الكتاب: صيد الخاطر المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ) بعناية: حسن المساحي سويدان الناشر: دار القلم - دمشق الطبعة: الأولى   1425هـ - 2004م   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بحواشي المحقق] ---------- صيد الخاطر ابن الجوزي الكتاب: صيد الخاطر المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: 597هـ) بعناية: حسن المساحي سويدان الناشر: دار القلم - دمشق الطبعة: الأولى   1425هـ - 2004م   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بحواشي المحقق] صيد الخاطر مقدمة ... صَيْدُ الخَاطرِ في التخلِّي من الأمراض النفسيَّة والتحلِّي بالآداب الشرعيَّة والأخلاقِ المَرْضِيَّةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 الطبعة الأولى: 1425هـ -2004 م حقوق الطبع محفوظة تطلب جميع كتبنا من: دار القلم - دمشق: ص ب: 4523 - ت: 2229177، الدار الشامية - بيروت - ت: 653655/ 653666. ص ب: 6501/ 113 توزع جميع كتبنا في السعودية عن طريق دار البشير - جدة: 21461- ص ب: 2895 ت: 6608904 / 6657621. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 صَيْدُ الخَاطِرِ في التَّخَلِّي من الأَمْرَاضِ النفسيَّة والتَّحَلِّي بالآداب الشرعية والأخلاق المرضية، مذيَّلًا بكتاب لفتة الكبد إلى نصيحة الولد تأليف: الإمام أبي الفرج، عبد الرحمن بن علي بن الجوزي: "510 - 597" هـ بعناية: حسن المساحي سويدان: دار القلم: دمشق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 بسم الله الرحمن الرحيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة هذه الطبعة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، خاتم النبيين وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الغر الميامين، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد: فإن كتابي "صيد الخاطر" و "لفتة الكبد" للإمام أبي الفرج، عبد الرحمن بن علي بن الجوزي، بما يحويانه من صدق مع النفس وعفوية في التعبير يرتقيان إلى مصاف الكتب الخالدة، التي يشعر قارئها أنه تجاوز الزمان والمكان، وأنه يعيش مع المؤلف خلجات نفسه، ونبضات قلبه، وخواطر عقله، وأحوال عصره، وطبقات مجتمعه، فالكتابان من هذه الجهة يعتبران وثيقتين تاريخيتين إنسانيتين هامتين، وخاصة فيما يتعلق بحياة ابن الجوزي، رحمه الله. وعندما طلب مني أستاذنا الفاضل محمد علي دولة إعداد طبعة من صيد الخاطر خاصة بدار القلم تتبعت طبعات الكتاب منذ أول نشره إلى اليوم، فوجدت أن أول من طبعه هو الكتبي الشهير، الشيخ محمد أمين الخانجي الحلبي نزيل مصر المتوفى سنة: "1385هـ - 1939 م"، وذلك من طبعة الشرق عام 1345هـ- 1927م وبين في مقدمته أنه اعتمد في نشره على ثلاثة نسخ خطية: الأولى: "الأحمدية" وهي من مكتبة أحمد طلعت بك. والثانية: "المصرية" وهي من مكتبة الأمير مصطفى فاضل باشا ومحفوظة بدار الكتب المصرية، والثالثة: هندية، ولم يذكر عنها شيئًا؛ إنما جاء ذكرها في حواشي الكتاب، ويظهر أن النسخ الثلاث مأخوذة عن أصل واحد لقلة الفروق بينها، وتوافقها فيما تصحف في الكتاب وقد وقف على طبع الكتاب، أحد النبهاء من طلاب الأزهر، أو طلاب الجامعة المصرية كما كان يفعل الشيخ أمين وأمثاله عادة دون إشارة إلى اسم هذا المحقق المجهول. وقد رقمت فصول هذه الطبعة بأرقام متسلسلة مع مقدمة للشيخ أمين وفهرس للموضوعات، وتقع هذه الطبعة في "456" صفحة من القطع العادي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 أما الطبعة الثانية1 فهي طبعة ريحانة الشام القاضي الفقيه والداعية الأديب، الشيخ على الطنطاوي، وهو الذي عرف الناس بالكتاب بعد أن بقي في زوايا النسيان ما يزيد على ثلاثة عقود، فأعاد نشره اعتمادًا على طبعة الخانجي، وقد ذكر رحمه الله في مقدمته أنه طلب من الدكتور صلاح الدين المنجد حفظه الله تعالى، عندما كان مديرًا لمعهد المخطوطات العربية أن يرسل إليه مصورة عن نسخة خطية من الكتاب، فأرسل إليه الدكتور نسخة لعلها نسخة دار الكتب، التي هي أحد أصول طبعة الخانجي، فكانت الفائدة منها محدودة، وبقي تصحيح الكتاب يعتمد على فطنة وعلم وألمعية الأستاذ الطنطاوي وهو من هو، وقد تميزت طبعته رحمه الله بمقدمة رائعة، فكل ما كتبه الشيخ الطنطاوي هو من كنوز الأدب الرفيع، وقد طلب الشيخ الطنطاوي رحمه الله من الشيخ ناصر الدين الألباني الذي وصفه بأنه المرجع اليوم في رواية الحديث في البلاد الشامية أن يبين ما في أحاديث الكتاب من الصحة أو الضعف، وقد صدرت طبعة الشيخ في ثلاثة أجزاء من القطع المتوسط عن دار الفكر بدمشق عام "1380هـ 1960م"، وقد شاركه في العمل بالكتاب شقيقه القاضي الفاضل ناجي الطنطاوي، الذي قابل الكتاب بمخطوطة دار الكتب المصرية، ووضع عنوانات الفصول، وبطبعة الشيخ علي الطنطاوي طبق الكتاب الآفاق، وعمت شهرته الخاص والعام2، فجزاه الله خيرًا. أما الطبعة الثالثة: فهي طبعة العلامة الداعية الكبير الشيخ محمد الغزالي رحمه الله الصادرة عن دار الكتب الحديثة بمصر عام "1960م"، قدم لها بمقدنة رائعة على وجازتها، وبين عمله في الكتاب بقوله: "لقد طالعت هذا الكتاب، ورأيت أن أيسر للناس الإفادة منه، وما كدت أمضي في قراءته حتى شعرت بأن النساخين والطباعين قد شوهوا الكتاب، وكادت بعض أفكار المؤلف تخفى، أو تطمس من كثرة هذه الأخطاء، ومع اتفاق المخطوطات على تدوينها دون وعي ... فرأيت أن أخدم المعنى الصحيح جهد الطاقة، ولم يكن بد من حذف كلمات مقحمة، وإثبات كلمات محذوفة، وتصويب كلمات محرفة، ولم أشأ تسجيل هذا التغيير في هوامش الصفحات؛ إذ لم أر في ذكره كبير فائدة3. وهذا الذي صنعه الشيخ محمد   1 رمزت لها بـ "ط". 2 وقد رمزت لها بـ "ط". 3 مقدمة صيد الخاطر ص "7"، وقد رمزت لها بـ"ع". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 الغزالي -رحمه الله- على حسنه وبراعته لا يعجب بعض من يعمل في تحقيق التراث. ثم توالت الطبعات فمنها من اعتمد طبعة الشيخ الطنطاوي، ومنها من اعتمد طبعة الشيخ الغزالي، ومنها من لفق بين الطبعتين، حتى لم يعد القارئ يميز بين ما كان في أصل الكتاب وما صار إليه الحال1، وكان جل اهتمام من عني بالكتاب تخريج الأحاديث، وترجمة الأعلام من غير المشاهير، وشرح الألفاظ الغريبة، وهم في ذلك ما بين موجز ومسهب، وهو عمل مبرور جزى الله القائمين به خيرًا، وقد بلغ عدد طبعات الكتاب التي اطلعت عليها ست عشرة طبعة2، وهي متداولة في الأسواق، لا أرى داعٍ لذكرها، لا غضًّا من شأنها، بل لداعي الاختصار. عملي في الكتاب: 1- توثيق النص: اعتمدت في هذه الطبعة على نشرة الخانجي، فجعلتها أصلًا وأثبت الزيادة الضرورية والموضوعة بين حاصرتين3، وما تصحف أصلحته مع بيان ما كان عليه الأصل، فلعل النص الذي أقدمه يكون أقرب إلى ما كتبه مؤلفه رحمه الله تعالى. 2- ضبط النص: لما كان الكتاب من الكتب التي يقرؤها الخاص والعام، فقد ضبطت النص بالشكل الكامل. 3- وضعت عناوين لفصول مأخوذة من كلام المؤلف عدا بعض العناوين التي وضعها المؤلف نفسه وميزتها بنجمة. 4- أبقيت أرقام طبعة الخانجي للفصول كما هي. 5- قسمت الكتاب إلى فقرات ورقمتها ترقيمًا متسلسلًا. 6- أثبت الآيات بخط المصحف مع بيان رقم الآية واسم السورة التي هي منها. 7- خرجت الأحاديث التي ذكرها المؤلف تخريجًا موجزًا، فما كان في الصحيحين أو أحدهما اقتصرت على ذلك، وأشرت إلى الضعيف، مع العلم أن   1 أما طبعة اليمامة التي أخرجها الأخ الأستاد يوسف بديوي -حفظه الله-، فقد راجعها على نسخة خطية هي نسخة دار الكتب التي كانت إحدى أصول طبعة الخانجي، قد رمزت لها بـ"ي". 2 أذكر منها طبعة دار الأرقم، وقد رمزت لها بـ"أ"، وطبعة دار خزيمة التي حققها واستفاض في التعليقات عليها الأستاذ عامر ياسين حفظه الله وجزاه خيرًا ورمزت لها بـ"خ". 3 وهي مأخوذة من الطبعات الخمس التي ذكرتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 العمل بالحديث الضعيف ضعفًا يسيرًا على سبيل الاحتياط بعد بيان ضعفه جائز عند أكثر العلماء إذا كان من باب الأخلاق وفضائل الأعمال لا الأحكام. 8- ترجمت الأعلام من غير المشاهير ترجمة موجزة. 9- شرحت الألفاظ الغريبة على القارئ العام. 10- عرفت بالمؤلف في المقدمة. 11- فهرست للكتاب. وإتمامًا للفائدة ألحقت بالكتاب رسالة "لفتة الكبد إلى نصيحة الولد" التي يتفق موضوعها مع "صيد الخاطر" بأسلوبه ومضمونه، وقد كتبه مؤلفه بعد "صيد الخاطر" فهو بمثابة فصل من فصوله. وقد اعتمدت في تصحيح لفتة الكبد على طبعة المنار، التي وقف عليها الشيخ محمد حامد الفقي رحمه الله، واعتمد فيها على نسختين خطيتين في دار الكتب المصرية وقد طبع الكتاب سنة "1949هـ"، وقابلته على طبعة الترقي، التي قدم لها وعلق عليها كل من ناصر الدين الألباني ومحمود مهدي أستانبولي، وهي من منشورات جمعية التمدن الإسلامي بدمشق سنة "1347هـ - 1955 م". وفي الختام لا بد لي أن أشكر الأستاد محمد علي دولة الذي أتاح لي خدمة هذا الكتاب، وتفضل بنشره في دار القلم العامرة، كما أشكر الأخوين الفاضلين: الأستاذ إبراهيم صالح والأستاذ بسام الجابي اللذين أفزع إليهما عند كل معضلة أو مشكلة، فجزاهما الله خيرًا، وأسأله تعالى أن يتقبل عملي، فما أحسنت فيه فبفضل منه وتوفيق، وما أسأت فمن قصوري وتقصيري. وأسأله تعالى أن يجزي كل من ساهم في نشر هذا الكتاب خيرًا، إنه نعم المولى ونعم المسؤول، والحمد لله رب العالمين. دمشق: غرة شعبان "1425هـ" 15/ 9/ 2004م حسن السماحي سويدان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 ترجمة المؤلف1 1- اسمه ونسبه، وكنيته ولقبه: هو جمال الدين، أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي بن عبيد الله بن عبد الله بن حمادي بن أحمد بن محمد بن جعفر الجوزي القرشي التيمي البكري البغدادي الحنبلي. كان والده علي صفارًا2 قد أنجب ثلاثة أبناء، وهم: عبد الله، وعبد الرحمن، وعبد الرازق، وقد توفي والده في أول سنة "514هـ" وقد أتم ولده عبد الرحمن الثالثة من عمره. ولقب جده جعفر بالجوزي نسبة إلى فرضة يقال لها: فرضة الجوز على شاطئ دجلة بالقرب من بغداد على الأرجح. 2- مكان ولادته وتاريخها: ولد عبد الرحمن بن الجوزي في أواخر عام "510هـ" في درب حبيب من نهر المعلى في الجانب الشرقي من بغداد المسمى الرصافة، كما أن الجانب الغربي يسمى الكوخ، يصل بينهما جسران على نهر دجلة.   1 مصادر ترجمته: صيد الخاطر، ولفتة الكبد، والمنتظم للمؤلف، وابن نقطة في التقييد، الورقة "141"، وابن الأثير في الكامل "12/ 71"، وابن الدبيثي في الذليل على تاريخ بغداد، الورقة "122"، وابن أبي الدم في التاريخ المظفري، الورقة "229"، وسبط ابن الجوزي في المرآة "8/ 481"، والمنذري في التكملة، الترجمة "608"، والنعال في المشيخة "140"، أبو شامة في ذيل الروضتين "21"، وابن الساعي في الجامع "9/ 65"، وابن خلكان في الوفيات "3/ 140"، والذهبي في تاريخ الإسلام، الورقة "98"، وسير أعلام النبلاء "21/ 365"، وابن كثير في البداية "3/ 28"، والدمياطي في المستفاد، الورقة "6"، وابن رجب في ذيل طبقات الحنابلة "1/ 399"، والغساني في العسجد، الورقة "106"، وابن الجزري في غاية النهاية "1/ 375"، والعيني في عقد الجمان "17"، الورقة "261" وكثير غيرهم. 2 نحَّاسًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 3- عصره وبيئته: كان العراق تحت سلطان السلاجقة منذ منتصف القرن الخامس الهجري، وقد شهد القرن السادس صراعًا وانقسامًا في البيت السلجوقي، مما أتاح للخلفاء العباسيين في بغداد استراداد شيء من سلطانهم. وعاصر ابن الجوزي ستة من الخلفاء العباسيين، وهم على الترتيب: المسترشد "512-529هـ"، والراشد "529-530هـ"، والمقتفي "530-555هـ"، والمستنجد "555-566هـ"، والمستضئ "566-572هـ"، والناصر "572-622هـ". أما بغداد فقد فقدت في عهده شيئًا من محاسنها، وخيم الخراب على بعض أجزائها، بسبب الفتن والحروب والكوارث التي كانت تتعرض لها بين الفينة والأخرى؛ فقد حدث في حياة ابن الجوزي حريق كبير عام "510هـ"، وزلزال عام "511هـ"، وحريق في دار السلطة عام 515هـ، وفتنة وحروب عام 517هـ، وزلزال عام 538هـ، وزلزال آخر عام 544هـ، وطوفان عظيم عام 554هـ غرقت فيها دار ابن الجوزي وتلفت كتبه، ثم جاء الوباء والمجاعة عام 574هـ؛ لكنها بقيت محافظة على مكانتها العلمية والأدبية، يقصدها العلماء من كل ناحية ليزدادوا علمًا. وحسبنا أن نعلم أن شيوخ ابن الجوزي قد بلغو تسعة وثمانين شيخًا، وهو لم يرحل من بغداد إلا مرتين إلى الحج: الأولى سنة "541هـ"، والثانية سنة "553هـ". 4- نشأته وطلبه للعلم: توفي والده وهو طفل صغير أتم السنة الثالثة من عمره، فكفلته عمته، وقامت بأعباء تربيته، والعناية به، فحملته إلى مسجد الشيخ أبي الفضل ابن ناصر الذي اعتنى به، وعلمه. يقول -رحمه الله- في لفتة الكبد، الفصل "3": ولقد وفق لي شيخنا أبو الفضل ابن ناصر رحمه الله، وهو الذي تولى تسميعي الحديث من زمن الصغر، وهو الذي جعله الله تعالى سببًا لإرشادي إلى العلم؛ فإنه كان يجتهد معي، وكان يحملني إلى الشيوخ العوالي، وأنا لا أعلم ما يراه مني، ولا أدري ما العلم من الصغر، وضبط لي مسموعاتي إلى أن بلغت، وأثبت لي ما أسمعت بخطه، وأخذ لي إجازات، وعنه فنلت منه معرفة الحديث والنقل، ولم أستفد من أحد كاستفادتي منه. وهكذا نشأ ابن الجوزي شغوفًا بالعلم على اختلاف فنونه، يقول في صيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 الخاطر، الفصل "167": "إنني رجل حُبِّبَ إلي العلم من زمن الطفولة، فتشاغلت به، ثم لم يحبب إلي فن واحد بل فنون، ثم لم تقتصر همتي في فن على بعضه بل أروم استقصاءه". وقد سخر للعلم كل وقته وماله، قال: "فلما بلغت دفعوا لي عشرين دينارًا ودارين، وقالوا لي: هذه التركة كلها، فأخذت الدنانير، واشتريت بها كتب العلم، وبعت الدارين، وأنفقت ثمنها في طلب العلم، ولم يبق لي شيء من المال". لم تكن مسيرة ابن الجوزي العلمية سهلة، بل لاقى فيها الشدائد، لكن حلاوة العلم كانت تذلل له كل صعب، قال رحمه الله: ولقد كنت في حلاوة طلبي للعلم ألقى من الشدائد ما هو عندي أحلى من العسل، لأجل ما أطلب وأرجو. كنت في زمان الصبا آخذ معي أرغفة يابسة، فأخرج إلى طلب الحديث، وأقعد على نهر عيسى، فلا أقدر على أكلها إلا عند الماء؛ فكلما أكلت لقمة شربت عليها، وعين همتي لا ترى إلا لذة تحصيل العلم، فأثمر ذلك عندي أني عرفت بكثرة سماعي لحديث وسير الرسول صلى الله عليه وسلم وأحواله وآدابه، وأحوال الصحابة وتابعيهم؛ فصرت في معرفة طريقة كابن أجود. 5- شيوخه وحرصه على العلم: تردد ابن الجوزي على علماء عصره ينهل من علمهم، حتى بلغ عدد شيوخه تسعة وثمانين شيخًا كسر كتابًا لذكرهم هو "مشيخة ابن الجوزي"1؛ إلا أن أبرز شيوخه الذين تركوا أثرًا في شخصيته أربعة هم: أ- محمد بن ناصر السلامي: أبو الفضل "467-550هـ"، الإمام المتحدث الحافظ، ربي يتيمًا في كفالة جده لأمه أبي حكيم الخبري، الذي لقنه القرآن، وسمعه الحديث، وقرأ ما لا يوصف كثرة، وحصل الأصول، وجمع وألف، وبعد صيته، وكان فصيحًا، مليح القراءة، قوي العربية، بارعًا في اللغة، جم الفضائل، ثقةً، ثبتًا، حسن الطريقة، متدينًا، فقيرًا متعففًا، نظيفًا نزهًا، وقف كتبه، ولم يعقب2.   1 طبع في الشركة التونسية عام "1977م"، بتحقيق الاستاذ محفوظ. 2 لم يعقب: ليس له أولاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 ب- علي بن عبيد بن نصر بن السري الزاغوني، أبو الحسن "455-527هـ"، العلامة الإمام شيخ الحنابلة، ذو الفنون، صاحب التصانيف، كان بحرًا من بحور العلم، يرجع إلى دين وتقوى، وزهد وعبادة، قال ابن الجوزي: صحبته زمانًا، وسمعت منه، وعلقت عنه الفقه والوعظ. جـ- عبد الوهاب بن المبارك الأنماطي أبو البركات "462-538هـ"، الشيخ الإمام، الحافظ، المفيد، الثقة المسند، بقية السلف، قال السمعاني: هو حافظ ثقة متقن واسع الرواية، دائم البشر، سريع الدمعة، حسن المعاشرة، خرج التخاريج، وجمع ما لا يوصف، ولعلعه ما بقي جزء إلا قرأه، وحصل نسخته، وقال أبو موسى المديني: هو حافظ عصره ببغداد، وقال ابن الجوزي: كنت أقرأ عليه وهو يبكي، فاستفدت ببكائه أكثر من استفادتي بروايته، وانتفعت به ما لم أنتفع بغيره. د- موهوب بن أحمد بن محمد بن الخضر الجواليقي، أبو منصور "465-540هـ"، إمام في النحو واللغة من مفاخر بغداد، قرأ الأدب على أبي زكريا التبريزي، ولازمه وبرع، وهو ثقة، ورع، غزير الفضل، وافر العقل، مليح الخط، كثير الضبط، صنف التصانيف، وشاع ذكره. وقال ابن الجوزي: قرأ الأدب سبع عشرة سنة على التبريزي، وانتهى إليه علم اللغة، ودرس العربية بالنظامية، وكان الخليفة المقتفي يقرأ عليه شيئًا من الكتب، وكان متواضعًا، كثير الصمت، متثبتًا، يقول كثيرًا: لا أدري. وقال ابن النجار: هو إمام عصره في اللغة، كتب الكثير بخطه المليح المتقن مع متانة الدين، وصلاح الطريقة، وكان ثقةً حجةً نبيلًا. وقال الكمال ابن الأنباري: وكان منتفعًا به لديانته، وحسن سيرته، وقال ابن شافع: كان من المحامين عن السنة. ولم يكتف ابن الجوزي بما قرأ واستفاد على شيوخة الأماثل؛ بل عكف يقرأ كل ما تطاله يده من كتب قال في صيد الخاطر، الفصل "137": "وإني أخبر عن حالي، وما أشبع من مطالعة الكتب، وإذا رأيت كتابًا لم أره فكأني وقعت على كنز، ولقد نظرت في ثبت الكتب الموقوفة في المدرسة النظامية؛ فإذا به يحتوي على ستة آلاف مجلد، وفي ثبت كتب أبي حنيفة، وكتب الحميدي، وكتب شيخنا عبد الوهاب، وابن ناصر، وأبي محمد الشخاب، وكانت أحمالًا، وغير ذلك من كل كتاب أقدر عليه، ولو قلت: إني طالعت عشرين ألف مجلد، كان أكثر، وأنا بعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 في الطلب، فاستفدت بالنظر فيها من ملاحظة سير القوم، وقدر همهم، وحفظهم، وعباداتهم، وغرائب علومهم، ما لا يعرفه من لم يطالع، فصرت أستزري ما الناس فيه، وأحتقر همم الطلاب ولله الحمد. ومن جملة ما قرأ أجزاء كثيرة من "كتاب الفنون" لابن عقيل، وهو كتاب كبير جدًّا، فيه فوائد كثيرة جليلة، في الوعظ، والتفسير، والفقه، والأصلين والنحو واللغة والشعر، والتاريخ والحكايات، وفيه مناظراته ومجالسه التي وقعت له، وخواطره ونتائج فكره قيدها فيه، فاستفاد منه فوائد جمة، ولعله هو الذي نبهه إلى تقييد خواطره، فكان منها كتابه "صيد الخاطر"، وفي الجملة ترك كتاب الفنون آثارًا بارزة في علم ومصنفات ابن الجوزي، قال رحمه الله عن كتاب الفنون: "وهذا الكتاب مئتا مجلد، وقع لي منه نحو مئة وخمسين مجلدًا" وقال سبطه في "مرآة الزمان": "واختصر منه جدي عشر مجلدات فرقها في تصانيفه". لقد كان حرصه على أوقات عمره شديدًا، فلا يضيع وقته من غير فائدة، حتى السويعات التي يضطر فيها لاستقبال زائريه، كان يشغلها بأمور تتعلق بعلومه، يقول في صيد الخاطر الفصل "164": "ثم أعددت أعمالًا لا تمنع من المحادثة لأوقات لقائهم، لئلا يمضي الزمان فارغًا، فجعلت من الاستعداد للقائهم قطع الكاغد1 وبري الأقلام، وحزم الدفاتر؛ فإن هذه الأشياء لا بد منها، ولا تحتاج إلى فكر، وحضور قلب، فأرصدتها لأوقات زيارتهم، لئلا يضيع شيء من وقتي". ثم حبب إليه في بداية الطلب طريق الزهاد، فاستمع إليه يصف حاله قائلًا: "كنت في بداية الصبوة قد ألهمت سلوك طريق الزهاد بإدامة الصوم والصلاة، وحببت إلي الخلوة فكنت أجد قلبًا طيبًا، وكانت عين بصيرتي قوية الحدة، تتأسف على لحظة تمضي في غير طاعة، وتبادر الوقت في اغتنام الطاعات، ولي نوع أنس وحلاوة مناجاة". 6- تصدره للوعظ والإرشاد: إلا أن الفن الذي أحبه ابن الجوزي هو الوعظ والإرشاد، فأعد له العدة من علوم الشريعة واللغة والأدب والتاريخ، فحفظ الكثير من الأحاديث والرقائق والأخبار والحكايات والأشعار، مع إحاطة تامة بأحوال عصره وشؤون مجتمعه،   1 الكاغد: الورق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 وأحوال الناس خاصتهم وعامتهم، وعندما استوت له أدواته -وهو بعد في مقتبل العمر- أقبل يعقد مجالس الوعظ، وكان أولها في جامع المنصور سنة "527هـ". وبدأت مجالسه تستقطب الناس، فازدحم عليه أهل بغداد، ينهلون من علمه ووعظه وتذكيره خاصتهم وعامتهم، حتى صار علمًا من أعلام بغداد، ومفخرة تفاخر بها غيرها من المدن، فكان زوار بغداد يحرصون على حضور مجالسه التي لم يكن لها نظير في العالم الإسلامي. وها هو الرحالة الأندلسي الشهير "محمد بن أحمد بن جبير" يحضر أحد هذه المجالس ويصفها في بيان رائع في رحلته المشهورة، فيقول: "ثم شاهدنا صبيحة يوم السبت بعده مجلس الشيخ الفقيه الإمام الأوحد، جمال الدين أبي الفضائل بن علي الجوزي بإزاء داره على الشط بالجانب الشرقي وفي آخره، على اتصال من قصور الخليفة، وبمقربة من باب البصلية آخر أبواب الجانب الشرقي، وهو يجلس به كل سبت، فشاهدنا مجلس رجل ليس من عمرو ولا زيد، وفي جوف الفرا كل الصيد، آية الزمان، وقرة عين الإيمان، رئيس الحنبلية، والمخصوص في العلوم بالرتب العلية، إمام الجماعة، وفارس حلبة هذه الصناعة، والمشهود له بالسبق الكريم في البلاغة والبراعة، مالك أزمة الكلام في النظم والنشر، والغائص في بحر فكره على نفائس الدر، فأما نظمه فـ "رضي" الطباع "مهياري" الانطباع، وأما نثره فيصدع بسحر البيان، ويعطل المثل بـ "قس" و "سحبان". ومن أبهر آياته، وأكبر معجزاته: أنه يصعد المنبر، ويبتدئ القراء بالقراءة، وعددهم نيف على العشرين قارئًا، فينتزع الاثنان منهم أو الثلاثة آية من القراءة، يتملونها على نسق بتطريب وتشويق؛ فإذا فرغوا تلت طائفة أخرى على عددهم آية ثانية، ولا يزالون يتناوبون آيات من سور مختلفات إلى أن يتكاملوا قراءة، وقد أتوا بآيات متشابهات، لا يكاد المتقد الخاطر يحلها عدة، أو يسميها نسقًا، فإذا فرغوا أخذ هذا الإمام الغريب الشأن في إيراد خطبته عجلًا مبتدرًا، وأفرغ في أصداف الأسماع من ألفاظه دررًا، وانتظم أوائل الآيات المقروءات في أثناء خطبته فقرًا، وأتى بها على نسق القراءة لها لا مقدمًا ولا مؤخرًا، ثم أكمل الخطبة على قافية آخر آية منها، فلو أن أبرع من في المجلس تكلف تسمية ما قرأ القراء آية آية على الترتيب لعجز عن ذلك، فكيف بمن ينتظمها مرتجلًا، ويورد الخطبة الغراء بها عجلًا: {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} [الطور: 15] ، {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} [النمل: 16] ، فحدث عن البحر ولا حرج وهيهات، ليس الخبر عنه كالخُبَر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 ثم إنه أتى بعد أن فرغ من خطبته برقائق من الوعظ، وآيات بينات من الذكر، طارت لها القلوب اشتياقًا، وذابت بها الأنفس احتراقًا، إلى أن علا الضجيج، وتردد بشهقاته النشيج، وأعلن التائبون بالصياح، وتساقطوا عليه تساقط الفراش على المصباح، كل يلقي ناصيته بيده فيجزها، ويمسح على رأسه داعيًا له، ومنهم من يغشى عليه، فيرفع في الأذرع إليه، فشاهدنا هولًا يملأ الأنفس إنابة وندامة، ويذكر بأهوال يوم القيامة؛ فلو لم نركب ثبج البحر، ونعتسف مفازة القفر إلا لمشاهدة مجلس من مجالسه لكانت صفقة رابحة، والوجهة المفلجة الناجحة، والحمد لله على أن من بلقاء من تشهد الجمادات بفضله، ويضيق الوجود عن مثله، وفي أثناء مجلسه ذلك تبتدره المسائل، وتطير إليه الرقاع؛ فيجاوب أسرع من طرفة العين وربما كان أكثر مجلسه الرائق من نتائج تلك المسائل، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، لا إله سواه"1. 7- تصانيفه: ثم رأى ابن الجوزي أن التصنيف في فن الوعظ يكمل مجالسه؛ بل يعمم نفعها، فالكتاب يبلغ ما لا يبلغه الخطاب، وهو باق وصاحبه موسد تحت التراب. ويقول رحمه الله: رأيت من الرأي القويم أن نفع التصانيف أكثر من نفع التعليم بالمشافهة؛ لأني أشافه في عمري عددًا من المتعلمين، وأشافه بتصنيفي خلقًا لا يحصون ما خلقوا بعد، ودليل هذا أن انتفاع الناس بتصانيف المتقدمين أكثر من انتفاعهم بما يستفيدونه من مشايخهم؛ فينبغي للعالم أن يتوفر على التصانيف إن وفق للتصنيف المفيد ... "2. لقد ابتدأ ابن الجوزي في التصنيف وله من العمر سبع عشرة سنة؛ فلا غرابة أن يكون من أكثر المصنفين في الإسلام، وقد تجاوز عدد مؤلفاته أربعمائة3 كتاب، أفراد لها الأستاذ عبد الحميد العلوجي كتابًا سماه مؤلفات ابن الجوزي كما أن الإمام الذهبي سرد أسماء الكثير منها في سيره "21/ 370" وأكتفى هنا بذكر أشهرها: "التبصرة" و "تلبيس إبليس" و "ذم الهوى" و "زاد المسير في علم التفسير" و "صفة   1 رحلة ابن جبير، ص "271 -273"، تحقيق د. حسين نصار. 2 صيد الخاطر، الفصل "165". 3 طبع ببغداد سنة 1965م، وذكر نسخها والمطبوع منها مرتبة على حروف المعجم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 الصفوة" و "المدهش" و "مناقب الإمام أحمد بن حنبل" و "المنتظم في تاريخ الملوك والأمم" و "الموضوعات في الأحاديث المرفوعات" و "الوفا بأحوال المصطفى" كما ذكر هو رحمه الله تعالى عددًا منها في كتابه هذا. 8- صفاته وأخبار أسرته: كان ابن الجوزي أنيقًا في مظهره نزهًا نظيفًا، متنعمًا في معيشته، كما كان -رحمه الله- متحدثًا بارعًا، إن أراد أن يضحك أضحك الثكلى بما يسرد من أخبار البخلاء والحمقى والمغفلين والمتماجنين والظراف. وإذا أراد أن يبكي أبكى الصخر الأصم بما يقص من وصف الآخرة وأهوال يوم القيامة وسير الصالحين الزاهدين، وخوفهم من الله تعالى، فكان يمزج بين هذا وذاك ليجذب القلوب، ويروح عن النفوس لتستعد لسماع مواعظه، فهو خبير بما يصلح النفوس ويتألفها. كما تميز ابن الجوزي -رحمه الله تعالى- إضافة إلى فصاحته وغزارة محفوظه بسرعة البديهة والجواب الحاضر، وقد ذكروا عنه قصصًا طريفة، منها: أن رجلًا سأله من أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت الأجواء بين الشيعة والسنة مشحونة، فقال على البديهة: أفضل الناس من كانت بنته تحته، فقال أهل السنة: يقصد أبا بكر؛ لأن ابنته عائشة كانت تحت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت الشيعة: بل يقصد عليًّا؛ لأن بنته فاطمة رضي الله عنها كانت تحته. تزوج -رحمه الله- مرتين فأنجب من زوجته الأولى عشرة أولاد، خمسة ذكور وخمس إناث، مات من الذكور أربعة، منهم ابنه عبد العزيز الذي مات مسمومًا بالموصل سنة "554هـ"، وبقي علي أبو القاسم، وقد كتب له رسالة لفتة الكبد إلى نصيحة الولد إلا أنه لم ينتفع بنصيحة الوالدة، وكان عاقًّا سيئ الطباع، فاستغل محنة أبيه، فأخذ كتبه، وباعها بأبخس الأثمان، توفي علي هذا سنة "630هـ". وأما الإناث فهنّ: 1- رابعة: تزوجت من ابن رشيد الطبري سنة "571هـ"، فاشتغل هذا بكتب الفلاسفة، فساءت عقيدته، فهجره ابن الجوزي، فلما مات، زوجها من مملوك تركي للوزير ابن هبيرة اسمه قزغلي فأنجبت يوسف المعروف بسبط ابن الجوزي صاحب مرآة الزمان وغيرها من المصنفات. 2- زينب، و 3- شرف النساء، و 4- ست النساء الصغرى، و 5- جوهرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 وأنجب من زوجته الثانية ابنه يوسف، وهو أصغر أولاده وأنجبهم، ولد سنة "580هـ"، وعظ بعد أبيه، وكتب وأتقن حتى ساد أقرانه، وتولى التدريس بالمدرسة المستنظرية، وبنى المدرسة الجوزية بدمشق، وأوقف عليها، ثم صار أستاذ دار الخليفة المستعصم سنة "640 هـ"، حتى قتل مع الخليفة هو وأولاده تاج الدين، وجمال الدين، وشرف الدين على يد التتار سنة "656هـ". 9- محنته: تعرض ابن الجوزي في شيخوخته لمحنة قاسية كان سببها الرافضة، وقد لخصها الشيخ علي الطنطاوي في مقدمة طبعته لصيد الخاطر فقال رحمه الله: كان الوزير ابن يونس الحنبلي قد عقد مجلسًا للركن عبد السلام ابن عبد القادر الجيلي1، وأحرقت كتبه، وكان فيها من الزندقة وعبادة النجوم ورأي الأوائل شيء كثير، وذلك بمحضر من ابن الجوزي وغيره من العلماء، وانتزع الوزير مدرسة جده وسلمها إلى ابن الجوزي، فلما ولي الوزارة ابن القصاب -وكان رافضيًّا خبيثًا- سعى في القبض على ابن يونس، وتتبع أصحابه؛ فقال له الركن: أين أنت من ابن الجوزي؟ فإنه ناصبي، ومن أولاد أبي بكر الصديق، فهو من أكبر أصحاب ابن يونس، وأعطاه مدرسة جدي، وأحرقت كتبي بمشورته. فكتب ابن القصاب إلى الخليفة الناصر، وكان الناصر له ميل إلى الشيعة، ولم يكن له ميل آخر أيامه إلى الشيخ أبي الفرج، فأمر بتسليمه إلى الركن عبد السلام، فجاء هذا إلى دار الشيخ، وشتمه وأغلظ عليه، وختم على كتبه وداره، وشتت عياله. فلما كان في أول الليل، حمل في سفينةٍ، وليس معه إلا عدوه الركن، وعلى الشيخ غلالة بلا سراويل، وعلى رأسه تخفيفة، فأحدر إلى واسط، وكان ناظرها شيعيًّا، فقال له الركن: مَكِّنِّي من عدوي لأرميه في المطمورة2، فزبره3، فقال: يا زنديق! أرميه بقولك؟ هات خط الخليفة، والله لو كان من أهل مذهبي لبذلت روحي ومالي في خدمته. قال ابن القادسي: لما حضر إلى واسط جمع الناس، وادعى ابن عبد القادر   1 عبد السلام بن عبد الوهاب بن عبد القادر الجيلاني. 2 سرداب تحت الأرض. 3 زبره: زجره ومنعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 على الشيخ أنه تصرف في وقف المدرسة، و [أنه] اقتطع من مالها كذا وكذا، وكذب فيما ادَّعاه، وأنكر الشيخ وصدق وبر، وأفردت للشيخ دار بدرب الديوان، وعلى بابها بواب، وأفرد له من يخدمه، وكان بعض الناس يدخلون عليه، ويستمعون منه، ويملي عليهم، وكان يرسل أشعارًا كثيرة إلى بغداد. وأقام بواسط خمس سنين يخدم نفسه بنفسه، ويغسل ثوبه، ويطبخ، ويستقي الماء من البئر، ولا يتمكن من خروج إلى حمام ولا غيره، وقد قارب الثمانين. وبقي على ذلك من سنة تسعين إلى سنة خمس وتسعين، فأفرج عنه، وقدم إلى بغداد، وخرج خلق كثير يوم دخوله لتلقيه، وفرح به أهل بغداد فرحًا زائدًا، ونودي له بالجلوس يوم السبت، فصلى الناس الجمعة، وعبروا يأخذون مكانات موضع المجلس عند تربة أم الخليفة، فوقع تلك الليلة مطر كثير ملأ الطرقات، فأحضر في الليل فراشون وروزجارية1، فنظفوا موضع الجلوس، وفرشوا فيه دقاق الحصى والبواري2، ومضى الناس وقت المطر إلى قبر معروفٍ [الكرخي] تحت الساباط3 حتى سكن المطر، ثم جلس الشيخ بكرة السبت، وعبر الخلق، وحضر أرباب المدارس والصوفية ومشايخ الربط، وامتلأت البرية حتى ما كان يصل صوت الشيخ إلى آخرهم. وأعاد الخليفة الشيخ إلى بغداد وخلع عليه، وجلس عند تربة أم الخليفة للوعظ، وأنشد: شقينا بالنوى زمنًا فلما ... تلاقينا كأنا ما شقينا سخطنا عندما جنت4 الليالي ... فما زالت بنا حتى رضينا سعدنا بالوصول وكم شقينا ... بكاسات الصدود وكم فنينا فمن لم يحي بعد الموت يومًا ... فإنا بعد ما متنا حيينا ولم يزل الشيخ على عادته الأولى في الوعظ ونشر العلم وكتابته إلى أن مات.   1 قال النووي: الروزجار هو براء مضمومة، ثم واو ساكنة، ثم زاي، ثم جيم، ثم ألف، ثم راء: وهو الذي يعمل الطين بالمجرفة ونحوها. 2 جمع "بوريّة" وهي: الحصير. 3 الساباط: ممر مسقوف. 4 جنت من الجناية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 10- وفاته: توفي ابن الجوزي بعد مرض دام خمسة أيام، ليلة الجمعة بين المغرب والعشاء في الثالث عشر من رمضان المبارك سنة "597هـ" في دار له قريبة من قبر معروف الكرخي بمحافظة قطفتا، في الجانب الغربي من مدينة السلام بغداد. أجمعت المصادر على أن يوم وفاته كان يومًا مشهودًا ببغداد، إذ ارتجت قلوب الناس لنبأ وفاته، وغلقت الأسواق، ونودي للصلاة عليه في جانبي بغداد، وحملت جنازته على رؤوس الناس، ثم ذهبوا به إلى جامع المنصور للصلاة عليه، فصلى عليه ابنه أبو القاسم علي، وضاق الجامع على سعته بالناس، فصلى عليه مرتان، ثم حمل إلى مقبرة باب حرب، فدفن هناك بالقرب من الإمام أحمد -رحمهم الله. قال سِبْطُه أبو المظفر: أوصى جدّي أن يكتب على قبره: يا كثير العفو عمَّنْ ... كثر الذنب لديهِ جاءك المذنب يرجُوالـ ... ـصفح عن جرم يديْهِ أنا ضيف وجزاء الـ ... ـضيف إحسان إليْهِ1   1 انظر: ترجمته في مقدمة الأذكياء للأخ الكريم الأستاذ بسام الجابي حفظه الله، ص "5-21". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 غلاف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 بسم الله الرحمن الرحيم وبه المستعان وعليه التكلان. قال الشيخ الإمام العالم، أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن الجوزي رحمة الله عليه: 1 الحمد لله حمدًا يبلغ رضاه، وصلى الله على أشرف من اجتباه1، وعلى من صاحبه ووالاه، وسلم تسليمًا لا يدرك منتهاه. 2 لما كانت الخواطر2 تجول في تصفح أشياء تعرض لها، ثم تعرض عنها فتذهب، كان من أولى الأمور حفظ ما يخطر، لكي لا ينسى، وقد قال عليه الصلاة والسلام: "قيدو العلم بالكتابة" 3. وكم قد خطر لي شيء، فأتشاغل عن إثباته، فيذهب، فأتأسف عليه! ورأيت من نفسي أنني كلما فتحت بصر التفكر، سنح4 له من عجائب الغيب ما لم يكن في حساب، فانثال5 عليه من كثيب6 التفهيم ما لا يجوز التفريط فيه، فجعلت هذا الكتاب قيدًا لصيد الخاطر، والله ولي النفع، إنه قريب مجيب.   1 اجتباه: اصطفاه واختاره. 2 الخواطر: الأفكار. 3 رواه الدارمي "1/ 126" والحاكم "1/ 106" والطبراني في الكبير "1/ 62" والخطيب في التقييد ص "96" عن أنس موقوفًا وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. 4 سنح: بدا. 5 انثال: تتابع. 6 كثيب: مجتمع الرمل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 1- فصل: المواعظ والسامع 3- قد يعرض عند سماع المواعظ للسامع يقظة، فإذا انفصل عن مجلس الذكر، عادت القسوة والغفلة، فتدبرت السبب في ذلك، فعرفته. ثم رأيت الناس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 يتفاوتون في ذلك، فالحالة العامة أن القلب لا يكون على صفته من اليقظة عند سماع الموعظة وبعدها؛ لسببين: أحدهما: أن المواعظ كالسياط، والسياط لا تؤلم بعد انقضائها، وإيلامها وقت وقوعها. والثاني: أن حالة سماع المواعظ يكون الإنسان فيها مزاح العلة1، قد تخلى بجسمه وفكره عن أسباب الدنيا، وأنصت بحضور قلبه؛ فإذا عاد إلى الشواغل، اجتذبته بآفاتها، فكيف يصح أن يكون كما كان؟! وهذه حالة تعم الخلق؛ إلا أن أرباب اليقظة يتفاوتون في بقاء الأثر، فمنهم من يعزم بلا تردد، ويمضي من غير التفات، فلو توقف بهم ركب الطبع، لضجوا، كما قال حنظلة عن نفسه: نَافَقَ حَنْظَلَةُ2. ومنهم أقوامٌ يميل بهم الطبع إلى الغفلة أحيانًا، ويدعوهم ما تقدم من المواعظ إلى العمل أحيانا، فهم كالسنبلة تميلها الرياح3. وأقوام لا يؤثر فيهم إلا بمقدار سماعه، كماء دحرجته على صفوان4.   1 مزاح العلة: خليٌّ عن الشواغل التي تصرفه عن التأثير بالمواعظ. 2 روى مسلم "2750" عن حنظلة الأسيدي -وكان من كتّاب رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال: لقيني أبو بكر فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قال: قلت: نافق حنظلة. قال: سبحان الله! ما تقول؟ قال: قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيرًا، قال أبو بكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: نافق حنظلة يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما ذاك"؟ قلت: يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة، حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، إن لو تدومون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم، وفي طرقكم. ولكن يا حنظلة ساعة وساعة" "ثلاث مرات". 3 عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمن مثل السنبلة، تميل أحيانًا، وتقوم أحيانًا" رواه أبو يعلى "2/ 83" وغيره. 4 الصفوان: الصخر الأملس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 2- فصل: جواذب الطبع كثيرة . 4- جواذب الطبع إلى الدنيا كثيرة، ثم هي من داخلٍ، وذكر الآخرة أمر خارج عن الطبع، ثم هي1 من خارجٍ، وربما ظن من لا علم له أن جواذب الآخرة أقوى، لما يسمع من الوعيد في القرآن. وليس كذلك؛ لأن مثل الطبع في ميله إلى الدنيا كالماء الجاري، فإنه يطلب الهبوط؛ وإنما رفعه إلى فوق يحتاج إلى التكلف. ولهذا أجاب معاون الشرع: بالتغريب والترهيب يقوى جند العقل. فأما الطبع، فجواذبه كثيرة، وليس العجب أن يَغْلِبَ، إنما العجب أن يُغْلَبَ.   1 في حاشية الأصل: كذا في النسختين، ولعله، ثم هو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 3- فصل: من عاين الأمور بعين بصيرته . 5- من عاين بعين بصيرته تناهي الأمور في بداياتها نال خيرها، ونجا من شرها، ومن لم ير العواقب، غلب عليه الحس، فعاد عليه بالأسلم ما طلب منه السلامة، وبالنصب1 ما رجا منه الراحة. وبيان هذا في المستقبل يتبين بذكر الماضي، وهو أنك لا تخلو أن تكون عصيت الله في عمرك، أو أطعته، فأين لذة معصيتك؟! وأين تعب طاعتك؟! هيهات، رحل كل بما فيه، فليت الذنوب إذا تَخَلَّتْ خَلَّتْ! 6- وأزيدك في هذا بيانًا: مثل ساعة الموت، وانظر إلى مرارة الحسرات على التفريط، ولا أقول: كيف تغلب حلاوة اللذات؟! لأن حلاوة اللذات استحالت حَنْظَلًا2؛ فبقيت مرارة الأسى بلا مقاوم، أتراك ما علمت أن الأمر بعواقبه؟! فراقب العواقب تسلم، ولا تمل مع هوى الحس فتندم.   1 النصب: التعب. 2 الحنظل: نبات بري من فصيلة القرع ثمرته في حجم البرتقالة ولونها، فيه لب شديد المرارة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 4- فصل: التفكر في عواقب الدنيا . 7- من تفكر في عواقب الدنيا، أخذ الحذر، ومن أيقن بطول الطريق، تأهب للسفر. 8- ما أعجب أمرك يا من يوقن بأمر ثم ينساه، ويتحقق ضرر حال ثم يغشاه، وتخشى الناس، والله أحق أن تخشاه! 9- تغلبك نفسك على ما تظن، ولا تغلبها على ما تستيقن! 10- أعجب العجائب: سرورك بغرورك، وسهوك في لهوك عما قد خُبِّئَ لك! 11- تغتر بصحتك، وتنسى دنو السقم، وتفرح بعافيتك غافلًا عن قرب الألم! 12- لقد أراك مصرع غيرك مصرعك، وأبدى مضجع سواك قبل الممات مضجعك، وقد شغلك نيل لذاتك عن ذكر خراب ذاتك. كأنك لم تسمع بأخبار من مضى ... ولم تر في الباقين ما يصنع الدهر فإن كنت لا تدري فتلك ديارهم ... محاها مجال الريح بعدهم والقبر 13- كم رأيت صاحب منزل ما نزل لحده حتى نزل1! وكم شاهدت والي قصر وليه عدوه لما عزل! 14- فيا من كل لحظة إلى هذا يسري، وفعله فعل من لا يفهم ولا يدري! وكيف تنام العين وهي قريرةٌ ... ولم تدر من أي المحلين تنزلُ؟   1 نزل: تخلى عن أهله وماله وجاهه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 5- فصل: مقاربة الفتنة 15- من قارب الفتنة، بعدت عنه السلامة، ومن ادعى الصبر، وكل إلى نفسه. 16- ورب نظرة لم تناظر1، وأحق الأشياء بالضبط والقهر: اللسان والعين. 17- فإياك إياك أن تغتر بعزمك على ترك الهوى، مع مقاربة الفتنة، فإن   1 لم تناظر: لم تمهل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 الهوى مكايد1! وكم من شجاع في صف الحرب اغتيل، فأتاه ما لم يحتسب ممن يأنف2 النظر إليه، واذكر حمزة مع وحشيٍّ3. فَتَبَصَّرْ ولا تَشِمْ كُلَّ بَرْقٍ ... رُبَّ بَرْقٍ فِيهِ صَوَاعِقُ حَيْنِ4 وَاغْضُضِ الطَّرْفَ تَسْتَرِحْ مِنْ غَرَامٍ ... تَكْتَسِي فِيهِ ثَوْبَ ذُلٍّ وَشَيْنِ5 فَبَلاءُ الفَتَى مُوَافَقَةُ النَّفْـ ... ـسِ، وَبَدْءُ الهَوَى طُموحُ العَيْنِ   1 مُكايد: خداع ماكر. 2 يأنف من النظر إليه: يترفع عنه ويكرهه. 3 في حاشية الأصل: إشارة إلى مقتل حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم بيد وحشي. قلت: هو وحشي بن حرب، مولى بني نوفل، أسلم وأقام بحمص، وتوفي فيها سة "25هـ". 4 لا تشم: لا تنخدع. و"الحين" الهلاك. 5 الشين: العيب، والأبيات لابن الحريري، ذم الهوى ص "103". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 6- فصل: أعظم المعاقبة . 18- أعظم المعاقبة أن لا يحس المعاقب بالعقوبة، وأشد من ذلك أن يقع السرور بما هو عقوبة، كالفرح بالمال الحرام، والتمكن من الذنوب، ومن هذه حاله لا يفوز بطاعة. 19- وإني تدبرت أحوال أكثر العلماء والمتزهدين، فرأيتهم في عقوبات لا يحسون بها، ومعظمها من قبل طلبهم للرئاسة، فالعالم منهم يغضب إن رد عليه خطوة، والواعظ متصنع بوعظه، والمتزهد منافق أو مراء. فأول عقوباتهم: إعراضهم عن الحق شغلًا بالخلق، ومن خفي عقوباتهم: سلب حلاوة المناجاة، ولذة التعبد، إلا رجال مؤمنون، ونساء مؤمنات، يحفظ الله بهم الأرض، بواطنهم كظواهرهم؛ بل أجلى، وسرائرهم كعلانيتهم؛ بل أحلى، وهممهم عند الثريا1؛ بل أعلى، إن عرفوا تنكروا، وإن رئيت لهم كرامة أنكروا، فالناس في غلاتهم، وهم في قطع فلاتهم2، تحبهم بقاع الأرض، وتفرح بهم.   1 الثريا: مجموعة من النجوم. 2 الفلاة: الأرض الجرداء، والمعنى: أن هؤلاء الرجال في سفر إلى الجنة، ولا يجعلون من الدنيا وزينتها شاغلًا لهم ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 أملاك السماء، نسأل الله -عز وجل- التوفيق لاتباعهم، وأن يجعلنا من أتباعهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 7- فصل: علوُّ الهمةِ 20- من علامة كمال العقل علو الهمة ، والراضي بالدون1 دني2. ولم أر في عيوب الناس عَيْبًا ... كنقص القادرين على التَّمامِ3   1 الدون: الأمر الخسيس الحقير. 2 الدنيء: سافل الطبع. 3 البيت للمتنبي، ديوانه "476". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 8- فصل: سبقت محبة الله لأحبابه . 21- سبحان من سبقت محبته لأحبابه؛ فمدحهم على ما وهب لهم، واشترى منهم ما أعطاهم1، وقدم المتأخر من أوصافهم لموضع إيثارهم، فباهى بهم في صومهم2، وأحب خلوف أفواههم3. يا لها من حالةٍ مصونةٍ! لا يقدر عليها كل طالب، ولا يبلغ كنه4 وصفها كل خاطب.   1 قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ ... } الآية "التوبة: 111". 2 عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يومًا ومضى رمضان، وفيه: "وينظر الله إلى تنافسكم فيه، ويباهي بكم ملائكته" الحديث رواه الطبراني، قال المنذري في الترغيب "1467": رواته ثقات؛ إلا أن محمد بن قيس لا يحضرني في جرح ولا تعديل. 3 عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الصيام جنة.." وفيه: "لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ... " الحديث رواه البخاري "1894" ومسلم "1151". 4 كنه: حقيقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 9- فصل: العاقل يعطي كل لحظة حقها 22 الواجب على العاقل أخذ العدة لرحيله؛ فإنه لا يعلم متى يفجؤه أمر ربه؟ ولا يدري متى يستدعى؟ وإني رأيت خلقًا كثيرًا غرهم الشباب، ونسوا فقد الأقران، وألهاهم طول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 الأمل، وربما قال العالم المحض1 لنفسه: أشتغل بالعلم اليوم، ثم أعمل به غدًا! فيتساهل في الزهد2، بحجة الراحة، ويؤخر الرجاء3 لتحقيق التوبة، ولا يتحاشى من غيبة أو سماعها، ومن كسب شبهة يأمل أن يمحوها بالورع، وينسى أن الموت قد يبغت. فالعاقل من أعطى كل لحظة حقها من الواجب عليه، فإن بغته الموت، رئي مستعدًّا، وإن نال الأمل، ازداد خيرًا.   1 العالم المحض: العالم الذي لا يعمل بعلمه، قال الشيخ أحمد بن رسلان الشافعي في كتاب الزيد ص "4": فعالم بعلمه لم يَعْمَلَنْ ... معذب من قبل عباد الوثنْ 2 في حاشية الأصل: في الأحمدية: في الزلل. ولكل وجه صحيح. 3 في بعض النسخ المطبوعة: الأهبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 10- فصل : متى رأيت معاقبًا فاعلم أنه لذنوب. 23- خَطَرَتْ لي فكرة فيما يجري على كثير من العالم من المصائب الشديدة والبلايا العظيمة، التي تتناهى إلى نهاية الصعوبة، فقلت: سبحان الله! إن الله أكرم الأكرمين، والكرم يوجب المسامحة، فما وجه هذه المعاقبة؟! فتفكَّرْتُ فرأيت كثيرًا من الناس في وجودهم كالعدم، لا يتصفحون أدلة الوحدانية، ولا ينظرون في أوامر الله تعالى ونواهيه؛ بل يجرون على عاداتهم كالبهائم، فإن وافق الشرع مرادهم [فبها] 1، وإلا؛ فمعولهم على أغراضهم! وبعد حصول الدينار لا يبالون، أمن حلال كان أم من حرام؟ وإن سهلت عليهم الصلاة، فعلوها، وإن لم تسهل، تركوها! وفيهم من يبارز بالذنوب العظيمة، مع نوع معرفة المناهي. وربما قويت معرفة عالم منهم، وتفاقمت ذنوبه!! فعلمت أن العقوبات -وإن عظمت- دون إجرامهم؛ فإذا وقعت عقوبة لتمحص ذنبًا، صاح مستغيثهم: ترى هذا بأيٍّ ذنبٍ؟! وينسى ما قد كان مما تتزلزل الأرض لبعضه!   1 زيادة من المحقق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 24- وقد يهان الشيخ في كبره حتى ترحمه القلوب، ولا يدري أن ذلك لإهماله حق الله تعالى في شبابه! فمتى رأيت معاقبًا؛ فاعلم أنه لذنوبٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 11- فصل: الحسد منشؤه حب الدنيا . 25- تأملت التحاسد بين العلماء، فرأيت منشأه من حب الدنيا، فإن علماء الآخرة يتوادون، ولا يتحاسدون: كما قال عَزَّ وَجَلَّ: {وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا} "الحشر:9"، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} "الحشر:10". وقد كان أبو الدرداء1 يدعو كل ليلة لجماعة من إخوانه. وقال الإمام أحمد بن حنبل لولد الشافعي: أبوك من الستة الذين أدعو لهم كل ليلة وقت السحر. 26- والأمر الفارق بين الفئتين: أن علماء الدنيا ينظرون إلى الرئاسة فيها، ويحبون كثرة الجمع والثناء، وعلماء الآخرة بمعزل من إيثار ذلك، وقد كان يتخوفونه، ويرحمون من بلي به. وكان النَّخَعَيُّ2 لا يستند إلى سارية. وقال علقمة3: أكره أن يوطأ عقبي، ويقال: علقمة. وكان بعضهم إذا جلس إليه أكثر من أربعة، قام عنهم. وكانوا يتدافعون الفتوى4، ويحبون الخمول5. 27 مثل القوم كمثل راكب البحر، وقد خبَّ6، فعنده شغل إلى أن يوقن   1 عويمر بن مالك بن قيس الأنصاري الخزرجي، صحابي من الحكماء الفرسان القضاة العباد توفي بدمشق سنة "32هـ". 2 إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود، أبو عمران "46-96هـ"، من مذحج من أكابر التابعين صلاحًا وصدق رواية وحفظًا للحديث، من أهل الكوفة، مات متخفيًّا من الحجاج. 3 علقمة بن قيس النخعي الكوفي، أبو شبل، عداده في المخضرمين، ولازم عبد الله بن مسعود، شهد صفين وغزا خراسان، توفي سنة "62هـ". 4 أي: يحيل كل واحد منهم الفتوى إلى من يرى أنه أعلم منه. 5 الخمول: التواضع والبعد عن الشهرة. 6 خب البحر: هاج وماج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 بالنجاة، وإنما كان بعضهم يدعو لبعض، ويستفيد منه؛ لأنهم ركب تصاحبوا فتوادوا، فالأيام والليالي مراحلهم إلى سفر الجنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 12 فصل: من أحب تصفية الأحوال . 28 من أحب تصفية الأحوال1، فليجتهد في تصفية الأعمال، قال الله عز وجل: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} "الجن:19". وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي، عن ربه عز وجل: "لو أنَّ عبادي أطاعوني، لسقيتهم المطر بالليل، وأطلعت عليهم الشمس بالنهار، ولم أسمعهم صوت الرعد" 2. وقال صلى الله عليه سلم: "البِرُّ لا يَبْلَى، والإثْمُ لا يُنْسَى، والديان لا ينام، وكما تدين تدان" 3. وقال أبو سليمان الداراني4: من صَفَّى، صُفِّيَ له، ومن كدر، كدر عليه، ومن أحسن في ليله، كوفئ في نهاره، ومن أحسن في نهاره، كوفئ في ليله. وكان شيخ يدور في المجالس ويقول: من سره أن تدوم له العافية، فليتق الله -عز وجل. وكان الفضيل بن عياض5 يقول: إني لأعصي الله، فأعرف ذلك في خلق دابتي وجاريتي. 29 واعلم -وفقك الله- أنه لا يحس بضربةٍ مبنج6؛ وإنما يعرف الزيادة من النقصان المحاسب لنفسه.   1 الأحوال: أحوال النفس. 2 رواه أحمد "2/ 359" والحاكم "4/ 256" وفي سنده صدقة بن موسى، قال الذهبي: ضعفوه ضعيف. 3 رواه عبد الرازق "20262" مرسلًا عن أبي قلابة، وأحمد في الزهد ص "100" وابن أبي شيبة "34569" موقوفًا على أبي الدرداء ضعيف. 4 عبد الرحمن بن أحمد بن عطية العنسي المذحجي، زاهد مشهور، من أهل داريا بغوطة دمشق، وتوفي ببلده سنة "215هـ". 5 أبو علي التميمي الخراساني "105-187هـ" الإمام العابد الزاهد، شيخ الحرم المكي. 6 مبنّج: خدر بالبنج، وهو نبات مخدر من الفصيلة الباذنجانية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 30 ومتى رأيت تكديرًا في حال، فاذكر نعمة ما شكرت، أو زلة قد فعلت. 31 واحذر من نفار النعم، ومفاجأة النقم، ولا تغترر بسعة بساط الحلم؛ فربما عجل انقباضه، وقد قال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} "الرعد: 11". وكان أبو علي الروذباري1 يقول: من الاغترار أن تسيء، فيحسن إليك، فتترك التوبة توهمًا أنك تسامح في الهفوات.   1 محمد بن أحمد بن القاسم، من كبار الصوفية، من أولاد الرؤساء والوزراء أصله من بغداد، سكن مصر، توفي سنة "322هـ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 13 فصل: التكليف أقسام . 32 تَفَكَّرْتُ يومًا في التكليف، فرأيته ينقسم إلى سهل وصَعْبٍ: فأما السهل: فهو أعمال الجوارح؛ إلا أن منه ما هو أصعب من بعض، فالوضوء والصلاة أسهل من الصوم، والصوم ربما كان عند قوم أسهل من الزكاة. وأما الصعب، فيتفاوت، فبعضها أصعب من بعض: فمن المستصعب: النظر والاستدلال الموصلان إلى معرفة الخالق، فهذا صعب عند من غلبت عليه أمور الحس، سهل عند أهل العقل. ومن المستصعب: غلبة الهوى، وقهر النفوس، وكف أكف الطباع عن التصرف فيما يؤثره، وكل هذا يسهل على العاقل النظر في ثوابه، ورجاء عاقبته، وإن شق عاجلًا. 33 وإنما أصعب التكاليف وأعجبها: أنه قد ثبتت حكمة الخالق عند العقل ثم يراه1 يفقر المتشاغل بالعلم، المقبل على العبادة، حتى يعضه الفقر بناجذيه2، فيذل للجاهل في طلب القوت، ويغني الفاسق مع الجهل حتى تفيض الدنيا عليه3.   1 أي: يرى العقل الخالق. 2 النواجذ: هي أبعة أضراس بعد الأرحاء، ويسمى ضرس الحلم؛ لأنه ينبت بعد البلوغ وكمال العقل. وتسميه العامة: أضراس العقل. 3 العقل والعلم والإقبال على العبادة من النعم التي لا يعدلها مال؛ فهل يستوي هذا مع الجهل والغفلة، ولو أوتي الجاهل كنوز قارون؟ قال سفيان بن عيينة: من زيد في عقله نقص من رزقه، قلت: لأن العقل من الرزق كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 ثم نراه ينشئ الأجسام ويحكمها، ثم ينقض بناء الشباب في مبدئ أمره، وعند استكمال بنائه؛ فإذا به قد عاد هشيمًا. ثم نراه يؤلم الأطفال، حتى يرحمهم كل طبع، ثم يقال له: إياك أن تشك في أنه أرحم الراحمين. ثم يسمع بإرسال موسى إلى فرعون، ويقال له: اعتقد أن الله تعالى أضل فرعون، واعلم أنه ما كان لآدم بد من أكل الشجرة، وقد وبخ بقوله: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ} "طه: 121". وفي مثل هذه الأشياء تحير خلق، حتى خرجوا إلى الكفر والتكذيب، ولو فتشوا على سر هذه الأشياء، لعلموا أن تسليم هذه الأمور تكليف العقل ليذعن. هذا أصل، إذا فهم، حصل منه السلامة والتسليم، نسأل الله -عز وجل- أن يكشف لنا الغوامض، التي حيرت من ضل، إنه قريب مجيب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 14 فصل : لا تُضَيّعْ لحظة في غير قربةٍ. 34- ينبغي للإنسان أن يعرف شرف زمانه، وقدر وقته، فلا يضيع منه لحظة في غير قربة، ويقدم الأفضل فالأفضل من القول والعمل. 35- ولتكن نيته في الخير قائمة من غير فتور بما لا يعجز عنه البدن من العمل، كما جاء في الحديث: "نية المؤمن خير من عمله" 1. 36- وقد كان جماعة من السلف يبادرون اللحظات2، فنقل عن عامر بن   1 رواه الطبراني "6/ 228" وأبو نعيم في الحلية "3/ 255" والخطيب في تاريخه "9 /237" عن سهل بن سعد، وابن عبد البر في التمهيد "12/ 265" عن علي، والقضاعي "147، 148" عن أنس والنواس ضعيف. 2 يبادرون اللحظات: يسارعون إلى الاستفادة منها في الطاعات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 عَبْدِ قَيْسٍ1: أن رجلًا قال له: كلمني! فقال له: أمسك الشمس2! وقال ابن ثابت البناني3: ذهبت ألقن أبي، فقال: يا بني! دعني، فإني في وردي السادس. ودخلوا على بعض السلف عند موته وهو يصلي، فقيل له، فقال: الآن تطوى صحيفتي. 37 فإذا علم الإنسان -وإن بالغ في الجد- بأن الموت يقطعه عن العمل، عمل في حياته ما يدون له أجره بعد موته: فإن كان له شيء من الدنيا، وقف وقفًا، وغرس غرسًا، وأجرى نهرًا، ويسعى في تحصيل ذرية تذكر الله بعده، فيكون الأجر له، أو أن يصنف كتابًا في العلم؛ فإن تصنيف العالم ولده المخلد، وأن يكون عاملًا بالخير، عالمًا فيه، فينقل من فعله ما يقتدي الغير به؛ فذلك الذي لم يمت. ................ قَدْ مَاتَ قَوْمٌ وَهُمْ فِي النَّاسِ أحياءُ4   1 أبو عبد الله العنبر البصري، من كبار العباد الزهاد، توفي في حدود سنة "55 هـ". 2 يعني: من يرد لي وقتي الذي تضيعه. 3 ثابت بن أسلم البناني "41- 127 هـ" من أئمة العلم والعمل. 4 قريب منه قول الطغرائي: ففز بعلم تعش حيًّا به أبدًا ... الناس موتى، وأهل العلم أحياءُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 15 فصل: حِيَلُ الشيطان ومكرُه 38- رأيت من أعظم حيل الشيطان ومكره أن يحيط1 أرباب الأموال بالآمال، والتشاغل باللذات القاطعة عن الآخرة وأعمالها! فإذا "شغلهم"2 بالمال تحريضًا على جمعه، وحثًّا على تحصيله، أمرهم بحراسته بخلًا به، فذلك من متين حيله، وقوي مكره. 39- ثم دفن في هذا الأمر من دقائق الحيل الخفية أن خوف من جمعه المؤمنين، فنفر طالب الآخرة منه، وبادر التائب يخرج ما في يده.   1 في الأصل: يحبط، وليس بشيءٍ. 2 في الأصل: "أهلهم" وما أثبته من "ط". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 ولا يزال الشيطان يحرضه على الزهد، ويأمره بالترك، ويخوفه من طرقات الكسب، إظهارًا لنصحه، وحفظ دينه، وفي خفايا ذلك عجائب من مَكْرِهِ! 40- وربما تكلم الشيطان على لسان بعض المشايخ الذين يقتدي بهم التائب؛ فيقول له: اخرج من مالك! وادخل في زمرة الزهاد! ومتى كان لك غداء أو عشاء، فلست من أهل الزهد، ولا تنال مراتب العزم، وربما كرر عليه الأحاديث البعيدة عن الصحة، والواردة على سبب ولمعنى؛ فإذا أخرج ما في يده، وتعطل عن مكاسبه، عاد يعلق طمعه بصلة الإخوان، أو يحسن عنده صحبة السلطان؛ لأنه لا يقوى على طريق الزهد والترك إلا أيامًا، ثم يعود الطبع، فيتقاضى مطلوباته، فيقع في أقبح مما فر منه، ويبذل أول السلع في التحصيل دينه وعرضه، ويصير متمنْدَلًا به1، ويقف في مقام اليد السفلى. 41- ولو أنه نظر في سير الرجال ونبلائهم، وتأمل صحاح الأحاديث عن رؤسائهم، لعلم أن الخليل عليه الصلاة والسلام كان كثير المال حتى ضاقت بلدته بمواشيه، وكذلك لوط عليه الصلاة والسلام، وكثير من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والجم الغفير من الصحابة. وإنما صبروا عند العدم، ولم يمتنعوا عن كسب ما يصلحه، ولا من تناول المباح عند الوجود. وكان أبو بكر رضي الله عنه يخرج للتجارة والرسول صلى الله عليه وسلم حي، وكان أكثرهم يخرج فاضل ما يأخذ من بيت المال، ويسلم من ذل الحاجة إلى الإخوان. وقد كان ابن عمر لا يرد شيئًا، ولا يسأل. 42- وإني تأملت على أكثر أهل الدين والعلم هذه الحال، فوجدت العلم شغلهم عن المكاسب في بداياتهم، فلما احتاجوا إلى قوام نفوسهم ذلوا، وهم أحق بالعز. 43- وقد كانوا قديمًا يكفيهم بيت المال فضلات الإخوان، فلما عدمت في   1 أي هان عليه دينه وعرضه حتى أصبح كال: منديل الذي يبتذل فتمسح به الأقذار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 هذا الأوان، لم يقدر متدين على شيءٍ إلا ببذل شيء من دينه، وليته قدر، فربما تلف الدين، ولم يحصل له شيء. 44- فالواجب على العاقل أن يحفظ ما معه، وأن يجتهد في الكسب ليربح مداراة ظالم أو مداهنة جاهل، ولا يلتفت إلى ترهات المتصوفة، الذين يدعون في الفقر ما يدعون، فما الفقر إلا مرض العجزة، وللصابر على الفقر ثواب الصابر على المرض، اللهم! إلا أن يكون جبانًا عن التصرف، مقتنعًا بالكفاف؛ فليس ذلك من مراتب الأبطال، بل هو من مقامات الجبناء الزهاد. وأما الكاسب1 ليكون المعْطِيَ لا المُعْطَى، والمتصدق لا المتصدق عليه، فهي من مراتب الشجعان الفضلاء، ومن تأمل هذا، علم شرف الغنى، ومخاطرة الفقر.   1 في الأصل: المكاسب، وهو تصحيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 16- فصل: حظوظ الفضلاء من الدنيا 45- تأملت أحوال الفضلاء، فوجدتهم في الأغلب قد بخسوا من حظوظ الدنيا، ورأيت الدنيا غالبًا في أيدي أهل النقائص. 46- فنظرت في الفضلاء، فإذا هم يتأسفون على ما فاتهم مما ناله أولو النقص، وربما تقطع بعضهم أسفًا على ذلك، فخاطبت بعض المتأسفين، فقلت له: ويحك! تدبر أمرك، فإنك غالط من وجوه: أحدها: أنه إن كانت لك همة في طلب الدنيا، فاجتهد في طلبها، تربح التأسف على فوتها، فإن قعودك متأسفًا على ما ناله غيرك -مع قصور اجتهادك- غاية العجز. والثاني: أن الدنيا إنما تراد لتعبر لا لتعمر، وهذا هو الذي يدلك عليه علمك، ويبلغه فهمك، وما يناله أهل النقص من فضولها1 يؤذي أبدانهم وأديانهم، فإذا عرفت ذلك، ثم تأسفت على فقد ما فقده أصلح لك، كان تأسفك عقوبة لتأسفك   1 فضول الدنيا: حظوظها ونعيمها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 على ما تعلم المصلحة في بعده، فاقنع بذلك عذابًا عاجلًا إن سلمت من العذاب الآجل. والثالث: أنك قد علمت بخس حظ الآدمي في الجملة من مطاعم الدنيا ولذاتها، بالإضافة إلى الحيوان البهيم؛ لأنه ينال ذلك أكثر مقدارًا مع أمن، وأنت تناله مع خوف، وقلة مقدار؛ فإذا ضوعف حظك من ذلك لجنسك، كان ذلك لاحقًا بالحيوان البهيم، من جهة أنه يشغله ذلك عن تحصيل الفضائل، وتخفيف المؤن يحث صاحبه على نيل المراتب. فإذا آثرت مع قلة الفضول الفضول1، عدت على ما علمت بالإزراء، فشنت علمك2، ودللت على اختلاط رأيك3.   1 آثرت مع قلة الفضول الفضول: أي آثرت الاجتهاد في طلب المكاسب مع علمك بأن حظك منه قليل" ... إلخ. 2 شنت علمك: أفسدته. 3 اختلاط رأيك: فساده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 17- فصل: أحوال الناس مع المحظورات . 47- تأملت إقدام العلماء على شهوات النفس المنهي عنها، فرأيتها مرتبة تزاحم الكفر، لولا تلوح1 معنًى: وهو أن الناس عند مواقعة المحظور ينقسمون: 1- فمنهم جاهل بالمحظور أنه محظور، فهذا له نوع عذر. ومنهم من يظن المحظور مكروهًا لا محرمًا، فهذا قريب من الأول، وربما دخل في هذا القسم آدم صلى الله عليه وسلم. 2- ومنهم من يتناول فيغلط، كما يقال: إن آدم عليه الصلاة والسلام نهي عن شجرةٍ بعينها، فأكل من جنسها لا من عينها! 3- ومنهم من يعلم التحريم، غير أن غلبات الشهوة أنسته تذكر ذاك، فشغله ما رأى عما يعلم.   1 تلوح: ظهور وبدو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 ولهذا لا يذكر السارق القطع؛ بل يغيب بكليته في نيل الحظ، ولا يذكر راكب الفاحشة الفضيحة ولا الحد؛ لأن ما يرى يذهله عما يعلم. 4- ومنهم من يعلم الحظر، ويذكره؛ [غير أنه يغتر بالحلم والعفو. وهذا وإن كان صحيحًا] 1؛ غير أن الأخذ بالحزم أولى بالعاقل2، كيف، وقد علم أن هذا الملك الحكيم قطع اليد في ربع دينار3، وهدم بناء الجسم المحكم بالرجم بالحجارة لالتذاذ ساعة4، وخسف، ومسخ، وأغرق ... ؟!   1 زيادة من ط. 2 في نسخة: أكمل. 3 تساءل المعري عن حكمة قطع اليد في ربع دينار مع أن ديتها خمس مئة دينار، فقال: يد بخمس مئين عسجدٍ وديت ... ما بالها قطعت في ربع دينارِ فأجابه القاضي عبد الوهاب المالكي: عزُّ الأمانة أغلاها، وأرخصها ... ذل الخيانة، فافهم حكمة الباري 4 قال الرافعي في "وحي القلم": لماذا أوجبت الشريعة الرجم بالحجارة على الفاسق المحصن؟ أهي تريد التمثيل والتعذيب والمثلة؟ كلا، فإن القتل ممكن بغير هذا وبأشد من هذا، ولكنها الحكمة السامية العجيبة أن هذا الفاسق هدم بيتًا فهو يرجم بحجارته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 18- فصل : ميزان العدل لايحابي 48- من تأمل أفعال البارئ سبحانه، رآها على قانون العدل، وشاهد الجزاء مرصدًا للمجازي، ولو بعد حين، فلا ينبغي أن يغتر مسامح، فالجزاء قد يتأخر. 49- ومن أقبح الذنوب التي قد أعد لها الجزاء العظيم: الإصرار على الذنب، ثم يصانع1 صاحبه باستغفار وصلاة وتعبد، وعنده أن المصانعة تنفع!. 50- وأعظم الخلق اغترارًا من أتى ما يكرهه الله، وطلب منه ما يحبه هو، كما روي في الحديث: "والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني"2.   1 يصانع: يعامل، لكن حقوق الله مبنية على المسامحة، وحقوق العباد على المشاحة، أي: لا بد من استسماح أصحاب الحقوق. 2 رواه الترميذي "2459" وابن ماجه "4260" وأحمد "4/ 124" عن شداد بن أوس، وأوله: الكيس من دان نفسه ... "ضعيف". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 51- ومما ينبغي للعاقل أن يترصده وقوع الجزاء، فإن ابن سيرين1 قال: عيرت رجلًا فقلت: يا مفلس! فأفلست بعد أربعين سنةً. وقال ابن الجلاء2: رآني شيخ لي وأنا أنظر إلى أمرد! فقال: ما هذا؟! لتجدن غبها، فَنُسِّيتُ القرآن بعد أربعين سنة. 52- وبالضد من هذا، كل من عمل خيرًا، أو صحح نية، فلينتظر جزاءها الحسن، وإن امتدت المدة، قال الله عز وجل: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} "يوسف: 90". وقال عليه الصلاة والسلام: "من غض بصره عن محاسن امرأة، أثابه الله إيمانًا يجد حلاوته في قلبه" 3 فليعلم العاقل أن ميزان العدل لا يحابي.   1 محمد بن سيرين البصري، أبو بكر، إمام وقته في علوم الدين، تابعي، مولده ووفاته بالبصرة "33-110" هـ اشتهر بالورع وتعبير الرؤيا. 2 أبو عبد الله ابن الجلاء، أحمد بن يحيى، وقيل: محمد بن يحيى، من كبار الصوفية، انتقل عن بغداد إلى الشام، توفي سنة "306هـ". قلت: وقد وقع في الأصل: ابن الجلاد، وهو خطأ. 3 رواه أحمد "5/ 264" والطبراني في الكبير "7842" عن أبي أمامة، والطبراني "10362" عن ابن مسعود، والحاكم "4/ 313" والقضاعي "292" عن حذيفة "ضعيف جدًا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 19- فصل: أكثر أحوال الصوفية منحرف عن الشريعة . 53- تأملت أحوال الصوفية والزهاد، فرأيت أكثرها منحرفًا عن الشريعة، بين جهل بالشرع، وابتداع بالرأي، يستدلون بآيات لا يفهمون معناها، وبأحاديث لها أسباب، وجمهورها لا يثبت. فمن ذلك أنهم سمعوا في القرآن العزيز: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} " آل عمران: 185"، {أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ} "الحديد: 20"، ثم سمعوا في الحديث: "للدنيا أهون على الله من شاة ميتة على أهلها"1، فبالغوا في هجرها من غير بحث عن حقيقتها! وذلك أنه ما لم يعرف حقيقة الشي، فلا يجوز أن يمدح ولا أن يذم.   1 رواه مسلم "2957" عن جابر رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 54- فإذا بحثنا عن الدنيا، رأينا هذه الأرض البسيطة، التي جعلت قرارًا للخلق، تخرج منها أقواتهم، ويدفن فيها أمواتهم. ومثل هذا لا يذم لموضع المصلحة فيه. 55- ورأينا ما عليها من ماء وزرع وحيوان، كله لمصالح الآدمي، وفيه حفظ لسبب بقائه، ورأينا بقاء الآدمي سببًا لمعرفة ربه، وطاعته إياه وخدمته، وما كان سببًا لبقاء العارف العابد يمدح ولا يذم. 56- فبان لنا أن الذم إنما هو لأفعال الجاهل، أو العاصي في الدنيا، فإنه إذا اقتنى المال المباح، وأدى زكاته، لم يلم؛ فقد علم ما خلف الزبير وابن عوف وغيرهما، وبلغت صدقة عليٍّ رضي الله عنه أربعين ألفًا، وخلف ابن مسعود تسعين ألفًا، وكان الليث بن سعد1 يستغل2 كل سنة عشرين ألفًا، وكان سفيان3 يتجر بمال، وكان ابن مهدي4 يستغل كل سنة ألفي دينار. 57- وإن أكثر من النكاح والسراري، كان ممدوحًا لا مذمومًا؛ فقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم زوجات وسراري، وجمهور الصحابة كانوا على الإكثار في ذلك، وكان لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه أربع حرائر، وسبع عشرة أمة، وتزوج ولده الحسن نحوًا من أربع مئةٍ. 58- فإن طلب التزوج للأولاد، فهو الغاية في التعبد، وإن أراد التلذذ، فمباح، يندرج فيه من التعبد ما لا يحصى، من إعفاف نفسه والمرأة. إلى غير ذلك. وقد أنفق موسى عليه السلام من عمره الشريف عشر سنين في مهر ابنة شعيب؛ فلولا ذلك. وقد أنفق موسى عليه السلام من عمره الشريف عشر سنين في مهر ابنة شعيب، فلولا أن النكاح من أفضل الأشياء، لما ذهب كثير من زمان الأنبياء فيه. وقد قال ابن   1 الليث بن سعد، أبو الحارث "94-175هـ" إمام أهل مصر في عصره حديثًا وفقهًا، ومن الأجواد المشهورين. 2 يستغل: تبلغ غلتها. وفي الأصل يشتغل، وهو تصحيف. 3 سفيان بن سعيد بن مسروق الكوفي "97- 175هـ " أمير المؤمنين في الحديث، وسيد أهل زمانه علمًا وفتوى، مات مستخفيًا في البصرة. 4 عبد الرحمن بن مهدي اللؤلؤي، أبو سعيد من كبار حفاظ الحديث، وإليه كتب الشافعي كتاب الرسالة، وقال: لا أعرف له نظيرًا في الدنيا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 عبَّاس رضي الله عنهما: خيار هذه الأمة أكثرها نساء، وكان يطأ جارية له، وينزل في أخرى، وقالت سرية1 الربيع بن خثيم2: كان الربيع يعزل3. 59- وأما المطعم، فالمراد منه تقوية هذا البدن لخدمة الله عز وجل، وحق على ذي الناقة أن يكرمها لتحمله. وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يأكل ما وجد، فإن وجد اللحم أكله، ويأكل لحم الدجاج4، وأحب الأشياء إليه الحلوى والعسل5، وما نقل عنه أنه امتنع من مباح. وجيء علي رضي الله عنه بفالوذج6، فأكل منه، وقال: ما هذا؟ قالوا: يوم النوروز7. فقال: نورزونا كل يوم. وإنما يكره الأكل فوق الشبع، واللبس على وجه الاختيال والبطر. 60- وقد اقتنع أقوام بالدون من ذلك؛ لأن الحلال الصافي لا يكاد يمكن فيه تحصيل المراد؛ وإلا فقد لبس النبي صلى الله عليه وسلم حلة اشتريت له بسبعة وعشرين بعيرًا8، وكان لتميم الداري حلة اشتريت بألف درهم يصلي فيها بالليل. 61- فجاء أقوام، فأظهروا التزهد، وابتكروا طريقة زينها لهم الهوى، ثم تطلبوا لها الدليل، وإنما ينبغي للإنسان أن يتبع الدليل، لا أن يتبع طريقًا، ويتطلب دليلها!   1 السرية: الأمة التي يقتنيها سيدها ليتمتع بها. 2 أبو يزيد الثوري الكوفي، عابد مخضرم، كان يعد من عقلاء الرجال، توفي سنة "65هـ". 3 يعزل: أي لا يدع جاريته تحمل منه. 4 رواه البخاري "5517 و 5518"، ومسلم "1268و 1649" عن أبي موسى رضي الله عنه. 5 رواه البخاري "4912 و 5431" عن عائشة رضي الله عنها. 6 الفالوذج: فارسي معرب "بالوده" أي: الصافي والمصفى، وهو نوع من الحلوى تصنع من الدقيق والماء والعسل، وتسمى الآن بالوظة وهي تشبه الجيلي. 7 النوروز: فارسي معرب معناه: اليوم الجديد، وهو عيد رأس السنة عند الفرس، ويصادف أول فصل الربيع. 8 لم أجده لكن روى أبو داود "3034" عن أنس بن مالك: أن الملك ذا يزن أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حلة أخذها بثلاثة وثلاثين بعيرًا، فقبلها. "ضعيف". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 ثم انقسموا: 1- فمنهم متصنع في الظاهر، ليث الشرى1 في الباطن، يتناول في خلواته الشهوات، وينعكف على اللذات، ويرى الناس بزيه أنه متصوف متزهد، وما تزهد إلا القميص، وإذا نظر إلى أحواله، فعنده كِبْرُ فرعون. 2- ومنهم سليم الباطن، إلا أنه في الشرع جاهل. 3- ومنهم من تصدر، وصنف، فاقتدى به الجاهلون في هذه الطريقة، وكانو كعمي اتبعوا أعمى، ولو أنهم تلمحوا2 للأمر الأول، الذي كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم، لما زاغوا. 62- ولقد كان جماعة من المحققين لا يبالون بمعظم في النفوس إذا حاد عن الشريعة، بل يوسعونه لومًا، فنقل عن أحمد أنه قال له المروذي3: ما تقول في النكاح؟ فقال: سنة النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: فقد قال إبراهيم4. قال: فصاح بي، وقال: جئتنا بِبُنَيَّاتِ الطريق؟ 5. وقيل له: إن سَرِيًّا السقطي6 قال: لما خلق الله تعالى الحروف، وقف الألف، وسجدت الباء.. فقال: نَفِّرُوا الناس عنه. 63- واعلم أن المحقق لا يهوله اسم معظم، كما قال رجل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: أتظن أنا نظن أن طلحة والزبير كان على الباطل؟ فقال له: إن الحق لا يعرف بالرجال، اعرف الحق، تعرف أهله. 64- ولعمري، إنه قد وقر في النفوس تعظيم أقوام، فإذا نقل عنهم شيء،   1 الشرى: جبل بتهامة تكثر فيها الأسود. 2 تلمحوا: نظروا. 3 أحمد بن محمد بن الحجاج، أبو بكر المروذي، المقدم من أصحاب أحمد لورعه وفضله، ولد في حدود المئتين، وتوفي سنة "275هـ"، وقد جاء في الأصل المروزي والتصويب من سير أعلام النبلاء. 4 هو ابن أدهم التميمي البلخي، أبو إسحاق زاهد مشهور توفي سنة "161هـ". 5 بنيات الطريق: الترهات. انظر: تمام كلام الإمام في الفصل "34". 6 سري بن المغلس، أبو الحسن "160 -253هـ" من كبار المتصوفة، بغدادي المولد والوفاة، هو خال الإمام الجنيد وأستاذه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 فسمعه جاهل بالشرع، قبله، لتعظيمهم في نفسه، كما ينقل عن أبي يزيد1 رضي الله عنه: أنه قال: تراعنت2 على نفسي، لحلفت لا أشرب الماء سنة3. وهذا إذا صح عنه، كان خَطَأً قَبِيْحًا، وزلةً فاحشةً؛ لأن الماء ينفذ الأغذية إلى البدن، ولا يقوم مقامه شيء؛ فإذا لم يشرب، فقد سعى في أذى بدنه، وقد كان يستعذب الماء لرسول الله صلى الله عليه وسلم4. أفترى هذا فعل من يعلم أن نفسه ليست له، وأنه لا يجوز التصرف فيها إلا عن إذن مالكه؟! 65- وكذلك ينقلون عن بعض الصوفية: أنه قال: سرت إلى مكة على طريق التوكل حافيًا، فكانت الشوكة تدخل في رجلي، فأحكها بالأرض، ولا أرفعها، وكان عَلَيَّ مسح5، فكانت عيني إذا آلمتني، أدلكها بالمسح، فذهبت إحدى عيني. وأمثال هذا كثير، وربما حملها القصاص على الكرامات، وعظموها عند العوام، فيخايل لهم أن فاعل هذا أعلى مرتبة من الشافعي وأحمد. ولعمري، إن هذا من أعظم الذنوب، وأقبح العيوب: لأن الله تعالى قال: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} "النساء: 29"، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: "إن لنفسك عليك حقًّا" 6. وقد طلب أبو بكر رضي الله عه في طريق الهجرة للنبي صلى الله عليه وسلم ظلًّا، حتى رأى صخرة، ففرش له في ظلها7. 66- وقد نقل عن قدماء هذه الأمة بدايات هذا التفريط، وكان سببه من وجهين: أحدهما: الجهل بالعلم. والثاني: قرب العهد بالرهبانية.   1 طيفور بن عيسى البسطامي، أبو يزيد "188 -261هـ" زاهد مشهور، وليد وتوفي في بسطام. 2 تراعنت: هاجت وتمردت. 3 لعله يقصد الماء البارد، لا مطلق الماء. 4 رواه أبو داود "3735" والحاكم "4/ 138" عن عائشة رضي الله عنها. 5 المسح: كساء من شعر أو صوف، وهو لباس الرهبان. 6 رواه البخاري "1153"، ومسلم "1159" عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه كما ذكره المؤلف في الفصل "162". 7 رواه البخاري "3652"، ومسلم "2009" عن البراء رضي الله عنه، ويسمى حديث الرحل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 وقد كان الحسن1يعيب فرقدًا السبخي2 ومالك بن دينار3 في زهدهما، فرئي عنده طعام فيه لحم، فقال: لا رغيفي مالك، ولا صحني فرقد. ورأى على فرقد كساءً فقال: يا فرقد! إن أكثر أهل النار أصحاب الأكسية. 67- وكم قد زوق قاص مجلسه بذكر أقوام خرجوا إلى السياحة بلا زاد ولا ماء، وهو لا يعلم أن هذا من أقبح الأفعال، وأن الله تعالى لا يجرب عليه، فربما سمعه جاهل من التائبين، فخرج، فمات في الطريق، فصار للقائل نصيب من إثمه!! وكم يروون عن ذي النون4. أنه لقي امرأة في السياحة، فكلمها وكلمته، وينسون الأحاديث الصحاح: "لا يحل لامرأة أن تسافر يومًا وليلةً إلا بمحرم" 5!! 68- وكم ينقلون أن أقوامًا مشوا على الماء، وقد قال إبراهيم الحربي6. لا يصح أن أحدًا مشى على الماء قط! فإذا سمعوا هذا، قالوا: أتنكرون كرامات الأولياء الصالحين؟! فنقول: لسنا من المنكرين لها، بل نتبع ما صح، والصالحون هم الذين يتبعون الشرع، ولا يتعبدون بآرائهم. وفي الحديث: "إن بني إسرائيل شددوا فشدد الله عليهم"7. 69- وكم يحثون على الفقر، حتى حملوا أقوامًا على إخراج أموالهم، ثم آل بهم الأمر: إما إلى التسخط عند الحاجة، وإما إلى التعرض بسؤال الناس! 70- وكم تأذى مسلم بأمرهم الناس بالتقلل! وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ثلثٌ طعَامٌ،   1 أبو سعيد، الحسن بن يسار البصري "21-110هـ" سيد التابعين، حبر الأمة في عصره، كان عالمًا زاهدًا شجاعًا، فصيحًا. 2 فرقد بن يعقوب السبخي، أبويعقوب، أحد زهاد البصرة، توفي سنة "131هـ"، كان صدوقًا عابدًا. قلت: وقد وقع في الأصل: السنجي، وهو خطأ. 3 مالك بن دينار البصري، أبو يحيى، علم العلماء الأبرار، وأحد ثقات التابعين، كان يتكسب من نسخ المصاحف، توفي سنة "127هـ". 4 ثوبان بن إبراهيم الإخميمي المصري أبو الفيض، الزاهد المشهور، ولد في أواخر عهد المنصور، نوبي الأصل، توفي في الجيزة سنة "445هـ". 5 رواه البخاري "1088"، ومسلم "1339" عن أبي هريرة رضي الله عنه. 6 إبراهيم بن إسحاق الحربي، من أعلام المحدثين "198 - 285هـ"، تفقه على الإمام أحمد. 7 رواه أبوداود "4904" عن أنس رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 وَثُلُثٌ شرابٌ، وثُلُثٌ نَفَسٌ" 1، فما قنعوا حتى أمروا بالمبالغة في التقلل. فحكى أبو طالب المكي2 في "قوت القلوب": أن فيهم من كان يزن قوته بِكَرَبَةٍ3 رطبةٍ، ففي كل ليلة يذهب من رطوبتها قليل. وكنت أنا4 ممن اقتدى بقوله في الصبا، فضاق المعيُ، وأوجب ذلك مرض سنين! أفترى هذا شيئًا تقتضيه الحكمة، أو ندب إليه الشرع؟! وإنما مطلية الآدمي قواه، فإذا سعى في تقليلها، ضعف عن العبادة. 71- "ولا تقولن: الحصول على الحلال المحض مستحيل، لذلك وجب الزهد، تجنبًا للشبهات، فإن المؤمن حسبه أن يتحرى في كسبه هو الحلال، ولا عليه من الأصول التي نبتت منها هذه الأموال"5 فإنا لو دخلنا ديار الروم، فوجدنا أثمان الخمور، وأجرة الفجور، كان لنا حلالًا بوصفه الغنيمة. أفتريد حلالًا على معنى أن الحبة6 من الذهب لم تنتقل منذ خرجت من المعدن7 على وجه لا يجوز؟ فهذا شيء لم ينظر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم. أو ليس قد سمعت أن الصدقة عليه حرام، فلما تصدق على بربرة بلحم، فأهدته؛ جاز له أكل تلك العين لتغير الوصف8. 72- وقد قال أحمد بن حنبل: أكره التقلل من الطعام، فإن أقوامًا فعلوه، فعجزوا عن الفرائض، وهذا صحيح، فإن المتقلل لا يزال يتقلل إلى أن يعجز عن النوافل، ثم الفرائض، ثم يعجز عن مباشرة أهله وإعفافهم، وعن بذل القوى في الكسب لهم، وعن فعل خير قد كان يفعله.   1 رواه الترمذي "2380"، وابن ماجة "3349"، والحاكم "4/ 121" عن المقدام بن معدي كرب. 2 محمد بن علي بن عطية الحارثي، أبو طالب، واعظ زاهد فقيه، نشأت واشتهر بمكة، ثم سكن بغداد فوعظ فيها، وبها توفي سنة "386هـ". 3 الكربة: الأصل العريض للسعف إذا يبس، أما الطري منها فيؤكل. 4 أي مؤلف هذا الكتاب. 5 زيادة من "أ". 6 الحبة = 0.0446 غم. 7 المعدن: المنجم. 8 عن عائشة رضي الله عنها قالت: أتى النبي صلى الله عليه وسلم بلحم بقر، فقيل: هذا ما تصدق به على بريرة، فقال: "هو لها صدقة ولنا هدية" رواه البخاري "2578" ومسلم "1075". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 73- ولا يهولنك ما تسمعه من الأحاديث التي تحث على الجوع، فإن المراد بها: إما الحث على الصوم، وإما النهي عن مقاومة الشبع1، فأما تنقيص المطعم على الدوام، فمؤثر في القوى فلا يجوز. 74- ثم في هؤلاء المذمومين من يرى هجر اللحم، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يود أن يأكله كل يوم2. 75- واسمع مني بلا مُحَابَاةٍ: لا تحتجن علي بأسماء الرجال، فتقول: قد قال بشر3، وقال إبراهيم بن أدهم، فإن من احتج بالرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم أقوى حجة. على أن لأفعال أولئك وجوهًا تحملها عليهم بحسن الظن. ولقد ذاكرت بعض مشايخنا ما يروى عن جماعة من السادات أنهم دفنوا كتبهم! فقلت له: ما وجه هذا؟ فقال: أحسن ما نقول أن نسكت! يشير إلى أن هذا جهل من فاعله، وتأولت أنا لهم، فقلت: لعل ما دفنوا من كتبهم فيه شيء من الرأي، فما رأوا أن يعمل الناس به. ولقد روينا في الحديث4 عن أحمد بن أبى الحواري5: أنه أخذ كتبه؛ فرمى بها في البحر، وقال: نعم الدليل كنت، ولا حاجة لنا إلى الدليل بعد الوصول إلى المذلول! وهذا إذا أحسنا به الظن، قلنا: كان فيها من كلامهم ما لا يرتضيه، فأما إذا كانت علومًا صحيحة، كان هذا من أفحش الإضاعة. وأنا وإن تأولت لهم هذا؛ فهو تأويل صحيح في حق العلماء منهم: لأنا قد روينا عن سفيان الثوري أنه قد أوصى بدفن كتبه، وكان ندم على أشياء كتبها عن   1 أي: النهي عن الأكل فوق الشبع. 2 انظر: ما جاء في هذا في كنز العمال "40994 - 411009" و "41802 - 41806". 3 بشر بن الحارث المروزي، أبو نصر الحافي، وسيرد بهذا المعنى في أكثر من موضع. 4 الحديث هنا بمعناه اللغوي لا بمعناه الاصطلاحي، وسيرد بهذا المعنى في أكثر من موضع. 5 أحمد بن عبد الله بن ميمون الثعلبي الغطفاني، أبو الحسن، شيخ أهل الشام، إمام حافظ زاهد "164 246هـ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 قومٍ، وقال: حملني شهوة الحديث، وهذا؛ لأنه كان يكتب عن الضعفاء والمتروكين، فكأنه لما عسر عليه التمييز، أوصى بدفن الكل. وكذلك من كان له رأي من كلامه، ثم رجع عنه، جاز أن يدفن الكتب التي فيها ذلك. فهذا وجه التأويل للعلماء. 76- فأما المتزهدون الذين رأوا صورة فعل العلماء، ودفنوا كتبًا صالحةً، لئلَّا تشغلهم عن التعبد، فإنه جهل منهم؛ لأنهم شرعوا في إطفاء مصباح يضيء لهم، مع الإقدام على تضييع مال لا يحل تضييعه. 77- ومن جملة من عمل بواقعة دفن كتب العلم يوسف بن أسباط1، ثم لم يصبر عن التحديث، فخلط، فعد في الضعفاء. أنبأنا عبد الوهاب بن المبارك2، قال: أخبرنا محمد بن المظفر الشامي، قال: أخبرنا أحمد بن محمد العتيقي، قال: حدثنا يوسف بن أحمد، قال: حدثنا محمد بن عمرو العقيلي3، قال: حدثنا محمد بن عيسى، قال: أخبرنا أحمد بن خالد الخلال، قال: سمعت شعيب بن حرب4 يقول: قلت ليوسف بن أسباط: كيف صنعت بكتبك؟ قال: جئت إلى الجزيرة، فلما نضب الماء دفنتها، حتى جاء الماء عليها فذهبت. قلت: ما حملك على ذلك؟ قال: أردت أن يكون الهمُّ همًّا واحدًا. قال العقيلي: وحدثني آدم: قال: سمعت البخاري5، قال: قال صدقة: دفن يوسف بن أسباط كتبه، وكان بعد يغلب عليه الوهم، فلا يجيء كما ينبغي. 78- قال المؤلف: قلت: الظاهر أن هذه كتب علم ينفع؛ ولكن قلة العلم أوجبت هذا التفريط، الذي قصد به الخير، وهو شر، فلو كانت كتبه من جنس كتب   1 من سادات المشايخ، زاهد عابد، توفي سنة نيف وتسعين ومئة. 2 الأنماطي، أبو البركات، من شيوخ المؤلف، كان إمامًا حافظًا، عابدًا سريع الدمعة، دائم البشر "462 - 538 هـ". 3 محمد بن عمرو بن موسى بن حماد، أبو جعفر، الإمام الحافظ الناقد، توفي سنة "322هـ". 4 شيخ الإسلام، الإمام القدوة العابد، أبو صالح المدائني المجاور بمكة، توفي بها سنة "196هـ". 5 محمد بن إسماعيل إمام أهل الحديث صاحب الصحيح "194- 256هـ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 الثوري -فإن فيها عن ضعفاء، ولم يصح له التمييز- قرب الحال؛ إنما تعليله بجمع الهم، هو الدليل على أنها ليست كذلك، فانظر إلى قلة العلم ماذا تؤثر مع أهل الخير! 79- ولقد بلغنا في الحديث عن بعض من نعظمه، ونزوره: أنه كان على شاطئ دجلة، فبال، ثم تيمم! فقيل له: الماء قريب منك! فقال: خفت ألا أبلغه! وهذا، وإن كان يدل على قصر الأمل، إلا أن الفقهاء إذا سمعوا عنه مثل هذا الحديث، تلاعبوا به، من جهة أن التيمم إنما يصح عند عدم الماء، فإذا كان الماء موجودًا، كان تحريك اليدين بالتيمم عبثًا، وليس من ضرورة وجود الماء أن يكون إلى جانب المحدث، بل لو كان على أذرع كثيرة، كان موجودًا، فلا فعل للتيم، ولا أثر حينئذ. 80- ومن تأمل هذه الأشياء، علم أن فقيهًا واحدًا -وإن قل أتباعه، وخفت إذا مات أشياعه- أفضل من ألوف تتمسح العوام بهم تبرُّكًا! ويشيع جنائزهم ما لا يحصى. وهل الناس إلا صاحب أثر يتبعه، أو فقيه يفهم مراد الشرع، ويفتي به؟! نعوذ بالله من الجهل وتعظيم الأسلاف تقليدًا لهم بغير دليل، فإن من ورد المشرب الأول، رأى سائر المشارب كدرة. 81- والمحنة العظمى مدائح العوام، فكم غرت! كما قال علي رضي الله عنه: ما أبقى خفق النعال وراء الحمقى من عقولهم شيئًا. ولقد رأينا وسمعنا من العوام أنهم يمدحون الشخص، فيقولون: لا ينام الليل، ولا يفطر النهار، ولا يعرف زوجة، ولا يذوق من شهوات الدنيا شيئًا، قد نحل جسمه، ودق عظمه، حتى إنه يصلي قاعدًا، فهو خير من العلماء الذين يأكلون، ويتمتعون! ذلك مبلغهم من العلم. ولو فقهوا، علموا أن الدنيا لو اجتمعت في لقمته، فتناولها عالم يفتي عن الله، ويخبر بشريعته، كانت فتوى واحدة منه، يرشد بها إلى الله تعالى خيرًا وأفضل من عبادة ذلك العابد باقي عمره، وقد قال ابن عباس رضي الله عنه: فقيه واحد أشد على إبليس من ألف عابد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 82- ومن سمع هذا الكلام، فلا يظنن أنني أمدح من لا يعمل بعلمه؛ وإنما أمدح العاملين بالعلم، وهم أعلم بمصالح أنفسهم؛ فقد كان فيهم من يصلح على خشن العيش، كأحمد بن حنبل، وكان فيهم من يستعمل رقيق العيش، كسفيان الثوري مع ورعه، ومالك مع تدينه، والشافعي مع قوة فقهه. ولا ينبغي أن يطالب الإنسان بما يقوى عليه غيره، فيضعف هو عنه، فإن الإنسان أعرف بصلاح نفسه، وقد قالت رابعة1: إن كان صلاح قلبك في الفالوذج، فكله. 83- ولا تكونن أيها السامع ممن يرى صور الزهد، فرب متنعم لا يريد التنعم، وإنما يقصد المصلحة، وليس كل بدن يقوى على الخشونة، خصوصًا من قد لاقى الكد، وأجهده الفكر، أو أمضه2 الفقر؛ فإنه إن لم يرفق بنفسه، ترك واجبًا عليه من الرفق بها. فهذه جملة، لو شرحتها بذكر الأخبار والمنقولات لطالب؛ غير أني سطرتها على عجل حين جالت في خاطري. والله ولي النفع برحمته.   1 رابعة بنت إسماعيل العدوية البصرية، أم عمرو الزاهدة الخاشعة العابدة، عاشت ثمانين سنة، توفيت سنة "180هـ". 2 أمضّه: آلمه، وشق عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 20- فصل: أمر النفس وماهيتها . 84- قد أشكل على الناس أمر النفس1 وماهيتها2، مع إجماعهم على وجودها، ولا يضر الجهل بذاتها مع إثباتها. 85- ثم أشكل عليهم مصيرها بعد الموت، ومذهب أهل الحق أن لها وجودًا بعد موتها، وأنها تنعم وتعذب، قال أحمد بن حنبل: أرواح المؤمنين في الجنة، وأرواح الكفار في النار. وقد جاء في أحاديث الشهداء: "أنها في حواصل طير خضر تعلق من   1 النفس: الروح. 2 ماهيتها: حقيقتها وجوهرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 شَجَرِ الجَنَّةِ"1. 86- وقد أخذ بعض الجهلة بظواهر أحاديث النعيم، فقال: إن الموتى يأكلون في القبور وينكحون، والصواب من ذلك: أن النفس تخرج بعد الموت إلى نعيم أو عذاب، وأنها تجد ذلك إلى يوم القيامة، فإذا كانت القيامة، أعيدت إلى الجسد، ليتكمل لها التنعم بالوسائط. 87- وقوله: "فِي حَوَاصِلِ طَيْرٍ خُضْرٍ" دليل على أن النفوس لا تنال لذة إلا بواسطة، إن كانت2 تلك اللذة لذة مطعم أو مشرب، فأما لذات المعارف والعلوم، فيجوز أن تنالها بذاتها مع عدم الوسائط. 88- والمقصود من هذا المذكور أني رأيت بعض الانزاعاج من الموت، وملاحظة النفس بعين العدم عنده، فقلت لها: إن كنت مصدقة الشريعة، صار الكلام في بيان صحة الشريعة، فقالت: لا ريب عندي. قلت: فاجتهدي في تصحيح الإيمان، وتحقيق التقوى، وأبشري حينئذ بالراحة من ساعة الموت، فإني لا أخاف عليك إلا من التقصير في العمل. واعلمي أن تفاوت النعيم بمقدار درجات الفضائل، فارتفعي بأجنحة الجد إلى أعلى أبراجها، واحذري من قانص3 هوى، أو شرك غزة4، والله الموفق.   1 رواه النسائي "2073"، والترمذي "1641" عن كعب بن مالك رضي الله عنه. 2 في الأصل: إلا أن. 3 القانص: الصياد. 4 الغرة: الغفلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 21 فصل: تكليف البدن وتكليف العقل . 89- قلت يومًا في مجلسي: لو أن الجبال حملت ما حملت، لعجزت؛ فلما عدت إلى منزلي، قالت لي النفس: كيف قلت هذا، وربما أوهم الناس أن بك بلاء، وأنت في عافية في نفسك وأهلك؟! وهل الذي حملت إلا التكليف الذي يحمله الخلق كلهم؟! فما وجه هذه الشكوى؟! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 فَأَجَبْتُهَا: إني لما عجزت عما حملت، قلت هذه الكلمة، لا على سبيل الشكوى، ولكن للاسترواح، وقد قال كثير من الصحابة والتابعين قبلي: ليتنا لم نخلق! وما ذاك إلا لأثقال عجزوا عنها، ثم من ظن أن التكاليف سهلة فما عرفها. أترى يظن الظان أن التكاليف غسل الأعضاء برطل من الماء، أو الوقوف في محراب لأداء ركعتين؟! هيهات! هذا أسهل التكليف! وإن التكليف هو الذي عجزت عنه الجبال، ومن جملته: أنني إذا رأيت القدر يجري بما لا يفهمه العقل، ألزمت العقل الإذعان للمقدر، فكان من أصعب التكليف، وخصوصًا فيما لا يعلم العقل معناه، كإيلام الأطفال، وذبح الحيوان، مع الاعتقاد بأن المقدر لذلك، والآمر به أرحم الراحمين، فهذا مما يتحير العقل فيه، فيكون تكليفه التسليم وترك الاعتراض، فكم بين تكليف البدن وتكليف العقل! ولو شرحت هذا لطال، غير أني أعتذر عما قلته، فأقول عن نفسي -وما يلزمني حال غير-: إنني رجل حبب إلي العلم من زمن الطفولة، فتشاغلت به، ثم لم يحبب إلي فن واحد منه، بل فنونه كلها، ثم لا تقتصر همتي في فن على بعضه، بل أروم استقصاءه، والزمان لا يسع، والعمر أضيق، والشوق يقوى، والعجز يظهر، فيبقى وقوف بغض المطلوبات حسرات. 90- ثم إن العلم دلني على معرفة المعبود، وحثني على خدمته، ثم صاحت بي الأدلة عليه إليه، فتوقفت بين يديه، فرأيته في نعته، وعرفته بصفاته، وعاينت بصيرتي من ألطافه ما دعاني إلى الهيمان2 في محبته، وحركني إلى التخلي لخدمته، وصار يملكني أمر كالوجد، كلما ذكرته، فعادت خلوتي في خدمتي له أحلى عندي من كل حلاوة. 91- فكلما ملت إلى الانقطاع عن الشواغل إلى الخلوة، صاح بي العلم: أين تمضي؟! أتعرض عني، وأنا سبب معرفتك به؟! فأقول له: إنما كنت دليلًا، وبعد   1 في حاشية الأصل: في الأحمدية: يعقد، قلت: يظهر: يغلب. 2 الهيمان: الشغف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 الوصول يستغنى عن الدليل، قال: هيهات! كلما زدت، زادت معرفتك لمحبوبك، وفهمت كيف القرب منه. ودليل هذا: أنك تعلم غدًا أنك اليوم في نقصان. أوما تسمعة يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114] ؟! 92- ثم ألست تبغي القرب منه؟! فاشتغل بدلالة عباده عليه، فهي حالات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام! أما علمت أنهم آثروا تعليم الخلق على خلوات التعبد، لعلمهم أن ذلك آثر عند حبيبهم؟! أما قال الرسول صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه: "لأن يهدي الله بك رجلًا خير لك من حُمْرِ النَّعَم" 1؟! فلما فهمت صدق هذه المقالة، تهوست على تلك الحالة2، وكلما تشاغلت بجمع الناس، تفرق همي3، وإذا وجدت مرادي من نفعهم، ضعفت أنا، فأبقى في حيز التحير مترددًا، لا أدري على أي القدمين أعتمد؟ 93- فإذا وقفت متحيزًا؛ صاح العلم: قم لكسب العيال، وادأب في تحصيل ولد يذكر الله، فإذا شرعت في ذلك، قلص ضرع4 الدنيا وقت الحلب، ورأيت باب المعاش مسدودًا في وجهي؛ لأن صناعة العلم شغلتني عن تعلم صناعة. 94- فإذا التفت إلى أبناء الدنيا، رأيتهم لا يبيعون شيئًا من سلعها إلا بدين المشتري! أو ليت من نافقهم أو راءاهم نال من دنياهم، بل ربما ذهب دينه، ولم يحصل مراده!! فإن قال الضجر: اهرب! قال الشرع: "كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يقوت"5، وإن قال العزم: انفرد! قال: فكيف بمن تعول؟! 95- فغاية الأمر أنني أشرع في التقلل من الدنيا، وقد ربيت في نعيمها، وغذيت بلبانها6، ولطف مزاجي فوق لطف وضعه بالعادة، فإذا غيرت لباسي،   1 رواه البخاري "3701"، ومسلم "2406"، عن سهل بن سعد رضي الله عنه. 2 تهوست على تلك الحالة: أي بقيت أحدث نفسي. 3 تفرق همي: فترت عزيمتي. 4 قلص الضرع: انقبض ولم يحلب. 5 رواه مسلم "996"، وأبو داود "1692" واللفظ له عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه. 6 بلبانها: بالرضاع منها، حيث شبه الدنيا بأمه، أي: تعوَّد على نعميها من صغره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 وخشنت مطمعي؛ لأن القوت لا يحتمل الانبساط1 نفر الطبع لفراق العادة، فحل المرض، فقطع عن واجبات، وأوقع في آفات! ومعلوم أن لين اللقمة بعد التحصيل من الوجه المستطابة، ثم تخشينها لمن لم يألف سعي في تلف النفس. فأقول: كيف أصنع؟! وما الذي أفعل؟! وأخلو بنفسي في خلواتي، وأتزيد من البكاء على نقص حالاتي، وأقول: أصف حال العلماء، وجسمي يضعف عن إعادة العلم!! وحال الزهاد، وبدني لا يقوى على الزهد!! وحال المحبين، ومخالطة الخلق تشتت همي، وتنقش صور المحبوبات من الهوى في نفسي، فتصدأ مرآة قلبي!! وشجرة المحبة تحتاج إلى تربية في تربة طيبة تسقى ماء الخلوة من دولاب الفكرة. وإن آثرت التكسب، لم أطق، وإن تعرضت لأبناء الدنيا، مع أن طبعي الأنفة من الذل، وتديني يمنعني، فلا يبقى للميل مع هذين الجاذبين أثر! ومخالطة الخلق يؤذي النفس مع الأنفاس، فلا تحقيق التوبة أقدر عليه، ولا نيل مرتبة من علم أو عمل أو محبة يصح لي. فإذا رأيتني كما قال القائل: أَلْقَاهُ فِي الْيَمِّ مَكْتُوفًا وَقَالَ لَهُ ... إِيَّاكَ إِيَّاكَ أَنْ تَبْتَلَّ بِالْمَاءِ تحيرت في أمري، وبكيت على عمري، وأنادي في فلوات خلواتي بما سمعته من بعض العوام، وكأنه وصف حالي: وَاحَسْرَتِي كَمْ أُدَارِيْ فِيكَ تَعْثِيرِي ... مِثْلَ الأَسِيرِ بِلا حَيْلٍ ولَا سَيْرِ مَا حِيْلَتِي فِي الْهَوَى قَدْ ضَاعَ تَدْبِيرِي ... لَمَّا شَكَلْتَ جَنَاحِي قُلْتَ لِي طِيْرِي2   1 الانبساط: الزيادة في الإنفاق. 2 شكل الجناح: ربطه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 22- فصل: حوادث الدنيا وحوادث الآخرة . 96- تأملت أمر الدنيا والآخرة، فوجدت حوادث الدنيا حسية طبعية وحوادث الآخرة إيمانية يقينية. والحسيات أقوى جذبًا لمن يقو علمه ويقينه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 97- والحوادث إنما تبقى بكثرة أسبابها: فمخالطة الناس، ورؤية المستحسنات، والتعرض بالملذوذات، يقوي حوادث الحس. والعزلة والفكر، والنظر في العلم، يقوي حوادث الآخرة. ويبين هذا: بأن الإنسان إذا خرج يمشي في الأسواق، ويبصر زينة الدنيا، ثم دخل إلى المقابر، فتفكر، ورق قلبه، فإنه يحس بين الحالتين فرقًا بينًا، وسبب ذلك التعرض بأسباب الحوادث. 98- فعليك بالعزلة، والذكر، والنظر في العلم، فإن العزلة حمية، والفكر والعلم أدوية، والدواء مع التخليط لا ينفع، وقد تمكنت منك أخلاط! المخالطة للخلق والتخليط2 في الأفعال، فليس لك دواء إلا ما وصفت لك. فأما إذا خالطت الخلق، وتعرضت للشهوات، ثم رمت3 صلاح القلب، رمت الممتنع.   1 أخلاط: أدواء وأمراض. 2 التخليط: فعل الحسن والقبيح، وعدم التمييز بينهما. 3 رمت: قصدت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 23- فصل: النفس لا تصبر على الحصر . 99- تأملت حرص النفس على ما منعت منه، فرأيت حرصها يزيد على قدر قوة المنع. ورأيت في السرب1 الأول: أن آدم عليه السلام لما نهي عن الشجرة، حرص عليها مع كثرة الأشجار المغنية عنها. وفي الأمثال: المرء حريص على ما منع، وتوافق إلى ما لم ينل، ويقال: لو أمر الناس بالجوع، لصبروا، ولو نهوا عن تفتيت البعر؛ لرغبوا فيه، وقالوا: ما نهينا عنه إلا لشيء. وقد قيل: ...................... أَحَبُّ شَيْءٍ إِلَى الإِنْسَانِ مَا مُنِعَا   1 السرب: يقصد المؤلف به القرن أو الجيل من الناس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 100- فلما بحثت عن سبب ذلك، وجدت سببين: أحدهما: أن النفس لا تصبر على الحصر؛ فإنه يكفي حصرها في صورة البدن1، فإذا حصرت في المعنى بمنع، زاد طيشها، ولهذا لو قعد الإنسان في بيته شهرًا، لم يصعب عليه، ولو قيل له: لا تخرج من بيتك يومًا، طال عليه. والثاني: أنها يشق عليها الدخول تحت حكم، ولهذا تستلذ الحرام، ولا تكاد تستطيب المباح، ولذلك يسهل عليها التعبد على ما ترى وتؤثر، لا على ما يؤثر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 24- فصل: العزلة عن الشر لا عن الخير . 101- ما زالت نفسي تنازعني -بما يوجبه مجلس الوعظ، وتوبة التائبين، ورؤية الزاهدين- إلى الزهد، والانقطاع عن الخلق، والانفراد بالآخرة، فتأملت ذلك، فوجدت عمومه من الشيطان فإن الشيطان يرى أنه لا يخلو لي مجلس من خلق لا يحصون، يبكون، ويندبون على ذنوبهم، ويقوم في الغالب جماعة، يتوبون، ويقطعون شعور الصِّبَا، وربما اتفق خمسون1 ومئة، ولقد تاب عندي في بعض الأيام أكثر من مئة، وعمومهم صبيان، قد نشئوا على اللعب والانهماك في المعاصي. 102- فكان الشيطان -لبعد غوره في الشر- رآني أجتذب إلي من أجتذب منه، فأراد أن يشغلني عن ذلك بما يزخرفه، ليخلو هو بمن أجتذبه من يده. ولقد حسن لي الانقطاع عن المجالس، وقال: لا يخلو من تصنع الخلق، لا رذيلة، وأما أن أقصد الناس بما لا يجوز في الشرع، فمعاذ الله. 103- ثم رأيته يريني في التزهد قطع أسباب ظاهرة الإباحة من الاكتساب! فقلت له: فإن طاب لي الزهد، وتمكنت من العزلة، فنفد ما بيدي، أو احتاج بعض عائلتي ألست أعود القهقهرى؟! فدعني أجمع ما يسد خلتي، ويصونني عن مسألة   1 في الأصل: في البدن صورةً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 الناس؛ فإن مد عمري، كان نعم السبب، وإلا، كان للعائلة، ولا أكون كراكب أراق ماءه لرؤية سراب، فلما ندم وقت الفوات، لم ينتفع بالندم. وإنما الصواب توطئه المضجع قبل النوم، وجمع المال الساد للخلة قبل الكبر، أخذ بالحزم، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "لأن تترك ورثتك أغنياء خير لك من أن تتركهم عالة يتكففون الناس"1، وقال: "نعم المال الصالح للرجل الصالح"2. 104- وأما الانقطاع، فينبغي أن تكون العزلة عن الشر لا عن الخير، والعزلة عن الشر واجبة على كل حال، وأما تعليم الطالبين، وهداية المريدين، فإنه عبادة العالم. 105- وإن من تفضيل بعض العلماء إيثاره للتنقل بالصلاة والصوم عن تصنيف كتاب، أو تعليم علم ينفع؛ لأن ذلك بذر يكثر ريعه، ويمتد زمان نفعه. 106- وإنما تميل النفس إلى ما يزخرفه الشيطان من ذلك لمعنيين: أحدهما: حب البطالة؛ لأن الانقطاع عندها أسهل، والثاني: لحب المدحة، فإنها إذا توسمت بالزهد، كان ميل العوام إليها أكثر. 107- فعليك بالنظر في السرب الأول، فكن مع السرب المتقدم، وهم الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، فهل نقل عن أحد منهم ما ابتدعه جهلة المتزهدين والمتصوفة، من الانقطاع عن العلم؟ والانفراد عن الخلق، وهل كان شغل الأنبياء إلا معاناة الخلق؟ وحثهم على الخير، ونهيهم عن الشر؟! إلا أن ينقطع من ليس بعالم بقصد الكف عن الشر، فذاك مرتبة المحتمي، يخاف شر التخليط3، فأما الطبيب العالم بما يتناول، فإنه ينتفع بما يناله.   1 رواه البخاري "5354"، ومسلم "1628" عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. 2 رواه أحمد "4/ 197"، والبخاري في الأدب المفرد "299" عن عمرو بن العاص رضي الله عنه. 3 التخليط: الإفساد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 25- فصل: المقصود من العلم العمل . 108- تأملت المراد من الخلق، فإذا هو الذل، واعتقاد التقصير والعجز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 109- ومثلت العلماء والزهاد العاملين صنفين: فأقمت في صف العلماء: مالكًا، وسفيان، وأبا حنيفة، والشافعي، وأحمد. وفي صف العباد: مالك بن دينار، ورابعة، ومعروفًا الكرخي1، وبشر بن الحارث. 110- فكلما جد العباد في العبادة، صاح بهم لسان الحال: عباداتكم لا يتعداكم نفعها؛ وإنما يتعدى نفع العلماء، وهم ورثة الأنبياء، وخلفاء الله في الأرض، وهم الذين عليهم المعول، ولهم الفضل إذا أطرقوا وانكسروا، وعلموا صدق تلك الحال. وجاء مالك بن دينار إلى الحسن، يتعلم منه، ويقول: الحسن أستاذنا. 111- وإذا رأى العلماء أن لهم بالعلم فضلًا، صاح لسان الحال بالعلماء: وهل المراد من العلم إلا العمل؟! وقال أحمد بن حنبل: وهل يراد بالعلم إلا ما وصل إليه معروف؟! وصح عن سفيان الثوري، قال: وددت أن يدي قطعت ولم أكتب الحديث2. وقالت أم الدرداء3 لرجل: هل عملت بما علمت؟ قال: لا. قالت: فلم تستكثر من حجة الله عليك؟! وقال أبو الدرداء: ويل لمن لم يعلم ولم يعمل مرّةً، وويل لمن علم ولم يعمل سبعين مرَّةً. وقال الفضيل: يغفر للجاهل سبعون ذنبًا قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد، فما يبلغ من الكل قوله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] . وجاء سفيان إلى رابعة، فجلس بين يديها، ينتفع بكلامها. فدل العلماء العلم على أن المقصود منه العمل به، وأنه آلة، فانكسروا،   1 معروف بن فيروز الكرخي، أو بمحفوظ، أحد أعلام الزهاد والعباد، ولد في الكرخ في بغداد، ونشأ بها، وتوفي ببغداد سنة "200 هـ". 2 قال المؤلف: لأنه كان يكتب عن الضعفاء والمتروكين. 3 هجيمة بنت حيي الأوصابية الحميرية، تابعية جليلة، وفقيهة عابدة، توفيت سنة "81هـ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 واعترفوا بالتقصير، فحصل الكل على الاعتراف والذل، فاستخرجت المعرفة منهم حقيقة العبودية باعترافهم، فذلك هو المقصود من التكليف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 26- فصل : محبة الخالق توجب قلقًا وشوقًا. 112- تأملت قوله تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] ، فإذا النفس تأبى إثبات محبة للخالق توجب قلقًا وشوقًا، وقالت: محبته طاعته، فتدبرت ذلك؛ فإذا بها قد جهلت ذلك لغلبة الحس. 113- وبيان هذا: أن محبة الحس لا تتعدى الصور الذاتية، ومحبة العلم والعمل ترى الصور المعنوية فتحبها؛ فإنا نرى خلقًا يحبون أبا بكر رضي الله عنه، وخلقًا يحبون علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقومًا يتعصبون لأحمد بن حنبل، وقومًا للأشعري1، فيقتتلون، ويبذلون النفوس في ذلك، وليسوا ممن رأى صور القوم، ولا صور القوم توجب المحبة، ولكن لما تصورت لهم المعاني، فدلتهم على كمال القوم في العلوم، وقع الحب لتلك الصور، التي شوهدت بأعين البصائر، فكيف بمن صنع2 تلك الصور المعنوية وبذلها؟! 114- وكيف لا أحب من وهب لي ملذوذات حسي، وعرفني ملذوذات علمي؟! فإن التذاذي بالعلم، وإدارك العلوم أولى من جميع اللذات الحسية، فهو الذي علمني، وخلق لي إدراكًا، وهداني إلى ما أدركته. 115- ثم إنه يتجلى لي في كل لحظة في مخلوق جديد، أراه فيه بإتقان ذلك الصنع، وحسن ذلك المصنوع. فكل محبوباتي منه وعنه وبه، الحسية والمعنوية، وتسهيل سبل الإدراك به، والمدركات منه، وألذ من كل لذة عرفاني له، فلولا تعليمه، ما عرفته.   1 أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري "260-324"هـ، من الأئمة المتكلمين المجتهدين، كان معتزليًّا، ثم ترك الاعتزال، ورجع إلى ما عليه أهل السنة والجماعة ينافح عن السنة ببيان قاطع وحجة دامغة، ووافق الإمام أحمد في معتقده كما بين ذلك في آخر كتبه الإبانة عن أصول الديانة. 2 في الأصل: ضيع، وهو تصحيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 116- وكيف لا أحب من أنا به، وبقائي منه، وتدبيري بيده، ورجوعي إليه، وكل مستحسن محبوب هو صنعه، وحسنه، وعطف النفوس إليه؟! 117- فكذلك الكامل القدرة أحسن من المقدور، والعجيب الصنعة أكمل من المصنوع، ومعنى الإدراك أحلى عرفانًا من المدرك. 118- ولو أننا رأينا نقشًا عجيبًا، لاستغرقنا تعظيم النقاش، وتهويل شأنه، وظريف حكمته عن حب المنقوش، وهذا مما تترقى إليه الأفكار الصافية، إذا خرق نظرها الحسيات، ونفذ إلى ما وراءها، فحينئذ نفع محبة الخالق ضرورة. 119- وعلى قدر رؤية الصانع في المصنوع يقع الحب له: فإن قوي، أوجب قلقًا وشوقًا، وإن مال بالعارف إلى مقام الهيبة، أوجب خوفًا، وإن انحرف به إلى تلمح الكرم، أوجب رجاء قويًا: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة: 60] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 27- فصل: قصور العقل عن درك جميع المطلوب . 120- تأملت حالًا عجيبة، وهي أن الله سبحانة وتعالى قد بنى هذه الأجسام متقنة على قانون الحكمة، فدل بذلك المصنوع على كمال قدرته، ولطيف حكمته. ثم عاد فنقضها، فتحيرت العقول بعد إذعانها له بالحكمة في سر ذلك بالفعل؟! فأعلمت أنها ستعاد للمعاد، وأن هذه البنية لم تخلق إلا لتجوز في مجاز المعرفة، وتتجر في موسم المعاملة. فسكنت العقول لذلك. 121- ثم رأيت أشياء من هذا الجنس أظرف منه: مثل اخترام شاب ما بلغ بعض المقصود بنيانه! وأعجب من ذلك أخذ طفل من أكف أبويه، يتململان1، ولا يظهر سر سلبه، والله الغني عن أخذه، وهما أشد الخلق فقرًا إلى بقائه! وأظرف منه إبقاء هرم، لا يدري معنة البقاء، وليس له فيه إلا مجرد أذى! ومن هذا الجنس تقتير الرزق على المؤمن الحكيم، وتوسعته على الكافر الأحمق. وفي نظائر لهذه المذكورات يتحير العقل في تعليلها فيبقى مبهوتًا.   1 يتململان: يتقلبان من الغم والحزن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 فلمْ أزلْ أتلمحُ جملة التكاليف، فإذا عجزت قوى العقل عن الاطاع على حكمة ذلك، وقد ثبت لها حكمة الفاعل، علمت قصورها عن درك جميع الملطوب، فأذعنت مقرة بالعجز، وبذلك تؤدي مفروض تكليفها. 122- ولَوْ قِيلَ لِلْعقْلِ: قد ثبت عندك حكمة الخالق بما بنى، أفيجوز أن ينقدح1 في حكمته أنه نقض؟ لقال: لا؛ لأني عرفت بالبرهان أنه حكيم، وأنا أعجز عن إدراك علل حكمته، فأسلم على رغمي، مقرًّا بعجزي2.   1 الخطاب للعقل فينبغي أن تكون الكلمة: تقدح. 2 انظر: رسالة الاحتجاج بالقدر لابن تيمية رحمه الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 28- فصل: فوائد النكاح . 123- تأملت في فوائد النكاح ومعانيه وموضوعه، فرأيت أن الأصل الأكبر في وضعه وجود النسل؛ لأن هذا الحيوان لا يزال يتحلل، ثم يخلف المتحلل الغذاء، ثم يتحلل من الأجزاء الأصلية ما لا يخلفه شيء، فإذا لم يكن بد من فنائه، وكان المراد امتداد أزمان الدنيا، جعل النساء خلفًا عن الأصل. 124- ولما كانت صورة النكاح تأباها النفوس الشريفة، من كشف العورة، وملاقاة ما لا يستحسن لنفسه، جعلت الشهوة تحث عليه، ليحصل المقصود. 125- ثم رأيت هذا المقصود الأصلي يتبعه شيء آخر، وهو استفزاع هذا الماء، الذي يؤذي دوام احتقانه، فإن المني ينفصل من الهضم الرابع، فهو من أصفى جوهر الغذاء وأجوده، ثم يجتمع، فهو أحد الذخائر للنفس، فإنها تدخر -لبقائها وقوتها- الدم، ثم المني، ثم تدخر التفل1، الذي هو من أعمدة البدن، كأنه لخوف عدم غيره، فإذا زاد اجتماع المني, أقلق على نحو إقلاق البول للحاقن، إلا أن إقلاقه من حيث المعنى أكثر من إقلاق البول من حيث الصورة، فتوجب كثرة اجتماعه، وطول احتباسه أمراضًا صعبة؛ لأنه يترقى من بخاره إلى الدماغ فيؤْذِي،   1 التفل: اللعاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 وربما أحدث سُمِّيَّةً1، ومتى كان المزاج سليمًا، فالطبع يطلب بروز المني إذا اجتمع، كما يطلب بروز البول2. 126- وقد ينحرف بعض الأمزجة، فيقل اجتماعه عنده، فيندر طلبه لإخراجه، وإنما تتكلم عن المزاج الصحيح، فأقول: قد بينت أنه إذا وقع به احتباسه، أوجب أمراضًا، وجدد أفكارًا رديئةً، وجلب العشق والوسوسة ... إلى غير ذلك من الآفات. 127- وقد نجد صحيح المزاج يخرج ذلك إذا اجتمع، وهو بعد متقلقل، فكأنه الآكل الذي لا يشبع! فبحثت عن ذلك، فرأيته وقوع الخلل في المنكوح: إما لدمامته: وقبح منظره، أو لآفة فيه، أو؛ لأنه غير مطلوب للنفس، فحينئذ يخرج منه، ويبقى بعضه. فإذا أردت معرفة ما يدلك على ذلك، فقس مقدار خروج المني في المحل المشتهى، وفي المحل الذي هو دونه، كالوطء بين الفخذين، بالإضافة إلى الوطء في محل النكاح، وكوطء البكر بالإضافة إلى وطء الثيب، فعلم حينئذ أن تخير المنكوح يستقضي فضول المني، فيحصل للنفس كمال اللذة، لموضع كمال بروز الفضول. 128- ثم قد يؤثر هذا في الولد أيضًا، فإنه إذا كان -أي: الولد- من شابين قد حبسا أنفسهما عن النكاح [مدة] مديدة، كان الولد أقوى منه من غيرهما أو من المدمن على النكاح في الأغلب. 129- ولهذا كره نكاح الأقارب؛ لأنه مما يقبض النفس عن انبساطها، فيتخيل الإنسان أنه ينكح بعضه، ومدح نكاح الغرائب لهذا المعنى3. 130- ومن هذا الفن يحصل كثير من المقصود من دفع هذه الفضول المؤذية   1 يرجع الآن إلى علماء الاختصاص في هذا الموضوع. 2 يخرج المني بالاحتلام فلا يطول احتباسه. 3 لنكاح الأقارب تأثير كبير في ظهور الأمراض الوراثية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 بمنكوحٍ مستجدٍّ، وإن كان مستقبح الصورة، ما لا يحصل به في العادة. ومثال هذا: أن الطاعم إذا امتلأ خبزًا ولحمًا حيث لم يبق فيه فضل لتناول لقمة، [إذا] قدمت إليه الحلوى، فيتناول، فلو قدم أعجب منها، لتناول؛ لأن الجدة لها معنًى عجيب. وذلك أن النفس لا تميل إلى ما ألفت، وتطلب غير ما عرفت، ويتخايل لها في الجديد نوع مراد، فإذا لم تجد مرادها، صدفت1 إلى جديد آخر، فكأنها قد علمت وجود عرض تام بلا كدر، وهي تتخايله فيما تراه2. 131- وفي هذا المعنى دليل مدفون على البعث؛ لأن [في] خلق [مَنْ] همته متعلقة بلا متعلق نوع عبث، فافهم هذا! فإذا رأت النفس عيوب ما خالطت في الدنيا، عادت تطلب جديدًا، ولذلك قال الحكماء: العشق العمى عن عيوب المحبوب فمن تأمل عيوبه سلا. 132- ولذلك يستحب للمرأة أن لا تبعد عن زوجها بعدًا ينسيه إياها، ولا تقرب منه قربًا يملها معه، وكذلك يستحب ذلك له، لئلا يمله، أو تظهر لديه مكنونات عيوبها. 133- وينبغي له ألا يطلع منها على عورة، ويجتهد في ألا يشم منها إلا أطيب3 ريح، إلى غير ذلك من الخصال التي تستعملها النساء الحكيمات، فإنهن يعلمن ذلك بفطرهن، من غير احتياج إلى تعليم، فأما الجاهلات، فإنهن لا ينظرن في هذا، فيتعجل التفات الأزواج عنهن. 134- فمن أراد نجابة الولد، وقضاء الوطر، فيتخير المنكوح: إن كان زوجة، فلينظر إليها، فإذا وقعت في نفسه فليتزوجها، وينظر في كيفية وقوعها في نفسه، فإن علامة تعلق حبها بالقلب أنه لا يصرف الطرف عنها، فإذا انصرف   1 صدفت: مالت. 2 قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: إن لي نفسًا تواقة، لم تتق إلى منزلة إلا تاقت إلى ما هو أرفع منها، حتى بلغت اليوم المنزلة التي بعدها منزلة "أي: الخلافة"، وإنها اليوم قد تاقت إلى الجنة. 3 في الأصل: طيب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 الطرف، قلق القلب بتقاضي1 النظرة، فهذا الغاية، ودونه مراتب على مقاديرها يكون بلوغ الأغراض، وإن كان جارية تشترى، فلينظر إليها أبلغ من ذلك النظر. 135- ومن قدر على مناطقة المرأة أو مكالمتها بما يوجب التنبيه، ثم ليرى ذلك منها، فإن الحسن في الفم والعينين، وقد نص أحمد على جواز أن يبصر الرجل من المرأة التي يريد نكاحها ما هو عورة، يشير إلى ما يزيد على الوجه2. 136- ومن أمكنه أن يؤخر العقد أو شراء الجارية لينظر كيف توقان قلبه، فإنه لا يخفى على العاقل توقان النفس لأجل المستجد، وتوقانها لأجل الحب، فإذا رأى قلق الحب، أقدم، فإنه قد أخبرنا محمد بن عبد الباقي3، قال: أخبرنا حمد بن أحمد، قال: أخبرنا أبو نعيم4، قال: حدثنا سليمان بن أحمد، قال: حدثنا عبد الجبار بن أبي عامر، قال: حدثني أبي، قال: حدثني خالد بن سلام، قال: حدثنا عطاء الخراساني5، قال: مكتوب في التوراة: كل تزويج على غير هوى؛ حسرة وندامة إلى يوم القيامة. 137- ثم يبنغي للمتخير أن يتفرس الأخلاق؛ فإنها من الخفي، وإن الصورة إذا خلت من المعنى، كانت كخضراء المدمن 6، ونجابة الولد مقصودة.   1 تقاضي: انقضاء، ويكثر هذا التعبير في الكتاب، وتختلف دلالته حسب السياق، فالمؤلف يستعمله بمعان دارجة. 2 النظر إلى وجه المخطوبة ورقبتها ويدها مباح عند الحنابلة، بشرط أن يغلب على ظنه أنه مقبول عندها بحيث لا ترد خطبته، وأن لا يكون في خلوة، ولا يشترط أن يستأذنها، أو يستأذن وليها في النظر، بل له أن ينظر إليها وهي غافلة، وأن يكرر النظر مرة بعد أخرى، اهـ. الفقه على المذاهب الأربعة "4/ 10" وانظر: مختصر الإفادات لابن بلبان ص "404". 3 أبو بكر البغدادي، النصري الحنبلي: "442-535" مسند العصر، العالم المتفنن المعروف بقاضي المرستان، وهو المرستان العضدي "الذي أنشأه عضد الدولة فناخسرو بن بويه بالجانب الغربي من بغداد" وكان حسن الصورة حلو المنطق. 4 أحمد بن عبد الله بن أحمد الأصبهاني "336-430هـ": حافظ مؤرخ من الثقات في الحفظ والرواية، أشهر كتبه حلية الأولياء وهو من مصادر المؤلف في كتبه، وقد اختصره في كتابه صفوة الصفوة. 5 عطاء بن أبي مسلم الخراساني "50-135هـ": المحدث الواعظ، نزيل دمشق والقدس. 6 الدمن: جمع دمنة، وهي ما تدمنه الإبل والغنم بأبوالها وأبعارها: أي تلبده في مرابضها، فربما نبت فيها النبات الحسن النضير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 138- وَفَرَاغُ النَّفْسِ من الاهتمام بود محبوس أصل عظيم، يوجب إقبال القلب على المهمات، ومن فرغ من المهمات العارضة، أقبل على المهمات الأصلية، ولهذا جاء في الحديث: "لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان"1، و "إذا وضع العَشَاء، وحضرت العِشَاء، فابدؤوا بالعَشَاءِ"2. 139- فمن قدر على امرأةٍ صالحةٍ في الصورة والمعنى، فليغمض عن عوراتها3، ولتجتهد هي مراضيه4، من غير قرب يمل، ولا بعد ينسي، ولتقدم على التصنع5 له، يحصل الغرضان منها: الولد، وقضاء الوطر، مع الاحتراز الذي أوصيت به، تدوم الصحبة، ويحصل الغناء6 بها عن غيرها. 140- فإن قدر على الاستكثار، فأضاف إليها سواها، عالمًا أنه [بذلك] يبلغ الغرض، الذي يفرغ قلبه زيادة تفريغ، كان أفضل لحاله. 141- فإن خاف من وجود الغيرة ما يشغل القلب الذي قد اهتممنا بجمع همته، أو خاف وجود مستحسنة، تشغل قلبه عن ذكر الآخرة، أو تطلب منه ما يوجب خروجه عن الورع، [فحسبه واحدة] . 142- ويدخل فيما أوصيت به أنه يبعد في المستحسنات العفاف، فليبالغ الواجد لهن في حفظهن وسترهن، فإن وجد ما لا يرضيه، عجل الاستبدال، فإنه سبب السلو، وإن قدر على الاقتصار، فإن الاقتصار على الواحدة أولى، فإن كانت على الغرض قنع، وإن لم تكن استبدل. 143- ونكاح المرأة المحبوبة يستفرغ الماء المجتمع، فيوجب نجابة الولد وتمامه، وقضاء الوطر بكماله.   1 رواه البخاري "7158"، ومسلم "1717" عن أبي بكر رضي الله عنه. 2 رواه البخاري "673"، ومسلم "559" عن ابن عمر رضي الله عنهما. 3 عوراتها: عيوبها. 4 ما لم يكن إثمًا، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، على أن تصرفه عن مطلبه غير المشروع بلطف ومداراة، وتذكير ونصح ما أمكن. 5 التصنع: التزين والتطيب. 6 الغَناء: الاستغناء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 144- ومن خاف وجود الغيرة، فعليه بالسراري، فإنهن أقل غيرة، والاستظراف لهن أمكن من استظراف الزوجات. 145- وقد كانت جماعة يمكنهم الجمع، وكان النساء يصبرن: فكان لداود عليه الصلاة والسلام مئة امرأة، ولسليمان علية الصلاة والسلام ألف امرأة، وقد علم حال نبينا صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وكان لأمير المؤمنين علي رضي الله عنه أربع حرائر، وسبع عشرة سريَّةً، وتزوج ابنه الحسن رضي الله عنه بنحو من أربع مئة، وإلى غير هذا مما يطول ذكره فافهم ما أشرت إليه، تفز به إن شاء الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 29- فصل: العقاب العاجل 146- كل شيء خلق الله تعالى في الدنيا، فهو أنموذج1 [ما يكون] في الآخرة، وكل شيء يجري فيها أنموذج ما يجري في الآخرة، فأما المخلوق منها، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: ليس في الجنة شيء يشبه ما في الدنيا إلا الأسماء. وهذا؛ لأن الله تعالى شوق بنعيم إلى نعيم، وخوف بعذاب من عذاب. 147 فأما ما يجري في الدنيا، فكل ظالم معاقب في العاجل على ظلمه قبل الآجل، وكذلك كل مذنب ذنبًا، وهو معنى قوله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء:23] . 148- وربما رأى العاصي سلامة بدنه وماله، فظن أن لا عقوبة، وغفلته عما عوقب به عقوبة، وقد قال الحكماء: المعصية بعد المعصية عقاب المعصية، والحسنة بعد الحسنة ثواب الحسنة. 149- وربما كان العقاب العاجل معنويًا، كما قال بعض أحبار بني إسرائيل: يا رب! كم أعصيك ولا تعاقبني! فقيل له: كم أعاقبك وأنت لا تدري! أليس قد حرمتك حلاوة مناجاتي؟   1 الأنموذج والنموذج: المثال والشبيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 150- فمن تأمَّل هذا الجنس من المعاقبة، وجده بالمرصاد، حتى قال وهيب بن الورد1، وقد سئل: أيجد لذة الطاعة من يعصي؟ قال: ولا من هم. 151- فرب شخص أطلق بصره، فحرم اعتبار بصيرته، أو لسانه، فحرم صفاء قلبه، أو آثر شبهة في مطعمة، فأظلم سره، وحرم قيام الليل، وحلاوة المناجاة، إلى غير ذلك، وهذا أمر يعرفه أهل محاسبة النفوس. 152- وعلى ضده يجد من يتقي الله تعالى من حسن الجزاء على التقوى عاجلًا، كما في حديث أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تعالى: النظرة إلى المرأة سهم مسموم من سهام الشيطان، من تركه ابتغاء مرضاتي، آتيته إيمانًا يجد حلاوته في قلبه" 2. فهذه نبذة من هذا الجنس تنبه على مغفلها. 153- فأما المقابلة الصريحة في الظاهر، فقل أن تحتبس، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الصبحة تمنع الرزق"3، و "إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه"4. وقد روى المفسرون: أن كل شخص من الأسباط جاء باثني عشر ولدًا، وجاء يوسف بأحد عشر بالهمة، ومثل هذا إذا تأمله ذو بصيرة، رأى الجزاء وفهم، كما قال الفضيل: إني لأعصي الله عز وجل فأعرف ذلك في خلق دابتي وجاريتي. وعن أبي عثمان النيسابوري5: أنه انقطع شسع نعله6 في مضيه إلى الجمعة، فتعوق لإصلاحة ساعة، ثم قال: إنما انقطع؛ لأني ما اغتسلت غسل الجمعة. 154- ومن عجائب الجزاء في الدنيا أنه لما امتدت أيدي الظلم من إخوة   1 وهيب بن الورد، أبو أمية، المكي، مولى بني مخزوم عابد زاهد توفي سنة "153هـ"، وقد وقع في الأصل وهب، والتصويب من سير أعلام النبلاء "7/ 198". وله: "همَّ" أي بالمعصية. 2 رواه الحاكم "3/ 314" والطبراني عن حذيفة رضي الله عنه. 3 رواه عبد الله بن أحمد في زوائده على المسند "1/ 73"، قال الهيثمي في المجمع "4/ 62"، فيه إسحاق بن أبي فروة، وهو ضعيف. والصبحة: نوم أول النهار. 4 رواه ابن ماجة: "4022"، وأحمد "5/ 277 و 280 و 282" والحاكم "1/ 493"، وابن حيان "872" عن ثوبان رضي الله عنه. 5 وهو سعيد بن إسماعيل، الواعظ كان مجاب الدعوة، توفي سنة "298هـ". في حاشية الأصل: في الأحمدية أبي عثمان. قلت: وهو الصواب، وفي المصرية: عثمان. وسيرد على الصواب في مواضع تالية. 6 شسع النعل: سير من جلد، يدخل بين الأصبعين من جهة، ويتصل بصدر النعل من جهة أخرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 يوسف: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} [يوسف: 20] ، امتدت أكفهم بين يديه بالطلب يقولون: {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا} [يوسف: 88] ، ولما صبر هو يوم الهمة1، ملك المرأة2 حلالًا، ولما بغت عليه بدعواها: {مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا} [يوسف: 25] ، أنطقها الحق بقولها: {أَنَا رَاوَدْتُهُ} [يوسف:51] . 155- ولو أن شخصًا ترك معصية لأجل الله تعالى، لرأى ثمرة ذلك، وكذلك إذا فعل طاعة، وفي الحديث: "إذا أملقتم، فتاجروا الله بالصدقة" 3، أي: عاملوه لزيادة الأرباح العاجلة. 156- ولقد رأينا من سامح نفسه بما يمنع منه الشرع طلبًا للراحة العاجلة، فانقلبت أحواله إلى التنغص العاجل، وعكست عليه المقاصد. 157- حكى بعض المشايخ أنه اشترى في زمن شبابه جارية، قال: فلما ملكتها، تاقت نفسي4 إليها، فما زلت أسأل الفقهاء لعل مخلوقًا يرخص لي، فكلهم قال: لا يجوز النظر إليها بشهوة، ولا لمسها، ولا جماعها إلا بعد حيضها. قال: فسألتها؟ فأخبرتني أنها اشتريت وهي حائض، فقلت: قرب الأمر، فسألت الفقهاء؟ فقالو: لا يعتد بهذه الحيضة حتى تحيض في ملكه، قال: فقلت لنفسي وهي شديدة التوقان لقوة الشهوة، وتمكن القدرة، وقرب المصاقبة5: ما تقولين؟ فقالت: الإيمان بالصبر على الجمر شئت أم أبيت، فصبرت إلى أن حان ذلك، فأثابني الله تعالى على ذلك الصبر بنيل ما هو أعلى منها وأرفع.   1 المذكورة في الآية "24" من سورة يوسف. 2 هي زليخة امرأة العزيز. 3 أملقتم: افتقرتم، ولم أجد الحديث بهذا لكن ورد بلفظ استعينوا على الرزق بالصدقة رواه الديلمي في الفردوس، وورد أيضًا بلفظ: استنزلوا الرزق بالصدقة رواه البيهقي في: شعب الإيمان، عن علي وابن عدي عن جبير بن مطعم، وأبو الشيح عن أبي هريرة "ضعيفان". 4 تاقت نفسي إليها: توقانًا وتوقًا وتؤوقًا: اشتاقت ونزعت إليها، وهي توّاقة. 5 المصاقبة: المجاورة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 30- فصل: قد يخفي الإنسان عمله فيظهره الله عليه . 158- نَظَرتُ في الأدلة على الحق سبحانه وتعالى، فوجدتها أكثر من الرمل، ورأيت من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 أعجبها أن الإنسان قد يخفي ما لا يرضاه الله عز وجل، فيظهره الله سبحانه عليه، ولو بعد حين، وينطق الألسنة به، وإن لم يشاهده الناس. وربما أوقع صاحبه في آفة يفضحه بها بين الخلق، فيكون جوابًا لكل ما أخفى من الذنوب، وذلك ليلعم الناس أن هنالك من يجازي على الزلل، ولا ينفع من قدره وقدرته حجاب ولا استتار، ولا يضاع لديه عمل. 159- وكذلك يخفي الإنسان الطاعة، فتظهر عليه، ويتحدث الناس بها وبأكثر منها، حتى إنهم لا يعرفون له ذنبًا، ولا يذكرونه إلا بالمحاسن، ليعلم أن هنالك ربًّا لا يضيع عمل عامل. 160- وإن قلوب الناس لتعرف حال الشخص وتحبه أو تأباه، وتذمه أو تمدحه -[وفق ما] 1 يتحقق بينه2 وبين الله تعالى- فإنه يكفيه كل هم، ويدفع عنه كل شر، وما أصلح عبد ما بينه وبين الخلق، دون الحق، إلا انعكس مقصوده، وعاد كل شر، وما أصلح عبد ما بينه وبين الخلق، دون الحق، إلا انعكس مقصوده، وعاد حامده ذامًّا.   1 في الأصل: "وربما لم". 2 في الأصل: "ما بينه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 31- فصل: غلبة الجهل والهوى على أكثر الناس 161- تأملت الأرض ومن عليها بعين فكري، فرأيت خرابها أكثر من عمرانها، ثم نظرت في المعمور منها، فوجدت الكفار مستولين على أكثره، ووجدت أهل الإسلام في الأرض قليلًا بالإضافة إلى الكفار. 162- ثم تأملت المسلمين، فرأيت الأكساب قد شغلت جمهورهم عن الرازق، وأعرضت بهم عن العلم الدال عليه. 163- فالسطان مشغول بالأمر والنهي، والذات العارضة1 له، ومياه أغراضه جارية لا سكر2 لها، ولا يتلقاه أحد بموعظة، بل بالمدحة التي تقوي هوى النفس!!   1 في الأصل: المعارضة. 2 السكر: آلة تتحكم بجريان الماء، فيسد بها ويفتح، وهو حرف ما زال مستعملًا في الشام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 وَإِنَّمَا ينبغي أن تقاوم الأمراض بأضدادها، كما قال عمر بن المهاجر: قال لي عمر بن عبد العزيز: إذا رأيتني قد حدت عن الحق، فخذ بثيابي، وهزني، وقل: مالك يا عمر؟! وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: رحم الله من أهدى إلينا عيوبنا، فأحوج الخلق إلى النصائح والمواعظ السلطان. 164- وأما جُنُودُهُ، فجمهورهم في سكر الهوى، وزينة الدنيا، وقد انضاف إلى ذلك الجهل، وعدم العلم، فلا يؤلمهم ذنب، ولا ينزعجون من لبس حرير، أو شرب خمر، حتى ربما قال بعضهم: إيش يعمل الجندي؟! أيلبس القطن؟ ثم أخذهم للأشياء من غير وجهها، فالظلم معهم كالطبع! 165- وأرباب البوادي قد غمرهم الجهل، وكذلك أهل القرى، [ماأكثر] 1 تقلبهم في الأنجاس، وتهوينهم لأمر الصلوات!! وربما صلت المرأة منهن قاعدة! 166- ثم نظرت في التجار، فرأيتهم قد غلب عليهم الحرص، حتى لا يرون سوى وجوه الكسب، كيف كانت، وصار الربا في معاملاتهم فاشيًا، فلا يبالي أحدهم من أين تحصل له الدنيا! وهم في باب الزكاة مفروطون، ولا يستوحشون من تركها، إلا من عصم الله. 167- ثم نظرت في أرباب المعاش، فوجدت الغش في معاملاتهم عامًّا وكذلك والتطفيف والبخس، وهم مع هذا مغمورون بالجهل! 168- ورأيت عامة من له ولد يشغله ببعض هذه الأشغال طلبًا للكسب قبل أن يعرف ما يجب عليه وما يتأدب به. 169- ثم نظرت في أحوال النساء، فرأيتهم قليلات الدين، عظيمات الجهل، ما عندهن من الآخرة خبر إلا من عصم الله، فقلت: واعجبًا! فمن بقي لخدمة الله عز وجل ومعرفته؟! 170- فنظرت، فإذا العلماء، والمتعلمون، والعباد، والمتزهدون، فتأملت العباد والمتزهدين، فرأيت جمهورهم يتعبد بغير علم، ويأنس إلى تعظيمه، وتقبيل يده،   1 في الأصل: وكذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 وكثرة أتباعه، حتى إن أحدهم لو اضطر أن يشتري حاجة من السوق لم يفعل، لئلا ينكسر جاهه! ثم تترقى بهم رتبة الناموس إلى ألا يعودوا مريضًا، ولا يشهدوا جنازة، إلا أن يكون عظيم القدر عندهم. ولا يتزاورون، بل ربما ضن1 بعضهم على بعض [بلقاءٍ] ، فقد صارت النواميس2 كالأوثان، يعبدونها ولا يعلمون! وفيهم من يقدم على الفتوى بجهل، لئلا يخل بناموس التصدر! ثم يعيبون3 العلماء لحرصهم على الدنيا، ولا يعلمون أن المذموم من الدنيا ما هم فيه لا تناول المباحات! 171- ثم تأملت العلماء والمتعلمين، فرأيت القليل من المتعلمين عليه أمارة النجابة؛ لأن أمارة النجابة طلب العلم للعمل به، وجمهورهم يطلب منه ما يصيره شبكة للكسب: إما ليأخذ قضاء مكان، أو ليصير قاضي بلد، أو قدر ما يتميز به عن أبناء جنسه، ثم يكتفي. 172- ثم تأملت العلماء، فرأيت أكثرهم يتلاعب به الهوى، ويستخدمه، فهو يؤثر ما يصده العلم عنه، ويقبل على ما ينهاه، ولا يكاد يجد ذوق معاملة الله سبحانه؛ وإنما همته أن يقول [وحسب] . 173- إلا أن الله لا يخلي الأرض من قائم له بالحجة، جامع بين العلم والعمل، عارف بحقوق الله تعالى، خائف منه، فذلك قطب الدنيا، ومتى مات، أخلف الله عوضه، وربما لم يمت حتى يرى من يصلح للنيابة عنه في كل نائبة، ومثل هذا لا تخلو الأرض منه، فهو بمقام النبي في الأمة. وهذا الذي أصفه يكون قائمًا بالأصول، حافظًا للحدود، وربما قل علمه، أو قلت معاملته، فأما الكاملون في جميع الأدوات، فينذر وجودهم، فيكون في الزمان البعيد منهم واحد. 174- ولقد سبرت4 السلف كلهم، فأردت أن استخرج منهم من جمع بين   1 في الأصل: ظنَّ 2 النواميس: العادات والأعراف. 3 في الأصل: يعيبوا. 4 سبرت الشيء: تأملته وفحصته لأعرف حقيقته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 العلم حتى صار من المجتهدين، وبين العمل حتى صار قدوة للعابدين، فلم أر أكثر من ثلاثة1: أولهم: الحسن البصري، وثانيهم: سفيان الثوري، وثالثهم: أحمد بن حنبل، وقد أفردت لأخبار كل واحد منهم كتابًا، وما أنكر على من ربعهم بسعيد بْنِ المُسَيَّبِ2. 175- وإن كان في السلف سادات؛ إلا أن أكثرهم غلب عليه فن، فنقص من الآخرة، فمنهم من غلب عليه العلم، ومنهم من غلب عليه العمل، وكل هؤلاء كان له الحظ الوافر من العلم، والنصيب الأوفى من المعاملة والمعرفة. 176- ولا ييأس من وجود من يحذو حذوهم، وإن كان الفضل بالسبق لهم، فقد أطلع الله -عز وجل- الخضر على ما خفي على موسى عليه السلام3، فخزائن الله مملوءة، وعطاؤه لا يقف على شخص. 177- ولقد حكي لي عن ابن عقيل4: أنه كان يقول عن نفسه: أنا عملت في قارب ثم كسر وهذا غلط، فمن أين له؟! فكم من معجب بنفسه كشف له من غيره ما عاد يحقر نفسه على ذلك!! وكم من متأخر سبق متقدمًا!! وقد قيل: إنَّ اللَّيالِيَ وَالأَيَّامَ حَامِلَةٌ ... وَلَيْسَ يَعْلَمُ غَيْرُ اللهِ مَا تَلِدُ   1 هؤلاء الأربعة نماذج اجتمع فيها ما تفرق في غيرها. فهي قدرة لكل الناس. 2 أبو محمد القرشي المخزومي "13-94هـ"، عالم أهل المدينة، وأحد فقهائها السبعة، وسيد التابعين في عصره، وأحفظ الناس لأقضية عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وزوج ابنة أبي هريرة، والسنة التي توفى فيها تسمى سنة الفقهاء لكثرة من مات فيها من الفقهاء. 3 قصة موسى والخضر عليهما السلام مذكورة في سورة الكهف الآيات "60-82" وأخرجها البخاري "3401-74"، ومسلم "2380" عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقد وقع في الأصل: خفي من موسى. 4 أبو الوفاء علي بن عقيل البغدادي الظفري "431-513هـ": الإمام العلامة البحر، شيخ الحنابلة، كان يتوقد ذكاء، وكان بحر معارف، وكنز فصائل، له كتاب الفنون قال المؤلف: هذا الكتاب مئتا مجلد، وقع لي منه نحو مائة وخمسين مجلدًا، وقال سبط ابن الجوزي في مرآة الزمان "8/ 151": واختصر جدي عشر مجلدات فرقها في تصانيفه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 آفات الشهوات وفو ائد الصبر عنها ... 32- فصل: آفات الشهوت وفوائد الصبر عنها. 178- رأيت ميل النفس إلى الشهوات زائدًا في المقدار، حتى إنها إذا مالت، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 مالت بالقلب والعقل والذهن، فلا يكاد "المرء" ينتفع بشيء من النصح1! فصحت بها يومًا، وقد مالت بكليتها إلى شهوة: ويحك! قفي لحظة، أكلمك كلمات، ثم افعلي ما بدا لك! قالت: قل، أسمع. قلت: قد تقرر قلة ميلك إلى المباحات من الشهوات، وأما جل ميلك، فإلى2 المحرمات، وأنا أكشف لك عن الأمرين، فربما رأيت الحلوين مرين: أما المباحات من الشهوات، فمطلقة لك، ولكن طريقها صعب: لأن المال قد يعجز عنها، والكسب قد لا يحصل معظمها، والوقت الشريف يذهب بذلك، ثم شغل القلب بها وقت التحصيل، وفي حالة الحصول، ويحذر3 الفوات، ثم ينغصها من النقص ما لا يخفى على مميز: إن كان مطعمًا، فالشبع يحدث آفات، وإن كان شخصًا، فالملل أو الفراق أو سوء الخلق، ثم ألذ النكاح أكثرة إيهانًا4 للبدن، إلى غير ذلك مما يطول شرحه. وأما المحرمات، فتشتمل على ما أشرنا إليه من المباحات، وتزيد عليها بأنها آفة العرض، ومظنة5 عقاب الدنيا وفضيحتها، و [هناك] وعيد الآخرة، ثم الجزع كلما ذكرها التائب. 179- وفي قوة قهر الهوى لذة تزيد على كل لذة، ألا ترى إلى كل مغلوب بالهوى كيف يكون ذليلًا؛ لأنه قهر، بخلاف غالب الهوى؛ فإنه يكون قوي القلب عزيزًا؛ لأنه قهر؟! 180- فالحذر الحذر من رؤية المشتهى بعين الحسن، كما يرى اللص لذة أخذ المال من الحرز6، ولا يرى بعين فكره القطع7! وليفتح عين البصيرة، لتأمل العواقب، واستحالة اللذة نغصة، وانقلابها عن كونها لذة، إما لملل، أو لغيرة من الآفات، أو لانقطاعها بامتناع الحبيب، فتكون المعصية الأولى كلقمة تناولها جائع،   1 في الأصل: البدن. 2 في الأصل: إلى. 3 في الأصل: وبحذر. 4 إيهانًا: ضعفًا. 5 في الأصل: خوف. 6 الحرز: الموضع الحصين. 7 القطع: قطع اليد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 فما ردت كلب الجوع1، بل شهت الطعام2. 181- وليتذكر الإنسان لذة قهر الهوى مع تأمل فوائد الصبر عنه، فمن وفق لذلك، كانت سلامته قريبة منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 33- فصل: القلب عارف والقواطع كثيرة . 182- خطر لي خاطر، والمجلس قد طاب، والقلوب قد حضرت، والعيون جارية، والرؤوس مطرقة، والنفوس قد ندمت على تفريطها، والعزائم قد نهضت لإصلاح شؤونها، وألسنة اللوم تعمل في الباطن على تضييع الحزم، وترك الحذر، فقلت لنفسي: ما بال هذه اليقظة لا تدوم؟! فإني أرى النفس واليقظة في المجلس متصادقين متصافيين؛ فإذا قمنا عن هذه التربة3، وقعت الغربة. فتأملت ذلك، فرأيت أن النفس ما تزال متيقظة، والقلب ما يزال عارفًا، غير أن القواطع كثيرة، والفكر الذي ينبغي استعماله في معرفة الله سبحانة وتعالى قد كل مما يستعمل في اجتلاب الدنيا، وتحصيل حوائج النفوس، والقلب منغمس في ذلك، والبدن أسير مستخدم. وبينا الفكر يجول في اجتلاب الطعام والشراب والكسوة، وينظر في صدد ذلك، وما يدخره لغده وسنته، اهتم بخروج الحدث، وتشاغل بالطهارة، ثم اهتم بخروج الفضلات المؤذية4، ومنها المني، فاحتاج إلى النكاح، فعلم أنه لا يصح إلا باكتساب كسب الدنيا، فتفكر في ذلك، وعمل بمقتضاه. ثم جاء الولد، فاهتم به وله، وإذا الفكر عامل في أصول الدنيا وفروعها؛ فإذا حضر الإنسان المجلس، فإنه لا يحضر جائعًا ولا حاقنًا، بل يحضره جامعًا لهمته، ناسيًا ما كان من الدنيا على ذكره، فيخلو الوعظ بالقلب، فيذكره بما ألف، ويجذبه بما عرف، فينهض عمال القلب في زوارق عرفانه، فيحضرون النفس إلى باب   1 كلب الجوع: شدته. 2 شهت الطعام: زادت شهوتها إليه. 3 التربة: البقعة التي كان ينعقد فيها مجلس الوعظ. 4 إن احتبست في البدن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 المطالبة بالتفريط، ويؤاخذون الحس بما مضى من العيوب، فتجري عيون الندم، وتنعقد عزائم الاستدراك. ولو أن هذه النفس خلت عن المعهودات التي وصفتها، لتشاغلت بخدمة بارئها، ولو وقعت في سورة حبة1، لاستوحشت عن الكل شغلًا بقربة، ولهذا اعتمد الزهاد الخلوات، وتشاغلوا بقطع المعوقات، وعلى قدر مجاهدتهم في ذلك نالوا من الخدمة مرادهم، كما أن الحصاد على مقدار البذر. 183- غير أني تلمحت في هذه الحالة دقيقة، وهو أن النفس لو دامت لها اليقظة، لوقعت فيما هو شر من فوت ما فاتها، وهو العجب بحالها، والاحتقار لجنسها2! وربما ترقت بقوة علمها وعرفانها إلى دعوى قولها: "لي، وعندي، واستحق ... " فتركها في حومة3 ذنوبها تتخبط، فإذا وقفت على الشاطيء، قامت بحق ذلة العبودية، [وذلك] أولى لها. هذا حكم الغالب من الخلق، ولذلك شغلوا عن هذا المقام، فمن بذر، فصلح له، فلا بد له من هفوة تراقبها عين الخوف من عقابها رفقًا بها، تصح له عبوديته، وتسلم له عبادته، وإلى هذا المعنى أشار الحديث الصحيح: "لو لم تذنبوا، لذهب الله بكم، وجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون، فيغفر لهم"4.   1 سورة الحب: شدته. 2 عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو لم تذنبوا لخشيت عليكم ما هو أكبر منه: العجب" رواه البزار الكشف "3633" بإسناد جيد كما قال المنذري في الترغيب "4307". 3 حومة: الساحة. 4 رواه مسلم "2749" عن أبي هريرة رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 34- فصل: ما يفعله جهلة المتزهدين . 184- تفكرت، فرأيت أن حفظ المال من المتعين، وما يسميه جهلة المتزهدين توكلًا -من إخراج ما في اليد- ليس بالمشروع! فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لكعب بن مالك: "أمسك عليك بعض مالك" 1، أو كما قال له. وقال لسعد: "لأن   1 رواه البخاري "4676"، ومسلم "2769" عن كعب بن مالك رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 تترك ورثتك أغنياء خَيْرٌ [لَكَ] من أن تتركهم عالة يتكففون الناس". فإن اعترض جاهل فقال: جاء أبو بكر -رضي الله عنه- بكل ماله1. فالجواب: أن أبا بكر صاحب معاش وتجارة؛ فإذا أخرج الكل، أمكنه أن يستدين عليه فيتمعيش، فمن كان على هذه الصفة، لا أذم إخراجه لماله. وإنما الذم متطرق إلى من يخرج ماله، وليس من أرباب المعايش، أو يكون من أولئك، إلا أنه ينقطع عن المعاش، فيبقى كلًا2 على الناس، يستعطيهم، ويعتقد أنه على الفتوح3، وقلبه متعلق بالخلق، وطمعه ناشب فيهم، ومتى حرك بابه، نهض قلبه، وقال: رزق قد جاء!! وهذا أمر قبيح بمن يقدر على المعاش، وإن لم يقدر، كان إخراج ما يملك أقبح؛ لأنه يتعلق قلبه بما في أيدي الناس، وربما ذلك لبعضهم، أو تزين له بالزهد، وأقل أحواله أن يزاحم الفقراء والمكافيف4 والزمنى5 في الزكاة. 185- فعليك بالسرب الأول6، فانظر: هل فيهم من فعل ما يفعله جهلة المتزهدين؟! وقد أشرت في أول هذا إلى أنهم كسبوا، وخلفوا الأموال، فرد إلى الشرب الأول7 الذي لم يطرق، فإنه الصافي، واحذر من المشارع8 المطروقة بالآراء الفاسدة، الخارجة في المعنى على الشريعة، مدعية9 بلسان حالها أن الشرع ناقص يحتاج إلى ما يتم به!   1 رواه أبو داود "1678"، والترمذي "3675"، والحاكم "1/ 414" عن عمر رضي الله عنه، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وتمامه: فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أبا بكر ما أبقيت لأهلك؟ " فقال: أبقيت لهم الله ورسوله. 2 الكل: العالة. 3 الفتوح: الهبات الإلهية. 4 المكافيف: العميان. 5 الزمنى: المرضى الذين أقعدهم المرض ولا يرجى برؤهم. 6 السرب: السلف الصالح. وقد جاء في الأصل هاهنا الشرب بالشين المعجمة، وقد تقدم أكثر من مرة بالسين المهملة. 7 الشرب الأول: المنهل الأول وهو ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. 8 المشارع: الأقنية، وهي هنا بنيات الطريق والسبل المتفرقة عن الصراط المستقيم. 9 في الأصل: مذعته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 186- واعلم -وفقك الله تعالى- أن البدن كالمطية، ولا بد من علف المطية، والاهتمام به، فإذا أهملت ذلك، كان سببًا لوقوفك عن السير. وقد رئي سلمان رضي الله عنه يحمل طعامًا على عاتقه، فقيل له: أتفعل هذا وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فقال: إن النفس إذا أحرزت قوتها، اطمأنت. وقال سفيان الثوري: إذا حصلت قوت شهر، فتعبد. 187- وقد جاء أقوام ليس عندهم سوى الدعاوى، فقالوا: هذا شك في الرازق، والثقة بي أولى!! فإياك وإياهم. 188- وربما ورد مثل هذا عن بعض صدور الزهاد من السلف1، فلا يعول عليه، ولا يهولنك خلافهم، فقد قال أبو بكر المروذي: سمعت أحمد بن حنبل يرغب في النكاح، فقلت له: قال ابن أدهم.. فما تركني أتمم حتى صاح علي وقال: أذكر لك حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وتأتيني ببنيات الطريق؟!. 189- واعلم -وفقك الله- أنه لو رفض الأسباب شخص يدعي التزهد، وقال: لا آكل، ولا أشرب، ولا أقوم من الشمس في الحر، ولا استدفئ من البرد! كان عاصيًا بالإجماع، وكذلك لو قال -وله عائلة-: لا أكتسب، ورزقهم على الله تعالى! فأصابهم أذى، كان آثمًا، كما قال عليه الصلاة والسلام: "كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يقوت". 190- واعلم أن الاهتمام بالكسب، يجمع الهم، ويفرغ القلب، ويقطع الطمع في الخلق، فإن الطبع له حق يتقاضاه، وقد بين الشرع ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: "إن لنفسك عليك حقًّا، وإن لعينك عليك حقًّا". 191- ومثال الطبع مع المريد السالك كمثل كلب لا يعرف الطارق، فكل من رآه يمشي، نبح عليه، فإن ألقى إليه كسرة، سكت عنه؛ فالمراد من الاهتمام بذلك جمع الهم لا غير، فافهم هذه الأصول، فإن فهمها مهم.   1 الأكابر من العباد والزهاد كمالك بن دينار، وفرقد السبخي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 35- فصل: أفضل الأمور أوساطها . 192- تأملت في شهوات الدنيا، فرأيتها مصايد هلاك، وفخوخ تلف، فن قوى عقله على طبعه وحكم عليه، يسلم، ومن غلب طبعه، فيا سرعة هلكته! 193- ولقد رأيت بعض أبناء الدنيا كان يتوفق إلى التسري، ثم يستعمل الحرارات المهيجة للباه1، فما لبث أن انحلت حرارته الغريزية وتلف. 194- ولم أر في شهوات النفس أسرع هلاكًا من هذه الشهوة، فإنه كلما مال الإنسان إلى شخص مستحسن، أوجب ذلك حركة الباه زائدًا عن العادة، وإذا رأى أحسن منه، زادت الحركة، وكثر خروج المني زائدًا عن الأول، فيفنى جوهر الحياة أسرع شيء. وبالضد من هذا أن تكون المرأة مستقبحة، فلا يوجب نكاحها خروج الفضلة المؤذية كما ينبغي، فيقع التأذي بالاحتباس، وقوة التوق إلى منكوح. 195- وكذلك المفرط في الأكل، فإنه يجني على نفسه كثيرًا من الجنايات، والمقصر في مقدار القوت كذلك. فعلمت أن أفضل الأمور أوساطها. 196- والدنيا مفازة، فينبغي أن يكون السائق2 فيها العقل، فمن سلم زمام راحلته إلى طبعه وهواه، فيا عجلة تلفه! هذا فيما يتعلق بالبدن والدنيا، فقس عليه أمر الآخرة، فافهم.   1 الأدوية المقوية للجماع. 2 في الأصل: السابق. وهو تصحيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 36- فصل: لا تحرموا طيبات ما أحل لكم . 197- بلغني عن بعض زهاد زماننا أنه قدم إليه طعام، فقال: لا آكل! فقيل له: لم؟! قال: لأن نفسي تشتهيه، وأنا منذ سنين ما بلغت نفسي ما تشتهي! 198- فقلت: لقد خفيت طريق الصواب عن هذا من وجهين، وسبب خفائها عدم العلم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 أما الوجه الأول: فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن على هذا ولا أصحابه، وقد كان عليه الصلاة والسلام يأكل لحم الدجاج1، ويحب الحلوى والعسل. ودخل فرقد السبخي على الحسن وهو يأكل الفالوذج، فقال: يا فرقد! ما تقول في هذا؟ فقال: لا آكله، ولا أحب من أكله، فقال الحسن: لعاب النحل، بلباب البر، مع سمن البقر؛ هل يعيبه مسلم؟! وجاء رجل إلى الحسن، فقال: إن لي جارًا لا يأكل الفالوذج، فقال: ولم؟! قال: يقول: لا أؤدي شكره. فقال: إن جارك جاهل، وهل يؤدي شكر الماء البارد؟! وكان سفيان الثوري يحمل في سفره الفالوذج والحمل المشوي، ويقول: إن الدابة إذا أحسن إليها، عملت. وما حدث في الزهاد بعدهم من هذا الفن، فأمور مسروقة من الرهبانية، وأنا خائف من قوله تعالى: {لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} [المائدة:87] ولا يحفظ عن أحد من السلف الأول من الصحابة من هذا الفن شيء، إلا أن يكون ذلك لعارض. وأما سبب ما يروى عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه اشتهى شيئًا فآثر به فقيرًا، وأعتق جاريته رميثة، وقال: إنها أحب الخلق إلى، فهذا وأمثاله حسن؛ لأنه إيثار بما هو أجود عند النفس من غيره، وأكثر لها من سواه، فإذا وقع في بعض الأوقات، كسرت بذلك الفعل سورة هواها أن تطغى بنيل كل ما تريد. فأما من دام على مخالفتها على الإطلاق، فإنه يعمي قلبها، ويبلد خواطرها، ويشتت عزائمها، فيؤذيها أكثر مما ينفعها، وقد قال إبراهيم بن أدهم: إن القلب إذا أكره، عمي، وتحت مقالته سر لطيف، وهو أن الله عز وجل قد وضع طبيعة الآدمي على معنى عجيب، وهو أنها تختار الشيء من الشهوات مما يصلحها، فتعلم باختيارها له صلاحه، وصلاحها به. وقد قال حكماء الطب: ينبغي أن يفسح للنفس فيما تشتهي   1 تقدم تخريجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 من المطاعم، وإن كان فيه نوع ضرر؛ لأنها إنما تختار ما يلائمها؛ فإذا قمعها الزاهد في مثل هذا، عاد على بدنه بالضرر، ولولا جواذب الباطن من الطبيعة، ما بقي البدن، فإن الشهوة للطعام تثور1، فإذا وقعت الغنية بما يتناول، كفت الشهوة. فالشهوة مريد ورائد، ونعم الباعث هي على مصلحة البدن، غير أنها إذا أفرطت، وقع الأذى، ومتى منعت ما تريد على الإطلاق مع الأمن من فساد العاقبة، عاد ذلك بفساد أحوال النفس، ووهن الجسم، واختلاف السقم، الذي تتداعى به الجملة، مثل أن يمنعها الماء عند اشتداد العطش، والغذاء عند الجوع، والجماع عند قوة الشهوة، والنوم عند غلبته، حتى إن المغتم إذا لم يتروح بالشكوى، قتله الكمد. فهذا أصل، إذا فهمه هذا الزاهد، علم أنه قد خالف طريق الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من حيث النقل، وخالف الموضوع من حيث الحكمة. ولا يلزم على هذا قول القائل: فمن أين يصفو المطعم؟ لأنه إذا لم يصف، كان الترك ورعًا، وإنما الكلام في المطعم الذي ليس فيه ما يؤذي في باب الورع، وكان ما شرحته جوابًا للقائل: ما أبلغ نفسي شهوة على الإطلاق. والوجه الثاني: أني أخاف على الزاهد أن تكون شهوته انقلبت إلى الترك؛ فصار يشتهي ألا يتناول، وللنفس في هذا مكر خفي، ورياء دقيق، فإن سلمت من الرياء للخلق، كانت الآفة من جهة تعلقها بمثل هذا الفعل، وإدلالها في الباطن به، فهذه مخاطرة وغلط. وربما قال بعض الجهال: هذا صد عن الخير وعن الزهد! وليس كذلك، فإن الحديث قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: "كل عمل ليس عليه أمرنا، فهو رد"2. ولا ينبغي أن يغتر بعباده جريج3، ولا بتقوى ذي الخويصرة4.   1 في الأصل: تبور. وهو تصحيف. 2 رواه البخاري "2697"، ومسلم "1718" عن عائشة رضي الله عنها. 3 قصة جريج رواها البخاري "3436"، ومسلم "2550" عن أبي هريرة رضي الله عنه. 4 قصة ذي الخويصرة رواها البخاري "3610"، ومسلم "1064" عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 199- ولقد دخل المتزهدون في طرق لم يسلكها الرسول صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه، من إظهار التخشع الزائد في الحد، والتنوق1 في تخشين الملبس، وأشياء صار العوام يستحسنونها، وصارت لأقوام كالمعاش، يجتنون من أرباحها تقبيل اليد، وتوفير التوقير، وحراسة الناموس، وأكثرهم في خلوته على غير حالته في جلوته. 200- وقد كان ابن سيرين يضحك بين الناس قَهْقَهَةً، وإذا خلا بالليل، فكأنه قتل أهل القرية. فنسأل الله تعالى علمًا نافعًا، فهو الأصل، فمتى حصل، أوجب معرفة المعبود عز وجل، وحرك إلى خدمته بمقتضى ما شرعه وأحبه، وسلك بصاحبه طريق الإخلاص. 201- وأصل الأصول العلم، وأنفع العلوم النظر في سير الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90] .   1 التنوق: التأنق والمبالغة في الصنعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 37- فصل: جهاد النفس أعظم الجهاد . 202- تأملت جهاد النفس، فرأيته أعظم الجهاد، ورأيت خلقًا من العلماء والزهاد لا يفهمون معناه؛ لأن فيهم من منعها حظوظها على الإطلاق، وذلك غلط من وجهين: أحدهما: أنه رب مانع لها شهوة أعطاها بالمنع أوفى منها، مثل أن يمنعها مباحًا، فيشتهر بمنعه إياها ذلك: فترضى النفس بالمنع؛ لأنها قد استبدلت به المدح. وأخفى من ذلك أن يرى -بمنعه إياها ما منع- أنه قد فضل سواه ممن لم يمنعها ذلك. وهذه دقائق1 تحتاج إلى منقاش2 فهم يخلصها. والوجه الثاني: أننا قد كلفنا حفظها، ومن أسباب حفظها ميلها إلى الأشياء   1 في الأصل: دفائن. وهو تصحيف. 2 المنقاش: الملقاط الذي تستخرج به الأشياء الدقيقة كالشوكة والشعرة ونحو ذلك. ومن المجاز: استخرجت هذا بالمنقاش: أي تعبت في استخراجه ومعرفته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 التي تقيمها، فلا بد من إعطائها ما يقيمها، وأكثر ذلك أو كله مما تشتهيه، ونحن كالوكلاء في حفظها؛ لأنها ليست لنا، بل هي وديعة عندنا، فمنعها حقوقها على الإطلاق خطر. ثم رب شَدٍّ أوجب استرخاء، ورب مضيق على نفسه فرت منه، فصعب عليه تلافيها؛ وإنما الجهاد لها كجهاد المريض العاقل، يحملها على مكروهها في تناول ما ترجو به العافية، ويذوب في المرارة قليلًا من الحلاوة، ويتناول من الأغذية مقدار ما يصفه الطبيب، ولا تحمله شهوته على موافقة غرضها من مطعم ربما جر جوعًا، ومن لقمه ربما حرمت لقمات. 203- فكذلك المؤمن العاقل، لا يترك لجامها، ولايهمل مقودها، بل يرخي لها في وقت، والطول1 بيده، فما دامت على الجادة، لم يضايقها في التضييق عليها، فإذا رآها قد مالت، ردها باللطف، فإن ونت2 وأبت، فبالعنف3، ويحسبها4 في مقام المداراة كالزوجة، التي مبنى عقلها على الضعف والقلة، فهي تداري عند نشوزها5 بالوعظ، فإن لم تصلح، فبالهجر، فإن لم تستقم، فبالضرب6، وليس في سياط التأديب أجود من سوط عزم7. 204- هذه مجاهدة من حيث العمل، فأما من حيث وعظها وتأنيبها، فينبغي لمن رآها تسكن للخلق، وتتعرض بالدناءة من الأخلاق أن يعرفها تعظيم خالقها لها، فيقول: ألست التي قال فيك: خلقتك بيدي، وأسجدت لك ملائكتي، وارتضاك   1 الطول: كعنب: الرسن أو الزمام الذي تربط به قائة الدابة في المرعى، ويربط طرفه الثاني بوتد ونحوه. 2 ونت: قصرت وضعفت. 3 في الأصل: وإلا فبالعنف. 4 ويحسبها: أي النفس، وفي الأصل: يحبسها، وهو تصحيف. 5 نشوزها: عصيانها. 6 ترك الضرب من مكارم الأخلاق، ومن شمائل النبي صلى الله عليه وسلم، فإن كان ولا بد فيجب أن يتيقن أن الضرب رادع، وأن يتجنب الوجه والأعضاء الحساسة، وأن لا يكون مؤذيًا، وأن لا يترك أثرًا، وإلا لم يجز. 7 سوط العزم:أن يهدد بالضرب ولا يضرب، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "علقوا السوط حيث يراه أهل البيت، فإنه أدب لهم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 للخلافة في أرضه، وراسلك، واقترض منك واشترى؟! فإن رآها تتكبر، قال لها: هل أنت إلا قطرة من ماء مهين1، تقتلك شرقة، وتؤلمك بقة؟! وإن رأى تقصيرها، عرفها حق الموالي على العبيد. وإن ونت2 في العمل، حدثها بجزيل الأجر. وإن مالت إلى الهوى، وفها عظيم الوزر، ثم يحذرها عاجل العقوبة الحسية، كقولة تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ} [الأنعام: 46] ، والمعنوية؟ كقوله تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف: 146] . فهذا جهاد بالقول، وذاك جهاد بالفعل.   1 الماء المهين: المني. 2 ونت: ضعفت وقصرت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 38- فصل: امتناع إجابة الدعاء . 205- رأيت من البلاء أن المؤمن يدعو فلا يجاب، فيكرر الدعاء، وتطول المدة، ولا يرى أثرًا للإجابة، فينبغي له أن يعلم أن هذا من البلاء الذي يحتاج إلى الصبر، وما يعرض للنفس من الوسواس في تأخير الجواب مرض يحتاج إلى طب. 206- ولقد عرض لي شيء من هذا الجنس؛ فإنه نزلت بي نازلة، فدعوت، وبالغت، والبخل معدوم، فما فائدة تأخير الجواب؟! فقلت له: اخسأ يا لعين! فما أحتاج إلى تقاض، ولا أرضاك وكيلًا. ثم عدت إلى نفسي فقلت: إياك ومساكنة وسوسته، فإنه لو لم يكن في تأخير الإجابة إلا أن يبلوك المقدر في محاربة العدو، لكفى في الحكمة. 207- قالت: فسلني عن تأخير الإجابة في مثل هذه النازلة! فقلت: قد ثبت بالبرهان أن الله عز وجل مالك، وللمالك التصرف بالمنع والعطاء، فلا وجه للاعتراض عليه1. والثاني: أنه قد ثبتت حكمته بالأدلة القاطعة، فربما رأيت الشيء مصلحة،   1 هذا أولًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 والحكمة لا تقتضيه، وقد يخفى وجه الحكمة فيما يفعله الطبيب من أشياء تؤذي في الظاهر، يقصد بها المصلحة، فلعل هذا من ذاك. والثالث: أنه قد يكون التأخير مصلحة، والاستعجال مضرة، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "لايزال العبد في خير ما لم يستعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي! "1.والرابع: أنه قد يكون امتناع الإجابة لآفة فيك، فربما يكون في مأكولك شبهة، أو قلبك وقت الدعاء في غفلة، أو تزاد عقوبتك في منع حاجتك لذنب ما صدقت في التوبة منه، فابحثي عن بعض هذه الأسباب، لعلك تقعي بالمقصود، كما روي عن أبي يزيد رضي الله عنه: أنه نزل بعض الأعاجم في داره، فجاء، فرآه، فوقف بباب الدار، وأمر بعض أصحابه، فدخل، فقلع طينًا جديدًا قد طينه، فقام الأعجمي وخرج، فسئل أبو يزيد عن ذلك؟ فقال: هذا الطين من وجه فيه شبهة، فلما زالت الشبهة، زال صاحبها. وعن إبراهيم الخواص2 رحمة الله عليه: أنه خرج لإنكار منكر، فنبحه كلب له، فمنعه أن يمضي، فعاد، ودخل المسجد، وصلى، ثم خرج، فبصبص الكلب3 له، فمضى، وأنكر، فزال المنكر، فسئل عن تلك الحال؟ فقال: كان عندي منكر، فمنعني الكلب، فلما عدت، تبت من ذلك، فكان ما رأيتم. والخامس: أنه ينبغي أن يقع البحث عن مقصودك بهذا المطلوب، فربما كان في حصوله زيادة إثم، أو تأخير عن مرتبة خير، فكان المنع أصلح، وقد روي عن بعض السلف: أنه كان يسأل الله الغزو، فهتف به هاتف: إنك إن غزوت، أسرت، وإن أسرت، تنصرت. والسادس: أنه ربما كان فقد ما فقدته سببًا للوقوف على الباب واللجأ، وحصوله سببًا للاشتغال عن المسؤول. وهذا الظاهر، بدليل أنه لولا هذه النازلة، ما   1 رواه أحمد "3/ 193 و 210"، وأبو يعلى "2865"، وأبو نعيم "6/ 309" عن أنس رضي الله عنه. 2 إبراهيم بن أحمد بن إسماعيل، أبو إسحاق، من أقران الجنيد، توفي في جامع الري سنة "291 هـ". 3 بصبص الكلب: هز ذيله تملقًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 رأيناك على باب اللجأ، فالحق -عز وجل- علم من الخلق اشتغالهم بالبر عنه، فلذعهم في خلال النعم بعوارض تدفعهم إلى بابه، يستغيثون به، فهذا من النعم في طَيِّ البلاء، وإنما البلاء المحض ما يشغلك عنه، فأما ما يقيمك بين يديه، ففيه جمالك. وقد حكي عن يَحْيَى البَكَّاءِ1 أنه رأى ربه عز وجل في المنام، فقال: يا رب! كم أدعوك ولا تجيبني؟ فقال: يحيى! إني أحب أن أسمع صوتك. وإذا تدبرت هذه الأشياء، تشاغلت بما هو أنفع لك من حصول ما فاتك، من رفع خلل، أو اعتذار من زلل، أو وقوف على الباب إلى رب الأرباب.   1 يحيى بن مسلم، شيخ بصري، من موالي الأزد، تابعي، حدث عن ابن عمر رضي الله عنهما، توفي سنة "130 هـ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 39- فصل: من نزلت به بلية 208- من نزلت به بلية، فأراد تمحيقها1، فليتصورها أكبر مما هي تهن، وليتخايل ثوابها، وليتوهم نزول أعظم منها، ير الربح في الاقتصار عليها. ولتلمح سرعة زوالها، فإنه لولا كرب الشدة، ما رجيت ساعات الراحة، وليعلم أن مدة مقامها عنده كمدة مقام الضيف، فيتفقد حوائجه في كل لحظة، فيا سرعة انقضاء مقامه! ويا لذة مدائحه وبشره في المحافل، ووصف المضيف بالكرم! 209- فكذلك "المؤمن في" الشدة، ينبغي أن يراعي الساعات، ويتفقد فيها أحوال النفس، ويتلمح الجوارح، مخافة أن تبدو من اللسان كلمة، أو من القلب تسخط، فكأن قد لاح فجر الأجر، فانجاب2 ليل البلاء، ومدح الساري بقطع الدجى، فما طلعت شمس الجزاء، إلا وقد وصل إلى منزل السلامة.   1 تمحيقها: تصغيرها وإزالتها. 2 انجاب: انكشف وزال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 40- فصل: فضل العلم وفوائده 210- لما رأيت رأي نفسي في العلم حسنًا، فهي تقدمه على كل شيء، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 وَتَعْتَقِدُ الدليل، وتفضل ساعة التشاغل به على ساعات النوافل، وتقول: أقوى دليل لي على فضله على النوافل: أني رأيت كثيرًا ممن شغلتهم نوافل الصلاة والصوم عن نوافل العلم عاد ذلك عليهم بالقدح في الأصول، فرأيتها في هذا الاتجاه على الجادة السليمة1 والرأي الصحيح. 211- إلا أني رأيتها واقفة مع صورة التشاغل بالعلم، فصحت بها: فما الذي أفادك العلم؟! أين الخوف؟! أين القلق؟! أين الحذر؟! أو ما سمعت بأخبار أخيار الأحبار في تعبدهم واجتهادهم؟! أما كان الرسول صلى الله عليه وسلم سيد الكل، ثم إنه قام حتى ورمت قدماه2؟! أما كان أبو بكر رضي الله عنه شجي النشيج، كثير البكاء؟! أما كان في خد عمر رضي الله عنه خطان3 من آثار الدموع؟! أما كان عثمان رضي الله عنه يختم القرآن في ركعة؟! أما كان علي رضي الله عنه يبكي بالليل في محرابه حتى تخضل لحيته بالدموع، ويقول: يا دنيا غري غيري4؟! أما كان الحسن البصري يحيا على قوة القلق. أما كان سعيد بن المسيب ملازمًا للمسجد، فلم تفته صلاة في جماعة أربعين سنة؟! أما صام الأسود بن يزيد5 حتى اخضر واصفر؟!   1 في حاشية الأصل: في الأحمدية: الجادة السهلة. 2 رواه البخاري "1130"، ومسلم "2819"، عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، وتمامه: فيقال له؟ فيقول: "أفلا أكون عبدًا شكورًا". 3 في الأصل: خطين. 4 صفة الصفوة "1/ 316"ط. دار الوعي بحلب. 5 أبوعمرو النخعي الكوفي: الإمام القدوة، وهو ابن أخي علقمة بن قيس، وخال إبراهيم النخعي، فهؤلاء أهل بيت من رؤوس العلم والعمل، كان الأسود مخضرمًا، أدرك الجاهلية والإسلام، توفي سنة "75هـ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 أما قالت ابنة الربيع بن خثيم له: ما لي أرى الناس ينامون وأنت لا تنام؟! فقال: إن أباك يخاف عذاب البيات؟! أما كان أبو مسلم الخولاني1 يعلق سوطًا في المسجد يؤدب به نفسه إذا فتر؟! أما صام يزيد الرقاشي2 أربعين سنة، وكان يقول: وا لهفاه! سبقني العابدون، وقطع بي؟! أما صام منصور بن المعتمر3 أربعين سنة؟! أما كان سفيان الثوري يبكي الدم من الخوف؟! أما كان إبراهيم بن أدهم يبول الدم من الخوف؟! أما تعلمين أخبار الأئمة الأربعة في زهدهم وتعبدهم، أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد؟! احذري من الإخلاد إلى صورة العلم مع ترك العمل به، فإنها حالة الكسالى الزمنى: وخذ لك منك على مُهْلَةٍ ... ومقبل عيشك لم يدبر وخف هجمةً لا تقيل العثار ... وتطوي الورود على المصدر4 ومثل لنفسك أي الرعيل ... يضمك في حلبة المحشر5   1 عبد الله بن ثوب الخولاني: ريحانة الشام وحكيم الأمة، تابعي فقيه، عابد زاهد، ولد باليمن، أسلم قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره، وهاجر إلى الشام، ووفاته بدمشق، وقبره بداريا، توفي سنة "62هـ". 2 يزيد بن أبان الرقاشي البصري القاص الزاهد أبو عمرو، توفي بين سنتي "110-120هـ". 3 السلمي الكوفي، أبو عتاب الحافظ الثبت القدوة، أحد الأعلام، توفي سنة "133هـ". 4 في حاشية الأصيل: في هامش الهندية: الروابي، بدل الورود. 5 في حاشية الأصيل: في هامش الهندية: الرعيل بالعين المهملة والياء المثناة التحتية قال في النهاية: يقال للقطعة من الفرسان: رعلة، ولجماعة الخيل: رعيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 41- فصل: في غلو بعض المتزهدين . 212- مما يزيد العلم عندي فضلًا: أن قومًا تشاغلوا بالتعبد عن العلم، فوقفوا عن الوصول إلى حقائق الطلب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 فروي عن بعض القدماء أنه قال لرجل: يا أبا الوليد! إن كنت أبا الوليد! يتورع أن يكنيه ولا ولد له! ولو أوغل هذا في العلم، لعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كَنَّى صهيبًا أبا يحيى1، وكنَّى طفلًا [فقال] : "يا أبا عُمَيْرٍ! ما فَعَلَ النُّغَيْرُ؟ " 2. 213- وقال بعض المتزهدين: قيل لي يومًا: كل من هذا اللبن! فقلت: هذا يضرني. ثم وقفت بعد مدة عند الكعبة، فقلت: اللهم! إنك تعلم أني ما أشركت بك طرفة عين. فهتف بي هاتف: ولا يوم اللبن؟! وهذا لو صح؛ جاز أن يكون تأديبًا له؛ لئلا يقف مع الأسباب ناسيًا للمسبب، وإلا، فالرسول صلى الله عليه وسلم قد قال: "ما زالت أكلة خيبر تعاودني حتى الآن قطعت أبهري" 3، وقال: "ما نفعني مال كمال أبي بكر" 4. 214- ومن المتزهدين أقوام يرون التوكل قطع الأسباب كلها، وهذا جهل بالعلم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم: دخل الغار5، وشاور الطبيب6، ولبس الدرع7، وحفر الخندق8، ودخل مكة في جوار المطعم بن عدي، وكان كافرًا9، وقال لسعد: "لأن تدع ورثتك أغنياء خير لك من أن تدعهم عالة يتكففون الناس". فالوقوف مع الأسباب مع نسيان المسبب غلط، والعمل على الأسباب مع تعلق القلب بالمسبب هو المشروع، وكل هذه الظلمات إنما تقطع بمصباح العلم، ولقد ضل من مشى في ظلمة الجهل، أو في زقاق الهوى.   1 رواه الحاكم "3/ 398-400" عن أنس وصهيب رضي الله عنهما. 2 رواه البخاري "6129"، ومسلم "2150" عن أنس رضي الله عنه. والنغير طائر يشبه العصفور أحمر المنقار. 3 رواه البخاري "4428" عن عائشة رضي الله عنها. 4 رواه الترمذي "3661"، وأحمد "2/ 253-366"، وابن ماجة "94"، وابن حبان "2166و 6858" عن أبي هريرة رضي الله عنه. 5 رواه البخاري "3905" عن عائشة رضي الله عنها. 6 عن جابر قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بن كعب طبيبًا، فقطع منه عرقًا، ثم كواه عليه، رواه مسلم "2207". 7 قال الهيثمي في المجمع "6/ 108": رواه أبو يعلى، ورجاله رجال الصحيح. 8 رواه البخاري "4101-4104"، ومسلم "1803" عن البراء رضي الله عنه. 9 ذكره ابن هشام في السيرة ص "334". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 42- فصل: شرف الإنسان 215- ما أزال أتعجب ممن يرى تفضيل الملائكة على الأنبياء والأولياء! فإن كان التفضيل بالصور، فصورة الآدمي أعجب من ذوي أجنحة، وإن تركت صورة الآدمي لأجل أوساخها المنوطة بها، فالصورة ليست الآدمي، إنما هي قالب! ثم قد استحسن منها ما يستقبح في العادة، مثل: خلوف فم الصائم، ودم الشهداء1، والنوم في الصلاة2، فبقيت صورة معمورة، وصار الحكم للمعنى. ألهم مرتبة يحبهم أو فضيلة يباهي بهم؟! وكيف دار الأمر، فقد سجدوا لنا، وهو صريح في تفضيلنا عليهم. 216- فإن كانت الفضيلة بالعلم، فقد علمت القصة يوم: {لا عِلْمَ لَنَا} [البقرة: 32] {يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ} [البقرة:33] . وإن فضلت الملائكة بجوهرية ذواتهم، فجوهرية أرواحنا من ذلك الجنس، وعلينا أثقال أعباء الجسم. بالله، لولا احتياج الراكب إلى الناقة، فهو يتوقف لطلب علفها، ويرفق في السير بها، لطرق أرض منى قبل العشر3. 217- واعجبًا! أتفضل الملائكة بكثرة التعبد؟! فما ثم صعاد4. أو يتعجب من الماء إذا جرى، أو من منحدر يسرع؟! إنما العجب من مصاعد يشق الطريق، ويغالب العقبات! 218- بلى، قد يتصور منهم الخلاف، ودعوى الإلهية؛ لقدرتهم على دك الصخور وشق الأرض، لذلك تواعدوا: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 29] ، لكنهم يعلمون عقوبة الحق فيحذرونه.   1 رواه البخاري "237"، ومسلم "1876" عن أبي هريرة رضي الله عنه. 2 عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من امرئ تكون له صلاة بليل فغلبه عليها نوم إلا كتب الله له أجر صلاته، وكان نومه صدقة عليه"، رواه أبو داود "1314"، والنسائي "1783، 1784". 3 العشر: عشر ذي الحجة. 4 الصعاد: الرقي والارتفاع، وفي حاشية الأصل: في الأحمدية: فما ثم صاد. قلت: أي مانع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 219- فأما بعدنا عن المعرفة الحقيقية، وضعف يقيننا بالناهي، وغلبة شهوتنا مع الغفلة، فيحتاج إلى جهاد أعظم من جهادهم. تالله، لو ابتلي أحد المقربين بما ابتلينا به، لم يقدر على التماسك، يصبح أحدنا، وخطاب الشرع يقول له: اكسب لعائلتك، واحذر في كسبك! وقد تمكن منه ما ليس من فعله، كحب الأهل، وعلوق الولد بنياط القلب، واحتياج بدنه إلى ما لا بد منه. فتارة يقال للخليل عليه السلام: اذبح ولدك بيدك! واقطع ثمرة فؤادك بكفك! ثم قم إلى المنجنيق لترمى في النار! وتارة يقال لموسى عليه السلام: صم شهرًا؛ ليلًا ونهارًا. ثم يقال للغضبان: اكظم! وللبصير: اغضض! ولذي المقول: اصمت! ولمستلذ النوم: تهجد! ولمن مات حبيبه: اصبر! ولمن أصيب في بدنه: اشكر! وللواقف في الجهاد بين اثنين: لا يحل أن تفر! ثم اعلم أن الموت يأتي بأصعب المرارات، فينزع الروح عن البدن، فإذا نزل، فاثبت! واعلم أنك ممزق في القبر، فلا تتسخط؛ لأنه مما يجري به القدر! وإن وقع بك مرض، فلا تشك إلى الخلق! فهل للملائكة من هذه الأشياء شيء؟! وهل ثم إلا عبادة ساذجة: ليس فيها مقاومة طبع، ولا رَدُّ هَوًى؟! وهل هي إلا عبادة صورية بين ركوع وسجود وتسبيح؟! فأين عبادتهم المعنوية من عبادتنا؟! 220- ثم أكثرهم في خدمتنا، بين كتبة علينا، ودافعين عنا، ومسخرين لإرسال الريح والمطر، وأكثر وظائفهم الاستغفار لنا. فكيف يفضلون علينا بلا علة ظاهرة؟! 221- وأما إذا ما حكت على محك التجارب طائفة منهم -مثل ماروي عن هاروت وماروت1-، خرجوا أقبح من بهرج2. 222- ولا تظنن أني أعتقد في تعبد الملائكة نوع تقصير؛ لأنهم شديدو   1 قصة هارون وماروت والزهرة قال عنها العلامة محدث الديار المصرية الشيخ أحمد شاكر في شرح المسند "6178"، ما خلاصته: طرقها واهية معلولة، مع مخالفتها الواضحة للعقل. 2 البهرج: الزائف الفاسد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 الإشفاق والخوف، لعلمهم بعظمة الخالق، لكن طمأنينة من لم يخطئ تقوي نفسه، وانزعاج الغائص في الزلل يرقي روحه إلى التراقي1. 223- فاعرفوا -إخواني- شرف أقداركم، وصونوا جواهركم عن تدنيسها بلؤم الذنوب، فأنتم معرض الفضل على الملائكة، فاحذروا أن تحكم الذنوب إلى حضيض البهائم، فأنتم معرض الفضل على الملائكة، فاحذروا أن تحطكم الذنوب إلى حضيض البهائم! ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.   1 التراقي: جمع ترقوة، وهي عظم بين ثغرة النحر والعاتق، ويكنى ببلوغ الروح إلى التراقي عن الإشراف على الموت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 43- فصل : إذا كانت بعض المخلوقات لا تُعْلَمُ إلا جملة فالخالق أجل وأعلى 224- رأيت كثيرًا من الخلق وعالمًا من العلماء لا ينتهون عن البحث، عن أصول الأشياء التي أمروا بعلم جملها2 من غير بحث عن حقائقها! كالروح مثلًا، فالله تعالى سترها بقوله: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] ، فلم يقنعوا، وأخذوا يبحثون عن ماهيتها، ولا يقعون بشيء3، ولا يثبت لأحد منهم برهان على ما يدعيه! وكذلك العقل، فإنه موجود بلا شك، كما أن الروح موجودة بلا شك، كلاهما يعرف بآثاره، لا بحقيقة ذاته. 225- فإن قال قائل: فما السر في كتم هذه الأشياء؟ قلت: لأن النفس ما تزال تترقى من حالة إلى حالة، فلو اطلعت على هذه الأشياء، لترقت إلى خالقها، فكان ستر ما دونه زيادة في تعظيمه؛ لأنه إذا كان بعض مخلوقاته يعلم جملة4، فهو أجل وأعلى. 226- ولو قال قائل: ما الصواعق؟ وما البرق؟ وما الزلازل؟ قلنا: شيء مزعج، ويكفي. والسر في ستر هذا: أنه لو كشفت حقائقه، خف مقدار تعظيمه5. ومن تلمح هذا الفصل، علم أنه فصل عزيز.   1 التراقي: جمع ترقوة، وهي عظم بين ثغرة النحر والعاتق، ويكنى ببلوغ الروح إلى التراقي عن الإشراف على الموت. 2 في الأصل: جهلها. وهو تصحيف. 3 لا يقعون بشيء: لا يجدون شيئًا. 4 في هامش الأصيل: في النسختين: يعلم جملة وفي الهندية: يجهل يعلم جهله. 5 قلت: بل يزيد، قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] فمعرفة العلماء أجل وأرسخ من معرفة العوام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 227- فإذا ثبت هذا في المخلوقات، فالخالق أجل وأعلى، فينبغي أن يوقف في إثباته على دليل وجوده، ثم يستدل على جواز بعثه رسله، ثم تتلقى أوصافه من كتبه ورسله به، ولا يزاد على ذلك. ولقد بحث خلق كثير من صفاته بآرائهم، فعاد وبال ذلك عليهم. 228- وإذا قلنا: أنه موجود، وعلمنا من كلامه أنه سميع بصير حي قادر ... كفانا هذا في صفاته، ولا نخوض في شيء آخر. وكذلك نقول: متكلم، والقرآن كلامه، ولا نتكلف ما فوق ذلك. ولم يقل السلف: تلاوة ومتلو، وقراءة ومقروء. ولا قالوا: استوى على العرش بذاته. ولا قالوا: ينزل بذاته ... بل أطلقوا ما ورد من غير زيادة. و [لا] نقول لما ثبت بالدليل ما لا يجوز عليه. وهذه كلمات كالمثال، فقس عليها جميع الصفات، تفز سليمًا من تعطيل، متخلصًا من تشبيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 44- فصل: إنما تصلح الحياة بالتفاوت بين العباد 229- رأيت أكثر الخلق في وجودهم كالمعدومين، فمنهم من لا يعرف الخالق. ومنهم من يثبته على مقتضى حسه. ومنهم من لا يفهم المقصود من التكليف. 230- وترى المتوسمين بالزهد يدأبون في القيام والقعود، ويتركون الشهوات، وينسون ما قد أنسوا به من شهوة الشهرة، وتقبيل الأيادي!! ولو كلم أحدهم، قال: ألمثلي يقال هذا؟! ومن فلان الفاسق؟! فهؤلاء لا يفهمون المقصود. وكذلك كثير من العلماء في احتقارهم غيرهم، والتكبر في نفوسهم، فتعجبت، كيف يصلح هؤلاء لمجاورة الحق، وسكنى الجنة؟! 231- فرأيت أن الفائدة في وجودهم في الدنيا تجانس الفائدة في دخولهم الجنة، فإنهم في الدنيا بين معتبر به، يعرف عارف الله سبحانة نعمة الله عليه، بما كشف له مما غطى عن ذاك، ويتم النظام بالاقتداء يصور أولئك، [أو تابع يتم به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 العمران، وتقوم به المعايش، وإنما تصلح الحياة بهذا التفاوت البعيد. 232- ثم بين الخاصة فروق:] 1 فإن العارف لا يتسع وقته لمخالطة من يقف مع الصورة؛ فالزاهد كراعي البهم، والعالم كمؤدب الصبيان، والعارف كملقن الحكمة. ولولا نفاط2 الملك وحارسه ووقاد أتونه3، ما تم عيشه. 233- فمن تمام عيش العارف استعمال أولئك بحسبهم، فإذا وصلوا إليه، حرر ما معهم4، وفيهم من لا يصل إليه، فيكون وجود أولئك كزيادة "لا" في الكلام، هي حشو، وهي مؤكدة. 234- فإن قال قائل: فهب هذا يصح في الدنيا، فكيف في الجنة؟! والجواب: أن الأنس بالجيران مطلوب، ورؤية القاصر من تمام لذة الكامل5، ولكل شرب، ومن تأمل ما أشرت إليه، كفاه رمز لفظي عن تطويل الشرح.   1 زيادة من بعض النسخ المطبوعة. 2 النفاط: رامي النفط. وفي حاشية الأصل: في الأحمدية: نغاط بالغين المعجمة والظاء المشالة. 3 الأتون: الموقد الكبير. 4 في الأحمدية والمصرية: مانعهم. 5 في حاشية الأصل: في المصرية والأحمدية: لذة الكلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 45- فصل: من حكمة الله في النبات 235- لما تلمحت تدبير الصانع في سوق رزقي، بتسخير السحاب، وإنزال المطر برفق، والبذر [دفين] تحت الأرض كالموتى، قد عفن ينتظر نفخة من صور الحياة، فإذا [أصابته] 1، اهتز خضرًا، و [إذا] انقطع عنه الماء، مد يد الطلب يستعطي، وأمال رأسه خاضعًا، ولبس حلل التغير، فهو محتاج إلى ما أنا محتاج إليه من حرارة الشمس، وبرودة الماء، ولطف النسيم، وتربية الأرض! فسبحان من أراني -فيما يربيني به- كيف تربيتي في الأصل. 236- فيا أيتها النفس التي قد اطلعت على بعض حكمه! قبيح بك -والله-   1 في الأصل: به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 الإقبال على غيره، ثم العجب! كيف تقبلين على فقير مثلك، يناديني لسان حاله: "بي مثل ما بك يا حمام" فارجعي إلى الأصل الأول، واطلبي من المسبِّب، ويا طوبى لك إن عرفته! فإن عرفانه ملك الدنيا والآخرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 46- فصل : احذروا الترخّص فيما لا يؤمن فساده 237- كنت في بداية الصبوة1 قد ألهمت سلوك طريق الزهاد، بإدامة الصوم والصلاة، وحببت إلي الخلوة، فكنت أجد قلبًا طيِّبًا، وكانت عين بصيرتي قوية الحدة، تتأسف على لحظة تمضي في غير طاعة، وتبادر2 الوقت في اغتنام الطاعات، ولي نوع أنس، وحلاوة مناجاة، فانتهى الأمر إلى أن صار بعض ولاة الأمور يستحسن كلامي، فأمالني إليه، فمال الطبع، ففقدت تلك الحلاوة. ثم استمالني آخر، فكنت أتقي مخالطته ومطاعمه لخوف الشبهات، وكانت حالتي قريبة، ثم جاء التأويل، فانبسطت فيما يباح، فعدم ما كنت أجد من استنارة وسكينة، وصارت المخالطة توجب ظلمة في القلب، إلى أن عدم النور كله، فكان حنيني إلى ما ضاع مني يوجب انزعاج أهل المجلس، فيتوبون ويصلحون، وأخرج مفلسًا فيما بيني وبين حالي! 238- وكثر ضجيجي من مرضي، وعجزت عن طلب نفسي، فلجأت إلى قبول الصالحين، وتوسلت في صلاحي، فاجتذبني لطف مولاي بي إلى الخلوة على كراهة مني، ورد قلبي على بعد نفور مني، وأراني عيب ما كنت أوثره، فأفقت من مرض غفلتي، وقلت في مناجاة خلوتي: "سيدي كيف أقدر على شكرك؟ وبأي لسان أنطق بمدحك، إذ لم تؤاخذني على غفلتي، ونبهتني من رقدتي، وأصلحت حالي على كره من طبعي؟! فما أربحني فيما سلب مني إذا كانت ثمرته اللجأ إليك! وما أوفر جمعي إذ ثمرته إقبالي3 على الخلوة بك! وما أغناني إذ أفقرتني   1 الصبوة: الصِّبا. 2 تبادر: تسارع. 3 في حاشية الأصل: في الأصل: إقبالك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 إليك! وما آنسني إذ أوحشتني من خلقك1! آهٍ على زمانٍ ضاع في غير خدمتك! أَسَفًا لوقتٍ مضى في غير طاعتك. 239- قد كنت إذا انتبهت وقت الفجر لا يؤلمني نومي طول الليل، وإذا انسلخ عني النهار لا يوجعني ضياع ذلك اليوم، وما علمت أن عدم الإحساس لقوة المرض. فالآن قد هبت نسائم العافية، فأحسست بالألم، فاستدللت على الصحة، فيا عظيم الإنعام! تَمِّمْ لي العافية. 240- آهٍ من سكر لم يعلم قدر عربدته إلا في وقت الإفاقة! لقد فتقت ما يصعب رتقه، فوا أَسَفَا على بضاعة ضاعت، وعلى ملاح تعب في موج الشمال مصاعِدًا مدة، ثم غلبه النوم، فرد إلى مكانه الأول. 241- يا من يقرأ تحذيري من التخليط2! فإني -وإن كنت خنت نفسي بالفعل- نصيح لإخواني بالقول: احذروا -إخواني- من الترخص فيما لا يؤمن فساده؛ فإن الشيطان يزين المباح في أول مرتبة، ثم يجر إلى الجناح2، فتلمحوا المآل، وافهموا الحال! وربما أراكم الغاية الصالحة، وكان في الطريق إليها نوع مخالفة! فيكفي الاعتبار في تلك الحال بأبيكم: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} [طه: 120] ، إنما تأمل آدم الغاية -وهي الخلد- ولكنه غلط في الطريق. 242- وهذا أعجب مصايد إبليس التي يصيد بها العلماء، يتأولون لعواقب المصالح، فيستعجلون ضرر المفاسد!! مثاله: أن يقول للعالم: ادخل على هذا الظالم، فاشفع في مظلوم! فيستعجل الداخل رؤية المنكرات، ويتزلزل دينه، وربما وقع في شرك صار به أظلم من ذلك الظالم. فمن لم يثق بدينة، فليحذر من المصايد، فإنها خفية.   1 في الأصل: إذ أوحشتني بالتجارب لخلقك. 2 التخليط: الجمع بين العمل الصالح والعمل الطالح. 3 الجناح: الإثم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 243- وَأَسْلَمُ ما للجبان العزلة، خصوصًا في زمان قد مات فيه المعروف، وعاش المنكر، ولم يبق لأهل العلم وقع عند الولاة، فمن داخلهم، دخل معهم فيما لا يجوز، ولم يقدر على جذبهم مما هو فيه. 244- ثم من تأمل حال العلماء الذين يعملون لهم في الولايات، يراهم منسلخين من نفع العلم، قد صاروا كالشرط، فليس إلا العزلة عن الخلق، والإعراض عن كل تأويل فاسد في المخالطة؛ ولأن أنفع نفسي وحدي خير لي من أن أنفع غيري وأتضرر. 245- فالحذر الحذر من خوادع التأويلات، وفواسد الفتاوى! والصبر الصبر على ما توجبه العزلة! فإنه إن انفردت بمولاك، فتح لك باب معرفته، فهان كل صعب، وطاب كل مر، وتيسر كل عسر، وحصلت كل مطلوب، والله الموفق بفضله، ولا حول ولا قوة إلا به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 47- فصل : إن الله لا يُخادع 246- تأملت في نفسي تأويلًا في مباح أنال به شيئًا من الدنيا؛ إلا أنه في باب الورع كدر، فرأيته أولًا قد احتلب در1 الدين، فذهبت حلاوة المعاملة لله تعالى، ثم عاد فقلص2 ضرع حلبي له، فوقع الفقد للحالين. فقلت لنفسي: ما مثلك إلا كمثل وال ظالم، جمع [مالًا] من غير حله، فصودر، فأخذ منه الذي جمع، وألزم3 ما لم يجمع. فالحذر الحذر من فساد التأويل، فإن الله تعالى لا يُخَادَعُ، ولا ينال ما عنده بمعصيته.   1 الدر: الحلب. 2 قلص: انكمش ولم يحلب. 3 في الأصل: اجتر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 48- فصل: إصلاح البدن سبب لإصلاح الدين 247- رأيت نفسي كلما صفا فكرها، أو اتعظت بدارج1، أو زارت قبور   1 الدارج: الشخص المتوفى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 الصالحين، تتحرك همتها في طلب العزلة، والإقبال على معاملة الله تعالى. فقلت لها يومًا وقد كلمتني في ذلك: حدثيني، ما مقصودك؟! وما نهاية مطلوبك؟! أتراك تريدين مني أن أسكن قفرًا لا أنيس به، فتفوتني صلاة الجماعة، ويضيع مني ما قد علمته لفقد من أعلمه، وأن آكل الجشب1 الذي لم أتعوده، فيقع نضوي2 طلحًا3 في يومين، وأن ألبس الخشن الذي لا أطيقه، فلا أدري من كرب محمولي من أنا، وأن أتشاغل عن طلب ذرية تتعبد بعدي، مع بقاء القدرة على الطلب؟! بالله، ما نفعني العلم الذي بذلت فيه عمري إن وافقتك! 248- وأنا أعرفك غلط ما وقع لك بالعلم: اعلمي أن البدن مطية، والمطية إذا لم يرفق بها، لم تصل براكبها إلى المنزل، وليس مرادي بالرفق الإكثار من الشهوات، وإنما أعني أخذ البلغة4 الصالحة للبدن، فحينئذ يصفو الفكر، ويصح العقل، ويقوى الذهن. ألا ترين5 إلى تأثير المعوقات عن صفاء الذهن في قوله عليه الصلاة والسلام: "لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان"، وقاس العلماء على ذلك الجوع، وما يجري مجراه من كونه حاقنًا أو حاقبًا6؟! وهل الطبع إلا ككلب يشغل الآكل، فإذا رمى له ما يتشاغل به، طاب له الأكل؟! 249- فأما الانفراد والعزلة، فعن الشر لا عن الخير، ولو كان فيها لك وقع خير، لنقل ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه رضي الله عنهم. 250- هيهات! لقد عرفت أن أقوامًا دام بهم التقلل واليبس إلى أن تغير فكرهم، وقوي الخلط السوداوي7 عليهم، فاستوحشوا من الناس! ومنهم من   1 الجشب: الطعام الخشن. 2 نضوي: جسمي. 3 طلحًا: مريضًا. 4 البلغة: ما يسد الرمق. 5 في الأصل: ترى. 6 في حاشية الأصل: الحاقن: بالبول، والحاقب: بالغائط. 7 السوداوي: المصاب باضطراب مصحوبة بالحزن العميق المزمن، والتشاؤم الدائم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 اجتمعت له من المآكل الردية أخلاط1 مجة2، فبقي اليوم واليومين والثلاثة لا يأكل، وهو يظن ذلك من أمداد اللطف، وإذا به من سوء الهضم! وفيهم من ترقى به الخلط إلى رؤية الأشباح، فيظنها الملائكة!! 251- فاللهَ اللهَ في العلم! واللهَ اللهَ في العقل! فإن نور العقل لا ينبغي أن يتعرض لإطفائه، والعلم لا يجوز الميل إلى تنقيصه، فإذا حفظا، حفظا وظائف الزمان، ودفعا ما يؤذي، وجلبا ما يصلح، وصارت القوانين مستقيمة في المطعم والمشرب والمخالطة. 252- فقالت لي النفس: فوظف لي وظيفة، واحسبني مريضًا قد كتبت له شربة. فقلت لها: قد دللتك على العلم، وهو طبيب ملازم، يصف كل لحظة لكل داء يعرض دواء يلائم. 253- وفي الجملة: ينبغي لك ملازمة تقوى الله عز وجل في المنطق والنظر وجميع الجوارح، وتحقق الحلال في المطعم، وإيداع كل لحظة ما يصلح لها من الخير، ومناهبة الزمان3 في الأفضل، ومجانبة ما يؤدي إلى ما يؤدي من نقص ربح، أو وقوع خسران! ولا تعملي عملًا إلا بعد تقديم النية. وتأهبي لمزعج الموت، فكان قد4، وما عندك من مجيئة في أي وقت يكون! الصواب، لا على مقتضى الهوى، فإن إصلاح البدن سبب لإصلاح الدين! ودعي الرعونة التي يدل عليها الجهل لا العلم، من قول النفس: فلان يأكل الخل والبقل! وفلان لا ينام الليل! فاحملي ما تطيقين وما قد علمت قوة البدن عليه، فإن البهيمة إذا أقبلت إلى نهر أو ساقية، فضربت لتقفز، لم تفعل حى تزن نفسها، فإن علمت فيها قوة   1 قال الأطباء الأقدمون: إن الجسم مركب من أربعة أخلاط بها قوامه، ومنها صلاحه وفساده وهي: الصفراء والدم والبلغم والسوداء. 2 المجة: التي ترفضها النفس ولا تقبلها عادة. 3 مناهبة الزمان: اغتنام الوقت. 4 فكأن قد: كأن قد جاء الموت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 الطفر1؛ طفرت، وإن علمت أنها لا تطيق، لم تفعل، ولو قتلت. وليس كل الأبدان تتساوى في الإطاقة، ولقد حمل أقوام من المجاهدات في بداياتهم أشياء أوجبت أمراضًا قطعتهم عن خير، وتسخطت قلوبهم بوقوعها، فعليك بالعلم، فإنه شفاء من كل داء، والله الموفق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 49- فصل: مسألة الصفات 255- عجبت من أقوام يدعون العلم، ويميلون إلى التشبيه، بحملهم الأحاديث على ظواهرها، فلو أنهم أمروها كما جاءت، سلموا؛ لأن من أمر ما جاء، ومر من غير اعتراض ولا تعرض، فما قال شيئًا، لا له ولا عليه. 256- ولكن أقوامًا قصرت علومهم؛ فرأت أن حمل الكلام على غير ظاهره نوع تعطيل، ولو فهموا سعة اللغة، لم يظنوا هذا، وما هم إلا بمثابة قول الحجاج لكاتبة وقد مدحته الخنساء2 فقالت: إِذَا هَبَطَ الحَجَّاجُ أرضًا مريضَةً ... تَتَبَّعَ أَقْصَى دَائِهَا فَشَفَاهَا شَفَاهَا مِنَ الدَّاءِ العُضَالِ الَّذِي بِهَا ... غُلَامٌ إِذَا هَزَّ القَنَاةَ شَفَاهَا فلما أتمت القصيدة، قال لكاتبه: اقطع لسانها! فجاء ذاك الكاتب المغفل بالموسى، فقالت له: ويلك! إنما قال: أجزل لها العطاء، ثم ذهبت إلى الحجاج، فقالت: كاد والله يقطع مِقْوَلِي. 257- فكذلك الظاهرية3 الذين لم يسلموا بالتسليم، فإنه من قرأ الآيات والأحاديث ولم يزد، لم ألُمْه، وهذه طريقة السلف.   1 الطفر: الوثب في ارتفاع. 2 كذا في الأصل، وهذا لا يعقل، إذ الخنساء -وهي تماضر بنت عمرو بن الشريد السلمية- قد توفيت سنة "24 هـ"، والحجاج بن يوسف الثقفي والي العراق قد ولد سنة "40هـ" أي بعد وفاتها بست عشرة سنة. والصواب أن التي مدحته هي ليلى الأخيلية، وهي ليلى بنت عبد الله بن الرحال من بني عامر بن صعصعة، كما في الأغاني "11/ 167" وهي شاعرة فصيحة ذكية جميلة، اشتهرت بأخبارها مع توبة بن الحمير، وتوفيت سنة "80هـ". 3 الظاهرية: سميت بذلك لأخذها بظاهر الكتاب والسنة، وإعراضها عن التأويل والرأي والقياس، وإمامها هو داود بن علي بن خلف الأصبهاني، أبو سليمان الملقب بالظاهري "201-270هـ" ومن أئمة الظاهرية ابن حزم الأندلسي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 فَأَمَّا من قال: الحديث يقتضي كذا، ويحمل على كذا، مثل أن يقول: استوى على العرش بذاته، وينزل إلى السماء الدنيا بذاته، فهذه زيادة فهمها قائلها من الحس لا من النقل. 258- ولقد عجبت لرجل أندلسي يقال له: ابن عبد البر1، صنف كتاب التمهيد، فذكر فيه حديث النزول إلى السماء الدنيا، فقال: هذا يدل على أن الله تعالى على العرش؛ لأنه لولا ذلك، لما كان لقوله: ينزل معنى. وهذا كلام جاهل2 بمعرفة الله عز وجل؛ لأن هذا استسلف من حسه ما يعرفه من نزول الأجسام، فقاس صفة الحق عليه3، فأين هؤلاء واتباع الأثر؟! ولقد تكلموا بأقبح ما يتكلم به المتأولون، ثم عابوا المتكلمين. 259- واعلم أيها الطالب للرشاد أنه قد سبق إلينا من العقل والنقل أصلان راسخان، عليهما أمر الأحاديث كلها: أما النقل؛ فقوله سبحانه وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] ، ومن فهم هذا، لم يحمل وصفًا له على ما يوجبه الحس. وأما العقل، فإنه قد علم مباينة الصانع للمصنوعات، واستدل على حدوثها بتغيرها، ودخول الانفعال عليها، فثبت له قدم الصانع4. 260- واعجَبًا كل العجب من رَادٍّ لم يفهم طبيعة الكلام! أليس في الحديث   1 يوسف بن عبد الله التمري القرطبي، أبو عمرو، من كبار حفاظ الحديث، ومؤرخ وأديب، ولد بقرطبة سنة "368هـ"، وتوفي بشاطبة "463هـ". 2 كلام العلماء في حق بعضهم بعضًا لا يلتفت إليه، ولا ينزل بمرتبتهم، ويسمى عند العلماء كلام الأقران. 3 أثبت الله تعالى لنفسه النزول، وأثبت النزول للمخلوق، والفرق بين نزول الخالق ونزول المخلوق، كالفرق بين الخالق والمخلوق: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] . 4 صفات الله توقيفية، ولم يأت وصف الله تعالى بالقدم في شيء نصوص الكتاب والسنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 الصحيح: "أَنَّ المَوْتَ يُذْبَحُ بَيْنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ"1؟! أو ليس العقل إذا استفتى في هذا، صرف الأمر عن حقيقته، لما ثبت عند من يفهم ماهية الموت، فقال: الموت عرض يوجب بطلان الحياة، فكيف يمات الموت؟! فإذا قيل له: فما تصنع بالحديث؟! قال: هذا ضرب مَثَلًا بإقامة صورة، ليعلم بتلك الصورة الحسية فوات ذلك المعنى. قلنا له: فقد روي في الصحيح: "تأتي البقرة وآل عمران كأنهما غمامتان"2. فقال: الكلام لا يكون غمامة، ولا يتشبه بها. قلنا له: أفتعطل النقل؟! قال: لا، ولكن يأتي ثوابهما. قلنا: فما الدليل الصارف لك عن هذه الحقائق. فقال: علمي بأن الكلام لا يتشبه بالأجسام، والموت لا يذبح ذبح الأنعام، "ولو"3 علمتهم سعة لغة العرب، ما ضاقت أعطانكم4 من سماع مثل هذا. فقال العلماء: صدقت، هكذا تقول في تفسير مجيء البقرة، وفي ذبح الموت. فقال: وا عجبًا لكم! صرفتم عن الموت والكلام ما لا يليق بهما حفظًا لما علمتم من حقائقهما، فكيف لم تصرفوا عن الإله القديم ما يوجب التشبيه له بخلقة بما قد دل الدليل على تنزيهه عنه5؟! فما زال يجادل الخصوم بهذه الأدلة، ويقول: لا أقطع حتى أقطع، فما قطع حتى قطع6.   1 رواه البخاري "4730"، ومسلم "2849" عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وانظر في معنى الذبح فتح الباري "11/ 430". 2 رواه مسلم "804و 805" عن أبي أمامة والنواس رضي الله عنه. 3 في الأصل: ولقد. 4 أعطانكم: صدوركم. 5 انظر في مسألة الصفات كتاب الأسماء والصفات نقلًا وعقلًا للعلامة المفسر محمد الأمين الجكني الشنقيطي؛ فقد حرر المسألة وكشف الشبهات، وحل المشكلات بأيسر كلام وأوضحه. 6 أي: لا أتوقف عن الخوض في هذه المسألة حتى تقام على حجة قاطعة دامغة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 50- فصل: لطف الله تعالى بعباده 261- تفكرت في السر الذي أوجب حذف آية الرجم القرآن1 لفظًا مع   1 عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: إن الله قد بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل عليه آية الرجم، قرأناها ووعيناها وعقلناها، فرجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزل الله، وإن الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن، من الرجال والنساء، إذا قامت البينة، أو كان الحبل، أو الاعتراف، رواه البخاري "6830، مسلم 1691". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 ثبوت حكمها إجماعًا؟! فوجدت لذلك معنيين1: أحدهما: لطف الله تعالى بعباده في أنه لا يواجههم بأعظم المشاق، بل ذكر الجلد، وستر الرجم. ومن هذا المعنى قال بعض العلماء: إن الله تعالى قال في المكروهات: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] ، على لفظ لم يسم فاعله، وإن كان قد علم أنه هو الكاتب. فلما جاء إلى ما يوجب الراحة، قال: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54] . والوجه الثاني: أنه يبين بذلك فضل الأمة في بذلها النفوس قنوعًا ببعض الأدلة، فإن الاتفاق لما وقع على ذلك الحكم، كان دليلًا؛ إلا أنه ليس كالدليل المقطوع بنصه. ومن هذا الجنس شروع الخليل عليه الصلاة والسلام في ذبح ولده بمنام، وإن كان الوحي في اليقظة أكد.   1 بلى هناك معان أخرى، انظر: الفتح "4382". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 51- فصل: الأمور منوطة بالأسباب 262- عرضت لي حالة لجأت فيها بقلبي إلى الله تعالى وحده، عالمًا بأنه لا يقدر على جلب نفعي، ودفع ضري سواه، ثم قمت أتعرض بالأسباب، فأنكر علي يقيني، وقال: هذا قدح في التوكل! فقلت: ليس كذلك، فإن الله تعالى وضعها1 من الحكم، وكان معنى حالي: أن ما وضعت لا يفيد، وأن وجوده كالعدم! 263- وما زالت الأسباب في الشرع: كقوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ   1 أي: الأسباب. وفي الأصل: وضع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102] . وقال تعالى: {فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ} [يوسف: 47] . وقد ظاهر النبي صلى الله عليه وسلم بين درعين، وشاور طبيبين، ولما خرج إلى الطائف، لم يقدر على دخول مكة، حتى بعث إلى المطعم بن عدي، فقال: "أدخل في جوارك"، وقد كان يمكنه أن يدخل متوكلًا بلا سبب. 264- فإذا جعل الشرع الأمور منوطة بالأسباب، كان إعراضي عن الأسباب دفعًا للحكمة، ولهذا أرى أن التداوي مندوب إليه، وقد ذهب صاحب مذهبي1 إلى أن ترك التداوي أفضل، ومنعني الدليل من اتباعه في هذا: فإن الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أنزل الله داءً، إلا وأنزل له دواء، فتداووا"2، ومرتبة هذه اللفظة الأمر، والأمر إما أن يكون واجبًا، أو ندبًا، [إن] 3 لم يسبقه حظر، [فإن سبقه حظر] 4 فيقال: هو أمر إباحة5. وكانت عائشة رضي الله عنها تقول: تعلمت الطب من كثرة أمراض رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ينعت له6، وقال عليه الصلاة والسلام لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: "كل من هذا، فإنه أوفق لك من هذا"7. 265- ومن ذهب إلى أن تركه أفضل، احتج بقوله عليه الصلاة والسلام: "يدخل الجنة سبعون ألفًا بلا حساب"، ثم وصفهم فقال: "لا يكتوون، ولا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكولون"8. وهذا لا ينافي التداوي؛ لأنه قد كان أقوام يكتوون لئلا يمرضوا، ويسترقون لئلا تصيبهم نكبة، وقد كوى عليه الصلاة والسلم أسعد بن زرارة9، ورخص في الرقية في الحديث الصحيح10، فعلمنا أن المراد ما أشرنا إليه.   1 أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى. 2 رواه البخاري "6578" عن ابن مسعود رضي الله عنه. 3 في الأصل: ولم. 4 زيادة ليستقيم بها الكلام. 5 إن الأمر بعد النهي يفيد الإباحة، ومثاله قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} وقوله صلى الله عليه وسلم: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها" نسخ النهي، فرجع الحكم إلى الإباحة. 6 رواه أحمد "6716"، وأبو نعيم "2/ 49"، والحاكم "4/ 11". 7 رواه أبوداود "3856"، والترمذي "2038"، وابن ماجه "3442" عن أم المنذر الأنصارية رضي الله عنها. 8 رواه البخاري "5752"، ومسلم "220" عن ابن عباس رضي الله عنه. 9 رواه الترمذي "2050"، وابن ماجه "3492"، وأحمد "4/ 65"، و "5/ 3678". قلت: وقد وقع في الأصل سعد بن زرارة. وهو خطأ. 10 رواه البخاري "5741"، ومسلم "2193" عن عائشة رضي الله عنها، انظر: زاد المعاد "3/ 63". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 266- وإذا عرفت الحاجة إلى إسهال الطبع، رأيت أن أكل البلوط مما يمنع عنه علمي، وشرب ماء التمر هندي أوفق، وهذا طب، فإذا لم أشرب ما يوافقني، ثم قلت: اللهم! عافني! قالت لي الحكمة: أما سمعت: "اعقلها وتوكل"1؟! اشرب! وقل: عافني! ولا تكن كمن بين زرعه وبين النهر كف من تراب، تكاسل أن يرفعه بيده، ثم قام يصلي صلاة الاستسقاء! 267- وما هذه الحالة إلا كحال من سافر على التجريد2، وإنما سافر على التجريد؛ لأنه يجرب ربه3 عز وجل، هل يرزقه أو لا؟ وقد تقدم الأمر إليه: {وَتَزَوَّدُوا} [البقرة: 197] ، فقال: لا أتزود! فهذا هالك قبل أن يهلكه، ولو جاء وقت صلاة وليس معه ماء، لِيمَ على تفريطه، وقيل له: هلا استصحبت الماء قبل المفازة! 268- فالحذر الحذر من أفعال أقوام دققوا، فمرقوا4 عن الأوضاع الدينية، وظنوا أن كمال الدين بالخروج عن الطباع، والمخالفة للأوضاع، ولولا قوة العلم والرسوخ فيه، لما قدرت على شرح هذا ولا عرفته. فافهم ما أشرت إليه، فهو أنفع لك من كراريس تسمعها، وكن مع أهل المعاني لا مع أهل الحشو.   1 رواه الحاكم "3/ 623"، وابن حبان "731"، وقال الهيثمي في المجمع "10/ 306": رواه الطبراني من طرق ورجال أحدها رجال الصحيح، غير يعقوب بن عبد الله بن عمرو بن أمية: وهو ثقة. 2 أي: بلا زاد ولا رفقة، وفي الأصل التجربة وهو تصحيف. 3 في الأصل: "بربه". 4 مرقوا: خرجوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 أمر المؤمنين بالتنظف ... 52- فصل: أمر المؤمن بالتنظف 269- تلمحت على خلق كثير من الناس إهمال أبدانهم، فمنهم من لا ينظف فمه بالخلال1 بعد الأكل، ومنهم من لا ينقي يديه في غسلهما من الزهم2، ومنهم من لا يكاد يستاك، وفيهم من لا يكتحل، وفيهم من لا يراعي الإبط ... إلى غير ذلك، فيعود هذا الإهمال بالخلل في الدين والدنيا.   1 الخلال: أعواد ينظف بها ما بين الأسنان. 2 الزهم: الدسم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 270- أما الدين، فإنه قد أمر المؤمن بالتنظف، والاغتسال للجمعة، لأجل اجتماعه بالناس، ونهى عن دخول المسجد إذا أكل الثوم1، وأمر الشرع بتنقية البراجم2، وقص الأظفار، والسواك3، والاستحداد4 ... وغير ذلك من الآداب؛ فإذا أهمل ذلك، ترك مسنون الشرع، وربما تعدى بعض ذلك إلى فساد العبادة، مثل أن يهمل أظفاره، فيجمع تحته الوسخ المانع للماء في الوضوء أن يصل. 271- وأما الدنيا، فإني رأيت جماعة من المهملين أنفسهم يتقدمون إلى السرار5، والغفلة التي أوجبت إهمالهم أنفسهم أوجبت جهلهم بالأذى الحادث عنهم، فإذا أخذوا في مناجاة السر، لم يمكن أن أصدف6 عنهم؛ لأنهم يقصدون السر، فألقى الشدائد من ريح أفواههم، ولعل أكثرهم من وقت انتباههم ما أمر إصبعه على أسنانه!! ثم يوجب مثل هذا نفور المرأة، وقد لا تستحسن ذكر ذلك للرجل، فيثمر ذلك التفاتها عنه، وقد كان ابن عباس رضي الله عنهما يقول: إني لأحب أن أتزين للمرأة كما أحب أن تتزين لي. 272- وفي الناس من يقول: هذا تصنع! وليس بشيء، فإن الله تعالى زيننا لما خلقنا؛ لأن للعين حظًّا في النظر، ومن تأمل أهداب العين والحاجبين وحسن ترتيب الخلفة، علم أن الله زين الآدمي. 273- وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أنظف الناس، وأطيب الناس7. وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: يرفع يديه حتى تبين عفرة إبطيه8. وكان ساقه ربما انكشفت، فكأنها   1 البخاري "852-855"، ومسلم "564" عن جابر رضي الله عنه. 2 البراجم، جمع برجمة، وهي المفصل الظاهر أو الباطن من الأصابع. 3 رواه البخاري "878"، ومسلم "252" عن أبي هريرة رضي الله عنه. 4 "عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظافر، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء"، رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها، قال مصعب: ونسيت العاشرة إلا أن تكون: "المضمضة والاستحداد وحلق العانة". 5 السرار: المناجاة. 6 صدف عن الشيء: أعرض عنه. 7 رواه ابن سعد كما في صحيح الجامع "4988". 8 عفرة إبطيه: بياضهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 جمارة1. وكان لا يفارقه السواك2، وكان يكره أن يشم منه ريح ليست طيبة3. وفي حديث أنس الصحيح: " ما شانه الله ببيضاء" 4. وقد قالت الحكماء: من نظف ثوبه، قل همه، ومن طاب ريحه، زاد عقله. وقال عليه الصلاة والسلام لأصحابه: "ما لكم تدخلون عليًّ قُلْحًا؟! استاكوا" 5. وقد فضلت الصلاة بالسواك على الصلاة بغير سواك6. 274- فالمتنظف ينعم نفسه، ويرفع منها قذرها7. وقد قال الحكماء: من طال ظفره، قصرت يده. 275- ثم إنه يقرب من قلوب الخلق، وتحبه النفوس، لنظافته وطيبه. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب الطيب8. 276- ثم إنه يؤنس الزوجة بتلك الحال، فإن النساء شقائق الرجال9، فكما أنه يكره الشيء منها، فكذلك هي تكرهه، وربما صبر هو على ما يكره، وهي لا تصبر. 277- وقد رأيت جماعة يزعمون أنهم زهاد، وهم من أقذر الناس، وذلك أنهم ما قومهم العلم. 278- وأما ما يحكى عن داود الطائي10: أنه قيل له: لو سرحت لحيتك؟   1 جمارة النخل: باطن جذعها، يشير بذلك إلى بياض ساقيه ونظافتهما. 2 رواه مسلم "253". 3 رواه مسلم "565". 4 رواه مسلم "3341". 5 قال الهيثمي في المجمع "1/ 226": رواه أحمد والطبراني في الكبير واللفظ له، وفيه أبو علي الصيقل، وهو مجهول، ضعيف. والقلح: صفرة الأسنان. 6 في هامش الأصل: في المصرية: "عبدها" كذا بمهملة، وفي الأحمدية: "عندها" وفي الهندية: عدتها، وليحرر. قلت: وما أثبته فمن "أ". 7 رواه أحمد "6/ 272"، وأبو يعلى "4738"، والحاكم "1/ 146" وصححه ووافقه الذهبي. 8 رواه أبو داود والحاكم عن عائشة رضي الله عنها. 9 رواه أبو داود والترمذي وأحمد. 10 داود بن نصير الطائي، أبو سليمان، من العباد الزهاد، أصله من خراسان، مولده في الكوفة رحل إلى بغداد، وأخذ عن أبي حنيفة، وعاد إلى الكوفة، ولزم العباد إلى أن توفي سنة "165هـ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 فقال: إني عنها مشغول؛ فهذا قول معتذر عن العمل بالسنة، والإخبار عن غيبته عن نفسه بشدة خوفه من الآخرة، ولو كان مفيقًا لذلك، لم يتركه، فلا يحتج بحال المغلوبين. 279- ومن تأمل خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم، رأى كاملًا في العلم والعمل، فيه يكون الافتداء، وهو الحجة على الخلق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 53- فصل : خلق الله الحَرَّ والبرد لمصالح البدن 280- تأملت مبالغة أرباب الدنيا في اتقاء الحر والبرد، فرأيتها تعكس المقصود في باب الحكمة، وإنما تحصل مجرد لذة، ولا خير في لذة تعقب أَلَمًا. 281- فأما [في] الحر، فإنهم يشربون الماء المثلوج، وذلك على غاية في الضرر، وأهل الطب يقولون: إنه يحدث أمراضًا صعبة، يظهر أثرها في وقت الشيخوخة، ويضعون الخيوش المضاعفة. وفي البرد يصنعون اللبود المانعة للبرد. 282- وهذا من حيث الحكمة يضاد ما وضعه الله تعالى؛ فإنه جعل الحر لتحلل الأخراط، والبرد لجمودها، فيجعلون هم جميع السنة ربيعًا، فتنعكس الحكمة التي وضع الحر والبرد لها، ويرجع الأذى على الأبدان. 283- ولا يظنن سامع هذا أني آمره بملاقاة الحر والبرد. وإنما أقول له: لا يفرط في التوقي، بل يتعرض في الحر لما يحلل بعض الأخلاط إلى حد لا يؤثر في القوة، وفي البرد بأن يصيبك منه الأمر القريب لا المؤذي، فإن الحر والبرد لمصالح البدن. وقد كان بعض الأمراء يصون نفسه من الحر والبرد أصلًا، فزاد جوفه1 فمات عاجلًا، وقد ذكرت قصته في كتاب لقط المنافع في علم الطب.   1 في حاشية الأصل: كذا في الأحمدية والهندية، وفي المصرية: فبرد الحر. وفي هامش "أ": في بعض النسخ: "فتغيرت حالته". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 54- فصل: الصبر على القضاء وما يعين عليه 284- ليس في التكليف أصعب من الصبر على القضاء، ولا فيه أفضل من الرضا به. فأما الصبر، فهو فرض، وأما الرضا، فهو فضل. 285- وإنما صعب الصبر؛ لأن القدر يجري في الأغلب بمكروه النفس، وليس مكروه النفس يقف على المرض والأذى في البدن، بل هو يتنوع، حتى يتحير العقل في حكمة جريان القدر. 286- فمن ذلك أنك إذا رأيت مغمورًا بالدنيا، قد سالت له أوديتها1، حتى لا يدري ما يصنع بالمال، فهو يصوغه أواني يستعملها، ومعلوم أن البلور والعقيق والشبه قد يكون أحسن منها صورة، غير أن قلة مبالاته بالشريعة جعلت عنده وجود النهي كعدمه! ويلبس الحرير، ويظلم الناس، والدنيا منصبة عليه، ثم ترى خلقًا من أهل الدين وطلاب العلم، مغمورين بالفقر والبلاء، مقهورين تحت ولاية ذلك الظالم: فحينئذ يجد الشيطان طريقًا للوسواس، ويبتدئ بالقدح في حكمة القدر، فيحتاج المؤمن إلى الصبر على ما يلقى من ضر في الدنيا، وعلى جدال إبليس في ذلك. 287- وكذلك في تسليط الكفار على المسلمين والفساق على أهل الدين. وأبلغ من هذا إيلام الحيوان، وتعذيب الأطفال؛ ففي مثل هذه المواطن يتمحض الإيمان. 288- ومما يقوي الصبر على الحالتين: النقل، والعقل: أما النقل، فالقرآن والسنة. 289- أما القرآن، فمنقسم إلى قسمين: أحدهما: بيان سبب إعطاء الكافر والعاصي، فمن ذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} [ال عمران: 178] ، {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ   1 أي: فتحت له أبواب الرزق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ} [الزخرف: 33] ، {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} [الإسراء: 16] ... وفي القرآن من هذا كثير. والقسم الثاني: ابتلاء المؤمن بما يلقى، كقوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ} [آل عمران: 142] ، {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا} [البقرة: 214] ، {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ} [التوبة: 16] ... وفي القرآن من هذا كثير. 290- وأما السنة، فمنقسمة إلى قول وحال: أما الحال، فإنه صلى الله عليه وسلم كان يتقلب على رمال حصير تؤثر في جنبه، فبكى عمر رضي الله عنه، وقال: كسرى وقيصر في الحرير والديباج! فقال صلى الله عليه وسلم: "أفي شك أنت يا عمر؟! ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا؟! "1. وأما القول، فكقوله عليه الصلاة والسلام: "لو أن الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة، ما سقى كافرًا منها شربة ماء"2. 291- وأما العقل، فإنه يقوي عساكر الصبر بجنود منها: أن يقول: قد ثبتت عندي الأدلة القاطعة على حكمة المقدر، فلا أترك الأصل الثابت لما يظنه الجاهل خللًا. 292- ومنها: أن يقول: ما قد استهولته أيها الناظر من بسط يد العاصي هي قبض في المعنى، وما قد أثر عندك من قبض يد الطائع بسط في المعنى؛ لأن ذلك البسط3 يوجب عقابًا طويلًا، وهذا القبض4 يؤثر انبساطًا في الأجر جزيلًا، فزمان الرجلين ينقضي عن قريب، والمراحل تطوى، والركبان في السير5 الحثيث. 293- ومنها: أن يقول: قد ثبت أن المؤمن بالله كالأجير، وأن زمن التكليف   1 رواه البخاري "2468" عن عمر رضي الله عنه. 2 رواه الترمذي "2320"، وابن ماجة "4110" عن سهل بن سعد رضي الله عنه. 3 البسط: العطاء. 4 القبض: المنع أو السلب. 5 زيادة من بعض النسخ المطبوعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 كبياض نهار، ولا ينبغي للمستعمل في الطين أن يلبس نظيف الثياب؛ بل ينبغي أن يصابر ساعات العمل، فإذا فرغ، تنظف، ولبس أجود ثيابه، فمن ترفه وقت العمل، ندم وقت تفريق الأجرة، وعوقب على التواني1 فيما كلف. 294- فهذه النبذة تقوي أزر الصبر، وأزيدها بسطًا فأقول: أترى إذا أريد اتخاذ شهداء، فكيف لا يخلق أقوام يبسطون أيديهم لقتل المؤمنين؟! أفيجوز أن يفتك بعمر إلا مثل أبي لؤلؤة2؟! وبعلي إلا مثل ابن ملجم3؟! أفيصح أن يقتل يحيى بن زكريا إلا جبار كافر؟! 295- ولو أن عين الفهم زال عنها غشاء العشا، لرأت المسبب لا الأسباب، والمقتدر لا الأقدار، فصبرت على بلائه، إيثارا لما يريد. ومن هاهنا ينشأ الرضا، كما قيل لبعض أهل البلاء: ادع الله بالعافية! فقال: أحبه إلي أحبه إلى الله عز وجل!! إن كان رضاكم في سهري ... فسلام الله على وسني4   1 التواني: الضعف والفتور. 2 فيروز الفارسي المجوسي، قاتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه. 3 عبد الرحمن بن ملجم المرادي الخارجي، قاتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه. 4 الوسن: النوم الخفيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 55- فصل: الرضا بالقضاء وما يعين عليه 296- لما أنهيت كتابة الفصل المتقدم، هتف بي هاتف من باطني: دعني من شرح الصبر على الأقدار، فإني قد اكتفيت بأنموذج ما شرحت! وصف حال الرضا، فإني أجد نسيمًا من ذكره فيه روح للروح1! فقلت: أيها الهاتف! اسمع الجواب! وافهم الصواب! إن الرضا من جملة ثمرات المعرفة، فإذا عرفته، رضيت بقضائه. 297- وقد يجري في ضمن القضاء مرارات، يجد بعض طعمها الراضي، أما العارف، فتقل عنده المرارة، لقوة حلاوة المعرفة، فإذا ترقى بالمعرفة إلى المحبة، صارت مرارة الأقدار حلاوة. كما قال القائل:   1 روح للروح: أي راحة للنفس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 عذابه فيك عذب ... وبعده فيك قرب وأنت عندي كروحي ... بل أنت منها أحب حسبي من الحب أني ... لما تحب أحب وقال بعض المحبين في هذا المعنى: ويقبح من سواك الفعل عندي ... فتفعله فيحسن منك ذاكا 298- فصاح بي الهاتف: حدثني، بماذا أرضى؟! قدر أني أرضى في أقداره بالمرض والفقر، أفأرضى بالكسل عن خدمته، والبعد عن أهل محبته؟! فبين لي ما الذي يدخل تحت الرضا مما لا يدخل! فقلت له: نعم ما سألت، فاسمع الفرق سماع من ألقى السمع وهو شهيد: ارض بما كان منه، فأما الكسل والتخلف، فذاك منسوب إليك، فلا ترض به من فعلك. وكن مستوفيًا حقه عليك، مناقشًا نفسك فيما يقربك منه، غير راض منها بالتواني في المجاهدة. فأما ما يصدر من أقضيته المجردة، التي لا كسب لك فيها، فكن راضيًا بها، كما قالت رابعة رحمة الله عليها، وقد ذكر عندها رجل من العباد يلتقط من مزيلة فيأكل، فقيل: هلا سأل الله تعالى أن يجعل رزقه من غير هذا؟! فقالت: إن الراضي لا يتخير، ومن ذاق طعم المعرفة، وجد فيه طعم المحبة، فوقع الرضا عنده ضرورة. 299- فينبغي الاجتهاد في طلب المعرفة بالأدلة، ثم العمل بمقتضى المعرفة بالجد في الخدمة، لعل ذلك يورث المحبة، فقد قال سبحانه وتعالى: "لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به ... "1. فذلك الغنى الأكبر ... ووا فقراه!   1 رواه البخاري "6502" عن أبي هريرة رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 56- فصل: انشغال العلماء عن أمور المعاش 300- رأيت جمهور العلماء يشغلهم طلبهم للعلم في زمان الصبا عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 المعاش، فيحتاجون إلى ما لا بد منه، فلا يصلهم من بيت المال شيء، ولا من صلات الإخوان ما يكفي، فيحتاجون إلى التعرض بالإذلال! فلم أر في ذلك من الحكمة إلا سببين: أحدهما: قمع إعجابهم بهذا الإذلال. والثاني: نفع أولئك بثوابهم. 301- ثم أمعنت الفكر، فتلمحت نكتةً لطيفةً، وهو أن النفس الأبية إذا رأت حال الدنيا كذلك، لم تساكنها بالقلب، ونبت1 عنها بالعزم، ورأت أقرب الأشياء شبهًا بها مزيلة عليها الكلاب، أو غائطًا2 يؤتى لضرورة، فإذا نزل الموت بالرحلة عن مثل هذه الدار؛ لم يكن القلب بها متعلق متمكن، فتهون حينئذٍ.   1 نبت: بعدت. 2 الغائط: المنخفض من الأرض يقصد لقضاء الحاجة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 57- فصل: الشرع فيه الرخصة وفيه العزيمة 302- ما زال جماعة من المتزهدين يزرون1 على كثير من العلماء إذا انبسطوا في مباحات، والذي يحملهم على هذا الجهل، فلو كان عندهم فضل علم، ما عابوهم، وهذا؛ لأن الطباع لا تتساوى؛ فرب شخص يصلح على خشونة العيش، وآخر لا يصلح على ذلك، ولا يجوز لأحد أن يحمل غيره على ما يطيقه هو، غير أن لنا ضابطًا -هو الشرع- فيه الرخصة، وفيه العزيمة، فلا ينبغي أن يلام من حصر نفسه في ذلك الضابط، ورب رخصة كانت أفضل من عزائم لتأثير نفعها. 303 ولو علم المتزهدون أن العلم يوجب المعرفة بالله تعالى، فتنبت2 القلوب من خوفه، وتنحل الأجسام للحذر منه؛ فوجب التلطف بالأجسام حفظًا لقوة الراحلة؛ ولأن آلة العلم والحفظ القلب والفكر، فإذا رفهت الآلة، جاد العمل. وهذا أمر لا يعلم إلا بالعلم، فلجهل المتزهدين بالعلم أنكروا ما لم يعلموا، وظنوا أن المراد إتعاب الأبدان، وإنضاء3 الرواحل، وما علموا أن الخوف المضني   1 يزرون: يعيبون. 2 تنبت: تنقطع. 3 إنقضاء الرواحل: إتعاب وإهزال الإبل التي تتخذ السفر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 يحتاج إلى راحة مقاومة، كما قال القائل: رَوِّحُوا القلوب تع1الذكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 58- فصل: ليس شيء في الوجود أشرف من العلم 304- ليس في الوجود شيء أشرف من العلم. كيف لا وهو الدليل، فإذا عدم، وقع الضلال؟! 305- وإن من خفي مكايد الشيطان أن يزين في نفس الإنسان التعبد، ليشغله عن أفضل التعبد، وهو العلم، حتى إنه زين لجماعة من القدماء أنهم دفنوا كتبهم، ورموها في البحر! وهذا قد ورد عن جماعة. وأحسن ظني بهم أن أقول: كان فيها شيء من رأيهم وكلامهم، فما أحبوا انتشاره؛ وإلا فمتى كان فيها علم مفيد صحيح لا يخاف عواقبه، كان رميها إضاعة للمال لا يحل. 306- وقد دنت حيلة إبليس إلى جماعة من المتصوفة، حتى منعوا من حمل المحابر تلامذتهم، وحتى قال جعفر الخلدي2: لو تركني الصوفية، جئتكم بإسناد الدنيا، كتبت مجلسًا عن عباس الدوري3، فلقيني بعض الصوفية، فقال: دع علم الورق، وعليك بعلم الخرق. ورئيت محبرة مع بعض الصفوية، فقال له صوفي آخر: استر عورتك! وقد أنشدوا للشبلي4: إذا طالبوني بعلم الوَرَقْ ... بَرَزْتُ عليْهم بِعِلْمِ الخِرَقْ وهذا من خفي حيل إبليس، {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} [سبأ: 20] .   1 تعي: تدرك وتعقل وتفهم. 2 جعفر بن محمد بن نصير أبو محمد الخلدي "253-348هـ": شيخ الصوفية في أيامه ببغداد وأعلمهم بالحديث، كان خواصًا: يصنع الخوص من سعف النخل، نسبته إلى قصر الخلد وهو قصر من قصور الخلافة في بغداد، حج "56" حجة. 3 أبو الفضل عباس بن محمد الدوري البغدادي: "185-271هـ": الإمام الحافظ، الثقة، الناقد، وقد وقع في الأصل: "أبو العباس" والتصويب من تاريخ بغداد "7/ 227". 4 دلف بن جحدر، أبو بكر الشبلي "247-334هـ": من كبار الصوفية: نسبته إلى شبلة، قريبة من قرى ما وراء النهر. وعلم الورق الشريعة في تفسير وحديث وفقه ونحوه، "وعلم الخرق" التصوف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 وإنما فعل وزينه عندهم لسببين: أحدهما: أنه أرادهم يمشون في الظلمة. والثاني: أن تصفح العلم كل يوم يزيد في العالم، ويكشف له ما كان خفي عنه، ويقوي إيمانه ومعرفته، ويريه عيب كثير من مسالكه، إذا تصفح منهاج الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة. فأراد إبليس سد تلك الطرق بأخفى حيلة؛ فأظهر أنه المقصود العمل لا العلم لنفسه، وخفي على المخدوع أن العلم عمل، وأي عمل! فاحذر من هذه الخديعة الخفية، فإن العلم هو الأصل الأعظم والنور الأكبر. وربما كان تقليب الأوراق أفضل من الصوم والصلاة والحج والغزو، وكم من معرض عن العلم يخوض في عذاب الهوى في تعبده، ويضيع كثيرًا من الفرص بالنفل، ويشتغل بما يزعمه الأفضل عن الواجب، ولو كانت عنده شعلة من نور العلم، لاهتدى، فتأمل ما ذكرت لك، ترشد إن شاء الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 مدارة النفس والتلطف بها لازم ... 59- فصل: مداراة النفس والتلطف بها لازم 307- مر بي حمالان تحت جذع ثقيل، وهما يتجاوبان بإنشاء النغم، وكلمات الاستراحة، فأحدهما يصغي إلى ما يقوله الآخر، ثم يعيده، أو يجيبه بمثله، والآخر همته مثل ذلك، فرأيت أنهما لو لم يفعلا هذا، زادت المشقة عليهما، وثقل الأمر، وكلما فعلا هذا، هان الأمر. فتأملت السبب في ذلك، فإذا به تعليق فكر كل واحد منهما بما يقوله الآخر، وطربه به، وإجالة فكره في الجواب بمثل ذلك، فينقطع الطريق، وينسى ثقل المحمول. 