه مبتغياً به وجه الله فلا يزال كذلك عاكفاً على طريق العلم والتعليم حتى يصل من تلك الطريق إلى الله ويفتح له فيها الفتح الخاص أو يموت فى طريق طلبه فيرجى له الوصول إلى مطلبه بعد مماته. قال تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 أَجْرُهُ على الله} [النساء: 100] . وقد حكى عن جماعة كثيرة ممن أدركه الأجل وهو حريص طالب للقرآن أَنه رؤى بعد موته وأخبره أنه فى تكميل مطلوبه وأنه يتعلم فى البرزخ، فإِن العبد يموت على ما عاش عليه. ومن الناس من يكون سيد عمله الذكر وقد جعله زاده لمعاده ورأْس ماله لمآله، فمتى فتر عنه أَو قصر رأَى أَنه قد غبن وخسر، ومن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الصلاة، فمتى قصر فى ورده منها أَو مضى عليه وقت وهو غير مشغول بها أَو مستعد لها أَظلم عليه وقته وضاق صدره. ومن الناس من يكون طريقه الإحسان والنفع المتعدى، كقضاءِ الحاجات وتفريج الكربات وإِغاثة اللهفات وأنواع الصدقات، قد فتح له فى هذا وسلك منه طريقاً إلى ربه. ومن الناس من يكون طريقه تلاوة القرآن وهى الغالب على أَوقاته وهى أعظم أورداه. ومن الناس من يكون طريقه الصوم، فهو متى أفطر تغير عليه قلبه وساءَت حاله. ومنهم يكون طريقه الأَمر بالمعروف والنهى عن المنكر قد فتح الله له فيه ونفذ منه إلى ربه، ومنهم من يكون طريقه الذى نفذ فيه الحج والاعتمار. ومنهم من يكون طريقه قطع العلائق وتجريد الهمة ودوام المراقبة ومراعاة الخواطر وحفظ الأَوقات أن تذهب ضائعة. ومنهم من جامع المنفذ السالك إلى الله فى كل واد الواصل إليه من كل طريق، فهو جعل وظائف عبوديته قبلة قلبه ونصب عينه يؤمها أَين كانت ويسير معها حيث سارت قد ضرب من كل فريق بسهم، فأَين كانت العبودية وجدته هناك: إِن كان علم وجدته مع أَهله، أَو جهاد وجدته فى صف المجاهدين، أَو صلاة وجدته فى القانتين، أَو ذكر وجدته فى الذاكرين، أَو إحسان ونفع وجدته فى زمرة المحسنين، أَو ومراقبة ومحبه وإنابة إلى الله وجدته فى زمرة المحبين المنيبين، يدين بدين العبودية أَنَّى استقلت ركائبها، ويتوجه إليها حيث استقرت مضاربها، لو قيل له: ما تريد من الأعمال؟ لقال: أريد أن أنفذ أوامر ربى حيث كانت وأين كانت جالبة ما جلبت مقتضية ما اقتضت جمعيتين أو فرقتين أو فرقتنى، ليس لى مراد إلا تنفيذها والقيام بأدائها مراقباً له فيها عاكفاً عليه بالروح والقلب والبدن والسر قد سلمت إليه المبيع منتظراً منه تسليم الثمن: {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّة} [التوبة: 111] ، فهذا هو العبد السالك إلى ربه النافذ إليه حقيقة ومعنى النفوذ إليه أن يتصل به قلبه ويعلق به تعلق المحب التام المحبه بمحبوبه فيسلو به عن جميع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 المطالب سواه، فلا يبقى فى قلبه إلا محبة الله وأمره وطلب التقريب إليه. فإذا سلك العبد على هذا الطريق عطف عليه ربه فقربه واصطفاه وأَخذ بقلبه إليه وتولاه فى جميع أموره فى معاشه ودينه وتولى تربيته أحسن وأبلغ مما يربى الوالد الشفيق ولده، فإِنه سبحانه القيوم المقيم لكل شيء من المخلوقات طائعها وعاصيها، فكيف تكون قيوميته بمن أَحبه وتولاه وآثره على ما سواه، ورضى به من الناس حبيباً ورباً، ووكيلاً وناصراً ومعيناً وهادياً، فلو كشف الغطاءَ عن ألطافه وبره وصنعه له من حيث يعلم ومن حيث لا يعلم لذاب قلبه حبا ًله وشوقاً إليه ويقع شكراً له، ولكن حجب القلوب عن مشاهدة ذلك إخلادها إلى عالم الشهوات والتعلق بالأسباب، فصدت عن كمال نعيمها، وذلك تقدير العزيز العليم. وإلا فأى قلب يذوق حلاوة معرفة الله ومحبته ثم يركن إلى غيره ويسكن إلى ما سواه؟ هذا ما لا يكون أبداً، ومن ذاق شيئاً من ذلك وعرف طريقاً موصلة إلى الله ثم تركها وأقبل على إرادته وراحاته وشهواته ولذاته وقع فى آثار المعاطب وأودع قلبه سجون المضايق وعذب فى حياته عذاباً لم يعذبه أحد من العالمين، فحياته عجز وغم وحزن، وموته كدر وحسرة، ومعاده أسف وندامة، قد فرط عليه أمره وشتت عليه شمله، وأحضرت نفسه الغموم والأحزان، فلا لذة الجاهلين ولا راحة العارفين، يستغيث فلا يغاث ويشتكى فلا يشكى، فقد ترحلت أفراحه وسروره مدبرة وأقبلت آلامه، وأحزانه وحسراته مقبلة، فقد أُبدل بأُنسه وحشه وبعزه ذلاً وبغناه فقراً وبجمعيته تشتيتاً، وأبعدوه فلم يظفر بقربهم، وأبدلوه مكان الأنس إيحاشاً، ذلك بأنه عرف طريقه إلى الله ثم تركها وناكباً عنها مكباً على وجهه، فأبصر ثم عمى وعرف ثم أَنكر وأَقبل ثم أَدبر ودعى فما أَجاب وفتح له فولى ظهره الباب، قد ترك طريق مولاه وأَقبل بكليته على هواه، فلو نال بعض حظوظه وتلذذ براحاته وشئونه فهو مقيد القلب عن انطلاقه فى فسيح التوحيد وميادين الأُنس ورياض المحبة وموائد القرب، قد انحط بسبب إعراضه عن إلهه الحق إلى أسفل السافلين، وحصل فى عداد الهالكين فنار الحجاب تطلع كل وقت على فؤاده، وإعراض الكون عنه- إذ أعرض عن ربه- حائل بينه وبين مراده، فهو قبر يمشى على وجه الأرض فروحه فى وحشة من جسمه وقلبه فى ملال من حياته، يتمنى الموت ويشتهيه ولو كان فيه ما فيه، حتى إذا جاءه الموت على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 تلك الحال والعياذ بالله فلا تسأل عما يحل به من العذاب الأَليم بسب وقوع الحجاب بينه وبين مولاه الحق وإحداقه بنار البعد عن قربه والإعراض عنه وقد حيل بينه وبين سعادته وأمنيته. فلو توهم العبد المسكين هذه الحال وصورتها له نفسه وأَرته إياها على حقيقتها لتقطع والله قلبه ولم يلتذ بطعام ولا شراب، ولخرج إلى الصعدات يجأَر إلى الله ويستغيث به ويستعتبه فى زمن الاستعتاب، هذا مع أنه إذا آثر شهواته ولذاته الفانية التى كخيال طيف أو مزنة صيف نغصت عليه لذاتها أحوج ما كان إليها، وحيل بينه وبينها أَقدر ما كان عليه، وتلك سنة الله فى خلقه كما قال تعالى: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضِ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ، كَذَلِكَ نُفصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس: 24] ، وهذا هو غب إعراضه وإيثار شهوته على مرضاة ربه، فيعوق القدر عليه أسباب مراده فيخسر الأمرين جميعاً، فيكون معذباً فى الدنيا بتنغيص شهواته وشدة اهتمامه بطلب ما لم يقسم له، وإن قسم له منه شيء فحشوه الخوف والحزن والنكد والألم، فهم لا ينقطع وحسرة لا تنقضى وحرص لا ينفد وذل لا ينتهى وطمع لا يقلع، هذا فى هذه الدار. وأَما فى البرزخ فأضعاف أضعاف ذلك: قد حيل بينه وبين ما يشتهى، وفاته ما كان يتمناه من قرب ربه وكرامته ونيل ثوابه، وأحضر جميع غمومه وأحزانه. وأما فى دار الجزاء فسجن أمثاله من المبعودين المطرودين. فواغوثاه ثم واغوثاه بغياث المستغيثين بأرحم الراحمين، فمن أعرض عن الله بالكلية أعرض الله عنه بالكلية، ومن أعرض الله عنه لزمه الشقاءُ والبؤس والبخس فى أحواله وأعماله وقارنه سوءُ الحال وفساده فى دينه ومآله، فإن الرب تعالى إذا أعرض عن جهة دارت بها النحوس وأظلمت أرجاؤها وانكسفت أنوارها وظهرت عليها وحشة الإعراض وصارت مأْوى للشياطين وهدفاً للشرور ومصباً للبلاءِ، فالمحروم كل المحروم من عرف طريقاً إليه ثم أَعرض عنها أَو وجد بارقة من حبه ثم سلبها لم ينفذ إلى ربه منه. خصوصاً إِذا مال بتلك الإِرادة إِلى شيء من اللذات، وانصرف بجملته إلى تحصيل الأَغراض والشهوات عاكفاً على ذلك فى ليله ونهاره وغدوه ورواحه، هابطاً من الأَوج الأَعلى إلى الحضيض الأدنى، قد مضت عليه برهة من أَوقاته وكان همه الله وبغيته قربه ورضاه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 وإيثاره على كل ما سواه، على ذلك يصبح ويمسى ويظل ويضحى وكان الله فى تلك الحال وليه لأَنه ولى من تولاه وحبيب من أَحبه ووالاه فأَصبح فى سجن الهوى ثاوياً وفى أَسر العدو مقيماً وفى بئر المعصية ساقطاً وفى أَودية الحيرة والتفرقة هائماً، معرضاً عن المطالب العالية إلى الأَغراض الخسيسة الفانية، كان قلبه يحوم حول العرش فأصبح محبوساً فى أسفل الحش: فأصبح كالبازى المنتّف ريشه ... ذيرى حسرات كلما طار طائر وقد كان دهراً فى الرياض منعماً ... على كل ما يهوى من الصيد قادر إلى أَن أَصابته من الدهر نكبة ... إذا هو مقصوص الجناحين حاسر فيا من ذاق شيئاً من معرفة ربه ومحبته ثم أَعرض عنها واستبدل بغيرها منها، يا عجباً له بأى شيء تعرض وكيف قر قراره فما طلب الرجوع إلى أحنيته وما تعرض وكيف اتخذ سوى أحنيته سكناً، وجعل قلبه لمن عاداه مولاه من أجله وطناً. أم كيف طاوعه قلبه على الاصطبار ووافقه على مساكنة الأغيار، فيا معرضاً عن حياته الدائمة ونعيمه المقيم، ويا بائعاً سعادته العظمى بالعذاب الأَليم، ويا مسخطاً من حياته وراحته وفوزه فى رضاه وطالباً رضى من سعادته فى إرضاء سواه، إِنما هى لذة فانية وشهوة منقضية تذهب لذاتها وتبقى تبعاتها، فرح ساعة لا شهر وغم سنة بل دهر، طعام لذيذ مسموم أَوله لذة وآخره هلاك، فالعامل عليها والساعى فى تحصيلها كدودة القز يسد على نفسه المذاهب بما نسج عليها من المعاطب، فيندم حين لا تنفع الندامة ويستقيل حين لا تقبل الاستقالة فطوبى لمن أقبل على الله بكليته وعكف عليه بإرادته ومحبته، فإن الله يقبل عليه بتوليه ومحبته وعطفه ورحمته، وإن الله سبحانه إذا أقبل على عبد استنارت جهاته وأشرقت ساحاتها وتنورت ظلماتها وظهرت عليه آثار إقباله من بهجة الجلال وآثار الجمال، وتوجه إليه أهل الملأ الأعلى بالمحبة والموالاة لأنهم تبع لمولاهم، فإذا أحب عبداً أحبوه وإذا والى والياً والوه، إذا أحب الله العبد نادى: يا جبرائيل إنى أُحب فلاناً فأحبه، فينادى جبرائيل فى السماءِ: إِن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء ثم يحبه أهل الأرض، فيوضع له القبول بينهم، ويجعل الله قلوب أوليائه تفد إليه بالود والمحبة والرحمة، وناهيك بمن يتوجه إليه مالك الملك ذو الجلال والإكرام بمحبته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 ويقبل عليه بأنواع كرامته، ويلحظ الملأُ الأعلى وأهل الأرض بالتبجيل والتكريم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاءُ والله ذو الفضل العظيم. قاعدة: السائر إلى الله تعالى والدار الآخرة، بل كل سائر إلى مقصد، لا يتم سيره ولا يصل إلى مقصوده إلا بقوتين: قوة علمية، وقوة عملية، فبالقوة العلمية يبصر منازل الطريق، ومواضع السلوك فيقصدها سائراً فيها، ويجتنب أسباب الهلاك ومواضع العطب وطرق المهالك المنحرفة عن الطريق الموصل. فقوته العلمية كنور عظيم بيده يمشى به فى ليلة عظيمة مظلمة شديدة الظلمة، فهو يبصر بذلك النور ما يقع الماشى فى الظلمة فى مثله من الوهاد والمتالف ويعثر به من الأحجار والشوك وغيره، ويبصر بذلك النور أيضاً أعلام الطريق وأدلتها المنصوبة عليها فلا يضل عنها، فيكشف له النور عن الأمرين: أعلام الطريق، ومعطبها. وبالقوة العملية يسير حقيقة، بل السير هو حقيقة القوة العملية، فإن السير هو عمل المسافر. وكذلك السائر إلى ربه إذا أبصر الطريق وأعلامها وأبصر المعاثر والوهاد والطرق الناكبة عنها فقد حصل له شطر السعادة والفلاح، وبقى عليه الشطر الآخر وهو أن يضع عصاه على عاتقه ويشمر مسافراً فى الطريق قاطعاً منازلها منزلة بعد منزلة، فكلما قطع مرحلة استعد لقطع الأُخرى واستشعر القرب من المنزل فهانت عليه مشقة السفر، وكلما سكنت نفسه من كلال السير ومواصلة الشد والرحيل وعدها قرب التلاقى وبرد العيش عند الوصول، فيحدث لها ذلك نشاطاً وفرحاً وهمة، فهو يقول: يا نفس أَبشرى فقد قرب المنزل ودنا التلاقى فلا تنقطعى فى الطريق دون الوصل فيحال بينك وبين منازل الأحبة، فإن صبرت وواصلت السير وصلت حميدة مسرورة جذلة، وتلقتك الأحبة بأَنواع التحف والكرامات، وليس بينك وبين ذلك إلا صبر ساعة، فإن الدنيا كلها لساعة من ساعات الآخرة، وعمرك درجة من درج تلك الساعة، فالله الله لا تنقطعى فى المفازة، فهو والله الهلاك والعطب لو كنت تعلمين فإِن استصعبت عليه فليذكرها ما أَمامها من أحبابها، وما لديهم من الإِكرام والإنعام، وما خلفها من أعدائها وما لديهم من الإهانة والعذاب وأنواع البلاءِ، فإن رجعت فإلى أعدائها رجوعها، وإن تقدمت فإلى أحبابها مصيرها، وإن وقفت فى طريقها أدركها أعداؤها، فإنهم وراءها فى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 الطلب. ولا بد لها من قسم من هذه الأقسام الثلاثة فلتختر أَيها شاءَت. وليجعل حديث الأحبة وشأنهم حاديها وسائقها، ونور معرفتهم وإرشادهم هاديها ودليلها، وصدق ودادهم وحبهم غذاءها وشرابها ودواءَها ولا يوحشه انفراده فى طريق سفره ولا يغتر بكثرة المنقطعين فأَلم انقطاعه وبعاده واصل إليه دونهم، وحظه من القرب والكرامة مختص به دونهم فما معنى الاشتغال بهم والانقطاع معهم؟ وليعلم أن هذه الوحشة لا تدوم بل هى من عوارض الطريق فسوف تبدو له الخيام، وسوف يخرج إليه الملتقون يهنئونه بالسلامة والوصول إليهم، فيا قرة عينه إذ ذاك ويا فرحته إذ يقول: {يَا لَيْتَ قَوْمِى يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِى رَبِّى وَجَعَلَنِى مِنَ الْمُكْرَمِين} [يس: 26- 27] ، ولا يستوحش مما يجده من كثافة الطبع وذوب النفس وبطءِ سيرها، فكلما أدمن على السير وواظب عليه غدواً ورواحاً وسحراً قرب من الدار وتلطفت تلك الكثافة وذابت تلك الخبائث والأدران، فظهرت عليه همة المسافرين وسيماهم، فتبدلت وحشته أُنساً وكثافته لطافة ودرنه طهارة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 فصل: فى تقسيم الناس من حيث القوة العلمية والعملية فمن الناس من يكون له القوة العلمية الكاشفة عن الطريق ومنازلها وأعلامها وعوارضها ومعاثرها، وتكون هذه القوة أَغلب القوتين عليه، ويكون ضعيفاً فى القوة العملية يبصر الحقائق ولا يعمل بموجبها، ويرى المتالف والمخاوف والمعاطب ولا يتوقاها، فهو فقيه ما لم يحضر العمل فإذا حضر العمل شارك الجهال فى التخلف وفارقهم فى العلم وهذا هو الغال على أَكثر النفوس المشتغلة بالعلم، والمعصوم من عصمة الله ولا قوة إلا بالله. ومن الناس من تكون له القوة العملية الإرادية وتكون أغلب القوتين عليه وتقتضى هذه القوة السير والسلوك والزهد فى الدنيا والرغبة فى الآخرة والجد والتشمير فى العمل، ويكون أعمى البصر عند ورود الشبهات فى العقائد والانحرافات فى الأَعمال والأقوال والمقامات كما كان الأول ضعيف العقل عند ورود الشهوات، فداءُ هذا من جهله وداءُ الأَول من فساد إرادته وضعف عقله، وهذا حال أَكثر أرباب الفقر والتصوف السالكين على غير طريق العلم، بل على طريق الذوق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 والوجد والعادة، يرى أحدهم أَعمى عن مطلوبه لا يدرى من يعبد ولا بماذا يعبده، فتارة يعبده بذوقه ووجده، وتارة يعبده بعادة قومه وأصحابه من لبس معين أو كشف رأْس أو حلق لحية ونحوها، وتارة يعبده بالأوضاع التى وضعها بعض المتحذلقين وليس له أصل فى الدين، وتارة يعبده بما تحبه نفسه وتهواه كائناً ما كان. وهنا طرق ومتاهات لا يحصيها إلا رب العباد، فهؤلاء كلهم عمى عن ربهم وعن شريعته ودينه لا يعرفون شريعته ودينه الذى بعث به رسله وأنزل به كتبه ولا يقبل من أحد ديناً سواه، كما أنهم لا يعرفون صفات ربهم التى تعرف بها إلى عباده على ألسنة رسله ودعاهم إلى معرفته ومحبته من طريقها، فلا معرفة له بالرب ولا عبادة له. ومن كانت له هاتان القوتان استقام له سيره إلى الله تعالى ورجى له النفوذ وقوى على رد القواطع والموانع بحول الله وقوته، فإِن القواطع كثيرة شأْنها شديد لا يخلص من حبائلها إلا الواحد بعد الواحد، ولولا القواطع والآفات لكانت الطريق معمورة بالسالكين، ولو شاءَ الله لأَزالها وذهب بها، ولكن الله يفعل ما يريد، والوقت كما قيل سيف فإن قطعته وإلا قطعك. فإذا كان السير ضعيفاً والهمة ضعيفة والعلم بالطريق ضعيفاً، والقواطع الخارجة والداخلة كثيرة شديدة فإنه جهد البلاء ودرك الشقاءِ وسوء القضاء وشماتة الأعداءِ إِلا أن يتداركه الله برحمة منه من حيث لا يحتسب فيأْخذ بيده ويخلصه من أَيدى القواطع. والله ولى التوفيق. قاعدة نافعة: العبد من حين استقرت قدمه فى هذا الدار فهو مسافر فيها إلى ربه، ومدة سفره هى عمره الذى كتب له فالعمر هو مدة سفر الإنسان فى هذه الدار إلى ربه تعالى، ثم قد جعلت الأيام والليالى مراحل لسفره: فكل يوم وليلة مرحلة من المراحل، فلا يزال يطويها مرحلة بعد مرحلة حتى ينتهى السفر. فالكيس الفَطنِ هو الذى يجعل كل مرحلة نصب عينيه فيهتم بقطعها سالماً غانماً، فإِذا قطعها جعل الأُخرى نصب عينيه، ولا يطول عليه الأمد فيقسو قلبه ويمتد أمله ويحضر بالتسويف والوعد والتأْخير والمطل، بل يعد عمره تلك المرحلة الواحدة فيجتهد فى قطعها بخير ما بحضرته، فإنه إذا تيقن قصرها وسرعة انقضائها هان عليه العمل وطوَّعت له نفسه الانقياد إلى التزود، فإذا استقبل المرحلة الأخرى من عمره استقبلها كذلك فلا يزال هذا دأبه حتى يطوى مراحل عمره كلها فيحمد سعيه ويبتهج بما أَعده ليوم فاقته وحاجته، فإذا طلع صبح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 الآخرة وانقشع ظلام الدنيا، فحينئذ يحمد سراه وينجل عنه كراه، فما أَحسن ما يستقبل يومه وقد لاح صباحه واستبان فلاحه. ثم الناس فى قطع هذه المراحل قسمان: قسم قطعوها مسافرين فيها إلى دار الشقاءِ، فكلما قطعوا مرحلة منها قربوا من تلك الدار وبعدوا عن ربهم وعن دار كرامته فقطعوا تلك المراحل بمساخط الرب ومعاداة رسله وأَوليائه ودينه والسعى فى إِطفاءِ نوره وإٍبطال دعوته وإِقامة دعوة غيرها، فهؤلاء جعلت أيامهم يسافرون فيها إلى الدار التى خلقوا لها [واستعملوا] بها، فهم [مصحبون] فيها بالشياطين الموكلة بهم يسوقونهم إلى منازلهم سوقاً كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تُؤُزُّهُمْ أَزَّاً} [مريم: 83] ، أى تزعجهم، إلى المعاصى والكفر إزعاجاً وتسوقهم سوقاً. القسم الثانى: قطعوا تلك المراحل سائرين فيها إلى الله وإلى دار السلام. وهم ثلاثة أقسام: ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق بالخيرات بإذن الله. وهؤلاء كلهم مستعدون للسير موقنون بالرجعّ إلى الله، ولكن متفاوتون فى التزود وتعبئة الزاد واختياره، وفى نفس السير وسرعته وبطئه. فالظالم لنفسه مقصر فى الزاد غير آخذ منه ما يبلغه المنزل لا فى قدره ولا فى صفته، بل مفرط فى زاده الذى ينبغى له أن يتزوده، ومع ذلك فهو متزود ما يتأَذى به فى طريقه، ويجد غب أذاه إذا وصل المنزل بحسب ما تزود من ذلك المؤذى الضار. والمقتصد اقتصر من الزاد على ما يبلغه، ولم يشدَّ مع ذلك أحمال التجارة الرابحة، ولم يتزود ما يضره، فهو سالم غانم لكن فاتته المتاجر الرابحة وأنواع المكاسب الفاخرة. والسابق بالخيرات همه فى تحصيل الأَرباح وشد أَحمال التجارات لعلمه بمقدار الربح الحاصل، فيرى خسراناً أن يدخر شيئاً مما بيده ولا يتجر به، فيجد ربحه يوم يغتبط التجار بأَرباح تجاراتهم، فهو كرجل قد علم أَن أمامه بلدة يكسب الدرهم فيها عشرة إلى سبعمائة وأكثر، وعنده حاصل وله خبرة بطريق ذلك البلد وخبرة بالتجارة، فهو لو أَمكنه بيع ثيابه وكل ما يملك حتى يهيء به تجارة إِلى ذلك البلد لفعل، فهكذا حال السابق بالخيرات بإِذن ربه يرى خسراناً بيناً أن يمر عليه وقت فى غير متجر. فنذكر بعون الله وفضله نبذة من متاجر الأقسام الثلاثة ليعلم العبد من أى التجار هو: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 فأما الظالم لنفسه فإِنه إذا استقبل مرحلة يومه وليلته استقبلها، وقد سبقت حظوظه وشهواته إِلى قلبه فحركت جوارحه طالبة لها ساعية فيها، فإِذا زاحمها حقوق ربه فتارة وتارة فمرة يأْخذ بالرخصة ومرة بالعزيمة، ومرة يقدم على الذنب وترك الحق تهاوناً ووعداً بالتوبة. فهذا حال الظالم لنفسه مع حفظ التوحيد والإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر والتصديق بالثواب والعقاب فمرحلة هذا مقطوعة بالربح والخسران وهو للأغلب منهما، فإِذا ورد القيامة ميز ربحه من خسرانه وحصل ربحه وحده وخسرانه وحده، وكان الحكم للراجح منهما، وحكم الله من وراءِ ذلك لا يعدم عباده منه فضله وعدله. وأما المقتصدون فأدوا وظيفة تلك المرحلة ولم يزيدوا عليها ولم ينقصوا منها، فلا حصلوا على أرباح التجار ولا بخسوا الحق الذى عليهم. فإذا استقبل أحدهم مرحلة يومه استقبلها بالطهور التام والصلاة التامة فى وقتها بأركانها وواجباتها وشرائطها، ثم ينصرف منها إلى مباحاته ومعيشته وتصرفاته التى أذن الله له فيها مشتغلاً بها قائماً بأعيانها مؤدياً واجب الرب عالى فيها، غير متفرغ لنوافل العبادات وأوراد الأذكار والتوجه، فإذا حضرت الفريضة الأُخرى بادر إليها كذلك، فإذا أكملها انصرف إلى حاله الأول فهو كذلك سائر يومه، فإذا جاءَ الليل فكذلك إلى حين النوم يأْخذ مضجعه حتى ينشق الفجر فيقوم إلى غذائه وظيفته فإذا جاء الصوم الواجب ويقوم بحقه، وكذلك الزكاة الواجبة والحج الواجب، وكذلك المعاملة مع الخلق يقوم فيها بالقسط، لا يظلمهم ولا يترك حقه لهم. فصل وأما السابقون بالخيرات فهم نوعان: أبرار ومقربون. وهؤلاء الأَصناف الثلاثة هم أَهل اليمين، وهم المقتصدون والأَبرار والمقربون. وأَما الظالم لنفسه فليس من أَصحاب اليمين عند الإِطلاق وإِن كان مآله إلى أصحاب اليمين كما أنه لا يسمى مؤمناً عند الإطلاق وإن كان مصيره ومآله مصير المؤمنين بعد أخذ الحق منه. وقد اختلف فى قوله تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ} [فاطر: 33] الآية. هل ذلك راجع إلى الأصناف الثلاثة: الظالم لنفسه، والمقتصد، والسابق بالخيرات، أو يختص بالقسمين الأَخيرين وهما المقتصد والسابق دون الظالم، على قولين: فذهبت طائفة إلى أَن الأَصناف الثلاثة كلهم فى الجنة، وهذا يروى عن ابن مسعود وابن عباس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 وأَبى سعيد الخدرى وعائشة أُم المؤمنين، قال أبو إسحق السبيعى: أَما الذى سمعت منذ ستون سنة فكلهم ناج، قال أبو داود الطيالسى: أنبأنا الصلت بن دينار: حدثنا عقبة بن صبهان الهنائى قال: سألت عائشة عن قول الله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمَنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر: 32] ، فقالت لى: يا بنى، كل هؤلاء فى الجنة، فأما السابق بالخيرات فمن مضى على عهد رسول الله يشهد له رسول الله بالخيرة والرزق، وأما المقتصد فمن تبع أثره من أصحابه حتى لحق به، وأَما الظالم لنفسه فمثلى ومثلك. قال: فجعلت نفسها معنا. وقال ابن مسعود: هذه الأُمة يوم القيامة أثلاث: ثلث يدخلون الجنة بغير حساب، وثلث يوم القيامة يحاسبون حساباً يسيراً ثم يدخلون الجنة، وثلث يجيئون بذنوب عظام، فيقول الله: ما هؤلاء؟ وهو أعلم بهم، فتقول الملائكة: هم مذنبون إلا أَنهم لم يشركوا. فيقول الله: أدخلوهم فى سعة رحمتى، وقال كعب: تحاذت مناكبهم ورب الكعبة وتفاضلوا بأَعمالهم وقال الحسن: السابقون من رجحت حسناتهم، والمقتصد من استوت حسناته وسيئاته، والظالم من خفت موازينه واحتجت هذه الفرقة بأنه سبحانه سمى الكل "مصطفين"، وأخبر أنه اصطفاهم من جملة العباد، ومحال أَن يكون الكافر والمشرك من المصطفين، لأن الاصطفاء هو الاختيار، وهو الافتعال من صفوة الشيء وهو خياره، فعلم أَن هؤلاء الأصناف الثلاثة صفوة الخلق وبعضهم خير من بعض: فسابقهم مصطفى عليهم، ثم مقتصدهم مصطفى على ظالمهم، ثم ظالمهم مصطفى على الكافر والمشرك. واحتجت أيضاً بآثار روتها تؤيد ما ذهب إليه: فمنها ما رواه سليمان الشاذكونى حدثنا حصين بن بهز عن أَبى ليلى عن أَخيه عن أَبيه عن أُسامة بن زيد عن النبى صلى الله عليه وسلم فى هذه الآية قال: كلهم فى الجنة. ومنها ما رواه الطبرانى: حدثنا أحمد بن حماد بن رعية، حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا ابن لهيعة عن أحمد بن حازم المعافرى عن صالح مولى التوأمة عن أَبى الدرداءِ قال: قرأَ النبى هذه الآية: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بإِذنِ الله} [فاطر: 32] ، فقال: أَما السابق فيدخل الجنة بغير حساب، وأما المقتصد فيحاسب حساباً يسيراً، وأما الظالم فيجلس فى طول المحبس ثم يتجاوز الله عنه، ومنها ما رواه زكريا الساجى [عن الحسن بن على الواسطى عن أبى سعيد الخزاعى عن الحسن] بن سالم عن سعد بن ظريف عن أَبى هاشم الطائى قال: قدمت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 المدينة فدخلت مسجدها فجلست إلى سارية، فجاءَ حذيفة فقال: ألا أُحدثك بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ يقول: "يبعث الله تبارك وتعالى هذه الأُمة- أَو كما قال- ثلاثة أصناف، وذلك فى قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ، وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ، وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر: 32] ، فالسابق بالخيرات يدخل الجنة بلا حساب والمقتصد يحاسب حساباً يسيراً، والظالم لنفسه يدخل الجنة برحمة الله. ومنها ما رواه الطبرانى عن محمد بن إسحاق بن راهوية: حدثنا أبى، حدثنا جرير عن الأعمش عن رجل سماه عن أَبى الدرداءِ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فى قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ الآية ... قال: "السابق بالخيرات والمقتصد يدخلان الجنة بغير حساب، والظالم لنفسه يحاسب حساباً يسيراً ثم يدخل الجنة". ومنها ما رواه ابن لهيعة عن أبى جعفر عن يونس بن عبد الرحمن عن أبى الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذه الآية: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَاب الَّذِينَ اصطفيْنَا مِنْ عِبَادِنَا- إِلى قوله -سَابقٌ بِالْخَيْرَات} [فاطر: 32] ، قال: فأَما السابقون فيدخلون الجنة بغير حساب، وأما المقتصد فيحاسب حساباً يسيراً، وأما الظالمون فيحاسبون فيصيبهم عناءُ وكرب ثم يدخلون الجنة ثم يقولون: {الْحَمْدُ للهِ الَّذى أَذْهَبَ عَنَّا الْحَرَنْ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُور شَكُورٌ} [فاطر: 34] منها ما رواه الحميدى: حدثنا سفيان، حدثنا طعمة بن عمرو الجعفرى عن رجل قال: قال أبو الدرداءِ لرجل: ألا أُحدثك بحديث أخصك به لم أحدث به أحداً؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فَمِنْهُمْ ظالم لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمنهم سَابِقٌ بالخيَرَات} بإذن الله جَنَّاتُ عَدْنٍ قال: "دخلوا الجنة جميعاً". واحتجت أيضاً بالآيات والأَحاديث التى تشهد بنجاة الموحدين من أهل الكبائر ودخولهم الجنة. واحتجت أيضاً بأَن ظلم النفس إِنما يراد به ظلمها بالذنوب والمعاصى، فإِن الظلم ثلاثة أَنواع: ظلم فى حق النفس باتباعها شهواتها وإيثارها لها على طاعة ربها وظلم فى حق الخلق بالعدوان عليهم ومنعهم حقوقهم، وظلم فى حق الرب بالشرك به، فظلم النفس إِنما هو بالمعاصى وقد تواترت النصوص بأَن العصاة من الموحدين مآلهم إلى الجنة. وقالت طائفة: بل الوعد بالجنات إِنما هو للمقتصد والسابق دون الظالم لنفسه، فإِن الظالم لنفسه لا يدخل تحت الوعد المطلق والظالم لنفسه هنا هو الكافر، والمقتصد المؤمن العاصى والسابق المؤمن التقى. وهذا يروى عن عكرمة والحسن وقتادة، وهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 اختيار جماعة من المفسرين منهم صاحب الكشاف ومنذر ابن سعيد فى تفسيره والرمانى وغيرهم، قالوا: وهذه الآية متناولة لجميع أقسام الخلق شقيهم وسعيدهم، وهى نظير آية [قوله تعالي] : {وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاثَةً فأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ ما أَصْحَابُ المَشأَمَة وَالْسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الواقعة: 7- 10] ، قالوا: فأصحاب الميمنة هم المقتصدون وأصحاب المشأمة [هم] الظالمون لأنفسهم، والسابقون السابقون هم السابقون بالخيرات. قالوا: ولم [يصطفى] الله من خلقه ظالماً لنفسه، بل المصطفون من عباده هم صفوته وخيارهم والظالمون لأنفسهم ليسوا خيار العباد بل شرارهم، فكيف يوقع عليهم [اسم المصطفين وتناولهم فعل الأصطفاء؟ قالوا: فأيضاً صفوة الله هم أحباؤه والله لا يحب الظالمين فلا يكونون مصطفين قالوا: ولن الظالم لنفسه وإن كان] ممن أورث الكتاب، فهو بتركه العمل بما فيه قد ظلم نفسه والله [تعالي] إِنما اصطفى من عباده من أورثة كتابه ليعمل بما فيه فأما من نبذه وراء ظهوره فليس من المصطفين من عباده قالوا: ولأن الاصطفاء افتعال من صفوة الشيء وهو خلاصته ولبه، وأصله اصتفى فأُبدلت التاءُ طاءً لوقوعها بعد الصاد كالاصطباح والاصطلام ونحوه، والظالم لنفسه ليس صفوة العباد ولا خلاصتهم ولا لبهم فلا يكون مصطفى، قالوا: ولأن الله سلَّم على المصطفين من عباده فقال: {قُلِ الْحَمْدُ للهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِين اصطفى} [النمل: 59] ، وهذا يقتضى سلامتهم من كل شر وكل عذاب، والظالم لنفسه غير سالم من هذا ولا هذا فكيف يكون من المصطفين؟ قالوا: وأيضاً فطريقة القرآن أن الوعد المطلق بالثواب إِنما يكون للمتقين لا للظالمين كقوله تعالى: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِى نُورثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً} [مريم: 63] فأَين الظالم لنفسه هنا؟ وقوله تعالى: {أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِى وُعِدَ المُتَّقون} [الفرقان: 15] ، وقوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرةٍ مِن رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعدَّت لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 132] ، وقوله: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً وَكَأْساً دِهَاقاً لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا كِذَّاباً جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَاباً} [النبأ: 31- 36] ، [والقرآن] مملوءٌ من هذا، ولم يجيء [فيه موضع واحد بإطلاق الوعد بالثواب للظالم لنفسه أصلاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 قالوا: وأيضاً فلم يجيء] فى القرآن ذكر الظالم لنفسه إِلا فى معرض الوعيد لا الوعد، كقوله تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ولَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِين} [الزخرف: 74-76] ، وقوله: {فَقَالُوا رَبَّنَا بِاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعْلْنَاهُمْ أحَادِيثَ ومزقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} [سبأ: 99] ، وقوله: {وَمَا ظَلَمْناهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل: 118] [وقوله لا ينال عهدى الظالمين وقوله: أن الله لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون] قالوا: وأَيضاً فالظالم لنفسه هو الذى خفت موازينه ورجحت سيئاته، والقرآن كله يدل على خسارته وأَنه غير ناج كقوله تعالى: {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الّذِينَ خَسِرُوَاْ أَنْفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ} [الأعراف: 8-9] وقوله: {وأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} [القارعة: 8- 9] ، فكيف يذكر وعده بجناته وكرامته للظالمين أنفسهم الخفيفة موازينهم؟ قالوا: وأيضاً فقوله تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ} [يدخلونها] مرفوع لأنه بدل من قوله: {ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ وهو بدل نكرة من معرفة كقوله: {لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ} [العلق: 15- 16] ، وحسن وقوعه [مجيء النكرة موصوفة لتخصيصها بالوصف وقربها من المعرفة ومعلوم أن المبدل منه هو] "الفضل الكبير" مختص بالسابقين بالخيرات، والمعنى أن سبقهم بالخيرات بإذنه ذلك هو الفضل الكبير وهو جنات عدن يدخلونها، وجعل السبق بالخيرات نفس الجنات لأنه سببها وموجبها. قالوا: وأيضاً فإنه وصف حليتهم فيها بأنها أساور من ذهب ولؤلؤ، وهذه جنات السابقين لا جنات المقتصدين، فإن جنات الفردوس أربع كما ثبت فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: "جنتان من ذهب آنيتهما وحليتهما وما فيهما وجنتان من فضة آنيتهما وحليتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداءُ الكبرياءِ على وجهه فى جنة عدن". ومعلوم أن الجنتين الذهبيتين أَعلى وأَفضل من الفضيتين فإذا كانت الجنتان الذهبيتان للظالمين لأنفسهم، فمن يسكن الجنتين الفضتين؟ فعلم أن هذه الجنات المذكورة لا تتناول الظالمين لأنفسهم قالوا: وأيضاً فإن أقرب المذكورات إلى ضمير الداخلين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 هم السابقون بالخيرات فوجب اختصاصهم بالدخول إلى الجنات المذكورات. قالوا: وفى اختصاصهم- بعد ذكر الأقسام- بذكر ثوابهم والسكوت عن الآخرين ما هو معلوم من طريقة القرآن إذ يصرح بذكر ثواب الأبرار والمتقين والمخلصين [والمحسنين ومن رجحت حسناتهم ويذكر عقاب الكفار] والفجار والظالمين لأنفسهم ومن خفت موازينهم، ويسكت عن القسم الذى فيه شائبتان وله مادتان هذه طريقة القرآن كقوله تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ} [الانفطار: 13- 14] ، وقوله: {فأَمَّا مَن طَغَى وآثر الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمِ هِى الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِى الْمَأْوَى} [النازعات 37- 41] ، وهذا كثير فى القرآن قالوا: وفى السكوت عن شأْن صاحب الشائبتين تحذير عظيم وتخويف له بأَن أَمره مرجأٌ إلى الله وليس عله ضمان ولا له عنده وعد، وليحذر كل الحذر وليبادر بالتوبة، النصوح التى تلحقه فالمضمون لهم النجاة والفلاح. قالوا: وأيضاً فمن المحال أن يقع على أحد من المصطفين اسم الظلم مطلقاً، على الكافر، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِن قَبْل أن يَأْتِى يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:254] ، وقال [تعالى] : {وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِن وَلِى وَلا نَصِيرٍ} [الشورى: 8] مع قوله: {اللهُ وَلِى الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 257] والظالم لا ولى له [ولا] يكون من المؤمنين. قالوا: وأيضاً فمن تدبر الآيات وتأمل سياقها وجدها قد استوعبت جميع أقسام الخلق، ودلت على مراتبهم فى الجزاءِ، فذكر سبحانه أَن الناس نوعان: ظالم، ومحسن. ثم [قسم] المحسن إلى قسمين: مقتصد، وسابق، ثم ذكر جزاء المحسن، فلما فرغ منه ذكر جزاءَ الظالم فقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِى كُلَّ كَفُورٍ} [فاطر: 36] ، وقال [تعالى] : {وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّى إِلَهٌ مِن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِى الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 29] ، فذكر أنواع العباد وجزاءَهم قالوا: وأيضاً فهذه طريقة القرآن فى ذكر أصناف الخلق الثلاثة كما ذكرهم الله تعالى فى سورة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 الواقعة والمطففين وسورة الإنسان، فأما سورة الواقعة فذكرهم فى أولها وفى آخرها فقال فى أولها: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاثَةً فأَصْحَابُ المَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ المَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ المُقَرَّبُونَ فِى جَنَّاتِ النَّعِيم} [الواقعة: 7- 12] ، فأصحاب المشأَمة هم الظالمون. وأما أصحاب اليمين فقسمان: أبرار وهم أَصحاب الميمنة، وسابقون وهم المقربون، وفى آخرها: {فَأَمَّا إِن كَانَ مِنْ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَمَّا إِن كَانَ مِن المُكَذَّبِينَ الضَّالِّينَ فنُزُلٌ مِنْ حَمِيمِ وَتَصْلِيةُ جَحِيمٍ} [الواقعة: 88- 94] ، فذكر حالهم فى القيامة الكبرى فى أول السورة، ثم ذكر حالهم فى القيامة الصغرى فى البرزخ فى آخر السورة، ولهذا قدم قبله ذكر الموت ومفارقة الروح فقال: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُوم وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لا تُبْصِرُونَ فَلَوْلا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونها إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الواقعة: 83- 87] ثُمَ قال: {فأَمَّا إِن كَانَ مِن الْمُقَرَّبِين} [الواقعة: 88] إلى آخرها. وأما فى أولها فذكر أقسام الخلق عقب قوله: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجّاً وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً فَكَانَتْ هَبَاءً مُنبَثاً وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاثَةً} [الواقعة: 1- 7] ، وأما سورة الإنسان فقال [تعالى] : {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً} [الإنسان: 4] فهؤلاء الظالمون أصحاب المشأَمة قال: {إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبَون مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً} [الإنسان: 5] ، فهؤلاء المقتصدون أصحاب اليمين، ثم قال: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللهِ يُفْجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} [الإنسان:6] ، فهؤلاء المقربون السابقون، ولهذا خصهم بالإضافة إليه وأخبر أنهم يشربون بتلك العين صرفاً محضاً وأنها تمزج للأبرار مزجاً كما قال فى سورة المطففين فى شراب الأبرار: {وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين:27-28] وقال: يشرب "بها" المقربون، ولم يقل: "منها" إشعاراً بأَن شربهم بالعين نفسها خالصة لا بها وبغيرها فضمن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 "يشرب" معنى يروى، فعدَّى بالباءَ، وهذا ألطف مأْخذاً وأَحسن معنى من أن يجعل الباء بمعنى من، [ولكن] يضمن يشرب الفعل معنى فعل آخر، فيتعدى تعديته، وهذه طريقة الحذاق من النحاة وهى طريقة سيبويه وأئمة أصحابه، وقال فى الأبرار: {يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً} [الإنسان: 5] ، لأن شرب المقربين لما كان أكمل استعير له الباءُ الدالة على شرب الرى بالعين خالصة ودلالة القرآن أَلطف وأَبلغ من أن يحيط بها البَشر. وقال تعالى فى سورة المطففين: {كَلا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِى سِجِّينٍ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ كِتَابٌ مَرْقُومٌ} إلى قوله: {كَلا إِنَّهُمْ عَن رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الجَحِيمِ ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِى كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [المطففين: 7- 17] ، [فهؤلاء الظالمون أصحاب الشمال] ثم قال: {كَلا إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِى عِلِيِّينَ َمَا أَدرَاك مَا عِلِّيُّونَ} [المطففين: 18- 19] ، فهؤلاء الأبرارِ المقتصدون، وأَخبر أن المقربين يشهدون كتابهم- أى يكتب بحضرتهم ومشهدهم- لا يغيبون عنه، اعتناءً به وإظهاراً لكرامة صاحبه ومنزلته عند ربه. ثم ذكر سبحانه نعيم الأبرار ومجالستهم ونظرهم إلى ربهم وظهور نضرة النعيم فى وجوههم، ثم ذكر شرابهم فقال: {يُسْقَوْنَ مِن رَحِيقٍ مَخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 25- 26] ، ثم قال: {وَمِزَاجُهُ مِن تَسنيمٍ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين: 27- 28] ، [التسنيم] أعلى أشربه الجنة، فأخبر سبحانه أن مزاج شراب الأبرار من التسنيم، وأن المقربين يشربون منه بلا مزاج، ولهذا قال: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا المُقَرَّبون} [المطففين: 28] ، كما قال تعالى فى سورة الإنسان سواءً، قال ابن عباس وغيره: يشرب بها المقربون صرفاً، ويمزج لأصحاب اليمين مزجاً. وهذا لأن الجزاءَ وفاق العمل، فكما خلصت أعمال المقربين كلها لله خلص شرابهم، وكما مزج الأبرار الطاعات بالمباحات مزج لهم شرابهم، فمن أخلص أخلص شرابه ومن مزج مزج شرابه. يا لاهياً فى غمرة الجهل والهوي ... صريعاً على فرش الردى يتقلب تأمل- هداك الله- ما [ثم] وانتبه ... فهذا شراب القوم حقاً يركَّب وتركيبه فى هذه الدار إن تفت ... فليس له بعد المنية مطلب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 فيا عجباً من معرض عن حياته ... وعن حظه العالى ويلهو ويلعب ولو علم المحروم أى بضاعة ... أضاع لأمسى قلبه يتلهب فإن كان لا يدرى فتلك مصيبة ... وإن كان يدرى فالمصيبة أصعب بلي سوف يدرى حين ينكشف الغطا ... ويصبح مسلوباً ينوح ويندب ويعجب ممن باع شيئاً بدون ما ... يساوى بلا علم وأمرك أعجب لأنك قد بعت الحياة وطيبها ... بلذة حلم عن قليل [سيذهب] فهلا عكست الأمر إن كنت حازماً ... ولكن أضعت الحزم والحكم يغلب تصدُّ وتنأى عن حبيبك دائماً ... فأين عن الأحباب ويحك تذهب ستعلم يوم الحشر أى تجارة ... أضعت إذا تلك الموازين تنصب قالوا: فهكذا هذه الآيات التي في سورة الملائكة ذكر فيها الأقسام الثلاثة: الظالم لنفسه وهو من أصحاب الشمال، وذكر المقتصد وهو من أصحاب اليمين، وذكر السابقين وهم المقربون. قالوا: وليس في الآية ما يدل على اختصاص الكتاب بالقرآن والمصطفين بهذه الأمة، بل الكتاب اسم جنس للكتب التي أنزلها على رسله، فإنه أورثها المصطفين من عباده من كل أمة، والأنبياء هم الذين أورثوه أولا ثم أورثوه المصطفين من عباده من كل أمة، والأنبياء هم الذين أورثوه أولا ثم أورثوه المصطفين من أممهم بعدهم، قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرائيلَ الْكِتَاب هُدىً وَذِكْرَى لأُولِي الأَلْبَابِ} [غافر 54:53] ، فأخبر أنه إنما يكون هدى وذكرى لمن له لب عقل به الكتاب وعمل بما فيه، والعامل بما فيه هو الذي أورثه الله علمه. وتأمل قوله تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} [الشورى: 14] ، كيف حذف الفاعل هنا وبنى الفعل للمفعول لما كان في معرض الذم لهم ونفي العلم عنهم، ولما كان في سياق ذكر نعمه وآلائه ومنته عليهم قال: {وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرائيلَ الْكِتَابَ} ، ونظير هذه الآية: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر: 32] ، ومن ذلك قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} [الاعراف: 196] ، وأنه لما كان الكلام في سياق ذمهم على إتباعهم شهواتهم وإيثارهم العرض الفاني على حظهم من الآخرة وتماديهم في ذلك لم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 ينسب التوريث إليه، بل نسبه إلى المحل فقال: أورثوا الكتاب ولم يقل: أورثناهم الكتاب وقد ذكرت نظير هذا قوله: {أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ} أنه للمدح، وأورثوا الكتاب إما في سياق الذم، وإما منقسم في كتاب " التحفة المكية " الكلية. والمقصود أن الذين أورثهم الكتاب هم المصطفون من عباده أولا وآخرا قالوا: وقوله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} لا يرجع إلى المصطفين، بل إما أن يكون الكلام قد تم عند قوله: {مِنْ عِبَادِنَا} ثم استأنف جملة أخرى وذكر فيها أقسام العباد وأن منهم ظالم ومنهم مقتصد ومنهم سابق. ويكون الكلام جملتين مستقلتين: بين في إحداهما أنه أورث كتابه من اصطفاه من عباده، وبين في الأخرى أن من عباده ظالما ومقتصدا وسابقا، وإما أن يكون المعنى تقسيم المرسل إليهم بالنسبة إلى قبول الكتاب وأن منهم من لم يقبله وهو الظالم لنفسه، ومنهم من قبله مقتصدا فيه، ومنهم من قبله سابقا بالخيرات بإذن الله، قالوا: والذي يدل على هذا الوجه أنه سبحانه ذكر إرساله في كل أمة نذيرا ممن تقدم هذه الأمة فقال: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24] ، ثم ذكر أن رسلهم جاءتهم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المبين، الآيات الدالة على صدقهم وصحة رسالاتهم، والزبر: الكتاب، واحدها زبور بمعنى مزبور أي مكتوب، الكتاب المنير: من باب عطف الخاص على العام لتميزه عن المسمى العام بفضله وشرفه امتاز بها واختص بها عن غيره، وهو كعطف جبريل وميكائيل على الملائكة، وكعطف أولى العزم على النبيين من قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [الأحراب: 7] والكتاب المنير هاهنا: التوراة والإنجيل. ثم ذكر إهلاك المكذبين لكتابه ورسله فقال: {ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [فاطر: 26] ، ثم ذكر التالين لكتابه وهم المتبعون له العالمون بشرائعه: فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: 29-30] . ثم ذكر الكتاب الذي خص به خاتم أنبيائه ورسله محمد صلى الله عليه وسلم فقال: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِه ِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ} [فاطر: 31] . ثم ذكر سبحانه من أورثهم الكتاب بعد أولئك وأنه اصطفاهم لتوريث كتابه إذ رده المكذبون لو يقبلوا توريثه. قالوا: وأما قولكم: إن الاصطفاء افتعال من الصفوة وهي الخيار وهي إنما تكون في السعداء، فهذا بعينه حجة لنا في أن الظالم لنفسه ليس ممن اصطفاه الله من عباده وقد تقدم تقريره. قالوا: وأما الآثار التي رويتموها عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك فكلها ضعيفة الأسانيد ومنقطعة لا تثبت، كيف وهي معارضة بآثار مثلها أو أقوى منها، قال ابن مردويه في " تفسيره ": حدثنا الحسن بن عبد الله، حدثنا صالح بن أحمد، حدثنا أحمد بن محمد بن المعلي الآدمي، حدثنا حفص بن عمار، حدثنا مبارك ابن فضالة عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} [فاطر: 32] ، قال: الكافر، قالوا: وأما النصوص الدالة على أن أهل التوحيد يدخلون الجنة فصحيحة لا ننازعكم فيها، غير أنها مطلقة، ولكن لها شروط وموانع، كما أن النصوص الدالة على عذاب أهل الكبائر صحيحة متواترة، ولها شروط وموانع يتوقف لحوق الوعيد عليها، فكذلك نصوص الوعد يتوقف مقتضاها على شروطها وانتفاء موانعها. قالوا: وأما قولكم إن ظلم النفس إنما يراد به ظلمها بالذنوب والمعاصي دون الكفر فليس بصحيح، فقد ذكر في القرآن ما يدل على أن ظلم النفس يكون بالكفر والشرك، ولو لم يكن في هذا إلا قول موسى لقومه: {يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ} [البقرة: 54] ، وقوله عز وجل: {وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّق} [سبأ: 19] ونظائره كثيرة. قالت الطائفة الأولى: لو تدبرتم القرآن حق تدبره وأعطيتم الآيات حقها من الفهم وراعيتم وجوه الدلالة وسياق الكلام، لعلمتم أن الصواب معنا وأن (هذه الأقسام الثلاثة من الأقسام التي خلقت للجنة وهم درجات عند الله وأن) هذا التقسيم الذي دلت عليه أخص من التقسيم المذكور في سورة الواقعة والإنسان والمطففين، فإن ذلك تقسيم للناس إلى شقي وسعيد، وتقسيم السعداء إلى أبرار ومقربين، وتلك القسمة خالية عن ذكر العاصي الظالم لنفسه، وأما هذه الآيات ففيها تقسيم الأمة إلى محسن ومسيئ، فالمسيئ هو الظالم لنفسه، والمحسن نوعنان مقتصد وسابق بالخيرات، فإن الوجود شامل لهذا القسم، بل هو أغلب أقسام الأمة فكيف يخلو القرآن عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 ذكره وبيان حكمه، ثم لما استوفى أقسام الأمة ذكر الخارجين عنهم وهم الذين كفروا فعمت الآية أقسام الخلق كلهم، وعلى ما ذهبتم إليه تكون الآية قد أهملت ذكر القسم الأغلب الأكثر وكررت ذكر حكم الكافر أولا وآخرا. ولا ريب أن ما ذكرناه أولى لبيان هذا القسم وعموم الفائدة، وأيضا فإن قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر: 32] صريح في أن الذين أورثهم الكتاب هم المصطفون من عباده، وقوله عز وجل: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} [فاطر: 32] إما أن يرجع إلى الذين اصطفاهم، وإما أن يرجع إلى العباد، ورجوعه إلى الذين اصطفاهم لوجهين: أحدهما أن قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ} [فاطر: 32] ، إنما يرجع إلى المصطفين لا إلى العباد لأن سياق الآية والإتيان بالفاء والتقسيم المذكور كله يدل على أن المراد بيان أقسام الوارثين للكتاب لا بيان أقسام العبد، إذ لو أراد ذلك لأتى بلفظ يزيل الوهم ولا يلتبس به المراد بغيره، وكأن وجه الكلام الذي يدل عليه ظاهره. الثاني: أنك إذا قلت: أعطيت مالي البالغين من أولادي فمنهم تاجر ومنهم خازن ومنهم مبذر ومسرف، هل يفهم من هذا أحد قط أن هذا التقسيم لجملة أولاده، بل لا يفهم منه إلا أن أولاده كانوا في أخذهم المال أقساما ثلاثة، ولهذا أتي فيها بالفاء الدالة على تفصيل ما أجمله أولا كما إذا قلت: خذ هذا المال فأعط فلانا كذا وأعط (فلانا) كذا، ونظائره متعددة، ولا وجه للإتيان بالفاء هاهنا إلا تفصيل المذكور أولا، لا تفصيل المسكوت عنه والآية قد سكتت عن تفصيل العباد الذين اصطفى منهم من أورثه الكتاب، فالتفصيل للمذكور ليس إلا، فتأمله فإنه واضح. قالوا: وأما قولكم إن الله لا يصطفي من عباده ظالما لنفسه لأن الاصطفاء هو الاختيار من الشئ صفوته وخياره إلى آخر ما ذكرتم فجوابه أن كون العبد المصطفى لله ووليا لله ومحبوبا لله ونحو ذلك من الأسماء الدالة على شرف منزلة العبد وتقريب الله له لا ينافي ظلم العبد نفسه أحيانا بالذنوب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 والمعاصي بل أبلغ من ذلك أن صديقيته لا تنافي ظلمه لنفسه، ولهذا قال صديق الأمة وخيارها للنبي صلى الله عليه وسلم: علمني دعاء أدعو به في صلاتي، فقال: "قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم". وقد قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 133-135] . فأخبر سبحانه عن صفات المتقين وأنهم يقع منهم ظلم النفس والفاحشة لكن لا يصرون على ذلك، وقال تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الزمر: 33-35] فهؤلاء الصديقون المتقون قد أخبر سبحانه أن لهم أعمالا سيئة يكفرها، ولا ريب أنها ظلم للنفس وقال موسى: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [القصص: 16] ، وقال آدم عليه السلام: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23] ، وقال يونس عليه السلام: {لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87] ، وقال تعالى: {إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النمل: 11] . وإذا كان ظلم النفس لا ينافي الصديقية والولاية، ولا يخرج العبد عن كونه من المتقين، بل يجتمع فيه الأمران يكون وليا لله صديقا متقيا وهو مسيئ ظالم لنفسه، علم أن ظلمه لنفسه لا يخرجه عن كونه من الذين اصطفاهم الله من عباده وأورثهم كتابه، إذ هو مصطفى من جهة كونه من ورثة الكتاب علما وعملا، ظالم لنفسه من جهة تفريطه في بعض ما أمر به وتعديه بعض ما نهي عنه، كما يكون الرجل وليا لله محبوبا له من جهة ومبغوضا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 له من جهة أخرى، وهذا عبد الله حمار كان يكثر شرب الخمر والله يبغضه من هذه الجهة، ويحب الله ورسوله ويحبه الله ويواليه من هذه الجهة، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لعنه وقال: إنه يحب الله ورسوله ونكتة المسألة أن الاصطفاء والولاية والصديقية وكون الرجل من الأبرار ومن المتقين ونحو ذلك كلها مراتب تقبل التجزيء والانقسام والكمال والنقصان كما هو ثابت باتفاق المسلمين في أصل الإيمان، وعلى هذا فيكون هذا القسم مصطفى من وجه ظالما لنفسه من وجه آخر. وظلم النفس نوعان: نوع لا يبقى معه شيء من الإيمان والولاية والصديقية والاصطفاء وهو ظلمها بالشرك والكفر، ونوع يبقى معه حظه من الإيمان والاصطفاء والولاية وهو ظلمها بالمعاصي، وهو درجات متفاوتة في القدر والوصف. فهذا التفصيل يكشف قناع المسألة ويزيل أشكالها بحمد الله. قالوا: وأما قولكم: إن قوله تعالى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ} مرفوع لأنه بدل من قوله: {ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر: 32] [الشورى: 22] وهو مختص بالسابقين، وذكر حليتهم فيها من أساور من ذهب يدل على ذلك إلخ. فجوابه من وجهين: أحدهما أن هذا بعينه وارد عليكم، فإن المقتصد من أهل الجنات، ومعلوم أن جنات السابقين بالخيرات أعلى وأفضل من جناته، فما كان جوابكم عن المقتصد فهو الجواب بعينه عن الظالم لنفسه، فإن التفاوت حاصل بين جنات الأصناف الثلاثة، ويختص كل صنف بما يليق بهم ويقتضيه مقامهم وعملهم. الجواب الثاني: أنه سبحانه ذكر جزاء السابقين بالخيرات هنا مشوقا لعباده إليه منبها لهم على مقداره وشرفه، وسكت عن جزاء الظالمين لأنفسهم والمقتصدين ليحذر الظالمون ويجد المقتصدون، وذكر في سورة الإنسان جزاء الأبرار منبها على ما هو أعلى وأجل منه وهو جزاء المقربين السابقين ليدل على أن هذا إذا كان جزاء الأبرار المقتصدين فما الظن بجزاء المقربين السابقين فقال تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً} إلى قوله: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ} إلى قوله: {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً} [الإنسان: 5-21] ، فذكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 هنا الأساور من الفضة والأكواب من الفضة في جزاء الأبرار، وذكر في سورة الملائكة الأساور من الذهب في جزاء السابقين بالخيرات، فعلم جزاء المقتصدين من سورة الإنسان، وعلم جزاء السابقين من سورة الملائكة، فانتظمت السورتان جزاء المقربين على أتم الوجوه، والله أعلم بأسرار كلامه وحكمه. قالوا: وهذا هو الجواب عن قولكم: إن الضمير يختص به أقرب مذكور إليه. قالوا: وأما قولكم إن الظالم لنفسه إنما هو الكافر فقد تقدم جوابه وذكر ما يبطله. قالوا: وأما قولكم: إن هذا الآيات نظير آيات الواقعة وسورة الإنسان وسورة المطففين في تقسيم الناس إلى ثلاثة أقسام: أصحاب الشمال، وأصحاب اليمين، والمقربون. فلا ريب أن هذه الآية وافية بالأقسام الثلاثة مع مزيد تقسيم آخر وهو تقسيم أصحاب اليمين إلى ظالم لنفسه ومقتصد فهي مشتملة على تلك الأقسام وزيادة. قالوا: وأما قولكم: إن الآثار الدالة على أن الأصناف الثلاثة هم السعداء أهل الجنة ضعيفة لا تقوم بها حجة فجوابه: إنها قد بلغت في الكثرة إلى حد يشد بعضها بعضا ويشهد بعضها لبعض، ونحن نسوق م نها آثارا غير ما ذكرناه يعلم به كثرتها وتعدد طرقها، فروى ابن مردويه في تفسيره من حديث سفيان عن الأعمش عن رجل عن أبي ثابت أن رجلا دخل المسجد فقال: اللهم ارحم غربتي وآنس وحشتي وسق لي جليسا صالحا. فقال أبو الدرداء: إن كنت صادقا لأنا أسعد بذلك منك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر: 32] ، مقال: أما السابق بالخيرات فيدخله الجنة بغير حساب، وأما المقتصد فيحاسب حسابا يسيرا وأما الظالم لنفسه فيحبس في المقام حتى يدخله الهم والحزن ثم يدخل الجنة ثم قرأ هذه الآية: {الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور} [فاطر: 34] . وقد ذكرنا فيما تقدم حديث أبي ليلى عن أخيه عيسى عن أبيه عن أسامة بن زيد في قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم "كلهم من هذه الأمة". وروى ابن مردويه أيضا من حديث الفضل بن عميرة القيسي عن ميمون بن سياه عن أبي عثمان النهدي قال: سمعت عمر بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 الخطاب يقول على المنبر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سابقنا سابق ومقتصدنا ناج، وظالمنا مغفور له"، وقرأ عمر: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} . وروى أيضا من حديث أبي داود عن شعبة عن الوليد بن العيراز قال: سمعت رجلا من ثقيف يحدث عن رجل من كنانة عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في هذه الآية: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} ، قال "كلهم في الجنة"، أو قال: "كلهم بمنزلة واحدة". قال شعبة: أحدهما، ورواه دواد بن إبراهيم عن شعبة به وقالوا: دخلوا الجنة كلهم بمنزلة واحدة. فهذا حديث صحيح إلى شعبة وإذا كان شعبة في حديث لم يطرح، بل شد يديك به. ورواه يحيى بن سعيد عن الوليد بن العيزار فذكره بمثله، وروى محمد بن سعد عن أبيه عن عمه: حدثنا أبي عن أبيه عن ابن عباس في قوله عز وجل: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} الآية، قال: جعل الله أهل الإيمان على ثلاث منازل كقوله: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ} {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ} ، {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} فهم على هذا المثال. قلت: يريد ابن عباس أن الله قسم أصحاب اليمين إلى ثلاث منازل كما قسم الخلق في الواقعة إلى ثلاث منازل، فإن أصحاب الشمال المذكورين في الواقعة هم الكفار المنكرون للبعث، فكيف تكون هذه منزلة من منازل أهل الإيمان؟ ويجوز أن يريد أن الظالمين لأنفسهم المستحقين للعذاب هم من أهل الشمال، ولكن إيمانهم يجعلهم آخرا من أهل اليمين. وروي من حديث معاوية بن صالح عن علي بن أبي (طلحة) عن ابن عباس في هذه الآية فقال: هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم ورثهم الله (سبحانه) كل كتاب أنزله، فظالمهم يغفر له، ومقتصدهم يحاسب حسابا يسيرا، وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب. وروي من حديث عثمان بن أبي شيبة حدثنا الحسن بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، حدثنا عمران بن محمد بن أبي ليلى، حدثنا أبي عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن البراء بن عازب- أو عن رجل عن البراء بن عازب- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} ، قال: "كلهم ناج وهي هذه الأمة". ورواه الفريابي حدثنا سفيان عن أبي ليلى عن الحكم عن رجل حدثه عن البراء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 في هذه الآية: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} الآية، قال "كل ناج". وقال آدم بن أي إياس: حدثنا أبو فضالة عن الأزهري عبد الله الخزاز، حدثنا من سمع عثمان بن عفان يقول: ألا إن سابقنا أهل جهادنا، ألا وإن مقتصدنا أهل حضرنا ألا وإن ظالمنا أهل بدونا، وقد تقدم حديث عائشة وأبي الدرداء وحذيفة. قالوا: فهذه الآثار يشد بعضها بعضا، وأنها قد تعددت طرقها واختلفت مخارجها وسياق الآية يشهد لها بالصحة فلا يعدل عنها. والمقصود الكلام على مراحل العالمين وكيفية قطعهم إياها، فلنرجع إليه فنقول: أما الأشقياء فقطعوا تلك المراحل سائرين إلى دار الشقاء متزودين غضب الرب سبحانه ومعاداة كتبه ورسله ما بعثوا به، ومعاداة أوليائه والصد عن سبيله، ومحاربة من يدعو إلى دينه، ومقاتلة الذين يأمرون بالقسط من الناس، وإقامة دعوة غير دعوة الله التي بعث بها رسله لتكون الدعوة له واحدة، فقطع هؤلاء الأشقياء مراحل أعمارهم في ضد ما يحبه الله ويرضاه، وأما السائرون إليه فظالمهم قطع مراحل عمره في غفلاته وإيثار شهواته ولذاته على مراضي الرب سبحانه وأوامره مع إيمانه بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر، لكن نفسه مغلوبة معه مأسورة مع حظه وهواه، يعلم سوء حاله ويعترف بتفريطه ويعزم على الرجوع إلى الله، فهذا حال المسلم. وأما من زين له سوء عمله فرآه حسنا وهو غير معترف ولا مقر ولا عازم على الرجوع إلى الله الإنابة إليه أصلا، فهذا لا يكاد إسلامه أن يكون صحيحا أبدا ولا يكون هذا إلا منسلخ القلب من الإيمان، ونعوذ بالله من الخذلان. وأما الأبرار المقتصدون فقطعوا مراحل سفرهم بالاهتمام بإقامة أمر الله وعقد القلب على ترك مخالفته ومعاصيه فهممهم مصروفة إلى القيام بالأعمال الصالحة واجتناب الأعمال القبيحة، فأول ما يستيقظ أحدهم من منامه يسبق إلى قلبه القيام إلى الوضوء والصلاة كما أمر الله، فإذا أدى فرض وقته اشتغل بالتلاة والأذكار إلى حين تطلع الشمس فيركع الضحى، ثم ذهب إلى ما أقامه الله فيه من الأسباب، فإذا حضر فرض الظهر بادر إلى التطهر والسعي إلى الصف الأول من المسجد فأدى فريضته كما كما أمر مكملا لها بشرائطها وأركانها وسننها وحقائقها الباطنة من الخشوع والمراقبة والحضور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 بين يدي الرب فينصرف من الصلاة وقد أثرت في قلبه وبدنه وسائر أحواله آثارا تبدو على صفحاته ولسانه وجوارحه، ويجد ثمرتها في قلبه من الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور وقلة التكالب والحرص على الدنيا وعاجلها، قد نهته صلاته عن الفحشاء والمنكر، وحببت إليه لقاء الله ونفرته من كل قاطع يقطعه عن الله، فهو مغموم مهموم كأنه في سجن حتى تحضر الصلاة، فإذا حضرت قام إلى نعيمه وسروره وقرة عينه وحياة قلبه، فهو لا تطيب له الحياة إلا بالصلاة. هذا وهم في ذلك كله مراعون لحفظ السنن لا يخلون منها بشيء ما أمكنهم، فيقصدون من الوضوء أكمله، ومن الوقت أوله، ومن الصفوف أولها عن يمين الإمام أو خلف ظهره، ويأتون بعد الفريضة بالأذكار المشروعة كالاستغفار ثلاثا. وقول: "اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام". وقول: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد"، "لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون". ثم يسبحون ويحمدون ويكبرون تسعها وتسعين، ويختمون المائة بلا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. ومن أراد المزيد قرأ آية الكرسي والمعوذتين عقيب كل صلاة، فإن فيها أحاديث رواها النسائي وغيره، ثم يركعون السنة على أحسن الوجوه هذا دأبهم في كل فريضة. فإذا كان قبل غروب الشمس توافروا على أذكار المساء الواردة في السنة نظير أذكار الصباح الواردة في أول النهار لا يخلون بها بأبدا، فإذا جاء الليل كانوا فيه على منازلهم من مواهب الرب سبحانه التي قسمها بين عباده، فإذا أخذوا مضاجعهم أتوا بأذكار النوم والواردة في السنة، وهي كثيرة تبلغ نحوا من أربعين، فيأتون منها بما علموه وما يقدرون عليه من قراءة سورة الإخلاص والمعوذتين ثلاثا ثم يمسحون بها رؤوسهم ووجوههم وأجسادهم ثلاثا، ويقرؤون آية الكرسي وخواتيم سورة البقرة، ويسبحون ثلاثا وثلاثين ويحمدون ثلاثا وثلاثين ويكبرون أربعا وثلاثين، ثم يقول أحدهم: "اللهم إني أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، ونبيك الذي أرسلت "، وإن شاء قال: "باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، فإن أمسكت نفسي فاغفر لها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين"، وإن شاء قال: "اللهم رب السموات السبع ورب العرش العظيم، ربي ورب كل شيء فالق الحب والنوى، منزل التوراة والإنجيل والفرقان، أعوذ بك من شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عني الدين واغنني من الفقر". وبالجملة فلا يزال يذكر الله على فراشه حتى يغلبه النوم وهو يذكر الله، فهذا منامه عبادة وزيادة له في قربة من الله، فإذا استيقظ عاد إلى عادته الأولى، ومع هذا فهو قائم بحقوق العباد من عيادة المرضى وتشييع الجنائز وإجابة الدعوة والمعاونة لهم بالجاه والبدن والنفس والمال وزيارتهم وتفقدهم، وقائم بحقوق أهله وعياله، فهو متنقل في منازل العبودية كيف نقله فيها الأمر، فإذا وقع منه تفريط في حق من حقوق الله بادر إلى الإعتذار والتوبة والاستغفار، ومحوه ومداواته بعمل صالح يزيل أثره فهذا وظيفته دائما. وأما السابقون المقربون: فنستغفر الله الذين لا إله غلا هو أولا من وصف حالهم وعدم التصاف به، بل ما شممنا له رائحة. ولكن محبة القوم تحمل على تعرف منزلتهم والعلم بها، وإن كانت النفوس متخلفة منقطعة عن اللحاق بهم، ففي معرفة حال القوم فوائد عديدة: (فوائد معرفة حال السابقين المقربين) : منها: أن لا يزال المتخلف المسكين مزريا على نفسه ذاما لها. ومنها: أنه لا يزال منكسر القلب بين يدي ربه تعالى ذليلا له حقيرا يشهد منازل السابقين وهو في زمرة المنقطعين، ويشهد بضائع التجار وهو في رفقة المحرومين. ومنها: أنه عساه أن تنهض همته يوما إلى التشبث والتعلق بساقة القوم ولو من بعيد. ومنها: أنه لعله أن يصدق في الرغبة واللجأ إلى من بيده الخير كله أن يلحقه بالقوم ويهيئه لأعمالهم فيصادف ساعة إجابة لا يسأل الله عز وجل فيها شيئا إلا أعطاه. ومنها: أن هذا العلم هو من أشرف علوم العبادة، وليس بعد علم التوحيد أشرف منه، وهو لا يناسب إلا النفوس الشريفة، ولا يناسب النفوس الدنيئة المهينة، فإذا رأى نفسه تناسب هذا العلم وتشتاق إليه وتحبه وتأنس بأقله فليبشر بالخير فقد أهل له، فليقل لنفسه: يا نفس، فقد حصل لك شطر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 .. ... السعادة فاحرصي على الشطر الآخر، فإن السعادة في العلم بهذا الشأن والعمل به، فقد قطعت نصف المسافة فهلا تقطعين باقيا فتفوزين فوزا عظيما. ومنها: أن العلم بكل حال خير من الجهل، فإذا كان اثنان أحدهما عالم بهذا الشأن غير موصوف به ولا قائم به، وآخر جاهل به غير متصف به فهو خلو من الأمرين، فلا ريب أن العالم به خير من الجاهل، وإن كان العالم المتصف به خيرا منهما فينبغي أن يعطي كل ذي حق حقه وينزل في مرتبته. ومنها: أنه إذا كان العلم بهذا الشأن همه ومطلوبه فلا بد أن ينال منه بحسب استعداده ولو لحظة لو بارقة، ولو أنه يحدث نفسه بالنهضة إليه. ومنها: أنه لعله يجري منه على لسانه ما ينتفع به غيره بقصده أو بغير قصده، والله لا يضيع مثقال ذرة فعسى أن يرحم بذلك العامل. وبالجملة ففوائد العلم بهذا الشأن لا تنحصر فلا ينبغي أن تصغي إلى من يثبطك عنه وتقول: إنه لا ينفع بل احذره واستعن بالله ولا تعجز ولكن لا تغتر، وفرق بين العلم والحال، وإياك أن تظن أن بمجرد علم هذا الشأن قد صرت من أهله، هيهات ما أظهر الفرق بين العلم بوجوه الغنى وهو فقير وبين الغني بالفعل، وبين العالم بأسباب الصحة وحدودها وهو سقيم وبين الصحيح بالفعل. فاسمع الآن وصف القوم وأحضر ذهنك لشأنهم العجيب وخطرهم الجليل، فإن وجدت من نفسك حركة وهمة إلى التشبه بهم فاحمد الله وادخل فالطريق واضح والباب مفتوح: إذا أعجبتك خصال امريء ... فكنه تكن مثل ما يعجبك فليس على الجود والمكر ما ... ت إذا جئتها حاجب يحجبك فنبأ القوم عجيب، وأمرهم خفي إلا على من له مشاركة مع القوم، فإنه يطلع من حالهم على ما يريه إياه القدر المشترك. وجلمة أمرهم: أنهم قوم قد امتلأت قلوبهم من معرفة الله، وغمرت بمحبته وخشيته وإجلاله ومراقبته، فسرت المحبة في أجزائهم فلم يبق فيها عرق ولا مفصل إلا وقد دخله الحب. قد أنساهم حبه ذكر غيره، وأوحشهم أنسهم به ممن سواه. وقد فنوا بحبه عن حب من سواه، وبذكره عن ذكر من سواه وبخوفه ورجائه والرغبة إليه والرهبة منه والتوكل عليه والإنابة إليه والسكون إليه والتذلل والانكسار بين يديه عن تعلق ذلك منهم بغيره. فإذا وضع أحدهم جنبه على مضجعه صعدت أنفاسه إلى إِلهه ومولاه واجتمع همه عليه متذكراً صفاته العلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 وأسماءَه الحسنى مشاهداً له فى أسمائه وصفاته، قد تجلت على قلبه أنوارها فانصبغ قلبه بمعرفته ومحبته، فبات جسمه فى فراشه يتجافى عن مضجعه، وقلبه قد أَوى إلى مولاه وحبيبه فآواه إليه، وأسجده بين يديه خاضعاً خاشعاً ذليلاً منكسراً من كل جهة من جهاته. فيا لها سجدة ما أشرفها من سجدة، لا يرفع رأْسه منها إلى يوم اللقاءِ. وقيل لبعض العارفين: أيسجد القلب بين يدى ربه؟ قال: أى والله، بسجدة لا يرفع رأْسه منها إلى يوم القيامة. فشتان بين قلب يبيت عنه ربه قد قطع فى سفره إليه بيداءَ الأَكوان وخرق حجب الطبيعة، ولم يقف عند رسم، ولا سكن إلى علم حتى دخل على ربه فى داره فشاهد عز سلطانه وعظمة جلاله وعلو شأْنه وبهاءَ كماله، وهو مستو على عرشه يدبر أمر عباده وتصعد إليه شؤون العباد وتعرض عليه حوائجهم وأعمالهم، فيأْمر فيها بما يشاءُ، فينزل الأمر من عنده نافداً [كما أمر] ، فيشاهد الملك الحق قيوماً بنفسه مَقِّيمَاً لكل ما سواه غنياً عن كل من سواه وكل من سواه فقير إِليه: {يَسْأَلُهُ مَن فِى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ} [الرحمن:29] ، يغفر ذنباً ويفرج كرباً ويفك عانياً وينصر ضعيفاً ويجبر كسيراً ويغنى فقيراً ويميت ويحيى ويسعد ويشقى ويضل ويهدى وينعم على قوم ويسلب نعمته عن آخرين ويعز أَقواماً ويذل آخرين ويرفع أَقواماً ويضع آخرين. ويشهده كما أَخبر عنه أعلم الخلق به وأصدقهم فى خبره حيث يقول فى الحديث الصحيح: "يمين الله ملأَى لا يغيضها نفقة، سحاءَ الليل والنهار، أَرأَيتم ما أنفق منذ خلق الخلق فإِنه لم يغض ما فى يمينه، وبيده الأُخرى الميزان يخفض ويرفع"، فيشاهده كذلك يقسم الأرزاق ويجزل العطايا ويمن بفضله على من يشاءُ من عباده بيمينه، وباليد الأُخرى الميزان يخفض به من يشاء ويرفع به من يشاءُ عدلاً منه وحكمة لا إله إلا هو العزيز الحكيم، فيشهده وحده القيوم بأمر السموات والأرض ومن فيهن، ليس له بواب فيستأْذن ولا حاجب فيدخل عليه، ولا وزير فيؤتى ولا ظهير فيستعان به ولا ولى من دونه فيشفع به إليه، ولا نائب عنه فيعرفه حوائج عباده، ولا معين له فيعاونه على قضائها، [بل قد] أحاط سبحانه بها علماً ووسعها قدرة ورحمة، فلا تزيده كثرة الحاجات إلا جوداً وكرماً، ولا يشغله منها شأْن عن شأْن، ولا تغلطه كثرة المسائل، ولا يتبرم بإلحاح الملحين. لو اجتمع أول خلقه وآخرهم وإنسهم وجنهم وقاموا فى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 صعيد واحد ثم سأَلوه فأعطى كلا منهم مسأَلته ما نقص ذلك مما عنده ذرة واحدة إلا كما ينقص المخيط البحر إذا غمس فيه. ولو أن أولهم وآخرهم وإنسهم وجنهم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منهم ما زاد ذلك فى ملكه شيئاً ذلك بأنه الغنى الجواد الماجد، فعطاؤه [من] كلام وعذابه كلام: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرادَ شَيئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس:82] . ويشهده كما أخبر عنه أيضاً الصادق المصدوق حيث يقول: "إِنَّ اللهَ لا يَنَامُ وَلا يَنْبَغِى لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَملُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَار وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سَبَحاتُ وَجْهِهِ ما أَدْرَكَهُ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ". وبالجملة فيشهده فى كلامه فقد تجلى سبحانه وتعالى لعباده فى كلامه وتراءَى لهم فيه وتعرف إليهم فيه، فبعداً وتباً للجاحدين والظالمين: {أَفِى اللهِ شَك فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [إبراهيم: 10] إلا إِله إلا هو الرحمن الرحيم. فإذا صارت صفات ربه وأسماؤه مشهداً لقلبه أنسته ذكر غيره وشغلته عن حب من سواه، وحديث: دواعى قلبه إلى حبه تعالى بكل جزءٍ من أجزاء قلبه وروحه وجسمه، فحينئذ يكون الرب سبحانه سمعه الذى يسمع به، وبصره الذى يبصر به ويده التى يبطش بها، ورجله التى يمشى بها. فبه يسمع وبه يبصر، وبه يبطش، وبه يمشى. كما أخبر عن نفسه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم: "ومن غلظ حجابه وكثف طبعه وصلب عوده فهو عن فهم هذا بمعزل، بل لعله أن يفهم منه ما لا يليق به تعالى من حلول أو اتحاد، أَو يفهم منه غير المراد منه فيحرف معناه، ولفظه: {وَمَن لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} [النور: 40] . وقد ذكرت معنى الحديث والرد على من حرفه وغلط فيه فى كتاب "التحفة المكية". وبالجملة فيبقى قلب العبد- الذى هذا شأْنه- عرشاً للمثل الأعلى أى عرشاً لمعرفة محبوبه ومحبته وعظمته وجلاله وكبريائه، وناهيك بقلب هذا شأْنه فياله من قلب من ربه ما أَدناه ومن قربه ما أحظاه، فهو ينزه قلبه أن يساكن سواه أو يطمئن بغيره، فهؤلاءِ قلوبهم قد قطعت الأكوان وسجدت تحت العرش وأبدانهم فى فرشهم كما قال أبو الدرداءِ: إذا نام العبد المؤمن عرج بروحه حتى تسجد تحت العرش، فإن كان طاهراً أذن لها فى السجود، وإن كان جنباً لم يؤذن لها بالسجود وهذا والله أعلم هو السر الذى لأجله "أمر النبى صلى الله عليه وسلم الجنب إذا أراد النوم أن يتوضأ"، وهو إما واجب على أحد القولين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 أو مؤكد الاستحباب على القول الآخر، فإن الوضوءَ يخفف حدث الجنابة ويجعله طاهراً من بعض الوجوه. ولهذا روى الإمام أحمد وسعيد بن منصور وغيرهما عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنهم إذا كان أحدهم جنباً ثم أراد أن يجلس فى المسجد توضأ ثم جلس فيه، وهذا مذهب الإمام أحمد وغيره، مع أن المساجد لا تحل لجنب، [فدل] على أن وضؤه رفع حكم الجنابة المطلقة الكاملة التى تمنع الجنب من الجلوس فى بيت الله وتمنع الروح من السجود بين يدى الله سبحانه. فتأمل هذه المسألة وفقهها واعرف مقدار فقه الصحابة وعمق علومهم، فهل ترى أحداً من المتأخرين وصل إلى مبلغ هذا الفقه الذى خص الله به خيار عباده وهم أصحاب نبيه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاءُ والله ذو الفضل العظيم. فإذا استيقظ هذا القلب من منامه صعد إلى الله بهمه وحبه وأشواقه مشتاقاً إليه طالباً له محتاجاً [له] عاكفاً عليه، فحاله كحال المحب الذى غاب عن محبوبه الذى لا غنى له عنه ولا بد له منه، وضرورته إليه أعظم من ضرورته إلى النفس والطعام والشراب، فإذا نام غاب عنه فإذا استيقظ عاد إلى الحنين إليه، وإلى الشوق الشديد [والحب] المقلق فحبيبه آخر خطراته عند منامه وأولها عند استيقاظه كما قال بعض المحبين لمحبوبه: وآخر شيء أنت فى كل هجعة ... وأول شيء أنت عند هبوبي فقد أفصح هذا المحب عن حقيقة المحبة وشروطها، فإذا كان هذا فى محبة مخلوق لمخلوق فما الظن فى محبة المحبوب الأعلى، فأُف لقلب لا يصلح لهذا ولا يصدق به، لقد صرف عنه خير الدنيا والآخرة. فصل فإذا استيقظ أحدهم [وقد بدر] إلى قلبه هذا الشأْن فأَول ما يجرى على لسانه ذكر محبوبه والتوجه إِليه واستعطافه والتملق بين يديه والاستعانة به أَن لا يخلى بينه وبين نفسه وأَن لا يكله إليها فيكله إلى ضعة وعجز وذنب وخطيئة بل يكلأه كلاءَة الوليد الذى لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، فأَول ما يبدأُ به الحمد لله الذى أحيانا بعد ما أَماتنا وإليه النشور، متدبراً لمعناها من ذكر نعمة الله عليه بأَن أحياه بعد نومه الذى هو أخو الموت وأعاده إلى حاله سوياً سليماً محفوظاً مما لا يعلمه ولا يخطر بباله من المؤذيات [المهلكات] والتى هو غرض وهدف لسهامها كلها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 تقصده بالهلاك أو الأذى والتى من بعضها [أرواح] شياطين الإنس والجن، فإِنها تلتقى بروحه إذا نام فتقصد إهلاكه وأذاه، فلولا أَن الله سبحانه يدفع عنه لما سلم. هذا [وكم تتلقى] الروح فى تلك الغيبة من أَنواع الأَذى والمخاوف والمكاره والتفزيعات ومحاربة الأعداءِ والتشويش والتخبيط بسبب ملابستها لتلك الأَرواح، فمن الناس من يشعر [بذلك لرقة روحه ولطافتها ويجد آثار ذلك فيها] إذا استيقظ من الوحشة والخوف والفزع والوجع الروحى الذى ربما غلب حتى سرى إلى البدن، ومن الناس من تكون روحه أَغلظ وأكثف وأقسى من أن تشعر بذلك، فهى مثخنة بالجراح مزمنة بالأَمراض ولكن لنومها لا تحس بذلك. هذا، وكم من مريد لإهلاك جسمه من الهوام وغيرها، وقد حفظه منه فهى فى أحجارها محبوسة عنه لو خليت وطبعها لأهلكته، فمن ذا الذى كلأَه وحرسه وقد غاب عنه حسه وعلمه وسمعه وبصره، فلو جاءَه البلاءُ من أَى مكان جاءَ لم يشعر به، ولهذا ذكر سبحانه عباده هذه النعمة وعدها عليهم من جملة نعمه فقال: {مَن يَكْلأَكُمْ بِاللَّيْلِ وَالْنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء: 42] . فإذا تصور العبد ذلك فقال: "الْحَمْدُ للهِ" كان حمده أَبلغ وأَكمل من حمد الغافل عن ذلك، ثم تفكر فى أَن الذى أَعاده بعد هذه الإماتة حياً سليماً قادراً على أَن يعيده بعد موتته الكبرى حياً كما كان، ولهذا يقول بعدها: "وَإِلَيْهِ الْنُّشُورُ"، ثم يقول: "لا إِلَهَ إِلا الله وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَالْحَمْدُ للهِ وسُبْحَانَ الله وَلا إِلَهَ إِلا اللهُ وَاللهُ أَكْبَرُ وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللهِ" ثم يدعو ويتضرع، ثم يقوم إلى الوضوء بقلب حاضر مستصحب لما فيه، ثم يصلى ما كتب الله [له] صلاة محب ناصح لمحبوبه متذلل منكسر بين يديه، لا صلاة مدل بها عليه يرى من أَعظم نعم محبوبه عليه أَن أَقامه وأَنام غيره، واستزاره وطرد غيره، وأهله وحرم غيره، فهو يزداد بذلك محبة إلى محبته، ويرى أَن قرة عينه وحياة قلبه وجنة روحه ونعيمه ولذته وسروره فى تلك الصلاة، فهو يتمنى طول ليله ويهتم بطلوع الفجر كما يتمنى المحب الفائز بوصول محبوبه ذلك، فهو كما قيل: يود أن ظلام الليل دام له ... وزيد فيه سواد القلب والبصر فهو يتملق فيها مولاه تملق المحب لمحبوبه، العزيز الرحيم، ويناجيه بكلامه معطياً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 لكل آية حظها من العبودية، فتجذب قلبه وروحه إليه آيات المحبة والوداد، والآيات التى فيها الأَسماءُ والصفات، والآيات التى تعرف بها إلى عباده بآلائه وإنعامه عليهم وإِحسانه إِليهم، وتطيب له السير آيات الرجاءِ والرحمة وسعة البر والمغفرة، فتكون له بمنزلة الحادى الذى يطيب له السير ويهونه [عليه] ، وتقلقه آيات الخوف والعدل والانتقام وإِحلال غضبه بالمعرضين عنه العادلين به غيره المائلين إلى سواه، فيجمعه عليه ويمنعه أن يشرد قلبه عنه. فتأَمل هذه الثلاثة وتفقه فيها، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وبالجملة فيشاهد المتكلم سبحانه وقد تجلى فى كلامه ويعطى كل آية حظها من عبودية قلبه الخاصة الزائدة على نفس فهمها ومعرفة المراد منها، ثم شأْن آخر لو فطن له العبد لعلم أَنه كان قبل يلعب، كما قيل: وكنت أَرى أن قد تناهى بى الهوى ... إِلى غاية ما بعدها لى مذهب فلما تلاقينا وعاينت حسنها ... تيقنت أَنى إِنما كنت أَلعب فوا أَسفاه وواحسرتاه، كيف ينقضى الزمان وينفد العمر والقلب محجوب ما شم لهذا رائحة، وخرج من الدنيا كما دخل إِليها وما ذاق أَطيب ما فيها، بل عاش فيها عيش البهائم وانتقل منها انتقال المفاليس، فكانت حياته عجزاً وموته كمداً ومعاده حسرة وأسفاً. اللَّهم [ولك] الحمد وإليك المستشكى، وأنت المستعان وبك المستغاث، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بك. فصل فإِذا صلى ما كتب الله جلس مطرقاً بين يدى ربه [تعالى] هيبة له وإِجلالاً، واستغفره استغفار من قد تيقن أَنه هالك إن لم يغفر له ويرحمه. فإذا قضى من الاستغفار وطرا وكان عليه بعد ليل اضطجع على شقه الأَيمن مجماً نفسه مريحاً لها مقوياً على أَداءِ وظيفة الفرض، فيستقبله نشيطاً بجده وهمته كأنه لم يزل طول ليلته لم يعمل شيئاً، فهو يريد أَن يستدرك ما فاته فى صلاة الفجر، فيصلى السُّنَّة ويبتهل إلى الله بينها وبين الفريضة، فإِن لذلك الوقت شأْناً يعرفه من عرفه، ويكثر فيه من قول: "يَا حَى، يَا قَيُّوم، لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ" فلهذا الذكر فى هذا الموطن تأثير عجيب، ثم ينهض إلى صلاة الصبح قاصداً الصف الأول عن يمين الإِمام أو خلف قفاه، فإِن فاته ذلك قصد القرب منه مهما أمكن فإِن للقرب من الإِمام تأثيراً فى سر الصلاة، ولهذا القرب تأْثير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 فى صلاة الفجر خاصة يعرفه من عرف قوله تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْر إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْر كَانَ مَشْهُوداً} [الإسراء: 78] . قيل: يشهد الله عَزَّ وجَلَّ وملائكته، وقيل: يشهده ملائكة الليل وملائكة النهار، فيتفق نزول هؤلاء البدل عند صعود أولئك فيجتمعون فى صلاة الفجر، وذلك لأنها هى أول ديوان النهار وآخر ديوان الليل فيشهده ملائكة الليل والنهار. واحتج لهذا القول بما فى الصحيح من حديث الزهرى عن أبى سلمة عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَضْلُ صَلاةِ الْجَمِيعِ عَلَى صَلاةِ الْوَاحِدِ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ دَرَجَةً"، ويجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار فى صلاة الفجر لقول أبى هريرة: واقرؤوا إن شئتم: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} [الإسراء: 87] رواه البخارى فى الصحيح. قال أصحاب القول الأول: وهذا لا ينافى قولنا، وهو أن يكون الله سبحانه وملائكة الليل والنهار يشهدون قرآن الفجر، وليس المراد الشهادة العامة، فإن الله على كل شيء شهيد، بل المراد شهادة خاصة وهى شهادة حضور ودنوّ متصل بدنو الرب [تعالى] ونزوله إلى سماءِ الدنيا فى الشطر الأخير من الليل. وقد روى الليث بن سعد: حدثنى زيادة بن محمد [عن محمد بن] كعب القرظى عن فضالة ابن عبيد الأنصارى عن أَبى الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ يَنْزِلُ فِى ثَلاثِ سَاعَاتٍ يَبْقَيْنَ مِنَ اللَّيْلِ، فَيَفْتَحُ الذِّكْرِ فِى السَّاعَةِ الأُولَى الَّذِى لَم يَرَهُ غَيْرَهُ فَيَمْحُو اللهُ مَا يَشَأُ وَيُثْبِتُ، ثُمَّ يَنْزِلُ فِى السَّاعَةِ الثانية إِلَى جَنَّةِ عَدْنٍ وَهِى دَارُهُ الَّتِى لَمْ تَرَهَا عَيْنٌ وَلَمْ تَخْطُرُ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ وَهِى مَسْكَنُهُ لا يسكنها معه من بنى آدم غير ثلاث وهم النبيون والصديقون والشهداءُ، ثم يقول: طوبى لمن دخلك، ثم ينزل فى الساعة الثالثة إلى سماءِ الدنيا بروحه وملائكته فتنفض فيقول: قومى بعزتى، ثم يطلع إلى عباده فيقول: هل من مستغفر فأَغفر له؟ أَلا من سائل يسأَلنى فأعطيه" ألا [من] داع يدعونى فأُجيبه؟ حتى تكون صلاة الفجر. ولذلك يقول الله عَزَّ وجلَّ: {وَقُرْآن الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآن الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} [الإسراء: 78] ، يشهده الله عز وجل وملائكته ملائكة الليل والنهار". ففى هذا الحديث أن النزول يدوم إلى صلاة الفجر، وعلى هذا فيكون شهود [الله] سبحانه لقرآن الفجر مع شهود ملائكة الليل والنهار له، وهذه خاصة بصلاة الصبح ليست لغيرها من [الصلوات] ، وهذا لا ينافى دوام النزول فى سائر الأحاديث إلى طلوع الفجر ولا سيما وهو معلق فى بعضها على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 انفجار الصبح، وهو اتساع ضوئه. وفى لفظ: "حَتَّى يَضِيءَ الْفَجْرُ"، [فى] لفظ: "حَتَّى يَسْطَعَ الْفَجْر"، وذلك هو وقت قراءَة الفجر، وهذا دليل على استحباب تقديمها مع مواظبة النبى صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين على تقديمها فى أول وقتها، فكان النبى صلى الله عليه وسلم يقرأُ فيها بالستين إلى المائة ويطيل ركوعها وسجودها وينصرف منها والنساءُ لا يعرفن من الغلس، وهذا لا يكون إلا مع شدة التقديم فى أول الوقت لتقع القراءة فى وقت النزول فيحصل الشهود المخصوص، مع أنه قد جاء فى بعض الأحاديث مصرحاً به دوام ذلك إلى الانصراف من صلاة الصبح، رواه الدارقطنى فى كتاب "نزول الرب [تعالى] كل ليلة إلى سماءِ الدنيا" من حديث محمد بن عمرو عن أبى سلمة عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ينزل الله عَزَّ وجَلَّ إلى سماءِ الدنيا لنصف الليل الآخر أو الثلث الآخر يقول: من ذا الذى يدعونى فأستجيب له؟ من ذا الذى يسألنى فأعطيه؟ من ذا الذى يستغفرنى فأغفر له؟ حتى يطلع الفجر أو ينصرف القاريء من صلاة الصبح" رواه عن محمد جماعة: منهم سليمان بن بلال وإسماعيل بن جعفر والدراوردى وحفص بن غياث ويزيد بن هارون وعبد الوهاب بن عطاء ومحمد بن جعفر والنضر بن شميل كلهم قال: "أو ينصرف القاريء من صلاة الفجر"، فإن كانت هذه اللفظة محفوظة عن النبى صلى الله عليه وسلم فهى صريحة فى المعنى كاشفة للمراد، وإن لم تكن محفوظة وكانت من شك الراوى هل قال هذا أو هذا، فقد قدمنا أنه لا منافاة بين اللفظين. وأن حديث الليث بن سعد عن محمد بن زياد يدل على دوام النزول إلى وقت صلاة الفجر، وأن تعليقه بالطلوع لكونه أول الوقت الذى يكون فيه الصعود، كما رواه يونس بن أبى إسحق عن أبيه عن الأغر أبى مسلم قال: شهدت على النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إِنَّ الله عزَّ وجَلَّ يُمْهِلُ حَتَّى إِذَا كَانَ ثُلُثُ اللَّيْل هَبَط إِلَى هَذِهِ السَّمَاءِ ثُمَّ أمَرَ بِأَبْوَابِ السَّمَاءِ فَفُتِحَتْ ثُمَّ قَالَ: هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَأَعْطِيَهُ؟ هَلْ مِنْ دَاعٍ فَأُجِيبُهُ، هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لهُ هَلْ مِنْ مُسْتَغِيثٍ أَغِيثُهُ؟ هَلْ مِن مُضْطَّرٍ أَكشِفُ عَنْهُ؟ فَلا يَزَالُ ذَلِكَ مَكَانَهُ حَتَّى يَطَلَعَ الٌفَجْرُ فِى كُلِّ لَيْلَة مِنَ الدُّنْيَا، ثُمَّ يَصْعَدُ إِلَى السَّمَاءِ؟ ". قال الدارقطنى: فزاد فيه يونس بن أبى إسحق زيادة حسنة. والمقصود ذكر القرب من الإمام فى صلاة الفجر وتقديمها فى أول وقتها. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 فصل فإذا فرغ من صلاة الصبح أقبل بكليته على ذكر الله والتوجه إليه بالأذكار التى شرعت أول النهار فيجعلها ورداً له لا يخل بها أبداً، ثم يزيد عليها ما شاءَ من الأذكار الفاضلة أو قراءة القرآن حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت فإن شاءَ ركع ركعتى الضحى وزاد ما شاءَ، وإن شاءَ قام من غير ركوع ثم يذهب متضرعاً إلى ربه سائلاً له أن يكون ضامناً عليه متصرفاً فى مرضاته بقية يومه، فلا ينقلب إلا فى شيء يظهر له فيه مرضاة ربه، وإن كان من الأفعال العادية الطبيعية قلبه عبادة بالنية وقصد الاستعانة به على مرضاة الرب. وبالجملة فيقف عند أول الداعى إلى فعله، فيفتش [ويستخرج منه منفدأ ومسلكاً يسلك به فينقلب] فى حقه عبادة وقربة، وشتان كم بين هذا وبين من إذا عرض له أمر من أوامر الرب لا بد له من فعله وفتش فيه على مراد لنفسه وغرض لطبعه، ففعلة لأجل ذلك وجعل الأمر طريقاً له ومنفذاً لمقصده، فسبحان من فاوت بين النفوس إلى هذا الحد والغاية، فهذا عباداته عادات، والأول عاداته عبادات. فإذا جاءَ فرض الظهر بادر إليه مكملاً له ناصحاً فيه لمعبوده كنصح المحب الصادق المحبة لمحبوبه الذى قد طلب منه أن يعمل له شيئاً ما، فهو لا يبقى مجهوداً، بل يبذل مقدوره كله فى تحسينه وتزيينه وإصلاحه وإكماله ليقع موقعاً من محبوبه فينال به رضاه عنه وقربه منه. أفلا يستحى العبد من ربه ومولاه ومعبوده أن لا يكون فى عمله هكذا، وهو يرى المحبين فى أشغال محبوبيهم من الخلق كيف يجتهدون [فى إيقاعها] على أحسن وجه وأكمله، بل هو يجد من نفسه ذلك مع من يحبه من الخلق، فلا أقل من أن يكون مع ربه بهذه المنزلة، ومن أنصف نفسه وعرف أعماله استحى من الله أن يواجهه بعمله أو يرضاه لربه وهو يعلم من نفسه أنه لو عمل لمحبوب له من الناس لبذل فيه نصحه ولم يدع من حسنه شيئاً إلا فعله. وبالجملة فهذا حال هذا العبد مع ربه فى جميع أعماله، فهو يعلم أنه لا يوفى هذا المقام حقه، فهو أبداً [يستغفر الله عقيب كل عمل وكان النبى صلى الله عليه وسلم] إذا سلم من الصلاة استغفر الله ثلاثاً، وقال تعالى: {وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 18] . قال الحسن: مدوا الصلاة إلى السحر، ثم جلسوا يستغفرون ربهم. وقال تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 199] ، فأمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 سبحانه بالاستغفار بعد الوقوف بعرفة والمزدلفة، وشرع للمتوضيء أن يقول بعد وضوئه: "اللَّهُمَّ اجْعَلْنِى مِنَ التَّوَّابِينَ وَاجْعَلْنِى مِنَ المُتَطَهِّرِين"، فهذه توبة بعد الوضوءِ، وتوبة بعد الحج، وتوبة بعد الصلاة وتوبة بعد قيام الليل. فصاحب هذا المقام مضطر إلى التوبة والاستغفار كما تبين، فهو لا يزال مستغفراً تائباً، وكلما كثرت طاعاته كثرت توبته واستغفاره. فصل وجماع الأمر فى ذلك إنما هو بتكميل عبودية الله [عز وجل] فى الظاهر والباطن، فتكون حركات نفسه وجسمه كلها فى محبوبات الله، وكمال عبودية العبد موافقته لربه فى محبته ما أَحبه، وبذل الجهد فى فعله وموافقته فى كراهة ما كرهه وبذل الجهد فى تركه، وهذا إنما يكون للنفس المطمئنة، لا للأَمَّارة ولا للَّوامة. فهذا كمال من جهة الإرادة والعمل، وأما من جهة العلم والمعرفة فأن تكون بصيرته منفتحة فى معرفة الأَسماءِ والصفات والأفعال، له شهود خاص فيها مطابق لما جاءَ به الرسول صلى الله عليه وسلم لا مخالف له، [فإنه] بحسب مخالفته له فى ذلك يقع الانحراف ويكون [مع] ذلك قائماً بأحكام العبودية الخاصة التى تقتضيها كل صفة بخصوصها، وهذا سلوك الأكياس الذين هم خلاصة العالم، والسالكون على هذا الدرب أفراد من العالم، طريق سهل قريب موصل، طريق آمن أَكثر السالكين فى غفلة عنه، ولكن يستدعى رسوخاً فى العلم ومعرفة تامة به وإِقداماً على رد الباطل المخالف له ولو قاله من قاله، وليس عند أكثر الناس سوى رسوم تلقوها عن قوم معظمين عندهم، ثم لإحسان ظنهم بهم قد وقفوا عند أقوالهم ولم يتجاوزوها [إلى غيرها] فصارت حجاباً لهم وأَى حجاب. فمن فتح الله عليه بصيرة قلبه وإِيمانه حتى خرقها وجاوزها إلى مقتضى الوحى والفطرة والعقل، فقد أُوتىخيراً كثيراً ولا يخاف عليه إِلا من ضعف همته، فإِذا انضاف إلى ذلك الفتح همة عالية فذاك السابق حقاً، واحد الناس بزمانه، لا يلحق شأْوه ولا يشق غباره فشتان ما بين من يتلقى أَحواله ووارداته عن الأَسماء والصفات وبين من يتلقاها عن الأوضاع الاصطلاحية والرسوم أو عن مجرد ذوقه ووجده، إِذا استحسن شيئاً قال هذا هو الحق، فالسير إلى الله من طريق الأَسماءِ والصفات شأْنه عجب، وفتحه عجب صاحبه قد سيقت له السعادة وهو مستلق على فراشه غير تعب ولا مكدود ولا مشتت عن وطنه ولا مشرد عن سكنه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِى تَمُرُّ مَرَّ السَّحَاب} [النمل:88] . وليس العجب من سائر فى ليله ونهاره وهو فى الثرى لم يبرح من مكانه، وإنما العجب من ساكن لا يرى عليه أَثر السفر وقد قطع المراحل والمفاوز، فسائر قد ركبته نفسه فهو حاملها سائر بها ملبوك يعاقبها وتعاقبه ويجرها وتهرب منه ويخطو بها خطوة إلى أَمامه فتجذبه خطوتين إلى ورائه، فهو معها فى جهد وهى معه كذلك، وسائر قد ركب نفسه وملك عنانها فهو يسوقها كيف شاءَ وأَين شاءَ لا تلتوى عليه ولا تنجذب ولا تهرب منه، بل هى معه كالأسير الضعيف فى يد مالكه وآسره وكالدابة الريضة المنقادة فى يد سائسها وراكبها، فهى منقادة معه حيث قادها، فإِذا رام التقدم جمزت به وأَسرعت، فإذا أَرسلها سارت به وجرت فى الحلبة إلى الغاية ولا يردها شيء فتسير به وهو ساكن على ظهرها، ليس كالذى نزل عنها فهو يجرها بلجامها ويشحطها ولا تنشحط، فشتان ما بين المسافرين فتأَمل هذا المثل فإِنه مطابق لحال السائرين المذكورين، والله يختص برحمته من يشاءُ. فصل ومن شأْن القوم أَن تنسلخ نفوسهم من التدبير والاختيار الذى يخالف تدبير [ربهم] تعالى واختياره، بل قد سلموا إليه سبحانه التدبير كله، فلا يزاحم تدبيرهم تدبيره ولا اختيارهم اختياره، لتيقنهم أَنه الملك القاهر القابض على نواصى الخلق المتولى [لتدبير] أَمر العالم كله، وتيقنهم مع ذلك أَنه الحكيم فى أَفعاله الذى لا تخرج أَفعاله عن الحكمة والمصلحة والرحمة، فلم يدخلوا أَنفسهم معه فى تدبيره لملكه وتصريفه أُمور عباده بلو كان كذا وكذا، ولا بعسى ولعل ولا بليت، بل ربهم [تعالى] أَجل وأَعظم فى قلوبهم من أَن يعترضوا عليه أَو يتسخطوا تدبيره أو يتمنوا سواه، وهم أَعلم به وأعرف بأسمائه وصفاته من أَن يتهموه فى تدبيره أَو يظنوا به الإخلال بمقتضى حكمته وعدله، بل هو ناظر بعين قلبه إلى باريء الأَشياء وفاطرها، ناظر إلى إتقان صنعه، مشاهد لحكمته فيه وإن لم يخرج ذلك على مكاييل عقول البشر وعوائدهم ومألوفاتهم. قال بعض السلف: لو قرض جسمى بالمقاريض أَحب إِلى من أن أقول لشيء قضاه الله: ليته لم يقضه. وقال آخر: أَذنبت ذنباً أبكى عليه منذ ثلاثين سنة. وكان قد اجتهد فى العبادة قيل له: ما هو؟ قال: قلت مرة لشيء كان: ليته لم يكن. وبعض العارفين يجعل عيب المخلوقات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 وتنقيصها بمنزلة العيب لصانعها وخالقها، لأنها صنعه وأَثر حكمته، وهو سبحانه أحسن كل شيء فى خلقه وأَتقن كل شيء وهو أحكم الحاكمين وأَحسن الخالقين، له فى كل شيء حكمة بالغة وفى كل مصنوع صنع متقن، والرجل إذا عاب صنعة [رجل آخر وذمها سرى ذلك إلى صانعها فمن عاب صنعة] الرب سبحانه بلا إذنه سرى ذلك إلى الصانع، لأنه كذلك صنعها عن حكمته أظهرها، إذ كانت الصنعة مجبولة لم تصنع نفسها ولا صنع لها فى خلقها. [والعارف] لا يعيب إلا ما عابه الله ولا يذم إلا ما ذمه، وإذا سبق إلى قلبه ولسانه عيب ما لم يعبه الله وذم ما لم يذمه الله تاب إلى الله منه كما يتوب صاحب الذنب من ذنبه فإنه يستحى من الله أن يكون فى داره وهو يعيب آلات تلك الدار وما فيها، فهو يرى نفسه بمنزلة رجل دخل إلى دار ملك من الملوك ورأَى ما فيها من الآلات والبناء والترتيب، فأَقبل يعيب منها بعضها ويذمه ويقول: لو كان كذا بدل كذا لكان خيراً، ولو كان هذا فى مكان هذا لكان أَولى وشاهد الملكَ يولى ويعزل ويحرم ويعطى فجعل يقول: لو ولى هذا مكان فلان كان خيراً، ولو عزل هذا المتولى لكان أَولى، ولو عوفى هذا.. ولو أَغنى هذا.. فكيف يكون مقت الملك لهذا المعترض وإخراجه له من قربه؟ وكذلك لو أضافه صاحب له فقدم إليه طعاماً فجعل يعيب صفته ويذمه، أَكان ذلك يهون على صاحب الطعام؟ قالت عائشة: "مَا عَابَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم طعاماً قط، إِن اشتهى شيئاً أَكله وإِلا تركه ". والمقصود أن من شأْن القوم ترك الاهتمام بالتدبير والاختيار، بل همهم كله فى إقامة حقه عليهم، وأَما التدبير العام والخاص فقد سلموه لولى الأَمر كله ومالكه الفعال لما يريد. ولعلك تقول: من ذا الذى ينازع الله فى تدبيره؟ فانظر إلى نفسك- فى عجزها وضعفها وجهلها- كيف هى [عرضة] للمنازعة منازعة جاهل عاجز ضعيف لو قدر لظهرت منه العجائب، فسبحان من أَذله بعجزه وضعفه وجهله، وأَراه العبر فى نفسه لو كان ذا بصر: كيف هو عاجز القدرة، جبار الإرادة، عبد مربوب، مدبر مملوك ليس له من الأَمر شيء، وهو مع ذلك ينازع الله ربوبيته وحكمته وتدبيره، لا يرضى بما رضى الله به، ولا يسكن عند مجارى أَقداره، بل هو عبد ضعيف مسكين يتعاطى الربوبية، فقير مسكين فى مجموع حالاته، ويرى نفسه غنياً، جاهل ظالم ويرى نفسه عارفاً محسناً، فما أجهله بنفسه وبربه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 وما أتركه لحقه [وأَشده] إضاعته لحظه، ولو أَحضر رشده لرأَى ناصيته ونواصى الخلائق بيد الله سبحانه وتعالى يحفظها ويرفعها كيف [شاء] وقلوبهم بيده سبحانه وفى قبضته يقلبها كيف يشاءُ، يزيغ منها من يشاءُ ويقيم من يشاءُ، ولكان هذا غالباً على شهود قلبه فيغيب به عن مشيئاته وإرادته واختياره، ولعرف أَن التدبير والركون إلى حول العبد وقوته من الجهل بنفسه وبربه، فينفى العلمُ بالله الْجهلَ عن قلبه، فتمحى منه الإرادات والمشيئات والتدبيرات، ويفوضها إلى مالك القلوب والنواصى، فصير بذلك عبداً لربه تقلبه يد القدرة، ويصير ابن وقته لا ينتظر وقتاً آخر يدبر [نفسه فيه] ، لأن ذلك الوقت بيد موقته، فيرى نفسه بمنزلة الميت فى قبره ينتظر ما يفعل به، مستسلم لله منقطع المشيئة والاختيار. هذا ما يجرى على أحدهم من فعل الله وحكمه وقضائه الكونى، فإذا جاءَ الأَمر جاءت الإِرادة والاختيار [السعى والجد] واستفراغ الفكر وبذل الجهد، فهو قوى حى فعال يشاهد عبودية مولاه فى أَمره، فهو متحرك فيها بظاهره وباطنه قد أَخرج مقدوره من القوة إلى الفعل، وهو مع ذلك مستعين بربه قائم بحوله وقوته ملاحظ لضعفه وعجزه قد تحقق بمعنى: {إِيّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] ، فهو ناظر بقلبه إِلى مولاه الذى حركه، مستعين به فى أَن يوفقه لما يحبه ويرضاه، عينه فى كل لحظة شاخصة إلى حقه المتوجه عليه لربه ليؤديه فى وقته على أَكمل أحواله، فإِذا وردت عليهم أَقداره التى تصيبهم بغير اختيارهم قابلوها بمقتضاها من العبودية، وهم فيها على مراتب ثلاثة: إحداها: الرضا عنه فيها والمزيد من حبه والشوق إليه، وهذا نشأَ من مشاهدتهم للطفه فيها وبره وإِحسانه العاجل والآجل، ومن مشاهدتهم حكمته فيها ونصبها سبباً لمصالحهم، وشوقهم بها إلى حبه ورضوانه، ولهم من ذلك مشاهد أُخر لا تسعها العبارة وهى فتح من الله على العبد لا يبلغه علمه ولا عمله. المرتبة الثانية: شكره عليها كشكره على النعم وهذا فوق الرضا عنه بها ومنه ينتقل إلى هذه المرتبة، فهذه مرتبتان لأَهل هذا الشأْن. والثالثة: للمقتصدين وهى مرتبة الصبر التى إذا نزل منها نزل إلى نقصان الإيمان وفواته من التسخط والتشكى، واستبطاءِ الفرج، واليأْس من الروح والجزع الذى لا يفيد إلا فوات الأَجر وتضاعف المصيبة. فالصبر أول منازل الإيمان ودرجاته وأوسطها وآخرها، فإن صاحب الرضا والشكر لا يعدم الصبر فى مرتبته، بل الصبر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 معه وبه يتحقق الرضا والشكر، [و] لا تصور ولا تحقق لهما دونه، وهكذا كل مقام مع الذى فوقه، كالتوكل مع الرضا، وكالخوف والرجاء مع الحب، فإِن المقام لا ينعدم بالترقى إلى الآخر ولو عدم لخلفه ضده، وذلك رجوع إلى نقص الطبيعة وصفات النفس المذمومة، وإِنما يندرج حكمه فى المقام الذى أَعلى منه فيصير الحكم له كما يندرج مقام [المتوكل] فى مقام المحبة والرضا، وليس هذا كمنازل سير الأَبدان الذى إذا قطع منها منزلاً خلفه وراءَ ظهره واستقبل المنزل الآخر معرضاً عن الأَول بارتحاله، بل هذا كمنزلة التاجر الذى كلما باع شيئاً من ماله وربح فيه، ثم باع الثانى وربح فقد ربح بهما معاً، وهكذا أبداً يكون ربحه فى كل صفقة متضاعفاً بانضمامه إلى ما قبله، فالربح الأول اندرج فى الثانى ولم يعدم. فتأمل هذا الموضع واعطه حقه يزل عنك ما يعرض من الغلط فى علل المقامات وتعلم أَن دعوى المدعى أَنها من منازل العوام ودعوى أنها معلولة غلط من وجهين، أَحدهما: أَن أَعلى المقامات مقرون بأَدناها مصاحب له كما تقدم، متضمن له تضمن الكل لجزئه، أَو مستلزم له استلزام الملزوم للازمه لا ينفك عنه أبداً، ولكن لاندراجه فيه وانطواءِ حكمه تحته يصير المشهد والحكم للعالى. الوجه الثانى: أن تلك المقامات والمنازل إِنما [تكون فى] منازل العوام وتعرض لها العلل بحسب متعلقاتها وغاياتها، فإِن كان متعلقها وغاياتها بريئاً من شوائب العلل وهو أجلّ متعلق وأَعظمه فلا علة فيها بحال، وهى من منازل الخواص [حينئذ وإن كان متعلقاً خطأً للعبد أو أمراً موشباً بخطه فهى معلولة] من جهة تعلقها بحظه ولنذكر لذلك أمثلة المثال الأول: الإِرادة، فإن الله جعلها من منازل صفوة عباده، وأَمر رسوله أن يصبر نفسه مع أَهلها فقال: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِى يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف: 28] وقال تعالى: {وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجزِى إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ الله} [الليل 19-20] ، وقال حكاية عن أوليائه قولهم: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ} [الإنسان: 9] ، وهى لام التعليل الداخلة على الغايات المرادة، وهى كثيرة فى القرآن، فقالت طائفة: الإرادة حلية العوام، وهى تجريد القصد، وجزم النية، والجد فى الطلب، وذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 غيره فى طريق الخواص: [نقص و] تفرق، ورجوع إلى النفس. فإن إرادة العبد عين حظه وهو رأْس الدعوى، وإِنما الجمع والوجود فيما يراد بالعبد لا فيما يريد، كقوله تعالى: {وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس:107] ، فيكون مراده ما يراد به واختياره ما اختير له، إِذ لا إِرادة للعبد مع سيده ولا نظر، كما قال: أُريد وصاله ويريد هجرى ... فأَترك ما أُريد لما يريد ومن هذا قول أبى [يزيد] : قيل لى ما تريد؟ قلت أريد أن لا أريد، لأنى أنا المراد وأنت المريد. فيقال ليس المراد من "العوام" فى كلامهم العامة الجهال، وإِنما مرادهم بهذه اللفظة عموم السالكين، دون أَهل الخصوص الواصلين منازل [إلى] الفناءِ وعين الجمع. وإذا عرف هذا فالكلام على ما ذكر فى الإرادة من وجه: أحدها: أَن الإِرادة هى مركب العبودية، وأَساس بنائها الذى لا تقوم إلا عليه، فلا عبودية لمن لا إِرادة له، بل أَكمل الخلق أكملهم عبودية ومحبة وأصحهم حالاً وأقومهم معرفة وأتمهم إِرادة، فكيف يقال: إنها حلية العوام أو من منازل العوام. الوجه الثانى: أنه يلزم من هذا أن تكون المحبة من منازل العوام، وتكون معلولة أيضاً لأنها إرادة تامة للمحبوب ووجود المحبة بلا إرادة كوجود الإنسانية من غير حيوانية وكوجود مقام الإحسان بدون الإيمان [والإسلام] ، فإذا كانت الإرادة معلولة وهى من منازل العوام لزم أن تكون المحبة كذلك. فإِن قيل: المحبة التى لا علة فيها هى تجرد المحب عن الإرادة وفناؤه بإرادة محبوبه عن إرادته، قيل: هذا هو حقيقة الإِرادة أَن يبقى مراده مراد محبوبه، فلو لم يكن مريداً لمراد محبوبه لم يكن موافقاً له فى الإرادة. والمحبة هى موافقة المحبوب فى إرادته فعاد الأمر إلى ما أشرنا إليه أن المعلول من ذلك ما تعلق بحظ المريد دون محبوبه، فإذا صارت إرادته موافقة لإرادة محبوبه لم تكن تلك الإرادة من منازل العوام ولا معلولة، بل هذه أشرف منازل الخواص وغاية مطالبهم، وليس وراءَها إلا التجرد عن كل إرادة والفناء بشهوده عن إرادة ما يريد، وهذا هو الذى يشير إليه السالكون إلى منازل الفناء ويجعلونه غاية الغايات، وهذا عند أهل الكمال نقص وتغيير فى وجه المحبة وهضم لجانب العبودية وفناء بحظ المحب من مشاهدته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 جمال محبوبه وفنائه فيه عن حق المحبوب ومراده، فهو الوقوف مع نفس الحظ والهروب عن حق المحبوب ومراده، وهل مثل هذا إلا كمثل رجلين ادعيا محبة ملك فحضرا بين يديه فقال: ما تريدان؟ فقال أحدهما: أُريد أَن لا أُريد شيئاً بل أَفنى عن إِرادتى وأَكون أنا المراد وأنت تريد بى ما تشاءُ. وقال الآخر: [بل] أُريد أن أُنفق أَنفاسى وذراتى فى محابك ومرضاتك منفذاً لأَوامرك مشمراً فى طاعتك: أَتوجه حيث توجهين وأفعل ما تأْمرنى، هذا الذى أريده. فقال للآخر: وأنا أريد منك أن تفعل مثل هذا، فإنى سأبعثكما فى أشغالى ومهماتى، فأما أحدهما فقال: لا حظ لى سوى اتباع مرضاتك والقيام بحقوقك، وقال الآخر: لا أُريد إلا مشاهدتك والنظر إليك والفناء فيك، فهل يكونان فى نظره سواءٌ، وهل تستوى منزلتهما عنده؟ ولو أَنعموا النظر لعلموا أن صاحب الفناءِ هو طالب [الحظ] الواقف معه، وأن الآخر وإن لم ينسلخ من الحظ ولكن حظه مراد المحبوب منه لا مراده هو من المحبوب، وبين الأَمرين من الفرق كما بين الأرض والسماءِ. فالعجب ممن يفضل صاحب الحظ الذى يريده من محبوبه على من صار حظه مراد محبوبه منه، بل الفناء الكامل أن يفنى بإِرادته عن إِرادة [ما] سواه وبحبه عن حب ما سواه وبرجائه عن رجاءِ ما سواه وبخشيته عن خشية ما سواه وبالتوكل عليه عن التوكل على ما سواه، ليس أن تفنى بحظك منه عن مراده منك. وهذا موضع يشتبه علماً وحالاً وذوقاً إلا على من فتح الله عليه بفرقان بين هذا وهذا. الوجه الثالث: أن الإرادة إنما تكون ناقصة بحسب نقصان المراد، فإذا كان مرادها أشرف [المراد] فإرادته أشرف الإرادات، ثم إذا كانت الوسيلة إليه أجل الوسائل وأنفعها وأكملها فإرادتها كذلك، فلا تخرج إرادته عن إرادة أشرف الغايات وإرادة أقرب الوسائل إليه وأنفعها، فأى علة فى هذه الإرادة وأَى شيء فوقها للخواص؟ الوجه الرابع: أن نقصان الشيء يكون من وجهين، أحدهما: أن يوجب ضرراً، والثانى: أن تكون له ثمرة نافعة، لكن يشغل عما هو أَكمل منه، وكلاهما منتف عن الإرادة، فكيف تكون ناقصة معلولة؟ فإن قيل: لما كان الوقوف معها رجوعاً إلى النفس وتفرقاً ووقوفاً مع حظ المريد كانت ناقصة، قيل: هذا منشأْ الغلط. وجوابه بالوجه الخامس: وهو أن يقال: قوله: "إن [الإرادة] تفرق"، فإن أردتم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 بالتفرق شهود المريد لإرادته [لمرادته] ولعبوديته ولمعبوده ولمحبته ولمحبوبه فلم قلتم: إن هذا التفرق نقص؟ وهل هذا إلا عين الكمال، وهل تتم العبودية إلا بهذا؟ فإن من شهد عبوديته وغاب بها عن معبوده كان محبوباً، ومن شهد المعبود وغاب به عن شهود عبوديته وقيامه بما أَمره به كان ناقص العبودية ضعيف الشهود، وهل الكمال إلا شهود المعبود مع شهود عبادته، فإِنها [عين] حقه ومراده ومحبوبه من عبده، فهل يكون شهود العبد لحق محبوبه ومراده منه وأَنه قائم به ممتثل له نقصاً، ويكون غيبته عن ذلك وإعرضه عنه وفناؤه عن شهوده كمالاً، وهل هذا إلا قلب للحقائق؟ فغاية صاحب هذا الحال والمقام أَن يكون معذوراً بضيق قلبه عن شهود هذا، وهذا إما لضعف المحل أو لغلبة الوارد وعجزه عن احتمال شيء آخر معه، [فأما] أن يكون هذا هو الكمال المطلوب والآخر نقص فكلا. وأين مقام من يشهد عبوديته ومنة الله عليه فيها وتوفيقه لها وجعله محلاً وآلة [لها]- وهو ناظر مع ذلك إلى معبوده بقلبه، شاهداً له، فانياً عن شهود غيره فى عبوديته- من مقام من لا يتسع لهذا وهذا؟ وتأَمل حال أَكمل الخلق وأَفضلهم وأشدهم حباً لله [صلى الله عليه وسلم] كيف كان فى عبادته جامعاً بين الشهودين، حتى كان لا يغيب عن أَحوال المأْمومين فضلاً عن شهود عبادته، فكان يراعى أحوالهم وهو فى ذلك المقام بين يدى ربه سبحانه، فالكلمة من أُمته [عن] منهاجه وطريقته [فى ذلك] صلى الله عليه وسلم، فالواجب التمييز بين المراتب وإعطاءُ كل ذى حق حقه، فقد جعل الله لكل شيء قدراً. وإِن أَردتم بالتفرق شتات القلب فى شعاب الحظوظ وأَودية الهوى، فهذه الإِرادة لا تستلزم شيئاً من ذلك، بل هى جمعية القلب على المحبوب وعلى محابه ومراداته، ومثل هذا التفرق هو عين البقاءِ ومحض العبودية ونفس الكمال، وما عداه فمحض حظ العبد لا حق محبوبه. الوجه السادس: أن قوله: "إن الإرادة رجوع إلى النفس، وإن إِرادة العبد عين حظه" كلام فيه إجمال وتفصيل، فيقال: ما تريدون بقولكم: "إن الإِرادة رجوع إلى النفس"؟ أَتريدون أنها رجوع عن إرادة الرب وإرادة محابه إلى إرادة النفس وحظوظها، أم تريدون أنها رجوع إلى إرادة النفس لربها ولمرضاته؟ فإِن أَردتم الأول علم أن هذه الإرادة معلولة ناقصة فاسدة، ولكن ليست هذه الإرادة التى نتكلم فيها. وإن أردتم المعنى الثانى فهو عين الكمال، وإنما النقصان خلافه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 الوجه السابع: أن قولكم: "إن هذه الإرادة عين حظ العبد" قلنا: نعم وهى أكبر حظ له وأجله وأعظمه، وهل للعبد حظ أشرف من أن يكون الله وحده إِلهه ومعبوده ومحبوبه ومراده؟ فهذا هو الحظ الأَوفر والسعادة العظمى، ولكن لم قلتم: "إن اشتغال العبد بهذا الحظ نقص [فى] حقه"، وهل فوق هذا كمال فيطلبه العبد؟ ثم يقال: لو كان فوقه شيء أكمل منه لكان اشتغال العبد به وطلبه إياه اشتغالاً بحظه أيضاً، فيكون ناقصاً، فأَين الكمال؟ فإِن قلتم: فى تركه حظوظه كلها، قيل لكم: وتركه هذا الحظ أيضاً هو من حظوظه، فإِنه [لا] يبقى معطلاً فارغاً خاو من الإرادة أصلاً، بل لا بد له من إرادة ومراد، وكل إِرادة [عندكم] رجوع إلى الحظ، فأَى [شيء إشتغل] به وبإِرادته كان وقوفاً عن حظه، فيالله العجب متى يكون عبداً محضاً خالصاً لربه؟ يوضح هذا الوجه الثامن: أن الحى لا ينفك عن الإرادة ما دام شاعراً بنفسه، وإِنما ينفك عنها إِذا غاب عنه شعوره بعارض من العوارض، فالإرادة من لوازم الحياة فدعوى أَن الكمال فى التجرد عنها دعوى باطلة مستحيلة طبعاً وحساً، بل الكمال فى التجرد عن الإِرادة التى تزحم مراد المحبوب، لا عن الإرادة التى توافق مراده. الوجه التاسع: قوله: "الجمع والوجود فيما يراد بالعبد لا فيما يريد ... إلخ" فيقال: هذا على نوعين، أحدهما: ما يراد بالعبد من المقدور الذى يجرى عليه بغير اختياره كالفقر والغنى والصحة والمرض والحياة والموت وغير ذلك، فهذا، لا ريب أن الكمال فناء العبد فيه عن إِرادته، ووقوفه مع ما يراد به لا يكون له إِرادة تزاحم إرادة الله منه، كحال الثلاثة الذين قال أحدهم: أَنا أُحب الموت للقاءِ الله، وقال الآخر: أُحب البقاءَ لطاعته وعبادته، فقال الثالث: غلطتما، ولكن أَنا أُحب من ذلك ما يحب، فإن كان يحب إماتتى أَحببت الموت، وإن كان يحب حياتى أحببت الحياة، فأَنا أُحب ما يحبه من الحياة والموت. فهذا أَكمل [منهما] وأصح حالاً فيما يراد بالعبد والنوع الثانى ما يراد من العبد من الأَوامر والقربات، فهذا ليس الكمال إلا فى إرادته، وإِن فرقته فهو مجموع فى تفرقته متفرق فى جمعيته، وهذا حال [الكُمّل] من الناس: متفرق الإِرادة فى الأَمر، مجتمع على الأَمر- فهو مجموع عليه متفرق فيه- ولا يكون فعل المرادات المختلفة بإرادة واحدة بالعين، وإنما غايتها أن تكون هنا إرادتان: إحداهما إرادة واحدة للمراد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 والثانية: إرادات متفرقة لحقه ومحابه وما أَمر به فهى، وإن تعددت وتكثرت فمرجعها إلى مراد واحد بإرادة [واحدة] كلية وكل فعل منها له إرادة جزئية محضة. الوجه العاشر: أن قول أبى يزيد: "أُريد أن لا أُريد" تناقض بيِّن، فإنه قد أَراد عدم الإرادة. فإذا قال: "أُريد أَن لا أُريد" يقال له: فقد أَردت، وأَحسن من هذا أَن يكون الجواب: أُريد ما يريد لا ما أُريد، وإذا كان لا بد من إِرادة ففرق بين الإِرادتين: إِرادة سلب الإِرادة، وإِرادة موافقة المحبوب فى مراده. والله أعلم. الوجه الحادى عشر: أَنه فسر الإِرادة بتجريد القصد وجزم النية، والجد فى الطلب. وهذا هو عين كمال [العبد] وهو متضمن للصدق والإخلاص والقيام بالعبودية، فأَى نقص فى تجريد القصد وهو تخليصه من كل شائبة نفسانية أَو طبيعية وتجريده لمراد المحبوب وحده، والجد فى طلبه وطلب مرضاته وجزم النية وهو أَن لا يعتريها وقفة ولا تأْخير، وهذا الأَمر هو غاية منازل الصديقين، وصديقية العبد بحسب رسوخه فى هذا المقام، وكلما ازداد قربه وعلا مقامه قوى عزمه وتجرد صدقه، فالصادق لا نهاية لطلبه ولا فتور لقصده، بل قصده أَتم وطلبه أكمل ونيته. قال تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيكَ الْيَقِينْ} [الحجر:99] ، واليقين هنا الموت باتفاق [أهل] الإسلام، فجاء صلى الله عليه وسلم إذ جاءه وإرادته وقصده ونيته فى الذروة العليا ونهاية كمالها وتمامها، فأين العلة فى هذه الإرادة؟ ولكن العلة والنقص فى الإِرادة التى يكون مصدرها النفس والهوى، وغايتها نيل حظ المريد من محبوبه، وإن كان المحبوب يريد ذلك لكن غيره أحب إليه منه، وهو أن يكون مراده محض حق محبوبه وحصول مرضاته، فانياً عن حظه هو من محبوبه، بل قد صار حظه منه نفس حقه ومراده، فهذه هى الإِرادة والمحبة التى لا عِلَّة فيها ولا نقص. نسأل الله تعالى أَن يمن علينا ويحيينا ولو بنفس منها، كما منّ بتعليمها ومعرفتها إِنه جواد كريم. الوجه الثانى عشر: أَنه قال بعد هذا: "فصحة الإِرادة بذل الوسع واستفراغ الطاقة مع ترك الاختيار والسكون إِلى مجارى الأَقدار، فيكون كالميت بين يدى الغاسل يقلبه كيف يشاءُ فأَين هذا من قوله: "وذلك فى طريق الخواص نقص وتفرق"، وهل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 يكون بذل الوسع واستفراغ الطاقة إِلا مع تمام الإِرادة؟ وإِنما الذى يفرض له النقص من الإِرادة نوعان: أَحدهما إِرادة مصدرها طلب الحظ، والثانى اختياره فيما يفعل به بغير اختياره. فعن هاتين الإِرادتين ينبغى الفناء، وفيهما يكون النقص، فالكمال ترك الاختيار فيهما، والسكون إلى مراد المحبوب وحقه فى الأُولى، وإِلى مجارى أَقداره وحكمه فى الثانية، فيكون فى الأُولى حياً فعالاً منازعاً لقواطعه عن مراد محبوبه، وفى الثانية كالميت بين يدى الغاسل يقلبه كيف يشاءُ. وبهذا التفصيل ينكشف سر هذه المسأَلة، ويحصل التمييز بين محض العبودية وحظ النفس. والله الموفق للصواب. فصل المثال الثانى: الزهد. قال أَبو العباس [رحمه الله] : "هو للعوام أيضاً، لأَنه حبس النفس عن الملذوذات، وإمساكها عن فضول الشهوات، ومخالفة دواعى الهوى، وترك ما لا يغنى من الأشياء وهذا نقص فى طريق الخاصة، لأَنه تعظيم للدنيا واحتباس عن انتقادها، وتعذيب للظاهر بتركها مع تعلق الباطن بها والمبالاة بالدنيا عين الرجوع إلى ذاتك، وتضييع الوقت فى منازعة نفسك [وشهود] جنسك وبقائك معك، ألا ترى إلى من أَعطاه الله الدنيا بحذافيرها، كيف قال: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [سورة ص: 39] ، وذلك حيث عافى باطنه من شهودها، وظاهره من التعلق بها. فالزهد صرف الرغبة إِليه وتعلق الهمة به والاشتغال به عن كل شيء يشغل عنه، ليتولى هو حسم هذه الأَسباب عنك. كما قيل: إِن بعض المريدين سأَل بعض المشايخ فقال: أَيها الشيخ، بأَى شيء تدفع إبليس إذا قصدك بالوسوسة؟ فقال الشيخ: إِنى لا أَعرف إِبليس فأَحتاج إلى دفعه، نحن قوم صرفنا هممنا إلى الله فكفانا ما دونه. وكما قال: تسترت عن دهرى بظل جناحه ... فعينى ترى دهرى وليس يراني فلو تسأَل الأَيام ما اسمى ما درت ... وأَين مكانى ما عرفن مكاني فيقال: الكلام على هذا من وجوه: إحداها: أَن جعل الزهد للعوام لما ذكره إِنما يتم إِذا كان الزهد ملزوماً لمنازعة النفس ومجاذبتها لدواعى الشهوة والهوى، وحينئذ فيكون قلبه مشغولاً بتلك الدواعى والجواذب ونفسه تطالبه بها وزهده يأْمره باجتنابها. ولا ريب أن فوق هذا مقاماً أعلى منه، وهو طمأْنينة نفسه وسكونها إِلى محبوبها وانجذاب دواعيها إِلى محابه ومرضاته، وهذا للخواص من المؤمنين. ولكن هذه المنازعة غير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 لازمة للزهد، وإِن كان لا بد منها فى حكم الطبيعة لتحقق الابتلاءِ والامتحان، وليتحقق ترك العبد حظه وهواه لربه إيثاراً له على هواه ونفسه. الثانى: أَنه لو كانت هذه المنازعة وحبس النفس عن الملذوذات من لوازم الزهد لم يكن فيها نقص ولا علة، فإِنها من لوازم الطبيعة وأَحكام الجبلّة، وهى كالجوع والعطش والأَلم والتعب، فحبس النفس عن إجابة دواعيها إيثاراً لله ومرضاته عليها لا يكون نقصاً ولا مستلزماً لنقص. وقد اختلف أرباب السلوك [وأهل الطريق] هنا فى هذه المسألة، وهى أَيهما أفضل: من له داعية وشهوة وهو يحبسهما لله ولا يطيعهما حباً له وحياءً [منه] وخوفاً، أو من لا داعية له تنازعه بل نفسه خالية من تلك الدواعى والشهوة، وقد اطمأنت إلى ربها واشتغلت به عن غيره، وامتلأت بحبه وإِرادته، فليس فيها موضع لإرادة غيره ولا حبه؟ فرجحت طائفة الأول وقالت: هذا يدل على قوة تعلقه وشدة محبته، فهو يعاصى دواعى الطبع والشهوة ويقهرها بسلطان محبته وإِرادته وخوفه من الله، وهذا يدل على تمكنه من نفسه وتمكن حاله مع الله وغلبة داعى الحق عنده على داعى الطبع والنفس. قالوا: وأيضاً فله مزيد فى حاله وإيمانه بهذا الإيثار والترك مع حضور داعى الفعل عنده، ومزيد مجاهدة عدوه الباطن ونفسه وهواه، كما يكون له مزيد مجاهدة عدوه الظاهر. قالوا: والذوق والوجد يشهد لمزيده من الحب والأُنس والسرور والفرح بربه عند إيثاره على دواعى الهوى والنفس، والمطمئن الذى ليس فيه هذا الداعى ليس له مزيد من هذه الجهة، وإِن كان مزيده من جهة أُخرى فهى مشتركة بينهما، ويختص هذا بمزيده من الإيثار والمجاهدة. قالوا: وأيضاً فهذا مبتلى بهذه الدواعى والإِرادات، [وذاك] معافى منها. وقد جرت سُنَّة الله فى المؤمنين من عباده أَن يبتليهم على حسب إِيمانهم، فمن ازداد إِيمانه زيد فى بلائه كما ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم أَنه قال: "يبتلى المرءُ على حسب دينه، فإِن كان فى دينه صلابة شدد عليه البلاءُ، وإِن كان فى دينه رقة خفف عنه البلاءُ". والمراد بالدين هنا: الإيمان الذى يثبت عند نوازل البلاءِ، فإن المؤمن يبتلى على قدر ما يحمله إيمانه من وارد البلاء. قالوا: فالبلاءُ بمخالفة دواعى النفس والطبع من أَشد البلاء، فإنه لا يصبر عليه الصدِّيقون. وأما البلاء الذى يجرى على العبد بغير اختياره كالمرض والجوع والعطش ونحوها، فالصبر عليه لا يتوقف على الإيمان، بل يصبر عليه البر والفاجر لا سيما إِذا علم أَنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 لا معول له إِلا الصبر، فإِنه إِن لم يصبر اختياراً صبر اضطراراً. ولهذا كان بين ابتلاءِ يوسف الصديق [صلى الله عليه وسلم] بما فعل به إِخوته من الأَذى والإِلقاءِ فى الجب وبيعه بيع العبيد والتفريق بينه وبين أبيه، وابتلائه بمراودة المرأة [له] وهو شاب عزب غريب بمنزلة العبد لها وهى الداعية [له] إلى ذلك، فرق عظيم لا يعرفه إلا من عرف مراتب البلاءِ، فإِن الشباب داع إلى الشهوة والشاب قد يستحى من أَهله ومعارفه من قضاءِ وطره، فإِذا صار فى دار الغربة زال ذلك الاستحياءُ والاحتشام، وإِذا كان عزباً كان أشد لشهوته، وإِذا كانت المرأة هى الطالبة كان أشد وإذا كانت جميلة كان أعظم، فإن كانت ذات منصب كان أقوى فى الشهوة، فإن كان ذلك فى دارها وتحت حكمها بحيث لا يخاف الفضيحة ولا الشهرة كان أبلغ، فإِن استوثقت بتغليق الأَبواب والاحتفاظ من الداخل كان أقوى أيضاً للطلب، فإِن كان الرجل مملوكها وهى كالحاكمة عليه الآمرة الناهية [له] كان أَبلغ فى الداعى، فإِذا كانت المرأة شديدة العشق والمحبة للرجل قد امتلأَ قلبها من حبه، [فهذا] الابتلاء الذى صبر معه مثل الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم صلوات الله عليهم أجمعين. ولا ريب أن هذا الابتلاء أعظم من الابتلاء الأَول، بل هو من جنس ابتلاء الخليل بذبح ولده، إِذ كلاهما ابتلاءُ بمخالفة الطبع ودواعى النفس والشهوة ومفارقة حكم [الطبع] ، وهذا بخلاف البلوى التى أصابت ذا النون. والتى أصابت أيوب [صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين] . قالوا: وأيضاً فإن هذه هى النكتة التى من أجلها كان صالح البشر أفضل من الملائكة لأن الملائكة عبادتهم بريئة عن شوائب [و] دواعى [النفوس] والشهوات البشرية، فهى صادرة عن غير معارضة ولا مانع ولا عائق، [و] هى كالنفس للحى، وأَما عبادات البشر فمع منازعات النفوس وقمع الشهوات ومخالفة دواعى الطبع، فكانت أكمل، ولهذا كان أكثر الناس على تفضيلهم على الملائكة لهذا المعنى ولغيره، فمن لم يخلق له تلك الدواعى والشهوات فهو بمنزلة الملائكة، ومن خلقت له وأَعانه الله على دفعها وقهرها وعصيانها كان أَكمل وأفضل. قالوا: وأيضاً فإن حقيقة المحبة إيثار المحبوب ومرضاته على ما سواه. قالوا: وكيف يصح الإيثار ممن لا تنازعه نفسه وطبعه إلى غير المحبوب. قالوا: وليس العجب من قلب خال عن الشهوات والإِرادات قد ماتت دواعى طبعه وشهوته إذا عكف على محبوبه ومعبوده واطمأن إليه واجتمعت همته، [عليه] وإِنما العجب من قلب قد ابتلى [بما ابتلى] به من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 الهوى والشهوة ودواعى الطبيعة مع قوة سلطانها وغلبتها وضعفه وكثرة الجيوش التى تغير على قلبه كل وقت إذا آثر ربه ومرضاته على هواه وشهوته ودواعى طبعه، فهو هارب إلى ربه من بين تلك الجيوش، وعاكف عليه فى تلك الزعازع والأَهوية التى تغشى على الأسماع والأبصار والأفئدة يتحمل منها لأجل محبوبه ما لا تتحمله الجبال الراسيات. قالوا: وأيضاً فنهى النفس عن الهوى عبودية خاصة لها تأْثير خاص، وإنما يحصل إذا كان ثم ما ينهى عنه النفس. قالوا: وأيضاً فالهوى عدو الإنسان، فإذا قهر عدوه وصار تحت قبضته وسلطانه كان أَقوى وأكمل ممن لا عدو له يقهره. قالوا: ولهذا كان حالُ النبى صلى الله عليه وسلم فى قهره قرينه حتى انقاد وأَسلم له فلم يكن يأْمره إلا بخير أكملَ من حال عمر حيث كان الشيطان إذا رآه يفر منه وكان إذا سلك فجا سلك غير فجه. وبهذا خرج الجواب عن السؤال المشهور وهو: كيف لا يقف الشيطان لعمر بل يفر منه، ومع هذا قد تفلت على النبى صلى الله عليه وسلم وتعرض له وهو فى الصلاة وأَراد أن يقطع عليه الصلاة؟ ومعلوم أن حال الرسول أكمل وأقوى. والجواب ما ذكرناه: أَن شيطان عمر كان يفر منه فلا يقدر أحدهما على قهر صاحبه، وأَما الشيطان الذى تعرض للنبى صلى الله عليه وسلم فقد أخذه وأسره وجعله فى قبضته كالأَسير، وأَين من يهرب منه عدوه فلا يظفر به إلى من يظفر بعدوه فيجعله فى أَسره وتحت يده وقبضته، فهذا ونحوه مما احتج به أَرباب هذا القول. واحتج أَرباب القول الثانى- وهم الذين رجحوا من لا منازعة فى طباعه ولا هوى له يغالبه- بأَن قالوا: كيف تستوى النفس المطمئنة إلى ربها العاكفة على حبه التى لا منازعة فيها أصلاً ولا داعية تدعوها إلى الإعراض عنه، والنفس المشغولة بمحاربة هواها ودواعيها وجواذبها؟ قالوا: وأيضاً ففى الزمن الذى يشتغل هذا بنفسه ومحاربة هواه وطبعه يكون صاحب النفس المطمئنة قد قطع مراحل من سيره وفاز بقرب فات صاحب المحاربة والمنازعة. قالوا: وهذا كما لو كان رجلان مسافرين فى طريق فطلع على أحدهما قاطع اشتغل بدفعه عن نفسه ومحاربته ليتمكن من سيره، والآخر سائر لم يعرض له قاطع، بل هو على جادة سيره، فإِن هذا يقطع من المسافة أَكثر مما يقطع الأَول ويقرب إلى الغاية أكثر من قربه. قالوا: وأيضاً فإن للقلب قوة يسير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 بها، فإذا صرف تلك القوة فى دفع العوارض والدواعى القاطعة له عن السير اشتغل قلبه بدفعها عن السير فى زمن المدافعة. قالوا: ولأَن المقصود بالقصد الأَول إنما هو السير إلى الله، والاشتغال بدفع العوارض مقصود لغيره فالاشتغال بالمقصود لنفسه أَولى وأفضل من الاشتغال بالوسيلة، قالوا: وأيضاً فالعوارض المانعة للقلب من سيره هى من باب المرض، واجتماع القلب على الله وطمأْنينته به وسكونه إليه بلا منازع ولا جاذب ولا معارض هو صحته وحياته ونعيمه، فكيف يكون القلب الذى [يعرض له مرض وهو مشغول بدوائه أفضل من القلب الصحيح] لا داءَ به ولا علة؟ قالوا: وأيضاً، فهذه الدواعى والميول والإرادات التى فى القلب تقتضى جذبه وتعويقه عن وجه سيره، وما فيه من داعى المحبة والإِيمان يقتضى جذبه عن طريقها فتتعارض الجواذب، فإِن لم توقفه عوقته ولا بد، فأَين السير بلا معوق من السير مع المعوق؟ قالوا: وأَيضاً فالذى يسير العبد بإِذن ربه إِنما هو همته، والهمة إذا علت وارتفعت لم تلحقها القواطع والآفات، كالطائر إذا علا وارتفع فى الجو فات الرماة ولم يلحقه الحصا ولا البنادق ولا السهام، وإِنما تدرك هذه الأشياءُ للطائر إذا لم يكن عالياً، فكذلك الهمة العالية قد فاتت الجوارح والكواسر، وإِنما تلحق الآفات والدواعى والإِرادات الهمة النازلة، فأَما إِذا علت فلا تلحقها الآفات. قالوا: وأَيضاً فالحس والوجود شاهد بأَن قلب المحب متى خلا من غير المحبوب واجتمعت شئونه كلها على محبوبه ولم يبق فيه التفات إلى غيره كان أَكمل محبة من القلب الملتفت إلى الرقباءِ المهتم بمحاربتهم ومدافعتهم والهرب منهم والتوارى عنهم. قالوا: فكم بين محب يجتاز على الرقباءِ فيطرقون من هيبته وخشيته ولا يرفع أحد منهم رأْسه إليه، وبين محب إِذا اجتاز بالرقباءِ هاشوا عليه كالزنابير أَو كالكلاب فاشتغل بدفعهم وحرابهم أو جد فى الهرب منهم، فكيف يسوى هذا بهذا، أم كيف يفضل عليه مع هذا التباين؟ قالوا: وأيضاً فالمحبة الخالصة الصادقة حقيقتها أنها نار تحرق من القلب ما سوى مراد المحبوب، وإِذا احترق ما سوى مراده عدم وذهب أثره، فإذا بقى فى القلب شيء من سوى مراده لم تكن المحبة تامة ولا صادقة، بل هى محبة مشوبة بغيرها، فالمحب الصادق ليس فى قلبه سوى مراد محبوبه حتى ينازعه ويدافعه، والآخر فى قلبه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 بقية لغير المحبوب فهو جاهد على إخراجها وإعدامها. قالوا: وأيضاً فالواردات الإلهية ترد على القلوب على قدر استعدادها وقبولها، فإذا صادفت القلب فارغاً خالياً من العوارض والمنازعات ودواعى الطبع والهوى ملأَته على قدر فراغه، وإذا امتلأَ منها لم يبق لأضدادها وأعدائها فيه مسلك، وإذا صادفت فيه موضعاً مشغولاً بغيرهم من الأَغيار لم يساكن ذلك الموضع فيدخل الضد والعدو من تلك الثلمة، كما قال القائل: لا كان من لسواك فيه بقية ... يجد السبيل بها إليه العذل وقال: ومهما بقى للصحو فيه بقية ... يجد نحوك اللاحى سبيلاً إلى العذل قالوا: وأيضاً فدواعى الطبع وإرادات النفس وشهواتها مصدرها إما جهل وإما ضعف، فإنها لا تصدر إلا من جهل العبد بآثارها وموجباتها، أَو يكون عالماً بذلك، لكن فيه ضعف وعجز يمنعه عن محوها من قلبه بالكلية، وما كان سببه جهلاً أو عجزاً لا يكون كمالاً ولا مستلزماً لكمال، وأَما القلب الخالى منها ومن الاشتغال بدفعها فقلب شريف قوى علوى رفيع. قالوا: وأيضاً فهذه الإِرادات والدواعى لا تسير العبد، بل إما أن تنسكه إن أجابها، وإما أن تعوقه وتوقفه إن اشتغل بمدافعتها، وأَما إرادات القلب السليم منها والنفس المطمئنة بربها، فكل إرادة منها تسير به مراحل على مهلة، فهو يسير رويداً وقد سبق السعادة كما قيل: من لى بمثل سيرك المذلل ... تمشى رويداً وتجيء فى الأول قالوا: وأيضاً فإن هذه الدواعى والإرادات إنما تحمد عاقبتها إذا ردت صاحبها إلى حال السليم منها فيكون كماله فى تشبهه به وسيره معه، فكيف يكون أكمل ممن كماله إنما هو فى تشبهه به؟ قالوا: وأيضاً فالنفوس ثلاثة: أَمارة، ولوامة، ومطمئنة. والنفس الأَمارة هى المطيعة لدواعى طباعها وشهواتها، فمبادئ كونها أمارة هى تلك الدواعى والإرادات فتستحكم فتصير عزمات، ثم توجب الأفعال. فمبدأُ صفة الذم فيها تلك الدواعى. وأما النفس المطمئنة فهى التى عدمت هذه المباديء فعدمت غاياتها، فكيف تكون مباديء النفس الأَمارة مما يوجب لها مزية على النفس المطمئنة؟ فهذا ونحوه مما احتجت به هذه الطائفة أيضاً لقولها. والحق أن كلا الطائفتين على صواب من القول، لكن كل فرقة لحظت غير ملحظ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 الفرقة الأُخرى، فكأَنهما لم يتواردا على محل واحد، بل الفرقة الأُولى نظرت إلى نهاية سير المجاهد لنفسه وإِرادته وما ترتب له عليها من الأَحوال والمقامات فأَوجب لها شهود نهايته رجحانه فحكمت بترجيحه واستحلت بتفضيله، والفرقة الثانية نظرت إلى بدايته فى شأْنه ذلك ونهاية النفس المطمئنة فأَوجب لها شهود الأَمرين الحكم بترجيح القلب الخالى من تلك الدواعى ومجاهدتها، وكل واحدة من الطائفتين فقد أَدلت بحجج لا تمانع، وأَتت ببينات لا ترد ولا تدافع. وفصل الخطاب فى هذه المسألة يظهر بمسأَلة يرتضع معها من لبانها ويخرج من مشكاتها. وهى أن العبد إذا كان له حال أو مقام مع الله ثم نزل عنه إلى ذنب ارتكبه ثم تاب من ذنبه هل يعود إلى مثل ما كان؟ أو لا يعود، بل إن رجع رجع إلى أنزل من مقامه وأنقص من رتبته؟ أو يعود خيراً مما كان؟ فقالت طائفة: يعود بالتوبة إلى مثل حاله الأُولى فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، وإذا محى أثر الذنب بالتوبة صار وجوده كعدمه فكأَنه لم يكن، فيعود إلى مثل حاله. قالوا: ولأَن التوبة هى الرجوع إلى الله بعد الإباق منه، فإن المعصية إباق العبد من ربه، فإذا تاب إلى الله فقد رجع إليه وإذا كان مسمى التوبة هو الرجوع، فلو لم يعد إلى حالته الأُولى مع الله لم تكن توبته تامة، والكلام إِنما هو فى التوبة النصوح. قالوا: ولأن التوبة كما ترفع أثر الذنب فى الحال بالإقلاع عنه وفى المستقبل بالعزم على أن لا يعود فكذلك ترفع أثره فى الماضى جملة، ومن أَثره فى الماضى انحطاط منزلته عند الله ونقصانه عنده، فلابد من ارتفاع هذا الأثر بالتوبة، وإذا ارتفع بها عاد إلى مثل حاله. قالوا: ولأَنه لو بقى نازلاً من مرتبته منحطاً عن منزلته بعد التوبة كما كان قبلها لم تكن التوبة قد محت أثر الذنب ولا أفادت فى الماضى شيئاً، وإِن عاد إلى دون منزلته ولم يبلغها فبلوغه تلك الدرجة إنما كان بالتوبة فلو ضعف تأْثير التوبة عن إعادته إلى منزلته الأُولى لضعف عن تبليغه تلك المنزلة التى وصل إليها، وإن لم تكن التوبة ضعيفة التأْثير عن تبليغه تلك المنزلة لم تكن ضعيفة التأْثير عن إِعادته إلى المنزلة الأولى. قالوا: وأيضاً ربط [فالله سبحانه ربط] الجزاء بالأعمال ربط الأسباب بمسبباتها، فالجزاء من جنس العمل، فكما رجع التائب إلى الله بقلبه رجوعاً تاماً رجع الله عليه بمنزلته وحاله، بل ما رجع العبد إلى الله حتى رجع [الله] بقلبه إليه أولاً فرجع الله إليه وتاب عليه ثانياً، فتوبة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 العبد محفوفة بتوبتين من الله: توبة منه إذناً وتمكيناً فتاب بها العبد، وتاب الله عليه قبولاً ورضى. فتوبة العبد بين توبتين من الله، وهذا يدل على عنايته سبحانه وبره ولطفه بعبده التائب، فكيف يقال: إنه لا يعيده مع هذا اللطف والبر إلى حاله؟ قالوا: وأيضاً فإن التوبة من أجلِّ الطاعات وأوجبها على المؤمنين: وأعظمها عناءً عنهم، وهم إليها أحوج من كل شئ، وهى من أحب الطاعات إلى الله [سبحانه] فإنه يحب التوابين، ويفرح بتوبة عبده إذا تاب إليه أعظم فرح وأكمله، وإذا كانت بهذه المثابة فالآتى بها آت بما هو أفضل القربات وأجل الطاعات، فإذا كان قد حصل له بالمعصية انحطاط ونزول مرتبة فبالتوبة يحصل [له] مزيد تقدم وعلو درجة، فإن لم تكن درجته بعد التوبة أعلى فإنها لا تكون أنزل. قالوا: وأيضاً فإنا إذا قابلنا بين جناية المعصية والتقرب بالتوبة وجدنا الحاصل من التوبة [أرجح من الأثر الحاصل من المعصية والكلام إنما هو فى التوبة] النصوح الكاملة، وجانب [العدل ولهذا كان من جانب العدل آحاد بآحاد وجانب] الفضل أرجح من جانب الفضل آحاد بعشرات إلى سبعمائة إلى أضعاف كثيرة، وهذا يدل على رجحان جانب الفضل وغلبته، وكذلك مصدرهما من الغضب والرحمة فإن رحمة الرب تغلب غضبه. قالوا: وأيضاً فالذنب بمنزلة المرض، والتوبة بمنزلة العافية، والعبد إذا مرض ثم عوفى وتكاملت عافيته رجعت صحته إلى ما كانت، بل ربما رجعت أقوى وأكمل مما كانت عليه، لأنه ربما كان معه فى حال العافية آلام وأسقام كامنة، فإذا اعتل ظهرت تلك الأسقام ثم زالت بالعافية جملة فتعود قوته خيراً مما كانت وأكمل، وفى مثل هذا قال الشاعر: لعل عتبك محمود عواقبه ... وربما صحت الأجسام بالعلل وهذا الوجه هو أحد ما احتج به من قال: أنه يعود خيراً بالتوبة مما كان قبل التوبة واحتجوا لقولهم أيضاً بأن التوبة تثمر للعبد محبة من الله خاصة لا تحصل بدون التوبة، بل التوبة شرط فى حصولها، وإن حصل له محبة أُخرى بغيرها من الطاعات فالمحبة الحاصلة له بالتوبة لا تنال بغيرها، فإن الله يحب التوابين، ومن محبته لهم فرحه بتوبة أحدهم أعظم فرح وأكمله، فإذا أثمرت له التوبة هذه المحبة ورجع بها إلى طاعاته التى كان عليها أولاً انضم أثرها إلى أثر تلك الطاعات فقوى الأثران فحصل له المزيد من القرب والوسيلة وهذا بخلاف ما يظنه من نقصت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 معرفته بربه من أنه سبحانه إذا غفر لعبده ذنبه فإنه لا يعود الود الذى كان له منه قبل الجناية، واحتجوا فى ذلك بأثر إسرائيلى مكذوب أن الله قال لداود عليه السلام: يا داود، أما الذنب فقد غفرناه، وأما الود فلا يعود. وهذا كذب قطعاً، فإن الود يعود [بعد] التوبة النصوح أعظم مما كان، فإنه سبحانه يحب التوابين، ولو لم يعد الود لما حصلت له محبته، وأيضاً فإنه يفرح بتوبة التائب، ومحال أن يفرح بها أعظم [فرح] وأكمله وهو لا يحبه. وتأمل سر اقتران هذين الاسمين فى قوله تعالى: {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِيءُ وَيُعِيدُ وَهُوَ الْغَفُورُ الْودُود} [البروج: 13- 14] تجد فيه من الرد والإنكار على من قال: لا يعود الود والمحبة منه لعبده أبداً، ما هو من كنوز القرآن ولطائف فهمه، وفى ذلك ما يهيج القلب السليم ويأْخذ بمجامعه ويجعله عاكفاً على ربه- الذى لا إله إلا هو ولا رب له سواه- عكوف المحب الصادق على محبوبه الذى لا غنى له عنه، ولا بد له منه ولا تندفع ضرورته بغيره أبداً. واحتجوا أيضاً بأن العبد قد يكون بعد التوبة خيراً منه قبل الخطيئة لأن الذنب يحدث له من الخوف والخشية والانكسار والتذلل لله والتضرع بين يديه والبكاء على خطيئته والندم عليها والأسف [والإشفاق] ما هو من أفضل أحوال العبد وأنفعها له فى دنياه وآخرته، ولم تكن هذه الأُمور لتحصل بدون أسبابها إذ حصول الملزوم بدون لازمة محال، والله يحب من عبده كسرته وتضرعه وذله بين يديه واستعطافه وسؤاله أن يعفو عنه ويغفر له ويتجاوز عن جرمه وخطيئته، فإذا قضى عليه بالذنب فترتبت عليه هذه الآثار المحبوبة له كان ذلك القضاءُ خيراً له، وليس ذلك إلا للمؤمن. ولهذا قال بعض السلف: لو لم تكن التوبة أحب الأشياءِ إليه لما أصاب بالذنب أكرم الخلق عليه. وقيل: إن فى بعض الآثار يقول الله تعالى لداود عليه السلام: يا داود، كنت تدخل على دخول الملوك على الملوك، واليوم تدخل على دخول العبيد على الملوك. قالوا: وقد قال غير واحد من السلف: كان داود بعد التوبة خيراً منه قبل الخطيئة، قالوا: ولهذا قال سبحانه: {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنّ لَهُ عِنْدَنَا لزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [سورة ص: 25] ، فزاده على المغفرة أمرين: الزلفى وهى درجة القرب منه وقد قال فيها سلف الأُمة وأئمتها ما لا تحتمله عقول الجهمية وفراخهم، ومن أراد معرفتها فعليه بتفاسير السلف. والثانى: حسن المآب وهو حسن المنقلب وطيب المأْوى عند الله. قالوا: ومن تأمل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 زيادة القرب التى أعطيها داود بعد المغفرة علم صحة ما قلنا، وأن العبد بعد التوبة يعود خيراً مما كان. قالوا: وأيضاً فإن للعبودية لوازم وأحكاماً وأسراراً وكمالات لا تحصل إلا بها ومن جملتها تكميل مقام الذل للعزيز الرحيم، فإن الله سبحانه يحب من عبده أن يكمل مقام الذل له، وهذه هى حقيقة العبودية واشتقاقها يدل على ذلك، فإن العرب تقول: طريق معبَّد أى مذلل بوطءِ الأقدام. والذل أنواع: أكملها ذل المحب لمحبوبه، الثانى: ذل المملوك لمالكه، الثالث: ذل الجانى بين يدى المنعم عليه المحسن إليه المالك له، الرابع: ذل العاجز عن جميع مصالحه وحاجاته بين يدى القادر عليها التى هى فى يده وبأمره. وتحت هذا قسمان: أحدهما: ذل له فى أن يجلب له ما ينفعه. والثانى: ذل له فى أن يدفع [عنه] ما يضره على الدوام. ويدخل فى هذا ذل المصائب كالفقر والمرض وأنواع البلاء والمحن. فهذه خمسة أنواع من الذل إذا وفاها العبد حقها وشهدها كما ينبغى وعرف ما يراد به منه وقام بين يدى ربه مستصحباً لها شاهداً لذله من كل وجه ولعزة ربه وعظمته وجلاله كان قليل أعماله قائماً مقام الكثير من أعمال غيره. قالوا: وهذه أسرار لا تدرك بمجرد الكلام، فمن لا نصيب له منها فلا يضره أَن يخلى المطى وحاديها، ويعطى القوس باريها. فللكثافة أَقوام لها خلقوا ... وللمحبة أَكباد وأجفان قالوا: وأيضاً فقد ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: "للهُ أَشدُّ فرحاً بتوبة عبده من أحدكم [ضل] راحلته"، قالوا: وهذا أعظم ما يكون من الفرح وأكمله، فإن صاحب هذه الراحلة كان عليها مادة حياته من الطعام والشراب، وهى مركبه الذى يقطع به مسافة سفره، فلو عدمه لانقطع فى طريقه فكيف إذا عدم مع مركبه طعامه وشرابه. ثم إنه عدمها فى أرض دوّية لا أَنيس بها ولا معين ولا من يأْوى له ويرحمه ويحمله ثم إنها مهلكة لا ماءَ بها ولا طعام، فلما أَيس من الحياة بفقدها وجلس ينتظر الموت، إذا هو براحلته قد أشرفت عليه ودنت منه، فأَى فرحة تعدل فرحة هذا؟ ولو كان فى الوجود فرح أعظم من هذا لمثل به النبى صلى الله عليه وسلم، ومع هذا ففرح الله بتوبة عبده إذ تاب إليه أعظم من فرح هذا براحلته وتحت هذا سر عظيم يختص الله بفهمه من يشاءُ، فإِن كنت ممن غلظ حجابه وكثفت نفسه وطباعه فعليك بوادى الخفا وهو وادى المحرّفين للكلم عن مواضعه، الواضعين له على غير المراد منه، فهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 واد قد سلكه خلق وتفرقوا فى شعابه وطرقه ومتاهاته ولم تستقر لهم فيه قدم ولا لجؤوا منه إلى ركن وثيق، بل هم كحاطب الليل وحاطم السيل. مع قدرته على التعبير عن ذلك المعنى بأحسن عبارة وأوجزها، فكيف يليق به أَنْ يعدل عن مقتضى البيان الرافع للإشكال المزيل للإجمال، ويوقع الأُمة فى أودية التأْويلات شعاب الاحتمالات والتجويزات، سبحانك هذا بهتان عظيم. وهل قدر الرسول حق قدره أو مرسله حق قدره من نسب كلامه سبحانه أو كلام رسوله إلى مثل ذلك؟ ففصاحة الرسول وبيانه وعلمه ومعرفته ونصحه وشفقته يحيل عليه أن يكون مراده من كلامه ما يحمله عليه المحرفون للكلم عن مواضعه المتأولون له غير تأْويله، وأن يكون كلامه من جنس الألغاز والأحاجى. والحمد لله رب العالمين. فإن قلت: فهل من مسلك غير هذا الوادى الذى ذممته فنسلك فيه، أو من طريق يستقيم عليه السالك؟ قلت: نعم، بحمد الله [الطريق واضحة المنار بينة الأعلام مضيئة للسالكين وأولها أن تحذف خصائص المخلوقين عن إضافتها إلى صفات رب العالمين] فإن هذه العقدة هى أصل بلاء الناس، فمن حلها فما بعدها أيسر منها، ومن هلك بها فما بعدها أشد منها. وهل نفى أحد ما نفى من صفات الرب ونعوت جلاله إلا لسبق نظره الضعيف إليها واحتجاجه بها عن أصل الصفة وتجردها عن خصائص المحدث، فإن الصفة يلزمها لوازم باختلاف محلها فيظن القاصر إذا رأى ذلك اللازم فى المحل المحدث أنه لازم لتلك الصفة مطلقاً فهو يفر من إثباتها للخالق سبحانه، حيث لم يتجرد فى ظنه عن ذلك اللازم، وهذا كما فعل من نفى عنه سبحانه الفرح والمحبة والرضى والغضب والكراهة والمقت والبغض، وردها كلها إلى الإرادة، فإنه فهم فرحاً مستلزماً لخصائص المخلوق من انبساط دم القلب وحصول ما ينفعه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 وكذلك فهم غضباً هو غليان دم القلب طلباً للانتقام، وكذلك فهم محبة ورضى [وكرهة] ورحمة مقرونة بخصائص المخلوقين [فإن] ذلك هو السابق إلى فهمه، وهو المشهود فى علمه الذى لم تصل معرفته إلى سواه ولم يحط علمه بغيره. ولما كان [ذلك] هو السابق إلى فهمه لم يجد بداً من نفيه عن الخالق، والصفة لم تتجرد فى عقله عن هذا اللازم فلم يجد بداً من نفيها. ثم لأصحاب هذه الطريق مسلكان: أحدهما: مسلك التناقض البين، وهو إثبات كثير من الصفات، ولا يلتفت فيها إلى هذا الخيال، بل يثبتها مجردة عن خصائص المخلوق- كالعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر وغيرها- فإِن كان إثبات تلك الصفات التى نفاها يستلزم [المحذور] الذى فرّ منه فكيف لم يتسلزم إثبات ما أثبته وإن كان إثبات ما أثبته لا يستلزم محذوراً فكيف يستلزمه إثبات ما نفاه؟ وهل فى التناقض أعجب من هذا؟ والمسلك الثانى: [مسلك النفى العام والتعطيل المحض هرباً من التناقض والتزاماً] لأعظم الباطل وأمحل المحال، فإذا الحق المحض فى الإثبات المحض الذى أثبته الله لنفسه فى كلامه وعلى لسان رسوله من غير تشبيه ولا تمثيل ومن غير تحريف ولا تبديل ومنشأ غلط المحرّفين إنما هو ظنهم أن ما يلزم الصفة فى المحل المعين يلزمها لذاتها، فينفون ذلك اللازم عن الله، فيضطرون فى نفيه إلى نفى الصفة، ولا ريب أن الأمور ثلاثة: أمر يلزم الصفة لذاتها من حيث هى، فهذا لا يجب- بل لا يجوز- نفيه، كما يلزم العلم والسمع والبصر من تعلقها بمعلوم ومسموع ومبصر فلا يجوز نفى هذه التعلقات عن هذه الصفات إذ لا تحقق لها بدونها، وكذلك الإرادة [مثلاً] تستلزم العلم لذاتها فلا يجوز نفى لازمها عنها، وكذلك السمع والبصر والعلم يستلزم الحياة فلا يجوز نفى لوازمها، وكذلك كون المرئى مرئياً حقيقة له لوازم لا ينفك عنها ولا سبيل إلى نفى تلك اللوازم إلا بنفى الرؤية، وكذلك الفعل الاختيارى له لوازم لا بد فيه منها، فمن نفى لوازمه نفى الفعل الاختيارى ولا بد. ومن هنا كان أهل الكلام أكثر الناس تناقضاً واضطراباً فإنهم ينفون الشيء ويثبتون ملزومه، ويثبتون الشيء وينفون لازمه، فتتناقض أقوالهم وأدلتهم، ويقع السالك خلفهم فى الحيرة والشك. ولهذا يكون نهاية أمر أكثرهم الشك والحيرة، حاشى من هو فى خفارة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 بلادته منهم، أو من قد خرق تلك الخيالات وقطع تلك الشبهات وحكم الفطرة والشرعة والعقل المؤيد بنور الوحى عليها فنقدها نقد الصيارف فنفى [زغلها] ، وعلم أن الصحيح منها إما أن يكون قد تولت النصوص بيانه، وإما أن يكون فيها غنية عنه بما هو خير منه وأقرب طريقاً وأسهل تناولاً، ولا يستفيد المؤمن- البصير بما جاء به الرسول العارف به- من المتكلمين سوى مناقضة بعضهم بعضاً ومعارضته وإبداء بعضهم عوار بعض ومحاربة بعضهم بعضاً، فيتولى بعضهم محاربة بعض ويسلم ما جاء به الرسول. فإذا رأى المؤمن العالم الناصح لله ولرسوله أحدهم قد تعدى إلى ما جاء به الرسول يناقضه ويعارضه [ويضاده] فليعلم أنهم لا طريق لهم إلى ذلك أبداً، ولا يقع ردهم إلا على آراءِ أمثالهم وأشباههم. وأما [ما] جاء به الرسول فمحفوظ محروس مصون من تطرق المعارضة والمناقضة إليه فإن وجدت شيئاً من ذلك فى كلامهم فبدار بدار إلى إِبداء فضائحهم وكشف تلبيسهم ومحالهم وتناقضهم وتبيين كذبهم على العقل والوحى، فإنهم لا يردون شيئاً مما جاءَ به الرسول إلا بزخرف من القول يغتر به ضعيف العقل والإيمان، فاكشفه ولا تهن، تجده كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءَه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب، ولولا أَن كل مسائل القوم وشبههم التى خالفوا فيها النصوص بهذه المثابة لذكرنا من أمثلة ذلك ما تقر به عيون أهل الإِيمان السائرين إلى الله على طريق الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وإن وفق الله سبحانه جردنا لذلك كتاباً مفرداً، وقد كفانا شيخ الإسلام ابن تيمية [قدس الله روحه ونور ضريحه] هذا المقصد فى عامة كتبه، لا سيما كتابه الذى وسمه ببيان موافقة العقل الصريح للنقل الصحيح، فمزق فيه شملهم كل ممزق، وكشف [فيه] أسرارهم وهتك أَستارهم، فجزاه الله عن الإسلام وأَهله من أفضل الجزاء. واعلم أنه لا ترد شبهة صحيحة قط على ما جاءَ به الرسول، بل الشبهة التى يوردها أهل البدع والضلال على أهل السُّنَّة لا تخلو من قسمين: إما أن يكون القول الذى أُوردت عليه ليس من أقوال الرسول بل تكون نسبته إليه غلطاً، وهذا لا يكون متفقاً عليه بين أهل السنة أبداً، بل يكون قد قاله بعضهم وغلط فيه، فإن العصمة إنما هى لمجموع الأُمة لا لطائفة معينة منها. [وإما أن يكون القول الذى أوردت عليه قولاً صحيحاً لكن لا ترد تلك الشبهة عليه وحينئذ فلابد لها من أحد أمرين] . وإما أن تكون لازمة، وإما أَلا تكون لازمة. فإن كانت لازمة لما جاء بها الرسول فهى حق لا شبهة، إذ لازم الحق حق، ولا ينبغى الفرار منها كما يفعل الضعفاءُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 من المنتسبين إلى السنة، بل كل ما لزم من الحق فهو حق يتعين القول به كائناً ما كان، وهل تسلط أهل البدع والضلال على المنتسبين للسنة إلا بهذه الطريق، ألزموهم بلوازم تلزم الحق فلم يلتزموها ودفعوها وأَثبتوا ملزوماتها، فتسلطوا عليهم بما أَنكروه لا بما أثبتوه فلو أَثبتوا لوازم الحق ولم يفروا منها لم يجد أَعداؤهم إليهم سبيلا، وإن لم تكن لازمة لهم فإلزامهم إياها باطل، وعلى النقدين فلا طريق لهم إلى رد أقوالهم، وحينئذ فلهم جوابان مركب مجمل، ومفرد مفصل. أما الأول فيقولون لهم: هذه اللوازم التى تلزمونا بها إما أن تكون لازمة فى نفس الأمر، وإما أن لا تكون لازمة، فإن كانت لازمة فهى حق إذ قد ثبت أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فهو الحق الصريح، ولازم الحق حق، وإن لم تكن لازمة فهى مندفعة ولا يجوز إلزامها، وأما الجواب المفصل فيفردون كل إلزام بجواب، ولا يردونه مطلقاً [ولا يقبلونه مطلقاً] بل ينظرون إلى ألفاظ ذلك الإلزام ومعانيه، فإن كان لفظها موافقاً لما جاءَ به الرسول صلى الله عليه وسلم يتضمن إثبات ما أثبته [أو] ونفى ما نفاه فلا يكون المعنى إلا حقاً، فيقبلون ذلك الإلزام. وإن كان مخالفاً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم متضمناً لنفى ما أثبته أو إثبات ما نفاه كان باطلاً لفظاً ومعنى فيقابلونه بالرد. وإن كان لفظاً مجملاً محتملاً لحق وباطل لم يقبلوه مطلقاً، ولم يردوه مطلقاً حتى يستفسروا قائله ماذا أراد به، فإن أراد معنى صحيحاً مطابقاً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم قبلوه ولم يطلقوا اللفظ المحتمل إطلاقاً، وإن أراد معنى باطلاً ردوه ولم يطلقوا نفى اللفظ المحتمل أيضاً. فهذه قاعدتهم التى بها يعتصمون وعليها يعولون. وبسط هذه الكلمات يستدعى أسفاراً لا سفراً واحداً، ومن لا ضياءَ له لا ينتفع بها ولا بغيرها فلنقتصر عليها، ولنعد إلى المقصود فنقول وبالله التوفيق. فرح الرب سبحانه هذا الفرح العظيم بتوبة عبده إذا تاب إليه هو من ملزومات محبته ولوازمها، أعنى كونه محباً لعباده المؤمنين، محبوباً لهم، وإنما خلق خلقه لعبادته المتضمنة لكمال محبته والخضوع له، ولهذا خلق الجنة والنار، ولهذا أرسل الرسل وأنزل الكتب، وهذا هو الحق الذى خلق به السماوات والأرض وأنزل به الكتاب، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ} [الحجر: 85] ، وقال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفلا تَذَكّرُونَ} إلى قوله: {هُوَ الَّذِى جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَد السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللهُ ذَلِكَ إِلا بِالْحَقِّ} [يونس: 3] ، وقوله: {آلَم اللهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَى القَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [آل عمران: 1- 3] . فهذا أمره وتنزيله مصدره الحق والأول خلقه وتكوينه مصدره الحق أيضاً، فبالحق كان الخلق والأَمر وعنه صدر الخلق والأمر، وقال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ والإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] ، فأخبر سبحانه أن الغاية المطلوبة من خلقه هى عبادته التى أصلها كمال محبته، وهو سبحانه كما أنه يحب أن يعبد، [أو] يحب أن يحمد ويثنى عليه ويذكر بأوصافه العلى وأسمائه الحسنى. كما قال النبى صلى الله عليه وسلم فى الحديث الصحيح: "لا أحد أحب إليه المدح من الله، ومن أجل ذلك أثنى على نفسه". وفى المسند من حديث الأسود بن سريع أنه قال: يا رسول الله، إنى حمدت ربى بمحامد فقال: "إن ربك يحب الحمد"، فهو يحب نفسه ومن أجل ذلك يثنى على نفسه، ويحمد نفسه، ويقدس نفسه، ويحب من يحبه ويحمده ويثنى عليه. بل كلما كانت محبة عبده له أقوى كانت محبة الله له أكمل وأتم، فلا أحد أحب إليه ممن يحبه ويحمده ويثنى عليه. ومن أجل ذلك كان الشرك أبغض الأشياء إليه لأنه ينقص هذه المحبة، ويجعلها بينه وبين من أشرك به ولهذا لا يغفر الله [سبحانه] أن يشرك به لأن الشرك يتضمن نقصان هذه المحبة والتسوية فيها بينه وبين غيره، ولا ريب أن هذا من أعظم ذنوب المحب عند محبوبه التى [ينقص] بها من عينه [وتنحط] بها مرتبته عنده إذا كان من المخلوقين، فكيف يحتمل رب العالمين أن يشرك بينه وبين غيره فى المحبة. والمخلوق لا يحتمل ذلك ولا يرضى به، ولا يغفر هذا الذنب لمحبه أبداً وعساه أن يتجاوز لمحبه عن غيره من الهفوات والزلات فى حقه، ومتى علم بأنه يحب غيره كما يحبه لم يغفر له هذا الذنب ولم يقربه إليه. هذا مقتضى الطبيعة والفطرة، أفلا يستحى العبد أن يسوى بين إلهه ومعبوده وبين غيره فى هذه العبودية والمحبة، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَنداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله، وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُباً لله} [البقرة: 165] ، فأخبر سبحانه أن من أحب شيئاً [من] دون الله كما يحب الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 فقد اتخذه نداً، وهذا معنى قول المشركين لمعبوديهم: {تَالله إِن كُنَّا لَفِى ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 97- 98] ، فهذه تسوية فى المحبة والتألية، لا فى الذات والأفعال والصفات والمقصود أنه سبحانه يحب نفسه أعظم محبة ويحب من يحبه وخلق خلقه لذلك، وشرع شرائعه وأنزل كتبه لأجل ذلك، وأعد الثواب والعقاب لأجل ذلك، وهذا هو محض الحق الذى به قامت السموات والأرض، وكان الخلق والأمر، فإذا قام به العبد فقد قام بالأمر الذى خلق له فرضى عنه صانعه وبارئه وأحبه إذ كان يحب ويرضى، فإذا صدف عن ذلك وأعرض عنه وأبق عن مالكه وسيده أبغضه ومقته، لأنه خرج عما خلق له وصار إلى ضد الحال التى هو لها، فاستوجب منه غضبه بدلاً من رضاه وعقوبته بدلاً من رحمته، فكأَنه استدعى من رحمته أن يعامله من نفسه بخلاف ما يحب، فإنه سبحانه عفوّ يحب العفو، محسن يحب الإحسان، جواد يحب الجود سبقت رحمته غضبه. فإذا أبق منه العبد وخامر عليه ذاهباً إلى عدوه فقد استدعى منه أن يجعل غضبه غالباً على رحمته وعقوبته على إحسانه، وهو سبحانه يحب من نفسه الإحسان والبر والإنعام، فقد استدعى من ربه فعل ما غيره أحب إليه منه. وهو بمنزلة عبد السوء الذى يحمل أستاذه من المخلوقين المحسن إليه، الذى طبيعته الإحسان والكرم، على خلاف مقتضى طبيعته وسجيته، فأُستاذه يحب لطبعه الإحسان، وهو بإِساءَته ولؤمه يكلفه ضد طباعه ويحمله على خلاف سجيته، فإذا راجع هذا العبد ما يحب سيده [إليه وأقبل عليه وأعرض عن عدوه فقد صار إلى الحال التى تقتضى محبة سيده له] وإنعامه عليه وإحسانه إليه، فيفرح به ولا بد أعظم فرح، وهذا الفرح هو دليل [عليه] غاية الكمال والغنى والمجد. فليتدبر اللبيب وجود هذا الفرح ولوازمه وملزوماته يجد فى طيه من المعارف الإلهية ما لا تتسع له إلا القلوب المهيأَة لهذا الشأْن المخلوقة له، وهذا فرح محسن بر لطيف جواد غنى حميد، لا فرح محتاج إلى حصول [ما يفرح به] متكمل به مستقيل له من غيره، فهو عين الكمال، لازم للكمال، ملزوم له. وأَلطف من هذا الوجه أن الله سبحانه خلق عباده المؤمنين وخلق كل شيء لأجلهم، كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سخَّرَ لَكُمْ مَا فِى السَّمَوَاتِ وَمَا فِى الأَرْضِ وَأَسْبَغ َ عَلَيْكُمْ نِعمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان:02] . وكرمهم وفضلهم على كثير ممن خلق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 فقال: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى آدَم وحملناهم فِى الْبِرِّ وَالْبَحْرِ وَرزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء: 70] ، [وقال] لصالحيهم وصفوتهم: {إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآل إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِين} [آل عمران: 33] . وقال [تعالى] لموسى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِى} [طه: 41] ، واتخذ منهم الخليلين، والخلة أعلى درجات المحبة. وقد جاء فى بعض الآثار: يقول تعالى: "ابن آدم خلقتك لنفسى، وخلقت كل شيء لك فبحقى عليك لا تشتغل بما خلقته لك عما خلقتك له". وفى أثر آخر يقول تعالى: "ابن آدم، خلقتك لنفسى فلا تلعب، وتكفلت برزقك فلا تتعب، ابن آدم اطلبنى تجدنى فإن وجدتنى وجدت كل شيء، وإن فتك فاتك كل شيء، وأنا أحب إليك من كل شيء". فالله سبحانه خلق عباده له، ولهذا اشترى منهم أنفسهم، وهذا عقد لم يعقده مع خلق غيرهم فيما أخبر به على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ليسلموا إليه النفوس التى خلقها له. وهذا الشراء دليل على أنها محبوبة له مصطفاة عنده، مرضية لديه. وقدر السلعة يعرف بجلالة قدر مشتريها وبمقدار ثمنها، هذا إذا جهل قدرها فى نفسها، فإذا عرف قدر السلعة وعرف مشتريها، وعرف الثمن المبذول فيها علم شأْنها ومرتبتها فى الوجود. فالسلعة أنت، والله المشترى والثمن جنته والنظر إلى وجهه وسماع كلامه فى دار الأمن والسلام. والله [سبحانه] لا يصطفى لنفسه إلا أعز الأشياء وأَشْرَفَهَا وأعظمها قيمة. وإذا كان قد اختار العبد لنفسه، وارتضاه لمعرفته ومحبته، وبنى له داراً فى جواره وقربه، وجعل ملائكته خدَمه يسعون فى مصالحه فى يقظته ومنامه وحياته وموته، ثم إنَّ العبد أبق عن سيده ومالكه، معرضاً عن رضاه، ثم لم يكفه ذلك حتى خامر عليه وصالح عدوه ووالاه من دونه وصار من جنده مؤثراً لمرضاته على مرضاة وليه ومالكه، فقد باع نفسه- التى اشتراها منه إلهه ومالكه وجعل ثمنها جنته والنظر إلى وجهه- من عدوه وأبغض خلقه إليه، واستبدل غضبه برضاه ولعنته برحمته ومحبته. فأى مقت خلى هذا المخدوع عن نفسه لم يتعرض له من ربه؟ قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْملائِكَةِ اسْجُدُوا لآدم فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنْ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِى وَهُمْ لَكُمْ عَدُو، بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدلاً} [الكهف: 50] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 فتأمل ما تحت هذه المعاتبة وما فى طى هذا الخطاب من سوءِ هذا العبد وما تعرض له من المقت والخزى والهوان ومن استعطاف ربه واستعتابه ودعائه إياه إلى العود إلى وليه ومولاه الحق الذى هو أولى به، فإذا عاد إليه وتاب إليه فهو بمثابة من أَسر له العدو محبوباً له، واستولوا عليه وحالوا بينه وبينه، فهرب منهم ذلك المحبوب وجاءَ إلى محبه اختياراً وطوعاً حتى توسد عتبة بابه فخرج المحب من بيته فوجد محبوبه متوسداً عتبة بابه واضعاً خده وذقنه عليها، فكيف يكون فرحه ربه؟ ولله المثل الأعلى. ويكفى فى هذا المثل الذى ضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن فتح الله عين قلبه فأبصر ما فى طيه وما فى ضمنه، وعلم أنه ليس كلام مجاز ولا مبالغة ولا تخييل، بل كلام معصوم فى منطقة وعلمه وقصده وعمله، كل كلمة [منه] فى موضعها ومنزلتها ومقرها لا يتعدى بها عنه ولا يقصر بها. والذى يزيد هذا المعنى تقريراً أن محبة الرب لعبده سبقت محبة العبد له سبحانه، فإن لولا محبة الله له لما جعل محبته فى قلبه، [فلما أحبه] ألهمه حبه وآثره به فلما أحبه العبد جازاه على تلك المحبة محبة أعظم منها فإنه من تقرب إليه شبراً تقرب إليه ذراعاً، ومن تقرب إليه ذراعاً تقرب إليه باعاً، ومن أتاه مشياً أتاه هرولة. وهذا دليل على أن محبة الله لعبده الذى يحبه فوق محبة العبد له. [فإذا] تعرض هذا المحبوب لمساخط حبيبه فهو بمنزلة المحبوب الذى فر من محبه وآثر غيره عليه، فإذا عاوده وأقبل إليه وتخلى عن غيره، فكيف لا يفرح به محبه أعظم فرح وأكمله، والشاهد أقوى شاهد تؤيده الفطرة والعقل، فلو لم يخبر الصادق المصدوق بما أخبر به من هذا الأمر العظيم لكان فى الفطرة والعقل ما يشهد به، فإذا انضافت للشريعة المنزلة إلى [الفطرة المكملة إلى العقل الصحيح] المنور، فذلك الذى لا غاية له بعده، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاءُ والله ذو الفضل العظيم. فصل ومتى أراد العبد شاهِدَ هذا من نفسه فلينظر إلى الفرحة التى يجدها بعد التوبة النصوح، والسرور واللذة التى تحصل له، والجزاءُ من جنس العمل. فلما تاب إلى الله ففرح الله بتوبته أَعقبه فرحاً عظيماً. وهاهنا دقيقة قل من يتفطن لها إلا فقيه فى هذا الشأْن. وهى أن كل تائب لا بد له فى أول توبته من عصرة وضغطة فى قلبه من هم أَو غم أو ضيق أو حزن، ولو لم يكن إلا تأَلمه بفراق محبوبه فينضغط لذلك وينعصر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 قلبه ويضيق صدره، فأَكثر الخلق رجعوا من التوبة ونكسوا على رؤوسهم لأجل هذه [المحنة] . والعارف الموفق يعلم أن الفرحة والسرور واللذة الحاصلة عقيب التوبة تكون على قدر هذه العصرة، فكلما كانت أقوى وأشد كانت الفرحة واللذة أكمل وأتم، ولذلك أسباب عديدة: منها أن هذه العصرة والقبض دليل على حياة قلبه، وقوة استعداده، ولو كان قلبه ميتاً واستعداده ضعيفاً لم يحصل له ذلك.. وأيضاً فإن الشيطان لص الإيمان، واللص إنما يقصد المكان المعمور، وأما المكان الخراب الذى لا يرجو أن يظفر منه بشيء فلا يقصده فإذا قويت المعارضات الشيطانية والعصرة دل على أن فى قلبه من الخير ما يشتد حرص الشيطان على نزعه منه. وأيْضاً فإن قوة المعارض والمضاد تدل على قوة معارضة وضده، ومثل هذا إما أن يكون رأساً فى الخير أو رأساً فى الشر، فإن النفوس الأبية القوية إن كانت خيرة رأست فى الخير، وإن كانت شريرة رأست فى الشر. وأيضاً فإن بحسب موافقته لهذا العارض وصبره عليه يثمر له ذلك من اليقين والثبات والعزم ما يوجب زيادة انشراحه وطمأنينته. وأيضاً فإنه كلما عظم المطلوب كثرت العوارض والموانع دونه، هذه سنة الله فى الخلق. فانظر إلى الجنة وعظمها وإلى الموانع والقواطع التى حالت دونها حتى أوجبت أن ذهب من كل ألف رجل واحد إليها، وانظر إلى محبة الله والانقطاع إليه والإنابة إليه والتبتل إليه وحده والأُنس به واتخاذه ولياً ووكيلاً [وكافياً] وحسيباً هل يكتسب العبد شيئاً أشرف منه؟ وانظر إلى القواطع والموانع الحائلة دونه، حتى قد تعلق كل قوم بما تعلقوا به دونه، والطالبون له منهم الواقف مع عمله والواقف مع علمه، والواقف مع حاله، والواقف مع ذوقه وجمعيته وحظه من ربه، والمطلوب منهم وراءَ ذلك كله. والمقصود أن هذا الأمر الحاصل بالتوبة لما كان من أجل الأُمور وأعظمها نصبت عليه المعارضات والمحن، ليتميز الصادق من الكاذب وتقع الفتنة ويحصل الابتلاءُ ويتميز من يصلح ممن لا يصلح، قال تعالى: {آلم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1- 3] ، وقال: {لِيَبْلُوكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك: 2] ، ولكن إذا صبر على هذه العصرة قليلاً أفضت به إلى رياض الأُنس وجنات الانشراح، وإن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 لم يصبر لها انقلب على وجهه. والله الموفق لا إله غيره ولا رب سواه. والمقصود أن هذا الفرح من الله بتوبة عبده- مع أنه لم يأْت نظيره فى غيرها من الطاعات- دليل على عظم قدر التوبة وفضلها عند الله، وأن التعبد له بها من أشرف التعبدات، وهذا يدل على أن صاحبها يعود أكمل مما كان قبلها، فهذا بعض ما احتج به لهذا القول. وأما الطائفة التى قالت: لا يعود إلى مثل ما كان، بل لا بد أن ينقص حاله، فاحتجوا بأن الجناية توجب الوحشة وزوال المحبة ونقص العبودية بلا ريب. فليس العبد الموفر أوقاته على طاعة سيده كالعبد المفرط فى حقوقه، وهذا مما لا يمكن جحده ومكابرته، فإذا تاب إلى ربه ورجع إليه أثرت توبته برك مؤاخذته بالذنب والعفو عنه، وأَما مقام القرب والمحبة فهيهات أن يعود. قالوا: ولأن هذا فى زمن اشتغاله بالمعصية قد فاته فيه السير إلى الله، فلو كان واقفاً فى موضعه لفاته التقدم فكيف وهو فى زمن المعصية كان سيره إلى وراءَ وراء؟ فإذا تاب واستقبل سيره، فإنه [يحتاج إلى سير جديد وقطع مسافة حتى يصل إلى الوضع الذى] تأخر منه. قالوا: ونحن لا ننكر أنه قد يأْتى بطاعات وأعمال تبلغه إلى منزلته [وإنما انكرنا أن يكون بمجرد التوبة النصوح يعود إلى منزلته وحالته] ، وهذا مما لا يكون فإنه بالتوبة قد وجه وجهه إلى الطريق، فلا يصل إلى مكانه الذى رجع منه إلا بسير مستأْنف يوصله إليه، ونحن لا ننكر أن العبد بعد التوبة يعمل أعمالاً عظيمة لم يكن ليعملها قبل الذنب توجب له التقدم. قالوا: وأيضاً، فلو رجع إلى حاله التى كان عليها أو إلى أرفع منها لكان بمنزلة المداوم على الطاعة أو أحسن حالاً منه، فكيف يكون هذا، وأين مسير صاحب الطاعة فى زمن اشتغال هذا بالمعصية؟ وكيف يلتقى رجلان أحدهما سائر نحو المشرق والآخر نحو المغرب، فإذا رجع أحدهما إلى طريق الآخر والآخر مجدٌ على سيره، فإنه لا يزال سابقه ما لم يعرض له فتور أو توان؟ هذا مما لا يمكن جحده ودفعه. قالوا: وأيضاً فمرض القلب بالذنوب على مثل مرض الجسم بالأسقام، والتوبة بمنزلة شرب الدواءِ، والمريض إذا شرب الدواءَ وصح فإنه لا تعود إليه قوته قبل المرض، وإنْ عادت فبعد حين. قالوا: وأيضاً فهذا فى زمن معالجة التوبة ملبوك فى نفسه، مشغول بمداوتها ومعالجتها، وفى زمن الذنب مشغول بشهواتها، والسالم من ذلك مشغول بربه قد قرب منه فى سيره فكيف يلحقه هذا؟ فهذا ونحوه مما احتجت به هذه الطائفة لقولها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 وجرت هذه المسألة بحضرة شيخ الإسلام ابن تيمية، فسمعته يحكى هذه الأَقوال الثلاثة حكاية مجردة، فإما سألته وإما سئل عن الصواب منها، فقال: الصواب أن من التائبين من يعود إلى مثل حاله، ومنهم من يعود إلى أكمل منها، [مما كانت] ، ومنهم من يعود إلى أنقص مما كان. فإن كان بعد التوبة خيراً مما كان قبل الخطيئة وأشد حذراً وأعظم تشميراً وأعظم ذلاً وخشية وإنابة عاد إلى أرفع مما كان، وإن كان قبل الخطيئة أكمل فى هذه الأُمور ولم يعد بعد التوبة إليها عاد إلى أنقص مما كان عليه، وإن كان بعد التوبة مثل ما كان قبل الخطيئة رجع إلى مثل منزلته. هذا معنى كلامه [رضى الله عنه] . قلت: وهاهنا مسألة هذا الموضع أخص المواضع ببيانها، وهى أن التائب إذا تاب إلى الله توبة نصوحاً، فهل تمحى تلك السيئات ويذهب لا له ولا عليه، أو إذا محيت أثبت له مكان كل سيئة حسنة؟ هذا مما اختلف الناس فيه من المفسرين وغيرهم قديماً وحديثاً، فقال الزجاج: ليس يجعل مكان السيئة الحسنة، لكن يجعل مكان السيئة التوبة، والحسنة مع التوبة. قال ابن عطية: يجعل أَعمالهم بدل معاصيهم الأُولى طاعة، فيكون ذلك سبباً لرحمة الله إياهم، قاله ابن عباس وابن جبير وابن زيد والحسن، ورد على من قال هو فى يوم القيامة، قال: وقد ورد حديث فى كتاب مسلم من طريق أبى ذر يقتضى أن الله سبحانه يوم القيامة يجعل لمن يريد المغفرة له من الموحدين بدل سيئاته حسنات، وذكره الترمذى والطبرى، وهذا تأْويل سعيد بن المسيب فى هذه الآية. قال ابن عطية: وهو معنى كرم العفو، هذا آخر كلامه. قلت: سيأتى إن شاء الله ذكر الحديث بلفظه والكلام عليه. قال المهدوى: وروى معنى هذا القول عن سلمان الفارسى وسعيد بن جبير وغيرهما. وقال الثعلبى: قال ابن عباس وابن جريج والضحاك وابن زيد: {يبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70] يبدلهم الله بقبيح أعمالهم فى الشرك محاسن الأعمال فى الإسلام، فيبدلهم بالشرك إيماناً وبقتل المؤمنين قتل المشركين، وبالزنا عفة وإحصاناً. وقال آخرون: يعنى يبدل الله سيئاتهم التى عملوها فى حال إسلامهم حسنات يوم القيامة. وأصل القولين أن هذا التبديل هل هو فى الدنيا أو يوم القيامة؟ فمن قال: إنه فى الدنيا قال: هو تبديل الأعمال القبيحة والإرادات الفاسدة بأضدادها، وهى حسنات، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 وهذا تبديل حقيقة. والذين نصروا هذا القول احتجوا بأن السيئة لا تنقلب حسنة، بل غايتها أن تمحى وتكفِّر ويذهب أثرها فأما أن تنقلب حسنة فلا، فإنها لم تكن طاعة، وإنما كانت بغيضة مكروهة للرب فكيف تنقلب محبوبة مرضية. قالوا: وأيضاً فالذى دل عليه القرآن إنما هو تكفير السيئات ومغفرة الذنوب، كقوله تعالى: {رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا} [آل عمران: 193] ، وقوله تعالى: {وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} [الشورى: 30] [المائدة: 15] وقوله تعالى: {إِنَّ الله يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} [الزمر: 53] ، والقرآن مملوءٌ من ذلك. وفى الصحيح من حديث قتادة عن صفوان بن محرز قال: قال رجل لابن عمر: كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فى النجوى؟ قال: سمعته يقول: "يدنى المؤمن يوم القيامة من ربه حتى يضع عليه كنفه، فيقرره بذنوبه، فيقول: هل تعرف؟ فيقول: رب أعرف، قال: فإنى قد سترتها عليك فى الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، فيعطى صحيفة حسناته، وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رؤوس الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على الله عز وجل"، فهذا الحديث المتفق عليه الذى تضمن العناية بهذا العبد إنما فيه ستر ذنوبه عليه فى الدنيا ومغفرتها له يوم القيامة، ولم يقل له: وأعطيتك بكل سيئة منها حسنة. فدل على أن غاية السيئات مغفرتها وتجاوز الله عنها، وقد قال الله فى حق الصادقين: {لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِى عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَْحْسَنِ الَّذِى كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الزمر: 35] ، فهؤلاء خيار الخلق، وقد أخبر أنه يكفر عنهم سيئات أعمالهم، ويجزيهم بأحسن ما يعملون، وأحسن ما عملوا [إنما هو الحسنات لا السيئات فدل على أن الجزاء بالحسنى] إنما يكون على الحسنات وحدها، وأما السيئات [فإن فحسبها أن] تلغى ويبطل أثرها، قالوا: وأيضاً فلو انقلبت السيئات أنفسها حسنات فى حق التائب لكان أحسن حالاً من الذى لم يرتكب منها شيئاً وأكثر حسنات منه، لأنه إذا أساءَ شاركه فى حسناته التى فعلها وامتاز عنه بتلك السيئات ثم انقلبت له حسنات ترجح عليه، وكيف يكون صاحب السيئات أرجح ممن لا سيئته له؟ قالوا: وأيضاً فكما أن العبد إذا فعل حسنات، ثم أتى بما يحبطها فإنها لا تنقلب سيئات يعاقب عليها، بل يبطل أثرها ويكون لا له ولا عليه وتكون عقوبته عدم ترتب ثوابه عليها، فهكذا من فعل سيئات ثم تاب منها، فإنها لا تنقلب حسنات. فإن قلتم: وهكذا التائب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 يكون ثوابه عدم ترتب العقوبة على سيئاته، [لم ننازعكم] فى هذا، وليس هذا معنى الحسنة فإن الحسنة تقتضى ثواباً وجودياً. واحتجت الطائفة الأخرى التى قالت: هو تبديل السيئة بالحسنة حقيقة يوم القيامة بأن قالت: حقيقة التبديل إثبات الحسنة مكان السيئة. وهذا إنما يكون فى السيئة المحققة وهى التى قد فعلت ووقعت، فإذا بدلت حسنة كان معناه أنها محيت وأُثبت مكانها حسنة قالوا: ولهذا قال تعالى: {سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70] ، فأضاف السيئات إليهم لكونهم باشروها واكتسبوها، ونكر الحسنات ولم يضفها إليهم [لأنها] من غير صنعهم وكسبهم، بل هى مجرد فضل الله وكرمه. قالوا: وأيضاً فالتبديل فى الآية إنما هو فعل الله لا فعلهم، فإنه أخبر أنه هو يبدل سيئاتهم حسنات، ولو كان المراد ما ذكرتم لأضاف التبديل إليهم فإنهم هم الذين يبدلون سيئاتهم حسنات، والأعمال إنما تضاف إلى فاعلها وكاسبها كما قال الله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِى قِيلَ لَهُمْ} [البقرة: 59] وأما ما كان من غير الفاعل فإنه يجعله من تبديله هو كما قال الله تعالى: {وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ} [سبأ: 16] ، فلما أخبر سبحانه أنه هو الذى يبدل سيئاتهم حسنات دل على أنه شيء فعله هو سبحانه بسيئاتهم، لا أنهم فعلوه من تلقاءَ أنفسهم، وإن كان سببه منهم، وهو التوبة والإيمان والعمل الصالح. قالوا: ويدل عليه ما رواه مسلم فى صحيحه من حديث الأعمش عن المعرور ابن سُويد عن أبى ذر رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنى لأعلم آخر أهل الْجَنَّة دخولاً الجنة، وآخر أهل النار خروجاً منها: رجل يؤتى به يوم القيامة فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه، وارفعوا عنه كبارها، فتعرض عليه صغار ذنوبه فيقال: عملت يوم كذا وكذا كذا وكذا، وعملت يوم كذا وكذا كذا وكذا؟ فيقول: نعم، لا يستطيع أن ينكر، وهو مشفق من كبار ذنوبه أْن تعرض عليه، فيقال له: فإن لك مكان كل سيئة حسنة، فيقول: رب قد عملت أشياءَ لا أراها [هاهنا] "، فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه. وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا الأعمش عن المعرور بن سويد عن أبى ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه، قال: فتعرض عليه، ويخبأ عنه كبارها، فيقال: عملت يوم كذا وكذا وكذا؟ وهو مقر لا ينكر وهو مشفق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 من الكبار، فيقال: اعطوه مكان كل سيئة عملها حسنة، قال: فيقول: إن لى ذنوباً ما أراها"، فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه. قالوا: وأيضاً فروى أبو حفص المستملى عن محمد بن عبد العزيز بن أبى رزمة، حدثنا الفضل بن موسى القطيعى عن أبى العنبس عن أبيه عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليتمنين أقوام أنهم أكثروا من السيئات"، قيل: من هم؟ قال: "الذين بدل سيئاتهم حسنات". قالوا: وهؤلاء هم الأبدال فى الحقيقة، فإنهم إنما سموا أبدالاً لأنهم بدلوا أعمالهم السيئة بالأعمال الحسنة، فبدل الله سيئاتهم التى عملوها حسنات، قالوا: وأيضاً فالجزاءُ من جنس العمل، فكما بدلوهم أَعمالهم السيئة بالحسنة بدلها الله من صحف الحفظة حسنات جزاءً وفاقاً. قالت الطائفة الأُولى: كيف يمكنكم الاحتجاج بحديث أبى ذر على صحة قولكم وهو صريح فى أن هذا الذى قد بدلت سيئاته حسنات قد عذب عليها فى النار حتى كان آخر أهلها خروجاً منها؟ فهذا قد عوقب على سيئاته فزال أثرها بالعقوبة، فبدل مكان كل سيئة منها حسنة، وهذا حكم غير ما نحن فيه، فإن الكلام فى التائب من السيئات، لا فيمن مات مصراً عليها غير تائب، فأَين أحدهما من الآخر؟ وأما حديث الإمام أحمد فهو الحديث بعينه إسناداً ومتناً، إلا أنه مختصر. وأما حديث أبى هريرة [فلا] يثبت مثله، ومَن أبو العنبس، ومن أبوه حتى يقبل منهما تفردهما بمثل هذا الأمر الجليل؟ وكيف يصح مثل هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع شدة حرصه على التنفير من السيئات وتقبيح أهلها وذمهم وعيبهم والإخبار بأنها تنقص الحسنات وتضادها؟ فكيف يصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه يقول: "ليتمنين أقوام أنهم أكثروا منها"؟، ثم كيف يتمنى المرءُ إكثاره منها، مع سوءِ عاقبتها، وسوءِ مغبتها؟ وإنما يتمنى الإكثار من الطاعات؟ وفى الترمذى مرفوعاً: "ليتمنينَّ أقوام يوم القيامة أن جلودهم كانت تقرض بالمقاريض، لما يرون من ثواب أهل البلاءِ". فهذا فيه تمنى البلاءِ يوم القيامة لأجل مزيد ثواب أهله، وهو تمنى الحسنات، وأما تمنى الحسنات فهذا لا ريب فيه، وأما تمنى السيئات فكيف يتمنى العبد أَنه أَكثر من السيئات؟ هذا مال لا يكون أبداً، وإنما يتمنى المسيء أن لو لم يكن أساءَ، وأما تمنيه أنه ازداد من إساءته فكلا. قالوا: وأَما ما ذكرتم من أن التبديل هو إثبات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 الحسنة مكان السيئة فحق. وكذلك نقول: إن الحسنة المفعولة صارت فى مكان السيئة التى لولا الحسنة لحلت محلها. قالوا: وأما احتجاجكم بإضافة السيئات إليهم وذلك يقتضى أن تكون هى السيئات الواقعة. وتنكير الحسنات وهو يقتضى أن تكون حسنات من فضل الله، فهو حق بلا ريب ولكن من أين يبقى أن يكون فضل الله بها مقارناً لكسبهم إياها بفضله؟ قالوا: وأما قولكم: إن التبديل مضاف إلى الله لا إليهم وذلك يقتضى أنه هو الذى بدلها [سبحانه] من الصحف لا أنهم هم الذين بدلوا الأَعمال بأضدادها، فهذا لا دليل لكم فيه، فإن الله خالق أفعال العباد، فهو المبدل للسيئات حسنات خلقاً وتكويناً، وهم المبدلون لها فعلاً وكسباً. قالوا: وأما احتجاجكم بأن الجزاءَ من جنس العمل، فكما بدلوا سيئات أعمالهم بحسناتهم بدلها الله كذلك فى صحف الأعمال، فهذا حق وبه نقول، وأنه بدلت السيئات التى كانت مهيأة ومعدة أن تحل فى الصحف بحسنات حلت موضعها. فهذا منتهى أقدام الطائفتين، ومحط نظر الفريقين. وإليك أيها المنصف الحكم بينهما، فقد أدلى كل منهما بحجته، فأقام بينته، والحق لا يعدوهما ولا يتجاوزهما، فأَرشد الله من أعان على هدى فنال به درجة الداعين إلى الله القائمين ببيان حججه ودينه، أو عذر طالباً منفرداً فى طريق مطلبه قد انقطع رجاؤه من رفيق فى الطريق، فغاية أُمنيته أن يخلى بينه وبين سيره وأن لا يقطع عليه طريقه. فمن رفع له مثل هذا العلم ولم يشمر إليه فقد رضى بالدون، وحصل على صفقة المغبون، ومن شمر إليه ورام أن لا يعارضه معارض، ولا يتصدى له ممانع فقد منى نفسه المحال، وإن صبر على لأْوائها وشدتها فهو والله الفوز المبين والحظ الجزيل.. وما توفيقى إلا بالله عليه توكلت وإليه أُنيب. فالصواب إن شاءَ الله فى هذه المسألة أن يقال: لا ريب أن الذنب نفسه لا ينقلب حسنة، والحسنة إنما هى أمر وجودى يقتضى ثواباً، ولهذا كان تارك المنهيات إنما يثاب على كف نفسه وحبسها عن مواقعة المنهى، وذلك الكف والحبس أمر وجودى وهو متعلق الثواب. وأما من لم يخطر بباله الذنب أصلاً ولم يحدث به نفسه، فهذا كيف يثاب على تركه، ولو أُثيب مثل هذا على ترك هذا الذنب لكان مثاباً على ترك ذنوب العالم التى لا تخطر بباله، وذلك أضعاف حسناته بما لا يحصى، فإن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 التَرك مستصحب معه، والمتروك لا ينحصر ولا ينضبط، فهل يثاب على ذلك كله؟ هذا مما لا يتوهم. وإذا كانت الحسنة لا بد أن تكون أمراً وجودياً فالتائب من الذنوب التى عملها قد قارن كلَّ ذنب منها ندماً عليه، وكف نفسه عنه، وعزم على ترك معاودته. وهذه حسنات بلا ريب، وقد محت التوبة أثر الذنب وخلفه هذا الندم والعزم، وهو حسنة قد بدلت تلك السيئة حسنة. وهذا معنى قول بعض المفسرين: يجعل مكان السيئة التوبة، والحسنة مع التوبة. فإذا كانت كل سيئة من سيئاته قد تاب منها فتوبته منها حسنة حلت مكانها، فهذا معنى التبديل، لا أن السيئة نفسها تنقلب حسنة. وقال بعض المفسرين فى هذه الآية: يعطيهم بالندم على كل سيئة أساؤوها حسنة، وعلى هذا فقد زال بحمد الله الإشكال، واتضح الصواب، وظهر أن كل واحدة من الطائفتين ما خرجت عن موجب العلم والحجة. وأما حديث أبى ذر - وإن كان التبديل فيه فى حق المصرّ الذى عذب على سيئاته - فهو يدل بطريق الأولى على حصول التبديل للتائب المقلع النادم على سيئاته، فإن الذنوب التى عذب عليها المصر لما زال أثرها بالعقوبة بقيت كأن لم تكن، فأعطاه الله مكان كل سيئة منها حسنة، لأن ما حصل له يوم القيامة من الندم المفرط عليها مع العقوبة [لاقتضى] زوال أثرها وتبديلها حسنات، فإن الندم لم يكن فى وقت ينفعه، فلما عوقب عليها وزال أثرها بدلها الله له حسنات. فزوال أثرها بالتوبة النصوح أعظم من زوال أثرها بالعقوبة، فإذا بدلت بعد زوالها بالعقوبة حسنات فلأن تبدل بعد زوالها بالتوبة حسنات أولى وأحرى. وتأثير التوبة فى هذا المحو والتبديل أقوى من تأْثير العقوبة لأن التوبة فعل اختيارى أَتى به العبد طوعاً ومحبة لله وفرقاً منه. وأما العقوبة فالتكفير بها من جنس التكفير بالمصائب التى تصيبه بغير اختياره بل بفعل الله، ولا ريب أن تأْثير الأفعال الاختيارية التى يحبها الله ويرضاها فى محو الذنوب أعظم من تأْثير المصائب التى تناله بغير اختياره. ولنرجع الآن إلى المقصود وهو [الكلام على] ما ذكره أبو العباس بن الصائف فى علل المقامات، فقد ذكرنا كلامه فى علة مقام الإرادة، [والكلام عليه وذكرنا كلامه فى مقام الزهد وقوله أنه من مقامات العامة] وذكرنا أن الكلام على ذلك من وجوه هذا آخر الوجه الثانى منها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 الوجه الثالث أن يقال: قوله: "الزهد تعظيم للدنيا، واحتباس عن الانتفاع بها" إلى آخر الفصل، إن أراد به أن زهده دليل على تعظيم الدنيا وأن لها فى قلبه من بالقدر والمنزلة ما يكره لأجله نفسه على تركها، أو مستلزم لذلك، فإن الزهد لا يدل على هذا التعظيم، ولا يستلزمه - وإن كان من عوارض غلبات الطبع التى تذم مساكنتها وانحجاب القلب بها - بل زهده فيها دليل على خروج عظمها من قلبه [وقلة] مبالاته بها وترك الاهتبال بشأْنها، فكيف يكون هذا نقصاً بوجه؟ بل النقص فى الزهد يكون من أحد وجوه: أولها: أن يزهد فيما ينفعه منها، ويكون قوة له على سيره ومعونة له على سفره، فهذا نقص. فإن حقيقة الزهد هى أَن تزهد فيما لا ينفعك، والورع أن تتجنب ما قد يضرك. فهذا الفرق بين الأمرين. الثانى: أن يكون زهده مشوباً إما بنوع عجز أو ملالة وسآمة وتأَذية بها وبأَهلها، وتعب قلبه بشغله بها، ونحو هذا من المزهدات فيها، كما قيل لبعضهم: ما الذى أوجب زهدك فى الدنيا؟ قال: قلة وفائها، وكثرة جفائها، وخسة شركائها. فهذا زهد ناقص، فلو صفت للزاهد [من] تلك العوارض لم يزهد فيها بخلاف من كان زهده فيها لامتلاءِ قلبه من الآخرة، ورغبته فى الله وقربه، فهذا لا نقص فى زهده ولا علة من جهة كونه زهداً. الثالث: أن يشهد زهده ويلحظه ولا يفنى عنه بما زهد لأجله فهذا نقص أيضاًً فالزهد كله أن تزهد فى رؤية زهدك وتغيب عنه برؤية الفضل ومطالعة المنة، وأن لا تقف عنده فتنقطع، بل أعرض عنه جاداً فى سيرك غير ملتفت إليه مستصغراً لحاله بالنسبة إلى مطلوبك، مع أن هذه العلة مطردة فى جميع المقامات على ما فيها كما سننبه عليه إن شاء الله، فإن ربط هذا الشأْن بالنصوص النبوية والعقل الصريح والفطرة الكاملة من أهم الأمور فلا يحسن بالناصح لنفسه أن يقنع فيه بمجرد تقليد أهله، فما أكثر غلطهم [فيهم] وتحكيمهم مجرد الذوق، وجعل حكم ذلك الذوق كلياً عاماً، فهذا ونحوه من مثارات الغلط. الوجه الرابع: أن الزهد على أربعة أقسام: أحدها: فرض على كل مسلم وهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 الزهد فى الحرام، وهذا متى أخل به انعقد سبب العقاب، فلا بد من وجود مسببه ما لم ينعقد سبب آخر يضاده. الثانى: زهد مستحب، وهو على درجات فى الاستحباب بحسب المزهود فيه. وهو الزهد فى المكروه وفضول المباحات والتفنن فى الشهوات المباحة. الثالث: زهد الداخلين فى هذا الشأْن، وهم المشمرون فى السير إلى الله وهو نوعان: أحدهما: الزهد فى الدنيا جملة، وليس [المراد] تخليها من اليد ولا إخراجها وقعوده صفراً منها، وإنما المراد إخراجها من قلبه بالكلية، فلا يلتفت إليها، ولا يدعها تساكن قلبه، وإن كانت فى يده. فليس الزهد أن تترك الدنيا من يدك وهى فى قلبك وإنما الزهد أن تتركها من قلبك وهى فى يدك. وهذا كحال الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز الذى يضرب بزهده المثل مع أن خزائن الأموال تحت يده، بل كحال سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم حين فتح الله عليه من الدنيا ما فتح، ولا يزيده ذلك إلا زهداً فيها. ومن هذا الأثر المشهور، وقد روى مرفوعاً وموقوفاً: "ليس الزهد فى الدنيا [بتحريم الحلال ولا إضاعة المال ولكن الزهد فى الدنيا] أن تكون بما فى يد الله أوثق منك بما فى يدك، وأن تكون فى ثواب المصيبة إذا أُصبت بها أَرغب منك فيها لو أنها بقيت لك". والذى يصحح هذا الزهد ثلاثة أشياء: أحدها: علم العبد أنها ظل زائل وخيال زائر وأنها كما قال الله تعالى فيها: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهُوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِى الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرَّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً} [الحديد: 20] ، وقال الله تعالى: {إِنَّما مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرضُ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضِ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَهَا حَصِيداً كَأَن لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس: 24] ، وقال تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ مُقْتَدِراً} [الكهف: 45] ، وسماها سبحانه: "متاع الغرور" ونهى عن الاغترار بها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 وأخبرنا عن سوء عاقبة المغترين [بها] وحذرنا مثل مصارعهم، وذم من رضى بها واطمأن إليها. وقال النبى صلى الله عليه وسلم: "مالى وللدنيا إنما أن كراكب قال فى ظل شجرة ثم راح وتركها". وفى المسند عنه صلى الله عليه وسلم حديث معناه: أن الله جعل طعام ابن آدم وما يخرج منه مثلاً للدنيا فإنه وإن فوَّحه وملحه فلينظر إلى ماذا يصير، فما اغتر بها ولا سكن إليها إلا ذو همة دنية وعقل حقير، وقدر خسيس. الثانى: علمه أن وراءها داراً أعظم منها قدراً وأجل خطراً وهى دار البقاءِ، وأن نسبتها إليها كما قال النبى صلى الله عليه وسلم: "ما الدنيا فى الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه فى اليم فلينظر بم يرجع"، فالزاهد فيها بمنزلة رجل فى يده درهم زغل قيل له: اطرحه [ولك] عوضه مائة ألف دينار مثلاً، فألقاه من يده رجاءَ ذلك العوض، فالزهد فيها لكمال [رغبته] فيما هو أعظم منها زهد فيها. الثالث: معرفته أن زهده فيها لا يمنعه شيئاً كتب له منها، وأن حرصه عليها لا يجلب له ما لم يقض له منها، فمتى تيقن ذلك وصار له به علم يقين هان عليه الزهد فيها، فإنه متى تيقن ذلك وثلج له صدره وعلم أن مضمونه منها سيأْتيه بقى حرصه وتعبه وكده ضائعاً، والعاقل لا يرضى لنفسه بذلك. فهذه الأُمور الثلاثة تسهل على العبد الزهد فيها، وتثبت قدمه فى مقامه. والله الموفق لمن يشاءُ. النوع الثانى: الزهد فى نفسك، وهو أصعب الأقسام وأشقها، وأَكثر الزاهدين إنما وصلوا إليه ولم يلجوه، فإن الزاهد يسهل عليه الزهد فى الحرام لسوءِ مغبته وقبح ثمرته، وحماية لدينه وصيانة لإيمانه، وإيثاراً للذة والنعيم على العذاب، وأنفة من مشاركة الفساق والفجرة، وحمية من أن يستأْثر لعدوه، ويسهِّل عليه الزهد فى المكروهات وفضول المباحات علمه بما يفوته بإيثارها من اللذة والسرور الدائم والنعيم المقيم. ويسهل عليه زهده فى الدنيا معرفته بما وراءَها وما يطلبه من العوض التام والمطلب الأَعلى. وأما الزهد فى النفس فهو ذبحها بغير سكين، وهو نوعان: أحدهما: وسيلة وبداية، وهو أن تميتها فلا يبقى [لها] عندك من القدر شيء، فلا تغضب لها ولا ترضى لها ولا تنتصر لها ولا تنتقم لها، قد سبَّلت عرضها ليوم فقرها وفاقتها، فهى أهون عليك من أن تنتصر لها أو تنتقم لها أو تجيبها إذا دعتك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 أو تكرمها إذا عصتك أو تغضب لها إذا ذُمت، بل هى عندك أخس مما قيل فيها، أو ترفهها عما فيه حظك وفلاحك، وإن كان صعباً عليها، وهذا وإن كان ذبحاً لها وأماتة عن طباعها وأخلاقها فهو عين حياتها وصحتها، ولا حياة لها بدون هذا البتة. وهذه العقبة هى آخر عقبة يشرف منها على منازل المقربين، وينحدر منها إلى وادى البقاءِ ويشرب من عين الحياة، ويخلص روحه من سجون المحن والبلاء وأسر الشهوات، وتتعلق بربها ومعبودها ومولاها الحق، فيا قرة عينها ويا نعيمها وسرورها بقربه، ويا بهجتها بالخلاص من عدوها، [ومصيرها إلى وليها] مولاها ومالك أمرها ومتولى مصالحها. وهذا الزهد هو أول نقدة من مهر الحب، فيا مفلس تأَخر. والنوع الثانى: غاية وكمال، وهو أن يبذلها للمحبوب جملة، بحيث لا يستبقى منها شيئاً. بل يزهد فيها زهد المحب فى قدر خسيس من ماله قد تعلقت رغبة محبوبه به، فهل يجد من قلبه رغبة فى إمساك ذلك القدر وحبسه عن محبوبه؟ فهكذا زهد المحب الصادق فى نفسه قد خرج عنها وسلمها لربه، فهو يبذلها له دائماً بتعرض منه لقبولها. وجميع مراتب الزهد المتقدمة مباد ووسائل لهذه المرتبة، ولكن لا يصح إلا بتلك المراتب، فمن رام الوصول إلى هذه المرتبة بدون ما قبلها [فتمعن] متمنَّ كمن رام الصعود إلى أعلى المنارة بلا سلَّم. قال بعض السلف: إنما حرموا الوصول بتضييع الأُصول، فمن ضيع الأُصول حرم الوصول، وإذا عرف هذا فكيف يدعى أن الزهد من منازل العوام وأنه نقص فى طريق الخاصة؟ وهل الكمال إلا فى الزهد؟ وما النقص إلا فى نقصانه. والله الموفق للصواب. فصل المثال الرابع: التوكل، قال أبو العباس: "هو للعوام أيضاً، لأنه وكل أمرك إلى مولاك والتجاؤك إلى علمه ومعرفته لتدبير أَمرك وكفاك همك، وهذا فى طريق الخواص عمى عن الكفاية به ورجوع إلى الأسباب، لأنك رفضت الأسباب ووقفت مع التوكل فصار بدلاً عن تلك الأسباب، فإنك معلق بما [رفضته] من حيث معتقدك الانفصال. وحقيقة التوكل عند القوم التوكل فى تخليص القلب من علة التوكل وهو أن يعلم أن الله [تعالى] لم يترك أمراً مهملاً بل فرغ من الأشياء وقدرها، وإن اختلف منها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 شيء فى العقول أو تشوش فى المحسوس أو اضطراب فى المعهود فهو المدبر له، وشأنه سوق المقادير إلى المواقيت، والمتوكل من أراح نفسه من كل النظر فى مطالعة السبب سكوناً إلى ما سبق من القسمة مع استواءِ الحالين عنده وهو أن يعلم أن الطلب لا يجمع والتوكل لا يمنع، ومتى طالع بتوكله عرضاً كان توكله مدخولاً وقصده معلولاً، فإذا خلص من رق هذه الأسباب ولم يلاحظ فى توكله سوى خالص حق الله كفاه الله [تعالى] كل مهم". ثم ذكر حكاية عن موسى صلى الله عليه وسلم أنه فى رعايته نام عن غنمه، فاستيقظ فوجد الذئب واضعاً عصاه على عاتقه يرعاها فعجب من ذلك، فأوحى الله إليه: يا موسى، كن لى كما أُريد، أَكن لك كما تريد. فيقال: الكلام على هذا من وجوه: أحدها: إن جعله التوكل من منازل العوام باطل كما تقدم، بل الخاصة أحوج إليه من العامة، وتوكل الخواص أعظم من توكل العوام. والتوكل مصاحب للصادق من أول قدم يضعه فى الطريق إلى نهايته، وكلما ازداد قربه وقوى سيره ازداد توكله. فالتوكل مركب السائر الذى لا يتأتى له السير إلا به، ومتى نزل عنه انقطع لوقته، وهو من لوازم الإيمان ومقتضياته، قال الله تعالى: {وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23] ، فجعل التوكل شرطاً فى الإيمان، فدل على انتفاءِ الإيمان عند انتفاء التوكل، وفى الآية الأُخرى: {وَقَال مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِن كُنْتُمْ مُسْلِمِين} [يونس: 84] فجعل دليل صحة الإسلام التوكل، وقال تعالى: {وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 122، 160] [المائدة: 11] [التوبة: 51] [إبراهيم: 11] [المجادلة: 10] [التغابن: 13] ، فذكر اسم الإيمان هاهنا دون سائر أسمائهم دليل على استدعاءِ الإيمان للتوكل، وإن قوة التوكل وضعفه بحسب قوة الإيمان وضعفه، وكلما قوى إيمان العبد كان توكله أقوى، وإذا ضعف الإيمان ضعف التوكل، وإذا كان التوكل ضعيفاً، فهو دليل على ضعف الإيمان ولا بد، والله تعالى يجمع بين التوكل والعبادة وبين التوكل والإيمان، وبين التوكل والإسلام، وبين التوكل والتقوى، وبين التوكل والهداية. فأما التوكل والعبادة، فقد جمع [سبحانه] بينهما فى سبعة مواضع من كتابه، أحدها: فى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 سورة أُم القرآن فقال [تعالى] : {إِيَاكَ نَعْبُدُ وَإِيَاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] ، والثانى: قوله حكاية عن شعيب أنه قال: {وَمَا تَوْفِيقِى إِلا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88] ، الثالث: قوله حكاية عن أوليائه وعبادة المؤمنين أنهم قالوا: {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الممتحنة: 4] ، الرابع: قوله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذُهُ وَكِيلاً} [المزمل:8-9] ، الخامس: قوله: {وَللهِ غَيْبُ السَّمَّوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلِ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [هود: 123] ، السادس: قوله: {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج: 78] ، السابع: قوله: {قُلْ هُوَ رَبِّى لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْه مَتَابِ} [الرعد: 30] . فهذه السبعة مواضع جمعت الأصلين: التوكل وهو الوسيلة والإنابة وهى الغاية، فإن العبد لا بد له من غاية مطلوبة، ووسيلة موصلة إلى تلك الغاية فأَشرف غاياته التى لا غاية له أجل منها عبادة ربه، والإنابة إليه. وأعظم وسائله التى لا وسيلة له غيرها البتة التوكل على الله والاستعانة به، ولا سبيل له إلى هذه الغاية إلا بهذه الوسيلة، فهذه أشرف الغايات، وتلك أشرف الوسائل، وأما الجمع بين الإيمان والتوكل، ففى مثل قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} [الملك: 29] ، ونظيره قوله: {وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُمْ مُؤْمِنِين} [المائدة: 23] ، وقوله تعالى: {وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 122، 160] [المائدة: 11] [التوبة: 51] [إبراهيم: 11] [المجادلة: 10] [التغابن: 13] . وأما الجمع بين التوكل والإسلام ففى قوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُسْلِمِينَ} [يونس: 84] . وأما الجمع بين التقوى والتوكل، ففى مثل قوله تعالى: {يَأَيُّهَا النَّبِى اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِع الْكَافِرِينَ وَالمُنَافِقِين} إلى قوله تعالى: {وَتوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلاً} [الأحزاب: 1- 3] ، وقوله: {وَمَن يَتَقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقُهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 2- 3] . وأما الجمع بين التوكل والهداية ففى مثل قول الرسل [صلوات الله وسلامه عليهم] لقومهم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 {وَمَا لَنَآ أَلا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا} [إبراهيم:12] ، وقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} [النمل: 79] ، فأمر [رسوله] بالتوكل عليه، وعقب هذا الأمر بما هو موجب للتوكل مصحح له مستدع لثبوته وتحققه، وهو قوله تعالى: "إنَّك على الحقِّ المبين فإن كون العبد على الحق يقتضى تحقيق مقام التوكل على الله، والاكتفاء به، والإيواءَ إلى ركنه الشديد، فإن الله هو الحق، وهو ولى الحق وناصره ومؤيده، وكافى من قام به،" [مخلصاً للحق] أن لا يتوكل عليه؟ وكيف يخاف وهو على الحق؟ كما قالت الرسل لقومهم: {وَمَا لَنَآ أَلا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا} [إبراهيم: 12] ، فعجبوا من تركهم التوكل على الله [وهو] هداهم، [وأقروا] أن ذلك لا يكون أبداً. وهذا دليل على أن الهداية والتوكل متلازمان: فصادف الحق- لعلمه بالحق [وليقينه] بأن الله ولى الحق وناصره- مضطر إلى توكله على الله لا يجد بداً من توكله. فإن التوكل يجمع أصلين: علم القلب وعمله. أما علمه: فيقينه بكفاية وكيله، وكمال قيامه بما وكله إليه، وأن غيره لا يقوم مقامه فى ذلك. وأما عمله: فسكونه إلى وكيله، وطمأٌنينته إليه، وتفويضه وتسليمه أَمره إليه، وأن غيره لا يقوم مقامه فى ذلك. ورضاه بتصرفه له فوق رضاه بتصرفه هو لنفسه. فبهذين الأصلين يتحقق التوكل، وهما جُماعه، وإن كان التوكل دخل فى عمل القلب من عمله، كما قال الإمام أحمد: التوكل عمل القلب، ولكن لا بد فيه من العلم، وهو إما شرط فيه، وإما جزءٌ من ماهيته. والمقصود أن القلب متى كان على الحق كان أعظم لطمأنينته ووثوقه بأن الله وليه وناصره وسكونه إليه، فما له أن لا يتوكل على ربه؟ وإذا كان على الباطل علماً وعملاً أو أحدهما لم يكن مطمئناً واثقاً بربه فإنه لا ضمان له عليه، ولا عهد له عنده، فإن الله [سبحانه] لا يتولى الباطل ولا ينصره، ولا ينسب إليه بوجه، فهو منقطع النسب إليه بالكلية، فإنه سبحانه هو [الحق] ، وقوله الحق، ودينه الحق ووعده حق، ولقاؤه حق، وفعله [كله] حق. ليس فى أفعاله شيء باطل، بل أفعاله سبحانه بريئة من الباطل، كما أقواله [سبحانه] كذلك، فلما كان الباطل لا يتعلق به [سبحانه] ، بل هو مقطوع [عليه] البتة كان صاحبه كذلك. ومن لم يكن له تعلق بالله العظيم، وكان منقطعاً عن ربه لم يكن الله وليه ولا ناصره ولا وكيله. فتدبر هذا السر العظيم فى اقتران التوكل والكفاية بالحق والهدى وارتباط أحدهما بالآخر، لو لم يكن فى هذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 الرسالة إلا هذه الفائدة السرية لكانت حقيقة أن تودع فى خزانة القلب، لشدة الحاجة إليها. والله المستعان وعليه التكلان فظهر أن التوكل أصل لجميع مقامات الإيمان والإحسان، ولجميع أعمال الإسلام، وأن منزلته منها منزلة الجسد من الرأْس، فكما لا يقوم الرأْس إلا على البدن، فكذلك لا يقوم الإيمان ومقاماته وأعماله إلا على ساق التوكل. والله أعلم. الوجه الثانى: أن قوله فى التوكل: "إنه فى طريق الخواص عمى عن الكفاية، ورجوع إلى الأسباب.. إلى آخر كلامه" مضمونه أن التوكل لا يتم إلا برفض الأسباب، والإعراض عنها جملة. والتوكل من أقوى الأسباب وأعظمها فى حصول المطلوب فكأَنه قد رفض سبباً وتعلق بسبب، وقد ناقض فى أمره، ولهذا قال: "فصار بدلاً عن تلك الأسباب"، وكأَنك تعلقت بما رفضته فهذه هى النكتة التى لأجلها صار التوكل عنده من منازل العوام، وهذه هى غير مسألة الجمع بين التوكل والسبب، بل هذه مسألة تعليل نفس التوكل. فيقال: قولك: "إنه عمى عن الكفاية" ليس كذلك، بل هو نظر إلى نفس الكفاية وملاحظة لها. ولا ريب أن الكفاية من الله لا تنال إلا بأسبابها من عبوديته، وسببها المقتضى لها هو التوكل، كما قال الله تعالى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] ، أى كافية، فجعل التوكل سبباً للكفاية فربط الكفاية بالتوكل كربط سائر الأسباب بمسبباتها، فكيف يقال: "إن التوكل عمى عن الكفاية"؟ وهل التوكل إلا محض العبودية التى جزاؤها الكفاية، وهى لا تحصل بدونه؟ بل العلة ههنا شهود حصولها بفعلك وتوكلك، غير ناظر إلى مسبب الأسباب الذى أجرى عليك هذا السبب ليوصلك به إلى الكفاية، فأول الأمر وآخره منه، فهو المنعم بالسبب والمسبب جميعاً، ولكن لا يوجب نظر العبد إلى المسبب المنعم بالسبب قطع نظره عن السبب والقيام به، بل الواجب القيام بالأمرين معاً. الوجه الثالث: أن قوله: "إنه رجوع إلى الأسباب" إن أراد به أنه رجوع إلى سبب ينقص العبودية ويضعف التوكل فليس كذلك، وظاهر أن الأمر ليس كذلك، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 وإن أراد به أنه رجوع إلى سبب نصبه الله مقتضياً للكفاية منه، ورتب عليه جزاءً لا يحصل بدونه فهذا حق، ولكن القيام بهذا السبب محض الكمال، ونفس العبودية. وهو كجعل الإسلام والإيمان والإحسان أسباباً مقتضية للفلاح والسعادة، بل كجعل سائر أعمال القلوب والجوارح أسباباً مقتضية لما رتب عليها من الجزاءِ، وهل الكمال إلا القيام بهذه الأسباب؟ فالأسباب التى تكون مباشرتها نقصاً هى الأسباب التى تضعف التوكل، وأَما أَن يكون التوكل نفسه ناقصاً لكون التحقق به تحققاً بالسبب فقلب للحقائق، الوجه الرابع: أن قوله: "لأنك رفضت الأسباب ووقفت مع التوكل" إن أراد به رفض الأسباب جملة، فهذا كما أنه ممتنع عقلاً وحساً فهو محرَّم شرعاً وديناً، فإن رفض الأسباب بالكلية انسلاخ من العقل والدين، وإن أراد به رفض الوقوف معها والوثوق بها، وأنه يقوم [بها] قيام ناظر إلى سببها، فهذا حق ولكن النقص لا يكون فى السبب ولا فى القيام به، وإنما يكون فى الإعراض عن المسبب تعالى كما تقدم، فمنع الأسباب أن تكون أَسباباً قدح فى العقل والشرع، وإثباتها والوقوف معها وقطع النظر عن مسببها قدح فى التوحيد والتوكل، والقيام بها وتنزيلها منازلها والنظر إلى مسببها وتعلق القيام به جمع بين الأمر والتوحيد، وبين الشرع والقدر، وهو الكمال، والله أعلم. الوجه الخامس: قوله: "فصار التوكل بدلاً عن تلك الأسباب" هذا حق، فإن التوكل من أعظم الأسباب، ولكنه بدل عنها، كما تكون الطاعة بدلاً عن المعصية، والتوحيد بدلاً عن الشرك، فهو بدل واجب مأْمور به مطلوب من العبد والمذموم أن يجعل العبد الأَسباب بدلاً عن التوكل، لا أن يجعل التوكل بدلاً عن الأسباب. الوجه السادس: قوله: "فكأنك تعلقت بما رفضته من حيث معتقدك الانفصال" ليس كذلك، فإن المرفوض هو التعلق بغير الله والالتفات إلى سواه، فهذا هو الذى رفضه، وأما الذى تعلق به فهو التوكل على الله واللجأْ إِليه والتفويض إِليه والاستعانة به. فقد رفض المخلوق وتعلق بالخالق، فكيف يقال: إنه تعلق بما رفضه؟ الوجه السابع: أن قوله: "من حيث معتقدك الانفصال" يشير به إِلى أَن التوكل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 نوع تفرقة وانفصال يشهد فيه مع الله غيره، وهذا مناف للفناءِ فى التوحيد، وأن لا يشهد مع الله غيره أصلاً، وهذا قطب رحى السير الذى يشير إليه القوم، والعلم الذى يشمرون إليه، ولأجله يجعلون كل ما دونه من المقامات معلولاً، ولا بد من فصل القول فيه بعون الله وتأْييده، فإنه نهاية إِقدامهم وغاية مرماهم. فنقول وبالله التوفيق: الفناءُ الذى يشار إِليه على أَلسنة السالكين ثلاثة أَقسام: فناءٌ عن وجود السوى، وفناءُ عن شهود السوى، وفناءٌ عن عبادة السوى وإرادته، وليس هنا قسم رابع. فأما القسم الأول: فهو فناءُ القائلين بوحدة الوجود، فهو فناءٌ باطل فى نفسه، مستلزم جحد الصانع [سبحانه] ، وإِنكار ربوبيته وخلقه وشرعه، وهو غاية الإِلحاد والزندقة. وهذا هو الذى يشير إليه علماءُ الاتحادية، ويسمونه "التحقيق"، وغاية أحدهم فيه أن لا يشهد رباً وعبداً، وخالقاً ومخلوقاً، وآمراً ومأْموراً، وطاعة ومعصية، بل الأمر كله واحد، فيكون السالك عندهم فى بدايته يشهد طاعة ومعصية. ثم يرتفع [عن] هذا الفرق بكشف عندهم إلى أن يشهد الأفعال كلها طاعة لله لا معصية فيها، وهو شهود الحكم والقدر، فيشهده طاعة لموافقتها الحكم والمشيئة. وهذا ناقص عندهم أيضاً، إذ هو متضمن للفرق، ثم يرتفع عندهم عن هذا الشهود إلى أن لا يشهد لا طاعة ولا معصية، إذ الطاعة والمعصية إنما تكون من غير لغير، وما ثم غير. فإذا تحقق بشهود ذلك وفنى فيه فقد فنى عن وجود السوى، فهذا هو غاية التحقيق عندهم ومن لم يصل إليه فهو محجوب. ومن أشعارهم فى هذا قول قائلهم: وما أنت غير الكون، بل أنت عينه ... ويفهم هذا السر من هو ذائق وقول آخر: ما الأمر إلا نسق واحد ... ما فيه من مدح ولا ذم وإنما العادة قد خصصت ... والطبع والشارع بالحكم وقول الآخر: وما الموج إلا البحر لا شيء غيره ... وإن فرقته كثرة المتعدد والقسم الثانى من أقسام الفناء هو الذى يشير إليه المتأخرون من أرباب السلوك، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 وهو الفناء عن شهود السوى، مع تفريقهم بين الرب والعبد وبين الطاعة والمعصية وجعلهم وجود الخالق غير وجود المخلوق. ثم هم مختلفون فى هذا الفناء على قولين: أحدهما أنه الغاية المطلوبة من السلوك، وما دونه بالنسبة إليه ناقص، ومن هنا يجعلون المقامات [والمنازل] معلولة. والقول الثانى: أنه من لوازم الطريق لا بد منه للسالك، ولكن البقاء أكمل منه وهؤلاء يجعلونه ناقصاً ولكن لا بد منه، وهذه طريقة كثير من المتقدمين. وهؤلاء يقولون: إن الكمال شهود العبودية مع شهود المعبود، فلا يغيب بعبادته عن معبوده، ولا بمعبوده عن عبادته ولكن لقوة الوارد وضعف المحل وغلبة استيلاءِ الوارد على القلب- حتى يملكه من جميع جهاته- يقع الفناءُ. والتحقيق أن هذا الفناء ليس بغاية، ولا هو من لوازم الطريق، بل هو عارض من عوارض الطريق يعرض لبعض السالكين دون جميعهم وسببه أُمور ثلاثة: أحدها: قصده وإرادته والعمل عليه، فإنه إذا علم أنه الغاية المطلوبة شمر سائراً إليه عاملاً عليه، فإذا أشرف عليه وقف معه ونزل بواديه وطلب مساكنته. فهؤلاء إنما يحصل لهم الفناءُ لأن سيرهم كان على طلب حظهم ومرادهم من الله وهو الفناء لم يكن سيرهم على تحصيل مراد الله منهم وهو القيام بعبوديته والتحقق بها. والسائر على طلب تحصيل مراد الله منه لا يكاد الفناءُ يحل بساحته ولا يعتريه. السبب الثانى: قوة الوارد بحيث يغمره ويستولى عليه، فلا يبقى فيه متسع لغيره أصلاً. السبب الثالث: ضعف المحل عن احتمال ما يرد عليه. فمن هذه الأسباب الثلاثة يعرض الفناءُ. ولما رأى الصادق فى طريقه السالك إلى ربه أن أكثر أصحاب الفرق محجوبون عن هذا المقام مشتتون فى أودية الفرق وشهدوا نقصهم ورأوا ما هم فيه من الفناءِ أكمل ظنوا أنه لا كمال [وراء] ذلك، وأنه الغاية المطلوبة، فمن هنا جعلوه غاية. ولكن أكمل من ذلك وأعلى [وأجل هو القسم الثالث] وهو الفناءُ عن عبادة السوى وإرادته ومحبته وخشيته ورجائه والتوكل عليه والسكون إليه [فيفنى بعبادة ربه ومحبته وخشيته ورجائه وخشيته ورجائه ورجائه والتوكل عليه إليه عن عبادة غيره وعن محبته رجائه والتوكل عليه] مع شهود الغير ومعاينته. فهذا أكمل من فنائه عن عبودية الغير ومحبته مع عدم شهوده له وغيبته عنه، فإذا شهد الغير فى مرتبته أوجب شهوده له زيادة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 فى محبة معبوده، وتعظيماً له وهروباً إليه وظناً به، فإن نظر المحب إلى مباديء محبوبه ومضاده يوجب زيادة حبه له، وفى هذا المعنى قال القائل: وإذا نظرت إلى أميرى زادنى ... حباً له نظرى إلى الأُمراءِ وكان النبى صلى الله عليه وسلم يقول فى دعائه: "اللَّهم لك أسلمت وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت وإليك حاكمت". وفى سجوده: "اللَّهم لك سجدت، وبك آمنت"، وكذلك فى ركوعه: "اللَّهم لك ركعت، وبك آمنت". فهذا دعاءُ من قد جمع بين شهود عبوديته وشهود معبوده، ولم يغب بأحدهما عن الآخر، وهل هذا إلا كمال العبودية: أن يشهد ما يأْتى به من العبودية موجهاً لها إلى المعبود الحق، محضراً لها بين يديه، متقرباً بها إليه. فأما الغيبة عنها بالكلية بحيث تبقى الحركات كأَنها طبيعية غير واقعة بالإرادة فهذا- وإن كان أكمل من حال الغائب بشهود عبوديته عن معبوده- فحال الجامع بين شهود العبودية والمعبود أكمل منهما. وإذا عرفت هذه القاعدة ظهر أن تعليله التوكل بما ذكر تعليل باطل. الوجه الثامن: أن التوكل على الله نوعان: أحدهما: توكل عليه فى تحصيل حظ العبد من الرزق والعافية وغيرهما، والثانى: توكل عليه فى تحصيل مرضاته. فأما النوع الأول فغايته المطلوبة وإن لم تكن عبادة لأنها محض حظ العبد، فالتوكل على الله فى حصوله عبادة، فهو منشأُ لمصلحة دينه ودنياه. وأما النوع الثانى فغايته عبادة، وهو فى نفسه عبادة. فلا علة فيه بوجه فإنه استعانة بالله على ما يرضيه. فصاحبه متحقق بإياك نعبد وإياك نستعين، فتركه ترك لشطر الإيمان. والعلة إنما هى فى ضعف هذا التوكل. فهب أن التوكل فى حصول الحظ معلول فيلزم من هذا أن يكون التوكل فى حصول مراد الرب سبحانه ومرضاته معلولاً. الوجه التاسع: قوله: "وحقيقة التوكل عند القوم التوكل فى تخليص القلوب من علة التوكل"، فيقال: إذا كان هذا التوكل عندك ليس بمعلول، ولا هو عمى عن الكفاية، ولا رجوع إلى الأسباب بعد رفضها، بطل تعليل التوكل بما عللته به. وإن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 كانت هذه العلة بعينها موجودة فى هذا التوكل بطل أن يكون [علة] ، فلزم بطلان كونه معلولاً على التقديرين، وظهر أن العلة فى التوكل لا تخرج عن أحد شيئين: إما أن يكون متعلقة حظاً من حظوظك، وإما وقوفك معه وركونك إليه فقط، فإذا خلص التوكل من هذا وهذا فلا علة تلحقه ولا نقيضة تدركه. الوجه العاشر: أن علة التوكل عنده هى ترك التوكل كما فسره فكيف يتوكل فى ترك التوكل؟ وهل هذا إلا جمع بين متضادين؟ الوجه الحادى عشر: قوله: "وهو أن يعلم أن الله سبحانه وتعالى لم يترك أمراً مهملاً، بل فرغ من الأشياءِ وقدرها، وإِن اختلف منها شيء فى العقول أو تشوش فى المحسوس أو اضطرب فى المعهود فهو المدبر له، وشأْنه سوق المقادير إلى المواقيت. المتوكل من أراح نفسه من كد النظر فى مطالعة السبب، سكوناً إلى ما سبق من القسمة مع استواءِ الحالين عنده" إلى آخر كلامه. فيقال: هو سبحانه فرغ من الأشياء وقدرها بأسبابها المفضية إليها، فكما أن المسببات من قدره الذى فرغ منه فأسبابها [أيضاً من قدره الذى فرع منه. فتقريره المقادير بأسبابها] لا ينافى القيام بتلك الأسباب، بل يتوقف حصولها عليها. وقد سئل النبى صلى الله عليه وسلم فقيل له: أرأيت أدوية نتداوى بها، ورقى نسترقى بها، هل ترد من قدر الله شيئاً؟ فقال: "هى من قدر الله"، وسئل صلى الله عليه وسلم: أعُلم أهل الجنة والنار؟ قال: "نعم"، قالوا: ففيم العمل؟ قال: "اعملوا فكل ميسر لما خلق له"، فأمرهم بالأعمال، وأخبرهم أن الله يسر كل عبد لما خلق له فجعل عمله سبباً لنيل ما خلق له من الثواب والعقاب، فلا بد من إِثبات السبب والمسبب جميعاً. الوجه الثانى عشر: قوله: "المتوكل من أراح نفسه من كد النظر فى مطالعة السبب سكوناً إلى ما سبق من القسمة، مع استواءِ الحالين عنده"، فهذا الكلام إن أُخذ على إطلاقه فهو باطل قطعاً، فإن السكون إلى ما سبق من القسمة وترك السبب فى أعمال البر عين العجز وتعطيل الأمر والشرع، ولا يجوز شرعاً ولا عقلاً التسوية بين الحالين. وأما السكون إلى ما سبق من القسمة فى أسباب المعيشة فهو حق، ولكن الكمال أن يكون ساكناً إلى ما سبق مع قيامه، وهذه حال الكملة من الصحابة ومن بعدهم. فالكمال مع قيامه، هو تنزيل الأسباب منازلها علماً وعملاً لا الإعراض عنها ومحوها، ولا الانتهاءُ إليها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 والوقوف عندها. الوجه الثالث عشر: قوله: "مع استواءِ الحالين عنده، وهو أن يعلم أن الطلب لا يجمع، والتوكل لا يمنع" يشير به إلى استواءِ الحالين فى مباشرة السبب وتركه نظراً إلى ما سبق. وهذا ليس بمأْمور ولا معذور، فإنه لا تستوى الحالتان شرعاً ولا قدراً، وكيف يستوى ما لم يسوِّه الله شرعاً ولا قدراً؟ الوجه الرابع عشر: قوله: "الطلب لا يجمع، التوكل لا يمنع فقد بين أن التوكل لا ينافى الطلب، بل حقيقة التوكل وكماله مقارنته للطلب ومصاحبته للسبب، وأما توكل مجرد عن الطلب والسبب فعجز وأمانى. فتوكل الحراث إنما هو بعد شق الأرض وبذرها، وحينئذ يصح منه التوكل فى طلوع الزرع. وأما توكله من غير حرث ولا بذر فعجز وبطالة. الوجه الخامس عشر: قوله: "ومتى طالع بتوكله عرضاً كان توكله مدخولاً وقصده معلولاً. فإذا خلص من رق هذه الأسباب ولم يلاحظ فى توكله سوى خالص حق الله كفاه كل مهم"، فيقال: التوكل يكون فى أحد شيئين: إما فى حصول حظ العبد ورزقه ونصره وعافيته، وإما فى حصول مراد ربه منه، وكلاهما عبادة مأْمور بها، والثانى أكمل من الأول بحسب المتوكل فيه. ولكن توكله فى الأول لا يكون معلولاً من حيث هو توكل، وإِنما تكون علته أن صرف توكله إلى غيره أولى بالتوكل منه. وهذا إنما يكون نقصاً إذا أضعف توكله فى الأَمر ومراد الله منه. وأما إن لم يضعفه بل أعطى كل مقام حقه من التوكل فهذا محص العبودية. والله أعلم. فصل المثال الخامس: الصبر. قال أبو العباس: "وهو من منازل العوام أيضاً، لأن الصبر حبس النفس على مكروه، وعقل اللسان عن الشكوى، ومكابدة الغصص فى تحمله، وانتظار الفرج عند عاقبته. وهذا فى طريق الخاصة تجلد ومناوأَة وجرأَة ومنازعة، فإن حاصله يرجع إلى كتمان الشكوى فى تحمل الأذى بالبلوى. وتحقيقه الخروج عن الشكوى بالتلذذ بالبلوى والاستبشار باختيار المولى. وقيل: إنه على ثلاث مقامات مرتبة بعضها فوق بعض، فالأول: التصبر، وهو تحمل مشقة، وتجرع غصة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 والثبات على ما يجرى من الحكم. وهذا هو التصبر لله وهو صبر العوام. والثانى: الصبر، وهو نوع سهولة تخفف عن المبتلى بعض الثقل، وتسهل عليه صعوبة المراد، وهو الصبر لله، وهو نوع سهولة، وهو صبر المريدين. والثالث: الاصطبار وهو التلذذ بالبلوى والاستبشار باختيار المولى، وهذا هو الصبر على الله، وهو صبر العارفين". والكلام على هذا من وجوه: أحدها: أن يقال الصبر نصف الدين، فإن الإيمان نصفان: نصف صبر، ونصف شكر. قال تعالى: {إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [سبأ:19] ، وقال النبى صلى الله عليه وسلم: "والذى نفسى بيده، لا يقضى الله للمؤمن قضاءً إلا كان خيراً له: إن أصابته سراءٌ شكر فكان خيراً له، إن أصابته ضراءُ صبر فكان خيراً له، وليس ذلك إلا للمؤمن". فمنازل الإيمان كلها بين الصبر والشكر، والذى يوضح هذا: الوجه الثانى: وهو أن العبد لا يخلو قط من أَن يكون فى نعمة أَو بلية، فإن كان فى نعمة ففرضها الشكر والصبر. أما الشكر فهو قيدها وثباتها والكفيل بمزيدها، وأما الصبر فعن مباشرة الأَسباب التى تسلبها، وعلى القيام بالأسباب التى تحفظها فهو أحوج إلى الصبر فيها من حاجة المبتلى. ومن هنا يعلم سر مسألة الغنى الشاكر والفقير الصابر، وأن كلا منهما محتاج إلى الشكر والصبر، وأنه قد يكون صبر الغنى أكمل من صبر الفقير. كما قد يكون شر الفقير أكمل، فأفضلهما أعظمهما شكراً وصبراً، فإن فضل أحدهما فى ذلك فضل صاحبه. فالشكر مستلزم للصبر لا يتم إلا به، والصبر مستلزم للشكر لا يتم إلا به. فمتى ذهب الشكر ذهب الصبر، ومتى ذهب الصبر ذهب الشكر، وإن كان فى بلية ففرضها الصبر والشكر أيضاً: أما الصبر فظاهر، وأما الشكر فللقيام بحق الله عليه فى تلك البلية، فإن لله على العبد [عبودية فى البلاء كما له عليه عبودية فى النعماء وعليه] أن يقوم بعبوديته فى هذا وهذا. فعلم أنه لا انفكاك له عن الصبر، ما دام سائراً إلى الله. الوجه الثالث: أن الصبر ثلاثة أقسام: إما صبر عن المعصية فلا يرتكبها وإما صبر على الطاعة حتى يؤديها وإما صبر على البلية فلا يشكو ربه فيها وإن كان العبد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 .. ... لا بد له من واحد من هذه الثلاثة فالصبر لازم له أبداً لا خروج له البتة. الوجه الرابع: أن الله سبحانه ذكر الصبر فى كتابه فى نحو تسعين موضعاً، فمرة أمر به، ومرة أثنى على أهله، ومرة أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبشر به أهله، ومرة جعله شرطاً فى حصول النصر والكفاية ومرة أخبر أنه مع أهله، وأثنى به على صفوته من العالمين وهم أنبياؤه ورسله، فقال عن نبيه أيوب: {إِنَا وَجَدْنَاهُ صَابِرَاً، نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّاب} [سورة ص: 44] ، وقال [تعالى] لخاتم أنبيائه ورسله: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنِ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35] ، وقال: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللهِ} [النمل: 127] ، وقال يوسف الصديق، وقد قال له إخوته: {أَإِنَّكَ لأنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِى، قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَآ إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ الله لا يُضِيَعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:90] ، وهذا يدل على أن الصبر من أجل مقامات الإيمان، وأن أخصّ الناس بالله وأولاهم به أشدهم قياماً وتحققاً به، وأن الخاصة أحوج إليه من العامة. الوجه الخامس: أن الصبر سبب فى حصول كل كمال، فأكمل الخلق أصبرهم، ولم يتخلف عن أحد كماله الممكن إلا من ضعف صبره، فإن كمال العبد بالعزيمة والثبات، فمن لم يكن له عزيمة فهو ناقص، ومن كانت له عزيمة ولكن لا ثبات له عليها فهو ناقص. فإذا انضم الثبات إلى العزيمة أثمر كل مقام شريف وحال كامل، ولهذا فى دعاء النبى صلى الله عليه وسلم الذى رواه الإمام أحمد وابن حبان فى صحيحه: "اللَّهم إنى أسألك الثبات فى الأمر والعزيمة على الرشد"، ومعلوم أن شجرة الثبات والعزيمة لا تقوم إلا على ساق الصبر، فلو علم العبد الكنز الذى تحت هذه الأحرف الثلاثة أعنى اسم "الصبر" لما تخلف عنه. قال النبى صلى الله عليه وسلم: "ما أُعطى أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر"، وقال عمر بن الخطاب [رضى الله عنه] حين غشى عليه: أدركناه بالصبر. وفى مثل هذا قال القائل: نزه فؤادك عن سوانا والقنا ... فجنابنا حل لكل منزه والصبر طلّسم لكنز وصالنا ... من حل ذا الطلَّسم فاز بكنزه فالصبر طلسم على كنز السعادة، من حله ظفر بالكنز. الوجه السادس: قوله: "الصبر حبس النفس على مكروه، وعقل اللسان عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 الشكوى، ومكابدة الغصص فى تحمله، وانتظار الفرج عند عاقبته"، فيقال: هذا أحد أقسام الصبر، وهو الصبر على البلاءِ. وأما الصبر على الطاعة فقد يعرض فيه ذلك أو بعضه وقد لا يعرض فيه، بل [يتجلى] بها ويأْتى بها محبة ورضى، ومع هذا فالصبر واقع عليها، فإنه حبس النفس على مداومتها والقيام بها، قال الله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِى} [الكهف: 28] ، وأما الصبر عن المعصية فقد يعرض فيه ذلك أو بعضه، وقد لا يعرض فيه، لتمكن الصابر من قهر داعيها وغلبته. وإذا كان ما ذكر من الأُمور الأربعة إِنما يعرض فى الصبر على البلية فقوله: "إنه فى طريق الخاصة تجلد ومناوأَة وجرأَة ومنازعة" ليس كذلك، وإنما فيه التجلد، فأين المناوأة [والجرأة] والمنازعة؟ وأما لوازم الطبيعة من وجود ألم البلوى فلا تنقلب ولا تعدم فلا يصح أن يقال: إن وجود التألم والتجلد عليه وحبس النفس عن التسخط واللسان عن الشكوى جرأَة ومنازعة، بل هو محض العبودية والاستكانة وامتثال الأَمر، وهو من عبودية الله المفروضة على عبده فى البلاءِ، فالقيام بها عين كمال العبد ولوازم الطبيعة لا بد منها، ومن رام أن لا يجد البرد والحر والجوع والعطش والألم عند تمام أسبابها وعللها فقد رام الممتنع. وهل يكون الأَجر إلا على وجود تلك الآلام والمشاق والصبر عليها؟ وقد ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أشد الناس بلاءَ الأنبياءُ ثم الأمثل فالأمثل"، وقيل له فى مرضه: إنك لتوعك وعكاً شديداً، قال: "أجل إن لى أجر رجلين منكم" يعنى فى وعكة [صلى الله عليه وسلم] . ولا ريب أن ذلك الوعك مؤلم له صلى الله عليه وسلم، وأيضاً فى مرض موته قال: "وارأْساه"، وهذا إنما هو من وجود أَلم الصداع، وكان يقول فى غمرات الموت: "اللَّهم أَعنِّى على سكرات الموت" [ويدخل يده فى القدح ويمسح وجهه بالماء من كرب الموت] ، وهذا كله لتكميل أجره وزيادة رفعة درجاته صلى الله عليه وسلم. وهل كان ذلك إلا محض العبودية وعين الكمال؟ وهل الجرأة والمناوأة والمنازعة إلا فى ترك الصبر، وفى التسخط والشكوى؟ الوجه السابع: قوله: "فإن حامله يرجع إلى كتمان الشكوى فى تحامل الأذى بالبلوى، والاستبشار باختيار المولى"، فيقال: الذى يمكن الخروج عنه هو الشكوى، وأما أن يخرج عن ذوق البلوى فلا يجده أو يتلذذ بها، فهذا غير ممكن، ولا هو فى الطبيعة، وإنما الممكن أن يشاهد العبد فى تضاعيف البلاءِ لطف صنع الله به وحسن اختياره له الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 وبره به فى حمله عنه [فيخفف عنه] مؤنة حمله، وتشتغل النفس باستخراج لطائف صنع الله به وبره وحسن اختياره عن شهود حمله فيحصل له لذة بما شهده من ذلك، وفوق هذا مرتبة أرفع منه، وهى أن يشهد أن هذا مراد محبوبه، وإنه بمرأى منه ومسمع، وأنه هديته إلى عبده، وخلعته التى خلعها عليه ليرفل له فى أذيال التذلل والمسكنة والتضرع لعزته وجلاله، فيعلم العبد أن حقيقة المحبة هى موافقة المحبوب فى محابه فيحب ما يحبه محبوبه، فيحب العبد تلك الحال من حيث موافقته لمحبوبه وإن كرهها من حيث الطبع البشرى، فإن هذه الكراهة لا تنافى محبته لها كما يكره طبعه الدواءَ الكريه وهو يحبه من وجه آخر، وهذا لا ينكر فى المحبة المتعلقة بالمخلوق مع ضعفها وضعف أسبابها، كما قال القائل فى ذلك: أهوى هواه وبعدى عنه يعجبه ... فالبعد قد صار لى فى حبه أَربا وقال الآخر: أريد وصاله ويريد هجرى ... فأترك ما أريد لما يريد وقال الآخر: وأَهنتنى فأَهتت نفسى جاهداً ... ما من يهون عليك ممن أُكرم وإنه لتبلغ المحبة بالعبد إلى حيث يفنى بمراد محبوبه عن مراده هو منه. فإذا شهد مراد محبوبه أَحبه، وإن كان كريهاً إليه. فهذا لا ينكر ولا ينافى التأَلم بمراد المحبوب المنافى للمحب وصبره عليه، بل يجتمع فى حقه الأَمران، وتقوى هذه المحبة باستبشاره وعلمه بعاقبة تلك البلوى وإفضائها إلى غاية النعيم واللذة، فكلما قوى علمه بذلك وقويت محبته لمن ذكره بابتلائه ازداد تلذذه بها مع الكراهية الطبيعية التى هى من لوازم الخلقة ولا سيما إِذا علم المحب الذى أَحب الأشياءَ إليه أن يجرى ذكره على بال محبوبه أَن محبوبه قد ذكره بنوع من الامتحان، فإنه يفرح بذكره له وإن ساءه ما ذكره به كما قال القائل: لئن ساءَنى أن نلتنى بمساءَة ... لقد سرنى أَنى خطرت ببالكا الوجه الثامن: قوله: "وهو على ثلاث مقامات مرتبة بعضها فوق بعض، فالأول التصبر- إلى قوله- وهو صبر العوام"، فيقال: لا ريب أن التصبر مؤذن بتكلف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 وتحمل على كره، ولكن هذا لا بد منه فى الصبر. وهو سببه الذى ينال به، فالتصبر من العبد، والصبر ثمرته التى يفرعها الله إذا تعاطاه وتكلفه، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم: "ومن يتصبر يصبره لله"، فمنزلة التصبر من الصبر منزلة التعلم والتفهم من العمل والفهم، فلا بد منه فى حصول الصبر. الوجه التاسع: قوله: "والثانى الصبر، وهو نوع سهولة يخفف عن المبتلى بعض الثقل، ويسهل عليه صعوبة المراد وهو الصبر للله، وهو صبر المريدين"، فقد تقدم أن الصبر ثمرة التصبر وكلاهما إنما يحمد إذا كان الله. وإنما يكون إذا كان بالله فما لم يكن به لا يكون، وما لم يكن له لا ينفع ولا يثمر، فكلاهما لا يحصل للمريد السالك مقصوده إلا أن يكون بالله ولله. قال تعالى فى الصبر به: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللهِ} [النحل: 127] ، وقال فى الصبر له: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} [الطور: 48] . واختلف الناس أى [الله] الصبرين أعلى وأفضل: الصبر له، أو به؟ فقالت طائفة منهم صاحب [كتاب] "منازل السائرين": وأضعف الصبر الصبر لله وهو صبر العامة، وفوقه الصبر بالله، [وهو صبر المريد وفوقهما الصبر على الله ووجه هذا القول السالك ووجه هذا القول إن الصبر لله] هو صبر العابد الذى تصبر نفسه لأَمر الله طالباً لمرضاته وثوابه، فهو صابر على العمل صابر عن المحرمات، وأما الصبر به فهو تبرؤ من الحول والقوة، وإضافة ذلك إلى الله [عز وجل] وهو صبر المريد. وأما الصبر على الله فصبر السالك على ما يجيء به متعلق أقداره وأحكامه. والصواب أن الصبر لله أكمل من الصبر به، فإِن الصبر له متعلق بإلهيته ومحبته، والصبر به متعلق بربوبيته ومشيئته، وما هو له أكمل مما هو به، فإن ما هو له [هو] الغاية وما به هو الوسيلة، فالصبر به وسيلة والصبر له غاية، وبينهما من التفاوت ما بين الغايات والوسائل. وأيضاً فإن الصبر له متعلق بقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين} [الفاتحة: 5] ،وهاتان الكلمتان منقسمتان بين العبد وبين الله، كما ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم فيما يروى عن ربه و"إِيَّاك نعبد" هى التى لله، و"إيَّاك نستعين" هى التى للعبد، وما لله أكمل مما للعبد فما تعلق بما هو له أفضل مما تعلق بما هو للعبد، وأيضاً فالصبر له مصدره المحبة، والصبر به مصدره الاستعانة والمحبة أكمل من الاستعانة. وأما الصبر على الله [سبحانه] فهو الصبر على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 أحكامه الدينية والكونية، فهو يرجع إلى الصبر على أوامره والصبر على ابتلائه، فليس فى الحقيقة قسماً ثالثاً، والله أعلم. فقد تبين أن الصبر بجميع أقسامه أصل مقامات الإيمان، وهو أصل لكمال العبد الذى لا كمال له بدونه، ولا يذم منه إلا قسم واحد وهو الصبر عن الله [سبحانه] فإنه صبر المعرضين المحجوبين، فالصبر عن المحبوب أقبح شيء وأسوؤُه، وهو الذى يسقط المحب من عين محبوبه، فإن المحب كلما كان أَكمل محبة كان صبره عن محبوبه متعذراً. الوجه العاشر: قوله: "الثالث الاصطبار، وهو التلذذ بالبلوى والاستبشار باختيار المولى. وهذا هو الصبر على الله وهو صبر العارفين". فيقال: الاصطبار افتعال من الصبر كالاكتساب والاتخاذ، وهو مشعر بزيادة المعنى على الصبر، كأَنه صار سجية وملكة: فإن هذا البناء مؤذن بالاتخاذ والاكتساب، قال تعالى: {فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِر} [القمر: 27] ، فالاصطبار أبلغ من الصبر كما أن الاكتساب أبلغ من الكسب، ولهذا كان فى العمل الذى يكون على صاحبه، والكسب فيما له، قال تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286] تنبيهاً على أن الثواب يحصل لها بأَدنى سعى وكسب، وأن العقاب إنما هو باكتسابها وتصرفها وما تعانيه. وإذا علم هذا فالتلذذ بالبلوى والاستبشار باختيار الله سبحانه لا يخص الاصطبار، بل يكون مع الصبر ومع [التصبر] . ولكن لما كان الاصطبار أبلغ من الصبر وأقوى كان بهذا التلذذ والاستبشار أولى. والله أعلم قاعدة: الصبر عن المعصية ينشأُ من أسباب عديدة: أحدها: علم العبد بقبحها ورذالتها ودناءَتها، وأن الله إنما حرَّمها ونهى عنها صيانة وحماية عن الدنايا والرذائل، كما يحمى الوالد الشفيق [والده] عما يضره. وهذا السبب يحمل العاقل على تركها ولو لم يعلق عليها وعيد بالعذاب. السبب الثانى: الحياءُ من الله سبحانه، فإن العبد متى علم بنظره إليه ومقامه عليه وأنه بمرأَى منه ومسمع- وكان [حياً] حييّاً- استحى من ربه أن يتعرض لمساخطه. السبب الثالث: مراعاة نعمه عليك وإحسانه إليك، فإن الذنوب تزيل النعم ولا بد، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 فما أذنب عبد ذنباً إلا زالت عنه نعمة من الله بحسب ذلك الذنب، فإن تاب وراجع رجعت إليه أو مثلها، وإن أصر لم ترجع إليه، ولا تزال الذنوب تزيل عنه نعمة حتى تسلب النعم كلها، قال الله تعالى: {إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: 11] ، وأعظم النعم الإيمان، وذنب الزنا والسرقة وشرب الخمر وانتهاب النهبة يزيلها ويسلبها. وقال بعض السلف: أذنبت ذنباً فحرمت قيام الليل سنة. وقال آخر: أذنبت ذنباً فحرمت فهم القرآن. وفى مثل هذا قيل: إذا كنت فى نعمة فارعها ... فإن المعاصى تزيل النعم وبالجملة فإن المعاصى نار النعم تأْكلها كما تأْكل النار الحطب، عياذاً بالله من زوال نعمته وتحويل عافيته. السبب الرابع: خوف الله وخشية عقابه. وهذا إنما يثبت بتصديقه فى وعده ووعيده والإيمان به وبكتابه وبرسوله. وهذا السبب يقوى بالعلم واليقين ويضعف بضعفهما. قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] ، وقال بعض السلف: كفى بخشية الله علماً وبالاغترار بالله جهلاً. السبب الخامس: محبة الله [سبحانه] وهى أقوى الأسباب فى الصبر عن مخالفته ومعاصيه. فإن المحب لمن يحب مطيع، وكلما قوى سلطان المحبة فى القلب كان اقتضاؤه للطاعة وترك المخالفة أقوى، وإنما تصدر المعصية والمخالفة من ضعف المحبة وسلطانها وفرق بين من يحمله على ترك معصية سيده خوفه من سوطه وعقوبته، وبين من يحمله على ذلك حبه لسيده، وفى هذا قال عمر: "نعم العبد صهيب، لو لم يخف الله لم يعصه" يعنى أنه لو لم يخف من الله لكان فى قلبه من محبة الله وإجلاله ما يمنعه من معصيته. فالمحب الصادق عليه رقيب من محبوبه يرعى قلبه وجوارحه، وعلامة صدق المحبة شهود هذا الرقيب ودوامه. وههنا لطيفة يجب التنبه لها، وهى أن المحبة المجردة لا توجب هذا الأثر ما لم تقترن بإجلال المحبوب وتعظيمه، فإذا قارنها بالإجلال والتعظيم أوجبت هذا الحياءَ والطاعة، وإلا فالمحبة الخالية عنهما إنما توجب نوع أنس وانبساط وتذكر واشتياق، ولهذا يتخلف عنها أثرها وموجبها، ويفتش العبد قلبه فيرى [فيه] نوع محبة لله، ولكن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 لا تحمله على ترك معاصيه. وسبب ذلك تجردها عن الإجلال والتعظيم، فما عمر القلب شيء كالمحبة المقترنة بإجلال الله وتعظيمه، وتلك من أفضل مواهب الله لعبده أو أفضلها، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاءُ. السبب السادس: شرف النفس وزكاؤها وفضلها وأنفتها وحميتها أن تختار الأسباب التى تحطها وتضع قدرها، وتخفض منزلتها وتحقرها، وتسوى بينها وبين السفلة. السبب السابع: قوة العلم بسوءِ عاقبة المعصية، وقبح أثرها والضرر الناشيء منها: من سواد الوجه، وظلمة القلب، وضيقه وغمه، وحزنه وأَلمه، وانحصاره، وشدة قلقه واضطرابه، وتمزق شمله. وضعفه عن مقاومة عدوه، وتعريه من زينته والحيرة فى أَمره وتخلى وليه وناصره عنه، وتولى عدوه المبين له، وتوارى العلم الذى كان مستعداً له عنه، ونسيان ما كان حاصلاً له أَو ضعفه ولا بد، ومرضه الذى إذا استحكم به فهو الموت ولا بد، فإِن الذنوب تميت القلوب، ومنها ذله بعد عزة، ومنها أن يصير أسيراً فى يد أعدائه بعد أن كان ملكاً متصرفاً يخافه أعداؤه، ومنها أن يضع تأثيره فلا يبقى له نفوذ فى رعيته ولا فى الخارج فلا رعيته تطيعه إذا أَمرها، ولا ينفذ فى غيرهم، ومنها زوال أَمنه وتبدله به مخافة، فأخوف الناس أشدهم إساءة، ومنها زوال الأُنس والاستبدال به وحشة، وكلما ازداد إساءة ازداد وحشة، ومنها زوال الرضى واستبداله بالسخط، ومنها زوال الطمأْنينة بالله والسكون إليه والإيواء عنده واستبدال الطرد والبعد منه، ومنها وقوعه فى بئر الحسرات، فلا يزال فى حسرة دائمة كلما نال لذة نازعته نفسه إلى نظيرها إن لم يقض منها وطراً، أو إلى [غيرها] إن قضى وطره منها، وما يعجز عنه من ذلك أضعاف أضعاف ما يقدر عليه، وكلما اشتد نزوعه وعرف عجزه اشتدت حسرته وحزنه. فيالها ناراً قد عذب بها القلب فى هذه الدار قبل نار الله الموقدة التى تطلع على الأفئدة، ومنها فقره بعد غناه فإنه كان غنياً بما معه من رأْس مال الإيمان وهو يتجر به ويربح الأرباح الكثيرة، فإذا سلب رأْس ماله أصبح فقيراً معدماً، فإما أن يسعى بتحصيل رأْس مال آخر بالتوبة النصوح والجد والتشمير [وإلا] فقد فاته ربح كثير بما أضاعه من رأْس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 ماله، ومنها نقصان رزقه، فإن العبد يحرم الرزق بالذنب يصيبه، ومنها ضعف بدنه، ومنها زوال المهابة والحلاوة التى لبسها بالطاعة فتبدل بها مهانة وحقارة، ومنها حصول البغضة والنفرة منه فى قلوب الناس، ومنها ضياع أعز الأشياءِ عليه وأنفسها وأعلاها، وهو الوقت الذى لا عوض منه، ولا يعود إليه أبداً، ومنها طمع عدوه فيه وظفره به، فإِنه إِذا رآه منقاداً مستجيباً لما يأْمره اشتد طمعه فيه وحدث نفسه بالظفر به وجعله من حزبه حتى يصير هو وليه دن مولاه الحق، ومنها الطبع والرين على قلبه، فإن العبد إذا أذنب نكت فى قلبه نكتة سوداء، فإن تاب منها صقل قلبه، وإن أذنب ذنباً آخر نكت فيه نكتة أُخرى ولا تزال حتى تعلو قلبه، فذلك هو الران، قال الله تعالى: {كَلا بَل رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكسِبُونَ} [المطففين: 14] ، ومنها أنه يحرم حلاوة الطاعة، فإذا فعلها لم يجد أثرها فى قلبه من الحلاوة والقوة ومزيد الإيمان والعقل والرغبة فى الآخرة، فإن الطاعة تثمر هذه الثمرات ولا بد. ومنها أن تمنع قلبه من ترحله من الدنيا ونزوله بساحة القيامة، فإن القلب لا يزال مشتتاً مضيعاً حتى يرحل من الدنيا وينزل فى الآخرة، فإذا نزل فيها أقبلت إليه وفود التوفيق والعناية من كل جهة، واجتمع على جمع أَطرافه وقضاءِ جهازه وتعبئة زاده ليوم معاده، وما لم يترحل إلى الآخرة ويحضرها فالتعب والعناءُ والتشتت والكسل والبطالة لازمة له لا محالة. ومنها إعراض الله وملائكته وعباده عنه، فإن العبد إذا أعرض عن طاعة الله واشتغل بمعاصيه أعرض الله عنه فأعرضت عنه ملائكته وعباده، كما أنه إذا أقبل على الله أقبل الله عليه وأقبل بقلوب خلقه إليه، ومنها أن الذنب يستدعى ذنبا آخر، ثم يقوى أحدهما بالآخر فيستدعيان ثالثاً، ثم تجتمع الثلاثة فتستدعى رابعاً، وهلم جرا حتى تغمره ذنوبه وتحيط به خطيئته. قال بعض السلف: إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها، ومن عقوبة السيئة السيئة بعدها، ومنها علمه بفوات ما هو أحب إليه وخير له منها من جنسها وغير جنسها، فإنه لا يجمع الله لعبده بين لذة المحرمات فى الدنيا ولذة ما فى الآخرة. كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِى حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف: 20] ، فالمؤمن لا يذهب طيباته فى الدنيا، بل لا بد أن يترك بعض طيباته للآخرة. وأما الكافر فإنه لا يؤمن بالآخرة فهو حريص على تناول حظوظه كلها وطيباته فى الدنيا، ومنها علمه بأن أعماله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 هى زاده ووسيلته إلى دار إقامته، فإن تزود من معصية الله أوصله ذلك الزاد إلى دار العصاة والجناة، وإن تزود من طاعته وصل إلى دار أهل طاعته وولايته، ومنها علمه بأَن عمله هو وليه فى قبره وأنيسه فيه وشفيعه عند ربه والمخاصم والمحاج عنه، فإن شاء جعله له، وإن شاء جعله عليه، ومنها علمه بأن أعمال البر تنهض بالعبد وتقوم به وتصعد إلى الله به، فبحسب قوة تعلقه بها يكون صعوده مع صعودها، وأعمال الفجور تهوى به وتجذبه إلى الهاوية وتجره إلى أسفل سافلين، وبحسب قوة تعلقه بها يكون هبوطه معها ونزوله إلى حيث [تستقر] به، قال الله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ والعملُ الصَالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] ، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَآءِ} [الأعراف: 40] ، فلما لم تفتح أبواب السماء لأعمالهم بل أغلقت عنها، لم تفتح لأرواحهم عند المفارقة بل أُغلقت عنها. وأهل الإيمان والعمل الصالح لما كانت أبواب السماء مفتوحة لأعمالهم حتى وصلت إلى الله سبحانه، فتحت لأرواحهم حتى وصلت إليه تعالى وقامت بين يديه، فرحمها وأمر بكتابة اسمها فى عليين، ومنها خروجه من حصن الله الذى لا ضيعة على من دخله، فيخرج بمعصيته منه إلى حيث يصير نهباً للصوص وقطاع الطريق. فما الظن بمن خرج من حصن حصين لا تدركه فيه [آفة] إلى خربة موحشة هى مأْوى اللصوص وقطاع الطريق فهل يتركون معه شيئاً من متاعه؟ ومنها أنه بالمعصية قد تعرّض لمحق بركته [فى كل شيء من أمر دنياه وآخرته فإن الطاعة تجلب للعبد بركات كل شيء والمعصية متحق منه كل بركة] . وبالجملة فآثار المعصية القبيحة أكثر من أن يحيط بها العبد علماً، وآثار الطاعة الحسنة أكثر من أن يحيط بها علماً فخير الدنيا والآخرة بحذافيره فى طاعة الله، وشر الدنيا والآخرة بحذافيره فى معصيته، وفى بعض الآثار يقول الله سبحانه وتعالى: من ذا الذى أطاعنى فشقى بطاعتى؟ ومن ذاى الذى عصانى فسعد بمعصيتى؟ السبب الثامن: قصر الأمل، وعلمه بسرعة انتقاله، وأنه كمسافر دخل قرية وهو مزمع على الخروج منها، أو كراكب قال فى ظل شجرة ثم سار وتركها. فهو لعلمه بقلة مقامه وسرعة انتقاله حريص على ترك ما يثقله حمله ويضره ولا ينفعه، حريص على الانتقال بخير ما بحضرته، فليس للعبد أنفع من قصر الأمل ولا أضر من التسويف وطول الأمل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 السبب التاسع: مجانبة الفضول فى مطعمه ومشربه وملبسه ومنامه واجتماعه بالناس، فإن قوة الداعى إلى المعاصى إنما تنشأُ من هذه الفضلات، فإنها تطلب لها مصرفاً فيضيق عليها المباح فتتعداه إلى الحرام. ومن أعظم الأشياء ضرراً على العبد بطالته وفراغه، فإن النفس لا تقعد فارغة، بل إن لم يشغلها بما ينفعها شغلته بما يضره ولا بد. السبب العاشر: وهو الجامع لهذه الأسباب كلها: ثبات شجرة الإيمان فى القلب، فصبر العبد عن المعاصى إنما هو بحسب قوة إيمانه، فكلما كان إيمانه أقوى كان صبره أتمّ وإذا ضعف الإيمان ضعف الصبر، فإن من باشر قلبه الإيمان بقيام الله عليه ورؤيته له، وتحريمه لما حرم عليه، وبغضه له، ومقته لفاعله وباشر قلبه الإيمان بالثواب والعقاب والجنة والنار، وامتنع من أن لا يعمل بموجب هذا العلم. ومن ظن أنه يقوى على ترك المخالفات والمعاصى بدون الإيمان الراسخ الثابت فقد غلط، فإذا قوى سراج الإيمان فى القلب، وأَضاءَت جهاته كلها به، وأشرق نوره فى أرجائه، سرى ذلك النور إلى الأعضاء، وانبعث إليها، فأسرعت الإجابة لداعى الإيمان، وانقادت له طائعة مذللة غير متثاقلة ولا كارهة بل تفرح بدعوته حين يدعوها، كما يفرح الرجل بدعوة حبيبه المحسن إليه إلى محل كرامته. فهو كل وقت يترقب داعيه، ويتأهب لموافاته. والله يختص برحمته من يَشاءُ، والله ذو الفضل العظيم. فصل والصبر على الطاعة ينشأُ من معرفة هذه الأسباب ومن معرفة ما تجلبه الطاعة من العواقب الحميدة والآثار الجميلة، ومن أَقوى أسبابها: الإيمان والمحبة، فكلما قوى داعى الإيمان والمحبة فى القلب كانت استجابته للطاعة بحسبه. وههنا مسألة تكلم فيها الناس، وهى أى الصبرين أفضل صبر العبد عن المعصية، أم صبره على الطاعة؟ فطائفة رجحت الأول وقالت: الصبر عن المعصية من وظائف الصدّيقين، كما قال بعض السلف: أعمال البر يفعلها البر والفاجر، ولا يقوى على ترك المعاصى إلا صدّيق. قالوا: ولأن داعى المعصية أشد من دواعى ترك الطاعة، فإن داعى المعصية إلى [داع أمر] أمر وجودى تشتهيه النفس وتلتذ به، والداعى إلى ترك الطاعة الكسل والبطالة والمهانة، ولا ريب أن داعى المعصية أقوى. قالوا: ولأن العصيان قد اجتمع عليه داعى النفس والهوى والشيطان وأسباب الدنيا وقرناءُ الرجل وطلب التشبه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 والمحاكاة وميل الطبع، وكل واحد من هذه الدواعى يجذب العبد إلى المعصية ويطلب أثره، فكيف إذا اجتمعت وتظاهرت على القلب؟ فأى صبر أَقوى من صبر عن إجابتها؟ ولولا أَن الله يصبره لما تأْتى منه الصبر. وهذا القول كما ترى حجته فى غاية الظهور، ورجحت طائفة الصبر على الطاعة بناءً منها على أن فعل المأْمور أَفضل من ترك المنهيات، واحتجت على ذلك بنحو من عشرين حجة. ولا ريب أن فعل المأمورات إنما يتم بالصبر عليها، فإذا كان فعلها أفضل كان الصبر عليها أفضل، وفصل النزاع فى ذلك أن هذا يختلف باختلاف الطاعة والمعصية: فالصبر على الطاعة [العظيمة] الكبيرة أفضل من الصبر عن المعصية الصغيرة الدنية، والصبر عن المعصية الكبيرة أفضل من الصبر على الطاعة الصغيرة، وصبر العبد على الجهاد مثلاً أفضل وأعظم من صبره عن كثير من الصغائر، وصبره عن كبائر الإثم والفواحش أعظم من صبره على صلاة [الضحى] وصوم يوم تطوعاً ونحوه، فهذا فصل النزاع فى المسألة. والله أعلم. فصل والصبر على البلاء ينشأُ من أسباب عديدة: أحدها: شهود جزائها وثوابها. الثانى: شهود تكفيرها للسيئات ومحوها لها. الثالث: شهود القدر السابق الجارى بها، وأنها مقدرة فى أُم الكتاب قبل أن يخلق فلا بد منها، فجزعه لا يزيده إلا بلاءً. الرابع: شهوده حق الله عليه فى تلك البلوى، وواجبه فيها الصبر بلا خلاف بين الأُمة، أو الصبر والرضا على أحد القولين، فهو مأْمور بأداء حق الله وعبوديته عليه فى تلك البلوى، فلا بد له منه وإلا تضاعفت عليه. الخامس: شهود ترتبها عليه بذنبه، كما قال الله تعالى: {وَمَآ أصَابَكُم مِن مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيَكُمْ} [الشورى: 30] ، فهذا عام فى كل مصيبة دقيقة وجليلة، فيشغله شهود هذا السبب بالاستغفار الذى هو أعظم الأسباب فى دفع تلك المصيبة. قال على بن أبى طالب: ما نزل بلاءٌ إلا بذنب، ولا رفع بلاءٌ إلا بتوبة. السادس: أن يعلم أن الله قد ارتضاها له واختاره وقسمها وأن العبودية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 .. تقتضى رضاه بما رضى له به سيده ومولاه، فإن لم يوف قدر المقام حقه فهو لضعفه، فلينزل إلى مقام الصبر عليها، فإن نزل عنه نزل إلى مقام الظلم وتعدى الحق. السابع: أن يعلم أن هذه المصيبة هى دواءٌ نافع ساقه إليه الطبيب العليم بمصلحته الرحيم به، فليصبر على تجرعه، ولا يتقيأْه بتسخطه وشكواه فيذهب نفعه باطلاً. الثامن: أن يعلم أن فى عُقبى هذا الدواءِ من الشفاءِ والعافية والصحة وزوال الأَلم ما لم تحصل بدونه، فإذا طالعت نفسه كراهة هذا الدواء ومرارته فلينظر إلى عاقبته وحسن تأْثيره. قال [الله] تعالى: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُم، وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216] . وقال الله تعالى: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء: 19] وفى مثل هذا القائل: لعلّ عتبك محمود عواقبه ... وربما صحت الأجسام بالعلل التاسع: أن يعلم أن المصيبة ما جاءَت لتهلكه وتقتله، وإنما جاءت لتمتحن صبره وتبتليه، فيتبين حينئذ هل يصلح لاستخدامه وجعله من أوليائه وحزبه أم لا؟ فإن ثبت اصطفاه واجتباه وخلع عليه خلع الإكرام وأَلبسه ملابس الفضل وجعل أولياءَه وحزبه خدماً له وعوناً له، وإن انقلب على وجه ونكص على عقبيه طرد وصفع قفاه وأُقصى وتضاعفت عليه المصيبة، وهو لا يشعر فى الحال بتضاعفها وزيادتها، ولكن سيعلم بعد ذلك بأن المصيبة فى حقه صارت مصائب، كما يعلم الصابر أن المصيبة فى حقه صارت نعماً عديدة. وما بين هاتين المنزلتين المتباينتين إلا صبر ساعة، وتشجيع القلب فى تلك الساعة. والمصيبة لا بد أن تقلع عن هذا وهذا، ولكن تقلع عن هذا بأَنواع الكرامات والخيرات، وعن الآخر بالحرمان والخذلان، لأن ذلك تقدير العزيز العليم، وفضل الله يؤتيه من يشاءُ والله ذو الفضل الْعظيم. العاشر: أن يعلم أن الله يربى عبده على السراء والضراء، والنعمة والبلاء، فيستخرج منه عبوديته فى جميع الأحوال. فإن العبد على الحقيقة من قام بعبودية الله على اختلاف الأحوال، وأما عبد السراء والعافية الذى يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه، فليس من عبيده الذين اختارهم لعبوديته. فلا ريب أن الإيمان الذى يثبت على محل الابتلاء والعافية هو الإيمان النافع وقت الحاجة، وأما إيمان العافية فلا يكاد يصحب العبد ويبلغه منازل المؤمنين، وإنما يصحبه إيمان يثبت على البلاءِ والعافية. فالابتلاء كير العبد [محل] إيمانه: فإما أن يخرج تبراً أحمر، وإما أن يخرج زغلاً [غضاً] ، وإما أن يخرج فيه مادتان ذهبية ونحاسية، فلا يزال به البلاءُ حتى يخرج المادة النحاسية من ذهبه، ويبقى ذهباً خالصاً فلو علم العبد أن نعمة الله عليه فى البلاءِ ليست بدون نعمة الله عليه فى العافية لشغل قلبه بشكره ولسانه، اللَّهم أعنِّى على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وكيف لا يشكر من قيض له ما يستخرج خبثه ونحاسه وصيره تبراً خالصاً يصلح لمجاورته والنظر إليه فى داره؟ فهذه الأسباب ونحوها تثمر الصبر على البلاء، فإن قويت أثمرت الرضا والشكر. فنسأل الله أن يسترنا بعافيته، ولا يفضحنا بابتلائه بمنه وكرمه. فصل المثال السادس: الحزن، قال أبو العباس: "وهو من منازل العوام، وهو انخلاع عن السرور، وملازمة الكآبة لتأَسف عن فائت أو توجع لممتنع. وإنما كان من منازل العوام لأن فيه نسيان المنة، والبقاءَ فى رق الطبع، وهو فى مسالك الخواص حجاب، لأن معرفة الله جلا نورها كل ظلمة، وكشف سرورها كل غمة. فبذلك فليفرحوا. وقيل: أوحى الله إلى داود: يا داود بى فافرح، وبذكرى فتلذذ، وبمعرفتى فافتخر. فعما قليل أُفرغ الدار من الفاسقين، وأُنزل نقمتى على الظالمين". اعلم أن الحزن من عوارض الطريق، ليس من مقامات الإيمان ولا من منازل السائرين. ولهذا لم يأْمر الله به فى موضع قط ولا أَثنى عليه، ولا رتب عليه جزاء ولا ثواباً، بل نهى عنه فى غير موضع كقوله تعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139] ، وقال تعالى: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِى ضِيقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل: 127] ، وقال تعالى: {فَلا تأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 26] ، وقال: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعنَا} [التوبة: 40] ، فالحزن هو بلية من البلايا التى نسأَل الله دفعها وكشفها، ولهذا يقول أهل الجنة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 {الْحَمْدُ للهِ الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحزَن} [فاطر: 34] ، فحمده على أن أذهب عنهم تلك البلية ونجاهم منها. وفى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول فى دعائه: "اللَّهم إنى أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والجبن والبخل، وضلع الدين وغلبة الرجال". فاستعاذ صلى الله عليه وسلم من ثمانية أشياء كل شيئين منها قرينان: فالهم والحزن قرينان، وهما الألم الوارد على القلب، فإن كان على ما مضى فهو الحزن، وإن كان على ما يستقبل فهو الهم. فالألم الوارد إن كان مصدره فوت الماضى أثر الحزن، وإن كان مصدره خوف الآتى أثر الهم. والعجز والكسل قرينان، فإن تخلف مصلحة العبد وبعدها عنه إن كان من عدم القدرة فهو عجز، وإن كان من عدم الإرادة فهو كسل والجبن والبخل قرينان، فإن الإحسان يفرح القلب ويشرح الصدر ويجلب النعم ويدفع النقم، وتركه يوجب الضيم والضيق ويمنع وصول النعم إليه، فالجبن ترك الإحسان بالبدن، والبخل ترك الإحسان بالمال، [وضلع الدين وغلبة الرجال] قرينان، فإن القهر والغلبة الحاصلة للعبد إما منه وإما من غيره، وإن شئت قلت: إما بحق وإما بباطل من غيره. والمقصود أن النبى صلى الله عليه وسلم جعل الحزن مما يستعاذ منه. وذلك لأن الحزن يضعف القلب ويوهن العزم، ويضر الإرادة، ولا شيء أحب إلى الشيطان من حزن المؤمن، قال تعالى: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [المجادلة: 10] ، فالحزن مرض من أمراض القلب يمنعه من نهوضه وسيره وتشميره، والثواب عليه ثواب المصائب التى يبتلى العبد بها بغير اختياره، كالمرض والألم ونحوهما، وأما أن يكون عبادة مأْموراً بتحصيلها وطلبها فلا، ففرق بين ما يثاب عليه العبد من المأمورات، وما يثاب عليه من البليات. ولكن يحمد فى الحزن سببه ومصدره ولازمه لا ذاته، فإن المؤمن إما أن يحزن.. على تفريطه وتقصيره خدمة ربه وعبوديته، وأما أن يحزن على تورّطه فى مخالفته ومعصيه وضياع أيامه وأوقاته. وهذا يدل على صحة الإيمان فى قلبه وعلى حياته، حيث شغل قلبه بمثل هذا الألم فحزن عليه، ولو كان قلبه ميتاً لم يحس بذلك ولم يحزن ولم يتألم، فما لجرح بميت إيلام، وكلما كان قلبه أشد حياة كان شعوره بهذا الألم أقوى، ولكن الحزن لا يجدى عليه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 فإنه يضعفه كما تقدم. بل الذى ينفعه أن يستقبل السير ويجد ويشمر، ويبذل جهده، وهذا نظير من انقطع عن رفقته فى السفر، فجلس فى الطريق حزيناً كئيباً يشهد انقطاعه ويحدث نفسه باللحاق بالقوم. فكلما فتر وحزن حدث نفسه باللحاق برفقته، ووعدها إن صبرت أن تلحق بهم، ويزول عنها وحشة الانقطاع. فهكذا السالك إلى منازل الأبرار، وديار المقربين وأخص من هذا الحزن حزنه على قطع الوقت بالتفرقة المضعفة للقلب عن تمام سيره وجده فى سلوكه، فإن التفرقة من أعظم البلاء على السالك، ولا سيما فى ابتداء أمره، فالأول حزن على التفريط فى [الأعمال] ، وهذا حزن على نقص حاله مع الله وتفرقة قلبه وكيف صار ظرفاً لتفرقة حاله، واشتغال قلبه بغير معبوده. وأخص من هذا الحزن حزنه على جزءٍ من أجزاءِ قلبه كيف هو خال من محبة الله؟ وعلى جزءٍ من أجزاءِ بدنه كيف هو منصرف فى غير محاب الله؟ فهذا حزن الخاصة، ويدخل فى هذا حزنهم على كل معارض يشغلهم عما هم بصدده من خاطر أو إرادة أو شاغل من خارج. فهذه المراتب من الحزن لا بد منها فى الطريق ولكن الكيس [من] لا يدعها تملكه وتقعده، بل يجعل عوض فكرته فيها فكرته فيما يدفعها به، فإن المكروه إذا ورد على النفس، فإن كانت صغيرة اشتغلت بفكرها فيه وفى حصوله عن الفكرة فى الأسباب التى يدفعها به فأَورثها الحزن، وإن كانت نفساً كبيرة شريفة لم تفكر فيه، بل تصرف فكرها إلى ما ينفعها فإن علمت منه مخرجاً فكرت فى طريق ذلك المخرج وأسبابه وإن علمت أنه لا مخرج منه، فكرت فى عبودية الله فيه. وكان ذلك عوضاً لها من الحزن، فعلى كل حال لا فائدة لها فى الحزن أصلاً والله أعلم. وقال بعض العارفين: ليست الخاصة من الحزن فى شيء. وقوله [رحمه الله:] : "معرفة الله جلا نورها كل ظلمة، وكشف سرورها كل غمة" كلام فى غاية الحسن، فإن من عرف الله أحبه ولا بد، ومن أحبه انقشعت عنه سحائب الظلمات، [وانكشفت] عن قلبه الهموم والغموم والأحزان، وعمر قلبه بالسرور والأفراح وأقبلت إليه وفود التهانى والبشائر من كل جانب، فإنه لا حزن مع الله أبداً، ولهذا قال [تعالى] حكاية عن نبيه صلى الله عليه وسلم أنه قال لصاحبه أبى بكر: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] ، فدل أنه لا حزن مع الله، وأن من كان الله معه فما له وللحزن؟ وإنما الحزن كل الحزن لمن فاته الله، فمن حصل الله له فعلى أى شيء يحزن؟ ومن فاته الله فبأَى شيء يفرح؟ قال تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 {قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس: 58] ، فالفرح بفضله ورحمته تبع للفرح به سبحانه. فالمؤمن يفرح بربه أعظم من فرح كل أحد بما يفرح به: من حبيب أو حياة، أو مال، أو نعمة، أو ملك. يفرح المؤمن بربه أعظم من هذا كله، ولا ينال القلب حقيقة الحياة حتى يجد طعم هذه الفرحة والبهجة، فيظهر سرورها فى قلبه ومضرتها فى وجهه، فيصير له حال من حال أهل الجنة حيث لقّاهم الله نضرة وسروراً. فلمثل هذا فليعمل العاملون، وفى ذلك فليتنافس المتنافسون، فهذا هو العلم الذى شمر إليه أولو الهمم والعزائم، واستبق إليه أصحاب الخصائص والمكارم. تلك المكارم لا قعبانِ من لبن ... شيباً بماءٍ [فماذا] بعد أبوالا فصل والمثال السابع: الخوف. قال أبو العباس: "هو الانخلاع عن طمأْنينة الأمن والتيقظ لنداءِ الوعيد، والحذر من سطوة العقاب. وهو من منازل العوام أيضاً، وليس فى منازل الخواص خوف، لأنه لا أمان للغافل، إنما يعبد مولاه على وحشة من نظره، ونفرة من الأُنس به عند ذكره: {تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ} [الشورى: 22] . وأما الخواص أهل الاختصاص، فإنهم جعلوا الوعيد منه وعداً، والعذاب فيه عذباً لأنهم شاهدوا المبتلى فى البلاءِ، والمعذب فى العذاب، فاستعذبوا ما وجدوا فى جنب ما شاهدوا فى ذلك. قال قائلهم: سقمى فى الحب عاقبتى ... ووجودى فى الهوى عدمي وعذاب ترتضون به ... فى فمى أحلى من النعم ومن كان مستغرقاً فى المشاهدة حل فى بساط الأُنس، فلا يبقى للخوف بساحته ألم. لأن المشاهد توجب الأُنس، والخوف يوجب القبض". ثم ذكر حكاية المضروب الذى ضرب مائة سوط فلم يتألم لأجل نظر محبوبه إليه، ثم ضرب سوطاً فصاح لما توارى عنه محبوبه. قال: "وقد قيل فى قوله تعالى: {وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [الشورى: 26] ، دليل خطابه أن المؤمنين لهم عذاب ولكن ليس بشديد، وإنما كان عذاب الكافرين شديداً لأنهم لا يشاهدون المعذب لهم، والعذاب على شهود المعذب عذب، والثواب على الغفلة من المعطى صعب فالخوف إذاً من منازل العوام" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 والكلام على ما ذكره من وجوه: أحدها: أن الخوف أحد أركان الإيمان والإحسان الثلاثة التى عليها مدار مقامات السالكين جميعها وهى: الخوف، والرجاءُ، والمحبة وقد ذكره سبحانه فى قوله: {قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِن دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تحويلا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء: 56- 57] ، فجمع بين المقامات الثلاثة، فإن ابتغاءَ الوسيلة إليه هو التقرب إليه بحبه وفعل ما يحبه. ثم يقول: (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُون عَذَابَهُ) ، فذكر الحب والخوف والرجاءَ، والمعنى أن الذين تدعونهم من دون الله من الملائكة والأنبياء والصالحين يتقربون إلى ربهم ويخافونه ويرجونه، فهم عبيده كما أنكم عبيده، فلماذا تعبدونهم من دونه وأَنتم وهم عبيد له؟ وقد أَمر سبحانه بالخوف منه فى قوله: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175] ، فجعل الخوف منه شرطاً فى تحقق الإيمان، وإن كان الشرط داخلاً فى الصيغة على الإيمان فهو المشروط فى المعنى، والخوف شرط فى حصوله وتحققه، وذلك لأن الإيمان سبب الخوف الحاصل عليه، وحصول المسبب شرط فى تحقق السبب كما أن حصول السبب موجب لحصول مسببه، فانتفاءُ الإيمان عند انتفاء الخوف انتفاءٌ للمشروط عند انتفاءِ شرطه، وانتفاءُ الخوف عند انتفاءِ الإِيمان انتفاءٌ للمعلول عند انتفاءِ علته. فتدبره. والمعنى: إن كنتم مؤمنين فخافونى. والجزاءُ محذوف مدلول عليه بالأول عند سيبويه وأصحابه، أو هو المتقدم نفسه، وهو جزاءٌ وإن تقدم كما هو مذهب الكوفيين. وعلى التقديرين فأداة الشرط قد دخلت على السبب المقتضى للخوف وهو الإيمان، وكل منهما مستلزم للآخر لكن الاستلزام مختلف، وكل منهما منتف عند انتفاءِ الآخر، لكن جهة الانتفاءِ مختلفة كما تقدم. والمقصود: أن الخوف من لوازم الإيمان وموجباته فلا يختلف عنه. وقال تعالى: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة: 44] . وقد أثنى سبحانه على أقرب عباده إليه بالخوف منه، فقال عن أنبيائه بعد أن أثنى عليهم ومدحهم: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسارِعُونَ فِى الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً} [الأنبياء: 90] ، فالرغب: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 الرجاءُ والرغبة، والرهب: الخوف والخشية، وقال عن ملائكته الذين قد أمنهم من عذابه: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 50] . وفى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنى أعلمكم بالله وأشدكم له خشية"، وفى لفظ آخر: "إنى أخوفكم لله وأعلمكم بما أتقى"، وكان صلى الله عليه وسلم يصلى ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاءِ، وقد قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ} [فاطر: 28] ، فكلما كان العبد بالله أعلم كان له أخوف. قال ابن مسعود: وكفى بخشية الله علماً. ونقصان الخوف من الله إنما هو لنقصان معرفة العبد به، فأَعرف الناس أخشاهم لله، ومن عرف الله اشتد حياؤه منه وخوفه له وحبه له، وكلما ازداد معرفة ازداد حياءً وخوفاً وحباً، فالخوف من أَجلّ منازل الطريق، وخوف الخاصة أَعظم من خوف العامة، وهم إليه أحوج، وهو بهم أَليق، ولهم ألزم. فإن العبد إما أن يكون مستقيماً أو مائلاً عن الاستقامة فإن كان مائلاً عن الاستقامة فخوفه من العقوبة على ميله، ولا يصح الإيمان إلا بهذا الخوف وهو ينشأ من ثلاثة أُمور: أحدها: معرفته بالجناية وقبحها. والثانى: تصديق الوعيد وأن الله رتب على المعصية عقوبتها. والثالث: أنه لا يعلم لعله يمنع من التوبة ويحال بينه وبينها إذا ارتكب الذنب. فبهذه الأمور الثلاثة يتم له الخوف، وبحسب قوتها وضعفها تكون قوة الخوف وضعفه، فإن الحامل على الذنب إما أن يكون عدم علمه بقبحه، وإما عدم علمه بسوءِ عاقبته، وإما أن يجتمع له الأمران لكن يحمله عليه اتكاله على التوبة، وهو الغالب من ذنوب أهل الإيمان، فإذا علم قبح الذنب وعلم سوءَ مغبته وخاف أن لا يفتح له باب التوبة بل يمنعها ويحال بينه وبينها اشتد خوفه. هذا قبل الذنب، فإذا عمله كان خوفه أشد. وبالجملة فمن استقر فى قلبه ذكر الدار الآخرة وجزائها، وذكر المعصية والتوعد عليها، وعدم الوثوق بإتيانه بالتوبة النصوح هاج فى قلبه من الخوف ما لا يملكه ولا يفارقه حتى ينجو. وأما إن كان مستقيماً مع الله فخوفه يكون مع جريان الأنفاس، لعلمه بأن الله مقلب القلوب، وما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن عَزَّ وجَلَّ، فإن شاءَ أن يقيمه أقامه، وإِن شاءَ أن يزيغه أزاغه، كما ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم، وكانت أكثر يمينه: "لا ومقلب القلوب، لا ومقلب القلوب"، وقال بعض السلف: القلب أشد تقلباً من القِدْر إذا استجمعت غلياناً. وقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 بعضهم: مثل القلب فى سرعة تقلبه كريشة ملقاة بأرض فلاة تقلبها الرياح ظهراً لبطن. ويكفى فى هذا قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال: 24] ، فأى قرار لمن هذه حاله؟ ومن أحق بالخوف منه؟ بل خوفه لازم له فى كل حال وإن توارى عنه بغلبة حالة أُخرى عليه. فالخوف حشو قلبه، لكن توارى عنه بغلبة غيره، فوجود الشيء غير العلم به، فالخوف الأول ثمرة العلم بالوعد والوعيد، وهذا الخوف ثمرة العلم بقدرة الله وعزته وجلاله، وأنه الفعال لما يريد وأنه المحرك للقلب المصرف له المقلب له كيف يشاءُ لا إِلَهَ إلا هو. الوجه الثانى: قوله: "وليس فى منازل الخواص خوف" قد تبين فساده، وأن الخاصة أشد خوفاً [للله] من العامة. الوجه الثالث: قوله: العاقل يعبد ربه على وحشة من نظره ونفرة من الأُنس به عند ذكره: {تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ} [الشورى: 22] ، فهذا إِنما هو وحشة ونفار، وهو غير الخوف، فإن الوحشة إما تنشأُ من عدم الخوف، وأَما الخوف فإنه يوجب هروباً إلى الله وجمعية عليه وسكوناً إليه، فهى مخافة مقرونة بحلاوة وطمأْنينة وسكينة ومحبة، بخلاف خوف المسيء الهارب من الله فإنه خوف مقرون بوحشة ونفرة فخوف الهارب إليه سبحانه محشو بالحلاوة والسكينة والأُنس لا وحشة معه، وإنما يجد الوحشة من نفسه. فله نظران: نظر إلى نفسه وجنايته فيوجب له وحشة، ونظر إلى ربه وقدرته عليه وعزه وجلاله فيوجب له خوفاً مقروناً بأُنس وحلاوة وطمأنينة. الوجه الرابع: إن استشهاده بقوله: {تَرَى الظّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ} [الشورى: 22] ، ليس استشهاداً صحيحاً، فإن هذا وصف لحالهم فى الآخرة عند معاينة العذاب أو عند الموت. فهذا إشفاق مقرون بالاستيحاش، لأنه قد علم أنه صائر إليه كمن قدم إلى العقوبة ورأَى أسبابها، فهو مشفق منها إذا رآها لعلمه بأَنه صائر إليها. فليست الآية من الخوف المأْمور به فى شيء. الوجه الخامس: أن الخوف يتعلق بالأَفعال، وأَما الحب فإنه يتعلق بالذات والصفات. ولهذا يزول الخوف فى الْجنة، وأما الحب فيزداد. ولما كان الحب يتعلق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 بالذات كان من أسمائه سبحانه "الودود"، قال البخارى فى صحيحه: "الحبيب"، وأما الخوف فإن متعلقه أفعال الرب [سبحانه] ولا يخرج عن كون سببه جناية العبد، وإن كانت جنايته من قدر الله. ولهذا قال على بن أبى طالب [رضى الله عنه] : لا يرجونَّ عبد إلا ربه، ولا يخافنَّ عبد إلا ذنبه. فمتعلق الخوف ذنب العبد وعاقبته، وهى مفعولات للرب، فليس الخوف عائداً إلى نفس الذات. والفرق بينه وبين الحب أن الحب سببه الكمال، وذاته تعالى لها الكمال المطلق، وهو متعلق الحب التام. وأما الخوف فسببه توقع المكروه، وهذا إنما يكون فى الأَفعال والمفعولات. وبهذا يعلم بطلان قول من زعم أنه سبحانه يُخاف لا لعلة ولا لسبب، بل كما يخاف السيل الذى لا يدرى العبد من أين يأْتيه. وهذا بناءٌ من هؤلاءِ على نفى محبته سبحانه وحكمته. وأنه ليس إلا محض المشيئة والإرادة التى ترجح مثلاً على مثل بلا مرجح، ولا يراعى فيها حكمة ولا مصلحة. وهولاء عندهم الخوف يتعلق بنفس الذات من غير نظر إلى فعل العبد وأنه سبب المخافة، إذ ليس عندهم سبب ولا حكمة، بل إرادة محضة يفعل بها ما يشاءُ من تنعيم وتعذيب. وعند هؤلاءِ فالخوف لازم للعبد فى كل حال، أحسن أم أساءَ. وليس [لأفعالهم] تأْثير فى الخوف. وهذا من قلة نصيبهم من المعرفة بالله وكماله وحكمته. وأين هذا من قول أمير المؤمنين على [رضى الله عنه] لا يرجونَّ عبد إلا ربه، ولا يخافنَّ إلا ذنبه؟ فجعل الرجاءَ متعلقاً بالرب سبحانه وتعالى، لأن رحمته من لوازم ذاته، وهى سبقت غضبه. وأما الخوف فمتعلق بالذنب، فهو سبب المخافة، حتى لو قدر عدم الذنب بالكلية لم تكن مخافة. فإن قيل: فما وجه خوف الملائكة [وهم] معصومون من الذنوب التى هى أسباب المخافة، وشدة خوف النبى صلى الله عليه وسلم مع علمه بأن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأَخر وأنه أقرب الخلق إلى الله؟ قيل: عن هذا أربعة أجوبة: الجواب الأول: إن هذا الخوف على حسب القرب من الله والمنزلة عنده. وكلما كان العبد أقرب إلى الله كان خوفه منه أشد، لأنه يطالب بما لا يطالب به غيره، ويجب عليه من رعاية تلك المنزلة وحقوقها ما لا يجب على غيره. ونظير هذا فى المشاهد أن [الماثل] بين يدى أحد الملوك المشاهد له أشد خوفاً منه من البعيد عنه، بحسب قربه منه ومنزلته عنده ومعرفته به وبحقوقه، وأنه يطالب من [حقوقه] الخدمة وأَدائها بما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 لا يطالب به غيره، فهو أحق بالخوف من البعيد. ومن تصور هذا حق تصوره فهم قوله صلى الله عليه وسلم: "إنى أعلمكم بالله وأشدكم له خشية"، وفهم قوله صلى الله عليه وسلم فى الحديث الذى رواه أبو داود وغيره من حديث زيد بن ثابت عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله تعالى لو عذب أهل سمواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم ولو رحمهم كانت رحمته لهم خيراً من أعمالهم ". وليس المراد به لو عذبهم لتصرف فى ملكه- والمتصرف فى ملكه غير ظالم- كما يظنه كثير من الناس، فإن هذا يتضمن مدحاً، والحديث إنما سيق للمدح [وبيان عظم حق الله على عباده وأنه لو عذبهم لعذبهم بحقه عليهم ولم يكن] بغير استحقاق، فإن حقه سبحانه عليهم أضعاف أضعاف ما أَتوا. ولهذا قال بعده: "ولو رحمهم كانت رحمته خيراً لهم من أَعمالهم" يعنى أن رحمته لهم [ليست ثمناً لأعمالهم ولا تبلغ أعمالهم رحمته فرحمته لهم] ليست على قدر أعمالهم، إذ أعمالهم لا تستقل باقتضاء الرحمة، وحقوق عبوديته وشكره التى يستحقها عليهم لم يقوموا بها، فلو عذبهم والحالة هذه لكان تعذيباً لحقه، وهو غير ظالم لهم فيه. ولا سيما فإن أعمالهم لا توازى القليل من نعمه عليهم، فتبقى نعمه الكثيرة لا مقابل لها من شكرهم، فإذا عذبهم على ترك شكرهم وأداءِ حقه الذى ينبغى له سبحانه عذبهم ولم يكن ظالماً لهم. فإن قيل: فهم إذا [فعلوا] مقدورهم من شكره وعبوديته لم يكن ما عداه مما ينبغى له مقدوراً لهم. فكيف يحسن العذاب عليه؟ قيل: الجواب من وجهين: أحدهما: أن المقدور للعبد لا يأْتى به كله، بل لا بد من فتور وإعراض وغفلة وتوان. وأيضاً ففى نفس قيامه بالعبودية لا يوفيها حقها الواجب لها من كمال المراقبة والإجلال والتعظيم والنصيحة التامة لله فيها، بحيث يبذل مقدوره كله فى تحسينها وتكميلها ظاهراً وباطناً، فالتقصير لازم فى حال الترك وفى حال الفعل، ولهذا سأل الصديق النبى، دعاءً يدعو به فى صلاته، فقال له: "قل: اللَّهم إنى ظلمت نفسى ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لى مغفرة من عندك وارحمنى إنك أنت الغفور الرحيم"، فأخبر عن ظلمه لنفسه مؤكداً له بأن المقتضية ثبوت الخبر وتحققه، ثم أكده بالمصدر النافى للتجوز والاستعارة، ثم وصفه بالكثرة المقتضية لتعدده وتكثره، ثم قال: "فاغفر لى مغفرة من عندك"، أى لا ينالها عملى ولا سعيى بل عملى يقصر عنها، وإنما هى من فضلك وإحسانك، لا بكسبى ولا باستغفارى وتوبتى. ثم قال: "وارحمنى" أى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 ليس معولى إلا على مجرد رحمتك، فإن رحمتى وإلا فالهلاك لازم لى فليتدبر اللبيب هذا الدعاء وما فيه من المعارف والعبودية، وفى ضمنه: إنه لو عذبتنى لعدلت فى ولم يتظلمنى، وإنى لا أنجو إلا برحمتك ومغفرتك. ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "لن ينجى أحداً منكم عمله" قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا إلا أن يتغمدنى الله برحمة منه وفضل"، فإذا كان عمل العبد لا يستقل بالنجاة، فلو لم ينجه الله فلم يكن قد بخسه شيئاً من حقه ولا ظلمه، فإنه ليس معه ما يقتضى نجاته، وعمله ليس وافياً بشكر القليل من نعمه، فهل يكون ظالماً له لو عذبه؟ وهل تكون رحمته له جزاءً لعمله، ويكون العمل ثمناً لها مع تقصيره فيه وعدم توفيته ما ينبغى له من بذل النصيحة فيه، وكمال العبودية من الحياءِ والمراقبة، والمحبة والخشوع وحضور القلب بين يدى الله فى العمل له؟ ومن علم هذا علم السر فى كون أعمال الطاعات تختم بالاستغفار، ففى صحيح مسلم عن ثوبان قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم من صلاته استغفر ثلاثاً. وقال: اللَّهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام"، قال تعالى: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 17- 18] ، فأخبر عن استغفارهم عقيب صلاة الليل. قال الحسن: مدوا الصلاة إلى السحر، فلما كان السحر جلسوا يستغفرون الله. وأمر الله تعالى عباده بالاستغفار عقيب الإفاضة فى الحج فقال: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 199] ، وشرع رسول الله صلى الله عليه وسلم للمتوضيء أن يختم وضوءَه بالتوحيد والاستغفار فيقول: "أَشْهَدُ أَنَّ لا إِلَهَ إِلا اللهُ وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُه، اللَّهمَّ اجْعَلْنِى مِنَ التَّوَّابِين وَاجْعَلْنِى مِنَ الْمُتَطَهِّرِين"، فهذا ونحوه مما يبين حقيقة الأمر، وأن كل أحد محتاج إلى مغفرة الله ورحمته، وأنه لا سبيل إلى النجاة بدون مغفرته ورحمته أصلاً. الجواب الثانى: أنه لو فرض أن العبد يأْتى بمقدوره كله من الطاعة ظاهراً وباطناً، فالذى ينبغى لربه [سبحانه] فوق ذلك وأضعاف أضعافه. فإذا عجز العبد عنه لم يستحق ما يترتب عليه من الجزاءِ. والذى أتى به لا يقابل أَقل النعم. فإذا حرم جزاءَ العمل الذى ينبغى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 للرب [سبحانه] من عبده كان ذلك تعذيباً له، ولم يكن الرب ظالماً له فى هذا الحرمان. ولو كان عاجزاً عن أسبابه فإنه لم يمنعه حقاً يستحقه عليه فيكون ظالماً بمنعه. فإذا أعطاه الثواب كان مجرد صدقة منه وفضل تصدق بها عليه لا ينالها عمله، بل هى خير من عمله وأفضل وأكثر، ليست معوضة عليه. والله أعلم. الجواب الثالث عن السؤال الأول: إن العبد إذا علم أن الله سبحانه وتعالى هو مقلب القلوب، وأنه يحول بين المرءِ وقلبه وأنه تعالى [سبحانه] كل يوم [هو فى] شأْن، يفعل ما يشاءُ ويحكم ما يريد وأنه يهدى من يشاءُ ويضل من يشاءُ، ويرفع من يشاءُ ويخفض من يشاءُ، فما يؤمنه أن يقلب الله قلبه ويحول بينه وبينه ويزيغه بعد إقامته؟ وقد أثنى الله على عباده المؤمنين بقولهم: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران: 8] ، فلولا خوف الإزاغة لما سألوه أن لا يزيغ قلوبهم. وكان من دعاء النبى صلى الله عليه وسلم: " اللهم مصرف القلوب، صرف قلوبنا على طاعتك، ومثبت القلوب، ثبت قلوبنا على دينك"، وفى الترمذى عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو: "أعوذ بعزتك أن تضلنى أنت الحى الذى لا تموت". وكان من دعائه: "اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطكَ وَأَعُوذُ بِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ". فاستعاذ بصفة الرضا من صفة الغضب، وبفعل العافية من فعل العقوبة، واستعاذ به منه باعتبارين. وكأن فى استعاذته منه جمعاً لما فصله فى الجملتين قبله. فإن الاستعاذة به منه ترجع إلى معنى الكلام قبلها، مع تضمنها فائدة شريفة وهى كمال التوحيد وأن الذى يستعيذ به [العائد] ويهرب منه إنما هو فعل الله ومشيئته وقدره، فهو وحده المنفرد بالحكم. فإذا أراد بعبده سوءاً لم يعذه منه إلا هو. فهو الذى يريد به ما يسوؤه، وهو الذى يريد دفعه عنه. فصار سبحانه مستعاذاً به منه باعتبار الإرادتين: {وَإِنْ يمسسك اللهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ} [الأنعام: 17] ، فهو الذى يمس بالضر، وهو الذى يكشفه، لا إله إلا هو فالمهرب منه إليه، والفرار منه إليه، واللجأُ منه إليه، كما أَن الاستعاذة منه، فإنه لا رب غيره ولا مدبر للعبد سواه. فهو الذى يحركه ويقلبه، ويصرفه كيف يشاءُ. الجواب الرابع: أن الله سبحانه وتعالى هو الذى يخلق أفعال العبد الظاهرة والباطنة، فهو الذى يجعل الإيمان والهدى فى القلب ويجعل التوبة والإنابة والإقبال والمحبة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 والتفويض وأضدادها والعبد فى كل لحظة مفتقر إلى هداية يجعلها الله فى قلبه وحركات يحركها بها فى طاعته. وهذا إلى الله سبحانه وتعالى فهو خلقه وقدره، وكان من دعاءِ النبى صلى الله عليه وسلم: "اللَّهم آت نفسى تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها" وعلم حصين بن المنذر أن يقول: "اللَّهم ألهمنى رشدى وقنى شر نفسى"، وعامة أدعيته صلى الله عليه وسلم متضمنة لطلب توفيق ربه وتزكيته له واستعماله فى محابه، فمن هداه وصلاحه وأسباب نجاته بيد غيره، وهو المالك له ولها، المتصرف فيه بما يشاءُ ليس [له] من أمره شيء، من أحق بالخوف منه؟ وهب أنه قد خلق له فى الحال الهداية، فهل هو على يقين وعلم أن الله سبحانه وتعالى يخلقها له فى المستقبل ويلهمه رشده أبداً؟ فعلم أن خوف المقربين عند ربهم أعظم من خوف غيرهم والله المستعان، ومن هاهنا كان خوف السابقين من فوات الإيمان كما قال بعض السلف: أنتم تخافون الذنب، وأنا أخاف الكفر. وكان عمر بن الخطاب يقول لحذيفة: نشدتك الله هل سمانى لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ يعنى فى المنافقين فيقول: لا، ولا أزكى بعدك أحداً" رواه البخارى يعنى لا أفتح على هذا الباب فى سؤال الناس لى، وليس مراده أنه لم يخلص من النفاق غيرك. [الوجه الخامس] : قوله: "وأَما الخواص فإنهم جعلوا الوعيد منه وعداً، والعذاب فيه عذباً، لأنهم شاهدوا المبتلى والمعذب فاستعذبوا ما وجدوا فى جنب ما شاهدوا" إلى آخر كلامه. فيقال: هذا الكلام ونحوه من رعونات النفس، ومن الشطحات التى يجب إنكارها. فمن ذا الذى جعل وعيد الله وعداً، وعقابه ثواباً وعذابه [عذباً] ؟ وهل هذا إلا إنكار لوعيده وعذابه فى الحقيقة؟ وأى عذاب أشد من عذابه نعوذ بالله منه؟ قال تعالى: {وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ} [الحج: 2] وقال: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} [الفجر: 25- 26] ، وهذا أظهر فى كل ملة من أن يحتاج إلى الاستدلال عليه. وإنما ينسب هذا المذهب إلى الملاحدة من القائلين بوحدة الوجود كما قال قائلهم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 ولم يبق إلا صادق الوعد وحده ... فما لوعيد الحق عين تعاينُ وإن دخلوا دار الشقاءِ فإنهم ... على لذة فيها نعيم مباين يسمى عذاباً من عذوبة طعمه ... وذاك له كالقشر والقشر صائن نعيم جنان الخلد والأمر واحد ... وبينهما عند التجلى تباين فهذا القائل خط على تلك النقطة التى نقطها أبو العباس ولعل الكلامين من مشكاة واحدة، وهذا مباين للمعلوم بالاضطرار من دين الرسل وما أخبرت به عن الله وأخبر به على لسان رسله. فإن قيل: ليس مراده ما ذكرتم وفهمتم من كلامه، وإنما مراده أنه سبحانه إذا ابتلى عبده فى الدنيا فهو لكمال محبته له يتلذذ بتلك البلوى ويعدها نعمة، وليس مراده عذاب الآخرة. قيل قوله عن الخواص: "أنهم جعلوا الوعيد منه وعداً" ينفى ما ذكرتم من التأْويل، فإن ابتلاءِ الدنيا غير الوعيد. وأيضاً فإنه فى مقام الخوف ونفيه عن الخاصة محتجاً عليه بأنهم يرون العذاب عذباً والوعيد وعداً، فما لهم وللخوف؟ هذا مقصوده من سياق كلامه واحتجاجه عليه بهذا الهذيان الذى يسخر منه العقلاءُ. بل نحن لا ننكر أن العبد إذا تمكن حب الله فى قلبه حتى ملك جميع أجزائه فإنه قد يتلذذ بالبلوى أحياناً، وليس ذلك دائماً ولا أكثرياً، ولكنه يعرض عند هيجان الحب وغلبة الشوق، فيقهر شهود الألم، ثم يراجع طبيعته فيذوق الألم. ولكن أين هذا من جعل الوعيد وعداً، والعذاب عذباً؟ وإن أحسن الظن بصاحب هذا الكلام ظن به أَنه ورد عليه وارد من الحب يخيل فى نفسه أن محبوبه إذا توعده كان ذلك منه وعداً وإن عذَّبه كان عذابه عنده عذباً لموافقته مراد محبوبه، وهذا خيال فاسد وتقدير فى النفس، وإلا فالحقيقة الخارجية تكذِّب هذا الخيال الباطل. بل لو صب عليه أدنى شيء من عذابه لصاح واستغاث وطلب العفو والعافية. وحكمة الله تقتضى تعجيز هذه النفوس الجاهلة الرعناءِ الحمقاءِ بأدنى شيء يكون من الألم والوجع، حتى يتبين لها دعاويها الكاذبة، وشطحها الباطل. وهذا سيد المحبين وسيد ولد آدم استعاذته بالله من عذابه وبلائه وسؤاله عافيته ومعافاته، معلومة فى أدعيته وتضرعه إلى ربه وابتهاله إليه فى ذلك، وهى أكثر وأشهر من أن تذكر ههنا، وإن ما فى سيد المحبين أسوة وقدوة، ولكن قد ابتلى كثير من أهل الإرادة بالشطح، كما ابتلى كثير من أهل الكلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 بالشك. والمعافى من عافاه الله من هذا وهذا. فنسأل الله عافيته ومعافاته. [الوجه السادس] قوله: "إن عذاب الكافرين إنما كان شديداً لأنهم لا يشاهدون المعذب لهم، والمؤمنون يشاهدونه فلم يكن عذابهم شديداً" وليس كذلك، فإن عذاب الكافرين شديد فى نفسه لغلظ جرمهم وهو الكفر، وهو دائم لا انقطاع له. وأما المؤمنون الذين يعذبون بذنوبهم فعذابهم أضعف من عذاب الكافرين، لأن عذابهم على الذنوب وهى دون الكفر، وهو منقطع. والآية لم يرد بها إثبات عذاب المؤمنين دون عذاب الكافرين، وإنما سيقت لبيان عذاب الكافرين حسب مفهومها نفى العذاب عن المؤمنين، لا إثبات عذاب غير شديد. والله أعلم. [الوجه السابع] قوله: "وللخواص الهيبة، وهى أقصى درجة يشار إليها فى غاية الخوف، والخوف يزول بالأمن وينتهى به خوف الشخص على نفسه من العقاب، فإذا أمن العقاب زال الخوف، والهيبة لا تزول أبداً لأنها مستحقة للرب بوصف التعظيم والإجلال، وذلك الوصف مستحق على الدوام. وهذه المعارضة والهيبة تعارض المكاشف أوقات المناجاة، وتصدم المشاهد أحيان المشاهدة وتعصم العائن بصدمة العزة، ومنه قال قائلهم: أشتاقه، فإذا بدا ... أطرقت من إجلاله لا خيفة، بل هيبة ... وصيانة لجماله وأصدّ عنه تجلداً ... وأَروم طيف خياله فيقال من العجائب أن المعنى الذى أمر الله به فى كتابه وأَثنى به على خاصة عباده وأقربهم إليه- وهم أنبياؤه ورسله وملائكته- يُجعل ناقصاً من منازل العوام، ويعمد إلى معنى لم يذكره الله ولا رسوله، ولا علق به على المدح والثناءِ فى موضع واحد. فيجعل هو الكمال، وهو للخواص من العباد. فأين فى القرآن والسنة ذكر الهيبة [والأمر بها ووصف خاصته بها؟ ونحن لا ننكرر أن الهيبة] من لوازم الإيمان وموجباته، ولكن المنكر أن يكون الوصف الذى وصف به أنبياءَه وملائكته ناقصاً والوصف الذى لم يذكره هو الكامل التام، وهذا المعنى المعبر عنه بالهيبة حق، ولكن لم تجيء العبارة عنه فى القرآن والسُّنَّة بلفظ الهيبة، وإنما جاءت بلفظ الإجلال، كقول النبى صلى الله عليه وسلم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 "إن من إجلال الله إجلال ذى الشيبه المسلم وحامل القرآن غير الغالى فيه والجافى عنه، والإمام العادل"، فالإجلال هو التعظيم وكذلك الهيبة. يوضح هذا. [الوجه الثامن] : وهو أن الهيبة والإجلال يجوز تعلقهما بالمخلوق، ما قال النبى صلى الله عليه وسلم: "إن من إجلال [الله إجلال] ذى الشيبة المسلم ... " الحديث. وقال ابن عباس عن عمر: هبته وكان مهيباً، وأما الخشية والمخافة فلا تصلح إلا لله وحده، قال تعالى: {فَلا تَخْشَوا النَّاسَ وَاخْشَوْن} [المائدة: 44] ، وقال: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175] ، وقال: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة: 18] . فالخوف عبودية القلب فلا تصلح إلا لله [وحده] كالذل والمحبة والإنابة والتوكل والرجاء وغيرها من عبودية القلب، [فكيف] يجعل المهابة المشتركة أفضل منه وأعلى؟ وتأمل قوله تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَآئِزُونَ} [النور: 52] ، كيف جعل الطاعة لله ولرسوله، والخشية والتقوى له وحده، وقال تعالى: {لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح: 9] ، كيف جعل التوقير والتعزيز للرسول وحده، والتوقير هو التعظيم الصادر عن الهيبة والإجلال. هذه حقيقته، فعلم أن الخوف من أجلّ مقامات الخواصّ وأنهم إليه أحوج وبه أقوم من غيرهم. [الوجه التاسع] : قوله: "الخوف يزول بالأمن، والهيبة لا تزول أبداً ... إلخ"، فيقال: هذا حق، فإن الخوف إنما يكون قبل دخول الجنة، فإذا دخلوها زال عنهم الخوف الذى كان يصحبهم فى الدنيا وفى عرصات القيامة، وبدلوا به أمناً، لأنهم قد أمنوا العذاب فزايلهم الخوف منه. ولكن لا يدل هذا على أنه كان مقاماً ناقصاً فى الدنيا، كما أن الجهاد من أشرف المقامات، وقد زال عنهم فى الآخرة. وكذلك الإيمان بالغيب أجلّ المقامات على الإطلاق، وقد زال فى الآخرة وصار الأمر شهادة. وكذلك الصلاة والحج والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وبذل النفس لله، وهى من أشرف الأعمال، وكلها تزول فى الجنة. وهذا لا يدل على نقصانها فإن الجنة ليست دار سعى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 وعمل، إنما هى دار نعيم وثواب. الوجه العاشر: أن الخوف إنما زال فى الجنة لأن تعلقه إنما هو بالأَفعال لا بالذات كما تقدم، وقد أمنهم ما كانوا يخافون منه. فقد أمنوا أن لا يفعلوا ما يخافون منه وأن يفعل بهم ربهم ما يخيفهم. ولكن كان الخوف فى الدنيا أنفع لهم فبه وصلوا إلى الأمن التام، فإن الله سبحانه وتعالى لا يجمع على عبده مخافتين [ولا أمنين] ، فمن خافه فى الدنيا أمنه يوم القيامة ومن أمنه فى الدنيا ولم يخفه أخافه فى الآخرة. وناهيك شرفاً وفضلاً بمقام ثمرته الأمن الدائم المطلق. الوجه [الحادى عشر] : أن الإجلال والمهابة والتعظيم إنما لم تزل لأنها متعلقة بنفس الذات، وهى موجودة فى دار النعيم. وأما الخوف فإنه إنما زال لأنه وسيلة إلى توفية العبودية والقيام بالأمر. والوسيلة تزول عند حصول الغاية، ولكن زوال الوسيلة عند حصول الغاية لا يدل على أنها ناقصة. وإذا كانت تلك الغاية لا كمال للعبد بدونها فالوسيلة إليها كذلك. الوجه [الثانى عشر] : قوله: "وهذه المعارضة والهيبة تعارض المكاشف أوقات المناجاة، وتصون المشاهد أحيان المشاهدة، وتعصم المعانى بصدمة العزة. فيقال: لا ريب أن الحب والأنس المجرد عن التعظيم والإجلال يبسط النفس، ويحملها على بعض الدعاوى والرعونات والأمانى الباطلة وإساءَة الأدب والجناية على حق المحبة. فإذا قارن المحبة مهابة المحبوب وإجلاله وتعظيمه وشهود عز جلاله وعظيم سلطانه، انكسرت نفسه له وذلت لعظمته واستكانت لعزته وتصاغرت لجلاله وصفت من رعونات النفس وحماقاتها ودعاويها الباطلة وأمانيها الكاذبة، ولهذا فى الحديث: "يقول الله عَزَّ وجَلَّ: أين المتحابون بجلالى؟ اليوم أُظلهم فى ظلى يوم لا ظل إلا ظلى"، فقال: "أين المتحابون بجلالى"، فهو حب بجلاله [سبحانه] وتعظيمه ومهابته ليس حباً لمجرد جماله، فإنه سبحانه الجليل الجميل. والحب الناشيء عن شهود هذين الوصفين هو الحب النافع الموجب لكونهم فى ظل عرشه يوم القيامة. فشهود الجلال وحده يوجب خوفاً وخشية وانكساراً، وشهود الجمال وحده يوجب حباً بانبساط وإدلال ورعونة. وشهود الوصفين معاً يوجب حباً مقروناً بتعظيم وإجلال ومهابة. وهذا هو غاية كمال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 العبد. والله أعلم، وإنشاده هذه الأبيات الثلاثة فى هذا المقام فى غاية القبح، فإن هذا المحب ينفى خوفه من محبوبه [أخر أنه يصد عن محبوتبه] ويعرض عنه إظهاراً للتجلد أمام رقيبه، وذلك قبيح فى حكم المحبة، فإن التذلل للمحبوب وتملقه واستعطافه والانكسار له أَولى بالمحب من تجلده وتعززه كما قيل: اخضع وذل لمن تحب فليس فى ... شرع الهوى أنف يشال ويعقد ثم أخبر أنه يروم طيف خياله، فهو طالب لحظِّه من محبوبه لا لمراد محبوبه منه. فهذا محب لنفسه، وقد جعل طيف محبوبه وسيلة إلى حصول مراده فأَحبه حب الوسائل، بخلاف من قد أحب محبوبه لذات المحبوب ففنى عن مراده هو منه بمراد محبوبه فصار مراده مراد محبوبه، فحصل الاتحاد فى المراد لا فى الإرادة ولا فى المريد، هذا إن كان صبده عنه تجلداً عليه، وإن كان تجلداً على الرقيب خوفاً منه، فهو ضعيف المحبة، لأن فيه بقية ليست مع محبوبه بل مع رقيبه، فهلا ملأ الحب قلبه فلم يبق فيه بقية يلاحظ بها الرقيب والعاذل؟ كما قيل: لا كان من لسواك فيه بقية ... يجد السبيل بها إليه العذل وبالجملة فهذه الأبيات ناقصة المعنى لا يصلح الاستشهاد بها [فى هذا المقام] والله أعلم. فصل والمقصود الكلام على علل المقامات وبيان ما فيها من خطإٍ وصواب؛ ولما كان أبو العباس بن العريف [رحمه الله] قد تعرض لذلك فى كتابه "محاسن المجالس" ذكرنا كلامه فيه وما له وما عليه، ثم ذكر بعد هذا فصلاً فى المحبة وفصلاً فى الشوق، فنذكر كلامه فى ذلك وما يفتح الله به تتميماً للفائدة ورجاءً للمنفعة، وأن يمن الله العزيز الوهاب بفضله ورحمته ويرقى عبده من العلم إلى الحال، ومن الوصف إلى الاتصاف. إنه قريب مجيب. قال أبو العباس [رحمه الله] : "وأما المحبة فقد أشار أهل التحقيق فى العبارة عنها، وكل نطق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 بحسب ذوقه، وانفسخ بمقدار شوقه". قلت: الشيء إذا كان فى الأُمور الوجدانية الذوقية التى إنما تعلم بآثارها وعلاماتها، وكان مما يقع [فيه] التفاوت بالشدة والضعف، وكان له لوازم وآثار وعلامات متعددة، اختلفت العبارات عنه بحسب اختلاف هذه الأشياء. وهذا شأن المحبة، فإنها ليست- بحقيقة معانيها- ترى بالأبصار، فيشترك الواصفون لها فى الصفة. وهى فى نفسها متفاوتة أعظم تفاوت. كما بين العلاقة التى هى تعلق القلب بالمحبوب، والخلة التى هى أعلى مراتب الحب، وبينهما درجات متفاوتة تفاوتاً لا ينحصر. ولها آثار توجبها وعلامات تدل عليها، فكل أدرك بعض [آثارها أو بعض] علاماتها فعبر بحسب ما أدركه وهى وراءَ ذلك كله: ليس اسمها كمسماها، ولا لفظها مبين لمعناها. وكذلك اسم المصيبة والبلية والشدة والألم إنما تدل أسماؤها عليها نوع دلالة لا تكشف حقيقتها، ولا تعلم حقيقتها إلا بذوقها ووجودها. وفرق بين الذوق والوجود وبين التصور والعلم. فالحدود والرسوم التى قيلت فى المحبة صحيحة غير وافية بحقيقتها بل هى إشارات وعلامات وتنبيهات. فصل قال: "وهى- على الإجمال قبل أن ننتهى إلى التفصيل- وجود تعظيم فى القلب يمنع الانقياد لغير [المحبوب] ". فيقال: هذا التعظيم المانع من الانقياد لغير المحبوب هو أثر من آثار المحبة وموجب من موجباتها، لا أنه نفس المحبة. فإن المحبة إذا كانت صادقة أَوجبت للمحب تعظيماً لمحبوبه يمنعه من انقياده إلى غيره. وليس مجرد التعظيم هو المانع له من الانقياد إلى غيره بل التعظيم المقارن للحب هو الذى يمنع من الانقياد إلى غير [المحبوب فإن التعظيم إذا كان مجرد عن الحب لم يمنع انقياد القلب إلى غير] المعظم. وكذلك إذا كان الحب خالياً عن التعظيم [لم يمنع المحب أن ينقاد إلى غير محبوبه فإذا اقترن الحب بالتعظيم] وامتلأَ القلب بهما امتنع انقياده إلى غير المحبوب. والمحبة المشتركة ثلاثة أنواع: أحدها: محبة طبيعية مشتركة، كمحبة الجائع للطعام والظمآن للماء وغير ذلك، وهذه لا تستلزم التعظيم. والنوع الثانى: محبة رحمة وإشفاق كمحبة الوالد لولده الطفل ونحوها، وهذه أيضاً لا تستلزم التعظيم. والنوع الثالث: محبة أُنس وإلف، وهى محبة المشتركين- فى صناعة أو علم أو مرافقة أو تجارة أو سفر- بعضهم بعضاً وكمحبة الإخوة بعضهم بعضاً. فهذه الأنواع الثلاثة هى المحبة التى تصلح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 للخلق بعضهم من بعض، ووجودها فيهم لا يكون شركاً فى محبة الله سبحانه. ولهذا "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلواءَ [و] العسل، وكان أحب الشراب إليه الحلو البارد، وكان أحب اللحم إليه الذراع، وكان يحب نساءه، وكانت عائشة رضى الله عنها أحبهن إليه، وكان يحب أصحابه، وأحبهم إليه الصديق [رضى الله عنه] . وأما المحبة الخاصة التى لا تصلح إلا لله وحده ومتى أحب العبد بها غيره كان شركاً لا يغفره الله، فهى محبة العبودية المستلزمة للذل والخضوع والتعظيم، وكمال الطاعة وإيثاره على غيره. فهذه المحبة لا يجوز تعلقها بغير الله أصلاً، وهى التى سوَّى المشركون بين آلهتهم وبين الله فيها كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أشَدُّ حُبّاً للهِ} [البقرة: 165] ، وأصح القولين أن المعنى يحبونهم كما يحبون الله. وسوُّوا بين الله وبين أندادهم فى الحب. ثم نفى ذلك عن المؤمنين فقال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشدُّ حُبّاً لله} [البقرة: 165] فإن الذين آمنوا وأَخلصوا حبهم لله لم يشركوا به معه غيره، وأما المشركون فلم يخلصوا لله. والمقصود من الخلق والأَمر إنما هو هذه المحبة وهى أول دعوة الرسل، وآخر كلام العبد المؤمن الذى إذا مات عليه دخل الجنة اعترافه وإقراره بهذه المحبة وإفراد الرب [تعالى] بها، فهو أول ما يدخل به فى الإسلام، وآخر ما يخرج به من الدنيا إلى الله؛ وجميع الأعمال كالأدوات والآلات لها، وجميع المقامات وسائل إليها، وأسباب لتحصيلها وتكميلها وتحصينها من الشوائب والعلل؛ فهى قطب رحى السعادة، وروح الإيمان وساق شجرة الإسلام، ولأجلها أنزل الله الكتاب والحديد. فالكتاب هاد إليها ودال عليها ومفصل لها، والحديد لمن خرج عنها وأشرك فيها مع الله غيره، ولأجلها خلقت الجنة النار، فالجنة دار أهلها الذين أخلصوها لله وحده فأخلصهم لها، والنار دار من أشرك فيها مع الله غيره وسوى بينه وبين الله فيها، كما أخبر تعالى عن أهلها أنهم يقولون فى النار لآلهتهم: {تَاللهِ إِن كُنَّا لَفِى ضَلالِ مُبِين إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:97-98] ، وهذه التسوية لم تكن منهم فى الأفعال والصفات بحيث اعتقدوا أنها مساوية لله سبحانه فى أفعاله وصفاته، وإنما كانت تسوية منهم بين الله وبينها فى المحبة والعبودية [فقط] مع إقرارهم بالفرق بين الله وبينها، فتصحيح هذه [المسألة] هو تصحيح شهادة أن لا إله إلا الله، فحقيق لمن نصح نفسه وأحب سعادتها ونجاتها أن يتيقظ لهذه المسألة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 علماً وعملاً وحالاً وتكون أهم الأشياء عنده، وأجل علومه وأعماله. فإن الشأن كله فيها والمدار عليها والسؤال يوم القيامة عنها، قال تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر: 92- 93] ، قال غير واحد من السلف: هو عن قول: "لا إله إلا الله"، وهذا حق. فإن السؤال كله عنها وعن أحكامها وحقوقها وواجباتها ولوازمها، فلا يسأل أحد قط إلا عنها وعن واجباتها ولوازمها وحقوقها، قال أبو العالية: كلمتان يسأل عنهما الأولون والآخرون: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟ فالسؤال عمّاذا كانوا يعبدون هو السؤال عنها نفسها، والسؤال عمَّاذا أجابوا المرسلين سؤال عن الوسيلة والطريق المؤدية إليها: هل سلكوها وأجابوا الرسل لما دعوهم إليها، فعاد الأمر كله إليها. وأمر هذا شأْنه حقيق بأن تنعقد عليه الخناصر، ويعض عليه بالنواجذ، ويقبض فيه على الجمر ولا يؤخذ بأطراف الأنامل، ولا يطلب على فضله، بل يجعل هو المطلب الأعظم وما سواه إنما يطلب على الفضلة. والله الموفق لا إله غيره ولا رب سواه. فصل قال: "وقيل: المحبة إيثار المحبوب على غيره" وهذا الحد أيضاً من جنس ما قبله، فإن إيثار المحبوب على غيره موجب المحبة ومقتضاها، فإذا استقرت المحبة فى القلب استدعت من المحب إيثار محبوبه على غيره، وهذا الإيثار علامة ثبوتها وصحتها، فإذا آثر غير المحبوب عليه لم يكن محباً له، وإن زعم أنه محب فإنما هو محب لنفسه ولحظه ممن يحبه، فإذا رأى حظاً آخر هو أحب إليه من حظه الذى يريده من محبوبه آثر ذلك الحظ المحبوب إليه. فهذا موضع يغلط فيه الناس كثيراً إذ أكثرهم إنما هو يحب لحظِّه ومراده، فإذا علم أنه عند غيره أحب ذلك الغير حب الوسائل لا حباً له لذاته، ويظهر هذا عند حالتين: إحداهما: أنه يرى حظاً له آخر عند غيره فيؤثر ذلك الحظ ويترك محبوبه. الثانية: أنه إذا نال ذلك الحظ من محبوبه فترت محبته وسكن قلبه وترحل قاطن المحبة من قلبه، كما قيل: من ودَّك لأمر ولَّى عند انقضائه. فهذه محبة مشوبة بالعلل. بل المحبة الخالصة أن يحب المحبوب لكماله، وأنه أهل أن يحب لذاته وصفاته. وأن الذى يوجب هذه المحبة فناءُ العبد عن إرادته لمراد محبوبه، فيكون عاملاً على مراد محبوبه منه لا على مراده هو من محبوبه. فهذه هى المحبة الخالصة من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 .. ... درن العلل وشوائب النفس، وهى التى [تستلزم إيثار المحبوب على غيره ولا بد وكلما كان سلطان هذه المحبة أقوى كان هذا الإيثار أتم] تتزايد، وفى مثل هذا قيل: تعصى الإله وأنت تزعم حبه ... هذا لعمرك فى القياس شنيع لو كان حبك صادقاً لأطعته ... إِن المحب لمن يحب مطيع وهاهنا دقيقة ينبغى التفطن لها، وهى أن إيثار المحبوب نوعان: إيثار معاوضة ومتاجرة، وإيثار حب وإرادة. فالأول: يؤثر محبوبه على غيره طلباً لحظه منه، فهو يبذل ما يؤثره ليعاوضه بخير منه. والثانى: يؤثره إجابة لداعى محبته، فإن المحبة الصادقة تدعوه دائماً إلى إيثار محبوبه، فإيثاره هو أجلّ حظوظه، فحظه فى نفس الإيثار لا فى العوض المطلوب بالإيثار، وهذا لا تفهمه إلا النفس اللطيفة الورعة المشرقة، وأما النفس الكثيفة فلا خبر عندها من هذا، وما هو بعشها فتلدرج. والدين كله والمعاملة فى الإيثار، فإنه تقديم وتخصيص لمن تؤثره بما تؤثره به على نفسك، حتى [قيل] أن من شرطه الاحتياج من جهة المؤثر، إذ لو لم يكن محتاجاً إليه لكان بذله سخاءً وكرماً. وهذا إنما يصح فى إيثار المخلوق، والله سبحانه يؤثر عبده على غيره من غير احتياج منه سبحانه فإنه الغنى الحميد، وفى الدعاء المرفوع: "اللَّهم زدنا ولا تنقصنا، وأعطنا ولا تحرمنا وأكرمنا ولا تهنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وارضنا وارض عنا". وقيل: من آثره الله على غيره آثره الله على غيره. والفرق بين الإيثار والأثرة أن الإيثار تخصيص الغير بما تريده لنفسك والأثرة اختصاصك به على الغير، وفى الحديث: "بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة فى عسرنا ويسرنا، ومنشطنا ومكرهنا، وأثرة علينا". فإذا عرف هذا، فالإيثار إما أن يتعلق بالخلق، وإما أن يتعلق بالخالق. وإن تعلق بالخلق فكماله أن تؤثرهم على نفسك بما لا يضيع عليك وقتاً، ولا يفسد عليك حالاً، ولا يهضم لك ديناً ولا يسد عليك طريقاً، ولا يمنع لك وارداً. فإن كان فى إيثارهم شيء من ذلك، فإيثار نفسك عليهم أولى، فإن الرجل من لا يؤثر بنصيبه من الله أحداً كائناً من كان. وهذا فى غاية الصعوبة على السالك، والأول أسهل منه. فإن الإيثار المحمود الذى أثنى الله على فاعله: الإيثار بالدنيا لا بالوقت والدين وما يعود بصلاح القلب. قال الله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفَسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] . فأخبر أن إيثارهم إنما هو بالشيء الذى إذا وقى الرجل الشح به كان من المفلحين، وهذا إنما هو فضول الدنيا لا الأوقات المصروفة فى الطاعات. فإن الفلاح كل الفلاح فى الشح بها فمن لم يكن شحيحاً بوقته تركه الناس على الأرض [عياناً] مفلساً، فالشح بالوقت هو عمارة القلب وحفظ رأْس ماله. ومما يدل على هذا أنه سبحانه أمر بالمسابقة فى أعمال البر والتنافس فيها والمبادرة إليها، وهذا ضد الإيثار بها. قال الله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِن رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ} [آل عمران: 133] ، وقال تعالى: {فَاسْتَبقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148] [المائدة: 48] ، وقال تعالى: {وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26] ، وقال النبى صلى الله عليه وسلم: "لو يعلم الناس ما فى النداءِ والصف الأول لكانت قرعة". والقرعة إنما تكون عند التزاحم والتنافس لا عند الإيثار فلم يجعل الشارع الطاعات والقربات محلاً للإيثار، بل محلاً للتنافس والمسابقة، ولهذا قال الفقهاءُ: لا يستحب الإيثار بالقربات والسر فيه- والله أعلم- أن الإيثار إنما يكون بالشيء الذى يضيق عن الاشتراك فيه، فلا يسع المؤثر والمؤثر، بل لا يسع إلا أحدهما، وأما أعمال البر والطاعات فلا ضيق على العباد فيها، فلو اشترك الألوف المؤلفة فى الطاعة الواحدة لم يكن عليهم فيها ضيق ولا تزاحم ووسعتهم كلهم، وإن قدِّر التزاحم فى عمل واحد أو مكان لا يمكن أن يفعله الجميع- بحيث إذا فعله واحد فات على غيره، فإن فى العزم والنية الجازمة على فعله من الثواب ما لفاعله كما ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم فى غير حديث، فإذا قدر فوت مباشرته له فلا يفوت عليه عزمه ونيته لفعله. وأيضاً فإنه إذا فات عليه كان فى غيره من الطاعات والقربات عوض منه: إما مساوٍ له، وإما أَزيد، وإما دونه. فمتى أتى بالعوض وعلم الله من نيته وعزيمته الصادقة إرادته لذلك العمل الفائت أعطاه الله ثوابه وثواب ما تعوض [به عنه فجمع له الأمرين. وذلك فضلا الله يؤتيه] من يشاءُ والله ذو الفضل العظيم. وأَيضاً فإن المقصود رغبة العبد فى التقرب إلى الله، وابتغاء الوسيلة إليه والمنافسة فى محابه، والإيثار بهذا التقرب يدل على رغبته عنه وتركه له، وعدم المنافسة فيه، وهذا بخلاف ما يحتاج إليه العبد من طعامه وشرابه ولباسه إذا كان أخوه محتاجاً إليه، فإذا اختص به أحدهما فات الآخر، فندب الله [سبحانه] عبده إذا وجد من نفسه قوة وصبراً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 على الإيثار به ما لم يخرم عليه ديناً، أو يجلب له مفسدة، أو يقطع عليه طريقاً عزم على سلوكه إلى ربه، أو شوش عليه قلبه، بحيث يجعله متعلقاً بالخلق، فمفسدة إيثار هذا أرجح من مصلحته، فإذا ترجحت مصلحة الإيثار، بحيث تتضمن إنقاذ نفسه من هلكة أو عطب أو شدة ضرورة- وليس للمؤثر نظيرها- تعين عليه الإيثار، فإن كان به نظيرها لم يتعين عليه الإيثار، ولكن لو فعله لكان غاية الكرم والسخاءِ والإحسان، فإنه من آثر حياة غيره على حياته وضرورته على ضرورته فقد استولى على أَمد الكرم والسخاء وجاوز أقصاه وضرب فيه بأوفر الحظ. وفى هذا الموضع مسائل فقهية ليس هذا موضع ذكرها. فإن قيل: فما الذى يسهل على النفس هذا الإيثار، فإن النفس مجبولة على الأثرة لا على الإيثار؟ قيل: يسهله أُمور: أحدها: رغبة العبد فى مكارم الأخلاق ومعاليها، فإن من أفضل أخلاق الرجل وأشرفها وأعلاها الإيثار، وقد جبل الله القلوب على تعظيم صاحبه ومحبته، كما جبلها على بغض المستأثر ومقته، لا تبديل لخلق الله. والأخلاق ثلاثة: خلق الإيثار، وهو خلق الفضل. وخلق القسمة والتسوية، وهو خلق العدل. وخلق الاستئثار والاستبداد وهو خلق الظلم. فصاحب الإيثار محبوب مطاع مهيب، وصاحب العدل لا سبيل للنفوس إلى أذاه والتسلط عليه ولكنها لا تنقاد إليه انقيادها لمن يؤثرها، وصاحب الاستئثار النفوس إلى أذاه والتسلط عليه أسرع من السيل فى حدوره. وهل أزال الممالك وقلعها إلا الاستئثار؟ فإن النفوس لا صبر لها عليه. ولهذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالسمع والطاعة لولاة الأمر وإن استأْثروا عليهم، لما فى طاعة المستأْثر من المشقة [والكره] . الثانى: النفرة من أخلاق اللئام، ومقت الشح وكراهته له. الثالث: تعظيم الحقوق التى جعلها الله سبحانه وتعالى للمسلمين بعضهم على بعض، فهو يرعاها حق رعايتها، ويخاف من تضييعها، ويعلم أنه إن لم يبذل فوق العدل لم يمكنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 الوقوف مع حده، فإن ذلك عسر جداً، بل لا بد من مجاوزته إلى الفضل أو التقصير عنه إلى الظلم، فهو [لخوفه] من تضييع الحق والدخول فى الظلم يختار الإيثار بما لا ينقصه ولا يضره ويكتسب به جميل الذكر فى الدنيا وجزيل الأجر فى الآخرة، مع ما يجلبه له الإيثار من البركة وفيضان الخير عليه، فيعود عليه من إيثاره أفضل مما بذله. ومن جرب هذا عرفه، ومن لم يجربه فليستقر أحوال العالم. والموفق من وفقة الله سبحانه وتعالى فصل والإيثار المتعلق بالخالق أجل من هذا وأفضل، وهو إيثار [رضاه على] رضى غيره، وإيثار حبه على حب غيره، وإيثار خوفه ورجائه على خوف غيره ورجائه، وإيثار الذل له [و] الخضوع والاستكانة والضراعة والتملق على بذل ذلك لغيره. وكذلك إيثار الطلب منه والسؤال وإنزال الفاقات به على تعلق ذلك بغيره، فالأول آثر بعض العبيد على نفسه فيما هو محبوب له، وهذا آثر الله على غيره ونفسه من أعظم الأغيار. فآثر الله عليها فترك محبوبها لمحبوب الله. وعلامة هذا الإيثار شيئان، أحدهما: فعل ما يحب الله إذا كانت النفس تكرهه وتهرب منه، الثانى: ترك ما يكرهه إذا كانت النفس تحبه وتهواه، فبهذين الأَمرين يصح مقام الإيثار، ومؤنة هذا الإيثار شديدة لغلبة الأغيار وقوة داعى العادة والطبع، فالمحنة فيه عظيمة والمؤنة فيه شديدة والنفس عنه ضعيفة، ولا يتم فلاح العبد وسعادته إلا به، وأنه ليسير على من يسره الله عليه، فحقيق بالعبد أن يسمو إليه وإن صعب المرتقى، وأن يشمر إليه وإن عظمت فيه المنحة، ويحمل فيه خطراً يسيراً لملك عظيم وفوز كبير، فإن ثمرة هذا فى العاجل والآجل ليست تشبه ثمرة شيء من الأعمال، ويسير منه يرقى العبد ويسيره ما لا يرقى غيره إليه فى المدد المتطاولة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاءُ، ولا تتحقق المحبة إلا بهذا الإيثار. والذى يسهله على العبد أُمور: أحدها: أن تكون طبيعته لينة منقادة سلسة ليست بجافية ولا قاسية، بل تنقاد معه بسهولة. الثانى: أن يكون إيمانه راسخاً ويقينه قوياً، فإن هذا ثمرة الإيمان ونتيجته. الثالث: قوة صبره وثباته. فبهذه الأمور الثلاثة الأُمور ينهض إلى هذا المقام ويسهل عليه دركه. والنقص والتخلف فى النفس عن هذا يكون من أمرين: أن تكون جامدة غير سريعة الإدراك، بل بطيئة ولا تكاد ترى حقيقة الشيء إلا بعد عسر، وإن رأتها اقترنت به الأوهام والشكوك والشبهات والاحتمالات، فلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 يتخلص له رؤيتها وعيانها، الثانى أن تكون القريحة وقادة دراكة، لكن النفس ضعيفة مهينة إذا أبصرت الحق والرشد ضعفت عن إيثاره، فصاحبها يسوقها سوق العليل المريض، كلما ساقه خطوة وقف خطوة، أو كسوق الطفل الصغير الذى تعلقت نفسه بشهواته ومأْلوفاته، فهو يسوقه إلى رشده وهو ملتفت إلى لهوه ولعبه لا ينساق معه إلا كرهاً. فإذا رزق العبد قريحة وقادة، وطبيعة منقادة: إذا زجرها انزجرت وإذا قادها انقادت بسهولة وسرعة ولين، [وأُيد] مع ذلك بعلم نافع وإيمان راسخ، أقبلت إليه وفود السعادة من كل جانب. ولما كانت هذه القرائح والطبائع ثابتة للصحابة رضى الله عنهم، وكملها الله لهم بنور الإسلام وقوة اليقين ومباشرة الإيمان لقلوبهم، كانوا أفضل العالمين بعد الأنبياء والمرسلين وكان من بعدهم لو أنفق مثل جبل أُحد ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه. ومن تصور هذا الموضع حق تصوره علم من أين يلزمه النقص والتأخر، ومن أين يتقدم [ويتأخر] ويترقى فى درجات السعادة وبالله التوفيق. والله أعلم. فصل [عود لمعرفة حدود المحبة] قال: "وقيل: المحبة موافقة المحبوب فيما ساءَ وسر، ونفع وضر، كما قيل: وأَهنتنى فأَهنتُ نفسى صاغراً ... ما من يهون عليك ممن أُكرم فيقال: وهذا الحد أيضاً [من] جنس ما قبله، فإن موافقة المحبوب من موجبات المحبة وثمراتها، وليست نفس المحبة، بل المحبة تستدعى الموافقة، وكلما كانت المحبة أقوى كانت الموافقة أتم، قال الله تعالى: {قُل إِن كنْتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللهُ} [آل عمران: 31] ، قال الحسن: قال قوم على عهد النبى صلى الله عليه وسلم: إنا نحب ربنا، فأنزل الله تعالى هذه الآية: {قُل إِن كنْتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللهُ} [آل عمران: 31] ، وقال الجنيد: ادَّعى قوم محبة الله فأنزل الله آية المحبة: {قُل إِن كنْتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللهُ} [آل عمران: 31] ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 يعنى أن متابعة الرسول هى موافقة حبيبكم، [فإنه] المبلغ عنه ما يحبه وما يكرهه [وهى قوله] [فمتابعته موافقة لله فى فعل ما يحب وترك ما يكره] . وقال مالك فى هذه الآية: من أحب طاعة الله أحبه الله وحببه إلى خلقه وإنما كانت موافقة المحبوب دليلاً على محبته لأن من أحب حبيباً فلا بد أن يحب ما يحبه ويبغض ما يبغضه، وإلا لم يكن محباً له محبة صادقة، بل تخلف ذلك عنه وإلا لم يكن [محباً] له، بل يكون محباً لمراده [أحبه محبوبه أم كرهه ومحبوبه عنده وسيلة إلى ذلك المراد] فلو حصل له حظه من غيره ترحل عوضه. فهذه المحبة المدخولة الفاسدة، وإذا كانت المحبة الصحيحة تستدعى حب ما يحبه المحبوب وبغض ما يبغضه فلا بد أن يوافقه فيه. ولكن هاهنا مسألة يغلط فيها كثير من المدعين للمحبة، وهى أن موافقة المحبوب فى مراده ليس المعنى بها مراده الخلقى الكونى، فإن كل الكون مراده، وكل ما يفعله الخلائق فهو موجب مشيئته وإرادته الكونية، فلو كانت موافقته فى هذا المراد هى محبته لم يكن له عدو أصلاً، وكانت الشياطين والكفار والمشركون عباد الأوثان والشمس والقمر أولياءَه وأحبابه، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. وإنما يظن ذلك من يظنه من أعدائه الجاحدين لمحبته ودينه، الذين يسوون بين أوليائه وأعدائه. قال الله تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفسِدِينَ فِى الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّار} [ص: 28] ، وقال الله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيئَاتِ أَنْ نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ، سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية: 21] ، وقال الله تعالى: {أَفَنَجْعَلَ المُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم: 35- 36] [فأنكر سبحانه على من سوى بين المسلمين والمجرمين] ، وبين المطيعين والمفسدين مع أن الكل تحت المراد الكونى والمشيئة العامة. وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية [قدس الله روحه] يقول: قال لى بعض شيوخ هؤلاءِ المحبة نار تحرق من القلب ما سوى مراد المحبوب، والكون كله مراده، فأى شيء أبغض منه"، قال: فقلت له: فإذا كان المحبوب قد أبغض بعض ما فى الكون، فأبغض قوماً ومقتهم ولعنهم وعاداهم فأحببتهم أنت وواليتهم، تكون موالياً للمحبوب موافقاً له، أو مخالفاً له معادياً له؟ قال: فكأنما أُلقم حجراً. ويبلغ الجهل والكفر ببعض هؤلاءِ إلى حد بحيث إذا فعل محظوراً يزعم أنه مطيع لله سبحانه وتعالى، ويقول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 أَنا مطيع لإرادته، وينشد فى ذلك: أصبحتُ منفعلاً لما يختاره ... منى ففعلى كله طاعات ويقول أحدهم: إبليس وإن عصى الأمر، لكنه أطاع الإرادة، يعنى أن فعله طاعة لله من حيث موافقة إرادته، وهذا انسلاخ من ربقة العقل والدين، وخروج عن الشرائع كلها، فإن طاعة الله إنما هى موافقة الأمر الدينى الذى يحبه الله ويرضاه، وأما دخوله تحت القدر الكونى الذى يبغضه ويسخطه ويكفر فاعله ويعاقبه، فهى المعصية والكفر ومعاداته ومعاداة دينه. ولا ريب أن المسرفين على أنفسهم المنهمكين فى الذنوب والمعاصى المعترفين بأنهم عصاة مذنبون أقرب إلى الله من هؤلاءِ العارفين المنسلخين عن دين الأنبياءِ كلهم، والذين لا عقل لهم ولا دين فنسأل الله أن يثبت قلوبنا على دينه: أما البيت الذى استشهد به فهو من أبيات لأبى الشيص من قصيدة يقول فيها: وقف الهوى بى حيث أنت ... فليس لى متأخر عنه ولا متقدم وأهنتنى فأَهنت نفسى جاهداً ... ما من يهون عليك ممن يكرم أشبهت أعدائى فصرت أحبهم ... إذ كان حظى منك حظى منهم أجد الملامة فى هواك لذيذة ... حباً لذكرك فلْيلُمنى اللوم وقد ناقض فيها فى دعواه مناقضة بينه، فإنه أخبر أن هواه قد صار وقفاً عليها لا يزول ولا يتحول بتقدم ولا تأخر، ثم أخبر أنه قد بلغ به حبها وهواها إلى أن صار مرادها من نفسه غير مراده هو، فلما أرادت إهانته بالصد والهجران والبعد سعى هو فى إهانة نفسه بجهده موافقة لها فى إرادتها، فصارت إهانته لنفسه مرادة محبوبة له من حيث هى مرادة محبوبة لها، وزعم أنه لو أكرم نفسه لكان مخالفاً لمحبوبته مكرماً لمن أهانته. ثم نقض هذا الغرض من حيث شبهها بأعدائه الذين هم أبغض شيء إليه. ووجه هذا التشبيه أنه لم يحصل منها من حظه ومراده على شيء، بل الذى يحصل له منها مثل ما يحصل له من أعدائه [من إهانتهم له وأذاه فصار حظه منها ومن أعدائه] واحداً، فصارت شبيهة [بهم] ، فأين هذا من الموافقة التامة لها فى مرادها، بحيث يهين نفسه لمحبتها فى إهانته؟ ثم أخبر أن له منها حظاً مراداً وأن ذلك الحظ الذى يريده لم يحصل له، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 وإنما حصل له منه نظير ما يحصل له من أعدائه. وهذه شكاية فى الحقيقة وإخبار عن [محبه معلول] بالحظ، وشكاية للحبيب بتفويته عليه [ثم إنه أخبر عن جناية أخرى وهى أنه شرك بينها وبين أعدائه] فى حبه لها، فصار حبه منقسماً بعضه له وبعضه لأعدائه لشبههم إياها، ثم إن فى الشعر جناية أُخرى عليها وهو أنه شبهها بمن جبلت القلوب على بغضه وهو العدو، واللائق تشبيه الحبيب بما هو أحب الأشياء إلى النفس كالسمع والبصر والحياة والروح والعافية، كما هو عادة الشعراءِ والناس فى نظمهم ونثرهم كما هو معروف بينهم وهو جادة كلاهم. ثم أخبر بمحبته لأعدائه لشبههم بها، فتضمن كلامه معاداة من يحبه ومحبة من يعاديه، فإنها إذا أشبهت أعداءه لزم أن يحصل لها نصيب من معاداته وإذا أشبهها أعداؤه لزم أن يحصل لهم نصيب من محبته كما صرح به فى جانبهم وترك التصريح فى جانبها، وهو مفهوم من كلامه، ثم أخبر أنه يلتذ بملامة اللوام فى هواها لما يتضمن من ذكراها، وهذا يدل على قوة محبتها وسماع ذكرها، وهذا غرض صحيح مع أنه مدخول أيضاً، فإن محبوبته قد تكره ذلك لما يتضمن من فضيحتها به وجعلها مضغة للماضغين، فيكون محباً لنفس ما تكرهه، وهذه محبة فاسدة معلولة ناقضة [لدعواه] موافقتها فى محابها. فصل قال: "وقيل: المحبة القيام بين يديه وأنت قاعد، ومفارقة المضجع وأنت راقد، والسكوت وأنت ناطق، ومفارقة المأْلوف والوطن وأنت مستوطن". فيقال: وهذا أيضاً أثر من آثار المحبة وموجب من موجباتها وحكم من أحكامها. وهو صحيح، فإن المحبة توجب سفر القلب نحو المحبوب دائماً، والمحبة وطنه وتوجب مثوله وقيامه بين يدى محبوبه وهو قاعد، وتجافيه عن مضجعه ومفارقته إياه وهو فيه راقد، وفراغه لمحبوبه كله وهو مشغول فى الظاهر بغيره. كما قال بعضهم: وأُديم نحو محدثى ليرى ... أن قد عقلت وعندكم عقلي وقال بعض المريدين لشيخه: أيسجد القلب بين يدى الله؟ فقال: نعم سجدة لا يرفع رأْسه منها إلى يوم القيامة. فهذه سجدة متصلة بقيامه وقعوده وذهابه ومجيئه وحركته وسكونه. وكذلك يكون جسده فى مضجعه وقلبه قد قطع المراحل مسافراً إلى حبيبه، فإذا أخذ مضجعه اجتمع عليه حبه وشوقه، فيهزه المضجع إلى مسكنه. كما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 قال الله تعالى فى حق المحبين: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَعَماً} [السجدة: 16] ، فلما تجافت جنوبهم عن المضاجع جافت الجنوب عنها واستخدمتها وأمرتها فأطاعتها. وقال القائل: نهارى نهار الناس، حتى إذا ... بدا لى الليل هزتنى إليك المضاجع ويحكى أن بعض الصالحين اجتاز بمسجد، فرأَى الشيطان واقفاً ببابه لا يستطيع دخوله فنظر فإذا فيه رجل نائم وآخر قائم يصلى. فقال له: أيمنعك هذا المصلى من دخوله؟ فقال: كلا، إنما يمنعنى ذلك الأسد الرابض، ولولا مكانه لدخلت. وبالجملة فقلب المحب دائماً فى سفر لا ينقضى نحو محبوبه، كلما قطع مرحلة له ومنزلة تبدّت له أُخرى كما قيل: "إذا قطعت علماً بدا علم"، فهو مسافر بين أهله، وظاعن وهو فى داره، وغريب وهو بين إخوانه وعشيرته، ويرى كل أحد عنده ولا يرى نفسه عند أحد. فقوة تعلق المحب [بمحبوبه] توجب له أن لا يستقر قلبه دون الوصول إليه، وكلما هدأَت حركاته وقلت شواغله اجتمعت عليه شئون قلبه، بل قوى سيره إلى محبوبه. ومحك هذا الحال يظهر فى مواطن أربعة: أحدها: عند أخذ مضجعه وتفرغ حواسه وجوارحه الشواغل، واجتماع قلبه على ما يحبه. فإنه لا ينام إلا على ذكر من يحبه وشغل قلبه به. الموطن الثانى: عند انتباهه من النوم، فأول شيء يسبق إلى قلبه ذكر محبوبه. [فإنه] إذا استيقظ وردت إليه روحه رد معها إليه ذكر محبوبه الذى كان قد غاب عنه فى النوم. ولكن كان قد خالط روحه وقلبه، فلما ردت إليه الروح أسرع من الطرف رد إليه ذكر محبوبه متصلاً بها، مصاحباً لها. فورد عليه قبل كل وارد، وهجم عليه قبل كل طارق. فإذا وردت عليه الشواغل والقواطع وردت على محل ممتليء بمحبة ما يحبه فوردت على ساحته من ظاهرها، فإذا قضى وطره منها قضاه بمصاحبته لما فى قلبه من الحب. فإنه قد لزمه ملازمة الغريم لغريمه ولذلك يسمى غراماً، وهو الحب اللازم الذى لا يفارق: فسمع بمحبوه وأبصر به وبطش به ومشى به، فصار [محبوبه فى وجوده فى] محل سمعه الذى يسمع به وبصره الذى يبصر به ويده التى يبطش بها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 ورجله التى يمشى بها. هذا مثل محبوبه فى وجوده وهو غير متحد به، بل هو قائم بذاته مباين له. وهذا المعنى مفهوم بين الناس لا ينكره منهم إلا غليظ الحجاب، أو قليل العلم، ضعيف العقل، يجد محبوبه قد استولى على قلبه وذكره، فيظن أنه هو نفس ذاته الخارجة قد اتحدت به أو حلت فيه، فينشأُ من قسوة الأول وكثافته غلظ حجاب، ومن قله علم الثانى ومعرفته وضعف تمييزه ضلال الحلول والاتحاد وضلال الإنكار والتعطيل والحرمان، ويخرج [للبصير] من بين فرث هذا ودم هذا لبن الفطرة الأُولى خالصاً سائغاً للشاربين. الموطن الثالث: عند دخوله فى الصلاة، فإنها محك الأحوال وميزان الإيمان، بها يوزن إيمان الرجل [و] يتحقق حاله ومقامه ومقدار قربه من الله ونصيبه منه، فإنها محل المناجاة والقربة ولا واسطة فيها بين العبد وبين ربه، فلا شيء أقر لعين المحب ولا ألذ لقلبه ولا أنعم لعيشه منها [إن] كان محباً فإنه لا شيء آثر عند المحب ولا أطيب له من خلوته بمحبوبه ومناجاته له ومثوله بين يديه، وقد أقبل [بقلبه على محبوبه] ، وكان قبل ذلك معذباً بمقاساة الأغيار ومواصلة الخلق والاشتغال بهم فإذا قام إلى الصلاة هرب من سوى الله إليه وآوى عنده واطمأن بذكره وقرت عينه بالمثول بين يديه ومناجاته، فلا شيء أهم إليه من الصلاة، كأنه فى سجن وضيق وغم حتى تحضر الصلاة فيجد قلبه قد انفسخ وانشرح واستراح، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم لبلال: "يا بلال، أرحنا بالصلاة"، ولم يقل: أرحنا منها، كما يقول المبطلون الغافلون. وقال بعض السلف: ليس بمستكمل الإيمان من لم يزل فى هم وغم حتى تحضر الصلاة فيزول همه وغمه، أو كما قال. فالصلاة قرة عيون المحبين وسرور أرواحهم، ولذة قلوبهم، وبهجة نفوسهم، يحملون هم الفراغ منها إذا دخلوا فيها كما يحمل الفارغ البطال همها حتى يقضيها بسرعة، فَلَهُمْ فيها شأْن وللنفَّارين شأْن، يشكون إلى الله سوءَ صنيعهم بها إذا ائتموا بهم، كما يشكوا الغافل [وللنقارين شأن يشكون إلى الله سوء صنيعهم بها إذا ائتموا بهم كما يشكوا] المعرض تطويل إمامه، فسبحان من فاضل بين النفوس وفاوت بينها هذا التفاوت العظيم. وبالجملة فمن كان قرة عينه فى الصلاة فلا شيء أحب إليه ولا أنعم عنده منها، ويودّ أَن لو قطع عمره بها غير مشتغل بغيرها، وإنما يسلى نفسه إذا فارقها بأنه سيعود إليها عن قرب فهو دائماً يثوب إليها ولا يقضى منها وطراً، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 .. فلا يزنُ العبد إيمانه ومحبته لله بمثل ميزان الصلاة، فإنها الميزان العادل، الذى وزنه غير عائل. الموطن الرابع: عند الشدائد والأهوال، فإن القلب فى هذا الموطن لا يذكر إلا أحب الأشياء إليه، ولا يهرب إلا إلى محبوبه الأعظم عنده. ولهذا كانوا يفتخرون بذكرهم من يحبونهم عند الحرب واللقاءِ، وهو كثير فى أشعارهم كما قال: ذكرتك والخطى يخطر بيننا ... وقد نهلت منى المثقفة السمر وقال غيره: ولقد ذكرتك والرماح كأنها ... أَشطان بئر فى لبان الأَدهم وقد جاءَ فى بعض الآثار: يقول تبارك وتعالى: "إن عبدى كل عبدى الذى يذكرنى وهو ملاق قرنه"، والسر فى هذا- والله أعلم- أن عند مصائب الشدائد والأهوال يشتد خوف القلب من فوات أحب الأشياءِ إليه، وهى حياته التى لم يكن يؤثرها إلا لقربه من محبوبه، فهو إنما يحب حياته لتنعمه بمحبوبه، فإذا خاف فوتها بدر إلى قلبه ذكر المحبوب الذى يفوت بفوات حياته. ولهذا- والله أعلم- كثيراً ما يعرض للعبد عند موته لهجه بما يحبه وكثرة ذكره له، وربما خرجت روحه وهو يلهج به. وذكر ابن أبى الدنيا فى كتاب "المحتضرين" عن زفر [رحمه الله] أنه جعل يقول عند موته: لها ثلاثة أخماس الصداق، لها ربع الصداق، لها كذا ومات، لامتلاءِ قلبه من محبة الفقه والعلم، وأيضاً فإنه عند الموت تنقطع شواغله وتبطل حواسه فيظهر ما فى القلب ويقوى سلطانه، فيبدو ما فيه من غير حاجب ولا مدافع. وكثيراً ما سمع من بعض المحتضرين عند الموت: شاه مات، وسمع من آخر بيت شعر لم يزل يغنى به حتى مات وكان مغنياً، وأخبرنى رجل عن قرابة له أنه حضره عند الموت- وكان تاجراً يبيع القماش- قال: فجعل يقول: هذه قطعة جيدة هذه على قدرك، هذه مشتراها رخيص يساوى كذا وكذا حتى مات. والحكاية فى هذا كثيرة جداً، فمن كان مشغولاً بالله وبذكره ومحبته فى حال حياته، وجد ذلك أحوج ما هو إليه عند خروج روحه إلى الله، ومن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 كان مشغولاً بغيره فى حال حياته وصحته فيعسر عليه اشتغاله بالله وحضوره معه عند الموت ما لم تدركه عناية من ربه، ولأجل هذا كان جديراً بالعاقل أن يلزم قلبه ولسانه ذكر الله حيثما كان لأَجل تلك اللحظة التى إن فاتت شقى شقاوة الأبد. فنسأَل الله أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته. فصل وقد قيل فى المحبة حدود كثيرة غير ما ذكره أبو العباس، فقيل: المحبة ميل القلب إلى محبوبه. وهذا الحد لا يعطى تصور حقيقة المحبة. فإن المحبة أَعرف عند القلب من الميل. وأيضاً فإن الميل لا يدل على حقيقة المحبة. فإنها أخص من مجرد ميل القلب، إذ قد يميل قلب العبد إلى الشيء ولا يكون محباً له لمعرفته بمضرته له، فإن سمى هذا الميل محبة فهو اختلاف عبارة. وقيل: المحبة علم المحب بجمال المحبوب ومحاسنه. وهذا حد قاصر، فإن العلم بجماله ومحاسنه هو السبب الداعى إلى محبته، فعبر عن المحبة بسببها. وقيل: المحبة تعلق القلب بالمحبوب. وقيل: انصباب القلب إلى المحبوب. وقيل: سكون القلب إليه. وقيل: اشتغال القلب بالمحبوب، بحيث لا يتفرغ قلبه لغيره. وقيل: المحبة بذل المجهود فى معرفة محبوبك، وبذل المجهود فى مرضاته. وقيل: هيجان القلب عند ذكر المحبوب، وقيل: شجرة تنبت فى القلب تسقى بماء [الموافقة] ، وإيثار رضى المحبوب. وقيل: المحبة حفظ الحدود، فليس بصادق من ادعى محبة الله ولم يحفظ حدوده. وقيل: المحبة إرادة لا تنقص بالجفاءِ ولا تزيد بالبر [وقيل: فطام والجوارح عن إستعمالها فى غير مرضاة المحبوب] وقيل: المحبة هى السخاءُ بالنفس للمحبوب وقيل: المحبة أن لا يزال عليك رقيب من المحبوب لا يمكنك من الانصراف عنه أبداً. وأنشد فى ذلك: أبت غلبات الشوق إلا تقرباً ... إِليك، ويأْبى العذل إلا تجنباً وما كان صدى عنك صد ملامة ... ولا ذلك الإعراض إلا تقربا وما كان ذاك العذل إلا نصيحة ... ولا ذلك الإغضاءُ إلا تهيباً على رقيب منك حل بمهجتى ... إذا رمت تسهيلاً على تصعباً وقيل: المحبة سقوط كل محبة من القلب سوى محبة حبيبك، وقيل: المحبة صدق المجاهدة فى أوامر الله، وتجريد المتابعة لسنة رسول الله؟ صلى الله عليه وسلم. وقيل: المحبة أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 يفتر من ذكره، [ولا يمل من حقه] ولا يأْنس بغيره. وقال أبو يزيد: المحبة استقلال الكثير من نفسك واستكثار القليل من حبيبك. وقيل: المحبة أن يميتك حبيبك وتحيا به. وقال أبو عبد الله القرشى: المحبة أن تهب كلك لمن أحببت، فلا يبقى لك منك شيء. وقيل: أن تمحو من قلبك ما سوى المحبوب، وقيل: المحبة نسيان حظك من محبوبك وفقرك بكلك إليه. وقال النصر أباذى: المحبة مجانبة السلوّ على كل حال. وقال الحارث بن أسد: المحبة ميلك إلى المحبوب بكليتك، ثم إيثارك له على نفسك وروحك ومالك، ثم موافقتك له سراً وجهراً، ثم علمك بتقصيرك فى حبه. وقيل: المحبة سكر لا يصحو إلا بمشاهدة المحبوب. وقيل: المحبة إقامتك بالباب على الدوام. وقيل: المحبة حرفان: حاءٌ، وباءٌ. فالحاءُ الخروج عن الروح، وبذلها للمحبوب، والباءُ الخروج عن البدن وصرفه فى طاعة المحبوب. وقال أبو عمر الزجاجى: سألت الجنيد عن المحبة فقال: تريد الإشارة؟ قلت: لا. قال: تريد الدعوى؟ قلت: لا. قال: فإيش تريد؟ قلت: عين المحبة، فقال: أن تحب ما يحب الله فى عباده، وتكره ما يكرهه الله فى عباده. وقيل: المحبة معية القلب والروح مع المحبوب معيةً لا تفارقه، فإن المرءَ مع من أحب، وقد قيل فى المحبة حدود أكثر من هذا وكل هذا تعن، ولا توصف المحبة ولا تحد بحد أوضح من المحبة، ولا أقرب إلى الفهم من لفظها. وأما ذكر الحدود والتعريفات فإنما يكون عند حصول الإشكال والاستعجام على الفهم، فإذا زال الإشكال وعدم الاستعجام، فلا حاجة إلى ذكر الحدود والتعريفات، كما قال بعض العارفين: إن كل لفظ يعبر به عن الشيء فلا بد أن يكون ألطف وأرق منه. والمحبة ألطف وأرق من كل ما يعبر به عنها. فصل قال أبو العباس: "وقال قوم: ليس للمحبة صيغة يعبر بها عن حقيقتها. فإن الغيرة من أوصاف المحبة، والغيرة تأْبى إلا التستر والاختفاءَ، وكل من بسط لسانه بالعبارة عنها والكشف عن سرها فليس له منها ذوق، وإنما حركه وجدان الرائحة، ولو ذاق منها شيئاً لغاب عن الشرح والوصف. فإن المحبة لا تظهر على المحب بلفظه وإنما تظهر عليه بشمائله ونحوله ولا يفهم حقيقتها من المحب سوى المحبوب، لموضع اقتداح الأسرار من القلوب، كما قيل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 تشير فأَدرى ما تقول بطرفها ... وأُطرق طرفى عند ذاك فتعلم تكلم منا فى الوجوه عيوننا ... فنحن سكوت والهوى يتكلم قلت: كل معنى فله صيغة تعبر به عنه، ولا سيما إذا كانت من المعانى المعروفة للخاص والعام. ولكن العبارة قد تكون كاشفة للمعنى مطابقة له، كلفظ الدراهم والخبز والماء واللبن ونحوها، وهى أكبر الألفاظ. وقد يكون المعنى فوق ما يشير إليه اللفظ ويعبر عنه، وهو أجل من أن يدل لفظه على كمال ماهيته وهذا كأسماءِ الرب سبحانه وأسماء كتابه. وكذلك اسم الحب فإنه لا يكشف اسمه مسماه، بل مسماه فوق لفظه، وكذلك اسم الشوق والعشق والموت والبلاءِ ونحوها. وقد يكون المعنى دون اللفظ بكثير، واللفظ أجل منه وأعظم. وهذا كلفظ الجوهر الفرد الذى هو عبارة عن أَقل شيء وأصغره وأدقه وأحقره، فليس معناه على قدر لفظه، وإذا عرف هذا فقولهم: "ليس للمحبة صيغة يعبر بها عن حقيقتها" المراد به أن لفظها لا يفهم حقيقة معناها ومعناها فوق ما يفهم من لفظها. وقوله: "الغيرة من أوصاف المحبة، وهى تأْبى إلا التستر والاختفاءَ" هذا كلام فى حكم المحبة ومقتضاها، لا فى حقيقتها ومعناها، والمحبون متباينون فى هذا الحكم، فمنهم من يجعل الغيرة من لوازم المحبة وعلامة ثبوتها وتمكنها ويجعل نداءَ المرءِ عليها وبسط لسانه بالإخبار بها دليلاً على أنه دعى فيها، وأن ما معه منها رائحتها لا حقيقتها، وحقيقتها تأْبى إلا التستر والكتمان. وهذه طريقة الملاميين، كما قيل: لا تنكرى جحدى هواك، فإنما ... ذاك الجحود عليه ستر مسبل ولهذا قيل: المحبة كتمان الإرادة، وإظهار الموافقة. وهذه الطائفة رأت أن كمال المحبة بكتمانها لأسباب عديدة: أحدها: أن الحب كلما كان مكتوماً كان أشد وأعظم سرياناً وسكوناً فى أجزاءِ القلب كلها، كما قيل: الحب أَقتله أكتمه فإذا أفشاه المحب وأظهره وباح به ونادى عليه ضعف أثره وصار عرضة للزوال. الثانى: أن الحب كنز من الكنوز، بل هو أعظم الكنوز المودعة فى سر العبد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 وقلبه، فلا طريق للصوص إليه، فإذا باح به ونادى عليه فقد دل قطاع الطريق واللصوص على موضع كنزه، وعرضه لسلبه منه، فإن النفوس غيارة مغيرة، تغار على المحبوب أن يشاركها فى حبه أحد. فإذا غارت عليه أغارت على القلوب التى فيها حبه فانتزعته منه. وهذه الآفة قد ابتلى بها كثير من السالكين الذين هم فى الحقيقة قطاع الطريق على السالكين إلى الله، وسولت لهم أنفسهم أن هذه غيرة منهم على محبوبهم أن يجب مثل هذه النفوس المتلوثة بالدنيا، وغرتهم أنفسهم ومنتهم أنهم يغارون على الله [ويحولون بين تلك النفوس وبين محبته فغاروا وأغاروا ونهبوا واستلبوا وهذه الطريقة عند المحبين المخلصين أولياء الله الداعين إلى الله] عداوة لله فى الحقيقة ومعاونة للشيطان، وقعود على طريق الله المستقيم الذى خلق عباده لأجله وأمرهم به. فالحذر من هؤلاء القطاع اللصوص حمل أهل المحبة على المبالغة فى كتمانها، وإظهار التخلى منها بأسباب يلامون عليها ظاهراً وقلوبهم مغمورة بالمحبة مأْهولة بها. وهذا الذى ظنوه غيرة هو من تلبيس الشيطان وخدعه لهم ومكره بهم، وإنما [هو حسد حملهم على أن يردوه وصالوا به وسموه غيرة] ، وإنما غيرة المحبين لله أن يغار أحدهم لمحارم الله إذا انتهكت، فيغار لله لا على الله، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم: "إن الله يغار، وإن المؤمن يغار وغيرة الله أن يأْتى العبد ما حرم عليه"، فغيرة المحب هى الموافقة لغيرة محبوبه، وهى أن يغار مما يغار منه المحبوب [وأما] ، وإذا كان المحبوب ممن يحبه وهذا يغار ممن يحبه الله فهو فى الحقيقة ساع فى خلاف مراد محبوبه، وفى إعدام ما يحبه محبوبه، فأَين هذا من الغيرة المحبوبة لله؟ وإنما هذه غيرة من أخيه المسلم كيف خصه الله بعطائه وألبسه ثوب نعمائه، فهى غيرة منه لا غيرة على الله، فإن الله لا يغار عليه بل يغار له. وسنفرد إن شاءَ الله للغيرة فصلاً نذكر فيه أقسامها وحقيقتها. الثالث: أن المحبة التامة تستدعى شغل القلب بالمحبوب وعدم تفرغه للشرح والوصف، فلو صدقت محبته لاستغرق فيها عن شرح حاله ووصفه، فهذه طريقة هولاء، ومنهم من يجعل تهتكه وبوحه بها وإعلامه لها من تمامها وقوتها، ومن علامات قهرها له وأنها غلبت على سره حتى لم يطق صبره كتمانها، كما قال النووى: المحبة هتك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 الأستار، وكشف الأسرار. فهذا حال النووى وأضرابه. وعند هؤلاء التكتم ضعف فى المحبة وجور فيها، وحقيقتها أن تخليها ومقتضاها من ظهور آثارها على الجوارح والبدن، فإن أثرت حركة لم يسكنها وإن [أثرت دمعه لم يرسلها وإن أثرت تنفساً لم يكظمه وإن] أثرت بذلاً وإيثاراً لم يمسكه. وكمال المحبة عندهم أن تنادى عليه أعضاؤه وألفاظه وألحاظه وحركاته وسكناته بالحب نداء لا يملك إنكاره. وقال على بن عبيد وكتب يحيى بن معاذ إلى أبى يزيد: سكرت من كثرة ما شربت من كأْس محبته، فكتب إليه أبو يزيد: غيرك شرب بحور السموات والأرض ما روى بعد، ولسانه خارج وهو يقول هل من مزيد. فلم ير هذان العارفان التكتم بها وإخفاءَها وجحدها وهما هما. وكان الأُستاذ أبو على الدقاق ينشد كثيراً: لى سكرتان وللندمان واحدة ... شيء خصصت به من بينهم وحدي وجاء رجل إلى عبد الله بن المنازل فقال: رأَيت فى المنام كأَنك تموت إلى سنة، فقال عبد الله: لقد أجلتنى إلى أجل بعيد أعيش إلى سنة، لقد كان لى أنس ببيت سمعته من أبى على [الثقفى] : يا من شكى شوقه من طول فرقته ... اصبر لعلك تلقى من تحب غداً وقال الشبلى: المحب إذا سكت هلك، والعارف إن لم يسكت هلك. والتحقيق: أن هذا هو حال المتمكن فى حبه، الذى تزول الجبال الراسيات وقلبه على الود لا يلوى ولا يتغير. والأول حال المريد المبتديء الذى قد علقت نار المحبة فى قلبه، ولم يتمكن اشتعالها، فهو يخاف عليها عواصف الرياح أن تطفئها، فهو يخبئها ويكتمها ويسترها من الرياح جهده، فإذا اشتغلت وتمكن وقودها فى القلب لم تزدها كثرة الرياح إلا وقوداً واشتعالاً. فهذا يختلف باختلاف الناس وتفاوتهم فى قوة المحبة وضعفها. والمقصود أن من بسط لسانه بالعبارة عنها والكشف عن سرها وأحكامها لن يؤمن أن يكون من أهل العلم بالمحبة لا من المتصفين بها حالاً، فكم بين العلم بالشيء والاتصاف به ذوقاً وحالاً، فعلم المحبة شيء ووجودها فى القلب شيء. وكثير من المحبين الذين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 .. ... ... امتلأت قلوبهم محبة لو سئل عن حدها وأحكامها وحقيقتها لم يطق أن يعبر عنها، ولا يتهيأ له أن يصفها ويصف أحكامها، وأكثر المتكلمين فيها إنما تكلموا فيها بلسان العلم لا بلسان الحال. وهذا والله أعلم هو معنى قول بعض المشايخ: أعظم الناس حجاباً عن الله أكثرهم إليه إشارة، فإنه إنما حظه منه الإشارة إليه لا [عكوف] القلب عليه، كالفقير الذى دأْبه وصف الأغنياء وأموالهم، ووصف الدنيا وممالكها، وهو خلو من ذلك. ولا ريب أن وجود الحب فى القلب وترك الكلام [منه] علماً، [غير من كثرة الكلام فى هذه المسألة وخلو القلب منها] ، وخير من الرجلين من امتلأ قلبه منها حالاً وذوقاً، وفاضت على لسانه إرشاداً وتعليماً ونصيحة للأُمة. فهذا حال الكملة من الناس. والله المسئول من فضله وكرمه. قوله: "المحبة لا تظهر على المحب بلفظه، وإنما تظهر عليه بشمائله ونحوله" هذا حق، فإن دلالة الحال على المحبة أعظم من دلالة القال عليها، بل الدلالة عليها فى الحقيقة هو شاهد الحال لا صريح المقال. ففرق بين من يقول لك بلسانه: إنى أحبك، ولا شاهد عليه من حاله، وبين من هو ساكت لا يتكلم وأنت ترى شواهد أحواله كلها ناطقة بحبه لك. قال جعفر: قال الجنيد: دفع السرى إليه رقعة، وقال: هذه خير لك من سبعمائة قصة وكذا [وكذا] فإذا فيها: ولما ادعيت الحب قالت كذبتنى ... فما لى أَرى الأعضاء منك كواسيا فما الحب حتى يلصق القلب بالحشا ... وتذبل حتى لا تجيب المناديا وتبخل حتى [لا] يبقى لك الهوى ... سوى مقلة تبكى بها وتناجيا وبالجملة فشاهد [المحبه] الذى لا يكذب هو شاهد الحال، وأما شاهد المقال فصادق وكاذب. قوله: "ولا يفهم حقيقتها من المحب سوى المحبوب، لموضع اقتداح الأسرار من القلوب" يعنى أن حقيقة المحبة وسرها لا يفهمه من المحب إلا محبوبه. وذلك لشدة الاتصال الذى بينه وبين محبوبه فى الباطن، فروحه أَقرب شيء إليه، [وأما] الغير وإن علم أنه محب بظهور أثر المحبة عليه وقيام شاهدها لكن لا يدرك تلك اللطيفة والحقيقة التى يدركها المحبوب من محبه، لموضع اتصال سره، وقرب ما بين الروحين، ولا سيما إذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 كانت المحبة من الطرفين فهناك العجب والمناجاة والملاطفة والإشارة والعتاب والشكوى، وهما ساكنان لا يدرى جليسهما بشأْنهما [فعجيب شأنهما] . فصل فى محبة العوام: قال: "وأما محبة العوام فهى محبة تنبت من [مطالعة] المنة وتثبت باتباع السنة، وتنمو على الإجابة للغاية، وهى محبة تقطع الوسواس، وتلذذ الخدمة، وتسلى عن المصائب، وهى [فى] طريق العوام عمدة الإيمان". فيقال: لا ريب أن المحبة درجات متفاوتة، بعضها أكمل من بعض. وكل درجة خاصة بالنسبة إلى ما تحتها، عامة بالنسبة إلى ما فوقها، فليس انقسامها إلى خاص وعام انقساماً حقيقياً متميزاً بالنسبة بفصل يميز أحد النوعين عن الآخر، وإنما تنقسم باعتبار الباعث عليها وسببها، وتنقسم بذلك إلى قسمين: أحدهما: محبة تنشأُ من الإحسان، ومطالعة الآلاء والنعم، فإن القلوب جبلت على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليه، ولا أحد أعظم إحساناً من الله سبحانه، فإن إحسانه على عبده فى كل نفس ولحظة، وهو يتقلب فى إحسانه فى جميع أحواله، ولا سبيل له إلى ضبط أجناس هذا الإحسان فضلاً عن أنواعه أو عن أفراده، ويكفى أن من بعض أنواعه نعمة النفس التى لا تكاد تخطر ببال العبد، وله عليه فى كل يوم وليلة فيه أربعة وعشرون ألف نعمة، فإنه يتنفس فى اليوم والليلة أربعة وعشرون ألف نفس، وكل نفس نعمة منه سبحانه، فإذا كان أدنى نعمة عليه فى كل يوم أربعة وعشرين ألف نعمة فما الظن بما فوق ذلك وأعظم منه: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34] [النحل: 18] ، هذا إلى ما يصرف عنه من المضرات وأنواع الأذى التى تقصده، ولعلها توازن النعم فى الكثرة، والعبد لا شعور به بأكثرها أصلاً، والله سبحانه يكلؤه منها بالليل والنهار كما قال تعالى: {قُلْ مَن يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ} [الأنبياء:42] ، وسواء كان المعنى من يكلؤكم ويحفظكم منه إذا أراد بكم سوءاً ويكون يكلؤكم مضمناً معنى يجيركم وينجيكم من بأْسه، أو كانت "من" البدلية أى من يكلؤكم بدل الرحمن [سبحانه] أى هو الذى يكلؤكم وحده لا كاليء لكم غيره، ونظير "من" هذه قوله: {وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 مِنكُمْ مَلائِكَةً فِى الأَرْضِ يَخْلُفُونَ} [الزخرف: 60] ، على أحد القولين، أى عوضكم وبدلكم، واستشدوا على ذلك بقول الشاعر: جارية لم تأْكل المرقَّقا ... ولم تذق من البقول الفستقا أى لم تأكل الفستق بدل البقول، وعلى كلا القولين فهو سبحانه منعم عليهم بكلاءَتهم وحفظهم وحراستهم مما يؤذيهم بالليل والنهار وحده، لا حافظ لهم غيره. هذا مع غناه التام عنهم وفقرهم التام إليه من كل وجه، وفى بعض الآثار يقول تعالى: "أنا الجواد، ومن أعظم منى جوداً وكرماً؟ أبيت أكلأُ عبادى فى مضاجعهم وهم يبارزوننى بالعظائم". وفى الترمذى أن النبى صلى الله عليه وسلم لما رأى السحاب قال: "هذه روايا الأرض يسوقها الله إلى قوم لا يذكرونه، ولا يعبدونه". وفى الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله، إنهم ليجعلون له الولد، وهو يرزقهم ويعافيهم". وفى بعض الآثار: "يقول الله: ابن آدم، خيرى إليك نازل، وشرك إلى صاعد، كم أتحبب إليك بالنعم، وأنا غنى عنك، وكم تتبغض إلى بالمعاصى، وأنت فقير إلى، وإلا يزال الملك الكريم يعرج إلى منك بعمل قبيح" ولو لم يكن من تحببه إلى عباده وإحسانه إليهم وبره بهم إلا أنه [سبحانه] خلق لهم ما فى السموات والأرض وما فى الدنيا والآخرة، ثم أهلهم وكرمهم، وأرسل إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه وشرع لهم شرائعه، وأذن لهم فى مناجاته كل وقت أرادوا وكتب لهم بكل حسنة يعملونها عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وكتب لهم بالسيئة واحدة، فإن تابوا منها محاها وأَثبت مكانها حسنة، وإذا بلغت ذنوب أحدهم عَنان السماءِ ثم استغفره غفر له، لو لقيه بقراب، الأرض خطايا ثم لقيه بالتوحيد لا يشرك به شيئاً لأَتاه بقرابها، مغفرة وشرع لهم التوبة الهادمة للذنوب فوفقهم لفعلها ثم قبلها منهم وشرع لهم الحج الذى يهدم ما قبله فوفقهم لفعله وكفر عنهم سيئاتهم به، وكذلك ما شرعه لهم من الطاعات والقربات وهو الذى أمرهم بها وخلقها لهم وأعطاهم إياها ورتب عليها جزاءَها، فمنه السبب ومنه الجزاءُ، ومنه التوفيق ومنه العطاءُ أولاً وآخراً. وهم محل إحسانه كله منه [ليس منهم شيئاً إنما الفضل كله والنعمة كلها والإحسان كله] أولاً وآخراً: أعطى عبده [ماله] وقال: تقرّب بهذا إلى أقبله منك، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 فالعبد له والمال له والثواب منه، فهو المعطى أولاً وآخراً فكيف لا يحب من هذا شأْنه؟ وكيف لا يستحى العبد أن يصرف شيئاً من محبته إلى غيره؟ ومن أولى بالحمد والثناءِ والمحبة منه؟ ومن أولى بالكرم والجود والإحسان منه؟ فسبحانه وبحمده لا إله إلا هو العزيز الحكيم ويفرح سبحانه وتعالى بتوبة أحدهم إذا تاب إليه أعظم فرح وأكمله، ويكفر عنه ذنوبه، ويوجب له محبته بالتوبة، وهو الذى ألهمه إياها ووفقه لها وأعانه عليها، وملأ سبحانه وتعالى سماواته من ملائكته، واستعملهم فى الاستغفار لأهل الأرض واستعمل حملة العرش منهم فى الدعاءِ لعباده المؤمنين والاستغفار لذنوبهم ووقايتهم عذاب الجحيم، والشفاعة إليه بإذنه أن يدخلهم جناته. فانظر إلى هذه العناية وهذا الإحسان وهذا التحنن والعطف والتحبب إلى العباد واللطف التام بهم، ومع هذا كله بعد أن أرسل إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه وتعرف إليهم بأسمائه وصفاته وآلائه، ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا يسأل عنهم ويستعرض حوائجهم بنفسه ويدعوهم إلى سؤاله، فيدعو مسيئهم إلى التوبة ومريضهم إلى أن يسأله أن يشفيه وفقيرهم إلى أن يسأله غناه وذا حاجتهم يسأله قضاءَها كل ليلة، ويدعوهم إلى التوبة وقد حاربوه وعذبوا أولياءَه وأحرقوهم بالنار. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج: 10] . وقال بعض السلف: انظروا إلى كرمه كيف عذبوا أولياءه وحرقوهم بالنار، ثم هو يدعوهم إلى التوبة. فهذا الباب يدخل منه كل أحد إلى محبته سبحانه وتعالى، فإن نعمته على عباده مشهودة لهم، يتقلبون فيها على عدد الأنفاس واللحظات. وقد روى فى بعض الأحاديث مرفوعاً: "أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه، وأحبونى بحب الله"، فهذه محبة تنشأْ من مطالعة المنن [والإحسان] ورؤية النعم والآلاء، وكلما سافر القلب [بفكره] فيها ازدادت محبته وتأكدت، ولا نهاية لها فيقف سفر القلب عندها، بل كلما ازداد فيها نظراً ازداد فيها اعتباراً وعجزاً عن ضبط القليل منها، فيستدل بما عرفه على ما لم يعرفه، والله سبحانه وتعالى دعا عباده إليه من هذا الباب، حتى إدا دخلوا منه دعوا من الباب الآخر وهو باب الأسماءِ والصفات الذى إنما يدخل منه إليه خواص عباده وأوليائه، وهو باب المحبين حقاً الذى لا يدخل منه غيرهم، ولا يشبع من معرفته أحد منهم، بل كلما بدا له منه علم ازداد شوقاً ومحبة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 .. ... [وظمأ] .فإذا انضم داعى الإحسان والإنعام إلى داعى الكمال والجمال لم يتخلف عن محبة من هذا شأنه إلا أردأ القلوب وأخبثها وأشدها نقصاً وأبعدها من كل خير، فإن الله فطر القلوب على محبة المحسن الكامل فى أوصافه وأخلاقه، وإذا كانت هذه فطرة الله التى فطر عليها قلوب عباده، فمن المعلوم أنه لا أحد أعظم إحساناً منه سبحانه وتعالى ولا شيء أكمل منه ولا أجمل، فكل كمال وجمال فى المخلوق من آثار صنعه سبحانه وتعالى، وهو الذى لا يجد كماله، ولا يوصف جلاله وجماله، ولا يحصى أحد من خلقه ثناءً عليه بجميل صفاته وعظيم إحسانه وبديع أفعاله، بل هو كما أثنى على نفسه. وإذا كان الكمال محبوباً لذاته ونفسه وجب أن يكون الله هو المحبوب لذاته وصفاته، إذ لا شيء أكمل منه، وكل اسم من أسمائه وصفة من صفاته [تستدعى محبه خاصة فإن اسمائه كلها حسنى وهى مشتقة من صفاته] ، وأفعاله دالة عليها [فهو المحبوب المحمود لذاته وصفاته وأفعاله وأسمائه] . فهو المحبوب المحمود على كل ما فعل وعلى كل أمر، إذ ليس فى أفعاله عبث ولا فى أوامره سفه، بل أفعاله كلها لا تخرج عن الحكمة والمصلحة والعدل والفضل والرحمة، وكل واحد من ذلك يستوجب الحمد والثناءَ والمحبة عليه، وكلامه كله صدق وعدل، وجزاؤه كله فضل وعدل: فإنه إن أعطى فبفضله ورحمته ونعمته، وإن منع أو عاقب فبعدله وحكمته: ما للعباد عليه حق واجب ... كلا ولا سعى لديه ضائع إن عذبوا فبعدله، أو نعموا ... فبفضله، وهو الكريم الواسع فصل ولا يتصور نشر هذا المقام حق تصوره فضلاً عن أن يوفاه حقه، فأعرف خلقه به وأحبهم له صلى الله عليه وسلم يقول: "لا أُحصى ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك"، ولو شهد بقلبه صفة واحدة من أوصاف كماله لاستدعت منه المحبة التامة عليها، وهل مع المحبين محبة إلا من آثار صفات كماله فإنهم لم يروه فى هذه الدار، وإنما وصل إليهم العلم بآثار صفاته وآثار صنعه، فاستدلوا بما علموه على ما غاب، فلو شاهدوه ورأوا جلاله وجماله وكماله سبحانه وتعالى لكان لهم فى حبه شأْن آخر، وإنما تفاوتت منازلهم ومراتبهم فى محبته على حسب تفاوت مراتبهم فى معرفته والعلم به. فأعرفهم بالله أشدهم حباً له، ولهذا كانت رسله أعظم الناس حباً له [من غيره] والخليلان من بينهم أعظمهم حباً، وأعرف الأُمة به أشدهم له حباً، ولهذا كان المنكرون لحبه من أجهل الخلق به، فإنهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 منكرون لحقيقة إلهيته ولخلة الخليلين [صلى الله عليه وسلم] ولفطرة الله التى فطر الله عباده عليها، ولو رجعوا إلى قلوبهم لوجدوا حبه فيها، ووجدوا معتقدهم [وبحثهم] يكذب فطرهم، وإنما بعثت الرسل بتكميل هذه الفطرة وإعادة ما فسد منها إلى الحالة الأوُلى التى فطرت عليها، وإنما دعوا إلى القيام بحقوقها ومراعاتها لئلا تفسد وتنتقل عما خلقت له. وهل الأوامر والنواهى إلا خدم وتوابع ومكملات ومصلحات لهذه الفطرة؟ وهل خلق الله سبحانه وتعالى خلقه إلا لعبادته التى هى غاية محبته والذل له؟ وهل هييء الإنسان إلا لها؟ كما قيل: قد هيئوك لأمر لو فطنت له ... فاربأْ بنفسك أَن ترعى مع الهمل وهل فى الوجود محبة حق غير باطلة إلا محبته سبحانه؟ فإن كل محبة متعلقة بغيره فباطلة زائلة ببطلان متعلقها، وأما محبته سبحانه فهو الحق الذى لا يزول ولا يبطل، كما لا يزول متعلقها ولا يفنى. وكل ما سوى الله باطل، ومحبة الباطل باطل. فسبحان الله كيف ينكر المحبة الحق التى لا محبة أحق منها، ويعترف بوجود المحبة الباطلة المتلاشية؟ وهل تعلقت المحبة بوجود محدث إلا الكمال فى وجوده بالنسبة إلى غيره؟ وهل ذلك الكمال إِلا من آثار صنع الله الذى أتقن كل شيء؟ وهل الكمال كله إلا له" فكل من أحب شيئاً لكمال ما يدعوه إلى محبته فهو دليل وعبرة على محبة الله، وأنه أولى بكمال الحب من كل شيء. ولكن إذا كانت النفوس صغاراً كانت محبوباتها على قدرها، وأما النفوس الكبار الشريفة فإنها تبذل حبها لأجلّ الأشياء وأشرفها. والمقصود أن العبد إذا اعتبر كل كمال فى الوجود وجده من آثار كماله سبحانه، فهو دال على كمال مبدعه، كما أن كل علم فى الوجود فمن آثار علمه، وكل قدرة فمن آثار قدرته، ونسبة الكمالات الموجودة فى العالم العلوى والسفلى إلى كماله كنسبة علوم الخلق وقدرهم وقواهم وحياتهم إلى علمه سبحانه وقدرته وقوته وحياته، فإذن لا نسبة أصلاً بين كمالات العالم وكمال الله [جل جلاله] ، فيجب أن لا يكون بين محبته ومحبة غيره من الموجودات له، بل يكون حب العبد له أعظم من حبه لكل شيء بما لا نسبة بينهما، ولهذا قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبَّاً للهِ} [البقرة: 165] ، فالمؤمنون أشد حباً لربهم ومعبودهم [تعالى] من كل محب لكل محبوب. هذا مقتضى عقد الإيمان الذى لا يتم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 إلا به. وليست هذه المسألة من المسائل التى للعبد عنها غنى أو منها بد، كدقائق العلم والمسائل التى يختص بها بعض الناس دون بعض، بل هذه مسألة تفرض على العبد، وهى أصل عقد الإيمان الذى لا يدخل فيه الداخل إلا بها ولا فلاح للعبد ولا نجاة له من عذاب الله إلا بها، فليشتغل بها العبد أو ليعرض عنها، ومن لم يتحقق بها علماً وحالاً وعملاً لم يتحقق بشهادة أن لا إِله إلا الله، فإنها سرها وحقيقتها ومعناها، وإن أبى ذلك الجاحدون وقصر عن علمه الجاهلون. فإن الإِله هو المحبوب المعبود الذى تؤلهه القلوب بحبها وتخضع له وتذل له وتخافه وترجوه وتنيب إليه فى شدائدها وتدعوه فى مهماتها وتتوكل عليه فى مصالحها وتلجأ إليه وتطمئن بذكره وتسكن إلى حبه وليس ذلك إلا الله وحده، ولهذا كانت [لا إله إلا الله] أصدق الكلام، وكان أهلها أهل الله وحزبه، والمنكرون لها أعداؤه، وأهل غضبه ونقمته. فهذه المسألة قطب رحى الدين الذى عليه مداره، وإذا صحت صح بها كل مسألة وحال وذوق، وإذا لم يصححها العبد فالفساد لازم له فى علومه وأعماله، وأحواله وأقواله، ولا حول ولا قوة إلا بالله. فلنرجع إلى شرح كلامه فقوله: "وأما محبة العوام فهى محبة تنبت من مطالعة المنة" يعنى أن لهذه المحبة منشأ وثبوتاً ونمواً. [فمنشأها] الإحسان ورؤية فضل الله ومنته على عبده، وثبوتها باتباع أوامره التى شرعها على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونموها وزيادتها يكون بإجابة العبد لدواعى فقره وفاقته إلى ربه، فكلما دعاه فقره وفاقته إلى ربه أجاب هذا الداعى وهو فقير بالذات فلا يزال فقره يدعوه إليه، فإن دامت استجابته له بدوام الداعى لم تزل المحبة تنمو وتتزايد، فكلما أخطر الرّب فى قلبه خواطر الفقر والفاقة بادر قلبه بالإجابة والانكسار بين يديه ذلاً وفاقة وحباً وخضوعاً، وإنما كانت هذه محبة العوام عنده لأن منشأها من الأفعال، لا من الصفات والجمال، ولو قطع الإحسان عن هذه القلوب لتغيرت وذهبت محبتها أو ضعفت، فإن باعثها إنما هو الإحسان، ومن ودَّك لأمر ولى عند انقضائه، فهو برؤية الإحسان مشغول، وبتوالى النعم عليه محمول. قوله: "وهى محبة تقطع الوسواس، وتلذذ الخدمة، وتسلى على المصائب، وهى فى طريق العوام عمدة للإيمان". إنما كانت هذه المحبة قاطعة للوسواس لإحضار المحب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 قلبه بين يدى محبوبه. والوسواس إنما ينشأُ من الغيبة والبعد، وأما الحاضر المشاهد فماله وللوسواس؟ فالموسوس يجاهد نفسه وقلبه ليحضر بين يدى معبوده، والمحب لم يغب قلبه عن محبوبه فيجاهده على إحضاره، فالوسواس والمحبة متنافيان، ومن وجه آخر أن [المحب قد انقطعت عن قلبه وساوس الأطماع لامتلأ قلبه من] محبة حبيبه فلا تتوارد على قلبه جواذب الأطماع والأمانى لاشتغاله بما هو فيه. وأيضاً فإن الوسواس والأمانى إنما تنشأُ من حاجته وفاقته إلى ما تعلق طمعه به. وهذا عبد قد جنى من الإحسان، وأُعطى من النعم ما سد حاجته وأغنى فاقته، فلم يبق له طمع ولا وسواس، بل بقى حبه للمنعم عليه وشكره له وذكره إياه فى محل وساوسه وخواطره لمطالعة نعم الله عليه، وشهوده منها ما لم يشهد غيره. وقوله: "وتلذذ الخدمة" هو صحيح، فإن المحب يتلذذ بخدمة محبوبه وتصرفه فى طاعته، وكلما كانت المحبة أقوى كانت لذة الطاعة والخدمة أكمل، فليزن العبد إيمانه ومحبته لله بهذا الميزان، ولينظر هل هو ملتذ [بخدمته كالمد والمحب بخدمة محبوبه] ، أو متكره لها يأْتى بها على السآمة والملل [واللوامة] ؟ فهذا [محل] إيمان العبد ومحبته لله. قال بعض السلف: إنى أدخل الصلاة فأحمل هم خروجى منها ويضيق صدرى إذا [عرفت] أنى خارج منها، ولهذا قال النبى صلى الله عليه وسلم "جعلت قرة عينى فى الصلاة"، ومن كانت قرة عينه فى شيء فإنه يود أن لا يفارقه ولا يخرج منه فإن قرة عين العبد نعيمه وطيب حياته به. وقال بعض السلف: إنى لأفرح بالليل حين يقبل، لما يلتذ به عيشى وتقر به عينى من مناجاة من أُحب، "وخلوتى بخدمته والتذلل بين يديه، وأغتم للفجر إذا طلع، لما اشتغل به بالنهار عن ذلك، فلا شيء ألذ للمحب من خدمة محبوبه وطاعته. وقال بعضهم: تعذبت بالصلاة عشرين سنة، ثم تنعمت بها عشرين سنة. وهذه اللذة والتنعم بالخدمة إنما تحصل بالمصابرة [على النكرة] والتعب أولاً، فإذا صبر عليه وصدق فى صبره أفضى به إلى هذه اللذة. قال أبو زيد: سقت نفسى إلى الله وهى تبكى، فما زلت أسوقها حتى انساقت إليه وهى تضحك، ولا يزال السالك عرضة للآفات والفتور والانتكاس حتى يصل إلى هذه الحالة، فحينئذ يصير نعيمه فى سيره ولذته فى اجتهاده وعذابه فى فتوره ووقوفه، فترى أشد الأشياء عليه ضياع شيء من وقته ووقوفه عن سيره، ولا سبيل إلى هذا إلا بالحب المزعج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 وقوله: " [تسلى] عن المصائب" صحيح، فإن المحب يتسلى [بمحبوبه] عن كل مصيبة يصاب بها دونه، فإذا سلم له محبوبه لم يبال لما فاته فلا يجزع على ما ناله، فإنه يرى فى محبوبه عوضاً عن كل شيء، ولا يرى فى شيء غيره عوضاً منه أصلاً، فكل مصيبة عنده هينة إذا أبقت عليه محبوبه. ولهذا لما خرجت تلك المرأة الأنصارية يوم أُحد تنظر ما فعل برسول الله صلى الله عليه وسلم مرت بأبيها وأخيها مقتولين، فلم تقف عندهما، وجاوزتهما تقول: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقيل لها: ها هو ذا حى، فلما نظرت إليه قالت: ما أُبالى إذا سلمتَ هلك من هلك. ولو لم يكن فى المحبة من الفوائد إلا هذه الفائدة وحدها لكفى بها شرفاً، فإن المصائب لازمة للعبد لا محيد له عنها، ولا يمكن دفعها بمثل المحبة وهكذا مصائب الموت وما بعدها إنما تسهل وتهون بالمحبة، وكذلك مصائب القيامة، وأعظم المصائب مصيبة النار ولا يدفعها إلا محبة الله وحده ومتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم. فالمحبة أصل كل خير فى الدنيا والآخرة كما قال سمنون: ذهب المحبون لله بشرف الدنيا والآخرة، فإن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "المرءُ مع من أحب" فهم مع الله تعالى. وقوله: "وهى فى طريق العوام عمدة الإيمان" كلام قاصر، فإنها عمود الإيمان وعمدته وساقه الذى لا يقوم إلا عليه، فلا إيمان بدونها البتة. وإنما [أن] مراده هذه المحبة الخاصة التى تنشأُ من رؤية النعم هى عمدة إيمان العوام، وأما الخواص فعمدة إيمانهم محبة تنشأُ من معرفة الكمال ومطالعة الأسماءِ والصفات. والله أعلم. قال أبو العباس: "وأما محبة الخواص فهى محبة خاطفة: تقطع العبارة، وتدقق الإشارة، ولا تنتهى بالنعوت، ولا تعرف إلا بالحيرة والسكوت." وقال بعضهم: يقول وقد أُلبست وجدا وحيرة ... وقد ضمَّنا بعد التفرق محضر ألست الذى كنا نحدث أنه ... ولوع بذكراها، فأَين التذكر؟ فرد عليها الوجد: أفنيت ذكره فلم ... يبق إلا زفرة وتحسر فيقال: [ها هنا] مرتبتان من المحبة مختلف فى أيتهما أكمل من الأُخرى: إحداهما هذه المرتبة التى أشار إليها المصنف، وهى الدرجة الثالثة التى ذكرها شيخ الإسلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 فى منازله: فقال: "والدرجة الثالثة محبة خاطفة تقطع العبارة، وتدقق الإشارة، ولا تنتهى بالنعوت وهذه المحبة قطب هذا الشأْن، وما دونها مجال تنادى عليها الأَلسن، وادعتها الخليقة، وأوجبتها العقول". والمرتبة الثانية عند صاحب المنازل ومن تبعه دون هذه المرتبة، وهى المحبة التى تنشأُ من مطالعة الصفات، فقال فى منزله: "والدرجة الثانية محبة تبعث على إيثار الحق على غيره، ويلهج اللسان بذكره، ويعلق القلب بشهوده، وهى محبة تظهر من مطالعة الصفات والنظر فى الآيات والارتياض بالمقامات"، وإنما جعل هؤلاء هذه المحبة أنقص من المحبة الثالثة بناءً على أُصولهم، فإن الفناءَ هو غاية السالك التى لا غاية له وراءَها، فهذه المحبة لما أفنت المحب واستغرقت روحه، بحيث غيبته عن شهوده وفنى فيها المحب وانمحت رسومه بالكلية ولم يبق هناك إلا محبوبه وحده، فكأَنه هو المحب لنفسه بنفسه، إذ فنى من لم يكن وبقى من لم يزل. ولما ضاق نطاق النطق بهم عن التعبير عنها عدلوا إلى التعبير عنها بكونها "قاطعة للعبارة، مدققة للإشارة" يعنى تدق عنها الإشارة، ولأن الإشارة تتناول محباً ومحبوباً، وفى هذه المحبة قد فنى المحب فانقطع تعلق الإشارة به إذ الإشارة لا تتعلق بمعدوم. وسر هذا المقام عندهم هو الفناءُ فى الحب بحيث لا يشاهد له رسماً ولا محبة ولا سبباً، ولهذا كانت الدرجتان اللتان قبله عنه معلولتين، لأنهما [مصحوبان] بالبقاءِ وشهود الأسباب، بخلاف الثالثة، ولهذا قال: "ولا تنتهى بالنعوت" يعنى أن النعت لا يصل إليها ولا يدركها. وهذا بناء على قاعدته فى كل باب من أبواب كتابه، يجعل الدرجة [الثالثة] التى تتضمن الفناءَ أكمل مما قبلها والصواب أن الدرجة الثانية أكمل من هذه وأتم، وهى درجة الكملة من المحبين، ولهذا كان إمامهم وسيدهم وأعظمهم حبا ًصلى الله عليه وسلم فى الذروة العليا من المحبة، وهو مراع لجريان الأُمور ولجريان الأُمة، مثل سماعه بكاءَ الصبى فى الصلاة فيخففها لأجله، ومثل التفاتة فى صلاته إلى الشِّعب الذى بعث منه العين يتعرف له أَمر العدو، وهذا هو فى أعلى درجة المحبة. ولهذا رأى ما رأى فى ليلة الإسراءِ وهو ثابت الجأْش حاضر القلب لم يفن عن تلقى خطاب ربه وأوامره، ومراجعته فى أمر الصلاة مراراً ولا ريب أن هذا الحال أكمل من حال موسى الكليم [صلوات الله وسلامه عليهما] فإن موسى خرَّ صعقاً وهو فى مقامه فى الأرض لما تجلى ربه للجبل، والنبى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 صلى الله عليه وسلم قطع تلك المسافات وخرق تلك الحجب ورأى ما رأى وما زاغ بصره وما طغى، ولا [اضطرب] فؤاده ولا صعق [صلوات الله وسلامه عليه] . ولا ريب أن الوراثة المحمدية أكمل من الوراثة الموسوية وتأَمل شأْن النسوة اللاتى رأَين يوسف كيف [أدهشهن] حسنه وتعلقت [قلوبهن] ، به، وأفناهن عن أنفسهن حتى قطعن أيديهن وامرأة العزيز أكمل حباً منهن له وأشد ولم يعرض لها ذلك، مع أن حبها أقوى وأتم، لأن حبها كان مع البقاءِ وحبهن كان مع الفناءِ، فالنسوة غيبهن حسنه وحبه عن أنفسهن، فبلغن من تقطيع أيديهن ما بلغن، امرأة العزيز لم [يغيبها حبها له] عن نفسها، بل كانت حاضرة القلب متمكنة فى حبها، فحالها حال الأقوياءِ من المحبين، وحال النسوة حال أصحاب الفناءِ. ومما يدل على أن حال البقاء فى الحب أكمل من حال الفناءِ أن الفناءَ إنما يعرض لضعف النفس عن وارد المحبة، فتمتليء به وتضعف عن حمله فيفنيها ويغيبها عن تمييزها وشهودها فيورثها الحيرة والسكوت، وأما حال البقاءِ فيدل على ثبات النفس وتمكنها، وأنها حملت من الحب ما لم يطق حمله صاحب الفناءِ، فتصرفت فى حبها ولم يتصرف فيها، والكمال من إذا ورد عليه الحال تصرف هو فيه ولا يدع حاله يتصرف فيه. وأيضاً فإن البقاءَ متضمن لشهود كمال المحبوب، ولشهود ذل عبوديته ومحبته، ولشهود مراضيه وأوامره، والتمييز بين ما يحبه ويكرهه، والتمييز بين المحبوب إليه والأحب، والعزم على إيثار الأحب إليه، فكيف يكون [الفانى عن شهوة هذا يتعيب الحب له أكمل وأقوى؟ وأى عبودية للمحبوب فى فناءِ المحب فى محبته؟] . وهل العبودية كل العبودية إلا فى البقاءِ والصحو وكمال التمييز وشهود عزة محبوبه وذله وهو فى حبه واستكانته فيه، واجتماع إرادته كلها فى تنفيذ مراد محبوبه؟ فهذا وأمثاله مما يدل على أن الدرجة الثانية التى أشار إليها أكمل من الثالثة وأتم وهكذا فى جميع أبواب الكتاب والله أعلم. وكأَنى بك تقول لا يقبل فى هذا إلا كلام من قطع هذه المفاوز حالاً وذوقاً، وأما الكلام فيها بلسان [العلم] المجرد فغير مقبول، والمحبون أصحاب الحال والذوق فى المحبة لهم شأْن وراءَ الأدلة والحجج. فاعلم أولاً أن كل حال وذوق ووجد وشهود لا يشرق عليه نور العلم المؤيد بالدليل فهو من عبث النفس وحظوظها، فلو قدر أن المتكلم إنما تكلم بلسان العلم المجرد فلا ريب أن ما كشفه العلم الصحيح المؤيد بالحجة أنفع من حال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 يخالف العلم والعلم يخالفه. وليس من الإنصاف رد العلم الصحيح بمجرد الذوق والحال، وهذا أصل الضلالة، ومنه دخل الداخل على كثير من السالكين فى تحكيم أذواقهم ومواجيدهم على العلم، فكانت فتنة فى الأرض وفساد كبير. وكم قد ضل وأضل محكم الحال على العلم، بل الواجب تحكيم العلم على الحال ورد الحال إليه، فما زكاه شاهد العلم فهو المقبول، وما جرحه شاهد العلم فهو المردود، وهذه وصية أرباب الاستقامة من مشايخ الطريق [رضى الله عنه] يوصون بذلك ويخبرون أن كل ذوق ووجد لا يقوم عليه شاهدان اثنان من العلم فهو باطل، ويقال ثانياً: ليس من شرط قبول العلم بالشيء من العالم به أن يكون ذائقاً له، أفتراك لا تقبل معرفة الآلام والأوجاع وأدويتها إلا ممن قد مرض بها وتداوى بها؟ أفيقول هذا عاقل؟ ويقال ثالثاً: أتريد بالذوق أن يكون القائل قد بلغ الغاية القصوى فى هذه المرتبة فلا يقبل إلا ممن هذا شأْنه، أو تريد أنه لا بد أن يكون له أذواق أهله من حيث [الحملة] ؟ فإن أردت الأول لزمك أن لا يقبل أحد من أحد، إذ ما من ذوق إلا وفوقه أكمل منه، وإن أردت الثانى فمن أين لك نفيه عن صاحب العلم؟ ولكن لإعراضك عن العلم وأهله صرت تظن أن أهل العلم لهم العلم والكلام والوصف، وللمعرضين عنه الذوق والحال والاتصاف، والظن يخطيء تارة ويصيب، والله أعلم. فصل قال أبو العباس: "فعند القوم كل ما هو من العبد فهو علة تليق بعجز العبد وفاقته، وإنما عين الحقيقة عندهم أن يكون قائماً بإقامته له، محباً بمحبته له، ناظراً بنظره، لا من غر أن يبقى معه بقية تناط باسم أو تقف على رسم أو تتعلق بنظر أو تنعت بنعت أو توصف بوصف أو تنسب إلى وقت، صم بكم عمى لدينا محضرون". فيقال: هذا هو مقام الفناءِ الذى يشير إليه كثير من المتأخرين، ويجعلونه غاية الغايات ونهاية النهايات وكل ما دونه فمرقاة إليه وعيلة عليه. ولهذا كانت المحبة عندهم آخر منازل الطريق، وأول أودية الفناءِ، والعقبة التى ينحدر منها على منازل المحو، وهى آخر منزل يلقى فيه مقدمة العامة ساقة الخاصة، وما دونها إعراض الإعراض. فجعلوا المحبة منزلاً من المنازل ليست غاية، وجعلوها أول الأودية التى يسلك فيها أصحاب الفناءِ، فهى أول أوديتهم والعقبة التى ينحدرون منها إلى منازل الفناءِ والمحو. فليست هى الغاية عندهم، وأصحابها عندهم مقدمة العامة، وساقة أصحاب الفناءِ عندهم مقدمون عليهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 سابقون لهم، فإنهم ساقة الخاصة وهؤلاءِ مقدمة العامة، فهذا كله بناء على أن الفناءَ هو الغاية التى لا غاية للعبد وراءَها ولا كمال له يطلبه فوقها. وقد تبين ما فى ذلك، وما هو الصواب بحمد الله، فقوله [رحمه الله] : "كل ما هو من العبد فهو علة تليق بعجز العبد وفاقته" يقال له: إذا كان إنما [منه] العبودية التى يحبها الله كسباً ومباشرة فهو قائم بها شاهد لمقيمه فيها مطالع [لمنه] ، وفضله، فأى علة هنا سوى وقوفه مع شهودها منه، وغيبته عن شهود إقامة الله وتحريكه إياه، وتوفيقه له؟ فالعلة هى بهذا الشهود وهذه الغيبة المنفاية لكمال الافتقار والفاقة إلى الله، وأما شهود فقره وفاقته ومجموع حالاته وحركاته وسكناته إلى وليه [وبارئه] مستعيناً به أن يقيمه فى عبودية خالصة له، فلا علة هناك. قوله: "وإنما عين الحقيقة أَن يكون قائماً بإقامته له" إلى آخر كلامه، يقال: إن أردت أنه يشهد إقامة الله له حتى قام ومحبته له حتى أحبه ونظره إلى عبده حتى أقبل عبده عليه ناظراً إليه بقلبه فهذا حق، فإن ما من الله سبق ما من العبد، فهو الذى أحب عبده أولاً فأحبه العبد، وأقام العبد فى طاعته فقام بإقامته، ونظر إليه فأقبل العبد عليه، وتاب عليه أولاً فتاب إليه [عبده] . وإن أردت أنه لا يشهد فعله البتة بل يفنى عنه جملة ويشهد أن الله وحده هو الذاكر لنفسه الموحد لنفسه المحب لنفسه، وأن هذه الأسباب والرسوم تصير عدماً [حرماً] فى شهوده، وإن لم تفن وتعدم فى الخارج- وهذا هو مراد القوم- فدعوى [أن هذا هو الكمال الذى لا كمال فوقه ولا غاية وراءه دعوى] مجردة لا يستدل عليها مدعيها بأكثر من الذوق والوجد، وقد تقدم أن هذا ليس بغاية، وإنما غايته أن يكون من عوارض الطريق، وأن شهود الأشياء فى مراتبها ومنازلها التى أنزلها سبحانه إياها أكمل وأتم. ويكفى فى بعض هذا الاحتجاج عليه بصفات الكفار، فإن الله ذمهم بأنهم صم بكم عمى، فهذه صفات نقص وذم لا صفات كمال ومدحة، وهل الكمال إلا فى حضور السمع والبصر والعقل وكمال التمييز وتنزيل الخلق والأمر منازلهما والتفريق بين ما فرق الله بينه؟ فالأَمر كله فرقان وتمييز وتبيين، فكلما كان تمييز العبد وفوقانه أتم كان حاله أكمل وسيره أصح وطريقه أقوم وأقرب. والحمد لله رب العالمين. فصل قال أبو العباس: وأما الشوق فهو هبوب القلب إلى غائب، وإعواز الصبر عن فقده، وارتياح السر إلى طلبه. وهو من مقامات العوام، وأما الخواص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 فهو عندهم مخلة عظيمة لأن الشوق إنما يكون إلى غائب. ومذهب هذه الطائفة إنما قام على المشاهدة والطريق عندهم أن يكون العبد غائباً والحق ظاهراً. ولهذا المعنى لم ينطق بالشوق كتاب ولا سنة صحيحة. [لأن] الشوق مخبر عن بعد ومشير [إلى] غائب، وهو يطلع إلى إدراك: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَما كُنْتُمْ} [الحديد: 4] ، وقيل: ولا معنى لشكوى الشوق يوماً ... إلى من لا يزول عن العيان اختلف الناس فى الشوق والمحبة أيهما أعلى؟ فقالت طائفة: المحبة أعلى من الشوق هذا قول ابن عطاء وغيره، واحتجوا بأن الشوق غايته أن يكون أثراً من آثار المحبة، ومتولداً عنها: فهى أصله وهو فرعها. قالوا: والمحبة توجب آثاراً كثيرة فمن آثارها الشوق. وقالت طائفة منهم سرى السقطى وغيره: الشوق أعلى. قال الجنيد: سمعت السرى يقول: الشوق أجل مقامات العارف، إذا تحقق فى الشوق لها عن كل شيء يشغله عمن يشتاق إليه. وإنما يظهر سر المسألة بذكر فصلين: الأول فى حقيقة الشوق، والثانى فى الفرق بينه وبين المحبة. ويتبع ذلك خمس مسائل: إحداها: هل يجوز إطلاقه على الله كما يطلق عليه أنه يحب عباده أم لا؟ الثانية: هل يجوز إطلاقه على العبد فيقال: يشتاق إلى الله كما يقال يحبه؟ الثالثة: أنه هل يقوى بالوصول والقرب، أم يضعف بهما؟ فأى الشوقين أعلى: شوق القريب الدانى، أم شوق البعيد الطالب؟ الرابعة: ما الفرق بينه وبين الاشتياق، فهل هما بمعنى واحد أم بينهما فرق؟ الخامسة: فى بيان مراتبه وأقسامها ومنازل أهله فيه. الفصل الأول - فى حقيقة الشوق: هو سفر القلب فى طلب محبوبه، بحيث لا يقر قراره حتى يظفر به ويحصل له. وقيل: هو لهيب ينشأ بين أثناء الحشا، سببه الفرقة، فإذا وقع اللقاء أطفأ ذلك اللهيب. وقيل: الشوق هبوب القلب إلى محبوب غائب. وقال ابن خفيف [الشوق ارتياح القلوب ومحبه اللقاء بالقرب: وقيل] الشوق [تروح] القلوب نحو المحبوب من غير منازع. ويقال: الشوق انتظار اللقاء بعد البعاد. فهذه الحدود ونحوها مشتركة فى أن الشوق إنما يكون مع الغيبة من المحبوب وأما مع حضوره ولقائه فلا شوق. وهذه حجة من جعل المحبة أعلى منه، فإن المحبة لا تزول باللقاءِ، وبهذا يتبين الكلام فى الفصل الثانى وهو الفرق بينه وبين المحبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 الفصل الثانى - الفرق بينهما: فرق ما بين الشيء وأثره. فإن الحامل على الشوق هو المحبة، ولهذا يقال: لمحبتى له اشتقت إليه وأحببته فاشتقت إلى لقائه، ولا يقال: لشوقى إليه أحببته، ولا اشتقت إلى لقائه فأحببته. فالمحبة بذر فى القلب، والشوق بعض ثمرات ذلك البذر، وكذلك من ثمراتها حمد المحبوب والرضى عنه وشكره وخوفه ورجاؤه والتنعيم بذكره والسكون إليه والأُنس به والوحشية بغيره، وكل هذه من أحكام المحبة ... وثمراتها، وهو حياتها، فمنزلة الشوق من المحبة منزلة الهرب من البغضاءِ والكراهة: فإن القلب إذا أبغض الشيء وكرهه جد فى الهرب منه، وإذا أحبه جد فى الهرب إليه وطلبه، فهو حركة القلب فى الظفر بمحبوبه ولشدة ارتباط الشوق بالمحبة يقع كل واحد منهما موقع صاحبه ويفهم منه ويعبر عنه. فصل وأما المسائل [الخمس] فإحداها: هل يجوز إطلاقه على الله؟ فهذا مما لم يرد به القرآن ولا السُّنَّة بصريح لفظه. قال صاحب "منازل السائرين" وغيره: وسبب ذلك أن الشوق إنما يكون لغائب. ومذهب هذه الطائفة إنما قام على المشاهدة، ولهذا السبب عندهم لم يجيء فى حق الله ولا فى حق العبد.. وجوزت طائفة إطلاقه كما يطلق عليه سبحانه، ورووا فى أثر أنه يقول: "طال شوق الأبرار إلى لقائى، وأنا إلى لقائهم أشوق". قالوا: وهذا الذى تقتضيه الحقيقة، وإن لم يرد به لفظ صريح، فالمعنى حق، فإن كل محب فهو مشتاق إلى لقاء محبوبه. قالوا: وأما قولكم إن الشوق إنما يكون إلى الغائب وهو سبحانه لا يغيب عن عبده ولا يغيب العبد عنه، فهذا حضور العلم، وأما اللقاءُ والقرب فأمر آخر، فالشوق يقع بالاعتبار الثانى وهو قرب الحبيب ولقاؤه والدنو منه، وهذا له أجل مضروب لا ينال قبله. قال تعالى: {مَن كَانَ يرْجُو لِقَاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لآتٍ} [العنكبوت: 5] ، قال أبو عثمان الحيرى: هذا تعزية للمشتاقين، معناه: إنى أعلم أن اشتياقكم إلى غالب، وأنا أجلت للقائكم أجلاً، وعن قريب يكون وصولكم إلى من تشتاقون إليه. والصواب أن يقال: إطلاقه [اللفظ] متوقف على السمع، ولم يرد به، فلا ينبغى إطلاقه. وهذا كلفظ العشق أيضاً، فإنه لما لم يرد به سمع فإنه يمتنع إطلاقه عليه سبحانه. واللفظ الذى أطلقه سبحانه على نفسه وأخبر به عنها أتم من هذا وأجل شأْناً هو لفظ المحبة، فإنه سبحانه يوصف من كل صفة كمال بأكملها وأجلها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 وأعلاها، فيوصف من الإرادة بأكملها وهو الحكمة وحصول كل ما يريد بإرادته كما قال تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود: 107] [البروج: 16] ، وبإرادة اليسر لا العسر كما قال: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] ، وبإرادة الإحسان وإتمام النعمة على عباده كقوله: {وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتَ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} [النساء: 27] ، [فإرادة] التوبة [له] وإرادة الميل لمبتغى الشهوات. وقوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللهُ لِيجْعَلَ عَلَيْكُمْ مَّنْ حَرَجٍ وَلَكِنُ يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6] ، وكذلك الكلام يصف نفسه منه بأعلى أنواعه كالصدق والعدل والحق، وكذلك الفعل [يصنف] نفسه منه بأكمله وهو العدل والحكمة والمصلحة والنعمة. وهكذا المحبة وصف نفسه منها بأعلاها وأشرفها فقال: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهَ} [المائدة: 54] ، {يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222] ، {يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195] [آل عمران: 134] [آل عمران: 148] [المائدة: 13] [المائدة: 93] ، و {يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146] . ولم يصف نفسه بغيرها من العلاقة والميل والصبابة والعشق والغرام ونحوها، فإن مسمى المحبة أشرف وأكمل من هذه [المسميات] ، فجاء فى حقه إطلاقه دونها. وهذه [المسميات] لا تنفك عن لوازم ومعان تنزه تعالى عن الاتصاف بها، وهكذا جميع ما أطلقه على نفسه من صفاته العلى أكمل معنى ولفظاً مما لم يطلقه. فالعليم الخبير أكمل من الفقيه والعارف، والكريم الجواد أكمل من السخى، والخالق الباريء المصور أكمل من الصانع الفاعل، ولهذا لم تجيء هذه فى أسمائه الحسنى، والرحيم والرؤوف أكمل من الشفيق [والمشفق] فعليك بمراعاة ما أطلقه سبحانه على نفسه من الأسماءِ والصفات والوقوف معها، وعدم إطلاق ما لم يطلقه على نفسه ما لم يكن مطابقاً لمعنى أسمائه وصفاته، وحينئذ فيطلق المعنى لمطابقته له دون اللفظ ولا سيما إذا كان مجملاً أو منقسماً إلى ما [يمدح] به، وغيره فإنه لا يجوز إطلاقه إلا مقيداً، وهذا كلفظ الفاعل والصانع، فإنه لا يطلق عليه فى أسمائه الحسنى إلا إطلاقاً مقيداً أطلقه على نفسه كقوله تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج: 16] ، {وَيَفعلُ الله مَا يَشَآءُ} [إبراهيم: 27] ، وقوله: {صُنْعَ اللهِ الَّذِى أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88] ، فإن اسم الفاعل والصانع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 منقسم المعنى إلى ما يمدح عليه ويذم. ولهذا المعنى- والله أعلم- لم يجئ فى الأسماء الحسنى المريد كما جاءَ فيها السميع البصير، ولا المتكلم ولا الآمر الناهى لانقسام مسمى هذه الأسماء بل وصف نفسه بكمالاتها وأشرف أنواعها. ومن هنا يعلم غلط بعض المتأخرين وزلقة الفاحش فى اشتقاقه له سبحانه من كل فعل أخبر به عن نفسه اسماً مطلقاً فأدخله فى أسمائه الحسنى، فاشتق له اسم الماكر، والخادع، والفاتن، والمضل، والكاتب، ونحوها من قوله: {وَيَمْكُرُ اللهُ} [الأنفال: 30] ، ومن قوله: {وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] ، ومن قوله: {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [طه: 131] ، ومن قوله: {يُضِلُّ مَن يَشَاءُ} [الرعد: 27] [النحل: 93] [فاطر: 8] ، وقوله تعالى: {كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَ} [المجادلة: 21] ، وهذا خطأ من وجوه: أحدها: أنه سبحانه لم يطلق على نفسه هذه السماء، فإطلاقها عليه لا يجوز. الثانى: أنه سبحانه أخبر عن نفسه بأفعال مختصة مقيدة، فلا يجوز أن ينسب إليه مسمى الاسم عند الإطلاق. الثالث: أن مسمى هذه الأسماءِ منقسم إلى ما يمدح عليه المسمى به، وإلى ما يذم، فيحسن فى موضع، ويقبح فى موضع، فيمتنع إطلاقه عليه سبحانه من غير تفصيل. الرابع: أن هذه ليست من الأسماء الحسنى التي يسمى بها سبحانه [فلا يجوز أن يسمى بها فإن أسماء الرب تعالى كلها حسنى] ، كما قال تعالى: {وَللهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الأعراف: 180] ، وهى التي يحب سحبانه أن يثنى عليه ويحمد بها دون غيرها. الخامس: أن هذا القائل لو سُمي بهذه الأسماء، وقيل له هذه مدحتك وثناءٌ عليك، فأنت الماكر الفاتن المخادع المضل اللاعن الفاعل الصانع ونحوها لما كان يرضى بإطلاق هذه الأسماء عليه ويعدها مدحة، ولله المثل الأعلى سبحانه وتعالى عما يقول الجاهلون به علواً كبيراً. السادس: أن هذا القائل يلزمه أن يجعل من أسمائه اللاعن والجائي والآتي والذاهب والتارك والمقاتل والصادق والمنزل والنازل [والمذموم] والمدمر وأضعاف أضعاف ذلك، فيشتق له اسماً من كل فعل أخبر به عن نفسه، وإلا تناقض تناقضاً بيناً، ولا أحد من العقلاءِ طرد ذلك، فعلم بطلان قوله والحمد لله رب العالمين. فصل وأَما المسأَلة الثانية وهى: هل يطلق على العبد أنه يشتاق إلى الله وإلى لقائه؟ فهذا غير ممتنع، فقد روى الإمام أحمد فى مسنده والنسائى وغيرهما من حديث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن أبيه قال: صلى بنا عمار بن ياسر صلاة فأوجز فيها، فقلت: خففت يا أَبا اليقظان، فقال: وما على من ذلك ولقد دعوت الله بدعوات سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قام تبعه رجل من القوم فسأله عن الدعوات فقال: "اللَّهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحينى ما علمت الحياة خيراً لى وتوفنى إذا علمت الوفاة خيراً لى، اللَّهم إنى أسألك خشيتك فى الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق فى الغضب والرضا، وأسألك القصد فى الفقر والغنى، وأسألك نعيماً لا ينفد وقرة عين لا تنقطع وأسألك الرضا بعد القضاء وبرد العيش بعد الموت وأسألك لذة النظر فى وجهك والشوق إلى لقائك، فى غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين". فهذا فيه إثبات لذة النظر إلى وجهه الكريم، وشوق أحبابه إلى لقائه، فإن حقيقة الشوق إليه هو الشوق إلى لقائه، قال أبو القاسم القشيرى: سمعت الأستاذ أبا على يقول فى [قوله] ، صلى الله عليه وسلم: " أسألك الشوق إلى لقائك" قال: كان الشوق مائة جزءٍ فتسعة وتسعون له، وجزءٌ متفرق فى الناس فأراد أن يكون ذلك الجزءُ له أيضاً، فغار أن تكون شظية من الشوق فى لغيره. قال: وسمعته يقول فى قول موسى: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه: 84] ، قال: معناه شوقاً إليك، فستره بلفظ [الرضا] ، وهذا أكثر مشايخ الطريق يطلقونه ولا يمتنعون منه. وقيل: إن شعيباً بكى حتى عمى بصره، فأوحى الله إليه: إن كان هذا لأجل الجنة فقد أبحتها لك، وإن كان لأجل النار فقد أجرتك منها. فقال: لا بل شوقاً إليك، وقال بعض العارفين: من اشتاق إلى الله اشتاق إليه كل شيء. وقال بعضهم: قلوب [المشتاقين] منوّرة بنور الله [عز وجل] فإذا تحرك اشتياقهم أضاء النور ما بين السماء والأرض، فيعرضهم الله على الملائكة فيقول: هؤلاء المشتاقون إلّى، أشهدكم أنى إليهم أشوق، وإذا كان الشوق هو سفر القلب فى طلب محبوبه ونزوعه إليه فهو من أشرف مقامات العبيد وأجلها وأعلاها، ومن أنكر شوق العبد إلى ربه فقد أنكر محبته له، لأن المحبة [تستلذم] الشوق [فالمحب] دائماً مشتاق إلى لقاء [حبيبه] : لا يهدأُ قلبه ولا يقر قراره إلا بالوصول إليه. [وأما] قوله:"إن الشوق عند الخواص علة عظيمة، لأن الشوق إنما يكون إلى غائب، ومذهب [هذه] الطائفة إنما قام على المشاهدة" فيقال: المشاهدة نوعان: مشاهدة عرفان، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 ومشاهدة عيان، وبينهما من التفاوت ما بين اليقين والعيان، ولا ريب أن مشاهدة العرفان متفاوتة بحسب تفاوت الناس بالمعرفة ورسوخهم فيها، وليس للمعرفة نهاية تنتهى إليها بحيث إذا وصل إليها العارف سكن قلبه عن الطلب، بل كلما وصل منها إلى معلم ومنزلة اشتد شوقه إلى ما وراءَه، وكلما ازداد معرفة ازداد شوقاً، فشوق العارف أعظم الشوق فلا يزال فى مزيد من الشوق ما دام فى مزيد من المعرفة، فكيف يكون الشوق عنده علة عظيمة؟ هذا من المحال البين. بل من عرف الله اشتاق إليه، وإذا كانت المعرفة لا نهاية لها فشوق العارف لا نهاية له. هذا مع الشوق الناشيء عن طلب اللقاءِ والرؤية والمعرفة العيانية، فإذا كان القلب حاضراً عند ربه وهو غير غائب عنه لم يوجب له هذا أن لا يكون مشتاقاً إلى لقائه ورؤيته، بل هذا يكون أتم لشوقه وأعظم. فظهر أن قوله: "وإن الشوق علة عظيمة فى طريق الخواص" كلام باطل على كل تقدير، وإن الشوق بالحقيقة إنما هو شوق الخواص العارفين بالله، والعبد إذا كان له مع الله حال أو مقام وكشف له عما هو أفضل منه وأجل اشتاق إليه بالضرورة، ولم يكن شوقه علة له ونقصاً فى حاله بل زيادة وكمالاً، ويكون ترك الشوق هو العلة. وقد تقدم أن لا غاية للمعرفة تنتهى إليها فيبطل الشوق بنهايتها، بل لا يزال العارف فى مزيد من معرفته وشوقه والله المستعان. فصل وأما المسألة [الثالثة] وهى: هل يزول الشوق باللقاء أم يقوى؟ فقالت طائفة: الشوق يزول باللقاء، لأنه طلب، فإذا حصل المطلوب زال الطلب، لأن تحصيل الحاصل محال، ولا معنى للشوق إلى شيء حاصل، وإنما يكون الشوق إلى شيء مراد الحصول محبوب الإدراك، وقالت طائفة أُخرى: ليس كذلك بل الشوق يزيد بالوصول واللقاء ويتضاعف بالدنوّ، ولهذا قال القائل: وأعظم ما يكون الشوق يوماً ... إذ دنت الديار من الديار ولهذا قال بعضهم: شوق أهل القرب أتم من شوق المحبوبين واحتجت هذه الطائفة بأن الشوق من آثار الحب ولوازمه، [وكما] أن الحب لا يزول باللقاءِ فهكذا الشوق الذى لا يفارقه. قالوا: ولهذا لا يزول الرضى والحمد والإجلال والمهابة التى هى من آثار المحبة باللقاء، فهكذا الشوق يتضاعف ولا يزوال، والقولان حق. وفصل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 الخطاب فى المسألة أن المحب إذا اشتاق إلى لقاءِ محبوبه فإذا حصل له اللقاءِ زال ذلك الشوق الذى كان متعلقاً بلقائه وخلفه شوق آخر أَعظم منه وأبلغ إلى ما [مزيد] قربه والخظوة عنده، وأما إذا قدر أنه لقيه ثم احتجب عنه ازداد شوقه إلى لقاءِ آخر ولا يزال يحصل له الشوق كلما احتجب عنه، فهذا لا ينقطع شوقه أبداً، فهو إذا رآه بلّ شوقه برؤيته. وإذا زال عنه الطرف عاوده الشوق كما قيل: ما يرجع الطرف عنه عند رؤيته ... حتى يعود إليه الطرف مشتاقاً وإنما الشأْن فى دوام الشوق حال الوصول واللقاءِ، فاعلم أن الشوق نوعان: شوق إلى اللقاء، فهذا يزول باللقاء. وشوق فى حال اللقاء، وهو تعلق الروح بالمحبوب تعلقاً لا ينقطع [أبدلاً] ، فلا تزال الروح مشتاقة إلى مزيد هذا التعلق وقوته اشتياقاً لا يهدأُ. وقد أفصح بعد المحبين للمخلوق عن هذا المعنى بقوله: أعانقها والنفس بعد مشوقة ... إليها وهل بعد العناق [تدانى] وأَلثم فاها كى تزول صبابتى ... فيشتد ما ألقى من الهيمان فالشوق فى حال الوصل والقرب إلى مزيد النعيم واللذة لا ينقطع والشوق فى حال السير إلى اللقاءِ ينقطع. ونستغفر الله من الكلام فيما لسنا بأهل له: فالخوف أولى بالمسي ... إذا تأله والحزن والحب يحمل بالتقي ... و [ب] النقاءِ من الدرن لكن إذا ما لم يحب ... كم المسيء إذن فمن وإذا تخوّن فعلنا ... فعل المحبة مؤتمن أيحب شيء غيركم ... وحياتكم كلا ولن أيحب من تأْتى محب ... ته بأَنواع المحن والسعد فيها ذابح ... والقلب فيها ممتحن دون الذى فى حبه ... نيل السعادة والمنن ومحل بدر كمالها ... سعد السعود هو الوطن والقلب حين يحل فى ... تلك المنازل والدمن يمسى ويصبح من رضا ... هـ ومن مناه فى وطن أيحبهم قلب ويخ ... شى أَن يضام؟ فلا إِذن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 فصل وأما المسألة الرابعة وهى: الفرق بين الشوق والاشتياق، فقال أبو عبد الرحمن السلمى: سمعت النصر أباذى يقول: للخلق كلهم مقام الشوق، وليس لهم مقام الاشتياق. ومن دخل فى حال الاشتياق هام فيه حتى لا يرى له أثر ولا قرار. وهذا يدل على أن الاشتياق عنده غير الشوق. ولا ريب أن الاشتياق مصدر اشتاق يشتاق اشتياقاً، كما أن التشوق مصدر تشوق تشوقاً، والشوق فى الأصل اسم مصدر شاقه يشوقه شوقاً مثل شاقه شوقاً إذا دعاه إلى الاشتياق، فالاشتياق مطاوع شاقة يقال شاقنى فاشتقت إليه، ثم صار الشوق اسم مصدر الاشتياق وغلب عليه حتى لا يفهم [منه] عند الإطلاق إلا الاشتياق القائم بالمشوق والمشوق هو الصب المشتاق، والشائق هو الذى قام به وادعى الشوق. [فهاهنا] ألفاظ الشوق والاشتياق والتشوق والشائق والمشوق والشيق. فهذه ستة ألفاظ: أحدها: الشوق، وهو فى الأصل مصدر الفعل المتعدى شاقه يشوقه، ثم صار اسم مصدر الاشتياق. اللفظ الثانى: الاشتياق، وهو مصدر اشتاق اشتياقاً، والفرق بينه وبين الشوق هو الفرق بين المصدر واسم المصدر. اللفظ الثالث: التشوق وهو مصدر تشوق إذا اشتاق مرة بعد مرة كما يقال: تجرع وتعلم وتفهم. وهذا البناءُ مشعر بالتكلف وتناول الشيء على مهلة. اللفظ الرابع: الشائق، وهو الداعى للمشوق إلى الاشتياق. واللفظ الخامس: المشوق، وهو المشتاق الذى قد حصل له الشوق. اللفظ السادس: الشيق، وهو فعل بمنزلة هين ولين، وهو المشتاق. فهذه فروق ما بين هذه الألفاظ، وأما كون الاشتياق أبلغ من الشوق فهذا قد يقال فيه: إنه الأصل وهو أكثر حروفاً من الشوق، وهو يدل على المصدر الفاعل. وأما المشوق ففرع عليه لأنه اسم مصدر وأقل حروفاً وهو إنما يدل على المصدر المجرد، فهذه ثلاثة فروق [بينهما] . والله أعلم. فصل وأما المسألة الخامسة وهى فى مراتب الشوق ومنازله، فقال صاحب "منازل السائرين": "هو على ثلاث درجات: الدرجة الأولى: شوق العابد إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 الجنة ليأْمن الخائف ويفرح الحزين ويظفر الآمل. والدرجة الثانية: شوق إلى الله [عز وجل] زرعه الحب الذى ينبت على حافات المنن تعلق قلبه بصفاته المقدسة واشتاق إلى معانيه لطائف كرمه وآيات بِرّهِ وعلامة فضله. وهذا شوق تغشاه المبار، وتخالجه المسار ويقارنه الاصطبار. والدرجة الثالثة: نار أضرمها صفو المحبة فنغصت العيش وسلبت السلو، ولم ينهنهها مقر دون اللقاءِ". قلت: الدرجة الأولى هى شوق إلى فضل الله وثوابه. والثانية: شوق إلى لقائه ورؤيته. والثالثة: شوق إليه لا لعلة ولا لسبب ولا ملاحظة فيه غير ذاته. فالأول: حظ المشتاق من إفضاله وإنعامه، والثانى: حظه من لقائه ورؤيته، والثالث: قد فنيت فيه الحظوظ واضمحلت فيه الأقسام. وقوله فى الدرجة الأُولى: "ليأْمن الخائف ويفرح الحزين ويظفر الآمل" هذه ثلاث فوائد ذكرها فى هذا الشوق: أمن الخائف، وفرح الحزين، والظفر [بالأمل] . فهذه المقاصد لما كانت حاصلة بدخول الجنة كانت مصورة للنفس أشد الشوق لها حصول هذه المطالب وهى الفوز والفرح. وجماع ذلك أمران: أحدهما: النجاة من كل مكروه، والثانى: الظفر بكل محبوب. فهذان هما المشوقان إلى الجنة. وقوله فى الثانية: "شوق إلى الله سبحانه وتعالى زرعه الحب" قد تقدم أن الشوق ثمرة الحب. وقوله: "الذى ينبت على حافات المنن" أى أنشأه الفكر فى منن الله [تعالي] وأياديه وأنعامه المتواترة، وفيه إشارة إلى أن هذا الحب الذى هو نابت على الحافات والجوانب بعده حب أكمل منه وهو الحب الناشيء من شهود كمال الأسماء والصفات، وذلك ليس من نبات الحافات، ولكن من الحب الأول يدخل فى هذا كما تقدم، ولهذا قال: "تعلق قلبه بصفاته المقدسة". وقوله: "اشتاق إلى معاينة لطائف كرمه وآيات بره وعلامة فضله" يشير به إلى ما يكرم الله به عبده من أنواع كراماته التى يستدل بها على أنه مقبول عند ربه ملاحظ بعنايته، وأنه قد استخدمه وكتبه فى ديوان أوليائه وخواصه. ولا ريب أن العبد متى شاهد تلك العلامات والآيات قوى قلبه وفرح بفضل ربه وعلم [أنه] أهل فطاب له السير ودام اشتياقه وزالت عنه العلل، وما لم ينعم عليه بشيء من ذلك لم يزل كئيباً حزيناً خائفاً أن يكون ممن لا يصلح لذلك الجناب ولم يصل لتلك المنزلة. وقوله: "وهذا شوق تغشاه المبارّ" هى جمع مبرة وهى البر، أى أن هذا الشوق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 مشحون بالبر مغشى به، وهو إِما بر القلب وهو كثرة خيره، فهذا القلب أكثر القلوب خيراً، فيفعل البر [تقرباً] إلى من هو مشتاق إليه، فهو يجيش بأَنواع البر، وهذه من فوائد المحبة أن قلب صاحبها ينبع منه عيون الخير وتتفجر منه ينابيع البر، يريد به بأن مبارّ الله ونعمه تغشاه على الدوام. وقوله: "وتخالجه المسار" [أى مخالطة] السرور فى غضو أشواقه، فإنها أشواق لا وحشة معها ولا ألم، بل هى محشوة بالمسرات. وقوله: "ويقارنه الاصطبار" أى صاحبه له قوة على اصطباره على مرضاة حبيبه شوقه إليه، وإنما يضعف الصبر لضعف المحبة والمحب من أصبر الخلق كما قيل: نفس المحب على الآلام صابرة ... لعل مسقمها يوماً يداويها وقوله فى الدرجة الثالثة: "إنها نار أضرمها صفو المحبة" يعنى أن هذا الشوق يتوقد من خالص المحبة التى لا تشوبها علة، فهو أشد أنواع الشوق، ولهذا " [نغصت] العيش" أى كدرته ونغصت المشتاق فيه لأنه لا يصل إلى محبوبه ما دام فيه، فهو يترقب مفارقته. وقوله: "وسلبت السلوّ" يعنى أن صاحبه لم يبق له مطمع فى سلوه أبداً، وهذا أعظم ما يكون من الحب والشوق، أن المحب أَيس من السلو [وينقطع] طمعه منه كما [ييأس] من الأُمور الممتنعة كرجوع أيام الشباب عليه وعوده طفلاً ونحو ذلك. وقوله: "ولم ينهنهها مقرّ دون اللقاءِ" أى أن هذه النار لا يبردها ولا يفتر حرها مقصود ولا مطلب ولا مراد دون لقاءِ محبوبه، فليس لا سبيل إلى تبريدها وتسكينها إلا بلقاءِ محبوبه. فصل قال أبو العباس: "فهذه كلها علل أنف الخواص منها وأسباب انفطموا عنها، فلم يبق لهم مع الحق إرادة، ولا فى عطائه تشوق إلى استزادة. فهو منتهى زادهم وغاية رغبتهم فيعتقدون أن ما دونه قاطع عنه: {قُلْ أَى شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ} [الأنعام: 19] ، وإنما زهدهم جمع الهمة عن تعريفات الكون لأَن الحق عافاهم بنور الكشف عن التعلق بالأَحوال: {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَينَ الأَخْيَارِ} [سورة ص: 46- 47] . قلت: يشير بذلك إلى المحو ومقام الفناءِ الذى هو غاية الغايات عنده، وقد تقدم الكلام عليه وأن مقام الصحو والبقاءِ أفضل منه وأتم عبودية. وينبغى أن يعرف أن مراعاة مقام الفناءِ الذى جعلوه غاية آلَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 بكثير من طالبيه إلى ترك القيام بالأعمال جملة ورأَوا أنها علل قاطعة عنه، واشتد نكير الشيوخ والأئمة عليهم حتى قال شيخ الطائفة الجنيد [رحمه الله] إن الذى يزنى ويسرق خير من هؤلاء. وهم نوعان: نوع جردوا الفناءَ فى شهود الحكم: وهو الحكم القدرى ورأوا أنه نهاية التوحيد، فآل بهم استغراقهم فيه إلى اطراح الأسباب حتى قال قائلهم: العارف لا يعرّف معروفاً ولا ينكر منكراً لاستبصاره بشر الله فى القدر. والنوع الثانى: أصحاب تجريد الفناءِ والإرادة فجردوا الفناءَ والإرادة تجريداً آل بهم إلى ترك الأسباب جملة، والطائفتان منحرفتان ضالتان خارجتان عن العلم والدين، ولهذا قال لهم شيخ القوم الجنيد: عليكم بالفرق الثانى. يعنى أن الفرق فرقان: فرق بالطبع والهوى، وهو الفرق الذى شهدوه وفروا منه إلى معنى الجمع. ولكن بعد الجمع فرق ثان وهو الفرق بالأمر والمحبة، لا بالشهوة والطبع، وهو دين الرسل [صلوات الله عليهم وسلم] فإن دينهم مبناه على الفرق الأَمرى الشرعى بين محبوب الرب ومأْموره وبين مسخوطه ومنهيه، فمن لم يشهد هذا الفرق ولم يكن من أهله لم يكن من أَتباع الرسل، فإن الكمال شهود الجمع فى هذا الفرق فيشهد انفراد الله وحده بالخلق والأمر، ويشهد الفرق بين ما يحبه فيؤثره ويقدمه وبين ما يبغضه فيتركه ويتجنبه فيصير له هذا الفرق فى محل فرقه الطبعى الحسى بين ما يلائمه وينافره. ومن المعلوم أن صاحب الجمع لا بد أن يفرق بطبعه وحسه، وإن ادعى عدم التفريق طبعاً فإنه كاذب مفتر، إذا كان لا بد من الفرق فالفرق الشرعى الإيمانى الذى بعث الله به رسله أدلى به من الفرق الطبعى الحيوانى الذى شاركه فيه سائر البهائم. وأبطل من هذا الجمع الجمع فى الوجود، وهو أن يرى الوجود كله واحداً لا فرق فيه أصلاً، وإنما التفريق بالعادة والوهم فقط ما يقوله زنادقة القائلين بوحدة الوجود الذين لا يفرقون بين الخالق والمخلوق بل يجعلون وجود أحدهما وجود الآخر بل ليس عندهم فرق بين أحدهما والآخر إذ ما ثم غير. فهذا جمع فى الوجود وجمع أُولئك جمع فى الشهود: {فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 213] [فكانوا أصحاب الجمع فى الفرق ففرقوا بين ما فرق الله بينه بإذنه وجمعوا الأشياء كلها فى خلقه وأمره وجمعوا إراداتهم ومحبتهم وشهودهم فيه] ، فكانوا أصحاب جمع فى فرق وفرق فى جمع. فهؤلاء خواص الخلق، فنسأل الله العظيم من فضله وكرمه أن يجعلنا منهم. فهؤلاء هم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 الذين لم يبق لهم مع الحق إرادة، بل صارت إرادتهم تابعة لإرادته، فحصل الاتحاد فى المراد فقط لا فى الإرادة ولا فى المريد، فأصحاب الوحدة ظنوا الاتحاد فى المريد وأصحاب الحلول توهموا الاتحاد فى الإرادة: {فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 213] ، فعلموا أن المراد واحد فالاتحاد وقع فى المراد فقط، لا فى الإرادة ولا فى المريد. وقوله "فيعتقدون أن ما دونه قاطع عنه" إنما يكون ما دونه قاطعاً عنه إذا وقف العبد معه وتعلقت إرادته به وانصرف طلبه إليه، وأما إذا جعله وسيلة إلى الله وطريقاً يصل بها إليه لم يكن قاطعاً ولا حجاباً، بل يكون حاجباً موصلاً إليه، وقوله تعالى: {قُلْ أَى شَيءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ} [الأنعام: 19] ، المراد بالآية شهادته سبحانه لرسوله بتصديقه على رسالته، فإن المشركين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: من يشهد لك على ما تقول؟ فأنزل الله [تعالى] آيات شهادته له وشهادة ملائكته وشهادة علماءِ أهل الكتاب [له] ، فقال تعالى: {قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} [الرعد: 43] ، أى ومن عنده علم الكتاب يشهد لى وشهادته مقبولة لأنها شهادة بعلم، قال الله تعالى: {لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ، وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ، وَكَفَى بِاللهِ شَهِيداً} [النساء: 166] ، وقال تعالى {قُلْ أَى شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً، قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ} [الأنعام: 19] ، فأخبر سبحانه فى هذه المواضع بشهادته لرسوله وكفى بشهادته إثباتاً لصدقه وكفى به شهيداً. فإن قيل: وما شهادته [سبحانه] لرسوله؟ قيل: هى ما أقام على صدقه من الدلالات والآيات المستلزمة لصدقه بعد العلم بها ضرورة، فدلالتها على صدقه أعظم من دلالة كل بينة وشاهد على حق، فشهادته سبحانه لرسوله أصدق شهادة وأعظمها وأدلها على ثبوت المشهود به، فهذا وجه. ووجه آخر: أنه صدقه بقوله وأقام الأدلة القاطعة على صدقه فيما يخبر به عنه، فإذا أخبر عنه أنه شهد له قولاً لزم ضرورة صدقه فى ذلك الخبر وصحت الشهادة له به قطعاً، فهذا معنى الآية وكان أجنبياً عما [استشهد] به المصنف. ونظير هذا استشهادهم بقوله تعالى: {وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ، قُلِ اللهُ، ثُمَّ ذَرْهُمْ} [الأنعام: 91] حتى رتب على ذلك بعضهم أن الذكر بالاسم المفرد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 وهو "الله، الله" أفضل من الذكر بالجملة المركبة كقوله: "سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر"، وهذا فاسد مبنى على فاسد. فإن الذكر بالاسم المفرد غير مشروع أصلاً، ولا مفيد شيئاً، ولا هو كلام أصلاً، ولا يدل على مدح ولا تعظيم، ولا يتعلق به إيمان، ولا ثواب ولا يدخل به الذاكر فى عقد الإسلام جملة. فلو قال الكافر: "الله، الله" من أول عمره إلى آخره لم يصر بذلك مسلماً فضلاً عن أن يكون من جملة الذكر [أو يكون أفضل الأذكار وبالغ بعضهم فى ذلك حتى قال الذكر] بالاسم المضمر أفضل من الذكر [بالاسم الظاهر، يذكر بقوله [هو، هو أفضل من الذكر] بقولهم: "الله، الله"، وكل هذا من أنواع الهوس والخيالات الباطلة المفضية بأهلها إلى أنواع من الضلالات، فهذا فساد هذا البناءِ الهائر، وأما فساد المبنى عليه فإنهم ظنوا أن قوله تعالى: {قُلِ اللهُ} [الأنعام: 19] ، أى قل هذا الاسم، فقل: الله الله، وهذا من عدم فهم القوم لكتاب الله، فإن اسم الله هنا جواب لقوله: {قُلِ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِى جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَه قَرَاطِيس تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً} [الأنعام: 91] ، إلى أن قال: {قُلِ اللهُ} ، أى قل: الله أنزله: فإن السؤال معاد فى الجواب فيتضمنه فيحذف اختصاراً كما يقول: من خلق السموات والأرض؟ فيقال: الله. أى الله خلقهما، فيحذف الفعل لدلالة السؤال عليه، فهذا معنى الآية الذى لا تحتمل غيره. قوله: "وإنما زهدهم جمع [الهمة] عن تعريفات الكون لأَن الحق عافاهم بنور الكشف عن التعلق بالأَحوال" فيقال: الكشف الذى أوجب لهم هذا الجمع وقطع هذا التعلق هو الكشف الإيمانى القرآنى فهو فى الحقيقة الكشف النافع الجاذب لصاحبه إلى سلوك منازل الأبرار والوصول إلى مقامات القرب، ولا سيما إذا قارنه الكشف عن عيوب النفس وعلى الأعمال، فناهيك به من كشف. والكرامة المرتبة عليه هى لزوم الاستقامة ودوام العبودية، فهذا أفضل كشف يعطاه العبد، وهذه أفضل كرامة يكرم بها الولى. رزقنا الله من فضله وبره. وأما استشهاده بقوله تعالى: {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدّارِ} [ص: 64] فهذه الآية يخبر فيها سبحانه عما أخلص له أنبياؤه ورسله من اختصاصهم بالآخرة، وفيها قولان: أحدهما أن المعنى نزعنا من قلوبهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 حب الدنيا وذكرها وإيثارها والعمل بها. والقول الثانى: إنا أخلصناهم بأفضل ما في الدار الآخرة واختصصناهم به عن العالمين. قوله: وتوكلهم رضاهم بتدبير الحق، وتخلصهم من تدبيرهم، وفراغ [همهم] من احتيالها في إصلاح شئونها، بوقوفهم على فراغ المدبر منها، ومرها على علمه بمصالحهم فيها، ونفوسهم مطمئنة بذلك: {يَأَيتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ} [الفجر: 27] الآية. وقد تقدم الكلام على التوكل وبيان أنه من مقامات العارفين، وأنه لا انفكاك للمؤمن منه، وذكر العلة فيه ما هى. وقوله: "وتوكلهم رضاهم بتدبير الحق" الرضا بالتدبير ثمرة التوكل وموجبه لا أنه نفس التوكل والمقدور، يكشفه أمران: التوكل قبل وقوعه، والرضا به بعد وقوعه. ومن هنا قال بعضهم: حقيقة التوكل الرضا لأنه لما كان ثمرته وموجبه استدل له عليه استدلالاً بالأثر على المؤثر وبالمعلول على العلة، ولهذا قال فى الحديث الذى رواه الإمام أحمد والنسائى: وغيرهما عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال فى دعائه: "اللهم إنى أسألك بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما كانت الحياة خيراً لى، وتوفنى إذا كانت الوفاة خيراً لي، اللهم وأسألك خشيتك فى الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق فى الغضب والرضا، وأسألك القصد فى الفقر والغنى، وأسألك نعيماً لا ينفد، وأسألك قرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضا بعد القضاءِ، وأسألك برد العيش بعد الموت" الحديث. وقد تقدم، فقال: "وأسألك الرضا بعد القضاء". وأما التوكل فإنما يكون قبله، وقوله: "وتخلصهم من تدبيرهم" هذا مقام كثيراً ما يشير إليه السالكون، وهو ترك التدبير، وينبغى أن لا يؤخذ على إطلاقه بل لا بد فيه من التفصيل فيقال: العبد دائر بين مأمور يفعله، ومحظور يتركه. وقد يجري عليه بلا إرادة منها ولا كسب فوظيفته فى المأْمور كمال التدبير والجد والتشمير، وأن يدبر الحيلة فى [تنفيذه] بكل ما يمكنه، فترك التدبير هنا تعطيل للأمر. بل يدبر فعله ناظراً إلى تدبير الحق له، وأن تدبيره إنما يتم بتدبير الله له، فلا يكون هنا قدرياً مجوسياً ناظراً إلى فعله جاحداً لتدبير الله وتقديره ومعونته، ولا قدرياً مجبراً ولا واقفاً مع القدر جاحداً لفعله وتدبيره ومجلي أمر الله ونهيه. فإن فعله الاختيارى هو محل الأمر والنهى، فمن جحد فعل نفسه فقد عطل الأمر والنهي وجحد محلهما، ووظيفته فى المحظور الفناءُ عن إرادته وفعله، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 فإن عارضته أسباب الفعل، فالواجب عليه الجد فى الهرب والتشمير فى الكف والبعد، وهذا تدبير للنهى. وأما القدر الذى يصيبه بغير إرادته، فهذا الذى يحسن فيه إسقاط التدبير جملة، وصبره ورضاه بما قسم له من محبوب ومكروه. فعلى هذا التفصل ينبغى أن يوضع إسقاط التدبير، وجماع ذلك أنك تسقط التدبير فى حظك وتكون قائماً بالتدبير فى حق ربك، وهكذا ينبغى أن تفرغ الهمة من إجالتها فى إصلاح شأْنك، فإن إصلاح شأنك بحصول حظوظك يحصل فيه فراغ الهمة وترك التدبير، وأما إصلاح شأْنك بأداءِ حق الله فالواجب شغل الهمة وإجالتها فى القيام به. وقوله: "بوقوفهم على الفراغ المدبر منها، ومرها على علمه بمصالحهم فيها" فلا ريب أن الله سبحانه وتعالى قضى القضية وفرغ من تدبير أُمور الخلائق، ولكن قدرها بأسبابها المفضية إليها، فلا يكون وقوف العبد على فراغه سبحانه وتعالى من أقضيته فى خلقه وتدبيره مانعاً له من قيامه بالأسباب التى جعلها طرقاً لحصول ما قضاه منها. وكذلك يباشر العبد الأسباب التى بها حفظ حياته من الطعام والشراب واللباس والمسكن، ولا يكون وقوفه مع فراغ المدبر منها مانعاً له من تعاطيها. وكذلك يباشر الأسباب الموجبة لبقاءِ النوع من النكاح والتسرى، ولا يكون وقوفه مع فراغ الله من خلقه مانعاً له [من ذلك] وهكذا جميع مصالح الدنيا والآخرة وإن كانت مفروغاً منها قضاءً وقدراً، فهى منوطة بأسبابها التى يتوقف حصولها عليها شراً وخلقاً. وأما استدلاله بقوله تعالى: {يأَيتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِى إِلَى رَبِّكَ} [الفجر: 27-28] ، فالنفس المطمئنة هى التى اطمأنت إلى ربها وسكنت إلى حبه واطمأنت بذكره وأيقنت بوعده ورضيت بقضائه، وهى ضد النفس الأمارة بالسوءِ، فلم تكن طمأنينتها بمجرد إسقاط تدبيرها، بل القيام بحقه والطمأّنينة بحبه وبذكره. فصل قال: وصبرهم صونهم قلوبهم عن خاطر السوءِ أن الله قضى قضاءً عارياً عن المرافقة خارجاً عن الخيرة، قال الله تعالى: {وَلِيُبْلِىَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً} [الأنفال: 17] ، قد تقدم الكلام فى الصبر وأقسامه وبيان مرتبته من الإيمان. وما ذكره فى تفسيره [هاهنا] غير مطابق لمعناه، وهو تفسير بعيد جداً، فإن الصبر من أعمال القلوب، وهو حبس النفس وكفها عن السخط، وأما صون القلب عن اعتقاد ما لا يليق بالله فلا يقال له صبر بل هذا من لوازم الإيمان، وهو كاعتقاد أنه سبحانه وتعالى حكيم رحيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 عليم سميع بصير إلى غير ذلك من صفات كماله. فلا يقال: الصبر صون القلب عن اعتقاد أضدادها، هذا بعيد جداً وتكلف زائد لتفسير الصبر، وهل فهم أحد قط هذا المعنى من قوله تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا} [آل عمران: 200] ، وقوله تعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} [الطور: 48] وقوله تعالى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللهِ} [النمل: 127] ، وقوله: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [طه: 130، وسورة ق: 39] [وقوله تعالى:] {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:46] ، وسائر نصوص الصبر. ومن العجب جعل الصبر الذى هو نصف الإيمان من منازل العوام، وتفسيره بهذا التفسير، نعم يجب على كل مسلم أن ينزه الله سبحانه وتعالى عن أن يقضى قضاءً ينافى حكمته وعدله وفضله وبره وإحسانه، بل كل أقضيته لا تخرج عن الحكمة والرحمة والعدل والمصلحة، وإن كان كثير من المتكلمين ينازع فى هذا الأصل ويقول: الذى ينزه الله عنه من الأقضية هو المستحيل الممتنع، وأما الممكن فلا يقبح منه شيء، وهؤلاء لا [معنى] صون القلب عن خواطر السوءِ المتعلقة بما يقضيه الله عندهم إلا صونها عن خواطر الممتنعات والمستحيلات فقط. وبالجملة هذا مقام آخر غير مقام الصبر، بل هذا باب من أبواب المعرفة والعلم، ولكل مقام مقال. وأما استشهاده بقوله تعالى: {وَلِيُبْلِى الْمُوْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً} [الأنفال: 17] ، فالبلاءُ الحسن هنا هو النعمة بالظفر والغنيمة والنصر على الأعداءِ، وليس من الابتلاءِ الذى هو الامتحان بالمكروه، بل من أَبلاه بلاءً حسناً إذا أنعم عليه، يقال: أبلاك الله ولا ابتلاك، فأبلاه بالخير، وابتلاه بالمكاره غالباً كما فى الحديث: "إنى مبتليك ومبتل لك". فصل قال: وحزنهم يأْسهم عن أنفُسهم الأمارة بالسوءِ: {إِنَّ الإِنْسَانِ لِرَبِّهِ لَكَنُود} [العاديات: 6] ، وقد تقدم أيضاً الكلام على ما ذكره فى الحزن، وأما تفسيره إياه أنه "يأْسهم عن أنفسهم الأمارة بالسوء" فليس بالبين، فإن الحزن هو الأسف على فوت محبوب أو حصول مكروه، وإن تعلق ذلك بالماضى كان حزناً وإن تعلق بالمستقبل كان خوفاً وهمّاً. وأما "اليأْس عن النفس الأَمارة بالسوءِ" فليس بحزن، ويمكن أن يكون مراده أن حزنهم ينشأُ عن النفس الأمارة بالسوءِ"لا عن المطمئنة، فإن [النفس] المطمئنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 لا تحزن وإنما تحزن الأمارة لفوات محبوبها، وليس هذا كما قال، فإن النفس المطمئنة تحزن على تقصيرها فى أداءِ الحق وعلى تضييعها الوقت وإيثارها غير الله عليه فى الأحيان، وهذا الحزن لا بد منه، إذ التقصير والتضييع لازم، وأما استشهاده على ذلك بقوله تعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُود} [العاديات:6] ، فوجهه أن الكنود هو الكفور، وهو الذى يذكر المصائب، وينسى النعم، ولا ريب أن الحزن ينشأ عن هذين، ولا ريب أن الحزن الناشيء عن الكنود حزن ناشيء عن النفس الأَمارة بالسوءِ، وأما الحزن على تقصيره وتضييع وقته فليس من هذا، وقد تقدم ذلك وذكر أقسام الحزن ومتعلقاته والله أعلم. فصل قال: وخوفهم هيبة الجلال لا خوف العذاب، فإن خوفهم مناضلة عن النفس وضن بها، وهيبة الجلال تعظيم الحق ونسيان النفس: {يَخَافُونَ رَبَّهِمْ مِن فَوْقِهِمْ} [النمل: 50] ، وقال فى حق العوام: {يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور: 37] ، وقد تقدم أيضاً الكلام على ما ذكره فى الحديث وعلته. وقوله هو: "هيبة الجلال لا خوف العذاب" تقدم بيان بطلانه، وأن الله سبحانه أثنى على خاصة أوليائه من الملائكة والأنبياءِ وغيرهم ممن عبدهم المشركون بأَنهم: {يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابِهِ} [الإسراء: 57] ، [فكيف] يقال: إن خوف العذاب نقص ومناضلة عن النفس؟ هذا من الترهات، والزعومات، ودعاوى الأنفس. وقوله: "إن الخوف مناضلة عن النفس" فسبحان الله، هل يقال لمن خاف الله وخاف عقوبته إنه مناضل ربه؟ ولو كان مناضلة فهو مناضلة العدو والهوى والشهوة، وهذه المناضلة من أعظم أنواع العبودية، فإن من خاف شيئاً ناضل عنه فهو مناضلة عن العذاب وأسبابه، وما ثمَّ إلا مناضلة وإلقاء باليد إلى التهلكة، ولولا هذه المناضلة لحصل الاستسلام للعقوبة. والمناضلة المحذورة: المناضلة عن محبوبات الرب وأوامره، وليس الضن بالنفس عن عذاب الله نقصاً، بل الكمال والفوز والنعيم فى ضن العبد بنفسه عن أن يسلمها لعذاب الله، ومن لم يضن بنفسه فليس فيه خير البتة، والضن بالنفس إنما يذم إذا ضن بها عن بذلها فى محبوب الرب وأوامره، وأما إذا ضن بها عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 عذابه فهل يكون هذا علة؟ وهل العلة كلها إلا فى عدم هذه المناضلة والضن؟ قوله: "وهيبة الجلال تعظيم الحق ونسيان النفس" قد تقدم الكلام فى الهيبة والتعظيم وأنهما غير الخوف والخشية. ولا تستلزم هذه الهيبة أيضاً نسبان النفس، ولا يكون شعور العبد بنفسه فى هذا المقام نقصاً ولا علة كما تقدم، بل هو أكمل لاستلزامه البقاء الذى هو أقوى وأكمل من الفناءِ، وأما قوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِن فَوْقِهِمْ} [النمل:50] ، فهو حجة عليه كما تقدم ولا يصح تفسير الخوف هنا بالهيبة لوجهين: أحدهما أنه خروج عن حقيقة اللفظ ووضعه الأصلى بلا موجب، الثانى أن هذا وصف للملائكة وقد وصفهم سبحانه بخوفه وخشيته فالخوف فى هذه الآية والخشية فى قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلَفَهُم وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَن ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 28] فوصفهم بالخشية والإشفاق. ووصفهم بخوف العذاب فى قوله تعالى: {يَبْتَغُونَ إَلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابِهِ} [الإسراء: 57] ، وهم خواص خلقه، فإياك ورعونات النفس وحماقاتها وجهالاتها، ولا تكن ممن لا يقدر الله حق قدره، وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم: "إن الله لو عذب أهل سماواته وأرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم"، فإذا علم المقرب العارف أن الله لو عذبه لم يظلمه، فمن أحق بالخوف منه؟ قوله: وقال فى حق العوام: {يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور: 37] هذا من الشطحات القبيحة الباطلة، فإن هذا صفة خواص عباده وعارفيهم، وهم الذين قال فيهم: {رِجَالٌ لاّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصّلاَةِ وَإِيتَآءِ الزّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَيَزِيدَهُمْ مّن فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور:37-38] فهولاء هم خواص الخلق، وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بغحسان، أفلا يشحى من جعل هذا الوصف للعوام؟ لا ريب أن هذا مصدره إما جهل مفرط، وإما تقليد لقائل لا يدرى لازم قوله. هذا إن أحسن الظن بقائله وإن كان مصدره غير ذلك فأدهى وأمر. ولولا أن هذه الكلمات ونحوها مهاو ومعاطب في الطريق لكان الإعراض عنها إلى ما هو أهم منها أولى. والله المستعان. فصل كلام آخر فى مقام الرجاء قال: ورجاؤهم ظمؤهم إلى الشراب الذي هم فيه غرقى، وبه سكرى، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 {أَلَمْ تَرَ إِلَىَ رَبّكَ كَيْفَ مَدّ الظِّلَّ} [الفرقان:45] هذا أيضاً من ذلك النمط، ورجاء الأنبياء والرسل فمن دونهم إنما هو طمعهم فى رحمته ومغفرته وانظر إلى دعوى هؤلاء وإلى قوم إمام الحنفاء خليل الرحمن صلى الله عليه وسلم: {وَالّذِيَ أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدّينِ} [الشعراء:82] ، كيف علق رجاءه وطمعه بمغفرة الله له، وقال تعالى عن خاصة خلقه وأعلمهم به انهم: {يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء:57] ومن العجب استدلاله بقوله تعالى {أَلَمْ تَرَ إِلَىَ رَبّكَ كَيْفَ مَدّ الظّلّ} [الفرقان:45] ، فما لهذه الآية وما للرجاء، ولا سيما ما ذكره المصنف فى تفسيره رجاء القوم والاستشهاد بهذا من جنس الألغاز ومعنى الآية: التنبيه على هذه الدلالة الباهرة على قدرة الرب سبحانه وعجائب مخلوقاته الدالة عليه، والمعنى انظر كيف بسط ربك الظل، والظل ما قبل الزوال، والفئ بعده، فمده سبحانه وبسطه عند طلوع الشمس فإنه يكون مديداً أطول ما يكون وجعل الشمس دليلاً عليه فإنها هى التى تظهره وتبينه ثم كلما ارتفعت الشمس شيئاً انقبض من الظل جزء، فلا يزال ينقص يسيراً [يسيراً] ، حتى ينتهى إلى غايته، فإذا أخذت الشمس فى الجانب الغربى انبسط بعد انقباضه شيئاً فشيئاً، حتى يصير كهيئته عند طلوعها. ولهذا كان الزوال يعرف بانتهاءِ الظل فى قصره، فإذا أخذ فى الزيادة بعد تناهى قصره فقد تحقق الزوال، ولو شاءَ الله لجعله ساكناً دائماً على حالة واحدة فلا يتحرك بالزيادة والنقصان، فالظل أحد الأدلة على الخالق سبحانه وأما دلالة هذه الآية على الرجاء فيحتاج إلى إشارة وتكلف غير مقصود بها، وآيات الرجاء فى القرآن أكثر وأظهر وأصرح فى المقصود ظاهرة واستنباطاً، فالظاهرة كقوله تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ} [الكهف: 110] ، وقوله تعالى: {وَيَرْجُوْنَ رَحْمَتَهُ} [الإسراء: 57] ، وقوله: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ الله} [العنكبوت: 5] . والمستنبطة كآيات البشارة كلها كقوله: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 223] {وَبَشِّرْ الصَابِرِينَ} [البقرة: 155] ، {فَبَشِّرْ عِبَاد الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 17- 18] ، {ذَلِكَ الَّذِى يُبَشِّر اللهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الشورى: 23] . فصل قال: وشكرهم وسرورهم بموجودهم واستبشارهم بلقائه: {فَاسْتَبْشِرُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 بِبَيْعَكُمْ الَّذِى بَايَعْتُمْ بِهِ} [التوبة: 111] وهذا أيضاً من النمط المتقدم وشكر القوم هو عملهم بطاعة الله واستعانتهم بنعمه على محابه، قال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً} [سبأ: 13] . وقال النبى صلى الله عليه وسلم لما قيل له: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: " أَفَلا أَكُونُ عَبْداً شَكُوراً". فسمى الأعمال شكراً وأخبر أن شكره قيامه بها ومحافظته عليها، فحقيقة الشكر هو الثناءُ على النعم ومحبته والعمل بطاعته، كما قال: أفادتكم النعماءُ عندى ثلاثة ... يدى ولسانى والضمير المحجبا فاليد للطاعة، واللسان للثناءِ، والضمير للحب والتعظيم، وأما السرور به وإن كان من أجل المقامات فإن العبد إنما يسرُّ بمن هو أحب الأشياء إليه، وعلى قدر حبه له يكون سروره، وهذا السرور ثمرة الشكر لا أنه نفس الشكر، فكذلك الاستبشار والفرح بلقائه إنما هو ثمرة الشكر وموجبه، وهو كالرضا من التوكل وكالشوق من المحبة، وكالأُنس من الذكر، وكالخشية من العلم وكالطمأننة من اليقين، فإنها ثمرات لها وآثار وموجبات، فعلى قدر شكره بالأعمال الظاهرة والباطنة وتصحيح العبودية يكون سروره واستبشاره بلقائه، وأما قوله سبحانه وتعالى: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِى بَايَعْتُمْ بِهِ} [التوبة: 111] فهذا إنما قاله للشاكرين الذين يقاتلون فى سبيله فيقتلون ويقتلون، ثم وصفهم بعد ذلك بقيامهم بأعمال الشكر فقال: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَائِحُون الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَن المُنكَرِ وَالحَافِظُونَ لِحُدُودِ الله} [التوبة: 112] ، فهؤلاء المستبشرون ببيعهم جعلنا الله منهم بمنه وكرمه. فصل قال: "ومحبتهم فناؤهم فى محبة الحق، فماذا بعد الحق إلا الضلال"؟ وقد تقدم الكلام على هذا بما فيه كفاية، وبينا أن البقاءَ فى المحبة أفضل وأكمل من الفناءِ فيها من وجوه متعددة، وأن الفناءَ إنما هو لضعف المحب عما حمل، وأما الأقوياءُ فهم- مع شدة محبتهم- فى مقام البقاء والتمييز. وأما استدلاله بقوله تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ} [يونس: 32] فالآية إنما سبقت فى الكلام على من يعبد غير الله ويشرك به، قال تعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُمْ مِنَ السّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمْ مَن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 يَمْلِكُ السَّمْعُ وَالأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَى مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَى وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرُ؟ فَسَيَقُولُونَ الله، فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ فَذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ، فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس: 31- 32] ، [فمن] عبد غير الله فما عبد إلا الضلال المحض والباطل البحت، وأما من عبد الله بأَمره وكان فى مقام التمييز بين محابه ومساخطه مفرقاً بينهما يحب هذا ويبغض هذا ناظراً بقلبه إلى ربه عاكفاً بهمته عليه منفذاً لأوامره فهو مع الحق المحض. والله أعلم. فصل قال: وشوقهم هزمهم من رسمهم وسماتهم استعجالاً للوصول إلى غاية المنى: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه: 84] ، قد تقدم الكلام فى الشوق مستوفى وليس الهرب من الغير والضد هو الشوق، بل هنا مهروب منه ومهروب إليه، فالشوق هو سفر القلب نحو المحبوب، وهذا لا يتم إلا بالهرب من ضده، فليس الشوق هو نفس الهرب من الرسوم والسمات. فصل قال: "والإرادة والزهد والتوكل والصبر والحزن والخوف والرجاءُ، والشكر والمحبة والشوق من منازل أَهل الشرع السائرين إلى عين الحقيقة، فإذا شاهدوا عين الحقيقة اضمحلت فيها أحوال الشاهدين حتى يفنى ما لم يكن، ويبقى ما لم يزل". قلت: الحقائق التى أشار إليها على لسان أهل السلوك ثلاث: "حقيقة إيمانية نبوية"، وهى حقيقة العبودية التى هى كمال الحب وكمال الذل، وسير أهل الاستقامة إنما هو إلى هذه الحقيقة ومنازل السير التى ينزلون فيها هى منازل الإيمان الموصلة إليها والمنحرفون لا يرضون بهذه الحقيقة ولا يقفون معها ويرونها منزلة من منازل العامة، الحقيقة الثانية: "حقيقة كونية قدرية" يشاهدون فيها انفراد الرب [تعالى] بالتكوين والإيجاد وحده، وأن العالم كالميت يقلبه ويصرفه كيف يشاءُ، وهم يعظمون هذا المشهد ويروون الفناءَ فيه غاية ما بعدها شيء. وهذا من أغلاطهم فى المعرفة والسلوك، فإن هذا المشهد لا يدخل صاحبه فى الإيمان فضلاً عن أن يكون أفضل مشاهد أولياءِ الله المقربين، فإن عباد الأصنام شهدوا هذا المشهد ولم ينفعهم وحده، قال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ للهِ، قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 قُلْ مَن رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ العظِيمِ سَيَقُولُونَ للهِ، قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يَجِيرُ وَلا يُجَارُ عَليْهِ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ للهِ، قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 84- 89] ، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ} [الزخرف: 87] ، {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف:20] ، {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} [الأنعام: 148] ، وهذا كثير فى القرآن، فالفناءُ فى هذا المشهد لا يدخل العبد فى دائرة الإسلام، فكيف يجعله هو الحقيقة التى ينتهى إليها سير السالكين، ويجعل حقيقة الإيمان ودعوة الرسل منزل من منازل العامة، وهل هذا إلا غاية الانحراف والبعد عن الصراط المستقيم وقلب للحقائق؟ وكم قد هلك فى هذه الحقيقة من أُمم لا يحصيهم إلا الله، وكم عطل لأجلها الواقفون معها من الشرائع، وخربوا من المنازل وما نجا من معاطبها إلا من شملته العناية الربانية، ونفذ ببصره من هذه الحقيقة إلى الحقيقة الإيمانية النبوية، حقيقة رسل الله وأنبيائه وأتباعهم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاءُ. والحقيقة الثالثة: "حقيقة اتحادية" بل واحدية لا يفرق فيها بين الرب والعبد، ولا بين القديم والمحدث، ولا بين صانع ومصنوع، بل الأمر كله واحد، والأمر المخلوق هو عين الأمر الخالق. وهذه الحقيقة التى يشير إلى عينها طائفة الاتحادية، ويعدون من لم يكن من أهلها محجوباً، وهذه حقيقة كفرية اتحادية، وهى مع ذلك خيال فاسد، وعقل منكوس، وذوق من عين منتنة، وكفر أهلها أعظم من كفر كل أُمة، فإنهم جحدوا الصانع حقاً وإن أثبتوه جعلوا وجوده وجود كل موجود، والذين أثبتوا الصانع وعدلوا به غيره وسووا بينه وبين غيره فى العبادة مقالتهم خير من مقالة هؤلاء الذين جعلوه وجود كل موجود وعين كل شيء تعالى الله عما يقول الكاذبون المفترون علواً كبيراً. فعليك بالفرق بين السائرين إلى هذه الحقيقة، والسائرين إلى عين الحقيقة الكونية الحكمية، والسائرين إلى عين الحقيقة المحمدية الإبراهيمية الحنيفية التى هى حقيقة جميع الأنبياءِ والمرسلين، وفيها تفاوتت مراتب السالكين ومنازلهم من القرب من رب العالمين. قال شيخ هذه الحقيقة إبراهيم عليه السلام لما تحقق فناءُ تلك الرسوم وأفولها: {إِنِّى وَجَّهْتُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 َجْهِى لِلَّذِى فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 79] ، وهذا التوجه يتضمن محبته دون غيره، وعبادته وطاعته دون غيره. فهذه هى الحقيقة حقاً وما سواها باطل حقيقة، قال تعالى لأكرم خلقه عليه: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين} [النحل: 123] ، فأمره تعالى أن يقتدى بأبيه إبراهيم فى هذه الحقيقة، وكان صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه إذا أصبحوا وإذا أمسوا أن يقولوا: "أصبحنا على فطرة الإسلام، وكلمة الإخلاص ودين نبينا محمد، وملة أبينا إبراهيم حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين"، فنسأل الله العظيم أن يهب لنا هذه الحقيقة ويثبتنا عليها، ويعيدنا مما سواها، إنه قريب مجيب بمنه وكرمه. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 فصل: فى مراتب المكلفين فى الدار الآخرةوطبقاتهم فيها، وهم ثمان عشرة طبقة الطبقة الأولى: وهى العليا على الإطلاق مرتبة الرسالة، فأكرم الخلق على الله وأخصهم بالزلفى لديه رسله، وهم المصطفون من عباده الذين سلم عليهم فى العالمين كما قال تعالى: {وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} [الصافات: 181] ، وقال تعالى: {سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِى الْعَالَمِينَ} [الصافات: 79] ، وقال تعالى: {سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيم كذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ} [الصافات: 109-110] ، {سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} [الصافات: 130] ، وقال تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ للهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59] . وكلمة "السلام" هنا تحتمل أن تكون داخلة فى حيز القول، فتكون معطوفة على الجملة الخبرية وهى "الحمد لله"، ويكون الأمر بالقول متناولاً للجملتين معاً، وعلى هذا فيكون الوقف على الجملة الأخيرة ويكون محلها النصب محكية بالقول، ويحتمل أن تكون جملة مستأنفة مستقلة معطوفة على جملة الطلب، وعلى هذا فلا محل لها من الإعراب. وهذا التقدير أرجح، وعليه يكون السلام من الله عليهم، وهو المطابق لما تقدم من سلامه سبحانه وتعالى على رسله عليهم السلام. وعلى التقدير الأول يكون أمرَ بالسلام عليهم، ولكن يقال على هذا: كيف يعطف الخبر على الطلب مع تنافر ما بينهما؟ فلا يحسن أن يقال: قم وذهب زيد، ولا: اخرج وقعد وعمرو، أو يجاب على هذا بأن جملة الطلب قد حكيت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 بجملة خبرية، ومع هذا لا يمتنع العطف فيه بالخبر على الجملة الطلبية لعدم تنافر الكلام فيه وتباينه، وهذا نظير قوله تعالى: {قُلْ انْظرُوا مَاذَا فِى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، وَمَا تُغْنِى الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101] ، فقوله تعالى: {وَمَا تُغْنِى الآيَاتُ ليس معطوفاً على القول وهو انظروا بل معطوف على الجملة الكبرى، على أن عطف الخبر على الطلب كثير كقوله تعالى: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ، وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [الأنبياء: 112] ، وقوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} [المؤمنون: 118] ، والمقصود أنه على هذا القول يكون الله سبحانه وتعالى قد سلم على المصطفين من عباده، والرسل أفضلهم، وقد أخبر سبحانه وتعالى أنه أخلصهم: {بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لِمِنَ المُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ} [سورة ص: 46-47] ، ويكفى فى فضلهم وشرفهم أن الله سبحانه وتعالى اختصهم بوحيه، وجعلهم أمناءَ على رسالته وواسطة بينه وبين عباده، وخصهم بأنواع كراماته: فمنهم من اتخذه خليلاً، ومنهم من كلمه تكليماً، ومنهم من رفعه مكاناً علياً على سائرهم درجات، ولم يجعل لعباده وصولاً إليه إلا من طريقهم، ولا دخول إلى جنته إلا خلفهم، ولم يكرم أحداً منهم بكرامة إلا على أيديهم، فهم أقرب الخلق إليه وسيلة، وأرفعهم عنده درجة، وأحبهم إليه وأكرمهم عليه. وبالجملة فخير الدنيا والآخرة إنما ناله العباد علي"أيديهم وبهم عرف الله وبهم عبد وأُطيع وبهم حصلت محابه [الله] تعالى فى الأرض، وأعلاهم منزلة أولو العزم منهم المذكورون فى قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} [الشورى: 13] ، وهؤلاء هم الطبقة العليا من الخلائق وعليهم تدور الشفاعة حتى يردوها إلى خاتمهم وأفضلهم صلى الله عليه وسلم. الطبقة الثانية: من عداهم من الرسل على مراتبهم من [تفضيل الله] بعضهم على بعض. الطبقة الثالثة: الذين لم يرسلوا إلى أُممهم وإنما كانت لهم النبوة دون الرسالة، فاختصوا عن الأُمة بإيحاء الله إليهم، وإْرساله ملائكته إلَيْهِمْ واختصت الرسل عنهم بإرسالهم إلى الأُمة بدعوتهم إلى الله بشريعته وأمره، واشتركوا فى الوحى ونزول الملائكة عليهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 الطبقة الرابعة: ورثة الرسل وخلفاؤهم فى أُممهم، وهم القائمون بما بعثوا به علماً وعملاً ودعوة للخلق إلى الله، على طرقهم ومنهاجهم، [ولهذا أفضل مراتب الخلق بعد الرسالة والنبوة وهى مرتبة الصديقيه] قرنهم الله فى كتابه بالأنبياء فقال تعالى: {وَمَنْ يُطِع الله والرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحُسْنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} [النساء:69] ، فجعل درجة الصديقية معطوفة على درجة النبوة وهؤلاء هم الربانيون، وهم الراسخون فى العلم، وهم الوسائط بين الرسول صلى الله عليه وسلم وأُمته، فهم خلفاؤه وأولياؤه وحزبه وخاصته وحملة دينه وهم المضمون لهم أنهم لا يزالون على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأْتى أمر الله وهم على ذلك، وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ، وَالشُّهَدَاءُ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} [الحديد: 19] ، وقيل: إن الوقف على قوله تعالى: {هُمُ الصِّدِّيقُونَ} ثم يبتديءُ "وَالشُّهَدَاءُ عِندَ رَبِّهِمْ"، فيكون الكلام جملتين أخبر فى إحداهما عن المؤمنين بالله ورسله أنهم هم الصديقون والإيمان التام يستلزم العلم والعمل والدعوة إلى الله بالتعليم والصبر عليه، وأخبر فى الثانية أن الشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم، ومرتبة الصديقين فوق مرتبة الشهداءِ، ولهذا قدمهم عليهم فى الآيتين، هنا وفى سورة النساء، وهكذا جاءَ ذكرهم مقدماً على الشهداءِ فى كلام النبى صلى الله عليه وسلم فى قوله: "اثبت أُحد فإنما عليك نبى وصديق وشهيد، ولهذا كان نعت الصديقية وصفاً لأفضل الخلق بعد الأنبياء والمرسلين [أبو] بكر الصديق [رضى الله عنه] ولو كان بعد النبوة درجة أفضل من الصديقية لكانت نعتاً له رضى الله عنه، وقيل: إن الكلام كله جملة واحدة وأخبر عن المؤمنين بأنهم هم الصديقون والشهداءُ عند ربهم، وعلى هذا فالشهداء هم الذين يستشدهم الله على الناس يوم القيامة وهو قوله تعالى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] ، وهم المؤمنون، فوصفهم بأنهم صديقون فى الدنيا وشهداءُ على الناس يوم القيامة، ويكون الشهداء وصفاً لجملة المؤمنين الصديقين، وقيل: الشهداء هم الذين قتلوا فى سبيل الله، وعلى هذا القول يترجح أن يكون الكلام جملتين ويكون قوله: "والشهداءُ" مبتدأ خبره ما بعده، لأنه ليس كل مؤمن صديق شهيداً فى سبيل الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 ويرجحه أيضاً أنه لو كان الشهداء داخلاً فى جملة الخبر [عند المؤمنين] لكان قوله تعالى: {لَهُم أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} [الحديد: 19] داخلاً [أيضاً] فى جملة الخبر عنهم ويكون قد أخبر عنهم بثلاثة أشياء: أحدها: أنهم هم الصديقون، والثانى: أنهم هم الشهداءُ، والثالث: أن لهم أجرهم ونورهم، وذلك يتضمن عطف الخبر الثانى على الأول، ثم ذكر الخبر الثالث مجرداً عن العطف، وهذا كما تقول: زيد كريم وعالم له مال والأحسن فى هذا تناسب الأخبار بأن تجردها كلها من العطف أو تعطفها جميعاً فتقول: زيد كريم عالم له مال، أو كريم وعالم وله مال فتأمله. ويرجحه أيضاً أن الكلام يصير جملاً مستقلة قد ذكر فيها أصناف خلقه السعداء وهم الصديقون [والشهداء والصالحون وهم المذكورون فى الآية وهم المتصدقون] الذين أقرضوا الله قرضاً حسناً، فهؤلاد ثلاثة أصناف ثم ذكر الرسل فى قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} [الحديد: 25] ، فيتناول ذلك الأصناف الأربعة المذكورة فى سورة النساء، فهؤلاء هم السعداء، ثم ذكر الأشقياء وهم نوعان: كفار، ومنافقون، فقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [الحديد: 19] ، وذكر المنافقون فى قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُورِكُمْ} [الحديد: 13] ، فهؤلاء أصناف العالم كلهم، وترك سبحانه وتعالى ذكر المخلط صاحب الشائبتين على طريقة القرآن فى ذكر السعداء والأشقياء دون [المخلصين] غالباً لسر اقتضته حكمته [سبحانه وتعالى] . فليحذر صاحب التخليط، فإنه لا ضمان له على الله، ولا هو من أهل وعده المطلق، ولا ييأس من روح الله فإنه ليس من الكفار الذين قطع لهم بالعذاب، ولكنه بين الجنة والنار واقف بين الوعد والوعيد كل منهما يدعوه إلى موجبه لأنه أتى بسببه. وهذا هو الذى لحظه القائلون بالمنزلة بين المنزلتين، ولكن غلطوا فى تخليده فى النار، ولو نزلوه منزلة بين المنزلتين ووكلوه إلى المشيئة وقالوا بأنه يخرج من النار بتوحيده وإيمانه لأصابوا، ولكن منزلة بين منزلتين وصاحبهما مخلد فى النار مما لا يقتضيه عقل ولا سمع، بل النصوص الصريحة المعلومة الصحة تشهد ببطلان قولهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 والله أعلم، وأيضاً فصاحب الشائبتين يعلم حكمه من نصوص الوعد والوعيد، فإن الله سبحانه وتعالى رتب على كل عمل جزاءً فى الخير والشر، فإذا أتى العبد بهما كان فيه سبب الجزاءَين، والله لا يضيع عمل مثقال ذرة، فإن كان عمل الشر مما يوجب سقوط أثر الحسنة كالكفر كان التأثير [له] وإن لم يسقطه كالمعصية ترتب فى حقه الأثران ما لم يسقط أحدهما بسبب من الأسباب التى نذكرها إن شاء الله فيما بعد، والمقصود أن درجة الصديقية والربانية ووراثة النبوة وخلافة الرسالة هى أفضل درجات الأُمة، ولو لم يكن من فضلها وشرفها إلا أن كل من علم بتعليمهم وإرشادهم أو علم غيره شيئاً من ذلك كان له مثل أجره ما دام ذلك جارياً فى الأمة على آباد الدهور، وقد صح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال لعلى بن أبى طالب: "والله لأن يهدى الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم". وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من سن فى الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كان له مثل أجر من عمل بها لا ينقص من أُجورهم شيئاً". وصح عنه صلى الله عليه وسلم أيضاً أنه قال: " إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له". وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من يرد الله به خيراً يفقهه فى الدين ". وفى السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن العالم يستغفر له من فى السموات ومن فى الأرض حتى النملة فى جحرها". وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله وملائكته يصلون على معلم الناس الخير"، وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ عظيم وافر". وعنه صلى الله عليه وسلم: "العالم والمتعلم شريكان فى الأجر، ولا خير فى سائر الناس بعد"، وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "نضر الله امرءاً سمع مقالتى فوعاها وأداها كما سمعها". والأحاديث فى هذا كثيرة، وقد ذكرنا مائتى دليل على فضل العلم وأهله فى كتاب مفرد، فيالها من مرتبة ما أعلاها، ومنقبة ما أجلها وأسناها، أن يكون المرءُ فى حياته مشغولاً ببعض أشغاله، أو فى قبره قد صار أشلاء متمزقاً وأوصالاً متفرقة، وصحف حسناته متزايدة يملى فيها الحسنات كل وقت، وأعمال الخير مهداة إليه من حيث لا يحتسب تلك والله المكارم والغنائم، وفى ذلك فليتنافس المتنافسون، وعليه يحسد الحاسدون، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. وحقيق بمرتبة هذا شأنها أن تنفق نفائس الأنفاس عليها، ويسبق السابقون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 إليها، وتوفر عليها الأوقات وتتوجه نحوها الطلبات، فنسأل الله الذى بيده مفاتيح كل خير أن يفتح علينا خزائن رحمته، ويجعلنا من أهل هذه الصفة بمنه وكرمه وأصحاب هذه المرتبة يُدعون عظماءَ فى ملكوت السماءِ كما قال بعض السلف: من علم وعمل وعلَّم، فذلك يدعى عظيماً فى ملكوت السماء. وهؤلاء هم العدول حقاً بتعديل رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم، إذ يقول فيما يروى عنه من وجوه [سند] بعضها بعضاً "يحمل هذا العلم من كل خلف عدول ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين". وما أحسن ما قال فيهم الإمام أحمد فى خطبة كتابه فى "الرد على الجهمية": "الحمد لله الذى جعل فى كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أجبروه، ومن ضال جاهل قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وأقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تأويل الجاهلين، وتحريف الغالين، وانتحال المبطلين". وذكر ابن وضاح هذا الكلام عن عمر بن الخطاب. الطبقة الخامسة: أئمة العدل وولاته الذين تؤمن بهم السبل ويستقيم بهم العالم ويستنصر بهم الضعيف ويذل بهم الظالم ويأْمن بهم الخائف وتقام بهم الحدود ويدفع بهم الفساد ويأْمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقام بهم حكم الكتاب والسنة وتطفأُ بهم نيران البدع والضلالة، وهؤلاء الذين تنصب لهم المنابر من النور عن يمين الرحمن عز وجل يوم القيامة فيكونون عليها- والولاة الظلمة قد صهرهم حر الشمس وقد بلغ منهم العرق مبلغه وهم يحملون أثقال مظالمهم العظيمة على ظهورهم الضعيفة فى يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يرى سبيل أحدهم إما إلى الجنة وإما إلى النار. قال النبى صلى الله عليه وسلم: " المقسطون [عند الله] على منابر من نور يوم القيامة عن يمين الرحمن تبارك وتعالى وكلتا يديه يمين، الذى يعدلون فى حكمهم وأهلم وما ولوا"، وعنه صلى الله عليه وسلم: "إن أحب الخلق إلى الله وأقربهم منه منزلة يوم القيامة إمام عادل، وإن أبغض الخلق إلى الله وأبعدهم منه منزلة يوم القيامة إمام جائر" أو كما قال. وهم أحد السبعة الأصناف الذين يظلهم الله فى ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، وكما كان الناس فى ظل عدلهم فى الدنيا كانوا فى ظل عرش الرحمن يوم القيامة ظلاً بظل جزاءً وفاقاً، ولو لم يكن من فضلهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 وشرفهم إلا أن أهل السموات والأرض والطير فى الهواء يصلون عليهم ويستغفرون لهم ويدعون لهم، وولاة الظلم يلعنهم من بين السموات والأرض حتى الدواب والطير، كما أن معلم الناس الخير يصلى عليه الله وملائكته، وكاتم العلم والهدى الذى أنزله الله وحامل أهله على كتمانه يلعنه الله وملائكته ويلعنه اللاعنون، فيا لها من منقبة ومرتبة ما أجلها وأشرفها أن يكون الوالى والإمام على فراشه و [غيره] يعمل بالخير وتكتب الحسنات فى صحائفه فهى متزايدة ما دام يعمل بعدله، ولساعة واحدة منه خير من عبادة أعوام من غيره، فأين هذا من [صفه] الغاش لرعيته الظالم لهم [الذى] حرم الله عليه الجنة وأوجب له النار. ويكفى فى فضله وشرفه أنه يكف عن الله دعوة المظلوم كما فى الآثار: أيها الملك المسلط المغرور، إنى لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض، ولكن بعثتك لتكف عنى دعوة المظلوم، إنى لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض، فإنى لا أحجبها ولو كانت من كافر. فأين من هو نائم وأعين العباد ساهرة تدعو الله له، وآخر أعينهم ساهرة تدعو عليه؟ الطبقة السادسة: المجاهدون فى سبيل الله، وهم جند الله، الذين يقيم بهم دينه ويدفع بهم بأْس أعدائه ويحفظ بهم بيضة الإسلام ويحمى لهم حوزة الدين، وهم الذين يقاتلون أعداء الله ليكون الدين كله لله وتكون كلمة الله هى العليا، قد بذلوا أنفسهم فى محبة الله ونصر دينه وإعلاءِ كلمته ودفع أعدائه، وهم شركاءُ لكل من يحمونه بسيوفهم فى أعمالهم التى يعملونها وإن [باتوا] فى ديارهم، ولهم مثل أُجور من عبد الله بسبب جهادهم وفتوحهم فإنهم كانوا هم السبب فيه. والشارع قد نزل المتسبب منزلة الفاعل التام فى الأجر والوزر، ولهذا كان الداعى إلى الهدى والداعى إلى الضلال لكل منهما بتسببه مثل أجر من تبعه. وقد تظاهرت آيات الكتاب وتواترت نصوص السنة على الترغيب فى الجهاد والحض عليه ومدح أهله والإخبار عما لهم عند ربهم من أنواع الكرامات والعطايا الجزيلات، ويكفى فى ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكَمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف: 10] ، فتشوقت النفوس إلى هذه التجارة الرابحة التى الدال عليها رب [العالمين العليم] الحكيم فقال: {تُؤْمِنُون بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفَسِكُمْ} [الصف: 11] ، فكأن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 النفوس ضنت بحياتها وبقائها فقال: {ذَلِكُمْ خَيرٌ لَكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} يعنى أن الجهاد خير لكم من قعودكم للحياة والسلامة، فكأنها قالت: فما لنا فى الجهاد من الحظ؟ فقال: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبِكُمْ} ، مع المغفرة: {يُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِى جَنَّاتِ عَدْنِ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الصف: 12] ، فكأنها قالت: هذا فى الآخرة فما لنا فى الدنيا؟ فقال: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الصف: 13] . [فلله] ما أحلى هذه الألفاظ وما ألصقها بالقلوب وما أعظمها جذباً لها وتسييراً إلى ربها، وما ألطف موقعها من قلب كل محب، وما أعظم غنى القلب وأطيب عيشه حين تباشره معانيها، فنسأل الله من فضله إنه جواد كريم. ومن هذا قوله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمِنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِى سَبِيلِ الله لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ، وَاللهُ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينْ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِى سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرجَةً عِندَ اللهِ، وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبداً إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التوبة: 19- 22] ، فأخبر سبحانه وتعالى أنه لا يستوى عنده عمار المسجد الحرام، وهم عماره بالاعتكاف والطواف والصلاة، هذه هى عمارة مساجده المذكورة فى القرآن، وأهل سقاية الحاج لا يستوون هم وأهل الجهاد فى سبيل الله، وأخبر أن المؤمنين المجاهدين أعظم درجة عنده وأنهم هم الفائزون، وأنهم أهل البشارة بالرحمة والرضوان والجنات فنفى التسوية بين المجاهدين وعمار المسجد الحرام مع أنواع العبادة مع ثنائه على عمارة بقوله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاة وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَى إِلا اللهَ، فَعَسَى أُولَئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ المُهْتَدِينَ} [التوبة: 18] ، فهؤلاءِ هم عمار المساجد، ومع هذا فأهل الجهاد أرفع درجة عند الله منهم. وقال تعالى: {لا يَسْتَوِى القَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِى الضَرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّل اللهَ المُجَاهِدِينَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً، وَكُلا وَعَدَ الله الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً} [النساء: 95- 96] ، فنفى سبحانه وتعالى التسوية بين المؤمنين القاعدين عن الجهاد وبين المجاهدين، ثم أخبر عن تفضيل المجاهدين على القاعدين درجة ثم أخبر عن تفضيلهم عليهم درجات. وقد أشكل فهم هذه الآية على طائفة من الناس من جهة أن القاعدين الذين فضل عليهم المجاهدون بدرجات إن كانوا هم [أهل الضرر والقاعدون الذين فضل عليهم المجاهدون بدرجات هم أولو] الضرر فيكون المجاهدون أفضل من القاعدين مطلقاً، وعلى هذا فما وجه استثناءِ أُولى الضرر من القاعدين وهم لا يستوون والمجاهدين أصلاً؟ فيكون حكم المستثنى والمستثنى منه واحداً، فهذا وجه الإشكال، ونحن نذكر [ما قاله فى الأية ثم نذكر] ما يزيل الإشكال بحمد الله، فاختلف القراءُ فى إعراب "غير"، فقريء رفعاً ونصباً وهما فى السبعة، وقريء بالجر فى غير السبعة وهى قراءَة أبى حيوة، فأما قراءَة النصب فعلى الاستثناءِ لأن غيراً يعرب فى الاستثناء إعراب الاسم الواقع بعد إلا وهو النصب، هذا هو الصحيح. وقالت طائفة: إعرابها نصب على الحال، أى لا يستوى القاعدون غير مضرورين، أى لا يستوون فى حال صحتهم هم والمجاهدون، والاستثناء أصح، فإن "غير" لا تكاد تقع حالاً فى كلامهم إلا مضافة إلى نكرة كقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ} [البقرة: 173] [الأنعام: 145] [النحل: 115] ، وقوله عَزَّ وجَلَّ فى أول المائدة: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلا مَا يُتلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّى الصَّيْدِ} [المائدة: 1] وقوله صلى الله عليه وسلم: "مرحباً بالوفد غير خزايا ولا ندامى". فإن أضيفت إلى معرفة كانت تابعة لما قبلها، كقوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} ولو قلت: مرحباً بالوفد غير الخزايا ولا الندامى، لجررت غير، هذا هو المعروف من كلامهم والكلام فى عدم تعرف غير بالإضافة وحسن وقوعها إذ ذاك حالاً له مقام آخر. وأما الرفع فعلى النعت للقاعدين، هذا هو الصحيح. وقال أبو إسحاق وغيره: هو خبر مبتدإٍ محذوف تقديره هم غير أولى الضرر، والذى حمله على هذا ظنه أن غيراً لا تقبل التعريف بالإضافة فلا تجرى صفة للمعرفة، وليس مع من ادعى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 ذلك حجة يعتمد عليها سوى [قولهم] أن غيراً توغلت فى الإبهام فلا تتعرف بما يضاف إليه. وجواب هذا أنها إذا دخلت بين [ن] تقابلين لم يكن فيها إبهام لتعيينها ما تضاف إليه، وأما قراءة الجر ففيها وجهان أيضاً: أحدهما- وهو الصحيح- أنه نعت للمؤمنين، والثانى- وهو قول المبرد- أنه بدل منه، بناءً على أنه نكرة فلا تنعت به المعرفة. وعلى الأقوال كلها فهو مفهوم معنى الاستثناء، وإن نفى التسوية غير مسلط على ما أُضيف إليه غيره، وقوله: {فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرجَةَ} [النساء: 95] ، هو مبين لمعنى نفى المساواة. قالوا: والمعنى فضل الله [المجاهدين] على [القاعدين] من أُولى الضرر درجة واحدة لامتيازه عنه بالجهاد بنفسه وماله. ثم أخبر سبحانه وتعالى أن الفريقين كليهما موعود بالحسنى فقال: {وَكُلا وَعَدَ الله الْحُسْنَى} [النساء: 95] أى المجاهد والقاعد المضرور، لاشتراكهما فى الإيمان. قالوا: وفى هذا دليل على تفضيل الغنى المنفق على الفقير، لأن الله [سبحانه] أخبر أن المجاهد بماله ونفسه أفضل من القاعد وقدم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس، وأما الفقير فنفى عنه الحرج بقوله: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قلت لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} [التوبة: 92] ، فأين مقام من حكم له بالتفضيل إلى مقام من نفى عنه الحرج. قالوا: فهذا حكم القاعد من أولى الضرر والمجاهد، وأما القاعد من غير أولى الضرر فقال [سبحانه] : {وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجراً عَظِيماً درجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَّحِيماً} [النساء: 95- 96] ، وقوله: {دَرَجَاتٍ} قيل: هو نصب على البدل من قوله {أجراً عظيماً} ، وقيل: تأكيد له وإن كان بغير لفظه، لأنه هو فى المعنى، قال قتادة: كان يقال: الإسلام درجة، والهجرة فى الإسلام درجة والجهاد فى الهجرة درجة، والقتل فى الجهاد درجة. وقال ابن زيد: الدرجات التى فضل الله [الجهاد] بها المجاهد على القاعد سبع، وهى التى ذكرها الله تعالى إذ يقول تعالي: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِى سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدو نَيْلاً إِلا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ، إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [التوبة: 120] ، فهذه خمس ثم قال: {وَلا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيْرَةً ولا يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلا كُتِبَ لَهُمْ} [التوبة: 121] به عمل صالح، فهاتان اثنتان، وقيل: الدرجات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 سبعون درجة ما بين الدرجتين حُضر الفرس الجواد المضمر سبعين سنة. والصحيح أن الدرجات هى المذكورة فى حديث أبى هريرة الذى رواه البخارى فى صحيحه [عنه] عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من آمن بالله ورسوله وأقام الصلاة وصام رمضان فإن حقاً على الله أن يدخله الجنة، هاجر فى سبيل الله أو جلس فى أرضه التى ولد فيها" قالوا: يا رسول الله، أفلا نخبر الناس بذلك؟ قال: "إن فى الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين فى سبيله، كل درجتين كما بين السماءِ والأرض فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة". قالوا: وجعل سبحانه وتعالى التفضيل الأَول بدرجة فقط، وجعله [ها هنا] بدرجات ومغفرة ورحمة، وهذا يدل على أنه يفضل على غير أُولى الضرر، فهذا تقرير هذا القول وإيضاحه. ولكن بقى أن يقال: إذا كان المجاهدون أفضل من القاعدين مطلقاً لزم أن لا يستوى مجاهد وقاعد مطلقاً، فلا يبقى فى تقييد القاعدين بكونهم من غير أُولى الضرر فائدة، فإنه لا يستوى المجاهدون والقاعدون من أُولى الضرر أيضاً. وأيضاً فإن القاعدين المذكورين فى الآية الذين وقع التفضيل عليهم هم غير أولى الضرر لا القاعدون الذين هم أولوا الضرر، فإنهم لم يذكر حكمهم فى الآية، بل استثناهم وبين أن التفضيل على غيرهم، فاللام فى "القاعدين" للعهد والمعهود هم غير أولى الضرر لا المضررون وأيضاً فالقاعد من المجاهدين لضرورة تمنعه من الجهاد له مثل أجر المجاهد، كما ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا مرض العبد أو سافر كتب له من العمل ما كان يعمل صحيحاً مقيماً"، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا وهم معكم" قالوا: وهم بالمدينة؟ قال: "وهم بالمدينة حبسهم العذر"، وعلى هذا فالصواب أن يقال: الآية دلت على أن القاعدين من غير أُولى الضرر لا يستوون هم والمجاهدون، وسكت [عن القاعدين من أولى الضرر فلم يدل على حكمهم بطريق منطوقها] عن حكمهم بطريق منطوقها ولا يدل مفهومها على مساواتهم للمجاهدين. بل هذا النوع منقسم إلى معذور من أهل الجهاد غلبه عذره وأقعده عنه ونيته جازمة لم يتخلف عنها مقدورها، وإنما أقعده العجز، فهذا الذى تقتضيه أدلة الشرع أن له مثل أجر المجاهد. وهذا القسم لا يتناوله الحكم بنفى التسوية، وهذا لأن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 قاعدة الشريعة أن العزم التام إذا اقترن به ما يمكن من الفعل أو مقدمات الفعل نزل صاحبه فى الثواب والعقاب منزلة الفاعل التام كما دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول فى النار"، قالوا: هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: "إنه كان حريصاً على قتل صاحبه". وفى الترمذى ومسند الإمام أحمد من حديث أبى كبشة الأنمارى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالاً وعلماً، فهو يتقى فى ماله ربه ويصل به رحمه، ويعلم لله فيه حقاً، فهذا بأحسن المنازل [عند الله] ، وعبد رزقه الله علماً ولم يرزقه مالاً، فهو يقول: لو أن لى مالاً لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته، وهما فى الأجر سواءٌ، وعبد رزقه الله مالاً ولم يرزقه علماً، فهو لا يتقى فى ماله ربه، ولا يصل به رحمه، ولا يعلم لله فيه حقاً، فهذا بأسوإِ المنازل عند الله، وعبد لم يرزقه الله مالاً ولا علماً فهو يقول: لو أن لى مالاً لعملت بعمل فلان، فهو بنيته، وهما فى الوزر سواءٌ"، فأخبر صلى الله عليه وسلم أن وزر الفاعل والناوى الذى ليس مقدوره إلا بقوله دون فعله سواءٌ، لأنه أتى بالنية ومقدوره التام، وكذلك أجر الفاعل والناوى الذى اقترن قوله بنيته. وكذلك المقتول الذى سل السيف وأراد به قتل أخيه المسلم فقتل، نزل منزلة القاتل لنيته التامة التى اقترن بها مقدورها من السعى والحركة. ومثل هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "من دل على خير فله مثل أجر فاعله"، فإن بدلالته ونيته نزل منزلة الفاعل. ومثله: "من دعا إلى هدى فله مثل أُجور من اتبعه"، ومن دعا إلى ضلالة عليه من الوزر مثل آثام من تبعه لأجل نيته واقتران مقدورها بها من الدعوة، ومثله: "إذ جاءَ المصلى إلى المسجد ليصلى جماعة فأدركهم وقد صلوا فصلى وحده كتب له مثل أجر صلاة الجماعة بنيته وسعيه"، كما قد جاءً مصرحاً به فى حديث مروي. ومثل هذا من كان له ورد يصليه من الليل فنام ومن نيته أن يقوم إليه فغلب عينه نوم كتب له أجر ورده، وكان نومه عليه صدقة، ومثله المريض والمسافر إذا كان له عمل يعمله، فشغل عنه بالمرض والسفر كتب له مثل عمله وهو صحيح مقيم، ومثله: "من سأل الله الشهادة بصدق بلغة الله، منازل الشهداءِ ولو مات على فراشه"، ونظائر ذلك كثيرة. والقسم الثانى معذور ليس من نيته الجهاد، ولا هو عازم عليه عزماً تاماً، فهذا لا يستوى هو والمجاهد فى سبيل الله، بل قد فضل الله المجاهدين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 عليه وإن كان معذوراً لأنه لا نية له تلحقه بالفاعل التام كنية أصحاب القسم الأول. وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم فى حديث عثمان ابن مظعون: "إن الله قد أوقع أجره على قدر نيته"، فلما كان القسم المعذور فيه هذا التفصيل لم يجز أن يساوى بالمجاهد مطلقاً، ولا ينفى عنه المساواة مطلقاً، ودلالة المفهوم لا عموم لها، فإن العموم إنما هو من أحكام الصيغ العامة وعوارض الألفاظ. والدليل الموجب للقول بالمفهوم لا يدل على أن له عموماً يجب اعتباره. فإن أدلة المفهوم ترجع إلى شيئين: أحدهما التخصيص، والآخر التعليل. فأما التخصيص فهو أن تخصيص الحكم بالمذكور يقتضى نفى الحكم عما عداه وإلا بطلت فائدة التخصيص، وهذا لا يقتضى العموم وسلب حكم المنطوق عن جميع صور المفهوم لأن فائدة التخصيص قد تحصل بانقسام صور المفهوم إلى ما يسلب الحكم عن بعضها ويثبت لبعضها ثبوت تفصيل فيه، فيثبت له حكم المنطوق على وجه دون وجه، إما بشرط لا تجب مراعاته فى المنطوق، وإما فى وقت دون وقت، بخلاف حكم المنطوق فإنه ثابت أبداً، ونحو ذلك من فوائد التخصيص. وإذا كانت فائدة التخصيص حاصلة بالتفصيل والانقسام فدعوى لزوم العموم من التخصيص دعوى باطلة فإثباته [بمجرد] التحكم، وأما التعليل فإنهم قالوا: ترتيب الحكم على هذا الوصف المناسب له يقتضى نفى الحكم عما عداه وإلا لم يكن الوصف المذكور علة. وهذا أيضاً لا يستلزم عموم النفى عن كل ما عداه، وإنما غايته اقتضاؤه نفى الحكم المرتب على ذلك الوصف عن الصور المنفى عنها الوصف، وأما نفى الحكم جملة فلا تجوز ثبوته بوصف آخر وعلة أُخرى، فإن الحكم الواحد بالنوع يجوز تعليله بعلل مختلفة، وفى الواحد بالعين كلام ليس هذا موضعه. ومثال هذا ما نحن فيه [فإن] قوله تعالى: {لا يَسْتَوِى الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرِ أُولِى الضَرَّرِ وَالُْمُجاهِدُونَ} [النساء: 95] لا يدل على مساواة المضرورين [للمجاهدين] مطلقاً من حيث الصورة، بل إن ثبتت المساواة فإنها معللة بوصف آخر وهى النية الجازمة والعزم التام، والضرر المانع من الجهاد فى ذلك الحال لا يكون [مانعاً] من المساواة فى الأجر، والله أعلم. والمقصود الكلام على طبقات الناس فى الآخرة. وأما النصوص والأدلة الدالة على فضل الجهاد وأهله فأكثر من أن تذكر هنا ولعلها أن تفرد فى كتاب على هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 النمط إن شاء الله. فهذه الدرجات الثلاث هى درجات السبق، أعنى درجة العلم والعدل والجهاد وبها سبق الصحابة [رضى الله عنه] وأدركوا من قبلهم وفاتوا من بعدهم واستولوا على الأمد البعيد وحازوا قصبات العلى، وهم كانوا السبب فى [بلوغ] الإسلام إلينا وفى تعليم كل خير وهدى وسبب تنال به السعادة والنجاة، وهم أعدل الأُمة فيما ولوه، وأعظمها جهاداً فى سبيل الله. والأُمة فى آثار علمهم وعدلهم وجهادهم إلى يوم القيامة، فلا ينال أحد منهم مسألة علم نافع إلا على أيديهم ومن طريقهم ينالها، ولا يسكن بقعة من الأرض آمناً إلا بسبب جهادهم وفتوحهم، ولا يحكم إمام ولا حاكم بعدل وهدى إلا كانوا هم السبب فى [وصوله] إليه، فهم الذين فتحوا البلاد بالسيف والقلوب بالإيمان وعمروا البلاد بالعدل والقلوب بالعلم والهدى، فلهم من الأجر بقدر أجور الأُمة إلى يوم القيامة مضافاً إلى أجر أعمالهم التى اختصوا بها، فسبحان من يختص بفضله ورحمته من يشاءُ وإنما نالوا هذا بالعلم والجهاد والحكم بالعدل، وهذه مراتب السبق التى يهبها الله لمن يشاءُ من عباده. الطبقة السابعة: أهل الإيثار والصدقة والإحسان إلى الناس بأموالهم على اختلاف حاجاتهم ومصالحهم من تفريج كرباتهم ودفع ضروراتهم وكفايتهم فى مهماتهم وهم أحد الصنفين اللذين قال النبى صلى الله عليه وسلم فيهم: "لا حسد إلا فى اثنين: رجل آتاه الله الحكمة فهو يقضى بها ويعلمها الناس، ورجل آتاه الله مالاً وسلطه على هلكته فى الحق"، يعنى أنه لا ينبغى لأحد أن يغبط أحداً على نعمة ويتمنى مثلها، إلا أحد هذين، وذلك لما فيهما من منافع النفع العام والإحسان المتعدى إلى الخلق، فهذا ينفعهم بعلمه وهذا ينفعهم بماله، والخلق كلهم عيال الله وأحبهم إليه أنفعهم لعياله. ولا ريب أن هذين الصنفين من أنفع الناس لعيال الله، ولا يقوم أمر الناس إلا بهذين الصنفين ولا يعمر العالم إلا بهما، قال تعالى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِى سَبِيلِ الله ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أنفقوا مِنَّا وَلا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 262] ، [وقال تعالى: {الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا يحزنون وقال تعالى: {إنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالمصَّدِّقَات وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد:18] قال تعالى {من ذا الذى يقرض الله قرضاً حسناً فَيْضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 542] ، وقال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِى يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد: 11] ، فصدَّر سبحانه الآية بألطف أنواع الخطاب، وهو الاستفهام المتضمن لمعنى الطلب، وهو أبلغ فى الطلب من صيغة الأمر، والمعنى: هل أحد يبذل هذا القرض الحسن فيجازى عليه أضعافاً مضاعفة؟ وسمى ذلك الإنفاق قرضاً حسناً حثاً للنفوس وبعثاً لها على البذل لأن الباذل متى علم أن عين ماله يعود إليه ولا بد طوّعت له نفسه بذله وسهل عليه إخراجه. فإن علم أن المستقرض ملى وفى محسن كان أبلغ فى طيب قلبه وسماحة نفسه، فإن علم أن المستقرض يتجر له بما اقترضه وينميه له ويثمرة حتى يصير أضعاف ما بذله كان بالقرض أسمح وأسمح، فإن علم أنه مع ذلك كله يزيده من فضله وعطائه أجراً آخر من غير جنس القرض وأن ذلك الأجر حظ عظيم وعطاءٌ كريم فإنه لا يتخلف عن قرضه إلا لآفة فى نفسه من البخل والشح أو عدم الثقة بالضمان، وذلك من ضعف إيمانه، ولهذا كانت الصدقة برهاناً لصاحبها. وهذه الأمور كلها تحت هذه الألفاظ التى تضمنتها الآية، فإنه [سبحانه] سماه قرضاً، وأخبر أنه هو المقترض لا قرض حاجة، ولكن قرض إحسان إلى المقرض [استدعاه] لمعاملته، وليعرف مقدار الربح فهو الذى أعطاه ماله واستدعى منه معاملته به، ثم أخبر [عن ما] يرجع إليه بالقرض وهو الأضعاف المضاعفة، ثم أخبر عما يعطيه فوق ذلك من الزيادة وهو الأجر الكريم. وحيث جاءَ هذا القرض فى القرآن قيده بكونه حسناً، وذلك يجمع أموراً ثلاثة: أحدها أن يكون من طيب ماله لا من رديئه وخبيثه. الثانى: أن [يخرجه] طيبة به نفسه ثابتة عند بذله ابتغاءَ مرضاة الله. الثالث: أن لا يمن به ولا يؤذى. فالأول يتعلق بالمال، والثانى يتعلق بالمنفق بينه وبين الله، والثالث بينه وبين الآخذ. وقال تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِى سَبِيلِ اللهِ كَمَثَل حَبّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سنَابِلَ فِى كُلِّ سُنْبُلَةٍ مَائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261] ، وهذه الآية كالتفسير والبيان لمقدار الأضعاف التى يضاعفها للمقرض، ومثل سبحانه بهذا المثل إحضاراً لصورة التضعيف فى الأذهان بهذه الحبة التى غيبت فى الأرض فأنبتت سبع سنابل فى كل سنبلة مائة حبة، حتى كأن القلب ينظر إلى هذا التضعيف ببصيرته كما تنظر العين إلى هذه السنابل التى من الحبة الواحدة فينضاف الشاهد العيانى الشاهد الإيمانى القرآنى فيقوى إيمان المنفق وتسخو نفسه بالإنفاق. وتأمل كيف جمع السنبلة فى هذه الآية على سنابل وهى من [مجموع] الكثرة، إذ المقام مقام تكثير وتضعيف، وجمعها على سنبلات فى قوله تعالى: {وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وأُخَرَ يَابِسَاتٍ} [يوسف: 43] ، فجاءَ بها على جمع القلة لأن السبعة قليلة ولا مقتضى للتكثير. وقوله تعالى: {وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ} [البقرة: 261] ، قيل: المعنى والله يضاعف هذه المضاعفة لمن يشاءُ لا لكل منفق بل يختص برحمته من يشاءُ، وذلك لتفاوت أحوال الإنفاق فى نفسه، [وفى صفات] المنفق وأحواله [و] فى شدة الحاجة وعظيم النفع وحسن الموقع. وقيل: والله يضاعف لمن يشاءُ فوق ذلك فلا يقتصر به على السبعمائة، بل يجاوز فى المضاعفة هذا المقدار إلى أضعاف كثيرة. واختلف فى تفسير الآية فقيل: مثل نفقة الذين ينفقون فى سبيل الله كمثل حبة. وقيل: مثل الذين ينفقون فى سبيل الله كمثل باذر حبة، ليطابق الممثل للممثل به. [فها هنا] أربعة أُمور: منفق، ونفقة، وباذر، وبذر. فذكر سبحانه من كل شق أهم قسميه، فذكر من شق الممثل المنفق إذ المقصود ذكر حاله وشأْنه، وسكت عن ذكر النفقة لدلالة اللفظ عليها. وذكر من شق الممثل به البذر إذ هو المحل الذى حصلت فيه المضاعفة، وترك ذكر الباذر لأن القرض لا يتعلق بذكره. فتأمل هذه البلاغة والفصاحة والإيجاز المتضمن لغاية البيان. وهذا كثير فى أمثال القرآن، بل عامتها ترد على هذا النمط، ثم ختم الآية بإسمين من أسمائه الحسنى مطابقين لسياقها، وهما الواسع والعليم، فلا [يستبعد] العبد هذه المضاعفة ولا يضيق عنها عطنه، فإن المضاعف [سبحانه] واسع العطاء واسع الغنى واسع الفضل، ومع ذلك فلا يظن أن سعة عطائه تقتضى حصولها لكل منفق فإنه عليم بمن تصلح له هذه المضاعفة وهو أهل لها، ومن لا يستحقها ولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 هو أهل لها، فإن كرمه [سبحانه] وفضله تعالى لا يناقض حكمته، بل يضع فضله مواضعه لسعته ورحمته، ويمنعه من ليس من [أهل] بحكمته وعلمه. ثم قال تعالى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِى سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَلا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:262] ، هذا بيان للقرض الحسن ما هو؟ وهو أن يكون فى سبيله أى فى مرضاته والطريق الموصلة إليه، ومن أنفعها سبيل الجهاد. [فسبيل] الله خاص وعام، والخاص جزءٌ من السبيل العام وأن لا يتبع صدقته بمنّ ولا أذى، فالمن نوعان: أحدهما: منّ [بقلبه] من غير أن يصرح به بلسانه، وهذا إن لم يبطل الصدقة فهو من [نقصان] شهود منة الله عليه فى إعطائه المال وحرمان غيره وتوفيقه للبذل ومنع غيره منه فللَّه المنة عليه من كل وجه، فكيف يشهد قلبه منه لغيره؟ والنوع الثانى: أن يمن عليه بلسانه [فيتعدى] على من أحسن إليه بإحسانه ويريه أنه اصطنعه وأنه أوجب عليه حقاً وطوقه منة فى عنقه فيقول: أما أعطيتك كذا وكذا؟ ويعدد أياديه عنده. قال سفيان: يقول أعطيتك فما شكرت. وقال عبد الرحمن بن [زيد] ، كان أبى يقول: إذا أعطيت رجلاً شيئاً ورأيت أن سلامك يثقل عليه فكف سلامك عنه وكانوا يقولون: إذا [اصنعتم] صنيعة فانسوها، وإذا أُسديت إليكم صنيعة فلا تنسوها. وفى ذلك قيل: وإن امرءاً أَهدى إلى ... صنيعة وذكَّرنيها مرة لبخيل وقيل: صنوان من منح سائله ومنَّ، ومن منع نائله وضنَّ وحظر الله على عباده المن بالصنيعة واختص به صفة لنفسه، لأن منَّ العباد تكدير [تعبير] ، ومنَّ الله سبحانه إفضال وتذكير، وأيضاً فإنه هو المنعم فى نفس الأَمر والعباد وسائط، فهو المنعم على عبده فى الحقيقة. وأيضاً فالامتنان استعباد وكسر وإذلال لمن يمن عليه، ولا تصلح العبودية والذل إلا لله. وأيضاً فالمنة أن يشهد المعطى أنه هو رب الفضل والإنعام، وأنه ولى النعمة ومسديها، وليس ذلك فى الحقيقة إلا الله، وأيضاً فالمانُّ بعطائه يشهد نفسه مترفعاً على الآخذ مستعلياً عليه غنياً عنه عزيزاً، ويشهد ذل الآخذ وحاجته إليه وفاقته، ولا ينبغى ذلك للعبد، وأيضاً فإن المعطى قد تولى الله ثوابه ورد عليه أضعاف ما أعطى فبقى عوض ما أعطى عند الله. فأى حق بقى له قبل الآخذ؟ فإذا امتن عليه فقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 ظلمه ظلماً بيناً، وادعى أن حقه فى قلبه. ومن هنا- والله أعلم- بطلت صدقته بالمن، فإنه لما كانت معاوضته ومعاملته مع الله، وعوض تلك الصدقة عنده، فلم يرض به ولاحظ العوض من الآخذ والمعاملة عنده فمنَّ عليه بما أعطاه أبطل معاوضته مع الله ومعاملته له. فتأمل هذه النصائح من الله لعباده، ودلالته على ربوبيته وإلهيته وحده، وأنه يبطل عمل من نازعه فى شيء من ربوبيته وإلهيته لا إله غيره ولا رب سواه ونبه بقوله: {ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَلا أَذَى} [البقرة: 262] ، على أن المنَّ والأذى ولو تراخى عن الصدقة وطال زمنه ضر بصاحبه ولم يحصل له مقصود الإنفاق، ولو أتى بالواو وقال: ولا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى، لأوهمت تقييد ذلك بالحال، وإذا كان المن والأذى المتراخى مبطلاً لأثر الإنفاق مانعاً من الثواب فالمقارن أولى وأحرى. وتأمل كيف جرد الخبر هنا عن الفاءِ فقال: {لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ} [البقرة: 262] ، وقرنه بالفاءِ فى قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلانِيَّةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ} [البقرة: 274] ، فإن الفاءَ الداخلة على خبر المبتدأ الموصول أو الموصوف تفهم معنى الشرط والجزاءِ [وأن الخبر] مستحق بما تضمنه المبتدأُ من الصلة أو الصفة، فلما كان هنا يقتضى بيان حصر المستحق للجزاءِ دون غيره جرد الخبر عن الفاءِ، فإن المعنى أن الذى ينفق ماله لله ولا يمن ولا يؤذى، هو الذى يستحق الأجر المذكور، لا الذى ينفق لغير الله [ولا من] ويمن ويؤذى بنفقته، فليس المقام مقام شرط وجزاءٍ بل مقام بيان للمستحق [من] غيره [وفى الآيه الأخرى للمستحق دون غيره] . وفى الآية الأخرى ذكر الإنفاق بالليل والنهار سراً وعلانية، فذكر عموم الأوقات وعموم الأحوال، فأتى بالفاءِ فى الخبر ليدل على أن الإنفاق فى أى وقت وجد من ليل أو نهار، وعلى [أية] حالة وجد من سر وعلانية فإنه سبب للجزاء على كل حال فليبادر إليه العبد ولا ينتظر به غير وقته وحاله، ولا يؤخر نفقة الليل إذا حضر إلى النهار ولا نفقة النهار إلى الليل، ولا ينتظر بنفقة العلانية وقت السر ولا بنفقة السر وقت العلانية، فإن نفقته فى أى وقت وعلى أى حال وجدت سبب لأجره وثوابه، فتدبر هذه الأسرار فى القرآن فلعلك لا تظفر بها تمر بك فى التفاسير، والمنة والفضل لله وحده لا شريك له. ثم قال تعالى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِن صدَقةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 وَاللهُ غَنِى حَلِيمٌ} [البقرة: 263] ، فأخبر [سبحانه] أن القول المعروف وهو الذى تعرفه القلوب ولا تنكره، والمغفرة وهى العفو عمن أساءَ إليك خير من الصدقة [المقرون] بالأذى. فالقول المعروف إحسان وصدقة بالقول، والمغفرة إحسان بترك المؤاخذة والمقابلة، فهما نوعان من أنواع الإحسان، والصدقة المقرونة بالأذى حسنة مقرونة بما يبطلها. ولا ريب أن حسنتين خير من حسنة باطلة. [ويدخل فى هذا القول المعروف الرد الجميل على السائل والعدة الحسنة والدعاء والصالح له نحو ذلك] . ويدخل فى المغفرة مغفرته للسائل إذا وجد منه بعض الجفوة والأذى بسبب رده، فيكون عفوه عنه خيراً من أن يتصدق عليه ويؤذيه هذا على المشهور من القولين فى الآية، والقول الثانى: أن المغفرة من الله، أى مغفرة لكم من الله بسبب القول المعروف والرد الجميل خير من صدقة يتبعها أذى. وفيها قول ثالث: أى مغفرة وعفو من السائل إذا رد وتعذر [المسؤول] خير من أن ينال بنفسه صدقة يتبعها أذى. وأوصح الأقوال هو الأول، ويليه الثانى، والثالث ضعيف جداً لأن الخطاب إنما هو للمنفق المسؤول لا للسائل الآخذ والمعنى أن قول المعروف له والتجاوز والعفو خير لك من أن تتصدق عليه وتؤذيه. ثم ختم الآية بصفتين [مناسبتين] لما تضمنته فقال: {وَاللهُ غَنِى حَلِيمٌ} [البقرة: 263] ، وفيه معنيان: أحدهما أن الله غنى عنكم لن يناله شيء من صدقاتكم، وإنما الحظ الأوفر لكم فى الصدقة فنفعها عائد عليكم لا إليه سبحانه وتعالى، فكيف يمنُّ بنفقته ويؤذى مع غنى الله التام عنها وعن كل ما سواه، ومع هذا فهو حليم إذ يعاجل المانّ بالعقوبة، وضمن هذا الوعيد [له] والتحذير. والمعنى الثانى: أنه سبحانه وتعالى مع غناه التام من وجه فهو الموصوف بالحلم والتجاوز والصفح، مع عطائه الواسع وصدقاته العميمة، فكيف يؤذى أحدكم بمنه وأذاه، مع قلة ما يعطى ونزارته وفقره. ثم قال الله تعالى: {يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِى يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ ولا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوًَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيءٍ مِمَّا كسَبُوا وَاللهُ لا يَهْدِى الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 264] ، تضمنت هذه الآية الإخبار بأن المن والأذى يحبط الصدقة، وهذا دليل على أن الحسنة قد تحبط بالسيئة مع قوله تعالى: {يَا أَيَّهُا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صوْتِ النَّبِى وَلا تجهروا لَهُ بِالْقَوْلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 َجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات: 2] ، وقد تقدم الكلام على هذه المسألة فى أول الرسالة فلا حاجة إلى إعادته. وقد يقال: إن المن والأذى المقارن للصدقة هو الذى يبطلها دون ما يلحقها بعدها، إلا أنه ليس فى اللفظ ما يدل على هذا التقييد والسياق يدل على إبطالها به مطلقاً. وقد يقال: تمثيله بالمرائى الذى لا يؤمن بالله واليوم الآخر يدل على أن المن والأذى المبطل هو المقارن كالرياءِ وعدم الإيمان، فإن الرياءَ لو تأخر عن العمل لم يبطله. ويجاب عن هذا بجوابين: أحدهما: أن التشبيه وقع فى الحال التى يحبط بها العمل، وهى حال المرائى والمانّ المؤذى فى أن كل واحد منهما يحبط العمل. الثانى: أن الرياءَ لا يكون إلا مقارناً للعمل، لأنه "فعال" من الرؤية التى صاحبها يعمل ليرى الناس عمله فلا يكون متراخياً، وهذا [خلاف] المن والأذى فإنه يكون مقارناً ومتراخياً، وتراخيه أكثر من مقارنته. وقوله: {كَالَّذِى يُنفِقُ إما أن يكون المعنى كإبطال الذى ينفق فيكون شبه الإبطال بالإبطال، أو المعنى لا تكونوا كالذى ينفق ماله رئاءَ الناس، فيكون تشبيها للمنفق بالمنفق. وقوله: {فَمَثَلُهُ} أى مثل هذا المنفق الذى قد بطل ثواب نفقته: {كَمَثَلَ صَفْوَانٍ} وهو الحجر الأملس، وفيه قولان: أحدهما: أنه واحد، والثانى: جمع صفوة، " عَلَيْهِ تُرَابٌ فأَصَابَهُ وابِلٌ "وهو المطر الشديد، "فَتَرَكَهُ صَلْداً" وهو الأملس الذى لا شيء عليه من نبات ولا غيره وهذا من أبلغ الأمثال وأحسنها، فإنه يتضمن تشبيه قلب هذا المنفق المرائى- الذى لم يصدر إنفاقه عن [إيمانه] واليوم الآخر- بالحجر لشدته وصلابته وعدم الانتفاع به. وتضمن تشبيه ما علق به من أثر الصدقة بالغبار الذى علق بذلك الحجر، والوابل الذى أزال ذلك التراب عن الحجر فأذهبه بالمانع الذى أبطل صدقته وأزالها كما يذهب الوابل التراب الذى على الحجر فيتركه صلداً فلا يقدر المنفق على شيء من ثوابه لبطلانه وزواله. وفيه معنى آخر: وهو أن المنفق لغير الله هو فى الظاهر عامل عملاً يرتب عليه الأجر [يزكوا] له كما تزكو الحبة التى إذا بذرت فى التراب الطيب أنبتت سبع سنابل فى كل سنبلة مائة حبة، ولكن وراءَ هذا الإنفاق مانع يمنع من نموه وزكائه كما أن تحت التراب حجراً يمنع من نبات ما يبذر من الحب فيه فلا ينبت ولا يخرج شيئاً ثم قال: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَتَثْبِيتاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَل، وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 265] . هذا مثل الذى مصدر نفقته [على] الإخلاص والصدق، فإن ابتغاءَ مرضاته سبحانه هو الإخلاص، والتثبيت من النفس هو الصدق فى البذل، فإن المنفق يعترضه عند إنفاقه آفتان إن نجا منهما كان مثله ما ذكره فى هذه الآية، إحداهما: طلبه بنفقته محمدة أو ثناءً أو غرضاً من أغراضه الدنيوية، وهذا حال أكثر المنفقين والآفة الثانية: ضعف نفسه [بالبذل وتقاعسها] وترددها، هل يفعل أم لا؟ فالآفة الأولى تزول بابتغاءِ مرضاة الله، والآفة الثانية تزول بالتثبيت فإن تثبيت النفس تشجيعها وتقويتها والإقدام بها على البذل. وهذا هو صدقها، وطلب مرضاة الله إرادة وجهه وحده وهذا إخلاصها، فإذا كان مصدر الإنفاق عن ذلك كان مثله كجنة- وهى البستان الكثير الأشجار- فهو مجتنّ بها أى مستتر ليس قاعاً فارغاً. والجنة بربوة- وهو المكان المرتفع-[لأنها] أكمل من الجنة التى بالوهاد والحضيض، لأنها إذا ارتفعت كانت بمدرجة [الأهوية] والرياح، وكانت ضاحية للشمس وقت طلوعها واستوائها وغروبها، فكانت أنضج ثمراً وأطيبه وأحسنه وأكثره، فإن الثمار تزداد طيباً وزكاءَ بالرياح والشمس، بخلاف الثمار التى تنشأُ فى الظلال، وإذا كانت الجنة بمكان مرتفع لم يخش عليها إلا من قلة [الشرب] فقال تعالى: {أصابَها وَابِلٌ} [البقرة: 265] ، وهو المطر الشديد العظيم القدر فأدت ثمرتها وأعطت بركتها فأخرجت [ثمرتها] ضعفى ما يثمر غيرها أو ضعفى ما كانت تثمر بسبب ذلك الوابل، فهذا حال السابقين المقربين: {فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَل} [البقرة: 265] ، فهو دون الوابل، فهو يكفيها لكرم منبتها وطيب مغرسها فتكتفى فى إخراج بركتها بالطل، وهذا حال الأبرار المقتصدين فى النفقة وهم درجات عند الله، فأصحاب الوابل أعلاهم درجة، وهم الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، وأصحاب الطل مقتصدوهم. فمثَّل حال القسمين وأعمالهم بالجنة على الربوة ونفقتهم الكثيرة [والقليلة] بالوابل والطل، وكما أن كل واحد من المطرين يوجب زكاءَ [أو] ثمر الجنة ونحوه بالأضعاف، فكذلك نفقتهم كثيرة أو قليلة بعد أن صدرت عن ابتغاءِ مرضاة الله والتثبيت من نفوسهم فهى زاكية عند الله نامية مضاعفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 واختلف فى الضعفين، فقيل: ضعفا الشيء مثلاه زائداً عليه وضعفه مثله، وقيل: ضعفه مثلاه [ضعفاء] ثلاثة أمثاله، وثلاثة أضعافه أربعة أمثاله كلما زاد ضعفاً زاد مثلاً. والذى حمل هذا القائل [على] ذلك فراره من استواءِ دلالة المفرد والتثنية، فإنه رأى ضعف الشيء هو مثله الزائد عليه، فإذا [ضم] إلى المثل صار مثلين، وهما الضعف. فلو قيل: لها ضعفان لم يكن فرق بين المفرد والمثنى، فالضعفان عنده مثلان مضافان إلى الأصل، ويلزم من هذا أن يكون ثلاثة أضعافه أمثال مضافة إلى الأصل [هكذا ابداً والصواب أن الضعفين هى المثلان فقط الأصل ومثله] . وعليه يدل قوله تعالى: {فآتَتْ أُكُلهَا ضِعْفَيْنِ} [البقرة: 265] ، أى مثلين، وقوله تعالى: {يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 30] ، أى مثلين، ولهذا قال فى الحسنات: {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب: 31] ، وأما ما توهموه من استواءِ دلالة المفرد والتثنية فوهم منشؤه ظن أن الضعف هو المثل مع الأصل وليس كذلك، بل المثل له اعتباران: إن اعتبر وحده فهو ضعف، وإن اعتبر مع نظيره فهما ضعفان. والله أعلم. واختلف فى رافع قوله: "فَطَل" فقيل: هو مبتدأٌ خبره محذوف أى وطله يكفيها، وقيل: فى "أصَابَهَا" إما أن يرجع إلى الجنة أو إلى الربوة وهما متلازمان. ثم قال تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُم أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فأَصَابَها إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [البقرة: 266] ، قال الحسن: هذا مثلٌ قلَّ والله من يعقله من الناس، شيخ كبير ضعف جسمه وكثر صبيانه أفقر ما كان إلى جنته، وإن أحدكم والله أفقر ما يكون إلى عمله إذا انقطعت عنه الدنيا. وفى صحيح البخارى عن عبيد بن عمير قال: سأل عمر يوماً أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم: فيم هم يرون هذه الآيات نزلت: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّنْ نَخِيلٍ} [البقرة: 266] الآية؟ قالوا: الله أعلم، فغضب عمر فقال: قولوا نعلم أو لا نعلم، فقال ابن عباس: فى نفسى منها شيء يا أمير المؤمنين، فقال عمر: قم يا ابن أخى ولا تحقر بنفسك. قال ابن عباس: ضربت مثلاً لعمل. قال عمر: أى عمل؟ قال ابن عباس: لعمل. قال عمر: لرجل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 عمل بطاعة الله، ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصى حتى أغرق أعماله. فقوله تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ} أخرجه مخرج الاستفهام الإنكارى، وهو أبلغ من النفى والنهى وألطف موقعاً، كما ترى غيرك يفعل فعلاً قبيحاً فنقول: لا يفعل هذا عاقل، لا يفعل هذا من يخاف الله والدار الآخرة. وقال تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ} بلفظ الواحد لتضمنه معنى الإنكار العام، كما تقول يفعل هذا أحد فيه خير؟ وهو أبلغ فى الإنكار من أن يقول أيودون. وقوله: "أَيَوَدُّ" أبلغ فى الإنكار من لو قيل: أَيريد، لأن محبة هذا الحال المذكورة وتمنيها أقبح وأنكر من مجرد إرادتها. وقوله تعالى: {أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} خص هذين النوعين من الثمار بالذكر لأنهما أشرف أنواع الثمار وأكثرها نفعاً، فإن منهما القوت والغذاءَ والدواءَ والشراب والفاكهة والحلو والحامض، ويؤكلان رطباً ويابساً، ومنافعهما كثيرة جداً. وقد اختلف فى الأنفع والأفضل منهما فرجحت طائفة النخيل، ورجحت طائفة العنب وذكرت كل طائفة حججاً لقولها، فذكرناها فى غير هذا الموضع وفصل الخطاب أن هذا يختلف باختلاف البلاد، فإن الله سبحانه وتعالى أجرى العادة بأن سلطان أحدهما لا يحل حيث يحل سلطان الآخر، فالأرض التى يكون فيها سلطان النخيل لا يكون العنب بها طائلاً ولا كثيراً، لأنه إنما يخرج فى الأرض الرخوة اللينة المعتدلة غير السبخة فينمو فيها فيكثر، وأما النخيل فنموه وكثرته فى الأرض الحارة السبخة، وهى لا تناسب العنب، فالنخل فى أرضه وموضعه أنفع وأفضل من العنب فيها، والعنب فى أرضه ومعدنه أفضل من النخل فيها. والله أعلم. والمقصود أن هذين النوعين هما أفضل أنواع الثمار وأكرمها، فالجنة المشتملة عليهما من أفضل الجنان، ومع هذا فالأنهار تجرى تحت هذه الجنة، وذلك أكمل لها وأعظم فى قدرها، ومع ذلك فلم تعدم شيئاً من أنواع الثمار المشتهاة بل فيها من كل الثمرات، ولكن معظمها ومقصودها النخيل والأعناب، فلا تنافى بين كونها من نخيل وأعناب، و {فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [البقرة: 266] ، ونظير هذا قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً} [الكهف: 32] إلى قوله تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ} [الكهف: 34] ، وقد قيل: إن الثمار [هنا] وفى آية [البقرة: 266] المراد بها المنافع والأموال، والسياق يدل على أنها الثمار المعروفة لا غيرها، لقوله هنا: {لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [البقرة: 266] ، ثم قال تعالى: "فأَصَابَهَا "أى الجنة "إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ"، وفى [الكهف] : {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِى خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [الكهف: 42] ، وما ذلك إلا ثمار الجنة. ثم قال تعالى: {وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ} هذا إشارة إلى شدة حاجته إلى جنته، وتعلق قلبه بها من وجوه، أحدها: أنه قد كبر سنه عن الكسب والتجارة ونحوها، الثانى: أن ابن آدم عند كبر سنه يشتد حرصه، الثالث: أن له ذرية فهو حريص على بقاءِ جنته لحاجته وحاجة ذريته، الرابع: أنهم ضعفاءُ فهم كل عليه لا ينفعونه بقوتهم وتصرفهم، الخامس: أن نفقتهم عليه، لضعفهم وعجزهم، [وهذه] نهاية ما يكون من تعلق القلب بهذه الجنة: لخطرها فى نفسها وشدة حاجته وذريته إليها. فإذا تصورت هذه الحال وهذه الحاجة فكيف تكون مصيبة هذا الرجل إذا أصاب جنته إعصار- وهى الريح التى تستدير فى الأرض ثم ترتفع فى طبقات الجو كالعمود- وفيه نار مرت بتلك الجنة فأحرقتها وصيرتها رمادا ً، فصدق والله الحسن- هذا مثلٌ قلَّ من يعقله من الناس- ولهذا نبه سبحانه وتعالى على عظم هذا المثل، وحدا القلوب إلى التفكر فيه لشدة حاجتها إليه فقال تعالى: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [البقرة: 266] ، فلو فكر العاقل فى هذا المثل وجعله قبلة قلبه لكفاه وشفاه، فهكذا العبد إذا عمل بطاعة الله ثم أتبعها بما يبطلها ويفرقها من معاصى الله كانت كالإعصار ذى النار المحرق للجنة التى غرسها بطاعته وعمله الصالح، ولولا أن هذه المواضع أهم مما كلامنا بصدده- من ذكر مجرد الطبقات- لم نذكرها، ولكنها من أهم المهم، والله المستعان الموفق لمرضاته. فلو تصور العامل بمعصية الله بعد طاعته هذا المعنى حق تصوره وتأمله كما ينبغى لما سولت له نفسه والله إحراق أعماله الصالحة وإضاعتها، ولكن لا بد أن يغيب عنه علمه [بذلك] عند المعصية، ولهذا استحق اسم الجهل فكل من عصى الله فهو جاهل. فإن قيل: الواو فى قوله تعالى: "وَأصَابَهُ الْكِبَرُ "واو الحال، أم واو العطف؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 وإذا كانت للعطف فعلام عطفت ما بعدها؟ قلت فيه وجهان: أحدهما: أنه واو الحال اختاره الزمخشرى، والمعنى: أيود أحدكم أن تكون له جنة شأْنها كذا وكذا فى حال كبره وضعف ذريته. والثانى: أن تكون للعطف على المعنى، فإن فعل التمنى وهو قوله: "أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ "لطلب الماضى كثيراً، فكان المعنى: أيود لو كانت له جنة من نخيل وأعناب وأصابه الكبر فجرى عليها ما ذكر. وتأمل كيف ضرب سبحانه المثل للمنفق المرائى- الذى لم [يصدد] إنفاقه عن الإيمان- بالصفوان الذى عليه التراب، فإنه لم ينبت شيئاً أصلا، بل ذهب [بذره] ضائعاً، لعدم إيمانه وإخلاصه. ثم ضرب المثل لمن عمل بطاعة الله مخلصاً بنيته لله ثم عرض له ما أبطل ثوابه بالجنة التى هى من أحسن الجنان وأطيبها [وأزهارها] ، ثم سلط عليها الإعصار النارى [فأحرقها] ، فإن هذا نبت له شيء وأثمر له عمله ثم احترق، والأول لم يحصل له شيء يدركه الحريق. فتبارك من جعل كلامه حياة للقلوب وشفاءً للصدور وهدى ورحمة، ثم قال: {يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسِبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267] ، أضاف سبحانه الكسب إليهم وإن كان هو الخالق لأفعالهم، لأنه فعلهم القائم بهم، وأسند الإخراج إليه لأنه ليس فعلاً لهم، ولا هو مقدور لهم، فأضاف مقدورهم إليهم وأضاف مفعوله الذى لا قدرة لهم عليه إليه، ففى ضمنه الرد على من سوَّى بين النوعين وسلب قدرة العبد وفعله وتأْثيره عنها بالكلية. وخص سبحانه هذين النوعين- وهما الخارج من الأرض والحاصل بكسب التجارة دون غيرهما من المواشى- إما بحسب الواقع فإنهما كانا أغلب أموال القوم إذ ذاك، فإن المهاجرين كانوا أصحاب تجارة وكسب والأنصار كانوا أصحاب حرث وزرع، فخص هذين النوعين بالذكر لحاجتهم إلى بيان حكمهما وعموم وجودهما، وإما لأنهما أُصول الأموال وما عداهما فعنهما يكون ومنهما ينشأُ، فإن الكسب تدخل فيه التجارات كلها على اختلاف أصنافها وأنواعها من الملابس والمطاعم والرقيق والحيوانات والآلات والأمتعة وسائر ما تتعلق به التجارة والخارج من الأرض يتناول حبها وثمارها وركازها ومعدنها، وهذان هما أصول الأموال وأغلبها على أهل الأرض فكان ذكرهما أهم، ثم قال: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267] ، فنهى سبحانه عن قصد إخراج الرديء [كما هو عادة أكثر النفوس تمسك الجيد لها وتخرج الرديء] للفقير، ونهيه سبحانه عن قصد ذلك وتيممه فيه ما يشبه العذر لمن فعل ذلك لا عن قصد وتيمم بل [إما] عن اتفاق، إذا كان هو الحاضر إذ ذاك أو كان ماله من جنسه، فإن هذا لم يتيمم الخبيث بل تيمم إخراج بعض ما منَّ الله عليه، وموقع قوله: {مِنْهُ تُنْفِقُونَ موقع الحال، أى لا تقصدوه منفقين منه. ثم قال [تعالى] : {وَلَسْتُمْ بِآخذِيهِ إِلا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ} [البقرة: 267] ، أى لو كنتم أنتم المستحقين له وبذل لكم لم تأخذوه فى حقوقكم إلا بأن تتسامحوا فى أخذه وتترخصوا فيه، من قولهم: أغمض فلان عن بعض حقه، ويقال للبائع: أغمض- أى لا تستقص- كأَنك لا تبصر وحقيقته من إغماض الجفن فكأَن الرائى لكراهته له لا يملأُ عينه منه بل يغمض من بصره ويغمض عنه بعض نظره بغضاً، ومنه قول الشاعر: لم يفتنا بالوتر قوم وللضي م رجال يرضون بالإغماض وفيه معنيان: أحدهما كيف تبذلون لله وتهدون له ما لا ترضون ببذله لكم ولا يرضى أحدكم من صاحبه أن يهديه له، والله أحق من يخير له [خيار] الأشياءِ وأنفسها؟ والثانى كيف تجعلون له ما تكرهون لأنفسكم وهو سبحانه طيب لا يقبل إلا طيباً؟ ثم ختم الآيتين بصفتين يقتضيهما سياقهما فقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِى حَمِيدٌ} [البقرة: 267] فغناه وحمده يأْبى قبول الرديء، فإن قابل الرديء الخبيث إما أن يقبله لحاجته إليه، وإما أن نفسه لا تأْباه لعدم كمالها وشرفها، وأما الغنى عنه الشريف القدر الكامل الأَوصاف فإنه لا يقبله. ثم قال تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيأْمُرُكُمْ بِالْفَحَشَاءِ وَاللهِ يَعِدُكُمْ مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 268] هذه الآية تتضمن الحض على الإنفاق والحث عليه بأبلغ الألفاظ وأحسن المعانى، فإنها اشتملت على بيان الداعى إلى البخل والداعى إلى البذل والإنفاق، وبيان ما يدعوه إليه داعى البخل وما يدعو إليه داعى الإنفاق وبيان ما يدعو به داعى الأمرين. فأخبر سبحانه أن الذى يدعوهم إلى البخل والشح هو الشيطان، وأخبر أن دعوته هى بما يعدهم به ويخوفهم من الفقر إن أنفقوا أموالهم، وهذا هو الداعى الغالب على الخلق، فإنه يهم بالصدقة والبذل فيجد فى قلبه داعياً يقول له: متى أخرجت هذا دعتك الحاجة إليه وافتقرت إليه بعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 إخراجه، وإمساكه خير لك حتى لا تبقى مثل الفقير، فغناك خير لك من غناه. فإذا صور له هذه الصورة أمره بالفحشاء وهى البخل الذى هو من أقبح الفواحش. وهذا إجماع من المفسرين أن الفحشاء هنا البخل، فهذا وعده وهذا أمره، وهو الكاذب فى وعده، الغارّ الفاجر فى أمره. [فالمستجيب] لدعوته مغرور مخدوع مغبون، فإنه يدلى من يدعوه بغروره، ثم يورده شر الموارد. كما قال: دلاهم بغُرور ثم أوردهم ... إن الخبيث لمن والاه غرّار هذا وإن وعده له الفقر ليس شفقة عليه ولا نصيحة له كما ينصح الرجل أخاه، ولا محبة فى بقائه غنياً، بل لا شيء أحب إليه من فقره وحاجته، وإنما وعده له بالفقر وأَمره إياه بالبخل ليسيء ظنه بربه ويترك ما يحبه من الإنفاق لوجهه فيستوجب منه الحرمان. وأما الله سبحانه فإنه يعد عبده مغفرة منه لذنوبه، وفضلاً بأن يخلف عليه أكثر مما أنفق وأضعافه إما فى الدنيا أو فى الدنيا والآخرة، فهذا وعد الله وذاك وعد الشيطان فلينظر البخيل والمنفق أى الوعدين هو أوثق وإلى أيهما يطمئن قلبه وتسكن نفسه؟ والله يوفق من يشاءُ ويخذل من يشاءُ وهو الواسع العليم. وتأمل كيف ختم هذه الآية بهذين الاسمين، فإنه واسع العطاء عليم بمن يستحق فضله ومن يستحق عدله، فيعطى هذا بفضله ويمنع هذا بعدله وهو بكل شيء عليم. فتأمل هذه الآيات ولا تستطل بسط الكلام فيها، فإن لها شأْناً لا يعقله إلا من عقل عن الله خطابه وفهم مراده: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43] . وتأمل ختم هذه السورة التى هى سنام القرآن بأحكام الأموال وأَقسام الأغنياء وأحوالهم، وكيف قسمهم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: محسن وهم "المتصدقون"، فذكر جزاءَهم ومضاعفته وما لهم فى قرض أموالهم للمليء الوفى، ثم حذرهم مما يبطل ثواب صدقاتهم ويحرقها بعد استوائها وكمالها من المن والأذى، وحذرهم مما يمنع ترتب أثرها عليها ابتداءً من الرياءِ، ثم أمرهم أن يتقربوا إليه بأَطيبها ولا يتيمموا أَردأَها وخبيثها، ثم حذرهم من الاستجابة لداعى البخل والفحش وأخبر أن استجابتهم لدعوته وثقتهم بوعده أولى بهم، وأخبر أن هذا من حكمته التى يؤتيها من يشاءُ من عباده، وأن من أُوتيها فقد أُوتى خيراً كثيراً: أُوتى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 ما هو خير وأفضل من الدنيا كلها، لأنه سبحانه وصف الدنيا بالقلة فقال تعالى: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} [النساء: 77] ، وقال تعالى: {ومَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِى خَيْراً كَثِيراً} [البقرة: 269] . فدل على أن ما يؤتيه عبده من حكمته خير من الدنيا وما عليها ولا يعقل هذا كل أحد بل لا يعقله إلا من له لب وعقل زكى، فقال تعالى: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [البقرة: 269] ، ثم أخبر أن كل ما أنفقوه من نفقة أو تقربوا به إليه من نذر فإنه يعلمه، فلا يضيع لديه، بل يعلم ما كان لوجهه، ويكل جزاءَ من عمل لغيره إلى من عمل له، فإنه ظالم لنفسه وما له من نصير، ثم أخبر سبحانه عن أحوال المتصدقين لوجهه فى صدقاتهم، وأنه يثيبهم عليها إن أبدوها أو كتموها بعد أن تكون خالصة لوجهه فقال: {إِن تُبْدُوا الصِّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِى} [البقرة: 271] أى فنعم شيء هى، وهذا مدح لها موصوفة بكونها ظاهرة بادية، فلا يتوهم مبديها بطلان أَثره وثوابه فيمنعه ذلك من إخراجها وينتظر بها الإخفاءَ فتفوت أو تعترضه الموانع ويحال بينه وبين قلبه أو بينه وبين إخراجها، فلا يؤخر صدقة العلانية بعد حضور وقتها إلى وقت السر، وهذه كانت حال الصحابة. ثم قال: {وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271] ، فأخبر أن إعطاءَها للفقير فى خفية خير للمنفق من إظهارها وإعلانها. وتأمل تقييده تعالى الإخفاءَ بإيتاءِ الفقراءِ خاصة ولم يقل: وإن تحفوها فهو خير لكم، فإن من الصدقة ما لا يمكن إخفاؤه كتجهيز جيش وبناءِ قنطرة وإجراءِ نهر أو غير ذلك، وأما إيتاؤها الفقراء ففى إخفائها من الفوائد الستر عليه وعدم تخجيله بين الناس وإقامته مقام الفضيحة، وأن يرى الناس أن يده هى اليد السفلى وأنه [فقير] لا شيء له فيزهدون فى معاملته ومعاوضته، وهذا قدر زائد من الإحسان إليه بمجرد الصدقة مع تضمنه الإخلاص وعدم المراءَاة وطلبهم المحمدة من الناس، وكان إخفاؤها للفقير خيراً من إِظهارها بين الناس، ومن هذا مدح النبى صلى الله عليه وسلم صدقة السر وأثنى على فاعلها وأخبر أنه أحد السبعة الذين هم فى ظل عرش الرحمن يوم القيامة. ولهذا جعله سبحانه خيراً للمنفق وأخبر أنه يكفر عنه بذلك الإنفاق من سيئاته، ولا يخفى عليه سبحانه أعمالكم ولا نياتكم، فإنه بما تعملون خبير، ثم أخبر أن هذا الإنفاق إنما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 نفعه لأنفاسهم يعود عليهم أحوج ما كانوا إليه، فكيف يبخل أحدكم عن نفسه بما نفعه مختص بها عائد إليها. وإن نفقة المؤمنين إنما تكون ابتغاءَ وجهه خالصاً لأنها صادرة عن إيمانهم، وأن نفقتهم ترجع إليهم وافية كاملة، ولا يظلم منها مثال ذرة. وصدر هذا الكلام بأن الله [سبحانه] هو الهادى الموفق لمعاملته وإيثار مرضاته، وأنه ليس على رسوله هداهم، بل عليه إبلاغهم، وهو سبحانه الذى يوفق من يشاءُ لمرضاته. ثم ذكر [سبحانه] المصرف الذى توضع فيه الصدقة فقال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينِ أُحْصِرُوا فِى سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِى الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} [البقرة: 273] ، فوصفهم بست صفات: إحداها: الفقر، الثانية: حبسهم أنفسهم فى سبيله تعالى وجهاد أعدائه ونصر دينه، وأصل الحصر المنع، فمنعوا أنفسهم من تصرفها فى أشغال الدنيا، وقصروها على بذلها لله فى سبيله، الثالثة: عجزهم عن الأسفار للتكسب، والضرب فى الأرض هو السفر، قال تعالى: {عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِى الأَرْضِ يَبْتبَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ} [المزمل: 20] ، وقال تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِى الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء: 101] ، الرابعة: شدة تعففهم، وهو حسن صبرهم، وإظهارهم الغنى حتى يحسبهم الجاهل أغنياءَ من تعففهم وعدم تعرضهم وكتمانهم حاجتهم، الخامسة: أنهم يعرفون بسيماهم، وهى العلامة الدالة على حالتهم التى [وصفهم] الله بها، وهذا لا ينافى حسبان الجاهل أنهم أغنياءُ لأن الجاهل له ظاهر الأمر، والعارف هو المتوسم المتفرس الذى يعرف الناس بسيماهم [ولهذا وصف الجاهل أغنياء وقال يعرفهم بسيماهم] ، فالمتوسمون خواص المؤمنين كما قال تعالى: {إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر: 75] ، السادسة: تركهم مسألة الناس فلا يسألونهم [شيئاً] والإلحاف هو الإلحاح والنفى متسلط عليهما معاً، أى لا يسألون ولا يلحفون، فليس يقع منهم سؤال يكون بسببه إلحاف. وهذا كقوله: "على لا حبٍ لا يهتدى لمناره" أى ليس فيه منار فيهتدى به، وفيه كالتنبيه على أن المذموم من السؤال هو سؤال الإلحاف، فأما السؤال بقدر الضرورة من غير إلحاف فالأفضل تركه ولا يحرم. فهذه ستة صفات للمستحقين للصدقة، فألغاها أكثر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 الناس ولحظوا منها ظاهر الفقر وزيه من غير حقيقته، وأما سائر الصفات المذكورة فعزيز أهلها، ومن يعرفهم أعز، والله يختص بتوفيقه من يشاءُ. فهؤلاء هم المحسنون فى أموالهم. القسم الثانى: "الظالمون"، وهم ضد هؤلاءِ الذين يذبحون المحتاج المضطر، فإذا دعته الحاجة إليهم لم ينفسوا كربته إلا بزيادة على ما يبذلونه له وهم أهل الربا. فذكرهم تعالى بعد هذا فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِى مِنَ الرِّبَا إِن كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278] ، فصدَّر الاية بالأمر بتقواه المضادة للربا وأمر بترك ما بقى من الربا بعد نزول الآية وعفا لهم عما قبضوه به قبل التحريم، ولولا ذلك لردوا ما قبضوه به قبل التحريم، وعلق هذا الامتثال على وجود الإيمان منهم والمعلق على شرط منتف عند انتفائه. ثم أكد عليهم التحريم بأغلظ شيء وأشده، وهى محاربة المرابى لله ورسوله فقال تعالى: {فَإِن لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 279] ففى ضمن هذا الوعيد أن المرابى محارب لله ورسوله، قد آذنه الله بحربه، ولم يجيء هذا الوعيد فى كبيرة سوى الربا وقطع الطريق والسعى فى الأرض بالفساد، لأن كل واحد منهما مفسد فى الأرض، قاطع الطريق على الناس، هذا بقهره لهم وتسليطه عليهم، وهذا بامتناعه من تفريج كرباتهم إلا بتحميلهم كربات أشد منها. فأخبر عن قطاع الطريق بأنهم يحاربون الله ورسوله وآذن هؤلاءِ إن لم يتركوا الربا بحربه وحرب رسوله، ثم قال: {وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ} [البقرة: 279] يعنى إن تركتم الربا وتبتم إلى الله منه وقد عاقدتهم عليه، [فإنما] لكم رؤُوس أموالكم، لا تزدادون عليها فتظلمون الآخذ، ولا تنقصون منها فيظلمكم من أخذها. فإن كان هذا القابض معسراً فالواجب إنظاره إلى ميسرة، وإن تصدقتم عليه وأبرأْتموه فهو أفضل لكم وخير لكم، فإن أبت نفوسكم وشحت بالعدل والواجب أو الفضل المندوب فذكروها يوماً ترجعون فيه إلى الله وتلقون ربكم فيوفيكم جزاءَ أعمالكم أحوج ما أنتم إليه، فذكر سبحانه المحسن وهو المتصدق ثم عقبه [بالظالم] وهو المرابى. ثم ذكر "العادل" فى آية التداين فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} [البقرة: 282] الآية، ولولا أن هذه الآية تستدعى سفراً وحدها لذكرت بعض تفسيرها. والغرض إنما هو التنبيه والإشارة، وقد ذكر أيضاً العادل، وهو آخذ رأْس ماله من غريمه لا بزيادة ولا نقصان، ثم ختم السورة بهذه الخاتمة العظيمة التى هى من كنز تحت عرشه، والشيطان يفر من البيت الذى تقرأُ فيه، وفيها من العلوم والمعارف وقواعد الإسلام وأصول الإيمان ومقامات الإحسان ما يستدعى بيانه كتاباً مفرداً. والمقصود ذكر طبقات الخلائق فى الدر الآخرة، ولنعد إلى المقصود، فإن هذا من سعى القلم، ولعله أهم مما نحن بصدده: فهذه الطبقات الأربع من طبقات الأمة هم أهل الإحسان والنفع المتعدى وهم العلماءُ، وأئمة العدل، وأهل الجهاد، وأهل الصدقة وبذل الأَموال فى مرضاة الله، فهؤلاء ملوك الآخرة، وصحائف حسناتهم متزايدة، تملى فيها الحسنات وهم فى بطون الأرض، ما دامت آثارهم فى الدنيا فيا لها من نعمة ما أجلها، وكرامة ما أعظمها، يختص الله بها من يشاءُ من عباده. الطبقة الثامنة: طبقة من فتح الله له باباً من أبواب الخير القاصر على نفسه كالصلاة والحج، والعمرة، وقراءة القرآن، والصوم والاعتكاف، والذكر ونحوها، مضافاً إلى أداءِ فرائض الله عليه فهو جاهد فى تكثير حسناته، وإملاءِ صحيفته، وإذا عمل خطيئته تاب إلى الله منها. فهذا على خير عظيم، وله ثواب أمثاله من أعمال الآخرة. ولكن ليس له إلا علمه، فإذا مات طويت صحيفته [بموته] فهذه طبقة أهل الربح والحظوة أيضاً عند الله. الطبقة التاسعة: طبقة أهل النجاة، وهى طبقة من يؤدى فرائض الله ويترك محارم الله، مقتصراً عل ذلك لا يزيد عليه ولا ينقص منه. فلا يتعدى إلى ما حرم الله عليه، ولا يزيد على ما فرض عليه. هذا من المفلحين بضمان رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن أخبره بشرائع الإسلام فقال: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه؛ فقال صلى الله عليه وسلم: "أفلح إن صدق "، وأصحاب هذه الطبقة مضمون لهم على الله تكفير سيئاتهم، إذا أدوا فرائضه واجتنبوا كبائر ما نهاهم عنه. قال تعالى: {إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تَنْهُونَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً} [النساء: 31] . وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 "الصلوات الخمس ورمضان إلى رمضان والجمعة إلى الجمعة مكفرات لما بينهن ما لم تغش كبيرة"، فإن غشى أهل هذه الطبقة كبيرة وتابوا منها توبة نصوحاً لم يخرجوا من طبقتهم [وكانوا] بمنزلة من لا ذنب له. فتكفير الصغائر يقع بشيئين: أحدهما: الحسنات الماحية، والثانى: اجتناب الكبائر. وقد نص عليها سبحانه وتعالى فى كتابه فقال تعالى: {وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِى النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِن الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] ، وقال تعالى: {إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنهُونَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31] . الطبقة العاشرة: طبقة قوم أسرفوا على أنفسهم، وغشوا كبائر ما نهى الله عنه ولكن رزقهم الله التوبة النصوح قبل الموت، فماتوا على توبة صحيحة. فهؤلاءِ [ناجون من عذاب الله إما قطعا عند قوم وإما ظنا ورجاء عند آخرين وهم] موكولون إلى المشيئة، ولكن نصوص القرآن والسنة تدل على نجاتهم وقبول توبتهم، وهو وعد وعدهم الله إياه، والله لا يخلف الميعاد. فإن قيل: فما الفرق بين أهل هذه الطبقة والتى قبلها؟ فإن الله إذا كفر عنهم سيئاتهم، وأثبت لهم بكل سيئة حسنة كانوا كمن قبلهم أو أرجح؟ قيل: قد تقدم الكلام على هذه المسألة بما فيه كفاية، فعليك بمعاودته هناك. وكيف يستوى عند الله من أنفق عمره فى طاعته ولم يغش كبيرة، ومن لم يدع كبيرة إلا ارتكبها وفرط فى أوامره، ثم تاب؟ فهذا غايته أن تمحى سيئاته ويكون لا له ولا عليه. وأما أن يكون هو ومن قبله سواءً أو أرجح منه فكلا. الطبقة الحادية عشرة: طبقة أقوام خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً: فعملوا حسنات وكبائر، ولقوا الله مصرّين عليها غير تائبين منها، لكن حسناتهم أغلب من سيئاتهم، فإذا وزنت بها رجحت كفة الحسنات، فهؤلاءِ أيضاً ناجون فائزون قال تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَق فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الذِينَ خَسِرُوا أنفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُون} [الأعراف: 8- 9] . قال حذيفة وعبد الله بن مسعود وغيرهما من الصحابة: يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف: فمن رجحت حسناته على سيئاته بواحدة دخل الجنة، ومن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 رجحت سيئاته على حسناته بواحدة دخل النار، ومن استوت حسناته وسيئاته فهو من أهل الأعراف. وهذه الموازنة تكون بعد [القصاص] ، واستيفاءِ المظلومين حقوقهم من حسناته، فإذا بقى شيء منها وزن هو وسيئاته. ولكن هنا مسألة، وهى: إذا وزنت السيئات بالحسنات فرجحت الحسنات، هل يلغى المرجوح جملة ويصير الأثر للراجح فيثاب على حسناته كلها، أو يسقط من الحسنات ما قابلها من السيئات المرجوحة ويبقى التأْثير للرجحان فيثاب عليه وحده؟ فيه قولان: هذا عند من يقول بالموازنة والحكمة، وأما من ينفى ذلك فلا عبرة عنده بهذا، وإنما هو موكول إلى محض المشيئة، وعلى القول الأول فيذهب أثر السيئات جملة بالحسنات الراجحة، وعلى القول الثانى يكون تأْثيرها فى نقصان ثوابه لا فى حصول العقاب له، ويترجح هذا القول الثانى بأن السيئات لو لم تحبط ما قبلها من الحسنات، وكان العمل والتأْثير للحسنات كلها لم يكن فرق بين وجودها وعدمها، ولكان لا فرق بين المحسن الذى محض عمله حسنات، وبين من خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً. وقد يجاب عن هذا بأنها أثرت فى نقصان ثوابه ولا بد، فإنه لو اشتغل فى زمن إيقاعها بالحسنات لكان أرفع لدرجته وأعظم لثوابه، وإذا كان كذلك فقد ترجح القول الأول بأن الحسنات لما غلبت السيئات ضعف تأْثير المغلوب المرجوح وصار الحكم للغالب دونه لاستهلاكه فى جنبه كما يستهلك يسير النجاسة فى الماءِ الكثير والماءُ إذا بلغ [قلتين] لم يحمل الخبث"، والله أعلم. الطبقة الثانية عشر: قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم، فتقابل أثراهما [فتقاوما] فمنعتهم حسناتهم المساوية من دخول النار وسيئاتهم المساوية من دخول الجنة. فهؤلاء هم أهل أهل [الأعراف] ، لم يفضل لأحدهم حسنة يستحق بها الرحمة من ربه، ولم يفضل عليه سيئة يستحق بها العذاب. وقد وصف الله سبحانه وتعالى أهل هذه الطبقة فى سورة الأعراف- بعد أن ذكر دخول أهل النار وتلاعنهم فيها ومخاطبة أتباعهم لرؤسائهم وردهم عليهم، ثم مناداة أهل الجنة أهل النار- فقال تعالى: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلا بِسِيمَاهُمْ، وَنَادوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمَ يَطْمَعُونَ وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأعراف: 46- 47] ، فقوله تعالى: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ} [الأعراف: 46] أى بين أهل الجنة والنار حجاب، قيل: [هو] السور الذى يضرب بينهم له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب: باطنه الذى يلى المؤمنين فيه الرحمة، وظاهره الذى يلى الكفار من [جهته] العذاب. والأعراف جمع عرف وهو المكان المرتفع، وهو سور عال بين الجنة والنار [قيل: هو هذا السور الذى يضرب بينهم وقيل جبال بينم الجنة والنار] عليه أهل الأعراف. قال حذيفة وعبد الله بن عباس: هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، فقصرت بهم سيئاتهم عن الجنة، وتجاوزت بهم حسناتهم عن النار، فوقفوا هناك حتى يقضى الله فيهم ما يشاءُ ثم يدخلهم الجنة بفضل رحمته. قال عبد الله بن المبارك: أخبرنا أبو بكر الهذلى قال: كان سعيد بن جبير يحدث عن ابن مسعود قال: يحاسب الله الناس يوم القيامة، فمن كانت حسناته أكثر من سيئاته بواحدة دخل الجنة، ومن كانت سيئاته أكثر [من حسناته بواحده] بواحدة دخل النار، ثم قرأ قوله تعالى: {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ} [الأعراف: 8- 9] ، ثم قال: إن الميزان يخف بمثقال حبة أو يرجح. قال: ومن استوت حسناته وسيئاته كان من أصحاب الأعراف. فوقفوا على الصراط ثم عرفوا أهل الجنة وأهل النار، فإذا نظروا إلى أهل الجنة نادوا: سلام عليكم، وإذا صرفوا أبصارهم إلى أصحاب النار قالوا: {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِين} [الأعراف: 47] ، فأما أصحاب الحسنات فإنهم يعطون نوراً يمشون به بين أيديهم وبأيمانهم ويعطى كل عبد يومئذ نوراً، فإذا أتوا على الصراط سلب الله تعالى نور كل منافق ومنافقة، فلما رأى أهل الجنة ما لقى المنافقون قالوا: {رَبَّنَا أَتمِمْ لَنَا نُورَنَا} [التحريم: 8] ، وأما أصحاب الأعراف فإن النور لم ينزع من أيديهم [ومنعتهم سيئاتهم أن يمضوا وبقى فى قلوبهم الطمع إذا لم يزغ النور من أيديهم] فيقول الله: {لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} [الأعراف: 46] ، فكان الطمع للنور الذى فى أيديهم ثم أدخلوا الجنة وكانوا آخر أهل الجنة دخولاً. يريد آخر أهل الجنة دخولاً ممن لم يدخل النار. وقيل: هم قوم خرجوا فى الغزو بغير إذن آبائهم فقتلوا، فأُعتقوا من النار لقتلهم فى سبيل الله وحبسوا عن الجنة لمعصية آبائهم. وهذا من جنس القول الأول، وقيل: هم قوم رضى عنهم أحد الأبوين دون الآخر، يحبسون على الأعراف حتى يقضى الله بين الناس ثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 يدخلهم الجنة، وهى من جنس ما قبله فلا تناقض بينهما. وقيل: هم أصحاب الفترة وأطفال المشركين. وقيل: هم أُولو الفضل من المؤمنين علوا على الأعراف، فيطلعون على أهل النار وأهل الجنة جميعاً. وقيل: هم الملائكة لا من بنى آدم. والثابت عن الصحابة هو القول الأول، وقد رويت فيه آثار كثيرة مرفوعة لا تكاد تثبت [أسانيدها] . وآثار الصحابة فى ذلك المعتمدة. وقد اختلف فى تفسير الصحابى هل له حكم المرفوع، أو الموقوف؟ على قولين: الأول اختيار أبى عبد الله الحاكم، والثانى هو الصواب، ولا نقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم نعلم أنه قاله. وقوله تعالى: {وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ} [الأعراف: 46] صريح فى أنهم من بنى آدم ليسوا من الملائكة. وقوله تعالى: {يَعْرِفُونَ كُلا بِسِيمَاهُمْ} [الأعراف: 46] ، يعنى يعرفون الفريقين بسيماهم، {وَنَادوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلامٌ عَلَيْكُمْ} [الأعراف: 46] ، أى نادى أهل الأعراف أهل الجنة بالسلام. قوله تعالى: {لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطمَعُونَ} الضميرات فى الجملتين لأصحاب الأعراف لم يدخلوا الجنة بعد وهم يطمعون فى دخولها. قال أبو العالية: ما جعل الله ذلك الطمع فيهم إلا كرامة يريدها بهم، وقال الحسن: الذى [جعل] الطمع فى قلوبهم يوصلهم إلى ما يطمعون، وفى هذا رد على وقول من قال: إنهم أفاضل المؤمنين علوا على الأعراف يطالعون أحوال الفريقين، فعاد الصواب إلى تفسير الصحابة، وهم أعلم الأُمة بكتاب الله، ومراده منه. ثم قال تعالى: {وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} هذا دليل على [أنهم] بمكان مرتفع بين الجنة والنار، فإذا أشرفوا على أهل الجنة نادوهم بالسلام وطمعوا فى الدخول إليها، وإذا أشرفوا على أهل النار سألوا الله أن لا يجعلهم معهم، ثم قال تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونهُمْ بِسِيمَاهُمْ} يعنى من الكفار الذين فى النار، فقالوا لهم: {مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأعراف:48] يعنى ما نفعكم جمعكم وعشيرتكم وتجرؤكم على [أهل] الحق ولا استكباركم، وهذا إما نفى، وإما استفهام وتوبيخ، وهو أبلغ وأفخم. ثم نظروا إلى الجنة فرأوا من الضعفاء الذين كان الكفار يسترذلونهم فى الدنيا ويزعمون أن الله لا يختصهم دونهم بفضله كما لم يختصهم دونهم فى الدنيا، فيقول لهم أهل الأعراف: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 {أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ} أيها المشركون أن الله تعالى لا ينالهم برحمة، فها هم فى الجنة يتمتعون ويتنعمون وفى رياضها يحبرون ثم يقال لأهل الأعراف: {ادْخُلُوا الْجنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} [الأعراف: 49] . وقيل: إن أصحاب الأعراف إذا عيروا الكفار وأخبروهم أنهم لم يغن عنهم [جموعهم] واستكبارهم، عيرهم الكفار بتخلفهم عن الجنة، وأقسموا أن الله لا ينالهم برحمة، لما رأوا من تخلفهم عن الجنة، وأنهم يصيرون إلى النار، فتقول لهم الملائكة حينئذ: {أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمْ اللهُ بِرَحْمَةٍ، ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} [الأعراف: 49] ، والقولان قويان محتملان، والله أعلم. فهؤلاء الطبقات هم أهل الجنة الذين لم تمسهم النار. الطبقة الثالثة عشرة: طبقة أهل المحنة والبلية، نعوذ بالله. وإن كانت آخرتهم إلى عفو وخير، وهم قوم مسلمون خفت موازينهم ورجحت سيئاتهم على حسناتهم فغلبتها السيئات، فهذه الطبقة التى اختلفت فيها أَقاويل الناس وكثر فيها خوضهم وتشعبت مذاهبهم وتشتَتَتْ آرآوهم، فطائفة كفرتهم، وأوجبت لهم الخلود فى النار، وهذا مذهب أكثر الخوارج، بل يكفرون من هو أحسن حالاً منهم وهو مرتكب الكبيرة الذى لم يتب منها ولو استغرقتها حسناته. وطائفة أوجبت لهم الخلود فى النار ولم تطلق عليهم اسم الكفر، بل سموهم منافقين. وهذا المذهب ينسب إلى البكرية أتباع بكر ابن أُخت عبد الواحد. وطائفة نزلتهم منزلة بين منزلة الكفار والمؤمنين، فجعلوا أقسام الخلق ثلاثة: مؤمنين، وكفاراً، وقسماً لا مؤمنين ولا كفاراً بل بينهما، وأوجبت لهم الخلود فى النار، وهذا هو الرأى الذى عليه أهل الاعتزال، وهو أحد أُصولهم الخمسة التى هى قواعد مذهبهم وهى: التوحيد الذى مضمونه جحد صفات الخالق ونعوت كماله والتعطيل المحض، والعدل الذى مضمونه نفى عموم قدرة الله وأنه لا قدرة له على أفعال الحيوانات بل هى خارجة عن ملكه وخلقه وقدرته، وأنه يريد ما لا يكون ويكون ما لا يريد، فإنه لا يقدر أن يهدى ضالاً ولا أن يضل مهتدياً ولا يجعل المصلى مصلياً ولا الذاكر ذاكراً ولا الطائف طائقاً، تعالى الله عن إفكهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 وشركهم علواً كبيراً. والمنزلة بين المنزلتين التى مضمونها إيجاب [الخلود فى النار] للمسلم المبالغ فى طاعة ربه الذى أفنى عمره فى عبادته وطاعته ومات مصراً على كبيرة واحدة، تعالى الله عما نسبوه إليه من ذلك وجل عن هذا الافتراءِ. والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر الذى مضمونه الخروج على أئمة الجور بالسيف، وخلع اليد من طاعتهم، ومفارقة جماعة المسلمين. والأصل الخامس: النبوة مع أنهم لم يوفوها حقها، بل هضموها غاية الهضم من وجوه كثيرة ليس هذا موضعها. والمقصود أن مذهبهم تخليد هذه الطبقة فى النار، وإن لم يسموهم كفاراً، فوافقوا الخوارج فى الحكم وخالفوهم فى الاسم. ولهذا تسمى هذه المسألة من مسائل الأسماء والأحكام. فهذه ثلاث فرق أوجبت لهذه الطائفة الخلود فى النار وقالت المرجئة على اختلاف آرائهم: لا يدرى ما يفعل الله بهم فيجوز أن يعذبهم كلهم، وأن يعفو عنهم كلهم، وأن يعذب بعضهم ويعفو عن بعضهم، غير أنهم لا يخلد أحد منهم فى النار فجوزوا أن يلحق بعضهم بمن ترجحت حسناته على سيئاته، بل جوزوا أن يرفع عليه فى الدرجة. فهم موكلون عندهم إلى محض المشيئة لا يدرى ما يفعل الله بهم، بل يرجأُ أمرهم إلى الله وحكمه، وهذا قول كثير من المتكلمين والفقهاء والصوفية وغيرهم. فهذه الأقوال [هى] التى يعرفها أكثر الناس، ولا يحكى أهل الكلام غيرها، وقول الصحابة والتابعين وأئمة الحديث لا [يعرفونه] ولا يحكونه [وهو] الذى ذكرناه عن ابن عباس وحذيفة وابن مسعود [رضى الله عنهم] أن من ترجحت سيئاته بواحدة دخل النار. وهؤلاء هم القسم الذين جاءَت فيهم الأحاديث الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم يدخلون النار فيكونون فيها على مقدار أعمالهم: فمنهم من تأْخذه النار إلى كعبيه، ومنهم من تأخذه النار إلى أنصاف ساقيه، ومنهم من تأخذه النار إلى ركبتيه ويلبثون فيها على قدر أعمالهم، ثم يخرجون منها، فينبتون على [أنهار] الجنة: فيفيض عليهم أهل الجنة من الماءِ حتى تنبت أجسادهم، ثم يدخلون الجنة. وهم الطبقة الذين يخرجون من النار بشفاعة الشافعين، وهم الذين يأْمر الله سيد الشفعاءِ مراراً أن يخرجهم من النار بما معهم من الإيمان. وإخبار النبى صلى الله عليه وسلم أنهم يكونون فيها على قدر أعمالهم مع قوله تعالى: {بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43] [النحل:32، الزخرف 72، الطور:19 السجدة:14، المرسلات:43] ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 و {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل: 90] ، وقوله تعالى: {ثُمَ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [آل عمران: 171] . وأضعاف ذلك من نصوص القرآن والسنة يدل على ما قاله أفضل الأُمة وأعلمها بالله وكتابه وأحكام الدارين أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، والعقل والفطرة تشهد له، وهو مقتضى حكمة العزيز الحكيم الذى بهرت حكمته العقول. فليس الأمر سبباً خارجاً عن الضبط والحكمة بل مربوط بالأساليب، والحكم مرتب عليها أكمل ترتيب، جار على نظام اقتضاه السبب واستدعته الحكمة. وأى الطريق سلكها سالك غير هذه الطريق من الطرق المتقدمة أفضت به إلى ترك بعض النصوص ولا بد، فإنها تتناقض فى حقه لما أصله من الأصل الذى لا يلتئم عليه جمع النصوص، فلا بد أن يرد بعضها ببعض أو يستشكلها أو يتطلب لها مستنكر التأْويلات [ووجوه] التحريفات. كما رد الخوارج والمعتزلة النصوص المتواترة الدالة على خروج أهل الكبائر من النار بالشفاعة [ف] كذبوا بها وقالوا: لا سبيل لمن دخل النار إلى الخروج منها بشفاعة ولا غيرها. ولما بهرتهم نصوص الشفاعة وصاح بهم أهل السنة وأئمة الإسلام من كل قطر وجانب ورموهم بسهام الرد عليهم أحالوا بالشفاعة على زيادة الثواب فقط لا على الخروج من النار، فردوا السنة المتواترة قطعاً وصاروا مضغة فى أفواه الأُمة وعاراً فى فرقها، فإن أمر الشفاعة أظهر عند الأُمة من أن يقبل شكاً أو نزاعاً، وهو عندهم مثل الصراط والحساب ونحوهما مما يعلم إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم به قطعاً، ولكن إنما أتى القوم لأنهم فى غاية البعد عما جاءَ به الرسول صلى الله عليه وسلم، أجانب عنه، ليسوا من الورثة، وأما الخوارج فكذبوا الصحابة صريحاً، وأما المرجئة فإنهم يجوزون أن لا يدخل النار أحد من أهل التوحيد. وهذا بخلاف المعلوم المتواتر من نصوص السنة بدخول بعض أهل الكبائر النار ثم خروجهم منها بالشفاعة، ومع هذا التواتر الذى لا يمكن دفعه لا يجوز أن يقال بجواز أن لا يدخل أحد منهم النار، بل لا بد من دخول بعضهم، وذلك البعض هو الذى خفت موازينه ورجحت سيئاته كما قال الصحابة [رضى الله عنهم] وحكى أبو محمد بن حزم هذا إجماعاً من أهل السنة. ولولا أن المقصود ذكر الطبقات لذكرنا ما لهذه المذاهب وما عليها، وبينا تناقض أهلها، وما وافقوا فيه الحق وما خالفوه بالعلم والعدل لا بالجهل والظلم، فإن كل طائفة منها معها حق وباطل، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 فالواجب موافقتهم فيما قالوه من الحق، ورد ما قالوه من الباطل. ومن فتح الله له بهذه الطريق فقد فتح له من العلم والدين كل باب، ويسر عليه فيهما الأسباب. والله المستعان. الطبقة الرابعة عشرة: قوم لا طاعة لهم ولا معصية، ولا كفر ولا إيمان. وهؤلاء أصناف: منهم من لم تبلغه الدعوة بحال ولا سمع لها بخبر، ومنهم المجنون الذى لا يعقل شيئاً ولا يميز، ومنهم الأصم الذى لا يسمع شيئاً أبداً، ومنهم أطفال المشركين الذين ماتوا قبل أن يميزوا شيئاً. فاختلفت الأُمة فى حكم هذه الطبقة اختلافاً كثيراً، والمسألة التى وسعوا فيها الكلام هى مسألة أطفال المشركين. وأما أطفال المسلمين فقال الإمام أحمد: لا يختلف فيهم أحد [يعنى] أنهم فى الجنة. وحكى ابن عبد البر عن جماعة: أنهم توقفوا فيهم، وأن جميع الولدان تحت المشيئة قال: وذهب إلى هذا القول جماعة كثيرة من أهل الفقه والحديث منهم حماد بن زيد، وحماد بن سلمة، وابن المبارك، وإسحاق ابن راهويه قالوا: وهو شبه ما رسم مالك فى موطئه فى أبواب القدر، وما أورده من الأحاديث فى ذلك. وعلى أكثر أصحابه، وليس عن مالك فيه شيء منصوص إلا أن المتأخرين من أصحابه ذهبوا إلى أن أطفال المسلمين فى الجنة وأطفال المشركين خاصة فى المشيئة. وأما أطفال المشركين فللناس فيهم ثمانية مذاهب: أحدها: الوقف فيهم، وترك الشهادة بأنهم فى الجنة أو فى النار، بل يوكل علمهم إلى الله تعالى، ويقال الله أعلم ما كانوا عاملين. واحتج هؤلاء بحجج: منها ما أخرجاه فى الصحيحين من حديث أبى هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه، كما تنتج البهيمة من بهيمة جمعاءَ، هل [يحسن] فيها من جدعاءَ"؟ قالوا: يا رسول الله، أفرأيت من يموت وهو صغير؟ قال: "الله أعلم بما كانوا عاملين"، ومنها ما فى الصحيحين أيضاً عن ابن عباس أن النبى صلى الله عليه وسلم سئل عن أولاد المشركين فقال: "الله أعلم بما كانوا عاملين ". وفى صحيح أبى حاتم بن حبان من حديث جرير بن حازم قال: سمعت أبا رجاءَ [العطاردى] يقول وهو على المنبر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يزال أمر هذه الأُمة قواماً- أو مقارباً- ما لم يتكلموا فى الولدان والقدر". قال أبو حاتم: الولدان أراد به أطفال المشركين. وفى استدلال هذه الفرقة على ما [ذهبت] إليه من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 الموقف بهذه النصوص نظر. فإن النبى صلى الله عليه وسلم لم يجب فيهم بالوقف، وإنما وكل علم ما كانوا يعملون لو عاشوا إلى الله سبحانه وتعالى. والمعنى: الله أعلم بما كانوا يعملون لو عاشوا. فهو سبحانه وتعالى يعلم القابل منهم للهدى العامل به لو عاش، والقابل منهم للكفر المؤثر له لو عاش، [و] لكن لا يدل هذا على أنه يجزيهم [بمجرد] علمه فيهم بلا عمل يعملونه، وإنما يدل على أنه [سبحانه وتعالى] يعلم منهم ما هم عاملون بتقدير حياتهم. وهذا الجواب خرج عن النبى صلى الله عليه وسلم على وجهين: أحدهما: جواب لهم إذ سألوه عنهم: ما حكمهم؟ فقال: "الله أعلم بما كانوا عاملين"، وهو فى هذا الوجه يتضمن أن الله سبحانه وتعالى يعلم من يؤمن منهم ومن يكفر بتقدير الحياة، وأما المجازاة على العلم فلم يتضمنها جوابه صلى الله عليه وسلم. وفى صحيح أبى عوانة الإسفراينى عن هلال بن خباب عن عكرمة عن ابن عباس: كان النبى صلى الله عليه وسلم فى بعض مغازيه، فسأله رجل: ما [تقول] فى اللاهين؟ فسكت عنه، فلما فرغ من [غزوه وطاف] إذا هو بصبى يبحث فى الأرض، فأمر مناديه فنادى: "أين السائل عن اللاهين"؟ فأقبل الرجل، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الأطفال، وقال: الله أعلم بما كانوا عاملين". والوجه الثانى: جواب لهم حين أخبرهم أنهم من آبائهم، فقالوا: بلا عمل؟ فقال: "الله أعلم بما كانوا عاملين"، كما روى أبو داود عن عائشة [رضى الله عنه] قالت: قلت: يا رسول الله، ذرارى المؤمنين؟ قال: "من آبائهم"، فقلت: يا رسول الله، بلا عمل؟ قال: "الله أعلم بما كانوا عاملين" [قلت: يا رسول الله، فذرارى المشركين؟ قال: "هم من آبائهم"، فقلت: يا رسول الله، بلا عمل؟ قال: "الله أعلم بما كانوا عاملين] ". ففى هذا الحديث ما يدل على أن الذين يلحقون بآبائهم منهم هم الذين علم الله أنهم لو عاشوا لاختاروا الكفر وعملوه به. فهؤلاء مع آبائهم، ولا يقتضى أن كل واحد من الذرية مع أبيه فى النار. فإن الكلام فى هذا الجنس سؤالاً وجواباً، والجواب يدل على التفصيل، فإن قوله صلى الله عليه وسلم: "الله أعلم بما كانوا عاملين" يدل على أنهم متباينون فى التبعية، بحسب نياتهم [فى] معلوم الله فيهم. بقى أن يقال: فالحديث يدل على أنهم يلحقون بآبائهم من غير عمل، ولهذا فهمت ذلك منه عائشة فقالت: بلا عمل؟ فأقرها عليه السلام فقال: "الله أعلم بما كانوا عاملين"، ويجاب عن هذا بأن الحديث إنما دل على أنهم يلحقون بهم بلا عمل عملوه فى الدنيا، وهو الذى فهمته عائشة. ولا ينفى هذا أن يلحقوا بهم [بأسباب آخر يمتحنهم بها فى عرصات القيامة كما سيأتى بيانه] إن شاءَ الله. فحينئذ يلحقون بآبائهم ويكونون منهم بلا عمل عملوه فى الدنيا، وعائشة [رضى الله عنه] إنما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 استشكلت لحاقهم بهم بلا عمل عملوه مع الآباءِ، وأجابها النبى صلى الله عليه وسلم بأن الله سبحانه وتعالى يعلم منهم ما هم عاملوه، ولم يقل لها: إنه يعذبهم بمجرد علمه فيهم. وهذا ظاهر بحمد الله لا إشكال فيه. وأما حديث أبى رجاء العطاردى عن ابن عباس، ففى القلب من رفعه شيء وإن أخرجه ابن حبان فى صحيحه، وهو يدل على ذم من تكلم فيهم بغير علم، أو ضرب النصوص بعضها ببعض فيهم، كما ذم من تكلم فى القدر بمثل ذلك، وأما من تكلم فيهم بعلم وحق فلا. المذهب الثانى: أنهم فى النار. وهذا قول جماعة من المتكلمين وأهل التفسير، وأحد الوجهين لأصحاب أحمد، وحكاه القاضى نصاً عن أحمد، واحتج هؤلاءِ بحديث عائشة المتقدم، واحتجوا بما رواه أبو عقيل يحيى بن المتوكل عن بهية عن عائشة: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولاد المسلمين أين هم؟ قال: "فى الجنة"، وسألته عن أولاد المشركين أين هم يوم القيامة؟ قال: "فى النار"، فقلت: لم يدركوا الأعمال ولم تجر عليهم الأقلام. قال: "ربك أعلم بما كانوا عاملين"، قلت: يحيى بن المتوكل لا يحتج بحديثه، فإنه فى غاية من الضعف. وأما حديث عائشة المتقدم فهو من حديث عمر بن ذر، وتفرد به عن يزيد عن أبى أُمية أن البراء بن عازب أرسل إلى عائشة يسألها عن الأطفال، فذكرت الحديث هكذا، قال مسلم بن قتيبة [عنه] ، وقال غيره: عن عمر بن ذر عن يزيد عن رجل عن البراء، ورواه الإمام أحمد فى مسنده من حديث عتبة بن ضمرة بن حبيب: حدثنى عبد الله بن أبى قيس مولى غطيف أنه سأل عائشة، فذكرت الحديث. وعبد الله هذا ينظر فى حاله، وليس بالمشهور. واحتجوا بما رواه عبد الله بن أحمد فى مسند أبيه عن عثمان بن أبى شيبة عن محمد بن فضيل بن غزوان عن محمد بن عثمان عن زاذان عن على قال: سألت خديجة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ولدين لها ماتا فى الجاهلية فقال: "هما فى النار" رأى الكراهية فى وجهها قال: "لو رأيت مكانهما لأبغضتهما" قالت: يا رسول الله، فولدى منك؟ قال: "إن المؤمنين وأولادهم فى الجنة، وإن المشركين وأولادهم فى النار"، ثم قرأ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانِ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور: 21] . وهذا معلول من وجهين، أحدهما: أن محمد بن عثمان مجهول، والثانى: أن زاذان لم يدرك علياً. وقال جماعة عن داود بن أبى هند عن الشعبى عن علقمة عن سلمة بن قيس الأشجعى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 قال: أتيت أنا وأخى النبى صلى الله عليه وسلم فقلنا: إن أمنا ماتت فى الجاهلية وكانت تقرى الضيف وتفعل وتفعل، فهل نافعها ذلك شيئاً؟ قال صلى الله عليه وسلم: "لا"، قلنا: فإنها كانت وأدت أُختاً لنا فى الجاهلية لم تبلغ الحنث؟ [فقال] : "الوائدة والموؤدة فى النار، إلا أن تدرك الوائدة الإسلام فتسلم"، وهذا إسناد لا بأْس به، وبحديث خديجة أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولادها الذين ماتوا فى الشرك؟ فقال: "إن شئت أسمعتك تضاغيهم فى النار"، قال شيخنا: وهذا حديث باطل موضوع. واحتجوا أيضاً بما روى البخارى فى صحيحه فى حديث احتجاج الجنة والنار عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: "وأما النار فينشيء الله لها خلقاً يسكنهم إياها" قالوا: فهؤلاء ينشؤون للنار بغير عمل، فلأن يدخلها من ولد فى الدنيا بين كافرين أولى. وهذه حجة باطلة، فإن هذه اللفظة وقعت غلطاً من بعض الرواة، وبينها البخارى فى الحديث الآخر وهو الصواب فقال فى صحيحه: حدثنى عبد الله بن محمد انبأنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر عن همام عن أبى هريرة قال النبى صلى الله عليه وسلم: "تحاجت الجنة والنار، فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين وقالت الجنة: مالى لا يدخلنى إلا ضعفاءُ الناس وسقطهم؟ قال الله عز وجل للجنة: أنت رحمتى أرحم بك من أشاءُ من عبادى، وقال تعالى للنار: أنت عذابى أعذب بك من أشاءُ من عبادى، ولكل واحدة منكما ملؤها: فأما النار فلا تمتليء حتى يضع الجبار عز وجل رجله، فتقول: قط، قط، فهناك تمتليء ويزوى بعضها إلى بعض ولا يظلم الله من خلقه أحداً. وأما الجنة فإن الله ينشيء لها خلقاً"، فهذا هو الذى قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا ريب، وهو الذى ذكره فى التفسير [وقال] وفى باب ما جاء فى قوله تعالى: {إِنَّ رَحمَةَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56] : حدثنا عبد الله بن سعد، حدثنا يعقوب، حدثنا أبى عن صالح بن كيسان عن الأعرج عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "اختصمت الجنة والنار إلى ربهما، فقالت الجنة: يا رب مالها لا يدخلها إلا ضعفاءُ الناس وسقطهم، وقالت النار: إنى أُوثرت بالمتكبرين، فقال الله تعالى للجنة: أنت رحمتى، وقال تعالى للنار: أنت عذابى أُصيب بك من أَشاءُ، ولكل واحدة منكما ملؤها قال: فأما الجنة فإن الله تعالى لا يظلم من خلقه أحداً، وإنه ينشيء للنار من يشاءُ فيلقون فيها، فتقول: هل من مزيد ثلاثاً حتى يضع قدمه فيها فتمتليء ويرد بعضها إلى بعض، فتقول: قط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 قط قط"، فهذا غير محفوظ، وهو مما انقلب لفظه على بعض الرواة قطعاً كما انقلب على بعضهم قوله صلى الله عليه وسلم: "إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم"، فقال: "إن ابن مكتوم يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال". وله نظائر وحديث الأعرج عن أبى هريرة لم يحفظ كما ينبغى وسياقه يدل على أن رواية لم يقم متنه، بخلاف حديث همام عن أبى هريرة، واحتجوا بما رواه أبو داود عن عامر الشعبى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الوائدة والمؤودة فى النار ". قال يحيى بن زكريا: فحدثنى أبو إسحاق السبيعى: أن عامراً حدثه بذلك عن علقمة عن ابن مسعود عن النبى صلى الله عليه وسلم ويأْتى الجواب عن هذا الحديث إن شاءَ الله. والله أعلم. المذهب الثالث: أنهم فى الجنة، وهذا قول طائفة من المفسرين والمتكلمين وغيرهم. واحتج هؤلاء بما رواه البخارى فى صحيحه عن سمرة بن جندب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم [يعنى] مما يكثر أن يقول لأصحابه: "هل رأى أحد منكم رؤيا"؟ قال: فنقصّ عليه ما شاء الله أن نقص، وأنه قال لنا ذات غداة: "إنى أتانى الليلة آتيان- فذكر الحديث، وفيه: فأتينا على روضة [معتمة] فيها من كل لون الربيع وإذا بين ظهرى الروضة رجل طويل لا أكاد أرى رأسه طولاً فى السماء وإذا حول الرجل من أكثر ولدان رأيتهم قط- وفيه- وأما الولدان الذين حوله فكل مولود مات على الفطرة"، فقال بعض المسلمين: يا رسول الله وأولاد المشركين؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "وأولاد المشركين"، فهذا الحديث الصحيح صريح فى أنهم فى الجنة، ورؤيا الأنبياءِ وحى. وفى مستخرج البرقانى على البخارى من حديث عوف الأعرابى عن أبى رجاء العطاردى عن سمرة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "كل مولود يولد على الفطرة"، فقال الناس: يا رسول الله، وأولاد المشركين؟ قال: وأولاد المشركين". وقال أبو بكر بن حمدان القطيعى: حدثنا بشر بن موسى، حدثنا هوذة بن خليفة، حدثنا عوف عن خنساءَ بنت معاوية قالت: حدثتنى عمتى قالت: يا رسول الله، من فى الجنة؟ قال: "النبى فى الجنة والشهيد فى الجنة والمؤودة فى الجنة"؟، وكذلك رواه بندار عن غندر عن عوف. واحتجوا بقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى آدَمَ مِن ظُهوُرِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف: 172] ، وبقوله تعالى: {لا يَصْلاهاَ إِلا الأَشْقَى} [الليل: 15] ، وبقوله تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 {أُعِدَّتْ لِلكَافِرِينَ} [البقرة: 24] ، وبقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثْ رَسُولاً} [الإسراء: 15] ، وهؤلاء لم تقم عليهم حجة الله بالرسل فلا يعذبهم [واحتجوا بقوله تعالى {رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس حجة بعد الرسل} [النساء: 165] واحتجوا بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثُ فِى أُمّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا، وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى الْقُرَى إِلا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص:95] ، فإذا كان سبحانه لا يهلك القرى فى الدنيا ويعذب أهلها إلا بظلمهم، فكيف يعذب فى الآخرة العذاب الدائم من لم يصدر منه ظلم؟ ولا يقال: كما أهلكه فى الدنيا تبعاً لأبويه وغيرهم، [فكذلك] يدخله النار تبعاً لهم، لأن مصائب الدنيا إذا وردت لا تخص الظالم وحده بل تصيب الظالم وغيره ويبعثون على نياتهم وأعمالهم كما قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةٍ} [الأنفال: 25] ، وكالجيش الذى يخسف بهم جميعهم وفيهم المكره والمستبصر وغيره. فأما عذاب الآخرة فلا يكون إلا للظالمين خاصة، ولا يتبعهم فيه من لا ذنب له أصلاً. وقال تعالى فى النار: {كُلَّمَا أُلْقِى فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ} [الملك:8،9] ، وقال [تعالى] لإبليس: {لأَملأَنَ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [النمل: 85] ، وإذا امتلأت بإبليس وأتباعه فأين يستقر فيها من لم يتبعه؟ قالوا: وأيضاً فالقرآن مملوءُ من الأخبار بأن دخول النار إنما يكون بالأعمال كقوله تعالى: {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل: 90] ، وقوله تعالى: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف: 49] ، {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ، ثُمَّ تُوَفَّى كُلُ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يظلمون} [البقرة: 281] ، وقوله تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوَا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف: 76] إلى غير ذلك من النصوص. قالوا: وقد أخبر النبى صلى الله عليه وسلم أن كل مولود [يولد] على الفطرة، وإنما يهوده وينصره أبواه، فإذا مات قبل التهويد والتنصير مات على الفطرة، فكيف يستحق النار؟ وفى صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله: إنى خلقت عبادى حنفاءَ، فجاءَتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللتُ لهم"، وقال محمد بن إسحاق عن ثور بن يزيد عن يحيى بن جابر عن عبد الرحمن بن عائذ عن عياض عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 النبى صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله خلق آدم وبنيه حنفاءَ مسلمين، وأعطاهم المال حلالاً لا حراماً"، فزاد "مسلمين". قالوا: وأيضاً فإن النار دار عدله [تعالى] والجنة دار فضله، فلهذا ينشيء للجنة من لم يعمل عملاً قط، وأما النار فإنه لا يعذب بها إلا من عمل بعمل أهلها. وقالوا: وأيضاً فإن النار دار جزاءٍ، فمن لم يعص الله طرفة عين كيف يجازى بالنار خالداً مخلداً أبد الآباد؟ قالوا: وأيضاً فلو عذب هؤلاءِ لكان تعذيبهم إما مع تكليفهم بالإيمان أو بدون التكليف. والقسمان ممتنعان: أما الأول فلاستحالة تكليف من لا تمييز له ولا عقل أصلاً، وأما الثانى فيمتنع أيضاً بالنصوص التى ذكرناها وأمثالها من أن الله لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه. وقالوا: وأيضاً فلو كان تعذيب هؤلاءِ لأجل عدم الإيمان المانع من العذاب لاشتركوا هم وأطفال المسلمين فى ذلك، لاشتراكهم فى عدم الإيمان الفعلى علماً وعملاً. فإن قلتم: أطفال المسلمين منعهم تبعهم لآبائهم [من] العذاب، بخلاف أطفال المشركين، قلنا: الله [تعالى] لا يعذب أحداً بذنب غيره، قال تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازرِةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] ، وقال تعالى: {فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُون} [يس: 54] ، وهذه حجج كما ترى قوة وكثرة، ولا سبيل إلى دفعها وسيأْتى إن شاء الله فصل النزاع فى هذه المسألة، والقول بموجب هذه الحجج الصحيحة كلها، على أن عادتنا فى مسائل الدين كلها دقها وجلها أن نقول بموجبها، ولا نضرب بعضها ببعض ولا نتعصب لطائفة على طائفة بل نوافق كل طائفة على ما معها من الحق ونخالفها فيما معها من خلاف الحق. لا نستثنى من ذلك طائفة ولا مقالة، ونرجو من الله أن نحيا على ذلك، ونموت عليه ونلقى الله به، ولا حول ولا قوة إلا بالله. المذهب الرابع: أنهم فى منزلة بين المنزلتين بين الجنة والنار فإنهم ليس لهم إيمان يدخلون به الجنة ولا لآبائهم فوز يلحق بهم أطفالهم تكميلاً لثوابهم وزيادة فى نعيمهم، وليس لهم من الأعمال ما يستحقون به دخول النار. وهذا قول طائفة من المفسرين قالوا: وهم أهل الأعراف. وقال عبد العزيز ابن يحيى الكنانى: "هم الذين ماتوا فى الفترة"، والقائلون بهذا إن أرادوا أن هذا المنزل مستقرهم أبداً فباطل، فإنه لا دار للقرار إلا الجنة أو النار، وإن أرادوا أنهم يكونون فيه مدة ثم يصيرون إلى دار القرار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 فهذا ليس بممتنع. المذهب الخامس: أنهم تحت مشيئة الله تعالى، يجوز أن يعمهم بعذابه، وأن يعمهم برحمته، وأن يرحم بعضاً ويعذب بعضاً بمحض الإرادة والمشيئة، ولا سبيل إلى إثبات شيء من هذه الأقسام إلا بخبر يجب المصير إليه، ولا حكم فيهم إلا بمحض المشيئة. وهذا قول الجبرية نفاة الحكمة والتعليل، وقول كثير من مثبتى القدر وغيرهم. المذهب السادس: أنهم خدم أهل الجنة ومماليكهم، وهم معهم بمنزلة أرقائهم وممالكيهم فى الدنيا. واحتج هؤلاء بما رواه يعقوب بن عبد الرحمن القارى عن أبى حازم المدينى عن يزيد الرقاشى عن أنس، قال الدارقطنى: ورواه عبد العزيز الماجشون عن ابن المنكدر عن يزيد الرقاشى عن أنس عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "سألت ربى للاهين من ذرية البشر أن لا يعذبهم، فأعطانيهم، فهم خدام أهل الجنة" يعنى الصبيان. فهذان طريقان، وله طريق ثالث عن فضيل بن سليمان عن عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهرى عن أنس، قال ابن قتيبة: اللاهون من لهيت عن الشيء إذ غفلت عنه، وليس هو من لهوت، وهذه الطرق ضعيفة، فإن يزيد الرقاشى واه وفضيل بن سليمان متكلم فيه، وعبد الرحمن بن إسحق ضعيف. المذهب السابع: أن حكمهم حكم آبائهم فى الدنيا والآخرة فلا يفردون عنهم بحكم فى الدارين، فكما هم منهم فى الدنيا فهم منهم فى الآخرة. والفرق بين هذا المذهب ومن مذهب من يقول هم فى النار، أن صاحب هذا المذهب يجعلهم معهم تبعاً لهم، حتى لو أسلم الأبوان بعد موت أطفالهما لم يحكم لأفراطهما بالنار وصاحب القول الآخر يقول هم فى النار لكونهم ليسوا بمسلمين لم يدخلوها تبعاً. وهؤلاء يحتجون بحديث عائشة الذى تقدم ذكره، واحتجوا بما فى الصحيحين عن الصعب بن جثامة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أهل الدار من المشركين يبيتون فيصيبون من نسائهم وذراريهم، فقال: "هم منهم"، ومثله من حديث الأسود بن سريع. وقد تقدم حديث أبى وائل عن ابن مسعود يرفعه: "الوائدة والموءودة فى النار"، وهذا يدل على أنها كانت فى النار تبعاً لها. قالوا: ويدل عليه قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا واتبعتهم ذُرِّيتُهُمْ بِإِيْمَانٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِن شَيءِ كُلُّ امْرِيءٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21] ، فهذا يدل على أن إتباع الذرية لآبائهم ونجاتهم إنما كان إكراماً لآبائهم وزيادة فى ثوابهم وأن الاتباع [إنما يستحق بإيمان الآباء فإذا انتفى إيمان الآباء انتفى اتباع] النجاة، وبقى اتباع العذاب. ويفسره قوله صلى الله عليه وسلم: "هم منهم". وأجيب عن حجج هؤلاءِ: أما حديث عائشة الذى فيه: "إنهم فى النار" فقد تقدم ضعفه. وأما حديثها الآخر: "هم من آبائهم" فمثل حديث الصعب والأسود بن سريع، وليس فيه تعرض للعذاب بنفى ولا إثبات، وإنما فيه أنهم تبع لآبائهم فى الحكم، وأنهم إذا أُصيبوا فى الجهاد والبيات لم يضمنوا بدية ولا كفارة. وهذا مصرح به فى حديث الصعب والأسود أنه فى الجهاد، أما حديث عائشة الآخر فضعفه غير واحد. قالوا: وعبد الله بن أبى قيس مولى غطيف رواية عنها ليس بالمعروف فيقبل حديثه. وعلى تقدير ثبوته فليس فيه تصريح بأن السؤال وقع عن الثواب والعقاب. والنبى صلى الله عليه وسلم قال: "هم من آبائهم" ولم يقل هم معهم. وفرق بين الحرفين. وكونهم منهم لا يقتضى [أن يكونوا معهم فى أحكام الآخرة بخلاف كونهم منهم فإنه يقتضى] أن تثبت لهم أحكام الآباءِ فى الدنيا من التوارث والحضانة والنسب وغير ذلك من أحكام الإيلاد، والله سبحانه يخرج الطيب من الخبيث والمؤمن من الكافر. وأما حديث ابن مسعود فليس فيه أن هذا حكم كل واحد من أطفال المشركين وإنما يدل على أن بعض أطفالهم فى النار، وأن من هذا الجنس- وهن المؤودات- من يدخل النار، وكونها موؤودة [لا يمنع من دخولها النار بسبب آخر وليس المراد أن كونها موءودة] هو السبب الموجب لدخول النار، حتى يكون اللفظ عاماً فى كل موؤدة وهذا ظاهر [ولكن كونها موءودة لا يرد عنها النار إذا استحقتها بسبب] ، كما سيأْتى بيانه بعد هذا إن شاء الله. وأحسن من هذا أن يقال: هى فى النار ما لم يوجد سبب يمنع من دخولها النار كما سنذكره إن شاء الله. ففرق بين أن تكون جهة كونها موؤدة هى التى استحقت بها دخول النار، وبين كونها غير مانعة من دخول النار بسبب آخر، وإذا كان تعالى يسأَل [الوائدة] عن وأْد ولدها بغير استحقاق ويعذبها على وأْدها كما قال تعالى: {وَإِذَا المَوءودةُ سُئلَتْ} [التكوير:8] ، فكيف يعذب الموءودة بغير ذنب؟ والله سبحانه لا يعذب من وأَدها بغير ذنب. وأما قوله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور: 21] فهذه الآية تدل على أن الله سبحانه يلحق ذرية المؤمنين بهم فى الجنة، وإنهم يكونون معهم فى درجتهم. ومع هذه فلا يتوهم نزول [الأباء إلى درجة الذرية فإن الله لم يلتهم- أى لم ينقصهم من أعمالهم من شيئاً بل رفع ذرياتهم إلى درجاتهم مع توفير أجور] الآباءِ عليهم، [و] لما كان إلحاق الذرية بالآباءِ فى الدرجة إنما هو بحكم التبعية لا بالأَعمال، ربما توهم متوهم أن ذرية الكفار يلحقون بهم فى العذاب تبعاً وإن لم يكن لهم أعمال الآباءِ، فقطع تعالى هذا التوهم بقوله تعالى: {كُلُّ امْرِيءٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} ، وتأمل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيْمَانٍ} [الطور: 21] ، كيف أتى بالواو العاطفة فى اتباع الذرية وجعل الخبر عن المؤمنين الذين هذا شأْنهم، فجعل الخبر مستحقاً بأمرين: أحدهما إيمان الآباءِ، والثانى إتباع الله ذريتهم إياهم، وذلك لا يقتضى أن كل مؤمن يتبعه كل ذرية له، ولو أُريد هذا المعنى لقيل: [والذين] آمنوا تتبعهم ذرياتهم فعطف الاتباع بالواو يقتضى أن يكون المعطوف بها قيداً وشرطاً فى ثبوت الخبر، لا حصوله لكل أفراد المبتدأ. وعلى هذا يخرج ما رواه مسلم فى صحيحه عن عائشة قالت أُتى النبى صلى الله عليه وسلم بصبى من الأنصار يصلى عليه: فقلت: يا رسول الله، طوبى لهذا لم يعمل شراً، ولم يدره به. قال: "أو غير ذلك يا عائشة، إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلاً وخلقها لهم وهم فى أصلاب آبائهم، وخلق النار وخلق لها أهلاً وخلقها لهم وهم فى أصلاب آبائهم"، فهذا الحديث يدل على أنه لا يشهد لكل طفل من أطفال المؤمنين بالجنة، وإن أطلق على أطفال المؤمنين بالجنة، وإن أطلق على أطفال المؤمنين فى الجملة أنهم فى الجنة لكن الشهادة للمعين ممتنعة، كما يشهد للمؤمنين مطلقاً أنهم فى الجنة، ولا يشهد لمعين بذلك إلا من شهد له النبى صلى الله عليه وسلم. فهذا وجه الحديث الذى يشكل على كثير من الناس ورده الإمام أحمد وقال: لا يصح. ومن يشك أن أولاد المسلمين فى الجنة؟ وتأوله قوم تأويلات بعيدة. المذهب الثامن: أنهم يمتحنون فى [عرصة] القيامة، ويرسل إليهم هناك رسول وإلى كل من لم تبلغه الدعوة، فمن أطاع الرسول دخل الجنة ومن عصاه أدخله النار. وعلى هذا فيكون بعضهم فى الجنة وبعضهم فى النار. وبهذا يتألف شمل الأدلة كلها. وتتوافق الأحاديث ويكون معلوم الله [عز وجل] الذى أحال عليه النبى صلى الله عليه وسلم حيث يقول: "الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 أعلم بما كانوا عاملين"، يظهر حينئذ ويقع الثواب والعقاب عليه حال كونه معلوماً علماً خارجياً لا علماً مجرداً، ويكون النبى صلى الله عليه وسلم قد رد جوابهم إلى علم الله فيهم، والله [تعالى] يرد ثوابهم وعقابهم إلى معلومه منهم، فالخبر عنهم مردود إلى علمه ومصيرهم مردود إلى معلومه، وقد جاءَت بذلك آثار كثيرة يؤيد بعضها بعضاً: فمنها ما رواه الإمام أحمد [فى مسنده] والبزار أيضاً بإسناد صحيح، فقال الإمام أحمد: حدثنا معاذ بن هشام عن أبيه عن قتادة عن الأحنف بن قيس عن الأسود بن سريع أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "أربعة يحتجون يوم القيامة: رجل أصم لا يسمع، ورجل هرم، ورجل أحمق، ورجل مات فى الفترة، أما الأصم فيقول: رب لقد جاءَ الإسلام وأنا ما أسمع شيئاً، وأما الأحمق فيقول: رب لقد جاء الإسلام والصبيان يحدفوننى بالبعر، وأما الهرم [رب لقد جاء الإسلام وما أغفل وأما الذى فى الفترة] فيقول: رب ما أتانى رسول، فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه. فيرسل إليم رسولاً أن ادخلوا النار، فوالذى نفسى بيده لو دخلوها لكانت عليهم برداً وسلاماً"، قال معاذ [بن هشام] : وحدثنى أبى عن قتادة عن الحسن عن أبى رافع عن أبى هريرة بمثل هذا الحديث وقال فى آخره: "فمن دخلها كانت عليه برداً وسلاماً ومن لم يدخلها رد إليها". وهو فى مسند إسحاق عن معاذ بن هشام أيضاً، ورواه البزار ولفظه عن الأسود ابن سريع عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "يعرض على الله تبارك وتعالى الأصم الذى لا يسمع شيئاً، والأحمق والهرم، ورجل مات فى الفترة، فيقول الأصم: رب جاء الإسلام وما أسمع شيئاً، والأحمق يقول: رب لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئاً يقول الذى مات فى الفترة: رب ما أتانى لك رسول، وذكر الهرم وما يقول، قال: فيأخذ مواثيقهم ليطيعنّه، فيرسل إليهم [تبارك وتعالى] : ادخلوا النار، فوالذى نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم برداً وسلاماً"، قال الحافظ عبد الحق فى حديث الأسود: قد جاءَ هذا الحديث، وهو صحيح فيما أعلم، والآخرة ليست دار تكليف ولا عمل، ولكن الله يخص من يشاءُ بما يشاءُ، ويكلف من [يشاء ما شاء] وحيثما شاءَ، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. قلت: وسيأتى الكلام على وقوع التكليف فى الدار الآخرة وامتناعه عن قريب إن شاء الله، ورواه على بن المدينى عن معاذ بنحوه. قال البيهقى: حدثنا على ابن محمد بن بشران، أخبرنا أبو جعفر الرازى، أخبرنا حنبل بن الحسين، أخبرنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 علي بن عبد الله وقال هذا إسناد صحيح , وأما حديث علي بن زيد بن جدعان عن أبى رافع عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم نحوه، ورواه معمر عن عبد الله بن طاوس عن أبيه عن أبى هريرة قوله. وروى محمد بن المبارك الصورى ثقة، حدثنا عمرو بن واقد ضعيف، حدثنا يونس بن ميسرة ثقة عن أبى إدريس الخولانى عن معاذ يرفعه: "يؤتى يوم القيامة بالممسوخ عقلاً، وبالهالك فى الفترة، وبالهالك صغيراً. فيقول الممسوخ عقلاً: يا رب لو آتيتنى عقلاً ما كان مَن آتيته عقلاً بأسعد منى، ويقول الهالك فى الفترة: يا رب لو آتانى منك عهد ما كان من آتاه منك عهد بأسعد بعهده منى، منى، فيقول الرب سبحانه: لئن أمرتكم بأمر فتطيعونى؟ فيقولون: نعم وعزتك فيقول: اذهبوا فادخلوا النار، فلو دخلوها ما ضرتهم قال: فيخرج عليهم قوابص يظنون أنها قد أهلكت ما خلق الله من شيء فيأمرهم الثانية، فيرجعون كذلك ويقولون: يا ربنا خرجنا وعزتك نريد دخولها، فخرجت علينا قوابص من نار ظننا أنها قد أهلكت ما خلق الله من شيء، فيأْمرهم الثانية فيرجعون كذلك ويقولون مثل قولهم، فيقول الله: قبل أن تخلقوا علمت ما أنتم عاملون وعلى علمى خلقتكم وإلى علمى تصيرون، فتأْخذهم النار"، فهذا وإن كان عمرو بن واقد لا يحتج به، فله أصل وشواهد والأُصول تشهد له. وفى الباب أحاديث غير هذا. وقد رويت أحاديث الامتحان فى الآخرة من حديث الأسود بن سريع وصححه عبد الحق والبيهقى من حديث أبى هريرة وأنس ومعاذ وأبى سعيد. فأما حديث الأسود فرواه معاذ [عن] هشام عن أبيه عن قتادة عن الأحنف بن قيس عن الأسود بن سريع أن النبى صلى الله عليه وسلم قال معاذ: وحدثنى أبى عن قتادة عن الحسن عن أبى رافع عن أبى هريرة، ورواه أحمد وإسحاق عن معاذ [ورواه] حماد بن سلمة عن على بن زيد بن جدعان عن رافع عن أبى هريرة، ورواه معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن أبى هريرة موقوفاً عليه، وهذا لا يضر الحديث فإنه إن سلك طريق ترجيح الزائد لزيادته فواضح، وإن سلك طريق المعارضة فغايتها تحقق الوقف، ومثل هذا لا يقدم عليه بالرأْى إذ لا مجال له فيقبل بجزم بأن هذا توقيف لا عن رأْى. وأما حديث أنس فرواه جرير بن عبد الحميد عن ليث بن أبى سليم عن عبد الوارث عن أنس عن النبى صلى الله عليه وسلم: "يؤتى يوم القيامة بأربعة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 بالمولود وبالمعتوه، وبمن مات فى الفترة، وبالشيخ الفانى كلهم يتكلم بحجته فيقول الرب سبحانه لعنق من جهنم: ابرزى. ويقول لهم: إنى كنت أبعث إلى عبادى رسولاً من أنفسهم وإنى رسول نفسى إليكم. قال: ويقول لهم: ادخلوا هذه. ويقول من كتب عليه الشقاءُ: أَنى ندخلها ومنها كنا نفر؟ فيقول الله: فأنتم لرسلى أشد تكذيباً قال: وأما من كتب عليهم السعادة فيمضى فيقتحم فيها، فيدخل هؤلاء إلى الجنة وهؤلاء إلى النار". وهذا وإن لم يعتمد عليه بمجرده لمكان ليث بن أبى سليم عن عبد الوارث عن أنس عن النبى صلى الله عليه وسلم [وأما حديث معاذ فتقدم الكلام عليه. وأما حديث أبى سعيد فرواه محمد بن يحيى الذهلى: أخبرنا سعيد بن سليمان عن فضيل بن مرزوق عن عطية عن أبى سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الهالك فى الفترة والمعتوه والمولود يقول الهالك فى الفترة: لم يأْتنى كتاب، ويقول المعتوه: رب لم تجعل لى عقلاً أعقل به خيراً ولا شراً. ويقول المولود: رب لم أُدرك العقل فيرفع لهم ناراً فيقول: ردوها، قال: فيردها من كان فى علم الله سعيداً لو أدرك العمل، ويمسك عنها من كان فى علم الله شقياً لو أدرك العمل، فيقول: إياى عصيتم، فكيف لو رسلى أتتكم"، تابعه الحسن بن موسى عن فضيل. ورواه أبو نعيم عن فضيل بن مرزوق فوقفه. فهذا وإن كان فيه عطية فهو ممن يعتبر بحديثه ويستشهد به، وإن لم يكن حجة. وأما الوقف فقد تقدم نظيره من حديث أبى هريرة. فهذه الأحاديث يشد بعضها بعضاً وتشهد لها أصول الشرع وقواعده، والقول بمضمونها هو مذهب السلف والسنة نقله عنهم الأشعرى رحمه الله فى المقالات وغيرها. فإن قيل: قد أنكر ابن عبد البر هذه الأحاديث وقال: أهل العلم ينكرون أحاديث هذا الباب، لأن الآخرة ليست دار عمل ولا ابتلاء وكيف يكلفون دخول النار وليس ذلك فى وسع المخلوقين، والله لا يكلف نفساً إلا وسعها؟ [ف] الجواب من وجوه: أحدها: أن أهل العلم لم يتفقوا على إنكارها بل ولا أكثرهم، وإن أنكرها بعضهم فقد صحح غيره بعضها كما تقدم. الثانى: أن أبا الحسن الأشعرى حكى هذا المذهب عن أهل السنة والحديث، فدل على أنهم ذهبوا إلى موجب هذه الأحاديث. الثالث: أن إسناد حديث الأسود أجود من كثير من الأحاديث التى يحتج بها فى الأحكام، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 ولهذا رواه الأئمة أحمد وإسحق وعلى بن المدينى. الرابع: أنه قد نص جماعة من الأئمة على وقوع الامتحان فى الدار الآخرة، وقالوا: لا ينقطع التكليف إلا بدخول دار القرار ذكره البيهقى عن غير واحد من السلف. الخامس: ما ثبت فى الصحيحين من حديث أبى هريرة وأبى سعيد فى الرجل الذى هو آخر أهل الجنة دخولاً إليها أن الله سبحانه وتعالى يأخذ عهوده ومواثيقه أن لا يسأله غير الذى يعطيه، وأنه يخالفه ويسأله غيره، فيقول الله تعالى: "ما أغدر كغدرك"، وهذا الغدر منه هو لمخلفته للعهد الذى عاهد ربه عليه. السادس: قوله: وليس ذلك فى وسع المخلوقين. جوابه من وجهين: أحدهما: أن ذلك ليس تكليفاً بما ليس فى الوسع، وإنما تكليف بما فيه مشقة شديدة، وهو كتكليف بنى إسرائيل قتل أولادهم وأزواجهم وآبائهم حين عبدوا العجل، وكتكليف المؤمنين إذا رأوا الدجال ومعه مثال الجنة والنار أن يقعوا فى الذى يرونه ناراً. والثانى: أنهم لو أطاعوه ودخلوها لم يضرهم، وكانت برداً وسلاماً، فلم يكلفوا بممتنع ولا بما لم يستطع. السابع: أنه قد ثبت أنه سبحانه وتعالى يأْمرهم فى القيامة بالسجود ويحول بين المنافقين وبينه. وهذا تكليف بما ليس فى الوسع قطعاً، فكيف ينكر التكليف بدخول النار فى رأْى العين إذا كانت سبباً كما قال أبو سعيد الخدرى هو أدق من الشعرة وأحدُّ من السيف" رواه مسلم، فركوب هذا الصراط الذى هو فى غاية المشقة كالنار، ولهذا كلاهما يفضى منه إلى النجاة والله أعلم. الثامن: أن هذا استبعاد مجرد لا ترد بمثله الأحاديث والناس لهم طريقان: فمن سلك طريق المشيئة المجردة لم يمكنه أن يستبعد هذا التكليف، ومن سلك طريق الحكمة والتعليل لم يكن معه حجة تنفى أن يكون هذا التكليف موافقاً للحكم، بل الأدلة الصحيحة تدل على أن مقتضى الحكمة كما ذكرناه. التاسع: أن فى أصح هذه الأحاديث وهو حديث الأسود أنهم يعطون ربهم المواثيق ليطيعنه فيما يأْمرهم به، فيأْمرهم أن يدخلوا نار الامتحان فيتركون الدخول معصية لأمره لا لعجزهم عنه. فكيف يقال أنه ليس فى الوسع. فإن قيل: فالآخرة دار جزاءٍ، وليست دار تكليف، فكيف يمتحنون فى غير دار التكليف؟ فالجواب: أن التكليف إنما ينقطع بعد دخول دار القرار، وأما فى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 البرزخ وعرصات القيامة فلا ينقطع وهذا معلوم بالضرورة من الدين من وقوع التكليف بمسألة الملكين فى البرزخ وهى تكليف. وأما فى عرصة القيامة فقال تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم: 42] ، [فهذا] صريح فى أن الله يدعو الخلائق إلى السجود يوم القيامة، وأن الكفار يحال بينهم وبين السجود إذ ذاك، ويكون هذا التكليف، بما لا يطاق حينئذ حساً عقوبة لهم، لأنهم كلفوا به فى الدنيا وهم يطيقونه فلما امتنعوا منه وهو مقدور لهم كلفوا به وهم لا يقدرون عليه حسرة عليهم وعقوبة لهم، ولهذا قال تعالى: {وَقدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم: 43] [يعنى أصحابه لا أحد يمنعهم منه فلما تركوه وهم سالمون] دعوا إليه فى وقت حيل بينهم وبينه كما فى الصحيح من حديث زيد ابن أسلم عن عطاء عن أبى سعيد رضى الله عنه: "إن ناساً قالوا: يا رسول الله، هل نرى ربنا"- فذكر الحديث بطوله، إلى أن قال- "فيقول تتبع كل أُمه ما كانت تعبد فيقول المؤمنون: فارقنا الناس فى الدنيا أفقر ما كنا إليهم، ولم نصاحبهم. فيقول: أنا ربكم. فيقولون: نعوذ بالله منك لا نشرك بالله شيئاً- مرتين أو ثلاثاً- حتى إن بعضهم ليكاد أن ينقلب فيقول هل بينكم وبينه آية تعرفونه بها" فيقولون نعم، فيكشف عن ساق فلا يبقى من كان يسجد تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود، ولا يبقى من كان يسجد اتقاءً ورياءً إلا جعل الله ظهره:" [طبقة] واحدة كلما أراد أن يسجد خر على قفاه ثم يرفعون رؤوسهم" وذكر الحديث. وهذا التكليف نظير تكليف البرزخ بالمسألة، فمن أجاب فى الدنيا طوعاً واختياراً أجاب فى البرزخ، [ومن امتنع من الإجابة فى الدنيا منع منها فى البرزخ] ولم يكن تكليفه فى الحال وهو غير قادر قبيحاً، بل هو مقتضى الحكمة الإلهية، لأنه كلف وقت القدرة فأَبى، فإذا كلف وقت العجز وقد حيل بينه وبين الفعل كان عقوبة له وحسرة. والمقصود أن التكليف لا ينقطع إلا بعد دخول الجنة أو النار، وقد تقدم أن حديث الأسود بن سريع صحيح، وفيه التكليف فى عرصة القيامة. فهو مطابق لما ذكرنا من النصوص الصحيحة الصريحة. فعلم أن الذى تدل عليه الأدلة الصحيحة وتأْتلف به النصوص ومقتضى الحكمة هذا القول والله أعلم. وقد حكى بعض أهل المقالات عن عامر بن أشرس أنه ذهب إلى أن الأطفال يصيرون فى يوم القيامة تراباً، وقد نقل عن ابن عباس ومحمد بن الحنفية والقاسم بن محمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 وغيرهم أنهم كرهوا الكلام فى هذه المسألة جملة. الطبقة الخامسة عشرة: طبقة الزنادقة، وهم قوم أظهروا الإسلام ومتابعة الرسل، وأبطنوا الكفر ومعاداة الله [ورسوله] . وهؤلاء المنافقون، وهم فى الدرك الأسفل من النار، قال تعالى: {إِنَّ المُنَافِقِينَ فِى الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ، وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً} [النساء: 145] ، فالكفار المجاهرون بكفرهم أخف، وهم فوقهم فى دركات النار. لأن الطائفتين اشتركتا فى الكفر ومعاداة الله ورسله وزاد المنافقون عليهم بالكذب والنفاق، وبلية المسلمين بهم أعظم من بليتهم بالكفار المجاهرين، ولهذا قال تعالى فى حقهم: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} [المنافقون: 4] ، ومثل هذا اللفظ يقتضى الحصر، أى لا عدو إلا هم، ولكن لم يرد هاهنا [حصر العداوة فيهم وأنهم لا عدو للمسلمين سواهم بل هذا] من إثبات الأولوية والأحقية لهم فى هذا الوصف، وأنه لا يتوهم بانتسابهم إلى المسلمين ظاهراً وموالاتهم [لهم] ومخالطتهم إياهم أنهم ليسوا بأعدائهم، بل هم أحق بالعدواة ممن باينهم فى الدار، ونصب لهم العداوة وجاهرهم بها. فإن ضرر هؤلاءِ المخالطين لهم المعاشرين لهم- وهم فى الباطن على خلاف دينهم- أشد عليهم من ضرر من جاهرهم بالعداوة وألزم وأدوم، لأن الحرب مع أولئك ساعة أو أياماً ثم ينقضى ويعقبه النصر والظفر، وهؤلاء معهم فى الديار والمنازل صباحاً ومساءً، يدلون العدو على عوراتهم ويتربصون بهم الدوائر ولا يمكنهم مناجزتهم، فهم أحق بالعداوة من المباين المجاهر، فلهذا قيل: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْوهُمْ} [المنافقون: 4] ، لا على معنى أنه لا عدو لكم سواهم، بل على معنى أنهم أحق بأن يكونوا لكم عدواً من الكفار المجاهرين. ونظير ذلك قول النبى صلى الله عليه وسلم: "ليس المسكين الطواف الذى ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذى لا يسأل الناس، ولا يفطن له فيتصدق عليه"، فليس هذا نفياً لاسم المسكين عن الطواف، بل إخبار بأن هذا القانع الذى لا يسمونه مسكيناً أحق بهذا الاسم من الطواف الذى يسمونه مسكيناً. ونظيره قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس الشديد بالصُّرعة، ولكن الذى يملك نفسه عند الغضب"،ليس نفياً للاسم عن الصرعة، ولكن إخبار بأن من يملك نفسه عند الغضب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 أحق منه بهذا الاسم. ونظيره قوله صلى الله عليه وسلم: "ما تعدون المفلس فيكم"؟ قالوا: من لا درهم له ولا متاع. قال: "المفلس من يأتى يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال، ويأْتى قد لطم هذا وضرب هذا وأخذ مال هذا، فيقتص هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أُخذ من سيئاتهم ثم طرح عليه فأُلقى فى النار"، ونظيره قوله صلى الله عليه وسلم: "ما تعدون الرقوب فيكم"؟ قالوا: من لا يولد له؟ قال: "الرقوب من لم يقدم من ولده شيئاً"، ومنه عندى قوله صلى الله عليه وسلم: "الربا فى النسيئة". وفى لفظ: "إنما الربا فى النسيئة" هو إثبات لأن هذا النوع هو أحق باسم الربا من ربا الفضل، وليس فيه اسم الربا عن ربا الفضل. فتأمله. والمقصود أن هذه الطبقة أشقى الأشقياءِ، ولهذا يستهزأُ بهم فى الآخرة، وتعطى نوراً يتوسطون به على الصراط ثم يطفيء الله نورهم ويقال لهم: {ارْجَعُوا وَرَاءَكُمْ فَالتَمِسُوا نُوراً} [الحديد: 13] ، ويضرب بينهم وبين المؤمنين: {بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قَبْلِهِ الْعَذَابُ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُم وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِى حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللهِ وَغرَّكُمْ بِاللهِ الغرُورِ} [الحديد: 13] ، وهذا أشد ما يكون من الحسرة والبلاءِ أن يفتح للعبد طريق النجاة والفلاح، حتى إذا ظن أنه ناج ورأى منازل السعداءِ اقتطع عنهم وضربت عليه الشقوة ونعوذ بالله من غضبه وعقابه. وإنما كانت هذه الطبقة فى الدرك الأسفل لغلظ كفرهم، فإنهم خالطوا المسلمين وعاشروهم، وباشروا من أعلام الرسالة وشواهد الإيمان ما لم يباشره البعداءُ، ووصل إليهم من معرفته وصحته ما لم يصل إلى المنابذين بالعداوة، فإذا كفروا مع هذه المعرفة والعلم كانوا أغلظ كفراً وأخبث قلوباً، وأشد عداوة لله ولرسوله وللمؤمنين من البعداءِ عنهم، وإن كان البعداء متصدين لحرب المسلمين. ولهذا قال تعالى [فى المنافقين] : {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُم لا يَفْقَهُونَ} [المنافقين: 3] ، وقال تعالى فيهم: {صُم بُكْمُّ عُمِى فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [البقرة: 18] ، وقال تعالى فى الكفار: {صُم بُكْم عُمْى فَهُمْ لا يرْجَعُونَ} [البقرة: 171] ، فالكافر لم يعقل، والمنافق أبصر ثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 عمى وعرف ثم تجاهل وأقر ثم أنكر وآمن، ثم كفر، ومن كان هكذا كان أشد كفراً وأخبث قلباً وأعتى على الله ورسله، فاستحق الدرك الأسفل. وفيه معنى آخر أيضاً وهو أن الحامل لهم على النفاق طلب العز والجاه بين الطائفتين فيرضوا المؤمنين ليعزوهم، ويرضوا الكفار ليعزوهم أيضاً. ومن [هاهنا] دخل عليهم البلاءُ، فإنهم أرادوا العزتين من الطائفتين، ولم يكن لهم غرض فى الإيمان والإسلام ولا طاعة الله ورسوله، بل كان ميلهم وضعوهم وجهتهم إلى الكفار، فقوبلوا على ذلك بأعظم الذل وهو أن جعل مستقرهم فى أسفل السافلين تحت الكفار، فما اتصف به المنافقون من مخادعة الله ورسوله والذين آمنوا، والاستهزاءِ بأهل الإيمان والكذب والتلاعب بالدين وإظهار أنهم [من المؤمنين وأبطنوا قلوبهم فتغلظ كفرهم به، فاستحقوا الدرك الأسفل] من النار ولهذا لما ذكر تعالى أقسام الخلق فى أول سورة [البقرة: 2-20] فقسمهم إلى مؤمن ظاهراً وباطناً، وكافر ظاهراً وباطناً، ومؤمن فى الظاهر كافر فى الباطن وهم المنافقون، وذكر فى حق المؤمنين ثلاث آيات 3-5، وفى حق الكفار آيتين 6- 7. فلما انتهى إلى ذكر المنافقين ذكر فيهم بضع عشرة آية 8- 20 ذمهم فيها غاية الذم وكشف عوراتهم وقبحهم وفضحهم، وأخبر أنهم هم السفهاءُ المفسدون فى الأرض المخادعون المستهزئون المغبونون فى اشترائهم الضلالة بالهدى، وأنهم صم بكم عمى فهم لا يرجعون، وأنهم مرضى القلوب وأن الله يزيدهم مرضاً إلى مرضهم، فلم يدع ذماً ولا عيباً إلا ذمهم به، وهذا يدل على شدة مقته سبحانه لهم، وبغضه إياهم، وعداوته لهم، وأنهم أبغض أعدائه إليه. فظهرت حكمته الباهرة فى تخصص هذه الطبقة بالدرك الأسفل من النار. نعوذ بالله من مثل حالهم، ونسأله معافاته ورحمته. ومن تأمل ما وصف [الله به المنافقين فى القرآن من صفات الذم علم أنهم أحق بالدرك الأسلف فإنه وصفهم بمخادعته ومخادعة عباده ووصف] قلوبهم بالمرض وهو مرض الشبهات والشكوك. ووصفهم بالإفساد فى الأرض وبالاستهزاءِ بدينه وبعباده، وبالطغيان، واشتراءِ الضلالة بالهدى والصمم والبكم والعمى والحيرة والكسل عند عبادته، والزنا وقلة ذكره، والتردد- والتذبذب- بين المؤمنين والكفار، فلا إلى هؤلاءِ ولا إلى هؤلاءِ، والحلف باسمه تعالى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 كذباً وباطلاً وبالكذب وبغاية الجبن، وبعدم الفقه فى الدين وبعدم العلم، وبالبخل، وبعدم الإيمان بالله واليوم الآخر وبالرب، وبأنهم مضرة على المؤمنين ولا يحصل كلهم بنصيحتهم إلا الشر من الخبال والإسراع بينهم بالشر وإلقاءِ الفتنة، وكراهتهم لظهور أمر الله، ومحو الحق، وأنهم يحزنون بما يحصل للمؤمنين من الخير والنصر، ويفرحون بما يحصل لهم من المحنة والابتلاءِ، وأنهم يتربصون الدوائر بالمسلمين وبكراهتهم الإنفاق فى مرضاة الله وسبيله، وبعيب [المؤمنين ورميهم بما ليس فيهم فيلزمون المتصدقين ويعيبون] مزهدهم، ويرمون [مكثرهم] بالرياءِ إرادة الثناء فى الناس، وأنهم عبيد الدنيا إن أُعطوا منها رضوا وإن [منعو] سخطوا، وبأنهم يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم وينسبونه إلى ما برأه الله منه ويعيبونه بما هو من كماله وفضله وأنهم يقصدون إرضاءَ المخلوقين ولا يطلبون إرضاءَ رب العالمين وأنهم يسخرون من المؤمنين، وأنهم يفرحون إذا تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكرهون الجهاد فى سبيل الله، وأنهم يتحيلون على تعطيل فرائض الله عليهم بأنواع الحيل، وأنهم يرضون بالتخلف عن طاعة الله ورسوله، [وأنهم] مطبوع على قلوبهم، وأنهم يتركون ما أوجب الله عليهم مع قدرتهم عليه، وأنهم أحلف الناس بالله قد اتخذوا أيمانهم جُنّة تقيهم من إنكار المسلمين عليهم، وهذا شأْن المنافق أحلف الناس بالله كاذباً قد اتخذ يمينه جنة ووقاية يتقى بها إنكار المسلمين عليه، ووصفهم بأنهم رجس- والرجس من كل جنس أخبثه وأقذره- فهم أخبث بنى آدم وأقذرهم وأرذلهم وبأنهم فاسقون، وبأنهم مضرة على أهل الإيمان يقصدون التفريق بينهم، ويؤوون من حاربهم وحارب الله ورسوله، وأنهم يتشبهون بهم ويضاهونهم فى أعمالهم ليتوصلوا منها إلى الإضرار بهم وتفريق كلمتهم، وهذا شأن المنافقين أبداً وبأنهم فتنوا أنفسهم بكفرهم بالله ورسوله وتربصوا بالمسلمين دوائر السوء، وهذه عادتهم فى كل زمان، وارتابوا فى الدين فلم يصدقوا به، وغرتهم الأمانى الباطلة وغرهم الشيطان، وأنهم أحسن الناس أجساماً تعجب الرائى أجسامهم، والسامع منطقهم، فإذا جاوزت أجسامهم وقولهم رأيت خشباً مسنده، ولا إيمان ولا فقه، ولا علم ولا صدق، بل خشب قد كسيت كسوة تروق الناظر، وليسوا وراءَ ذلك شيئاً، وإذا عرض عليهم التوبة والاستغفار أبوها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 وزعموا أنهم لا حاجة لهم إليها، إما لأن ما عندهم من الزندقة والجهل المركب مغن عنها وعن الطاعات جملة- كحال كثير من الزنادقة-وإما احتقاراً وازدراءً بمن يدعوهم إلى ذلك، ووصفهم سبحانه بالاستهزاءِ به وبآياته وبرسوله وبأنهم مجرمون وبأنهم يأْمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم عن الإنفاق فى مرضاته، ونسيان ذكره، وبأنهم يتولون الكفار ويدعون المؤمنين، وبأن الشيطان قد استحوذ عليهم وغلب عليهم حتى أنساهم ذكر الله فلا يذكرونه إلا قليلاً، وأنهم حزب الشيطان وأنهم يوادون من حاد الله ورسوله وبأنهم يتمنون ما يعنت المؤمنين ويشق عليهم، وأن البغضاءَ تبدو لهم من أفواههم وعلى فلتات ألسنتهم، بأنهم يقولون بأفواههم ما ليس فى قلوبهم. ومن صفاتهم التى وصفهم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم الكذب فى الحديث والخيانة فى الأمانة، والغدر عند العهد، والفجور عند الخصام، والخلف عند الوعد، وتأْخير الصلاة إلى آخر وقتها، ونقرها عجلة وإسراعاً، وترك حضورها جماعة وأن أثقل الصلوات عليهم الصبح والعشاءُ. ومن صفاتهم التى وصفهم الله بها الشح على المؤمنين بالخير، والجبن عند الخوف، فإذا ذهب الخوف وجاءَ الأمن سلقوا المؤمنين بأَلسنة حداد، فهم أحد الناس أَلسنة عليهم كما قيل: جهلاً علينا وجبناً عن عدوكم ... لبئست الخلتان الجهل والجبن وإنهم عند المخاوف تظهر كمائن صدورهم ومخبآتهم، وأما عند الأمن فيجب ستره، فإذا لحق المسلمين خوف دبت عقارب قلوبهم وظهرت المخبآت وبدت الأسرار. ومن صفاتهم أنهم أعذب الناس ألسنة، [وأمرهم] قلوباً وأعظم الناس [مخالفة] بين أعمالهم وأقوالهم ومن صفاتهم أنهم لا يجتمع فيهم حسن صمت وفقه فى دين أبداً ومن صفاتهم أن أعمالهم تكذب أقوالهم، وباطنهم يكذب ظاهرهم وسرائرهم تناقض علانيتهم. ومن صفاتهم أن المؤمن لا يثق بهم فى شيء فإنهم قد أعدوا لكل أَمر مخرجاً منه، بحق أو بباطل بصدق أو بكذب، ولهذا سمى منافقاً أخذاً من نافقاءِ اليربوع- وهو بيت يحفره ويجعل له أسراباً مختلفة- فكلما طلب من سرب خرج من سرب آخر، فلا يتمكن طالبه من حصره فى سرب واحد، قال الشاعر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 ويستخرج اليربوع من نافقائه ... ومن جحره بالشيحة اليتقصع فأنت منه [كقبض] على الماءِ، ليس معك منه شيء. ومن صفاتهم كثرة التلون، وسرعة التقلب، وعدم الثبات على حال واحد: بينا تراه على حال تعجبك من دين أو عبادة أو هدى صالح أو صدق، إذ انقلب إلى ضد ذلك كأنه لم يعرف غيره، فهو أشد الناس تلوناً وتقلباً وتنقلاً، جيفة بالليل قطرب بالنهار. ومن صفاتهم أنك إذا دعوتهم عند المنازعة للتحاكم إلى القرآن والسنة أبوا ذلك وأعرضوا عنه، ودعوك إلى التحاكم إلى طواغيتهم، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يَزْعَمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزَلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطاغوت وَقَد أمرُوا أَن يَكْفُروا بهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أن يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالُوا إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ المُنَافقِين يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً فَكَيْف إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيَهِمْ ثُمَّ جَاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِى قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُم فِى أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} [النساء: 60-63] . ومن صفاتهم: معارضة ما جاءَ به الرسول صلى الله عليه وسلم بعقول الرجال وآرائهم، ثم تقديمها على ما جاءَ. فهم معرضون عنه معارضون له، زاعمون أن الهدى فى آراءِ الرجال وعقولهم، دون ما جاءَ به فلو أعرضوا عنه وتعوضوا بغيره لكانوا منافقين، فكيف إذا جمعوا مع ذلك معارضته وزعموا أنه لا يستفاد منه هدى. ومن صفاتهم: كتمان الحق، والتلبيس على أهله، ورميهم له بأدوائهم: فيرمونهم- إذا أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ودعوا إلى الله ورسوله- بأنهم أهل فتن مفسدون فى الأرض. وقد علم الله ورسوله والمؤمنون بأنهم أهل الفتن المفسدون فى الأرض، وإذا دعا ورثة الرسول إلى كتاب الله وسنة رسوله خالصة غير [مثوبة] رموهم بالبدع والضلال، وإذا رأوهم زاهدين فى الدنيا راغبين فى الآخرة متمسكين بطاعة الله ورسوله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 رموهم بالزوكرة، والتلبيس والمحال. وإذا رأوا معهم حقاً ألبسوه لباس الباطل، وأخرجوه لضعفاءِ العقول فى قالبة شنيع لينفروهم عنه، وإذا كان معهم باطل [ألبسوه] لباس الحق وأخرجوه فى قالبه ليقبل منهم. وجملة أمرهم أنهم فى المسلمين كالزغل فى النقود، يروج على أكثر الناس لعدم بصيرتهم بالنقد، ويعرف حاله الناقد البصير من الناس، وقليل ما هم، وليس على الأديان أضرَّ من هذا الضرب من الناس، وإنما تفسد الأديان من قبلهم، ولهذا جلا الله أمرهم فى القرآن، وأوضح أوصافهم وبين أحوالهم وكرر ذكرهم، لشدة المؤنة على الأُمة بهم وعظم البلية عليهم بوجودهم بين أظهرهم وفرط حاجتهم إلى معرفتهم والتحرز من مشابهتهم والإصغاء إليهم، فكم قطعوا على السالكين إلى الله طرق الهدى وسلكوا بهم سبيل الردى: وعدوهم ومنوهم، ولكن وعدوهم الغرور ومنوهم الويل والثبور. فكم من قتيل، ولكن فى سبيل الشيطان وسليب ولكن للباس التقوى والإيمان. وأسير لا يرجى له الخلاص وفارّ من الله لا إليه، وهيهات ولات حين مناص. صحبتهم توجب العار والشنار، ومودتهم تحل غضب الجبار وتوجب دخول النار من [علقت] به كلاليب كلبهم ومخاليب رأْيهم مزقت منه ثياب الدين والإيمان وقطعت له مقطعات من البلاءِ والخذلان، فهو يسحب من الحرمان والشقاوة أذيالاً، ويمشى على عقبيه القهقرى إدباراً منه وهو يحسب ذلك إقبالاً. فهم والله قطاع الطريق، فيا أيها الركب المسافرون إلى منازل السعداء، حذار منهم حذار، هم الجزارون ألسنتهم شفار البلايا. ففراراً منهم أيها الغنم فراراً. ومن البلية أنهم الأعداءُ حقاً وليس لنا بد من مصاحبتهم، وخلطتهم أعظم الداءِ وليس بد من مخالطتهم قد جعلوا على أبواب جهنم دعاة إليها فبعداً للمستجيبين، ونصبوا شباكهم حواليها على ما حفت به من الشهوات، فويل للمغترين. نصبوا الشباك ومدوا الأشراك وأذن مؤذنهم: يا شياه الأنعام حى على الهلاك، حى على التباب. فاستبقوا يهرعون إليهم، فأوردوهم حياض العذاب، لا الموارد العذاب. وساموهم من الخسف والبلاءِ أعظم خطة، وقالوا: ادخلوا باب الهوان صاغرين ولا تقولوا حطة، فليس بيوم حطة. [فواعجباً] لمن نجا من شراكهم لا من علق، وأنى ينجو من غلبت عليه شقاوته ولها خلق، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 فحقيق بأهل هذه الطبقة أن يحلو بالمحل الذى أحلهم الله من دار الهوان وأن ينزلوا فى أردئ منازل أهل العناد والكفران. وبحسب إيمان العبد ومعرفته بكون خوفه أن يكون من أهل هذه الطبقة، ولهذا اشتد خوف سادة الأُمة وسابقوها على أنفسهم أن يكونوا منهم، فكان عمر بن الخطاب يقول: يا حذيفة، ناشدتك الله، هل سمانى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع القوم؟ فيقول: لا، ولا أُزكى بعدك أحداً. يعنى لا أفتح على هذا الباب فى تزكية الناس، وليس معناه أنه لم يبرأْ من النفاق غيرك. وقال ابن أبى مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب رسول الله؟ صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول إنه على إيمان جبرائيل وميكائيل. الطبقة السادسة عشرة: رؤساء الكفر وأئمته، ودعاته الذين كفروا وصدوا عباد الله عن الإيمان وعن الدخول فى دينه رغبة ورهبة فهؤلاء عذابهم مضاعف، ولهم عذابان: عذاب بالكفر، وعذاب بصد الناس عن الدخول فى الإيمان. قال الله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ الله زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ العَذَابِ} [النحل: 88] فأحد العذابين بكفرهم، والعذاب الآخر بصدهم عن سبيل الله. وقد استقرت حكمة الله وعدله أن يجعل على الداعى إلى الضلال مثل آثام من اتبعه واستجاب له، ولا ريب أن عذاب هذا يتضاعف ويتزايد بحسب من اتبعه وضل به. وهذا النوع فى الأشقياء مقابل دعاة الهدى فى السعداءِ، فأُولئك يتضاعف ثوابهم وتعلو درجاتهم بحسب من اتبعهم واهتدى بهم، وهؤلاء عكسهم، ولهذا كان فرعون وقومه فى أشد العذاب، قال تعالى فى حقهم: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوَّا وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أدْخِلُوا آلِ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46] ، وهذا تنبيه على أن فرعون نفسه فى الأشد من ذلك، لأنهم إنما دخلوا أشد العذاب تبعاً له، فإنه هو الذى استخفهم فأطاعوه، وغرهم فاتبعوه. ولهذا يكون يوم القيامة إمامهم وفرطهم فى هذا الورد، قال تعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمْ النَّارَ} [هود: 98] . والمقصود: أنهم استحقوا أشد العذاب لغلظ كفرهم، وصدهم عن سبيل الله وعقوبتهم من آمن بالله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 فليس عذاب الرؤساء فى النار كعذاب أتباعهم، ولهذا كان فى كتاب النبى صلى الله عليه وسلم لهرقل: "فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين ". والصحيح فى اللفظ أنهم الأتباع ولهذا كان عدو الله إبليس أشد أهل النار عذاباً، وهو أول من يكسى حلة من النار، لأنه إمام كل كفر وشرك وشر. فما عصى الله إلا على يديه وبسببه، ثم الأَمثل فالأمثل من نوابه فى الأرض ودعاته. ولا ريب أن الكفر يتفاوت، فكفر أغلظ من كفر، كما أن الإيمان يتفاوت فإيمان أفضل من إيمان. فكما أن المؤمنين ليسوا فى درجة واحدة، بل هم درجات عند الله، فكذلك الكفار ليسوا فى طبقة واحدة ودرك واحد بل النار دركات كما أن الجنة درجات. ولا يظلم الله من خلقه أحداً. وهو الغنى الحميد. فصل وغلظ الكفر الموجب لغلظ العذاب يكون من ثلاثة أوجه: أحدها: من حيث العقيدة الكافرة فى نفسها، كمن جحد رب العالمين بالكلية وعطل العالم عن الرب الخالق المدبر له، فلم يؤمن بالله وملائكته ولا كتبه ولا رسله ولا اليوم الآخر. ولهذا لا يقر أرباب هذا الكفر بالجزية عند كثير من العلماءِ، ولا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم اتفاقاً لتغلظ كفرهم، وهؤلاءِ هم المعطلة والدهرية وكثير من الفلاسفة وأهل الوحدة القائلين بأنه لا وجود للرب سبحانه وتعالى غير وجود هذا العالم. [الجهة الثانية] : تغلظه بالعناد والضلال عمداً على بصيرة، ككفر من شهد قلبه أن الرسول حق لما رآه من آيات صدقه، وكفر عناداً وبغياً، كقوم ثمود، وقوم فرعون واليهود الذين عرفوا الرسول كما عرفوا أبناءَهم، وكفر أبى جهل وأُمية ابن أبى الصلت وأمثال هؤلاء. الجهة الثالثة: السعى فى إطفاءِ نور الله وصد عباده عن دينه بما تصل إليه قدرتهم، فهؤلاءِ أشد الكفار عذاباً بحسب تغلظ كفرهم، ومنهم من يجتمع فى حقه الجهات الثلاث، ومنهم من يكون فيه جهتان منها أو واحدة فليس ع ذاب هؤلاءِ كعذاب من هو دونهم فى الكفر ممن هو ملبوس عليه لجهله، والمؤمنون من أذاه فى سلامة لا ينالهم منه أذى، ولم يتغلظ كفره كتغلظ هؤلاءِ، بل هو مقر بالله ووحدانيته وملائكته وجنس الكتب والرسل واليوم الآخر. وإن شارك أولئك فى كفرهم بالرسول فقد زادوا عليه أنواعاً من الكفر. وهل يستوى فى النار عذاب أبى طالب وأبى لهب وأبى جهل وعقبة بن أبى معيط وأبى ابن خلف وأضرابهم؟ والمقصود أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 هذه الطبقة وهى طبقة الرؤساءِ الدعاة الصادين عن دين الله ليست كطبقة من دونهم، وقد ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أهون أهل النار عذاباً أبو طالب"، ومعلوم أن كفر أبى طالب لم يكن مثل كفر أبى جهل وأمثاله. الطبقة السابعة عشرة: طبقة المقلدين وجهال الكفرة وأتباعهم وحميرهم الذين هم معهم تبعاً لهم يقولون: إنا وجدنا آباءَنا على أُمة، ولنا أُسوة بهم. ومع هذا فهم متاركون لأهل الإسلام غير محاربين لهم، كنساءِ المحاربين وخدمهم وأتباعهم الذين لم ينصبوا أنفسهم لنا نصب له أُولئك أنفسهم من السعى فى إطفاءِ نور الله وهدم دينه وإخماد كلماته، بل هم بمنزلة الدواب. وقد اتفقت الأُمة على أن هذه الطبقة كفار وإن كانوا جهالاً مقلدين لرؤسائهم وأئمتهم إلا ما يحكى عن بعض أهل البدع أنه لم يحكم لهؤلاءِ بالنار وجعلهم بمنزلة من لم تبلغه الدعوة، وهذا مذهب لم يقل به أحد من أئمة المسلمين لا الصحابة ولا التابعين ولا من بعدهم، وإنما يعرف عن بعض أهل الكلام المحدث فى الإسلام. وقد صح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما من مولود إلا وهو يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه"، فأخبر أن أبويه ينقلانه عن الفطرة إلى اليهودية والنصرانية والمجوسية، ولم يعتبر فى ذلك غير المربى والمنشإِ على ما عليه الأبوان. وصح عنه أنه قال صلى الله عليه وسلم: "إن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة"، وهذا المقلد ليس بمسلم، وهو عاقل مكلف، والعاقل المكلف لا يخرج عن الإسلام أو الكفر. وأما من لم تبلغه الدعوة فليس بمكلف فى تلك الحال، وهو بمنزلة الأطفال والمجانين. وقد تقدم الكلام عليهم. والإسلام هو توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، والإيمان بالله وبرسوله واتباعه فيما جاءَ به، فما لم يأْت العبد بهذا فليس بمسلم وإن لم يكن كافراً معانداً فهو كافر جاهل. فغاية هذه الطبقة أنهم كفار جهال غير معاندين، وعدم عنادهم لا يخرجهم عن كونهم كفاراً فإن الكافر من جحد توحيد الله وكذب رسوله إما عناداً وإما جهلاً وتقليداً لأهل العناد. فهذا وإن كان غايته أنه غير معاند فهو متبع لأهل العناد، وقد أخبر الله فى القرآن فى غير موضع بعذاب المقلدين لأسلافهم من الكفار، وأن الأتباع مع متبوعيهم وأنهم يتحاجون فى النار وأن الأتباع يقولون: {رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ، قَالَ لِكُلِّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 ضِعْفٌ وَلِكِنْ لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 38] ، وقال تعالى: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِى النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِّنَ النَّار قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلّ فِيهَا إِن اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} [غافر: 47-48] ، وقال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجَعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ القَوْلَ يَقُولُ الذين اسْتُضْعِفُوا لِلِّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لوْلا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ قَالَ الَّذِينَ الَّذِينَ استكبروا للذين اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُجْرِمِينَ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأمُرُونَنَا أن نَكْفُرِ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَاداً} [سبأ: 31- 33] . فهذا إخبار من الله وتحذير بأن المتبوعين والتابعين اشتركوا فى العذاب ولم يغن عنهم تقليدهم شيئاً. وأصرح من هذا قوله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُا مِنَّا} [البقرة: 166-167] . وصح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل أوزار من اتبعه، لا ينقص من أوزارهم شيئاً"، وهذا يدل على أن كفر من اتبعهم إنما هو بمجرد اتباعهم وتقليدهم. نعم لا بد فى هذا المقام من تفصيل به يزول الإشكال، وهو الفرق بين مقلد تمكن من العلم ومعرفة الحق فأعرض عنه، ومقلد لم يتمكن من ذلك بوجه، والقسمان واقعان فى الوجود، فالمتمكن المعرض مفرط تارك للواجب عليه لا عذر له عند الله، وأما العاجز عن السؤال والعلم الذى لا يتمكن من العلم بوجه فهم قسمان أيضاً أحدهما مريد للهدى مؤثر له محب له، غير قادر عليه ولا على طلبه لعدم من يرشده، فهذا حكمه حكم أرباب الفترات، ومن لم تبلغه الدعوة. الثانى: معرض لا إرادة له، ولا يحدث نفسه بغير ما هو عليه. فالأول يقول: يا رب لو أعلم لك ديناً خيراً مما أنا عليه لدنت به وتركت ما أنا عليه ولكن لا أعرف سوى ما أنا عليه ولا أقدر على غيره، فهو غاية جهدى ونهاية معرفتى. والثانى: راض بما هو عليه لا يؤثر غيره عليه ولا تطلب نفسه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 سواه ولا فرق عنده بين حال عجزه وقدرته، وكلاهما عاجز وهذا لا يجب أن يلحق بالأول لما بينهما من الفرق: فالأَول كمن طلب الدين فى الفترة ولم يظفر به فعدل عنه بعد استفراغ الوسع فى طلبه عجزاً وجهلاً، والثانى كمن لم يطلبه، بل مات فى شركه وإن كان لو طلبه لعجز عنه، ففرق بين عجز الطالب وعجز المعرض. فتأمل هذا الموضع، والله يقضى بين عباده يوم القيامة بحكمه وعدله، ولا يعذب إلا من قامت عليه حجته بالرسل، فهذا مقطوع به فى جملة الخلق. وأما كون زيد بعينه وعمرو بعينه قامت عليه الحجة أم لا، فذلك مما لا يمكن الدخول بين الله وبين عباده فيه، بل الواجب على العبد أن يعتقد أن كل من دان بدين غير دين الإسلام فهو كافر، وأن الله سبحانه وتعالى لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه بالرسول. هذا فى الجملة والتعيين موكول إلى علم الله [عز وجل] وحكمه هذا فى أحكام الثواب والعقاب. وأما فى أحكام الدنيا [فهى جارية مع ظاهر الأمر فأطفال الكفار ومجانينهم كفار فى أحكام الدنيا] لهم حكم أوليائهم. وبهذا التفصيل يزول الإشكال فى المسألة. وهو مبنى على أربعة أُصول: أحدها: أن الله سبحانه وتعالى لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه، كما قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذَّبِينَ حَتَّى نبعث رَسُولاً} [الإسراء: 15] ، وقال تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] ، وقال تعالى: {كُلَّمَا أَلْقِى فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزْنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فكَذَّبْنَا وَقُلنَا مَا نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ} [الملك: 8- 9] ، وقال تعالى: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 11] ، وقال تعالى: {يَامَعْشَرَ الْجِنّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مّنْكُمْ يَقُصّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَىَ أَنْفُسِنَا وَغَرّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَىَ أَنْفُسِهِمْ أَنّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ} [الأنعام: 130] ، وهذا كثير فى القرآن، يخبر أنه إنما يعذّب من جاءه الرسول وقامت عليه الحجة، وهو المذنب الذى يعترف بذنبه، وقال تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف: 76] ، والظالم من عرف ما جاءَ به الرسول أو تمكن من معرفته، وأما من لم [يكن عنده من الرسول خبراً أصلاً ولا يمكن من معرفته بوجه] وعجز عن ذلك فكيف يقال إنه ظالم؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 الأصل الثانى: أن العذاب يستحق بسببين، أحدهما: الإعراض عن الحجة وعدم [إرادة العلم] بها وبموجبها. الثانى: العناد لها بعد قيامها وترك إرادة موجبها. فالأول كفر إعراض والثانى كفر عناد. وأما كفر الجهل مع عدم قيام الحجة وعدم التمكن من معرفتها فهذا الذى نفى الله التعذيب عنه حتى تقوم حجة الرسل. الأصل الثالث: أن قيام الحجة يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص فقد تقوم حجة الله على الكفار فى زمان دون زمان وفى بقعة وناحية دون أُخرى كما أنها تقوم على شخص دون آخر، إما لعدم عقله وتمييزه كالصغير والمجنون وإما لعدم فهمه كالذى لا يفهم الخطاب ولم يحضر ترجمان يترجم له. فهذا بمنزلة الأصم الذى لا يسمع شيئاً ولا يتمكن من الفهم، وهو أحد الأربعة الذين يدلون على الله بالحجة يوم القيامة كما تقدم فى حديث الأسود وأبى هريرة وغيرهما. الأصل الرابع: أن أفعال الله سبحانه وتعالى تابعة لحكمته التى لا يخل بها [سبحانه] ، وأنها مقصودة لغايتها المحمودة وعواقبها الحميدة. وهذا الأصل هو أساس الكلام فى هذه الطبقات [الذى عليه نبنى مع تلقى أحكامها من نصوص التكاب والسنة لا من أراء الرجال وعقولهم ولا يدرى عدد الكلام فى هذه الطبقات] ، إلا من عرف ما فى كتب الناس ووقف على أقوال الطوائف فى هذا الباب والنهى إلى غاية مراتبهم ونهاية إقدامهم، والله الموفق للسداد الهادى إلى الرشاد. وأما من لم يثبت حكمة ولا تعليلاً، ورد الأمر إلى محض المشيئة التى ترجح أحد المثلين على الآخر بلا مرجح، فقد أراح نفسه من هذا المقام الضنك واقتحام عقبات هذه المسائل العظيمة، وأدخلها كلها تحت قوله: {لا يَسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] ، وهو الفعال لما يريد، وصدق الله وهو أصدق القائلين: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء: 23] لكمال حكمته وعلمه ووضعه الأشياءَ مواضعها، وأنه ليس فى أفعاله خلل ولا عبث ولا فساد يسأل عنه كما يسأل المخلوق، وهو الفعال لما يريد ولكن لا يريد أن يفعل إلا ما [هو] خير ومصلحة ورحمة وحكمة، فلا يفعل الشر ولا الفساد ولا الجور ولا خلاف مقتضى حكمته، لكمال أسمائه وصفاته، وهو الغنى الحميد العليم الحكيم. الطبقة الثامنة عشرة: طبقة الجن، وقد اتفق المسلمون على أن منهم المؤمن والكافر والبر والفاجر. قال تعالى إخباراً عنهم: {وَأَنَّا مِنَّا الصّالِحُونَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقِ قِدَداً} [الجن: 11] قال مجاهد: يعنون مسلمين وكافرين. وقال الحسن والسدى: أمثالكم، فمنهم قدرية ومرجئة ورافضة. وقال سعيد ابن جبير: ألوانا شتى. وقال ابن كيسان: شيعاً وفرقاً. ومعنى الكلام: أصنافاً مختلفة ومذاهب متفرقة، ثم قيل فى إعراب الآية: {وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} [أى ومنا] قوم دون ذلك، فحذف الموصوف وأقام صفته مقامه كقوله: {وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} [الصافات: 164] ، أى إلا من له مقام معلوم، وكقوله: {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} [المائدة: 41] ، أى فريق سماعون، وكقوله: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلَمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [النساء: 46] أى فريق يحرفون وكقوله على أظهر القولين: {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ} [البقرة: 96] أى فريق يود أحدهم، وقال الشاعر: فظلوا ومنهم دمعه سابق لهم وآخر يذرى دمعة العين بالمهل أى ومنهم من دمعه. وقولهم: {كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً} [الجن: 11] بيان لقولهم: {مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} [الجن: 11] أى كنا ذوى طرائق- وهى المذاهب- وأحدها طريقة وهى المذهب، والقدد جمع قدة، كقطعة وقطع وزناً ومعنى. وهى من القد وهو القطع وقيل: كنا فى اختلاف أحوالنا مثل الطرائق المختلفة فى اختلافها، وعلى هذا فالمعنى كنا طرائق قدداً وليس بشيء، وأضعف منه قول من قال: إن طرائق منصوب على الظرف، أى كنا فى طرق مختلفة كقوله: "عسل الطريق الثعلب"، وهذا مما لا يحمل عليه أفصح الكلام. وقيل: المعنى كانت طرائقنا طرائق قدداً فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. وقال تعالى إخباراً عنهم: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّاالْقَاسِطُونَ} [الجن:49] فالمسلمون الذين آمنوا بالله ورسوله منهم، والقاسطون الجائرون العادلون عن الحق، قال ابن عباس: هم الذين جعلوا لله أنداداً، يقال أقسط الرجل إذا عدل، فهو مقسط. ومنها: {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات:9] ، وقسط إذا جار فهو قاسط، {وَأَمَّا القَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهنَّمَ حَطَباً} [الجن: 15] ، قد تضمنت هذه الآيات انقسامهم إلى ثلاث طبقات: صالحين، ودون الصالحين، وكفار. وهذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 الطبقات بإزاءِ طبقات بنى دم فإنها ثلاثة: أبرار، ومقتصدون وكفار. فالصحالون بإزاء والأبرار] ، ومن دونهم بإزاءِ المقتصدين والقاسطون بإزاءِ الكفار. وهذا كما قسم سبحانه بنى إسرائيل إلى هذه الأقسام الثلاثة فى قوله: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِى الأَرْضِ أُمَّماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ} [الأعراف: 168] ، فهؤلاءِ الناجون منهم، من ذكر الظالمين، وهم خلف السوءِ الذين خلفوا بعدهم، ولما كان الإنس أكمل من الجن وأتم عقولاً ازدادوا عليهم بثلاثة أصناف أُخر ليس شيء منها للجن، وهم: الرسل، والأنبياءُ والمقربون. فليس فى الجن صنف من هؤلاءِ، بل حيلتهم الصلاح: وذهب شذاذ من الناس إلى أن فيهم الرسل والأنبياءَ محتجين على ذلك بقوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنَّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام: 130] ، وبقوله: {وَإِذ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ} إلى قوله: {مُنْذِرِينَ} [الأحقاف: 29] ، وقد قال الله تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} [النساء: 165] ، وهذا قول شاذ لا يلتفت إليه ولا يعرف به سلف من الصحابة والتابعين وأئمة الإسلام، وقوله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ} [الأنعام: 130] ، لا يدل على أن الرسل من كل واحدة من الطائفتين، بل إذا كانت الرسل من الإنس وقد أُمرت الجن باتباعهم [صح أن يقال للإنس والجن: ألم يأتكم رسل منكم ونظير هذا] أن يقال للعرب والعجم: ألم يجئكم رسل منكم يا معشر العرب والعجم؟ فهذا لا يقتضى أن يكون من هؤلاءِ رسل ومن هؤلاء. وقال تعالى: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً} [نوح: 16] ، وليس فى كل سماءٍ قمر. وقوله تعالى: {وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف: 29] ، فالإنذار أعم من الرسالة والأعم لا يستلزم الأخص، قال تعالى: {فَلَوْلا نَفَر مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مَنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِى الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} [التوبة: 122] ، فهؤلاءِ نذر وليسوا برسل. قال غير واحد من السلف: الرسل من الإنس، وأما الجن ففيهم النذر. قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلا رِجَالاً نُوحِى إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَي} [يوسف:109] ، فهذا يدل على أنه لم يرسل جنياً ولا امرأة ولا بدوياً، وأما تسميته تعالى الجن رجالاً فى قوله: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرَجَالٍ مِنَ الْجِنِّ} [الجن:6] ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 فلم [يطبق] عليهم الرجال، بل هى تسمية مقيدة بقوله: {مِنَ الْجِنِّ} فهم رجال من الجن ولا يستلزم ذلك دخولهم فى الرجال عند الإطلاق كما تقول: رجال من حجارة، ورجال من خشب ونحوه. فصل وقد اتفق المسلمون على أن كفار الجن فى النار وقد دلَّ على ذلك القرآن فى غير موضع كقوله تعالى: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّى لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة: 13] ، وقوله تعالى: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:85] الآية، فملؤها منه به وبكفار ذريته. وقال تعالى: {ادْخُلُوا فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ فِى النَّارِ} [الأعراف: 38] . وقال تعالى فى حكاية عن مؤمنهم: {وَأَنّا مِنّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنّا الْقَاسِطُونَ} إلى قوله: {حَطَباً} [الجن: 14-15] ، وقال الله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِن الجن والإنس} [الأعراف: 179] وقال تعالى: {فكبكبِوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُون وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} وجنوده إن لم يختص بالشياطين فهم داخلون فى عمومه. وبالجملة فهذا أمر معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، وهو يستلزم تكليف الجن بشرائع الأنبياءِ ووجوب اتباعهم لهم. فأما شريعتنا فأجمع المسلمون على أن محمداً صلى الله عليه وسلم بعث إلى الجن والإنس، وأنه يجب على الجن طاعته، كما يجب على الإنس، وأما قبل نبينا صلى الله عليه وسلم فقوله تعالى: {ادْخُلُوا فِى أممٍ قَدْ خَلَت مِن قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ فِى النَّارِ} يدل على الأمم الخالية من كفار الجن فى النار، وذلك إنما يكون بعد إقامة الحجة عليهم بالرسالة. وقد دلت سورة الرحمن على تكليفهم بالشرائع كما كلف الإنس، ولهذا يقول فى إثر كل آية: {فَبِأَى آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} فدلَّ ذلك على أن السورة خطاب للثقلين معاً، ولهذا قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن قراءَة تبليغ وأخبر أصحابه أنهم كانوا أحسن رداً منهم، فإنهم جعلوا يقولون كلما قرأَ عليهم: {فَبأْى آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} : لا نكذب بشيء من آلائك ربنا فلك الحمد. ولما كان أبوهم هو أول من دعا إلى معصية الله، وعلى يده حصل كل كفر وفسوق وعصيان فهو الداعى إلى النار، وكان أول من يكسى حلة من النار يوم القيامة يسحبها وينادى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 "واثبوراه"، فأتباعه من أولاده وغيرهم خلفه ينادون "واثبوراهم" حتى قيل: إن كل عذاب يقسم على أهل النار يبدأ به فيه، ثم يصير إليهم. فصل وأما حكم مؤمنيهم فى الدار الآخرة، فجمهور السلف والخلف على أنهم فى الجنة. وترجم على ذلك البخارى فى صحيحه فقال: "باب ثواب الجن وعقابهم" لقوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِى} [الأنعام: 130] الآية. بخساً نقصاً، قال مجاهد: {وَجَعلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنّةِ نَسَباً} . قال كفار قريش: الملائكة بنات الله، وأُمهاتهم بنات سروات الجن. قال تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضِرُونَ} [الصافات: 158] ستحضر للحساب. ثم ذكر حديث أبى سعيد: "إذا كنت فى غنمك أو باديتك فأَذَّنت بالصلاة فارفع صوتك بالنداءِ فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة"، سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا ما ذكره فى الباب. وقد ذهب جمهور الناس إلى أن مؤمنيهم فى الجنة وحكى عن أبى حنيفة وغيره أن ثوابهم نجاتهم من النار. واحتج لهذا بقوله تعالى حكاية عنهم: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِى اللهِ} [الأحقاف: 31] الآية، فجعل غاية ثوابهم إجارتهم من العذاب الأليم. وأما الجمهور فقالوا: مؤمنهم فى الجنة كما أن كافرهم فى النار، ثم اختلفوا فأطلق أكثر الناس دخول الجنة ولم يقيدوه. وقال سهل بن عبد الله: يكونون فى ربض الجنة يراهم المؤمنون من حيث لا يرونهم. فهذه مذاهب الناس فى أحكامهم فى الآخرة، وأما أحكامهم فى الدنيا فاختلف الناس: هل هم مكلفون بالأمر والنهى، أم هم مضطرون على أفعالهم؟ على قولين حكاهما أبو الحسن الأشعرى فى كتاب "المقالات" له فقال: واختلف الناس فى الجن، هل هم مكلفون، أم مضطرون؟ فقال قائلون من المعتزلة وغيرهم: هم مأْمورون منهيون وقد أُمروا ونهوا، وهم مختارون، وزعم زاعمون أنهم مضطرون. قلت: الصواب الذى عليه جمهور أهل الإسلام أنهم مأْمورون منهيون مكلفون بالشريعة الإسلامية، أدلة القرآن والسنة على ذلك أكثر من أن تحصر. فإضافة هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 القول إلى المعتزلة بمنزلة أن يقال: ذهبت المعتزلة إلى بمعاد الأبدان ونحو ذلك، فما هو من أقوال سائر أهل الإسلام. وقال الله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنَّهُمْ} [الأحقاف: 18] فأخبر أن منهم من حق عليه القول أى وجب عليه العذاب وأنه خاسر ولا يكون ذلك إلا فى أهل التكليف المستوجبين العقاب بأعمالهم. ثم قال بعد ذلك: {وَلِكُلٍ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأحقاف: 19] أى فى الخير والشر يوفونها ولا يظلمون شيئاً من أعمالهم، وهذا ظاهر جداً فى ثوابهم وعقابهم، وأن مسيئتهم كما يستحق العذاب بإساءَته فمحسنهم يستحق الدرجات بإحسانه، ولكل درجات مما عملوا فدل ذلك لا محالة أنهم كانوا مأْمورين بالشرائع، متعبدين بها فى الدنيا، ولذلك استحقوا الدرجات بأعمالهم فى الآخرة فى الخير والشر، وقال الله تعالى: {وَقَيَّضْنَا لهُمْ قرناء فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيَهِمْ ومَا خَلْفَهُمْ وحَقَّ عَلَيْهِمْ الْقَوْلُ فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ..} الآية [فصلت:25] ، ومعنى الآية: إن الله قيض للمشركين- أى سبب لهم- قرناءَ من الشياطين يزينون لهم ما بين أيديهم وما خلفهم من التكذيب بالآخرة وما فيها من الثواب والعقاب، وقيل عكس هذا، وأن ما بين أيديهم هو ترغيبهم فى الدنيا وحرصهم عليها، وما خلفهم هو [التكذيب بالآخرة وقال الحسن: ما بين أيديهم هو] حب ما كان عليه آباؤهم من الشرك وتكذيب الرسل، وما خلفهم تكذيبهم بالبعث وما بعده. وفى الآية قول رابع وهو أن التزيين كله راجع إلى أَعمالهم فزينوا لهم ما بين أيديهم: أعمالهم التى عملوها، وما خلفهم: الأعمال التى هم عازمون عليها ولما يعملوها بعد، وكأَن لفظ التزيين بهذا القول أليق. ومن جعل ما خلفهم هو الآخرة لم يستقم قوله إلا بإضمار، أى زينوا لهم التكذيب بالآخرة ومع هذا فهو قول مستقيم ظاهر فإنهم زينوا لهم ترك العمل لها والاستعداد للقائها. ولهذا كان عليه جمهور أهل التفسير حتى لم يذكر البغوى غيره، وحكاه عن الزجاج، فقال الزجاج: سببنا لهم قرناءَ نظراءَ من الشياطين حتى أضلوهم فزينوا لهم ما بين أيديهم من أمر الدنيا حتى آثروا على الآخرة، وما خلفهم من أمر الآخرة فدعوهم إلى التكذيب به وإنكار البعث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 والمقصود أن قوله تعالى: {وَحَقَّ عَلَيْهُم الْقَوْلُ فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} [فصلت: 25] ، أى وجب عليهم العذاب مع أُمم قد مضت من قبلهم من الجن والإنس، ففى هذا أبين دليل على تكليف الثقلين وتعلق الأمر والنهى بهم، وكذلك تعلق الثواب والعقاب بهم، وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الجِّنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنْ الإِنْسِ وَقَالَ أُوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِى أَجَّلْتَ لَنَا} إلى قوله تعالى: {إِلا مَا شَاء اللهُ} [الأنعام: 128] ، وهذا صريح فى تكليفهم، فإن هذا القول [يقال] للجن فى القيامة، فيذكر الإنس استمتاع بعضهم ببعض فى الدنيا، وذلك الاستمتاع هو ما بين الجن والإنس من طاعتهم إياهم فى معصية الله، وعبادتهم لهم دون الله، ليستعينوا بهم على شهواتهم وأغراضهم فإنهم كانوا يستوحونهم ويعوذون بهم ويذبحون لهم وبأَسمائهم ويوالونهم من دون الله كما هو شأْن أكثر المشركين من أَولياءِ الشيطان. فهذا هو استمتاع بعضهم ببعض، ولهذا يقول تعالى للملائكة يوم القيامة- وقد جمع العابدين والمعبودين-: {أَهُؤَلاءِ إِيّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ؟ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ، بَلْ كَانُوا يَعْبُدُون الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُون} [سبأ: 40 -41] فهؤلاء عباد الجن وأولياءُ الشياطين. وأكثرهم يعلم ويرضى به لما ينال به من المتعة بمعبوده. وكثير منهم ملبوس عليه، فهو يعبد الشيطان ولا يشعر. وقد أشار زيد بن عمرو بن نفيل فى شعره إلى هذا الشرك بالجن فقال: حنانيك إن الجن كانت رجاءهم وأنت إِلهى ربنا ورجاؤنا ولهذا يقولون فى القيامة: {رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِى أَجَّلْتَ لَنَا} [الأنعام: 128] قال الله تعالى: {النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلا مَا شَاءَ الله} [الأنعام: 128] فهذا خطاب للصنفين، وهو صريح فى اشتراكهم فى التكليف، كما هو صريح فى اشتراكهم فى العذاب. وهو كثير فى القرآن. ومما يدل على تكليفهم أيضاً قوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 آيَاتِى} إلى قوله تعالى: {كَافِرِينَ} [الأنعام: 130] ، فلما اعترفوا بأنهم كانوا كافرين، وشهدوا على أنفسهم بالكفر دل ذلك على تكليفهم وتوجه الخطاب إليهم. وقال تعالى: {وإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا} إلى قوله: {أُولَئِكَ فِى ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأحقاف:29-32] ، فهذا يدل على تكليفهم من وجوه متعددة: أحدها: أن الله سبحانه وتعالى صرفهم إلى رسوله يستمعون القرآن ليؤمنوا به ويأتْمروا بأوامره وينتهوا عن نواهيه. الثانى: أنهم ولوا إلى قومهم منذرين والإنذار هو الإعلام بالخوف بعد انعقاد أسبابه، فعلم أنهم منذرون لهم بالنار إن عصوا الرسول. الثالث: أنهم أخبروا أنهم سمعوا القرآن وعقلوه وفهموه وأنه يهدى إلى الحق، وهذا القول منهم يدل على أنهم عالمون بموسى وبالكتاب المنزل عليه، وأن القرآن مصدق له وأنه هاد إلى صراط مستقيم. وهذا يدل على تمكينهم من العلم الذى تقوم به الحجة، وهم قادرون على امتثال ما فيه والتكليف إنما يستلزم [العقل] والقدرة. الرابع: إنهم قالوا لقومهم: {يَا قَوْمنَا أَجِيبُوا دَاعِى اللهِ وَآمِنُوا بِهِ} [الأحقاف:31] وهذا صريح فى أنهم مكلفون مأْمورون بإجابة الرسول، وهى تصديقه فيما أخبر وطاعته فيما أمر. الخامس: أنهم قالوا: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِن ذُنُوبِكُمْ} والمغفرة لا تكون إلا عن ذنب وهو مخالفة الأمر. السادس: أنهم قالوا: {مِن ذُنُوبِكُمْ} والذنب مخالفة الأمر. السابع: أنهم قالوا: {وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} ، وهذا يدل على أن من لم يستجب منهم لداعى الله لم يجره من العذاب الأليم. وهذا صريح فى تعلق الشريعة الإسلامية بهم. الثامن: أنهم قالوا: {وَمَن لا يُجِبْ دَاعِى اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِى الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءُ} [الأحقاف: 32] ، وهذا تهديد لمن تخلف عن إجابة داعى الله منهم. وقد استدل بها على أنهم كانوا متعبدين بشريعة موسى كما هم متعبدون بشريعة محمد، وهذا ممكن والآية لا تستلزمه، ولكن قوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام: 130] ، الآية تدل على أن الجن كانوا متعبدين بشرائع الرسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم، والآيات المتقدمة تدل على ذلك أيضاً. وعلى هذا فيكون اختصاص النبى صلى الله عليه وسلم بالبعثة إلى الثقلين إلى جميعهم لا إلى بعضهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 ومن قبله كان يبعث إلى طائفة مخصوصة، وأيضاً فقد قال تعالى عن نبيه سليمان: {وَمِنَ الْجِنِّ من يعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ، وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} [سبأ: 12] ، وهذا محض التكليف. وقد تقدم قوله حكاية عنهم: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ} إلى قوله تعالى: {لِجَهَنَّمَ حَطَباً} [الجن: 14-15] ، وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأَ عليهم القرآن وأنهم سألوه الزاد لهم ولدوابهم، فجعل لهم كل عظم ذكر اسم الله عليه، وكل بعرة علف لدوابهم ونهانا عن الاستنجاءِ بهم. ولو لم يكن فى هذا إلا قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذَّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15]- وقد أخبر أنه يعذب كفرة الجن- لكفى به حجة على أنهم مكلفون باتباع الرسل. ومما يدل على أنهم مأْمورن منهيون بشريعة الإسلام ما تضمنته سورة الرحمن، فإنه سبحانه وتعالى ذكر خلق النوعين فى قوله تعالى: {خَلَقَ الإِنْسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ، وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِن نَارٍ} ثم خاطب النوعين بالخطاب المتضمن لاستدعاءِ الإيمان منهم، وإنكار تكذيبهم بالآية، وترغيبهم فى وعده، وتخويفهم من وعيده، وتهديدهم بقوله تعالى: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيهَا الثَّقَلانِ} [الرحمن: 31] ، وتخويفهم من عواقب ذنوبهم، وأنه لعلمه بها لا يحتاج أن يسألهم عنها سؤال استعلام، بل يعرف المجرمون منهم بسيماهم فيؤخذ بنواصيهم والأقدام، ثم ذكر عقاب الصنفين وثوابهم. وهذا كله تصريح فى أنهم هم المكلفون المأْمورون المنهيون المثابون المعاقبون. وفى الترمذى من حديث محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه، فقرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى آخرها فسكتوا فقال: "لقد قرأْتها على الجن ليلة الجن وكانوا أحسن مردوداً منكم: كنت كلما أتيت على آية: {فَبِأَى آلاءَ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن] قالوا: لا شيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد". وهذا يدل على ذكائهم وفطنتهم ومعرفتهم بمؤنة الخطاب، وعلمهم أنهم مقصودون به. وقوله فى هذه السورة: {سَنَفْرُغُ لَكُمُ أَيُّهَا الثَّقَلان} [الرحمن: 31] وعيد للصنفين المكلفين بالشرائع، قال قتادة: معناه فراغ الدنيا وانقضاؤها ومجيء الآخرة والجزاءُ فيها، والله سبحانه لا يشغله شيء عن شيء. والفراغ فى اللغة على وجهين: فراغ من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 الشغل، وفراغ بمعنى القصد. وهو فى هذا الموضع بالمعنى الثانى، وهو قصد لمجازاتهم بأعمالهم يوم الجزاءِ وقوله: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانْفُذُوا} [الرحمن: 33] فيها قولان: أحدهما إن استطعتم أن تنفذوا ما فى السموات والأرض علماً- أى أن تعلموا ما فيها- فاعلموه، ولن تعلموه إلا بسلطان أى إلا ببينة من الله، وعلى هذا فالنفوذ [هاهنا] نفوذ علم الثقلين فى السموات والأرض، والثانى: إن اسطعتم أن تخرجوا عن قهر الله ومحل سلطانه ومملكته بنفوذكم من أقطار السموات والأرض وخروجكم عن محل حكم الله وسلطانه فافعلوا، ومعلوم أن هذا من الممتنع عليكم، فإنكم تحت سلطانى وفى محل ملكى وقدرتى أين كنتم. وقال الضحاك: معنى الآية إن استطعتم أن تهربوا عند الموت فاهربوا فإنه مدرككم. هذه الأقوال على أن يكون الخطاب لهم بهذا القول فى الدنيا. وفى الآية تقرير آخر، وهو أن يكون هذا الخطاب فى الآخرة إذا أحاطت الملائكة بأقطار الأرض وأحاط سرادق النار بالآفاق، فهرب الخلائق، فلا يجدون مهرباً ولا منفذاً، كما قال تعالى: {وَيَا قَوْمِ إِنِّى أخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَاد يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ} [غافر: 32-33] ، قال مجاهد: فارّين غير معجزين، وقال الضحاك: إذا سمعوا زفير النار ندّوا هرباً، فلا يأْتون قطراً من الأقطار إلا وجدوا الملائكة صفوفاً، فيرجعون إلى المكان الذى كانوا فيه، فذلك قوله تعالى: {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} [الحاقة: 17] ، وقوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِن اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفذُوا} [الرحمن: 33] ، وهذا القول أظهر، والله أعلم. فإذا بده الخلائق ولوا مدبرين يقال لهم: {إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانْفُذُوا} [الرحمن: 33] أى إن قدرتم أن تتجاوزوا أقطار السموات والأرض فتعجزوا ربكم حتى لا يقدر على عذابكم فافعلوا، وكأن ما قبل هذه الآية وما بعدها يدل على هذا القول، فإن قبلها: {سَنَفْرُغُ} [الرحمن: 31] الآية وهذا فى الآخرة، وبعدها: {فَإِذَا انشَقَّتِ السّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} [الرحمن: 37] ، وهذا فى الآخرة. وأيضاً فإن هذا خطاب لجميع الإنس والجن، فإنه أَتى فيه بصيغة العموم وهى قوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ} [الرحمن: 33] فلا بد أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 يشترك الكل فى سماع هذا الخطاب ومضمونه. وهذا إنما يكون إذا جمعهم الله فى صعيد واحد يسمعهم الداعى وينفذهم البصر. وقال تعالى: {إِنِ اسْتَطَعْتُمْ} [الرحمن: 33] ولم يقل إن استطعتما، لإرادة الجماعة كما فى آية أُخرى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ ألَمْ يَأْتِكُمْ} [الأنعام: 130] ، وقال تعالى: {يُرْسِلُ عَلَيْكُمَا} [الرحمن: 35] ، ولم يقل يرسل عليكم لإرادة الصنفين أى لا يختص به صنف عن صنف، بل يرسل ذلك على الصنفين معاً. وهذا وإن كان مراداً بقوله تعالى: {إِنِ اسْتَطَعْتُمْ} [الرحمن: 33] فخطاب الجماعة فى ذلك بلفظ الجمع أحسن، أى من استطاع منكم. وحسن الخطاب بالتثنية فى قوله تعالى: {عَلَيْكُمَا} [الرحمن: 35] أَمر آخر. وهو موافقة رؤوس الآى، فاتصلت التثنية بالتثنية. وفيه التسوية بين الصنفين فى العذاب بالتنصيص عليهما، فلا يحتمل اللفظ إرادة أحدهما والله أعلم. قال ابن عباس: الشواط اللهب الذى لا دخان فيه والنحاس الدخان الذى لا لهب فيه. وقوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنبِهِ إِنسٌ وَلا جَانٌ} [الرحمن: 39] فأضاف الذنوب إلى الثقلين، وهذا دليل على أنهما سوياً فى التكليف. واختلف فى هذا السؤال المنفى، فقيل: هو وقت البعث والمصير إلى الموقف لا يسأَلون حينئذ ويسأَلون بعد إطالة الوقوف واستشفاعهم إلى الله أن يحاسبهم ويريحهم من [مقابلهم] ذلك. وقيل: المنفى سؤال الاستعلام والاستخبار، لا سؤال المحاسبة والمجازاة، أى قد علم الله ذنوبهم فلا يسألهم عنها سؤال من يريد علمها، وإنما يحاسبهم عليها. فصل فإذا علم تكليفهم بشرائع الأنبياءِ ومطالبتهم بها وحشرهم يوم القيامة للثواب والعقاب، علم أن محسنهم فى الجنة كما أن مسيئهم فى النار، وقد دل على ذلك قوله تعالى حكاية عن مؤمنهم: {وَأَنَا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِنُ بِرَبِّهِ الآية} [الجن: 13] ، وبهذه الحجة احتج البخارى. ووجه الاحتجاج بها أن البخس المنفى هو نقصان الثواب، والرهق الزيادة فى العقوبة على ما عمل، فلا ينقص من ثواب حسناته ولا يزداد فى سيئاته. ونظير هذا قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِن الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً} [طه: 112] أى لا يخاف زيادة سيئاته ولا نقصان حسناته. وأيضاً فقد قال تعالى فى سورة الرحمن: {وَلِمَن خَافَ مَقَام رَبِّهِ جَنَّتَانِ فَبِأَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبانِ} [الرحمن: 46] ، وذكر ما فى الجنتين إلى قوله تعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَان} [الرحمن: 56] ، وهذا يدل على أن ثواب محسنهم الجنة من وجوه: أحدها: أن "منْ" صيغ العموم، فتتناول كل خائف. الثانى: أنه رتب الجزاءَ المذكور على خوف مقامه، فدل على استحقاقه به. وقد اختلف فى إضافة المقام إلى الرب هل هى من إضافة المصدر إلى فاعله، أو إلى مفعوله؟ على قولين: أحدهما: أن المعنى ولمن خاف مقامه بين يدى ربه، فعلى هذا هو من إضافة المصدر إلى المفعول، والثانى: أن المعنى ولمن خاف مقام ربه عليه واطلاعه عليه، فهو من باب إضافة المصدر إلى فاعله. وكذلك القولان فى قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوِى} [النازعات: 40] ، ونظيره قوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِى وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم: 14] ، فهذه ثلاثة مواضع. وقد يقال: الراجح هو الأول، وأن المعنى خاف مقامه بين يدى ربه لوجوه، أحدها: أن طريقة القرآن فى التخويف أن يخوفهم بالله وباليوم الآخر، فإذا خوفهم به علق الخوف به لا بقيامه عليهم كقوله تعالى: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُون} [آل عمران: 175] ، وقوله تعالى: {ذَلِكَ لِمنْ خَشِى رَبَّهُ} [البينة: 8] ، وقوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبّهُم مِن فَوْقِهِمْ} [النحل: 50] ، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [الملك: 12] ، ففى هذا كله لم يذكر خشية مقامه عليهم، وإنما مدحهم بخوفه وخشيته. وقد يذكر الخوف متعلقاً بعذابه كقوله تعالى: {يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء: 57] ، وأما خوف مقامه عليهم فهو وإن كان كذلك فليس طريقة القرآن. الثانى: أن هذا نظير قوله تعالى: {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} [الأنعام: 51] ، فخوفهم أن يحشروا إليه هو خوفهم من مقامهم بين يديه، والقرآن يفسر بعضه بعضاً. الثالث: أن خوف مقام العبد بين يدى ربه فى الآخرة لا يكون إلا ممن يؤمن بلقائه وباليوم الآخر وبالبعث بعد الموت. وهذا هو الذى يستحق الجنتين المذكورتين، فإنه لا يؤمن بذلك حق الإيمان إلا من آمن بالرسل، وهو من الإيمان بالغيب الذى جاءَت به الرسل. وأما مقام الله على عبده فى الدنيا واطلاعه عليه وقدرته عليه فهذا يقر به المؤمن والكافر والبر والفاجر وأكثر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 الكفار يخافون جزاءَ الله لهم فى الدنيا لما عاينوه من مجازاة الظالم بظلمه والمحسن بإحسانه، وأما مقام العبد بين يدى ربه فى الآخرة فلا يؤمن به إلا المؤمن بالرسل. فإن قيل: إذا كان المعنى أنه خاف مقام ربه عليه فى الآخرة بالجزاءِ فقد استوى التقديران، فمن أين رجحتم أحدهما؟ قيل: التخويف بمقام العبد بين يدى ربه أبلغ من التخويف بمقام الرب على العبد، ولهذا خوفنا تعالى فى قوله: {يَوْمَ يَقُومَ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِين} [المطففين: 6] ، ولأنه مقام مخصوص مضاف إلى الله وذلك فى يوم القيامة، بخلاف مقام الله على العبد فإنه كل وقت. وأيضاً فإنه لا يقال لقدرة الله على العبد واطلاعه عليه وعلمه به: مقام الله، ولا هذا من المأْلوف إطلاقه على الرب. وأيضاً فإن المقام فى القرآن والسنة إنما يطلق على المكان كقوله: {عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} [الإسراء: 79] ، وقوله تعالى: {كَمْ ترَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوع ٍوَمَقَامٍ كَرِيمٍ} [الدخان: 25- 26] ، وقوله تعالى: {خَيْرٌ مَقَاماً وَأَحْسَنُ ندِياً} [مريم: 73] ، والمقصود أن قوله تعالى: {وَلِمَنْ خافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَتَانِ} يتناول الصنفين من وجوه تقدم منها وجهان: الثالث: قوله عقيب هذا الوعد: {فَبِأَى آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن] . الرابع: أنه ذكر فى وصف نسائهم أنهن: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن: 56] وهذا والله أعلم معناه أنه لم يطمث نساءَ الإنس إنس قبلهم ولا نساءَ الجن جن قبلهم. ومما يدل على أن ثوابهم الجنة قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسنَ عَمَلاً أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ} [الكهف: 30- 31] ، وأمثال هذه من العمومات. وقد ثبت أن منهم المؤمنين فيدخلون فى العموم، كما أن كافرهم يدخل فى الكافرين المستحقين للوعيد ودخول مؤمنهم فى آيات الوعد أولى من دخول كافرهم فى آيات الوعيد، فإن الوعد فضله والوعيد عدله، وفضله من رحمته وهى تغلب غضبه. وأيضاً فإن دخول عاصيهم النار إنما كان لمخالفته أمر الله، فإذا أطاع الله أُدخل الجنة، وأيضاً فإنه لا دار للمكلفين سوى الجنة والنار، وكل من لم يدخل النار من المكلفين فالجنة مثواه. وأيضاً فقد ثبت أنهم إذا أجابوا داعى الله غفر لهم وأجارهم من عذابه، وكل من غفر له دخل الجنة ولا بد، وليس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 فائدة المغفرة إلا الفوز بالجنة والنجاة من النار، وأيضاً فإنه قد ثبت [أن الرسول مبعوث إليهم وأنهم مكلفون باتباعه وأن مطيعهم لله] ورسوله مع الذين أنعم الله عليهم، لقوله تعالى: {وَمَنْ يُطَعَ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصَّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} [النساء: 69] ، وقد أخبر سبحانه عن ملائكته حملة العرش ومن حولهم أنهم يستغفرون للذين آمنوا وأنهم يقولون: {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبعُوا سبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الجحِيمَ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِى وَعَدْتَهُمْ} [غافر: 7- 8] ، فدل على أن كل مؤمن غفر الله له ووقاه عذاب الجحيم، فقد وعده الجنة. وقد ثبت فى حق مؤمنهم الإيمان ومغفرة الذنب ووقاية النار كما تقدم، فتعين دخولهم الجنة، والله أعلم. وإذا ثبت تكليفهم بانقسامهم إلى المسلمين والكفار والصالحين ودون ذلك، فهم فى الموازنة على نحو طبقات الإنس المتقدمة، إلا أنهم ليس فيهم رسول. وأفضل درجاتهم درجة الصالحين، ولو كان لهم درجة أفضل منها لذكروها. فقد دل القرآن على انقسامهم إلى ثلاثة أقسام: صالحين، ودونهم، وكفار. وزاد عليهم الإنس بدرجة الرسالة والنبوة، ودرجة المقربين، والله أعلم. فهذا ما وصل إليه الإحصاءُ من طبقات المكلفين فى الدار الآخرة، وهى ثمان عشرة طبقة، وكل طبقة منها لها أَعلى وأدنى ووسط. وهم درجات عند الله، والله تعالى يحشر الشكل مع شكله والنظير مع نظيره ويقرن بينهما فى الدرجة. قال تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ} [الصافات: 22] ، قال الإمام أحمد وقبله عمر بن الخطاب: "أزواجهم" أشباههم ونظراؤهم. وقال تعالى: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} [التكوير: 7] روى النعمان بن بشير عن عمر بن الخطاب أنه سئل عن هذه الآية فقال: بقرن الرجل الصالح مع الرجل الصالح في الجنة، ويقرن الرجل السوء مع الرجل السوء فى النار. وقال الحسن وقتادة: يلحق كل بشيعته، اليهودى باليهودى، والنصرانى بالنصرانى. وقال الربيع: يحشر الرجل مع صاحب عمله. وفى الآية ثلاثة أقوال أُخر، أحدها: أن تزويج النفوس اقترانها بأجسادها وردها إليها. الثانى: تزويجها اقترانها بأعمالها. الثالث: أنه تزويج المؤمنين الحور العين، وتزويج الكفار بالشياطين. والقول الأول أظهر الأقوال، والله أعلم. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427