308- فأخذت من هذا إشارةً عجيبةً، ورأيت الإنسان قد حمل من التكليف أمورًا صعبة، ومن أثقل ما حمل مدارة نفسه، وتكليفها الصبر عما تحب، وعلى ما تكره، فرأيت الصواب قطع طريق الصبر بالتسلية والتلطف للنفس، كما قال الشاعر: فإن تَشَكَّتْ فَعَلِّلْهَا المَجَرَّةَ مِنْ ... ضَوْءِ الصَّبَاحِ، وَعِدْها بِالرَّوَاحِ ضُحَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 309- ومن هذا ما يحكى عن بشرٍ الحافي رحمة الله عليه: سار ومعه رجل في طريق، فعطش صاحبه، فقال له: أنشرب من هذا البِئْرِ؟ فقال بشر: اصبر إلى البئر الأخرى! فلما وصلا إليها، قال له: البئر الأخرى؛ فما زال يعلله، ثم التفت إليه، فقال له: هكذا تنقطع الدنيا. 310- ومن فهم هذا الأصل، علل النفس، وتلطف بها، ووعدها الجميل، لتصبر على ما قد حملت، كما كان بعض السلف يقول لنفسه: والله، ما أريد بمنعك من هذا الذي تحبين إلا الإشفاق عليك. وقال أبو يزيد رحمة الله عليه: ما زلت أسوق نفسي إلى الله تعالى وهي تبكي، حتى سقتها وهي تضحك. واعلم أن مدارارة النفس والتلطف بها لازم، وبذلك ينقطع الطريق، فهذا رمز إلى الإشارة، وشرحه يطول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 60- فصل: الواعظ مأمور بأن لا يتعدى الصواب 311- تأملت أشياء تجري في مجالس الوعظ، يعقدها العوام وجهال العلماء قربة، وهي منكر وبعد، وذاك أن المقرئ يطرب، ويخرج الألحان إلى الغناء، والواعظ ينشد بتطريب أشعار المجنون وليلى1، فيصفق هذا! ويحرق ثوبه هذا! ويعتقدن أن ذلك قربة!! ومعلوم أن هذه الألحان كالوسيقا، توجب طربًا للنفوس [ونشوة] ؛ فالتعرض بما يوجب الفساد غلط عظيم، وينبغي الاحتساب على الوعاظ في هذا2. 312- وكذلك المقابريون3 منهم، فإنهم يهيجون الأحزان، ليكثر بكاء   1 هو قيس بن الملوح بن مزاحم العامري، مجنون ليلى، شاعر غزل، من المتيمين، من أهل نجد، لم يكن مجنونًا، وإنما لقب بذلك لهيامه بحب ليلى بنت مهدي بن سعد، توفي سنة "68هـ". 2 أي: أن يراقب المحتسبون الوعاظ، وينصحونهم إذا تجاوزوا الحق. 3 من يطوفون على المقابر فينشدون أشعار الرثاء والحكمة التي تهيج الحزن والبكاء، وبعضهم يرتزقون من قراءة القرآن على القبور وهم شر ممن ينشد الأشعار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 النساء، فيعطلون على ذلك الأجرة، ولو أنهم أمروا بالصبر، لم ترد النسوة ذلك! وهذه أضداد للشرع. قال ابن عقيل: حضرنا عزاء رجل قد مات له ولد، فقرأ المقرئ: {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} [يوسف: 84] ، فقلت له: هذه نياحة بالقرآن! 313- وفي الوعّاظ من يتكلم على طريق المعرفة والمحبة، فترى الحائك والسوقي الذي لا يعرف فرائض تلك الصلاة يمزق أثوابه، دعوة لمحبة الله تعالى!! والضافي حالًا منهم -وهو أصلحهم- يتخايل بوهمه شخصًا هو الخالق، فيبكيه شوقه إليه، لما يسمع من عظمته ورحمته وجماله. وليس ما يتخايلونه المعبود؛ لأن المعبود لا يقع في خيال. 314- وبعد هذا، فالتحقيق1 مع العوام صعب، ولا يكادون ينتفعون بمر الحق؛ إلا أن الواعظ مأمور بأن لا يتعدى الصواب، ولا يتعرض لما يفسدهم، بل يجذبهم إلى ما يصلح بألطف وجه، وهذا يحتاج إلى صناعة، فإن من العوام من يعجبه حسن اللفظ، ومنهم من يعجبه الإشارة، ومنهم من ينقاد ببيت من الشعر. 315- وأحوج الناس إلى البلاغة الواعظ، ليجمع مطالبهم؛ لكنه ينبغي أن ينظر في اللازم الجواب، وأن يعطيهم من المباح في اللفظ قدر الملح في الطعام، ثم يجتذبهم إلى العزائم، ويعرفهم الطريق الحق. 316- وقد حضر أحمد بن حنبل، فسمع كلام الحارث المحاسبي2، فبكى، ثم قال: لا يعجبني الحضور. وإنما بكى؛ لأن الحال أوجبت البكاء. 317- وقد كان جماعة من السلف يرون تخليط القصاص، فينهون عن الحضور عندهم، وهذا على الإطلاق لا يحسن اليوم؛ لأنه كان الناس في ذلك الزمان متشاغلين بالعلم، فرأوا حضور القصص صادًّا لهم، واليوم كثر الإعراض عن العلم، فأنفع ما للعامي مجلس الوعظ، يرده عن ذنب، ويحركه إلى توبة؛ وإنما الخلل في القاص، فليتق الله عز وجل.   1 التحقيق: أي تفصيل المسائل وبيان الوجوه. 2 الحارث بن أسد المحاسبي، أبو عبد الله، من كبار الصوفية، كان عالمًا بالأصول والمعاملات، واعظًا مبكيًا، ولد بالبصرة، وتوفي ببغداد سنة "243هـ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 61- فصل: الأنبياء بالغوا في إثبات الصفات 318- من أضر الأشياء على العوام كلام المتأولين والنفاة للصفات والإضافات. فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالغوا في الإثبات، ليتقرر في أنفس العوام وجود الخالق، فإن النفوس تأنس بالإثبات، فإذا سمع العامي ما يوجب النفي، طرد عن قلبه الإثبات، فكان أعظم ضرر عليه، وكان هذا المنزه من العلماء -على زعمه- مقاومًا لإثبات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالمحو، وشارعًا في إبطال ما يفتون به. 319- وبيان هذا: أن الله تعالى أخبر باستوائه على العرش، فأنست النفوس إلى إثبات الإله ووجوده: قال تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن: 27] . وقال تعالى: {يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] . وقال: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [الفتح: 6] . {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} [البينة: 8] . وأخبر1 أنه ينزل إلى السماء الدنيا2. وقال: "قلوب العباد بين أصبعين"3. وقال: "كتب التوراة بيده"4. "وكتب كتابًا فهو عنده فوق العرش"5. إلى غير ذلك مما يطول ذكره. فإذا امتلأ العامي والصبي من الإثبات، وكاد يأنس من الأوصاف بما يفهمه الحس، قيل له: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] ، فمحا من قلبه ما نقشه الخيال، وتبقى ألفاظ الإثبات متمكنة. ولهذا أقر الشرع مثل هذا، فسمع6 مُنْشِدًا 7 يقول: "وفوق العرش رب   1 أي: الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم. 2 رواه البخاري "1145"، ومسلم "758" عن أبي هريرة رضي الله عنه. 3 رواه مسلم "2654" عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه. 4 رواه البخاري "6614"، مسلم "2652" عن أبي هريرة رضي الله عنه. 5 رواه البخاري "3194"، ومسلم "2751" عن أبي هريرة رضي الله عنه. 6 زيادة من بعض النسخ المطبوعة. 7 هو عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، وذلك أنه مشي ليلة إلى أمة له فنالها، وفطنت له امرأته، = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 العالمينا" فضحك. وقال له آخر: أو يضحك ربنا؟ فقال: "نعم"1. وقال: "أنه على عرشه هكذا"2. كل هذا ليقرر الإثبات في النفوس! 320- وأكثر الخلق لا يعرفون الإثبات إلا على ما يعلمون من الشاهد، فيقنع منهم بذلك، إلى أن يفهموا التنزيه. ولهذا صحح إسلام من انفتل3 بالسجود. فأما إذا ابتدئ بالعامي الفارغ من فهم الإثبات، فقلنا: ليس في السماء! ولا على العرش! ولا يوصف بيد! وكلامه صفة قائمة بذاته، وليس عندنا منه شيء! ولا يتصور نزوله: انمحى من قلبه تعظيم المصحف، ولم يتوضع في سره إثبات إله. وهذه جناية عظيمة على الأنبياء، توجب نقض ما تعبوا في بيانه، ولا يجوز لعالم أن يأتي إلى عقيدة عامي قد أنس بالإثبات فيهوشها، فإنه يفسده، ويصعب صلاحه. 321- فأما العالم، فإنا قد أمناه؛ لأنه لا يخفى عليه استحالة تجدد صفة الله تعالى، وأنه لا يجوز أن يكون استوى كما يعلم، ولا يجوز أن يكون محمولًا، ولا   = فلامته، فجحده، وكانت قد رأت جماعه لها، فقالت له: إن كنت صادقًا فاقرأ القرآن، فقال: شهدت بأن وعد الله حق ... وأن النار مثوى الكافرينا وأن العرش فوق الماء طاف ... وفوق العرش رب العالمينا وتحمله ملائكة شداد ... ملائكة الإله مسومينا فقالت امرأته: صدق الله وكذبت عيني. وكانت لا تحفظ القرآن ولاتقرؤه، وليس في الخير ذكر لضحك النبي صلى الله عليه وسلم ولا علمه بالقصة، وقد روى هذا الخبر ابن عبد البر في الاستيعاب "2/ 296". 1 رواه ابن ماجه "181" وأحمد "4/ 11و12 و13" عن وكيع بن حدس، عن أبي رزين قال الهيثمي في المجمع: وكيع ذكره ابن حبان في الثقات، وباقي رجاله احتج بهم مسلم، وانظر حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة: يقاتل هذا في سبيل الله فيقتل، ثم يتوب الله على القاتل فيستشهد" رواه البخاري "2826"، ومسلم "1890". 2 رواه أبوداود "4726" وابن أبي عاصم في السنة "252/ 575" من طريق محمد بن إسحاق وهو مدلس، فإذا لم يصرح بالسماع لا يحتج بحديثه. 3 في حاشية الأصل: كذا في النسخ الثلاثة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 أن يوصف بملاصقة ومس، ولا أن ينتقل، ولا يخفى عليه أن المراد بتقليب القلوب بين إصبعين الإعلام بالتحكم في القلوب، فإن ما يديره الإنسان بين إصبعين هو متحكم فيه إلى الغاية، ولا يحتاج إلى تأويل من قال: الإصبع الأثر الحسن، فالقلوب بين أثرين من آثار الربوبية، وهما: الإقامة، والإزاغة. ولا إلى تأويل من قال: يداه: نعمتاه؛ لأنه إذا فهم أن المقصود الإثبات، وقد حدثنا بما نعقل، وضربت لنا الأمثال بما نعلم، وقد ثبت عندنا بالأصل المقطوع به أنه لا يجوز عليه ما يعرفه الحس، علمنا المقصود بذكر ذلك. 322- وأصلح ما نقول للعوام1: أمروا هذه الأشياء كما جاءت، ولا تتعرضوا لتأويلها، وكل ذلك يقصد به حفظ الإثبات، وهذا الذي قصده السلف. وكان أحمد يمنع من أن يقال: لفظي بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق. كل ذلك ليحمل على الاتباع، وتبقى ألفاظ الإثبات على حالها. 323- وأجهل الناس من جاء إلى ما قصد النبي صلى الله عليه وسلم تعظيمه، فأضعف في النفوس قوى التعظيم: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو"2، يشير إلى المصحف. ومنع الشافعي أن يحمله المحدث بعلاقته3، تعظيمًا له. 324- فإذا جاء متحذلق4 فقال: الكلام صفة قائمة بذات المتكلم! بمعنى قوله هذا أن ما ها هنا شيء يحترم! فهذا قد ضاد بما أتى به مقصود الشرع، وينبغي أن يفهم أوضاع الشرع ومقاصد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. 325- وقد منعوا من كشف ما قد قنع الشرع، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكلام في القدر5، ونهى عن الاختلاف6؛ لأن هذه الأشياء تخرج إلى ما يؤذي، فإن   1 بل وللعلماء أيضًا، حتى إن كبار المتكلمين تمنوا مثل إيمان العوام، فقد قال إمام الحرمين: اللهم إيمانًا كإيمان العجائز. 2 رواه البخاري "2990"، ومسلم "1869" عن ابن عمر رضي الله عنهما. 3 كيس له عروة كبيرة يوضح فيه المصحف. 4 من المتكلمين. 5 رواه الطبراني "10448"، وأبو نعيم "4/ 108" عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال الحافظ العراقي في تخريج الإحياء "1/ 50": إسناده حسن. 6 رواه البخاري "5062" عن ابن مسعود رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 الباحث عن القدر إذا بلغ فهمه إلى أن يقول: قضى وعاقب، تزلزل إيمانه بالعدل، وإن قال: لم يقدر، ولم يقض، تزلزل إيمانه بالقدرة والملك، فكان الأولى ترك الخوض في هذه الأشياء. 326- ولعل قائلًا يقول: هذا منع لنا عن الاطلاع على الحقائق، وأمر بالوقوف مع التقليد! فأقول: لا، إنما أعلمك أن المراد منك الإيمان بالجمل، وما أمرت بالتنقير "لمعرفة الكنه"، مع أن قوى فهمك تعجز عن إدراك الحقائق. فإن الخليل عليه الصلاة والسلام قال: {أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} [البقرة: 260] . فأراه مَيْتًا أحيي، ولم يره كيف أحياه؛ لأن قواه تعجز عن إدراك ذلك. 327- وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم -وهو الذي بعث ليبين للناس ما نزل إليهم- يقنع من الناس بنفس الإقرار، واعتقاد الجمل. 328- وكذلك كانت الصحابة، فما نقل عنهم أنهم تكلموا في تلاوة ومتلو، وقراءة ومقروء، ولا أنهم قالوا: استوى بمعنى استولى! وينزل بمعنى يرحم! بل قنعوا بإثبات الجمل التي تثبت التعظيم عند النفوس، وكفوا كف الخيال بقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] . 329- ثم هذا منكر ونكير، إنما يسألان عن الأصول المجملة، فيقولان: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ ومن فهم هذا الفصل، سليم من تشبيه المجسمة، وتعطيل المعطلة، ووقف على جادة السلف الأول. والله الموفق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 62- فصل: أخذ السمع والبصر يكون بذهولهما عن الحقائق 330- قرأت هذه الآية: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ} [الأنعام: 46] ، فلاحت لي منها إشارة كدت أطيش منها، وذلك أنه: إن كان عني بالآية نفس السمع والبصر، فإن السمع آلة لإدراك المسموعات، والبصر آلة لإدراك المبصرات، فهما يعرضان ذلك على القلب، فيتدبر ويعتبر؛ فإذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 عرضت المخلوفات على السمع والبصر، فأوصلا إلى القلب أخباره، من أنها تدل على الخالق، وتحمل على طاعة الصانع، وتحذر من بطشه عند مخالفته. وإن عنى معنى السمع والبصر؛ فذلك يكون بذهولهما عن حقائق ما أدركا شُغْلًا بالهوى، فيعاقب الإنسان بسلب معاني تلك الآلات، فيرى، وكأنه ما رأى، ويسمع، وكأنه ما سمع، والقلب ذاهل عما يتأذى به؛ فيبقى الإنسان خاطئًا على نفسه، لا يدري ما يراد به، لا يؤثر عنده أنه يبلى، ولا تنفعه موعظة تجلى، ولا يدري أين هو، ولا ما المراد منه، ولا إلى أين يحمل؛ وإنما يلاحظ بالطبع مصالح عاجلته، ولا يتفكر في خسران آجلته، لا يعتبر برفيقه، ولا يتعظ بصديقه، ولا يتزود لطريقة، كما قال الشاعر: الناس في غفلةٍ والموت يوقظهمْ ... وما يفيقون حتَّى ينفد العُمُرُ يشيعون أهاليهمْ بجمْعهمُ ... وينظرون إلى ما فيه قد قبرُوْا1 ويرجعون إلى أحلام غفلتِهِمْ ... كَأَنَّهُمْ مَا رَأَوْا شَيْئًا وَلَا نَظَرُوْا وهذه حالة أكثر الناس، فنعوذ بالله من سلب فوائد الآلات، فإنها أقبح الحالات.   1 في حاشية الأصل: في الأحمدية: قد قبروا، قلت: وفي المصرية: قد فتروا، وهو تصحيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 63- فصل: لا يتمكن العشق إلا مع واقف جامد 331- نظرت فيما تكلم به الحكماء في العشق وأسبابه وأدويته، وصنفت في ذلك كتابًا سميته بـ "ذم الهوى"، وذكرت فيه عن الحكماء أنهم قالوا: سبب العشق حركة نفس فارغة، وأنهم اختلفوا: فقال قوم منهم: لا يعرض العشق إلا لظراف الناس، وقال آخرون: بل لأهل الغفلة منهم عن تأمل الحقائق1. 332- إلا أنه خطر لي بعد ذلك مَعْنًى عجيب، أشرحه ها هنا، وهو أنه لا يتمكن العشق إلا مع واقف جامد، فأما أرباب صعود الهمم، فإنها كلما تخايلت ما   1 ذم الهوى ص "289". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 توجبه المحبة، فلاحت عيوبه لها -إما بالفكر فيه، أو بالمخالطة له-، تسلت أنفسهم، وتعلقت بمطلوب آخر. فلا يقف على درجة العشق، الموجب للتمسك بتلك الصورة، العامي1 عن عيوبها، إلا جامد واقف. 333- وأما أرباب الأنفة من النقائص؛ فإنهم أبدًا في الترقي، لا يصدهم صاد، فإذا علقت الطباع محبة شخص، لم يبلغوا مرتبة العشق المستأثر، بل ربما مالوا ميلًا شديدًا، إما في البداية لقلة التفكير، أو لقلة المخالطة والاطلاع على العيوب، وإما لتشبث بعض الخلال الممدوحة بالنفوس من جهة مناسبة وقعت بين الشخصين، كالظريف مع الظريف، والفطن مع الفطن، فيوجب ذلك المحبة، فأما العشق، فلا، فهم أبدًا في السير، فلا توقف، وإبل الطبع تتبع حادي الفهم، فإن للطبع متعلقًا لا تجده في الدنيا؛ لأنه يروم ما لا يصح وجوده من الكمال في الأشخاص، فإذا تلمح عيوبها نفر. 334- وأما متعلق القلوب من محبة الخالق البارئ، فهو مانع لها من الوقوف مع سواه، وإن كانت محبته لا تجانس محبة المخلوقين، غير أن أرباب المعرفة ولهي2، قد شغلهم حبة عن حب غيره، وصارت الطباع مستغرقة لقوة معرفة القلوب ومحبتها، كما قالت رابعة: أحب حبيبًا لا أعابُ بحبهِ ... وأحببتم مَنْ فِي هَوَاهُ عُيُوْبُ3 335- ولقد روي عن بعض فقراء الزهاد: أنه مر بامرأة، فأعجبته، فخطبها إلى أبيها، فزوجه، وجاء به إلى المنزل، وألبسه غير خلقانه، فلما جن الليل، صاح الفقير: ثيابي! ثيابي! فقدت ما كنت أجده! فهذه عثرة في طريق هذا الفقير دلته على أنه منحرف عن الجادة. 336- وإنما تعتري هذه الحالات أرباب المعرفة بالله عز وجل، وأهل الأنفة من الرذائل. وقد قال ابن مسعود: إذا أعجبت أحدكم امرأة، فيتذكر مثانتها، ومثال هذه   1 العامي: الأعمى. 2 الوله: مرتبة يستلب فيها عقل العاشق. 3 في الأصل: "وأحببتهم"، وهو تصحيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 الحال أن العقل يغيب عند استحلاء تناول المشتهى من الطعام عن التفكير في تقلبه في الفم، وبلعه، ويذهل عند الجماع عن ملاقاة القاذورات، لقوة غلبة الشهوة، وينسى عند بلع الرضاب1 استحالته عن الغذاء. وفي تغطية تلك الأحوال مصالح إلا أن أرباب اليقظة يعتريهم هذا الإحساس من غير طلب له2 في غالب أحوالهم، فينغص عليهم لذيذ العيش، ويوجب الأنفة من رذالة الهوى. وعلى قدر النظر في العواقب يخف العشق عن قلب العاشق، وعلى قدر جمود الذهن يقوى القلق. قال المتنبي3. لو فكر العاشق في منتهى ... حسن الذي يسبيه لم يسبه 337- ومجموع ما أردت شرحه: أن طباع المتيقظين تترقى، فلا تقف مع شخص مستحسن، وسبب ترقيها التفكير في نقص ذلك الشخص وعيوبه، أو في طلب ما هو أهم منه، وقلوب العارفين تترقى إلى معروفها فتعتبر في معبر الاعتبار. فأما أهل الغفلة، فجمودهم في الحالتين، وغفلتهم عن المقامين، يوجب أسرهم، وقسرهم، وحيرتهم.   1 الرضاب: الريق. 2 في الأصل: لها. 3 أحمد بن الحسين الجعفي الكندي، شاعر العربية الأكبر ومالئ الدنيا وشاغل الناس، ولد في الكوفة سنة "203 هـ"، ورحل إلى الشام فمصر فالعراق ففارس ثم عاد إلى العراق فقتل في النعمانية قرب بغداد سنة "254هـ"، والبيت في ديوانه ص "537". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 64- فصل: الاعتراف بالتقصير أنجح في الحوائج 338- عرض لي أمر يحتاج إلى سؤال الله عز وجل ودعائه، فدعوت وسالت، فأخذ بعض أهل الخير يدعو معي، فرأيت نوعًا من أثر الإجابة. فقالت لي نفسي: هذا بسؤال ذلك العبد لا بسؤالك. فقلت لها: أما أنا، فإني أعرف من نفسي من الذنوب والتقصير ما يوجب منع الجواب، غير أنه يجوز أن يكون أنا الذي أجبت؛ لأن هذا الداعي الصالح سليم مما أظنه من نفسي؛ لأن معي انكسار تقصيري، ومعه الفرح بمعاملته، وربما كان الاعتراف بالتقصير أنجح في الحوائج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 على أنني أنا وهو نطلب من الفضل لا بأعمالنا، فإذا وقفت أنا على قدم الانسكار، معترفًا بذنوبي، وقلت: أعطوني بفضلكم، فما لي في سؤالي شيء أمن به، وربما تلمح ذاك حسن عمله، وكان صادًّا له. فلا تسكريني أيتها النفس، فيكفيني كسر علمي بي لي! معي من العلم الموجب للأدب، والاعتراف بالتقصير، وشدة الفقر إلى ما سألت، ويقيني بفضل المطلوب عنه: ما ليس مع ذلك العابد؛ فبارك الله في عبادته، فربما كان اعترافي بتقصيري أوفى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 65- فصل: أي لب أوغل في النظر مدح على قدر فهمه . 339- قرأت من غرائب العلم وعجائب الحكم، على بعض من يدعي العلم؛ فرأيته يتلوى من سماع ذلك، ولا يطلع على غوره، ولا يشرئب1 إلى ما يأتي، فصدقت2 عن إسماعه شيئًا آخر، وقلت: إنما يصلح مثل هذا الذي لب يتلقاه تلقي العطشان الماء. 340- ثم أخذت من هذه إشارة، "هي أنه"3 لو كان هذا يفهم ما جرى، ومدحني لحسن ما صنعت، لعظم قدره عندي، ولأريته محاسن مجموعاتي وكلامي، ولكنه لما لم أره لها أهلًا، صرفتها عنه، وصدفت بنظري عنه4. وكانت الإشارة: أن الله -عز وجل- قد صنف هذه المخلوقات، فأحسن التركيب، وأحكم الترتيب، ثم عرضها على الألباب، فأي لب أوغل في النظر، مدح على قدر فهمه، فأحبه المصنف. وكذلك أنزل القرآن يحتوي على عجائب الحكم، فمن فتشه بيد الفهم، وحادثه في خلوة الفكر، استجلب رضا المتكلم به، وحظي بالزلفى5 لديه، ومن كان   1 يشرئب: يتطاول ليتطلع وينظر، وتأتي بمعنى يتشوف. 2 صدقت: أعرضت. في الأصل: صرفت. 3 في الأصل: جعلت. 4 في الأصل: إليه. 5 الزلفى: القرب والمكانة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 ذهنه1 مستغرق الفهم بالحسيات، صرف عن ذلك المقام. قال الله عز وجل: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف: 146] .   1 في الأصل: للذهن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 66- فصل: لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرًا 341- دعوت يومًا فقلت: اللهم! بلغني آمالي من العلم والعمل، وأطل عمري لأبلغ ما أحب من ذلك. فعارضني وسواس من إبليس، فقال: ثم ماذا؟ أليس الموت؟ فما الذي ينفع طول الحياة؟! فقلت له: يا أبله! لو فهمت ما تحت سؤالي، علمت أنه ليس بعبث. أليس في كل يوم يزيد علمي ومعرفتي، فتكثر ثمار غرسي، فأشكر يوم حصادي1؟! أفيسرني أنني مت منذ عشرين سنة؟! لا والله؛ لأني ما كنت أعرف الله تعالى عشر معرفتي به اليوم. وكل ذلك ثمرة الحياة، التي فيها اجتنيت أدلة الوحدانية، وارتقيت عن حضيض2 التقليد إلى يفاع3 البصيرة، واطلعت على علوم زاد بها قدري، وتجوهرت بها نفسي، ثم زاد غرسي لآخرتي، وقويت تجارتي في إنقاذ المباضعين4 من المتعلمين. وقد قال الله لسيد المرسلين: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114] . وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال : "لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرًا" 5. وفي حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من السعادة أن يطول عمر العبد، ويرزقه الله عز وجل الإنابة"6. فيا ليتني قدرت على عمر نوح، فإن العلم كثير، وكلما حصل منه حاصل، رفع ونفع.   1 في حاشية الأصل: في الهندية: فأستكثر بذري يوم حصادي. 2 الحضيض: الأرض المنخفضة. 3 اليفاع: ما ارتفع عن الأرض. 4 المباضعين: الذين يضاربون بأوالهم. 5 مسلم "2065". 6 رواه أحمد "3/ 332"، والحاكم "4/ 240" وصححه ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في المجمع "10/ 206": إسناده حسن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 67- فصل : طوبى لمن عرف المسبِّبَ وتعلق به 342- قلوب العارفين يغار عليها من الأسباب، وإن كانت لا تساكنه؛ لأنها لما انفردت لمعرفتها، انفرد لها بتولي أمورها، فإذا تعرضت بالأسباب، محا أثر الأسباب: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا} [التوبة: 25] . 343- وتأمل في حال يعقوب وحذره على يوسف عليهما السلام، حتى قال: {وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ} [يوسف: 13] ، فقالوا: {فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ} [يوسف:17] ، فلما جاء أوان الفرج، خرج يهوذا بالقميص، فسبقه الريح: {إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} [يوسف: 94] . 344- وكذلك قول يوسف عليه السلام للسَّاقي: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف: 42] ، فعوقب بأن لبث سبع سنين، وإن كان يوسف عليه السلام يعلم أنه لا خلاص إلا بإذن الله، وأن التعرض بالأسباب مشروع، غير أن الغيرة أثرت في العقوبة. 345- ومن هذه قِصَّةُ مَرْيَمَ عليها السلام: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} [آل عمران: 37] ، فغار المسبب من مساكنه الأسباب: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا} [آل عمران: 37] . 346- ومن هذا القبيل ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: "أبى الله أن يرزق عبده المؤمن إلا من حيث لا يحتسب"1. 347- والأسباب طريق، ولا بد من سلوكها، والعارف لا يساكنها، غير أنه يجلي له من أمرها ما لا يجلي لغيره من أنها لا تساكن، وربما عوقب2 إن مال إليها، وإن كان ميلًا لا يقبله، غير أن أقل الهفوات يوجب الأدب3. وتأمل عقبى سليمان عليه السلام لما قال: "لأطوفن الليلة على مائة امرأة، تلد كل   1 رواه القضاعي "585" وابن عبد البر في التمهيد "21/ 20" وفي إسناده أحمد بن طاهر كذاب وعمر بن راشد منكر الحديث. 2 في الأصل: عرفت، وهو تصحيف. 3 لذلك قالوا: حسنات الأبرار سيئات المقربين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 وَاحِدَةٍ منهم غُلَامًا، ولم يقل: إن شاء الله! فما حَمَلَتْ إلَّا واحدة، جَاءَتْ بِشِقِّ غُلَامٍ"1. 348- ولقد طرقتني حالة أوجبت التشبث ببعض الأسباب؛ إلا أنه كان من ضرورة ذلك لقاء بعض الظلمة، ومداراته بكلمة، فبينا أنا أفكر في تلك الحال، دخل علي قارئ، فاستفتح، فتفاءلت بما يقرأ، فقرأ: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} [هود: 113] ، فبهت من إجابتي على خاطري، وقلت لنفسي: اسمعي! فإنني طلبت النصر في هذه المداراة، فأعلمني القرآن أنني إذا ركنت إلى ظالم، فاتني ما ركنت لأجله من النصر. فيا طوبى لمن عرف المسبب، وتعلق به، فإنها الغاية القصوى، فنسأل الله أن يرزقنا.   1 رواه البخاري "2819"، ومسلم "1654" عن أبي هريرة رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 68- فصل: المؤمن لا يبالغ في الذنوب 349- المؤمن لا يبالغ في الذنوب، وإنما يقوى الهوى، وتتوقد نيران الشهوة، فيتحدر، وله مراد لا يعزم المؤمن على مواقعته، ولا على العود بعد فراغه، ولا يستقصي في الانتقام إن غضب، وينوي التوبة قبل الزلل. 350- وتأمل إخوة يوسف عليهم السلام: فإنهم عزموا على التوبة قبل إبعاد يوسف، فقالو: {اقْتُلُوا يُوسُفَ} ، ثم زاد ذلك تعظيمًا فقالوا: {أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا} ، ثم عزموا على الإنابة فقالوا: {وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ} [يوسف: 9] ، فلما خرجوا به إلى الصحراء هموا بقتله بمقتضى ما في القلوب من الحسد، فقال كبيرهم: {لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ} [يوسف: 10] ، ولم يرد أن يموت، بل يلتقطه بعض السيارة، فأجابوا إلى ذلك. والسبب في هذه الأحوال أن الإيمان على حسب قوته، فتارة يردها عند الهم، وتارة يضعف فيردها عند العزم، وتارة عن بعض الفعل، فإذا غلبت الغفلة، وواقع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 الذنب؛ فتر الطبع، فنهض الإيمان للعمل، فينغص بالندم أضعاف ما التذ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 69- فصل: أفضلُ الأشياء التَّزيُّد من العلم. 351- أفضل الأشياء التزيد من العلم ، فإنه من اقتصر على ما يعلمه، فظنه كافيًا؛ استبد برأيه، وصار تعظيمه لنفسه مانعًا له من الاستفادة، والمذاكرة تبين له خطأه، وربما كان معظمًا في النفوس، فلم يتجاسر على الرد عليه، ولو أنه أظهر الاستفادة، لأهديت إليه مساوئه، فعاد عنها. 352- ولقد حكى ابن عقيل عن أبي المعالي الجويني1: أنه قال: إن الله تعالى يعلم جمل الأشياء ولا يعلم التفاصيل! ولا أدري أي شبهة وقعت في وجه هذا المسكين حتى قال هذا!، وكذلك أبو حامد2 حين قال: النزول التنقل، والاستواء مماسة، وكيف أصف هذا بالفقه، أو هذا بالزهد، وهو لا يدري ما يجوز على الله مما لا يجوز؟! ولو أنه ترك تعظيم نفسه، لرد صبيان الكتاب رأيه عليه، فبان له صدقهم. 353- ومن هذا الفن أبو بكر بن مقسم3، فإنه عمل كتاب الاحتجاج للقراء فأتى فيه بفوائد؛ إلا أنه أفسد علمه بإجازته أن يقرأ بما لم يقرأ به، ثم تفاقم ذلك منه، حتى أجاز ما يفسد المعنى، مثل قوله تعالى: {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا} [يوسف: 80] ، فقال: يصلح أن يقال هنا: "نُجِيًّا" أي خلصوا كِرَامًا برآء من   1 عبد الملك بن عبد الله بن يوسف، الجويني، إمام الحرمين "419-478هـ": من أئمة الشافعية والأصوليين والمتكلمين، صاحب المصنفات العظيمة. انظر: حول هذه المسألة التي حكاها ابن عقيل سير أعلام النبلاء "18/ 472-475". 2 محمد بن محمد الغزالي، الطوسي، فقيه متصوف، متكلم، أصولي ولد بطوس سنة "450هـ" ودرس في نظامية بغداد ورحل إلى دمشق فبيت المقدس فالإسكندرية ثم عاد إلى بلده طوس وتوفي في طابران سنة "505هـ" وإمامة كل من الغزالي وإمام الحرمين، ووصفهما بالفقه والزهد لا تتوقف على شهادة ابن الجوزي رحمهم الله جميعًا، وهذا لا يقتضي لهما العصمة فكل يؤخذ ويرد عليه إلا النبي صلى الله عليه وسلم. كما أن خطأ أحدهم لا يقدح في مكانته وعلمه. 3 محمد بن الحسن بن يعقوب بن مقسم العطار، أبو بكر "265-354هـ"، عالم بالقراءات والعربية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 السرقة. وهذا سوء فهم للقصة، فإن الذي نسب إلى السرقة، فظهرت معه ما خلص، فما الذي ينفع خلاصهم؟! وإنما سيقت القصة ليبين أنهم انفردوا وتشاوروا فيما يصنعون، وكيف يرجعون إلى أبيهم، وقد احتبس أخوهم، فأي وجه للنجاة ها هنا؟! ومن تأمل كتابه، رأي فيه من هذا الجنس ما يزيد على الإحصاء، أكثره1 من هذا الفن القبيح، ولو أنه أصغى إلى علماء وقته، وترك تعظيم نفسه، لبان له الصواب. غير أن اقتصار الرجل على علمه إذا مازجه نوع رؤية للنفس، حبس عن إدراك الصواب. نعوذ بالله من ذلك.   1 في الأصل: أكثر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 70- فصل: الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان 354- تأملت قوله عز وجل: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ} [الحجرات:17] ، فرأيت فيه معنى عجيبًا: وهو أنهم لما وهبت لهم العقول، فتدبروا بها عيب الأصنام، وعلموا أنها لا تصلح للعبادة، فوجهوا العبادة إلى من فطر الأشياء: كانت هذه المعرفة ثمرة العقل الموهوب لهام، الذي به باينوا البهائم، فإذا أمنوا بفعلهم الذي ندب إليه العقل الموهوب، فقد جهلوا قدر الموهوب، وغفلوا عمن وهب. وأي شيء لهم في الثمرة والشجرة ليست ملكًا لهم؟! فعلى هذا، كل متعبد ومجتهد في علم وعمل إنما رأي بنور اليقظة وقوة الفهم والعقل صوابًا، فوقع على الملطوب، فينبغي أن يوجه الشكر إلى من بعث له في ظلام الطبع القبس. 355- ومن هذا الفن حديث الثلاثة الذين دخلوا الغار، فانحطت عليهم صخرة، فسدت باب الغار، فقالو: تعالوا نتوسل بصالح أعمالنا! فقال كل منهم فعلت كذا وكذا1.   1 رواه البخاري "2215"، ومسلم "2743" عن ابن عمر رضي الله عنهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 وهؤلاء: إن كانوا لاحظوا نعمة الواهب للعصمة عن الخطأ، فتوسلوا بإنعامه عليهم الذي أوجب تخصيصهم بتلك النعمة عن أبناء جنسهم، فبه توسلوا1 إليه. وإن كانوا لاحظوا أفعالهم، فلمحوا جزاءها، ظَنًّا منهم أنهم هم الذين فعلوا، فهم أهل غيبة لا حضور، ويكون جواب مسألتهم لقطع مننهم الدائمة. 356- ومثل هذه رؤية المتقي تقواه، حتى إنه يرى أنه أفضل من كثير من الخلق، وربما احتقر أهل المعاصي، وشمخ عليهم! وهذه غفلة عن طريق السلوك، وربما أخرجت. 357- ولا أقول لك: خالط الفساق احتقارًا لنفسك! بل اغضب عليهم في الباطن، وأعرض عنهم في الظاهر، ثم تلمح جريان الأقدار عليهم! فأكثرهم لا يعرف من عصى! وجمهورهم لا يقصد العصيان، بل يريد موافقة هواه، وعزيز عليه أن يعصى! وفيهم من غلب عليه تلمح العفو والحلم، فاحتقر ما يأتي، لقوة يقينه بالعفو! وهذه كلها ليست بأعذار2 لهم، ولكن، تلمحه أنت يا صاحب التقوى! واعلم أن الحجة عليك أوفى من الحجة عليهم؛ لأنك تعرف من تعصي، وتعلم ما تأتي، بل انظر إلى تقليب القلوب بين إصبعين، فربما دارت الدائرة، فصرت المنقطع، ووصل المقطوع. فالعجب ممن يدل3 بخير عمله، وينسى من أنعم ووفق.   1 في الأصل: فتوسلوا. 2 في الأصل: باعتذار، وهو تصحيف. 3 يدل بخير عمله: يفحر به، ويرى لنفسه فضلًا وشأنًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 71- فصل: شرعنا مضبوط الأصول محروس القواعد 358- اعلم أن شرعنَا مضبوط الأصول، محروس القواعد، لا خلل فيه ولا دخل1، وكذلك كل الشرائع. 359- إنما الآفة تدخل من المبتدعين في الدين أو الجهال، مثل ما أثر عن   1 الدخل: الفساد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 النصارى حين رأوا إحياء الموتى على يد عيسى عليه السلام، فتأملوا الفعل الخارق للعادة، الذي لا يصلح للبشر، فنسبوا الفاعل إلى الإلهية. ولو تأملوا ذاته1، لعلموا أنها مركبة على النقائص والحاجات، وهذا القدر يكفي في عدم صلاح إلهيته، فيتعلم حينئذ أن ما جرى على يديه فعل غيره. 360- وقد يؤثر ذلك في الفروع، مثل ما روي أنه فرض على النصارى صوم شهر، فزادوا عشرين يومًا، ثم جعلوه في فصل من السنة بآرائهم، ومن هذا الجنس تخبيط اليهود في الأصول والفروع. 361- وقد قارب الضلال في أمتنا هذه المسالك، وإن كان عمومهم قد حفظ من الشرك والشك والخلاف الظاهر الشنيع؛ لأنهم أعقل الأمم وأفهمها، غير أن الشيطان قارب بهم، ولم يطمع في إغراقهم، وإن كان قد أغرق بعضهم في بحار الضلال. 362- فمن ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بكتاب عزيز من الله عز وجل، قيل في صفته: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] ، وبين ما عساه يشكل2 مما يحتاج إلى بيانه بسنته، كما قيل له: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] ، فقال بعد البيان: "تركتكم على بيضاءَ نَقِيَّةٍ"3. فجاء أقوام فلم يقنعوا بتبيينه، ولم يرضوا بطريقة أصحابه، فبحثوا، ثم انقسموا: فمنهم من تعرض لما تعب الشرع4 في إثباته في القلوب فمحاه منها، فإن القرآن والحديث يثبتان الإله -عز وجل- بأوصاف تقرر وجوده في النفوس، كقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] ، وقوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] ، وقوله تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ينزل الله إلى السماء الدنيا"، " ويبسط يده لمسيء الليل والنهار"5، و "يضحك"، و "يغضب"6، وكل هذه الأشياء -وإن كان ظاهرها يوجب تخايل   1 ذاته: ذات عيسى عليه السلام. 2 يشكل: يلتبس معناه ويستعصي فهمه. 3 رواه أبو داود "4607"، والترمذي "2676"، وابن ماجه "43و44" عن العرباض بن سارية رضي الله عنه. 4 أي: بالغ. 5 رواه مسلم "2759" عن أبي موسى رضي الله عنه. 6 الآيات التي تدل على غضب الله والعياذ بالله كثيرة. انظر: سورة النساء الآية "93". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 التشبيه- فالمراد منها إثبات موجود، فلما علم الشرع ما يطرق القلوب من التوهمات عند سماعها، قطع ذلك بقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] . 363- ثم إن هؤلاء القوم عادوا إلى القرآن الذي هو المعجز الأكبر، وقد قصد الشرع تقرير وجوده، فقال: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} [القدر: 1] ، {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} [الشعراء:193] ، {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ} [القلم: 44] ، {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ} [الأنعام: 92] ، وأثبته في القلوب بقوله تعالى: {فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت: 49] ، وفي المصاحف بقوله تعالى: {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج: 22] ، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو". فقال قوم من هؤلاء: مخلوق! فأسقطوا حرمته من النفوس، وقالوا: لم ينزل! ولا يتصور نزوله! وكيف تنفصل الصفة عن الموصوف؟! وليس في المصحف إلا حبر وورق! فعادوا على ما تعب الشارع في إثباته بالمحو. 364- كما قالوا: إن الله -عز وجل- ليس في السماء! ولا يقال: استوى على العرش! ولا ينزل إلى السماء الدنيا! بل ذاك رحمته!! فمحوا من القلوب ما أريد إثباته فيها، وليس هذا مراد الشارع. 365- وجاء آخرون، فلم يقفوا على ما حده الشرع، بل عملوا فيه بآرائهم، فقالو: الله على العرش، ولم يقنعوا بقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54] . ودفن لهم أقوام من سلفهم دفائن، ووضعت لهم الملاحدة أحاديث، فلم يعلموا ما يجوز عليه مما لا يجوز، فأثبتوا بها صفات جمهور الصحيح منها آت على توسع العرب، فأخذوه هم على الظاهر، فكانوا في ضرب المثل كجحا1، فإن أمه قالت له: احفظ الباب! فقلعه ومشى به، فأخذ ما في الدار، فلامته أمه، فقال: إنما قلت: احفظ الباب، وما قلت: احفظ الدار!! 366- ولما تحايلوا صورة عظيمة على العرش، أخذوا يتأولون ما ينافي   1 جحا الكوفي الفزاري، أبو الغصن صاحب النوادر، يضرب به المثل في الحمق والغفلة، قال صاحب القاموس: اسمه دجين بن ثابت، توفي سنة "130هـ" تقريبًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 وجودها على العرش: مثل قوله: "ومن أتاني يمشي؟ أتيته هرولة"1، فقالوا: ليس المراد به دنو [الاقتراب] 2، وإنما المراد قرب المنزل والحظ!! 367- وقالوا في قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ} [البقرة:210] : هو محمول على ظاهرها في مجيء الذات. فهم يحلونه عامًا، ويحرمونه عامًا، ويسمون الإضافات إلى الله تعالى صفات، فإنه قد أضاف إليه النفخ والروح. 368- وأثبتوا خلقه باليد، فلو قالوا: خلقه3، لم يمكن إنكار هذا، بل قالوا: هي صفة تولى بها خلق آدم دون غيره، فأي مزية كانت تكون لآدم؟! فشغلهم النظر في فضيلة آدم عن النظر إلى ما هو يليق بالحق مما لا يليق به، فإنه لا يجوز عليه المس، ولا العمل بالآلات؛ وإنما آدم أضافه إليه. 369- وقالوا4: نطلق على الله تعالى اسم الصورة، لقوله: "خلق آدم على صورته"، وفهموا هذا الحديث، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا ضرب أحدكم، فليجتنب الوجه، ولا وجهًا أشبه وجهك، فإن الله خلق آدم على صورته"5. فلو كان المراد به الله عز وجل، لكان وجه الله سبحانه يشبه وجه هذا المخاصم؛ لأن الحديث كذا جاء: "ولا وجهًا أشبه وجهك". 370- ورووا حديث خولة بنت حكيم: "وإن آخر وطأة وطئها الله بِوَجٍّ"6!! وما علموا النقل ولا السير، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "اللهم! اشدد وطأتك على مضر"7، وأن المراد به آخر وقعة قاتل فيها المسلمون بوج8، وهي غزاة حنين، فقالوا: نحمل الخبر على ظاهره، وأن الله وطئ ذلك المكان!! ولا شك أن عندهم   1 رواه البخاري "3405"، ومسلم "2675"، عن أبي هريرة رضي الله عنه. 2 في الأصل: الباب. 3 أي: آدم. 4 في الأصل: فقالوا. 5 رواه البخاري "2559"، ومسلم "2612" عن أبي هريرة رضي الله عنه. 6 رواه أحمد "4/ 172"، والطبراني في الكبير "22/ 275/ 704" والبيهقي في الأسماء والصفات ص "581" وفي سنده سعيد بن أبي راشد لم يوثقه إلا ابن حبان، وعبد الله بن عثمان بن خثيم لين أمره الذهبي في الميزان "منكر". 7 رواه البخاري "803"، ومسلم "675" عن أبي هريرة رضي الله عنه. 8 وج: وادٍ قرب الطائف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 أن الله تعالى كان في الأرض، ثم صعد إلى السماء1!! 371- وكذلك قالوا في قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يمل حتى تملوا"، قالوا: يجوز أن الله يوصف بالملل، فجهلوا اللغة، وما علموا أنه لو كانت حتى ها هنا للغاية، لم تكن بمدح؛ لأنه إذا مل حين يمل، فأي مدح؟! وإنما هو كقول الشاعر2: صليت مني هذيل بِخَرْق ... لا يمل الشر حتى يَمَلُّوا والمعنى: لا يمل وإن ملوا. 372- وقالوا في قوله عليه الصلاة والسلام: "الرحم شجنه من الرحمن، تتعلق بحقوي الرحمن"3، فقالوا: الحَقْوُ صِفَةُ ذَاْتٍ. 373- وذكروا أحاديث لو رويت -في نقض الوضوء- ما قبلت، وعمومها وضعته الملاحدة. 374- كما يروى عن عبد الله بن عمرو، قال: خلق الله الملائكة من نور الذراعين والصدر4، فقالوا: نثبت هذا على ظاهره، ثم أرضوا العوام بقولهم: ولا نثبت جوارح! فكأنهم يقولون: فلان قائم وما هو قائم!! فاختلف قولهم: هل يطلق على الله -عز وجل- أنه جالس أو قائم، كقوله تعالى: {قَائِمًا بِالْقِسْطِ} : لا يراد به القيام؛ وإنما هو كما يقال: الأمير قائم بالعدل. وإنما ذكرت بعض أقوالهم، لئلا يسكن إلى شيء منها، فالحذر من هؤلاء عبادة، وإنما الطريق طريق السف.   1 لا يقول بهذا أحد من المسلمين فضلًا عن العلماء. 2 هي للشنفرى كما في الحماسة "1/ 538"، وجاء في الأصل: جلبت، وهو تصحيف، والتصويب من الحماسة. 3 رواه أحمد "321"، وابن أبي عاصم في السنة "237، 538" عن ابن عباس رضي الله عنهما و "الشجنة": الغصن المتشابك، أي: قرابة مشتبكة العروق، و "الحقو": الخصر. 4 هذه من الإسرائيليات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 375- على أنني أقول لك: قد قال أحمد بن حنبل رحمة الله عليه: من ضيق علم الرجل أن يقلد في دينه الرجال. فلا ينبغي أن تسمع من معَظَّم في النفوس شيئًا في الأصول فتقلده فيه، ولو سمعت عن أحدهم ما لا يوافق الأصول الصحيحة، فقل: هذا من الراوي؛ لأنه قد ثبت عن ذلك الإمام أنه لا يقول بشيء من رأيه، فلو قدرنا صحته عنه، فإنه لا يقلد في الأصول ولا أبو بكر ولا عمر رضي الله عنهما. فهذا أصل يجب البناء عليه، فلا يهولنك ذكر معظم في النفوس، وكان المقصود من شرح هذا أن ديننا سليم؛ وإنما أدخل أقوام فيه ما تأذينا به. 376- ولقد أدخل المتزهدون في الدين ما ينفر الناس، حتى إنهم يرون أفعالهم، فيستبعدون الطريق، وأكثر أدلة هذه الطريق القصاص، فإن العامي إذا دخل إلى مجلسهم وهو لا يحسن الوضوء، كلموه بدقائق الجنيد1 وإشارات الشبلي، فرأى ذلك العامي أن الطريق الواضح لزوم زاوية، وترك الكسب للعائلة، ومناجاة الحق في خلوة على زعمه، مع كونه لا يعرف أركان الصلاة، ولا أدَّبه العلم، ولا قوَّم أخلاقه شيء من مخالطة العلماء!! فلا يستفيد من خلوته إلا كما يستفيد الحمار من الإصطبل، فإن امتد عليه الزمان في تقلله، زاد يبسه، فربما خايلت له الماليخوليا2 أشباحًا، يظنهم الملائكة، ثم يطأطئ رأسه، ويمد يده للتقبيل!! فكم قد رأينا من أكار3 ترك الزرع، وقعد في زاوية؛ فصار إلى هذه الحالة، فاستراح من تعبه!! فلو قيل له: عد مريضًا! قال: ما لي عادة -فلعن الله عادة تخالف الشريعة- فيرى العامة4 بما يورده القصاص -أن طريق الشرع هذه، لا التي عليها الفقهاء، فيقعون في الضلال. 377- ومن المتزهدين من لا يبالي عمل بالشرع أم لا!! ثم يتفاوت جهالهم: فمنهم من سلك مذهب الإباحة، ويقول: الشيخ لا يعارض، وينهمك في المعاصي!!   1 الجنيد بن محمد بن الجنيد، البغدادي الخراز، أبو القاسم، من أئمة الصوفية العلماء بالدين، مولده ونشأته ببغداد، توفي سنة "297هـ". 2 الماليخوليا: مرض عقلي من مظاهره فساد التفكير. 3 أكار: فلاح. 4 في الأصل: العامي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 ومنهم من يحفظ ناموسه، فيفتي بغير علم، لِئَلَّا يقال: الشيخ لا يدري!! 378- ولقد حدثني الشيخ أبو حكيم1 رحمة الله عليه: أن الشريف الدحالي -كان يقصد، فيزار، ويتبرك به- حضر عنده يومًا، فسئل أبو حكيم: هل تحل المطلقة ثلاثًا إذا ولدت ذكرًا؟ قال: فقلت: لا والله. فقال لي الشريف: اسكت! فوالله، لقد أفتيت الناس بأنها تحل من ها هنا إلى البصرة. 379- وحكى لي الشيخ أبو حكيم أن جد آزاد2 الحداد -وكان يتوسم بالعلم- جاءت إليه امرأة، فزوجها من رجل، ولم يسأل عن انقضاء العدة، فاعترضها الحاكم، وفرق بينها وبين الزوج، وأنكر على المزوج، فلقيته المرأة، فقالت: يا سيدي! أنا امرأة لا أعلم، فكيف زوجتني؟! فقال: دعي حديثهم! ما أنت إلا طاهرة مطهرة!! 380- وحدثني بعض الفقهاء عن رجل من العباد أنه كان يسجد للسهو سنين، ويقول: والله، ما سهوت، ولكن أفعله احترازًا! فقال له الفقيه: قد بطلت صلاتك كلها؛ لأنك زدت سجودًا غير مشروع!! 381 ثم من الدخل الذي دخل ديننا طريق المتصوفة، فإنهم سلكوا طرقًا أكثرها تنافى الشريعة، وأهل التدين منهم يقللون ويخففون، وهذا ليس بشرع. حتى إن رجلًا كان قريبًا من زماني، يقال له: كَثِيْرٌ، دخل إلى جامع المنصور، وقال: عاهدت الله عهدًا ونقضته؛ فقد ألزمت نفسي أن لا تأكل أربعين يومًا! فحدثني من رآه أنه بقي عشرة أيام، ثم في العشر الرابع أشرف على الموت. قال: فما انقضت حتى تفرغ3، فصب في حلقه ماء، فسمعنا له نشيشًا كنشيش المقلاة، ثم مات بعد أيام. فانظروا إلى هذا المسكين وما فعله به جهله!!   1 إبراهيم بن دينار النهراوني الحنبلي، العلامة القدوة، أحد أئمة بغداد، توفي سنة "556هـ". 2 آزاد: فارسي معرب معناه الخالص. وفي حاشية الأصيل: في الهندية: ذا الجذاء وما أثبتناه فعن الأحمدية. 3 تفرغ: أصابه الجفاف. وفي حاشية الأصل: في الأحمدية هكذا "العوع" وفي الهندية "تتقوع" قلت: الأولى "نقوع" والثانية "بنقوع" انظر: خبرًا قريبًا منها في الفصل "162". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 382- ومنهم من فسح لنفسه في كل ما يحب من التنعم واللذات، واقتنع من التصوف بالقميص والفوطة1 والعمامة اللطيفة، ولم ينظر من أين يأكل، ولا من أين يشرب، وخالط الأمراء من أرباب الدنيا، ولباس الحرير، وشراب الخمور، حفظًا لماله وجاهه. 383- ومنهم أقوام عملوا سننًا لهم، تلقوها من كلمات أكثرها لا يثبت!! 384- ومنهم من أكب على سماع الغناء والرقص واللعب، ثم انقسم هؤلاء، فمنهم من يدعي العشق فيه، ومنهم من يقول بالحلول2، ومنهم "من" يسمع على وجه الهوى واللعب، وكلا الطريقين يفسد العوام الفساد العام. 385- وهذا الشرح يطول، وقد صنفت كتبًا ترى فيها البسط الحسن إن شاء الله تعالى، منها "تلبيس إبليس". والمقصود أن تعلم أن الشرع تام كامل، فإن رزقت فهمًا له، فأنت تتبع الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وتترك بنيات الطريق، ولا تقلد في دينك الرجال، فإن فعلت، فإنك لا تحتاج إلى وصية أخرى. 386- واحذر جمود النقلة، وانبساط المتكلمين، وجموح3 المتزهدين، وشره أهل الهوى، ووقوف العلماء على صورة العلم من غير عمل، وعمل المتعبدين بغير علم. 387- ومن أيده الله تعالى بلطفه، رزقه الفهم، وأخرجه عن ربقة التقليد، وجعله أمة وحده في زمانه، لا يبالي بمن عبث، ولا يلتفت إلى من لام، قد سلم زمامه إلى دليله في واضح السبيل. عصمنا الله وإياكم من تقليد المعظمين، وألهمنا اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه درة الوجود، ومقصود الكون صلى الله عليه وعلى آله واصحابه وأتباعه، ورزقنا اتباعه مع أتباعه.   1 الفوطة: المئرز. 2 الحلول: حلول الخالق بالمخلوق تعالى الله عما يفتري الظالمون. 3 في الأصل: جموع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 72- فصل: السعيد من لازم التقوى 388- أعلم أن الزمان لا يثبت على حال، كما قال عز وجل: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140] ، فتارة فقر، وتارة غنى، وتارة عز، وتارة ذل، وتارة يفرح الموالي، وتارة يشمت الأعادي. فالسعيد من لازم أصلًا واحدًا على كل حال، وهو تقوى الله عز وجل، فإنه إن استغنى، زانته، وإن افتقر، فتحت له أبواب الصبر، وإن عوفي، تمت النعمة عليه، وإن ابتلي، جملته. ولا يضره إن نزل به الزمان أو صعد، أو أعراه، أو أشبعه، أو أجاعه؛ لأن جميع تلك الأشياء تزول وتتغير، والتقوى أصل السلامة، حارس لا ينام، يأخذ باليد عند العثرة، ويواقف1 على الحدود. والمنكر من غرته لذة حصلت مع عدم التقوى، فإنها ستحول، وتخليه خاسرًا. 389- ولازم التقوى في كل حال، فإنك لا ترى في الضيق إلا السعة، وفي المرض إلا العافية، هذا نقدها العاجل، والآجل معلوم.   1 يواقف: يوقف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 73- فصل: انهيال الابتاء على المؤمن. 390 تأملت أمرًا عجيبًا وأصلًا ظريفًا، وهو انهيال1 الابتلاء على المؤمن، وعرض صورة اللذات عليه، مع قدرته على نيلها، وخصوصًا ما كان في غير كلفة من تحصيله، كمحبوب موافق في خلوة حصينة. فقلت: سبحان الله! ها هنا يبين أثر الإيمان، لا في صلاة ركعتين، والله، ما صعد يوسف عليه السلام، ولا سعد إلا في مثل ذلك المقام. فبالله عليكم يا إخواني، تأملوا حاله، لو كان وافق هواه، من كان يكون؟! وقيسوا بين تلك الحالة وحالة آدم عليه السلام، ثم زنوا بميزان العقل عقبى تلك الخطيئة، وثمرة هذا الصبر، واجعلوا فهم الحال عدة عند كل مُشْتهًى.   1 انهيال: انصباب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 391- وإن اللذات لتعرض على المؤمن، فمتى لقيها في صف حربه وقد تأخر عنه عسكر التدبر للعواقب، هزم. وكأني أرى الواقع في بعض أشراكها، ولسان الحال يقول له: قف مكانك، أنت وما اخترت لنفسك. فغاية أمره الندم والبكاء، فإن أمن إخراجه من تلك الهوة، لم يخرج إلا مدهونًا بالخدوش. وكم من شخص زلت قدمه، فما ارتفعت بعدها. 392- ومن تأمل ذل إخوة يوسف عليه السلام يوم قالوا: {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا} [يوسف: 88] ، عرف شؤم الزلل، ومن تدبر أحوالهم، قاس ما بينهم وبين أخيهم من الفروق، وإن كانت توبتهم قبلت؛ لأنه ليس من رقع وخاط كمن ثوبه صحيح. 393- ورب عظم هِيضَ1 لم ينجبر، فإن جبر، فعلى وهيٍ2. فتيقظوا -إخواني- لعرض المشتهيات على النفوس، واستوثقوا من لجم الخيل، وانتبهوا للغيم، إذا تراكم بالصعود إلى تلعة3، فربما مد الوادي فراح بالركب4.   1 هيض: كسر. 2 الوهي: الضعف. 3 التلعة: "من الأضداد": ما ارتفع من الأرض، وما انخفض منها. 4 أي: جاء سيل فأهلك القافلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 74- فصل: يريد اختبارك ليعرف أسرارك . 394- تأملت حالةً عجيبةً، وهي أن المؤمن تنزل به النازلة، فيدعو، ويبالغ، فلا يرى أثرًا للإجابة، فإذا قارب اليأس، نظر حينئذ إلى قلبه، فإن كان راضيًا بالأقدار، غير قنوط من فضل الله -عز وجل- فالغالب تعجيل الإجابة حينئذ؛ لأن هناك يصلح الإيمان، ويهزم الشيطان، وهناك، تبين مقادير الرجال. وقد أشير إلى هذا في قوله تعالى: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} [البقرة: 214] . 395- وكذلك جرى ليعقوب عليه السلام؛ فإنه لما فقد ولدًا، وطال الأمر عليه، لم ييأس من الفرج، فأخذ ولده الآخر، ولم ينقطع أمله من فضل ربه: {أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 جَمِيعاً} . وكذلك قال زكريّا عليه السلام: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} [مريم: 4] . 396- فإياك أن تستطيل مدة الإجابة، وكن ناظرًا إلى أنه المالك، وإلى أنه الحكيم في التدبير، والعالم بالمصالح، وإلى أنه يريد اختبارك، ليبلو أسرارك1، وإلى أنه يريد أن يرى تضرعك، وإلى أنه يريد أن يأجرك بصبرك ... إلى غير ذلك، وإلى أنه يبتليك بالتأخير، لتحارب وسوسة إبليس، وكل واحدة من هذه الأشياء تقوي الظن في فضله، وتوجب الشكر له، إذ أهلك بالبلاء للالتفات إلى سؤاله، وفقر2 المضطر إلى اللجإ إليه غنًى كله.   1 في الأصل: أسراركم. 2 في الأصل: الفقر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 75- فصل: اجتلاب الصالح ودفع المؤذي 397- لما كان بدن الآدمي لا يقوم1 إلا باجتلاب المصالح، ودفع المؤذي، ركب فيه الهوى، ليكون سببًا لجلب النافع، والغضب، ليكون سببًا لدفع المؤذي. 398- ولولا الهوى في المطعم، ما تناول الطعام، فلم يقم بدنه، فجعل له إليه ميل وتوق2، فإذا حصل له قدر ما يقيم بده، زال التوق. وكذلك في المشرب والملبس والمنكح. 399- وفائدة المنكح من وجهين: أحدهما: إبقاء الجنس، وهو معظم المقصودين. والثاني: دفع الفضلة المحتقنة المؤذي احتقانها. ولولا تركيب الهوى المائل بصاحبه إلى النكاح، ما طلبه أحد، ففات النسل وآذى المحتقن. 400- فأما العارفون، فإنهم فهموا المقصود. وأما الجاهلون؛ فإنهم مالوا مع الشهوة والهوى، ولم يفهموا مقصود وضعها، فضاع زمانهم فيما لا طائل فيه، وفاتهم ما خلقوا لأجله، وأخرجهم هواهم إلى فساد المال، وذهاب العرض والدين، ثم أداهم إلى التلف. 401- وكم قد رأينا من متنعم يبالغ في شراء الجواري، ليحرك طبعه   1 لا يقوم: لا يصح. 2 التوق: الشوق الشديد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 بالمستجد، فما كان بأسرع من أن وهنت قواه الأصلية، فتعجل تلفه. وكذلك رأينا من زاد غضبه، فخرج عن الحد، ففتك بنفسه، وبمن يحبه. 402 فمن علم أن هذه الأشياء إنما خلقت إعانة للبدن على قطع مراحل الدنيا، ولم يخلق لنفس الالتذاذ؛ وإنما جلعت اللذة فيها كالحيلة في إيصال النفع بها، إذ لو كان المقصود التنعم بها، لما جعلت الحيوانات البهيمية أوفى حظًّا من الآدمي منها. فطوبى لمن فهم حقائق الوضع، ولم يمل به الهوى عن فهم حكم المخلوقات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 76- فصل: من تأمل عواقب المعاصي رآها قبيحة 403- من تأمل عواقب المعاصي، رآها قبيحةً، ولقد تفكرت في أقوام أعرفهم، يقرون بالزنى وغيره، فأرى من تعثرهم في الدنيا -مع جلادتهم- ما لا يقف عند حد، وكأنهم قد ألبسوا ظلمة، فالقلوب تنفر عنهم، فإن اتسع لهم شيء، فأكثره من مال الغير، وإن ضاق بهم أمر، أخذوا يتسخطون على القدر. هذا وقد شغلوا بهذه الأوساخ عن ذكر الآخرة. 404- ثم عكست، فتفكرت في أقوام صابروا الهوى، وتركوا ما لا يحل، فمنهم من قد أينعت له ثمرات الدنيا، من قوت مستلذٍّ، ومهاد مستطاب، وعيش لذيذ، وجاه عريض، فإن ضاق بهم أمر، وسعه الصبر، وطيبه الرضا، ففهمت بالحال معنى قوله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 90] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 77- فصل: لا يصلح الأنس إلا بملازمة التقوى 405- ينبغي للعاقل أن يلازم باب مولاه على كل حال، وأن يتعلق بذيل فضله، إن عصى وإن طاع، وليكن له أنس في خلوته به، فإن وقعت وحشة، فيجتهد في رفع الموحش، كما قال الشاعر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 أمستوحش أنت مما جَنَيْت ... فأحسن إذا شئت واستأنِسِ 406- فإن رأى نفسه مائلًا إلى الدنيا، طلبها منه، أو إلى الآخرة، سأله التوفيق للعمل لها، فإن خاف ضرر ما يرومه من الدنيا، سأل الله إصلاح قلبه، وطلب مرضه، فإنه إذا صلح، لم يطلب ما يؤذيه. ومن كان هكذا، كان في العيش الرغد. غير أن من ضرورة هذه الحال ملازمة التقوى، فإنه لا يصلح الأنس إلا بها. 407- وقد كان أرباب التقوى يتشاغلون عن كل شيء إلا عن اللجإ والسؤال. 408- وفي الحديث: أن قتيبة بْنَ مُسْلِمٍ1 لما صاف2 الترك، هاله أمرهم، فقال: أين محمد بن واسع3؟ فقيل: هو في أقصى الميمنة، جانح على سية قوسه4، يوميء بإصبعه نحو السماء. فقال قتيبة: تلك الإصبع الفاردة5 أحب إلى من مئة ألف سيف شهير6 وسنان طرير7. فلما فتح عليهم؛ قال له: ما كنت تصنع؟ قال: آخذ لك بمجامع الطرق.   1 الباهلي: فاتح بلاد ما وراء النهر، توفي سنة "96هـ". 2 صاف: واجههم في المعركة. 3 أبو بكر الأزدي البصري، أحد الأعلام زهدًا وعبادة، توفي سنة "123هـ". 4 سيد القوس: ما انعطف من طرفيه. 5 الفاردة: الوحيدة. 6 الشهير: المسلول في وجه العدو. 7 الطرير: الحاد القاطع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 78- فصل: كتمان الأمور فعل الحازم 409- ينبغي لمن تظاهرت نعم الله -عز وجل- عليه، أن يظهر منها ما يبين أثرها، ولا يكشف جملتها، وهذا من أعظم لذات الدنيا، التي يأمر الحزم بتركها، فـ "إن العين حق"1. 410- وإني تفقدت النعم، فرأيت إظهارها حلوًا عند النفس، إلا أنها إن أظهرت لوديد2، لم يؤمن تشعث باطنه بالغيط، وإن أظهرت لعدو، فالظاهر إصابته   1 رواه البخاري "5740"، ومسلم "2187" عن أبي هريرة رضي الله عنه. 2 الوديد: المحب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 بالعين، لموضع الحسد! إلا أنني رأيت [غيظ] 1 الحسود كاللازم، فإنه في حال البلاء يتشفى، وفي حال النعم يصيب بالعين. ولعمري، إن المنعم عليه يشتهي غيظ حسوده، ولكنه لا يؤمن أن يخاطر بنعمته، فإن الغالب إصابة الحاسد لها بالعين، فلا يساوي الالتذاذ بإظهار ما غيظ به، ما أفسدت عينه بإصابتها. 411 وكتمان الأمور في كل حال فعل الحازم: فإنه إن كشف مقدار سنه، استهرموه إن كان كبيرًا، واحتقروه إن كان صغيرًا. وإن كشف ما يعتقده، ناصبه الأضداد بالعداوة. وإن كشف قدر ماله، استحقروه إن كان قليلًا، وحسدوه إن كان كثيرًا. وفي هذه الثلاثة يقول الشاعر2: احفظ لسانك لا تبح بثلاثة ... سن ومال ما استطعت ومذهب فعلى الثلاثة تبتلى بثلاثة ... بمموه وممخرق ومكذب وقس على ما ذكرت ما لم أذكره، ولا تكن من المذاييع [الأغوار] 3، الذين لا يحملون أسرارهم حتى يفشوها إلى من لا يصلح! ورب كلمة جرى بها اللسان هلك بها الإنسان.   1 في الأصل: بعد، فلعلها بغض. 2 هو محمد بن عبد الباقي البزار كما ذكر المؤلف في الفصل "253". وربما ذكره مستشهدًا به والله أعلم. 3 في الأصل: الغر: وهو الذي لا بصر له بالأمور لقلة التجربة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 79- فصل: الاحتراز من الذنوب 412- رأيت كُلَّ من يعثر بشيء، أو يزلق في مطر، يلتفت إلى ما عثر به، فينظر إليه، طبعًا موضوعًا في الخلق: إما ليحذر منه إن جاز عليه مرة أخرى [و] من مثله، أو لينظر -مع احترازه وفهمه- كيف فاته التحرز من مثل هذا؟! فأخذت من ذلك إشارة، وقلت: يا من عثر مرارًا! هَلَّا أبصرت ما الذي عثرك، فاحترزت من مثله، أو قبحت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 لنفسك -مع حزمها- تلك الواقعة؟! فإن الغالب ممن يلتفت أن معنى التفاته: كيف عثر مثلي -مع احترازه- بمثل ما أَرَى؟! فَالعَجَبُ لك! عثرت بمثل الذنب الفلاني والذنب الفلاني! كيف غرك زخرف تعلم بعقلك باطنه، وترى بعين فكرك ماله؟! كيف آثرت فانيًا على باق؟! كيف بعت بوكس1؟ كيف اخترت لذة رقدة على انتباه مُعَامَلةٍ؟! آهٍ لكَ! لقد اشتريت بما بعت أحمال ندم، لا يقلها2 ظهر، وتنكيس رأس أمسى بعيد الرفع، ودموع حزن على قبح فعل ما لمددها انقطاع، وأقبح الكل أن يقال لك: بماذا؟! ومن أجل ماذا؟! وهذا على ماذا؟!. يا من قلب الغرور عليه الصنجة3، ووزن له، والميزان رَاكِبٌ4!   1 الوكس: الغبن والخسارة. 2 لا يقلها: لا يحملها. 3 الصنجة: ما يوزن به. 4 الميزان الراكب: متعلق لا يتحرك ولا يزن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 80- فصل: ندر من تطرقه البلايا مع التقوى 413- تأملت قوله تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه:123] : قال المفسرون: {هُدَايَ} : رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكتابي. فوجدته على الحقيقة: أن كل من اتبع القرآن والسنة، وعمل بما فيهما، فقد سلم من الضلال بلا شك، وارتفع في حقه شقاء الآخرة بلا شك، إذا مات على ذلك. 414- وكذلك شقاء الدنيا، فلا يشقى أصلًا، ويبين هذا قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] . فإن رأيته في شدة، فله من اليقين بالجزاء ما يصير الصاب1 عنده عَسَلًا، وإلا، غلب طيب العيش في كل حالٍ. 415- والغالب أنه لا تنزل به شدة إلا إذا انحرف عن جادة التقوى، فأما الملازم لطريق التقوى، فلا آفة تطرقه، ولا بلية تنزل به، هذا هو الأغلب.   1 الصاب: شجر له عصارة شديدة المرارة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 عليه، فإن قدرنا عدم الذنب، فذاك لإدخال ذهب صبره كير البلاء، حتى يخرج تِبْرًا أحمر، فهو يرى عذوبة العذاب؛ لأنه يشاهد المبتلى في البلاء "لا" الألم1. قال الشبْليُّ: أحبك الناس لنعمائك، وأنا أحبك لبلائك.   1 في الأصل: الألم، وهو تصحيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 81- فصل: لا ينال لذة المعاصي إلا سكران الغفلة 416- لا ينال لذة المعاصي إلا سكران الغفلة، فأما المؤمن، فإنه لا يلتذ؛ لأنه عند التذاذه يقف بإزائه علم التحريم، وحذر العقوبة. فإن قويت معرفته، رأى بعين علمه قرب الناهي، فيتنغص عيشه في حال التذاذه. 417- فإن غلب سكر الهوى، كان القلب متنغصًا بهذه المراقبات، وإن كان الطبع في شهوته. وما هي إلا لحظة، ثم خذ من غريم ندم ملازم، وبكاء متواصل، وأسف على ما كان مع طول الزمان، حتى أنه لو تيقن العفو، وقف بإزائه حذر العتاب. فأفِّ للذنوب! ما أقبح آثارها! وما أسوأ أخبارها! ولا كانت شهوة لا تنال إلا بمقدار قوة الغفلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 82- فصل: إنما عزلة العالم عن الشر ِّ 418- بكرت يومًا أطلب الخلوة إلى جامع الرصافة1، فجعلت أجول وحدي وأتفكر في ذلك المكان، ومن كان به من العلماء والصالحين، ورأيت أقوامًا قد جاوزوا فيه، فسألت أحدهم: منذ كم أنت ها هنا؟ فأومأ إلى قريب من أربعين سنةً! فرأيته في بيت كثير الدَّرَنَ والوسخ، وجعلت أتفكر في حبسه لنفسه عن النكاح هذه المدة!! فأخذت النفس تحسن ذلك، وتذم الدنيا والاغترار بها، فأقبل العلم ينكر على النفس، ونهض الفهم لحقائق الأمور، وموضوع الشرع يقوي ما قال العلم،   1 الرصافة: الجانب الشرقي في بغداد، والكرخ الجانب الغربي، يفصل بينهما نهر دجلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 فتنحلُّ1 من ذلك. 419 [إلى] 2 أن قلت للنفس: اعلمي أن هؤلاء على ضربين: منهم من يجاهد نفسه في الصبر على هذه الأحوال، فتفوته فضائل المخالطة لأهل العلم، والعمل، وطلب الولد، ونفع الخلق، وانتفاع نفسه بمجالسة أهل الفهم، فيحدث له من نفسه حالة تشابه فيها الوحش، فتؤثر الانفراد لنفس الانفراد، وربما: يبس الطبع، وساء الخلق، وربما: حدث من حبس مائه المحتقن سُمِّيَّةٌ أفسدت بدنه وعقله، وربما: أورثته الخلوة وسوسةً، وربما: ظن أنه من الأولياء، واستغنى بما يعرفه، وربما: خيل له الشيطان أشياء من الخيالات، وهو يعدها كرامات!! وربما: ظن أن الذي هو فيه الغاية، ولا يدري أنه إلى الكراهة أقرب، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نهى أن يبيت الرجل وحده"3، وهؤلاء كل منهم يبيت وحده!. و"نَهَى عَنِ التَّبَتُّل"4، وهذا تبتل!، و "نهى عن الرهبانية"5. وهذا من خفي خدع إبليس التي يوقع بها في ورطات الضلال بألطف وجهٍ وأخفاه. والضرب الثاني: مشايخ قد فنوا، فانقطعوا ضرورة، إذ ليس لأحدهم مأوى، فهم في مقام الزمنى6. وإن كان الضرب الأول قد قطعوا حبل نفوسهم في العلم والعمل والكسب، وتعلقت هممهم بفتوح يطرق عليهم الباب، فرضوا بالعمى بعد البصر، وبالزمن7 بعد الإطلاق. 420- فقالت لي النفس: لا أرضى هذا الذي تقوله، فإنك إنما تميل إلى إيثار   1 تنحل: يزول الإشكال وتخلص من الشبهة. 2 زيادة ضرورية ليستقيم بها السياق. 3 رواه أحمد "2/ 91" عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال الهيثمي في المجمع "8/ 107": رجاله رجال الصحيح. 4 رواه البخاري "5073"، ومسلم "1402" عن سعد رضي الله عنه. 5 رواه أحمد "6/ 226"، وابن حيان "9" عن عائشة رضي الله عنها والدارمي "2/ 133" عن سعد رضي الله عنه. 7 الزمن: مرض يدوم طويلًا يقعد بصاحبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 نكاح المستحسنات والمطاعم المشتهيات؛ فإذا لم تكن من أهل التعبد، فلا تطعن فيهم. فقلت لها: إن فهمت، حدثتك، وإن كنت تقلدين صور الأحوال، فلا فهم لك. أما المستحسنات، فإن المقصود من النكاح أشياء: منها: طلب الولد، ومنها: شفاء النفس بإخراج الفضلة المؤذية، وكمال خروجها لا يكون إلا بوجود المستحسن! واعتبر هذا بالوطء دون الفرج، فإنه يخرج من الفضلات ما لا يخرج بالوطء من الفرج! وبتمام خروج تلك الفضلة تفرغ النفس عن شواغلها، فتدري أين هي، كما نأمر القاضي بالأكل قبل الحكم، وننهاه عن الحكم وهو غضبان أو حاقن. وبكمال بلوغ هذا الغرض يكون كمال الولد لتمام النطفة التي تخلق منها، ثم للنفس حظ، فهي1 تستوفيه استيفاء الناقة حظها من العلف في السفر، وذلك يعين على سيرها. وأما المَطَاعِمُ، فالجاهل من يطلبها لذاتها أو لنفس لذاتها، وإنما المراد إصلاح "النفس"2 لجمع همها، ونيل مرادها من غرضها الصارف لها عن الفكر في هواها. 421- وإذا تأملت حال السرب الأول، رأيت من هذا عجبًا: فإن النبي صلى الله عليه وسلم اختار لنفسه عائشة رضي الله عنها، وكانت مستحسنة3. ورأى زينب، فاستحسنها، فتزوجها4. وكذلك اختار صفية5. وكان إذا وصفت له امرأة، بعث يخطبها6.   1 في الأصل: فهو. 2 في الأصل: عدم الناقة، وليس بشيء. 3 عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال صلى الله عليه وسلم: "أريتك في المنام ثلاث ليال، جاء بك الملك في سرقة من حرير، فيقول: هذه امرأتك، فأكشف عن وجهك، فإذا أنت هي، فأقول: إن يك هذا من عند الله يمضه" رواه البخاري "5125"، ومسلم "2438". 4 أما زواجه من زينب بنت جحش رضي الله عنها فرواه البخاري "7420و 7421"، ومسلم "1428" عن أنس رضي الله عنه، وليس فيه ولا في غيره أنه رآها فاستحسنها. 5 رواه البخاري "371"، ومسلم "1365"، عن أنس رضي الله عنه. 6 لم يصح في هذا شيء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 وكان لعليٍّ -رضي الله عنه- أربع حرائر، وسبع عشرة سريةً، مات عنهن. وقبل هذه الأمة، فقد كان لداود عليه السلام مئة امرأة، ولسليمان عليه السلام ألف امرأة. فمن ادعى خَلَلًا في هذه الطرق، أو أن هؤلاء آثروا هواهم، وأنفقوا بضائع العمر في هذه الأغراض، وغيرها أفضل، فقد ادعى على الكاملين النقصان، وإنما هو الناقص في فهمه لا هم. وقد كان سفيان الثوري إذا سافر، ففي سفرته حمل مشوي وفالوذج، وكان حسن المطعم، وكان يقول: إن الدابة إذا لم تحسن إليها، لم تعمل. 422- وهذه الفنون التي أشرت إليها، إن قصدت للحاجة إليها، أو لقضاء وطر النفس منها، أو لبلوغ الأغراض الدينية والدنيوية منها: فكله قصد صحيح، لا يعكر عليه من يقوم ويقعد في ركعات لا يفهم معناها، وفي تسبيحات أكثر ألفاظها ردية. 423- كلا، ليس إلا العلم الذي هو أفضل الصفات، وأشرف العبادات، وهو الآمر بالمصالح، والناطق بالنصائح. ثم منفعة العلم معروفة، وزهد الزاهد لا يتعدى عتبة بابه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لأن يهدي الله بك رجلًا خير لك مما طلعت عليه الشمس"1. 424- ثم اعتبر فضل الرسل على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والجوارح على التي لا تصيد، والطين الذي يعمل منها ما ينتفع به على الطين في المقلع2. وغاية العلماء تصرفهم بالعلم في المباح، وأكثر المتزهدين جهلة، يستعبدهم تقبيل اليد لأجل تركهم ما أبيح. فكم فوتت العزلة عِلْمًا يصلح به أصل الدين، وكم أوقعت في بلية هلك بها الدين، وإنما عزلة العالم عن الشر فحسب، والله الموفق.   1 رواه الطبراني عن أبي رافع. انظر: كنز العمال "28802". 2 المقلع: المكان الذي تقلع منه الحجارة، ويستعان على ذلك بالماء، فيكثر الطين في هذه المقالع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 83- فصل: للذنوب عواقب سيئة 425- ينبغي لكل ذي لب وفطنة أن يحذر عواقب المعاصي، فإنه ليس بين آدمي وبين الله تعالى قرابة ولا رحم، وإنما هو قائم بالقسط، حاكم بالعدل. وإن كان حلمه يسع الذنوب، إلا أنه إذا شاء، عفا، فعفى1 كل كثيف من الذنوب، وإذا شاء أخذ باليسير. فالحذر الحَذَرَ! 426- ولقد رأيت أقوامًا من المترفين، كانوا يتقلبون في الظلم والمعاصي باطنة وظاهرة، فتعبوا من حيث لم يحتسبوا، فقلعت أصولهم، ونقض ما بنوا من قواعد أحكموها لذراريهم، وما كان ذلك إلا أنهم أهملوا جانب الحق عز وجل، وظنوا أن ما يفعلونه من خير يقاوم ما يجري من شر، فمالت سفينة ظنونهم، فدخلها من ماء الكيد ما أَغْرَقَهُمْ. 427- ورأيت أقوامًا من المنتسبين إلى العلم، أهملوا نظر الحق -عز وجل- إليهم في الخلوات، فمحا محاسن ذكرهم في الجلوات2، فكانوا موجودين الكمعدومين، لا حلاوة لرؤيتهم، ولا قلب يحن إلى لقائهم. فَاللهَ اللهَ في مراقبة الحق عز وجل؛ فإن ميزان عدله تبين فيه الذرة، وجزاؤه مراصد للمخطئ، ولو بعد حين، وربما ظن أنه العفو، وإنما هو إمهال، وللذنوب عواقب سيئة. فَاللهَ اللهَ! الخلوات "الخلوات"! البواطن البواطن! النيات النيات، فإن عليكن من الله عينًا ناظرةً! وإياكم والاغترار بحلمه وكرمه، فكم استدرج! وكونوا على مراقبة الخطايا، مجتهدين في محوها! وما شيء ينفع كالتضرع مع الحمية عن الخطايا، فلعلعه3. وهذا فصل إذا تأمله المعامل لله تعالى نفعه. 428- ولقد قال بعض المراقبين لله تعالى: قدرت على لذة وليست بكبيرة، فنازعتني نفسي إليها، اعتمادًا على صغرها، وعظم فضل الله تعالى وكرمه، فقلت   1 عفى: محا وأزال. 2 الجلوات: عكس الخلوات. 3 فلعله: أي فلعله ينفع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 لنفسي: إن غلبت هذه، فأنت أنت، وإذا أتيت هذه، فمن أنت؟! وذكرتها حالة أقوام كانوا يفسحون لأنفسهم في مسامحة، كيف انطوت أذكارهم، وتمكنت عقوبة الإعراض عنهم منهم، فارعوت1 ورجعت عَمّا همت به، والله الموفق.   1 ارعوت: انزجرت، واتعظت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 84- فصل: اعرفوا عظمة الناهي 429- كثير من الناس يتسامحون في أمور يظنونها قريبة، وهي تقدح في الأصول، كاستعارة طلاب العلم جزءًا لا يردونه، وقصد الدخول على من يأكل ليأكل1 معه، وتناول طعام لم يدع الإنسان إليه، والتسامح بعرض العدو التذاذًا بذلك، واستصغارًا لمثل هذا الذنب، وإطلاق البصر هوانًا بتلك الخطيئة، وفتوى من لا يعلم لئلَّا يقال: هو جاهل، ونحو ذلك مما يظنه صغيرًا وهو عظيم. وأهون ما يصنع ذلك بصاحبه أن يحطه من مرتبة المتميزين بين الناس، ومن مقام رفعة القدر عند الحق. وربما قيل له بلسان الحق: يا من أؤتمن على أمر يسير فخان! ما بلية حظك فانوِ به2. قال بَعْضُ السَّلَفِ: تسامحت بلقمة، فتناولتها، فأنا اليوم من أربعين سنة إلى خلف3. فَاللهَ اللهَ! اسمعوا ممن قد جرب! كونوا على مراقبة! وانظروا في العواقب! واعرفوا عظمة الناهي! واحذروا من نفخة تحتقر، وشررة تستصغر، فربما أحرقت بلدًا! وهذا الذي أشرت إليه، يسير يدل على كثير، وأنموذج يعرف باقي المحقرات من الذنوب. والعلم والمراقبة يعرفانك ما أخللت بذكره، ويعلمانك إن تلمحت بعين البصيرة أثر شؤم فعله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.   1 في الأصل: ليؤكل. 2 في "ي": كيف ترجو بتدليك رضًا الديان. والتدلي: انحطاط في الهمة توقع صاحبها في المعاصي. 3 خلف: أي من سيئ إلى أسوأ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 85- فصل: تسأل الله حاجاتها وتنسى جناياتها 430- رأيت من نفسي عجبًا! تسأل الله عز وجل حاجاتها، وتنسى جناياتها!! فقلت: يا نفس السوء! أو مثلك ينطق؟! فإن نَطَق، فينبغي أن يكون السؤال العفو فحسب. فقالت: فممن أطلب مراداتي؟! قلت: ما أمنعك من طلب المراد، إنما أقول: حققي التوبة وانطقي، كما نقول في العاصي بسفره1 إذا اضطر إلى الميتة: لا يجوز له أن يأكل، فإن قيل لنا: أفيموت؟! قلنا: لا، بل يَتُوْبُ وَيَأْكُلُ. فالله الله من جراءةٍ على طلب الأغراض، مع نسيان ما تقدم من الذنوب، التي توجب تنكيس الرأس، ولئن تشاغلت بإصلاح ما مضى، والندم عليه، جاءتك مراداتك. كما روي: "من شغله ذكري عن مسألتي، أعطيته أفضل ما أعطي السائلين"2. 431- وقد كان بشر الحافي يبسط يديه للسؤال، ثم يسبلهما، ويقول: مثلي لا يسأل! ما أبقت الذنوب لي وَجْهًا. وهذا يختص ببشر لقوة معرفته، كان وقت السؤال كالمخاطب كفاحًا، فاستحيا للزلل. فأما أهل الغفلة، فسؤالهم على بعد. فافهم ما ذكرته، وتشاغل بالتوبة من الزلل. 432- ثم العجب من سؤالاتك! فإنك لا تكاد تسأل مهمًّا من الدنيا، بل فضول العيش، ولا تسأل صلاح القلب والدين مثل ما تسأل صلاح الدنيا. فاعتقل أمرك؛ فإنك من الانبساط والغفلة على شفا جُرُفٍ، وليكن حزنك على زلاتك شاغلًا لك عن مراداتك، فقد كان الحسن البصري شديد الخوف، فلما قيل له في ذلك؟ قال: وما يؤمنني أن يكون اطلع على بعض ذنوبي فقال: اذهب؛ لا غفرت لك؟!   1 العاصي بسفره هو ما كان الباعث على سفره المعصية، كمن سافر ليتجر بالخمر، فهذا لا يجوز له الترخص في السفر إلا أن يتوب، أما العاصي في السفر فهو ما كان الباعث على سفره جائزًا لكنه لابس في سفره معصية كمن سافر يتجر بمال مباح، لكنه شرب الخمر في سفره، فهذا يجوز له الترخص في السفر. 2 رواه الترمذي "2926"، والدارمي "11/ 441" عن أبي سعيد الخدري، ضعفه العراقي في تخريج الإحياء "1/ 295". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 ما عرف الله ولا من خاف منه ... 86- فصل: ما عرف الله إلا من خاف منه 433- أعجب العجب دعوى المعرفة مع البعد عن العرفان بالله! ما عرفه إلا من1 خاف منه، فأما المطمئن، فليس من أهل المعرفة. 434- وفي المتزهدين أهل تغفيل، يكاد أحدهم يوقن2 أنه ولي محبوب ومقبول! وربما توالت عليه ألطاف ظنها كرامات، ونسي الاستدراج3، الذي لفت مساكنته الألطاف! وربما احتقر غيره، وظن أن محلته4 محفوظة به! تغره ركيعات يتنصب فيها، أو عبادة ينصب5 بها! وربما ظن أنه قطب الأرض! وأنها لا ينال مقامه بعده أحد!! 435- وكأنه ما علم أنه بينا6 موسى عليه السلام مكالم، نبئ يوشع! وبينا زكريا عليه السلام مجاب الدعوة، نشر بالمنشار! وبينا يحيى عليه السلام يوصف بأنه سيد، سلط عليه كافر احتز رأسه! وبينا بلعام7 معه الاسم الأعظم، صار مثله كمثل الكلب! وبينا الشريعة يعمل بها، نسخت، وبطل حكمها! وبينا البدن معمور، خرب، وسلط البلى8 عليه! وبينا العالم يدأب حتى ينال مرتبة يعتقدها، نشأ طفل في زمانه، ترقى إلى سبر عيوبه وغلطه، وكم من متكلم يقول: ما مثلي! لو عاش فسمع ما حدث بعده من الفصاحة، عد نفسه أخرس! هذا وعظ ابن السماك9 وابن عمار10 وابن   1 في الأصل: ما. 2 في الأصل: يوطن على. 3 الاستدراج: أن يفتح الله عليهم من النعم ما يغتبطهم به ويركنون إليه، ثم يأخذهم على غرتهم أغفل ما يكونون. كما قال المؤلف في زاد المسير ص "53" ط ابن حزم. 4 محلته: موطن سكناه. 5 ينصب: يتعب. 6 بينا: بينما. 7 بلعام بن باعوراء: أحد علماء بني إسرائيل، أضله الله بعد علم، فكان عبرة لغيره، نظر: قصته في فتح القدير تفسير الآيات "175- 178" من سورة الأعراف. 8 في الأصل: البلاء. 9 محمد بن صبيح العجلي، سيد الوعاظ في عصره، زاهد عابد، توفي سنة "183هـ". 10 منصور بن عمار بن كثير السلمي الخراساني، الواعظ البليغ، كان عديم النظير في الموعظة والتذكير وفاته في حدود المائتين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 سمعون1، لا يصلح لبعض تلامذتنا ولا يرضاه. فكيف يعجب من ينفق2 شيئًا؟! وبما أتى بعدنا من لا يعدنا!! فالله الله من مساكنة مسكن، ومخالفة مقام ... وليكن المتيقظ على انزعاجٍ، محتقرًا للكثير من طاعاته، خائفًا على نفسه من تقلباته، ونفوذ الأقدار فيه. واعلم أن تلمح هذه الأشياء التي أشرت إليها يضرب عنق العجب، ويذهب كِبْرَ الكِبْرِ 3.   1 محمد بن أحمد بن عنبس البغدادي "300-387هـ": أوحد دهره في الكلام على الخواطر. 2 في حاشية الأصل: كذا في الهندية. وفي الأحمدية: يتفق شيئًا. 3 كبر الكبر: كثيره وجله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 87- فصل: المعرفة التي توجب الرضا والصبر 436- من عاش مع الله -عز وجل- طيب النفس1 في زمن السلامة، خفت عليه زمن البلاء، فهناك المحك. إن الملك -عز وجل- بينا يبني نقض، وبينا يعطي سلب، فطيب النفس4 والرضا هناك يبين2 فأما من تواصلت لديه النعم؟ فإنه يكون طيب القلب لتواصلها، فإذا مسته نفحة من البلاء، فبعيد ثباته. قال الحسن البصري: كانوا يتساوون في وقت النعم، فإذا نزل البلاء، تباينوا3. 437- فالعاقل من أعد ذخرًا، وحصل زادًا، وازداد من العدد، للقاء حرب البلاء، ولا بد من لقاء البلاء، ولو لم يكن إلا عند صرعة الموت؛ فإنها إن نزلت   1 في الأصل: العيش. 2 يبين: يظهر. 3 في كتاب الزهد للإمام أحمد "343": والله لقد رأيتهم يتفاوتون في العافية، فإذا نزل البلاء تساووا، وهذا يتفق مع قوله تعالى في سورة يونس: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ، فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 -والعياذ بالله- فلم تجد معرفة توجب الرضا أو الصبر، أخرجت إلى الكفر. ولقد سمعت بعض من كنت أظن فيه كثرة الخير، وهو يقول في ليالي موته: ربي هو ذا يظلمني! فلم أزل منزعجًا مهتمًا بتحصيل عدةٍ ألقى بها ذلك اليوم1. كيف، وقد روي أن الشيطان يقول لأعوانه في تلك الساعة: عليكم بهذا، فإن فاتكم، فلم تقدروا عليه؟! 438- وأي قلب يثبت عند إمساك النفس، والأخذ بالكظم2، ونزع النفس، والعلم بمفارقة المحبوبات إلى ما لايدري ما هو، وليس في ظاهره إلا القبر والبلاء. 439- فنسأل الله -عز وجل- يقينًا يقينًا3 شر ذلك اليوم، لعلنا نصبر للقضاء أو نرضى به، ونرغب إلى مالك الأمور في أن يهب لنا من فواضل نعمه على أحبابه، حتى يكون لقاؤه أحب إلينا من بقائنا، وتفويضنا إلى تقديره أشهى لنا من اختيارنا. ونعوذ بالله من اعتقاد الكمال لتدبيرنا، حتى إذا انعكس علينا أمر، عدنا إلى القدر بالتسخط، وهذا هو الجهل المحض والخذلان الصريح، أعاذنا الله منه.   1 في الأصل: القرن. 2 الكاظم: مخرج النفس. 3 يقينا: يحفظنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 88- فصل: صفة العارف 440- ليس في الدنيا ولا في الآخرة أطيب عَيْشًا من العارفين بالله عز وجل. فإن العارف به مستأنس به في خلوته، فإن عمت نعمة، علم من أهداها، وإن مَرَّ مُرٌّ حلا مذاقة في فيه، لمعرفته بالمبتلي، وإن سأل فتعوق مقصوده، صار مراده ما جرى به القدر، علا منه بالمصلحة، بعد يقينه بالحكمة، وثقته بحسن التدبير. 441- وصفة العارف: أن قلبه مراقب لمعروفه1، قائم بين يديه، ناظر بعين اليقين إليه، فقد سرى من بركة معرفته إلى الجوارح ما هذبها. فإن نطقت فلم أنطق بغيركم ... وإن سكت فأنتم عقد إضماري   1 معروفه: خالقه عز وجل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 442- إذا تسلط على العارف أَذًى، أعرض نظره عن السبب، ولم ير سوى المسبب، فهو في أطيب عيش معه: إن سكت، تفكر في إقامة حقه، وإن نطق، تكلم بما يرضيه، لا يسكن قلبه إلى زوجة ولا إلى ولد، ولا يتشبث بذيل محبة أحدٍ؛ وإنما يعاشر الخلق ببدنه، وروحه عند مالك روحه. فهذا الذي لا هَمَّ عليه في الدنيا، ولا غم عنده وقت الرحيل عنها، ولا وحشة له في القبر، ولا خوف عليه يوم المحشر. 443- فأما من عدم المعرفة، فإنه معثر: لا يزال يضج من البلا؛ لأنه لا يعرف المبتلي، ويستوحش لفقد غرضه؛ لأنه لا يعرف المصلحة، ويستأنس بجنسه؛ لأنه لا معرفة بينه وبين ربه، ويخاف من الرحيل؛ لأنه لا زاد له، ولا معرفة بالطريق. 444- وكم من عالم وزاهد لم يرزقا من المعرفة إلا ما رزقه العامي البطال! وربما زاد عليهما! وكم من عامي رزق منها ما لم يرزقاه مع اجتهادهما! وإنما هي مواهب وأقسام1: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54] .   1 الأقسام: جمع قسم وهو النصب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 89- فصل : لا تبع عزَّ التقوى بذل المعاصي 445- بالله عليك يا مرفوع القدر بالتقوى، لا تبع عزها بذل المعاصي! وصابر عطش الهوى في هجير1 المشتهى، وإن أمض2 وأرمض3، فإن بلغت النهاية من الصبر، فاحتكم وقل، فهو مقام "من لو أقسم على الله لأبره". 446- تالله لولا صبر عمر، ما انبسطت يده بضرب الأرض بالدرة4. ولولا جد أنس بن النضر في ترك هواه، وقد سمعت من آثار عزمته: "لئن أشهدني الله مشهدًا؛ ليرين الله ما أَصْنَعُ" فأقبل يوم أُحُدٍ يقاتل حتى قتل، فلم يعرف إلا ببنانه5،   1 الهجير: شدة الحر وهو هنا شدة الشهوة. 2 أمض: آلم. 3 أرمض: أحرق لشدة حرّه. 4 الدرة: سوط أو عصا لينة للتأديب. 5 رواه البخاري "4048"، ومسلم "1903" عن أنس بن مالك رضي الله عنه و "البنان" طرف الأصبع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 فلولا هذا العزم، ما كان انبساط وجهه1 يوم حلف: والله، لا تكسر سن الربيع2. 447- بالله عليك، تذوق حلاوة كف الكف عن المنهيِّ؛ فإنها شجرة تثمر عز الدنيا وشرف الآخرة، ومتى اشتد عطشك إلى ما تهوى، فابسط أنامل الرجاء إلى من عنده الري الكامل، وقل: قد عيل صبر3 الطبع في سنيه العجاف4، فعجل لي العام الذي فيه أغاث وأعصر. 448 بالله عليك، تفكر فيمن قطع أكثر العمر في التقوى والطاعة، ثم عرضت له فتنة في الوقت الأخير، كيف نطح مركبه الجرف5 فغرق وقت الصعود! أف والله للدنيا -لا بل للجنة- إن أوجب نيلها إعراض الحبيب! 449 إنما نسب العامي باسمه واسم أبيه، أما ذوو الأقدار، فالألقاب قبل الأنساب قل لي: من أنت؟ وما عملك؟ وإلى أي مقام ارتفع قدرك؟ 450 يا من لا يصبر لحظة عما يشتهي! بالله عليك، أتدري من الرجل؟! الرجل -والله- من إذا خلا بما يحب من المحرم، وقدر عليه، وتقلقل عطشًا إليه، نظر إلى نظر الحق إليه، فاستحى من إجالة همة فيما يكرهه، فذهب العطش. 451 كأنك لا تترك لنا إلا ما لا تشتهي، أو ما لا تصدق الشهوة فيه، أو ما لا تقدر عليه!! كذا والله عادتك! إذا تصدقت، أعطيت كسرة لا تصلح لك، أو في جماعة يمدحونك.   1 في الأصل: وجه. 2 عن أنس بن مالك: أن الربيع بنت النضر كسرت ثنية جارية، فطلبوا الأرش وطلبوا العفو، فأبوا، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأمرهم بالقصاص، فقال أنس بن النضر: أتكسر ثنية الربيع يا رسول الله؟ لا والذي بعثك بالحق، لا تكسر ثنيتها، فقال: "يا أنس كتاب الله القصاص" فرضي القوم وقبلوا الأرش، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره" رواه البخاري "2703"، ومسلم "1675". 3 عيل الصبر: فُقد. 4 العجاف: الهزلي. 5 الجرف: الساحل الصخري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 هيهات! والله، لا نلت ولا يتنا حتى تكون معاملتك لنا خالصةً، تبذل أطايبك، وتترك مشتهياتك، وتصبر على مكروهاتك، عِلْمًا منك -إن كنت معاملًا- بأنك أجير، وما غربت الشمس1 فإن كنت محبًّا، رأيت ذلك قليلًا في جنب رضا حبيبك عنك. وما كلامنا مع الثالث2.   1 ما غربت الشمس: أي لم ينته يوم العمل لتستحق الأجر. 2 الثالث: العاصي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 90- فصل: ثبتت حكمة الله في حكمه وملكه 452- رأيت في العقل نوع منازعة للتطلع إلى [معرفة] جميع حكم الحق -عز وجل- في حكمه! فربما لم يتبين له بعضها -مثل النقض بعد البناء- فيقف متحيرًا! وربما انتهز الشيطان تلك الفرصة، فوسوس إليه: أين الحكمة من هذا؟! فقلت له: احذر أن تخدع يا مسكين! فإنه قد ثبت [عندك] بالدليل القاطع -لما رأيت من إتقان الصنائع-[مبلغ] حكمة الصانع؛ فإن خفي عليك بعض الحكم، فلضعف إدراكك. 453- ثم ما زالت للملوك أسرار، فمن أنت حتى تطلع بضعفك على جميع حكمه؟! يكفيك الجمل! وإياك إياك أن تتعرض لما يخفي عليك، فإنك بعض موضوعاته، وذرة من مصنوعاته، فكيف تتحكم على من صدرت عنه؟! 454- ثم قد ثبتت عندك حكمته في حكمه وملكه، فأعمل آلتك على قدر قوتك في مطالعة ما يمكن من الحكم، فإنه سيورثك الدهش! وغمض عما يخفى عليك، فحقيق بذي البصر الضعيف ألا يقاوي1 نور الشمس.   1 يقاوي: يغالب، وما زال هذا الحرف مستعملًا في الشام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 91- فصل: أعجب الأشياء مجاهدة النفس 455- أعجب الأشياء مجاهدة النفس؛ لأنها تحتاج إلى صناعة عجيبةٍ: فإن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 أقوامًا أطلقوها فيما تحب، فأوقعتهم فيما كرهوا، وإن أقوَامًا بالغوا في خلافها، حتى منعوها حقَّهَا، وظلموها، وأثر ظلمهم لها في تعبداتهم، فمنهم: من أساء غذاءها، فأثر ذلك ضعف بدنها عن إقامة واجبها، ومنهم: من أفردها في خلوة، أثمرت الوحشة من الناس، وآلت إلى ترك فرض أوفضل، من عيادة مريض، أو بر والدة. وإنما الحازم من تعلم منه نفسه الجد وحفظ الأصول، فإذا فسح لها في مباح، لم تتجاسر أن تتعداه، فيكون معها كالملك إذا مازح بعض جنده، فإنه لاينبسط إليه الغلام، فإن انبسط، ذكر هيبة المملكة. فكذلك المحقق، يعطيها حظها، ويستوفي منها ما عليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 92- فصل: البدار البدار قبل الفوات 456- رأيت عموم الخلائق يدفعون الزمان دفعًا عجيبًا: إن طال الليل، فبحديث لا ينفع، أو بقراءة كتاب فيه غزاة وسمر! وإن طال النهار، فبالنوم! وهم في أطراف النهار على دجلة أو في الأسواق! فشبهتهم بالمتحدثين في سفينة، وهي تجري بهم، وما عندهم خبر! 457- ورأيت النادرين قد فهموا معنى الوجود، فهم في تعبئة الزاد، والتأهب للرحيل، إلا أنهم يتفاوتون، وسبب تفاوتهم قلة العلم وكثرته، بما ينفق في بلد الإقامة1، فالمتيقظون منهم يتطلعون إلى الأخبار بالنافق هناك، فيستكثرون منه، فيزيد ربحهم، والغافلون منهم يحملون ما اتفق، وربما خرجوا لا مع خفير2، فكم ممن قد قطعت عليه الطريق فبقي مفلسًا! فالله الله في مواسم العمر! والبدار البدار قبل الفوات! واستشهدوا العلم، واستبدلوا الحكمة، ونافسوا الزمان، وناقشوا النفوس، واستظهروا بالزاد، فكان قد حَدَا الحادي، فلم يفهم صوته من وقع دمع الندم.   1 بلد الإقامة: الآخرة. 2 الخفير: الحارس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 93- فصل: تخليط أرباب الآخرة 458- أضر ما على المريض التخليط1، وما من أحد إلا وهو مريض بالهوى. والحمية عنه رأس الدواء، والتخليط يديم المرض. 459- وتخليط أرباب الآخرة على ضربين: أحدهما: تخليط العلماء، وهو إما لمخالطة الأضداد كالسلاطين، فإنهم يضعفون قوى يقينهم، كلما زادت المخالطة، "ويفقدون"2 دليلهم عند المريدين، فإني إذا رأيت طبيبًا يخلط ويحميني، شككت أو وقفت. والثاني: تخليط الزهاد، وقد يكون بمخالطة أرباب الدنيا، وقد يكون بحفظ الناموس في إظهار التخشع، لاجتلاب محبة العوام. فالله الله، فإن ناقد الجزاء بصير، والإخلاص في الباطن، والصدق في القلب، ونعم طريق السلامة ستر الحال.   1 التخليط: عدم الحمية. 2 في الأصل: ويقدمون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 94- فصل: أنفع المشايخ في صحبته العامل بعلمه 460- لقيت مشايخ، أحوالهم مختلفة، يتفاوتون في مقاديرهم في العلم، وكان أنفعهم لي في صحبته العامل منهم بعلمه، وإن كان غيره أعلم منه. 461- ولقيت جماعةً من علماء الحديث يحفظون ويعرفون، ولكنهم كانوا يتسامحون بغيبة يخرجونها مخرج جرح وتعديل، ويأخذون على قراءة الحديث أجرة، ويسرعون بالجواب، لئلا ينكسر الجاه، وإن وقع خطأ. 462- ولقيت عبد الوهاب الأنماطيَّ، فكان على قانون السف، لم تسمع في مجلسه غيبةٌ، ولا كان يطلب أجرًا على سماع الحديث، وكنت إذا قرأت عليه أحاديث الرقائق، بكى، واتصل بكاؤه، فكان -وأنا صغير السن حينئذ- يعمل بكاؤه في قلبي، ويبني قواعد، وكان على سمت المشايخ الذين سمعنا أوصافهم في النقل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 463- ولقيت الشيخ أبا منصور الجَوَالِيْقِيَّ1، فكان كثير الصمت، شديد التحري فيما يقول، متقنًا، محققًا، وربما سئل المسألة الظاهرة، التي يبادر بجوابها بعض غلمانه، فيتوقف فيها حتى يتيقن، وكان كثير الصوم والصمت، فانتفعت برؤية هذين الرجلين أكثر من انتفاعي بغيرهما ففهمت من هذه الحالة أن الدليل بالفعل أرشد من الدليل بالقول. 464- ورأيت مشايخ كانت لهم خلوات في انبساط ومزاح، فراحوا عن القلوب، وبدد تفريطهم ما جمعوا من العلم، فقل الانتفاع بهم في حياتهم، ونسوا بعد مماتهم، فلا يكاد أحد يلتفت2 إلى مصنفاتهم. فالله الله في العلم بالعمل، فإنه الأصل الأكبر. والمسكين كل المسكين من ضاع عمره في علم لم يعمل به، ففاتته لذات الدنيا وخيرات الآخرة، فقدم مفلسًا، على قوة الحجة عليه.   1 موهوب بن أحمد بن محمد بن الخضر الجواليقي "466-540هـ": عالم بالأدب واللغة، مولده ووفاته ببغداد. 2 في الأصل: أن يلتفت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 95- فصل : إن الله -عز وجل- يمهل ليبلو صبر الصابر 465- سبحان الملك العظيم، الذي من عرفه خافه، وما أمن مكره قط من1 عرفه. 466- لقد تأملت أمرًا عظيمًا: أنه عز وجل يمهل حتى كأنه يهمل، فترى أيدي العصاة مطلقة، كأنه لا مانع؛ فإذا زاد الانبساط، ولم ترعو2 العقول، أخذ أخذ جبار؛ وإنما كان ذلك الإمهال ليبلو صبر الصابر، وليملي في الإمهال للظالم، فيثبت هذا على صبره، ويجزي هذا بقبيح فعله، مع أن هنالك من الحلم في طي ذلك ما لا نعلمه، فإذا أخذ أخذ عقوبة، رأيت على كل غلطة تبعة، وربما جمعت، فضرب العاصي بالحجر الدامغ.   1 في الأصل: ما. 2 ترعوي: تنزجر وتتعظ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 وربما خفي على الناس سبب عقوبته، فقيل: فلان من أهل الخير، فما وجه ما جرى له؟! فيقول القدر: حدود لذنوب خفية، صار استيفاؤها ظاهرًا. فسبحان من ظهر حتى لا خفاء به، واستتر حتى كأنه لا يعرف، وأمهل حتى طمع في مسامحته، وناقش حتى تحيرت العقول من مؤاخذته، لا حول ولا قوة إلا بالله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 96- فصل: الجمع بين العلم والمعاملة 467- تأملت العلم والميل إليه، والتشاغل به؛ فإذا هو يقوي القلب قوة تميل به إلى نوع قساوة، ولولا قوة القلب، وطول الأمل، لم يقع التشاغل به، فإني أكتب الحديث أرجو أن أرويه، وأبتدئ بالتصنيف أرجو أن أتمه. فإذا تأملت باب المعاملات1، قل الأمل2، ورق القلب، وجاءت الدموع، وطابت المناجاة، وغشيت السكينة، وصرت كأني في مقام المراقبة. إلا أن العلم أفضل، وأقوى حجة، وأعلى رتبة، وإن حدث منه ما شكوت منه. والمعاملة؛ وإن كثرت الفوائد التي أشرت إليها منها، فإنها قريبة إلى أحوال الجبان الكسلان، الذي قد اقتنع بصلاح نفسه عن هداية غيره، وانفرد بعزلته عن اجتذاب الخلق إلى ربهم. فالصواب العكوف على العلم، مع تلذيع النفس بأسباب المرفقات تلذيعًا لا يقدح في كمال التشاغل بالعلم. فإني لأكره لنفسي من وجهة ضعف قلبي ورقته أن أكثر زيارة القبور، وأن أحضر المحتضرين؛ لأن ذلك يؤثر في فكري، ويخرجني من حيز المتشاغلين بالعلم إلى مقام الفكر في الموت، ولا أنتفع بنفسي مدة. 468- وفصل الخطاب في هذا أنه ينبغي أن يقاوم المرض بضده: فمن كان قلبه قاسيًا شديد القسوة، وليس عنده من المراقبة ما يكفه عن الخطأ، قوم ذلك بذكر الموت، ومحاضرة المحتضرين. فأما من قلبه شديد الرقة، فيكفيه ما به؛ بل ينبغي له أن يتشاغل بما ينسيه   1 المعاملات: أعمال القلوب أو علم السلوك. 2 في نسخة: "الزمل" وهو الحِمْل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 ذلك، لينتفع بعيشه، وليفهم ما يفتي به، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يمزح1، ويسابق عائشة رضي الله عنها2، ويتلطف بنفسه3. فمن سار سيرته عليه الصلاة والسلام، فهم من مضمونها ما قلته من ضرورة التلطف بالنفس.   1 عن أبي هريرة رضي الله عنه قالوا: يا رسول الله إنك تداعبنا. قال: "إني لا أقول إلا حقًّا" رواه الترمذي "1990"، وأحمد "2/ 340و 360" قال الترمذي: حسن صحيح. 2 رواه أبو داود "2578"، وابن ماجه "1979"، وأحمد "6/ 264" عن عائشة رضي الله عنها. 3 أي: كان معتدلًا في أمره كله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 97- فصل: نعوذ بالله من طول الأمل 469- أظرف الأشياء إفاقة المحتضر عند موته؛ فإنه ينتبه انتباهًا لا يوصف، ويقلق قلقًا لا يحد، ويتلهف على زمانه الماضي، ويود لو ترك "كي يتدارك ما فاته"1، ويصدق "في" توبته على مقدار يقينه بالموت، ويكاد يقتل نفسه قبل موتها بالأسف. ولو وجدت ذرة من تلك الأحوال في أوان العافية، حصل كل مقصود من العمل بالتقوى. فالعاقل من مثل تلك الساعة، وعمل بمقتضى ذلك؛ فإن لم يتهيأ تصوير ذلك على حقيقته، تخايله على قدر يقظته، فإنه يكف كف الهوى، ويبعث على الجد. 470- فَأَمَّا من كانت تلك الساعة نصب عينيه، كان كالأسير لها، كما روي عن حبيب العجمي5: أنه كان إذا أصبح، يقول لامرأته: إذا مت اليوم، ففلان يغسلني، وفلان يحملني. 471 وقال معروف لرجل: صل بنا الظهر! فقال: إن صليت بكم الظهر، لم أصل بكم العصر: فقال: وكأنك تؤمل أن تعيش إلى العصر؟! نعوذ بالله من طول الأمل. وذكر رجل رجلًا بين يديه بغيبةٍ، فجعل معروف يقول له: اذكر القطن إذا وضعوه على عينيك!   1 أبو محمد زاهد أهل البصرة وعابدهم، كان مجاب الدعوة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 98- فصل: أخذ الإشارات من الأشعار 472- ربما أخذ المتيقظ بيت شِعْرٍ، فأخذ منه إشارةً، فانتفع بها، قال الجُنَيْدُ: ناولني سري رقعة، مكتوب فيها: سمعت حاديًا1 في طريق مكة شرفها الله تعالى يقول: أَبْكِي وما يدريك ما يبكيني ... أبكي حذار أن تفارقيني وتقطعي حبلي وتهجريني فانظر -رحمك الله ووفقك- إلى تأثير هذه الأبيات عند سَرِيٍّ، حتى أحب أن يطلع منها الجنيد على ما اطلع عليه، ولم يصلح للاطلاع على مثلها إلا الجنيد. فإن أقوامًا فيهم كثافة طبع وخشونة فهم، قال بعضهم لما سمع مثل هذه: إلام يشار بهذه؟ إن كان إلى الحق، فالحق -عز وجل- لا يشار إليه بلفظ تأنيث، وإن كان إلى امرأة، فأين الزهد؟! ولعمري إن هذا حداء أهل الغفلة إذا سمعوا مثل هذا، ولذلك ينهى عن سماع القصائد وأقوال أهل الغناء؛ لأن الغالب حمل تلك الأبيات على مقاصد النفس وغلبات الهوى. ومن أين لنا مثل الجنيد وَسَرِيٍّ؟! وإذا وجدنا مثلهما، فهما خبيران بما يسمعان. 473- وأما اعتراض هذا الكثيف الطبع، فالجواب: أن سريا لم يأخذ الإشارة من اللفظ، ولم يقس ذلك على مطلوبه، فيصيره تأنيثًا أو تذكيرًا؛ وإنما أخذ الإشارة من المعني، فكأنه يخاطب حبيبه بمعنى الأبيات، فيقول: أبكي حذارًا من إعراضك وإبعادك! فهذا الحاصل له، وما التفت قط إلى تذكير ولا إلى تأنيث، فافهم هذا2! 474- وما زال المتيقظون يأخذون الإشارة من مثل هذا، حتى كانوا يأخذونها من هذا الذي تقوله العامة ويلقبونه بـ "كان وكان"3.   1 الحادي: من ينشد للإبل كي تسرع في سيرها. 2 قال سلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام في قواعده "1/ 356": تشبيه النفيس بالخسيس سوء أدب لا شك فيه، كالتشبيه بالخصر والردف ونحو ذلك من التشبيهات المستقبحات. 3 نوع من الزجل اخترعه البغداديون، نظموا فيه أقاصيص وأساطير، يكون كل شطر من الأشطر الأربعة مخالفًا للشطر الآخر في الوزن، وليس على الناظم أن يلتزم إلا قافية الشطر الأخير، جميل سلطان "كتاب الشعر" ص "168". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 فرأيت بخط ابن عقيل، عن بعض مشايخه الكبار أنه سمع امرأةً تنشدُ: غسلت له طول الليل ... فركت له طول النهار خرج يعاين غيري ... زلق وقع في الطين فأخذ من ذلك إشارة معناها: يا عبدي! إني حسنت خلقك، وأصلحت شأنك، وقومت بنيتك، فأقبلت على غيري، فانظر عواقب خلافك لي! وقال ابن عقيل: وسمعت امرأة تقول من هذا "الكان وكان"1، "وكانت" كلمة بقيت في قلقها2 مدةً: كم كنت بالله أقول لك ... لذا التواني غائله وللقبيح خميره ... تبين بعد قليل قال ابن عقيل: فما أوقعه من تخجيل على إهمالنا لأمور غدًا تبين خمائرها3 بين يدي الله تعالى!   1 في الأصل: من هذا المكان، والتصويب من "ط". 2 قلقها: مشغول بها خاطري. 3 تبين خمائرها: تسفر وجوهها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 99- فصل: الورع الأخذ بالأحوط في اتقاء الشبهات 475- أمكنني تحصيل شيءٍ من الدنيا بنوع من أنواع الرخص، فكنت كلما حصل شيء منه، فاتني من قلبي شيء، وكلما استنارت لي طريق التحصيل، تجدد في قلبي ظلمة. فقلت: يا نفس السوء! الإثم حواز القلوب1، وقد قال "النبي صلى الله عليه وسلم": "استفت قلبك"2، فلا خير في الدنيا كلها إذا كان في القلب من تحصيلها شيء أوجب نوع كدر، وإن الجنة لو حصلت بسبب يقدح في الدين أو في المعاملة، ما لذت! والنوم على المزابل مع سلامة القلب من الكدر ألذ من تكأة الملوك.   1 حواز القلوب: يأسر القلب ويقيده. 2 رواه أحمد "4/ 288"، والدارمي "2/ 246" عن وابصة بن معبد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 476- ومازلت أغلب نفسي تارةً، وتغلبني أخرى، ثم تدعي الحاجة إلى تحصيل ما لا بد لها منه، وتقول: فما أتعدى في الكسب المباح في الظاهر! فقلت لها: أو ليس الورع يمنع من هذا؟ قالت: بلى، قلت: أليست القسوة في القلب تحصل به؟ قالت: بلى. قلت: فلا خير لك في شيء هذا ثمرته! 477- فخلوت يومًا بنفسي، فقلت لها: ويحك! اسمعي أحدثك! إن جمعت شيئًا من الدنيا من وجه فيه شبهة، أفأنت على يقين من إنفاقه؟ قالت: لا. قلت: فالمحنة أن يحظى به الغير، ولا تنالين إلا الكدر العاجل، والوزر الذي لا يؤمن. ويحك! اتركي هذا الذي يمنع منه الورع لأجل الله، فعامليه بتركه. وكأنك لا تريدين أن1 تتركي إلا ما هو محرم فقط، أو ما لا يصح وجهه؟ أو ما سمعت أن: "من ترك شيئًا للهِ، عوضه الله خيرًا منه"2؟! أما لك عبرة في أقوام جمعوا، فحازه سواهم، وأملوا فما بلغو مناهم؟! كم من عالم جمع كُتُبًا كثيرةً ما انتفع بها! وكم من منتفع ما عنده عشرة أجزاءٍ! وكم من طيب العيش لا يملك دينارين! وكم ن ذي قناطير مُنَغَّصٍ! أما لك فطنة تتلمح أحوال من يترخص من وجهٍ، فيسلب منها من أوجهٍ؟! ربما نزل المرض بصاحب الدار، أو ببعض من فيها، فأنفق في سنته أضعاف ما ترخيص في كسبه، والمتقي معافًى. فضجت النفس من لومي، وقالت: إذا لم أتعد واجب الشرع، فما الذي تريد مني؟! فقلت لها: أضن بك عن الغبن، وأنت أعرف بباطن أمرك. قالت: فقل لي: ما أصنع؟ قلت: عليك بالمراقبة لمن يراك، ومثلي نفسك بحضرة معظم من الخلق؛ فإنك بين يدي الملك الأعظم، يرى من باطنك ما لا يراه المعظمون من ظاهرك، فخذي بالأحوط، واحذري من الترخص في بيع اليقين والتقوى بعاجل الهوى، فإن ضاق الطبع مما تلقين، فقولي له: مهلًا، فما انقضت مدة الإشارة! والله مرشدك إلى التحقيق، ومعينك بالتوفيق.   1 في الأصل: ألّا. 2 رواه أحمد "5/ 363"، والنسائي في الكبرى، والقضاعي "1135" عن رجل من أهل البادية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 100- فصل: إن العقوبة بالمرصاد 478- مازلت أسمع عن جماعة من الأكابر وأرباب المناصب أنهم: يشربون الخمور، ويفسقون، ويظلمون، ويفعلون أشياء توجب الحدود! فبقيت أتفكر، أقول: متى يثبت على مثل هؤلاء ما يوجب حدًّا؟ فلو ثبت، فمن يقيمه؟ وأستبعد هذا في العادة؛ لأنهم في مقام احترام لأجل مناصبهم. فبقيت أتفكر في تعطيل الحد الواجب عليهم، حتى رأيناهم قد نكبوا، وأخذوا مرات، ومرت عليهم العجائب، فقوبل ظلمهم بأخذ أموالهم، وأخذت منهم الحدود مضاعفة بعد الحبس الطويل، والقيد الثقيل، والذل العظيم، وفيهم من قتل بعد ملاقاة كل شدة! فعلمت أنها ما يهمل شيء! فالحَذَرَ الحَذَرَ، فإن العقوبة بالمرصاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 101- فصل: اجتهاد العاقل فيما يصلحه لازم 479- اجتهاد العاقل فيما يصلحه لازم له بمقتضى العقل والشرع. فمن ذلك حفظ ماله، وطلب تنميته، والرغبة في زياداته -لأن1 سبب بقاء الإنسان ماله- فقد نهي عن التبذير فيه: فقيل له: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} فاعلم أنه سبب لبقائه: {الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5] ، أي: قوامًا لمعاشكم. وقال عز وجل: {وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء: 29] . وقال تعالى: {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} [الإسراء: 26] . وقال تعالى: {لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67] . 480- ومن فضيلة المال: أن الله تعالى قال: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة: 245] ، وقال تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 195] ، وقال تعالى: {يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ} [البقرة: 261] ، وقال تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ} [الحديد: 10] . 481- وجعل المال نعمة، وزكاته تطهيرًا: فقال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً   1 في الأصل: لأنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] ، قال صلى الله عليه وسلم: "نعم المال الصالح للرجل الصالح"، وقال: "ما نفعني مال كمال أبي بَكْرٍ". وكان أبو بكر رضي الله عنه يخرج إلى التجارة، ويترك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا ينهاه عن ذلك. 482- وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لأن أموت بين شعبتي جبل، أطلب كفاف وجهي؛ أحب إلي من أن أموت غازيًا في سبيل الله". 483- وكان جماعة من الصحابة رضي الله عنهم يتجرون، ومن سادات التابعين سعيد بن المسيب، مات وخلف مالًا، وكان يحتكر الزيت1. وما زال السلف على هذا. 484- ثم قد تعرض نوائب -كالمرض- يحتاج فيها إلى شيءٍ من المال، فلا يجد الإنسان بدًّا من الاحتيال في طلبه2، فيبذل عرضه أو دينه. 485- ثم للنفس قوة بدنية عند وجود المال، وهو معدود عند الأطباء من الأدوية، حكمة وضعها الواضع. 486- وإنما نبغ أقوام، طلبوا طريق الراحة، فادعوا أنهم متوكلة، وقالوا: نحن لا نمسك شيئًا، ولا نتزود لسفر، ورزق الأبدان يأتي! وهذا على مضادة الشرع: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن إضاعة المال3، وموسى عليه السلام لما سافر في طلب الخضر تزود4، ونبينا صلى الله عليه وسلم لما هاجر تزود5، وأبلغ من هذا قوله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197] 6. ثم يدعي هؤلاء المتصوفة بغض الدنيا، فلا يفهمون ما الذي يبتغي أن يبغض، ويرون زيادة الطلب للمال حرصًا وشرهًا!!   1 رواه أحمد "3/ 454"، وسيأتي في الفصل "109" عن سعيد بن المسيب: أنه كان يتجر في الزيت. 2 في الأصل: طلبته. 3 رواه البخاري "2408"، ومسلم "593" عن المغيرة رضي الله عنه. 4 قال تعالى: {فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا} [الكهف: 26] . 5 رواه البخاري "3905" عن عائشة رضي الله عنها. 6 قال ابن عباس: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون، ويقولون: نحن المتوكلون، فإذا قدموا مكة سألوا الناس، فأنزل الله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197] ، رواه البخاري "1523" وغيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 وفي الجملة، إنما اخترعوا بآرائهم طريقًا: فيها شيء من الرهبانية إذا صدقوا، وشيء من البهرجة1 [إذ] 2 نصبوا شباك الصيد بالتزهد! فسموا ما يصل إليهم من الأرزاق فتوحًا3!! 487- قال ابن قتيبة4 في "غريب الحديث" عند شرح قوله صلى الله عليه وسلم: "واليد العليا ... "5، قال: "هي المعطية". قال: "فالعجب عندي من قوم يقولون: هي الآخذة! ولا أرى هؤلاء القوم إلا قومًا استطابوا السؤال، فهم يحتجون للدناءة، فأما الشرائع، فإنها بريئة من حالهم". 488- وفي الحديث6: ضاق البلد بمواشي إبراهيم وَلُوْطٍ -عليهما السلام- فافْتَرَقا. 489- وكان شعيب عليه السلام كثير المال، ثم قد ند طمعه في زيادة الأجر من موسى عليه السلام، فقال: {فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ} [القصص:27] . 490- وكان ابن عقيل رحمه الله يقول: من قال: إني لا أحب الدنيا، فهو كذاب، فإن يعقوب عليه السلام لما طلب منه ابنه بنْ يامين7، قال: {هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ} [يوسف: 64] فقالوا: {وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ} [يوسف: 65] فقال: خُذُوْهُ. 491- وقال بعض السلف: من ادعى بغض الدنيا، فهو عندي كذاب إلى أن يثبت صدقه، فإذا ثبت صدقه، فهو مجنون. 492- وقد نفر جماعة من المتصوفة خلقًا من الخلق عن الكسب، وأوحشوا بينهم وبينه، وهو دأب الأنبياء والصالحين، وإنما طلبوا طريق الراحة، وجلسوا على الفتوح، فإذا شبعوا، رقصوا، فإذا انهضم الطعام، أكلوا، فإذا لاحت لهم حيلة على   1 البهرجة: الزيف والباطل. 2 في الأصل: إذا. 3 الفتوح: العطايا الربانية. 4 عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري "213-276هـ": من أئمة اللغة والأدب ومن المصنفين المكترثين. 5 رواه البخاري "1429"، ومسلم "1033" عن ابن عمر رضي الله عنه. 6 يستعمل المؤلف كلمة الحديث بمعناها اللغوي في أكثر من موضع، فلعلّ منه هذا. 7 هو ابن يعقوب عليه السلام من زوجته راحيل، وبن يامين معناه: ابن اليمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 غنيٍّ، أوجبوا عليه دعوةً، إما بسبب شكر، أو بسبب استغفار. وأَطَمُّ الطامات ادعاؤهم أن هذا قربةٌ! وقد انعقد إجماع العلماء أن من ادعى الرقص قربة إلى الله تعالى، كفر، فلو أنهم قالوا: مباح، كان أقرب حالًا! وهذا؛ لأن القرب لا تعرف إلا بالشرع، وليس في الشرع أمر بالرقص، ولا ندب إليه1. 493- ولقد بلغني عن جماعةٍ منهم أنهم كانوا يوقدون الشمع في وجوه المردان، وينظرون إليهم، فإذا سئلوا عن ذلك، سخروا بالسائل، فقالوا: نعتبر بخلق الله! أفتراهم أقوى من النبي -صلى الله عليه وسلم- حين أجلس الشاب الذي وفد عليه من وراء ظهره، وقال: "وهل كانت فتنة داود إلا من النظر"2؟! هيهات! لقد تملك الشيطان تلك الأزمة فقادها إلى ما أراد. 494- والعجب ممن يذم الدنيا وهو يأكل فيشبع، ولا ينظر من أين المطعم! وما زال صالحوا السلف يفتشون عن المطعم: حتى كان إبراهيم بن أدهم يسهو هو وأصحابه، ويقولون: مع من نعمل إذا، وكان سري السقطي يعرف بطيب الغذاء، وله في الورع مقامات. 495- فجاء قوم يتسمون بالصوفية، يدعون اتباع أولئك السادة، ويأكلون من مال فلان، وهم يعرفون أصول تلك الأموال، ويقولون: رزقنا! فوا عَجَبًا! إذ كان الآكل لا يبالي به من أين، ولا لديه امتناع من شهوة ولا تقلل، ولا يخلو الرباط3 من المطبخ، ولا ينقطع ليلة، وأصله من مال قد عرف من أين هو، والحمام دائر، والمغني يدق بدف فيه جلاجل4، ورفيقه بالشَّبَّابةِ5،   1 انظر: كتاب "الرهص والوقص لمستحلِّ الرقص" للعلامة الفقيه الشيخ إبراهيم الحلبي، صاحب كتاب "ملتقى الأبحر"، من منشورات دار البشائر بدمشق. 2 من كلام سعيد بن جبير، رحمه الله. 3 الرباط مكان على الحدود مع العدو، يجتمع فيه العباد والزهاد بغية الشاركة في الجهاد في سبيل الله وحماية دار الإسلام كما كان يفعل عبد الله بن المبارك وأمثاله، ثم صار يطلق على المكان الذي يجتمع فيه المتصوفة والدراويش. 4 الجلاجل: الأجراس الصغيرة تثبت على أطراف الدف. 5 المزمار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 وسعدى وليلى في الإنشاد، والمردان في الشمع، ثم يذم الدنيا بعد هذا، فقولوا لنا: من يتلهى بالناس "إلا هؤلاء"؟! ولكن، من مرت عليه زرجنتهم1، فإنه أخس منهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 102- فصل : لو صحَّت النفوس لذابت من خوف الله أو لغابت في محبته 496- عرض لي في طريق الحج خوف من العرب2، فسرنا على طريق خيبر3، فرأيت من الجبال الهائلة، والطرق العجيبة ما أذهلني، وزادت عظمة الخالق عز وجل في صدري، فصار يعرض لي عند ذكر تلك الطرق نوع تعظيم لا أجده عند ذكر غيرها. فصحت بالنفس: ويحك! اعبري إلى البحر، وانظري إليه، وإلى عجائبه بعين الفكر، تشاهدي أهوالًا هي أعظم من هذه. ثم اخرجي إلى الكون، والتفتي إليه، فإنك ترينه بالإضافة إلى السماوات والأفلاك كذرة في فلاة، ثم جولي في الأفلاك، وطوفي حول العرش، وتلمحي ما في الجنان والنيران. ثم اخرجي عن الكل، والتفتي إليه، فإنك تشاهدين العالم4 في قبضة القادر الذي لا تقف قدرته عند حد. ثم التفتي إليك، فتلمحي بدايتك ونهايتك، وتفكري فيما قبل البداية، وليس إلا العدم، وفيما بعد البلى، وليس إلا التراب. فكيف يأنس بهذا الوجود من نظر بعين فكره المبدأ والمنتهى؟! وكيف يغفل أرباب5 القلوب عن ذكر هذا الإله العظيم؟! وبالله، لو صحت النفوس من سكر هواها، لذابت من خوفه، أو لغابت في حبه؛ غير أن الحس غلب، فعظمت قدرة الخالق عند رؤية جبل، وإن الفطنة لو تلمحت المعاني، لدلت القدرة عليه أوفى من   1 زرجنتهم: خديعتهم. 2 كان ذلك في حجته الثانية سنة "553هـ"، أما الأولى فكانت سنة "541هـ"، والمقصود بالعرب الأعراب، الذين كانوا يقطعون الطريق على القوافل. 3 خيبر: ناحية شمال المدية على طريق الشام. ومعنى خيبر بالعبرانية: الحصن. 4 في الأصل: تشاهدينه. 5 في الأصل: فعل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 دليل الجبل، سبحان من شغل أكثر الخلق بما هم فيه عَمَّا خلقوا له! سبحانه! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 103- فصل : الواجب الصبر وإن كان الدعاء مشروعًا 497- للبلاء نهايات معلومة الوقت عند الله عز وجل، فلا بد للمبتلى من الصبر إلى أن ينقضي أوان البلاء، فإن تقلقل1 قبل الوقت، لم ينفع التقلقل، كما أن المادة إذا انحدرت إلى عضو، فإنها لن ترجع، فلا بد من الصبر إلى حين البطالة. فاستعجال زوال البلاء مع تقدير مدته لا ينفع؛ فالواجب الصبر، وإن كان الدعاء مشروعًا، ولا ينفع إلا به. 498- إلا أنه لا ينبغي للداعي أن يستعجل، بل يتعبد بالصبر والدعاء، والتسليم إلى الحكيم، ويقطع المواد التي كانت سببًا للبلاء، فإن غالب البلاء أن يكون عقوبة. فأما المستعجل، فمزاحم للمدبر، وليس هذا مقام العبودية؛ وإنما المقام الأعلى هو الرضا، والصبر هو اللازم، والتلاجي2 بكثرة الدعاء نعم المعتمدة، والاعتراض حرام، والاستعجال مزاحمة للتدبير، فافهم هذه الأشياء، فإنها تهون البلاء.   1 ضعف ولم يصبر. 2 التلاجي: الالتجاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 زاد الصبر ... 104- فصل: زاد الصابر 499- ليس في الوجود شيء أصعب من الصبر: إما عن المحبوب، أو على المكروهات، وخصوصًا إذا امتد الزمان، أو توقع اليأس من الفرج، وتلك المدة تحتاج إلى زاد يقطع به سفرها. 500- والزاد يتنوع من أجناس: فمنه: تلمح مقدار البلاء، وقد يمكن أن يكون أكثر، ومنه: أنه في حال فوقها أعظم منه، مثل أن يبتلى بفقد ولد، وعنده. أعز منه، ومن ذلك: رجاء العوض في الدنيا، ومنه: تلمح الأجر في الآخرة، ومنه: التلذذ بتصوير المدح والثناء من الخلق فيما يمدحون عليه، والأجر من الحق عز وجل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 ومن ذلك أن الجزع لا يفيد، بل يفضح صاحبه. إلى غير ذلك من الأشياء التي يقدحها العقل والفكر، فليس في طريق الصبر نفقة سواها، فينبغي للصابر أن يشغل بها نفسه، ويقطع بها ساعات ابتلائه، وقد صبح المنزل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 105- فصل: المدعو مالك حكيم 501- ينبغي لمن وقع في شدة، ثم دعا أن لا يختلج في قلبه أمر من تأخير الإجابة أو عدمها؛ لأن الذي عليه1 أن يدعو، والمدعو مالك حكيم، فإن لم يجب، فعل ما يشاء في ملكه، وإن أخر، فعل بمقتضى حكمته، فالمعترض عليه في سره خارج عن صفة عبد، مزاحم [لمرتبته] 2، مستحق [لعقوبته] . 502- ثم ليعلم أن اختيار الله عز وجل له خير من اختياره لنفسه. فربما سأل سيلًا سال به! وفي الحديث: "أن رجلًا كان يسأل الله عز وجل أن يرزقه الجهاد، فهتف به هاتف: إنك إن غزوت، أسرت، وإن أسرت، تنصرت". فإذا سلم العبد تحكيمًا لحكمته وحكمه، وأيقن أن الكل ملكه، طاب قلبه، قضيت حاجته، أو لم تقض. 503- وفي الحديث: "ما من مسلم دعا الله تعالى إلا أجابه: فإما أن يعجلها، وإما أن يؤخرها، وإما أن يدخرها له في الآخرة"3. فإذا رأى يوم القيامة أن ما أجيب فيه قد ذهب، وما لم يجب فيه قد بقي ثوابه، قال: ليتك لم تجب لي دعوة قط، فافهم هذه الأشياء! وسلم قلبك من أن يختلج فيه ريب أو استعجال.   1 في الأصل: إليه، وهو تصحيف. 2 في حاشية الأصل: في الأحمدية: لمرتبة مستحق، قلت: وفي المصرية والهندية: بمرتبة مستحق. 3 رواه أحمد "3/ 18"، وأبو نعيم "6/ 311"، والحاكم "1/ 493" وقال: هذا حديث صحيح الإسناد؛ إلا أن الشيخين لم يخرجا عن علي بن علي الرفاعي ووافقه الذهبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 106- فصل: رتبة العلماء على الزهاد 504- من أراد أن يعرف رتبة العلماء على الزهاد، فلينظر في رتبة جبريل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 وميكائيل، ومن خص من الملائكة بولاية تتعلق بالخلق: وباقي الملائكة قيام للتعبد، في مراتب الرهبان في الصوامع. وقد حظي أولئك بالتقريب على مقادير علمهم بالله تعالى. فإذا مر أحدهم بالوحي، انزعج أهل السماء، حتى يخبرهم بالخبر، فـ {إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ} [سبأ: 23] ، كما إذا انزعج الزاهد من حديث يسمعه، سأل العلماء عن صحته ومعناه. فسبحان من خص فريقًا بخصائص شرفوا بها على جنسهم! 505- ولا خصيصة أشرف من العلم، بزيادته صار آدم مسجودًا له، وبنقصانه صارت الملائكة ساجدة، فأقرب الخلق من الله العلماء. 506- وليس العلم بمجرد صورته هو النافع، بل معناه: وإنما ينال معناه من تعلمه للعمل به، فكلما دله على فضل، اجتهد في نيله، وكلما نهاه عن نقص، بالغ في مباعدته1، فحينئذ يكشف العلم له سره، ويسهل عليه طريقه، فيصير كمجتذب يحث الجاذب، فإذا حركه، عجل في سيره. والذي لا يعمل بالعلم2، لا يطلعه العلم على غوره، ولا يكشف له عن سره، فيكون كمجذوب لجاذب جاذبه. فافهم هذا المثل، وحسن قصدك، وإلا فلا تتعب.   1 في الأصل: في مساعدته، وهو تصحيف. 2 في الأصل: بالعمل، وهو تصحيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 107- فصل: أصلح الأمور الاعتدال في كل شيء ٍ 507- اعلم أن أصلح الأمور الاعتدال في كل شيء، وإذا رأينا أرباب الدنيا قد غلبت آمالهم، وفسدت في الخير أعمالهم، أمرناهم بذكر الموت والقبول والآخرة. 508- فأما إذا كان العالم لا يغيب عن ذكره الموت، وأحاديث الآخرة تقرأ عليه، وتجري على لسانه، فتذكاره الموت -زيادة على ذلك- لا يفيد إلا انقطاع بالمرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 بل ينبغي لهذا العالم الشديد الخوف من الله تعالى، الكثير الذكر للآخرة، أن يشاغل نفسه عن ذكر الموت، ليمتد نفس أمله قليلًا، فيصنف، ويعمل أعمال خير، ويقدر على طلب ولد، فأما إذا لهج بذكر الموت، كانت مفسدته عليه أكثر من مصلحته. ألم تسمع أن النبي صلى الله عليه وسلم سابق عاشة رضي الله عنها فسبقته، وسابقها فسبقها، وكان يمزح ويشاغل نفسه؟ فإن مطالعة الحقائق على التحقيق تفسد البدن، وتزعج النفس، وقد روي عن أحمد بن حنبل رحمة الله عليه: أنه سأل الله تعالى أن يفتح عليه باب الخوف، ففتح عليه، فخاف على عقله، فسأل الله أن يرد ذلك عنه. فتأمل هذا الأصل، فإنه لابد من مغالطة النفس1، وفي ذلك صلاحها. والله الموفق، والسلام.   1 انظر: الفصل "171". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 108- فصل: الفكر يدل على أشرف المقامات 509- من أعمل فكره الصافي؛ دله على طلب أشرف المقامات، ونهاه عن الرضا بالنقص في كل حال، وقد قال أبو الطيب المتنبي1: ولم أر في عيوب الناس عيبًا ... كنقص القادرين على التمام فينبغي للعاقل أن ينتهي إلى غاية ما يمكنه: فلو كان يتصور للآدمي صعود السماوات، لرأيت من أقبح النقائص رضاه بالأرض، ولو كانت النبوة تحصل بالاجتهاد، رأيت المقصر في تحصيلها في حضيض، غير أنه إذا لم يمكن ذلك، فينبغي أن يطلب الممكن. والسيرة الجميلة عند الحكماء: خروج النفس إلى غاية كمالها الممكن لها في العلم والعمل. 510- وأنا أشرح من ذلك ما يدل مذكوره على مغفله2: أما في البدن، فليست الصورة داخلة تحت كسب الآدمي، بل يدخل تحت كسبه تحسينها وتزيينها،   1 ديوانه ص "476". 2 مذكوره على مغفله: أي: منطوقه على مفهومه، أو ما يدل الكلام على لازمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 فقبيح بالعاقل إهمال نفسه. وقد نبه الشرع على الكل بالبعض، فأمر بقص الأظفار، ونتف الإبط، وحلق العانة، ونهى عن أكل الثوم والبصل النيء، لأجل الرائحة. وينبغي له أن يقيس على ذلك ويطلب غاية النظافة ونهاية الزينة. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرف مجيئة بريح الطيب1، فكان الغاية في النظافة والنزاهة. ولست آمر بزيادة التنظف2، الذي يستعمله الموسوس، ولكن التوسط هو المحمود. 511- ثم ينبغي له أن يرفق ببدنه، الذي هو راحلته، ولا ينقص من قوتها، فتنقض قوتها، ولست آمر بالشبع الذي يوجب الجشاء3؛ إنما آخر بالتوسط، فإن قوى الآدمي كعين جارية، كم فيها من منفعة لصاحبها ولغيره ويعين صانعًا4، ولا يلتفت إلى قول الموسوسين من المتزهدين، الذين جدوا في التقلل، فضعفوا عن الفرائض، وليس ذلك من الشرع، ولا نقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه؛ وإنما كان الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه إذا لم يجدوا، جاعوا، وربما آثروا فصبروا ضرورة. 512- وكذلك ينبغي أن ينظر لهذه الراحلة في علفها، فرب لقمة منعت لقمات، فلا يعطيها ما يؤذيها، بل ينظر لها في الأصلح، ولا يلتفت 5 إلى متزهد يقول: لا أبلغها الشهوات، فإن النظر ينبغي أن يكون في حل المطعم، وأخذ ما يصلح بمقدار. 513- ولم ينقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه رضي الله عنهم ما أحدثه الموسوسون في ترك المشتهيات على الإطلاق، إنما نقل عنهم تركها لسبب: إما للنظر في حلها، أو للخوف من مطالبة النفس بها في كل وقت، ويجوز ذلك. 514- وينبغي له أن يجتهد في التجارة والكسب، ليفضل على غيره، ولا يفضل غيره عليه، وليبلغ من ذلك غاية لا تمنعه عن العلم. 515- ثم ينبغي له أن يطلب الغاية في العلم، ومن أقبح النقص التقليد؛ فإن   1 رواه ابن سعد "1/ 193" عن أنس. 2 في الأصل: التقشف. 3 الجشاء: صوت مع ريج يخرج من الفم عند امتلاء المعدة. 4 كذا في الأصل. 5 في الأصل: يتلفت، وهو تصحيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 قويت همته، رقته إلى أن يختار لنفسه مذهبًا، ولا يتمذهب لأحدٍ، فإن المقلد أعمى، يقود مقلده. ثم ينبغي أن يطلب الغاية في معرفة الله تعالى ومعاملته. وفي الجملة، لا يترك فضيلة يمكن تحصيلها إلا حصلها؛ فإن القنوع حال الأرذال. فكن رجلًا رجله في الثرى ... وهامة همته في الثُّرَيَّا ولو أمكنك عبور كل أحد من العلماء والزهاد فافعل فإنهم كانوا رجالًا وأنت رجل، وما قعد من قعد إلا لدناءة الهمة وخساستها. 516- واعلم أنك في ميدان سباق، والأوقات تنتهب، ولا تخلد إلى كسل، فما فات من فات إلا بالكسل، ولا نال من نال إلا بالجد والعزم، وإن الهمة لتغلي في القلوب غليان ما في القدور. وقد قال بعض من سلف: ليس لي مال سوى كرمي ... فبه أحيا من العدم1 قنعت نفسي بما رزقت ... وتمطت في العلا هممي   1 في الأصل: ليس لي مال سوى كرى * فبه امني من العدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 ما أكمل العلم والمال في المؤمن ... 109- فصل: ما أكمل العالم والمال في المؤمن 517- ليس في الدنيا أنفع للعلماء من جمع المال للاستغناء عن الناس؛ فإنها إذا ضم إلى العلم، حيز الكمال. 518- وإن جمهور العلماء شغلهم العلم عن الكسب، فاحتاجوا إلى ما لا بد منه، وقل الصبر، فدخلوا مداخل شانتهم، وإن تأولوا فيها، إلا أن غيرها كان أحسن لهم! فالزهري1 مع عبد الملك2، وأبو عبيد3 مع طاهر بن الحسين4، وابن أبي   1 محمد بن مسلم بن شهاب "150-124هـ" هو الإمام العلم حافظ عصره. 2 عبد الملك بن مروان، فحل بني أمية والخليفة وأبو الخلفاء "26-86هـ". 3 القاسم بن سلام الهروي "157-224هـ" من كبار العلماء بالحديث والأدب والفقه، مصنفاته في غاية الجودة. وقد جاء في الأصل: أبوعبيدة، وهو خطأ. 4 مقدم جيش المأمون والقائم على نصرته "170-217هـ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 الدنيا1 مؤدب المعتضد2، وابن قتيبة صدر كتابه بمدح الوزير "ابن خاقان"3. 519- وما زال خلف من العلماء والزهاد يعيشون في ظل جماعة من المعروفين بالظلم، وهؤلاء وإن كانوا سلكوا طريقًا من التأويل؛ فإنهم فقدوا من قلوبهم وكمال دينهم أكثر مما نالوا من الدنيا. 520- وقد رأينا جماعة من المتصوفة والعلماء يغشون الولاة لأجل نيل ما في أيديهم، فمنهم: من يداهن ويرائي، ومنهم: من يمدح بما لا يجوز، ومنهم: من يسكت عن منكرات، إلى غير ذلك من المداهنات، وسببها الفقر، فعلمنا أن كمال العز، وبعد الرياء، إنما يكون في البعد عن العمال الظلمة. 521- ولم نر من صح له هذا إلا في أحد رجلين: أما من كان له مال: كسعيد بن المسيب، كان يتجر في الزيت وغيره، وسفيان الثوري، كانت له بضائع، وابن المبارك4. وأما من كان شديد الصبر، قنوعًا بما رزق، وإن لم يكفه، كبشر الحافي، وأحمد بن حنبل. ومتى لم يجد الإنسان كصبر هذين، ولا كمال أولئك؛ فالظاهر تقلبه في المحن والآفات، وربما تلف دينه. 522- فعليك -ياطالب العلم- بالاجتهاد في جمع المال للغنى عن الناس؛ فإنه يجمع لك دينك! فما رأينا في الأغلب منافقًا في التدين والتزهد والتخشع ولا آفة طرأت على عالم، إلا بحب الدنيا، وغالب ذلك الفقر. فإن كان من له مال يكفيه، ثم يطلب بتلك المخالطة الزيادة، فذلك معدود في أهل الشره، خارج عن حيز العلماء، نعوذ بالله من تلك الأحوال.   1 عبد الله بن محمد البغدادي، القرشي صاحب التصانيف "208-281هـ"، وكان مؤدبًا لغير واحد من أبناء الخلفاء. 2 أحمد بن الموفق بالله بن المتوكل بن المعتصم الخليفة العباسي "242-289هـ". 3 الكتاب هو أدب الكاتب، والوزير هو أبو الحسن عبيد الله بن يحيى بن خاقان "209-263هـ". والزيادة للتوضيح. 4 عبد الله بن المبارك، بن واضح الحنظلي التميمي المروزي، أبو عبد الرحمن "118-181هـ"، الحافظ شيخ الإسلام، المجاهد الزاهد، العابد الإمام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 110- فصل: الفقه أفضل العلوم . 523 أعظم دليل على فضيلة الشيء النظر إلى ثمرته، ومن تأمل ثمرة الفقه، علم أنه أفضل العلوم. فإن أرباب المذاهب فاقوا بالفقه الخلائق أبدًا، وإن كان في زمن أحدهم من هو أعلم منه بالقرآن أو بالحديث أو باللغة. واعتبر هذا بأهل زماننا؛ فإنك ترى الشاب يعرف مسائل الخلاف الظاهرة، فيستغني، ويعرف من حكم الله تعالى في الحوادث مالا يعرفه النحرير1 من باقي العلماء! 524- وكم رأينا مبرزًا في علم القرآن، أو في الحديث، أو في التفسير، أو في اللغة لا يعرف -مع الشيخوخة- معظم أحكام الشرع، وربما جهل علم ما ينويه في صلاته! 525- على أنه ينبغي للفقيه ألا يكون أجنبيًّا عن باقي العلوم، فإنه لا يكون فقيهًا، بل يأخذ من كل علم بحظ، ثم يتوفر على الفقه، فإنه عز الدنيا والآخرة.   1 النحرير: الحاذق الماهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 111- فصل: على العاقل أن يحذر الهوى 526- رأيت كثيرًا من الناس يتحرزون من رشاش نجاسة، ولا يتحاشون من غيبة! ويكثرون من الصدقة، ولا يبالون بمعاملات الربا! ويتهجدون بالليل، ويؤخرون الفريضة عن الوقت في أشياء يطول عددها، من حفظ فروع، وتضييع أصول، فبحثت عن سبب ذلك؟ فوجدته من شيئين: أحدهما: العادة. والثاني: غلبة الهوى في تحصيل المطلوب، فإنه قد يغلب، فلا يترك سمعًا ولا بصرًا. 527- ومن هذا القبيل: أن إخوة يوسف قالوا -حين سمعوا صوت المنادي: {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف: 70] : {لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ} [يوسف: 73] ، فجاء في التفسير: أنهم لما دخلوا مصر، كمموا1 أفواه   1 في الأصل: كموا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 إبلهم، لئلا تتناول ما ليس لهم، فكأنهم قالوا: قد رأيتم ما صنعنا بإبلنا، فكيف نسرق؟! ونسوا هم تفاوت ما بين الورع واختطاف أكلة لا يملكونها، وبين إلقاء يوسف عليه السلام في الجب1 وبيعه بثمن بخس!! 528- وفي الناس من يطيع في صغار الأمور، دون كبارها، وفيما كلفته عليه خفيفة أو معتادة، وفيما لا ينقص شيئًا من عادته في مطعم وملبس، نرى أقوامًا يأخذون الربا، ويقول أحدهم: كيف يراني عدوي بعد أن بعت داري، أو تغير ملبوسي ومركوبي؟! 529- ونرى أقوامًا يوسوسون في الطهارة، ويستعملون الكثير من الماء، ولا يتحاشون من غيبة! وأقوامًا يستعملون التأويلات الفاسدة في تحصيل أغراضهم، مع علمهم أنها لا تجوز! حتى إني رأيت رجلًا من أهل الخير والتعبد، أعطاه رجل مالًا ليبني به مسجدًا، فأخذه لنفسه، وأنفق عوض الصحيح قراضة2، فلما احتضر، قال لذلك الرجل: اجعلني في حل، فإني فعلت كذا وكذا!! ونرى أقوامًا يتركون الذنوب لبعدهم عنها؛ فقد ألفوا الترك، وإذا قربوا منها، لم يتمالكوا، وفي الناس من هذه الفنون عجائب يطول ذكرها. 530- وقد علمنا أن خلقًا من علماء اليهود كانوا يحملون ثقل التعبد في دينهم، فلما جاء الإسلام، وعرفوا صحته، لم يطيقوا مقاومة أهوائهم في محو رئاستهم3. وكذلك قيصر؛ فإنه عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدليل، ثم لم يقدر على مقاومة هواه وترك ملكه4. فالله الله في تضييع الأصول، ومن إهمال سرح الهوى، فإنه إن أهملت ماشيته،   1 الجب: البئر. 2 القراضة: الدنانير أو الدراهم المكسورة، وقيمتها أقل من الصحيحة. 3 انظر الآية "89" من سورة البقرة. 4 انظر حديثه في البخاري "7"، ومسلم "1773" عن ابن عباس عن أبي سفيان رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 نفشت1 في زروع التُّقَى. 531- وما مثل الهوى إلا كسبع في عنقه سلسلة، فإن استوثق منه ضابطه، كفه، وربما لاحت له شهواته الغالبة عليه، فلم تقاومها السلسلة، فأفلت، على أن من الناس من يكف هواه بسلسلة، ومنهم من يكفه بخيط! فينبغي للعاقل أن يحذر شياطين الهوى، وأن يكون بصيرًا بما يقوى عليه من أعدائه، وبمن يقوى عليه.   1 نفشت: رعت ورتعت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 112- فصل: آفة الصداقة الحسد . 532- من أعظم الغلط: الثقة بالناس، والاسترسال إلى الأصدقاء، فإن أشد الأعداء وأكثرهم أذى الصديق المنقلب عدوًا؛ لأنه قد اطلع على خفي السر، قال الشاعر1: احذر عدوك مرةً ... واحذر صديقك ألف مرهْ فلربما انقلب الصديْـ ... ـق فكان أعلم بالمضرهْ 533- واعلم أن من الأمر الموضوع في النفوس الحسد على النعم، أو الغبطة2، وحب الرفعة! فإذا رآك من يعتقدك مثلًا له، وقد ارتقيت عليه، فلا بد أن يتأثر، وربما حسد؛ فإن إخوة يوسف عليهم السلام من هذا الجنس، جرى لهم ما شأنهم. فإن قلت: كيف يبقى الإنسان بلا صديق؟! قلت لك: أتراك ما تعلم أن المجانس يحسد، وأن أكثر العوام يعتقدون في العالم أنه لا يتبسم، ولا يتناول من شهوات الدنيا شيئًا؛ فإذا رأوا بعض انبساطه في المباح، هبط من أعينهم؟! فإذا كانت هذه حالة العوام، وتلك حالة الخواص، فمع من تكون المعاشرة؟! لا، بل والله ما تصح المعاشرة مع النفس؛ لأنها متلونة.   1 هو، علي بن عيسى انظر محاضرات الراغب "3/ 34". 2 الغبطة: أن تتمنى لنفسك مثل ما لأخيك من نعمة دون أن تتمنى زوالها عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 534- وليس إلا المداراة للخلق، والاحتراز منهم، واتخاذ المعارف من غير طمع في صديق صادق، فإن ندر، فليكن غير مماثل؛ لأن الحسد إليه أسبق، وليكن مرتفعًا عن رتبة العوام، غير طامع في نيل مقامك. 535- وإن كانت معاشرة هذا لا تشفي؛ لأن المعاشرة ينبغي أن تكون بين العلماء المجانس؛ فلزمهم من الإشارات في المخالطة ما تطيب به المجالسة، ولكن لا سبيل إلى الوصال. 536- ومثل هذه الحال أنك إن استخدمت الأذكياء، عرفوا باطنك، وإن استخدمت البله، انعكست مقاصدك. فاجعل الأذكياء لحوائجك الخارجة، والبله لحوائجك في منزلك، لئلا يعلموا أسرارك، واقنع من الأصدقاء بمن وصفته لك، ثم لا تلقه إلا متدرعًا درع الحذر، ولا تطلعه على باطن يمكن أن يستر عنه، وكن كما يقال عن الذئب: ينام بإحدى مقلتيه وَيَتَّقِي ... بأخرى الأعادي، فهو يقظان هاجِعُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 113- فصل: من أحسن فيما مضى يحسن فيما بقي 537- رأيت جماعة ممن أفنى أوائل عمره وريعان شبابه في طلب العلم، يصبر على أنواع الأذى، وهجر فنون الراحات، أنفة من الجهل ورذيلته، وطلبًا للعلم وفضيلته، فلما نال منه طرفًا رفعه عن مراتب أرباب الدنيا، ومن لا علم له إلا بالعاجل، ضاق به معاشه، [أو قل ما ينشده لنفسه من حظوظ] ، فسافر [في] البلاد، يطلب من الأراذل، ويتواضع للسفلة وأهل الدناءة والمكاس1. وغيرهم! 538- فخاطبت بعضهم، وقلت: ويحك! أين تلك الأنفة من الجهل، التي سهرت لأجلها، وأظمأت نهارك بسببها؟! فلما ارتفعت وانتفعت، عدت إلى أسفل سافلين! أفما بقي عندك ذرة من الأنفة تنبؤ بها عن مقامات الأراذل؟! ولا معك يسير من العلم يسير بك عن مناخ الهوى؟! ولا حصلت بالعلم قوة تجذب بها زمام النفس   1 المكاس: العشار أو الجابي، وذلك لكثرة سلبهم لأموال الناس دون وجه حق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 عن مراعي السوء؟! على أنه يبين لي أن سهرك وتعبك كأنهما كانا1 لنيل الدنيا؟ 539- ثم إني أراك تزعم أنك تريد شيئًا من الدنيا تستعين به على طلب العلم! فاعلم أن التفاتك إلى نوع كسب تستغني به عن الأراذل أفضل من التزيد في علمك، فلو عرفت ما ينقص به "دينك"، لم تر فيما قد عزمت عليه زيادةً، مما يحتوي عليه هذا العزم: السفر الذي كله مخاطرة بالنفس، وبذل الوجه -الذي طالما صين- لمن لا يصلح التفات مثلك إلى مثله. 540- وبعيد أن تقنع بعد شروعك في هذا الأمر بقدر الكفاف، وقد علمت ما في السؤال بعد الكفاف من إثم! وأبعد منه أن تقدر على الورع في المأخوذ! ومن لك بالسلامة والرجوع إلى الوطن؟! وكم رمى فقر في بواديه من هالك2! ثم ما تحصله يفنى، ويبقى منه ما أعطي، وعيب المتقين إياك، واقتداء الجاهلين بك، ويكفيك أنك عدت على ما علمت من ذم الدنيا بشينه، إذ فعلت ما ينقاضه، خصوصًا وقد مر أكثر العمر، ومن أحسن فيما مضى يحسن فيما بقي.   1 في الأصل: كأنه كان. 2 في حاشية الأصيل: في الهندية: فقر من فئادٍ به من هالك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 114- فصل : الشره في تحصيل الأشياء يفوِّت مقصودها 541- رأيت الشره في تحصيل الأشياء يفوِّت [لأعلى] الشره مقصوده، وقد رأينا من كان شرهًا في جمع المال، فحصل له الكثير منه، وهو مع ذلك حريص على الازدياد، ولو فهم، علم أن المراد من المال إنفاقه في العمر؛ فإذا أنق العمر في تحصيله، فات المقصودان جميعًا! وكم رأينا ممن جمع المال، ولم يتمتع به، فأبقاه لغيره، وأفنى نفسه، كما قال الشاعر: كَدُودَةِ القَزِّ ما تَبْنيهِ يَهْدِمُهَا ... وَغَيْرُهَا بِالَّذِي تَبْنِيْهِ يَنْتَفِعُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 542- وكذلك رأينا خلقًا كثيرًا يحرصون على جمع الكتب، فينفقون أعمارهم في كتابتها. وكدأب أهل الحديث، ينفقون الأعمار في النسخ والسماع إلى آخر العمر، ثم ينقسمون: فمنهم من يتشاغل بالحديث وعلمه وتصحيحه، ولعله لا يفهم جواب حادثة، ولعل عنده لحديث "أسلم سالمها الله" 1 مائة طريق، وقد حكي لي عن بعض أصحاب الحديث أنه سمع "جزء ابن عرفة"2 عن مائة شيخ، وكان عنده سبعون نسخة. ومنهم من يجمع الكتب ويسمعها، ولا يدري ما فيها، لا من حيث صحتها، ولا من فهم معناها، فتراه يقول: الكتاب الفلاني سماعي، وعندي "منه"3 نسخة، والكتاب الفَلاني، والفُلاني ... فلا يعرف علم ما عنده من حيث فهم صحيحه من سقيمه، وقد صده اشتغاله بذلك عن المهم من العلم! فهم كما لقال الحطيئة4. زوامل للأخبار لا علم عندها ... بمثقلها إلا كعلم الأباعر5 لعمرك ما يدري البعير إذا غدا ... بأوساقه أو راح: ما في الغرائز6 ثم ترى منهم من يتصدر، "بإتقانه للرواية وحدها" 7، فيمد يده إلى ما ليس من شغله؛ فإن أفتى أخطأ، وإن تكلم في الأوصل خلط! ولولا أني لا أحب ذكر الناس، لذكرت من أخبار كبار علمائهم، وما خلطوا ما يعتبره به، ولكنه لا يخفى على المحقق حالهم. 543- فإن قال قائل: أليس في الحديث: "منهومان لا يشبعان: طالب علم   1 رواه البخاري "1006"، ومسلم "2516" عن أبي هريرة رضي الله عنه. 2 ابن عرفة: أبو الحسن علي بن محمد بن أحمد الجرجاني الحناطي المعلم، بقي إلى حدود "420هـ". 3 الأصل: به. 4 جرول بن أوس بن مالك العبسي، شاعر مخضرم هجاء لم يكد يسلم من لسانه أحد، توفي سنة "45هـ" تقريبًا. قلت: والبيتان لمروان بن أبي حفصة كما في اللسان: زمل وفيه: زوامل للأشعار. 5 الزوامل: جمع زملة، وهي البعير و "مثقلها" حملها، وفي اللسان "بجيدها"، والأباعر جمع بعير. 6 الوسق: الحمل، والغرائز: جمع غرارة، وهي كيس كبير من الصوف أو الشعر توضح فيه الحبوب، وهو أكبر من الجوالق. 7 في الأصل: ويفتقر الزمان إلى تصدُّره للرواية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 وَطَالِبُ دُنْيَا"1؟! قلت: أمّا العالم، فلا أقول له: اشبع من العلم، ولا اقتصر على بعضه، بل أقول له: قدم المهم؛ فإن العاقل من قدر عمره، وعمل بمقضتاه، وإن كان لا سبيل إلى العلم بمقدار العمر، غير أنه يبني على الأغلب، فإن وصل، فقد أعد لكل مرحلة زادًا، وإن مات قبل الوصول، فنيته تسلك به2. 544- فإذا علم العاقل أن العمر قصير، وأن العلم كثير، فقبيح بالعاقل الطالب لكمال الفضائل أن يتشاغل مثلًا بسماع الحديث ونسخه، ليحصل كل طريق، وكل رواية، وكل غريب، وهذا لا يفرغ من مقصوده منه في خمسين سنة، خصوصًا إن تشاغل بالنسخ، ثم لا يحفظ القرآن، أو يتشاغل بعلوم القرآن، ولا يعرف الحديث، أو بالخلاف في الفقه، ولا يعرف النقل الذي عليه مدار المسألة. 545- فإن قال قائل: فدبر لي ما تختار لنفسك. فأقول: ذو الهمة لا يخفى من زمان الصبا، كما قال سفيان بن عيينه3: قال لي أبي، وقد بلغت خمس عشرة سنة: إنه قد أنقضت عنك شرائع الصبا، فاتبع الخير، تكن من أهله. فجعلت وصية أبي قبلة أميل إليها، ولا أميل عنها. 546- ثم قبل شروعي في الجواب أقول: ينبغي لمن له أنفة أن يأنف من   1 رواه الحاكم "1/ 92" عن أنس، قال الحاكم: هذا الحديث صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي 2 في حاشية الأصل: فحسبه تلك، قلت في الأحمدية والمصرية: فنيته تسلك به. 3 أبو محمد، الهلالي الكوفي، ثم المكي حافظ العصر، شيخ الإسلام، ولد بالكوفة سنة "107هـ"، وجاور بمكة، وصار محدث الحرم، توفي بمكة سنة "198هـ" وله خبر طريف ذكره في سير أعلام النبلاء "8/ 459": سمعت أحمد بن النضر الهلالي، سمعت أبي يقول: كنت في مجلس سفيان بن عيينة، فنظر إلى صبي، فكان أهل المسجد تهاونوا به لصغره، فقال سفيان: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [النساء: 94] ثم قال: يا نضر! لو رأيتني ولي عشر سنين، طولي خمسة أشبار، ووجهي كالدينار، وأنا كشعلة نار، ثيابي صغار، وأكمامي قصار، وذيلي بمقدار، ونعلي كآذان الفار، أختلف إلى علماء الأمصار، كالزهري وعمرو بن دينار، أجس بينهم كالسمسار، محبرتي كالجوزة، ومقلمتي كالموزة، وقلمي كاللوزة، فإذا أتيت، قالوا: أوسعوا للشيخ الصغير، ثم ضحك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 التقصير، الممكن دفعه عن النفس، فلو كانت النبوة مثلًا تأتي بكسب؛ لم يجز له أن يقنع بالولاية، أو تصور أن يكون مثلًا خليفة، لم يحسن به أن يقتنع بإمارة، ولو صح له أن يكون ملكًا، لم يرض أن يكون بشرا، والمقصود أن ينتهي بالنفس إلى كمالها الممكن لها في العلم والعمل. 547- وقد علم قصر العمر، وكثرة العلم: فيبتدئ بالقرآن وحفظه، وينظر في تفسيره نظرًا متوسطًا، لا يخفى عليه بذلك منه شيء، وإن صح له قراءة القراءات السبع، وأشياء من النحو، وكتب اللغة، وابتدأ بأصول الحديث من حيث النقل، كالصحاح والمسانيد والسنن، ومن حيث علم الحديث، كمعرفة الضعفاء والأسماء، فلينظر في أصول ذلك، وقد رتبت العلماء من ذلك ما يستغني به الطالب عن التعب. 548- ولينظر في التواريخ، ليعرف ما لا يستغنى عنه، كنسب الرسول صلى الله عليه وسلم وأقاربه به وأزواجه وما جرى له. 549- ثم ليقبل على الفقه، فلينظر في المذهب والخلاف، وليكن اعتماده على مسائل الخلاف، فلينظر في المسألة وما تحتوي عليه، فيطلبه من مظانه، كتفسير آية وحديث وكلمة لغة. ويتشاغل بأصول الفقه وبالفرائض، وليعلم أن الفقه عليه مدار العلو. 550- ويكفيه من النظر في الأصول1 ما يستدل به على وجود الصانع، فإذا أثبته بالدليل، وعرف ما يجوز عليه مما لا يجوز، وأثبت إرسال الرسل، وعلم وجوب القبول منهم؛ فقد احتوى على المقصود من علم الأصول. فإن اتسع الزمان للتزيد من العلم، فليكن من الفقه، فإنه الأنفع. 551- ومهما فسح له في المهل، فأمكنه تصنيف في علم، فإنه يخلف بذلك خلفه خلفًا صالحًا. مع اجتهاده في التسبب إلى اتخاذ الولد. 552- ثم يعلم أن الدنيا معبرة، فيلتفت إلى فهم معاملة الله عز وجل، فإن مجموع ما حصله من العلم يدله عليه. فإذا تعرض لتحقيق معرفته، ووقف على باب معاملته،   1 أي: أصول الدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 فَقَلَّ أن يقف صادق إلا ويجذب إلى مقام الولاية، ومن أريد وفق، وإن لله عز وجل أقوامًا يتولى تربيتهم، ويبعث إليهم في زمن الطفولية مؤدبًا؟ ويسمى العقل، ومقومًا، ويقال له: الفهم، ويتولى تأديبهم وتثقيفهم، ويهيء لهم أسباب القرب منه؛ فإن لاح قاطع قطعهم عنه، حماهم منه، وإن تعرضت بهم فتنة؛ دفعها عنهم. فنسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم، ونعوذ به من خذلان لا ينفع معه اجتهاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 115- فصل: إن للخلوة تأثيرات تبيَّن في الجلوة 553- إن للخلوة تأثيراتٍ تبين في الجلوة، كم من مؤمن بالله عز وجل، يحترمه عند الخلوات، يفترك ما يشتهي حذرًا من عقابه، أو رجاء لثوابه، أو إجلالًا له، فيكون بذلك الفعل كأنه طرح عودًا هنديًّا على مجمرٍ، فيفوح طيبه، فيستنشقه الخلائق، ولا يدرون أين هو؟ 554- وعلى قدر المجاهدة في ترك ما [يهوى] تقوى محبته، أو على مقدار زيادة دفع ذلك المحبوب المتروك يزيد الطيب، ويتفاوت تفاوت العود، فترى عيون الخلق تعظم هذا الشخص، وألسنتهم تمدحه، ولا يعرفون لهم؟ ولا يقدورن على وصفه: لبعدهم عن حقيقة معرفته. 555- وقد تمتد هذه الأراييح 1 بعد الموت على قدرها؛ فمنهم من يذكر بالخير مدة مديدة ثم ينسى، ومنهم من يذكر مئة سنة، ثم يخفى ذكره وقبره، ومنهم أعلام يبقى ذكرهم أبدًا. 556- وعلى عكس هذا من هاب الخلق، ولم يحترم خلوته بالحق، فإنه على قدر مبارزته بالذنوب، وعلى مقادير تلك الذنوب، يفوح منه ريح الكراهة، فتمتقته القلوب: فإن قل مقدار ما جنى، قل ذكر الألسن له بالخير، وبقي مجرد تعظيمه. وإن كثر، كان قصارى الأمر سكوت الناس عنه، لا يمدحونه ولا يذمونه. 557- ورب خال بذنب كان سبب وقوعه في هوة شقوة في عيش الدنيا   1 الأراييح: جمع رائحة، والمقصود: الذكر الحسن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 والآخرة، وكأنه قيل له: ابْقَ بما آثرت! فيبقى أبدًا في التخبيط. فانظروا إخواني إلى المعاصي أثرت وعثرت. قال أبو الدرداء رضي الله عنه: إن العبد ليخلو بمعصية الله تعالى، فيلقي الله بغضه في قلوب المؤمنين من حيث لا يشعر، فتلمحوا ما سطرته، واعرفوا ما ذكرته، ولا تهملوا خلواتكم، ولا سرائركم، فإن الأعمال بالنية، والجزاء على مقدار الإخلاص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 116- فصل: من عرف جريان الأقدار ثبت لها 558- من عرف جريان الأقدار، ثبت لها1، وأجهل الناس بعد هذا من قاواها؛ لأن مراد المقدر الذل له، فإذا قاويت القدر، فنلت مرادك من ذلك؛ لم يبق لك ذل. مثال هذا: أن يجوع الفقير، فيصبر قدر الطاقة، فإذا عجز، خرج إلى سؤال الخلق، مستحيًا من الله كيف يسألهم، وإن كان له عذر بالحاجة التي ألجأته، غير أنه يرى أنه مغلوب الصبر، فيبقى معتذرًا مستحيًا، وذاك المراد منه. أو ليس بخروج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة فلا يقدر على العود إليها، حتى يدخل في خفارة2 المطعم بن عدي وهو كافر [عبرة في ذلك] 3؟! فسبحان من ناط4 الأمور بالأسباب، ليحصل ذل العارف بالحاجة إلى التسبب.   1 صبر على مكروهها. 2 خفارة: جوار وحماية. 3 زيادة يقضيها السياق. 4 ناط: علّق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 117- فصل: الابتلاء لمعرفة الصبر وإظهار الفضل 559- سبحان المتصرف في خلقه بالاغتراب والإذلال ليبلو صبرهم، ويظهر جواهرهم في الابتلاء! هذا آدم عليه السلام تسجد له الملائكة، ثم بعد قليل يخرج من الجنة، وهذا نوح عليه السلام يضرب حتى يغشى عليه، ثم بعد قليل ينجو في السفينة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 ويهلك أعداؤه، وهذا الخليل عليه السلام يلقى في النار، ثم بعد قليل يخرج إلى السلامة، وهذا الذبيح1 يضطجع مستسلمًا، ثم يسلم، ويبقى المدح، وهذا يعقوب عليه السلام يذهب بصره بالفراق، ثم يعود بالوصول. وهذا الكليم2 عليه السلام يشتغل بالرعي، ثم يرقى إلى التكليم، وهذا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يقال له بالأمس: اليتيم، ويقلب في عجائب يلاقيها من الأعداء تارة، ومن مكايد الفقر أخرى، وهو أثبت من جبل حراء، ثم لما تم له مراده من الفتح، وبلغ الغرض من أكبر الملوك وأهل الأرض، نزل به ضيف النقلة، فقال: "واكرباه"3. فمن تلمح بحر الدنيا، وعلم كيف تتلقى الأمواج، وكيف يصبر على مدافعة الأيام، لم يستهون نزول بلاء، ولم يفرح بعاجل رخاء.   1 الذبيح: إسماعيل عليه السلام على الصحيح خلافًا لما ذهب إليه المؤلف في الفصل "293" من أنه إسحاق عليه السلام. 2 الكليم: موسى عليه السلام. 3 بل قال: "وا رأساه" كما في حديث عائشة رضي الله عنها، رواه ابن إسحاق ومن طريقه ابن ماجه "1465" والحاكم "3/ 56"، وغيرهما وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 118- فصل: عليكم من العمل بما تطيقون 560- ينبغي للعاقل ألا يقدم على العزائم حتى يزن نفسه: هل يطيقها؟ ويجرب نفسه في ركوب بعضها سرًّا من الخلق، فإنه لا يأمن أن يرى في حالة لا يصبر عليها، ثم يعود فيفتضح! مثاله: رجل سمع بذكر الزهاد، فرمى ثيابه الجميلة، ولبس الدون، وانفرد في زاوية، وغلب على قلبه ذكر الموت والآخرة؛ فلم يلبث متقاضي الطبع1 أن ألح بما جرت به العادة، فمن القوم من عاد بمرة إلى أكثر مما كان عليه، كأكل الناقة2 من مرض، ومنهم من توسط الحال، فبقي كَالمُذَبْذَبِ.   1 متقاضي الطبع: مقتضى الطبع، وهو قانونه وسننه. 2 الناقه: المريض الذي برأ للتوِّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 561- وإنما العاقل هو الذي يستر نفسه بين الناس بثوب وَسَطٍ، لا يخرجه من أهل الخير، ولا يدخله في زي أهل الفاقة، فإن قويت عزيمته، عمل في بيته ما يطيق، وترك ثوب التجمل لستر الحال، ولم يظهر شيئًا للخلق؛ فإنه أبعد من الرياء، وأسلم من الفضيحة. 562- وفي الناس من غلب عليه قصر الأمل، وذكر الآخرة، حتى دفن كتب العلم! وهذا الفعل عندي من أعظم الخطإ وإن كان منقولًا عن جماعة من الكبار! ولقد ذكرت هذا لبعض مشايخنا؟ فقال: أخطؤوا كلهم، وقد تأولت لبعضهم بأنه كان فيها أحاديث عن قوم ضعفاء، ولم يميزوها، كما روي عن سفيان في دفن كتبه، أو كان فيها شيء من الرأي، فلم يحبوا أن يؤخذ عنهم، فكان من جنس تحريق عثمان بن عفان رضي الله عنه للمصاحف، لئلا يؤخذ بشيء مما فيها من المجمع على غيره. وهذا التأويل يصح في حق علمائهم. فأما غسل أحمد بن أبي الحواري كتبه وابن أسباط، فتفريط محض. فالحذر الحذر من فعل يمنع منه الشرع، أو من ارتكاب ما يظن عزيمة، وهو خطيئة، أو من إظهار ما لا يقوى عليه المظهر فيرجع القهقري. و "عليكم من العمل بما تطيقون"1، كما قال صلى الله عليه وسلم.   1 رواه البخاري "43"، ومسلم "785"، عن عائشة رضي الله عنها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 119- فصل: لا خير في لذة من بعدها النار 563- أجهل الجهال من آثر عاجلًا على آجل لا يأمن سوء مغبته. فكم قد سمعنا عن سلطان، وأمير، وصاحب مال أطلق نفسه في شهواتها، ولم ينظر في حلال وحرام، فنزل به من الندم وقت الموت أضعاف ما التذ، ولقي من مرير الحسرات ما لا يقاومه ولا ذرة منه2 كل لذة. ولو كان هذا فحسب: لكفى حزنًا، كيف، والجزاء الدائم بين يديه؟!   1 في الأصل: من. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 564- فالدنيا محبوبة للطبع، لا ريب في ذلك، ولا أنكر على طالبها ومؤثر شهواتها، ولكن ينبغي له أن ينظر في كسبها، ويعلم وجه أخذها، لتسلم له عاقبة لذته، وإلا، فلا خير في لذة من بعدها النار. 565- وهل عد في العقلاء قط من قيل له: اجلس في المملكة سنةً، ثم نقتلك؟! هيهات، بل الأمر بالعكس، وهو أن العاقل من صابر مرارة الجهد سنة، بل سنين، ليستريح في عاقبته، وفي الجملة: أف للذةٍ أعقبت عقوبةً! 566- وقد أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر الخطيب1، قال: أخبرنا الحسن بن أبي طالب، قال: حدثنا يوسف بن عمر القواس، قال: حدثنا الحسين بن إسماعيل إملاء، قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد، قال: حدثنا محمد بن مسلمة البلخي، قال: حدثنا محمد بن علي القوهستاني، قال: حدثنا دلف بن أبي دلف2، قال: رأيت كأن آتيًا أتى بعد موت أبي، فقال: أجب الأمير! فقمت معه، فأدخلني دار وحشة، وعرة، سوداء الحيطان، مقلعة السقوف والأبواب، ثم أصعدني درجًا فيها، ثم أدخلني غرفة، فإذا في حيطانها أثر النيران، وإذا في أرضها أثر الرماد، وإذا أبي عريان واضعًا رأسه بين ركبتيه، فقال لي كالمستفهم: دُلَفٌ؟ قلت: نعم، أصلح الله الأمير. فأنشأ يقول: أبلغن أهلنا ولا تخف عنهمْ ... ما لقينا في البرزح الخفاقِ قد سئلنا عن كل ما قد فعلنا ... فارحموا وحشتي وما قد ألاقِي أفهمت؟ قلت: نعم. فأنشأ يقول: فلو أنا إذا متنا تركْنَا ... لكان الموت راحة كل حيِّ ولكنا إذا متنا بعثنا ... ونسأل بعده عن كل شيِّ   1 أحمد بن علي بن ثابت البغدادي، أبو بكر الخطيب "392-463 هـ" أحد الحفاظ المؤرخين الكبار صاحب تاريخ بغداد. 2 وأبو دلف، هو القاسم بن عيسى العجلي الأمير، أمير الكوخ، سيد قومه، وأحد الأمراء الأجواد الشجعان الشعراء، توفي سنة "226هـ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 120- فصل: لذتا الحس والعقل 567- اللذات كلها بين حسي وعقلي؛ فنهاية اللذات الحسية وأعلاها النكاح، وغاية اللذات العقلية العلم، فمن حصلت له الغايتان في الدنيا، فقد نال النهاية، وأنا أرشد الطالب إلى أعلى المطلوبين. 568- غير أن للطالب المرزوق علامةً، وهو أن يكون مرزوقًا علو الهمة، وهذه الهمة تولد مع الطفل، فتراه من زمن طفولته يطلب معالي الأمور، كما يروى في الحديث: "أنه كان لعبد المطلب مفرش في الحجر1، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي وهو طفل، فيجلس عليه، فيقول عبد المطلب: إن لابني هذا شأنًا2". 569- فإن قال قائل: فإذا كانت لي همة، ولم أرزق ما أطلب، فما الحيلة؟ فالجواب: أنه إذا امتنع الرزق من نوع، لم يمتنع من نوع آخر، ثم من البعيد أن يرزقك همة، ولا يعينك! فانظر في حالك: فلعله أعطاك شيئًا ما شكرته، أو ابتلاك بشيء من الهوى ما صبرت عنه. 570- واعلم أنه ربما زوى3 عنك من لذات الدنيا كثيرًا ليؤثرك بلذات العلم، فإنك ضعيف، ربما لا تقوى على الجمع، فهو أعلم بما يصلحك. 571- "وأما ما أردت شرحه لك: فإن الشاب المبتدئ في طلب العلم ينبغي له أن يأخذ من كل علم طرفًا، ويجعل علم الفقه الأهم، ولا يقصر في معرفة النقل، فيه تبين سير الكاملين، وإذا رزق فصاحة من حيث الوضع، ثم أضيف إليها معرفة اللغة والنحو، فقد شحذت شفرة لسانه على أجواد مسن. ومتى أدى العلم لمعرفة الحق وخدمة الله عز وجل، فتحت له أبواب لا تفتح لغيره". 572- وينبغي له بالتلطف أن يجعل جزءًا من زمانه مصروفًا إلى توفير الاكتساب والتجارة، مستنيبًا فيها، غير مباشر لها، مع التدبير في العيش الممتنع من   1 حجر الكعبة، هو المدار بالبيت من جهة الميزاب ويسمى الحطيم. 2 رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق "3/ 80". 3 زوى: صرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 الإسراف والتبذير، فإن رواية العلم والعمل به إلى درجة المعرفة لله -عز وجل- "آسرة للمشاعر"، فربما شغلته لذة ما وصل إليه عن كل شيء ويا لها حالةٌ سليمةٌ من آفةٍ! 573- وإن وجد من طبعه منازعًا إلى الشوق في النكاح، فليتخير السراري، فإن الحرائر في الأغلب غل1. 574- وليعزل عن المملوكات إلى أن يجرب خلقهن ودينهن، فإن رضيهن، طلب الولد منهن، وإلا، فالاستبدال بهن سهل. 575- ولا يتزوج حرة، إلا أن يعلم أنها تصبر على التزويج عليها والتسري، وليكن قصده الاستمتاع بها، لا إجهاد النفس في الإنزال، فإن ذلك يهدم قوته، فيضعف الأصل، فهذه الحالة الجامعة من لذتي الحس والعقل، ذكرتها على وجه الإشارة، وفهم الذكي يملي عليه ما لم أشرحه.   1 غل: قيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 121- فصل: تعليم حفظ العلم . 576- اعلم أن المتعلم يفتقر إلى دوام الدراسة، ومن الغلط الانهماك في الإعادة ليلًا ونهار؛ فإنها لا يلبث صاحب هذه الحال إلا أيامًا، ثم يفتر أو يمرض. 577- وقد روينا أن الطبيب دخل على أبي بكر بين الأنباري1 في مرض موته، فنظر إلى ما به2، وقال: قد كنت تفعل شيئًا لا يفعله أحد! ثم خرج فقال: ما يجيء منه شيء3، فقيل له: ما الذي كنت تفعل؟ قال: كنت أعيد كل أسبوع عشرة آلاف ورقة؟ 578- ومن الغلط [تحميل القلب] حفظ الكثير أو الحفظ من فنون شتى، فإن القلب جارحة من الجوارح، وكما أن من الناس من يحمل المائة رطل، ومنهم من يعجز عن عشرين رطلًا، فكذلك القلوب. فيأخذ الإنسان على قدر قوته ودونها،   1 محمد بن القاسم: إمام في النحو وعلوم العربية، ومن أكثر الناس حفظًا للأشعار والأخبار "271-328هـ". 2 في الأصل: مائة، وهو تصحيف. 3 لا أمل في شفائه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 فإنه إذا استنفدها في وقتٍ، ضاعت منها أوقات: كما أن الشره يأكل فضل لقيماتٍ، فيكون سببًا إلى منع أكلاتٍ! والصواب أن يأخذ قدر ما يطيق، ويعيده في وقتين من النهار والليل، ويرفه القوى في بقية الزمان. 579- والدوام أصل عظيم، فكم ممن ترك الاستذكار بعد التحفظ، فضاع زمن طويل في استرجاع محفوظ قد نسي. 580- وللحفظ أوقات من العمر، فأفضلها الصبا، وما يقاربه من أوقات الزمان، وأفضلها عادة الأسحار، وأنصاف النهار، والعدوات خير من العشيات، وأوقات الجوع خير من أوقات الشبع. 581- ولا يحمد الحفظ بحضرة خضرة، وعلى شاطئ نهر؛ لأن ذلك يلهي، والأماكن العالية للحفظ خير من السوافل. 582- والخلوة أصل. وجمع الهم أصل الأصول، وترفيه النفس من الإعادة يومًا في الأسبوع: ليثبت المحفوظ، وتأخذ النفس قوة، كالبنيان يترك أيامًا حتى يستقر، ثم يبنى عليه. 583- وتقليل المحفوظ مع الدوام أصل عظيم. وألا يشرع في فن حتى يحكم ما قبله. ومن لم يجد نشاطًا للحفظ، فليتركه، فإن مكابرة النفس لا تصلح. 584- وإصلاح المزاج من الأصول العظيمة، فإن للمأكولات أثرًا في الحفظ1: قال الزهري: ما أكلت خلًّا منذ عالجت الحفظ. وقيل لأبي حنيفة: بم يستعان على حفظ الفقه؟ قال: بجمع الهم. وقال حماد بن سلمة2: بقلة الغَمِّ.   1 ربما فتح هذا بابًا للمشعوذين كما حصل للمؤلف رحمه الله، إذ وصف له حب البلاذر "SEMECARPUC ANARDIUN" - وهو نبات ثمره شبيه بنوى التمر، ولبه مثل لب الجوز حلو، وقشره متخلخل متثقب، قيل: إنه يقوي الحفظ، ولكن الإكثار منه يسقط الشعر، فأكل منه ليزداد حفظه، فسقطت لحيته، وبقيت خفيفة قصيرة. 2 حماد بن سلمة بن دينار البصري، مفتي البصرة، شيخ الإسلام عالم زاهد، مشهور توفي سنة "167هـ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 وقال مكحول1: من نظف ثوبه، قَلَّ هَمُّهُ، ومن طابت ريحه، زاد عقله، ومن جمع بينهما: زادت مروءته. 585- وأختار للمبتدئ في طلب العلم أن يدافع النكاح مهما أمكن، فإن أحمد بن حنبل لم يتزوج حتى تمت له أربعون سنة، وهذا لأجل جمع الهم، فإن غلب عليه الأمر، تزوج، واجتهد في المدافعة2 بالفعل، لتتوفر القوة على إعادة العلم. 586- ثم لينظر ما يحفظ من العلم، فإن العمر عزيز، والعلم غزير، وإن أقوامًا يصرفون الزمان إلى حفظ ما غيره أولى منه، وإن كان كل العلوم حسنًا؛ ولكن الأولى تقديم الأهم والأفضل. وأفضل ما تشوغل به حفظ القرآن، ثم الفقه، وما بعد هذا بمنزلة تابع. ومن رزق يقظة، دلته يقظته، فلم يحتج إلى دليل. ومن قصد وجه الله تعالى بالعلم، دله المقصود على الأحسن: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 282] .   1 مكحول بن أبي مسلم الشامي، أبو عبد الله، فقيه الشام في عصره، من حفاظ الحديث، توفي سنة "112هـ". 2 مدافعة الجماع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 122- فصل: أعظم المحن الاغترار بالسلامة بعد الذنب 587- من أراد دوام العافية والسلامة فليتق الله -عز وجل-، فإنه ما من عبد أطلق نفسه في شيء ينافي التقوى، وإن قل، إلا وجد عقوبته عاجلة أوآجلة. ومن الاغترار أن تسيء، فترى إحسانًا، فتظن أنك قد سومحت، وتنسى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] وربما قالت النفس: إنه يغفر، فتسامحت! ولا شك أنه يغفر، ولكن لمن يشاء. 588- وأنا أشرح لك حالًا، فتأمله بفكرك تعرف معنى المغفرة. وذلك أن من هفا هفوة، لم يقصدها، ولم يعزم عليها قبل الفعل، ولا عزم على العود بعد الفعل، ثم انتبه لما فعل، فاستغفر الله، كان فعله -وإن دخله عمدًا- في مقام خطإٍ، مثل أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 يعرض له مستحسن، فيغلبه الطبع، فيطلق النظر، وتشاغل في حال نظره بالتذاذ الطبع عن تلمح معنى النهي، فيكون كالغائب أو كالسكران، فإذا انتبه لنفسه، ندم على فعله، فقام الندم بغسل تلك الأوساخ، التي كانت كأنها غلطة لم تقصد، فهذا معنى قوله تعالى: {إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 201] . فأما المداوم على تلك النظرة، المردد لها، المصر عليها، فكأنه في مقام متعمد للنهي، مبارز بالخلاف، فالعفو يبعد عنه بمقدار إصراره، ومن البعد ألا يرى الجزاء على ذلك، كما قال ابن الجلاء: رآني شيخي وأنا قائم أتأمل حدثا نصرانيًّا، فقال: ما هذا؟! لترين غبها ولو بعد حين. فنسيت القرآن بعد أربعين سنة. 589- واعلم أنه من أعظم المحن الاغترار بالسلامة بعد الذنب، فإن العقوبة تتأخر. ومن أعظم العقوبة ألا يحس اإنسان بها، وأن تكون في سلب الدين، وطمس القلوب، وسوء الاختيار للنفس، فيكون من آثارها سلامة البدن، وبلوغ الأغراض. 590- قال بعض المعتبرين: أطلقت نظري فيما لا يحل لي، ثم كنت أنتظر العقوبة، فألجئت إلى سفر طويل، لا نية لي فيه، فلقيت المشاق، ثم أعقب ذلك موت أعز الخلق عندي، وذهاب أشياء كان لها وقع عظيم عندي، ثم تلافيت أمري بالتوبة، فصلح حالي. ثم عاد الهوى، فحملني على إطلاق بصري مرة أخرى، فطمس قلبي، وعدمت رقته، واستلب مني ما هو أكثر من فقد الأول، ووقع لي تعويض عن المفقود بما كان فقده أصلح. فلما تأملت ما عوضت وما سلب مني، صحت من ألم تلك السياط، فها أنا أنادي من على الساحل: إخواني! احذروا لجة هذا البحر، ولا تغتروا بسكونه، وعليكم بالساحل، ولازموا حصن التقوى، فالعقوبة مرة. واعلموا أن في ملازمة التقوى مرارات من فقد الأغراض والمشتهيات، غير أنها في ضرب المثل كالحمية تعقب صحة، والتخليط ربما جلب موت الفجأة. وبالله، لو نمتم على المزابل مع الكلاب في طلب رضا المبتلي، كان قليلًا في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 نيل رضاه، ولم بلغتم نهاية الأماني من أغراض الدنيا، مع إعراضه عنكم، كانت سلامتكم هلاكًا، وعافيتكم مرضا، وصحتكم سقمًا، والأمر بآخره، والعاقل من تلمح العواقب. وصابروا رحمكم الله تعالى هجير البلاء، فما أسرع زواله! والله الموفق، إذ لا حول إلا به، ولا قوة إلا بفضله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 123- فصل: للباطل جولة وللحق صولة 591- قدم إلى بغداد جماعة من أهل البدع الأعاجم، فارتقوا منابر التذكير للعوام، فكان معظم مجالسهم أنهم يقولون: ليس لله في الأرض كلام! وهل المصحف إلا ورق وعفص1 وزاج2؟! وإن الله ليس في السماء! وإن الجارية التي قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "أين الله؟ "3: كانت خرساء، فأشارت إلى السماء، أي: ليس هو من الأصنام التي تعبد في الأرض! ثم يقولون: أين الحروفية الذين يزعمون أن القرآن حرف وصوت؟! هذا عبارة جبريل!! فما زالوا كذلك، حتى هان تعظيم القرآن في صدور أكثر العوام، وصار أحدهم يسمع فيقول: هذا هو الصحيح؛ وإلا، فالقرآن شيء يجيء به جبريل في كيس! فشكا إلى جماعة من أهل السنة، فقلت لهم: اصبروا، فلا بد للشبهات أن ترفع رأسها في بعض الأوقات، وإن كانت مدموغة4، وللباطل جولة، وللحق صولة، والدجالون كثير، ولا يخلو بلد ممن يضرب البهرج5 على مثل سكة السلطان.   1 العفص: نوع من شجر البلوط، يتخذ منه صبغ وحبر. 2 الزاج: أحد أملاح الكبريت، يستعمل في خلطة حبر الكتابة، ويسمى الشب اليماني. 3 عن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجارية: "أين الله؟ " قالت: في السماء، قال:"من أنا"؟ قالت: أنت رسول الله، قال: "أعتقها فإنها مؤمنة". رواه مسلم "537" وهذا نص في أن الجارية لم تكن خرساء. 4 مكسورة: لا حجة لها. 5 البهرج: الزائف إما ينقص وزنه أو نقص عياره أو بهما جميعًا، وهي تشبه ما يضربه السلطان من دنانير ودراهم صحيحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 592- قَالَ قَائِلٌ: فما جوابنا عن قولهم؟ قلت: اعلم -وفقك الله تعالى- أن الله عز وجل ورسوله قنعا من الخلق بالإيمان بالجمل، ولم يكلفا معرفة التفاصيل: إما؛ لأن الاطلاع على التفاصيل يخبط العقائد، وإما؛ لأن قوى البشر تعجز عن مطالعة ذلك. 593- فأول ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم إثبات الخالق، ونزل عليه القرآن بالدليل على وجود الخالق، بالنظر في سنعه: فقال تعالى: {أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا} [النمل: 61] ، وقال تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21] وما زال يستدل على وجوده بمخلوقاته، وعلى قدرته بمصنوعاته. 594- ثم أثبت نبوة نبيه صلى الله عليه وسلم بمعجزته، وكان من أعظمها القرآن الذي جاء به، فعجز الخلائق عن مثله، واكتفى بهذه الأدلة جماعة من الصحابة، ومضى على ذلك القرن الأول، والمشرب صاف لم يتكدر. 595- وعلم الله عز وجل ما سيكون من البدع، فبالغ في إثبات الأدلة، وملأ بها القرآن. 596- ولما كان القرآن هو منبع العلوم، وأكبر المعجزات للرسول صلى الله عليه وسلم، أكد الأمر فيه: فقال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} [الأنعام: 92] ، {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ} [الإسراء: 82] ، فأخبر أنه كلامه بقولة تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} [الفتح: 15] ، وأخبر أنه مسموع بقوله تعالى: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] ، وأخبر أنه محفوظ، فقال تعالى: {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج: 22] ، وقال تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت: 49] ، وأخبر أنه مكتوب ومتلو، فقال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنكبوت: 48] ، إلى ما يطول شرحه من تعدد الآيات في هذه المعاني، التي توجب إثبات القرآن. 597- ثم نزه نبيه صلى الله عليه وسلم عن أن يكون أتى به من قبل نفسه، فقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} [السجدة: 3] ، وتوعده لو فعل، فقال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ، لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة] ، وقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 في حق الزاعم أنه كلام الخلق حين قال: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ، سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر] . 598- ولما عذب كل أمة بنوع عذاب تولاه بعض الملائكة، كصيحة جبريل عليه السلام بثمود، وإرسال الريح على عاد، والخسف بقارون، وقلب جبريل ديار قوم لوط عليه السلام، وإرسال الطير الأبابيل على من قصد تخريب الكعبة1، تولى هو بنفسه، عقاب المكذبين بالقرآن، فقال تعالى: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ} [القلم: 44] ، {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [المدثر: 11] وهذا؛ لأنه أصل هذه الشرائع، والمثبت لكل شريعة تقدمت؛ لأن جميع الملل ليس عندهم ما يدل على صحة ما كانوا فيه إلا كتابنا؛ لأن كتبهم غيرت وبدلت. 599- وقد علم كل ذي عقل أن القائل: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر: 25] : إنما أشار إلى ما سمعه، ولا يختلف أولو الألباب وأهل الفهم للخطاب أن قوله: {وَإِنَّهُ} كناية عن القرآن، وقوله: {نَزَلَ بِهِ} : كناية أيضًا عنه، وقوله: {وَهَذَا كِتَابٌ} : إشارة إلى حاضر، وهذا أمر مستقيم، لم يختلف فيه أحد من القدماء في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة رضوان الله عليهم. 600- ثم دس الشيطان دسائس البدع، فقال قوم: هذا المشار إليه مخلوق! فثبت الإمام أحمد رحمه الله ثبوتًا لم يثبته غيره على دفع هذا القول، لئلا يتطرق إلى القرآن ما يمحو بعض تعظيمه في النفوس، ويخرجه عن الإضافة إلى الله عز وجل، ورأى أن ابتداع ما لم يقل فيه لا يجوز استعماله، فقال: كيف أقول ما لم يقل؟! 601- ثم لم يختلف الناس في غير ذلك إلى أن نشأ علي بن إسماعيل الأشعري، فقال مرة بقول المعتزلة، ثم عنَّ له2، فادعى أن الكلام صفة قائمة بالنفس3! فأوجبت دعواه هذه أن ما عندنا مخلوق، وزادت فخبطت العقائد، فما زال أهل البدع يجوبون في تيارها إلى اليوم.   1 هو، أبرهة الحبشي وجيشه. 2 عَنَّ له: بدا له. 3 الكلام النفسي مصدره كلام أرسطو تسرب إلى كتب المتكلمين، انظر: النقد الأدبي الحديث للدكتور محمد غنيمي هلال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 602- والكلام في هذه المسألة مرتب بذكر الحجج والشبه في كتب الأصول، فلا أطيل به ها هنا، بل أذكر لك جملة تكفي من أراد الله هداه: وهو أن الشرع قنع منا بالإيمان جملة، وبتعظيم الظواهر، ونهى عن الخوض فيما يثير غبار شبهة1، ولا تقوى على قطع طريقه أقدام الفهم. وإذا كان قد نهى عن الخوض في القدر، فكيف يجوز الخوض في صفات المقدر؟! وما ذاك إلا لأحد الأمرين اللذين ذكرتهما: إما لخوف إثارة شبهة تزلزل العقائد، أو؛ لأن قوى البشر تعجز عن إدراك الحقائق. 603- فإذا كانت ظواهر القرآن تثبت وجود القرآن؛ فقال قائل: ليس ها هنا قرآن، فقد رد الظواهر التي تعب الرسول -صلى الله عليه وسلم- في إثباتها، وقرر وجودها في النفوس. وبماذا يحل ويحرم، ويبت ويقطع، وليس عندنا من الله تعالى تقدم بشيء؟! وهل للمخالف دليل إلا أن يقول: قال الله، فيعود، فيثبت ما نفى؟! فليس الصواب لمن وفق إلا الوقوف مع ظاهر الشرع. فإن اعترضه ذو شبهة، فقال: هذا صوتك، وهذا خطك، فأين القرآن؟! فليقل له: قد أجمعنا أنا وأنت على وجود شيء به نحتج جميعًا، وكما أنك تنكر عليَّ أن أثبت شيئًا لا يتحقق لي إثباته حسًّا، فأنا أنكر عليك كيف تنفي وجود شيء قد ثبت شرعًا؟! 604- وأما قولهم: هل في المصحف إلا ورق وعفص وزاج؟! فهذا كقول القائل: هل الآدمي إلا لحم ودم؟! هيهات! إن معنى الآدمي هو الروح، فمن نظر إلى اللحم والدم، وقف مع الحس، فإن قال: فكذا أقول: إن المكتوب غير الكتابة. قلنا له: وهذا مما ننكره عليك؛ لأنه لا يثبت تحقيق هذا لك ولا لخصمك: فإن أردت بالكتابة الحبر وتخطيطه، فهذا ليس هو القرآن، وإن أردت المعنى القائم بذلك، فهذا ليس هو الكتابة. 605- وهذه الأشياء لا يصلح الخوض فيها، فإن ما دونها لا يمكن تحقيقه   1 في الأصل: شبهته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 على التفصيل، كالروح مثلًا؛ فإنا نعلم وجودها في الجملة، فأما حقيقتها، فلا، فإذا جهلنا حقائقها، كنا لصفات الحق أجهل، فوجب الوقوف مع السمعيات، مع نفي ما لا يليق بالحق؛ لأن الخوض يزيد الخائض تخبيطًا، ولا يفيده تحصيلًا، بل يوجب عليه نفي ما يثبت بالسمع من غير تحقيق أمر عقلي، فلا وجه للسلامة إلا طريق السلف والسلام. 606- وكذلك أقول: إن إثبات الإله بظواهر الآيات والسنن ألزم للعوام من تحديثهم بالتنزيه، وإن كان التنزيه لازمًا، وقد كان ابن عقيل يقول: الأصلح لاعتقاد العوام1 ظواهر الآي والسنن؛ لأنهم يأنسون بالإثبات، فمتى محونا ذلك من قلوبهم؛ زالت السياسات والحشمة، وتهافت العوام في الشبهة أحب إلى من إغراقهم في التنزيه؛ لأن التشبيه يغمسهم في الإثبات، فيطمعون ويخافون2 شيئًا قد أنسوا إلى ما يخاف مثله ويرجى، والتنزيه يرمي بهم إلى النفي، ولا طمع ولا مخافة من النفي. ومن تدبر الشريعة، رآها غامسة لمكلفين في التشبيه بالألفاظ، التي يعطي ظاهرها سواه، كقول الأعرابي: أو يضحك رَبُّنا؟ قال: "نَعَمْ"؛ فلم يكفهر من هذا   1 جاء الإسلام للخواص والعوام بخطاب واحد، وما يسع العوام يسع الخواص. 2 في الأصل: فيطمعوا ويخافوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 124- فصل: البلاء على العارف 607- أعظم البلايا أن: يعطيك همة عالية، ويمنعك من العمل بمقضتاها، فيكون من تأثير همتك الأنفة من قبول إرفاق الخلق1، استثقالًا لحمل مننهم، ثم يبتليك بالفقر، فتأخذ منهم! ويلطف مزاجك، لا تقبل من المأكولات ما سهل إحضاره، فتحتاج إلى فضل نفقة، ثم يقلل رزقك! ويعلق همتك بالمستحسنات، ويقطع بالفقر السبيل إليهن! ويريك العلوم في مقام معشوق، ويضعف بدنك عن   1 عونهم ومساعدتهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 الإعادة ويخلي يديك من المال الذي تحصل به الكتب! ويقوي توقك1 إلى درجات العارفين والزهاد، ويحوجك إلى مخالطة أرباب الدنيا! وهذا البلاء المبين. 608- وأما الخسيس الهمة، الذي لا يستنكف من سؤال الخلق، ولا يرى الاسبتدال بزوجته، ويكتفي بيسير من العلم، ولا يتوق إلى أحوال العارفين، فذاك لا يؤلمه فقد شيء، ويرى ما وجد هو الغاية، فهو يفرح فرح الأطفال بالزخارف، فما أهون الأمر عليه! 609- إنما البلاء على العارف، ذي الهمة العالية، الذي تدعوه همته إلى جميع الأضداد، للتزيد من مقام الكمال، وتقصر خطاه عن مدارك مقصوده. فيا له من حال ينفد في طريقه زاد الصابرين! ولولا حالات غفلة تعتري هذا المبتلى يعيش بها؛ لكان دوام ملاحظته للمقامات يعمي بصره، واجتهاده في السلوك يخفي قدمه، لكن ملاحظات الإمداد له -تارة بلوغ بعض مراده، وتارة بالغفلة عما قصد- تهون عليه العيش، وهذا كلام عزيز، لا يفهمه إلا أربابه، ولا يعلم كنهه إلا أصحابه.   1 توقك: شوقك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 125- فصل : ميزان العدل تَبِين فيها الذرة 610- تراعنت1 عليَّ نفسي في طلبها شيئًا من أغراضها بتأويل فاسد، فقلت لها: بالله عليك تصبري، فإن في المعبر شغلًا بحذر الغرق من كثرة الموج عن التنزه في عجائب البحر! 611- إذا هممت بفعل، فقدري حصوله، ثم تلمحي عواقبه، وما تجتنين من ثمراته، فأقل ذلك الندم على ما فعلت، ولا يؤمن أن يثمر غضب الحق عز وجل، وإعراضه عنك، فأفٍ للقاطع عنه ولو كان الجنة! 612- ثم اعلمي -أيتها النفس- أنه ما يمضي شيء جزافًا، وأن ميزان العدل تبين فيه الذرة. فتلمحي الأوات والأحياء، وانظري إلى من نشر ذكره بالخير   1 تراعنت: تحامقت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 والشر، وزيادة ذلك ونقصانه، فسبحان من أظهر دليل الخلوات على أربابها، حتى إن حبات القلوب تتعلق بأهل الخير، وتنفر من أهل الشر، من غير مطالعة لشيء من أعمال الكل. 613- قال إبليس: أو تترك مرادك لأجل الخلق؟! قلت: لا؛ إنما هذا بعض الثمرات الحاصلة لا عن طريق الغرض، ونحن نرى من يمشي ثلاثين فرسخًا ليقال: ساع، فالمتقي قد نال شرف الذكر -وإن لم يقصد نيل ذلكح مترجحًا له في وزن الجزاء: {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم: 96] . 614- قالت النفس: لقد أمرتني بالصبر على العذاب؛ لأن ترك الأغراض عذاب. قلت: لك عن الغرض عوض، ومن كل متروك بدل، وأنت في مقام مستعبد، ولا يصح للأجير أن يلبس ثبات الراحة في زمان الاستئجار، وكل زمان المتقي نهار صوم، ومن خاف العقاب، ترك المشتهة، ومن رام القرب، استعمل الورع، وللصبر حلاوة تبين في العواقب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 126- فصل: ابتعد عن أسباب الفتنة 615- من نازعته نفسه إلى لذة محرمة، فشغله نظره إليها عن تأمل عواقبها وعقابها، وسمع هتاف العقل يناديه: ويحك! لا تفعل! فإنك تقف عن الصعود، وتأخذ في الهبوط، ويقال لك: ابق بما اخترت! فإن شغله هواه، فلم يلتفت إلى ما قيل له، لم يزل في نزول، وكان مثله في سوء اختياره كالمثل المضروب: أن الكلب قال للأسد: يا سيد السباع! غير اسمي؛ فإنه قبيح، فقال له: أنت خائن، لا يصلح لك غير هذا الاسم، قال: فجربني، فأعطاه شقة لحم، وقال: احفظ لي هذه إلى غد، وأنا أغير اسمك. فجاع، وجعل ينظر إلى اللحم، ويصبر، فلما غلبته نفسه، قال: وأي شيء باسمي؟! وما كلب إلا اسم حسن. فأكل! وهكذا الخسيس الهمة، القنوع بأقل المنازل، المختار عاجل الهوى على آجل الفضائل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 616- فاللهَ اللهَ في حريق الهوى إذا ثار! وانظر كيف تطفئه؟ فرب زَلَّةٍ أوقعت في بئر بوار1، ورب أثر لم ينقلع2، والفائت لا يستدرك على الحقيقة، فابعد عن أسباب الفتنة، فإن المقاربة محنة لا يكاد صاحبها يسلم، والسلام.   1 البوار: الهلاك. 2 لم ينقلع: لم يزل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 127- فصل: البشر كلهم في حرب 617- رأيت الخلق كلهم في صف محاربة، والشياطين يرمونهم بنبل الهوى، ويضربونهم بأسياف اللذة، فأمّا المخلطون، فصرعى من أول وقت اللقاء، وأما المتقون، ففي جهد جهيد من المجاهدة! فلابد مع طول الوقوف في المحاربة من جراح، فهم يجرحون ويداوون، إلا أنهم من القتل محفوظون1، بلى، إن الجراحة في الوجه شين باق، ليحذر ذلك المجاهدون.   1 في الأصل: إن القتل محفوظ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 128- فصل: الدنيا فخ والجاهل يقع بأول نظرة 618- الدنيا فخ، والجاهل بأول نظرة يقع، فأما العاقل المتقي، فهو يصابر المجاعة، ويدور حول الحب، والسلامة بعيدة؛ فكم من صابر اجتهد سنين، ثم في آخر الأمر وقع! فالحذر الحذر، فقد رأينا من كان على سنن الصواب1، ثم زل على شفير القبر2.   1 سنن الصواب: طرق الصواب. 2 شفير القبر: حافته أي اقتراب الأجل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 129- فصل: للذنوب تأثيرات قبيحة 619- اعلموا -إخواني، ومن يقبل نصيحتي! - أن للذنوب تأثيرات قبيحة، مرارتها تزيد على حلاوتها أضعافًا مضاعفة، والمجازي بالمرصاد، لا يسبقه شيء، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 ولا يفوته، أو ليس يروى في التفسير أن كل واحد من أولاد يعقوب عليهم السلام -وكانوا اثني عشر- ولد له اثنا عشر ولدًا، إلا يوسف، فإنه ولد له أحد عشر، وجوزي بتلك الهمة1، فنقص ولدًا. 620- فوا أَسَفَا لمضروب بالسياط ما يحس بالألم! ولمثخنٍ بالجراح، وما عنده من نفسه خبر! ولمتقلب في عقوبات ما يدري بها! ولعمري إن أعظم العقوبة أن لا يدري بالعقوبة. 621- فَوَا عَجَبًا للمغالط نفسه! يرضي ربه بطاعة، ثم يرضي نفسه بشهوة2، ويقول: حسنة وسيئة! 622- ويحك! من كيسك تنفق، ومن بضاعتك تهدم، ووجه جاهك تشين! رب جراحة قتلت، ورب عثرة أهلكت، ورب فارط3 لا يستدرك. 623- ويحك! انتبه لنفسك، ما الذي تنتظر بأوبتك؟ وماذا تترقب بتوبتك؟ المشيب؟ فها هو ذا أوهن العظم! وهل بعد رحيل الأهل والأولاد والأقارب إلا اللحاق؟! قدر أن ما تؤمله من الدنيا قد حصل، فكان ماذا؟! إما هو عاجل، فشغلك عاجلًا، ثم آخر جرعة اللذة شرقة4! وإما أن تفارق محبوبك أو يفارقك، فيا لها جرعة مريرة تود عندها أن لو لم تره! 624- آهٍ لمحجوب العقل عن التأمل، ولمصدود عن الورود، وهو يرى المنهل! أما في هذه القبول نذير؟! أما في كرور الزمان زاجرٌ؟! أين من ملك وبلغ المنى فيما أمل؟! نادهم في ناديهم! هيهات، صموا عن مناديهم، فلو أن ما بهم الموت، إنما القبول هنية. العمل حصل يا معدومًا بالأمس! يا متلاشي الأشلاء في الغد!   1 انظر سورة يوسف: الآية "23". 2 في الأصل: بمعصية. 3 الفارط: الذنب السابق. 4 الشرقة: هو حسوة تملأ الفم. وهو حرف ما زال مستعملًا عندنا في الشام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 بأي وجهٍ تلقى ربك؟! أيساوي ما تناله من الهوى لفظ عِتَابٍ؟! 625- بالله، إن الرحمة بعد المعاتبة ربما لم تستوف قلع1 البغضة من صميم القلب، فكيف إن أعقب العتاب عقاب؟! 626- وقد أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز، قال: أخبرنا أبو بكر الخطيب، قال: أخبرنا محمد بن الحسين المعدل، قال: أخبرنا أبو الفضل الزهري، قال: أخبرنا أحمد بن محمد الزعفراني، قال: حدثنا أبو العباس بن واصل المقرئ، قال: سمعت محمد بن عبد الرحمن الصيرفي، قال: رأى جار لنا يحيى بن أكثم2 بعد موته في منامه، فقال: ما فعل بك ربك؟ فقال: وقفت بين يديه، فقال له: سوءة لك يا شيخ! فقلت: يا رب! إن رسولك قال: إنك لتستحي من أبناء الثمانين أن تعذبهم3، وأنا ابن ثمانين، أسير الله في الأرض. فقال لي: صدق رسولي، فقد عفوت عنك. وفي رواية أخرى عن محمد بن سلم الخواص، قال: رأيت يحيى بن أكثم في المنام، فقلت: ما فعل الله بك؟ فقال: أوقفني بين يديه، وقال لي: يا شيخ السوء! لولا شيبتك، لأحرقتك بالنار. والمقصود من هذا النظر بعين الاعتبار، هل يفي هذا بدخول الجنة، فضلًا عن لذات الدنيا؟ فنسأل الله عز وجل أن ينبهنا من رقدات الغافلين، وأن يرينا الأشياء كما هي، لنعرف عيوب الذنوب. والله الموفق.   1 قلع: إزالة. 2 يحيى بن أكثم المروزي، أبو محمد، قاضي، رفيع القدر، عالي الشهرة، من نبلاء الفقهاء، ولاه المأمون قضاء بغداد توفي سنة "242هـ" منصرفًا من الحج، وقد بلغ ثلاثًا وثمانين سنةً. 3 رواه أبو نعيم عن عائشة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 130- فصل: من يتوكل على الله فهو حسبه 627- ضاق بي أمر أوجب غمًّا لازمًا دائمًا، وأخذت أبالغ في الفكر في الخلاص من هذه الهموم بكل حيلة وبكل وجه، فما رأيت طريقًا للخلاص، فعرضت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 لي هذه الآية: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] ، فعلمت أن التقوى سبب للمخرج من كل غم، فما كان إلا أن هممت بتحقيق التقوى، فوجدت المخرج. فلا نبغي لمخلوقٍ أن يتوكل أو يتسبب أو يتفكر إلا في طاعة الله تعالى، وامتثال أمره، فإن ذلك سبب لفتح كل مرتج1. ثم أعجبه أن يكون من حيث لم يقدره المتفكر المحتال المدبر، كما قال عز وجل: {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 3] . 628- ثم يبنغي للمتقي أن يعلم أن الله -عز وجل- كافيه، فلا يعلق قلبه بالأسباب، فقد قال عز وجل: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] .   1 المرتج: المقفل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 131- فصل: نظف طرق الإجابة من أدران الذنوب 629- من العجب إلحاحك في طلب أغراضك! وكلما زاد تعويقها، زاد إلحاحك! وتنسى أنها قد تمتنع لأحد أمرين: إما لمصلحتك، فربما طلبت معجل أذى، وإما لذنوبك، فإن صاحب الذنوب بعيد عن الإجابة. فنظف طرق الإجابة من أوساخ المعاصي، وانظر فيما تطلبه، هل هو لإصلاح دينك، أو لمجرد هواك؟ فإن كان للهوى المجرد، فاعلم أن من اللطف بك والرحمة لك تعويقه، وأنت في إلحاحك بمثابة الطفل يطلب ما يؤذيه، فيمنع رفقًا به. وإن كان لصلاح دينك، فربما كانت المصلحة تأخيره، أو كان صلاح الدين بعدمه. وفي الجملة، تدبير الحق عز وجل لك خير من تدبيرك، وقد يمنعك ما تهوى ابتلاء، ليبلو صبرك، فأره الصبر الجميل، تر عن قربٍ ما يسر. ومتى نظفت طرق الإجابة عن أدران الذنوب، وصبرت على ما يقضيه لك، فكل ما يجري أصلح لك، عطاءً كان أو منعًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 132- فصل: الاستعداد للموت 630- يجب على من لا يدري من يبغته الموت أن يكون مستعدًّا، ولا يغتر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 بالشباب والصحة، فإن أقل من يموت الأشياخ، وأكثر من يموت الشبان، ولهذا يندر من يكبر، وقد أنشدوا. يُعَمَّرُ وَاحِدٌ فَيَغُرُّ قَوْمًا ... وَيُنْسَي مَنْ يَمُوْتُ مِنَ الشَّبَابِ 631- ومن الاغترار طول الأمل، وما من آفة أعظم منه، فإنه لولا طول الأمل، ما وقع إهمال أصلًا، وإنما تقدم المعاصي، وتؤخر التوبة، لطول الأمل، وتبادر الشهوات، وتنسى الإنابة، لطول الأمل. 632- وإن لم تستطع قصر الأمل، فاعمل عمل قصير الأمل: ولا تنس حتى تنظر فيما مضى من يومك، فإن رأيت زلة، فامحها بتوبة، أو خرقًا، فارقعه باستغفار. وإذا أصبحت، فتأمل ما مضى في ليلك. وإياك والتسويف، فإنه أكبر جنود إبليس. وخذ لك منك على مهلةٍ ... ومقبل عيشك لم يدبرِ وخف هجمةً لا تقيل العثَار ... وتطوي الورود على المصدرِ ومثل لنفسك أي الرعيل ... يضمك في حلْبة المحشر ثم صور لنفسك قصر العمر، وكثرة الأشغال، وقوة الندم على التفريط عند الموت، وطول الحسرة على البدار بعد الفوات. وصور ثواب الكاملين وأنت ناقص، والمجتهدين وأنت متكاسل. 633- ولا تخل نفسك من موعظة تسمعها، وفكرة تحادثها بها، فإن النفس كالفرس المتشيطن1: إن أهملت لجامه، لم تأمن أن يرمي بك. وقد والله دنستك أهواؤك، وضيعت عمرك. فالبدار البدار في الصيانة قبل تلف الباقي بالصبابة2، فكم تعرقل في فخ الهوى جناح حازمٍ! وكم وقع في بئر بوار مخمور3! ولا حول ولا قوة إلا بالله.   1 المتشيطن: الجامح والشموس. 2 الصبابة: العشق والهوى. 3 المخمور: السكران. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 133- فصل: الحذر من المعاصي 634- الحذر الحذر من المعاصي؛ فإن عواقبها سيئة. وكم من معصية لا يزال صاحبها في هبوط أبدًا، مع تعثير أقدامه، وشدة فقره، وحسراته على ما يفوته من الدنيا، وا حسرة لمن نالها، فلو قارب زمان جزائه على قبيحه لذي ارتكبه، كان اعتراضه على القدر في فوات أغراضه يعيد العذاب جديدًا! 635- فوا أسفا لمعاقب لا يحس بعقوبته! وآهٍ من عقاب يتأخر حتى ينسى سببه. أو ليس ابن سيرين يقول: عيرت رجلًا بالفقر، فافتقرت بعد أربعين سنة؟! وابن الجلاء يقول: نظرت إلى شاب مستحسن، فنسيت القرآن بعد أربعين سنةً. فوا حسرة لمعاقب لا يدري أن أعظم العقوبة عدم الإحساب بها! 636- فالله الله في تجويد التوبة، عساها تكف كف الجزاء. والحذر الحذر من الذنوب، خصوصًا ذنوب الخلوات، فإن المبارزة لله تعالى تسقط العبد من عينه. وأصلح ما بينك وبينه في السر، وقد أصلح لك أحوال العلانية، ولا تغتر بستره -أيها العاصي- فربما يجذب من عورتك1، ولا بحلمه فربما بغت2 العقاب. 637- وعليك بالقلق واللجإ إليه والتضرع؛ فإن نفع شيء، فذلك، وتقوت بالحزن، وتمرز3 كأس الدمع، واحفر بمعول الأسى قليب قلب4 الهوى، لعلك تنبط5 من الماء ما يغسل جرم6 جرمك7.   1 يكشفها. 2 بغت: فاجأ. 3 تمزز: مصّ. 4 القليب: البئر. 5 تنبط الماء: تستخرج الماء. 6 جِرم: جسم. 7 جُرمك: إثمك وذنبك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 134- فصل: من عظم الله عظم الله قدره 638- إخواني! اسمعوا نصيحة من قد جرب وخبر. إنه بقدر إجلالكم الله عز وجل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 يجلكم، وبمقدار تعظيم قدره واحترامه يعظم أقدراكم وحرمتكم. 639- ولقد رأيت -والله- من أنفق عمره في العلم، إلى أن كبرت سنه، ثم تعدى الحدود، فهان عند الخلق، وكانوا لا يلتفتون إليه، مع غزارة علمه، وقوة مجاهدته. ولقد رأيت من كان يراقب الله -عز وجل- في صبوته1 مع قصوره بالإضافة إلى ذلك العالم -فعظم الله قدره في القلوب، حتى علقته2 النفوس، ووصفته بما يزيد على ما فيه من الخير. ورأيت من كان يرى الاستقامة إذا استقام3: فإذا زاغ، مال عنه اللطف. ولولا عموم الستر، وشمول رحمة الكريم، لافتضح هؤلاء المذكورون. غير أنه في الأغلب تأديب أو تلطب في العقاب، كما قيل: ومن كان في سخطه مُحْسِنًا ... فَكَيْفَ يَكُوْنُ إِذَا مَا رَضِي غير أن العدل لا يحابي، وحاكم الجزاء لا يجور، وما يضيع عند الأمين شيء.   1 صبوته: صباه. 2 علقته: أحببته. 3 أي: يرى التوفيق إذا أطاع ربه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 135- فصل: ملازمة مجلس الإنابة 640- أيها المذنب! إذا أحسست نفحات الجزاء، فلا تكثرن الضجيج، ولا تقولن: قد تبت وندمت، فهلا زال عني من الجزاء ما أكره! فلعل توبتك ما تحققت. وإن للمجازاة زمان يمتد امتداد المرض الطويل، فلا تنجع فيه الحيل، حتى ينقضي أوانه، وإن بين زمان: {وَعَصَى} [طه: 121] إلى إبان: {فَتَلَقَّى} [البقرة: 37] مدةً مديدةً1. 641- فاصبر أيها الخاطئ حتى يتخلل ماء عينيك خلال ثوب القلب المتنجس؛ فإذا عصرته كف الأسى، ثم تكررت دفع الغسلات، حكم بالطهارة.   1 مديدة: طويلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 642- بقي آدم يبكي على زلته ثلاث مئة سنةٍ. ومكث أيوب عليه السلام في بلائه ثماني عشرة سنةً، وأقام يعقوب يبكي على يوسف عليه السلام ثمانين سنةً، وللبلايا أوقات، ثم تنصرم. ورب عقوبة امتدت إلى زمان الموت. 643- فاللازم لك أن تلازم محراب الإنابة، وتجلس جلسة المستجدي، وتجعل طعامك القلق، وشرابك البكاء، فربما قدم بشير القبول، فارتد يعقوب الحزن بصيرًا، وإن مت في سجن شجنك، فربما ناب حزن الدنيا عن حزن الآخرة، وفي ذلك ربح عظيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 136- فصل: دموع الندم تطفئ نيران الذنوب 644- الواجب على العاقل أن يحذر مغبة المعاصي، فإن نارها تحت الرماد. وربما تأخرت العقوبة، ثم فجأت، وربما جاءت مستعجلة. فيلبادر بإطفاء ما أوقد من نيران الذنوب، ولا ماء يطفئ تلك النار إلا ما كان من عين العين، لعل خصم الجزاء يرضى قبل أن يبت الحاكم في حكمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 137- فصل : اقبل نصحي يا مخدوعًا بغرضه. 645- واعجبًا من عارف بالله عز وجل يحالفه، ولو في تلف نفسه! هل العيش إلا معه؟! هل الدنيا والآخرة إلا له؟! 646- أف لمترخص في فعل ما يكره لنيل ما يحب! تالله، لقد فاته أضعاف ما حصل. أقبل على ما أقوله يا ذا الذوق! هل وقع لك تعثير في عيش، وتخبيط في حال إلا حال مخالفته؟! ولا انْثَنَى عَزْمِيَ عن بَابِكُمْ ... إِلَّا تَعَثَّرْتُ بِأَذْيَالِي 647- أما سمعت تلك الحكاية عن بعض السلف: أنه قال: رأيت على سور بيروت شابًّا يذكر الله تعالى، فقلت له: ألك حاجة؟ فقال: إذا وقعت لي حاجة، سألته إياها بقلبي فقضاها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 648- يا أرباب المعاملة! بالله عليكم، لا تكدروا المشرب! قفوا على باب المراقبة وقوف الحراس! وادفعوا ما لا يصلح أن يلج فيفسد! واهجروا أغراضكم لتحصيل محبوب الحبيب، فإن أغراضكم تحصل، على أنني أقول: أُفٍّ لمن ترك بقصد الجزاء! أهذا شرط العبودية؟! كلا، إنما ينبغي لي إذا كنت مملوكًا أن أفعل ليرضى لا لأعطى، فإن كنت محبًّا، رأيت قطع الآراب1 في رضاه وصلًا. 649- اقبل نصحي يا مخدوعًا بغرضه! إن ضعفت عن حمل بلائه2، فاستغث به، وإن آلمك كرب اختياره، فإنك بين يديه، ولا تيأس من روحه، وإن قوي خناق البلاء. بالله، إن موت الخادم في الخدمة حسن عند العقلاء. 650- إخواني! لنفسي أقول، فمن له شرب3 معي، فليرد: أيتها النفس! لقد أعطاك ما لم تؤملي وبلغك ما لم تطلبي، وستر عليك من قبيحك ما لو فاح، ضجت المشام4! فما هذا الضجيج من فوات كمال الأغراض؟! أمملوكة أنت أم حرة؟! أما علمت أنك في دار التكليف؟! وهذا الخطاب ينبغي أن يكون للجهال، فأين دعواك المعرفة؟! أتراه لو هبت نفحة فأخذت البصر، كيف كانت تطيب لك الدنيا؟! وَا أَسَفَا عليك! لقد عشيت البصيرة التي هي أشرف، وما علمت كم أقول: عسى ولعل؟ وأنت في الخطإ إلى قدام. قربت سفينة العمر من ساحل القبر، وما لك في المركب بضاعة تربح. تلاعبت في بحر العمر ريح الضعف، ففرقت تلفيق القوى، وكأن قد فصلت المركب5. بلغت نهاية الأجل، وعين هواك تتلفت إلى الصبا. بالله عليك، لا تشمتي بك الأعداء! هذا أقل الأقسام، وأوفى منها أن أقول: بالله عليك، لا يفوتنك قدم سابق مع قدرتك على قطع المضمار.   1 الآراب: الحوائج. 2 في الأصل: بلوائه. 3 شرب: النصيب من الشراب. 4 المشام: الأنوف. 5 رمز لانقضاء العمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 الخلوة الخلوة! واستحضري قرين العقل، وجولي في حيرة الفكر، واستدركي صبابة الأجل1، قبل أن تميل بك، الصبابة2 عن الصواب. وا عَجَبًا! كلما صعد العمر نزلت! وكلما جد الموت هزلت! أتراك ممن ختم له بفتنة، وقضيت عليه عند آخر عمره المحنة؟! كان أول عمرك خيرًا من الأخير، كنت في زمن الشباب أصلح منك في زمن أيام المشيب: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43] نسأل الله -عز وجل- ما لا يحصل إلا به، وهو توفيقه، إنه سميع مجيب.   1 صُبابة الأجل: بقية العمر. 2 الصبابة: الهوى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 138- فصل : حُسنُ جزاء مَنْ خافَ مقامَ ربِّه 651- قدرت في بعض الأيام على شهوة للنفس هي عندما أحلى من الماء الزلال1 في فم الصادي2، وقال التأويل: ما هاهنا مانع ولا معوق إلا نوع ورع! وكان ظاهر الأمر امتناع الجواز، فترددت بين الأمرين، فمنعت النفس عن ذلك، فبقيت حيرتي لمنع ما هو الغاية في غرضها من غير صاد عنه بحال، إلا حذر المنع الشرعي، فقلت لها: يا نفس! والله، ما من سبيل إلى ما تودين ولا ما دونه! فتقلقلت، فصحت بها: كم وافقتك في مراد ذهبت لذته، وبقي التأسف على فعله! فقدري بلوغ الغرض من هذا المراد، أليس الندم يبقى في مجال اللذة أضعاف زمانها؟! فقالت: كيف أصنع؟ فقلت: صبرت ولا والله ما بي جلادة ... على الحب، لكني صبرت على الرغم وها أنا ذا أنتظر من الله عز وجل حسن الجزاء على هذا الفعل. 652- وقد تركت باقي هذه الوجة البيضاء، أرجو أن أرى حسن الجزاء على الصبر، فأسطره3 فيه إن شاء الله تعالى؛ فإنه قد يعجل جزاء الصبر، وقد يؤخره:   1 الماء الزلال: الماء العذب الصافي. 2 الصادي: العطشان. 3 أسطره: أكتبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 فَإِنْ عُجِّلَ، سطرته، وإن أخر، فما أشك في حسن الجزاء لمن خاف مقام ربه؛ فإنه من ترك شيئًا لله، عوضه الله خيرًا منه. والله، إني ما تركته إلا لله تعالى، ويكفيني تركه ذخيرة، حتى لو قيل لي: أتذكر يومًا آثرت الله على هواك؟ قلت: يوم كذا وكذا. فافتخري أيتها النفس بتوفيقك، واحمدي من وفقك، فكم قد خذل سواك! واحذري أن تخذلي في مثلها! ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. 653- وكان هذا في سنة إحدى وستين وخمس مائة، فلما دخلت سنة خمس وستين1، عوضت خيرًا من ذلك بما لا يقارب مما لا يمنع منه ورع ولا غيره؛ فقلت: هذا جزاء الترك لأجل الله سبحانه في الدنيا: {وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ} [يوسف: 57] ، والحمد لله.   1 أي سنة "565 هـ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 139- فصل: المحنة على من طلب اللذة من طريق الحرام 654- لا أنكر على من طلب لذة الدنيا من طريق المباح؛ لأنه ليس كل أحد يقوى على الترك. إنما المحنة على من طلبها، فلم يجدها أو أكثرها إلا من طريق الحرام، فاجتهد في تحصيلها، ولم يبال كيف حصلت. فهذه المحنة التي بخس العقل فيها حقه، ولم ينتفع صاحبه بوجوده؛ لأنه لو وزن ما آثر وعقابه، طاشت كفة اللذة، التي فنيت عند أول ذرة من أجزائها. 655- وكم قد رأينا ممن آثر شهوته، فسلبت دينه! فليعجب العاقل حين التصفح لأحوالهم، كيف آثروا شيئًا ما أقاموا معه، وصاروا إلى عقاب لا يفارقهم؟! فَاللهَ اللهَ في بخس العقول حقها! ولينظر السالك أين يضع القدم، فرب مستعجل وقع في بئر بوارٍ، ولتكن عين التيقظ مفتوحة، فإنكم في صف حرب، لا يدري فيه من أين يتلقى النبل، فأعينوا أنفسكم، ولا تعينوا عليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 140- فصل: الحق عز وجل أقرب إلى عبده من حبل الوريد 656- الحق عز وجل أقرب إلى عبده من حبل الوريد؛ لكنه عامل العبد معاملة الغائب عنه، البعيد منه، فأمره بقصد بيته، ورفع اليدين إليه، والسؤال له. فقلوب الجُهَّالِ تستشعر البعد، ولذلك تقع منهم المعاصي، إذ لو تحققت مراقبتهم للحاضر الناظر، لكفوا الأكف عن الخطايا، والمتيقظون علموا قربه، فحضرتهم المراقبة، وكفتهم عن الانبساط. ولولا نوع تغطية على عين المراقبة الحقيقية، لما انبسطت كف بأكل، ولا قدرت عين على نظر. ومن هذا الجنس: "إنَّهُ لَيُغَانُ عَلى قَلْبِي"1. وَمَتَى تحققت المراقبة، حصل الأنس؛ وإنما يقع الأنس بتحقيق الطاعة؛ لأن المخالفة توجب الوحشة، والموافقة مبسطة المستأنسين، فيا لذة2 عيش المستأنسين! ويا خسارة المستوحشين! 657- وليست الطاعة كما يظن أكثر الجهال أنها مجرد الصلاة والصيام، إنما الطاعة الموافقة بامتثال الأمر، واجتناب النهي، هذا هو الأصل والقاعدة الكلية. فكم من متعبد بعيد؛ لأنه مضيع الأصل، وهادم القواعد بمخالفة الأمر، وارتكاب النهي، وإنما المحقق من أمسك ذؤابة3 ميزان المحاسبة للنفس، فأدى ما عليه، واجتنب ما نهي عنه، فإن رزق زيادة تنفل؛ وإلا لم يضره. والسلام.   1 رواه مسلم "2702" عن الأغرّ المزني، وتمامه: " ... وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة" ومعنى "يغان على قلبي" أي: يغشاه من السهو ما لا يخلو منه البشر؛ لأن قلبه أبدًا مشغول بالله؛ فإن عرض له عارض بشري يشغله عن أور الأمة والملة ومصالحهما عد ذلك ذنبًا وتقصيرًا، فيفزع إلى الاستغفار. 2 في الأصل: للذة. 3 ذؤابة الميزان: عروته التي يمسك منها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 141- فصل: على الإنسان ألا ينافس بلذات الدنيا 658- والدنيا في الجملة معبر؛ فينبغي للإنسان ألا ينافس بلذاتها، وأن يعبر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 الأيام بها. فإنه لو تفكر في كيفية الذبائح، ووسخ من يباشرها، وعمل الكامخ1. وغيرها من المأكولات، ما طابت له. ولو تفكر في جولان اللقمة مختلطة بالريق، ما قدر على إساغتها. 659- والمرء لا يخلو من حالين: إما أن يريد التنعم باللذات المباحات، أو يريد دفع الوقت بالضرورات، وأيهما طلب، فلا يبنغي له أن يبحث فيما يناله عن باطنه؛ فإنه لو نظر إلى عورة الزوجة نبا عنها2، وقد قالت عائشة رضي الله عنها: "ما رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا رآه مني"3. 660- فينبغي للعاقل أن يكون له وقت معلوم يأمر زوجته بالتصنع له فيه، ثم يغمض عن التفتيش، ليطيب له عيشه، وينبغي لها أن تتفقد من نفسها هذا، فلا تحضره إلا على أحسن حال. وبمثل هذا يدوم العيش. فأما إذا حصلت البذلة4، بانت بها العيوب، فنبت النفس، وطلبت الاستبدال، ثم يقع في الثانية5 مثل ما يقع في الأولى، وكذلك ينبغي أن يتصنع لها كتصنعها له، ليدوم الود بحسن الائتلاف6.   1 الكامخ: طعام من دقيق وملح ولبن يجفف في الشمس ثم تطرح عليه الأبازير لعله قريب مما يسمى اليوم "الكشك". 2 كرهها وجفاها. 3 رواه ابن ماجه "662" وأحمد "6/ 63 و190"، والبيهقي "7/ 94" عن عائشة رضي الله عنها، قال البوصيري: إسناده ضعيف. 4 البذلة، والابتذال: ترك الزينة. 5 الزوجة الثانية. 6 وبهذا المعنى وصية أمامة بنت الحارث لابنتها أم إياس حين زفت إلى زوجها: "أي بنية! إن الوصية لو تركت لفضل أدب لتركت لذلك منك، ولكنها تذكرة للغافل ومعونة للعاقل، ولو أن امرأة استغنت عن الزوج لغنى أبويها وشدة حاجتهما إليها كنت أغنى الناس عن الزوج؛ ولكن النساء للرجال خلقن، ولهن خلق الرجال. أي بنية! إنك فارقت الجو الذي منه خرجت، وخلفت العش الذي فيه درجت، إلى وكير لم تعرفيه، وقرين لم تألفيه، فأصبح بملكه عليك رقيبًا ومليكًا. فكوني له أمة يكن لك عبدًا وشيكًا. يا بنية! احملي عني عشر خصال تكن لك ذخرًا وذكرًا: 1- الصحبة بالقناعة، 2- المعاشرة بحسن السمع والطاعة، 3- والتعهد لموقع عينيه، 4- والتفقد لموضع أنفه، فلا تقع عينيه منك على قبيح، ولا يشم منك إلا أطيب ريح، 5- والتعهد لوقت طعامه، 6- والهدوء عند = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 661- ومتى لم يجر الأمر على هذا في حق من له أنفةٌ من شيء تنبو عنه النفس، وقع في أحد أمرين، إما الإعراض عنها، وإما الاستبدال بها، ويحتاج في حالة الإعراض إلى صبر عن أغراضه، وفي حالة الاستبدال إلى فضل مؤنة، وكلاهما يؤذي. ومتى لم يستعمل ما وصفنا، لم يطلب له عيش في متعة، ولم يقدر على دفع الزمان كما ينبغي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 142- فصل: معاذ الله إنه ربي 662- نازعتني نفسي إلى أمر مكروه في الشرع، وجعلت تنصب لي التأويلات، وندفع الكراهة، وكانت تأويلاتها فاسدة، والحجة ظاهرة على الكراهة. فلجأت إلى الله تعالى في دفع ذلك عن قلبي، وأقبلت على القراءة1، وكان درسي2 قد بلغ سورة يوسف، فاتحتها، وذلك الخاطر قد شغل قلبي، حتى لا أدري ما أقرأ. فلما بلغت إلى قوله تعالى: {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف: 23] ، انتبهت لها، وكأني خوطبت بها، فأفقت من تلك السكرة، فقلت: يا نفس! أفهمت؟ هذا حر بيع ظلمًا، فراعي حق من أحسن إليه، وسماه مالكًا، وإن لم يكن له عليه ملك، فقال: {إِنَّهُ رَبِّي} ، ثم زاد في بيان موجب كف كفه عما يؤذيه، فقال: {أَحْسَنَ مَثْوَايَ} . فكيف بك، وأنت عبد على الحقيقة لمولى ما زال يحسن   = منامه: فإن حرارة الجوع ملهبة، وتنغيص النوم مبغضة 7- والاحتفاظ ببيته وماله، 8- والرعاية على نفسه وحشمه وعياله؛ فإن الاحتفاظ بالمال حسن التقدير، والرعاية على العيال والحشم جميل حسن التدبير، 9- ولا تفشي له سرَّا، 10- ولا تعصي له أمرًا. فإنك إن أنت أفشيت سره لم تأمني غدره، وإن عصيت أمره أوغرت صدره. ثم اتقي مع ذلك الفرح أمامه إن كان ترحًا، والاكتئاب عنده إن كان فرحًا، فإن الخصلة الأولى من التقصير، والثانية من التكدير، وكوني أشد ما تكونين له موافقة يكن لك أطول ما يكون موافقة، واعلمي أنك لا تصلين إلى ما تحبين حتى تؤثري رضاه على رضاك، وهواه على هواك فيما أحببت وكرهت. والله يخير لك. 1 قراءة القرآن. 2 ورده ووظيفته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 إليك من ساعة وجودك، وإن ستره عليك الزلل أكثر من عدد الحصى؟! أفما تذكرين كيف رباك، وعلمك، ورزقك، ودافع عنك، وساق الخير إليك، وهداك أقوم طريق، ونجاك من كل كيد، وضم إلى حسن الصورة الظاهرة جودة الذهن الباطن، وسهل لك مدارك العلوم، حتى نلت في قصير الزمان رزقك بلا كلفة تكلف، ولا كدر من، رغدًا غير نزرٍ3؟! فوالله، ما أدري أي نعمة عليك أشرح لك، حسن الصورة، وصحة الآلات؟ أم سلامة المزاج، واعتدال التركيب؟ أم لطف الطبع الخالي عن خساسة؟ أم إلهام الرشاد منذ الصغر؟ أم الحفظ بحسن الوقاية عن الفواحش والزلل؟ أم تحبيب طريق النقل، واتباع الأثر، من غير جمود على تقليد لمعظم، ولا انخراط في سلك مبتدع؟ {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [ابراهيم: 34] . كم كايد نصب لك المكايد فوقاك؟ كم عدو حط منك بالذم فرقاك؟ كم أعطش من شراب الأماني خلقًا وسقاك؟ كم أمات من لم يبلغ بعض مرادك وأبقاك؟ فأنت تصبحين وتمسين سليمة البدن، محروسة الدين، في تزيد من العلم، وبلوغ الأمل. فإن منعت مرادًا، فرزقت الصبر عنه بعد أن تبين لك وجه الحكمة في المنع، فسلمي حتى يقع اليقين بأن المنع أصلح. ولو ذهبت أعد من هذه النعم ما سنح4 ذكره، امتلأت الطروس5 ولم تنقطع الكتابة، وأنت تعلمين أن ما لم أذكره أكثر، وأن ما أومأت إلى ذكره لم يشرح، فكيف يحسن بك التعرض لما يكرهه؟! {مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف: 23] .   1 في الأصل: لينله. 2 عرصة: ساحة. 3 النزر: القليل. 4 سنح: خطر. 5 الطروس، جمع طرس: وهو الصحيفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 143- فصل: قطع أسباب الفتن 663- ما رأيت أعظم فتنة من مقاربة الفتنة، وقل أن يقاربها إلا من يقع فيها: "ومن حام حول الحمى، يوشك أن يقع فيه"1. 664- قال بعض المعتبرين: قدرت مرة على لذة ظاهرها التحريم، وتحتمل الإباحة؛ إذ الأمر فيها مردد، فجاهدت النفس، فقالت: أنت ما تقدر؛ فلهذا تترك، فقارب المقدرو عليه، فإذا تمكنت، فتركت، كنت تاركًا حقيقة، ففعلت، وتركت. ثم عاودت مرة أخرى في تأويل، أرتني فيه الجواز، وإن كان الأمر يحتمل، قلمًا وافقتها، أثر ذلك لظمة في قلبي، لخوف أن يكون الأمر محرمًا. فرأيت أنها تارة تقوى علي بالترخص والتأويل، وتارة أقوى عليها بالمجاهدة والامتناع؛ فإذا ترخصت، لم آمن أن يكون ذلك الأمر محظورًا، ثم أرى عاجلًا تأثير ذلك الفعل في القلب. فلما لم آمن عليها التأويل، تفكرت في قطع طمعها من ذلك الأمر المؤثر، فلم أر ذلك إلا بأن قلت لها: قدري أن هذا الأمر مباح قطعًا، فوالله الذي لا إله إلا هو، لا عدت إليه. فانقطع طمعها باليمين والمعاهدة. وهذا أبلغ دواء وجدته في امتناعها؛ لأن تأويلها لا يبلغ إلى أن تأمر بالحنث والتكفير. فأجود الأشياء قطع أسباب الفتن، وترك الترخص فيما يجوز، إذا كان حاملًا ومؤديًا إلى ما لا يجوز، والله الموفق.   1 رواه البخاري "52"، ومسلم "1559"، عن النعمان بن بشير رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 144- فصل: من بالغ في الاحتراز من المعاصي سلم 665- لولا غيبة العاصي في وقت المعاصي، كان كالمعاند، غير أن الهوى يحول بينه وبين الفهم للحال، فلا يرى إلا قضاء شهوته؛ وإلا فلو لاحت له المخالفة، خرج من الدين بالخلاف، فإنما يقصد هواه، فيقع الخلاف ضمنًا وتبعًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 666- وأكثر ما يقع هذا في مقاربة الفتنة، وقل من يسلم عند المقاربة؛ لأنه كتقديم نار إلى حلفاء1. 667- ثم لو ميز العاقل بين قضاء وطره لحظة، وانقضاء باقي العمر بالحسرة على قضاء ذلك الوطر: لما قرب منه، ولو أعطي الدنيا، غير أن سكرة الهوى تحول بين الفكر وذلك. 668- آهٍ، كم معصية مضت في ساعتها كأنها لم تكن، ثم بقيت آثارها، وأقلها ما لا يبرح من المرارة في الندم! والطريق الأعظم في الحذر أن لا يتعرض لسب فتنة، ولا يقاربه. فمن فهم هذا وبالغ في الاحتراز، كان إلى السلامة أقرب.   1 الحلفاء: نبات عشبي معمر من الفصيلة النجيلية، أوراقه مستطيلة خيطية أو أسلية النصل، يلتف بعضها على بعض، تصنع منها الحصر والقفف والحبال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 145- فصل: البلايا على مقادير الرجال 669- البلايا على مقادير الرجال. فكثير من الناس تراهم ساكتين، راضين بما عندهم من دين ودنيا، وأولئك قوم لم يرادوا لمقامات الصبر الرفيعة، أو علم ضعفهم عن مقاومة البلاء فلطف بهم. ثم تبتلي بنفس تميل إلى المباحات، وتدعي أنها تجمع بذلك همها، وتشفي مرضها، لتقبل مزاحة العلة1 على تحصيل الفضائل. وهاتان الحالتان كضدين؛ لأن الدنيا والآخرة ضرتان. واللازم في هذا المقام مراعاة الواجبات، وأن لا يفسح للنفس في مباح لا يمؤمن أن يتعدى منه إعراض عن واجب ورع، المبتلى يصيح، فلأن يبكي الطفل خير من أن يبكي الوالد.   1 خالٍ من الشواغل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 670- واعلم أن فتح باب المباحات ربما جر أذى كثيرًا في الدين، فأوثق السكر1 قبل فتح الماء، والبس الدرع قبل لقاء الحرب، وتلمح عواقب ما تجني قبل تحريك اليد، واستظهر في الحذر باجتناب ما يخاف منه، وإن لم يتيقن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 اللازم في العالم طلب المهم ... 146- فصل: اللازم في العلم طلب المهم 671- ينبغي لطالب العلم أن يكون جل همته مصروفًا إلى الحفظ والإعادة؛ فلو صح صرف الزمان إلى ذلك، كان الأولى، غير أن البدن مطية، وإجهاد1 السير مظنة الانقطاع، ولما كانت القوى تكل، فتحتاج إلى تجديد، وكان النسخ والمطالعة والتصنيف لا بد منه، مع أن المهم الحفظ، وجب تقسيم الزمان على الأمرين: فيكون الحفظ في طرفي النهار، وطرفي الليل، ويوزع بالباقي بين عمل بالنسخ، والمطالعة، وبين راحة للبدن، وأخذ لحظة. 672- ولا ينبغي أن يقع الغبن بين الشركاء: فإنه متى أخذ أحدهم فوق حقه، أثر الغبن، وبان أثره. 673- وإن النفس لتهرب إلى النسخ والمطالعة والتصنيف عن الإعادة والتكرار؛ لأن ذلك أشهى وأخلف عليها. 674- فليحذر الراكب من إهمال الناقة2، ولا يجوز له أن يحمل عليها ما لا تطيق. 675- ومع العدل والإنصاف يتأتى كل مراد، ومن انحراف عن الجادة، طالت طريقه، ومن طوى منازل في منزل، أوشك أن يفوته ما جد لأجله. على أن الإنسان إلى التحريض أحوج؛ لأن الفتور ألصق به من الجد3. 676- وبعد، فاللازم في العلم طلب المهم، فرب صاحب حديث حفظ مثلًا   1 في الأصل: وأعداد، وهو تصحيف. 2 الناقة: رمز للبدن. 3 الجَدّ: الحظ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 لحديث: "من أتى الجمعة، فليغتسل" 1 عشرين طريقًا، والحديث قد ثبت من طريق واحد، فشغله ذلك عن معرفة آداب الغسل، والعمر أقصر وأنفس من أن يفرط منه في نفس، وكفى بالعقل مرشدًا إلى الصواب2. وبالله التوفيق.   1 رواه البخاري "887"، ومسلم "844" عن ابن عمر رضي الله عنهما. 2 في الأصل: من عضده وبالله التوفيق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 147- فصل : إذا صحّ قصد العالم استراح من التكلّف. 677- إذا صح قصد العالم، استراح من كلف التكلف. فإن كثيرًا من العلماء يأنفون من قول: لا أدري، فيحفظون بالفتوى جاههم عند الناس، لئلا يقال: جهولًا الجواب، وإن كانوا على غير يقين مما قالوا، وهذا نهاية الخذلان. 678- وقد روي عن مالك بن أنس: أن رجلًا سأله عن مسأله، فقال: لا أدري! فقال: سافرت البلدان إليك! فقال: ارجع إلى بلدك، وقل: سألت مالكًا، فقال: لا أدري. فانظر إلى دين هذا الشخص وعقله، كيف استراح من الكلفة، وسلم عند الله رضي الله عنه. 679- ثم إن كان المقصود الجاه عندهم، فقلوبهم بيد غيرهم. والله، لقد رأيت من يكثر الصلاة والصوم والصمت، ويتخشع في نفسه ولباسه، والقلوب تنبو عنه، وقدره في النفوس ليس بذاك! ورأيت من يلبس فاخر الثياب، وليس له كبير نفل، ولا تخشع، والقلوب تتهافت على محبته، فتدبرت السبب، فوجدته السريرة. كما روي عن أنس بن مالك: أنه لم يكن له كبير عمل من صلاة وصوم؛ وإنما كانت له سريرة. فمن أصلح سريرته، فاح عبير فضله، وعبقت القلوب بنشر طيبه، فالله الله في السرائر، فإنه ما ينفع مع فسادها صلاح ظاهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 الدنيا دار ابتلاء واختيار ... 148- فصل: الدنيا دار ابتلاء واختبار 680- نزلت في شدة، وأكثرت من الدعاء أطلب الفرج والراحة، وتأخرت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 الإجابة، فانزعجت النفس، وقلقت! فصحت بها: ويلك! تأملي أمرك! أمملوكة أنت أم حرة مالكة؟! أمدبرة أنت أم مدبرة؟! أما علمت أن الدنيا دار ابتلاء واختبار؛ فإذا طلبت أغراضك، ولم تصبري على ما ينافي مرادك، فأين الابتلاء؟! وهل الابتلاء إلا الإعراض، وعكس المقاصد؟ فافهمي معنى التكليف، وقد هان عليك ما عز، وسهل ما استصعب! فلما تدبرت ما قلته، سكنت بعض السكون. فقلها لها: وعندي جواب ثان، وهو أنك تقتضين الحق بأغراضك، ولا تقتضين نفسك بالواجب له، وهذا عين الجهل؛ وإنما كان ينبغي أن يكون الأمر بالعكس؛ لأنك مملوكة، والمملوك العاقل يطالب نفسه بأداء حق المالك، ويعلم أنه لا يجب على المالك تبليغه ما يهوى. فسكنت أكثر من ذلك السكون. فقلت لها: وعندي جواب ثالث، وهو أنك قد استبطأت الإجابة، وأنت سددت طرقها بالمعاصي، فلو قد فتحت الطريق، أسرعت. كأنك ما علمت أن سبب الراحة التقوى! أو ما سمعت قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ} [الطلاق: 2-3] {يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق: 4] ؟! أو ما فهمت أن العكس بالعكس؟! آه من سكر غفلة صار أقوى من كل سكر في وجه مياه المراد، يمنعها من الوصول إلى زرع الأماني! فعرفت النفس أن هذا حق، فاطمأنت. فقلت: وعندي جواب رابع، وهو أنك تطلبين ما لا تعلمين عاقبته، وربما كان فيه ضررك، فمثلك كمثل طفل محمود يطلب الحلوى، والمدبر لك أعلم بالمصالح، كيف وقد قال الله: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 216] ؟! فلما بان الصواب للنفس في هذه الإجابة، زادت طمأنينتها. فقلت لها: وعندي جواب خامس، وهو أن هذا المطلوب ينقص من أجرك، ويحط من مرتبتك، فمنع الحق لك ما هذا سبيله عطاء منه لك، ولو أنك طلبت ما يصلح آخرتك، كان أولى لك. فأولى لك أن تفهمي ما قد شرحت. فقالت: لقد سرحت في رياض ما شرحت، فهمت1 إذ فهمت2.   1 همت: من هام على وجهة إذا سار دون أن يدري الوجهة التي يقصدها. 2 فهمت: فقهت وعرفت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 149- فصل: العالم الذي يتكسب يصون عرضه ودينه 681- حضرنا بعض أغدية أرباب الأموال، فرأيت العلماء أذل الناس عندهم، العلماء يتواضعون لهم، ويذلون لموضع طمعهم فيهم، وهم لا يحفلون بهم، لما يعلمونه من احيتاجهم إليهم. فرأيت هذا عيبًا في الفريقين: أما في أهل الدنيا، فوجه العيب أنهم كان1 ينبغي لهم تعظيم العلم، ولكن لجهلهم بقدره، فاتهم، وآثروا عليه كسب الأموال؛ فلا ينبغي أن يطلب منهم تعظيم ما لا يعرفون، ولا يعلمون قدره. وإنما أعود باللوم على العلماء، وأقول: ينبغي لكم أن تصونوا أنفسكم التي شرفت بالعلم عن الذل للأنذال. وإن كنتم في غنى عنهم، كان الذل لهم، والطلب منهم حرامًا عليكم. وإن كنتم في كفاف، فلم لم تؤثروا التنزه عن الذل بالعفة عن الحطام الفاني الحاصل بالذلة. 682- إلا أنه يتخيل لي من هذا الأمر أني علمت قلة صبر النفس على الكفاف، والعزوف عن الفضول، فإن وجد ذلك منها في وقت، لم يوجد على الدوام. فالأولى للعالم أن يجتهد في طلب الغنى، ويبالغ في الكسب، وإن ضاع بذلك عليه كثير من زمان طلب العلم؛ فإنه يصون بعرضه عرضه. وقد كان سعيد بن المسيب يتجر في الزيت، وخلف مالًا. وخلف سفيان الثوري مالًا، وقال: لولاك لتمندلوا بي2. 683- وقد سبق في كتابي هذا في بعض الفصول شرف المال3، ومن كان من الصحابة والعلماء يقتنيه، والسر في فعلهم ذلك، وحتى طالبي العلم على ذلك، ما بينته من أن النفس لا تثبت على التعفف، ولا تصبر على دوام التزهد. 684- وكم قد رأينا من شخص قويت عزيمته على طلب الآخرة، فأخرج ما في يده، ثم ضعفت، فعاد يكتسب من أقبح وجه! فالأولى ادخار المال، والاستغناء   1 في الأصل: كانوا. 2 جعلوني كالمنديل يمسحون بي قذاراتهم وذلك لهواني عليهم. 3 الفصل "101". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 عن الناس، فيخرج الطمع من القلب، ويصفو نشر العلم من شائبة ميلٍ. 685- ومن تأمل أخبار الأخيار من الأحبار، وجدهم على هذه الطريقة؛ وإنما سلك طريق الترفه1 عن الكسب من لم يؤثر عنده بذل الدين والوجه، فطلب الراحة، ونسي أنها في المعنى عناء2، كما فعل جماعة من جهال المتصوفة في إخراج ما في أيديهم، وادعاء التوكل! وما علموا أن الكسب لا ينافي التوكل! وإنما طلبوا طريق الراحة، وجعلوا التعرض للناس كسبًا! وهذه طريقة مركبة من شيئين: أحدهما: قلة الأنفة على العرض، والثاني: قلة العلم.   1 كذا في الأصل ولعلها مصحفة عن الترفع. 2 عناء: شقاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 150- فصل: الهوى يسوق إلى العصيان 686- تأملت وقوع المعاصي من العصاة، فوجدتهم لا يقصدون العصيان؛ وإنما يقصدون موافقة هواهم، فوقع3 العصيان تبعًا، فنظرت في سبب ذلك الإقدام مع العلم بوقوع المخالفة؛ فإذا به ملاحظتهم لكرم الخالق، وفضله الزاخر، ولو أنهم تأملوا عظمته وهيبته، ما انبسطت كف بمخالفته. فإنه ينبغي -والله- أن يحذر ممن أقل فعله تعميم الخلق بالموت، حتى إلقاء الحيوان البهيم للذبح، وتعذيب الأطفال بالمرض، وفقر العالم، وغنى الجاهل. 687- فليعرض المقدم على الذنوب على نفسه الحذر ممن هذه صفته، فقد قال الله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [ال عمران: 28] . وملاحظة أسباب الخوف أدنى إلى الأمن من ملاحظة أسباب الرجاء، فالخائف آخذ بالحزم، والراجي متعلق بحبل طمع، وقد يخلف الظن!   1 في الأصل: فتبع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 151- فصل: التكسب والقناعة . 688- رأيت عموم أرباب الأموال يستخدمون العلماء، ويستذلونهم بشيء يسير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 يعطونهم من زكاة أموالهم: فإن كان لأحدهم ختمة، قال: فلان ما حضر! وإن مرض، قال: فلان ما تردد! وكل منته عليه شيء نزر1 يجب تسليمه إلى مثله!! وقد رضي العلماء بالذل في ذلك لموضع الضرورة. فرأيت أن هذا جهل من العلماء بما يجب عليهم من صيانة العلم، ودواؤه من جهتين: إحداهما: القناعة باليسير، كما قيل: من رضي بالخل والبقل، لم يستعبده أحد. والثاني: صرف بعض الزمان المصروف في خدمة العلم إلى كسب الدنيا؛ فإنه يكون سببًا لإعزاز العلم، وذلك أفضل من صرف جميع الزمان في طلب العلم، مع احتمال هذا الذل2. ومن تأمل ما تأملته، وكانت له أنفة، قدر قوته، واحتفظ بما معه، أو سعى في مكتسب يكفيه3. ومن لم يأنف من مثل هذه الأشياء، لم يحظ من العلم إلا بصورته دون معناه.   1 نزر: قليل. 2 ما أحرى معاهد العلم الشرعي أن تعلم طلابها إلى جانب العلوم الشرعية حرفة يتكسبون بها، وتكون سببًا لإعزاز العلم وحملته من احتمال ذل الحاجة. 3 في الأصل: يكفه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 152- فصل: مدار الأمر كله على العقل 689- مدار الأمر كله على العقل؛ فإنه إذا تم العقل، لم يعمل صاحبه إلا على أقوى دليل، وثمرة العقل: فهم الخطاب، وتلمح المقصود من الأمر. ومن فهم المقصود، وعمل على الدليل، كان كالباني على أساس وثيق. 690- وإني رأيت كثيرًا من الناس لا يعملون على دليل، بل كيف اتفق، وربما كان دليلهم العادات! وهذا أقبح شيء يكون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 691- ثم رأيت خلقًا كثيرًا لا يتبعون الدليل بطريق إثباته، كاليهود والنصارى؛ فإنهم يقلدون الآباء، ولا ينظرون فيما جاء من الشرائع، هل صحيح أم لا؟! وكذلك يثبتون الإله، ولا يعرفون ما يجوز عليه مما لا يجوز، فينسبون إليه المولد! ويمنعون جواز تغييره ما شرع! وهؤلاء لم ينظروا حق النظر، لا في غثبات الصانع وما يجوز عليه، ولا في الدليل على صحة النبؤات، فتقع أعمالهم ضائعة، كالباني على رمل. 692- ومن هذا القبيل في المعنى قوم يتعبدون ويتزهدون، وينصبون أبدانهم في العمل1 بأحاديث باطلة، ولا يسألون عنها من يعلم! 693- ومن الناس من يثبت الدليل، ولا يفهم المقصود الذي دل عليه الدليل، ومن هذا الجنس قوم سمعوا ذم الدنيا، فتزهدوا، وما فهموا المقصود، فظنوا أن الدنيا تذم لذاتها، وأن النفس تجب عداوتها، فحملوا على أنفسهم فوق ما يطاق، وعذبوها بكل نوع، ومنعوها حظوظها، جاهلين بقوله صلى الله عليه وسلم: "إن لنفسك عليك حقًّا"، وفيهم من أدته الحال إلى ترك الفرائض، ونحول الجسم، وضعف القوى! وكل ذلك لضعف الفهم المقصود، والتلمح للمراد. 694- كما روي عن داود الطائي: أنه كان يترك ماء في دن تحت الأرض، فيشرب منه، وهو شديد الحر! وقال لسفيان: إذا كنت تأكل اللذيذ الطيب، وتشرب الماء البارد المبرد، فمتى تحب الموت والقدوم على الله؟! وهذا جهل بالمقصود، فإن شرب الماء الحار يورث أمراضًا في البدن، ولا يحصل به الري، وما أمرنا بتعذيب أنفسنا "على هذه"2 الصورة، بل بخلاف ما تدعو إليه مما نهى الله عنه. وفي الحديث الصحيح: إن أبا بكر رضي الله عنه لما حلب له الراعي في طريق الهجرة، صب الماء على القدح حتى برد أسفله، ثم سقى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفرش له في ظل صخرة. وكان يستعذب لرسول الله صلى الله عليه وسلم الماء، وقال: "إن كان عندكم ماء بات   1 في الأصل: العلم، وهو تصحيف. 2 في الأصل: في. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 في شَنٍّ؛ وَإِلَّا كَرَعْنَا"1. ولو فهم داود رحمه الله أن إصلاح علف الناقة متعين لقطع المسافة، لم يفعل هذا. ألا ترى إلى سفيان الثوري، فإنه كان شديد المعرفة والخوف، وكان يأكل اللذيذ، ويقول: إن الدابة إذا لم يحسن إليها، لم تعمل. 695- ولعل بعض من يسمع كلامي هذا يقول: هذا ميل على الزهاد! فأقول: كن مع العلماء، وانظر إلى طريق الحسن وسفيان ومالك وأبي حنيفة وأحمد والشافعي، وهؤلاء أصول الإسلام، ولا تقلد دينك من قل علمه، وإن قوي زهده، واحمل أمره على أنه كان يطيق هذا، ولا تقتد بهم فيما لا تطيقه، فليس أمرنا إلينا، والنفس وديعة عندنا، فإن أنكرت ما شرحته، فأنت ملحق بالقوم الذين أنكرت عليهم. هذا رمز إلى المقصود، والشرح يطول.   1 رواه البخاري، عن جابر رضي الله عنه. و "الشن" جلد يوضع فيه الماء ليبرد و "الكرع" شرب بفيه من موضعه، فإن شرب بكفيه أو بشيء آخر فليس بكرع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 153- فصل: الواجب على العاقل أن يتبع الدليل 696- الواجب على العاقل أن يتبع الدليل، ثم لا ينظر فيما يجني من مكروه. مثاله: أنه قد ثبت بالدليل القاطع حكمة الخالق -عز وجل- وملكه وتدبيره؛ فإذا رأى الإنسان عالمًا محرومًا، وجاهلًا مرزوقًا، أوجب عليه الدليل المثبت حكمة الخالق التسليم إليه، ونسبة العجز عن معرفة الحكمة إلى نفسه، فإن أقوامًا لم يفعلوا ذلك جهلًا منهم! أفتراهم بماذا حكموا بفساد هذا التدبير؟! أليس بمقتضى عقولهم؟! أوما عقولهم من جملة مواهبة؟! فكيف يحكم على حكمته وتدبيره ببعض مخلوقاته التي هي بالغضافة إليه أنقص من كل شيء؟! 697- ولقد بلغني عن اللعين ابن الرواندي1 أنه كان جالسًا على الجسر،   1 أحمد بن يحيى الزنديق، كان من المعتزلة، ثم تزندق واشتهر بالإلحاد وألف كتبًا فيه، نفق سنة "298هـ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 وفي يده رغيف يأكله، فجازت خيل وأموال، فقال: لمن هذه؟ فقيل: لفلان الخادم1. ثم جازت خيل وأموال، فقال: لمن هذه؟ فقيل: لفلان الخادم، فلما مر الخادم، رأى شخصًا محتقرًا، فرمى الرغيف إلى ناحيته، وقال: وهذا لفلان! ما هذه القسمة؟! 698- ولو فكر المعترض2، لبانت له وجوه، أقلها: جهله بمن يدعي معرفته، وقلة تعظيمه له، وذلك يوجب عليه أشد مما كان فيه من تضييق العيش؛ ولكنه ميراث إبليس، حيث اعتقد سوء التدبير في تفضيل آدم عليه السلام. فالعجب من تلميذ يتعالم على أستاذه، ومن مملوك يتيه على سيده! 699- ومما ينبغي أن يتبع فيه الدليل، ولا يلتفت إلى ما جنت الحال: أن العلم أشرف مكتسب. وقد رأى جماعة من الجهلة قلة حظوظ العلماء من الدنيا، فأزروا على العلم، وقالوا: لا فائدة فيه! وذلك لجهلهم بمقدار العلم، فإن تابع الدليل لا يبالي ما جنى؛ وإنما يبين الاختبار بفقد الغرض. ولو لم يكن من الدليل على صدق نبينا صلى الله عليه وسلم إلا إعراضه عن الدنيا، وتضييق العيش عليه، ثم لم يخلف شيئًا، وحرم أهله الميراث، لكفاه ذلك دليلًا على صدق طلبه لمطلوب آخر. 700- وربما رأى الجاهل قومًا من العلماء يفعلون خطيئة، فيزري3 على العلم، ويدعيه ناقصًا، وهذا غلط كبير. فليتق الله العاقل، وليعمل بمقتضى العقل فيما يأمر به من طاعة الله تعالى والعمل بالعلم، وليعلم أن الابتلاء في الصبر على فوات المطلوبات، وليلزم اتباع الدليل، وإن جنى مكروها، والله الموفق.   1 هو، على بن بلتق خادم الخليفة. انظر: الخبر نفسه في الفصل "358". 2 في الأصل: المدبر. 3 في الأصل: فيزدري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 154- فصل: أكل الأرباح في الصبر . 701- قرأت سورة يوسف عليه السلام، فتعجبت من مدحه عليه السلام على صبره، وشرح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 قصته للناس، ورفع قدره بترك ما ترك. فتأملت خبيئة الأمر، فإذا هي مخالفة للهوى المكروه. فقلت: وا عجبًا! لو وافق هواه، من كان يكون؟! ولما خالفه، لقد صار أمرًا عظيمًا، تضرب الأمثال بصبره، ويفتخر على الخلق باجتهاده، وكل ذلك قد كان بصير ساعة، فيا له عزًّا وفخرًا [أن تملك نفسك1] ساعة الصبر عن المحبوب [وهو قريب] 2! وبالعكس منه حالة آدم في موافقته هواه، لقد عادت نقيصة في حقه أبدًا، لولا التدارك: {فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة: 37] ! فلتلمحوا -رحمكم الله- عاقبة الصبر ونهاية الهوى! فالعاقل من ميز بين الأمرين، الحلوين والمرين، فإن عدل ميزانه، ولم تمل به كفة الهوى، رأى كل الأرباح في الصبر، وكل الخسران في موافقة النفس، وكفى بهذا موعظة في مخالفة الهوى لأهل النهى، والله الموفق.   1 في الأصل: يقاوم كل لحظة من ذكره أمثال، والمثبت من نسخة في حاشية "أ". 2 زيادة من "ط". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 155- فصل: الرقائق والنظر في سير الصالحين . 702- رأيت الاشتغال بالفقه وسماع الحديث لا يكاد يكفي في صلاح القلب؛ إلا أن يمزج بالرقائق، والنظر في سير السلف الصالحين. فأما مجرد العلم بالحلال والحرام، فليس له كبير عمل في رقة القلب؛ وإنما ترق القلوب بذكر رقائق الأحديث، وأخبار السلف الصالحين؛ لأنهم تناولا مقصود النقل، وخرجوا عن صور الأفعال المأمور بها إلى ذوق معانيها والمراد بها. وما أخبرتك بهذا إلا بعد معالجة وذوق، لأني وجدت جمهور المحدثين وطلاب الحديث همة أحدهم في الحديث العالي، وتكثير الأجزاء، وجمهور الفقهاء في علوم الجدل، وما يغالب به الخصم. وكيف يرق القلب مع هذه الأشياء؟! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 703- وقد كان جماعة من السلف يقصدون العبد الصالح للنظر إلى سمته وهديه لا لاقتباس علمه، وذلك أن ثمرة علمه هديه وسمته. فافهم هذا، وامزج طلب الفقه والحديث بمطالعة سير السلف والزهاد في الدنيا، ليكون سببًا لرقة قلبك. 704- وقد جمعت لكل واحد من مشاهير الأخيار كتابًا فيه أخباره وآدابه، فجمعت كتابًا في أخبار الحسن، وكتابًا في أخبار سفيان الثوري، وإبراهيم بن أدهم، وبشر الحافي، وأحمد بن حنبل، ومعروف، وغيرهم من العلماء والزهاد. والله الموفق للمقصود. 705- ولا يصلح العمل مع قلة العلم، فهما في ضرب المثل كسائق وقائد، والنفس بينهما حرون1، ومع جد السائق والقائد ينقطع المنزل، ونعوذ بالله من الفتور.   1 حرون: صعب الانقياد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 156- فصل : لا حرج في الترخص ما لم يخرق إجماعًا 706- ترخصت في شيء يجوز في بعض المذاهب، فوجدت في قلبي قسوة عظيمة، وتخايل لي نوع طرد عن الباب، وبعد وظلمة تكاثفت. فقالت نفسي: ما هذا؟! أليس ما خرجت عن إجماع الفقهاء1؟! فقلت لها: يا نفس السوء! جوابك من وجهين: أحدهما: أنك تأولت ما لا تعتقدين، فلو استفتيت، لم تفتِ2 بما فعلت. قالت: لو لم أعتقد جواز ذلك، ما فعلته. قلت: إلا أن اعتقادك ما ترضينه لغيرك في الفتوى. والثاني: أنه ينبغي لك الفرح بما وجدت من الظلمة عقيب ذلك؛ لأنه لولا نور في قلبك، ما أثر مثل هذا عندك. قالت: فلقد استوحشت بهذه الظلمة المتجددة   1 أي: لم أفعل ما أجمع الفقهاء على تحريمه، وعليه لم أخرج به عن الإجماع. 2 في الأصل: تفت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 في القلب. قلت: فاعزمي على الترك، وقدري ما تركت جائزًا بالإجماع، وعدي هجره ورعًا، وقد سلمت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 157- فصل: احتياج الخلق بعضهم إلى بعض 707- مما أفادتني تجارب الزمان أنه لا ينبغي لأحد أن يظاهر بالعداوة أحدًا ما1 استطاع؛ فإنه ربما يحتاج إليه، [مهما كانت منزلته] 2. وإن الإنسان ربما لا يظن الحاجة إلى مثله يومًا ما، كما لايحتاج إلى عويد3 منبوذ، لا يلتفت إليه؛ لكن كم من محتقر احتيج إليه! فإذا لم تقع الحاجة إلى ذلك الشخص في جلب نفع، وقعت الحاجة في دفع ضر. ولقد احتجت في عمري إلى ملاطفة أقوام ما خطر لي قط وقوع الحاجة إلى التلطف بهم. 708- واعلم أن المظاهرة بالعداوة قد تجلب أذى من حيث لا يعلم؛ لأن المظاهر بالعداوة كشاهر السيف ينتظر مضربًا، وقد يلوح منه مضرب خفي، وإن اجتهد المتدرع في ستر نفسه، فيغتنمه ذلك العدو. فينبغي لمن عاش في الدنيا أن يجتهد في ألا يظاهر بالعداوة أحدًا، لما بينت من وقوع احتياج الخلق بعضهم إلى بعض، وإقدار بعضهم على ضرر بعض. وهذا فضل مفيد، تبين فائدته للإنسان مع تقلب4 الزمان.   1 في الأصل: مهما. 2 جاء في الحديث: "أحبب حبيبك هونًا ما، عسى أن يكون بغيضك يومًا ما، وأبغض بغيضك هونًا ما عسى أن يكون حبيبك يومًا ما"، رواه الترمذي، وغيره عن أبي هريرة مرفوعًا، وعن علي مرفوعًا وموقوفًا، والموقوف أصح. 3 عويد: تصغير عود، أي: العود الصغير. 4 في الأصل: تغلب، وهو تصحيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 158- فصل: عليك بالقناعة مهما أمكن 709- رأيت النفس تنظر إلى لذات أرباب الدنيا العاجلة، وتنسى كيف حصلت، وما يتضمنها من الآفات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 710- وبيان هذا: أنك إن رأيت صاحب إمارة سلطنة، فتأملت نعمته؛ وجدتها مشوبة بالظلم: فإن لم يقصده هو؛ حصل من عماله. ثم هو خائف، منزعج في كل أموره، حذر من عدوان أن يسمه، قلق ممن هو فوقه أن يعزله، ومن نظيره أن يكيده. ثم أكثر زمانه يمضي في خدمة من يخافه من السلاطين، وفي حساب أموالهم، وتنفيذ أوامرهم، التي لا تخلو من أشياء منكرة. وإن عزل، أربى1 ذلك على جميع ما نال من لذة. ثم تلك اللذة تكون مغمورة بالحذر فيها ومنها وعليها. 711- وإن رأيت صاحب تجارة، رأيته قد تقطع في البلاد، فلم ينل ما نال إلا بعد علو السن، وذهاب زمان اللذة، كما حكي أن رجلًا من الرؤساء كان حال شبيبته فقيرًا؛ فلما كبر، استغنى، وملك أموال، واشترى عبيدًا من الترك وغيرهم، وجوار من الروم، فقال هذه الأبيات في شرح حاله: ما كنت أرجوه إذ كنت ابن عشرين ... ملكته بعد أن جاوزت سبعينَا تطوف بي من الأتراك أغزلة ... مثل الغصون على كثبان يبرينا2 وخرد من بنات الروم رائعة ... يحكين بالحسن حور الجنة العينا3 يغمزنني بأساريع منعمة ... تكاد تعقد من أطرافها لينَا4 يردن إحياء ميت لاحراك به ... وكيف يحيين ميتًا صار مدفونَا قالوا: أنينك طوال الليل يسهرنا ... فما الذي تشتكي؟ قلت: الثمانِيْنَا 712- وهذه الحالة هي الغالبة؛ فإن الإنسان لا يكاد يجتمع له كل ما يحبه إلا عند قرب رحيله، فإن بدر ما يحب في بداية شبابه، فالصبوة5 مانعة من فهم التدبير أو حسن الالتذاذ.   1 أربى: زاد. 2 أغزلة: جمع غزال، و "يبرين" قرية كثيرة النخل والعيون العذبة بحذاء الأحساء من بني سعد بالبحرين. 3 الخرد: جمع خريدة: الفتاة البكر، و "يحكين" يشابهن، و "حور الجنة" نساؤها، و "العين" بكسر العين: واسعات أحداق العيون. 4 الأساريع: دود بيض حمر الرؤوس، تشبه بها أصابع النساء. 5 الصبوة: الصِّبا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 713- والإنسان في حالة الصبوة لا يدري أين هو؛ إلا أن يبلغ: فإذا بلغ، كانت همته في المنكوح كيفما اتفق. وإن تزوج، جاء الأولاد، فمنعوه اللذة، وانكسر في نفسه، وافتقر إلى الكسب عليهم. فبينما هو قد دعك1 في تلك المديدة القريبة "من" الثلاثين وخطة الشيب2، فانفرق من نفسه، لعلمه أن النساء يتفرقن منه، كما قال ابن المعتز بالله3: لقد أتعبت نفسي في مشيبي ... فكيف تحبني الخرد الكعاب4 فإذا فهم المتمتع بالمستحسنات، وخرج من طلب صورة النكاح؛ لم يجد مالًا يبلغ به المراد، فإن كسب ضاع زمن تمتعه، وإذا تم المطلوب، فالشيب أقبح قذى5، وأعظم مبغض. 714- ثم إن صاحب المال خائف على ماله، محاسب لمعامليه، مذموم إن أسرف وإن قتر، ولده يرصد6 موته، وجاريته قد لا ترضى بشخصه، وهو مشغول بحفظ حواشيه7؛ فقد مضى زمانه في محن، واللذات فيها خلس8 معتادة، لا لذة فيها. ثم في القياة يحشر الأمير والتاجر [خزايا] إلا من عصم الله، فإياك إياك أن تنظر إلى صورة نعيمهم؛ فإنك تستطيبه لبعده عنك، ولو نلته برد عندك9، ثم في ضمنه من محن الدنيا والآخرة ما لا يوصف، فعليك بالقناعة مهما أمكن، ففيها سلامة الدنيا والدين. وقد قيل لبعض الزهاد، وعنده خبز يابس: كيف تشتهي هذا؟ فقال: أتركه حتى أشتهيه.   1 دعك: تمرَّس. 2 وخطه الشيب: انتشر الشيب في رأسه. 3 عبد الله بن محمد المعتز بالله، أبو العباس "247-269هـ": الشاعر المبدع، خليفة ليوم وليلة، لقب بالمرتضى بالله. 4 "الكعاب" جمع كاعب: وهي التي قاربت البلوغ فبرز نهداها. 5 قذى: ما يؤذي العين. 6 يرصد: يرتقب. 7 حواشيه: أقاربه وأعوانه. 8 خلس: منتهزة. 9 في بعض النسخ المطبوعة: لو بلغته كرهته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 159- فصل: قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا . 715- وقع بيني وبين أرباب الولايات نوع معاداة لأجل المذهب، فإني كنت في مجلس التذكير أنصر1: أن القرآن كلام الله، وأنه قديم، وأقدم أبا بكر، وأتفق على أرباب الولايات من يميل إلى مذهب الأشعري، وفيهم من يميل إلى مذهب الروافض، وتمالئوا علي في الباطن. فقلت يومًا في مناجاتي للحق سبحانه وتعالى: سيدي! نواصي الكل بيدك، وما فيهم من يقدر لي على ضر، إلا أن تجربه على يده. وأنت قلت سبحانك: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 102] . وطيبت قلب المبتلي بقولك: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة: 51] . فإن أجريت على أيدي بعضهم ما يوجب خذلاني، كان خوفي على ما نصرته أكثر من خوفي على نفسي، لئلا يقال: لو كان على حق ما خذل. وإن نظرت إلى تقصيري وذنوبي، فإني مستحق للخذلان، غير أني أعيش بما نصرته من السنة، فأدخلني في خفارته2. وقد استودعني إياك خلق من صالحي عبادك، فإن لم تحفظني بي، فاحفظني بهم. سيدي! انصرني على من عاداني، فإنهم لا يعرفونك كما ينبغي، وهم معرضون عنك على كل حال. وأنا على تقصيري إليك أنسب.   1 في الأصل: "أنظر"، وهو تصحيف. 2 خفارته: حفظه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 160- فصل: الأحمق يتقاوى على الله 716- روي عن الحلاج الصوفي1 أنه كان يقعد في الشمس في الحر الشديد، وعرقة يسيل؛ فجاز به بعض العقلاء، فقال له: يا أحمق! هذا تقاوٍ2 على الله تعالى.   1 الحسين بن منصور، ظهرت منه أشياء أنكرها عليه الفقهاء والصوفية جميعًا، استتيب فلم يرجع، فقتل سنة "309هـ". 2 تطاول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 وما أحسن ما قال هذا! فإنه ما وضع التكليف إلا على خلاف الأغراض، وقد يخرج صاحبه إلى أن يعجز عن الصبر، فالجاهل الأحمق من تقاوى، أو من يسأل البلاء، كما قال ذلك الأبله: فكيفما شئت؛ فاختبرني!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 161- فصل: السعيد من ذل الله 717- و السعيد من ذل لله ، وسأل العافية؛ فإنه لا يوهب العافية على الإطلاق؛ إذ لا بد من بلاء، ولا يزال العاقل يسأل العافية، لتغلب على جمهور أحواله، فيقرب الصبر على يسير البلاء. 718- وفي الجملة: ينبغي للإنسان أن يعلم أنه لا سبيل إلى محبوباته [خالصة] ؛ ففي كل جرعة غصص، وفي كل لقمة شَجًى1: وكم من يعشق الدنيا قديمًا ... ولكن لا سبيل إلى الوصالِ 719- وعلى الحقيقة، ما الصبر إلا على الأقدار، وقل أن تجري الأقدار إلا على خلاف مراد النفس. فالعاقل من دارى نفسه في الصبر بوعد الأجر، وتسهيل الأمر، ليذهب زمان البلاء، سالمًا من شكوى، ثم يستغيث بالله تعالى سائلًا العافية. فأما المتجلد2، فما عرف الله قط. نعوذ بالله من الجهل به، ونسأله عرفانه، إنه كريم مجيب.   1 الشجى: ما اعترض في الحلق فأعاق البلع. 2 قاسي القلب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 162- فصل: الاقتداء بصاحب الشرع 720- الجادة السليمة والطريق القويمة: الاقتداء بصاحب الشرع، والبدار إلى الاستنان به، فهو الكامل الذي لا نقص فيه. 721- فإن خلقًا كثيرًا انحرفوا إلى جادة الزهد، وحملوا أنفسهم فوق الجهد، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 فأفاقوا في أواخر العمر، والبدن قد نهك، وفاتت أمور مهمة من العلم وغيره. 722- وإن أقوامًا انحرفوا إلى صورة العلم، فبالغوا في طلبه، فأفاقوا في أواخر قدم1، وقد فاتهم العمل به. 723- فطريق المصطفى صلى الله عليه وسلم العلم والعمل، والتلطف بالبدن، كما أوصى عبد الله بن عمرو بن العاص، وقال له: "إن لنسك عليك حقًّا، ولزوجك عليك حقًّا". فهذه هي الطريق الوسطى والقول الفصل، فأما اليبس2 المجرد، فكم فوت من علم، لو حصل نيل به أكثر مما نيل بالعمل؛ فإن مثل العالم كرجل يعرف الطريق، والعابد جاهل بها، فيمشي العابد من الفجر إلى العصر، ويقوم العالم قبيل العصر، فيلتقيان، وقد سبق العالم فضل شوطه. 724- فإن قال قائل: بين لي هذا؟! قلت: صورة التعبد خدمة لله تعالى، وذلك له، وربما لم يطلع العابد على معنى تلك الصورة؛ لأنه ربما ظن أنه أهل لوجود الكرامة على يده، وأنه مستحق تقبيل يده، أو أنه خير من كثير من الناس، وذلك كله لقلة العلم. وأعني بالعلم: فهم أصول العلم، لا كثرة الرواية، ومطالعة مسائل الخلاف. فإذا طالع العالم الأصولي، سبق هذا العابد بحسن خلق، ومداراة الناس، وتواضعه في نفسه، وإرشاده الخلق إلى الله تعالى، فيعسر هذا على العابد، وهو في ليل جهله بالحال راقد. 725- ربما تزوج العابد، ثم حمل نفسه على التجفف3، فحبس زوجته عن مطلوبها، ولم يطلقها، وصار كالتي حبست الهرة، فلا هي أطعمتها، ولا هي أرسلتها تأكل من خشاش الأرض4.   1 أواخر قدم: نهاية الطريق. 2 البيس: التقلل من الطعام. 3 التجفف: التحول لقلة الطعام. 4 عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "دخلت امرأة النار في هرة ربطتها، فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض" رواه البخاري "3318"، ومسلم "2242"، و"خشاش الأرض" حشرات الأرض وهوامها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 726- ومن تأمل حالة الرسول صلى الله عليه وسلم، رأى كاملًا من الخلق، يعطي كل ذي حق حقه: فتارة يمزح، وتارة يضحك، ويداعب الأطفال1، ويسمع الشعر2، ويتكلم بالمعاريض3، ويحسن معاشرة النساء، ويأكل ما قدر عليه، وأتيح4 له، وإن كان لذيذًا كالعسل، ويتسعذب له الماء، ويفرش له في الظل، ولم ينكر ذلك، ولم يسمع عنه بمثل ما حدث بعده من جهال المتصوفة والمتزهدين من منع النفس شهواتها على الإطلاق، فقد كان يأكل البطيخ بالرطب5، ويقبل ويمص اللسان6، ويطلب المستحسنات. فأما أكل خبز الشعير، وزن المأكول، وتجفيف البدن، وهجر كل مشتهى؛ فإنه تعذيب للنفس، وهدم للبدن، لا يقتضيه عقل، ولا يمدح شرع! وإنما اقتنع أقوام بالقليل لأسباب، مثل أن حدثت شبهة فتقللوا، أو اختلط طعام بطعام فتورعوا. 727- ثم كان النبي صلى الله عليه وسلم يوفي العباد حقها بقيام الليل، والاجتهاد في الذكر، فعليك بطريقته، التي هي أكمل الطرق، وبشرعته التي لا شوب فيها، ودع حديث فلان وفلان من الزهاد، واحمل أمرهم على أحسن محمل، وأقم لهم الأعذار مهما قدرت؛ فإن لم تجد عذرًا، فهم محجوجون بفعله، إذ هو قدرة الخلق، وسيد العقلاء، وهل فسد الناس إلا بالانحراف عن الشريعة؟! ولقد حدثت آفات من المتصوفة والمتزهدين، خرقوا بها شبكة الشريعة،   1 تقدم حديث: "يا أبا عمير ... " في الفصل "41". 2 عن الشريد بن سويد الثقفي قال: ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا. فقال: "هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيئًا"؟ قلت: نعم، قال: "هيه". فأنشدته بيتًا فقال: "هيه" ثم أنشدته بيتًا فقال: "هيه" حتى انشدته مائة بيت، رواه مسلم "2255". 3 من ذلك: أنه لما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر ومعه أبوبكر لقيهما رجل فقال: ممن القوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من ماء". 4 في الأصل: فتح. 5 رواه أبو داود "3836"، والترمذي "1843" عن عائشة رضي الله عنها. 6 رواه أبو داود "2386" عن عائشة رضي الله عنها وفي سنده محمد بن دينار سيء الحفظ "ضعيف". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 وعبروا: فمنهم من يدعي المحبة والشوق، ولا يعرف المحبوب، فتراه يصيح، ويستغيث، ويمزق ثيابه، ويخرج عن حد الشرع بدعواه ومضمونها!! ومنهم من حمل على نفسه بالجوع والصوم الدائم، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال لعبد الله بن عمرو: "صم يومًا وأفطر يومًا" فقال: أريد أفضل من ذلك. فقال: "لا أفضل". وفيهم من خرج إلى السياحة، فأفات نفسه الجماعة1. وفيهم من دفن كتب العلم، وقعد يصلي ويصوم، ولم يعلم أن دفنها خطأ قبيح؛ لأن النفس تغفل، وتحتاج إلى التذكير في كل وقت، ونعم المذكر كتب العلم. وإنما دخل إبليس على كل قوم منهم من حيث قدر، وكان مقصوده بدفن الكتب إطفاء المصباح، ليسير العابد في الظلمه. 728- وما أحسن ما قال بعض العلماء لرجل سأله فقال: أريد أن أمضي إلى حبل اللُّكَّامِ2؟ فقال: هذه "هوكلة" وهي كلمة عامية معناها: حب البطالة. 729- وعلى الحقيقة: الزهاد في مقام الخفافيش، قد دفنوا أنفسهم بالعزلة عن نفع الناس، وهي حالة حسنة إذا لم تمنع من خير؛ من جماعة، واتباع جنازة، وعيادة مريض. إلا أنها حالة الجبناء، فأما الشجعان؛ فهم يتعلمون ويعلمون، وهذه مقامات الأنبياء عليهم السلام. 730- أترى كم بين العابد إذا نزلت به حادثة وبين الفقيه؟ بالله، لو مال الخلق إلى التعبد، لضاعت الشريعة، على أنه لو فهم معنى التعبد؛ لم يقتصر به على الصلاة والصوم! فرب ماش في حاجة مسلم فضل تعبده ذلك على صوم سنة. والعمل بالبدن سعي الآلات الظاهرة، والعلم سعي الآلات الباطنة من العقل والفكر والفهم، فلذلك كان أشرف. 731- فإن قلت: كيف تذم المعتزلين للشر، [وتنفي عنهم] التعبد؟! قلت: ما أذمهم، بل حدثت منهم حوادث اقتضاها الجهل، من الدعاوى والآفات التي سبها   1 صلاة الجماعة. 2 جبل اللكام: الجبل المشرف على أنطاكيه، وقد وقع في الأصل: الآكام، وهو تصحيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 قلة العلم، وحملوا على أنفسهم -التي ليست لهم، وعن غير إذن الآمر- ما لم يجز! حتى إن أحدهم يرى أن فعل ما يؤذي النفس على الإطلاق فضيلة!! وحتى قال بعض الحمقى: دخلت الحمام فوجدت غفلة، فآليت ألا أخرج حتى أسبح كذا وكذا تسبيحة، فطال الأمر، فمرضت!! وهذا رجل خاطر بنفسه في فعل ما ليس له. 732- ومن المتصوفة والزهاد من قنع بصورة اللباس، وركب من الجهل في الباطن ما لا يسعه كتاب!! طهر الله الأرض منهم، وأعان العلماء عليهم، فإن أكثر الحمقى معهم؛ فلو أنكر عالم على أحدهم، مال العوام على العالم بقوة الجهل. 733- ولقد رأيت كثيرًا من المتعبدين -وهو في مقام العجائز- يسبح تسبيحات لا يجوز النطق بها، ويفعل في صلاته ما لم ترد به السنة! 734- ولقد دخلت يومًا على بعض من كان يتعبد، وقد أقام إمامًا، وهو خلفه في جماعة يصلي بهم صلاة الضحى، ويجهر! فقلت لهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة النهار عجماء"1! فغضب ذلك الزاهد، وقال: كم ينكر هذا علينا! وقد دخل فلان وأنكر، وفلان وأنكر، نحن نرفع أصواتنا حتى لا ننام. فقلت: وا عجبًا! ومن قال لكم: لا تناموا؟! أليس "في الصحيحين" من حديث ابن عمرو: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "قم ونم"؟! وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام، ولعله ما مضت عليه ليلة إلا ونام فيها!! 735- ولقد شاهدت رجلًا كان يقال له حسين القزويني بجامع المنصور، وهو يمشي في الجامع مشيًا كثيرًا دائمًا، فسألت: ما السبب في هذا المشي؟! فقيل لي: حتى لا ينام! 736- وهذه كلها حماقات أوجبتها قلة العلم؛ لأنه إذا لم تأخذ النفس حظها من النوم، اختلط العقل، وفات المراد من التعبد، لبعد الفهم.   1 رواه ابن أبي شيبة "3664 و 3665" موقوفًا على الحسن وأبو عبيدة، قال النووي في شرح المهذب: إنه باطل لا أصل له. "والعجماء" التي لا تنطق، أي: أن الصلاة سرية لا يجهر بالقراءة فيها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 737- ولقد حدثني بعض الصالحين المجاورين بجامع المنصور: أن رجلًا اسمه كثير دخل عليهم الجامع، فقال: إني عاهدت الله على أمر ونقضته، وقد جعلت عقوبتي لنفسي ألا آكل شيئًا أربعين يومًا! قال: فمكث منها عشرة أيام قريب الحال، يصلي في جماعة، ثم في العشر الثاني بأن ضعفه، وكان يداري الأمر، ثم صار في العشر الثالث يصلي قاعدًا، ثم استطرح1 في العشر الرابع، فلما تمت الأربعون، جيء بنقوع2، فشربه، فسمعنا صوته في حلقة مثلما يقع الماء على المقلاة3، ثم مات بعد أيام. فقلت: يا لله! العَجَب! انظروا ما فعل الجهل بأهله، ظاهر هذا أنه في النار؛ إلا أن يعفى عنه، ولو فهم العلم وسأل العلماء، لعرفوه أنه يجب عليه أن يأكل، وأن ما فعله بنفسه حرام، ولكن، من أعظم الجهل استبداد الإنسان بعلمه! 738- وكل هذه الحوادث نشأت قليلًا قليلًا حتى تمكنت، فأما السرب الأول، فلم يكن فيه من هذا شيء، وما كانت الصحابة تفعل شيئًا من هذه الأشياء، وقد كانوا يؤثرون، ويأكلون دون الشبع، ويصبرون إذا لم يجدوا، فمن أراد الاقتداء؛ فعليه برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ففي ذلك الشفاء والمطلوب. 739- ولا ينبغي أن يخلد العاقل إلى تقليد معظم شاع اسمه، فيقول: قال أبو يزيد، وقال الثوري، فإن المقلد أعمى. وكم قد رأينا أعمى يأنف من حمل عصًا! فمن فهم هذا المشار إليه، طلب الأفضل والأعلى. والله الموفق.   1 استطرح: وقع على الأرض لا يقدر على الحركة. 2 النقوع: ماء ينقع به زبيب أو تمر ويصنع منه شراب، وهو حرف ما زال مستعملًا عندنا في الشام. 3 صوت المقلاة: يسمى النشيش. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 163- فصل: جاء الدخل من الفلسفة والرهبانية 740- تأملت الدخل1 الذي دخل في ديننا من ناحيتي العلم والعمل، فرأيته من طريقين قد تقدما هذا الدين، وأنس الناس بهما:   1 الدخل: الفساد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 164- فصل: أعوذ بالله من صحبة البطالين 741- أعوذ بالله من صحبة البطالين! لقد رأيت خلقًا كثيرًا يجرون معي فيما قد اعتاده الناس من كثرة الزيارة، ويسمون ذلك التردد خدمة، ويطلبون الجلوس، ويجرون فيه أحاديث الناس، وما لا يعني، وما يتخلله غيبة! وهذا شيء يفعله في زماننا كثير من الناس، وربما طلبه المزور، وتشوق إليه، واستوحش من الوحدة، وخصوصًا في أيام التهاني والأعياد، فتراهم يمشي بعضهم إلى بعض، ولا يقتصرون على الهناء والسلام، بل يمزجون ذلك بما ذكرته من تضييع الزمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 فلما رأيت أن الزمان أشرف شيء، والواجب انتهابه بفعل الخير، كرهت ذلك، وبقيت معهم بين أمرين: إن أنكرت عليهم، وقعت وحشة، لموضع قطع المألوف! وإن تقبلته منهم، ضاع الزمان! فصرت أدافع اللقاء جهدي: فإذا غلبت، قصرت في الكلام، لأتعجل الفراق. ثم أعددت أعمالًا تمنع من المحادثة لأوقات لقائهم، لئلا يمضي الزمان فارغًا، فجعلت من المستعد للقائهم: قطع الكاغد1، وبري الأقلام، وحزم الدفاتر، فإن هذه الأشياء لا بد منها، ولا تحتاج إلى فكر، وحضور قلب، فأرصدتها لأوقات زيارتهم، لئلا يضيع شيء من وقتي. نسأل الله عز وجل أن يعرفنا شرف أوقات العمر، وأن يوفقنا لاغتنامه. 742- ولقد شاهدت خلقًا كثيرًا لا يعرفون معنى الحياة: فمنهم من أغناه الله عن التكسب بكثرة ماله، فهو يقعد في السوق أكثر النهار، ينظر إلى الناس، وكم تمر به من آفة ومنكر! ومنهم من يخلو بلعب الشطرنج! ومنهم من يقطع الزمان بكثرة الحديث عن2 السلاطين، والغلاء والرخص، إلى غير ذلك: فعلمت أن الله تعالى لم يطلع على شرف العمر ومعرفة قدر أوقات العافية إلا من وفقه وألهمة اغتنام ذلك. {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 35] .   1 الكاغد: ورق الكتابة. 2 في الأصل: الحوادث من. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 165- فصل: التصنيف المفيد ومراحل عمر العالم 743- رأيت من الرأي القويم أن نفع التصانيف أكثر من نفع التعليم بالمشافهة؛ لأني أشافه في عمري عددًا من المتعلمين، وأشافه بتصنيفي خلقًا لا تحصى ما خلقوا بعد، ودليل هذا أن انتفاع الناس بتصانيف المتقدمين أكثر من انتفاعهم بما يستفيدونه من مشايخهم. 744- فينبغي للعالم أن يتوفر على التصانيف إن وفق للتصنيف المفيد؛ فإنه ليس كل من صنف صنف، وليس المقصود جمع شيء كيف كان، وإنما هي أسرار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 يطلع الله -عز وجل- عليها من شاء من عباده، ويوفقه لكشفها، فيجمع ما فرق، أو يرتب ما شتت، أو يشرح ما أهمل، هذا هو التصنيف المفيد. 745- وينبغي اغتنام التصنيف في وسط العمر؛ لأن أوائل العمر زمن الطلب، وآخره كلال1 الحواس. وربما خان الفهم والعقل من قدر عمره؛ وإنما يكون التقدير على العادات الغالبة؛ لأنه لا يعلم الغيب. فيكون زمان الطلب والحفظ والتشاغل إلى الأربعين. 746- ثم يبتدئ بعد الأربعين بالتصانيف والتعليم، هذا إذا كان قد بلغ مع ما يريد من الجمع والحفظ، وأعين على تحصيل المطالب. فأما إذا قلت الآلات عنده من الكتب، أو كان في أول عمره ضعيف الطلب، فلم ينل ما يريده في هذا الأوان، أخر التصانيف إلى تمام خمسين سنة، ثم ابتدأ بعد الخمسين في التصنيف والتعليم إلى رأس الستين. 747- ثم يزيد فيما بعد الستين في التعليم، ويسمع الحديث والعلم، ويقلل2 التصانيف إلا3 أن يقع مهم إلى رأس السبعين. 748- فإذا جاوز السبعين، جعل الغالب عليه ذكر الآخرة والتهيؤ للرحيل، فيوفر نفسه على نفسه، إلا من تعليم يحتسبه، أو تصنيف يفتقر إليه؛ فذلك أشرف العدد للآخرة. ولتكن همته في تنظيف نفسه، وتهذيب خلاله4، والمبالغة في استدراك زلاته، فإن اختطف في خلال ما ذكرناه، فـ"نيبة المؤمن خير من عمله"، وإن بلغ إلى هذه المنازل، فقد بينا ما يصلح لكل منزل. 749- وقد قال سفيان الثوري: من بلغ سن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليتخذ لنفسه كَفَنًا. وقد بلغ جماعة من العلماء سبعًا وسبعين سنةً، منهم أحمد بن حنبل، فإن   1 الكلال: التعب والوهن. 2 أي: يقلل في التصنيف إلا أن يقع أمر مهم يستوجب ذلك. وفي الأصل: يعلل، وهو تصحيف. 3 في الأصل: إلى. 4 الخلال: الخصال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 بلغها، فيلعلم أنه على شفير القبر، وأن كل يوم يأتي بعدها مستطرف1. 750- فإن تمت له الثمانون، فيلجعل همته كلها مصروفة إلى تنظيف خلاله، وتهيئة زاده، وليجعل الاستغفار حليفه، والذكر أليفه، وليدقق في محاسبة النفس، وفي بذل العلم، أو مخالطة الخلق، فإن قرب الاستعراض للجيش يوجب عليه الحذر من العارض، وليبالغ في إبقاء أثره قبل رحيله، مثل بث علمه، وإنفاق كتبه، وشيء من ماله. ويعد: فمن تولاه الله عز وجل علمه، ومن أراده ألهمه. نسأل الله عز وجل أن ينعم علينا بأن يتولانا، ولا يتولى عنا، إنه قريب مجيب.   1 المستطرف: المستفاد فهو كالغنيمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 166- فصل: العادات غلبت على الناس 751- رأيت عادات الناس قد غلبت على عملهم بالشرع، فهم يستوحشون من فعل الشيء، لعدم جريان العادة لا لنهي الشرع! فكم من رجل يوصف بالخير، يبيع ويشري، فإذا حصلت له القراضة1، باعها بالصحيح من غير تقليد لإمام، أو عمل برخصة، عادة من القوم، واستثقالًا للاستفتاء! ونرى خلقًا يحافظون على صلاة الرغائب2، ويتوانون عن الفرائض. 752- وكثيرًا من المتصوفين لا يستوحشون من ظلم الناس، ثم يتصدقون على الفقراء، وربما توانوا عن إخراج الزكاة، وتكاسلوا باستعمال التأويلات فيها، ثم إذا حضر أحدهم مجلس وعظ، بكى، كأنه يصانع بتلك الحال. ومنهم: من يخرج بعض الزكاة مصانعة عمَّا لم يخرجه. ومنهم: من يعلم أن أصل ماله حرام، ويصعب عليه فراقه للعادة. وفيهم: من يحلف بالطلاق، ويحنث، ويرى الفراق صعبًا، فربما   1 القراضة: الدراهم أوالدنانير المكسورة، والصحيح غير المكسور. 2 صلاة الرغائب: صلاة مبتدعة تصلى في أول ليلة جمعة من رجب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 تَأَوَّلَ، وربما تكاسل عن التأويل اتكالًا على عفو الله تعالى، ووعدًا من النفس بالتوبة! ومنهم: من يرى أن استعمال الشرع ربما كان سببًا في تضييق معاشه، وقد ألف التفسح1، فلا يسهل عليه فراق ما قد ألف! والعادات في الجملة هي المهلكة. 753- ولقد حضر عندي رجل شيخ ابن ثمانين سنةً، فاشتريت منه دكانًا، وعقدت معه العقد، فلما افترقنا؛ غدر بعد أيام، فطلبت منه الحضور عند الحاكم، فأبى، فأحضرته، فحلف اليمين الغموس2: أن ما بعته! فقلت: ما تدور عليه السنة3! وأخذ يبرطل4 لمن يحول بيني وبينه من الظلمة، فرأيت من العوام من قد غلبت عليه العادات، فلا يلتفت معها إلى قول فقيه، يقول: هذا ما قبض الثمن، فكيف يصح البيع؟! وآخر يقول: كيف يجوز لك أن تأخذ دكانًا بغير رضاه؟! وآخر يقول: يجب عليك أن تقيله البيع5!. فلما لم أقله، أخذ هو وأقاربه يأخذون عرضي، ورأى أنه يحامي عن ملكه. ثم سعى بي إلى السلطان سعاية يحرض فيها من الكذب ما أدهشني، ويبرطل مالًا ليخلق من الظلمة، فبالغوا، وسعوا؛ إلا أن الله تعالى نجاني من شرهم. ثم إني أقمت عليه البينة عند الحاكم، فقال بعض أرباب الدنيا للحاكم: لا تحكم له! فوقف عن الحكم بعد ثبوت البينة عنده!! فرأيت من هذا الحاكم ومن حاكم آخر أعلى منه من ترك إنفاذ الحق حفظًا لرئاستهم ما هون عندي ما فعله ذلك الشيخ حفظًا لماله، لجهله وعلم هؤلاء. فتجلى لي من الأمر أن العادات غلبت على الناس، وأن الشرع أعرض عنه، وإن وقعت موافقة للشرع، فكما اتفق، أو لأجل العادة، فإن الإنسان لو ضرب بالسياط ما أفطر في رمضان، عادة قد استمرت، ويأخذ أعراض الناس وأموالهم، عادةً غالبَةً!   1 التفسح: طلب الفسحة والنزهة للترويح عن النفس. 2 اليمين الغموس: هي اليمين الكاذبة التي يتعمدها صاحبها وهو يعلم أنه يكذب، وسميت غمواس؛ لأنها تغمس صاحبها في نار جهنم. 3 خوفته من عقوبة اليمين الغموس بذكر الأحاديث المرهبة. 4 يبرطل: يرشي. 5 أقال البيع: فسخه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 فكم قد رأيت هذا الشيخ يصلي، ويحافظ على الصلاة، ثم لما خاف فوت غرضه، ترك الشرع جانبًا! وكم قد رأيت أولئك الحكام يتعبدون، ويطلبون العلم، غير أنهم لما خافوا على رئاستهم أن تزول، تركوا جانب الدين! ثم إن الله تعالى نصرني عليه، وتقدم إلى الحاكم بإنفاذ ما ثبت عنده، ودارت السنة، فمات الشيخ علي قل1. فنسأله عز وجل التوفيق للانقياد لشرعه ومخالفة أهوائنا.   1 قل: قلة وحاجة وقفز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 167- فصل: الواجب على العالم صيانة علمه 754- ما أعرف للعالم قط لذة ولا عزًّا ولا شرفًا ولا راحةً ولا سلامة أفضل من العزلة، فإنه ينال بها سلامة بدنه ودينه وجاهه عند الله عز وجل وعند الخلق؛ لأن الخلق يهون عليهم من يخالطهم، ولا يعظم عندهم قدر المخالط لهم، ولهاذا عظم قدر الخلفاء لاحتجابهم، وإذا رأي العوام أحد العلماء مترخصًا في أمر مباح، هان عندهم. فالواجب عليه صيانة علمه، وإقامة قدر العلم عندهم. فقد قال بعض السلف: كنا نمزح ونضحك؛ فإذا صرنا؛ يقتدى بنا، فما أراه يسعنا ذلك. 755- وقال سفيان الثوري: "تعلموا هذا العلم، واكظموا عليه، ولا تخلطوه بهزل فتمحجه القلوب"1. 756- فمراعاة الناس لا ينبغي أن تنكر. وقد قال صلى الله عليه وسلم لعائشة: "لولا حدثان قومك في الكفر، لنقضت الكعبة، وجعلت لها بابين ... "2. وقال أحمد بن حنبل في الركعتين قبل المغرب: رأيت الناس يكرهونهما فتركتهما. ولا تسمع من جاهل يرى مثل هذه الأشياء رياء، إنما هي صيانة للعلم. وبيان هذا أنه لو خرج العالم إلى الناس مكشوف الرأس، أو في يده كسرة   1 تمجه القلوب: تأباه وترفضه. 2 رواه البخاري "1583 و1586"، ومسلم "1333" عن عائشة رضي الله عنها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 يأكلها؛ قل عندهم، وإن كان مباحًا، فيصير بمثابة تخليط الطبيب الآمر بالحمية. فلا ينبغي للعالم أن ينبسط عند العوام، حفظًا لهم، ومتى أراد مباحًا؛ فليستتر به عنهم. 757- وهذا القدر الذي لاحظه أبو عبيدة حين رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد قدم الشام راكبًا على حمار، ورجلاه من جانب، فقال: يا أمير المؤمنين! يتلقاك عظماء الناس! فما أحسن ما لاحظ! إلا أن عمر رضي الله عنه أراد تأديب أبي عبيدة بحفظ الأصل؛ فقال: إن الله أعزكم بالإسلام، فمهما طلبتم العز في غيره، أذلكم. والمعنى: ينبغي أن يكون طلبكم العز بالدين، لا بصور الأفعال. 758- وإن كانت الصور تلاحظ، فإن الإنسان يخلو في بيته عريانًا، فإذا خرج إلى الناس، لبس ثوبين وعمامة ورداء. ومثل هذا لا يكون تصنعًا، ولا ينسب إلى كبر. وقد كان مالك بن أنس يغتسل، ويتطيب، ويقعد للحديث. 759- ولا تلتفت -يا هذا- إلى ما ترى من بذل العلماء على أبواب السلاطين؛ فإن العزلة أصون للعالم والعلم، وما يخسره العلماء في ذلك أضعاف ما يربحونه. وقد كان سيد الفقهاء سعيد بن المسيب لا يغشى الولاة، وعن قول هذا سكتوا عنه، وهذا فعل الحازم. 760- فإن أردت اللذة والراحة؛ فعليك أيها العالم بعقر بيتك، وكن معتزلًا عن أهلك، يطب لك عيشك، واجعل للقاء الأهل وقتًا، فإذا عرفوه، تصنعوا للقائك، فكانت المعاشرة بذلك أجود. 761- وليكن لك مكان في بيتك تخلو فيه، وتحادث سطور كتبك، وتجري في حلبات فكرك! واحترس من لقاء الخلق، وخصوصًا العوام! واجتهد في كسب يعفك عن الطمع! فهذه نهاية لذة العالم في الدنيا. 762- وقد قيل لابن المبارك: ما لك لا تجالسنا؟ فقال: أنا أذهب فأجالس الصحابة والتابعين. وأشار بذلك إلى أنه ينظر في كتبه. 763- ومتى رزق العالم الغنى عن الناس والحلوة؛ فإن كان له فهم يجلب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 التصانيف، فقد تكاملت لذته، وإن رزق فهما يرتقي إلى معاملة الحق ومناجاته؛ فقد تعجل دخول الجنة قبل الممات. نسأل الله عز وجل همة عالية تسمو إلى الكمال، وتوفيقًا لصالح الأعمال، فالسالكون طريق الحق أفراد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 168- فصل: ثمرات العلم 764- تأملت أحوال الناس في حالة علو شأنهم، فرأيت أكثر الخلق تبين خسارتهم حينئذ، فمنهم من بالغ في المعاصي من الشباب، ومنهم من فرط في اكتساب العلم، ومنهم من أكثر من الاستمتاع باللذات: فكلهم نادم في حالة الكبر، حين فوات الاستدراك لذنوب سلفت، أو قوًى ضعفت، أو فضيلة فاتت، فيمضي زمان الكبر في حسرات؛ فإن كانت للشيخ إفاقة من ذنوب قد سلفت، قال: وا أسفا على ما جنيت! وإن لم يكن له إفاقة، صار متأسفًا على فوات ما كان يلتذ به. 765- فأما من أنفق عصر الشباب في العلم؛ فإنه في زمن الشيخوخة يحمد جني ما غرس، ويلتذ بتصنيف ما جمع، ولا يرى ما يفقد من لذات البدن شيئًا بالإضافة إلى ما يناله من لذات العلم، هذا مع وجود لذاته في الطلب الذي كان تأمل به إدارك المطلوب، وربما كانت تلك الأعمال أطيب مما نيل منها، كما قال الشاعر: أَهْتَزُّ عِنْدَ تَمَنِّي وَصْلِهَا طَرَبًا ... وَرُبَّ أُمْنِيَةٍ أَحْلَى مِنَ الظَّفْرِ 766- ولقد تأملت نفسي بالإضافة إلى عشيرتي الذين أنفقوا أعمارهم في اكتساب الدنيا، وأنفقت زمن الصبوة والشباب في طلب العلم، فرأيتني لم يفتني مما نالوه؛ إلا ما لو حصل لي، ندمت عليه. ثم تأملت حالي، فإذا عيشي في الدنيا أجود من عيشهم، وجاهي بين الناس أعلى من جاههم، وما نلته من معرفة العلم لا يقاوم. فقال لي إبليس: ونسيت تعبك وسهرك؟! فقلت له: أيها الجاهل! تقطيع الأيدي لا وقع له عند رؤية يوسف، وما طالت طريق أدت إلى صديق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 جزى الله المسير إليه خيرًا ... وإن ترك المطايا كالمزاد1 767- ولقد كنت في حلاوة طلبي العلم ألقى من الشدائد ما هو عندي أحلى من العسل، لأجل ما أطلب وأرجو، كنت في زمان الصبا آخذ معي أرغفة يابسة، فأخرج في طلب الحديث، وأقعد على نهر عيسى2، فلا أقدر على أكلها إلا عند الماء، فكلما أكلت لقمة، شربت عليها، وعين همتي لا ترى إلا لذة تحصيل العلم. فأثمرت ذلك عندي أني عرفت بكثرة سماعي لحديث سير الرسول صلى الله عليه وسلم وأحواله وآدابه وأحوال أصحابه وتابعيهم، فصرت في معرفة طريقه كابن أجود3. وأثمر ذلك عندي من المعاملة ما لا يدرك بالعلم، حتى إنني أذكر في زمان الصبوة ووقت الغلمة4 والعزبة قدرتي على أشياء كانت النفس تتوق إليها توقان العطشان إلى الماء الزلال، ولم يمنعني عنها إلا ما أثمر عندي العلم من خوف الله عز وجل، ولولا خطايا لا يخلو منها البشر، لقد كنت أخاف على نفسي من العجب؛ غير أنه عز وجل صانني وعلمني وأطلعني من أسرار العلم على معرفته، وإيثار الخلوة به، حتى إنه لو حضر معي معروف وبشر، لرأيتهما زحمة. 768- ثم عاد فغمسني في التقصير والتفريط، حتى رأيت أقل الناس خيرًا مني، وتارة يوقظني لقيام الليل ولذة مناجاته، وتارة يحرمني ذلك مع سلامة بدني، ولولا بشارة العلم بأن هذا نوع تهذيب وتأديب، لخرجت إما إلى العجب عند العمل، وإما إلى اليأس عند البطالة؛ لكن رجائي في فضله قد عادل خوفي منه. 769- وقد يغلب الرجاء بقوة أسبابه؛ لأني رأيت أنه قد رباني منذ كنت طفلًا، فإن أبي مات وأنا لا أعقل والأم لم تلتفت إلي، فركز في طبعي حب العلم، وما زال يوقعني على المهم فالمهم، ويحملني إلى من يحملني على الأصوب، حتى قوم أمري، وكم قد قصدني عدو فصده عني، وإذ رأيته قد نصرني   1 مزاد ومزادة: وعاء من جلد: أي أن المطايا هزلت من كثرة الأسفار حتى صارت جلدًا على عظم. 2 نهر عيسى: نهر غربي بغداد، وحوله متنزهات وبساتين، ينسب إلى عيسى بن علي. 3 الدليل. 4 وقت الغلمة: سن الشباب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 وبصرني، ودافع عني، ووهب لي: قوي رجائي في المستقبل بما قد رأيت في الماضي. ولقد تاب على يدي في مجالس الذكر أكثر من مائتي ألف، وأسلم علي يدي أكثر من مائتي نفس، وكم سالت عين متجبر بوعظي لم تكن تسيل، ويحق لمن تلمح هذا الإنعام أن يرجو التمام. 770- وربما لاحت أسباب الخوف بنظري إلى تقصيري وزللي. ولقد جلست يومًا، فرأيت حولي أكثر من عشرة آلاف، ما فيهم إلا من قد رق قلبه، أو دمعت عينه، فقلت لنفسي: كيف بك إن نجوا وهلكت؟! فصحت بلسان وجدي: إلهي وسيدي! إن قضيت علي بالعذاب غدًا، فلا تعلمهم بعذابي، صيانة لكرمك، لا لأجلي، لئلا يقولوا: عذب من دل عليه. إلهي! قد قيل لنبيك صلى الله عليه وسلم: اقتل ابن أُبَيٍّ المنافق! فقال: "لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه"1. إلهي! فاحفظ حسن عقائدهم في بكرمك أن تعلمهم بعذاب الدليل عليك. حاشاك والله يا رب من تكدير الصافي. لا تبر عودًا أنت ريشته ... حاشا لباني الجود أن ينقضا2 لا تعطش الزرع الذي نبته ... بصوب إنعامك قد روضا3   1 رواه البخاري "3518"، ومسلم "2584" عن جابر رضي الله عنه. 2 ريش السهم: جعل له ريشًا، وهو آخر مراحل صنع السهم وتحضيره، والبري يكون قبل الترييش. والمقصود: لا تنقض شيئًا بدأته. 3 "الصوب": المطر، و "روّض النبت": أصبح روضةً غناء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 169- فصل: أصلح المقامات التوسط 771- من الأمور التي تخفى على العاقل: أن يرى أنه متى لم تكن عنده امرأة أو جارية يهواها هوى شديدًا، أنه لا يلتذ بالدنيا؛ فإذا صور محبوبًا مملوكًا، تخايل لذة عظيمة، وإذا كان عنده من لا يميل إليه، اعتقد نفسه محرومًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 772- وهذا أمر شديد الخفاء، فينبغي أن يوضح: وهو أن المملوك مملول، ومتى قدر الإنسان على ما يشتهيه، مله ومال إلى غيره: تارة لبيان عيوبه، التي تكشفها المخالطة؛ فإنه قد قال الحكماء: العشق يعمي من عيوب المحبوب. وتارة لمكان القدرة عليه، والنفس لا تزال تتطلع إلى ما لا تقدر عليه. 773- ثم لو قدرنا دوام المحبة مع القدرة؛ فإنها قد تكون، ولكن ناقصة بمقدار، وإنما يقويها تجني المحبوب، فيكون تجنيه كالامتناع، أو امتناعه من الموافقة. فإذا صفا، فلا بد من أكدار: منها الحذر عليه، ومنها قلة ميله إلى هذا العاشق، وربما يتكلف القرب منه، ويعلم الإنسان بقلة ميل محبوبه إليه، فينغص1، بل يبغض. فإن خاف منه خيانة، احتاج إلى حراسة، فقويت النغص. 774- وأصلح المقامات التوسط، وهو اختيار ما تميل النفس إليه، ولا يرتقي إلى مقام العشق، فإن العاشق في عذاب، وإنما يتخايل2 الفارغ من العشق التذاذ العاشق، وليس كذلك، فإنه كما قيل: وما في الأرض أشقى من محبٍّ ... وإن وجد الهوى عذب المذاقِ تراه باكيًا في كل وقتٍ ... مخافة فرقة أو لاشتياقِ فيبكي إن نأوا شوقًا إليهم ... ويبكي إن دنوا خوف الفراقِ فتسخن عينه عند التدانِي ... وتسخن عينه عند الفراقِ   1 "ينغص": يتكدر، و "النغص": الكدورات. 2 يتخايل: يتخيل: يتصور في خياله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 170- فصل: علو الهمة 775- ما ابتلي الإنسان قط بأعظم من علو همته؛ فإن من علت همته يختار المعالي، وربما لا يساعده الزمان، وقد تضعف الآلة، فيبقى في عذاب. وإني أعطيت من علو الهمة طرفًا، فأنا به في عذاب، ولا أقول: ليته لم يكن؛ فإنه إنما يحلو العيش بقدر عدم العقل، والعاقل لا يختار زيادة اللذة بنقصان العقل. 776- ولقد رأيت أقومًا يصفون علو هممهم، فتأملتها، فإذا بها في فن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 واحدٍ، ولا يبالون بالنقص فيما هو أهم. قال الرَّضِيُّ1: ولكل جسم في النحول بلية ... وبلاء جسمي من تفاوت همتِي فنظرت، فإذا غاية أمله الإمارة. 777- وكان أبو مسلم الخراساني2 في حال شبيبته لا يكاد ينام، فقيل له في ذلك؟ فقال: ذهن صاف، وهم بعيد، ونفس تتوق إلى معالي الأمور، مع عيش كعيش الهمج الرعاع! قيل: فما الذي يبرد غليلك؟ قال: الظفر بالملك. قيل: فاطلبه. قال: لا يطلب إلا بالأهوال. قيل: فاركب الأهوال. قال: العقل مانع. قيل: فما تصنع؟ قال: سأجعل من عقلي جهلًا، وأحوال به خطرًا، لا ينال إلا بالجهل، وأدبر بالعقل ما لا يحفظ إلا به، فإن الخمول أخو العدم. فنظرت إلى حال هذا المسكين، فإذا هو قد ضيع أهم المهمات، وهو جانب الآخرة، وانتصب في طلب الولايات، فكم فتك وقتل حتى نال بعض مراده من لذات الدنيا! ثم اغتيل، ونسي تدبير العقل، فقتل، ومضى إلى الآخرة على أقبح حال. 778- وكان المتنبي3 يقول: وفي الناس من يرضى بميسور عيشه ... ومركوبه رجلاه والثوب جلده ولكن قلبًا بين جنبيَّ ما له ... مدًى ينتهي بي في مراد أحده يرى جسمه يسكى شفوفًا تربه ... فيختار أن يكسى دروعًا تهده فتأملت هذا الآخر، فإذا نهمته4 فيما يتعلق بالدنيا فحسب. 779- ونظرت إلى علو همتي، فرأيتها عجبًا، وذلك أنني أروم5 من العلم ما   1 الشريف محمد بن طاهر الحسيني، أبو الحسن "359-406هـ": أشعر الطالبين، وأرق الشعراء غزل، له ديوان شعر كبير، وهو مؤلف كتاب "نهج البلاغة" المنسوب إلى علي رضي الله عنه، ولم أجد البيت في ديوانه. 2 عبد الرحمن بن مسلم، صاحب الدعوة العباسية في خراسان، وهازم جيوش الأمويين، قتله المنصور سنة "137هـ" لما استفحل أمره، وأصبح خطرًا على دولته. 3 ديوانه ص "451". 4 نهمته: طلبه وشغفه. 5 أروم: أريد وأطلب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 أتقن أني لا أصل إليه؛ لأنني أحب نيل كل العلوم على اختلاف فنونها، وأريد استقصاء كل فن! هذا أمر يعجز العمر عن بعضه؛ فإن عرض لي ذو همة في فن قد بلغ منتهاه، رأيته ناقصًا في غيره، فلا أعد همته تامة، مثل المحدث فاته الفقه، والفقيه فاته علم الحديث، فلا أرى الرضا بنقصان العلوم إلا حادثًا عن نقص الهمة. والفقيه فاته علم الحديث، فلا أرى الرضا بنقصان العلوم إلا حادثًا عن نقص الهمة. 780- ثم إني أروم نهاية العمل بالعلم، فأتوق إلى ورع بشر، وزهادة معروف! وهذا مع مطالعة التصانيف، وإفادة الخلق، ومعاشرتهم - بعيد. 781- ثم إني أروم الغنى عن الخلق، وأستشرف الإفضال عليهم! والاشتغال بالعلم مانع من الكسب، وقبول المنن مما تأباه الهمة العالية. 782- ثم إني أتوق إلى طلب الأولاد، كما أتوق إلى تحقيق التصانيف، ليبقى الخلفان نائبين عني بعد التلف! وفي طلب ذلك ما فيه من شغل القلب المحب للتفرد. 783- ثم إني أروم الاستمتاع بالمستحسنات! وفي ذلك امتناع من جهة قلة المال، ثم لو حصل، فرق جمع الهمة. وكذلك أطلب لبدني ما يصلحه من المطاعم والمشارب؛ فإنه متعود للترفه والتلطف! وفي قلة المال مانع، وكل ذلك جمع بين أضداد1. 784- فأين أنا وما وصفته من حال من كانت غاية همته الدنيا، وأنا لا أحب أن يخدش حصول شيء من الدنيا وجه ديني بسبب، ولا أن يؤثر في علمي، ولا في عملي؟! 784- فأين أنا وما وصفته من حال من كانت غاية همته الدنيا، وأنا لا أحب أن يخدش حصول شيء من الدنيا وجه ديني بسبب، ولا أن يؤثر في علمي، ولا في عملي؟! فوا قلقي من طلب قيام الليل، وتحقيق الورع، مع إعادة العلم، وشغل القلب بالتصانيف، وتحصيل ما يلائم البدن من المطاعم!. ووا أسفي على ما يفوتني من المناجاة في الخلوة، مع ملاقاة الناس وتغليبهم!   1 قال الموفق عبد اللطيف في تأليف له: كان ابن الجوزي يراعي حفظ صحته، وتلطيف مزاجه وما يفيد عقله قوة، وذهنه حدة، جل غذائه الفراريج والزرازير، ويعتاض عن الفاكهة بالأشربة والمعجونات، ولباسه أفضل لباس: الأبيض الناعم المطيب..، ولا ينفك عن جارية حسناء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 ويا كدر الورع، مع طلب ما لا بد منه للعائلة! 785- غير أني قد استسلمت لتعذيبي، ولعل تهذيبي في تعذيبي؛ لأن علو الهمة تطلب المعالي المقربة إلى الحق عز وجل، وربما كان الحيرة في الطلب دليلًا إلى المقصود. وها أنا أحفظ أنفاسي من أن يضيع منها نفس في غير فائدة. وإن بلغ همي مراده؛ وإلا فـ"نية المؤمن أبلغ من عمله". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 171- فصل: لا بد من مغالطة ليتم العيش 786- لما سطرت هذا الفصل المتقدم، رأيت ادكار النفس بما لا بد لها في الطريق منه، وهو أنه لا بد لها من التلطف، فإن قاطع مرحلتين في مرحلة خليق بأن يقف، فينبغي أن يقطع الطريق بألطف ممكن، وإذا تعبت الرواحل، نهض الحادي يغنيها، وأخذ الراحة للجد جد، وغوص السابح في طلب الدر صعود، ودوام السير يحسر1 الإبل، والمفازة2 صعبة. 787- ومن أراد أن يرى التلطف بالنفس؛ فلينظر في سير الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه كان يتلطف بنفسه، ويمازح، ويخالط النساء، ويقبل، ويمص اللسان، ويختار المستحسنات، ويستعذب له الماء، ويختار الماء البارد، والأوفق من المطاعم، كلحم الظهر والذراع والحلوى. 788- وهذا كله رفق بالناقة في طريق السير، فأما من جرد عليها السوط؛ فإنه يوشك ألا يقطع الطريق، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "إن هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برفق، فإن المنبت لا أرضًا قطع، ولا ظهرًا أبقى"3. 789- واعلم أنه يبنغي للعاقل أن يغالط نفسه فيما يكشف العقل عن   1 الحسر: التعب والإعياء. 2 المفازة: الصحراء المهلكة. 3 رواه البيهقي في السنن "1913"، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وفي إسناده عبد الله بن صالح كاتب الليث: صدوق كثير الغلط؛ لكن شطره الأول: رواه أحمد "3/ 199" عن أنس رضي الله عنه، قال الهيثمي في المجمع "1/ 67": رجاله موثوقون إلا خلف بن مهران، فإنه لم يدرك أنسًا، و "المنبت" الذي يتعب دابته حتى لا تطيق السير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 عواره1؛ فإن فكر المتيقظ يسبق قبل مباشرة المرأة إلى أنها اعتناق جسد يحتوي على قذارة، وقبل بلع اللقمة إلى أنها متقلبة في الريق، لو أخرجها اللسان [لفظها] 2، ولو [فكر] 3 في قرب الموت، وما يجري عليه بعده، لبغض عاجل لذته. فلا بد من مغالطة تجري لينتفع الإنسان بعيشه. كما قال لبيد4: واكذب النفس إذا حدثتها ... إن صدق النفس يزري بالأمل وقال البستي5: أفد طبعك المكدود بالهم راحة ... تجم، وعلله بشيء من المزح ولكن إذا أعطيته ذاك فليكن ... بمقدار ما يعطى الطعام من الملح وقال أبو علي بن الشبل6: وإذا هممت فناج نفسك بالمنى ... وعدًا فخيرات الجنان عدات واجعل رجاءك دون يأسك جنة ... حتى تزول بهمك الأوقات واستر عن الجلساء بثك إنما ... جلساؤك الحساد والشمات ودع التوقع للحوادث إنه ... للحي من قبل الممات ممات فالهم ليس له ثبات مثلما ... في أهله ما للسرور ثبات لولا مغالطة النفوس عقولها ... لم تصف للمتيقظين حياة وقال أيضًا:   1 عواره: فساده. 2 في هامش الأصل: بياض في ثلاث نسخ، والزيادة من "أ". 3 الزيادة من "ط". 4 لبيد بن ربيعة العامري أبو عقيل، أحد الشعراء الفرسان الأشراف في الجاهلية، أدرك الإسلام، ووفد على النبي صلى الله عليه وسلم وترك الشعر بعد إسلامه توفي سنة "41 هـ". 5 أبو الفتح علي بن محمد البستي، شاعر زمانه. توفي سنة "400هـ". 6 محمد بن الحسين بن عبد الله الشبل البغدادي، أبو علي، شاعر حكيم، ولد وتوفي ببغداد، سنة "473هـ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 بحفظ الجسم تبقى النفس فيه ... بقاء النار تحفظ بالوعاء فباليأس الممض فلا تمتها ... ولا تمدد لها طول الرجاء وعدها في شدائدها رخاء ... وذكرها الشدائد في الرخاء يعد صلاحها هذا وهذا ... وبالتركيب منفعة الدواء 790- وقد كان عموم السلف يخضبون الشيب، لئلا يرى الإنسان منهم ما يكره، وإن كان الخضاب لا يعدم النفس علمها بذلك، ولكنه نوع مخادعة للنفس، وما زالت النفوس ترى الظاهر، وإنما الفكر والعقل مع الغائب. 791- ولا بد من مغالطة تجري ليتم العيش، ولو عمل العامل بمقتضى قصر الأمل، ما كتب العلم ولا صنف. 792- فافهم هذا الفصل مع الذي تقدمه؛ فإن الأول في مقام العزيمة، وهذا في مكان الرخصة، ولا بد للتعب من راحة وإعانة، والله عز وجل [معك] على قدر صدق الطلب، وقوة اللجإ، وخلع الحول والقوة، وهو الموفق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 172- فصل: في تعليم التدبير 793- قوام الآدمي بشيئين: الحرارة والرطوبة. ومن شأن الحرارة أن تحلل الرطوبة وتفنيها، فالآدمي محتاج إلى تحصيل خلف للمتحلل. فأبدان النشء تغتذي بأكثر مما يتحلل منها، والأبدان المتناهية تغتذي بمقدار ما يتحلل منها أكثر مما تغتذي به. 794- فينبغي للناشئ البالغ أن يحتفظ في النكاح؛ لأنه1 يربي قاعدة قوة يجد أثرها في الكبر. وأما المتوسط والواقف السن، فينبغي أن يحذر فضول الجماع، فإن حصل له   1 أي: الناشئ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 مثل ما يخرج منه، فأسرف؛ فاللازم أخذ من الحاصل، ويوشك أن يسرع النفاد. وأما الشيخ، فترك النكاح كاللازم له، خصوصًا إذا زاد علو السن؛ لأنه ينفق من الجوهر الذي لا يحصل مثله أبدًا. 795- ثم ينبغي أن ينظر العاقل في ماله، فيكتسب أكثر مما ينفق، ليكون الفاضل مدخرًا لوقت العجز، وليحذر السرف، فإن العدل هو الأصلح. 796- ثم ينظر في الزوجة، والمطلوب منها شيئان: وجود الولد، وتدبير المنزل، فإذا كانت مبذرة، فعيب لا يحتمل، فإن انضمت صفة العقر، فلا وجه للإمساك؛ إلا أن تكون مستحسة الصورة، فإن ضم إليها عقل وعفاف، حسن الإمساك، وإن كانت مما يحتاج أن تحفظ1، فتركها لازم. 797- فأما الخدم، ليجتهد في تحصيل خادم لا تستبعده الشهوة؛ فإن عبد الشهوة له مولى غير سيده، ولينظر المالك في طبع المملوك، فمنهم: من لا يأتي إلا على الإكرام، فليكرمه، فإنه يربح محبته. ومنهم: من لا يأتي إلا على الإهانة، فليداره، وليعرض عن الذنوب؛ فإن لم يكن، عاتب بلطف، وليحذر العقوبة ما أمكن. وليجعل للمماليك زمن راحة. والعجب من يعني بدابته، وينسى مداراة جاريته! وأجود المماليك الصغار، وكذلك الزوجات؛ لأنهم متعودون خلق المشتري. 798- وليحفظ نفسه بالهيبة من الانحراف مع الزوجة، ولا يطلعها على ماله، فإنها سفيهة، تطلب كثرة الإنفاق. 799- وأما تدبير الأولاد، فحفظهم من مخالطة تفسد. ومتى كان الصبي ذا أنفة، حييًّا، رجي خيره. وليحمل على صحبة الأشراف والعلماء، وليحذر من مصاحبته الجهال والسفهاء، فإن الطبع لص. وليحذر الصبي من الكذب غاية التحذير، ومن المخالطة للصبيان، وليوصه بزيادة البر للوالدين، وليحفظ من مخالطة النساء. فإذا بلغ، ليزوج بصبية، فينتفعان.   1 غير عفيفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 800- هذه الإشارة إلى تدبير أمور الدنيا. فأما تدبير العلم، فينبغي أن يحمل الصبي من حين يبلغ خمس سنين على التشاغل بالقرآن والفقه وسماع الحديث، ولتحصل له المحفوظات أكثر من المسموعات؛ لأن زمان الحفظ إلى خمس عشرة سنة، فإذا بلغ، تشتت همته، فليضرب تارة، ويرشى أخرى، ليبلغ وقد حصل محفوظات سنيَّةً. 801- وأول ما ينبغي أن يكلف حفظ القرآن متقنًا؛ فإنه يثبت، ويختلط باللحم والدم، ثم مقدمة من النحو، يعرف بها اللحن، ثم الفقه مذهبًا وخلافًا، وما أمكن بعد هذا من العلوم، فحفظه حسن. 802- وليحذر من عادات أصحاب الحديث؛ فإنهم يفنون الزمان في سماع الأجزاء التي تتكرر فيها الأحاديث، فيذهب العمر، وما حصلوا فهم شيء! فإذا بلغوا سنًّا، طلبوا جواز فتوى أو قراءة جزء من القرآن، فعادوا القهقرى؛ لأنهم يحفظون بعد كبر السن، فلا يحصل مقصودهم. فالحفظ في الصبا للمهم من العلم أصل عظيم1. 803- وقد رأينا كثيرًا ممن تشاغل بالمسموعات، وكتابة الأجزاء، ورأى الحفظ صعبًا، فمال إلى الأسهل، فمضى عمره في ذلك؛ فلما احتاج إلى نفسه، قعد يتحفظ على كبر، فلم يحصل مقصوده. فاليقظة لفهم ما ذكرت، وانظر في الإخلاص، فما ينفع شيء دونه.   1 انظر: كتاب "لفتة الكبد إلى نصيحة الولد" للمؤلف الملحق بهذا الكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 173- فصل: بادر موسم الزرع 804- اشتد الغلاء ببغداد في أول سنة خمس وسبعين1، وكلما جاء الشعير، زاد السعر، فتواقع2 الناس على اشتراء الطعام. فاغتبط من يستعد كل سنة بزرع ما يقوته، وفرح من بادر في أول النسيان إلى اشتراء الطعام قبل أن يضاعف ثمنه،   1 أي: عام "575هـ". 2 اجتمع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 وأخرج الفقراء ما في بيوتهم، فرموه في سوق الهوان، وبان ذل نفوس كانت عزيزة. فقلت: يا نفس! خذي من هذه الحال إشارة: ليغبطن من له عمل صالح وقت الحاجة إليه، وليفرحن من له جواب عند إقبال المسألة، وكل الويل على المفرط الذي لا ينظر في عاقبته! فتنبهي، فقد نبهت ناسًا في الدنيا على أمر الآخرة! وبادري موسم الزرع ما دامت الروح في البدن، فالزمان كله تشرين1، قبل أن يدخل نيسان الحصاد وما لك زرع، وحاجة المفتقرين إلى أموالهم تمنعهم من الإيثار.   1 تشرين: موسم الزرع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 174- فصل: المؤمن بين الخوف والرجاء 805- تأملت حالةً أزعجتني، وهو أن الرجل قد يفعل مع امرأته كل جميل، وهي لا تحبه، وكذا يفعل مع صديقه، والصديق يبغضه، وقد يتقرب إلى السلطان بكل ما يقدر عليه، والسلطان لا يؤثره، فيبقى متحيرًا يقول: ما حيلتي؟! فخفت أن تكون هذه حالتي مع الخالق سبحانه، أتقرب إليه، وهو لا يريدني، وربما يكون قد كتبني شقيًّا في الأزل. ومن هذا خاف الحسن، فقال: أخاف أن يكون أطلع على بعض ذنوبي، فقال: لا غفرت لك. فليس إلا القلق والخوف، لعل سفينة الرجاء تسلم -يوم دخولها الشاطئ- من جرف2.   1 الجرف: الساحل الصخري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 175- فصل: عدد أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم 806- جرى بيني وبين أحد أصحاب الحديث كلام في قول الإمام أحمد: "صح من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع مائة ألف حديث". فقلت له: إنما يعني به الطرق. فقال: لا، بل المتون! فقلت: هذا بعيد التصور. 807- ثم رأيت لأبي عبد الله الحاكم1 كلامًا ينصر ما قال ذلك الشخص،   1 محمد بن عبد الله النيسابوري الشهير بابن البيع: إمام، حافظ، مصنف، توفي سنة "405هـ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 وهو أنه قال في كتاب "المدخل إلى كتاب الإكليل": كيف يجوز أن يقال: إن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يبلغ عشرة آلاف حديث، وقد روى عنه من أصحابه أربعة آلاف رجل وامرأة، صحبوه نيفًا وعشرين سنة بمكة، ثم بالمدينة، حفظوا أقواله، وأفعاله، ونومه، ويقظته، وحركاته، وغير ذلك، سوى ما حفظوا من أحكام الشريعة؟! واحتج بقول أحمد: "صح من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع مائة ألف حديث وكسر"، وأن إسحاق بن راهوية1 كان يملي سبعين ألف حديث حفظًا، وأن أبا العباس بن عقدة2 قال: أحفظ لأهل البيت ثلاث مائة ألف حديث. قال ابن عقدة: وظهر لابن كريب3 بالكوفة ثلاث مائة ألف حديث. قلت: ولا يحسن أن يشار بهذا إلى المتون. وقد عجب كيف خفي هذا على الحاكم، وهو يعلم أن أجمع المسانيد الظاهرة مسند أحمد بن حنبل، وقد طاف الدنيا مرتين حتى حصله، وهو أربعون ألف حديث، منها عشرة آلاف مكررة. 808- قال حنبل بن إسحاق4: جمعنا أحمد بن حنبل أنا وصالح5 وعبد الله6، وقرأ علينا "المسند"، وقال لنا: هذا كتاب جمعته من أكثر من سبع مائة ألف وخمسين ألفًا، فما اختلف المسلمون فيه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فارجعوا إليه؛ فإن وجدتموه، وإلا فليس بحجة7. أفترى يخفى على متيقظ أنه أراد بكونه جمعه من سبع مائة ألف أنه أراد الطرق؟! لأن السبع مائة الألف إن كانت من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف أهملها؟!   1 أبو يعقوب، إسحاق بن راهوية الحنظلي الحافظ، من كبار الأئمة "161-238هـ". 2 أحمد بن محمد الهمداني، الحافظ العلامة "249-332هـ". 3 محمد بن العلاء بن كريب: الحافظ الثقة "161-248هـ". 4 حنبل بن إسحاق بن حنبل: ابن عم الإمام أحمد وتلميذه، من حفاظ الحديث، توفي سنة "273هـ". 5 صالح: أكبر أولاد الإمام أحمد بن حنبل، تولى قضاء أصبهان "203-266هـ". 6 عبد الله بن أحمد بن حنبل: أجل أولاد الإمام كان صينًا دينًا صادقًا "213-290هـ". 7 هناك كثير من الأحاديث الصحيحة غير مخرجة في المسند. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 809- فإن قيل: فقد أخرج في مسنده أشياء ضيعفة، ثم أعوذ بالله أن يكون سبع مائة ألف ما تحقق منها سوى ثلاثين ألفًا! وكيف ضاعت هذه الجملة؟! ولم أهملت، وقد وصلت كلها إلى زمن أحمد، فانتقى منها، ورمى الباقي؟! وأصحاب الحديث قد كتبوا كل شيء من الموضوع والكذب. 810- وكذلك قال أبو داود1: جمعت كتاب "السنن" من ست مائة ألف حديث. 811- ولا يحسن أن يقال: إن الصحابة الذين رووها ماتوا، ولم يحدثوا بها التابعين؛ فإن الأمر قد وصل إلى أحمد، فأحصى سبعمائة ألف حديث، وما كان الأمر ليذهب هكذا عاجلًا! ومعلوم أنه لو جمع الصحيح والمحال الموضوع وكل منقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما بلغ خمسين ألفًا! فأين الباقي؟! 812- ولا يجوز أن يقال: تلك الأحاديث كلام التابعين، فإن الفقهاء نقلوا مذاهب القوم، ودونوها، وأخذوا بها، ولا وجه لتركها! 813- ففهم كل ذي لب أن الإشارة إلى الطرق، وأن ما توهمه الحاكم فاسد، ولو عرض هذا الاعتراض عليه، وقيل له: فأين الباقي؟! لم يكن له جواب؛ لكن الفهم عزيز، والله المنعم بالتوفيق. 814- ومثل هذا تغفيل قوم قالوا: إن البخاري لم يخرج كل ما صح عنده، وإن ما أخرج كالأنموذج؛ وإلا فكان يطول. وقد ذهب إلى نحو هذا أبو بكر الإسماعيلي2، وحكى عن البخاري أنه قال: ما تركت من الصحيح أكثر؛ وإنما يعني الطرق. يدل على ما قلته أن الدارقطني3 -وهو سيد الحفاظ- جمع ما يلزم البخاري ومسلمًا4 إخراجه، "فبلغ" ما لم يذكراه أحاديث يسيرة، ولو كان كما قالوا، لأخرج مجلدات.   1 سليمان بن الأشعث الأزدي السجستاني "202- 275هـ": الإمام الحافظ صاحب السنن، ومحدث البصرة. 2 أحمد بن إبراهيم الجرحاني "277-371هـ": محدث إمام. 3 علي بن عمر "306-385هـ": كان من بحور العلم، وأئمة الدنيا، صاحب التصانيف. 4 مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري: الإمام الحجة صاحب الصحيح "204-261هـ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 ثم قوله: "ما يلزم البخاري": دليل صريح ما قلته؛ لأنه من أخرج الأنموذج، لا يلزمه شيء. 815- وكذلك أخرج أبو عبد الله الحاكم كتابًا1 جمع فيه ما يلزم البخاري إخراجه، فذكر حديث الطائر، فلم يلتفت الحافظ إلى ما قاله2. فما أقل فهم هؤلاء الذين شغلهم نقل الحديث عن التدقيق، الذي لا يلزم في صحة الحديث؛ وإنما وقع لقلة الفقه والفهم. 816- إن البخاري ومسلمًا تركًا أحاديث أقوام ثقات؛ لأنهم خولفوا في الحديث، فنقص الأكثرون من الحديث وزادوا، ولو كان ثم فقه، لعلموا أن الزيادة من الثقة مقبولة! وتركوا أحاديث أقوام؛ لأنهم انفردوا بالرواية عن شخص، ومعلوم أن انفراد الثقة لا عيب فيه! وتركوا من ذلك الغرائب. وكل ذلك سوء فهم. ولهذا لم يلتزم الفقهاء هذا، وقالوا: الزيادة من الثقة مقبولة3، ولا يقبل القدح حتى يبين سببه. 817- وكل من لم يخالط الفقهاء4 وجهد مع المحدثين، تأذى، وساء فهمه!! فالحمد الله الذي أنعم علينا بالحالتين.   1 هو كتاب "المستدرك على الصحيحين" قال الذهبي: رأيت الهول من الموضوعات التي فيه. 2 قال الإمام النووي رحمه الله تعالى في التقريب: ولم يستوعبا "أي البخاري ومسلم في كتابيهما" الصحيح، ولا التزماه "أي استيعابه". انظر: التدريب "1/ 132 ط". دار العاصمة. 3 الزيادة أقسام: أحدها: زيادة تخالف الثقات، فترد. والثاني: ما لا مخالفة فيها فتقبل باتفاق العلماء. والثالث: زيادة لم يذكرها سائر رواة الحديث، والصحيح قبولها. اهـ المختصر الحاوي لمهمات تدريب النوواي ص "174". 4 قال المؤلف في الفصل "332": كان المحدثون قديمًا هم الفقهاء، ثم صار الفقهاء لا يعرفون الحديث، والمحدثون لا يعرفون الفقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 176- فصل: اللغة منطق العرب 818- اعلم أن الله عز وجل وضع في النفوس أشياء لا تحتاج إلى دليل، فالنفوس تعلمها ضرورة، وأكثر الخلق لا يحسنون التعبير عنها. فإنه وضع في النفوس أن المصنوع لابد له من صانع، وأن المبنى لابد له من بان، وأن الاثنين أكثر من الواحد، وأن الجسم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 الواحد لايكون في مكانين في حالة واحدة، ومثل هذه الأشياء لا تحتاج إلى دليل. 819- وألهم العرب النطق بالصواب من غير لحن، فهم يفرقون بين المرفوع والمنصوب بأمارات في جبلتهم1، وإن عجزوا عن النطق بالعلة2. 820- قال عثمان بن جني3: سألت يومًا أبا عبد الله محمد بن عساف العقيلي4 فقلت له: كيف تقول: "ضربت أخوك"؟ فقال: أقول: "ضربت أخاك". فأدرته على الرفع؛ فأبى، وقال: لا أقول "أخوك" أبدًا! قلت: فكيف تقول: "ضربني أخوك"؟ فرفع، فقلت: أليس زعمت أنك لا تقول "أخوك" أبدًا. فقال: إيش هذا؟! اختلفت جهتا الكلام! وهذا أدل شيء على تأملهم مواقع الكلام، وإعطائهم إياه في كل موضع حقه، وأنه ليس استرسالًا ولا ترخيمًا. 821- قال عثمان: واللغة هي أصوات، يعبر بها كل قوم عن أغراضهم، والنحو انتحاء سمت كلام العرب في تصرفه، من إعراب وغيره، كالتثنية، والجمع، والتحقير5، والتكسير، وغير ذلك، ليلحق من ليس من أهل اللغة أهلها.   1 الجبلة: الخلقة والفطرة. 2 العلة: السب. 3 أبو الفتح، عثمان بن جني الموصلي من كبار أصحاب أبي علي الفارسي من أئمة العربية "330-392هـ". انظر الخصائص "1/ 250". 4 الجوثي التميمي، تميم جوثة. أعرابي من بني عقيل ممن كان يلتقيهم ابن جني ويأخذ عنهم اللغة. 5 التحقير: التصغير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 177- فصل مفيد: العاقل ينظر في العواقب، والغافل لا يرى إلا الحاضر 822- تدبرت أحوال الأخبار والأشرار، فرأيت سبب صلاح الأخيار النظر، وسبب فساد الأشرار إهمال النظر. وذاك أن العاقل ينظر، فيعلم أنه لا بد [للمصنوع] من صانع، وأن طاعته لازمة، ويتأمل معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيسلم قيادة إلى الشرع، ثم ينظر فيما يقربه إليه، ويزلفه لديه؛ فإذا شق عليه إعادة العلم، تأمل ثمرته، فسهل ذلك. وإذا صعب عليه قيام الليل، فكذلك، وإذا رأى مشتهًى، تأمل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 عاقبته، فعلم أن اللذة تفنى، والعار والإثم يبقيان، فيسهل عليه الترك، وإذا اشتهى الانتقام ممن يؤذيه، ذكر ثواب الصبر، وندم الغضبان على أفعاله في حال الغضب ثم لا يزال يتأمل سرعة ممر العمر، فيغتنمه بتحصيل أفضل الفضائل، فينال مناه. 823- وأما الغافل؛ فإنه لا يرى إلا الشيء الحاضر، فمنهم من لم يتأمل في معنى المصنوع وإثبات الصانع، فجحدوا، وتركوا النظر، وجحدوا الرسل، وما جاءوا به، ونظروا إلى العاجل، ولم يتفكروا في مبدئه ومنتهاه؛ فليس عندهم من عرفان المطعم إلا الأكل، ولو تأملوا كيف أنشئ؟ ولماذا جعل حافظًا للأبدان؟ لعرفوا حقائق الأمور! وكذلك كل شهوة تعرض لهم، لا ينظرون في عاقبتها، بل في عاجل لذتها. وكم قد جنت عليهم، من وقوع حد، وقطع يد، وفضيحة! فتعجيل اللذة يفوت الفضائل، ويحصل الرذائل، وسببه عدم النظر في العواقب، وهذا شغل الغفل، وذاك المذموم شغل الهوى. نسأل الله عز وجل يقظة ترينا العواقب، وتكشف لنا الفضائل والمعايب، إنه قادر على ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 178- فصل: الآمال أكبر من الآجال 824- خلقت لي همة عالية تطلب الغايات، بلغت السن وما بلغت ما أملت! فأخذت أسأل تطويل العمر، وتقوية البدن، وبلوغ الآمال، فأنكرت على العادات، وقالت: ما جرت عادة بما تطلب؛ فقلت: إنما أطلب من قادر يخرق العادات، وقد قيل لرجل: لنا حويجة1. فقال: اطلبوا لها رجيلًا2 وقيل لآخر: جئناك في حاجة لا ترزؤك3. فقال: هلا طلبتم لها سفاسف الناس! فإذا كان أهل الأنفة من أرباب الدنيا يقولون هذا، فلم لا نطمع في فضل كريم قادر؟! وقد سألته هذا السؤال في ربيع الآخر من سنة خمس وسبعين4، فإن مد لي أجلي، وبلغت ما أملته، نقلت هذا الفصل إلى ما بعد، وبيضته، وأخبرت ببلوغ آمالي، وإن لم يتفق ذلك، فسيدي أعلم بالمصالح، فإنه لا يمنع بخلًا، ولا حول إلا به.   1 حويجة: تصغير حاجة. 2 رجيل: تصغير رجل. 3 لاترزؤك: لا تكلفك ما تنكب به. 4 أي "575هـ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 179- فصل : ما أقل من يعمل لله خالصًا! 825- ما أقل من يعمل لله تعالى خالصًا! لأن أكثر الناس يحبون ظهور عباداتهم، وسفيان الثوري كان يقول: لا أعتد بما ظهر من عملي! وكانوا يسترون أنفسهم، واليوم ثياب القوم تشهرهم! وقد كان أيوب السختياني1 يطول قميصه حتى يقع على قدميه، ويقول: كانت الشهرة في التطويل، واليوم الشهرة في التقصير. 826- فاعلم أن ترك النظر إلى الخلق، ومحو الجاه من قلوبهم بالتعمل2، وإخلاص القصد، وستر الحال: وهو الذي رفع من رفع، فقد كان أحمد بن حنبل يمشي حافيًا في وقت، ويحمل نعليه في يديه، ويخرج للقاط3، وبشر يمشي حافيًا على الدوام وحده، ومعروف يلتقط النوى4. 827- واليوم صارت الرئاسات أكثر من كل حاجة، وما تتمكن الرئاسات حتى تتمكن من القلب الغفلة، ورؤية الخلق، ونسيان الحق، فحينئذ تطلب الرئاسة على أهل الدنيا. 828- ولقد رأيت من الناس عجبًا، حتى من يتزيا بالعلم: إن رآني أمشي وحدي، أنكر علي، وإن رآني أزور فقيرًا، عظم ذلك، وإن رآني أنبسط بتبسم، نقصت من عينه، فقلت: فوا عجبًا! هذه كانت طريق الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة رضوان الله عليهم، فصارت أحوال الخلق نواميس لإقامة الجاه. لا جرم5 والله سقطتم من عين الحق، فأسقطكم من عين الخلق. 829- فكم ممن يتعب في تربية ناموس، ولا يلتفت إليه، ولا يحظى بمراده، ويفوته المراد الأكبر. فالتفتوا إخواني إلى إصلاح النيات، وترك التزين للخلق! ولتكن عمدتكم الاستقامة مع الحق، فبذلك صعد السف وسعدوا. وإياكم وما الناس عليه اليوم؛ فإنه بالإضافة إلى يقظة السلف نوم.   1 هو، الإمام الحافظ سيد العلماء، أحد صغار التابعين "68-131هـ". 2 التعمل: بالمعاملة، والتخلية والتحلية. 3 اللقاط: جمع ما يتبقى من السنابل المنثورة بعد الحصاد في الحقل. 4 النوى: بزور التمر. 5 لا جرم: لا بد، حقًّا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 180- فصل: اعملوا فكل ميسر لما خلق له . 830- والله، ما ينفع تأديب الوالد إذا لم يسبق اختيار الخالق لذلك الولد! فإنه سبحانه إذا أراد شخصًا رباه من طفولته، وهداه إلى الصواب، ودله على الرشاد، وحبب إليه ما يصلح، وصحبه من يصلح، وبغض إليه ضد ذلك، وقبح عنده سفساف الأمور، وعصمه من القبائح، وأخذ بيده كلما عثر. 831- وإذا أبغض شخصًا، تركه دائم التعثير، متخبطًا في كل حال، ولم يخلق له همة لطلب المعالي، وشغله بالرذائل عن الفضائل، وإن قال: لم خصصت بهذا؟! قال الخطاب الذي لا يجاب: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} "الشورى: 30". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 181- فصل: وفي أنفسكم أفلا تبصرون؟ 832- من أكبر الدليل على وجود الخالق سبحانه هذه النفس الناطقة المميزة، المحركة للبدن على مقتضى إرادتها، والتي دبرت مصالحها، وترقت إلى معرفة الأفلاك، واكتسبت ما أمكن تحصيله من العلوم، وشاهدت الصانع في المصنوع، فلم يحجبها ستر، وإن تكاثف! ولا يعرف مع هذا ماهيتها، ولا كيفيتها، ولا جوهرها، ولا محلها1، ولا يفهم من أين جاءت؟ ولا يدرى أين تذهب؟ ولا كيف تعلقت بهذا الجسد؟ وهذا كله يوجب عليها أن لها مدبرًا وخالقًا، وكفى بذلك دليلًا عليه؛ إذ لو كانت وجدت بها، لما خفيت أحوالها عليها، فسبحانه سبحانه.   1 في الأصل: ولا محلها باشتغالها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 182- فصل: العلماء حفظة الشريعة . 833- سبحان من من على الخلق بالعلماء الفقهاء، الذين فهموا مقصود الأمر ومراد الشارع، فهم حفظة الشريعة، فأحسن الله جزاءهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 834- وإن الشيطان ليتجافاهم خوفًا منهم، فإنهم يقدرون على أذاه، وهو لا يقدر على أذاهم. ولقد تلاعب بأهل الجهل والقليلي الفهم، وكان من أعجب تلاعبه أن حسن لأقوام ترك العلم، ثم لم يقنعوا بهذا حتى قدحوا في المتشاغلين به، وهذا -لو فهموه- قدح في الشريعة؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بلغو عني"1، وقد قال له ربه عز وجل: {بَلِّغْ} [المائدة: 67] ، فإذا لم يتشاغل بالعلم، فكيف يبلغ الشريعة إلى الخلق؟! 835- ولقد نقل مثل هذا عن كبار الزهاد، كبشر الحافي! فإنه قال لعباس بن عبد العظيم: لا تجالس أصحاب الحديث2. وقال لإسحاق بن الضيف3: إنك صاحب حديث، فأحب أن لا تعود إلي. ثم اعتذر، فقال: إنما الحديث فتنة إلا لمن أراد الله به، وإذا لم يعمل به، فتركه أفضل. وهذا عجب منه! من أين له أن طلابه لا يريدون الله به، وأنهم لا يعملون به؟! أو ليس العمل به على ضربين: عمل بما يجب، وذلك لا يسع أحدًا تركه. والثاني: نافلة، ولا يلزم، والتشاغل بالحديث أفضل من التنفل بالصوم والصلاة. وما أظنه أراد إلا طريقة في دوام الجوع والتهجد، وذلك شيء لا يلام تاركه. فإن كان يريد أن لا يوغل في علوم الحديث، فهذا خطأ؛ لأن جميع أقسامه محمودة. أفترى لو ترك الناس طلب الحديث، كان بشر يفتي؟! فالله الله في الالتفات إلى قول من ليس بفقيه، ولا يهولنك تعظيم اسمه، فالله يعفو عنه.   1 رواه البخاري "3461" عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. 2 عباس بن عبد العظيم بن إسماعيل بن توبة العنبري البصري، كان ثقةً مأمومًا، توفي سنة "246هـ". 3 هو إسحاق بن الضيف الباهلي، أبو يعقوب العسكري البصري، نزيل مصر. ذكره ابن حبان في الثقات، ترجمته في التهذيب "443". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 183- فصل: العاقل من يحفظ جانب الله عز وجل 836- العاقل من يحفظ جانب الله عز وجل، وإن غضب الخلق. وكل من يحفظ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 جانب المخلوقين، ويضيع حق الخالق، يقلب الله قلب الذي قصد أن يرضيه، فيسخطه عليه. 837- قال المأمون1 لبعض أصحابه: لا تعص الله بطاعتي، فيسلطني عليك. 838- ولما بالغ طاهر بن الحسين فيما فعل بالأمين2، وفتك به، وصلب رأسه، وإن كان ذلك عن إرادة المأمون؛ ولكن بقي أثر ذلك في قلبه، فكان المأمون لا يقدر أن يراه. ولقد دخل عليه يومًا، فبكى المأمون، فقال له طاهر: لم تبكي -لا أبكى الله عينك- فلقد دانت لك البلاد؟ فقال: أبكي لأمر ذكره ذل، وسره حزن، ولن يخلو أحد من شجن. فلما خرج طاهر، أنفذ إلى حسين الخادم مائتي ألف درهم، وسأله أن يسأل المأمون: لم بكى؟ فلما تغدى المأمون، قال: يا حسين! اسقني. قال: لا والله، لا أسقيك حتى تقول لم بكيت حين دخل عليك طاهر؟ قال: يا حسين! وكيف عنيت بهذا حتى سألت عنه؟ قال: لغمي بذلك. قال: يا حسين! أمر: إن خرج من رأسك، قتلتك. قال: ياسيدي! ومتى أخرجت لك سرًّا؟ قال: إني ذكرت أخي محمدًا، وما ناله من الذلة، فخنقتني العبرة، فاسترحت إلى إفاضتها، ولن يفوت طاهرًا مني ما يكره. فأخبر حسين طاهرًا بذلك، فركب طاهر إلى أحمد بن أبي خالد، فقال له: إن المعروف عندي ليس بضائع، فغيبني عن عينه، قال: سأفعل. فدخل على المأمون، فقال: ما بت البارحة. قال: ولم؟ قال: لأنك وليت غسان بن عباد خراسان، وهو ومن معه أكلة رأس، فأخاف أن يخرج خارج من الترك فيصطلمه3. قال: فمن ترى؟ قال: طاهر بن الحسين، فعقد له، فمضى.   1 عبد الله بن هارون الرشيد، سابع الخلفاء العباسيين "170-218هـ". 2 محمد بن هارون الرشيد، وأمه زبيدة "170-198هـ" الخليفة السادس من خلفاء بني العباس خلع أخاه من ولاية العهد فاقتتلا، وحدثت فتنة عظيمة انتهت بمقتله. 3 يصطلمه: يستأصله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 فبقي مدةً، ثم قطع الدعاء للمأمون على المنبر يوم الجمعة، فقال له صاحب البريد: ما دعوت لأمير المؤمنين. قال: سهو، فلا تكتب! ففعل ذلك في الجمعة الثانية والثالثة، فقال له: لا بد أن أكتب، لئلا يكتب التجار ويسبقوني، قال: اكتب، فكتب، فدعا المأمون أحمد بن أبي خالد، وقال: إنه لم يذهب على احتيالك في أمر طاهر، وأنا أعطي الله عهدًا، إن لم تشخص1 حتى توافيني به كما أخرجته من قبضتي، لتذمن عقباك. فشخص، وجعل يتلوم2 في الطريق، ويعتل بالمرض، فوصل إلى الري وقد بلغته وفاة طاهر. 839- قلت: ولما خرج الراشد3 من بغداد، وأرادوا تولية المقتفي4، شهد جماعة من الشهود بأن الراشد لا يصلح للخلافة، فنزعوه، وولوا المقتفي، فبلغني أنه ذكر للمقتفي بعض الشهود، فذمه، وقال: كان فيمن أعان على أبي جعفر5. 840- وعلى ضد هذا كل من يراعي جانب الحق والصواب، يرضى عنه من سخط عليه. 841- ولقد حدثني الوزير ابن هبيرة6 أن المستنجد بالله7 كتب إليه كتابًا، وهو يومئذ ولي عهد، وأراد أن يستره من أبيه، قال: فقلت للواصل به: والله، ما يمكنني أقرؤه، ولا أجيب عنه، فلما ولي الخلافة، دخلت عليه، فقلت: أكبر دليل على صدقي وإخلاصي أني ما حابيتك في أبيك، فقال: صدقت، أنت الوزير. 842- وحدثني بعض الأصدقاء أن قومًا ألحقوا إلى المخزن بعض دين لهم   1 تشخص: تذهب. 2 يتلوم: ينتظر ويتوانى. 3 الراشد بالله: أحد الخلفاء العباسيين، أبو جعفر منصور بن الفضل المسترشد بالله "502-532هـ" خلعه مسعود بن محمد بن ملكشاه ونصب عمه المقتفي لأمر الله. 4 محمد بن أحمد المقتفي لأمر الله "489-555هـ": من أعاظم الخلفاء العباسيين. 5 أبو جعفر هو، الراشد بالله. 6 يحيى بن محمد بن هبيرة الشيباني الدوري الحنبلي "499-560هـ": كان فقيرًا فاشتغل كاتبًا، ثم ترقى فصار وزيرًا، كان عالمًا عابدًا بارًّا بالعلماء، مات مسمومًا، له كتاب "الإفصاح عن معاني الصحاح" في الفقه المقارن. 7 الخليفة العباسي، أبو المظفر يوسف بن محمد المقتفي "518-566هـ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 ليستخلص، فقال المسترشد1 لصاحب المخزن: خلصة لهم، وخذ ما ضمنوا لنا! فأحضر ابن الرطبي2، وعرض الأمر عليه؟ فقال: هذا أمر بظلم، وما أحكم فيه فقال: إن السلطان قد تقدم3، قال: ما أفعل؟ فأحضر قاضيًا آخر، فبت الحكم، فأخبر الخليفة بالحال، فقال: أما ابن الرطبي، فيشكر على ما قال، وأما الآخر، فيعزل، وذلك؛ لأنه بان له أن الحق ما قاله ابن الرطبي. 843- وكذلك ما طلبه السلطان4 من أن يلقب ملك الملوك، فاستفتى الفقهاء، فأجازوا ذلك، وامتنع من إجازته الماوردي5، فعظم قدره عند السلطان، ومثل هذا إذا تتبع كثير. 844- فينبغي أن يحسن القصد لطاعة الخالق، وإن سخط المخلوق؛ فإنه يعود صاغرًا، ولا يسخط الخالق، فإنه يسخط المخلوق، فيفوت الحظان جميعًا.   1 أبو منصور الفضل بن المستظهر بالله أحمد "486-529هـ" الخليفة العباسي قتلته الباطنية. 2 أحمد بن سلامة الكرخي الشافعي، أبو العباس، أحد أذكياء العصر، وهو مؤدب الخليفة الراشد توفي سنة "527هـ". 3 أي أمر. 4 هو طغرل بك محمد بن ميكائيل بن سلجوق "385-455هـ". 5 أبو الحسن، علي بن محمد بن حبيب البصري الشافعي، الفقيه القاضي، الإمام صاحب الحاوي في فقه الشافعية "364-450هـ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 184- فصل: الأصول والصور 845- ينبغي للعاقل أن ينظر إلى الأصول فيمن يخالطه، ويعاشره، ويشاركه، ويصادقه، ويزوجه، أو يتزوج إليه، ثم ينظر بعد ذلك في الصور؛ فإن صلاحها دليل على صلاح الباطن. 846- أما الأصول، فإن الشيء يرجع إلى أصله، وبعيد ممن لا أصل له أن يكون فيه معنى مستحسن، وإن المرأة الحسناء إذا كانت من بيت رديء، فقل أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 تكون صينةً، وكذلك أيضًا المخالط والصديق والمباضع1 والمعاشر. فإياك أن تخالط إلا من له أصل يخاف عليه الدنس، فالغالب [معه] السلامة، وإن وقع غير ذلك، كان نادرًا. 847- وقد قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لرجل: أشر علي فيمن أستعمل، فقال: أما أرباب الدين، فلا يريدونك2، وأما أرباب الدنيا، فلا تردهم؛ ولكن عليك بالأشراف، فإنهم يصونون شرفهم عمَّا لا يصلح3. 848- وقد روى أبو بكر الصولي4، قال: حدثني الحسين بن يحيى، عن أبي إسحاق، قال: دعاني المعتصم5 يومًا، فأدخلني معه الحمام، ثم خرج، فخلا بي، وقال: يا أبا إسحاق! في نفسي شيء أريد أن أسألك عنه: إن أخي المأمون اصطنع قومًا فأنجبوا، واصطفيت أنا مثلهم فلم ينجبوا؟ قلت: ومن هم؟ قال: اصطنع طاهرًا وبانة6، وإسحاق وآل سهل، فقد رأيت كيف هم: واصطنعت أنا الأفشين7، فقد رأيت إلى ما آل أمره، وأشناس8، فلم أجده شيئًا، وكذلك إيتاخ ووصيف. قلت: يا أمير المؤمنين! ها هنا جواب، علي أمان من الغضب؟ قال: لك ذاك: قلت: نظر أخوك إلى الأصول فاستعملها، فأنجبت فروعها، واستعملت فروعًا لا أصول لها،   1 المباضع: الذي يضارب بماله. 2 أي: لا يسألونك الرئاسة. 3 قال الأستاذ حسن الحكيم: قرأت في صدر مجلس المبعوثان العثماني هذه الأبيات: كاتب في السابق كسرى قيصر ... بم استقام ملككم والظفر فقال: قد طاب لنا الهناء ... بخمسةٍ دام بها الولاء إن استشرنا فذوي العقول ... وإن نولي فذوي الأصول وإن نعاقب فعلى قدر السبب ... من الذنوب لا على قدر الغضب ولا نقدم الشباب مطلقًا ... على الشيوخ في ولاء أطلقا وليس في وعد ولا وعيد ... نخالف القول على التأكيد 4 محمد بن يحيى من كبار علماء الأدب، توفي سنة "335هـ". 5 أبو إسحاق محمد بن هارون الرشيد "180-227هـ" الخليفة العباسي الثامن كان شجاعًا مهيبًا من فحول بني العباس. 6 طاهر بن الحسين، ابنه عبد الله وإسحاق وآل سهل هم حاشية المأمون. 7 خيذر بن كاووس، من الأمراء الشجعان، اتهم بالكفر، ومات مسجونًا سنة "226هـ". 8 أشناس وإيتاخ ووصيف: غلمان من الترك جلبهم المعتصم إلى قصره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 فلم تنجب! فقال: يا أبا إسحاق! مقاساة ما مر بي طول هذه المدة أهون علي من هذا الجواب. 849- أما الصور، فإنه متى صحت البنية، ولم يكن فيها عيب، فالغالب صحة الباطن، وحسن الخلق، ومتى كان فيها عيب، فالعيب في الباطن أيضًا، فاحذر من به عاهة، كالأقرع والأعمى وغير ذلك، فإن بواطنهم في الغالب ردية. 850- ثم مع معرفة أصول المخالط، وكمال صورته، لابد من التجربة قبل المخالطة، واستعمال الحذر لازم، وإن كان كما ينبغي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 185- فصل : تحصيل المرادات لايتم إلا بالاحتيال 851- ينبغي أن يكون شغل العاقل النظر في العواقب، والتحرز، مما يمكن أن يكون. ومن الغلط النظر في الحالة الحاضرة، الموافقة لمعاشه، ولصحة بدنه، وربما لا يجري له مصحوبه1، فينبغي أن يعمل على انقطاع ذلك، فيكون مستعدًا لتغير الأحوال. وكذلك النظر في لذة تفنى، وتبقى تبعتها وعارها، وإيثار الكسل والدعة، لما يجيء بعدهما من بقاء الجهل. 852- وكذلك تحصيل المرادات التي لا تحصل إلا بالتلطف في الاحتيال، خصوصًا إذا أريد من ذكي، فإنه يفطن بأقل تلويح. فمن أراد غلبة الذكي، دقق النظر، وتلطف في الاحتيال. 853- وقد ذكر في كتب الحيل ما يشحذ الخواطر، وأتينا بجملة منه في كتاب الأذكياء. مثل ما روي أن رجلًا من الأشراف كان لا يقوم لأحد، ولا يخشى أحدًا؛ فجاز عليه بعض الوزراء [وحيَّا] ، فلم يرد ولم يقم. فقال ذاك الوزير   1 مصحوبة: ما هو فيه من النعمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 لرجل: أخبر فلانًا أني قد كلمت أمير المؤمنين في حقه، وقد أمر له بمائة ألف، فليحضر ليقبضها. فأخبره ذلك الرجل، فقال الشريف: إن كان أمر لي بشيءٍ، فلينفذه لي، وإنما مقصوده أن يضع مني بالتردد عليه. 854- فمتى وقع الإنسان مع ذكي، فينبغي أن يتحرر منه، ويسرق أغراضه بصنوف الاحتيال، وينظر فيما يجوز وقوعه، ليحترز منه، كما ينظر صاحب الرقعة التنقلات1. 855- وكثير من الأذكياء لم يقدروا على أغراضهم من ذكي، فأعطوه، وبالغوا في إكرامه ليصيدوه، فإن كان قليل الفطنة، وقع في الشرك، وإن كان أقوى منهم ذكاء؛ علم أن تحت هذه الجنية خبيئة، فزاده ذلك احترازًا. 856- وأقوى ما ينبغي أن يكون الاحتراز من موتور، فإنك إذا أديت شخصًا، فقد غرست في قلبه عداوة، فلا تأمن تفريع تلك الشجرة، ولا تلتفت إلى ما يظهر من ود، وإن حلف، فإن قاربته، فكن منه على حذر. 857- ومن التغفل أن تعاقب شخصًا، أو تسيء إليه إساءة عظيمة، وتعلم أن مثل ذلك يجدد الحقد، فتراه ذليلًا لك طائعًا تائبًا مقلعًا عما فعل، فتعود، فتستطيبه، وتنسى ما فعلت، وتظن أنه قد انمحى من قلبه ما أسلفت، فربما عمل لك المحن، ونصب لك المكايد، كما جرى لقصير مع الزباء، وأخباره معروفة2. 858- فإياك أن تساكن من آذيته، بل إن كان ولا بد، فمن خارج، فما نؤمن الأحقاد. ومتى رأيت عدوك فيه غفلة، لا يثنيه مثل هذا، فأحسن إليه؛ فإنه ينسى عداوتك، ولا يظن أنك قد أضمرت له جزاء على قبح فعله، فحينئذ تقدر على بلوغ كل غرض منه. 859- ومن الخور3 إظهار العداوة للعدو، ومن أحسن التدبير التلطف   1 نقلات أحجار الشطرنج. 2 انظر ذلك في: شرح "مقصورة ابن دريد" للخطيب التبريزي ص "28-32". 3 الخور: الضعف والخوف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 بالأعداء إلى أن يمكن كسر شوكتهم، ولو لم يمكن ذاك، كان اللطف سببًا في كف أكفهم عن الأذى وفيهم من يستحيي لحسن فعلك، فيتغير قلبه لك. 860- وقد كان جماعة من السلف إذا بلغهم أن رجلًا قد شتمهم، أهدوا إليه وأعطوه، فهم بالعاجل يكفون شره، ويحتالون في تقليب قلبه، ويقع بذلك لهم مهلة لتدبير الحيل عليه إن أرادوا. وكفى بالذهن الناظر إلى العواقب والتأمل لكل ممكن مؤدبًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 861- فصل: في حفظ السر ّ. 861- رأيت أكثر الناس لا يتمالكون من إفشاء سرهم، فإذا ظهر، عاتبوا من أخبروا به. فوا عجبًا! كيف ضاقوا بحبسه ذرعًا، ثم لاموا من أفشاه؟! وفي الحديث: "استعينوا على قضاء أموركم بالكتمان"1. 862- ولعمري، إن النفس يصعب عليها كتم الشيء، وترى بإفشائه راحة، خصوصًا إذا كان مرضًا أو همًّا أو عشقًا، وهذه الأشياء في إفشائها قريبة2؛ إنما اللازم كتمانه احتيال المحتال فيما يريد أن يحصل به غرضًا، فإن من سوء التدبير إفشاء ذلك قبل تمامه، فإنه إذا ظهر، بطل ما يراد أن يفعل، ولا عذر لمن أفشى هذا النوع. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا، ورى بغيره3. 863- فإن قال قائل: إنما أحدث [من أثق به] . قيل له: وكل حديث جاوز الاثنين شائع، وربما لم يكتم صديقك، وكم قد سمعنا من يحدث عن الملوك بالقبض على صاحب4، فنم5 الحديث إلى الصاحب، وهرب، ففات السلطان مراده! وإنما الرجل الحازم الذي لا يتعداه سره، ولا يفشيه إلى أحد.   1 رواه ابن حبان في روضة العقلاء ص "187"، والسهمي في تاريخ جرجان ص "182" عن أبي هريرة. 2 في الأصل: قرينة، وهو تصحيف. 3 رواه البخاري "4418"، ومسلم "2769"، عن كعب بن مالك، "وارى" أراد شيئًا وأظهر غيره. 4 صاحب: وزير. 5 نم الحديث: أشاعه ابتغاء المضرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 864- ومن العجز إفشاء السر إلى الولد والزوجة، والمال من جملة السر، فاطلاعهم عليه: إن كان كثيرًا، فربما تمنوا هلاك المورث1، وإن كان قليلًا، تبرموا بوجوده، وربما طلبوا من الكثير على مقدار كثرته، فأتلفته النفقات. 865- وستر المصائب من جملة كتمان السر؛ لأن إظهارها يسر الشامت، ويؤلم المحب. 866- وكذلك ينبغي أن يكتم مقدار السن؛ لأنه إن كان كبيرًا، استهرموه، وإن كان صغيرًا، احتقروه. 867- ومما قد انهال فيه كثير من المفرطين: أنهم يذكرون بين أصدقائهم أميرًا أو سلطانًا، فيقولون فيه، فيبلغ ذلك إليه، فيكون سبب الهلاك. وربما رأي الرجل من صديقه إخلاصًا وافيًا، فأشاع سره. وقد قيل2: احذر عدوك مرةً ... واحذر صديقك ألف مره فلربما انقلب الصديـ ... ـق فكان أدرى بالمضره 868- ورب مفشٍ سره إلى زوجة أو صديق، فيصير بذلك رهينًا عنده، ولا يتجاسر أن يطلق الزوجة، ولا أن يهجر الصديق، مخافة أن يظهر سره القبيح. فالحازم من عامل الناس بالظاهر، فلا يضيق [صدره بسره] 3، فإن فارقته امرأة أو صديق أو خادم، لم يقدر أحد منهم أن يقول فيه ما يكره. 869- ومن أعظم الأسرار الخلوات، ليحذر الحازم فيها من الانبساط بمرأى من مخلوق، ومن خلق له عقل ثاقب، دله على الصواب قبل الوصايا.   1 في الأصل: الموروث. 2 البيتان لعلي بن عيسى، انظر: محاضرات الراغب "3/ 28". 3 في الأصل: فلا يضيق سره في صدره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 187- فصل: ما رأيت أصعب على النفس من الحفظ للعلم! 870- ما رأيت أصعب على النفس من الحفظ للعلم والتكرار [له] ، خصوصًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 تكرار ما ليس لها في تكراره وحفظه حظ، مثل مسائل الفقه، بخلاف الشعر والسجع، فإن لها لذة في إعادته، وإن كان يصعب؛ لأنها تلتذ به مرة ومرتين، فإذا زاد التكرار؛ صعب عليها، ولكن دون صعوبة الفقه وغيره من المستحسنات عند الطبع، فتراها تخلد إلى الحديث والشعر والتصانيف والنسخ؛ لأنه يمر بها كل لحظة ما لم تره، فهو في المعنى كالماء الجاري؛ لأنه جزء بعد جزء، وكذا من ينسخ ما يجب أن يسمعه أو يصنف، فإنه يلتذ بالجدة، ويستريح من تعب الإعادة. 871- إلا أنه ينبغي للعاقل أن يكون جل زمانه للإعادة، خصوصًا الصبي والشاب؛ فإنه يستقر المحفوظ عندهما استقرارًا لا يزول، ويجعل أوقات التعب من الإعادة للنسخ، ويحذر من تفلتها إلى النسخ عند الإعادة، فيقهرها، فإنه يحمد ذلك حمد السري وقت الصباح1. وسيندم من لم يحفظ ندم الكسعي2 وقت الحاجة إلى النظر والفتوى. 872- وفي الحفظ نكتة ينبغي أن تلحظ، وهو أن الفقيه يحفظ الدرس ويعيده، ثم يتركه فينساه، فيحتاج إلى زمان آخر لحفظه، فينبغي أن يحكم الحفظ، ويكثر التكرار، ليثبت قاعدة الحفظ.   1 جاء في المثل: "عند الصباح يحمد القوم السرى" والسرى هو السير في الليل. 2 محارب بن قيس الكسعي، شاعر يضرب به المثل في الندامة، وهو منسوب إلى كسع قبيلة في اليمن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 188- فصل : العزلة إنما هي للعَالِم والزاهد 873- ما أعرف نفعًا كالعزلة عن الخلق، خصوصًا للعالم والزاهد؛ فإنك لا تكاد ترى إلا شامتًا بنكبةٍ، أو حسودًا على نعمة، أو من يأخذ عليك غلطاتك! فيا للعزلة! ما ألذها! سلمت من كدر غيبة، وآفات تصنع، وأحوال المداجاة1، وتضييع الوقت، ثم خلا فيها القلب بالفكر؛ لأنه مستلذ عنه بالمخالطة، فدبر أمر دنياه وآخرته، فمثله كمثل الحمية، يخلو فيها المعي بالأخلاط فيذيبها.   1 المداجاة: إظهار الصداقة وإبطان العداوة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 874- وما رأيت مثل ما يصنع المخالط؛ لأنه يرى حالته الحاضرة من لقاء الناس وكلامهم، فيشتغل بها عما بين يديه، فمثله كمثل رجل يريد سفرًا قد أزف1، فجالس أقوامًا، فشغلوه بالحديث، حتى ضرب البوق2 وما تزود! فلو لم يكن في العزلة إلا التفكير في زاد الرحيل، والسلامة من شر المخالطة، كفى. 875- ثم لا عزلة على الحقيقة إلا للعالم والزاهد، فإنهما يعلمان مقصود العزلة، وإن كانا لا في عزلة. أما العالم، فعلمه مؤنسه، وكتبه محدثه، والنظر في سير السلف مقومه، والتفكير في حوادث الزمان السابق فرجته، فإن ترقى بعلمه إلى مقام المعرفة الكاملة للخالق سبحانه، وتشبث بأذيال محبته: تضاعفت لذاته، واشتغل بها عن الأكوان وما فيها، فخلا بحبيبه، وعمل معه بمقتضى علمه. وكذلك الزاهد، تعبده أنيسه، ومعبوده جليسه، فإن كشف لبصره عن المعمول معه، غاب عن الخلق، وغابوا عنه؛ إنما اعتزلا ما يؤذي، فهما في الوحدة بين جماعةٍ. فهذان رجلان قد سلما من شر الخلق، وسلم الخلق من شرورهما؛ بل هما قدوة للمتعبدين، وعلم للسالكين، ينتفع بكلامهما السامع، وتجري موعظتهما المدامع، وتنشر هيبتهما في المجامع؛ فمن أراد أن يتشبه بأحدهما، فليصابر الخلوة، وإن كرهها، ليثمر له الصبر العسل. 876- وأعوذ بالله من عالم مخالط للعالم، خصوصًا لأرباب المال والسلاطين، يجتلب ويجتلب3، [ويختلب] ويختلب4، فما يحصل له شيء من الدنيا إلا وقد ذهب من دينه أمثاله. ثم أين الأنفة من الذل للفساق؟!   1 أزف: دنا واقترب. 2 ضرب البوق: إيذان بالسفر. 3 ينتفع وينفع. 4 يَخدَع ويُخدع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 فالذي لا يبالي بذلك هو الذي لا يذوق طعم العلم، ولا يدري ما المراد به، وكأنه به وقد وقع في بادية جزر1، وقفر مهلك في تلك البراري. 877- وكذلك المتزهد إذا خالط وخلط؛ فإنه يخرج إلى الرياء والتصنع والنفاق، فيفوته الحظان، لا الدنيا ونعيمها تحصل له، ولا الآخرة، فنسأل الله -عز وجل- خلوة حلوة، وعزلة عن الشر لذيذة، يستصلحنا فيها لمناجاته، ويلهم كلا منا طلب نجاته، إنه قريب مجيب.   1 الجزر: القاحلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 189- فصل: الاستعداد للموت 878- ما أبله من لا يعلم متى يأتيه الموت، وهو لا يستعد للقائه! وأشد الناس بلهًا وتغفيلًا من قد عبر الستين، وقارب السبعين -فإن ما بينهما هو معترك المنايا، ومن نازل المعترك، استعد- وهو مع ذلك غافل عن الاستعداد. قال الشباب: لعلنا في شيبنَا ... ندع الذنوبَ، فما يَقُوْلُ الأَشْيَبُ؟ والله، إن الضحك من الشيخ ما له معنى، وإن المزاح منه بارد المعنى، وإن تعرضه بالدنيا -وقد دفعته عنها- يضعف القوى، ويضعف الرأي. وهل بقي لابن ستين منزل؟! 879- فإن طمع في السبعين؛ فإنما يرتقي إليها بعناء شديد: إن قام، دفع الأرض، وإن مشى، لهث، وإن قعد، تنفس، ويرى شهوات الدنيا، ولا يقدر على تناولها، فإن أكل، كد المعدة، وصعب الهضم، وإن وطئ، آذى المرأة، ووقع دنفًا1، لا يقدر على رد ما ذهب من القوة إلى مدة طويلة، فهو يعيش عيش الأسير. 880- فإن طمع في الثمانين، فهو يزحف إليها زحف الصغير. وعشر الثمانين من خاضها ... فإن الملمات فيها فنون   1 الدنف: الذي أثقله المرض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 881- فالعاقل من فهم مقادير الزمان؛ فإنه فيما قبل البلوغ صبي، ليس على عمره عيار1، إلا أن يرزق فطنة، ففي بعض الصبيان فطنة تحثهم من الصغر على اكتساب المكارم والعلوم. فإذا بلغ، فليعلم أنه زمان المجاهدة للهوى، وتعلم العلم، فإذا رزق الأولاد، فهو زمان الكسب للمعاملة، فإذا بلغ الأربعين، انتهى تمامه، وقضى مناسك الأجل، ولم يبق إلا الانحدار إلى الوطن. كأن الفتى يرقى من العمر سلمًا ... إلى أن يجوز الأربعين وينحطُّ فينبغي له عند تمام الأربعين أن يجعل جل همته التزود للآخرة، ويكون كل تلمحه لما بين يديه، ويأخذ في الاستعداد للرحيل، وإن كان الخطاب بهذا لابن عشرين، إلا أن رجاء التدارك في حق الصغير لا في حق الكبير. 882- فإذا بلغ الستين؛ فقد أعذر الله إليه في الأجل، وجاز من الزمن2، فليقبل بكليته على جمع زاده، وتهيئة3 آلات السفر، وليعتقد أن كل يومٍ يحيا فيه غنيمة4 ما هي في الحساب، خصوصًا إذا قوي عليه الضعف وزاد، فإنه لا محرك كهو5. وكلما علت سنه، فينبغي أن يزيد اجتهاده. 883- فإذا دخل في عشر الثمانين، ليس إلا الوداع، وما بقي من العمر إلا أسف على تفريط، أو تعبد على ضعف. نسأل الله عز وجل يقظة تامة، تصرف عنا رقاد الغفلات، وعملًا صالحًا نأمن معه من الندم يوم الانتقال. والله الموفق.   1 العيار: الوزن أو الكيل. 2 مضى من العمر أكثره. 3 في الأصل: تهييئ. 4 في الأصل: لغنيمة. 5 أي: كالضعف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 190- فصل: على العاقل أن يكف عن التطلع إلى ما لا يطيق . 884- ما نهى السلف عن الخوض في الكلام إلا لأمر عظيم، وهو أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 الإنسان يريد أن ينظر ما لا يقوى عليه بصره، فربما تحير، فخرج إلى الحجب. لأنا إذا نظرنا في ذات الخالق، حار العقل، وبهت الحس؛ لأنه لا يعرف شيئًا لا بداية له! [و] لا يعلم إلا الجسم والجوهر والعرض، فإثبات ما يخرج عن ذاك لا يفهمه. وإن نظرنا في أفعاله، رأيناه يحكم البناء ثم ينقضه! ولا نطلع على تلك الحكمة، فالأولى للعاقل أن يكف التطلع إلى ما لا يطيق النظر إليه. ومتى قام العقل، فنظر في دليل وجود الخالق بمصنوعاته، وأجاز بعثة نبي، واستدل بمعجزاته، كفاه ذلك أن يتعرض لما قد أغني عنه. وإذا قال: القرآن كلام الله تعالى، بدليل قوته: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] ، كفاه. 885- وأما من تحذلق فقال: التلاوة هي المتلو أو غير المتلو، والقراءة هي المقروء أو غير المقروء، فيضيع الزمان في غير تحصيل، والمقصود العمل بما فهم. 886- وقد حكي أن ملكًا كتب إلى عماله في البلدان: إني قادم عليكم، فاعملوا كذا وكذا! ففعلوا، إلا واحدًا منهم، فإنه قعد يتفكر في الكتاب، فيقول: أترى كتبه بمداد أو بحبر؟! أترى كتبه قائمًا أو قاعدًا؟! فما زال يتفكر حتى قدم الملك، ولم يعمل مما أمره به شيئًا! فأحسن جوائز الكل، وقتل هذا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 191- فصل: لذة العاقل ولذة الجاهل . 887 لقد غفل طلاب الدنيا عن اللذة فيها، وما اللذة فيها، [إلا] شرف العلم، وزهرة العفة، وأنفة الحمية، وعز القناعة، وحلاوة الإفضال على الخلق. 888- فأما الالتذاذ بالمطعم والمنكح، فشغل جاهل باللذة؛ لأن ذاك لا يراد لنسفه، بل لإقامة العوض في البدن والولد. وأي لذة في النكاح، وهي قبل المباشرة لا تحصل، وفي حال المباشرة قلق لا يثبت، وعند انقضائها كأن لم تكن، ثم تثمر الضعف في البدن؟! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 وأي لذةٍ في جمع المال فضلًا عن الحاجة؛ فإنه مستعبد للخازن، يبيت حذرًا عليه، ويدعوه قليله إلى كثيره! وأي لذة في المطعم، وعند الجوع يستوي خشنه وحسنه، فإذا ازاداد الأكل، خاطر بنفسه؟! 889- قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: بنيت الفتنة على ثلاث: النساء، وهن فخ إبليس المنصوب، والشراب، وهو سيفه المرهف، والدينار والدرهم، وهما سهماه المسمومان. فمن مال إلى النساء، لم يصف له عيش، ومن أحب الشراب، لم يمتع بعقله، ومن أحب الدينار والدرهم، كان عبدًا لهما ما عاش. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 192- فصل: أصل كل محنة قياس صفات الخالق على صفات المخلوقين 890- أصل كل محنة في العقائد قياس أمر الخالق على أحوال الخلق؛ فإن الفلاسفة لما رأوا إيجاد شيء لا من شيء، كالمستحيل في العادات، قالوا بقدم العالم! ولما عظم عندهم في العادة الإحاطة بكل شيء، قالوا: إنه يعلم الجمل لا التفاصيل! ولما رأوا تلف الأبدان بالبلاء، أنكروا إعادتها، وقالوا: الإعادة رجوع الأرواح إلى معادنها! 891- وكل من قاس صفة الخالق على صفات المخلوقين، خرج إلى الكفر، فإن المجسمة دخلوا في ذلك؛ لأنهم حملوا أوصافه على ما يعقلون. وكذلك تدبيره عز وجل، فإن من حمله على ما يعقل في العادات، رأى ذبح الحيوان لا يستحسن، والأمراض تستقبح، وقسمة الغني للأبله، والفقر لجلد العاقل أمرًا ينافي الحكمة. 892- وهذا في الأوضاع بين الخلق، فأما الخالق سبحانه، فإن العقل لا ينتهي إلى حكمته. بلى، قد ثبت عنده وجوده، وملكه، وحكمته، فتعرضه بالتفاصيل على ما تجري به عادات الخلق جهل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 ألا ترى إلى أول المعترضين -وهو إبليس- كيف ناظر فقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} [الأعراف: 12] ؟! وقول خليفته - وهو أبو العلاء المعري1: ...................................... ... رأى منك ما لا يشتهي فَتَزَنْدَقَا ونسأل الله عز وجل توفيقًا للتسليم، وتسليمًا للحكيم، {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران: 8] . أترى نقدر على تعليل أفعاله فضلًا عن مطالعة ذاته؟! وكيف نقيس أمره على أحوالنا؟! فإذا رأينا نبينا صلى الله عليه وسلم يسأل في أمه2 وعمه3، فلا يقبل منه، ويتقلب جائعًا، والدنيا ملك يده، ويقتل أصحابه، والنصر بيد خالقه، أوليس هذا مما يحير؟! فما لنا والاعتراض على مالك قد ثبتت حكمته واستقر ملكه؟!   1 أحمد بن عبد الله بن سليمان التنوخي "363-449هـ": شاعر فيلسوف موسوعي المعرفة، عجيب الحفظ، ولد ومات في المعرة في بلاد الشام. 2 عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن الله" رواه مسلم "976". 3 عن المسيب بن حزن: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما توفي عمه أبو طالب: "أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك"، ونزل قوله عز وجل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة: 113] ، رواه البخاري "1360، ومسلم 24". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 193- فصل: كل نفيس يكثر التعب في تحصيله 893- تأملت عجبًا، وهو أن كل شيء نفيس خطير يطول طريقه، ويكثر التعب في تحصيله. فإن العلم لما كان أشرف الأشياء، لم يحصل إلا بالتعب والسهر والتكرار، وهجر اللذات والراحة، حتى قال بعض الفقهاء: بقيت سنين أشتهي الهريسة1 لا أقدر؛ لأن وقت بيعها وقت سماع الدرس! ونحو هذا تحصيل المال، فإنه يحتاج إلى المخاطرات والأسفار والتعب الكثير. وكذلك نيل الشرف بالكرم والجود، فإنه يفتقر إلى جهاد النفس في بذل   1 قمح مهروس يسلق مع اللحم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 المحبوب، وربما آل إلى الفقر. وكذلك الشجاعة؛ فإنها لا تحصل إلا بالمخاطرة بالنفس. قال الشاعر1: لولا المشقة ساد الناس كلهم ... الجود يفقر والإقدام قَتَّالُ 894- ومن هذا الفن تحصيل الثواب في الآخرة؛ فإنه يزيد على قوة الاجتهاد والتعبد، أو على قدر وقع المبذول من المال في النفس، أو على قدر الصبر على فقد المحبوب، ومنع النفس من الجزع. وكذلك الزهد، يحتاج إلى صبر عن الهوى. والعفاف لا يكون إلا بكف كف الشره. ولولا ما عانى يوسف عليه السلام، ما قيل له: {أَيُّهَا الصِّدِّيقُ} [يوسف:46] . 895- ولله أقوام ما رضوا من الفضائل إلا بتحصيل جميعها، فهم يبالغون في كل علم، ويجتهدون في كل عمل، ويثابرون على كل فضيلة، فإذا ضعفت أبدانهم عن بعض ذلك، قامت النيات نائبة، وهم لها سابقون. وأكمل أحوالهم إعراضهم عن أعمالهم؛ فهم يحتقرونها مع التمام، ويعتذرون من التقصير. ومنهم من يزيد على هذا، فيتشاغل بالشكر على التوفيق لذلك. ومنهم من لا يرى ما عمل أصلًا؛ لأنه يرى نفسه وعمله لسيده. 896- وبالعكس من المذكور من أرباب الاجتهاد حال أهل الكسل والشره والشهوات، فلئن التذوا بعاجل الراحة، لقد أوجبت ما يزيد على كل تعب من الأسف والحسرة. ومن تلمح صبر يوسف عليه السلام، وعجلة ماعز2، بان له الفرق، وفهم الريح من الخسران! ولقد تأملت نيل الدر من البحر، فرأيته بعد معاناة الشدائد. ومن تفكر فيما ذكرته مثلًا، بانت له أمثال. 897- فالموفق من تلمح قصر الموسم المعمول فيه، وامتداد زمان الجزاء   1 أبو الطيب المتنبي، ديوانه ص "505". 2 ماعز بن مالك الأسلمي الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم تائبًا معترفًا بذنبه، فأقام عليه النبي صلى الله عليه وسلم الحد وقال: "لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم". انظر: خبره في البخاري "21-29"، ومسلم "1691-1695". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 الذي لا آخر له، فانتهب1 حتى اللحظة، وزاحم كل فضيلة، فإنها إذا فاتت، فلا وجه لاستدراكها، أوليس في الحديث: "يقال للرجل: اقرأ وارق، فمنزلك عند آخر آية تقرؤها"2؟ فلو أن الفكر عمل في هذا حق العمل، حفظ القرآن عاجلًا.   1 رواه أبو داود "1464"، والترمذي "2914"، وأحمد "2/ 192"، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه. 2 انتهب: انتهز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 194- فصل: المؤمن هو الكامل الإيمان 898- ليس المؤمن بالذي يؤدي فرائض العبادات صورة، ويتجنب المحظورات فحسب! إنما المؤمن هو الكامل الإيمان، ولا يختلج في قلبه اعتراض، ولا يساكن [نفسه] فيما يجري وسوسة، وكلما اشتد البلاء عليه، زاد إيمانه، وقوي تسليمه، وقد يدعو، فلا يرى للإجابة أثرًا، وسره لا يتغير؛ لأنه يعلم أنه مملوك، وله مالك يتصرف بمقتضى إرادته. فإن اختلج في قلبه اعتراض، خرج من مقام العبودية إلى مقام المناظرة، كما جرى لإبليس. 899- والإيمان القوي يبين أثره عند قوة البلاء؛ فأما إذا رأينا مثل يحيى بن زكريا، تسلط عليه فاجر، فيأمر بذبحه، فيذبح! وربما اختلج في الطبع أن يقول: فَهَلَّا رد عنه من جعله نبيًا؟! وكذلك كل تسلط من الكفار على الأنبياء والمؤمنين، وما وقع رد عنهم! فإن هجس بالفكر أن القدرة تعجز عن الرد عنهم، كان ذلك كفرًا. وإن علم أن القدرة متمكنة من الرد، وما ردت، ويجوع المؤمنين، ويشبع الكفار، ويعافي العصاة، ويمرض المتقين، لم يبق إلا التسليم للمالك، وإن أمض1 وأرمض2. 900- وقد ذهب يوسف بن يعقوب عليه السلام، فبكى يعقوب ثمانين سنة، ثم لم ييأس، فلما ذهب ابنه الآخر، قال: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا} [يوسف: 83] .   1 أمض: آلم وأوجع. 2 أرمض: أحرق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 وقد دعا موسى عليه السلام على فرعون، فأجيب بعد أربعين سنة، وكان يذبح الأنبياء، ولا ترده القدرة القديمة العظيمة، وصلب السحرة، وقطع أيديهم. 901- وكم من بلية نزلت بمعظم القدر، فما زاده ذلك إلا تسليمًا ورضًا! فهناك يبين معنى قوله: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} [البينة:8] ، وها هنا يظهر قدر قوة الإيمان لا في ركعات. قال الحسن البصري: استوى الناس في العافية، فإذا نزل البلاء، تباينوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 195- فصل: أضر ما على العوام المتكلّمون 902- أضر ما على العوام المتكلمون ، فإنهم يخلطون عقائدهم بما يسمعونه منهم. من أقبح الأشياء أن يحضر العامي -الذي لا يعرف أركان الصلاة، ولا الربا في البيع- مجلس الوعظ، فلا ينهاه عن التواني في الصلاة، ولا يعلمه الخلاص من الربا، بل يقول له: القرآن قائم بالذات! والذي عندنا مخلوق!! فيهون القرآن عند ذلك العامي، فيحلف به على الكذب. 903- ويح المتكلم! لو كان له فهم، لعلم أن الله سبحانه وتعالى نصب أعلامًا1 تأنس بها النفوس، وتطمئن إليها، كالكعبة وسماها بيته، والعرش وذكر استواءه عليه، وذكر عن صفاته اليد، والسمع، والبصر، والعين، وينزل إلى السماء الدنيا، ويضحك، وكل هذا لتأنس النفوس بالعادات، وقد جل عما تضمنته هذه الصفات من الجوارح. وكذلك عظم أمر القرآن، ونهى المحدث أن يمس المصحف، قال الأمر بقوم من المتكلمين إلى أن أجازوا الاستنجاء به!! فهؤلاء على معاندة الشريعة؛ لأنهم يهينون ما عظم الشرع. وهل الإيغال2 في الكلام مما يقرب إلى معرفة الحقائق، التي لا يمكن خلافها؟! هيهات! لو كان كذلك، ما وقع بين المتكلمين خلاف.   1 أعلام: علامات. 2 الإيغال: التعمق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 904- أوليس السرب الأول ما تكلموا في شيء من هذا، وإن كانوا تعرضوا ببعض الأصول؟! ثم جاء فقهاء الأمصار، فنهوا عن الخوض في الكلام، لعلمهم ما يجلب وما يجتنب! ومن لم يقنع بعقيدةٍ مثل "عقيدة" الصحابة، ولا بطريق مثل طريق أحمد والشافعي في ترك الخوض، فلا كان من كان. 905- ثم بالله تأملوا، أليس قد وجب علينا هجر الربا بقوله تعالى: {لا تَأْكُلُوا الرِّبا} [ال عمران: 130] ، وهجر الزنا بقوله: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء 32] ؟! فأي فائدة لنا في ذكر قراءة ومقروء، وتلاوة ومتلو، وقديم ومحدث؟! فإن قيل: فلا بد من اعتقاده. قلنا: طريق السلف أوضح محجة؛ لأنا لا نقوله تقليدًا؛ بل بالدليل، ولكنا لم نستفده عن جوهر وعرض، وجزء لا يتجزأ، بل بأدلة النقل مع مساعدة العقل، من غير بحث عما لا يحتاج إليه. وليس هذا مكان الشرح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 الأجساد إلى البلى والأوراح إلى راحة ... 196- فصل: الأجساد إلى البلى والأرواح إلى راحة 906- ما زلت على عادة الخلق في الحزن على من يموت من الأهل والأولاد، ولا أتخايل إلا بلى1 الأبدان في القبور، فأحزن لذلك. فمرت بي أحاديث قد كانت تمر بي، ولا أتفكر فيها، منها قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما نفس المؤمن طائر تعلق في شجر الجنة، حتى يرده الله عز وجل إلى جسده يوم يبعثه". فرأيت أن الرحيل إلى الراحة، وأن هذا البدن ليس بشيء؛ لأنه مركب تفكك وفسد، وسيبنى جديدًا يوم البعث، فلا ينبغي أن يتفكر في بلاه، ولتسكن النفس إلى أن الأرواح انتقلت إلى راحة، فلا يبقى كبير حزن، وأن اللقاء للأحباب عن قرب. وإنما يبقى الأسف لتعلق الخلق بالصور، فلا يرى الإنسان إلا جسدًا مستحسنًا قد نقض، فيحزن لنقضه.   1 تفسّخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 907- والجسد ليس هو الآدمي؛ وإنما هو مركبه، فالأرواح لا ينالها البلى، والأبدان ليست بشيء. واعتبر هذا بما إذا قلعت ضرسك، ورميته في حفرة، فهل عندك خبر مما يلقى في مدة حياتك؟! فحكم الأبدان حكم ذلك الضرس، لا تدري النفس ما يلقى. ولا ينبغي أن تغتم بتمزيق جسد المحبوب وبلاه، واذكر تنعم الأرواح وقرب التجديد، وعاجل اللقاء؛ فإن الفكر في تحقيق هذا يهون الحزن، ويسهل الأمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 197- فصل: حفظ اللسان 908- ينبغي للعاقل ألا يتكلم في الخلوة عن أحد بشيء، حتى يمثل ذلك الشيء ظاهرًا معلنًا به، ثم ينظر فيما يجني! فرب رجل وثق بصديق، فتكلم أمامه عن سلطان بأمر، فبلغه، فأهلكه. أو عن صديق، فبلغه، فوقعت الواقعة. 909- وكذلك ينبغي كتم المذاهب، فإنه ما يربح مظهرها إلا المعاداة. ولما صرح الشريف أبو جعفر1 في زمان المقتدي2 بمخالفة الأشاعرة3، أخذ، وحبس حتى مات، وكان المقصود قطع الفتن، وإصلاح الرعية، فإنه أهم إلى السلطان من التعصب لمذهب.   1 عبد الخالق بن أبي موسى الهاشمي العباسي، أكبر تلامذة أبي يعلى الفراء "411-470هـ". 2 أبو القاسم عبيد الله بن ذخيرة الله بن محمد القائم "447-487هـ": الخليفة العباسي، كان حسن السيرة، وافر الحرمة، فيه ديانة ونجابة. 3 أتباع أبي الحسن الأشعري. وهم لم يلتزموا بما آل إليه اعتقاده في كتاب الإبانة الذي هو آخر كتبه، بل أخذوا منهج المعتزلة وإن خالفوهم في كثير من النتائج؛ لكن ذلك أدى إلى تسرب كثير من آراء المعتزلة والفلاسفة إلى المذهب الأشعري فعند عبد القاهر البغدادي وهو من متقدمي الأشاعرة أن تأويل الاستواء بالاستيلاء هو رأي المعتزلة، وهو رأي مرذول كما صرح بذلك في كتابه أصول الدين، أما عند متأخري الأشاعرة فأصبح تأويل الاستواء بالاستيلاء هو أحد قوليهم وربما رجحوه! انظر: شرح جوهرة التوحيد للباجوري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 198- فصل: حكمة الله أوفى من كل حكيم 910- رأيت كثيرًا من المغفلين يظهر عليهم السخط بالأقدار، وفيهم من قل إيمانه، فأخذ يعترض! وفيهم من خرج إلى الكفر، ورأى أن ما يجري كالعبث، وقال: ما فائدة الإعدام بعد الإيجاد، والابتلاء ممن هو غني عن أذانا؟! فقلت لبعض من كان يرمز إلى هذا: إن حضر عقلك وقلبك، حدثتك، وإن كنت تتكلم بمجرد واقعك، من غير نظر وإنصاف، فالحديث معك ضائع. ويحك! أحضر عقلك! واسمع ما أقول: أليس قد ثبت أن الحق سبحانه مالك، وللمالك أن يتصرف كيف يشاء؟! أليس قد ثبت أنه حكيم، والحكيم لا يعبث؟! وأنا أعلم أن في نفسك من هذه الكلمة شيئًا، فإنه قد سمعنا عن جالينوس1 أنه قال: ما أدري، أحكيم هو أم لا؟! والسبب في قوله هذا؟ أنه رأى نقضًا بعد إحكام، فقاس الحال على أحوال الخلق، وهو أن من بنى ثم نقض لا لمعنى؛ فليس بحكيم. وجوابه -لو كان حاضرًا- أن يقال: بماذا بان لك أن النقض ليس بحكمة؟ أليس بعقلك الذي وهبه الصانع لك؟ وكيف يهب لك الذهن الكامل، ويفوته هو الكمال؟! 911- وهذه هي المحنة التي جرت لإبليس، فإنه أخذ يعيب الحكمة بعقله، فلو تفكر، علم أن واهب العقل أعلى من العقل، وأن حكمته أو فى من كل حكيم؛ لأنه بحكمته التامة أنشأ العقول. فهذا إذا تأمله المنصف، زال عنه الشك، وقد أشار سبحانه إلى نحو هذا في قوله تعالى: {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ} [الطور: 39] ، أي: أجعل لنفسه الناقصات، وأعطاكم الكاملين؟! فلم يبق إلا أن نضيف العجز عن فهم ما يجري إلى نفسنا، ونقول: هذا فعل عالم حكيم، ولكن ما يبين لنا معناه. 912- وليس هذا بعجب، فإن موسى عليه السلام خفي عليه وجه الحكمة في نقض   1 كلاوديوس جالينوس "130-201م": أعظم الأطباء في تاريخ الطب من أصل يوناني، أقام في روما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 السفينة الصحيحة، وقتل الغلام الجميل، فلما بين له الخضر وجه الحكمة، أذعن. فلنكن مع الخالق كموسى مع الخضر. 913- أولسنا نرى المائدة المستحسنة بما عليها من فنون الطعام النظيف الظريف يقطع ويمضغ، "ويصير إلى ما نعلم"، ولسنا نملك ترك تلك الأفعال، ولا تنكر الإفساد له، لعلمنا بالمصلحة الباطنة فيه. فما المانع أن يكون فعل الحق سبحانه له باطن لا نعلمه؟! 914- ومن أجهل الجهال العبد المملوك إذا طلب أن يطلع على سر مولاه، فإن فرضه التسليم لا الاعتراض. ولو لم يكن في الابتلاء بما تنكره الطباع إلا أن يقصد إذعان العقل وتسليمه، لكفى. 915- ولقد تأملت حالة عجيبة، يجوز أن يكون المقصود بالموت هي، وذلك أن الخالق سبحانه في غيب لا يدركه الإحساس، فلو أنه لم ينقض هذه البينة، لتخايل للإنسان أنه صنع لا بصانع، فإذا وقع الموت، عرفت النفس نفسها، التي كانت لا تعرفها، لكونها في الجسد، وتدرك عجائب الأور بعد رحيلها، فإذا ردت إلى البدن، عرفت ضرورة أنها مخلوقة لمن أعادها، وتذكرت حالها في الدنيا -فإن الأفكار تعاد كما تعاد الأبدان-، فيقول قائلهم: {قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} [الطور: 26] ، ومتى رأت ما قد وعدت به من أمور الآخرة، أيقنت يقينًا لا شك معه -ولا يحصل هذا بإعادة ميت سواها؛ وإنما يحصل برؤية هذا الأمر فيها-، فتبنى بنية تقبل البقاء، وتسكن جنة لا ينقضي دوامها، فيصلح بذلك اليقين أن تجاور الحق؛ لأنها آمنت بما وعد، وصبرت بما ابتلى، وسلمت لأقداره، فلم تعترض، ورأت في غيرها العبر، ثم في نفسها، فهذه هي التي يقال لها: {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} [الفجر] . 916- فأما الشاك والكافر، فيحق لهما الدخول إلى النار، واللبث فيها؛ لأنهما رأيا الأدلة، ولم يستفيدَا، ونازعا الحكيم، واعترضا عليه، فعاد شؤم كفرهما يطمس قلوبهما، فبقيت على ما كانت عليه، فلما لم تنتفع بالدليل في الدنيا، لم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 تنتفع بالموت والإعادة، ودليل بقاء الخبث في القلوب قوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: 28] . فنسأل الله -عز وجل- عقلًا مسلمًا، يقف على حده، ولا يعترض على خالقه وموجده، ثم الويل للمعترض! أيرد اعتراضه الأقدار؟! فما يستفيد إلا الخزي! نعوذ بالله ممن خذل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 199- فصل : على المؤمن التصبّر مهما أمكن 917- لا ينبغي للمؤمن أن ينزعج من مرض أو نزول موت، وإن كان الطبع لا يملك، إلا أنه ينبغي له التصبر مهما أمكن: ما لطلب الأجر بما يعاني، أو لبيان أثر الرضا بالقضاء، وما هي إلا لحظات ثم تنقضي. 918- وليتفكر المعافى من المرض في الساعات التي كان يقلق فيها: أين هي في زمان العافية؟! ذهب البلاء، وحصل الثواب، كما تذهب حلاوة اللذات المحرمة، ويبقى الوزر، ويمضي زمان التسخط بالأقدار، ويبقى العتاب. وهل الموت إلا آلام تزيد، فتعجز النفس عن حملها، فتذهب؟! فليتصور المريض وجود الراحة بعد رحيل النفس، وقد هان ما يلقى، كما يتصور العافية بعد شرب الشربة المرة. 919- ولا ينبغي أن يقع جزع بذكر البلى، فإن ذلك شأن المركب1، أما الراكب2، ففي الجنة أو النار، وإنما ينبغي أن يقع الاهتمام الكلي بما يزيد في درجات الفضائل، قبل نزول المعوق عنها، فالسعيد من وفق لاغتنام العافية، ثم يختار تحصيل الأفضل فالأفضل في زمن الاغتنام. 920- وليعلم أن زيادة المنازل في الجنة على قدر التزيد من الفضائل هاهنا، والعمر قصير، والفضائل كثيرة، فليبالغ في البدار، فيا طول راحة التعب! ويا فرحة المغموم! ويا سرور المحزون! ومتى تخايل دوام اللذة في الجنة من غير منغص ولا قاطع، هان عليه كل بلاء وشدة.   1 المركب: الجسد. 2 الراكب: الروح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 200- فصل: الغفلة المحمودة والغفلة المذمومة . 921- حضرنا يومًا جنازة شاب مات أحسن ما كانت الدنيا له، فرأيت من ذم الناس للدنيا، وعيب من سكن إليها، والتقبيح للغافلين عن الاستعداد لهذا المصرع أمرًا كبيرًا من الحاضرين، فقلت: نعم ما قلتم، ولكن اسمعوا مني ما لم تسمعوه: أعجب الأشياء أن العاقل إذا علم قرب هذا المصرع منه، أوجب عليه عقله البدار بالعمل، والقلق من الخوف. وقد اشتد ذلك بأقوام، فهاموا في البراري، وطووا الأيام بالمجاعة، وداموا على سهر الليل، ولازموا المقابر، فهلكوا سريعًا، ولعمري، إن ما خافوه يستحق أكثر من هذا الفعل. ولكن نرى العقل الذي أوجب هذا القلق، قد أمر بما يوجب السكون، فقال: إنما خلق هذا البدن ليحمل النفس، كما تحمل الناقة الراكب، ولا بد من التلطف بالناقة، ليحصل المقصود من السير. ولا يحسن في العقل دوام السهر، وطول القلق؛ لأنه يؤثر في البدن، فيفوت أكثر المقصود. كيف وقد خلق بدن الآدمي خلقًا لطيفًا، فإذا هجر الدسم، نشف الدماغ، وإذا دام على السهر، قوي اليبس، وإذا لازم الحزن، مرض القلب؟! فلا بد من التلطف بالبدن، بتناول ما يصلحه، وبالقلب، بما يدفع الحزن المؤذي له؛ وإلا فمتى دام المؤذي، عجل التلف. ثم يأتي الشرع بما قد قاله العقل: فيقول: "إن لنفسك عليك حقًّا، وإن لزوجك عليك حقًّا، فصم وأفطر، وقم ونم". ويقول: "كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يفوت". ويحث على النكاح1. 922- ودوام القلق واليبس يترك الزوجة كالأرملة، والولد كاليتيم، ولا وجه للتشاغل بالعلم مع هذا القلق. ومن أراد مصداق ما قلته، فيلتأمل حالة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه كان يعدل ما عنده من الخوف فيمازح، ويسابق عائشة، ويكثر من التزوج، وكان   1 قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ... " الحديث رواه البخاري "5066"، ومسلم "140"، عن ابن مسعود رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 يتلطف ببدنه، فيختار الماء البائت1، ويحب الحلوى واللحم. 923- ولولا مساكنة نوع غفلة، لما صنف العلماء، ولا حفظ العلم، ولا كتب الحديث؛ لأن من يقول: ربما مت اليوم، كيف يكتب؟ وكيف يسمع ويصنف؟! فلا يهولنكم ما ترون من غفلة الناس عن الموت، وعدم ذكره حق ذكره؛ فإنها نعمة من الله سبحانه، بها تقوم الدنيا ويصلح الدين. 924- وإنما تذم قوة الغفلة الموجبة للتفريط، وإهمال المحاسبة للنفس، وتضييع الزمان في غير التزود، وربما قويت فحملت على المعاصي. فأما إذا كانت بقدر، كانت كالملح في الطعام، لا بد منه، فإن كثر؛ صار الطعام زعاقًا2. فالغفلة تمدح إذا كانت بقدر كما بينا، ومتى زادت، وقع الذم. فافهم ما قلته، ولا تقل: فلان شديد اليقظة ما ينال الليل، وفلان غافل ينام أكثر الليل، فإن غفلة توجب مصلحة البدن والقلب لا تذم والسلام.   1 كانوا يبيتون الماء في العراء ليبرد. 2 الزعاق: شديد الملوحة، في الأصل: زعافًا، وهو تصحيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 201- فصل: من راءى الخلق عبدهم وهو لا يعلم 925- ما يكاد يحب الاجتماع بالناس إلا فارغ؛ لأن المشغول القلب بالحق يفر من الخلق، ومتى تمكن فراغ القلب من معرفة الحق، امتلأ بالخلق، فصار يعمل لهم، ومن أجلهم، ويهلك بالرياء، ولا يعلم. 926- وإني لأتامل بعض3 من يتزيا بالفقر والتصوف، وهو يلبس ثيابًا لا تساوي دينارًا، وعنده المال الكثير، وقد أمرح4 نفسه في المطاعم الشهية، وهو عامل بمقتضى الكبر والتصدر، فيتقرب إلى أرباب الدنيا، ويستزري أرباب العلم، ويزور أولئك دونهم؛ وإنما يرد ما يعطى ليشيع له اسم زاهدٍ، فتراه يربي الناموس، وهو في احتياله كثعلب، وفي نهوضه إلى أغراضه في الباطن كلب شري. فأقول:   3 في الأصل: زيادة "على" قبل كلمة "بعض"، ولا وجه لها. 4 كذا في الأصل، ولعلها: أمرع، أي: أشبع. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 سبحان الله! ما يزهد إلا الثياب! أترى ما سمع قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده"1؟! 927- وأعوذ بالله من رؤية النفس ورؤية الخلق: فإن من رأى نفسه، تكبر، والمتكبر أحمق؛ لأنه ما من شيء يتكبر به إلا ولغيره أكثر منه. ومن راءى الخلق، عبدهم وهو لا يعلم! 928- فأما العامل لله سبحانة وتعالى، فهو بعيد من الخلق؛ فإن تقربوا إليه، ستر حاله بما يوجب بعدهم عنه. 929- وقد رأينا من يرائي ولا يدري، فيمتنع من المشي في السوق، ومن زيارة الإخوان، ومن أن يشتري شيئًا بنفسه! وتوهمه نفسه أني أكره مخالطة السوقة!! وإنما هذا يربي جاهًا بين العلماء، إذ لو خالطهم، لامتُحِي جاهه، وبطل تقبيل يده! 930- وقد كان بشر الحافي يجلس في مجلس عند العطار، وأبلغ من هذا كله أن نبينا صلى الله عليه وسلم كان يشتري حاجته ويحملها. وخرج علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو أمير المؤمنين إلى السوق، فاشترى ثوبًا. 931- وقد كان طلحة بن مصرف قارئ أهل الكوفة؛ فلما كثر الناس عليه، مشى إلى الأعمش2، فقرأ عليه، فمال الناس إلى الأعمش، وتركوا طلحة3. هذا والله الكبريت الأحمر 4 والإكسير5، لا ما يظن إكسيرًا في الكيمياء. والمعاملة مع الله تعالى هكذا تكون.   1 رواه الترمذي "2819"، والحاكم "4/ 135"، وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. 2 طلحه بن مصرف: أبو محمد اليامي الإمام، الحافظ المقرئ، توفي سنة "112 هـ". وقد تصحف في الأصل إلى مطرف. 3 سليمان بن مهران الكوفي: الإمام شيخ المحدثين والمقرئين "61-148هـ". 4 الكبريت الأحمر يضرب بندرته المثل. 5 الإكسير: شراب زعم الأقدمون أنه يطيل الأعمار، وأطلق أيضًا على حجر تعالج به المعادن الخسيسة فتتحول إلى ذهب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 932- فأما ضد هذه الحال، فحالة عابد لخلق ملبس. وقد عم هذا جمهور الخلق، حاشا السلف. أفدي ظباء فلاة ما عرفن بها ... مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 202- فصل: كل المعاصي قبيحة 933- كل المعاصي قبيحة، وبعضها أقبح من بعض: فإن الزنا من أقبح الذنوب، فإنه يفسد الفرش، ويغير الأنساب. وهو بالجارة أقبح: فقد روي في الصحيحين1 من حديث ابن مسعود، قال: قلت: يا رسول الله! أي ذنب أعظم؟ قال: "أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك". قلت: ثم أي؟ قال: "أن تقتل ولدك من أجل أن يطعم معك". قلت: ثم أي؟ قال: "أن تزاني حليلة جارك". وقد روى البخاري في تاريخه من حديث المقداد بن الأسود عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: "لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر من أن يزني بامرأة جاره؛ ولأن يسرق من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من بيت جاره" 2. وإنما كان هذا؛ لأنه يضم إلى معصية الله عز وجل انتهاك حق الجار. 934- ومن أقبح الذنوب أن يزني الشيخ، ففي الحديث: "إن الله يبغض الشيخ الزاني" 3؛ لأن شهوة الطبع قد ماتت، وليس فيها قوة تغلب، فهو يحركها ويبالغ، فكانت معصيته عنادًا. 935- ومن المعاصي التي تشبه المعاندة لبس الرجل الحرير والذهب، خصوصًا خاتم الذهب، الذي يتحلى به الشيخ، وإنه من أبرد الأفعال، وأقبح الخطايا. 936- ومن هذا الفن الرياء والتخاشع، وإظهار التزهد للخلق؛ فإنه كالعبادة   1 البخاري "4761"، ومسلم "86". 2 رواه أحمد "816"، والبخاري في الأدب المفرد "103"، والطبراني "20/ 256/ 605"، قال المنذري: رواته ثقات، وكذلك قال الهيثمي. 3 رواه النسائي "2575"، وابن حبان "5558"، والقضاعي "324" عن أبي هريرة رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 لهم، مع إهمال جانب الحق عز وجل، وكذلك المعاملة بالربا الصريح، خصوصًا من الغني الكثير المال. 937- ومن أقبح الأشياء أن يطول المرض بالشيخ الكبير، ولا يتوب من ذنب، ولا يعتذر من زلة، ولا يقضي دينًا، ولا يوصي بإخراج حق عليه! 938- ومن قبائح الذنوب أن يتوب السارق أو الظالم ولا يرد المظالم. والمفرط في الزكاة، أو في الصلاة، ولا يقضي. 939- ومن أقبحها أن يحنث في يمين طلاقه، ثم يقيم مع المرأة! وقس على ما ذكرته، فالمعاصي كثيرة، وأقبحها لا يخفى، وهذه المستقبحات -فضلًا عن القبائح- تشبه العناد للآمر، فيستحق صاحبها اللعن، ودوام العقوبة. 940- وإني لأرى شرب الخمر من ذلك الجنس؛ لأنها ليست مشتهاة لذاتها، ولا لريحها، ولا لطعمها -فيما يذكر-، إنما لذتها -فيما يقال- بعد تجرع مرارتها، فالإقدام على ما لا يدعو إليه الطبع -إلى أن يصل التناول إلى اللذة- معاندة. نسأل الله عز وجل إيمانًا يحتجز بيننا وبين مخالفته، وتوفيقًا لما يرضيه؛ فإنما نحن به وله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 203- فصل: التحذير من الإعجاب بالنفس 941- اعتبرت على أكثر العلماء والزهاد أنهم يبطنون الكبر، فهذا ينظر في موضعه، وارتفاع غيره عليه، وهذا لا يعود مريضًا فقيرًا، يرى نفسه خيرًا منه. حتى إني رأيت جماعة يومأ1 إليهم: منهم من يقول: لا أدفن إلا في دكة أحمد بن حنبل2! ويعلم أن في ذلك كسر عظام الموتى، ثم يرى نفسه أهلًا لذلك التصدر. ومنهم من يقول: ادفنوني إلى جانب مسجدي! ظنًّا منه أنه يصير بعد موته مزارًا، كمعروف الكرخي. وهذه خلة مهلكة! ولا يعلمون!! قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من ظن أنه خير من غيره،   1 يومأ: يشار. 2 دكة أحمد بن حنبل: المكان الذي فيه قبر الإمام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 فقد تكبره" 1. وقل من رأيت إلا وهو يرى نفسه2! 942- والعجب كل العجب ممن يرى نفسه! أتراه بماذا رآها؟! إن كان بالعلم؛ فقد سبقه العلماء، وإن كان بالتعبد، فقد سبقه العباد، أو بالمال، فإن المال لا يوجب بنفسه فضيلة دينية. فإن قال: قد عرفت ما لم يعرف غيري من العلم في زمني، فما علي ممن تقدم؟ قيل له: ما نأمرك يا حافظ القرآن أن ترى نفسك في الحفظ كمن يحفظ النصف، ولا يا فقيه أن ترى نفسك في العلم كالعامي؛ إنما نحذر عليك أن ترى نفسك خيرًا من ذلك الشخص المؤمن، وإن قل علمه، فإن الخيرية بالمعاني لا بصورة العلم والعبادة. 943- ومن تلمح خصال نفسه وذنوبها؛ علم أنه على يقين من الذنوب والتقصير، وهو من حال غيره على وشك، فالذي يحذر منه الإعجاب بالنفس، ورؤية التقدم في أحوال الآخرة. 944- والمؤمن لا يزال يحتقر3 نفسه. وقد قيل لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: إن مت، ندفنك في حجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: لأن ألقى الله بكل ذنب غير الشرك أحب إلى من أن أرى نفسي أهلًا لذلك. 945- وقد روينا: أن رجلًا من الرهبان رأى في المنام قائلًا يقول له: فلان الإسكافي خير منك! فنزل من صومعته، فجاء إليه، فسأله عن عمله، فلم يذكر كبير عمل! فقيل له في المنام: عد إليه، وقل له: مم صفرة وجهك؟ فعاد، فسأله؟ فقال: ما رأيت مسلمًا إلا وظننته خيرًا مني. فقيل له: فبذاك ارتفع.   1 لم أجده. 2 أي: يعجب بها. 3 يحتقر: يستصغر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 204- فصل : الغضبان كالسكران لا يُؤاخذ بما يقول. 946- متى رأيت صاحبك قد غضب، وأخذ يتكلم بما لا يصلح، فلا ينبغي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 أن تعقد على ما يقوله خنصرًا1، ولا أن تؤاخذه به، فإن حاله حال السكران، لا يدري ما يجري. بل اصبر لفورته، ولا تعول عليها؛ فإن الشيطان قد غلبه، والطبع قد هاج، والعقل قد استتر2. 947- ومتى أخذت في نفسك عليه، أو أجبته بمقتضى فعله، كنت كعاقل واجه مجنونًا، أو كمفيق عاتب مغمى عليه، فالذنب لك. بل انظر بعين الرحمة، وتلمح تصريف القدر له، وتفرج في لعب الطبع به، واعلم أنه إذا انتبه، ندم على ما جرى، وعرف لك فضل الصبر. وأقل الأقسام أن تسلمه فيما يفعل في غضبه إلى ما يستريح به. 948- وهذه الحالة ينبغي أن يتلمحها الولد عند غضب الوالد، والزوجة عند غضب الزوج، فتتركه يشتفي بما يقول، ولا تعول على ذلك، فسيعود نادمًا معتذرًا. ومتى قوبل على حالته ومقالته؛ صارت العداوة متمكنة، وجازى في الإفاقة على ما فعل في حقه وقت السكر. 949- وأكثر الناس على غير هذه الطريق: متى رأوا غضبان، قابلوه بما يقول ويعمل، وهذا على غير مقتضى الحكمة، بل الحكمة ما ذكرته، {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43] .   1 أي: لا يعتد بكلامه. 2 ومن هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان"، رواه البخاري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 205- فصل : لا ينبغي أن تعادي أحدًا. 950- ليس في الدنيا أبله ممن يسيء إلى شخصٍ، ويعلم أنه قد بلغ إلى قلبه بالأذى، ثم يصطلحان في الظاهر، فيعلم أن ذلك الأثر محي بالصلح! وخصوصًا الملوك، فإن لذتهم الكبرى ألا يرفتع عليهم أحد، ولا ينكسر لهم غرض، فإذا جرى شيء من ذلك، لم ينجبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 951- واعتبر هذا بأبي مسلم الخراساني، فإنه غض من قدر المنصور1 قبل ولايته، فحمل ذلك في نفسه، فقتله. ومن نظر في التواريخ، رأى جماعة قد جرى لهم مثل هذا. 952- ولا ينبغي لمن أساء إلى ذي سلطان أن يقع في يده، فإنه إذا رام التخلص، لم يقدر، فيبقى ندمه على ترك احترازه، وحسرته على مساكنة الضمان للسلامة أشد عليه من كل ما يلقى به من الهوان والأذى. 953- ومن هذا الجنس الأصدقاء المتماثلون؛ فإنك متى آذيت شخصًا، وبلغ إلى قلبه أذاك، فلا تثق بمودته، فإن أذاك نصب عينه، فإن لم يحتل عليك، لم يصف لك. 954- ولا تخالط إلا من أنعمت عليه فحسب، فهو لم ير منك إلا خيرًا، فيكون في نفسه. وكذلك الولد والزوجة والمعاملون. 955- ويلحق بهذا أن أقول: لا ينبغي أن تعادي أحدًا ولا تتكلم في حقه، فربما صارت له دولة فاشتفى، وربما احتيج إليه فلم يقدر عليه. فالعاقل يصور في نفسه كل ممكن، ويستر ما في قلبه من البغض والود، ويداري مع الغيظ والحقد. هذه مشاورة العقل إن قبلت.   1 أبو جعفر، عبد الله بن محمد الهاشمي، الخليفة العباسي الثاني، وفحل بني العباس شجاعةً وهيبةً ودهاءً ورأيًا وحزمًا "95-158هـ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 206- فصل : كامل العقل من يتلمَّح العواقب. 956- كل من لا يتلمح العواقب، ولا يستعد لما يجوز وقوعه؛ فليس بكامل العقل! واعتبر هذا في جميع الأحوال! مثل أن يغتر بشبابه، ويدوم على المعاصي، ويسوف بالتوبة، فربما أخذ بغتة، ولم يبلغ بعض ما أمل. وكذلك إذا سوف بالعمل، أو بحفظ العلم، فإن الزمان ينقضي بالتسويف، ويفوت المقصود. وربما عزم على فعل خير، أو وقف شيء من ماله، فسوف، فبغت2.   2 انظر: كتاب "الحيل النفسية" للأستاذ نهاد درويش، ط. دار الفتح بدمشق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 فالعاقل من أخذ بالحزم في تصوير ما يجوز وقوعه، وعمل بمقتضى ذلك؛ فإن امتد الأجل، لم يضره، وإن وقع المخوف، كان محترزًا. 957- ومما يتعلق بالدنيا: أن يميل مع السلطان، ويسيء إلى بعض حواشيه، ثقة بقربه منه، فربما تغير ذلك السلطان، فارتفع عدوه، فانتقم منه. وقد يعادي بعض الأصدقاء، ولا يبالي به؛ لأنه دونه في الحالة الحاضرة، فربما صعدت مرتبة ذلك، فاستوفى ما أسلفه إليه من القبيح وزاد. فالعاقل من نظر فيما يجوز وقوعه، ولم يعاد أحدًا: فإن كان بينهما ما يوجب المعاداة، كتم ذلك، فإن صح له أن يثب على عدوه، فينتقم منه انتقامًا يبيحه الشرع؛ جاز؛ على أن العفو أصلح في باب العيش. ولهذا ينبغي أن يخدم البطال، فإنه ربما عمل، فعرف ذلك لمن خدم، وقس على أنموذج ما ذكرته من جميع الأحوال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 207- فصل: بقدر صعود الإنسان في الدنيا تنزل مرتبته في الآخرة 958- بقدر صعود الإنسان في الدنيا تنزل مرتبته في الآخرة. وقد صرح بهذا ابن عمر رضي الله عنهما، فقال: والله، لا ينال أحد من الدنيا شيئًا، إلا نقص من درجاته عند الله، وإن كان عنده كريمًا. 959- فالسعيد من اقتنع بالبلغة1، فإن الزمان أشرف من أن يضيع في طلب الدنيا، اللهم إلا أن يكون متورعًا في كسبه، معينًا لنفسه عن الطمع، قاصدًا إعانة أهل الخير، والصدقة على المحتاجين، فكسب هذا أصلح من بطالته. فأما الصعود الذي سببه مخالطة السلاطين، فبعيد أن يسلم معه الدين، فإن وقعت سلامته ظاهرًا، فالعاقبة خطرة. 960- قال أبو محمد التميمي: ما غبطت أحدًا، إلا الشريف أبا جعفر يوم   1 البلغة: ما يسد الحاجة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 مات القائم بأمر الله1؛ فإنه غسله، وخرج ينفض أكمامه، فقعد في مسجده لا يبالي بأحد، ونحن منزعجون لا ندري ما يجري علينا. وذاك أن التميمي كان متعلقًا على السلطان، يمضي له في الرسائل، فخاف مغبة القرب2. وقد رأينا جماعة من العلماء خالطوا السلطان، فكانت مغبتهم سيئة. ولعمري، إنهم طلبوا الراحة، فأخطئوا طريقها؛ لأن غموم القلب لا توازيها لذة مال، ولا لذة مطعم، هذا في الدنيا قبل الآخرة. 961- ومن أشرف وأطيب عيشًا من منفرد في زاوية، لا يخالط السلاطين، ولا يبالي أطاب مطعمه أم لم يطب؟! فإنه لا يخلو من كسرة وقعب3 ماء، ثم هو سليم من أن تقال له كلمة تؤذيه، أو يعيبه الشرع حين دخوله عليهم أو الخلق. 962- ومن تأمل حال أحمد بن حنبل في انقطاعه، وحال ابن أبي داود4 ويحيى بن أكثم، عرف الفرق في طيب العيش في الدنيا، والسلامة في الآخرة. 963- وما أحسن ما قال ابن أدهم: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من لذيذ العيش، لجالدونا عليه بالسيوف5. ولقد صدق ابن أدهم؛ فإن السلطان إن أكل شيئًا، خاف أن يكون قد طرح له فيه سم، وإن نام، خاف أن يغتال، وهو وراء المغاليق، لا يمكنه أن يخرج لفرجة6؛ فإن خرج، كان منزعجًا من أقرب الخلق إليه، واللذة التي ينالها تبرد عنده، ولا تبقى له لذة مطعم ولا منكح، وكلما استظرف المطاعم، أكثر منها، ففسدت معدته، وكلما استجد الجواري، أكثر منهن، فذهبت قنوته، ولا يكاد يبعد ما بين الوطء والوطء، فلا يجد في الوطء كبير لذة؛ لأن لذة الوطء بقدر بعد ما بين الزمانين، وكذلك لذة الأكل؛ فإن من أكل على شبع، ووطئ   1 عبد الله بن القادر بالله أحمد بن إسحاق، الخليفة العباسي كان في خير واهتمام بالرعية، توفي سنة "467هـ". 2 مغبة القرب: عاقبته. 3 القعب: القدح. 4 الإيادي، أبو عبد الله "160-240هـ" القاضي، رأس فتنة القول بخلق القرآن. 5 جالدونا: قاتلونا. 6 الفرجة: الخروج للتنزه والتفسح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 من غير صدق شهوة وقلق؛ لم يجد اللذة التامة التي يجدها الفقير إذا جاع، والعزب إذا وجد امرأة، ثم إن الفقير يرمي نفسه على الطريق في الليل فينام، ولذة الأمن قد حرمها الأمراء، فلذتهم ناقصة، وحسابهم زائد. 964- والله، ما أعرف من عاش رفيع القدر بالغًا من اللذات ما لم يبلغ غيره؛ إلا العلماء المخلصين؛ كالحسن وسفيان وأحمد، والعباد المحققين، كمعروف؛ فإن لذة العلم تزيد على كل لذة، وأما ضرهم إذا جاعوا، أو ابتلوا بأذى، فإن ذلك يزيد في رفعتهم، وكذلك لذة الخلوة والتعبد. 965- فهذا معروف، كان منفردًا بربه، طيب العيش معه، لذيذ الخلوة به، ثم قد مات منذ نحو أربع مائة سنة، فما يخلو أن يهدى إليه كل يوم ما تقدير مجموعة أجزاء من القرآن! وأقله من يقف على قبره فيقرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ... } ويهديها له، والسلاطين تقف بين يدي قبره ذليلة، هذا بعد الموت، ويوم الحشر تنشر الكرامات التي لا توصف! وكذلك قبور العلماء المحققين. 966- ولما بليت أقوام بمخالطة الأمراء، أثر ذلك التكدير في أحوالهم كلها: فقال سفيان بن عيينة: منذ أخذت من مال فلان الأمير، منعت ما كان وهب لي من فهم القرآن. وهذا أبو يوسف القاضي1 لا يزور قبره اثنان. فالصبر عن مخالطة الأمراء -وإن أوجب ضيق العيش من وجه- يحصل طيب العيش من جهات، ومع التخليط لا يحصل مقصودًا، فمن عزم جزم. 967- كان أبو الحسن القزويني2 لا يخرج من بيته إلا وقت الصلاة، فربما جاء السلطان، فيقعد لانتظاره ليسلم عليه، ومد النفس3 في هذا ربما أضجر السامع، ومن ذاق عرف.   1 يعقوب بن إبراهيم الأنصاري الكوفي "113-182هـ": صاحب أبي حنيفة وتلميذه، من حفاظ الحديث، ولي القضاء ببغداد، وكان الرشيد يبالغ في إجلاله. 2 علي بن عمر، أبو الحسن القزويني، زاهد، من علماء الشافعية "360-442هـ" ويقال له: الحربي: نسبة إلى باب حرب، محلة ببغداد. 3 مد النفس: الإطالة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 208- فصل: أكثر الناس يمشون مع العادة 968- من عرف الشرع كما ينبغي، وعلم حالة الرسول صلى الله عليه وسلم وأحوال الصحابة وأكابر العلماء، علم أن أكثر الناس على غير الجادة؛ وإنما يمشون مع العادة، يتزاورون، فيغتاب بعضهم بعضًا، ويطلب كل واحد منهم عورة أخيه، ويحسده إن كانت نعمة، ويشمت به إن كانت مصيبة، ويتكبر عليه إن نصح له، ويخادعه لتحصيل شيء من الدنيا، ويأخذ عليه العثرات إن أمكن. هذا كله يجري بين المنتمين إلى الزهد لا الرعاع. 969- فالأولى بمن عرف الله سبحانه، وعرف الشرع، وسير السلف الصالحين: الانقطاع عن الكل. فإن اضطر إلى لقاء منتسب إلى العلم والخير، تلقاه، وقد لبس درع الحذر، ولم يطل معه الكلام، ثم عجل الهرب منه إلى مخالطة الكتب التي تحوي تفسيرًا لنطاق الكمال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 209- فصل: الكمال عزيز 970- الكمال عزيز، والكامل قليل الوجود. فأول أسباب الكمال: تناسب أعضاء البدن، وحسن صورة الباطن، فصورة البدن تسمى خلقًا، وصورة الباطن تسمي خلقًا. ودليل كمال صورة البدن: حسن السمت، واستعمال الأدب. ودليل صورة الباطن: حسن الطبائع والأخلاق: فالطبائع: العفة، والنزاهة، والأنفة من الجهل، ومباعدة الشره. والأخلاق: الكرم، والإيثار، وستر العيوب، وابتداء المعروف، والحلم عن الجاهل. فمن رزق هذه الأشياء، رقته إلى الكمال، وظهر عنه أشرف الخلال، وإن نقصت خلة، أوجبت النقص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 210- فصل: من أراد السلامة ما عرف التكليف 971- ليس في الدنيا أبله ممن يريد معاملة الحق سبحانه على بلوغ الأغراض. فأين تكون البلوى إذن؟! لا والله، لا بد من انعكاس المرادات، ومن توقف أجوبة السؤالات، ومن تشفي الأعداء في أوقات. فأما من يريد أن تدوم له السلامة، والنصر على من يعاديه، والعافية من غير بلاء، فما عرف التكليف، ولا فهم التسليم. أليس الرسول صلى الله عليه وسلم ينصر يوم بدر، ثم يجري عليه ما جرى يوم أحد؟! أليس يصد عن البيت ثم قهر بعد ذلك؟! 972- فلا بد من جيد ورديء، والجيد يوجب الشكر، والرديء يحرك إلى السؤال والدعاء؛ فإن امتنع الجواب، أريد نفوذ البلاء، والتسليم للقضاء. وها هنا يبين الإيمان، ويظهر في التسليم جواهر الرجال. فإن تحقق التسليم باطنًا وظاهرًا، فذلك شأن الكامل. وإن وجد في الباطن انعصار من القضاء لا من المقضي -فإن الطبع لا بد أن ينفر من المؤذي؛ دل على ضعف المعرفة، فإن خرج الأمر إلى الاعتراض باللسان، فتلك حال الجهال، نعوذ بالله منها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 211- فصل: من الابتلاء العظيم إقامة الرجل في غير مقامه 973- من الابتلاء العظيم إقامة الرجل في غير مقامه. مثل أن يحوج الرجل الصالح إلى مداراة الظالم والتردد إليه، وإلى مخالطة من لا يصلح، وإلى أعمال لا تليق به، أو إلى أمور تقطع عليه مراده الذي يؤثره، مثل أن يقال للعام: تردد إلى الأمير؛ وإلا خفنا عليك سطوته! فيتردد، فيرى ما لا يصلح له، ولا يمكنه أن ينكر. 974- أو يحتاج إلى شيء من الدنيا -وقد منع حقه- فيحتاج إلى أن يعرض بذكر ذلك، أو يصرح لينال بعض حقه، ويحتاج إلى مداراة من تصعب مداراته، بل يتشتت همه لتلك الضرورات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 975- وكذلك يفتقر إلى الدخول في أمور لا تليق به، مثل أن يحتاج إلى الكسب، فيتردد إلى السوق، أو يخدم من يعطيه أجرته! وهذا لا يحتمله قلب المراقب لله سبحانه، لأجل ما يخالطه من الأكدار، أو يكون له عائلة وهو فقير، فيتفكر في إغنائهم، فيدخل في مداخل كلها عنده عظيمة. 976- وقد يبتلى بفقد من يحب، أو ببلاء في بدنه، أو بعكس أغراضه، وتسليط معاديه عليه، فيرى الفاسق يقهره، والظالم يذله! وكل هذه الأشياء تكدر عليه العيش، وتكاد تزلزل القلب. 977- وليس في الابتلاء بقوة الأشياء إلا التسليم، واللجأ إلى المقدر في الفرج، فيرى الرجل المؤمن الحازم يثبت لهذه العظائم، ولا يتغير قلبه، ولا ينطق بالشكوى لسانه. أوليس الرسول صلى الله عليه وسلم يحتاج أن يقول: "من يؤويني؟ من ينصرني؟ " 1، ويفتقر إلى أن يدخل مكة في جوار كافر2، ويلقى السلى على ظهره3، ويقتل أصحابه، ويداري المؤلفة، ويشتد جوعه، وهو ساكن لا يتغير؟! وما ذاك إلا أنه علم أن الدنيا دار ابتلاء، لينظر الله فيها كيف تعملون؟ ومما يهون هذه الأشياء علم العبد بالأجر، وأن ذلك مراد الحق. ................................. ... فما لجرح إذا أرضاكم ألم4   1 رواه أبو داود "4734"، والترمذي "2925"، وابن ماجه "201" عن جابر رضي الله عنه. 2 بجوار المطعم بن عدي. 3 رواه البخاري "3854"، ومسلم "1794" عن ابن مسعود رضي الله عنه، و "السلى" جلدة رقيقة يخرج المولود ملفوفًا به. 4 عجز بيت لأبي الطيب المتنبي، وصدره: "إن كان سركم ما قال حاسدنَا"، ديوانه ص "324". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 212- فصل: العالم الذي يجمع المال من وجوه قبيحة 978- لا ينكر أن الطباع تحب المال؛ لأنه سبب بقاء الأبدان؛ لكنه يزيد حبه في بعض القلوب، حتى يصير محبوبًا لذاته، لا للتوصل به إلى المقاصد! فترى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 البخيل يحمل على نفسه العجائب، ويمنعها اللذات، وتصير لذاته في جمع المال! وهذه جبلة1 في خلق كثير، وليس العجب أن تكون في الجهال. 979- وينبغي أن يؤثر فيها عند العلماء المجاهدة للطبع ومخالفته، خصوصًا في الأفعال اللازمة في جمع المال، فأما أن يكون العالم جامعًا للمال من وجوه قبيحة، ومن شبهات قوية، وبحرص شديد، وبذل في الطلب، ثم يأخذ من الزكوات، ولا تحل له مع الغنى، ثم يدخره، ولا ينفع به: فهذه بهيمية تخرج عن صفات الآدمية، بل البهيمية أعذر؛ لأنها بالرياضة تتغير طباعها، وهؤلاء ما غيرتهم الرياضة، ولا أفادهم العلم! 980- ولقد كان أبو الحسن البسطامي2 مقيمًا في رباط البسطاميِّ3 الذي على نهر عيسى، وكان لا يلبس إلا الصوف شتاءً وصيفًا، وكان يحترم ويقصد، فخلف مالًا يزيد على أربعة آلاف دينار! 981- ورأينا بعض أشياخنا، وقد بلغ الثمانين، وليس له أهل ولا ولد، وقد مرض، فألقى نفسه عند بعض أصدقائه، يتكلف له ذلك الرجل ما يشتهيه وما يشفيه، فمات، فخلف أموالًا عظيمةً! 982- ورأينا صدقة بن الحسين4 الناسخ، وكان على الدوام يذم الزمان وأهله، ويبالغ في الطب من الناس، ويتجفف، وهو في المسجد وحده، ليس له من يقوم بأمره، فمات، فخلف فيما قيل ثلاث مائة دينار. 983- وكان يصحبنا أبو طالب بن المؤيد الصوفي5، وكان يجمع المال، فسرق منه نحو مائة دينار، فتلهف عليها، وكان ذلك سبب هلاكه. 984- ومن أحوال الناس أنك ترى أقوامًا جلسوا على صفة القوم، يطلبون   1 الجبلة: الخلقة والطبيعة. 2 لم أقف على ترجمته. 3 في بغداد. 4 صدقة بن الحسين العلامة البغدادي الفرضي، توفي سنة "573هـ". 5 لم أجد ترجمته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 الفتوح، فيأتيهم منها الكثير، الذي يصيرون به من الأغنياء، وهم لا يمتنعون من أخذ زكاة، ولا من طلب! وكذلك القصاص، يخرجون إلى البلاد، ويطلبون، فيحصل لهم المال الكثير، فلا يتركون الطلب عادة. فيا سبحان الله! أي شيء أفاد العلم؟! بل الجهل كان لهؤلاء أعذر! 985- ومن أقبح أحوالهم لزومهم الأسباب التي تجلب لهم الدنيا، من التخاشع، والتنسك في الظاهر، وملازمة حث العزلة عن المخالطة! وكل هؤلاء بمعزل عن الشرع. 986- ولقد تأملت على بعضهم من القدح في نظيره إلى أن يبلغ إلى التعرض به للهلاك. فالويل لهم! ما أقل ما يتمتعون بظواهر الدنيا! وإن كان مقلب القلوب، قد صرف القلوب عن محبتهم -لأن الحق عز وجل لا يميل بالقلوب إلا إلى المخلصين؛ فقد فاتتهم الدنيا على الحقيقة، وما حصلوا إلا صورة الحطام! نسأل الله عز وجل عقلًا يدبر دنيانا، ويحصل لنا آخرتنا، والرزاق قادر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 213- فصل: من عرف شرف الوجود يحصل أفضل الموجود . 987- ينبغي لمن عرف شرف الوجود أن يحصل أفضل الموجود. هذا العمر موسم، والتجارات تختلف، والعامة تقول: عليكم بما خف حمله، وكثر ثمنه، فينبغي للمستيقظ ألا يطلب إلا الأنفس. 988- وأنفس الأشياء في الدنيا معرفة الحق عز وجل. فمن العارفين السالكين من وافى في طريقه بغيته في السفر. ومنهم من همته متعلقة بطلب ربحه. ومنهم من ينظر إلى ما يرضي الحبيب، فيجلبه إلى بلد المعاملة، ويرضى بالقبول ثمنًا، ويرى أن كل البضائع لا تفي بحق الخفارة1، ومنهم من يرى لزوم الشكر في اختياره [هذا] السلوك دون غيره، فيقر بالعجز. وقد ارتفع قوم عن هذه الأحوال، قرأوا مجرد التوفيق يشغلهم عن النظر إلى   1 الخفارة: الحفظ، وفي نسخة: الحفاوة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 العمل، أولئك الأقلون عددًا، وإن الأعظمين قدرًا أقل نسلًا من عنقاء مغرب1.   1 طائر أسطوري يضرب مثلًا لما يستحيل وجوده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 214- فصل: البدار البدار فقد قرب الرحيل 989- من علم قرب الرحيل عن مكة، استكثر من الطواف خصوصًا إن كان لا يؤمل العود، ليكبر سنه، وضعف قوته. فكذلك ينبغي لمن قاربه ساحل الأجل بعلو سنه أن يبادر اللحظات، وينتظر الهاجم1 بما يصلح له، فقد كان في قوس الأجل منزع2 زمان الشباب، واسترخى الوتر في المشيب عن سية القوس3، فانحدر إلى القاب4، وضعفت القوى، وما بقي إلا الاستسلام لمحارب التلف. فالبدار البدار إلى التنظيف، ليكون القدوم على طهارة. 990- وأي عيش في الدنيا يطيب لمن أيامه السليمة تقربه إلى الهلاك، وصعود عمره نزول عن الحياة، وطول بقائه نقص مدى المدة؟! فليتفكر فيما بين يديه، وهو أهم مما ذكرناه. أليس في "الصحيح": "ما منكم أحد إلا ويعرض عليه مقعده بالغداة والعشي من الجنة أو النار، فيقال: هذا مقعدك، حتى يبعثك الله"5؟! فوا أسفا لمهددٍ كم يقتل قبل القتل! ويا طيب عيشٍ لموعود بأزيد المنى! وليعلم من شارف السبعين أن النفس أنين! أعان الله من قطع عقبة العمر على رمل زرود6 الموت.   1 الهاجم: الموت. 2 المنزع: السهم. 3 سية القوس: ما عطف عن طرفيه. 4 القاب: ما بين مقبض القوس والسية. 5 رواه البخاري "1379"، ومسلم "2866" عن ابن عمر رضي الله عنهما. وطرفه: "إن أحدكم إذا مات..". 6 زرود: صحراء بين الثعلبية والحزيمية للقادم إلى مكة من العراق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 215- فصل : رضا الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربّه. 991- من أراد أن يعلم حقيقة الرضا عن الله عز وجل في أفعاله، وأن يدري من أين ينشأ الرضا، فليتفكر في أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإنه لما تكاملت معرفته بالخالق سبحانه، رأى أن الخالق مالك، وللمالك التصرف في مملوكه، ورآه حكيمًا لا يصنع شيئًا عبثًا، فسلم تسليم مملوك لحكيم؛ فكانت العجائب تجري عليه، ولا يوجد منه تغير، ولا من الطبع تأفف، ولا يقول بلسان الحال: لو كان كذا! بل يثبت للأقدار ثبوت الجبل لعواصف الرياح. 992- هذا سيد الرسل صلى الله عليه وسلم بعث إلى الخلق وحده، والكفر قد ملأ الآفاق، لجعل يفر من مكان إلى مكان، واستتر في دار الخيزران1، وهم يضربونه إذا خرج، ويدمون عقبه2، وألقى3 السلى على ظهره، وهو ساكت ساكن ويخرج كل موسم فيقول:"من يؤويني؟ من ينصرني؟ " ... ثم خرج من مكة، فلم يقدر على العود إلا في جوار كافر4. ولم يوجد من الطبع تأفف، ولا من الباطن اعتراض، إذ لو كان غيره، لقال: يا رب! أنت مالك الخلق، وقادر على النصر، فلم أذل؟! كما قال عمر رضي الله عنه يوم صلح الحديبية: ألسنا على الحق؟! فلم نعطي الدنية في ديننا؟! ولما قال هذا، قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: "إني عبد الله، ولن يضيعني" 5. فجمعت الكلمتان الأصلين اللذين ذكرناهما: فقوله: "إني عبد الله": إقرار بالملك، وكأنه قال: أنا مملوك يفعل بي ما يشاء. وقوله: "لن يضيعني": بيان حكمته، وأنه لا يفعل شيئًا عبثًا. ثم يبتلى بالجوع، فيشد الحجر6، {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [المنافقون: 7] .   1 هي دار الأرقم بن أبي الأرقم، ثم تملكتها الخيزران زوجة الخليفة العباسي محمد المهدي وأم ابنيه موسى الهادي وهارون الرشيد، وكانت حازمة متفقهة، توفيت سنة "173هـ". 2 رواه ابن هشام في السيرة "1/ 260" عن ابن إسحاق. 3 في الأصل: وشق. 4 هو مطعم بن عدي. 5 رواه البخاري "3182"، ومسلم "1785" عن سهل بن حنيف رضي الله عنه. 6 كما في غزوة الخندق رواه البخاري "4102"، و "4101"، ومسلم "2039" عن جابر رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 ويقتل أصحابه، ويشج وجهه، وتكسر رباعيته1، ويمثل بعمه2 ... وهو ساكت. ثم يرزق ابنًا، ويسلب منه3، فيتعلل4 بالحسن والحسين، فيخبر بما سيجري عليهما5. ويسكن بالطبع إلى عائشة رضي الله عنها، فينغص عيشه بقذفها6. ويبالغ في إظهار المعجزات، فيقام في وجهه مسيلمة7 والعنسي8 وابن صياد9. ويقيم ناموس الأمانة والصدق، فيقال: كذاب! ساحر! ثم يعلقه المرض كما يوعك رجلان، وهو ساكن ساكت10. فإن أخبر بحاله، فليعلم الصبر. ثم يشدد عليه الموت، فيسلب روحه الشريفة، وهو مضطجع في كساءٍ ملبَّدٍ، وإزارٍ غليظٍ، وليس عندهم زيت يوقد به المصباح ليلتئذٍ11. هذا الشيء ما قدر على الصبر عليه كما ينبغي نبي قبله، ولو ابتليت به الملائكة، ما صبرت. 993- هذا آدم عليه السلام تباح له الجنة سوى شجرة، فلا يقع ذباب حرصه "12" إلا على العقر "13"، ونبينا صلى الله عليه وسلم يقول في المباح: "ما لي وللدنيا؟! " 14.   1 رواه البخاري "4075"، ومسلم "1790" عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه. 2 رواه البخاري "4072" عن وحشي. 3 رواه البخاري "1303" عن أنس رضي الله عنه. 4 يتعلل: يسلي نفسه. 5 رواه البخاري "2704" عن الحسن رضي الله عنه. 6 انظر: سورة النور الآيات "11-20"، والبخاري "4750"، ومسلم "2770". 7 مسيلمة بن حبيب الحنفي الكذاب، كان مقتله سنة "12هـ"، انظر: بقية شأنه في الفصل "309". 8 عيهلة بن كعب المذحجي، المعروف بالأسود، متنبئ مشعوذ، كان مقتله سنة "11 هـ"، انظر: تتمة خبره في الفصل "309". 9 من كهنة يهود المدينة خبره في البخاري "1354و 1355"، مسلم "2930 و 2931". 10 رواه البخاري "5648"، ومسلم "2571" عن ابن مسعود رضي الله عنه. 11 لم أجده. 12 ذباب حرصه: شبه الحرص بالسيف، وذبابه: رأسه الذي يجرح، فكأن الحرص ينكأ جرحًا قديمًا. أو أن يكون قصد الذباب المعروف الذي يقع على الجروح فيفسدها. 13 العقر: الجرح. 14 رواه البخاري "2613" عن ابن عمر رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 وهذا نوح عليه السلام يضج مما لاقى، فيصيح من كمد وجده: {لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26] ، ونبينا صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم! اهد قومي، فإنهم لا يعلمون" 1. 994- هذا الكليم موسى صلى الله عليه وسلم، يستغيث عند عبادة قومه العجل على القدر قائلًا: {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ} [الأعراف: 155] ، ويوجه إليه ملك الموت فيقلع عينه2. وعيسى صلى الله عليه وسلم يقول: إن صرفت الموت عن أحد، فاصرفه عني، ونبينا صلى الله عليه وسلم يخير بين البقاء والموت، فيختار الرحيل إلى الرفيق الأعلى3. 995- هذا سليمان صلى الله عليه وسلم يقول: {وَهَبْ لِي مُلْكًا} [ص: 35] ، ونبينا صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم! اجعل رزق آل محمد قوتًا"4. هذا والله فعل رجل عرف الوجود والموجد، فماتت أغراضه، وسكنت اعتراضاته، فصار هواه فيما يجري.   1 البخاري "6929"، ومسلم "1792" عن ابن مسعود. 2 رواه البخاري "3407"، ومسلم "2372" عن أبي هريرة رضي الله عنه. 3 رواه البخاري "3904"، ومسلم "2382" عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. 4 رواه البخاري "6460"، ومسلم "1055" عن أبي هريرة رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 216- فصل: أكثر شهوات الحسِّ النِّسَاءُ 996- أكثر شهوات الحس النساء . وقد يرى الإنسان امرأة في ثيابها، فيتخايل له أنها أحسن من زوجته، أو يتصور بفكره المستحسنات، وفكره لا ينظر إلا إلى الحسن من المرأة، فيسعى في التزوج والتسري، فإذا حصل له مراده، لم يزل ينظر في العيوب الحاصلة، التي ما كان يتفكر فيها، فيمل، ويطلب شيئًا آخر، ولا يدري أن حصول أغراضه في الظاهر ربما اشتمل على محن، منها أن تكون الثانية لا دين لها، أو لا عقل، أو لا محبة لها، أو لا تدبير، فيفوت أكثر مما حصل! وهذا المعنى هو الذي أوقع الزناة في الفواحش؛ لأنهم يجالسون المرأة حال استتار عيوبها عنهم، وظهور محاسنها، فتلذهم تلك الساعة، ثم ينتقلون إلى أخرى! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 997- فيلعلم العاقل أن لا سبيل إلى حصول مراد تام، كما يريد، {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} [البقرة: 267] ، وما عيب نساء الدنيا بأحسن من قوله عز وجل: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} [البقرة: 25] . 998- وذو الأنفة يأنف من الوسخ صورة، وعيب الخلق معنى، فليقنع بما باطنه الدين، وظاهره الستر والقناعة، فإنه يعيش مرفه السر، طيب القلب، ومتى استكثر؛ فإنما يستكثر من شغل قلبه، ورقة دينه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 217- فصل: كل شخص شغله الله بفن 999- سبحان من شغل كل شخص بفن لتنام العيون في الدنيا. فأما في العلوم، فحبب إلى هذا القرآن، وإلى هذا الحديث، وإلى هذا النحو ... إذ لولا ذلك، ما حفظت العلوم. وألهم هذا المتعيش أن يكون خبازًا، وهذا أن يكون هراسًا1، وهذا أن ينقل الشوك من الصحراء، وهذا أن ينقي البثار2، ليلتئم أمر الخلق، ولو ألهم أكثر الناس أن يكونوا خبازين مثلًا، بات الخبز وهلك! أو هراسين، جفت الهرايس! بل يلهم هذا وذاك بقدر، لينتظم أمر الدنيا وأمر الآخرة. 1000- ويندر من الخلق من يلهمه الكمال، وطلب الأفضل، والجمع بين العلوم والأعمال، ومعاملات القلوب. وتتفاوت أرباب هذه الحال. فسبحان من يخلق ما يشاء ويختار. نسأله العفو إن لم يقع الرضا، والسلامة إن لم نصلح للمعاملة.   1 الهراس: صانع الهريسة. 2 البثار: كذا في الأصل، ولعلها البذار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 218- فصل: علم الحديث هو الشريعة 1001- علم الحديث هو الشريعة؛ لأنه مبين للقرآن، وموضح للحلال والحرام، وكاشف عن سير رسول الله صلى الله عليه وسلم وسير أصحابه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 وقد مزجوه1 بالكذب، وأدخلوا في المنقولات كل قبيح؛ فإذا وفق الزاهد والواعظ، لم يذكر إلا ما شهدا بصحته. وإن حرما التوفيق، عمل الزاهد بكل حديث يسمعه، لحسن ظنه بالرواة! وقال الواعظ كل شيء يراه، لجهله بالتصحيح! ففسدت أحوال الزاهد، وانحرف عن جادة الهدى، وهو لا يعلم. وكيف لا، وعموم الأحاديث الدالة على الزهد لا تثبت؟! مثل حديث ابن عمر رضي الله عنه: "أيما امرئ مسلم، اشتهى شهوةً، فرد شهوته، وآثر على نفسه؛ غفر له". وهذا حديث موضوع2، يمنع الإنسان ما أبيح له، مما يتقوى به على الطاعة. ومثل قوله: "من وضع ثيابًا حسانًا ... " 3. وكذلك ما رووا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقدم له أدمان، فقال: "أدمان في قدح؟! لا حاجة لي فيه، أكره أن يسألني الله عن فضول الدنيا" 4. وفي "الصحيح"5: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل البطيخ بالرطب. ومثل هذا إذا تتبع كثير6! فقد بنوا على فساده، ففسدت أحوال الواعظ والموعوظ؛ لأنه يبني كلامه على أشياء فاسدة ومحالات. 1002- ولقد كان جماعة من المتزهدين، يعملون على أحاديث ومنقولات لا تصح، فيضيع زمانهم في غير المشروع، ثم ينكرون على العلماء استعمالهم للمباحات، ويرون أن التجفف هو الدين!   1 أي: الزنادقة وجهلة الصوفية إلا أن الله تعالى هيأ للسنة جهابذة المحدثين، فنفوا عنها كل دخيل. 2 رواه الدارقطني عن ابن عمر مرفوعًا، وهو موضوع كما قال المؤلف. 3 مثال للحديث الموضوع. 4 رواه الطبراني في الأوسط "7400"، والحاكم "4/ 122"، وهو موضوع كما ذكر المؤلف قال الذهبي: منكر واهٍ. 5 الذي في البخاري "5440"، ومسلم "2043" عن عبد الله بن جعفر: كان يأكل القثاء بالرطب. أما أكل البطيخ بالرطب فرواه أبو دواد "3836"، والترمذي "1843" عن عائشة رضي الله عنها. 6 قد جمع المؤلف كتابًا حافلًا في الأحاديث الموضوعة اسمه الموضوعات في الأحاديث المرفوعات، وقد طبع محققًا في الرياض في أربعة أجزاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 1003- وكذلك الوعاظ يحدثون الناس بما لا يصح عن الرسول صلى الله عليه وسلم لا أصحابه، فقد صار المحال عندهم شريعة. فسبحان من حفظ هذه الشريعة بأخبار أخيار، ينفون عنها تحريف الغالين، وانتحال المبطلين! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 219- فصل: مسند الإمام أحمد فيه الصحيح وغيره 1004- كان قد سألني بعض أصحاب الحديث: هل في مسند أحمد ما ليس بصحيح؟ فقلت: نعم. فعظم ذلك على جماعة ينسبون إلى المذهب! فحملت أمرهم على أنهم عوام، وأهملت فكر ذلك. وإذا بهم قد كتبوا فتاوى، فكتب فيها جماعة من أهل خراسان، -منهم أبو العلاء الهمذاني1- يعظمون هذا القول، ويردونه، ويقبحون قول من قاله! فبقيت دهشًا متعجبًا، وقلت في نفسي: وا عجبًا! صار المنتسبون إلى العلم عامة أيضًا! وما ذاك إلا أنهم سمعوا الحديث، ولم يبحثوا عن صحيحه وسقيمه، وظنوا أن من قال ما قلته تعرض للطعن فيما أخرجه أحمد، وليس كذلك! فإن الإمام أحمد روى المشهور والجيد والرديء، ثم هو قدر رد كثيرًا مما روى، ولم يقبل به، ولم يجعله مذهبًا له. أليس هو القائل في حديث الوضوء بالنبيذ2: مجهول؟! 1005- ومن نظر في "كتاب العلل" الذي صنفه أبو بكر الخلال3، رأى أحاديث كثيرة، كلها في "المسند"، وقد طعن فيها أحمد. ونقلت من خط القاضي أبي يعلى محمد بن الحسين الفراء 4 في مسألة النبيذ، قال: إنما روى أحمد في "مسنده" ما اشتهر، ولم يقصد الصحيح ولا السقيم ويدل   1 الحسن بن أحمد الهمذاني العطار "488-569هـ": حافظ متقن، ومقرئ فاضل رضي الطريقة. 2 رواه أبو داود "84"، والترمذي "88"، وابن ماجه "384"، وأحمد "1/398" عن ابن مسعود رضي الله عنه. 3 أحمد بن محمد "234-311هـ" الإمام الحافظ، وهو الذي جمع علم الإمام أحمد. 4 البغدادي، ولي القضاء، وإليه انتهت رئاسة المذهب الحنبلي في عصره، له تصانيف هي عمدة المذهب "380-458هـ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 على ذلك أن عبد الله قال: قلت لأبي: ما تقول في حديث ربعي بن حراش عن حذيفة؟ قال: الذي يرويه عبد العزيز بن أبي رواد1؟ قلت: نعم. قال: الأحاديث بخلافه. قلت: فقد ذكرته في "المسند"؟ قال: قصدت في "المسند" المشهور، فلو أردت أن أقصد ما صح عندي، لم أرد بهذا "المسند" إلا الشيء بعد الشيء اليسير؛ ولكنك يا بني تعرف طريقتي في الحديث، لست أخالف ما ضعف من الحديث إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه. قال القاضي: وقد أخبر عن نفسه كيف طريقه في المسند؛ فمن جعله أصلًا للصحة، فقد خالفه، وترك مقصده. 1006- قلت: قد غمني في هذا الزمان أن العلماء -لتقصيرهم في العلم- صاروا كالعامة، وإذا مر بهم حديث موضوع، قالوا: قد روي! والبكاء ينبغي أن يكون على خساسة الهمم. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.   1 صدوق عابد، ربما وهم، رمي بالإرجاء، مات سنة "159هـ" وقد وقع في الأصل "داود"، وهو تصحيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 220- فصل: الأنفة من الرذائل . 1007- بلغني عن بعض فساق القدماء أنه كان يقول: ما أرى العيش غير أن تتبع النفـ ... ـس هواها، فمخطئًا أو مصيبا فتدبرت حال هذا، وإذا به ميت النفس، ليس له أنفة على عرضه، ولا خوف عار! ومثل هذا ليس في مسلاخ2 الآدميين! فإن الإنسان قد يقدم على القتل لئلا يقال: جبان. ويحمل الأثقال ليقال: ما قصر. ويخاف العار، فيصبر على كل آفة من الفقر، وهو يستر ذلك، حتى لا يرى بعين ناقصة. حتى إن الجاهل إذا قيل له: يا جاهل! غضب. واللصوص المتهيئون للحرام إذا قال أحدهم للآخر: لا تتكلم، فإن أختك تفعل وتصنع! أخذته الحمية، فقتل الأخت. ومن له نفس، لا يقف في مقام تهمة، لئلا يظن به.   1 المسلاخ: المجلد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 فأما من لا يبالي أن يرى سكران، ولا يهمه إن شهر بين الناس، ولا يؤلمه ذكر الناس له بالسوء، فذاك في عداد البهائم، وهذا الذي يريد أن يتبع النفس هواها، لا يلتذ، إلا ألا يخاف عنتًا1ولا لومًا، ولا يكون له عرض يحذر عليه، فهو بهيمة في مسلاخ إنسان؛ وإلا فأي عيش لمن شرب الخمر، وأخذ عقيب ذلك، وضرب، وشاع في الناس ما قد فعل به؟! أما يفي ذلك باللذة؟! لا، بل يربو ذلك، وضرب، وشاع في الناس ما قد فعل به؟! أما يفي ذلك باللذة؟! لا، بل يربو عليها أضعافًا. وأي عيش لمن ساكن الكسل: إذا رأى أقرانه قد برزوا في العلم وهو جاهل، أو استغنوا بالتجارة وهو فقير؟! فهل يبقى للالتذاذ بالكسل والراحة معنى؟! ولو تفكر الزاني في الأحدوثة عنه، أو تصور أخذ الحد منه، لكف الكف، غير أنه يرى لذة حاضرة كأنها لمع برق، ويا شؤم ما أعقبت من طول الأسى! هذا كله في العاجل، فأما الآجل، فمنغصة العذاب دائمة، {وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا} [الشورى: 18] . نسأل الله أنفة من الرذائل، وهمة في طلب الفضائل، إنه قريب مجيب.   1 العنت: المشقة والإثم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 221- فصل: قد تبغت العقوبات، وقد يؤخرها الحلم . 1008- قد تبغت العقوبات، وقد يؤخرها الحلم. والعاقل من إذا فعل خطيئة، بادرها بالتوبة. فكم مغرور بإمهال العصاة لم يمهل! 1009- وأسرع المعاصي عقوبة ما خلا عن لذة تنسي النهى1، فتكون تلك الخطيئة كالمعاندة والمبارزة؛ فإن كانت توجب اعتراضًا على الخالق، أو منازعة له في عظمته: فتلك التي لا تتلافى، خصوصًا إن وقعت من عارف بالله، فإنه يندر إهماله. 1010- قال عبد المجيد بن عبد العزيز2: كان عندنا بخراسان رجل كتب مصحفًا في ثلاثة أيام، فلقيه رجل، فقال: في كم كتب هذا؟ فأومأ بالسبابة   1 النهى: جمع نهية: العقل. 2 ابن أبي رواد، العالم القدوة، شيخ الحرم، توفي سنة "206هـ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 والوسطى والإبهام، وقال: في ثلاث، {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [الشورى: 18] ، فجفت أصابعه الثلاث، فلم ينتفع بها فيما بعد. 1011- وخطر لبعض الفصحاء أنه يقدر أن يقول مثل القرآن! فصعد إلى غرفة، فانفرد فيها، وقال: أمهلوني ثلاثًا! فصعدوا إليه بعد الثلاث، ويده قد يبست على القلم، وهو ميت. 1012- قال عبد المجيد: ورأيت رجلًا كان يأتي امرأته حائضًا؛ فحاض1، فلما كثر الأمر به، تاب، فانقطع عنه. 1013- ويلحق هذا أن يعير الإنسان شخصًا بفعل، وأعظمه أن يعيره بما ليس إليه، فيقول: يا أعمى! ويا قبيح الخلقة! وقال ابن سيرين: عيرت رجلًا بالفقر، فحبست علي دَيْنٍ. 1014- وقد تتأخر العقوبة وتأتي في آخر العمر، فيا طول التعثير مع كبر السن لذنوب كانت في الشباب! فالحذر الحذر من عواقب الخطايا، والبدار البدار إلى محوها بالإنابة، فلها تأثيرات قبيحة، إن أسرعت، وإلا، اجتمعت وجاءت.   1 أي: خرج بوله أحمر بلون الدم ويسمى هذا بيلة دموية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 222- فصل: أسعد الناس من له قوت بقدر الكفاية 1015- أعلم أن الآدمي قد خلق لأمر عظيم، وهو مطالب بمعرفة خالقة بالدليل، ولا يكفيه التقليد، وذلك يفتقر إلى جمع الهم في طلبه، وهو مطالب بإقامة المفروضات، واجتناب المحارم، فإن سمت همة إلى طلب العلم، احتاج إلى زيادة جمع الهم. 1016- فأسعد الناس من له قوت دار بقدر الكفاية، لا من منن الناس وصدقاتهم، وقد قنع به. فإنه حينئذ يجتمع همه لمطلوباته من الدين والدنيا والعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 وأما إذا لم يكن له قوت يكفي، فالهم الذي يريد اجتماعه في تلك الأمور يتشتت، ويصير طالبًا للتحيل في "جمع" القوت، فيذهب العمر في تحصيل قوت البدن الذي يريد من بقائه غير بقائه، ويفوت المقصود بببقائه، وربما احتاج إلى الأنذال1. قال الشاعر: حسبي من الدهر ما كفاني ... يصون عرضي عن الهوان مخافة أن يقول قوم ... فضل فلان على فلان 1017- فينبغي للعاقل أن إذا رزق قوتًا، أو كان له مواد: أن يحفظها، ليتجمع همه، ولا ينبغي أن يبذر في ذلك، فإنه يحتاج فيتشتت همه، والنفس إذا أحرزت قوتها اطمأنت؛ فإن لم يكن له مال، اكتسب بقدر كفايته، وقلل الغلو، ليجمع همه. وليقنع بالقليل؛ فإنه متى سمت همته إلى فضول المال، وقع المحذور من التشتت؛ لأن التشتت في الأول للعدم، وهذا التشتت يكون للحرص على الفضول، فيذهب العمر على البارد2: ومن ينفق الأيام في حفظ ماله ... مخافة فقر، فالذي فعل الفقر 1018- فافهم هذا يا صاحب الهمة في طلب الفضائل؛ فإنك ما لم تعزل قوت الصبيان، شتتوا قلبك، وطبعك طفل، ففرغ همك من استعانته، واعرف قدر شرف المال الذي أوجب جمع همك، وصان عرضك عن الخلق، وإياك أن يحملك الكرم على فرط الإخراج، فتصير كالفقير المتعرض لك بالتعرض لغيرك. 1019- وفي الحديث: أن رجلًا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأى عليه آثار الفقر، فعرض به، فأعطي شيئًا، فجاء فقير آخر، فآثره الأول ببعض ما أعطي، فرماه النبي صلى الله عليه وسلم إليه، ونهاه عن مثل ذلك3. 1020- والقناعة بما يكفي، وترك التشوف إلى الفضول أصل الأصول. ولما   1 في الأصل: الانذلال. 2 دون فائدة. 3 رواه أبو داود "1675"، والترمذي "511"، والنسائي "2535" عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 آيس الإمام أحمد بن حنبل نفسه من قبول الهدايا والصلات، اجتمع همه، وحسن ذكره، ولما أطمعها ابن المديني1 وغيره، سقط ذكره. ثم فيمن؟! إنما هو سلطان جائر، أو مزك منان، أو صديق مدل2 بما يعطي. والعزل ألذ من كل لذة، والخروج عن ربقة المنن -ولو بسف التراب- أفضل.   1 علي بن عبد الله بن جعفر السعدي "161-234هـ": الإمام الحجة أمير المؤمنين في الحديث، ساد الحفاظ في معرفة العلل. 2 المدل: المنان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 223- فصل: التجلد عن المصائب 1021- قد ركب في الطباع حب التفضيل على الجنس، فما أحد إلا وهو يحب أن يكون أعلى درجة من غيره. فإذا وقعت نكبة أوجبت نزوله عن مرتبة سواه، فينبغي له أن يتجلد بستر تلك النكبة، لئلا يرى بعين نقص، وليتجمل المتعفف حتى لا يرى بعين الرحمة، وليتحامل المريض لئلا يشمت به ذو العافية. 1022- وقد قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه حين قدومه مكة، وقد أخذتهم الحمى، فخاف أن يشمت بهم الأعداء حين ضعفهم عن السعي، فقال: "رحم الله من أظهر من نفسه الجلد"1، فرملوا -والرَّمَلُ: شدة السعي- وزال ذلك السبب، وبقي الحكم، ليتذكر السبب، فيفهم معناه. 1023- واستأذنوا على معاوية، وهو في الموت، فقال لأهله: أجلسوني! فقعد متمكنًا يظهر العافية، فلما خرج العواد، أنشد2: وتجلدي للشامتين أريهم ... أني لريب الدهر لا أتضعضع وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع   1 رواه البخاري "4256"، ومسلم "1266" عن ابن عباس رضي الله عنهما. 2 متمثلًا بهذين البيتين وهما لأبي ذؤيب الهذلي، ديوانه: "4" وهي مفضلية. و"ريب الدهر" مصائبة، و"أتضعضع" أضعف، و"ألفيت" وجدت. و"التميمة" عودة يحملها الإنسان يزعم أنها ترد الأذى عنه، وقد حرمها الإسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 1024- وما زال العقلاء يظهرون التجلد عند المصائب والفقر والبلاء، لئلا يتحملوا مع النوائب شماتة الأعداء -وإنها الأشد من كل نائبة- وكان فقيرهم يظهر الغنى، ومريضهم يظهر العافية. 1025- بلى، ثم نكتة ينبغي التفطن لها: ربما أظهر الإنسان كثرة المال، وسبوغ النعم، فأصابه عدوه بالعين، فلا يفي ما تبجح به بما يلاقي من انعكاس النعمة! والعين لا تصيب إلا ما يستحسن، ولا يكفي الاستحسان في إصابة العين حتى يكون من حاسد، ولا يكفي ذلك حتى يكون من شرير الطبع، فإذا اجتمعت هذه الصفات، خيف من إصابة العين. فليكن الإنسان مظهرًا للتجمل مقدار ما يأمن إصابة العين، ويعلم أنه في خير، وليحذر الإفراط في إظهار النعم، فإن العين هناك محذورة. وقد قال يعقوب لبنيه عليهم السلام: {لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ} [يوسف: 67] ، وإنما خاف عليهم العين. فيلفهم هذا الفصل، فإنه ينفع من له تدبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 224- فصل: منازل المؤمنين في الآخرة على قدرهم . 1026- إنما خلقنا لنحيا مع الخالق في معرفته ومحادثته ورؤيته في البقاء الدائم؛ وإنما ابتدئ كوننا في الدنيا؛ لأنها في مثال مكتب، نتعلم فيه الخط والأدب، ليصلح الصبي عند بلوغه للرتب. 1027- فمن الصبيان بعيد الذهن، يطول مكثه في المكتب، ويخرج ما فهم شيئًا. وهذا مثال من لا يعلم وجوده، ولا نال المراد من كونه. 1028- ومن الصبيان من يجمع مع بعد ذهنه، وقلة فهمه، وعدم تعلمه: أذى الصبيان، فهو يؤذيهم، ويسرق مطاعمهم، ويستغيثون من يده، فلا هو صلح، ولا فهم، ولا كف عن الشر. وهذا مثل أهل الشر والمؤذين. 1029- ومن الصبيان من علق بشيء من الخط؛ لكنه ضعيف الاستخراج، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 رديء الكتابة، فخرج، ولم يعلق إلا بقدر ما يعلق به حساب معاملته، وهذا مثل من فهم بعض الشيء، وفاتته الفصائل التامة. 1030- ومنهم: من جود الخط، ولم يتعلم الحساب، وأتقن الآداب حفظًا، غير أنه قاصر في أدب النفس. فهذا يصلح أن يكون كاتبًا للسلطان على مخاطرة، لسوء ما في باطنه من الشره، وقلة التأدب. 1031- ومنهم من سمت همته إلى المعالي الكاملة، فهو مقدم الصبيان في المكتب، ونائب عن معلمهم، ثم يرتفع عنهم بعزة نفسه، وأدب باطنه، وكمال صناعة الآداب الظاهرة، ولا يزال حاث من باطنه يحثه على تعجيل التعلم، وتحصيل كل فضيلة، لعلمه أن المكتب لا يراد لنفسه، بل لأخذ الأدب منه، والرحلة إلى حالة الرجولية والتصرف، فهو يبادر الزمان في نيل كل فضيلة، فهذا مثل المؤمن الكامل، يسبق الأقران يوم التجاري1، ويعرض لوح عمله، جيد الخط، فيقول لبسان حاله: {هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة: 19] . 1032- وكذلك الدنيا وأهلها: من الناس: هالك بعيد عن الحق، وهم الكفار، ومنهم خاطئ مع قليل من الإيمان، فهو معاقب، والمصير إلى خير، ومنهم سليم؛ لكنه قاصر. ومنهم تام، لكنه بالإضافة إلى من دونه، وهو ناقص بالإضافة إلى من فوقه. 1033- فالبدار البدار يا أرباب الفهوم، فإن الدنيا معبر إلى دار إقامة، وسفر إلى "المستقر"، والقرب من السلطان ومجاورته، فتهيئوا للمجالسة، واستعدوا للمخاطبة، وبالغوا في استعمال الأدب، لتصلحوا للقرب من الحضرة، ولا يشغلنكم عن تضمير 2 الخيل تكاسل، وليحملكم على الجد في ذلك تذكركم يوم السباق، فإن قرب المؤمنين من الخالق على قدر حذرهم في الدنيا، ومنازلهم على قدرهم، فإن قرب المؤمنين من الخالق على قدر حذرهم في الدنيا، ومنازلهم على قدرهم، فما منزل النفاط3 كمنزل الحاجب، ولا منزل الحاجب، كمكان الوزير "جنتان من   1 في الأصل: التجارير، وهو تصحيف في "أ" التجاريب. 2 تضمير الخيل: تدريبها على الجري حتى تخف ويذهب شحمها الزائد. 3 النفاط: الذي يرمي النفط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 ذهب، آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة، آنيتهما وما فيهما" 1، والفردوس الأعلى لآخرين، والذين في أرض الجنة ينظرون أهل الدرجات، كما يرون الكوكب الدري. 1034- فليتذكر الساعي حلاوة التسليم إلى الأمين، وليتذكر في لذاذة المدح يوم السباق، وليحذر المسابق من تقصير لا يمكن استدراكه، وليخف من عيبٍ يبقى قبح ذكره، "هؤلاء الجهنميون عتقاء الرحمن" 2، "أزرى بهم أتباع الهوى، ثم لحقتهم العافية، فنجوا بعد لأي. فليتعظ"3 وليصبر عن المشتهى4، فالأيام قلائل. "يدخل فقراء المؤمنين قبل أغنيائهم إلى الجنة بخمس مائة عام" 5. 1035- فالجد الجد، يا أقدام المبادرة، فقد لاح العلم، خصوصًا لمن بانت له بانة6 الوادي: إما بالعلم الدال على الطريق، وإما بالشيب الذي هو علم الرحيل، وهو ما يأمله أهل الجد. 1036- وكان الجنيد يقرأ وقت خروج روحه، فيقال له: في هذا الوقت؟! فيقول: أبادر طي صحيفتي. وبعد هذا، فالمراد موفق، والمطلوب معان، وإذا أرادك لأمر هيأك له.   1 رواه البخاري "7444" عن أبي موسى رضي الله عنه. 2 انظر: البخاري "7437"، ومسلم "183". 3 زيادة من "غ". 4 في الأصل الهوى. 5 انظر: حديث أبي هريرة في الترمذي "2353"، وابن ماجه "4122"، وأحمد "2/ 296". 6 البانة: شجرة طويلة الأغصان لينة، ورقها كورق الصفصاف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 225- فصل: الجزاء على قدر العمل 1037- تأملت حالة عجيبة، وهو أن أهل الجنة الساكنين في أرضها في نقص عظيم بالإضافة إلى من فوقهم، وهم يعلمون فضل أولئك، فلو تفكروا فيها فاتهم من ذلك، وقعت الحشرات، غير أن ذلك لا يكون؛ لأن ذلك لا يقع لهم، لطيب منازلهم، ولا يقع في الجنة غم، ويرضى كل بما أعطي من وجهين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 أحدهما: أنه لا يظن أن يكون نعيم فوق ما هو فيه، وإن علت منزلة غيره. والثاني: أنه يحبب إليه، كما يحبب إليه ولده المستوحش الخلقة؛ فإنه يؤثره على الأجنبي المستحسن. 1038- إلا أن تحت هذا معنى لطيفًا، وهو أن القوم خلقت لهم همم قاصرة في الدنيا عن طلب الفضائل، ويتفاوت قصورها: فمنهم من يحفظ بعض القرآن، ولا يتوق إلى التمام، ومنهم من يسمع يسيرًا من الحديث، ومنهم من يعرف قليلًا من الفقه، ومنهم من قد رضي من كل شيء بيسيره، ومنهم متقصر على الفرائض، ومنهم قنوع بصلاة ركعتين في الليل، ولو علت بهم الهمم، لجدت في تحصيل كل الفضائل، ونبت1 عن النقص، فاستخدمت البدن، كما قال الشاعر2: ولكل جسم في النحول بليةٌ ... وبلاء جسمي من تفاوت همَّتِي 1039- ويدل على تفاوت الهمم أن في الناس من يسهر في سماع سمر، ولا يسهل عليه السهر في سماع القرآن! والإنسان يحشر، ومعه تلك الهمة، فيعطى على مقدار ما حصلت في الدنيا، فكما لم تتق إلى الكمال، وقنعت بالدون، قنعت في الآخرة بمثل ذلك. 1040- ثم إن القوم يتفكرون بعقولهم، فيعلمون أن الجزاء على قدر العمل، ولا يطمع من صلى ركعتين في ثواب من صلى ألفًا. 1041- فإن قال قائل: فكيف يتصور لها ألا تروم ما ناله من هو أفضل منها!! قلت: إن لم يتصور نيله، [فكيف] يتصور الحزن على فوته؟! وهل رأيت عاميًا يحزن على فوات الفقه حزنًا يفلقه؟! هيهات! لو كان ذلك الحزن عنده، لحركة إلى التشاغل! فليس عندهم همة توجب الأسف، مع أنهم قد رضوا بما هم فيه. فافهم ما قلته، وبادر، فهذا ميدان السباق.   1 نبت: ابتعدت. 2 نسبة المؤلف في الفصل "170" للرضي ولم أجده وفي ديوانه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 226- فصل: الحكمة من أخذ الجزية . 1042- تفكرت في إبقاء اليهود والنصارى بيننا، وأخذ الجزية منهم؛ فرأيت في ذلك حكمًا عجيبةً: منها: ما قد ذكر أن الإسلام كان ضعيفًا، فتقوى بما يؤخذ من جزيتهم. ومنها: ظهور عزه بذلهم. إلى غير ذلك مما قد قيل. ووقع لي فيه معنى عجيب، وهو أن وجودهم وتعبدهم، وحفظهم شرع نبيهم صلى الله عليه وسلم دليل على أنه قد كان أنبياء وشرائع، وأن نبينا صلى الله عليه وسلم ليس ببدع من الرسل؛ فقد اجتمعت الجن وهم على إثبات صانع، وإقرار برسل، فبان أننا ما ابتدعنا ما لم يكن. وهم يصبرون على باطلهم، ويؤدون الجزية، فكيف لا نصبر على حق، والدولة لنا، وفي بقائهم احترام لما كان صحيحًا من الدين، وليرجع متبصر، وليستعمل مفكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 227- فصل : ينبغي للعالم أن يأخذ طرفًا من كل علم. 1043- قد ثبت بالدليل شرف العلم وفضله، إلا أن طلاب العلم افترقوا، فكل تدعوه نفسه إلى شيء: فمنهم من أذهب عمره في القراءات، وذاك تفريط في العمر؛ لأنه إنما ينبغي أن يعتمد على المشهور منها لا على الشاذ، وما أقبح القارئ يسأل عن مسألة في الفقه، وهو لا يدري! وليس ما شغله عن ذلك إلا كثرة الطرق في روايات القراءات!! ومنهم من يتشاغل بالنحو وعلله فحسب، ومنهم من يكتب الحديث، ويكثر، ولا ينظر في فهم ما كتب. وقد رأينا في مشايخنا المحدثين من كان يسأل عن مسألة في الصلاة، فلا يدري ما يقول! وكذلك القراء! وكذلك أهل اللغة والنحو! 1044- وحدثني عبد الرحمن بن عيسى الفقيه، قال: حدثني ابن المنصوري، قال: حضرنا مع أبي محمد بن الخشاب1، وكان إمام الناس في النحو واللغة،   1 عبد الله بن أحمد: إمام في النحو، بلغ مرتبة أبي علي الفارسي "492-567هـ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 فتذاكروا الفقه، فقال: سلوني عما شئتم! فقال له رجل: إن قيل لنا: رفع اليدين في الصلاة، ما هو؟ فماذا تقول؟ فقال: هو ركن! فدهشت الجماعة من قلة فقهه. وإنما ينبغي أن يأخذ من كل علم طرفًا، ثم يهتم بالفقه، ثم ينظر في مقصود العلوم، وهو المعاملة لله سبحانه، والمعرفة به، والحب له. 1045- وما أبله من يقطع عمره في معرفة علم النجوم! وإنما ينبغي أن يعرف من ذلك التسيير والمنازل لعلم الأوقات1؛ فأما النظر فيما يدعي أنه القضاء والحكم، فجهل محض؛ لأنه لا سبيل إلى علم ذلك حقيقة، وقد جرب فبان جهل مدعيه، وقد تقع الإصابة في وقت، وعلى تقدير الإصابة! لا فائدة فيه إلا تعجيل الغم! فإن قال قائلٌ: يمكن دفع ذلك، فقد سلم أنه لا حقيقة له! 1046- وأبله من هؤلاء من يتشاغل بعلم الكيمياء2؛ فإنه هذيان فارغ، وإذا كان لا يتصور قلب الذهب نحاسًا، لم يتصور قلب النحاس ذهبًا، فإنما فاعل هذا مستحل للتدليس على الناس في النقود. هذا إذا صح له مراده! 1047- وينبغي لطالب العلم أن يصحح قصده، إذ فقدان الإخلاص يمنع قبول الأعمال! وليجتهد في مجالسة العلماء، والنظر في الأقوال المختلفة، وتحصيل الكتب، فلا يخلو كتاب من فائدة! وليجعل همته للحفظ، ولا ينظر، ولا يكتب إلا وقت التعب من الحفظ! وليحذر صحبة السلطان! ولينظر في منهاج الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين! وليجتهد في رياضة نفسه، والعمل بعلمه! ومن تولاه الحق، وفقه.   1 من أجل معرفة الأوقات. والتسيير: حركة الفلك. 2 كان موضوع علم الكيمياء القديم تحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 228- فصل: الكبر والحسد يغطيان نور العقل 1048- طال تعجبي من أقوام لهم أنفة، وعندهم كبر زائد في الحد! خصوصًا العرب، الذين من كلمة ينفرون، ويحاربون، ويرضون بالقتل! حتى إن قومًا منهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 أدركوا الإسلام، فقالوا: كيف نركع ونسجد فتعلونا أستاهنا1؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود"2، ومع هذه الأنفة، يذلون لمن هم خير منه، هذا يعبد حجرًا! وهذا يعبد خشبة! وقد كان قوم يعبدون الخيل والبقر! وإن هؤلاء لأخس من إبليس، فإن إبليس أنف -لادعائه الكمال- أن يسجد لناقص، فقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} [ص: 76] ! وفرعون أنف أن يعبد شيئًا أصلًا! فالعجب من ذل هؤلاء المفتخرين المتعاظمين المتكبرين لحجر أو خشبة! وإنما ينبغي أن يذل الناقص للكاملين!! وقد أشير إلى هذا في ذم الأصنام في قوله تعالى: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا} [الأعراف: 195] ، والمعنى: أنتم لكم هذه الآلات المدركة، وهم ليس لهم، فكيف يعبد الكامل الناقص؟! غير أن هوى القوم في متابعة الأسلاف، واستحلاء ما اخترعوه بآرائهم؛ غطى على العقول، فلم تتأمل حقائق الأمور! 1049- ثم غطى الحسد على أقوام فتركوا الحق، وقد عرفوه! فأمية بن أبي الصلت3 يقر برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقصده ليؤمن به، ثم يعود فيقول: لا أومن برسول ليس من ثقيف. وأبو جهل يقول: والله، ما كذب محمد قط، ولكن، إذا كانت السدانة والحجابة في بني هاشم، ثم النبوة، فما بقي لنا؟! وأبو طالب يرى المعجزات، ويقول: إني لأعلم أنك على الحق، ولولا أن تعيرني نساء قريش، لأقررت بها عينك4. فتعوذ بالله من ظلمة حسد، وغيابة كبر، وحماقة هوى، تغطي على نور العقل، ونسأله إلهام الرشد، والعمل بمقتضى الحق.   1 الأستاه: الأعجاز. 2 رواه أبو داود "3026"، وأحمد "4/ 218" عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه، وفي سنده انقطاع "ضعيف". 3 الثقفي: شاعر من شعراء الطبقة الأولى في الجاهلية، أكثر في شعره في ذكر الآخرة، أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسلم كبرًا وحسدًا، مات في الطائف سنة "5هـ". 4 رواه مسلم "25" عن أبي هريرة رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 229- فصل: من الصالحين من غلب عليه الرفق ومنهم من غلب عليه الخوف 1050- قد سمعنا بجماعة من الصالحين عاملوا الله عز وجل على طريق السلامة والمحبة واللطف، فعاملهم كذلك؛ لأنهم لا يحتمل طبعهم غير ذلك، ففي الأوائل برخ العابد، خرج يستسقي، فقال [مناجيًا الله] : ما هذا الذي لا نعرفه منك؟! اسقنا الساعة فسقوا. وفي الصحابة أنس بن النضر، يقول: والله، لا تكسر سن الربيع. فجرى الأمر كما قال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره". وهؤلاء قوم غلب عليهم ملاحظة اللطف والرفق، فلطف بهم، وأجروا على ما اعتقدوا. 1051- وهناك أعلى من هؤلاء، يسألون فلا يجابون، وهم بالمنع راضون، ليس لأحدهم انبساط، بل قد قيدهم الخوف، ونكس رؤوسهم الحذر، ولم يروا ألسنتهم أهلًا للانبساط؛ فغاية آمالهم العفو، فإن انبسط أحدهم بسؤال، فلم ير الإجابة، عاد على نفسه بالتوبيخ، فقال: مثلك لا يجاب! وربما قال: لعل المصلحة في منعي. وهؤلاء الرجال حقًّا. 1052- والأبله الذي يرى له من الحق أن يجاب؛ فإن لم يجب، تذمر في باطنه، كأنه يطلب أجرة عمله، وكأنه قد نفع الخالق بعبادته! وإنما العبد حقًّا من يرضى ما يفعله الخالق، فإن سأل، فأجيب، رأى ذلك فضلًا، وإن منع، رأى تصرف مالك في مملوك، فلم يجل في قلبه اعتراض بحال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 230- فصل: العلم معرفة الأصول . 1053- رأيت جماعة من العلماء يتفسحون1، ويظنون أن العلم يدفع عنهم!   1 يتفسحون: يترخصون، وفي الأصل يتعسمون وهو تصحيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 وما يدرون أَنَّ العلم خصمهم! وأنه يغفر للجاهل سبعون ذنبًا قبل أن يغفر للعالم ذنب، وذاك؛ لأن الجاهل لم يتعرف بالحق، والعالم لم يتأدب معه. 1054- ورأيت بعض القوم يقول: أنا قد ألقيت منجلي بين الحصادين ونمت! ثم كان يتفسح في أشياء لا تجوز!! فتفكرت؛ فإذا العلم -الذي هو معرفة الحقائق، والنظر في سير القدماء، والتأدب بآداب القوم، ومعرفة الحق، وما يجب له ليس عند القوم، إن ما عندهم صور ألفاظ، يعرفون بها ما يحل وما يحرم، وليس كذلك العلم النافع، إنما العلم فهم الأصول، ومعرفة المعبود وعظمته، وما يستحقه، والنظر في سير الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته، والتأدب بآدابهم، وفهم ما نقل عنهم، هو العلم النافع الذي يدع أعظم العلماء أحقر عند نفسه من أجهل الجهال. 1055- ورأيت بعض من تعبد مدة، ثم فتر، فبلغني أنه قال: عبدته عبادة ما عبده بها أحد!! والآن قد ضعفت. فقلت: ما أخوفني أن تكون كلمته هذه سببًا لرد الكل! لأنه قد رأى أنه عمل مع الحق شيئًا، وإنما وقف يسأل النجاة بطلب الدرجات، ففي حق نفسه فعل، وما مثله إلا كمثل من وقف يكدي1، فلا ينبغي أن يمن على المعطي. وإنما سبب هذا الانبساط الجهل بالحقائق. وأين هو من كبار علماء المعاملة، والذين كان فيهم مثل صلة بن أشيم2، إذا رآه السبع، هرب منه، وهو يقول إذا انقضى الليل عند صلاته: يا رب! أجرني من النار، أو3 مثلي يسأل الجنة؟! وأبلغ من ذا قول عمر: وددت أن أنجو كفافًا لا لي ولا علي 4! وقول سفيان عند موته لحماد بن سلمة: أترجو لمثلي أن ينجو من النار. وقول أحمد: لا، بعد. 1056- فأنا أحمد الله عز وجل إذ تخلصت من جهل المتسمين بالعلم من هؤاء الذين ذممتهم، وبالزهد من هؤلاء الذين عبتهم، فإني قد اطلعت من عظمة الخالق   1 يكدي: يلحّ في المسألة. 2 الزاهد العابد، تابعي قتل في سجستان أثناء معركة مع الترك سنة "62هـ". 3 في الأصل: و. 4 رواه البخاري "3700". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 وسير المحققين على ما يخرس لسان الانبساط، ويمحو النظر إلى كل فعل، وكيف أنظر إلى فعلي المستحسن، وهو الذي وهبه لي، وأطلعني على ما خفي عن غيري؟! فهل حصل ذلك بي أو بلطفه؟ وكيف أشكر توفيقي للشكر؟! 1057- ثم أي عالم إذا سبر أمور العلماء من القدماء لا يحتقر نفسه1؟! هذا في صورة العلم، فدع معناه. وأي عابد يسمع بالعباد، ولا يجري في صورة التعبد؟! فدع المعنى. نسأل الله عز وجل معرفة تعرفنا أقدارنا، حتى لا يبقى للعجب بمحتقر ما عندنا أثر في قلوبنا، ونرغب إليه في معرفة لعظمته تخرس الألسن أن تنطق بالإدلال، ونرجو من فضله توفيقًا نلاحظ به آفات الأعمال التي بها تزهو، حتى تثمر الملاحظة لعيوبها الخجل من وجودها! إنه قريب مجيب.   1 قال أبو عمرو بن العلاء: ما نحن فيما مضى إلا كالفسيل في أصول نخل طوالٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 231- فصل: سبب تنغيص العيش فوات الحظوظ العاجلة 1058- سبب تنغيص العيش فوات الحظوظ العاجلة. وليس في الدنيا طيب عيش على الدوام؛ إلا للعارف الذي شغله رضا حبيبه، والتزود للرحيل إليه، فإنه إن وجد راحة في الدنيا، استعان بها على طلب الآخرة، وإن وجد شدة، اغتنم الصبر عليها لثواب الآخرة، فهو راضٍ بكل ما يجري عليه، يرى ذلك من قضاء الخالق، ويعلم أنه مراده، كما قال قائلهم: إن كان رضاكم في سهري ... فسلام الله على وسني 1059- فأما من طلب حظه؛ فإنه يقلق لفوت مراده، ويتنغص لبعد ما يشتهي، فلو افتقر، تغير قلبه، ولو ذل، تغير، وهذا؛ لأنه قائم مع غرضه وهواه. 1060- وما أحسن قول الحصري1:   1 أبو الحسن، علي بن إبراهيم الحصري، البصري الأصل، سكن بغداد، ومات بها سنة "371هـ". كان شيخ العراق في وقته، صحب الشبلي، وإليه كان ينتمي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 إيْش علي مني ... وإيش لي في؟! وهذا كلام عارفٍ؛ لأنه إن ينظر إلى حقيقة الملكية1، فعبد يتصرف فيه مولاه، فاعتراضه لا وجه له، وإرادته أن يقع غير ما يجب فضول في البين2. وإن نظر أن النفس كالملك له، فقد خرجت عن يده من يوم: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى} [التوبة: 111] ، أفيحسن لمن باع شاة أن يغضب على المشتري إذا ذبحها، أو يتغير قلبه؟! 1061- والله، لو قال المالك سبحانه: إنما خلقتكم ليستدل على وجودي، ثم أنا أفنيكم، ولا إعادة؛ لكان يجب على النفوس العارفة به أن تقول: سمعًا لما قلت وطاعة، وأي شيء لنا فينا حتى نتكلم؟! فكيف وقد وعد بالأجر الجزيل، والخلود في النعيم الذي لا ينفد؟! 1062- لكن طريق الوصول تحتاج إلى صبر على المشقة، وما يبقى لتعب رمل زرود أثر إذا لاح الحرم. 1063- فالصبر الصبر يا أقدام المبتدئين! لاح المنزل. والسرور السرور يا متوسطين! ضربت الخيم. والفرح الكامل يا عارفين! قد تلقيتم بالبشائر ... 1064- زالت والله أثقال المعاملات عنكم، فكانت معرفتكم بالمبتلي حلاوة أعقبت شربة المجاهدة، فلم يبق في الفم للمر أثر، تخايلوا قرب المناجاة ولذة الحضور، ودوار كؤوس الرضا عنكم، فقد أخذت شمس الدنيا في الأفول: ما بيننا إلا تصرْ ... رم هذه السبع البواقي 3 حتى يطول حديثنا ... بصنوف ما كنا نلاقي   1 في الأصل: الملكة، وهو تصحيف. 2 في البين: في الظاهر. 3 تصرم: انقضاء، وفي الأصل: "ما بيننا له إلا تصدم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 232- فصل : عُدّ منع الله إياك عطاء لك 1065- تفكرت في قول شيبان الراعي1 لسفيان: يا سفيان! عد منع الله إياك   1 شيبان الراعي: أبو محمد، عابد مشهور، عاش في القرن الثاني الهجري، عاصر سفيان الثوري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 عطاءً منه لك؛ فإنه لم يمنعك بخلًا، إنما منعك لطفًا. فرأيته كلام من قد عرف الحقائق. 1066- فإن الإنسان قد يريد المستحسنات الفائقات فلا يقدر، وعجزه أصلح له؛ لأنه لو قدر عليهن، تشتت قلبه، إما بحفظهن، أو بالكسب عليهن. فإن قوي عشقه لهن؛ ضاع عمره، وانقلب هم الآخرة إلى الاهتمام بهن. فإن لم يردنه، فذاك الهلاك الأكبر. وإن طلبن نفقة، لم يطقها؛ كان سبب ذهاب مروءته وهلاك عرضه. وإن أردن الوطء، وهو عاجز، فربما أهلكنه أو فجرن. وإن مات مشعوقه، هلك هو أسفًا. فالذي يطلب الفائق يطلب سكينًا لذبحه، وما يعلم. 1067- وكذلك إنفاذ قدر القوت؛ فإنه نعمة، وفي "الصحيحين": أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم! اجعل رزق آل محمد قوتًا". ومتى كثر، تشتت الهم. فالعاقل من علم أن الدنيا لم تخلق للتنعيم، فقنع بدفع الوقت على كل حال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 233- فصل: التعلل بالأقدار 1068- رأيت جماعة من الخلق يتعللون بالأقدار، فيقول قائلهم: إن وفقت، فعلت! وهذا تعلل بارد1، ودفع للأمر بالراح2، وهو يشير إلى رد أقوال الأنبياء والشرائع جميعها؛ فإنه لو قال كافر للرسول: إن وفقني، أسلمت! لم يجبه إلا بضرب العنق. وهذا من جنس قول الناس3 لعلي رضي الله عنه: ندعوك إلى كتاب الله. فقال: كلمة حق أريد بها باطل، وكذلك قول الممتنعين عن الصدقة: {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} "يس: 47"! 1069- ولعمري إن التوفيق أصل الفعل، ولكن التوفيق أمر خفي، والخطاب بالفعل أمر جلي، فلا ينبغي أن يتشاغل عن الجلي بذكر الخفي.   1 بارد: سخيف. 2 أي: باليد، وهو الدفع الضعيف. 3 قال رضي الله عنه ذلك للخوارج الذين عارضوه في التحكيم يوم صفين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 1070- ومما يقطع هذا الاحتجاج أن يقال لهذا القائل: إن الله سبحانه لم يكلفك شيئًا إلا وعندك أدوات ذلك الفعل، ولك قدرة عليه؛ فإن كانت القدرة عليه معدومة، والأدوات غير محصلة، فلا أمر، ولا تكليف. وإن كنت تسعى بتلك الأدوات في تحصيل غرضك وهواك، فاسع بها في إقامة مفروضك. 1071- مثال ذلك: أنك تسافر في طلب الربح، وتسأل الحج، فلا تفعل! ويقل عليك الانتباه بالليل، فلو أردت الخروج إلى العيد، انتبهت سحرًا! وتقف في بعض أغراضك مع صديق تحادثه ساعات، فإذا وقفت في الصلاة، استعجلت، وثقل عليك! 1072- فإياك إياك أن تتعلق بأمر لا حجة لك فيه! ثم من نصيبك ينقص، ومن حظك يضيع؛ فإنما تحرك لك، وإنما تحرض لنفعك، فبادر، فإنك مبادر بك! ومما يزيل كسلك -إن تأملته- أن تتخايل ثواب المجتهدين، وقد فاتك! ويكفي ذلك في توبيخ المقصر إن كانت له نفس، فأما الميت الهمة، فـ: .......................... ... ما لجرح بميت إيلام1 1073- كيف بك إذا قمت من قبرك، وقد قربت نجائب2 النجاة لأقوام وتعثرت، وأسرعت أقدام الصالحين على الصراط وتخبطت؟! هيهات! ذهبت حلاوة البطالة، وبقيت مرارة الأسف، ونضب ماء كأس الكسل، وبقي رسول الندامة! وما قدر البقاء في الدنيا بالإضافة إلى دوام الآخرة؟! ثم ما قدر عمرك في الدنيا، ونصفه نوم، وباقيه غفلة؟ 1074- فيا خاطبًا حور الجنة، وهو لا يملك فلسًا من عزيمةٍ! افتح عين الفكر في ضوء العبر، لعلك تبصر مواقع خطابك! فإن رأيت تثبيطًا من الباطن، فاستغث بعون اللطف، وتنبه في الأسحار، لعلك تتلمح ركب الأرباح! وتعلق على   1 عجز بيت للمتنبي، وصدره: "من يهن يسهل الهوان عليه"، ديوانه ص "149". 2 النجائب: كرام الإبل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 قطار المستغفرين، ولو خطوات، وانزل في رباع1 المجتهدين، ولو منزلًا، أي منزلٍ!   1 رباع: منازل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 234- فصل: الشريعة هي الطريق 1075- نظرت في قول أبي الدرداء رضي الله عنه: ما أعرف شيئًا مما كنا عليه اليوم إلا القبلة! فقلت: وا عجبًا! كيف لو رآنا اليوم، وما معنا من الشريعة إلا الرسم1؟! والشريعة هي الطريق. وإنما تعرف شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم إما بأفعاله أو أقواله. 1076- وسبب الانحراف عن طريقه صلى الله عليه وسلم: إما الجهل بها، فيجري الإنسان مع الطبع والعادات، وربما اتخذ ما يضاد الشريعة طريقًا، وقد كانت الصحابة شاهدته، وسمعت منه، فقل أن ينحرف أحد منهم عن جادته؛ إلا أن أبا الدرداء رضي الله عنه رأى بعض الانحراف لميل الطباع، فضج، فإنه قد يعرف الإنسان الصواب، غير أن طبعه يميل عنه. 1077- وما زالت الأحاديث المنقولة عن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم، يقل الإسعاد بها، والنظر فيها، إلى أن أعرض عنها بالكلية في زماننا هذا، وجهلت؛ إلا النادر، واتخذت طرائق تضاد الشريعة، وصارت عادات، وكانت أسهل عند الخلق من اتباع الشريعة. وإذا كان عامة من ينسب إلى العلم قد أعرض عن علوم الشريعة، فكيف العوام؟! ولما أعرض كثير من العلماء عن المنقولات، ابتدعوا في الأصول والفروع، فالأصوليون تشاغلوا بالكلام، وأخذوه من الفلاسفة وعلماء المنطق! ودخلت أيدي الفروعيين في ذلك، فتشاغلوا بالجدل، وتركوا الحديث الذي يدور عليه الحكم! 1078- ثم رأى القصاص أن النَّفَاق2 بالنِّفَاق، فأقبل قوم منهم على التلبيس   1 الرسم: الشكل. 2 النفاق: بفتح النون: الرواج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 بالزهد، ومقصودهم الدنيا! ورأى جمهورهم أن القولب تميل إلى الأغاني، فأحضروا المطربين من القراء، وأنشدوا أشعار الغزل، وتركوا الاشتغال بالحديث، ولم يلتفتوا إلى نهي العوام عن الربا والزنا، وأمرهم بأداء الواجبات! وصار متكلمهم يقطع المجلس بذكر ليلى والمجنون، والطور وموسى، وأبي يزيد والحلاج، والهذيان الذي لا محصول له! 1079- وانفراد أقوام بالتزهد والانقطاع، فامتنعوا عن عيادة المرضى والمشي بين الناس، وأظهروا التخاشع، ووضعوا كتبًا للرياضات والتقلل من الطعام، وصارت الشريعة عندهم كلام أبي يزيد والشبلي والمتصوفة! ومعلوم أن من سبر1 الشريعة، لم ير فيها من ذاك شيئًا. 1080- وأما الأمراء، فجروا مع العادات، وسموا ما يفعلونه من القتل والقطع سياسات، لم يعلموا فيها بمقتضى الشريعة! وتبع الأخير في ذلك المتقدم، فأين الشريعة المحمدية؟! ومن أين تعرف مع الإعراض عن المنقولات؟! نسأل الله -عز وجل- التوفيق للقيام بالشريعة، والإعانة على رد البدع! إنه قادر.   1 سبر الشريعة: علم بواطنها وأسرارها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 235- فصل : لا مرحبًا بسرور عاد بالضرر 1081- كنت أسمع علي بن الحسين1 الواعظ يقول على المنبر: والله، لقد بكيت البارحة من يد نفسي2. فبقيت أنا أتفكر وأقول: أي شيء قد فعلت نفس هذا حتى يبكي؟! هذا رجل متنعم، له الجواري التركيات، وقد بلغني أنه تزوج في السر بجملة من النساء، ولا يطعم إلا الغاية من الدجاج والحلوى، وله الدخل الكثير، والمال الوافر، والجاه العريض، والأفضال على الناس، وقد حصل طرفًا من العلم، واستعبد كثيرًا من العلماء بمعروفه، وراحته دائمة الندى، فما الذي يبكيه؟!   1 علي بن الحسين الغزنوي، أبو الحسن، واعظ، مليح الإيراد، بنت له زوجة الخليفة رباطًا، وصار له جاه عظيم، حيث كان السلطان والأمراء يزورونه، توفي سنة "551هـ". 2 بما كسبت يدي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 1082- فتفكرت، فعلمت أن النفس لا تقف عند حد؛ بل تروم1 من اللذات ما لا منتهى له، وكلما حصل لها غرض، برد عندها، وطلبت سواه، فيفنى العمر، ويضعف البدن، ويقع النقص، ويرق الجاه، ولا يحصل المراد. وليس في الدنيا أبله ممن يطلب النهاية في لذات الدنيا، وليس في الدنيا على الحقيقة لذة، إنما هي راحة من مؤلم. 1083- فالسعيد من إذا حصلت له امرأة أو جارية، فمال إليها، ومالت إليه، وعلم سترها ودينها: أن يعقد الخنصر2 على صحبتها. وأكثر أسباب دوام محبتها أن لا يطلق بصره، فمتى أطلق، أو أطمع نفسه في غيرها، فإن الطمع في الجديد ينغص الخلق، وينقص المخالطة، ويستر عيوب الخارج، فتميل النفس إلى المشاهد الغريب، ويتكدر العيش مع الحاضر القريب، كما قال الشاعر: والمرء ما دام ذا عين يقلبها ... في أعين العين موقوف على الخطر3 يسر مقلته ما ضر مهجته ... لا مرحبًا بسرورٍ عاد بالضرر ثم تصير الثانية كالأولى، وتطلب النفس ثالثة، وليس لهذا آخر. بل الغض عن المشتهيات، ويأس النفوس من طلب المستحسنات: يطيب العيش مع المعاشر. ومن لم يقبل هذا النصح، تعثر في طرق الهوى، وهلك على البارد، وربما سعى لنفسه في الهلاك العاجل، وفي العار الحاضر، فإن كثيرًا من المستحسنات لسن بصينات، ولا يفي التمتع بهن بالعار الحاصل، ومنهن المبذرات في المال، ومنهن المبغضة للزوج، وهو يحبها كعابد صنم.   1 تروم: تطلب. 2 كناية عن الحرص. 3 العين: النساء واسعات الأعين. وفي الأصل: بالناس، وقد أورد المؤلف البيتين في الفصل "313" على الوجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 1084- وأبله البله الشيخ الذي يطلب صبية! ولعمري، إن كمال المتعة إنما يكون بالصبا، كما قال القائل1: ................................... ... لقلت: بنفسي النشأ الصغارُ ومتى لم تكن الصبية بالغةً، لم يكمل الاستمتاع! فإذا بلغت، أرادت كثرة الجماع، والشيخ لا يقدر! فإن حمل على نفسه، لم يبلغ مرادها، وهلك سريعًا. ولا ينبغي أن يغتر بشهوته الجماع، فإن شهوته كالفجر الكاذب. وقد رأينا شيخًا اشترى جارية، فبات معها، فانقلب عنها مَيْتًا. وكان في المارستان2 شاب قد بقي شهرين بالقيام، فدخلت عليه زوجته، فوطئها، فانقلب عنها مَيْتًا. فبان أن النفس باقية بما عندها من الدم والمني، فإذا فرغا، ولم تجد ما تعتمد عليه، ذهبت. وإن قنع الشيخ بالاستمتاع من غير وطء، فهي لا تقنع، فتصير كالعدو له، فربما غلبها الهوى ففجرت، أو احتالت على قتله، خصوصًا الجواري اللواتي أغلبهن قد جئن من بلاد الشرك، ففيهن قسوة القلب. 1085- وقبيح بمن عبر الستين أن يتعرض بكثرة النساء! فإن اتفق مع3 صاحبة دينٍ قبل ذلك فليرع لها معاشرتها، وليتمم نقصه عندها، تارة بالإنفاق، وتارة بحسن الخلق، وليزد في تعريفها أحوال الصالحات والزاهدات، وليكثر من ذكر القيامة وذم الدنيا، وليعرض بذكر محبة العرب، فإنهم كانوا يعشقون، ولا يرون وطء المعشوق4، كما قال قائلهم: إنما الحب قبلة ... وغمز كف وعَضُدْ   1 هو نصيب بن رباح، مولى عبد العزيز بن مروان، وصدره: "ولولا أن يقال صبا نصيب" وفي الأصل: "فقلت بنفسي النساء" والتصويب من الأغاني: "16/ 107" "ط" دار صادر. 2 المارستان: المشفى. 3 في الأصل: معه. 4 ويعرف عندهم بالحب العذري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 إنما العشق كذا ... إنْ نُكِحَ الحُبُّ فَسَدْ فإن قدر أن يشغلها بحمل أو ولدٍ، عرقلها به، فاستبقى قوته في مدة اشتغالها بذلك. فإن وطئ، فليصر عن الإنزال حفظًا لقوته، وقضاءً لحقها. 1086- وقد قيل لبشر: لم لم تتزوج؟ فقال: على ماذا أغر مسلمة، وقد قال الله عز وجل: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228] . 1087- والمسكين من دخل في أمر لم يتلمح عواقبه قبل الدخول، ورأى حبة الفخ، فبادر طالبًا لها، ناسيًا تعرقل الجناح والذبح. 1088- ومجموع ما قد بسطته: حفظ البصر عن الإطلاق، ويأس النفس عن التحصيل قنوعًا بالحاصل، خصوصًا من قد علت سنه، وعلم أن الصبية عدو له، متمنية هلاكه، وهو يربيها لغيره. وفي بعض ما ذكرته ما يردع العاقل عن التعرض لهذه الآفات نسأل الله عز وجل توفيقًا من فضله، وعملًا بمقتضى العقل والشرع، إنه مجيب قريب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 236- فصل: ليس للأمل منتهى ولا للاغترار حد ّ 1089- أعجب الأشياء اغترار الإنسان بالسلامة، وتأميله الإصلاح فيما بعد! وليس لهذا الأمل منتهى، ولا للاغترار [حد] ، فكلما أصبح وأمسى معافى، زاد الاغترار، وطال الأمل. 1090- وأي موعظة أبلغ من أن ترى ديار الأقران، وأحوال الإخوان، وقبور المحبوبين، فتعلم أنك بعد أيام مثلهم، ثم لا يقع انتباه حتى ينتبه الغير بك؟! وهذا والله شأن الحمقى! حوشي من له عقل أن يسلك هذا المسلك. 1091- بلى والله، إن العاقل ليبادر السلامة، فيدخر من زمنها للزمن، ويتزود عند القدرة على الزاد لوقت العسرة، خصوصًا لمن قد علم أن مراتب الآخرة إنما تعلو بمقدار علو العمل لها، وأن التدارك بعد الفوت لا يمكن. وقدر أن العاصي عفي عنه، أينال مراتب العمال؟! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 1092- ومن أجال على خاطره ذكر الجنة، التي لا موت فيها ولا مرض، ولا نوم ولا غم، بل لذاتها متصلة من غير انقطاع، وزيادتها على قدر زيادة الحد هاهنا، انتهب هذا الزمان، فلم ينم إلا ضرورة، ولم يغفل عن عمره1 لحظة. 1093- ومن رأى أن ذنبًا قد مضت لذته، وبقيت آفاته دائمة، كفاه ذلك زاجرًا عن مثله، خصوصًا الذنوب التي تتصل آثارها، مثل أن يزني بذات زوج، فتحمل منه، فتلحق بالزوج، فيمنع الميراث أهله، ويأخذه من ليس من أهله، وتتغير الأنساب والفرش، ويتصل ذلك أبدًا، وكله شؤم لحظة. فنسأل الله عز وجل توفيقًا يلهم الرشاد، ويمنع الفساد، إنه قريب مجيب.   1 في الأصل: عمارة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 237- فصل: سبب تخليط العقائد قياس الحاضر على الغائب 1094- تأملت سبب تخليط العقائد، فإذا هو الميل إلى الحس، وقياس الغائبات على الحاضر؛ فإن أقوامًا غلب عليهم الحس؛ فلما لم يشاهدوا الصانع، جحدوا وجوده، ونسوا أنه قد ظهر بأفعاله، وأن هذه الأفعال لا بد لها من فاعل، فإن العاقل إذا مر على صحراء خالية، ثم عاد وفيها غرس وبناء، علم أنه لا بد من غارس إذ الغرس لا يكون بنفسه ولا البناء. 1095- ثم جاء قوم، فأثبتوا وجود الصانع، ثم قاسوه على أحوالهم، فشبهوا، حتى إن قائلهم يقول في قوله صلى الله عليه وسلم: "ينزل إلى السماء": ينتقل! ويستدل بأن العرب لا تعرف النزول إلا الانتقال. وضل خلق كثير في صفاته، كما ضل خلق كثير في ذاته، فظن أقوام أنه يتأثر حين سمعوا أنه يغضب ويرضى، ونسوا أن صفته تعالى قديمة، لا يحدث منها شيء. وضل خلق في أفعاله، فأخذوا يعللون، فلم يقنعوا بشيء، فخرج منهم قوم إلى أن تسبوا فعله إلى ضد "الحكمة" تعالى عن ذلك!! 1096- ومن رزق التوفيق، فليحضر قلبه لما أقول: أعلم أن ذاته سبحانه لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 تشبه الذوات، وصفاته ليست كالصفات، وأفعاله لا تقاس بأفعال الخلق. أما ذاته سبحانه، فإنا لا نعرف ذاتًا: إلا أن تكون جسمًا، وذاك يستدعي سابقة تأليفٍ، وهو منزه عن ذلك؛ لأن المؤلف، إما أن يكون جوهرًا، فالجوهر متحيز، وله أمثال، وقد جل عن ذلك. أو عرضًا، فالعرض لا يقوم بنفسه، بل بغيره، وقد تعالى عن ذلك. فإذا أثبتنا ذاتًا قديمةً خارجةً عما يعرف، فليعلم أن الصفات تابعة تلك الذات، فلا يجوز لنا أن نقيس شيئًا على ما نفعله ونفهمه، بل نؤمن به، ونسلمه. وكذلك أفعاله، فإن أحدنا لو فعل فعلًا لا يجتلب به نفعًا، ولا يدفع عنه ضرًّا، عد عابثًا، وهو سبحانه أوجد الخلق، لا لنفع يعود إليه ولا لدفع ضر، إذ المنافع لا تصل إليه، والمضار لا تتطرق عليه. 1097- فإن قال قائل: إنما خلق الخلق لينفعهن. قلنا: يبطله أنه خلق منهم صنفًا للكفر، وعذبهم، ونراه يؤلم الحيوان والأطفال، ويخلق المضار، وهو قادر أن لا يفعل ذلك. 1098- فإن قال قائل: إنه يثيب على ذلك. قلنا: وهو قادر أن يثيب بلا هذه الأشياء، فإن السلطان لو أراد أن يغني فقيرًا، فجرحه، ثم أغناه، ليم على ذلك؛ لأنه قادر أن يغنيه بلا جراح. 1099- ثم من يرى ما جرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه من الجوع والقتل، مع قدرة الناصر، ثم يسأل في أمه فلا يجاب، ولو كان المسؤول بعضنا، قلنا: لم تمنع ما لا يضرك؟! 1100- غير أن الحق سبحانه لا تقاس أفعاله على أفعالنا، ولا تعلل، والذي يوجب علينا التسليم أن حكمته فوق العقل، فهي تقضي على العقول، والعقول لا تقضي عليها، ومن قاس فعله على أفعالنا، غلط الغلط الفاحش. 1101- وإنما هلكت المعتزلة من هذا الفن، فإنهم قالوا: كيف يأمر بشيء ويقضي بامتناعه؟! ولو أن إنسانًا دعانا إلى داره، ثم أقام من يصد الداخل، لعيب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 ولقد صدقوا فيما يتعلق بالشاهد، فأما من أفعاله لا تعلل، ولا يقاس بشاهد؛ فإنا لا نصل إلى معرفة حكمته. 1102- فإن قال قائل: فكيف يمكنني أن أقود عقلي إلى ما ينافيه؟ قلنا: لا منافاة؛ لأن العقل قد قطع بالدليل الجلي أنه حكيم، وأنه مالك، والحكيم لا يفعل شيئًا إلا لحكمة، غير أن تلك الحكمة لا يبلغها العقل. ألا ترى أن الخضر عليه السلام خرق سفينة، وقتل شخصًا، فأنكر عليه موسى عليه السلام بحكم العلم، ولم يطلع على حكمه فعله، فلما أظهر له الحكمة، أذعن؟ ولله المثل الأعلى. 1103- فإياك إياك أن تقيس شيئًا من أفعاله على أفعال الخلق، أو شيئًا من صفاته، أو ذاته سبحانه وتعالى، فإنك إن حفظت هذا، سلمت من التشبيه الذي وقع فيه من رأى الاستواء اعتمادًا، والنزول نقلة، ونجوت من الاعتراض، الذي أخرج قومًا إلى الكفر، حتى طعنوا في الحكمة. 1104- وأول القوم1 إبليس، فإنه رأى تقديم الطين على النار ليس بحكمة، فنسي أنه إنما علم ذلك -بزعمه- بالفهم الذي وهب له، والعقل الذي منحه، فنسي أن الواهب أعلم: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت: 15] ! 1105- ولقد رأيت لابن الرومي2 اعتراضًا على من يقول بتخليد الكفار في النار، قال: إن ذلك التأبيد مزيد من الانتقام، ينكره العقل، وينبغي أن يقبل كل ما يقوله العقل، ولا يرد بعضه، إذ ليس رد بعضه بأولى من رد الكل، وتخليط الكفار لا غرض فيه للمعذب ولا للمعذب، فلا يجوز أن يكون. فقلت: العجب من هذا الذي يدعي وجود العقل، ولا عقل عنده! وأول ما أقول له: أصح عندك الخبر عن الخالق سبحانه أنه أخبر بخلود أهل النار، أم لم يصح؟ فإن كان [ما] صح عنده، فالكلام إذن في إثبات النبوة، وصحة القرآن، فما وجه ذكرك الفرع مع جحد الأصل؟!   1 اعتراضًا. 2 كذا في الأصل وبعيد أن يكون قد أراد الشاعر المشهور بالحسن علي بن العباس "221-282هـ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 وإن قال: قد ثبت عندي: فواجب عليه أن يتمحل1 لإقامة العذر؛ إلا أن يقف في وجه المعارضة. 1106- وإنما ينكر هذا من يأخذ الأمر من الشاهد، وقد بينا أن ذات الحق لا كالذوات، وأن صفاته لا كالصفات، وأن أفعاله لا تعلل. ولو تلمح شيئًا من التعليل لخلود الكفار، لبان؛ إذ من الجائز أن يكون دوام تعذيبهم لإظهار صدق الوعيد، فإنه قال: من كفر بي، خلدته في العذاب، ولا جناية كالكفر، ولا عقوبة كدوام الإحراق، فهو يدوم ليظهر صدق الوعيد2. ومن الجائز أن يكون ذلك لتتمة تنعيم المؤمنين، فإنهم أعداء الكفار، وقد قال سبحانه: {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} [التوبة: 14] ، وكم من قلق في صدر، وحنق على أبي جهل فيما فعل! وكم من غم في قلب عمَّارٍ، وأمه سمية وغيرهم من أفعال الكفار بهم! فدوام عذابهم شقاء لقلوب أهل الإيمان. ومن الجائز أن يدوم العذاب لدوام الاعتراض، وذكر المعذب بما لا يحسن، فكلما زاد عذابهم، زاد كفرهم واعتراضهم، فهم يعذبون لذلك. ودليل دوام كفرهم: {فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ} [المجادلة: 18] ، فإذن كفرهم ما زال، ومعرفتهم به ما حصلت، والشر كامن في البواطن، وعلى ذلك يقع التعذيب: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: 28] .   1 يتكلف. 2 في الأصل: الوعد، وهو تصحيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 238- فصل : ليكن همّ العاقل إقامة الحق والرضا به 1107- ينبغي للمؤمن بالله سبحانه إذا نظر في الفصل الذي قد تقدم هذا ألا يعترض على الله سبحانه في شيء، لا في باطنه، ولا في ظاهره، ولا يطلب تعليلات أفعاله كلها، فإن المتكلمين أعرضوا عن السنن، وتكلموا بآرائهم، فما صفا لهم شرب1، بدليل اختلافهم. وكذلك إضمار القياس؛ فإنهم لما أعلموه، جاءت   1 مورد وأصل يحتكمون إليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 أحاديث تعكر عليهم. والصواب التعليل لما يمكن، والتسليم لما يخفى. 1108- وكذلك سؤال الحق سبحانه، فإذا دعاه المؤمن، ولم ير إجابة: سلم، وفوض، وتأول للمنع، فيقول: ربما يكون المنع أصلح، وربما يكون لأجل ذنوبي، وربما يكون التأخير أولى، وربما لم يكن هذا مصلحة. وإذا لم يجد تأويلًا، لم يختلج في باطنه نوع اعتراض، بل يرى أنه قد تعبد بالدعاء، فإن أنعم عليه. فبفضل، وإن لم يجب، فمالك يفعل ما يشاء. على أن أكثر السؤال إنما يقع في طلب أعراض الدنيا التي إذا ردت، كان أصلح! 1109- فليكن هم العاقل في إقامة حق الحق، والرضا بتدبيره، وإن أساء1!! فمتى أقبلت عليه، أقبل على إصلاح شأنك. وإذا عرفت أنه كريم؛ فلذ به، ولا تسأل2! ومتى أقبلت على طاعته، فمحال أن يجود صانع، وينصح في العمل، ثم لا يعطى الأجرة.   1 أساءك وأحزنك بما قدره عليك من المصائب. 2 لا تسأل سؤالًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 239- فصل : لا تضيع لحظةً من عمرك 1110- والله، إني لأتخايل دخول الجنة، ودوام الإقامة فيها، من غير مرض، ولا بصاق، ولا نوم، ولا آفة تطرأ! بل صحة دائمة، وأغراض متصلة، لا يعتورها منغص، في نعيم متجدد في كل لحظة، إلى زيادة لا تتناهى: فأطيش، ويكاد الطبع يضيق عن تصديق ذلك، لولا أن الشرع قد ضمنه! 1111- ومعلوم أن تلك المنازل إنما تكون على قدر الاجتهاد هاهنا. فوا عجبًا من مضيع لحظة فيها! فتسبيحة تغرس له في الجنة نخلة، أكلها دائم وظلها. فيا أيها الخائف من فوت ذلك! شجع قلبك بالرجاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 ويا أيها المنزعج لذكر الموت! تلمح ما بعد مرارة الشربة1 من العافية؛ فإنه من ساعة خروج الروح، لا بل قبل خروجها، تنكشف المنازل لأصحابها، فيهون سير المجذوب للذة المنتقل إليه. "ثم الأرواح في حواصل طير تعلق في أشجار الجنة". فكل الآفات والمخافات في نهار الأجل، وقد اصفرت شمس العمر، فالبدار البدار قبل الغروب! ولا معين يرافق على تلك الطريق إلا الفكر إذا جلس مع العقل، فتذاكرا العواقب؛ فإذا فرغ ذلك المجلس، فالنظر في سير المجدين، فإنه يعود مستجلبًا للفكر منها شتى الفضائل، والتوفيق من وراء ذلك، ومتى أرادك لشيء هيأك له. 1112- فأما مخالطة الذين ليس عندهم خبر، إلا من العاجلة، فهو من أكبر أسباب مرض الفهم، وعلل العقل، والعزلة عن الشر حمية، والحمية سبب العافية.   1 دواء مسهل كالخروع ونحوه، وما زال هذا الحرف مستعملًا عند أهل الشام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 240- فصل: الإعراض عن الله سبب الهموم والغموم 1113- رأيت سبب الهموم والغموم: الإعراض عن الله عز وجل، والإقبال على الدنيا. وكلما فات منها شيء، وقع الغم لفواته. 1114- فأما من رزق معرفة الله تعالى، استراح؛ لأنه يستغني بالرضا بالقضاء، فمهما قدر له، رضي، وإن دعا فلم ير أثر الإجابة، لم يختلج في قلبه اعتراض؛ لأنه مملوك مدبر، فتكون همته في خدمة الخالق. 1115- ومن هذه صفته، لا يؤثر جمع مال، ولا مخالطة الخلق، ولا الالتذاذ بالشهوات: لأنه إما أن يكون مقصرًا في المعرفة، فهو مقبل على التعبد المحض، يزهد في الفاني لينال الباقي. وإما أن يكون له ذوق في المعرفة؛ فإنه مشغول عن الكل بصاحب الكل، فتراه متأدبًا في الخلوة به، مستأنسًا بمناجاته، مستوحشًا من مخالطة خلقه، راضيًا بما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 يقدر له، فعيشه معه كعيش محب قد خلا بحبيبه، لا يريد سواه، ولا يهتم بغيره. 1116- فأما من لم يرزق هذه الأشياء، فإنه لا يزال في تنغيص، متكدر العيش؛ لأن الذي يطلبه من الدنيا لا يقدر عليه، فيبقى أبدًا في الحسرات، مع ما يفوته من الآخرة بسوء المعاملة. نسأل الله عز وجل أن يستصلحنا له، فإنه لا حول ولا قوة إلا به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 241- فصل: ما العيش إلا في الجنة 1117- تفكرت في نفسي، فرأيتني مفلسًا من كل شيءٍ؟! إن اعتمدت على الزوجة، لم تكن كما أريد: إن حسنت صورتها، لم تكمل أخلاقها، وإن تمت أخلاقها، كانت مريدة لغرضها لا لي، ولعلها تنتظر رحيلي! وإن اعتمدت على الولد، فكذلك! والخادم والمريد لي كذلك، فإن لم يكن لهما مني فائدة، لم يريداني! وأما الصديق، فليس ثم! وأخ في الله كنعقاء مغرب1! ومعارف يفتقدون أهل الخير، ويعتقدون فيهم قد عدموا! وبقيت وحدي، وعدت إلى نفسي، وهي لا تصفوا لي أيضًا، ولا تقيم على حالةٍ سليمةٍ! فلم يبق إلا الخالق سبحانه، فرأيت أني: إن اعتمدت على إنعامه، فما آمن ذلك البلاء، وإن رجوت عفوه، فما آمن عقوبته! فوا أسفًا! لا طمأنينة ولا قرار! واقلقي من قلقي! واحرقي من حرقي! بالله، ما العيش إلا في الجنة، حيث يقع اليقين بالرضا، والمعاشرة لمن لا يخون ولا يؤذي، فأما الدنيا، فما هي دار ذاك2.   1 طائر متوهم يضرب به المثل، فيما هو مستحيل الوجود. 2 هذه الخاطرة وليدة معاناة المؤلف من حسد الناس وظلم ذوي القرى، وخاصة ظلم ولده أبي القاسم علي الذي استغل محنة أبيه فسطًا على كتبه، وباعها بأبخس الأثمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 على من صحب سلطان أن يكون ظاهره وباطنه سواء ... 242- فصل: على من صحب سلطانًا أن يكون ظاهره وباطنه سواء 1118- ينبغي لمن صحب سلطانًا أو محتشمًا أن يكون ظاهره معه، وباطنه سواء؛ فإنه قد يدس إليه من يختبره1، فربما افتضح في الابتلاء. 1119- وقد كان جماعة من الملوك يقصدون تقريب المنادم، ويجعلون له حجرة في دورهم، فإذا أرادوا أن يختصوه؛ اختبروه باطنًا، وذاك لا يدري، فيظهر منه ما لا يصلح فيطرد! 1120- ولقد امتحن أبرويز2 رجلًا من خاصته، فدس إليه جارية، معها ألطاف3، وأمرها أن لا تقعد عنده، فحملتها. ثم أنفذها مرة أخرى، وأمرها أن تقعد بعد التسليم هنيهة، ففعلت، فلاحظها الرجل. ثم بعثها مرة ثالثة، وأمرها أن تطيل القعود عنده، وتحدثه، فأطالت الحديث معه، فأبدى لها شيئًا من الميل إليها، فقالت: أخاف أن يطلع علينا، ولكن، دعني أدبر في هذا. فذهبت، فأخبرت الملك بذلك! فوجه غيرها من خواص جواريه بمثل ذلك، فلما جاءته، قال: ما فعلت فلانة؟ قالت: مريضة، فاربد4 لونه. ثم فعلت الجارية الثانية مثل ما فعلت الأولى، فقالت له: إن الملك يمضي إلى بستانه، فيقيم هناك: فإن أرادك على أن تمضي معه، فأظهر أنك عليل، فإن خيرك بين الانصراف إلى دور نسائك أو المقام هاهنا، فاختر المقام هاهنا، وأخبره أنك لا تقدر على الحركة، فإن أجابك إلى ذلك، جئت إليك كل ليلة ما دام الملك غائبًا! فسكن إلى قولها. ثم مضت، وأخبرت الملك بذلك. فلما كان بعد ثلاث، استدعاه الملك، فقال:   1 في الأصل: يخبره، وهو تصحيف. 2 أبرويز بن هرمز بن كسرى أنوشروان، حكم بلاد فارس ثمان وثلاثين سنة كانت أبرز صفاته الجشع، جمع أموالًا عظيمة، و "أبرويز" تعني المظفر، انظر: "إيران في عهد الساسانيين" لآرثر كريستنسن ص "428و 436". 3 الألطاف: الهدايا. 4 اربدَّ: تغير وجهة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 إني مريض، فعاد الرسول، فأخبره، فتبسم، وقال: هذا أول الشر، فوجه إليه محفة حمل فيها إليه، فلما بصر به أبرويز: قال: والمحفة الشر الثاني. فرأى العصابة على رأسه، قال: والعصابة الشر الثالث. فقال له الملك: أيهما أحب إليك: الانصراف إلى نسائك ليمرضنك، أو المقام ها هنا إلى وقت رجوعي؟ قال: المقام ها هنا أرفق لي، لقلة الحركة. فتبسم وقال: حركتك هاهنا إن تركت أكثر من حركتك إلى منزلك! ثم أمر له بعصا الزناة، التي كان يوسم1 بها من زنا، فأيقن الرجل بالأمر! وأمر2 أن يكتب ما كان من أمره حرفًا حرفًا، فيقرأ على الناس حرفًا حرفًا إذا حضروا، وأن ينفى إلى أقصى المملكة، وتجعل العصا على رأس رمح، يكون معه حيث كان، ليحذر منه من لا يعرفه، فلما نفي، أخذ من بعض الموكلين مدية، فجب3 بها ذكره، وقال: من أطاع عضوًا صغيرًا أفسد عليه جميع أعضائه. ومات من ساعته. 1121- قلت: وقد كان جماعة من الأمراء يتنكرون، ويسألون العوام عن سيرتهم، فيتكلم العامي بما لا يصلح، فيضبطونه عليه، وربما بعثوا دسيسًا [عليه] . ورب كلمات قالها مسترسل، فبلغها فضولي، [فأهلكت صاحبها] . 1122- ورأى عمر بن عبد العزيز رجلًا من العمال كثير الصلاة، فدس عليه من قال له: إن أخذت لك الولاية الفلانية، فما تعطيني؟ قال: أعطيتك كذا وكذا! قال له عمر، غررتنا بصلاتك. 1123- وقد بلغت أن رجلًا كلم امرأة، فأجابته، فاستدعته إلى دارها، فلما دخل، أقامت على قتله. 1124- فقد ينجلي من هذه الحكاية أنه لا ينبغي أن يسكن إلى قول امرأة أو بعل، يجوز أنه يكون جاسوسًا ومختبرًا، وكذلك لا يظهر ما ينبغي إخفاؤه من مال ومذهب أو سب رجل، فربما كان له في الحاضرين قريب، ولا يوثق بمودة لا أصل لها، فربما كانت تحتها آفة تقصده.   1 يوسم: يكوى بالنار علامة على فجوره. 2 الآمر هنا هو أبرويز. 3 جب: قطع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 1125- وليحذر من كل أمر يحتمل، ورب كلمة نقلها صديق إلى صديق، فتحدث بها من لا يقصد أذًى للقائل، فبلغت، فتأذى. ورب مظهر للمحبة مبالغ حتى يستمكن من مراده. فالحذر الحذر من الطمانينة إلى أحد، خصوصًا من عدو آذيته، أو قتلت له قريبًا، فربما أظهر الجميل شبكة لاصطيادك، كحديث الزباء1.   1 تقدمت الإشارة إليه في الفصل "185". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 243- فصل: الحرص والأمل 1126- رأيت النفس بعد علو السن يقوى أملها، ويزداد حرصها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يشيب ابن آدم، وتشب منه خصلتان: الحرص والأمل" 1. ورأيت أكثر أسباب ذلك فراغ اليد من الدنيا، وكثرة العائلة، وقوة الحاجة، فيحتاج الإنسان إلى التعرض بما يشين العرض، ليحصل الغرض! فقلت: إلهي! أبعد رؤية جبال عرفة أضل؟! أبعد مشارفة الحرم تأخذني أعراب البادية؟! وا أسفًا! أيطلع فجر النحر وما وصلت إلى عرفات؟! ويا ضياع سفر العمر وما حصل المقصود! قد كنت أرجوك لنيل المنى ... واليوم لا أطلب إلا الرضا ثم قلت: يا نفس! ما لك ملجأ إلا اللجأ، واستغاثة الغريق؛ فإن رحمت؛ وإلا فكم من حسرة تحت التراب!   1 صح بلفط: "يهرم ابن آدم وتشب معه خصلتان: الحرص على المال، والحرص على العمر" رواه البخاري "6421"، ومسلم "1047"، عن أنس رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 244- فصل: كبير السن ينكح الصغيرة 1127- شكا لي بعض الأشياخ، فقال: قد علت سني، وضعفت قوتي، ونفسي تطلب مني شراء الجواري الصغار، ومعلوم أنهن يردن النكاح، وليس في، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 ولا تقنع مني النفس بربة البيت، إذ قد كبرت. فقلت له: عندي جوابان: أحدهما: الجواب العامي، وهو أن أقول: ينبغي أن تشتغل بذكر الموت، وما قد توجهت إليه، وتحذر من اشتراء جاريةٍ، لا تقدر على إيفاء حقها، فإنها تبغضك. فإن أجهدت، استعجلت التلف، وإن استبقيت قوتك، غضبت هي، على أنها لا تريد شيخًا كيف كان. وقد أنشدنا علي بن عبيد الله، قال: أنشدنا محمد التميمي: أفق يا فؤادي من غرامك واستمع ... مقالة محزون عليك شفيقِ علقت فتاة قلبها متعلق ... بغيرك، فاستوثقت غير وثيقِ وأصبحت موثوقًا، وراحت طليقَةً ... فكم بين موثوق وبين طليقِ فأعلم أنها تعد عليك الأيام، وتطلب منك فضل المال، لتستعد لغيرك، وربما قصدت حتفك، فاحذر! والسلامة في الترك، والاقتناع بما يدفع الزمان. والجواب الثاني: فإني أقول: لا يخلو أن تكون قادرًا على الوطء في وقت، أو لا تكون. فإن كنت لا تقدر، فالأولى مصابرة الترك للكل، وإن كان يمكن للحازم أن يداري المرأة بالنفقة، وطيب الخلق، إلا أنه يخاطر. وإن كنت تقدر في أوقات على ذلك، ورأيت من نفسك توقًا شديدًا، فعليك بالمراهقات، فإنهن ما عرفن النكاح، وما طلبن الوطء، واغمرهن بالإنفاق، وحسن الخلق، مع الاحتياط عليهن، والمنع من مخالطة النسوة، وإذا اتفق وطء، فتصبر عن الإنزال، ريثما تقضي المرأة حاجتها! واعتمد وعظها وتذكيرها بالآخرة! واذكر لها حكايات العشاق من غير نكاح، وقبح صورة الفعل! والفت قلبها إلى ذكر الصالحين! ولا تخل نفسك من الطيب والتزين، والكياسة، والمداراة، والإنفاق الواسع! فهذا ربما حرك الناقة للمسير، مع خطر السلامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 245- فصل: العاقل من راقب العواقب 1128- أبله الناس من عمل على الحال الحاضرة، ولم يتصور تغيرها، ولا وقوع ما يجوز وقوعه. 1129- مثاله: أن يغتر بدولة، فيعمل بمقتضى ملكه، فإذا تغيرت، هلك! وربما عادى خلقًا، اغترارًا بأنه متسلط، أو أنه صاحب سلطان، فإذا تغيرت حاله، أكل كفه ندمًا عند فوات التدارك! 1130- وكذلك من له مال يبذره، سكونًا إلى وجود المال، وينسى حاله عند العدم! ومن يتناول الشهوات، ويكثر من المآكل والمشارب والنكاح، ثقة بعافيته، وينسى ما يعقب ذلك من الأمراض والآفات! 1131- ومن أظرف الأحوال أن يحب جاريته، فيعتقها، ويهب لها، أو امرأة فيسكن إليها ويهب لها، فتتمكن، ولا تمضي الأيام حتى يسلوها، أو يطلب غيرها، ولا يجد طريقًا للخلاص؛ فإن تخلص منها؛ أخذت ما غنمت منه، فلقي من الغيظ أضاف ما يلتذ به. 1132- فلا ينبغي أن يوثق بامرأة، ولا بمحبة إنسان! فإنه قد يحب امرأة، ويظن أنه لا يسلوها أبدًا، فيسترسل إليها، والسلو يحدث، وربما أحب غيرها، فينسى الأولى، فيصعب عليه الخلاص من الأولى! 1133- فالعاقل لا يدخل في شيء حتى يهيئ الخروج منه، فإن الأشياء لا تثبت، والمحبة لا تدوم، والتغير مقرون بكل حال. 1134- وكذلك يعطي ماله ولده، ثم يبقى كلًّا1 عليه، فيتمنى الولد هلاكه، وربما عل به2 في النفقة. 1135- وكذلك قد يثق بالصديق، فيبث أسراره إليه، فربما أظهر ذلك، فكان منها ما يوجب هلاكه.   1 كلًا: عالة. 2 علَّ به: قتر عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 1136- وكذلك يغتر الإنسان بالسلامة، وينسى طروق الموت، فيأتيه بغتة، فيبهته1، وقد فات الاستدراك، ولم يبق إلا الندم. 1137- فالعاقل من كانت عينه مراقبة للعواقب، محترزة مما يجوز وقوعه، عاملة بالاحتياط فهي في كل حال، حافظة للمال والسر، غير واثقة بزوجة ولا ولد ولا صديق، متأهبة للرحيل، متهيئة للنقلة، هذه صفة أهل الحزم، والتفريط الواسع2 وقت البذر.   1 يبهته: يدهشه. 2 في الأصل: المد سع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 246- فصل: ليس إلّا المعرفة بالجملة 1138- من أعجب الأمور طلب الاطلاع على تحقيق العرفان لذات الله -عز وجل، وصفاته وأفعاله! وهيهات، ليس إلا المعرفة بالجملة ، ولقد أوغل المتكلمون، فما وقعوا بشيء، فرجع عقلاؤهم إلى التسليم. 1139- وكذلك أصحاب الرأي، مالوا إلى القياس، فإذا أشياء كثيرة بعكس مرادهم، فلم يجدوا ملجأ إلا التسليم، فسموا ما خالفهم إستحسانًا. 1140- فالفقيه من علل بما يمكن، فإذا عجز، استطرح للتسليم، هذا شأن العبيد. 1141- فأما من يقول: لم فعل كذا؟ وما معنى كذا؟ فإنه يطلب الاطلاع على سر الملك، وما يجد إلى ذلك سبيلًا، لوجهين: أحدهما: أن الله تعالى ستر كثيرًا من حكمه عن الخلق. والثاني: أن ليس في قوى البشر إدراك حكم الله تعالى كلها فلا يبقى مع المعترض سوى الإعتراض المخرج إلى الكفر: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} [لحج: 15] ، والمعنى: من رضي بأفعالي، وإلا، فليخنق نفسه، فما أفعل إلا ما أريد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 247- فصل: العجب لمن يترخّص في المخالطة 1142- من رزقه الله تعالى العلم والنظر في سير السلف، رأى أن هذا العالم ظلمه، وجمهورهم على غير الجادة، والمخالطة لهم تضر ولا تنفع! ف العجب لمن يترخص في المخالطة ، وهو يعلم أن الطبع لص1 يسرق من المخالط! 1143- وإنما ينبغي أن تقع المخالطة للأرفع والأعلى في العلم والعمل، ليستفاد منه، فأما مخالطة الدون، فإنها تؤذي؛ إلا أن يكون عاميًّا يقبل من معلمه، فينبغي أن يخالط بالاحتراز. 1144- وفي هذا الزمان: إن وقعت المخالطة للعوام، فهم ظلمة مستحكمة؛ فإذا ابتلي العالم بمخالطتهم، فليشمر ثياب الحذر، ولتكن مجالسته إياهم للتذكرة والتأديب فحسب. 1145- وإن وقعت المخالطة للعلماء، فأكثرهم على غير الجادة، مقصودهم صورة العلم لا العمل به، فلا تكاد ترى من تذاكره أمر الآخرة؛ إنما شغلهم الغيبة، وقصد الغلبة، واجتلاب الدنيا، ثم فيهم من الحسد للنظراء ما لا يوصف! 1146- وإن وقعت المخالطة للأمراء، فذاك تعرض لفساد الدين؛ لأنه إن تولى لهم ولاية دنيوية، فالظلم من ضروراتها، لغلبة العادة عليهم، والإعراض عن الشرع. وإن كانت ولاية دينية، كالقضاء؛ فإنهم يأمرونه بأشياء لا يكاد يمكنه المراجعة فيها، ولو راجع، لم يقبلوا، وأكثر القوم يخاف على منصبه، فيفعل ما أمر به، وإن لم يجز. 1147- وربما رأيت في هذا الزمان أقوامًا يبذلون المال ليكونوا قضاة أو شهودًا، ومقصودهم الرفعة، ثم أكثر الشهود يشهد على من لا يعرفه، ويقول: إنه معروف! ويدري أنه كذاب! وإنما عرف لأجل حبة يعطاها. وكم قد وقعت شهادة على غير المشهود عليه وعلى مكره!   1 في الأصل: بصير، وهو تصحيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 1148- وإن وقعت المخالطة للمتزهدين، فأكثرهم على غير الجادة، وعلى خلاف العلم، قد جعلوا لأنفهسم نواميس، فلا يتنسمون1، ولا يخرجون إلى سوق، ويظهرون التخشع الزائد، وكله نفاق، وفيهم من يلبس الصوف تحت ثيابه، وربما لوح بكمه ليرى! 1149- وقد حكي عن طاهر بن الحسين: أنه قال لبعض المتزهدين: مذ كم قدمت العراق؟ قال: دخلتها منذ عشرين سنةً، وأنا منذ ثلاثين سنةً صائم! قال: سألناك مسألة، فأجبت عن اثنتين. 1150- وبنت2 الصوفية أربطة3، فهي خوارج على المساجد، وهي دكاكين كريهة، يقعد فيها الكسالى عن الكسب مع القدرة عليه، ويتعرضون بالقعود للصدقات، ولأحوال الظلمة، وقد أراحوا أنفسهم من إعادة العلم، وأكثرهم لا يصلي نافلة، ولا يقوم الليل؛ بل همهم4 المأكول والمشروب والرقص. وقد اتخذوا سننًا تخالف الشريعة، فهم يلبسون المرقع، لا من فقر، وهذا قبيح؛ لأنه ليس عندهم من أمارات5 الزهد سوى الملبس الدون، فثيابهم تصيح: نحن زهاد! وباقي أفعالهم المستورة تفضحهم إذا اطلع عليها!! فالمطبخ دائر، والحمام، والحلوى كثيرة، والطيب والدعة والكبر حاصل بذلك الزي! وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لمالك بن نضلة6 وقد رآه أشعث الهيئة: "أما لك مال؟ ". قال: بلى، من كل المال آتاني الله عز وجل، قال: "فإن الله عز وجل إذا أنعم على عبد نعمة، أحب أن يرى عليه"7. ومن أخلاقهم تنفير الناس عن العلم، ويزعمون ألا حاجة إلى الوسائط، وإنما هو قلب ورب!   1 يتنسمون: يخرجون للتنزه والتفريج عن النفس. 2 في الأصل: بيوت، وهو تصحيف. 3 جمع رباط. 4 في الأصل: يهمهم. 5 أمارات: علامات. 6 مالك بن عويف بن نضلة الجشمي، صحابي قليل الحديث. 7 رواه أبو داود "2006"، والترمذي "2006"، والنسائي "5239"، وأحمد "3/ 476". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 ولهم من الأقوال والأفعال المنكرات ما قد ذكرته في تلبيس إبليس، آه لو كان لهذا الزمان عمر، لاحتاج كل يوم إلى مائة درة1، لا بل كان يستعمل السيف في هؤلاء الخوارج، وهم داخل البلد لا قدرة للعلماء عليهم، إذ قولهم فيهم لا يقبل. 1151- فمن رزقه الله سبحانه النظر في سير السلف، ووفقه للاقتداء بهم: آثر أن يعتزل عن أكثر الخلق، ولا يخالطهم، فإنه من خالطهم، أوذي، ومن دارى، لم يسلم من المداهنة، فالنصح اليوم مردود.   1 الدرة: سوط أو عصا لينةٌ يؤدب بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 248- فصل : من البله أن تبادر عدوًّا بالمخاصمة 1152- من البله أن تبادر عدوًّا أو حسودًا بالمخاصمة؛ وإنما ينبغي إن عرفت حاله أن تظهر له ما يوجب السلامة بينكما، إن اعتذر قبلت، وإن أخذ في الخصومة صفحت، وأريته أن الأمر قريب، ثم تبطن الحذر منه، فلا تثق به في حال، وتتجافاه باطنًا، مع إظهار المخالطة في الظاهر. 1153- فإذا أردت أن تؤذيه، فأول ما تؤذيه به إصلاحك واجتهادك فيما يرفعك، ومن أعظم العقوبة له العفو عن زلَلِه، وإن بالغ في السب؛ فبالغ في الصفح، تنب عنك العوام في شتمه، ويحمدك العلماء على حلمك! وما تؤذيه به من ذلك، [وتورثه به الكمد ظاهرًا] ، وغيره في الباطن أضعاف، و [خير] مما تؤذيه به من كليمةٍ إذا قلتها له سمعت أضعافها. 1154- ثم بالخصومة تعلمه أنك عدوه، فيأخذ الحذر، ويبسط اللسان، وبالصفح يجهل ما في باطنك، فيمكنك حينئذ أن تشتفي منه، أما أن تلقاه بما يؤذي دينك، فيكون هو الذي قد اشتفى منك! وما ظفر قط من ظفر به الإثم؛ بل الصفح الجميل، وإنما يقع هذا ممن يرى أن تسليطه عليه: إما عقوبة لذنب، أو لرفع درجة، أو للابتلاء، فهو لا يرى الخصم، وإنما يرى القدرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 249- فصل: الخلاص من المحن بالتوبة والدعاء 1155- إذا وقعت في محنة يصعب الخلاص منها؛ فليس لك إلا الدعاء، واللجأ إلى الله، بعد أن تقدم التوبة من الذنوب، فإن الزلل يوجب العقوبة، فإذا زال الزلل بالتوبة من الذنوب، ارتفع السبب. 1156- فإذا تبت ودعوت، ولم تر للإجابة أثرًا، فتفقد أمرك، فربما كانت التوبة ما صحت، فصححها، ثم ادع، ولا تمل من الدعاء، فربما كانت المصلحة في تأخير الإجابة، وربما لم تكن المصلحة في الإجابة، فأنت تثاب، وتجاب إلى منافعك، ومن منافعك ألا تعطى ما طلبت، بل تعوض غيره. 1157- فإذا جاء إبليس، فقال: كم تدعوه ولا ترى إجابة! فقل: أنا أتعبد بالدعاء، وأنا موقن أن الجواب حاصل، غير أنه ربما كان تأخيره لبعض المصالح على مناسب، ولو لم يحصل، حصل التعبد والذل. 1158- فإياك أن تسأل شيئًا إلا وتقرنه بسؤال الخيرة، فرب مطلوب من الدنيا كان حصوله سببًا للهلاك، وإذا كنت قد أمرت بالمشاورة في أمور الدنيا لجليسك، ليبين لك في بعض الآراء ما يعجز رأيك، وترى أن ما وقع لك لا يصلح، فكيف لا تسأل الخير ربك، وهو أعلم بالمصالح؟! والاستخارة من حسن المشاورة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 250- فصل: العلماء وأقسامهم والجهال وأقسامهم 1159- نظرت إلى الناس، فرأيتهم ينقسمون بين عالم وجاهل: فأما الجهال، فانقسموا: فمنهم سلطان قد ربي في الجهل، ولبس الحرير، وشرب الخمور، وظلم الناس، وله عمال على مثل حاله، فهؤلاء بمعزل عن الخير بالجملة. ومنهم تجار، همتهم الاكتساب، وجمع الأموال، وأكثرهم لا يؤدي الزكاة، ولا يتحاشى من الربا، فهؤلاء في صور الناس1.   1 أي: لا يملكون من الإنسانية إلا الشكل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 ومنهم أرباب معاشٍ، يطففون المكيال، ويخسرون الميزان، ويبخسون الناس، ويتعاملون بالربا، وهم في الأسواق طول النهار، لا همة لهم إلا ما هم فيه، فإذا جاء الليل، وقعوا نيامًا كالسكارى، فهمة أحدهم ما يأكل، ويلتذ به، وليس عندهم من الصلاة خبر، فإن صلى أحدهم، نقرها، أو جمع بينهما، فهؤلاء في عداد البهائم. ومن الناس ذوو رذالة في جميع أحوالهم، فهذا كناس، وهذا زبال، وهذا نخال، وهذا يكسح الحش1، فهؤلاء أرذل القوم2. ومنهم من يطلب اللذات، ولا يساعده المعاش، فيخرج إلى قطع الطريق! وهؤلاء أحمق الجماعة، إذ لاعيش لهم، فإن التذوا لحظة بأكل أو شرب، فحركت الريح قصبة، هربوا خوفًا من السلطان، وما أقل بقاءهم! ثم القتل والصلب، مع إثم الآخرة. ومنهم أرباب قرى، قد عمهم الجهل، وأكثرهم لا يتحاشى من نجاسة، فهم في زمرة البقر. 1160- ورأيت النساء ينقسمن أيضًا، فمنهم المستحسنة التي تبغي3، ومنهن الخائنة لزوجها في ماله، ومنهن من لا تصلي، ولا تعرف شيئًا من الدين، فهؤلاء حشو النار، فإذا سمعن موعظة، فإنها كما مرت على حجر! وإذا قرئ عندهن القرآن، فكأنهن يسمعن السمر!! 1161- وأما العلماء: فالمبتدئون منهم ينقسمون إلى ذي نيةٍ خبيثةٍ يقصد بالعلم المباهاة لا العمل، ويميل إلى الفسق، ظَنًّا أن العلم يدفع عنه، وإنما هو حجة عليه. وأما المتوسطون والمشهورون، فأكثرهم يغشى السلاطين، ويسكت عن إنكار المنكر. وقليل من العلماء من تسلم له نيته، ويحسن قصده.   1 الحش: المرحاض. 2 أي عمل مباح أشرف من الكسب الحرام. 3 تبغي: تفجر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 1162- فمن أراد الله به خيرًا، رزقه حسن القصد في طلب العلم، فهو يحصله لينتفع به وينفع، ولا يبالي بعمل، مما يدله عليه العلم، فتراه يتجافى أرباب الدنيا، ويحذر مخالطة العوام، ويقنع بالقليل، خوفًا من المخاطرة في الدنيا في تحصيل الكثير، ويؤثر العزلة، فليس مذكرًا للآخرة مثلها. 1163- وليس على العالم أضر من الدخول على السلاطين، فإنه يحسن للعالم الدنيا، ويهون عليه المنكر، وربما أراد أن ينكر فلا يصح له! فإن عدم القناعة، وغلبته نفسه في طلب فضول الدنيا، سلم عليه1؛ لأنه يتعرض بأربابها. 1164- وإن الإنسان ليمشي في السوق ساعة، فينسى بما يرى ما يعلم، فكيف إذا انضم إلى ذلك التردد إلى الأغنياء، والطمع في أموالهم؟! فأما الوحدة، فإنها سبب رجوع القلب، وجمع الهم، والنظر في العواقب، والتهيؤ للرحيل، وتحصيل الزاد، فإذا انضمت إليها القناعة، جلبت الأحوال المستحسنة. 1165- ولا تحسن اليوم المجالسة إلا لكتاب يحدثك عن أسرار السلف، فأما مجالسة العلماء، فمخاطرة، إذ لا يجتمعون على ذكر الآخرة في الأغلب، ومجالسة العوام فتنة للدين؛ إلا أن يحترز في مجالسهم، ويمنعهم من القول، فيقول هو، ويكلفهم السماع، ثم يستوفز2 للبعد عنهم. 1166- ولا يمكن الانقطاع الكلي إلا بقطع الطمع، ولا ينقطع الطمع إلا بالقناعة باليسير، أو يتجر بتجارة، أو أن يكون له عقار يستغله؛ فإنه متى احتاج تشتت الهم ومتى انقطع العالم عن الخلق، وقطع طمعه فيهم وتوفر على ذكر الآخرة؛ فذاك الذي ينفع وينتفع به، والله الموفق.   1 سقط اعتباره، وهو تعبير ما زال مستعملًا عند أهل الشام. 2 أي: يحتفز ويستعد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 251- فصل: السلف تشاغلوا بالقرآن والعلم 1167- من تأمل بعين الفكر دوام البقاء في الجنة، في صفاء بلا كدر، ولذات بلا انقطاع، وبلوغ كل مطلوب للنفس، والزيادة مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، من غير تغيير ولا زوال، إذ لا يقال: ألف ألف سنةٍ، ولا مائة ألف ألف، بل ولو أن الإنسان عد الألوف ألوف السنين لانقضى عدده، وكان له نهاية، وبقاء الآخرة لا نفاد له، إلا أنه لا يحصل ذلك إلا بنقد هذا العمر. 1168- وما مقدار عمر غايته مائة سنةٍ، منها خمسة عشر صبوة وجهل، وثلاثون بعد السبعين -إن حصلت- ضعف وعجز، والتوسط نصفه نوم، وبعضه زمان أكل وشرب وكسب، والمنتخل منه للعبادات يسير؟! أفلا يشترى ذلك الدائم بهذا القليل؟! 1169- إن الإعراض عن الشروع في هذا البيع والشراء لغبن فاحش في الغفل، وخلل في الغيمان بالوعد؛ فإن من يدري كيف يعقد البيع بالعلم، هو الذي يدل على الطريق، ويعرف ما يصلح لها، ويحذر من قطاعها1. 1170- ولقد دخل إبليس على طائفة من المتزهدين بآفات، أعظمها أنه صرفهم عن العلم، فكأنه شرع في إطفاء المصباح ليسرق في الظلمة، حتى إنه أخذ قومًا من كبار العلماء، فسلك بهم من ذلك ما ينهى عنه العلم. 1171- فرأيت أبا حامد الطوسي يحكي عن نفسه في بعض مصنفاته، قال: شاورت متبوعًا مقدمًا من الصوفية في المواظبة على تلاوة القرآن؟ فمنعني منه! وقال: السبيل أن تقطع علائقك من الدنيا بالكلية، بحيث لا يلتفت قلبك إلى أهل وولد ومال وعلم، بل تصير إلى حالة يستوي عندك وجود ذلك وعدمه، ثم تخلو بنفسك في زاوية، فتقتصر من العبادة على الفرائض والرواتب، وتجلس فارغ القلب،   1 في الأصل: فظاعتها، وهي تصحيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 ولا تزال تقول: الله، الله، إلى أن تنتهي إلى حالة، لو تركت1 تحريك اللسان، رأيت كأن الكلمة جارية على لسانك، ثم تنظر ما يفتح عليك مما فتح مثله على الأنبياء والأولياء!! قلت: وهذا أمر لا أتعجب أنا فيه من الموصي به؛ وإنما أتعجب من الذي قبله مع معرفته وفهمه!! وهل يقطع الطريق بالإعراض عن تلاوة القرآن؟! وهل فتح للأنبياء ما فتح بمجاهدتهم ورياضتهم؟! وهل يوثق بما يظهر من هذه المسالك؟! ثم ما الذي يفتح؟! أثم اطلاع على علم الغيب؟ أم هو وحي؟! فهذا كله من تلاعب إبليس بالقوم، وربما كان ما يتخايل لهم من أثر الماليخوليا أو من إبليس. فعليك بالعلم، وانظر في سير السلف، هل فعل أحد منهم من هذا شيئًا أو أمر به؟! وإنما تشاغلوا بالقرآن والعلم، فدلهم على إصلاح البواطن وتصفيتها. نسأل الله عز وجل علمًا نافعًا، ودفعًا للعدو مانعًا، إنه قادر.   1 في الأصل: ترك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 252- فصل: الحزم في كتمان الحب والبغض 1172- من أراد اصطفاء محبوب، فالمحبوب نوعان: امرأة يقصد منها حسن الصورة، وصديق يقصد منه حسن المعنى، فإذا أعجبتك صورة امرأة، فتأمل خلالها1 الباطنة مديدةً2 قبل أن يتعلق القلب بها تعلقًا محكمًا، فإن رأيتها كما تحب -وأصل ذلك كله الدين، كما قال صلى الله عليه وسلم: "عليك بذات الدين" 3- فمل إليها، واستولدها، وكن في ميلك معتدلًا4، فإنه من الغلط أن تظهر لمحبوبك المحبة، فإنه يشتط عليك، وتلقى منه الأذى من التجني والهجران، والإدلال وطلب الإنفاق الكثير -وإن كانت تحبك- لأن هذا إنما يجتلبه حب الإدلال والتسلط على المقهور.   1 خلالها: صفاتها وخصالها. 2 مديدة: مدة قصيرة. 3 رواه البخاري "443"، ومسلم "1466"، عن جابر رضي الله عنه. 4 في الأصل: معتدل الميل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 1173- وثم نكتة عجيبة، وهو أنك ربما عملت بمقتضى الحال الحاضرة، وهي تحكم بكمال الحب، ثم إن ذلك لا يثبت إليك، فتقع، وتبقى مقهورًا، ويصعب عليك الخلاص! وربما تمكنت منك بمعرفة سرك، أو بأخذ كثير من مالك. 1174- ومن أحسن ما بلغني في هذا أن جارية لبعض الخلفاء كانت تحبه حبًّا شديدًا، ولا تظهر له ذلك، فسئلت عن هذا؟ فقالت: لو أظهرت ما عندي، فجفاني، هلكت، قال الشاعر: لا تظهرن مودة لحبيب ... فترى بعينك منه كل عجيبِ أظهرت يومًا للحبيب مودتي ... فأخذت من هجرانه بنصيبِي 1175- وكذا ينبغي أن تكتم بعض حبك للولد؛ لأنه يتسلط عليك، ويضيع مالك، ويبالغ في الإدلال، ويمتنع عن التعلم والتأدب. 1176- وكذلك إذا اصطفيت صديقًا وخبرته، فلا تخبره بكل ما عندك، بل تعاهده بالإحسان، كما تتعاهد الشجرة، فإنها إذا كانت جيدة الأصل، حسنت ثمرتها بالتعاهد، ثم كن منه على حذر، فقد تتغير الأحوال، وقد قيل: احذر عدوك مرةً ... واحذر صديقك ألف مرهْ فلربما انقلب الصديْ ... قُ فكان أدرى بالمضرهْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 253- فصل: لا تظهر بغضك لمن تبغضه 1177- وأما إذا أبغضت شخصًا؛ [لأنه يسوؤك] ، فلا تظهرن ذلك؛ فإنك تنبهه على أخذ الحذر منك، وتدعوه إلى المبارزة، فيبالغ في حربك والاحتيال عليك، بل ينبغي أن تظهر له الجميل إن قدرت، وتبره ما استطعت، حتى تنكسر1 معاداته بالحياء2 من بغضك، فإن لم تطق، فهجر جميل، لا تبين فيه ما يؤذي، ومتى سمعت عنه كلمة قذعة، فاجعل جوابها كلمة جميلة، فهي أقوى في كف لسانه.   1 في الأصل: فانكسرت. 2 في الأصل: جبلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 وكذلك جميع ما يخاف إظهاره، لا تتكلمن به، فربما وقعت كلمة أسقطت بها عز السلطان، فنقلت إليه، فكانت سبب هلاكك، أو عن صديق، فكانت سبب عداوته، أو صرت رهينًا لمن سمعها، خائفًا أن يظهرها. فالحزم كتمان الحبِّ والبُغْضِ. 1178- وكذا ينبغي أن تكتم سنك، فإن كنت كبيرًا، استهرموك، وإن كنت صغيرًا، استحقروك، وكذلك مقدار مالك، فإنه إن كان كثيرًا، نسبوك في نفقتك إلى البخل، وإن كان قليلًا، طلبوا الراحة منك، وكذلك المذهب، فإنك إن أظهرته، لم تأمن أن يسمعه مخالف، فيقطع بكفرك، وقد أنشدنا محمد بن عبد الباقي البزاز: احفظ لسانك لاتبح بثلاثَةٍ ... سنٍّ ومالٍ ما استطعت ومذهب فعلى الثلاثة تبتلى بثلاثةٍ ... بمموِّهٍ وممخرِقٍ ومكذِّبِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 254- فصل: خادم السلطان يخشى على دينه ودنياه 1179- طال تعجبي من مؤمن بالله عز وجل، مؤمن بجزائه، يؤثر خدمة السلطان، مع ما يرى منه من الجور الظاهر، فوا عجبًا! ما الذي يعجبه؟! إن كان الذي يعجبه دنيويًّا، ليس ثم إلا أن يصاح بين يديه "بسم الله"، وأن يتصدر في المجالس، ويلوي عنقه كبرًا على النظراء، ويأخذ الأحسات1، وهو يعلم من أين حصل، وربما انبسط في البراطيل2. ثم يقابل هذا أن يصادر، ويعزل، فتستخرج منه تلك المرارة كل حلاوة كانت في الولاية، وربما كان قريب الحال3، فافتقر بالمصادرة جدًّا، ثم تنطلق الألسن المادحة بالذم. ثم لو سلم من هذا، فإنه لا يسلم من الرقيب له، والحذر منه، فهو كراكب البحر، إن سلم بدنه من الغرق، لم يسلم قلبه من الخوف. وإن كان دينًا؛ فإنه يعلم أنهم لا يمكنونه في الغالب من العمل بمقتضى الدين،   1 الأسحات: جمع سحت وهو المال الحرام. 2 البرطيل: الرشوة. 3 أي بين الفقر والغنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 فإنهم يأمرونه بترك ما يجب، وفعل ما لا يجوز، فيذهب دينه على البارد! ولعقاب الآخرة أشق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 255- فصل: من أنف الذل تجافى عن منن الأنذال 1180- العجب من الذي أنف الذل! كيف لا يصبر على جاف الخبز، ولا يتعرض لمنن الأنذال؟! أتراه ما يعلم أنه ما بقي صاحب مروءة؟! وأنه إن سأل، سأل بخيلًا لا يعطي، فإن أعطى نزرًا، فإنه يستعبد المعطى بذلك العمر؟! ثم ذاك القدر النزر يذهب عاجلًا، وتبقى المنن والخجل ورؤية النفس بعين الاحتقار، إذ صارت سائلة، ورؤية المعطي بعين التعظيم أبدًا، ثم يوجب ذلك السكوت عن معايب المعطي، والبدار إلى قضاء حقوقه، وخدمته فيما يقي1. 1181- وأعجب من هذا من يقدر أن يتسعبد الأحرار بقليل العطاء الفاني ولا يفعل، فإن الحر لا يشتري إلا بالإحسان، قال الشاعر: تفضل على من شئت واعن بأمره ... فأنت، ولو كان الأمير، أميرُهُ وكن ذا غنًى عمن تشاء من الورى ... ولو كان سلطانًا فأنت نظيرُهُ ومن كنت محتاجًا إليه وَوَاقِفًا ... على طَمَعٍ منه فأنت أَسِيْرُهُ   1 بقي من العمر، انظر الفصل "264". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 256- فصل : يتضمّن وصية للشباب 1182- ينبغي للصبي إذا بلغ أن يحذر كثرة الجماع، ليبقى جوهره، فيفيده ذلك في الكبر؛ لأنه من الجائز كبره، والاستعداد للجائز حزم، فكيف للغالب؟! كما ينبغي أن يستعد للشتاء بل هجومه، ومتى أنفق الحاصل وقت القدرة، تأذى بالفقر إليه وقت الفاقة. 1183- وليعلم ذو الدين والفهم أن المتعة إنما تكون بالقرب من الحبيب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 والقرب يحصل بالتقبيل والضم، وذلك يقوي المحبة، والمحبة يلذ وجودها، والوطء ينقص المحبة، ويعدم تلك اللذة!! وقد كان العرب يعشقون، ولا يرون وطء المعشوق! قال قائلهم1: ............................ ... إن نكح الحب فَسَدْ فأما الالتذاذ بنفس الوطء، فشأن البهائم2. 1184- ولقد تأملت المراد من الوطء3، فوجدت فيه معنى عجيبًا يخفى على كثيرٍ من الناس، وهو أن النفس إذا عشقت شخصًا، أحبت القرب منه، فهي تؤثر الضم والمعانقة؛ لأنهما غاية في القرب، ثم تريد قربًا يزيد على هذا، فتقبل الحد. ثم تطلب القرب من الروح، فتقبل الفم؛ لأنه منفذ إلى الروح، ثم تطلب الزيادة، فتمص لسان المحبوب، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوشح عائشة4، ويقبلها، ويمص لسانها، فإذا طلبت النفس زيادة في القرب إلى النفس، استعملت الوطء. فهذا سره المعنوي، ويحصل منه الالتذاذ الحسي.   1 سبقت الأبيات في الفصل "235". 2 قال المؤلف في الفصل "28": ولما كانت صورة النكاح تأباها النفوس الشريفة من كشف عورة، وملاقاة ما لا يستحسن لنفسه جعلت الشهوة تحث عليه ليحصل المقصود. 3 قال المؤلف في الفصل "28": تأملت في فوائد النكاح ومعانيه وموضوعه فرأيت الأصل الأكبر في وضعه وجود النسل. 4 التوشح: المعانقة والتقبيل، انظر: الحديث في نهاية ابن الأثير "وشح". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 257- فصل: ضرر علم الكلام على العوام 1185- ليس على العوام أضر من سماعهم علم الكلام؛ وإنما ينبغي أن يحذر العوام من سماعه والخوض فيه، كما يحذر الصبي من شاطئ النهر خوف الغرق، وربما ظن العامي أن له قوةً يدرك بها هذا، وهو فاسد، فإنه قد زل في هذا خلق من العلماء، فكيف العوام؟! 1186- وما رأيت أحمق من جمهور قصاص زماننا، فإنه يحضر عندهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 العوام الغشم، فلا ينهونهم عن خمر وزنا وغيبة، ولا يعلمونهم أركان الصلاة، ووظائف التعبد، بل يملؤون الزمان بذكر الاستواء، وتأويل الصفات، وأن الكلام قائم بالذات، فيتأذى بذلك من كان قلبه سليمًا. 1187- وإنما على العامي أن يؤمن بالأصول الخمسة1، بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، ويقنع بما قال السلف: القرآن كلام الله غير مخلوق، والاستواء حق، والكيف مجهول. 1188- وليعلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يكلف الأعراض سوى مجرد الإيمان، ولم تتكلم الصحابة في الجواهر والأغراض، فمن مات على طريقهم، مات مؤمنًا سليمًا من بدعة، ومن تعرض لساحل البحر، وهو لا يحسن السباحة، فالظاهر غرفة.   1 بل أصول الإيمان ستة، ينضاف إليها الإيمان بالقدر خيره وشره كما جاء في حديث جبريل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 258- فصل: أشد الناس جهلًا منهوم باللذات 1189- أشد الناس جهلًا منهوم باللذات. واللذات على ضربين: مباحة ومحظورة: فالمباحة لا يكاد يحصل منها شيء إلا بضياع ما هو مهم من الدين، فإذا حصلت منها حبة، قارنها قنطار من الهم. ثم لا تكاد تصفو في نفسها، بل مكدراتها ألوف، فإذا صور عدمها "بعد انقضائها، وبقاء هذه" الألوف "المكدرة"، صار التصوير مغلصمًا1 للهوى، محزنًا2 للنفس. فإذا أنفت3، أنفت من الأسف على الدوام ما لا تحويه صفة، فهي تغر الغر4، ويهدم العمر، وتديم الأسى.   1 مغلصمًا: ذابحًا. 2 في الأصل مجرئًا: وهو تصحيف. 3 أنفت: عزفت. 4 الغر: الساذج الذي لا علم له ولا تجربة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 ومع هذا، فالمنهوم كلما عبَّ من لذة؛ طلب أختها، وقد عرف جناية الأولى وخيانتها -وهذا مرض العقل، وداء الطبع- فلا يزال هذا كذلك إلى أن يختطف بالموت، فيلقى على بساط ندم لا يستدرك. فالعجب ممن همته هكذا مع قصر العمر، ثم لا يهتم بآخرته، التي لذتها سليمة من شائب1، منزهة عن معايب، دائمة إلى الأمد، باقية ببقاء الأبد! وإنما يحصل تقريب هذه بإبعاد تلك، وعمران هذه بتخريب تلك. فوا عجبًا لعاقل حصيف حسن التدبير، فاته النظر في هذه الأحوال، وغفل عن التمييز بين هذين الأمرين! وإن كانت اللذة معصية، انضم إلى ما ذكرناه: عار الدنيا، والفضيحة بين الخلق، وعقوبة الحدود، وعقاب الآخرة، وغضب الحق سبحانه. بالله، إن المباحات تشغل عن تحصيل الفضائل، فذم ذلك لبيان الحزم، فكيف بالمحرمات التي هي غاية الرذائل؟! نسأل الله -عز وجل- يقظة تحركنا إلى منافعنا، وتزعجنا عن خوادعنا، إنه قريب.   1 في الأصل: شامت وهو تصحيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 259- فصل: الهوى والتسويف والاغترار بالرحمة 1190- تأملت على الخلق، وإذا هم في حالة عجيبة، يكاد يقطع معها بفساد العقل! وذلك أن الإنسان يسمع المواعظ، وتذكر له الآخرة، فيعلم صدق القائل، فيبكي وينزعج على تفريطه، ويعزم على الاستدراك، ثم يتراخى عمله بمقتضى ما عزم عليه، فإذا قيل له: أتشك فيما وعدت به؟ قال: لا والله، فيقال له: فاعمل! فينوي ذلك، ثم يتوقف عن العمل، وربما مال إلى لذة محرمة، وهو يعلم النهي عنها! 1191- ومن هذا الجنس تأخر الثلاثة الذين خلفوا1، ولم يكن لهم عذر، وهم يعلمون قبح التأخر، وكذلك كل عاص ومفرط.   1 هم: كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية، انظر قصتهم في البخاري "4418"، ومسلم "2739" عن كعب بن مالك رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 فتأملت السبب -مع أن الاعتقاد صحيح، والفعل بطيء- فإذا له ثلاثة أسبابٍ: أحدها: رؤية الهوى العاجل، فإن رؤيته تشغل عن الفكر فيما يجنيه. والثاني: التسويف بالتوبة، فلو حضر العقل، لحذر من آفات التأخير، فربما هجم الموت ولم تحصل التوبة! والعجب ممن يجوز سلب روحه قبل مضي ساعة، ولا يعمل على الحرام! غير أن الهوى يطيل الأمد، وقد قال صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم: "صل صلاة مودع" 1، وهذا نهاية الدواء لهذا الداء؛ فإنه من ظن أنه لا يبقى إلى صلاة أخرى، جد واجتهد. والثالث: رجاء الرحمة، فيرى العاصي يقول: ربي رحيم! وينسى أنه شديد العقاب!! ولو علم أن رحمته ليست رقة؛ إذ لو كانت كذلك؛ لما ذبح عصفورًا ولا آلم طفلًا -وعقابه غير مأمون- فإنه شرع قطع اليد الشريفة2 بسرقة خمسة قراريط3؛ لجد وأناب، فنسأل الله عز وجل أن يهب لنا حزمًا يبت المصالح جزمًا.   1 رواه ابن ماجه "4171"، وأحمد "5/ 412"، والبخاري في التاريخ "3/ 2/ 216"، وأبو نعيم في "1/ 362"، قال الهيثمي: إسناده ضعيف، وله شاهدان أحدهما صحيح رواه الحاكم "4/ 326" وصححه ووافقه الذهبي. 2 كانت اليد شريفة قبل أن تسرق كما قال أحدهم: لما كانت أمينة كانت ثمينة، ولما خانت هانت. 3 القيراط = 0.2232 غ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 260- فصل: الإعراض عما يحرك الفخر والزهو والعجب 1192- نظرت في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لما لبس الخاتم، ثم رمى به، وقال: "شغلني ونظرة إليكن ونظرة إليه" 1، وقوله: "هذا رجل يتبختر في حلته، مرجلًا جمته، خسف به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة" 2، فرأيت أنه لا ينبغي للمؤمن أن يلبس ثوبًا معجبًا، ولا شيئًا من زينة؛ لأن ذلك يوجب النظر إلى النفس بعين الإعجاب، والنفس ينبغي أن تكون ذليلة للخالق.   1 رواه النسائي "5289،" وأحمد "1/ 322" عن ابن عمر رضي الله عنهما. 2 رواه البخاري "5789"، ومسلم "2088" عن أبي هريرة رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 1193- وقد كان قدماء الأخبار في بني إسرائيل يمشون على العصي، لئلا يقع منهم بطر في المشي. 1194- ولبست أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها درعًا لها، فأعجبت به، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا ينظر إليك في حالتك هذه" 1. 1195- ولما لبس رسول الله صلى الله عليه وسلم خميصة لها أعلام، قال: "ألهتني هذه عن صلاتي" 2. وهذا كله يوجب الإعراض عن الزينة، وما يحرك إلى الفخر والزهو والعجب، ولهذا حرم الحرير. 1196- وأقول على أسباب هذا: إن المرقعات التي يتنوق3 فيها المتصوفة بالسوارك والتلميع، ربما أوجبت زهو اللابس: إما لحسنها في ذاتها، أو لعلمه أنها تنبئ عنه بالتصوف والزهد، وكذلك الخاتم في اليد، وطول الأكمام، والنعال الضرارة4. ولا أقول: إن هذه الأشياء تحرم، بل ربما جلبت ما يحرم من الزهو. فينبغي للعاقل أن يتنبه بما قلت في دفع كل ما يحذر من شره. 1197- وقد ركب ابن عمر نجيبًا5، فأعجبه مشيه، فنزل، وقال: يا نافع! أخله في البدن6.   1 رواه أبو نعيم "1/ 37" وفي سنده إسحاق بن بشر: كذاب لا أصل له. 2 رواه البخاري "373"، ومسلم "556" عن عائشة رضي الله عنها، "والخميصة" كساء مربع له علمان. 3 يتنوق: يتأنق. 4 النعال الصرارة: التي لها صرير، وهو الصوت الذي يلفت انتباه الناس. 5 النجيب: السريع من الإبل. 6 البدن: النوق التي تهدي للبيت الحرام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 261- فصل: العزلة حمية 1198- من أراد اجتماع همه وإصلاح قلبه، فليحذر من مخالطة الناس في هذا الزمان، فإنه قد كان يقع الاجتماع على ما ينفع ذكره، فصار الاجتماع على ما يضر! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 1199- وقد جربت على نفسي مرارًا أن أحصرها في بيت العزلة، فتجتمع هي، ويضاف إلى ذلك النظر في سير السلف، فأرى العزلة حميةً، والنظر في سير القوم دواء، واستعمال الدواء مع الحمية عن التخليط نافع؛ فإذا فسحت لنفسي في مجالسة الناس ولقائهم، تشتت القلب المجتمع، ووقع الذهول عما كنت أراعيه، وانتقش في القلب ما قد رأته العين، وفي الضمير ما تسمعه الأذن، وفي النفس ما تطمع في تحصيله من الدنيا، وإذا جمهور المخالطين أرباب غفلة، والطبع بمجالستهم يسرق من طباعهم، فإذا عدت أطلب القلب، لم أجده، وأروم ذاك الحضور فأفقده، فيبقى فؤادي في غمار ذلك اللقاء للناس أيامًا، حتى يسلو الهوى. 1200- وما فائدة تعريض البناء للنقض؟! فإن دوام العزلة كالبناء، والنظر في سير السلف يرفعه؛ فإذا وقعت المخالطة، انتقض ما بني في مدة في لحظة، وصعب التلافي، وضعف القلب! ومن له فهم يعرف أمراض القلب، وإعراضه عن صاحبه، وخروج طائره من قفصه. ولا يؤمن على هذا المريض أن يكون مرضه هذا سبب التلف، ولا على هذا الطائر المحصور أن يقع في الشبكة. 1201- وسبب مرض القلب أنه كان مَحْمِيًّا عن التخليط، مغذيًا بالعلم وسير السلف، فخلط، فلم يحتمل مزاجه، فوقع المرض. فالجد الجد؛ فإنما هي أيام. وما نرى من يلقى، ولا من يؤخذ منه، ولا من تنفع مجالسته؛ إلا أن يكون نادرًا ما أعرفه. ما في الصحاب أخو وجدٍ نطارحُهُ ... حديث نجدٍ ولا صب نجارِيهِ 1202- فالزم خلوتك! وراع ما بقيت! وإذا قلقت النفس مشتاقة إلى لقاء الخلق، فاعلم أنها بعد كردة، فرضها، ليصير لقاؤهم عندها مكروهًا ... ولو كان عندها شغل بالخالق، لما أحبت الزحمة، كما أن الذي يخلو بحبيبه لا يؤثر حضور غيره. ولو أنها عشقت طريق اليمن، لم تلتفت إلى الشام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 262- فصل: أسباب الهداية 1203- تفكرت في سبب هداية من يهتدي، وانتباه من يتيقظ من رقاد غفلته، فوجدت السبب الأكبر اختيار الحق -عز وجل- لذلك الشخص، كما قيل: إذا أرادك لأمر، هيأك له. فتارة تقع اليقظة بمجرد فكر يوجبه نظر العقل، فيتلمح الإنسان وجود نفسه، فيعلم أن لها صانعًا، وقد طالبه بحقه، وشكر نعمته، وخوفه عقاب مخالفته، ولا يكون ذلك بسبب ظاهر. 1204- ومن هذا ما جرى لأهل الكهف: {إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الكهف: 14] . وفي التفسير: أن كل واحد منهم ألفى1 في قلبه يقظة، فقال: لا بد لهذا الخلق من خالق، فاشتد كرب بواطنهم من وقود نار الحذر، فخرجوا إلى الصحراء، فاجتمعوا عن غير موعد، فكل واحد يسأل الآخر: ما الذي أخرجك فتصادقوا. 1205- ومن الناس من يجعل الخالق سبحانه وتعالى -لذلك السبب الذي هو الفكر والنظر- سببًا ظاهرًا، إما من موعظةٍ يسمعها، أو يراها، فيحرك هذا السبب الظاهر فكرة القلب الباطنة. 1206- ثم ينقسم المتيقظون: فمنهم: من يغلبه هواه، ويقتضيه طبعه ما يشتهى مما قد اعتاده، فيعود القهقهري، ولا ينفعه ما حصل له من الانتباه، فانتباه مثل هذا زيادة في الحجة عليه، ومنهم: من هو واقف في مقام المجاهدة بين صفين: العقل الآمر بالتقوى، والهوى المتقاضي بالشهوات، فمنهم: من يغلب بعد المجاهدات الطويلة، فيعود إلى الشر، ويختم له به، ومنهم: من يغلب تارة، ويغلب أخرى، فجراحاته لا في مقتل. ومنهم: من يقهر عدوه، فيسجنه في حبس؛ فلا يبقى للعدو من الحيلة إلا الوساوس. ومن الصفوة أقوام، مذ تيقظوا ما ناموا2، ومذ سلكوا ما   1 ألفى: وجد. 2 في الأصل: ما قاموا، وهو تصحيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 وقفوا، فهمهم صعود وترق، كلما عبروا مقامًا إلى مقام، رأوا نقص ما كانوا فيه، فاستغفروا، ومنهم: من يرقى عن الاحتياج إلى مجاهدة: إما لخسة ما يدعو إليه الطبع عنده، ولا وقع له، وإما لشرف مطلوبه، فلا يلتفت إلى عائق عنه. 1207- واعلم أن الطريق الموصلة إلى الحق سبحانه ليست مما يقطع بالإقدام، وإنما يقطع بالقلوب، والشهوات العاجلة قطاع الطريق، والسبيل كالليل المدلهم؛ غير أن عين الموفق بصر فرس؛ لأنه يرى في الظلمة كما يرى في الضوء، والصدق في الطلب منار1، أين وجد يدل على الجادة؛ وإنما يتعثر من لم يخلص، وإنما يمتنع الإخلاص ممن لا يراد. فلا حول ولا قوة إلا بالله.   1 في الأصل: أينار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 263- فصل : عجبت لمن يُعْجَبُ بصورته وينسي مبدأ أمره 1208- عجبت لمن يعجب بصورته، ويختال في مشيته، وينسى مبدأ أمره! إنما أوله لقمة ضمت إليها جرعة ماء. فإن شئت، فقل: كسيرة خبز، معها ثمرات، وقطعة من لحم، ومذقة1 من لبن، وجرعة من ماء ونحو ذلك، طبخته الكبد، فأخرجت منه قطرات مني، فاستقر في الأنثيين2، فحركتها الشهوة، فصبت، فبقيت في بطن الأم مدة حتى تكاملت صورتها، فخرجت طفلًا، يتقلب في خرق البول. وأما آخره، فإنه يلقى في التراب، فيأكله الدود، ويصير رفاتًا تسفيه السوافي3، وكم يخرج تراب بدنه من مكان إلى مكان آخر، ويقلب في أحوال، إلى أن يعود فيجمع! هذا خبر البدن؛ إنما الروح عليها العمل: فإن تجوهرت بالأدب، وتقومت بالعلم، وعرفت الصانع، وقامت بحقه، فما يضرها نقض المركب، وإن هي بقيت على صفتها من الجهالة، شابهت الطين، بل صارت إلى أخس حالة منه.   1 جرعة. 2 الأنثيين: الخصيتين. 3 السوافي: الرياح التي تحمل الرمال وتنثرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 264- فصل: نصائح لأهل العلم وطلابه 1209- هيهات أن يجتمع الهم مع التلبس بأمور الدنيا! خصوصًا الشاب الفقير، الذي قد ألف الفقر؛ فإنه إذا تزوج، وليس له شيء من الدنيا، اهتم بالكسب، أو بالطلب من الناس، فتشتت همته، وجاءه الأولاد، فزاد الأمر عليه، ولا يزال يرخص لنفسه فيما يحصل إلى أن يتلبس بالحرام. ومن يفكر، فهمته ما يأكل، وما يأكله أهله، وما ترضى به الزوجة من النفقة والكسوة، وليس له ذلك، فأي قلب يحضر له؟! وأي هم يجتمع؟! هيهات! والله، لا يجتمع الهم، والعين تنظر إلى الناس، والسمع يسمع حديثهم، واللسان يخاطبهم، والقلب متوزع في تحصيل ما لا بد منه. 1210- فإن قال قائل: فكيف أصنع؟! قلت: إن وجدت ما يكفيك من الدنيا، أو معيشة تكفك، فاقنع بها، وانفرد في خلوة عن الخلق مهما قدرت. وإن تزوجت، فبفقيرة تقنع باليسير، وتصبر أنت على صورتها وفقرها، ولا تترك نفسك تطمح إلى من تحتاج إلى فضل نفقته؛ فإن رزقت امرأة صالحة جمعت همك، [فذاك] ، وإن لم تقدر، فمعالجة الصبر أصلح لك من المخاطرة، وإياك والمستحسنات، فإن صاحبهن -إذا سلمح كعابد صنم، وإذا حصل بيدك شيء، فانفق بعضه، فبحفظ الباقي تحفظ شتات قلبك. 1211- واحذر كل الحذر من هذا الزمان وأهله، فما بقي مواس، ولا مؤثر، ولا من يهتم لسد خلةٍ1 ولا من لو سئل أعطى؛ إلا أن يعطي نزرًا بتضجرٍ ومنةٍ، يستعبد بها المعطى بقية العمر، ويستثقله كلما رآه، أو يستدعي بها خدمته له، والتردد إليه. 1212- وإنما كان في الزمان الماضي مثل أبي عمرو بن نُجَيْدٍ2، سمع أبا   1 الخلة: الحاجة. 2 إسماعيل بن نجيد بن أحمد السلمي النيسابوري: أحد العباد الزهاد ومسند خراسان "272-365هـ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 عثمان الحيري1 يقول يومًا على المنبر: علي ألف دينار، وقد ضاق صدري. فمضى أبو عمرو إليه في الليل بألف دينار، وقال: اقض دينك! فلما عاد وصعد المنبر، قال: نشكر الله لأبي عمرو؛ فإنه أراح قلبي، وقضى ديني، فقام أبو عمرو، فقال: أيها الشيخ! ذلك المال كان لوالدتي، وقد شق عليها ما فعلت، فإن رأيت أن تتقدم برده، فافعل؛ فلما كان في الليل عاد إليه، وقال له: لماذا شهرتني بين الناس؟! فأنا ما فعلت ذلك لأجل الخلق، فخذه ولا تذكرني! ماتوا وغيب في التراب شخوصهم ... والنشر مسك، والعظام رَمِيْمُ2 1213- فالبعد البعد عمن همته الدنيا، فإن زادهم اليوم إلى أن يحصل أقرب منه إلى أن يؤثر، ولا تكاد ترى إلا عدوًّا في الباطن، صديقًا في الظاهر، شامتًا على الضر، حسودًا على النعمة. فاشتر العزلة بما بيعت، فإن من له قلب إذا مشى في الأسواق، وعاد إلى منزله، تغير قلبه، فكيف إن عرقله بالميل إلى أسباب الدنيا؟! واجتهد في جمع الهم بالبعد عن الخلق، ليخلو القلب بالتفكر في المآب، وتتلمح عين البصيرة خيم الرحيل!   1 سعيد بن إسماعيل الحيري، النيسابوري الصوفي أبو عثمان "230-298هـ": كان مجمع العباد والزهاد، ولم يزل يسمع ويجل العلماء ويعظهم، وهو للخراسانيين كالجنيد للعراقيين، وقد وقع في الأصل: المغربي وهو تصحيف. 2 النشر: الرائحة الزكية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 265- فصل: زيارة المقابر ومفاوضة الكتب 1214- كان المريد في بداية الزمان إذا أظلم قلبه أو مرض لبه، قصد زيارة بعض الصالحين، فانجلى ما أظلم. واليوم، متى حصلت ذرة من الصدق لمريد، فردته في بيت عزلة، ووجد نسيمًا من روح العافية، ونورًا في باطن قلبه، وكاد همه يجتمع وشتاته ينتظم، فخرج، فلقي من يومأ إليه بعلم أو زهد، رأى عنده البطالين، يجري معهم في مسلك الهذيان، الذي لا ينفع، ورأى صورته صورة منمس1،   1 المنمّس: المحتال المخادع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 وأهون ما عليه تضييع الأوقات في الحديث الفارغ، فما يرجع المريد عن ذلك الوطن؛ إلا وقد اكتسب ظلمة في القلب، وشتاتًا في العزم، وغفلة عن ذكر الآخرة، فيعود مريض القلب، يتعب في معالجته أيامًا كثيرة، حتى يعود إلى ما كان فيه، وربما لم يعد؛ لأن المريد فيه ضعف؛ فإذا رأى شيخًا قد جرب وعرف، ثم يؤثر البطالة، لم يأمن أن يتبعه الطبع. 1215- فالأولى للمريد اليوم ألا يزور إلا المقابر، ولا يفاوض إلا الكتب، التي قد حوت محاسن القوم، وليستعن بالله تعالى على التوفيق لمراضيه، فإنه إن أراده؛ هيأه لما يرضيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 266- فصل: صفات أولياء الله 1216- تأملت الذين يختارهم الحق -عز وجل- لولايته والقرب منه؛ فقد سمعنا أوصفاهم، ومن نظنه منهم ممن رأيناه؛ فوجدته سبحانه لا يختار إلا شخصًا كامل الصورة، لا عيب في صورته، ولا نقص في خلقته، فتراه حسن الوجه، معتدل القامة، سليمًا من آفة في بدنه، ثم يكون كاملًا في باطنه، سخيًّا، جوادًا، عاقلًا، غير خب1، ولا خادع، ولا حقود، ولا حسود، ولا فيه عيب من عيوب الباطن؛ فذاك الذي يربيه من صغره. فتراه في الطفولة معتزلًا عن الصبيان، كأنه في الصبا شيخ، ينبو2 عن الرذائل، ويفزع من النقائص، ثم لا تزال شجرة همته تنمو، حتى يرى ثمرها متهدلًا على أغصان الشباب، فهو حريص على العلم منكمش على العمل، محافظ للزمان، مراع للأوقات، ساع في طلب الفضائل، خائف من النقائص. ولو رأيت التوفيق والإلهام الرباني كيف يأخذ بيده إن عثر، ويمنعه من الخطإ إن هم، ويستخدمه في الفضائل، ويستر عمله عنه حتى لا يراه منه3.   1 خِب: مخادع. 2 ينبو: يتجافى. 3 يعني المؤلفُ نفسَه في هذه الخاطرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 1217- ثم ينقسم هؤلاء، فمنهم من تفقه على قدم الزهد والتعبد، ومنهم من تفقه على العلم واتباع السنة. ويندر منهم من يجمع [الله] له الكل، ويرقيه إلى مزاحمة الكاملين. 1218- وعلامة إثبات الكمال في العلم والعمل الإقبال بالكلية على معاملة الحلق ومحبته، واستيعاب الفضائل كلها، [وسناء الهمة في نشدان الكمال الممكن] ، فلو تصورت النبوة أن تكتسب، لدخلت في كسبه. ومراتب هذا لا يحتملها الوصف، لكونه درة الوجود، التي لا تكاد تنعقد في الصدف إلا في كل ودود، نسأل الله -عز وجل- توفيقنا لمراضيه وقربه، ونعوذ به من طرده وإبعاده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 267- فصل: يبذلون العرض دون الغرض 1219- أكثر الخلائق على طبع رديء، لا تقومه الرياضة، لا يدرون لم خلقوا؟! ولا ما المراد منهم؟! وغاية همتهم حصول بغيتهم من أغراضهم! ولا يسألون عند نيلها ما اجتلبت لهم من ذم! يبذلون العرض دون الغرض، ويؤثرون لذة ساعة، وإن اجتلبت زمان مرض! يلبسون عند التجارات ثياب محتال في شعار ويلبسون عند التجارات ثياب محتال في شعار مختال، ويلبسون في المعاملات ويسترون الحال! إن كسبوا، فشبهة، وإن أكلوا، أصبحوا، سعوا في تحصيل شهواتهم، بحرص خنزير، وتبصبص1 كلب، وافتراس أسد، وغارة ذئب، وروغان2 ثعلب! ويتأسفون عند الموت على فقد الهوى لا على عدم التقوى! {ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [النجم: 30] !! كيف يفلح من يؤثر ما يراه بعينه على ما يبصره بعقله، وما يدركه ببصره أعز عنده مما يراه ببصيرته؟! تالله، لو فتحو أسماعهم، لسمعوا هاتف الرحيل في زمان الإقامة يصيح في   1 بصبص الكلب: هزّ ذنبه تملقًا. 2 احتياله وخداعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 عرصات الدنيا: تلمحوا تفويض خيام الأوائل! لكن غمرهم سكر الجهالة؛ فلم يفيقوا إلا بضرب الحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 268- فصل: الإنفاق في بناء المساجد والأربطة 1220- رأيت بعض المتقدمين سئل عمن يكتسب حلالًا وحرامًا من السلاطين والأمراء، ثم يبني المساجد والأربطة: هل له فيها ثواب؟ فأفتى بما يوجب طيب قلب المنفق، وأن له في إنفاق ما لا يملكه نوع سمسرة؛ لأنه لا يعرف أعيان المغصوبين فيردها عليهم! فقلت: وا عجبًا من المتصدين للفتوى الذين لا يعرفون أصول الشريعة!! ينبغي أن ينظر في حال هذا المنفق أولًا؛ فإن كان سلطانًا، فما يخرج من بيت المال قد عرفت وجوه مصارفه، فكيف يمنع مستحقه، ويشغله بما لا يفيد من بناء مدرسة ورباط؟! وإن كان المنفق من الأمراء ونواب السلاطين؛ فإنه يجب أن يرد ما يجب زده إلى بيت المال، وليس له فيه إلا ما فرض من إيجاب يليق به؛ فإن تصرف في غير ذلك، كان مصروفًا فيما ليس له، ولو أذن له ما كان الإذن جائزًا، وإن كان قد أقطع ما لا يقاوم عمله1، كان ما يأخذه فاضلًا من أموال المسلمين، لا حق له فيه، وعلى من أطلقه في ذلك إثم أيضًا، هذا إذا سلم المال، وكان من حله. فأما إذا كان حرامًا أو غضبًا، فكل تصرف فيه حرام، والواجب رده على من أخذ منه، أو على ورثتهم؛ فإن لم يعرف طريق الرد، كان في بيت مال المسلمين، يصرف في مصالحهم، أو يصرف في الصدقة، ولم يحظ آخذه بغير الإثم2.   1 ما لا يستطيع رده. 2 نقل النووي "المجموع 9/ 315" عن الغزالي "الإحياء 2/ 115": "أن من كان معه مال حرام، وأراد التوبة والبراءة منه؛ فإن كان له "أي للمال" مالك معين "أي معروف" وجب صرفه إليه أو إلي وكيله، فإن كان ميتًا وجب دفعه إلى وارثه، وإن كان لمالك لا يعرفه، ويشن من معرفته، فينبغي أن يصرفه في مصالح المسلمين العامة؛ وإلا فليتصدق به على الفقراء". = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 1221- أنبأنا أحمد بن الحسن بن البنا، قال: أخبرنا محمد بن علي الزجاجي، قال: أخبرنا عبد الله بن محمد الأسدي، قال: أخبرنا على بن الحسن، قال: حدثنا أبو داود1، قال: حدثنا محمد بن عوف2 الطائي، قال: حدثنا أبو المغيرة، قال: حدثنا الأوزاعي3، قال: حدثني موسى بن سليمان، قال: سمعت القاسم بن مخيمرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اكتسب مالًا من مأثم، فوصل به رحمًا، أو تصدق به، أو أنفقه في سبيل الله؛ جمع ذلك جمعًا، فقذف به في جهنم". 1222- فأما إذا كان الباني تاجرًا مكتسبًا للحلال، فبنى مسجدًا، أو وقف وقفًا للمتفقهة؛ فهذا مما يثاب عليه، ويبعد من يكتسب الحلال حتى يفضل عنه هذا المقدار، أو يخرج الزكاة مستقصاة، ثم يطيب قلبه بمثل هذا البناء والنفقة، إذ مثل هذا البنيان لا يجوز أن يكون من زكاة، وأين سلامة النية، وخلوص المقصد؟! 1223- ثم إن بناء المدارس اليوم مخاطرة4، إذ قد انعكف أكثر المتفقهة   = ثم قال "أي النوويّ": "وهذا الذي ذكره الغزالي ذكره آخرون من الأصحاب، وهو كما قالوه، وهذا الرأي في رد المال الحرام والتخلص منه هو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم من السلف والخلف". وقال الغزالي في "الإحياء" "2/ 118": "ويدخل في المال الحرام المحض: كل ما اكتسبه الإنسان بسبب محظور شرعًا: كالسرقة، والغصب، والاختلاس، والرشوة، والربا، والعقود الفاسدة". وقال الغزالي أيضًا "الإحياء 2/ 118": " من في يده مال حرام محض يجب عليه إخراج الكل، إما ردًّا على المالك إن عرفه، أو صرفًا إلى الفقراء إن لم يعرف المالك". 1 رواه أبو داود في المراسيل "131" وله شاهد عند أحمد "1/ 387" وآخر عند ابن حبان، والزيادة من كتاب المراسيل. 2 في الأصل "عون" والتصويب من مراسيل أبي داود. 3 عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد الأوزاعي، أبو عمرو "88-157هـ" إمام أهل الشام في زمانه علمًا وفقهًا وزهدًا وورعًا. 4 كان هذا في عصر المؤلف، أما في عصرنا فهو من أعظم المبرات بعد أن خلت المساجد من حلقات العلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 إلى علم الجدل1، وأعرضوا عن علوم الشريعة، وتركوا التردد إلى المساجد، وقنعوا بالمدارس والألقاب. 1224- وأما بناء الأربطة؛ فليس بشيءٍ أصلًا؛ لأن جمهور المتصوفة جلوس على بساط الجهل والكسل، ثم يدعي مدعيهم المحبة والقرب، ويكره التشاغل بالعلم، وقد تركوا سيرة سريٍّ، وعادات الجنيد، واقتنعوا بأداء الفرائض، ورضوا بالمرقعات، فلا تحسن إعانتهم على بطالتهم وراحتهم، ولا ثواب في ذلك.   1 علم الجدل: هو علم المناظرة الفقهية والأصولية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 269- فصل: الرياء يضيع العمل 1225- عجبت لمن يتصنع للناس بالزهد، يرجو بذلك قربه من قلوبهم، وينسى أن قلوبهم بيد من يعمل له؛ فإن رضي عمله، ورآه خالصًا، لفت القلوب إليه، وإن لم يره خالصًا، أعرض بها عنه. ومتى نظر العامل إلى التفات القلوب إليه؛ فقد زاحم الشرك1؛ لأنه ينبغي أن يقنع بنظر من يعمل له. ومن ضرورة الإخلاص [ألا يقصد] التفات القلوب إليه، فذاك يحصل لا بقصده، بل بكراهته لذلك. 1226- وليعلم الإنسان أن أعماله كلها يعلمها الخلق جملة، وإن لم يطلعوا عليها، فالقلوب تشهد للصالح بالصلاح، وإن لم يشاهد منه ذلك. 1227- فأما من يقصد رؤية الخلق بعمله؛ فقد مضى العمل ضائعًا؛ لأنه غير مقبول عند الخالق، ولا عند الخلق؛ لأن قلوبهم قد التفتت عنه، فقد ضاع العلم، وذهب العمر! 1228- ولقد أخبرنا ابن الحصين، قال: أخبرنا ابن المذهب، قال: أخبرنا أحمد بن جعفر، قال: حدثنا عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا   1 زاحم الشرك: قاربه، وكاد يقع فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 حسن بن موسى، قال: حدثنا ابن لهيعة1، قال: حدثنا دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: "لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء، ليس لها باب ولا كوة؛ لخرج عمله للناس، كائنًا ما كان" 2. فليتق الله العبد، ويقصد من ينفعه قصده، ولا يتشاغل بمدح من عن قليلٍ يَبلى هو وهم.   1 عبد الله بن لهيعة الحضرمي، الأعدولي عالم الديار المصرية "96- 174 هـ"، أحد بحور العلم علي لين في حديثه، ورواية العبادلة عنه صحيحة. 2 رواه أحمد "3/ 28"، وابن حبان "5668"، والحاكم "4/ 314" عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه من رواية دراج عن أبي الهيثم وهي ضعيفة. والزيادة من المسند. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 270- فصل: متى وقع الترخص حمل إلى غيره 1229- قدم علينا بعض فقهاء من بلاد الأعاجم، وكان قاضيًا ببلده، فرأيت على دابته الذهب، ومعه أتوار1 الفضة، وأشياء كثرة من المحرمات، فقلت: أي شيء أفاد هذا العلم؟! بلى والله، قد كثرت عليه الحجج. وأكبر الأسباب قلة علم هؤلاء بسيرة السلف، وما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم! لا أنهم يجهلون الجملة؛ ولكنهم يتشاغلون بعلم الخلاف، ويقصدون التقدم بقشور المعرفة، وليس2 يعنيهم3 سماع حديث، ولا نظر في سير السلف، ويخالطون السلاطين، فيحتاجون إلى التزيي بزيهم، وربما خطر لهم أن هذا قريب، وإن لم يخطر لهم، فالهوى غالب بلا ضاد، وربما خطر لهم أن [يقولوا] : هذا يحتمل ويغفر في جانب تشاغلنا بالعلم، ثم يرون العلماء يكرمونهم لنيل شيء من دنياهم، ولا ينكرون عليهم. 1230- ولقد رأيت من الذين ينتسبون إلى العلم من يستصحب المردان، ويشتري المماليك، وما كان يغفل هذا إلا من قد يئس من الآخرة. ورأيت من قد   1 جمع تور: وهو إناء للشرب. 2 في الأصل: ولا. 3 في الأصل: قصدهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 بلغ الثمانين من العلماء وهو على هذه الحالة، فالله الله يا من يريد حفظ دينه، ويوقن بالآخرة! 1231- إياك والتأويلات الفاسدة، والأهواء الغالبة؛ فإنك إن ترخصت بالدخول في بعضها، جرك الأمر إلى الباقي، ولم تقدر على الخروج لموضع ألف الهوى فاقبل نصحي، واقنع بالكسرة، وابعد عن أرباب الدنيا، فإذا ضج الهوى؛ فدعه لهذا، وربما قال لك: فالأمر الفلاني قريب! فلا تفعل؛ فإنه - ولو كان قريبًا- يدعو إلى غيره، ويصعب التلافي. فالصبر الصبر على شظف العيش! والبعد [البعد] عن أرباب الهوى! فما يتم دين إلا بذلك، ومتى وقع الترخص؛ حمل إلى غيره، كالشاطئ إلى اللجة1. وإنما هو طعام دون طعام، ولباس دون لباس، ووجه أصبح من وجه؛ وإنما هي أيام يسيرة.   1 اللجة: الماء الكثير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 271- فصل: حكمة الخالق وراء العقول 1232- من تفكر في عظمة الله عز وجل، طاش عقله؛ لأنه يحتاج أن يثبت موجودًا لا أول لوجوده، وهذا شيء لا يعرفه الحس؛ وإنما يقر به العقل ضرورة، وهو متحير بعد هذا الإقرار، ثم يرى من أفعاله ما يدل على وجوده، فلا يخفى وجوده. 1233- ثم تجري في أقداره أمور، لولا ثبوت الدليل على وجوده، لأوجبت الجحد؛ فإنه يفرق البحر لبني إسرائيل -وذلك شيء لا يقدر عليه سوى الخالق- ويصير العصا حيَّةً، ثم يعيدها عصا، تلقف ما صنعوا، ولا يزيد فيها شيء، فهل بعد هذا بيان؟! فإذا آمنت السحرة، تركهم مع فرعون يصلبهم، ولا يمنع، والأنبياء يبتلون بالجوع والقتل، وزكريا ينشر، ويحيى تقتله زانية1، ونبينا صلى الله عليه وسلم يقول كل عام:   1 بأن حرّضت الحاكم على قتله واسمها سالومي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 "من يؤويني؟ من ينصرني"، فيكاد الجاهل بوجود الخالق يقول: لو كان موجودًا، لنصر أولياءه! فينبغي للعاقل الذي قد ثبت عنده وجوده بالأدلة الظاهرة الجلية: ألا يمكن عقله من الاعتراض عليه1 في أفعاله، ولا يطلب لها2 علة؛ إذ قد ثبت أنه مالك وحكيم، فإذا خفي علينا وجه الحكمة في فعله، نسبنا ذلك العجز إلى فهومنا. وكيف لا، وقد عجز موسى عليه السلام أن يعرف حكمة خرق السفينة، وقتل الغلام، فلما بان له حكمة ذلك الفساد في الظاهر؛ أقر؟! فلو قد بانت الحكمة في أفعال الخالق، "ما" جحد العقل جحد موسى يوم الخضر. فمتى رأيت العقل يقول: لم؟ فأخرسه بأن تقول له: يا عاجز! أنت لا تعرف حقيقة نفسك، فما لك والاعتراض على المالك؟! وربما قال العقل: أي فائدة في الابتلاء، وهو قادر أن يثيب، ولا بلاء؟! وأي غرض في تعذيب أهل النار، وليس ثم تشف؟! فقل له: حكمته فوق مرتبتك، فسلم لما لا تعلم؛ فإن أول من اعترض بعقله إبليس، رأى فضل النار على الطين، فأعرض "عن السجود". وقد رأينا خلقًا كثيرًا، وسمعنا عنهم أنهم يقدحون في الحكمة؛ لأنهم يحكمون العقول على مقتضاها، وينسون أن حكمة الخالق وراء العقول. فإياك أن تفسح لعقلك في تعليل، أو أن تطلب له جواب اعتراض، وقل له: سلم تسلم، فإنك لا تدري غور البحر، إلا وقد أدركك الغرق قبل ذلك، هذا أصل عظيم، متى فات الآدمي، أخرجه الاعتراض إلى الكفر.   1 أي: على الخالق سبحانه وتعالى. 2 في الأصل: بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 272- فصل: من أوغل في السن فليعتبر بما فقد 1234- العجب ممن يقول: أخرج إلى المقابر فاعتبر بأهل البلى3!! ولو فطن؛   1 البلى: الفناء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 علم أنه مقبرة، يغنيه الاعتبار بما فيها عن غيرها؛ خصوصًا من قد أوغل في السن، فإن شهوته ضعفت، وقواه قلت، والحواس كلت، والنشاط فتر، والشعر ابيض؛ فليعتبر بما فقد، وليستغن عن ذكر من فقد، فقد استغنى بما عنده عن التطلع إلى غيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 273- فصل: متى تكامل العقل فُقِدت لذة الدنيا 1235- متى تكامل العقل؛ فقدت لذة الدنيا، فتصاءل الجسم، وقوي السقم، واشتد الحزن؛ لأن العقل كلما تلمح العواقب، أعرض عن الدنيا، والتفت إلى ما تلمح، ولا لذة عنده بشيءٍ من العاجل، وإنما يلتذ أهل الغفلة عن الآخرة، ولا غفلة لكامل العقل، ولهذا لا يقدر على مخالطة الخلق؛ لأنهم كأنهم من غير جنسه، كما قال الشاعر ما في الديار أخو وجدٍ نطارحه ... حديث نجدٍ ولا خل نجاريْهِ1   1 سبق في الفصل "162" وفيه: "ما في الصحاب" بدل قوله: "ما في الديار" وهو قريب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 274- فصل: من قدح في البعث قدح في الحكمة 1236- ادعى الطبائعيون1 أن مادة الموجودات الماء والتراب والنار والهواء؛ فإذا كان في القيامة، أذهب الأصول، ثم أعاد الحيوان2، ليعلم أنها كانت بالقدرة، لا عن تأثير الكليات! [أَقُوْلُ] : ومن قدح في البعث؛ فقد3 بالغ في القدح في الحكمة. 1237- ومن قال: الروح عرض؟ فقد جحد البعث؛ لأن العرض لا يبقى، والأجساد تصير ترابًا؛ فإن وجد شيء، فهو ابتداء خلق. كلا والله، "بل" يعيد النفس بعينها "روحًا وجسدًا"، بدليل إعادة مذكوراتها: {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} [الصافات: 51] .   1 الفلاسفة. 2 الحيوان: الحياة. 3 في الأصل: قد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 1238- وعزته، إن لطفه في البداية لدليل على النهاية. حنن الوالدين، وأجرى اللبن في الثدي، وأنشأ الأطعمة، وأطلع العقل على العواقب، أفيحسن أن يقال بعد هذا التدبير: إنه يهمل بعد الموت، فلا يبعث؟! أترى من أحب أن يعرف، فأنشأ الخلق، وقال: "كنت كنزًا لا أعرف، فأحببت أن أعرف"، يؤثر أن يعدمهم، فيجهل قدره؟! سبحان من أعمى أكثر القلوب عن معرفته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 275- فصل: تجلي الخالق سبحانه 1239- سبحان من ظهر لخلقه حتى لم يبق خفاء، ثم خفي حتى كأنه لا ظهور. أي ظهور أجلى من هذه المصنوعات التي تنطق كلها بأن لي صانعًا صنعني، ورتبني على قانون الحكمة؟! خصوصًا هذا الآدمي الذي أنشأه من قطرة، وبناه على أعجب فطرة، ورزقه الفهم والذهن، واليقظة والعلم، وبسط له المهاد، وأجرى له الماء والريح، وأنبت له الزرع، ورفع له من فوقه السماء، فأوقد له مصباح الشمس بالنهار، وجاء بالظلمة ليسكن إلى غير ذلك، مما لا يخفى، وكله ينطق بصوت فصيح يدل على خالقه، وقد تجلى الخالق سبحانه بهذه الأفعال، فلا خفاء. 1240- ثم بعث الرسل فقراء من الدنيا، ضعاف الأبدان، فقهر بهم الجبابرة، وأظهر على أيديهم من المعجزات ما لا يدخل تحت مقدور بشر، وكل ذلك ينطق بالحق، وقد تجلى سبحانه بذلك لعباده. 1241- ثم يأتي موسى عليه السلام إلى البحر، فينفرق؛ فلا يبقى شك في أن الخالق فعل هذا، ويكلم عيسى عليه السلام الميت، فيقوم، ويبعث طيرًا أبابيل، تحفظ بيته، فيهلك قاصديه. وهذا أمر يطول ذكره كله، يدل على تجلي الخالق سبحانه بغير خفاء. 1242- فإذا ثبت عند العقلاء ذلك من غير ارتياب ولا شك، [ثم] جاءت أشياء كأنها تستر الظاهر، مثل ما سبق من تسليط الأعداء على الأولياء، وإذا ثبت التجلي بأدلة لا تحتمل التأويل، علمت أن لهذا الخفاء سرًّا لا نعلمه، يفترض على العقل فيه التسليم للحكيم، فمن سلم سلم، ومن اعترض هلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 276- فصل: عالم معاند وجاهل مهمل 1243- قد يدعي أهل كل مذهب الاجتهاد في طلب الصواب، وأكثرهم لا يقصد إلا الحق، فترى الراهب يتعبد، ويتجوع، واليهودي يذل، ويؤدي الجزية، وصاحب كل مذهب يبالغ فيه، ويحتمل الضيم والأذى طلبًا للهدى، وتحصيل الأجر في اعتقاده، ومع هذا، فيقطع العقل بضلال الأكثرين. وهذا قد يشكل؛ وإنما كشفه أنه ينبغي أن يطلب الهدى بأسبابه، ويستعمل الاجتهاد بالإبانة، فأما من فاتته الأسباب، أو فقد بعض الآلات، فلا يقال له مجتهد. 1244- فاليهود والنصارى بين عالم قد عرف صدق نبينا صلى الله عليه وسلم؛ لكنه يجحد [إبقاء] لرئاسته، فهذا معاند، وبين مقلد لا ينظر بعقله؛ فهذا مهمل، فهو يتعبد مع إهمال الأصل، وذاك1 لا ينفع، وبين ناظر منهم لا ينظر حق النظر، فيقول: في "التوراة" إن ديننا لا ينسخ! [ونسخ الشرائع لاختلاف الأزمنة حق، ولكنه] 2 يقول: النسخ بداء3! ولا ينظر في الفرق [بينهما] ، فينبغي أن ينظر حق النظر. 1245- ومن هذا الجنس تعبد الخوارج4، مع اقتناعهم بعلمهم القاصر، وهو قولهم: لا حكم إلا لله، ولم يفهموا أن التحكيم من حكم الله، فجعلوا قتال علي رضي الله عنه وقتله مبنيًّا على ظنهم الفاسد. 1246- ولما نهب مسلم بن عقبة5 المدينة، وقتل الخلق، قال: إن دخلت   1 في الأصل: هذا. 2 في الأصل: "وهو على غير ثقة أنه غير معمولٍ، ولا مدخل فيه". 3 انظر الفرق بين النسخ والبداء في كتاب "ناسخ القرآن ومنسوخه" للمؤلف ص "107-108". 4 هم الذين خرجوا على علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعد التحكيم، وطلبوا منه أن يعترف بالكفر إذ قبل بالتحكيم ثم يتوب، وكانوا هم الذين حملوه على القبول به في صفين؛ فقاتلهم في النهروان، لكنهم تآمروا على قتله فقتله المجرم عبد الرحمن بن ملجم المرادي، من مقالاتهم الرديئة تكفير فاعل الكبيرة، ومن هنا كفروا مخالفيهم واستحلوا دماءهم. 5 مسلم بن عقبة المري من قواد الأمويين الجفاة القساة من نمط الحجاج عليهما من الله ما يستحقان، وكان على يده وقعة الحرة التي استباح فيها الحرمات في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 النار بعد هذا إنني لشقي، فظن بجهله أنهم لما خالفوا بيعة يزيد، يجوز استباحتهم وقتلهم. 1247- فالويل لعامي قليل العلم، لا يتهم نفسه في واقعة، ولا يذاكر من هو أعلم منه؛ بل يقطع بظنه ويقدم. وهذا أصل ينبغي تأمله، فقد هلك في إهماله خلق لا تحصى، وقد رأينا خلقًا من العوام إذا وقعت لهم واقعة، لم يقبلوا فتوى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ، عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ، تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 277- فصل: للنفس ذخائر في البدن 1248- للنفس ذخائر في البدن، منها الدم والمني، وأشياء تتقوى بها؛ فإذا فقدت الذخائر، ولم يبق منها شيء، ذهبت. 1249- ومن ذخائرها التقوي بالمال والجاه، وما يوجب الفرح فإذا فقدت ذلك، وكانت عزيزة ذات أنفة، حرجت، وقد يهجم عليها الخوف، فلا تجد ذخيرة من الرجاء يقاومه، فتذهب، ويغلب عليها الفرح، فلا تجد من الحزن ما يقاومه، فتذهب. 1250- فاجتهد في حفظ ذخائرها، وخصوصًا الشيخ، فإنه ينبغي له ألا يفرح بإخراج الدم، ولا بإخراج المني، وإن وجد شبقًا؛ إلا أن يكون الشبق زائدًا في الحد، فيخرج المؤذي في كل حين، وعلامة أن يكون مؤذيًا: وجود الراحة عند خروجه، فمتى وجد ضعفًا؛ فقد آذى خروجه. 1251- وليحفظ ذو الأنفة على نفسه حشمته، بألا يقف في موقف يعاب به، فإنه يتمتع بذخيرة العز والأنفة، ويضاد النفس وجود ضد ذلك. 1252- وكذلك ينبغي أن يستعد لآخر عمره بالمال، مخافة أن يحتاج فيذل أو يسعى، وقد كلت2 الآلة؛ ولأن يخلف لعدوه أولى من أن يحتاج إلى صديقه، ولا يلتفت إلى من يذم المال؛ فإنهم الحمقى الجهال الذين اتكلوا على خبر الراحة،   1 الشبق: شدة الرغبة في النكاح. 2 كلّت: تعبت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 فاستطابوا الكسل والدعة، ولم يأنفوا من تناول الصدقة، ولا التعرض للسؤال، وقد كان لكل نبي معاش، ولجميع الصحابة، وخلفوا أموالًا كثيرة، فافهم هذا الأصل، ولا تلتفت إلى كلام الجهال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 278- فصل: زهاد زماننا أهل رياء ونفاق 1253- رأيت في زهاد زماننا من الكبر، وحفظ الناموس، ورتبة الجاه في قلوب العامة ما كدت أقطع به على أنهم أهل رياء ونفاق! فترى أحدهم يلبس الثوب الذي يرى بعين الزهد، ويأكل أطايب الطعام، ويتكبر على أبناء الجنس، ويصادق الأغنياء، ويباعد الفقراء، ويحب الخطاب بمولانا، والمشي بجانبه، ويضيع الزمان في الهذيان، ويتقوت بخدمة الناس له والتسليم عليه. ولو أنه لبس ثوبًا يخلطه بالفقهاء؛ لذهب الجاه، ولم يبق له متعلق! ولو أن أفعاله ناسبت ثيابه لهان الأمر، لكنهم بهرجوا على من لا يخفى أمرهم عليه من الخلق، فكيف الخالق سبحانه وتعالى؟! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 279- فصل: على المؤمن أن يصون نفسه 1254- كثيرًا ما أعيد هذا المعنى الذي أنا ذاكره في هذا الكتاب بعبارات شتى: ينبغي للمؤمن أن يتشاغل بمعاشه، ويرفق في نفقته، فإنه قد كان للعلماء شيء من بيت المال، ورفق من الإخوان، ومعونة من العوام، فانقطع الكل، وبقي المتشاغل بالعلم أو التعبد مسكينًا، خصوصًا ذو1 العائلة. 1255- وما رأينا مثل هذا الزمان القبيح؛ فما بقي من يومأُ إليه بمعونةٍ، ولا باستقراض، فيحتاج الإنسان المؤمن أن يدخل في مداخل لا تليق به، وأن يتعرض بما لا يصلح. فينبغي تقليل العائلة، وتقويت القوت2، وترقيع الخلق. وإن أمكن معاش،   1 كذا في الأصل، والصواب "ذا". 2 تقويت القوت: حفظه، وعدم تضييعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 فهو أولى من التشاغل بالتعبد، والتعلم لفضول العلم؛ وإلا ضاع الدين في مداخل لا تصلح، أو التعرض لبذل نذلٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 280- فصل: على المؤمن أن يحترز مما يمكن وقوعه 1256- ينبغي للعاقل أن يحترز غاية ما يمكنه؛ فإذا جرى القدر مع احترازه، لم يلم، والاحتراز ينبغي من كل شيء يمكن وقوعه، وأخذ العدة لذلك واجب، وهذا يكون في كل حال. فقد قص رجل ظفره؛ فجار عليه، فخبثت يده فمات. ومر شيخنا أحمد الحربي1، وهو راكب بمكان ضيق، فتطأطأ على السرج، فانعصر فؤاده، فمرض، فمات. وكان يحيى بن نزار شيخًا يحضر مجلسي، قد طرق عليه ثقل الأذن، فاستدعى طرقيًّا2، فمص أذنه، فجرى شيء من مخه، فمات. وانظر إلى احتراز رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين مر على حائط مائل فأسرع3. 1257- وينبغي أن يحترز بالكسب في زمن شبابه، ادخارًا لزمن شيبه، ولا ينبغي أن يثق بمعامل إلا بوثيقة، ويبادر بالوصية، مخافة أن يطرقه الموت، ويحترز من صديقه فضلًا عن عدوه، ولا يثق بمودة من قد آذاه هو؛ فإن الحقد في القلوب قلما يزول، وليحترز من زوجته، فربما أطلعها على سره، ثم طلقها، فيتأذى بما تفعل به. وقد كان ابن أفلح4 الشاعر يكاتب رئيسًا في زمن المسترشد، فعلم بذلك بوابه، واتفق أنه صرف بوابه، فنم عليه، ونقضت داره5. فهذه المذكورات6 أمثلة تنبه على ما لم يذكر، وأهم الكل أن يحترز بأخذ   1 لم أجده. 2 مشعوذًا. 3 رواه أحمد "2/ 356"، قال الهيثمي في المجمع "2/ 321": إسناده ضعيف. 4 هو، علي بن أفلح العبسي، أبو القاسم، شاعر من الكتاب؛ علت شهرته، مدح الخلفاء وأرباح المراتب، له ديوان شعر، توفي سنة "535هـ". 5 المنتظم "10/ 80". 6 في الأصل: المذكرات، وهو تصحيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 العدة، وتحقيق التوبة، قبل أن يهجم عليه ما لا يؤمن هجومه، وليحذر من لص الكسل؛ فإنه محتال على سرقة الزمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 281- فصل: السعيد من اهتم لحفظ دينه وقنع من الدنيا باليسير 1258- تأملت خصومات الملوك، وحرص التجار، ونفاق المتزهدين: فوجدت جمهور ذلك على لذات الحس، وإذا تفكر العاقل في ذلك، علم أن أمر الحسيات قريب، يندفع بأقل شيء، وأن الغاية منه لا يمكن نيلها، وإن بالغ عاد بالأذى على نفسه أضعاف ما ناله من اللذة، كمن يأكل كثيرًا أو ينكح كثيرًا، فالسعيد من اهتم لحفظ دينه، وأخذ من ذلك بمقدار الحاجة. 1259- وا عجبًا! هذا الملبوس: إذا كان وسطًا، خدم، وإذا كان مرتفعًا؛ خدم؛ فإن نظر اللابس إليه معجبًا به، فإن الله لا ينظر إليه حينئذ، وفي "الصحيح": "بينما رجل يتبختر في بردته، خسف به". 1260- والمشروب: إن كان حرامًا، فعقابه أضعاف لذته، وهتكه العرض بين الناس عقاب آخر، وإن كان مباحًا، فالشره فيه يؤذي البدن. 1261- وأما المنكوح، فمداراة المستحسن يؤذي فوق كل أذى، ومقاساة المستقبح أشد أذى، فعليك بالتوسط. 1262- وتفكر في أحوال السلاطين، كم قتلوا ظلمًا؟ وكم ارتكبوا حرامًا؟ وما نالوا إلا يسيرًا من لذات الحس، فانقشع غيم العمر عن حسرات الفضائل وحصول العقاب. 1263- فليس في الدنيا أطيب عيشًا من منفرد عن العالم بالعلم، فهو أنيسه وجليسه، قد قنع بما سلم به دينه من المباحات الحاصلة، لا عن تكلف، ولا تضييع دين، وارتدى بالعز عن الذل للدنيا وأهلها، والتحف بالقناعة باليسير، إذا لم يقدر على الكثير، فوجدته يسلم دينه ودنياه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 واشتغاله بالعلم يدله على الفضائل، ويفرجه في البساتين، فهو يسلم من الشيطان والسلطان والعوام بالعزلة، ولكن، لا يصلح هذا إلا للعالم؛ فإنه إذا اعتزل الجاهل، فاته العلم، فتخبط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 282- فصل: الموفق من طلاب العلم 1264- تأملت حالة تدخل على طلاب العلم توجب الغفلة عن المقصود، وهو حرصهم على الكتابة، خصوصًا المحدثين، فيستغرق ذلك زمانهم عن أن يحفظوا ويفهموا، فيذهب العمر وقد عروا1 عن العلم إلا اليسير. فمن وفق، جعل معظم الزمان مصروفًا في الإعادة والحفظ، وجعل وقت التعب من التكرار للنسخ، فيحصل له المراد. والموفق من طلب المهم؛ فإن العمر يعجز عن تحصيل الكل، وجمهور العلوم الفقه، وفي الناس من حصل له العلم، وغفل عن العمل بمقتضاه، وكأنه ما حصل شيئًا، نعوذ بالله من الخذلان.   1 عروا: تجردوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 283- فصل: التثبت والمشاورة 1265- ما اعتمد أحد أمرًا إذا هم بشيء مثل التثبت؛ فإنه متى عمل بواقعة من غير تأمل للعواقب، كان الغالب عليه الندم، ولهذا أمر بالمشاورة؛ لأن الإنسان بالتثبت يفتكر، فتعرض على نفسه الأحوال، وكأنه شاور، وقد قيل: "خمير الرأي خير من فطيره". 1266- وأشد الناس تفريطًا من عمل مبادرة في واقعة، من غير تثبت ولا استشارة، خصوصًا فيما يوجبه الغضب، فإنه طلب الهلاك أو الندم العظيم. وكم مَنْ غَضِبَ، فقتل، وضرب، ثم لما سكن غضبه؛ بقي طول دهره في الحزن والبكاء والندم! والغالب في القاتل أنه يقتل، فتفوته الدنيا والآخرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 1267- فكذلك من عرضت له شهوة، فاستعجل لذتها، ونسي عاقبتها، فكم من ندم يتجرعه في باقي عمره، وعتاب يستقبله من بعد موته، وعقاب لا يؤمن وقوعه، كل ذلك للذة لحظة كانت كبرقٍ. فالله الله! التثبت التثبت في كل الأمور! والنظر في عواقبها! خصوصًا الغضب المثير للخصومة وتعجيل الطلاق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 284- فصل: من لم يحترز بعقله هلك بعقله 1268- سألني سائل: قد قال بعض الحكماء: "من لم يحترز بعقله، هلك بعقله" فما معنى هذا؟ فبقيت مدة لا ينكشف لي المعنى، ثم اتضح؛ وذلك أنه إذا طلبت معرفة ذات الخالق سبحانه من العقل، فزع إلى الحس، فوقع التشبيه، فالاحتراز من العقل بالعقل هو: أن ينظر، فيعلم أنه لا يجوز أن يكون جسمًا ولا شبهًا لشيءٍ. 1269- وإذا نظر العاقل إلى أفعال الباري سبحانه؛ رأى أشياء لا يقتضيها العقل، مثل الآلام، والذبح للحيوان، وتسليط الأعداء على الأولياء، مع القدرة على المنع، والابتلاء بالمجاعة للصالحين، والمعاقبة على الذنب بعد البعد بزلة، وأشياء كثيرة من هذا الجنس، يعرضها العقل على العادات في تدبيره، فيرى أنه لا حكمة تظهر له فيها. فالاحتراز من العقل به أن يقال له: أليس قد ثبت عندي أنه مالك، أنه حكيم، وأنه لا يفعل شيئًا عبثًا؟ فيقول: بلى. فيقال: فنحن نحترز من تدبيرك الثاني بما ثبت عندك في الأول؛ فلم يبق إلا أنه خفي عليك وجه الحكمة في فعله، فيجب التسليم له، لعلمنا أنه حكيم، حينئذ يذعن ويقول: قد سلمت. 1270- وكثير من الخلق نظروا لمقتضى واقع العقل الأول، فاعترضوا! حتى إن العامي يقول: كيف قضى علي بسوء1 عاقبتي؟! ولم ضيق رزقي؟! وما وجه   1 في الأصل: سوء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 الحكمة في ابتلائي بفنون البلاء؟! ولو أنه تلمح أنه مالك حكيم، لم يبق إلا التسليم لما خفي. 1271- ولقد أنس ببديهة العقل خلق من الأكابر1، أولهم إبليس، فإنه رأى تفضيل النار على الطين، فاعترض. ورأينا خلقًا ممن نسب إلى العلم قد زلوا في هذا، واعترضوا، ورأوا أن كثيرًا من الأفعال لا حكمة تحتها. والسبب ما ذكرنا، وهو الأنس بنظر العقل في البديهة والعادات، والقياس على أفعال المخلوقين. ولو استخرجوا علم العقل الباطن، وهو أنه قد ثبت الكمال للخالق، وانتفت عنه النقائض، وعلم أنه حكيم لا يعبث، لبقي التسليم لما لا يعقل. 1272- واعتبر هذا بحال الخضر وموسى عليهما السلام، لما فعل الخضر أشياء تخرج عن العادات أنكر موسى، ونسي إعلامه له بأني أنظر فيما لا تعلمه من العواقب؛ فإذا خفيت مصلحة العواقب على موسى عليه السلام مع مخلوق، فأولى أن يخفى علينا كثير من حكمة الحكيم. وهذا أصل، إن لم يثبت عند الإنسان؛ أخرجه إلى الاعتراض والكفر، وإن ثبت، استراح عند نزول كل آفة.   1 الأكابر: يعني المتكبرين كما يفهم من السياق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 285- فصل: بإنعامك المتقدم أتوسل إليك 1273- بلغني عن بعض الكرماء أن رجلًا سأله، فقال: أنا الذي أحسنت [إلي] 2 يوم كذا وكذا. فقال: مرحبًا بمن يتوسل إلينا بنا، ثم قضى حاجته. 1274- فأخذت من ذلك إشارة، فناجيت بها، فقلت: أنت الذي هديته من زمن الطفولة، وحفظته من الضلال، وعصمته عن كثير من الذنوب، وألهمته طلب العلم، لا بفهم لشرفه، لموضع الصغر، ولا بحب والده، ورزقته فهما لتفقهه وتصنيفه، وهيأت له أسباب جمعه، وقمت برزقه من غير تعب منه، ولا ذل للخلق بالسؤال.   1 في الأصل: إليك، ولا يصح، وما أثبته هو ما يقتضيه سياق الكلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 وحاميت عنه الأعداء، فلم يقصده جبار، وجمعت له ما لم تجمع لأكثر الخلق من فنون العلم، التي لا تكاد تجتمع في شخص، وأضفت إليها تعلق القلب بمعرفتك ومحبتك، وحسن العبارة1 ولطفها في الدلالة عليك، ووضعت له في القلوب القبول، حتى إن الخلق يقبلون عليه، ويقبلون ما يقوله، ولا يشكون فيه، ويشتاقون إلى كلامه، ولا يدركهم الملل منه، وصنته بالعزلة عن مخالطة من لا يصلح، وآنسته في خلوته بالعلم تارة، وبمناجاتك أخرى، وإن ذهبت أعد؛ لم أقدر على إحصاء عشير العشير: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34] ، فيا محسنًا إلي قبل أن أطلب! لا تخيب أملي فيك وأنا أطلب، فبإنعامك المتقدم أتوسل إليك.   1 في الأصل: العبادة، وهو تصحيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 286- فصل: المحمود من الأشياء المتوسط 1275- سبحان من جعل الخلق بين طرفي نقيض، والمتوسط منهم يندر! منهم من يغضب، فيقتل ويضرب، ومنهم: من هو أبله بقوة الحلم، لا يؤثر عنده السب! ومنهم: شره يتناول كل ما يشتهي، ومنهم: متزهد يتجفف، فيمنع النفس حقها! وكذلك سائر الأشياء، المحمود منها المتوسط: فالمنفق كل ما يجد مبذر، والبخيل يخبئ المال، ويمنع نفسه حظها. 1276- ومعلوم أن المال لا يراد لنفسه، بل للمصالح؛ فإذا بذر الإنسان فيه، احتاج إلى بذل وجهه ودينه ومنة البخلاء عليه، وهذا لا يصلح؛ ولأن يخلف الإنسان لعدوه أحسن من أن يحتاج إلى صديقه. 1277- ومن الناس من يبخل، ثم يتفاوتون في البخل، حتى ينتهي بالبخلاء الأمر إلى عشق عين المال، فربما مات أحدهم هزالًا، وهو لا ينفقه، فيأخذه الغير، ويندم المخلف!! ولقد بلغني في هذا ما ليس فوقه مزيد، ذكرته لتعتبر به: 1278- فحدثني شيخنا أبو الفضل بن ناصر1، عن شيخه عند المحسن   1 محمد بن ناصر إسلامي البغدادي "467-550": الإمام المحدث الحافظ، أول شيخ لابن الجوزي ربي يتيمًا في كفالة جده لأمه الفقيه أبي حكيم الخبري، وكان كثير الذكر، سريع الدمعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 الصوري1، قال: كان بصورٍ تاجر في غرفةٍ له، يأخذ كل ليلة من البقال رغيفين وجوزة، فيدخل إلى غرفته وقت المغرب، فيضرم النار في الجوزة، فتضيء بمقدار ما ينزع ثوبه، وفي زمان إحراق القشر تكون قد استوت2، فيمسح بها الرغيفين ويأكلهما، فبقي على هذا مدة، فمات، فأخذ منه ملك صور ثلاثين ألفًا!! 1279- ورأيت أنا رجلًا من كبار العلماء قد مرض، فاستلقى عند بعض أصدقائه، ليس له من يخدمه، ولا "من"3 يرافقه، وهو مضر4، فلما مات، وجدوا بين كتبه خمسمائة دينار!! 1280- وحدثني أبو الحسن الراندسي، قال: مرض رجل عندنا، فبعث إلى، فحضرت، فقال: قد ختم القاضي على مالي، فقلت: إن شئت قمت وفتحت الختم، وأعطيتك الثلث تفرقه، وتعمل به ما تشاء، فقال: لا والله، ما أريد أن أفرقه، بل أريد مالي يكون عندي فقلت: ما يعطونك، بل5 أنا آخذ لك الثلث كي تكون حرًّا فيه، فقال: لا أريده، فمات، وأخذ ماله!! 1281- قال: وجاء رجل، فحدثني بعجيبة، قال: مرضت حماتي، فقالت لي: أريد أن تشتري لي خبيصًا6، فاشتريت لها، وكانت ملقاة في صفة7، ونحن في صفة أخرى، فجاءني ولدي الصغير، وقال: يا سيدي! إنها تبلع الذهب!! فقمت، وإذا بها تجعل الدينار في شيء من الخبيص فتبلعه! فأمسكت يدها، وزجرتها عن هذا، فقالت: أنا أخاف أن تتزوج على ابنتي، فقلت: ما أفعل، فقالت: احلف لي! فحلفت، فاعطتني باقي الذهب، ثم ماتت، فدفنتها، فلما كان بعد أشهر، مات لنا طفل، فحملناه إليها، وأخذت معي خرقة خام، وقلت للحفار: اجمع لي عظام   1 عبد المحسن بن محمد بن أحمد الصوري، أبو محمد، شاعر الشام، توفي سنة "419هـ" وله ثمانون سنة. 2 نضجت. 3 زيادة من المحقق. 4 مضر: ضرير أي أعمي. 5 في الأصل: بلى، وهو تصحيف. 6 الخبيص: طعام يصنع من تمر وسمن. 7 صفة: موضع في الدار تكون مظللة تحجب أشعة الشمس، ويسمّى في الشام: المصطبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 تلك العجوز في الخرقة، فجئت بها إلى البيت، وتركتها في إجانة1، وصببت عليها الماء، وحركتها، فأخرجت ثمانين دينارًا أو نحوها، كانت قد ابتلعتها2!! 1282 وحكى لي صديق لنا: أن رجلًا مات، ودفن في الدار، ثم نبش بعد مدة ليخرج، فوجد تحت رأسه لبنة مُقَيَّرةٌ3، فسئل أهله عنها؟ فقالوا: هو قير هذه اللبنة، وأوصى أن تترك تحت رأسه في قبره، وقال: إن اللبن يبلى سريعًا، وهذه لموضع القار لا تبلى، فأخذوها، فوجدوها رزينةً4، فكسروها، فوجدوا فيها تسعمائة دينارٍ، فتولاها أصحاب التركات!! 1283- وبلغني أن رجلًا كان يكنس المساجد، ويجمع ترابها، ثم ضربه لبنًا، فقيل له: هذا لأي شيء؟ فقال: هذا تراب مبارك، وأريد أن يجعلوه على لحدي؛ فلما مات، جعل على لحده، ففضل منه لبنات، فرموها في البيت، فجاء المطر، فتفسخت اللبنات، فإذا فيها دنانير، فمضوا، وكشفوا اللبن عن لحده، وكله مملوء دنانير!! 1284- ولقد مات بعض أصدقائنا، وكنت أعلم [أن] له مالًا كثيرًا، وطال مرضه، فما أطلع أهله على شيء، ولا أكاد أشك أنه من شحه وحرصه على الحياة ورجائه أن يبقى لم يعلمهم بمدفونه، خوفًا أن يؤخذ، فيحيا هو، وقد أخذ المال، وما يكون بعد هذا الخزي شيء!! 1285- وحدثني بعض أصحابنا عن حالة شاهدها من هذا الفن، قال: كان فلان له ولدان ذكران وبنت، وله ألف دينار مدفونة، فمرض مرضًا شديدًا، فاحتوشته5 أهله، فقال لأحد ابنيه: لا تبرح من عندي! فلما خلا به، قال له: إن أخاك مشغول باللعب بالطيور، وإن أختك لها زوج تركي، ومتى وصل من مالي   1 إجانة: وعاء يستعمل لغسل الثياب. 2 هذه القصة تذكر من باب الطرائف لا من باب الحقائق. 3 مقبرة، مطلية بالقار وهو الزفت. 4 رزينة: ثقيلة. 5 احتوشته أهله: اجتمعوا حوله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 إليهما شيء، أنفقوه في اللعب، وأنت على سيرتي وأخلاقي، ولي في الموضع الفلاني ألف دينار؛ فإذا أنا مت، فخذها وحدك، فاشتد بالرجل المرض، فمضى الولد، فأخذ المال، فعوفي الأب، فجعل يسأل الولد أن يرد المال إليه، فلا يفعل، فمرض الولد وأشفى1، فجعل الأب يتضرع إليه ويقول: ويحك! خصصتك بالمال دونهم، فتموت، فيذهب المال! ويحك! لا تفعل! فما زال به حتى أخبره بمكانه، فأخذه، ثم عوفي الولد، ومضت مدة، فمرض الأب، فاجتهد الولد أن يخبره بمكان المال وبالغ، فلم يخبره، ومات، وضاع المال، فسبحان من أعدم هؤلاء العقول والفهوم! {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 44] .   1 أشفى: أشرف على الموت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 287- فصل : إذا أردت أن تصادق أحدًا فاختبره 1286- كان لنا أصدقاء وإخوان أعتد1 بهم؛ فرأيت منهم من الجفاء وترك شروط الصداقة والأخوة عجائب، فأخذت أعتب، ثم انتبهت لنفسي، فقلت: وما ينفع العتاب؛ فإنهم إن صلحوا، فللعتاب لا للصفاء؟! فهممت بمقاطعتهم! ثم تفكرت، فرأيت الناس بين معارف وأصدقاء في الظاهر، وإخوة مباطنين، فقلت: لا تصلح مقاطعتهم؛ إنما ينبغي أن تنقلهم من ديوان الأخوة إلى ديوان الصداقة الظاهرة، فإن لم يصلحوا لها، نقلتهم إلى جملة المعارف، وعاملتهم معاملة المعارف، ومن الغلط أن تعاتبهم، فقد قال يحيى بن معاذ2: بئس الأخ أخ تحتاج أن تقول له: اذكرني في دعائك. 1287- وجمهور الناس اليوم معارف، ويندر فيهم صديق في الظاهر؛ فأما الأخوة والمضافاة، فذاك شيء نسخ، فلا يطمع فيه، وما أرى الإنسان تصفو له أخوة من النسب ولا ولده ولا زوجته، فدع الطمع في الصفا، وخذ عن الكل جانبًا، وعاملهم معاملة الغرباء! وإياك أن تنخدع بمن يظهر لك الود، فإنه مع الزمان يبين   1 أعتدّ بهم: أعتز بصداقتهم. 2 يحيى بن معاذ بن جعفر الرازي، أبو زكريا الواعظ، من كبار المشايخ، له كلام جيد، ومواعظ مشهورة، توفي سنة "258هـ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 لك الحال فيما أظهره، وربما أظهر لك ذلك لسببٍ يناله منك!! 1288- وقد قال الفضيل بن عياض: "إذا أردت أن تصادق صديقًا، فأغضبه، فإن رأيته كما ينبغي، فصادقه. وهذا1 اليوم مخاطرة؛ لأنك إذا أغضبت أحدًا، صار عدوًّا في الحال، والسبب في نسخ حكم الصفا: أن السلف كانت همتهم الآخرة وحدها، فصفت نياتهم في الأخوة والمخالطة، فكانت دينًا لا دنيا، والآن، فقد استولى حب الدنيا على القلوب، فإن رأيت متملقًا في باب الدين، فأخبره2 تقله3.   1 أي: الإغضاب. 2 اعرفه واختبره. 3 تقله: تجفوه وتبتعد عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 288- فصل: العجب لمطلق يؤثر القيد ومستريح يؤثر التعب 1289- رأيت المعافى لا يعرف قدر العافية إلا في المرض، كما لا يعرف شكر الإطلاق إلا في الحبس. 1290- وتأملت على الآدمي حالة عجيبة، وهو أن تكون معه امرأة لا بأس بها؛ إلا أن قلبه لا يتعلق بمحبتها تعلقًا يلتذ به، ولذلك سببان: أحدهما: أن تكون غير غاية في الحسن. والثاني: أن كل مملوك مكروه، والنفس تطلب ما لا تقدر عليه. فتراه يضج ويشتهي شيئًا يحبه، أو امرأة يعشقها، ولا يدري أنه إنما يطلب قيدًا وثيقًا، يمنع القلب من التصرف في أمور الآخرة، أو في أي علم أو عمل، ويحبطه في تصريف الدنيا، فيبقى ذلك العاشق أسير المعشوق، همه كله معه، فالعجب لمطلق يؤثر القيد، ومستريح يؤثر التعب!! 1291- فإن كانت تلك المرأة تحتاج أن تحفظ؛ فالويل له، لا قرار له، ولا سكون، وإن كانت من التبرجات اللواتي لا يؤمن فسادهن، فذاك هلاكه بمرةٍ، فلا هو إن نام يلتذ بنومه، ولا إن خرج من الدار يأمن من محنة، وإن كانت تريد نفقة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 واسعة وليس له، فكم يدخل مدخل سوء لأجلها، وإن كانت تؤثر الجماع، وقد علت سنة، فذاك الهلاك العظيم. وإن كانت تبغضه، فما بقيت من أسباب تلفه بقية، فيكون هذا ساعيًا في تلف نفسه، كما قال القائل: نحب القدود ونهوى الخدود ... ونعلم أنا نحب المنونا وهذا على الحقيقة كعابد صنم. 1292- فليتق الله من عنده امرأة لا بأس بها، وليعرض عن حديث النفس ومناها، فما له منتهى، ولو حصل له غرضه كما يريد؛ وقع الملل، وطلب ثالثة، ثم يقع الملل، ويطلب رابعة، وما لهذا آخر1؛ إنما يفيده ذلك في العاجل، تعلق قلبه، وأسر لبه، فيبقى كالمبهوت2، فكره كله في تحصيل ما يريد محبوبة، فإن جرت فرقة أو آفة، فتلك الحسرات الدائمة إن بقي، أو التلف عاجلًا، وأين المستحسن المصون الدين، القنوع لمن يحبه؟! هذا أقل من الكبريت الأحمر. فلينظر في تحصيل ما يجمع معظم الهم، ولا يلتفت إلى سواد الهوى وغاية المني، يسلم.   1 في الأصل: أخير، وهو تصحيف. 2 المبهوت: المدهوش. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 289- فصل : إذا تم علم الإنسان لم يدلَّ بعمله 1293- إذا تم علم الإنسان، لم ير لنفسه عملًا؛ وإنما يرى إنعام الموفق لذلك العمل، الذي يمنع العاقل أن يرى لنفسه عملًا، أو يعجب به، وذلك بأشياء: منها: أنه وفق لذلك العمل: {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 7] ، ومنها: أنه إذا قيس بالنعم، لم يف بمعشار عشرها، ومنها: أنه إذا لوحظت عظمة المخدوم، احتقر كل عمل وتعبد، هذا إذا سلم من شائبة، وخلص من غفلة. فأما والغفلات تحيط به؛ فينبغي أن يغلب الحذر من رده، ويخاف العتاب على التقصير فيه، فيشتغل عن النظر إليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 1294- وتأمل على الفطناء أحوالهم في ذلك: فالملائكة الذين يسبحون الليل والنهار، لا يفترون، قالوا: ما عبدناك حق عبادتك، والخليل عليه السلام يقول: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي} [الشعراء: 82] ، وما أدل1 بتصبره على النار، وتسليمه الولد إلى الذبح. ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما منكم من ينجيه عمله"، قالوا: ولا أنت؟ قال: "ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته" 2. وأبو بكر رضي الله عنه يقول: "وهل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله؟! " وعمر رضي الله عنه يقول: "لو أن لي طلاع الأرض3، لافتديت بها من هول ما أمامي قبل أن أعلم ما الخبر"، وابن مسعود يقول: "ليتني إذا مت لا أبعث"، وعائشة رضي الله عنها تقول: "ليتني كنت نسيًا منسيًا". وهذا شأن جميع العقلاء، فرضي الله عن الجميع. 1295- وقد روي عن قوم من صلحاء بني إسرائيل ما يدل على قلة الأفهام لما شرحته؛ لأنهم نظروا إلى أعمالهم، فأدلوا بها4. 1296- فمنه حديث العابد الذي تعبد خمسمائة سنة في جزيرة، وأخرج له كل ليلة رمانة، وسأل الله تعالى أن يميته في سجوده، فإذا حشر، قيل له: "ادخل الجنة برحمتي! قال: بل بعملي، فيوزن جميع عمله بنعمة واحدة، فلا يفي، فيقول: يا رب! برحمتك"5. 1297- وكذلك أهل الغار الذين انطبقت عليهم الصخرة: فإن أحدهم: توسل بعمل كان ينبغي أن يتسحيي من ذكره، وهو أنه عزم على الزنا، ثم خاف العقوبة، فتركه، فليت شعري، بماذا يدل من خاف أن يعاقب على شيء، فتركه تخوف   1 أدل: مَنَّ. 2 رواه البخاري "5673"، ومسلم "2816" عن أبي هريرة رضي الله عنه، قلت: كل طاعات ابن آدم هي شكر على نعم الله التي لا تحصى، وهي وإن بلغت ما بلغت لا تفي بحق شكر نعمة واحدة من نعم الله تعالى كنعمة البصر مثلًا، أما الجزاء على الطاعة إن في الدنيا أو في الآخرة فمحض فضل من الله سبحانه وتعالى. 3 طلاع الأرض: ملؤها. 4 منّوا بها. 5 رواه الحاكم "4/ 250" من طريق سليمان بن هرم قال الذهبي: غير معتمد "ضعيف". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 العقوبة1؟! إنما لو كان مباحًا فتركه، كان فيه ما فيه. ولو فهم؛ لشغله خجل الهمة عن الإذلال، كما قال يوسف عليه السلام: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} [يوسف: 53] 2!! والآخر: ترك صبيانه يتضاغون3 إلى الفجر ليسقي أبويه اللبن، وفي هذا البر أذى للأطفال، ولكن الفهم عزيز4. وكأنهم لما أحسنوا فيما ظنوا، قال لسان الحال: أعطوهم ما طلبوا؛ فإنهم يطلبون أجرة ما عملوا5. 1298- ولولا عزة الفهم، ما تكبر متكبر على جنسه، ولكان كل كامل خائفًا محتقرًا لعمله، حذرًا من التقصير في شكر ما أنعم عليه، وفهم هذا المشروح ينكس رأس الكبر، ويوجب مساكنة الذل، فتأمله، فإنه أصل عظيم.   1 عن ابن عباس رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تعالى كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك" وفيه: ".. وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة" رواه البخاري "6490"، ومسلم "31". 2 الراجح أن هذا كلام امرأة العزيز، كما يدل على ذلك سياق الآية. 3 يتضاغون: يتصايحون. 4 سيسوق المؤلف هذا الحديث، وفيه مدح لفعل هؤلاء في الفصل "383" من الملحق. 5 وهو حديث الشفاعة المشهور رواه البخاري "3340"، ومسلم "194" عن أبي هريرة رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 290- فصل: الخوف بعد التوبة 1299- ينبغي للعاقل أن يكون على خوف من ذنوبه، وإن تاب منها، وبكى عليها. وإني رأيت أكثر الناس قد سكنوا إلى قبول التوبة، وكأنهم قد قطعوا على ذلك! وهذا أمر غائب!! ثم لو غفرت؛ بقي الخجل من فعلها. 1300- ويؤيد الخوف بعد التوبة أنه في "الصحاح": أن الناس يأتون إلى آدم عليه السلام، فيقولون: اشفع لنا! فيقول: ذنبي، وإلى نوح عليه السلام، فيقول: ذنبي، وإلى إبراهيم.. وإلى موسى.. وإلى عيسى صلوات الله وسلامه عليهم. فهؤلاء إذا اعتبرت ذنوبهم؛ لم يكن أكثرها ذنوبًا حقيقة، ثم إن كانت، فقد تابوا منها، واعتذروا، وهم بعد على خوف منها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 1301- ثم إن الخجل بعد قبول التوبة لا يرتفع، وما أحسن ما قال الفضيل بن عياض رحمه الله: وا سوأتاه منك، وإن عفوت! فأف والله لمختار الذنوب، ومؤثر لذة لحظة تبقى حسرة، لا تزول عن قلب المؤمن، وإن غفر له. 1302- فالحذر الحذر من كل ما يوجب خجلًا، وهذا أمر قل أن ينظر فيه تائب أو زاهد؛ لأنه يرى أن العفو قد غمر الذنب بالتوبة الصادقة! وما ذكرته يوجب دوام الحذر والخجل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 291- فصل: نعوذ بالله من سوء الفهم 1303- نعوذ بالله من سوء الفهم، وخصوصًا من المتسمين بالعلم، روى أحمد في "مسنده"1: أنه تنازع أبو عبد الرحمن السلمي2 وحبان بن عطية3، فقال أبو عبد الرحمن لحبان: قد علمت ما الذي جرَّأ4 صاحبك -يعني: عليًّا- قال: ما هو؟ قال: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم" 5. وهذا سوء فهم من أبي عبد الرحمن، حين ظن أن عليًّا قاتل وقتل اعتمادًا على أنه قد غفر له!! وينبغي أن يعلم أن معنى الحديث: لتكن أعمالكم المتقدمة ما كانت، فقد غفرت لكم. فأما غفران ما سيأتي، فلا يتضمنه ذلك. أتراه لو وقع من أهل بدر -وحاشاهم- الشرك -إذ ليسوا بمعصومين-، أما كانوا يؤاخذون به؟! فكذلك المعاصي.   1 "1/ 105". 2 عبد الله بن حبيب بن ربيعة الكوفي، من أولاد الصحابة، ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، قرأ القرآن ومهر فيه، وعرض على عثمان وعلي ابن مسعود رضي الله عنه، وكان ثبتًا، توفي سنة "80هـ"، وقد وقع في الأصل: "أبو عبد الله" والتصويب من المسند. 3 حبان بن عطية السلمي. 4 في الأصل "حدا" وهو تصحيف. 5 رواه البخاري "3081"، ومسلم "2494" عن علي رضي الله عنه. وانظر: الفتح "7/ 305" ففيه توجيه لمعنى الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 ثم لو قلنا: إنه يتضمن غفران ما سيأتي، فالمعنى أن مالكم إلى الغفران. ثم دعنا من معنى الحديث، كيف يحل لمسلم أن يظن في أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أنه فعل ما لا يجوز اعتمادًا على أنه سيغفر له؟! حوشي من هذا1، وإنما قاتل بالدليل المضطر له إلى القتال، فكان على الحق، ولا يختلف العلماء أن عليًّا رضي الله عنه لم يقاتل أحدًا إلا والحق مع علي، كيف، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم! أدر معه الحق كيفما دار" 2 فقد غلط أبو عبد الرحمن غلطًا قبيحًا، حمله عليه أنه كان عثمانيًّا.   1 أي: حاشاه من ذلك. 2 رواه الترمذي "3714" وفي سنده المختار بن نافع منكر الحديث، "ضعيف جدًّا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 292- فصل: نعوذ بالله من رياء يبطل أعمالنا 1304- تأملت على متزهدي زماننا أشياء تدل على النفاق والرياء، وهم يدعون الإخلاص: منها: أنهم يلتزمون زاوية، فلا يزورون صديقًا، ولا يعودون مريضًا، ويدعون أنهم يريدون الانقطاع عن الناس، اشتغالًا بالعبادة، وإنما هي إقامة نواميس، ليشار إليهم بالانقطاع، إذ لو مشوا بين الناس؛ زالت هيبتهم! وما كان الناس كذلك، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود المريض 3، ويشتري الحاجة من السوق4، وأبو بكر رضي الله عنه يتجر في البز، وأبو عبيدة بن الجراح يحفر القبور، وأبو طلحة5 أيضًا، وابن سيرين يغسل الموتى6. وما كان عند القوم إقامة ناموس. 1305- وأصحابنا يلزمون الصمت بين الناس والتخشع والتماوت، وهذا هو   1رواه البخاري "1295"، ومسلم "1628" عن سعد رضي الله عنه. 2 توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعًا من شعير، رواه البخاري "2916". 3 زيد بن سهل الأنصاري الخزرجي النجاري، أحد أعيان البدريين، وأحد النقباء، توفي بالمدينة سنة "34هـ" وامتهانه هو وأبي عبيدة حفر القبور كان علي سبيل التطوع. 4 عمله هذا كان تطوعًا، وأما عمله الأصلي فهو الاتجار بالطعام والزيت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 النفاق؛ فقد كان ابن سيرين يضحك بالنهار، وبين الناس، ويبكي بالليل. 1306- وقد رأيت من المتزهدين من يلزم المسجد ويصلي، فيجتمع الناس، فيصلون بصلاته ليلًا ونهارًا، وقد شاع هذا له، فتقوى نفسه عليه بحب المحمدة، والنبي صلى الله عليه وسلم قال في صلاة التطوع: "اجعلوا هذه في البيوت" 1. 1307- وفي أصحابنا من يظهر الصوم الدائم، ويتقوت بقول الناس: فلان ما يفطر أصلًا!! وهذا الأبله ما يدري أنه لأجل الناس يفعل ذلك، لولا هذا، كان يفطر، والناس يرونه يومين أو ثلاثة، حتى يذهب عنه ذلك الاسم، ثم يعود إلى الصوم، وقد كان إبراهيم بن أدهم إذا مرض، يترك عنده من الطعام ما يأكله الأصحاء. 1308- ورأيت في زهادنا من يصلي الفجر يوم الجمعة بالناس، ويقرأ المعوذتين، والمعنى: قد ختمت2!! فإن هذه الأعمال هي صريحة في النفاق والرياء. 1309- وفيهم من يأخذ الصدقات، وهو غني، ولا يبالي أخذ من الظلمة أو من أهل الخير، ويمشي إلى الأمراء يسألهم، وهو يدري من أين حصلت أموالهم. فالله الله في إصلاح النيات، فإن جمهور هذه الأعمال مردود، قال مالك بن دينار: وقولًا لمن لم يكن صادقًا: لا يتعنى3! 1310- وليعلم المرائي أن الذي يقصده يفوته، وهو التفات القلوب إليه؛ فإنه متى لم يخلص، حرم محبة القلوب، ولم يلتفت إليه، والمخلص محبوب. فلو علم المرائي أن قلوب الذين يرائيهم بيد من يعصيه؛ لما فعل. وكم رأينا من يلبس الصوف، ويظهر النسك، لا يلتفت إليه، وآخر يلبس جيد الثياب، ويبتسم، والقلوب تحبه. نسأل الله عز وجل إخلاصًا يخلصنا، ونستعيذ به من رياء يبطل أعمالنا، إنه قادر.   1 رواه البخاري "432"، ومسلم "777" عن ابن عمر رضي الله عنه. 2 أي يوهم الناس أنه ختم القرآن كله في ليلة واحدة. 3 لا يتعنى: لا يتعب نفسه فعمله محبط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 293- فصل: الدنيا وضعت للبلاء 1311- من الجهل أن يخفى على الإنسان مراد التكليف، فإنه موضوع على عكس الأغراض، فينبغي للعاقل أن يأنس بانعكاس الأغراض، فإن دعا، وسأل بلوغ عرض، تعبد الله بالداء: فإن أعطي مراده، شكر، وإن يلم ينل مراده، فلا ينبغي أن يلح في الطلب1؛ لأن الدنيا ليست لبلوغ الأغراض، وليقل لنفسه: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 216] . 1312- ومن أعظم الجهل، أن يمتعض في باطنه لانعكاس أغراضه، وربما اعترض في الباطن، أو ربما قال: حصول غرضي لا يضر، ودعائي لم يستجب2!! وهذا كله دليل على جهله، وقلة إيمانه وتسليمه للحكمة. 1313- ومن الذي حصل له غرض ثم لم يكدر؟! هذا آدم، طاب عيشه في الجنة، وأخرج منها، ونوح سأل في ابنه فلم يعط مراده، والخليل ابتلي بالنار، وإسحاق3 بالذبح، ويعقوب بفقد الولد، ويوسف بمجاهدة الهوى، وأيوب بالبلاء، وداود وسليمان بالفتنة، وجميع الأنبياء على هذا، وأما ما لقي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من الجوع والأذى وكدر العيش، فمعلوم. 1314- فالدنيا وضعت للبلاء. فينبغي للعاقل أن يوطن نفسه على الصبر، وأن يعلم أن ما حصل من المراد، فلطف، وما لم يحصل، فعلى أصل الخلق والجبلة4 للدنيا، كما قيل5: طبعت على كدر وأنت تريدها ... صفوًا من الأقذاء والأكدَارِ   1 الإلحاح في الدعاء مطلوب. 2 عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يستجاب لأحدكم ما لم يعجل بقول: دعوت فلم يستجب لي" البخاري "6340"، ومسلم "2735". 3 هذا مخالف لما عليه جمهور أهل العلم. انظر: زاد المعاد "1/ 71-75". 4 الجبلة: الخلقة والسجية. 5 هو الشاعر علي بن محمد التهامي، أبو الحسن، ولد باليمن، وقدم الشام ثم العراق، وامتدح الصاحب بن عباد، وذهب إلى مصر، فقتل سرًّا سنة "416هـ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 ومُكَلِّفُ الأيام ضد طباعِهَا ... متطلب في الماء جَذْوَةَ نَارِ 1315- وها هنا تتبين قوة الإيمان وضعفه. فليستعمل المؤمن من أدوية هذا المرض التسليم لمالك، والتحكيم لحكمته، وليقل: قد قيل لسيد الكل صلى الله عليه وسلم: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [ال عمران: 128] ، ثم ليسل نفسه بأن المنع ليس عن بخل، وإنما هو لمصلحة لا يعلمها، وليؤجر الصابر عن أغراضه، وليعلم الله الذين سلموا ورضوا، وأن زمن الابتلاء مقدار يسير، والأغراض مدخرة تلقى بعد قليل، وكأنه بالظلمة قد انجلت، وبفجر الأجر قد طلع. ومتى ارتقى فهمه إلى أن ما جرى مراد الحق سبحانه؛ اقتضى إيمانه أن يريد ما يريد، ويرضى بما يقدر، إذ لو لم يكن كذلك، كان خارجًا عن حقيقة العبودية في المعنى. وهذا أصل ينبغي أن يتأمل، ويعمل عليه في كل غرض انعكس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 294- فصل: تحذير العلماء من مخالطة السلاطين 1316- رأيت خلقًا من العلماء والقصاص تضيق عليهم الدنيا، فيفزعون إلى مخالطة السلاطين، لينالوا من أموالهم، وهم يعلمون أن السلاطين لا يكادون يأخذون الدنيا من وجهها ولا يخرجونها في حقها. فإن أكثرهم: إذا حصل له خراج1 ينبغي أن يصرف إلى المصالح؛ وهبه لشاعر! وربما كان معه جندي يصلح أن تكون مشاهرته2 عشرة دنانير، فأعطاه عشرة آلاف! وربما غزا، فأخذ ما ينبغي أن يقسم على الجيش فاصطفاه لنفسه! هذا غير ما يجري من الظلم في المعاملات. وأول ما يجري على ذاك العالم أنه قد حرم النفع بعلمه. وقد رأى بعض الصالحين رجلًا عالمًا يخرج من دار يحيى بن خالد3 البرمكي، فقال: أعوذ بالله من علم لا ينفع.   1 الخراج: ضريبة مفروضة على البلاد التي فتحت صلحًا. 2 مشاهرته: الأجرة التي يستحقها كل شهر. 3 الوزير الكبير، أحد رجال الدهر حزمًا ورأيًا وسياسة وعقلًا، ضمه المهدي إلى ابنه الرشيد ليربيه ويثقفه؛ فلما استخلف رفع قدره، وصير أولاده ملوكًا، ثم نكبهم وسجن خالدًا، فمات في السجن سنة "190هـ" وله سبعون سنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 ألم ير المنكرات ولا ينكر؟! ويتناول من طعامهم الذي لا يكاد يحصل إلا بظلم، فينطمس قلبه، ويحرم لذة المعاملة للحق سبحانه، ثم لا يقدر أن يهتدي به1 أحد؟ بل ربما كان فعل هذا سببًا لإضلال الناس وصرفهم عن الاقتداء به! فهو يؤذي نفسه، ويؤذي أميره؛ لأنه يقول: لولا أنني على صواب، ما صحبني، ولأنكر علي، ويؤذي العوام، تارة بأن يروا أن ما فيه الأمير صواب، وتارة بأن الدخول عليه والسكوت عن الإنكار جائز، أو يحبب إليهم الدنيا، ولا خير -والله- في سعة من الدنيا ضيقت طريق الآخرة. 1317- وأنا أفدي أقوامًا صابروا عطش الدنيا في هجير الشهوات زمان العمر حتى رووا يوم الموت من شرب الرضا، وبقيت أذكارهم تروى، فتروي صدى2 القلوب، وتجلو صداها3، هذا الإمام أحمد، يحتاج، فيخرج إلى اللقاط، ولا يقبل مال سلطان. هذا إبراهيم الحربي، يتغذى بالبقل، ويرد على المعتضد4 ألف دينار. هذا بشر الحافي، يشكو الجوع، فيقال له: يصنع لك حساء من دقيق؟ فيقول: أخاف أن يقول الله لي: هذا الدقيق من أين لك؟! بقيت والله أذكار القوم، وما كان الصبر إلا غفوة نوم، ومضت لذات المترخصين، وبليت الأبدان، ووهن الدين. 1318- فالصبر الصبر يا من وفق! ولا تغبطن من اتسع له أمر الدنيا، فإنك إذا تأملت تلك السعة، رأيتها ضيقًا في باب الدين! ولا ترخص لنفسك في تأويل، فعمرك في الدنيا قليل! وسواء إذا انقضى يوم كسرى ... في سرور ويوم صابر كِسْرَهْ5   1 في الأصل: من قوله: "ألم تر ... " إلى قوله: "يهتدي بك". جاءت بصيغة المخاطب. 2 صدى: عطش. 3 صداها: ما يترسب عليها من آثار المعاصي فيحجبها عن الانتفاع بالمواعظ. 4 في الأصل: "المعتصم"، والتصويب من سير أعلام النبلاء "13/ 360". 5 كسره: كسرة خبز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 1319- ومتى ضجت النفس لقلة صبر، فاتل عليها أخبار الزهاد، فإنها ترعوي1، وتستحي، وتنكسر، إن كانت لها همة، أو فيها يقظة، ومثل لها بين ترخص علي بن المديني، وقبوله مال ابن أبي دؤاد، وصبر أحمد، وكم بين الرجلين، والذكرين، وانظر ما يروى عن كل واحد منهما، وما يذكران به ... وسيندم ابن المديني إذا قال أحمد: سلم [لي] ديني.   1 ترعوي: تنزجر، وتتعظ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 295- فصل: جمهور الناس خرج من ربقة العبودية 1320- تأملت أحوال الناس، فرأيت جمهورهم منسلًّا1 من ربقة العبودية، فإن تعبدوا، فعادة؛ أو فيما لا ينافي أغراضهم منافاة تؤذي القلوب: 1321- فأكثر السلاطين يحصلون الأموال من وجوه ردية2، وينفقونها في وجوه لا تصلح، وكأنهم قد تملكوها، وليست مال الله! الذي إذا غزا أحدهم [باسمه] ، فغنم الأموال، اصطفاها لنفسه، وأعطاها أصحابه، كيف اشتهى!! 1322- والعلماء لقوة فقرهم، وشدة شرههم، يوافقون الأمراء، وينخرطون في سلكهم، والتجار على العقود الفاسدة، والعوام في المعاصي، والإهمال لجانب الشريعة، فإن فات بعض أغراضهم، فربما قالوا: ما نريد نصلي! لا صلى الله عليهم، وقد منعوا الزكاة، وتركوا الأمر بالمعروف. 1323- فمن الناس من يغره تأخير العقوبة، ومنهم من كان يقطع بالعفو، وأكثرهم متزلزل الإيمان، فنسأل الله أن يميتنا مسلمين.   1 منسلًا: خارجًا. 2 محرَّمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 296- فصل: عاقبة الصبر الجميل جميلة 1324- من العجيب سلامة دين ذي العيال، إذا ضاق به الكسب، فما مثله إلا كمثل الماء، إذا ضرب في وجهه سكر؛ فإنه يعمل باطنًا، ويبالغ حتى يفتح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 فتحةً، فكذلك صاحب العيال، إذا ضاق به الأمر، لا يزال يحتال؛ فإذا لم يقدر على الحلال، ترخص في تناول الشبهات، فإن ضعف دينه، مد يده إلى الحرام. فالمؤمن إذا علم ضعفه عن الكسب؛ اجتهد في التعفف عن النكاح، وتقليل النفقة إذا حصل الأولاد، والقناعة باليسير. 1325- فأما من ليس له كسب -كالعلماء والمتزهدين-، فسلامتهم ظريفة، إذ قد انقطعت موارد السلاطين [عنهم] ومراعاة العوام [لهم] ؛ فإذا كثرت عائلتهم، لم يؤمن عليهم شر ما يجري على الجهال. فمن قدر منهم على كسب بالنسخ وغيره، ليجتهد فيه، مع تقليل النفقة، والقناعة باليسير، فإنه من ترخص منهم اليوم، أكل الحرام؛ لأنه يأخذ من الظلمة، خصوصًا بحجة التنمس1 والتزهد. ومن كان له منهم مال، فليجتهد في تنميته وحفظه، فما بقي من يؤثر، ولا من يفرض، وقد صار الجمهور -بل الكل- كأنهم يعبدون المال، فمن حفظه، حفظ دينه، ولا يلتفت إلى قول الجهلة الذين يأمرون بإخراج المال، فما هذا وقته. 1326- واعلم أنه إذا لم يجتمع الهم، لم يحصل العلم، ولا العمل، ولا التشاغل بالفكر في عظمة الله. وقد كان هم القدماء يجتمع بأشياء، جمهورها أنه كان لهم من بيت المال نصيب في كل عام، وكان يصلهم، فيفضل عنهم. وفيهم من كان له مال يتجر به، كسعيد بن المسيب، وسفيان، وابن المبارك، وكان همه مجتمعًا، وقد قال سفيان في ماله: لولاك لتمندلوا بي! وفقدت بضاعة لابن المبارك؛ فبكى، وقال: هو قوام ديني! وكان جماعة يسكنون إلى عطاء الإخوان الذين لا يمنون. وكان ابن المبارك يبعث إلى الفضيل وغيره. وكان الليث بن سعد يتفقد الأكابر، فبعث إلى مالك ألف دينار، وإلى ابن لهيعة ألف دينار، وأعطى منصور بن عمار ألف دينار وجاريةً بثلاث مائة دينارٍ.   1 التنمس: الاحتيال والمخادعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 1327- وما زال الزمان على هذا إلى أن آل الأمر إلى انمحاق ذلك؛ فقلت عطايا السلاطين، وقل من يؤثر من الإخوان؛ إلا أنه كان في ذلك القليل ما يدفع الزمان، فأما زماننا هذا، فقد انقبضت الأيدي كلها، حتى قل من يخرج الزكاة الواجبة! فكيف يجتمع هم من يريد من العلماء والزهاد أن يعمل همه ليلًا ونهارًا في وجوه الكسب، وليس من شأنه [هذا] ، ولا يهتدي له؟! فقد رأينا الأمر أحوج إلى التعرض للسلاطين، والترخص في أخذ ما لا يصلح، وأخرج المتزهدين إلى التصنع لتحصيل الدنيا. فالله الله يا من يريد حفظ دينه! قد كررت عليك الوصية بالتقليل جهد: وخفف العلائق مهما أمكنك، واحتفظ بدرهم يكون معك؛ فإنه دينك! وافهم ما قد شرحته! 1328- فإن ضجت النفس لمراداتها، فقل لها: إن كان عندك إيمان، فاصبري، وإن أردت التحصيل لما يفنى ببذل الدين، فما ينفعك، فتفكري في العلماء الذين جمعوا المال من غير وجهه، وفي المنمسين، ذهب دينهم، وزالت دنياهم! وتفكري في العلماء الصادقين، كأحمد وبشر، اندفعت الأيام، وبقي لهم حسن الذكر، وفي الجملة: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2-3] ... ورزق الله "قد يكون بتيسير" الصبر على البلاء، والأيام تندفع، وعاقبة الصبر الجميل جميلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 297- فصل: الإحسان إلى الزوجة عمل الرجال 1329- شكا [لي] رجل من بغضه لزوجته، ثم قال: ما أقدر على فراقها، لأمور، منها: كثرة دينها علي، وصبري قليل، ولا أكاد أسلم من فلتات لساني في الشكوى، وفي كلمات تعلم بغضي لها. فقلت له: هذا لا ينفع، وإنما تؤتى البيوت من أبوابها! فينبغي أن تخلو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 بنفسك، فتعلم أنها إنما سلطت عليك بذنوبك، فتبالغ في الاعتذار والتوبة. فأما التضجر والأذى لها، فما ينفع، كما قال الحسن بن الحجاج1: عقوبة من الله لكم، فلا تقابلوا عقوبته بالسيف، وقابلوها بالاستغفار. واعلم أنك في مقام مبتلًى ولك أجر بالصبر، {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 216] ! فعامل الله سبحانه بالصبر على ما قضى، واسأله الفرج، فإذا جمعت بين الاستغفار وبين التوبة من الذنوب والصبر على القضاء وسؤال الفرج، حصلت ثلاثة فنون من العبادة تثاب على كل منها. ولا تضيع الزمان بشيء لا ينفع، ولا تحتل ظانًّا منك أنك تدفع ما قدر، {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} [الانعام: 17] . وقد روينا أن جنديًّا نزل يومًا في دار أبي يزيد، فجاء أبو يزيد، فرآه، فوقف وقال لبعض أصحابه: ادخل إلى المكان الفلاني، فاقلع الطين الطري؛ فإنه من وجه فيه شبهة. فقلعه، فخرج الجندي. وأما أذاك للمرأة، فلا وجه له؛ لأنها مسلطة، فليكن شغلك بغير هذا، وقد روي عن بعض السلف أن رجلًا شتمه، فوضع خده على الأرض، وقال: اللهم! اغفر لي الذنب الذي سلطت هذا به علي. 1330- قال الرجل: وهذه المرأة تحبني زائدًا في الحد، وتبالغ في خدمتي، غير أن البغض لها مركوز في طبعي. قلت له: فعامل الله سبحانه بالصبر عليها؛ فإنك تثاب. وقد قيل لأبي عثمان النيسابوري: ما أرجى عملك عندك؟ قال: كنت في صبوتي يجتهد أهلي أن أتزوج، فآبى؛ فجائتني امرأة، فقالت: يا أبا عثمان! إني قد هويتك، وأنا أسألك بالله أن تتزوجني، فأحضرت أباها -وكان فقيرًا- فزوجني، وفرح بذلك، فلما دخلت إلي، رأيتها عوراء عرجاء مشوهة، وكانت لمحبتها لي تمنعني من الخروج، فأقعد حفظًا   1 أبو السري السلمي، الخراساني الواعظ البليغ الصالح. كان عديم النظير في الوعظ والتذكير، وفاته في حدود المائتين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 لقلبها، ولا أظهر لها من البغض شيئًا، وكأني على جمر الغضا1 من بعضها، فبقيت هكذا خمس عشرة سنة حتى ماتت، فما من عملي شيء هو أرجى عندي من حفظي قلبها. قلت له: فهذا عمل الرجال! وأي شيء ينفع ضجيج المبتلى بالتضجر بإظهار البغض؟! وإنما طريقه ما ذكرته لك، من التوبة، والصبر، وسؤال الفرج. وتذكر ذنوبًا كانت هذه عقوبتها؛ فإن وقع فرج في الحساب؛ وإلا فاستعمال الصبر على القضاء عبادة. وتكلف إظهار المودة لها، وإن لم تكن في قلبك تثبت على هذا، وليس للقيد ذنب فيلام، إنما ينبغي التشاغل مع من قيده، والسلام.   1 الغضا: شجر يوقد به، فيبقى جمره زمنًا طويلًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 298- فصل: من أراد اجتماع همه فعليه بالعزلة 1331- لا ريب أن القلب المؤمن بالإله سبحانه وبأوامره يحتاج إلى الانعكاف على ذكره وطاعته وامتثال أوامره، وهذا يفتقر إلى جمع الهم، وكفى بما وضع في الطبع من المنازعة إلى الشهوات مشتتًا للهم المجتمع. فينبغي للإنسان أن يجتهد في جمع همه، لينفرد قلبه1 بذكر الله سبحانه وتعالى، وإنفاذ أوامره، والتهيؤ للقائه، وذلك إنما يحصل بقطع القواطع، والامتناع عن الشواغل، وما يمكن قطع القواطع جملة، فينبغي أن يقطع ما يمكن منها. 1332- وما رأيت مشتتًا للهم، مبددًا للقلب مثل شيئين: أحدهما: أن تطاع النفس في طلب كل شيء تشتهيه، وذلك لا يوقف على حد فيه، فيذهب الدين والدنيا، ولا ينال كل المراد، مثل أن تكون الهمة في المستحسنات، أو في جمع المال، أو في طلب الرئاسة، وما يشبه هذه الأشياء. فيا له من شتات لا جامع له! يذهب العمر، ولا ينال بعض المراد منه. والثاني: مخالطة الناس -خصوصًا العوام- والمشي في الأسواق، فإن الطبع   1 في الأصل: همه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 يتقاضى1 الشهوات، وينسى الرحيل عن الدنيا، ويحب الكسل عن الطاعة والبطالة والغفلة والراحة، فيثقل على من ألف مخالطة الناس التشاغل بالعلم، أو بالعبادة، ولا يزال يخالطهم حتى تهون عليه الغيبة، وتضيع الساعات في غير شيء. 1333- فمن أراد اجتماع همه، فعليه بالعزلة، بحيث لا يسمع صوت أحد؛ فحينئذ يخلو القلب بمعارفه، ولا تجد النفس رفيقًا مثل الهوى يذكرها ما تشتهي، فإذا اضطر إلى المخالطة، كان على وفاق، كما تتهوى2 الضفدع لحظة، ثم تعود إلى الماء، فهذه طريق السلامة، فتأمل فوائدها، تطب لك.   1 يستعمل المؤلف هذا الفعل بمعان عدة منها: يقضي ويستوجب ويتطلب ونحو ذلك. 2 تتهوى: تعرض نفسها للهواء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 299- فصل: لا تسبوا الدهر 1334- ما رأت عيني مصيبة نزلت بالخلق أعظم من سبهم للزمان، وعيبهم للدهر، وقد كان هذا في الجاهلية، ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: "لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر" 1، ومعناه أنتم تسبون من فرق شملكم، وأمات أهاليكم، وتنسبونه إلى الدهر، والله تعالى هو الفاعل لذلك. فتعجبت، كيف أعلم أهل الأسقام بهذه الحال، وهم على ما كان أهل الجاهلية عليه ما يتغيرون؟! حتى ربما اجتمع الفطناء الأدباء الظراف -على زعمهم- فلم يكن لهم شغل إلا ذم الدهر! وربما جعلوا الله الدنيا، ويقولون: فعلت وصنعت! وحتى رأيت لأبي قاسم الحريري2 يقول: ولما تعامى الدهر، وهو أبو الردى ... عن الرشد في أنحائه ومقاصدهْ تعاميت، حتى قيل إني أخو عمًى ... ولا غرو أن يحذو الفتى حذو والدهْ   1 رواه البخاري "6182"، ومسلم "2246" عن أبي هريرة رضي الله عنه. 2 هو أبو القاسم، عبد الله بن القاسم الملقب بنجم الدين ابن صاحب المقامات المشهورة، ولم يشتهر أبو القاسم هذا كشهرة لأبيه أبي محمد القاسم العلامة البارع ذو البلاغتين والتصانيف البديعة "446-516هـ"، مولده ووفاته بالبصرة فلعل الاسم تصحف، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 وقد رأيت خَلْقًا يعتقدون أنهم فقهاء وفهماء، ولا يتحاشون من هذا. وهؤلاء إن أرادوا بالدهر مرور الزمان، فذاك لا اختيار له، ولا مراد، ولا يعرف رشدًا من ضلال، ولا ينبغي أن يلام، فإنه زمان مُدَبَّرٌ، لا مُدَبِّرٌ، فيتصرف فيه، ولا يتصرف. وما يظن بعاقل أن يشير إلى أن المذموم، المعرض عن الرشد، السيء الحكم، هو الزمان! فلم يبق إلا أن القوم خرجوا عن ربقة1 الإسلام، ونسبوا هذه القبائح إلى الصانع، فاعتقدوا فيه قصور الحكمة، وفعل ما لا يصح، كما اعتقده إبليس في تفضيل آدم. وهؤلاء لا ينفعهم مع هذا الزيغ اعتقاد إسلام، ولا فعل صلاة، بل هم شر من الكفار، لا أصلح الله لهم شأنًا، ولا هداهم إلى رشاد.   1 حبل فيه عرًى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 300- فصل: زيادة الثواب في الآخرة بقدر العمل في الدنيا 1335- من عجائب ما أرى من نفسي ومن الخلق كلهم: الميل إلى الغفلة عما في أيدينا، مع العلم بقصر العمر، وأن زيادة الثواب هناك، بقدر العمل ها هنا. فيا قصير العمر! اغتنم يومي منًى1! وانتظر ساعة النفر! وإياك أن تشغل قلبك بغير ما خلق له! واحمل نفسك على المر! واقمعها إذا أبت، ولا تسرح لها في الطول2، فما أنت إلا في مرعى، وقبيح بمن كان بين الصفين3 أن يتشاغل بغير ما هو فيه.   1 الأول والثاني من أيام التشريق. 2 الطول: كعنب حبل تربط به رجل الدابة حتى لا تبتعد في المرعى. 3 أي في الصف الأول المواجه للعدو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 301- فصل: الأمر بحفظ السر 1336- قد كررت هذا المعنى في هذا الكتاب، وهو الأمر بحفظ السر، والحذر من الانبساط فيما لا يصلح بين يدي الناس، فرب منبسطٍ بين يدي من يظنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 صديقًا، يقول في صديقٍ، أو في سلطان، أنه لا يهتم في ذلك، فيكون سبب هلاك ذاك. فأوصي السليم الصدر الذي يظن في الناس الخير: بأن يحترز من الناس، وألا يقول في الخلق كلمة لا تصلح للخلق، ولا يغتر بمن يظهر الصداقة أو التدين، فقد عم الخبث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 302- فصل: تسبيح المتيقّظين 1337- تأملت على أكثر الناس عباداتهم؛ فإذا هي عادات، فأما أرباب اليقظة، فعاداتهم عبادة حقيقية. فإن الغافل يقول: سبحان الله عادة، والمتيقظ لا يزال فكره في عجائب المخلوقات أو في عظمة الخالق، فيحركه الفكر في ذلك، فيقول: سبحان الله. 1338- ولو أن إنسانًا تفكر في رُمَّانَةٍ، فنظر في تصفيف حَبِّها، وحفظه بالأغشية لئلا يتضاءل، وإقامة الماء على عظم العجم1، وجعل الغشاء عليه يحفظه، وتصوير الفرخ في بطن البيضة، والآدمي في حشا الأُمِّ، إلى غير ذلك من المخلوقات: أزعجه2 هذا الفكر إلى تعظيم الخالق، فقال: سبحان الله! وكان هذا التسبيح ثمرة الفكر، فهذا تسبيح المتيقظين ، وما تزال أفكارهم تجول، فتقع عباداتهم بالتسبيحات محققةً. وكذلك يتفكرون في قبائح ذنوب قد تقدمت، فيوجب ذلك الفكر حركة الباطن، وقلق القلب، وندم النفس، فيثمر ذلك أن يقول قائلهم: أستغفر الله. فهذا هو التسبيح والاستغفار. فأما الغافلون، فيقولون ذلك عادة. وشتان ما بين الفريقين.   1 العجم: النوي. 2 أزعجه: دفعه وحمله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 لا يصفون الاشتغال بالآخرة إلا بالانقطاع عن الخلق ... 303- فصل: لا يصفو الاشتغال بالآخرة إلا بالانقطاع عن الخلق 1339- لا يصفو التعبد والتزهد والاشتغال بالآخرة إلا بالانقطاع الكلي عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 الخلق، بحيث لا يبصرهم، ولا يسمع كلامهم إلا في وقت ضرورة، كصلاة جمعة أو جماعة، ويحترز في تلك الساعات منهم، وإن كان عالمًا يريد نفعهم، وعدهم وقتًا معروفًا، واحترز في الكلام معهم. وأما من يمشي في الأسواق اليوم، ويبيع، ويشتري مع هذا العالم المظلم، ويرى المنكرات والمستهجنات، فما يعود إلى البيت إلا وقد أظلم القلب. 1340- فلا ينبغي للمريد أن يكون خروجه إلا إلى الصحراء والمقابر، وقد كان جماعة من السلف يبيعون، ويشترون، ويحترزون، ومع هذا، ما صفا لصافيهم وقت، حتى قاطع الخلق. قال أبو الدرداء: زاولت العبادة والتجارة؛ فلم يجتمعا، فاخترت العبادة. وقد جاء في الحديث: "الأسواق تلهي وتلغي" 1. فمن قدر على الحمية النافعة، واضطر إلى المخالطة والكسب للعائلة، فليحترز احتراز الماشي في الشوك، وبعيد سلامته.   1 رواه أحمد في الزهد ص "168" موقوفًا من كلام أبي الدرداء رضي الله عنه، وروى النسائي عن قيس بن أبي غرزة قال: أتانا النبي صلى الله عليه وسلم وكان في السوق فقال: "إن هذه السوق يخالطها اللغو والكذب، فشوبوها بالصدقة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 304- فصل: يدوم طيب القلب بدوام التقوى 1341- من رزق قلبًا طيبًا، ولذة مناجاة، فليراع حاله، وليحترز من التغيير؛ وإنما تدوم له حالة بدوام التقوى. 1342- وكنت قد رزقت قلبًا طيِّبًا، ومناجاة خلوةٍ1، فأحضرني بعض أرباب المناصب إلى طعامه، فما أمكن خلافه، فتناولت، وأكلت منه؛ فلقيت الشدائد، ورأيت العقوبة في الحال، واستمرت مدة، وغضبت على قلبي، وفقدت كل ما كنت أجده، فقلت: وا عجبًا! لقد كنت في هذا كالمكره!   1 اقرأ: مناجاةً حلوةً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 فتفكرت، وإذا به قد يمكن مداراة الأمر بلقيمات يسيرة؛ وإنما التأويل جعل تناول هذا الطعام بشهوة أكثر مما يدفع بالمداراة، فقالت النفس: ومن أين لي أن عين هذا الطعام حرام؟! فقالت اليقظة: وأين الورع عن الشبهات؟! فلما تناولت بالتأويل لقمة، واستجلبتها بالطبع، لقيت الأمرين بفقد القلب: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 305- فصل: همّة المؤمن متعلّقة بالآخرة 1343- همة المؤمن متعلقة بالآخرة ، فكل ما في الدنيا يحركه إلى ذكر الآخرة، وكل من شغله شيء، فهمته شغله. ألا ترى أنه لو دخل أرباب الصنائع إلى دار معمورة، رأيت البزاز ينظر إلى الفرش، ويحزر قيمته، والنجار إلى السقف، والبناء إلى الحيطان، والحائك إلى النسج1. 1344- والمؤمن إذا رأى ظلمةً، ذكر ظلمة القبر، وإن رأى مؤلمًا، ذكر العقاب، وإن سمع صوتًا فظيعًا، ذكر نفخة الصور، وإن رأى الناس نيامًا، ذكر الموتى في القبور، وإن رأى لذة، ذكر الجنة؛ فهمته متعلقة بما ثم2، وذلك يشغله عن كل ما تم. 1345- وأعظم ما عنده أنه يتخايل دوام البقاء في الجنة، وأن بقاءه لا ينقطع، ولا يزال، ولا يعتريه منغص3، فيكاد إذا تخايل نفسه متقلبًا في تلك اللذات الدائمة، التي لا تفنى: يطيش فرحًا، ويسهل عليه ما في الطريق إليها، من ألم، ومرض، وابتلاء، وفقد محبوب، وهجوم الموت، ومعالجة غصصه، فإن المشتاق إلى الكعبة يهون عليه رمل زرود4، والتائق5 إلى العافية لا يبالي بمرارة   1 في الأصل: نسج الثياب. 2 هناك في الآخرة. 3 في الأصل: نغصة. 4 زرود: رمال كثيرة في طريق القادم من الكوفة إلى مكة. 5 التائق: المشتاق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 الدواء، ويعلم أن جودة الثمر ثم على مقدار جودة البذر هاهنا، فهو يتخير الأجود، ويغتنم الزرع في تشرين1 العمر من غير فتور، ثم يتخايل المؤمن دخول النار والعقوبة، فيتنغص عيشه، ويقوى قلقه، فعنده بالحالين شغل عن الدنيا وما فيها، فقلبه هائم في بيداء الشوق تارة، وفي صحراء الخوف أخرى، فما يرى البنيان. فإذا نازله الموت، قوي ظنه بالسلامة2، ورجا لنفسه النجاة، فيهون عليه، فإذا نزل إلى القبر، وجاءه من يسألونه، قال بعضهم لبعض: دعوه، فما استراح إلا الساعة. نسأل الله -عز وجل- يقظة تامة، تحركنا إلى طلب الفضائل، وتمنعنا من اختيار الرذائل؛ فإنه إن وفق؛ وإلا فلا نافع.   1 تشرين: موسم الزراعة الشتوية. 2 في الأصل: قوّى ظنَّه الملائكةُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 306- فصل: كمال الصورة اعتدالها 1346- لقد اعتبرت على مولاي سبحانه وتعالى أمرًا عجيبًا، وهو أنه تعالى لا يختار لمحبته، والقرب منه: إلا الكامل صورة ومعنى. ولست أعني حسن التخاطيط1؛ وإنما كمال الصورة اعتدالها، والمعتدلة ما تخلو من حسن، فيتبعها حسن الصورة الباطنة، وهو كمال الأخلاق، وزوال الأكدار، ولا يرى في باطنه خبثًا ولا كدرًا، بل قد حسن باطنه كما حسن ظاهره. وقد كان موسى عليه السلام كل من رآه يحبه، وكان نبينا صلى الله عليه وسلم كالقمر ليلة البدر2. 1347- وقد يكون الولي أسود اللون؛ لكنه حسن الصورة، لطيف المعاني. فعلى قدر ما عند الإنسان من التمام في كمال الخلق والخلق يكون عمله، ويكون تقريبه إلى الحضرة بحسب ذلك، فمنهم كالخادم على الباب، ومنهم حاجب، ومنهم مقرب، ويندر من يتم له الكمال، ولعله لا يوجد في مائة سنة منهم غير واحد، وهذه   1 التخاطيط: القسمات والملامح. 2 أخرجه البخاري "3552" عن البراء رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 حكاية ما تحصل بالاجتهاد؛ بل الاجتهاد يحصل منها؛ لأنه إذا وقع تمام، حث على الجد على قدر نقصانه وهذا لا حيلة في أصله؛ إنما هو جبلة، وإذا أرادك لأمر، هيأك له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 307- فصل: الحقّ منزّهٌ عن العبث 1348- تأملت على قوم يدعون العقول، ويعترضون على حكمة الخالق! فينبغي أن يقال لهم: هذا الفهم الذي دلكم على رد حكمته، أليس هو من منحه؟! فأعطاكم الكمال، ورضي لنفسه بالنقص؟! هذا هو الكفر المحض، الذي يزيد في القبح على الجحد. 1349- فأول القوم إبليس؛ فإنه رأى بعقله أن جوهر النار أشرف من جوهر الطين، فرد حكمة الخالق، ومر على هذا خلق كثير من المعترضين، مثل ابن الراوندي، والبصري1 وهذا المعري اللعين، يقول: كيف يعاب ابن الحجاج2 بالسخف، والدهر أقبح فعلًا منه؟! أترى يعني به الزمان؟! كلا، فإن ممر الأوقات لا يفعل شيئًا؛ وإنما هو تسفيف3! وكان يتسعجل الموت، ظنًّا منه أنه يستريح! وكان يوصي بترك النكاح، والنسك! ولا يرى في الإيجاد حكمة إلا العناء والتعب! ومصير الأبدان إلى البلى!! وهذا لو كان كما ظن، كان الإيجاد عبثًا، و الحق منزه عن العبث ، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا} [ص: 27] ، فإذا كان ما خلق لنا لم يخلق عبثًا، أفنكون نحن -ونحن مواطن معرفته ومحال تكليفه- قد وجدنا عبثًا؟!   1 العلوي البصري صاحب الزنج، ذكر بعض الناس أنه كان قبل خروجه يذكر أنه من عبد قيس، ثم من أنمار وكان اسمه أحمد، فلما خرج سنة "255هـ" تسمى عليًّا، وانتسب إلى الحسين بن علي بن أبي طالب، قتل سنة "270هـ". 2 الحسين بن أحمد بن الحجاج البغدادي، شاعر سفيه أمير الفحش، له باع من الغزل، أما الزطاطة والتفحش فهو حامل لوائها، توفي سنة "391هـ". ولعل الصواب الحجاج بن يوسف؛ لأن فساده أكبر. 3 تهافت وفساد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 1350- ومثل هذا الجهل إنما يصدر ممن ينظر في قضايا العقول التي يحكم بها على الظواهر، مثل أن يرى مبنيًّا ينقض، والعقل بمجرده لا يرى ذلك حكمة، ولو كشفت له حكمة ذلك؛ لعلم أنه صواب، كما كشف لموسى مراد الخضر في خرق السفينة، وقتل الغلام. ومعلوم أن ذبح الحيوان، وتقطيع الرغيف، ومضغ الطعام، لا يظهر له فائدة على الإطلاق، فإذا علم أنه غذاء لبدن من هو أشرف بدنًا من المذبوح، حسن ذلك الفعل. وا عجبًا! أوما تقضي العقول بوجوب طاعة الحكيم، الذي تعجز عن معرفة حكم مخلوقاته؟! فكيف تعارضه في أفعاله؟! نعوذ بالله من الخذلان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 308- فصل : من اضطر أن يعظ سلطانًا تلطّف معه 1351- ينبغي لمن وعظ سلطانًا أن يبالغ في التطلف، ولا يواجهه بما يقتضي أنه ظالم، فإن السلاطين حظهم التفرد بالقهر والغلبة؛ فإذا جرى نوع توبيخ لهم، كان إذلالًا، وهم لا يحتملون ذلك، وإنما ينبغي أن يمزج وعظه بذكر شرف الولاية، وحصول الثواب في رعاية الرعايا، وذكر سير العادلين من أسلافهم. 1352- ثم لينظر الواعظ في حال الموعوظ قبل وعظه: فإن رأى سيرته حميدة -كما كان منصور بن عمار وغيره يعظون الرشيد1 وهو يبكي- وقصده الخير، زاد في وعظه ووصيته. وإن رآه ظالمًا، لا يلتفت إلى الخير، وقد غلب عليه الجهل، اجتهد في ألا يراه ولا يعظه؛ لأنه إن وعظه، خاطر بنفسه، وإن مدحه، كان مداهنًا، فإن اضطر إلى موعظته، كانت كالإشارة2.   1 هارون بن محمد بن المنصور العباسي "149-193هـ" أشهر الخلفاء العباسيين، كان عالمًا بالأدب والتاريخ والحديث والفقه، وكان يحج عامًا ويغزو عامًا على الأغلب. 2 إن صدع بالحق وخاطر بنفسه فهو سيد الشهداء. قال صلى الله عليه وسلم: "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر". وقال أيضًا: "سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله" ومن هذا قصة الغلام وأصحاب الأخدود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 1353- وقد كان أقوام من السلاطين يلينون عند الموعظة، ويحتملون الواعظين، حتى إنه قد كان المنصور يواجه بأنك ظالم فيصبر ... وقد تغير الزمان، وفسد أكثر الولاة، وداهنهم العلماء، ومن لا يداهن لا يجد قبولًا للصواب، فيسكت. 1354- وقد كانت الولايات لا يسألها إلا من أحكمته العلوم، وثقفته التجارب، فصار أكثر الولاة يتساوون في الجهل، فتأتي الولاية على من ليس من أهلها. ومثل هؤلاء ينبغي الحذر منهم، والبعد عنهم؛ فمن ابتلى بوعظهم، فليكن على غاية التحرز فيما يقول، ولا ينبغي أن يغتر بقولهم: عظنا1! فإنه لو قال كلمة لا توافق أغراضهم، ثارت حراراتهم. 1355- وليحذر مذكر السلطان أن يعرض له بأرباب الولايات؛ فإنهم إذا سمعوا بذلك، صار الواعظ مقصودًا لهم بالإهلاك، خوفًا من أن يعتبر السلطان أحوالهم، فتفسد أمورهم، والبعد في هذا الزمان عنهم أصلح، والسكوت عن المواعظ لهم أسلم، فمن اضطر، تلطف غاية التلطف، وجعل وعظه للعوام، وهم يسمعون، ولا يعنيهم منه بشيء، والله الموفق.   1 في الأصل: ظنًّا، وهو تصحيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 309- فصل: الحق لا يشتبه بباطل 1356- الحق لا يشتبه بباطل؛ إنما يموه الباطل عند من لا فهم له، وهذا في حق من يدعي النبوات، وفي حق من يدعي الكرامات. 1357- أما النبوات، فإنه قد ادعاها خلق كثير، ظهرت قبائحهم، وبانت فضائحهم، ومنها ما توجبه خسة الهمة، والتهتك في الشهوات، والتهافت في الأقوال والأفعال، حتى افتضحوا. 1358- فمنهم الأسود العنسي: ادعى النبوة، ولقب نفسه ذا الخمار؛ لأنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 كان يقول: يأتيني ذو الخمار1، وكان أول أمره كاهنًا يشعوذ، فيظهر الأعاجيب، فخرج في أواخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فكاتبته مذحج وواعد ونجران، وأخرجوا عمرو بن حزم2، وخالد بن سعيد3 صاحبي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصفا له اليمن، وقاتل شهر بن باذام، فقتله، وتزوج ابنته4، فأعانت على قتله، فهلك في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبان للعقلاء أنه كان يشعبذ. 1359- ومنهم مسيلمة، ادعى النبوة، وتسمى رحمان اليمامة؛ لأنه كان يقول: الذي يأتيني رحمان! فآمن برسول الله صلى الله عليه وسلم، وادعى أنه قد أشرك معه! فالعجب أنه يؤمن برسول، ويقول: إنه كذاب! ثم جاء بقرآن يضحك الناس، مثل قوله: "يا ضفدع بنت ضفدعين! نقي5 ما تنقين، أعلاك في الماء، وأسفلك في الطين". ومن العجائب شاة سوداء، تحلب لبنًا أبيض! فانهتك ستره في هذه الفصاحة، ثم مسح بيده على رأس صبي، فذهب شعره! وبصق في بئر، فيبست. وتزوج سجاح6 التي ادعت النبوة، فقالوا: لا بد لها من مهر. فقال: مهرها أني قد أسقطت عنكم صلاتي الفجر والعتمة! 1360- وكانت سجاح هذه قد ادعت النبوة بعد موت رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فاستجاب لها جماعة، فقالت: أعدوا الركاب، واستعدوا للنهاب، ثم اعبروا على الرباب، فليس دونهم حجاب، فقاتلوهم!   1 وقيل: لأنه كان يعتم بخمار، وقد وقع في الأصل: ذا الحمارة، وهو تصحيف. 2 عمرو بن حزم بن زيد بن لوذان الأنصاري، توفي سنة "53هـ". 3 خالد بن سعيد بن العاص الأموي، الصحابي من الولاة الغزاة، توفي سنة "14هـ". 4 كان باذان أميرًا على صنعاء من قبل النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلما مات تزوج العنسي امرأته المرزبانة، التي سقته الخمر حتى سكر، فدخل عليه فيروز، واحتز رأسه. انظر فتح الباري "8/ 76". 5 في الأصل: تنقي، وهو تصحيف. 6 سجاح بنت الحارث التميمية من بني يربوع، متنبئة كانت شاعرة عالمة بالأخبار، تزوجت مسيلمة الكذاب، وبعد قتله عادت إلى الإسلام، وهاجرت إلى البصرة وحسن إسلامها، توفيت سنة "55 هـ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 ثم قصدت اليمامة1، فهابها مسيلمة، فراسلها، وأهدى لها، فحضرت عنده، فقالت: اقرأ علي ما يأتيك به جبريل! فقال: إنكن معشر النساء خلقتن أفواجًا، وجعلتن لنا أزواجًا، نولجه فيكن إيلاجًا. فقالت: صدقت، أنت نبي. فقال لها: [ألا] قومي إلى المخدعْ ... فقد هيي لك المضجعْ فإن شئت سلقناكِ ... وإن شئت على أربعْ2 وإن شئت بثلثيْهِ ... وإن شئت به أجمَعْ فقالت: بل به أجمع، فهو للشمل أجمع! فافتضحت عند العقلاء من أصحابها، فقال منهم عطارد بن حاجب3: أضحت نبيتنا أنثى يطاف بها ... وأصبحت أنبياء الناس ذكرانا فلعنة الله رب الناس كلهم ... على سجاح ومن بالإفك أغوانا أعني مسيلمة الكذاب لا سقيت ... أصداؤه من رعيثٍ حيثما كانَا4 ثم إنها رجعت عن غيها، وأسلمت، وما زالت تبين فضائح مسيلمة حتى قتل. 1361- ومنهم طليحة بن خويلدٍ5، خرج بعد دعوى مسيلمة النبوة، وتبعه عوام، ونزل سميراء6، فتسمى بذي النون، يقول: إن الذي يأتيه، يقال له: ذو النون، وكان من كلامه: "إن الله لا يصنع بتعفير وجوهكم، ولا قبح أدباركم شيئًا، فاذكروا الله أعفة قيامًا! ومن قرآنه: والحمام واليمام، والصرد7 الصوام، ليبلغن   1 اليمامة منطقة الرياض في نجد. 2 في الأصل: مستلقاة، والتصويب من الأغاني "21/ 29" والسلق الإلقاء على الظهر. 3 خطب شاعر من سراة بني تميم، وفد على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ارتد، واتبع سجاح، ثم عاد إلى الإسلام، توفي سنة "20هـ"، ونسبت الأبيات إلى قيس بن عاصم كما في الأغاني "14/57". 4 كذا في الأصل، وفي ثمار القلوب "ماء مزن". 5 الأسدي من الفصحاء، الشجعان، وفد على النبي صلى الله عليه وسلم سنة "9هـ"، ثم ارتد وادعى النبوة، فقاتله خالد، وفر إلى الشام، ثم رجع إلى الإسلام، وبايع عمر في المدينة، وحسن إسلامه، وشهد القادسية، وأبلى فيها بلاء حسنًا، واستشهد بنهاوند سنة "21هـ". 6 سميراء: منزل من منازل الطريق من الوافد إلى مكة، ويقع في ديار بني أسد. 7 الصود: طائر ضخم الرأس والمنقار، أبيض البطن، أخضر الظهر، له برثن، ويصطاد صغار الطير، وكانوا يتشاءمون به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 ملكنا العراق والشام". وتبعة عيينة بن حصن1، فقاتله خالد بن الوليد، فجاء عيينه إلى طليحة، فقال: ويحك! أجاءك الملك؟ قال: لا، فارجع فقاتل، فقاتل، [ثم عاد، فقال: أجاءك؟ فقال: لا؛ فعاد فقاتل، ثم عاد] ، فقال: أجاءك؟ فقال: لا، فعاد فقاتل، ثم عاد، فقال: أجاءك؟ قال: نعم، قال: ما قال لك؟ قال: قال: "إن لك [رحى كرحاه] 2 وحديثًا3 لا تنساه". فصاح عيينة: الرجل والله كذاب. فانصرف الناس منهزمين، وهرب طليحة إلى الشام، ثم أسلم، وصح إسلامه، وقتل بنهاوند. 1362- وذكر الواقدي4: أن رجلًا من بني يربوع يقال له: جندب بن كلثوم5، كان يلقب كردانًا، ادعى النبوة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يزعم أن دليلة على نبوته أن يسرج6 مسامير الحديد والطين!! وهذا؛ لأنه كان يطلي ذلك بدهن البيلسان7، فتعمل فيه النار. 1363- وقد تنبأ رجل يقال له كهمس الكلابي8، وكان يزعم أن الله تعالى أوحى إليه: يا أيها الجائع! اشرب لبنًا تشبع، ولا تضرب الذي لا ينفع؛ فإنه ليس بمقنع!! وزعم أن دليله على نبوته أنه يطرح بين السباع الضارية فلا تأكله، وحيلته في ذلك: أنه يأخذ دهن الغار9 ......................................................   1 أسلم قبل الفتح، وشهد حنينًا والطائف، وكان من المؤلفة قلوبهم، ثم ارتد بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عاد إلى الإسلام، وعاش إلى خلافة عثمان رضي الله عنه، وقد وقع في الأصل: حصين وهو تصحيف. 2 زيادة من تاريخ الطبري "2/ 261"، والكامل لابن الأثير "2/ 208". والرحى: الطاحون. 3 في الأصل: جيشًا، وهو تصحيف، والتصويب من المصادر السابقة. 4 محمد بن عمر بن واقد الأسلمي "130-207هـ" العلامة صاحب التصانيف والمغازي، طبق ذكره شرق الأرض وغربها، وسارت بكتبه الركبان؛ إلا أنه خلط الغث بالسمين، والخرز بالدر الثمين فاطرحوه لذلك. 5 لم أجد ترجمته. 6 يسرج: يضيء. 7 البيلسان: شجر له زهر أبيض صغير بهيئة العناقيد، وهو من الفصيلة البخورية، ويستخرج من بعض أنواعه عطر. 8 لم أجد ترجمته. وقد وقع في الأصل: كهمش بالشين المعجمة، وهو تصحيف، وكهمس بالسين المهملة من أساء الأسد. 9 الغار: شجر ينبت بريًا في سواحل الشام وجبالها، طيب الرائحة، ورقة دائم الاخضرار، وخشبة صلب، وعطر، وله حمل أصغر من البندق أسود يستخرج منه زيت، وكانوا يضفرون أوراقه أكاليل يتوجون بها المنتصرين في الحروب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 وحجر البرسان1، وقنفذًا محرقًا، وزبد البحر، وصدفًا محرقًا مسحوقًا، وشيئًا من الصبر2 والخبط3، فيطلي به جسمه؛ فإذا قربت منه السباع، فشمت تلك الأرياح4 وذفورتها5؛ نفرت. 1364- وتنبأ بالطائف رجل يقال له: أبو جعوانة العامري، وزعم أن دليله أنه يطرح النار في القطن فلا يحترق! وهذا؛ لأنه يدهنه بدهن معروف. 1365- ومنهم هذيل بن يعفور، من بني سعد بن زهير، حكى عنه الأصمعي6 أنه عارض سورة الإخلاص، فقال: "قل هو الله أحد، إله كالأسد، جالس على الرصد، لا يفوته أحد". 1366- ومنهم هذيل بن واسع، كان يزعم أنه من ولد النابغة الذبياني7، عارض سورة الكوثر، فقال له رجل: ما قلت؟ فقال: "إنا أعطيناك الجواهر، فصل لربك وجاهر، فما يؤذيك إلا كل فاجر"؛ فظهر عليه القسري8، فقتله، وصلبه على العمود، فعبر عليه الرجل9، فقال: "إنا أعطيناك العمود، فصل لربك من قعود، بلا ركوع ولا سجود، فما أراك تعود". 1367- وممن ظهر فادعى أنه يوحي إليه المختار بن أبي عبيد10، وكان   1 حجر البرسان ... 2 الصبر: عصارة شجر مر تستعمل في الطب. 3 الخبط: وهو ورق مطحون ومخلوط بالدقيق "القاموس". 4 الأرياح: الروائح. 5 ذفورتها: رائحتها. 6 عبد الملك بن قريب بن علي بن أصمع الباهلي البصري أبو سعيد "122- 216هـ" راوية العرب، وأحد أئمة العلم باللغة والشعر. 7 زياد بن معاوية الذبياني الغطفاني المضري أبو أمامة، شاعر جاهلي من الطبقة الأولى، توفي سنة "18" قبل الهجرة. 8 هو خالد بن عبد الله بن يزيد بن أسد القسري البجلي، أبو الهيثم "66-126هـ" أمير العراقين للأمويين، وأحد خطباء العرب وأجوادهم، وقد جاء في الأصل "السنوي"، والتصويب من أخبار الظراف للمؤلف ص "133". 9 هو خلف بن خليفة الشاعر. 10 الثقفي الكذاب، ادعى أن الوحي يأتيه، وأنه يعلم الغيب قتل سنة "67هـ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 متخبِّطًا في دعواه، وقتل خلقًا كثيرًا، وكان يزعم أنه ينصر الحسين رضوان الله عليه، ثم قتل. 1368- ومنهم حنظلة بن يزيد الكوفي، كان يزعم أن دليله أنه يدخل البيضة في القنينة، ويخرجها منها صحيحة! وذاك أنه كان ينقع البيضة في الخل الحامض، فيلين قشرها، ثم يصب ماء في قنينة، ثم يدس البيضة فيها، فإذا لقيت الماء، صلبت. 1369- وقد تنبأ أقوام قبل نبينا -صلى الله عليه وسلم- كزرادشت1 وماني2 وافتضحوا. وما من المدعين إلا من خذل. 1370- وقد جاءت القرامطة3 بحيل عجيبة، وقد ذكرت جمهور هؤلاء وحيلهم في كتابي التاريخ المسمى بـ "المنتظم"، وما فيهم من يتم له أمر؛ إلا ويتفضح. 1371- ودليل صحة نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم أجلى من الشمس: فإنه ظهر فقيرًا، والخلق أعداؤه؛ فوعد بالملك فملك، وأخبر بما سيكون فكان، وصين من زمن النبوة عن الشره، وخساسة الهمة، والكذب والكبر، وأيد بالثقة والأمانة والنزاهة والعفة، وظهرت معجزاته للبعيد والقريب. وأنزل عليه الكتاب العزيز، الذي حارت فيه عقول الفصحاء، ولم يقدروا على الإتيان بآية تشبهه، فضلًا عن سورة، وقد قال قائلهم وافتضح، ثم أخبر أنه لا   1 زرادشت: "628-551" ق. م مصلح ديني فارسي، نبي الزراداشتيه ومؤسسها. 2 ماني "216-274م" زعيم ديني فارسي، دعا إلى الإيمان بعقيدة الثنوية، وقوامها الصراع بين النور والظلام والخير والشر. انظر: إيران في عهد الساسانيين ص "168-195". 3 القرامطة: فرقة من الإسماعيلية الباطنية تنتسب إلى حمدان قرمط، نشطت في سواد العراق ابتداء من سنة "258 هـ"، وجمع حوله كثيرًا من الرعاع، وأظهر الكفر والإلحاد، واشتهر أمره حتى مقتله على يد المكتفي العباسي سنة "293هـ"؛ لكن بعض أتباعه رحل إلى البحرين فأسس دولة رأسها أبو سعيد الجنابي واجتاحوا مكة أثناء موسم الحج سنة "317هـ" فقتلوا الحجيج، وقلعوا الحجر الأسود، وأخذوه إلى البحرين حتى مزق الله دولتهم وشتت شملهم سنة "339هـ" وأعيد الحجر الأسود إلى مكانه، وقد أفاض المؤلف في بيان أخبارهم في تاريخه "المنتظم" واستلها منه الدكتور محمد الصباغ وطبعها في رسالة مفردة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 يعارض فيه، فكان كما قال، وذلك قوله تعالى: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِه وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة] ، وكذلك قوله: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمْ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ، وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة] ، فما تمناه أحد، إذ لو قال قائل: قد تمنيته، لبطلت دعواه. وكان يقول ليلة غزاة بدر: "غدًا مصرع فلان هاهنا"، فلا يتعداه1. وقال: "إذا هلك كسرى، فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر، فلا قيصر بعده" 2، فما ملك بعدهما من له كبير قدر، ولا من استتب له حال. ومن أعظم دليل على صدقه أنه لم يرد الدنيا، فكان يبيت جائعًا3، ويؤثر إذا وجد، ويلبس الصوف4، ويقوم الليل5؛ وإنما تطلب النواميس لاجتلاب الشهوات، فلما لم يردها، دل على أنه يدل على الآخرة التي هي حق. ثم لم يزل دينه يعلو حتى عم الدنيا، وإن كان الكفر في زوايا الأرض؛ إلا أنه مخذول. 1372- وصار في تابعيه من أمته الفقهاء، الذين لو سمع كلامهم الأنبياء القدماء، تحيروا في حسن استخراجهم، والزهاد الذين لو رآهم الرهبان، تحيروا في صدق زهدهم، والفطناء الذين لا نظير لهم في القدماء. 1373- أوليس قوم موسى يعبدون بقرة، ويتوقفون في ذبح بقرة، ويعبرون البحر، ثم يقولون: اجعل لنا إلهًا؟! وقوم عيسى يدخرون من المائدة، وقد نهوا؟! والمعتدون في السبت يعصون الله لأجل الحيتان؟! وأمتنا بحمد الله تعالى سليمة من   1 رواه مسلم "1779" عن أنس رضي الله عنه. 2 رواه البخاري "3121"، ومسلم "2919" عن جابر بن سمره رضي الله عنه. 3 رواه مسلم "2978" عن النعمان بن بشير رضي الله عنه. 4 رواه البخاري "5799"، ومسلم "274" عن المغيرة رضي الله عنه. 5 رواه البخاري "183 و 117"، ومسلم "763" عن ابن عباس رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 هذه الأشياء؛ وإنما في بعضها ميل إلى الشهوات المنهي عنها، وذلك من الفروع لا من الأصول؛ فإذا ذكروا، بكوا وندموا على تفريطهم. فنحمد الله على هذا الدين، وعلى أننا من أمة هذا الرسول صلى الله عليه وسلم. 1374- وقد كان جماعة من المتصنعين بالزهد مالوا إلى طلب الدنيا والرئاسة، فاستغواهم الهوى، فخرقوا1 بإظهار ما يشبه الكرامات، كالحلاج وابن الشباس2 وغيرهما ممن ذكرت حال تلبيسه في كتاب "تلبيس إبليس"3؛ وإنما فعلوا ذلك لاختلاف أغراضهم. 1375- ولم يزل الله ينشئ في هذا الدين من الفقهاء من يظهر ما أخفاه القاصرون، كما ينشئ من علماء الحديث من يهتك ما أشاعه الواضعون، حفظًا لهذا الدين، ودفعًا للشبهات عنه، فلا يزال الفقيه والمحدث يظهران عوار كل ملبس بوضع حديث، أو بإظهار دعوى تزهد وتنميس، فلا يؤثر ما ادعياه؛ إلا عند جاهل بعيد من العلم والعمل. {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُون} [الأنفال: 8] .   1 خرقوا: كذبوا. 2 ابن الشباس: أبو عبد الله بن علي الحسين البغدادي، توفي في البصرة سنة "444 هـ" أخباره في المنتظم، وقد وقع في الأصل: "ابن الشاش" والتصويب من تلبيس إبليس. 3 تلبيس إبليس، ص "511-519". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 310- فصل: السعيد من انتبه لنفسه 1376- وا عَجَبًا من موجود لا يفهم معنى الوجود؛ فإن فهم، لم يعمل بمقتضى فهمه!! يعلم أن العمر قصير، وهو يضيعه بالنوم والبطالة والحديث الفارغ وطلب اللذات، وإنما أيامه أيام عمل لا زمان فراغ. وقد كلف بذل المال بمخالفة الطبع من الشرع، فبخل به، إلى أن تضايق الخناق، فيقول حينئذ: فرقوا عني بعد موتي! وافعلوا كذا! فأين يقع هذا لو فعل؟! وبعيد أن يفعل؛ وإنما يراد بإنفاقك في صحتك مخالفة الطبع في تكلف مشاق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 الإخراج في زمن السلامة، فافرق بين الحالتين إن كان لك فهم، فالسعيد من انتبه لنفسه، وعمل بمقتضى عقله، واغتنم زمنًا نهايته الزمن1، وانتهب عمرًا، يا قرب انقطاعه! 1377- ويحك! ما تصنع بادخار مال لا يؤثر حسنة في صحيفة، ولا مكرمة في تاريخ؟! أما سمعت بإنفاق أبي بكر، وبخل ثعلبة2؟! أما رأيت تأثير مدح حاتم3، وبخل الحباحب4؟! 1378- ويحك! لو ابتلاك في مالك فقل، لاستغثت، أو في بدنك ليلة بمرض، لشكوت، فأنت تستوفي مطلوباتك منه، ولا تستوفي حقه عليك، {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين: 1] ! ولتعلم أن هذا القدر المفرط فيه، يحل الخلود الدائم في ثواب العمل فيه، فسبحان من من على أقوام فهموا المراد، فأتعبوا الأجساد، وغطى على قلوب آخرين، فوجودهم كالعدم. وكيف لا يتعب العاقل بدنه إتعاب البُدْن5 والمقصود منًى؟! أترى ما بال الحق متجليًا في إيجادك أيها العبد؟! بلى والله، إن وجودك دليل وجوده، وإن نعمه عليك دليل جوده، فكما قدمك على سائر الحيوانات، فقدمه في قلبك على كل المطلوبات. وا خيبة من جهله! وا فقر من أعرض عنه! وا ذل من اعتز بغيره! وا حسرة من اشتغل بغير خدمته!   1 الزمن: المرض المقعد الذي لا يرجى برؤه. 2 هو ثعلبة بن حاطب: أنصاري بدري، وقصة بخله واهية بالمرة كما ذكر جمع من أهل العلم كالحافظ العراقي والهيثمي وابن حجر، وقد رواه الطبري بأسانيد ضعيفة جدًّا. 3 حاتم بن عبد الله بن سعد الطائي، أبو عدي أحد أجواد العرب في الجاهلية يضرب المثل بجوده، توفي سنة "46" قبل الهجرة. 4 كان رجلًا بخيلًا لا يوقد نارًا بليل كراهية أن يلقاها من ينتفع بضوئها. 5 البدن، جمع بدنة: وهي الناقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 311- فصل: ما يسلي عن الدنيا ويهون فراقها 1379- إني أعجب من عاقل يرى استيلاء الموت على أقرانه وجيرانه، كيف يطيب عيشه؟! خصوصًا إذا علت سنه! وا عجبًا لمن يرى الأفاعي تدب إليه، وهو لا ينزعج!! أما يرى الشيخ دبيب الموت في أعضائه، قد أخرج سكين القوى، وأنزل متغشرم1 العضف، وقلب السواد بياضًا، ثم في كل يوم يزيد الناقص. 1380- ففي نظر العاقل إلى نفسه ما يشغله عن النظر إلى خراب الدنيا، وفراق الإخوان، وإن كان ذلك مزعجًا، ولكن شغل من احترق بيته بنقل متاعه، يلهيه عن ذكر بيوت الجيران. 1381- وإنه لمما يسلي عن الدنيا، ويهون فراقها استبدال المعارف بمن تنكره، فقد رأينا أغنياء كانوا يؤثرون، وفقراء كانوا يصبرون، ومحاسبين لأنفهسم يتورعون: فاستبدل السفهاء عن العقلاء، والبخلاء عن الكرماء. فيا سهولة الرحيل! لعل النفس تلقى من فقدت، فتلحق بمن أحبت.   1 المتغشرم: الجريء الماضي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 312- فصل: وهب الله تعالى العقل للإنسان ليثبت عليه الحجة 1382- نظرت في قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} ثم قال: {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج: 18] ... فرأيت الجمادات كلها قد وصفت بالسجود، واستثنى من العقلاء! فذكرت قول بعضهم: ما جحد الصامت من أنشأه ... ومن ذوي النطق أتى الجحود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 فقلت: إن هذه لقدرة عظيمة، يوهب عقل للشخص، ثم تسلب فائدته! وإن هذا لأقوى دليل على قادر قاهر؛ وإلا فكيف يحسن من عاقل ألا يعرف بوجوده وجود من أوجده؟! وكيف ينحت صنمًا بيده ثم يعبده؟! غير أن الحق سبحانه وتعالى وهب لأقوام من العقل ما يثبت عليهم الحجة، وأعمى قلوبهم كما شاء عن المحجة1.   1 المحجة: الطريق المبينة الواضحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 313- فصل: ليتزود العبد على قدر طول السفر 1383- ما رأيت أكثر أذى للمؤمن من مخالطة من لا يصلح، فإن الطبع يسرق؛ فإن لم يتشبه بهم، ولم يسرق منهم، فتر عن عمله. فإن رؤية الدنيا تحث على طلبها، وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم سترًا على بابه، فهتكه2، وقال: " ما لي وللدنيا؟! "، ولبس ثوبًا له طراز، فرماه، وقال: "شغلتني أعلامه"، ولبس خاتمًا، ثم رماه، وقال: "نظرة إليكم، ونظرة إليه". وكذلك رؤية أرباب الدنيا، ودورهم وأحوالهم، خصوصًا لمن له نفس تطلب الرفعة. 1384- وكذا سماع الأغاني، ومخالطة الصوفية، الذين لا نظر لهم اليوم إلا في الرزق الحاصل، لو كان من أي كان، قبلوه، ولا يتورعون أن يأخذوا من ظالم، وليس عندهم خوف كما كان أوائلهم؛ فقد كان سري السقطي يبكي طول الليل، وكان يبالغ في الورع، وهم ليس لهم ورع سري، ولا لهم تعبد الجنيد؛ وإنما ثم أكل ورقص، وبطالة، وسماع أغان من المردان، حتى قال بعض من يعتبر قوله، حضرت مع رجل كبير، يومأ إليه من مشايخ الربط، ومغنيهم أمرد، فقام الشيخ، ونقطه بدينار على خده3. وادعاؤهم أن سماع هذه الأشياء يدعو إلى الآخرة؛ فوق الكذب! وليس العجب منهم؛ إنما العجب من جهال ينفقون عليهم4، فينفقون عليهم.   1 المحجة: الطريق المبينة الواضحة. 2 رواه البخاري "279" عن عائشة رضي الله عنها. 3 وهبه دينارًا وألصقه على خده كفعل المجان. 4 يروج عليهم دجلهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 1385- ولقد كان جماعة من القدماء يرون أوائل الصوفية يتعبدون، ويتورعون، فيعجبهم حالهم، وهم معذورون في إعجابهم بهم، وإن كان أكثر القوم في تعبدهم على غير الجادة، كما ذكرت في كتابي المسمى بـ "تلبيس إبليس"؛ فأما اليوم، فقد برح1 الخفاء، أحدهم يتردد إلى الظلمة، ويأكل أموالهم، ويصافحهم بقميص ليس في طراز! وهذا هو التصوف فحسب!! أولا يستحيي من الله من زهد رفيع الأثواب لأجل الخلائق، لا لأجل الحق، ولا يزهد في مطعم، ولا في شبهة؟! فالبعد عن هؤلاء لازم. 1386- وينبغي للمنفرد لطاعة الله تعالى عن الخلق ألا يخرج إلى سوق جهده؛ فإن خرج ضرورة، غض بصره، وألا يزور صاحب منصب، ولا يلقاه، فإن اضطر، دارى الأمر، ولا يخالط عاميًّا إلا لضرورة مع التحرز، ولا يفتح على نفسه باب التزوج، بل يقنع بامرأة فيها دين، فقد قال الشاعر: والمرء ما دام ذا عين يقلبها ... في أعين العين موقوف على الخطر يسر مقلته ما ضر مهجته ... لا مرحبًا بسرورٍ عاد بالضرر 1387- فإن كان يغلب عليه العلم، انفرد بدراسته، واحترز من الأتباع المتعلمين، وإن غلبت عليه العبادة، زاد في احترازه! وليجعل خلوته أنيسه، والنظر في سير السلف جليسه! ولتكن له وظيفة من زيارة قبول الصالحين والخلوة بها! ولا ينبغي أن يفوته ورد قيام الليل، وليكن بعد النصف الأول، فليطل مهما قدر؛ فإنه زمان بعيد المثل! وليمثل رحيله عن قرب، ليقصر أمله! وليتزود في الطريق على قدر طول السفر! نسأل الله -عز وجل- يقظة من فضله، وإقبالًا على خدمته، وألا يخذلنا بالالتفات عنه، إنه قريب مجيب.   1 برح: ظهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 314- فصل: وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها 1388- كلما نظرت في تواصل النعم عليَّ، تحيرت في شكرها! وأعلم أن الشكر من النعم، فكيف أشكر1؟! لكني معترف بالتقصير، وأرجو أن يكون اعترافي قائمًا ببعض الحقوق. وعندي خلة2 أرجو بها كل خير، وهي أن من يصوم أو يصلي يرى أنه تعبد، ويخدم كأنه يقضي حق المخدوم، وأنا أرى أني إذا صليت ركعتين؛ فإنما قمت أكدي3، فلنفسي أعمل، إذ المخدوم غني عن طاعتي. وكان بعض المشايخ يقول: جاء في الحديث: "الدعاء عبادة" 4، وأنا أقول: العبادة دعاء. 1389- فالعجب ممن يقف للخدمة يسأل حظ نفسه، كيف يرى أنه قد فعل شيئًا؟! إنما أنت في حاجتك، ومنة من أيقظك، لا تقاومها خدمتك، فأنا أقول كما قال الأول: يا منتهى الآمال أنْ ... ـت كفلتني وحفظتني وعدا الزمان علي كيْ ... يجتاحني فمنعتني فانقاد لي متخشعًا ... لما رآك نصرتني وكسوتني ثوب الغنى ... ومن المغالب صنتني فإذا سكت بدأتني ... وإذا سألت أجبتني فإذا شكرتك زدتني ... فمنحتني وبهرتني لو إن أجد بالمال فالْ ... أموال أنت أفدتني   1 شكر الله تعالى في امتثال أوامره واجتناب نواهيه. 2 الخلة: الخصلة. 3 أكدي: أستجدي. 4 رواه أبو دواد "1479"، والترمذي "3247"، وابن ماجه "3828" عن النعمان بن بشير بلفظ: "الدعاء هو العبادة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 315- فصل: النفس لا بد لها مما تتشاغل به 1390- رأيت أكثر العلماء يتشاغلون بصورة العلم، فهم الفقيه التدريس، وهم الواعظ الوعظ. فهذا يراعي درسه؛ فيفرح بكثرة من يسمعه، ويقدح في كلام من يخالفه، ويمضي زمانه في التفكر في المناقضات، ليقهر من يجادله، وعينه إلى التصدر والارتفاع في المجالس، وربما كانت همته جمع الحطام ومخالطة السلاطين!. والواعظ همته ما يزوق به كلامه، ويكثر [به] جمعه، ويجلب به قلوب الناس إلى تعظيمه، فإن كان له نظير في شغله، أخذ يطعن فيه. وهذه قلوب غافلة عن الله عز وجل؛ إذ لو كانت لها به معرفة، لاشتغلت به، وكان أنسها بمناجاته، وإيثارها لطاعاته، وإقبالها على الخلوة به. لكنها لما خلت من هذا، تشاغلت بالدنيا، وذاك دنيا مثلها، فإذا خلت بخدمة الله تعالى، لم تجد لها طعمًا، وكان جمع الناس أحب إليها، وزيارة الخلق لها آثر عندها، وهذه علامة الخذلان. 1391- وعلى ضد هذا، متى كان العالم مقبلًا على الله سبحانه، مشغولًا بطاعته، كان أصعب الأشياء عند لقاء الخلق ومحادثتهم، وأحب الأشياء إليه الخلوة، وكان عنده شغل عن القدح في النظراء1، أو عن طلب الرئاسة، فإن ما علق به همته من الآخرة أعلى من ذلك. 1392- والنفس لا بد لها مما تشاغل به، فمن اشتغل لخدمة الخلق، وأعرض عن الحق؛ فإنما يربي رئاسته، وذلك يوجب الإعراض عن الحق، و {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب: 4] .   1 في الأصل: النظر، وهو تصحيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 316- فصل: اللهم أرنا الأشياء كما هي 1393- قد جاء في الأثر: اللهم! أرنا الأشياء كما هي! وهذا كلام حسن غاية، وأكثر الناس لا يرون الأشياء بعينها، فإنهم يرون الفاني كأنه باق، ولا يكادون يتخايلون زوال ما هم فيه، وإن علموا ذلك؛ إلا أن عين الحس مشغولة بالنظر إلى الحاضر، ألا ترى زوال اللذة، وبقاء إثمها؟! ولو رأى اللص قطع يده، هان عنده المسروق. فمن جمع الأموال، ولم ينفقها؛ فما رآها بعينها، إذ هي آلة لتحصيل الأغراض، لا تراد لذاتها. ومن رأى المعصية بعيني الشهوة، فما رآها، إذ فيها من العيوب ما شئت، ثم ثمرتها عقوبة آجلة، وفضيحة عاجلة. 1394- وانظر إلى أكبر شهوات الحس، وهو الوطء! فإن الماء لا يحصل إلا بعد مطعم ومشرب، ومن تفكر في المطعم، نظر إلى حرث الأرض، وأنها تفتقر إلى بقر للحراثة عليهم بالمحراث، وهو حديد، ومعه خشب، وتتعلق به حبال، فمن تفكر في عمل الحبال، نظر في زرع القنب وتسريحه وفتله، والحديد وجلبه وضربه، والخشب ونباته ونجارته، ودوران الدولاب وعمله، ثم استحصاد الزرع، وحصده، وتذريته، وطحنه، وعجنه، وخبزه، ومن عمل التنور، وجلب الشوك، ومن هذا الجنس إذا نظر فيه كثر جدًّا، حتى قالوا: لا تنال لقمة؛ إلا وقد عمل فيها ثلاث مائة نفس أو نحوهم؛ فإذا أكل تلك اللقمة، فليفكر في خلق الأسنان لقطعها، والأضراس لطحنها، وعذوبة ماء الفم لخلطها، واللسان ليقلبها، وعضلات الفم يصعد منها شيء، ويبقى شيء، حتى يصلح البلع، ثم يتناولها المعي، فيوصلها إلى الكبد، فيقوم طابخًا لها؛ فإذا صارت دمًا، نفت رسوبها إلى الطحال، ومائيتها إلى المثانة، واستخلصت من أخلص الدم وأصفاه للكبد والدماغ والقلب، وأخذت أجود ذلك، فحذرته إلى الأنثيين معدًّا لخلق آدمي. فإذا تحركت نيران الشهوة، تدفقت تلك النطفة، وقد حكم الشرع بطهارتها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 وحكم لها بطهارة الرحم، والمحل الذي يباشره الذكر، فيخلق منها الآدمي الموحد. فما جاء هذا الشخص إلا بأغلى الغلاء، وبعد عجائب أشرنا إليها، لا أنا عددناها!! 1395- أفمن فهم هذا يحسن منه أن يبدد تلك النطفة في حرام؟ أو أن يطأ في محل نجس فتضيع؟! فكم يتعلق بالزنا من محن لا يفي معشار عشرها بلذة لحظة! منها: هتك العرض بين الناس، وكشف العورات المحرمة، وخيانة الأخ المسلم في زوجته إن كانت متزوجة، وفضيحة المزني بها، وهي كأخت له أو بنت. فإن علقت منه ولها زوج، ألحقته بذلك الزوج، وكان هذا الزاني سببًا في ميراث من لا يستحق، ومنع من يستحق، ثم يتسلسل ذلك من ولد إلى ولد. وأما سخط الحق سبحانه، فمعلوم: قال تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء: 32] ، وقال صلى الله عليه وسلم: "ما من ذنب بعد الشرك أعظم عند الله تعالى من نطفة وضعها رجل في رحم لا تحل له" 1. 1396- ومن له فهم؛ فهو يعلم أن المراد من النطفة إيجاد الموحدين، ولولا تركيب الشهوة، لم يقع الوطء؛ لأنه التقاء عضوين غير مستحسنين، ولا صورتهما حسنة، ولا ريحهما طيب؛ وإنما الشهوة تغطي عين الناظر، ليحصل الولد أصلًا، فهي عارض. فمن طلب الشهوة، ونسي جنايته بالزنا، فما رأى الأشياء على ما هي2. وقس على هذا المطعم والمشرب، وجمع المال غير ذلك.   1 رواه ابن أبي الدنيا، وفي سنده بقية "ضعيف". 2 لذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، والتوبة معروضة بعد" رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 317- فصل: الفائدة في خلق ما يؤذي 1397- إن قال قائل: أي فائدة في خلق ما يؤذي؟! فالجواب: أنه قد ثبتت حكمة الخالق؛ فإذا خفيت في بعض الأمور، وجب التسليم، ثم إن المستحسنات في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 الجملة أنموذج ما أعد من الثواب، والمؤذيات أنموذج ما أعد من العقاب، وما خلق شيء يضر؛ إلا وفيه منفعة. 1398- قيل لبعض الأطباء: إن فلانًا يقول: أنا كالعقرب أضر ولا أنفع؟ فقال: ما أقل علمه! إنها لتنفع إذا شق بطنها، ثم شدت على موضع اللسعة، وقد توضع في جوف فخار مسدود الرأس، مطبق الجوانب، ثم يوضع الفخار في تنور؛ فإذا صارت رمادًا، سقي من ذلك الرماد مقدار نصف دانق1 أو أكثر من به الحصاة، فيفتتها من غير أن يضر بشيء من سائر الأعضاء! وقد تلسع العقرب من به حمى عنيفة فتزول. ولسعت رجلًا مفلوجًا، فزال عنه الفالج2. وقد تلقى في الدهن، حتى يجتذب قواها، فيزيل ذلك الدهن الأورام الغليظة. ومثل هذا كثير. فالجاهل عدو لما جهله، وأكبر الحماقة رد الجاهل على العالم.   1 الدانق: سدس درهم، والدرهم = 3.22غ. 2 الفالج: شلل يصيب أحد شقي البدن، وربما كان في الشقين، فيبطل الإحساس والحركة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 318- فصل: كلما أوغلت الفهوم في معرفة الخالق تاهت في محبته 1399- كلما أوغلت الفهوم في معرفة الخالق، فشاهدت عظمته ولطفه ورفعته؛ تاهت في محبته، فخرجت عن حد الثبوت، وقد كان خلق من الناس غلبت عليهم محبته، فلم يقدروا على مخالطة الخلق، ومنهم من لم يقدر على السكوت عن الذكر، وفيهم من لم ينم إلا غلبة، وفيهم من هام في البراري، وفيهم من احترق في بدنه. فيا حسن مخمورهم ما ألذ سكره! ويا عيش قلقهم ما أحسن وجده! 1400- كان أبو عبيدة الخواص1 قد غلبه الوجد، فكان يمشي في الأسواق يقول: وا شوقاه إلى من يراني ولا أراه. 1401- وكان فتح بن شخرف2 يقول: قد طال شوقي إليك، فعجل قدومي عليك.   1 عباد بن عباد، واعظ له أقوال مأثورة. 2 أبو نصر الخراساني المروزي أحد العباد، توفي سنة "273هـ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 1402- وكان قيس بن الربيع1 كأنه مخمور من غير شراب 1403- وكان ابن عقيلٍ يقول: إن التبذل2 فيه سبحانه أحسن من التجمل في غيره. 1404- هل رأيت قط عراة أحسن من المحرمين؟! هل رأيت للمتزينين برياش الدنيا [سَمْتًا] كأثواب الصالحين؟! هل رأيت خمارًا3 أحسن من نعاس المتهجدين؟! هل رأيت سكرًا أحسن من صعق الواجدين؟! هل شاهدت ماء صافيًا أصفى من دموع المتأسفين؟! هل رأيت رؤوسًا مائلة كرؤوس المنكسرين؟! هل لصق بالأرض شيء أحسن من جباه المصلين؟! هل حرك نسيم الأسحار أوراق الأشجار؛ فبلغ مبلغ تحريكه أذيال المتهجدين؟! هل ارتفعت أكف، وانبسطت أيد، فضاهت أكف الراغبين؟! هل حرك القلوب صوت ترجيع لحن أو رنة وتر كما حرك حنين المشتاقين؟! وإنما يحسن التبذل في تحصيل أوفى الأغراض؛ فلذلك حسن التبذل في خدمة المنعم.   1 أبو محمد الأسدي الكوفي "90-167هـ"، أحد أوعية العلم على ضعف فيه من قبل حفظه. 2 التبذل: أن يلبس الإنسان لباس الخدمة والعمل. 3 الخمار: بضم الخاء المعجمة: ما يعقب شرب الخمر من صداع وأذى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 319- فصل: في سبب تبذير الولاة 1405- الولاة "أكثرهم1 لا يعرف الدين، ولا يتأدب بآدابه، فإذا كان أصل خلقته سيئ العقل، ولم يرزق مع هذا السوء ما يهذب طبعه، وينضج فكره، فكيف يرتقب الخير؟ إن العقل ينمو بالتعليم والتحصيل والدربة، والمران مع دوام العمل. أجل"2 أكثرهم لا يعرف الدين، ولا يتأدب بآدابه بمرة، تتفق له قلة العقل في أصل الوضع، ثم ذلك القليل لا يعاون، بل يعان عليه، وذاك أن الجارحة إذا دام تعطلها عن عملها الذي هيئت له، تعطلت وخمدت، ولهذا تنقض أبصار النساخ والرافئين3، وتحتد أبصار أهل البوادي؛ لأنه لا صاد لأبصارهم.   1 ي الولاة. 2 زيادة من حاشية "أ". 3 الذي يخيط الثياب ويصلحها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 وشغل العقل التفكر والنظر في عواقب الأحوال، والاستدلال بالشاهد على الغائب، وهؤلاء يمتلئون من الطعام دائمًا، وذلك يؤذي العقل، ثم يطيلون النوم؛ فإذا انتبهوا، شربوا المسكر، فاتفق للعقل تعطيل وتغطية، فساء التدبير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 320- فصل: تحديث العوام بما لا تحتمله قلوبهم مخاطرة 1406- من المخاطرات العظيمة تحديث العوام بما لا تحتمله قلوبهم أو بما قد رسخ في نفوسهم ضده، مثاله: أن قومًا قد رسخ في قلوبهم التشبيه، وأن ذات الخالق سبحانه ملاصقة للعرش! وهي بقدر العرش، ويفضل من العرش أربع أصابع! وسمعوا مثل هذا من أشياخهم، وثبت عندهم أنه إذا نزل وانتقل إلى السماء الدنيا، فخلت منه ست سماواتٍ!! 1407- فإذا دعي أحدهم إلى التنزيه، وقيل له: ليس كما خطر لك؛ إنما ينبغي أن تمر الأحاديث كما جاءت، من غير مساكنة ما توهمته، صعب هذا عليه لوجهين: أحدهما: لغلبة الحس عليه، والحس على العوام أغلب. والثاني: لما قد سمعه من ذلك من الأشياخ، الذين كانوا أجهل منه. فالمخطب بهذا مخاطر بنفسه. 1408- ولقد بلغني عن بعض من كان يتدين ممن قد رسخ في قلبه التشبيه أنه سمع من بعض العلماء شيئًا من التنزيه، فقال: والله، لو قدرت عليه، لقتلته. فالله الله أن تحدث مخلوقًا من العوام بما لا يحتمله دون احتيال وتلطف1؛ فإنها لا يزول ما في نفسه، ويخاطر المحدث له بنفسه، فكذلك كل ما يتعلق بالأصول.   1 زيادة من " أ ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 321- فصل: الرجل هو الذي يحفظ الحدود ويخلص العمل 1409- لا يغرك من الرجل طنطنته2، وما تراه يفعل من صلاة وصوم وصدقة وعزلة؛ إنما الرجل هو الذي يراعي شيئين: حفظ الحدود، وإخلاص العمل.   1 طنطنته: شهرته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 فكم قد رأينا متعبدًا يخرق الحدود بالغيبة، وفعل ما لا يجوز مما يوافق هواه، وكم قد اعتبرنا على صاحب دين أنه يقصد بفعله غير الله تعالى! وهذه الآفة تزيد وتنقص في الخلق. فرب1 خاشعٍ ليقال: ناسك! وصامت ليقال: خائف! وتاركٍ للدنيا ليقال: زاهد! فالرجل كل الرجل هو الذي يراعي حدود الله، وهي ما فرض عليه، وألزم به، ويحسن القصد، فيكون عمله وقوله خالصًا لله تعالى، لا يريد الخلق ولا تعظيمهم له. 1410- وعلامة المخلص أن يكون في جلوته كخلوته، وربما تكلف بين الناس التبسم والانبساط، لينمحي عنه اسم الزاهد؛ فقد كان ابن سيرين يضحك بالنهار، فإذا جن الليل، فكأنه قتل أهل القرية. واعلم أن المعمول2 معه لا يريد الشركاء، فالمخلص مفرد له بالقصد، والمرائي قد أشرك ليحصل له مدح الناس، وذلك ينقلب؛ لأن قلوبهم بيد من أشرك معه، فهو يقلبها عليه لا إليه. فالموفق من كانت معاملته باطنه، وأعماله خالصة، وذاك الذي تحبه الناس، وإن لم يبالهم3، كما يمقتون المرائي، وإن زاد تعبده. ثم إن الرجل الموصوف بهذه الخصال لا يتناهى عن كمال العلوم، ولا يقصر عن طلب الفضائل؛ فملأ الزمان أكثر ما يسعه من الخير، وقلبه لا يفتر عن العمل القلبي، إلى4 أن [يصير] شغله بالحق سبحانه وتعالى.   1 في الأصل: "فربما"، وهو تصحيف. 2 يعني: الله سبحانه وتعالى. 3 في الأصل: وإن كرهوا أن يقلدوا به. 4 في الأصل: إلّا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 322- فصل : حب الصِّيت 1411- رأيت خلقًا يفرطون في أديانهم، ثم يقولون: احملونا إذا متنا إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 مقبرة أحمد1، أتراهم ما سمعوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "امتنع من الصلاة على من عليه دين" 2 وعلى الغال، وقال: "ما ينفعه صلاتي عليه"3؟ 1412- ولقد رأيت أقوامًا من العلماء حملهم حب الصيت على أن استخرجوا إذنًا من السلطان، فدفنوا في دكة4 أحمد بن حنبل، وهم يعلمون أن هناك خلقًا رفات بعضهم على بعض، وما فيهم إلا من يعلم أنها ما يستحق القرب من مثل ذلك! فأين احتقار النفوس؟! أما سمعوا أن عمر بن عبد العزيز، قيل له: تدفن في الحجرة5؟! فقال: لأن ألقى الله بكل ذنب -ما خلا الشرك- أحب إلي من أن أرى نفسي أهلًا لذلك؟! لكن العادات وحب الرئاسة غلبت على هؤلاء، فبقي العلم يجري على الألسن عادة، لا للعمل به. 1413- ثم آل الأمر إلى جماعة خالطوا السلاطين، وباشروا الظلم، يزاحمون على الدفن بمقبرة أحمد، ويوصون بذلك!! فليتهم أوصوا بالدفن في موضع فارغ؛ إنما يدفنون على موتى، وتخرج عظام أولئك، فيحشرون على ما ألقوا من الظلم، حتى في موتهم، وينسون أنهم كانوا من أعوان الظلمة، أترى ما علموا أن مساعد الظلم ظالم؟! وفي الحديث: "كفى بالمرء خيانة أن يكون أمينًا للخونة"6. قال السجان لأحمد بن حنبل: هل أنا من أعوان الظلمة؟ فقال: لا، أنت من الظلمة؛ إنما أعوان الظلمة من أعانك في أمر.   1 أحمد بن حنبل. 2 رواه البخاري "2289" عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه. 3 رواه النسائي "1959"، وابن ماجه "2848" عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه عدا قوله: "ما ينفعه صلاتي عليه" "ضعيف". 4 الدكة: المقبرة. 5 حجرة عائشة رضي الله عنها التي دفن فيها النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما. 6 من كلام مالك بن دينار، وقد ذكره البيهقي في الشعب برقم "9430". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 323- فصل: خلق الإنسان ومعه الحسد 1414- رأيت الناس يذمون الحاسد، ويبالغون، ويقولون: لا يحسد إلا شرير، يعادي نعمة الله، ولا يرضى بقضائه، ويبخل على أخيه المسلم، فنظرت في هذا، فما رأيته كما يقولون. وذاك أن الإنسان لا يجب أن يرتفع عليه أحد؛ فإذا رأى صديقه قد علا عليه، تأثر هو، ولم يحب أن يرتفع عليه، وود لو لم ينل صديقه ما ينال، أو أن ينال هو ما نال ذاك، لئلا يرتفع عليه. وهذا معجون في الطبع1، ولا لوم على ذلك؛ إنما اللوم أن يعمل بمقتضاه من قول أو فعل. وكنت أظن أن هذا قد وقع لي عن سبري2 وفحصي؛ فرأيت الحديث3 عن الحسن البصري قد سبقني إليه، قال: أخبرنا عبد الخالق بن عبد الصمد، قال: أخبرنا ابن النقور4، قال: أخبرنا المخلص5، قال: حدثنا البغوي، قال: حدثنا أبو روح، قال: حدثنا مخلد بن الحسين، عن هشام، عن الحسن، قال: ليس من ولد آدم أحد إلا وقد خلق معه الحسد، فمن لم يجاوز ذلك بقول ولا بفعل، لم يتبعه شيء.   1 في الأصل: الطين. أي: أصل الخلقة. 2 في الأصل: سري، وهو تصحيف. 3 يستعمل المؤلف كلمة الحديث بمعناه اللغوي لا بمعناه الاصطلاحي، وقد ورد أكثر من مرة بهذا المعنى. 4 أحمد بن محمد، أبو الحسين البغدادي البزار "381-470هـ" مسند العراق. 5 محمد بن عبد الرحمن البغدادي الذهبي "305-393هـ" المحدث المعمر، سمي المخلص؛ لأنه كان يخلص الذهب عن الغش. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 324- فصل: أعظم الضرر كثرة النساء 1415- من أعظم الضرر الداخل على الإنسان كثرة النساء. إنه أولًا يتشتت همه في محبتهن، ومداراتهن، وغيرتهن، والإنفاق عليهن، ولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 يأمن إحداهن أن تكرهه، وتريد غيره، فلا تتخلص إلا بقتله! ولو سلم من جميع ذلك، لم يسلم في الكسب لهن، فإن سلم، لم ينج من السآمة لهن، أو لبعضهن، ثم يطلب ما لا يقدر عليه من غيرهن؛ حتى إنه لو قدر على نساء بغداد كلهن، فقدمت امرأة مستترة من غير البلد، ظن أنه يجد عندها ما ليس عندهن! ولعمري، إن في الجدة لذة، ولكن، رب مستور إذا انكشف افتضح. ولو أنه سلم من كل أذى يتعلق بهن، أنهك بدنه في الجماع، فيكون طلبه للالتذاذ مانعًا من دوام الالتذاذ، ورب لقمة منعت لقمات! ورب لذة كانت سببًا في انقطاع لذات!! 1416- والعاقل من يقتصر على الواحدة، إذا وافقت غرضه، ولا بد أن يكون فيها شيء لا يوافق؛ إنما العمل على الغالب، فتوهب الخلة الردية للجيدة1. وينبغي أن يكون النظر إلى باب الدين قبل النظر إلى الحسن؛ فإنه إذا قل الدين، لم ينتفع ذو مروءة بتلك المرأة. 1417- ومما يهلك الشيخ سريعًا الجماع، فلا يغتر بما يرى من انبساط الآلة، وحصول الشهوة؛ فإن ذلك مستخرج من قوته، ما لا يعود مثله، فلا ينبغي أن يغتر بحركة وشهوة، ولا يقرب من النساء، إن كان له رأي في البقاء.   1 في الأصل: للمجيدة، وهو تصحيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 قليل العقل لا يرجى خبره ... 325- فصل: قليل العقل لا يرجى خيره 1418- إذا رأيت قليل العقل في أصل الوضع، فلا ترج خيره! فأما إن كان وافر العقل؛ لكنه يغلب عليه الهوى، فارجه! وعلامة ذلك أنه يدبر أمره في جهله، فيستتر من الناس إذا أتى فاحشة، ويراقب في بعض الأحوال، ويبكي عند الموعظة، ويحترم أهل الدين؛ فهذا عاقل مغلوب بالهوى، فإذا انتبه بالندم، خنس شيطان الهوى، وجاء ملك العقل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 1419- فأما إذا كان قليل العقل في الوضع -وعلامته ألا ينظر في عاقبة عاجلة ولا آجلة، ولا يستحي من الناس أن يروه على فاحشة، ولا يدبر أمر دنياه: فذاك بعيد الرجاء، وقد يندر من هؤلاء من يفلح، ويكون السبب فيه1 خميرة من العقل غطى عليها الهوى، ثم تكشف قليلًا ليعود، فمثلهم كمثل مصروعٍ أفاق.   1 أي: عدم الفلاح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 326- فصل: النظر في العواقب شأن العقلاء 1420- ينبغي الاحتراز من كل ما يجوز أن يكون، ولا ينبغي أن يقال: الغالب السلامة، وقد رأينا من نزل مع الخيل في سفينة، فاضطربت، فغرق من في السفينة، وإن كان الغالب في هذه السلامة. 1421- وكان ينبغي أن يقدر1 الإنسان في نفقته، وإن رأى الدنيا مقبلة، لجواز أن تنقطع تلك الدنيا2، وحاجة النفس لابد من قضائها؛ فإذا بذر وقت السعة، فجاء وقت الضيق، لم يأمن أن يدخل في مداخل سوء، وأن يتعرض بالطلب من الناس، وكذلك ينبغي للمعافى أن يعد للمرض، وللقوي أن يتهيأ للهرم. 1422- وفي الجملة؛ فالنظر في العواقب، وفيما يجوز أن يقع: شأن العقلاء فأما النظر في الحالة الراهنة فحسب، فحالة الجهلة الحمقى، مثل أن يرى نفسه معافى، وينسى المرض، أو غنيًّا، وينسى الفقر، أو يرى لذةً عاجلة، وينسى ما تجني عواقبها، وليس للعقل شغل إلا النظر في العواقب، وهو يشير بالصواب من أين يقبل.   1 يقدر: يقتصد. 2 في الأصل: الأسباب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 327- فصل: يظهر إيمان المؤمن عند الابتلاء 1423- يبين إيمان المؤمن عند الابتلاء، فهو يبالغ في الدعاء، ولا يرى أثرًا للإجابة، ولا يتغير أمله ورجاؤه، ولو قويت أسباب اليأس، لعلمه أن الحق أعلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 بالمصالح، أو؛ لأن المراد منه الصبر أو الإيمان؛ فإنه لم يحكم عليه بذلك إلا وهو يريد من القلب التسليم، لينظر كيف صبره، أو يريد كثرة اللجأ والدعاء. 1424- فأما من يريد تعجيل الإجابة، ويتذمر إن لم تتعجل، فذاك ضعيف الإيمان، ويرى أن له حقًّا في الإجابة، وكأنه يتقاضى أجرة عمله. 1425- أما سمعت قصة يعقوب عليه السلام، بقي ثمانين سنة في البلاء، ورجاؤه لا يتغير، فلما ضم إلى فقد يوسف فقد بنيامين؛ لم يتغير أمله، وقال: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا} [يوسف: 83] ؟. 1426- وقد كشف هذا المعنى قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة 214] . ومعلوم أن هذا لا يصدر من الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إلا بعد طول البلاء، وقرب اليأس من الفرج. ومن هذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لايزال العبد بخير ما لم يستعجل"، قيل له: وما يستعجل؟ قال: "يقول: دعوت فلم يستجب لي". فإياك إياك أن تستطيل زمان البلاء، وتضجر من كثرة الدعاء؛ فإنك مبتلى بالبلاء، متعبد بالصبر والدعاء، ولا تيأس من روح الله، وإن طال البلاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 328- فصل: لذات الدنيا في ضمنها أكدار 1427- تفكرت في سبب دخول جهنم؛ فإذا هو المعاصي، فنظرت في المعاصي، فإذا هي حاصلة من طلب اللذات، فنظرت في اللذات، فرأيتها خدعًا ليست بشيء، وفي ضمنها من الأكدار ما يصيرها نغصًا، فتخرج عن كونها لذات. فكيف يتبع العاقل نفسه، ويرضى بجنهم، لأجل هذه الأكدار؟! 1428- فمن اللذات الزنا؛ فإن كان المراد إراقة الماء، فقد يراق في حلال، وإن كان في معشوق، فمراد النفس دوام البقاء مع المعشوق؛ فإذا هي ملكته، فالمملوك مملول، وإن هو قاربه ساعة ثم فارقه، فحسرة الفراق تربو على لذة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 القرب، وإن كان ولد له من الزنا، فالفضيحة الدائمة، والعقوبة التامة، وتنكيس الرأس عند الخالق والمخلوق. وأما الجاهل، فيرى لذته في بلوغ ذلك الغرض، وينسى ما يجني مما يكدر عيش الدنيا والآخرة. 1429- ومن ذلك شرب الخمر؛ فإنه تنجيس للفم والثوب، وإبعاد للعقل، وتأثيراته معلومة عند الخالق والمخلوق، فالعجب ممن يؤثر لذة ساعة تجني عقابًا، وذهاب جاه! وربما خرج بالعربدة إلى القتل!! 1430- وعلى هذا فقس جميع المذوقات؛ فإن لذاتها إذا وزنت بميزان العقل لا تفي بمعشار عشير عواقبها القباح في الدنيا والآخرة، ثم هي نفسها ليست بكثير شيء فكيف تباع الآخرة بمثل هذا؟! 1431- سبحان من أنعم على أقوام، كلما لاحت لهم لذة، نصبوا ميزان العقل، ونظروا فيما يجني، وتلمحوا ما يؤثر تركها، فرجحوا الأصلح. وطمس على قلوب، فهي ترى صورة الشيء، وتنسى جناياته. 1432- ثم العجب أنا نرى من يبعد عن زوجته، وهو شاب، ليعدو في الطريق، فيقال: ساع! فيغلب هواه لطلب ما هو أعلى، وهو المدح، فكيف لا يترك محرمًا ليمدح في الدنيا والأخرى؟! 1433- ثم قدر حصول ما طلبت من اللذات وذهابها، وأحسب أنها قد كانت، وقد هانت، وتخلصت من محنها. أين أنت من غيرك؟! أين تعب عالم قد درس العلم خمسين سنة؟! ذهب التعب، وحصل العلم، وأين لذة البطال1؟! ذهبت الراحة، وأعقبت الندم.   1 البطال: من يتبع طريق اللهو والجهالة، ويشتغل بما لا ينفعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 329- فصل: من تبع العقل سَلِمَ 1434- من وقف على موجب الحس هلك، و من تبع العقل سلم ؛ لأن مجرد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 الحس لا يرى إلا الحاضر، وهو الدنيا، وأما العقل؛ فإنه ينظر إلى المخلوقات، فيعلم وجود خالق قد منع وأباح، وأطلق وحظر، وأخبر أني سائلكم ومبتليكم، ليظهر دليل وجودي عندكم، بترك ما تشتهون، طاعة لي، وأني قد بنيت لكم دارًا غير هذه، لإثابة من يطيع، وعقوبة من يخالف. 1435- ثم لو ترك الحس وما يشتهي مع أغراضه، قرب الأمر! إنما يزني فيجلد، ويشرب الخمر فيعاقب، ويسرق فيقطع، ويفعل زلة، فيفضح بين الخلق، ويعرض عن العلم إلى البطالة فيقع الندم عند حصول الجهل. 1436- ثم إنا نرى الكثير ممن عمل بمقتضى عقله قد سلمت دنياه وآخرته، وميز بين الخلق بالتعظيم، وكان عيشه في لذاته غالبًا خيرًا من عيش موافق للهوى؛ فليعتبر ذو الفهم بما قلت، وليعمل بمقتضى الدليل، وقد سلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 330- فصل: العجب لمؤثر شهوات الدنيا 1437- العجب لمؤثر شهوات الدنيا! ألا يتدبر أمرها بالعقل، قبل أن يصير إلى منقولات الشرع؟! إن أعظم لذات الحس الوطء، فالمرأة المستحسنة إنما يكون حال كمالها من وقت بلوغها إلى الثلاثين، فإذا بلغتها، أثر فيها، وربما أبيضت شعرات من رأسها، فينفر الإنسان منها، وقد يقع الملل قبل ذلك، وطول الصحبة يكشف العيوب، وما عيب نساء الدنيا بأبلغ من قوله: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} [البقرة: 25] ، فلو تفكر الإنسان في جسد مملوء بالنجاسة، ما طاب له ضمه، غير أن الشهوة تغطي عين الفكر. 1438- فالعاقل من حفظ دينه ومروءته بترك الحرام، وحفظ قوته في الحلال، فأنفقها في طلب الفضائل من علم أو عمل، ولم يسع في إفناء عمره، وتشتيت قلبه في شيء لا تحسن عاقبته. ما في هوادجكم من مهجتي عوض ... إن مت شوقًا ولا فيها لها ثمن 1439- وعموم من رأينا من الكبار غلبت عليهم شهوة الوطء، فانهدمت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 أعمارهم، روحلوا سريعًا، وقد رأينا من العقلاء من زجر نفسه عن هذه المحنة، ولم يستعملها إلا وقت الحاجة، فبقي لهم سواد شعورهم وقوتهم، حتى تمتعوا بها في الحياة، وحصلوا المناقب، وعرفت منهم النفوس قوة العزيمة؛ فلم تطالبهم بما يؤذي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 331- فصل : رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- في المنام 1440- قد أشكل على بعض الناس رؤية النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: "من رآني في المنام، فقد رآني" 1؛ فقال: ظاهر الحديث أنه يراه حقيقة! وفي الناس من يراه شيخًا وشابًّا ومريضًا ومعافى! فالجواب: أنه من ظن أن جسد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المودع في المدينة خرج من القبر، وحضر في المكان الذي رآه فيه؛ فهذا جهل لا جهل يشبهه، فقد يراه في وقت واحد؟! وإنما الذي يرى مثاله لا شخصه، فيبقى "من رآني.. فقد رآني"، معناه: قد رأى مثالي، الذي يعرفه الصواب، وتحصل به الفائدة المطلوبة2. 1441- فإن قيل: فما تقولون في رؤية الحق سبحانه؟! فتقول: يرى مثالًا لا مثلًا، والمثال لا يفتقر إلى المساواة والمشابهة، كما قال تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد: 17] ، فضربه مثالًا للقرآن وانتفاع الخلق به. ويوضح هذا أنه إنما يرى من رأى الحق سبحانه وتعالى على هيئة مخصوصة، والحق سبحانه وتعالى منزه، قد توحد، فوضح ما قلنا.   1 رواه البخاري "6993"، ومسلم "2266" عن أبي هريرة رضي الله عنه. 2 قال ابن جزي في "القوانين الفقهية" ص "379": لا تصح رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم قطعًا إلا لصحابي رآه حافظًا صفته، حتى يكون المثال الذي رآه في المنام مطابقًا لخلقته صلى الله عليه وسلم. انظر: العقل والفقه في فهم الحديث للأستاذ مصطفى الزرقا ص "17-34ط". دار القلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 332- فصل عزيزُ الفائدةِ: العلم كثير والعمر قصير 1442- اعلم أنه لو اتسع العمر؛ لم أمنع من الإيغال في كل علم إلى منتهاه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 غير أن العمر قصير، والعلم كثير: فينبغي للإنسان أن يقتصر من القراءات إذا حفظ القرآن على العشر، ومن الحديث على الصحاح والسنن والمسانيد المصنفة؛ فإن علوم الحديث قد انبسطت زائدة في الحد، [والمتون محصورة1] ، وإنما الطرق تختلف. وعلم الحديث يتعلق بعضه ببعض، وهو مشتهى، والفقهاء يسمونه علم الكسالى؛ لأنهم يتشاغلون بكتابته وسماعه، ولا يكادون يعانون حفظه، ويفوتهم المهم، وهو الفقه. وقد كان المحدثون قديمًا هم الفقهاء، ثم صار الفقهاء لا يعرفون الحديث، والمحدثون لا يعرفون الفقه!! فمن كان ذا همة، ونصح نفسه، تشاغل بالمهم من كل علم، وجعل جل شغله الفقه؛ فهو أعظم العلوم، وأهمها. 1443- وقد قال أبو زرعة2: كتب إلى أبو ثور3: فإن هذا الحديث قد رواه ثمانية وتسعون رجلًا، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي صح منه طرق يسيره. فالتشاغل بغير ما صح يمنع التشاغل بما هو أهم. ولو اتسع العمر؛ كان استيفاء كل الطرق في كل الأحاديث غاية في الجودة؛ ولكن العمر قصير. 1444- ولما تشاغل بالطرق مثل يحيى بن معين4، فاته من الفقه كثير، حتى إنه سئل عن الحائض: أيجوز أن تغسل الموتى؟ فلم يعلم، حتى جاء أبو ثور، فقال: يجوز؛ لأن عائشة رضي الله عنها قالت: كنت أرجل رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا حائض5. فيحيى أعلم بالحديث منه، ولكن لم يتشاغل بفهمه.   1 في الأصل: وما في هذا الجزء وما أثبت من "د". 2 عبيد الله بن عبد الكريم الرازي "200-240هـ": محدث الري، وإمام الجرح والتعديل وسيد الحفاظ. 3 إبراهيم بن خالد الكلبي البغدادي "170-240هـ": إمام حافظ فقيه مجتهد. 4 إمام الجرح والتعديل، الحافظ، الجهبذ، أحد الأعلام "158-233هـ". 5 رواه البخاري "295"، ومسلم "297". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 1445- فأنا أنهى أهل الحديث أن تشغلهم كثرة الطرق. ومن أقبح الأشياء أن تجري حادثة، يسأل عنها شيخ قد كتب الحديث ستين سنة، فلا يعرف حكم الله -عز وجل- فيها! وكذلك أنهى من يتشاغل بالتزهد والانقطاع عن الناس أن يعرض عن العلم، بل ينبغي أن يجعل لنفسه منه حظًّا، ليعلم إن زل كيف يتخلص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 333- فصل: العاقل العالم يسير بين رفيقين: العلم والعقل 1446- معرفة الله سبحانه لا تحصل إلا لكامل العقل، صحيح المزاج، والترقي إلى محبته بذلك يكون. وإن أقوامًا قلت عقولهم، وفسدت أمزجتهم، فساءت مطاعمهم وقلت، فتخايلت لهم الخيالات الفاسدة، فادعوا معرفة الحق ومحبته، ولم يكن عندهم من العلم ما يصدهم عما ادعوا، فهلكوا. 1447- وليعلم أن في المأكولات ما يسب إفساد العقل، وفيها ما يزيد في السوداء؛ فيوجب الماليخوليا، فترى صاحبها يحب الخلوة، ويهرب من الناس، وقد يقلل المطعم، فيقوى مرضه، فيتخايل خيالات يظنها حقًّا؛ فمنهم من يقول: إني رأيت الملائكة! وفيهم من يخرجه الأمر إلى دعوى محبة الحق، والوله1 فيه، ولا يكون ذلك عن أصل معتمد عليه. 1448- وإنما العاقل العالم يسير في الطريق بين الرفيقين: العلم والعقل؛ فإن تقلل من الطعام، فبعقل، وحد التقلل: ترك فضول المطعم، وما يخاف شره من شبهة، أو شهوة يحذر تعودها. وأما زيادة التقلل مع القدرة، فليس لعقل ولا شرع؛ إلا أن يكون الفقر عم، فيقلل ضرورة. 1449- ومن تأمل حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وجدهم يأخذون بمقدار، ولا يتركون حظوظ النفس التي تصلحها، وأحسن الأمر وأعدله قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:   1 الوله: ذهاب العقل والتحير من شدة الحب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 "ثلث طعام، وثلث شراب، وثلث نفس". وقد قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو مريض: "أصب من هذا الطعام، فهو أوفق لك من هذا". وكان صلى الله عليه وسلم يشاور الأطباء، ويحتجم، ويحث على التداوي، ويقول: "ما أنزل الله داء إلا وأنزل له شفاء، فتداووا". 1450- فجاء أقوام جهلوا العلم والحكمة في بنيان الأبدان، فمنهم: من أقام في الجبال يأكل البلوط1، فأصابه القولنج2، ومنهم: من كان لا يتقوت3 إلا الباقلاء4 والشعير: فأوجبت هذه الأفعال أمراضًا في البدن، وترقت إلى إفساد العقل. وأتفق لهم قلة العلم؛ إذ لو عملوا لفهموا أن الحكمة تنهى عن مثل هذا؛ فإن البدن مبني على أخلاط، إذا اعتدلت وافقت السلامة، وإذا زاد بعضها وقع المرض وأكثر هؤلاء مرضوا، وتعجل لهم الموت، وفيهم من خرج إلى التسودن5، وفيهم من لاحت له لوائح، فادعى رؤية الملائكة.. إلى غير ذلك. 1451- فأما أهل العلم والعقل، فهربهم من الخلق لخوف المعاصي، ورؤية المنكر، وفيهم من قويت معرفته، فشغلته معرفة الحق ومحبته عن ملاقاة الخلق. فهذه هي الخلوات الصافية؛ لأنها تصدر عن علم وعقل، فتحفظ البدن؛ لأنه ناقة توصيل. 1452- ولا ينبغي أن يتهاون بالمأكولات، خصوصًا من لم يعتد التقشف، ولا يلبس الصوف على البدن من لم يعتده، ولينظر في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم   1 البلوط: شجر حراجي غليظ الساق، متين الخشب، ثمرته تشبه الكستناء. 2 القولنج: المغص. 3 في الأصل: يقوت، وهو تصحيف. 4 الباقلاء: الفول عند أهل بغداد. 5 غلبت عليه السوداء، وهي اضطرابات مصحوبة بالحزن العميق والتشاؤم العام، وما زال هذا الحرف مستعملًا في بلاد الشام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 وصحابته؛ فإنهم القدوة، ولا يلتفت إلى بنيات الطريق1، فيقال: فلان الزاهد قد أكل الطين! وفلان كان يمشي حافيًا! وفلان بقي شهرًا ما أكل! فإن المحققين من هؤلاء المخلصين لله تعالى على غير الجادة؛ لأن الجادة اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وما كانوا يفعلون. هذا، ولعمري، إنه قد كان فيهم من يقنع بالمذقة2 من اللبن، ويصبر الأيام عن الطعام؛ ولكن إما لضرورة، أو؛ لأنه معتاد لذلك، كما يعتاد البدوي شرب اللبن وحده، ولا يؤذيه ذلك، وفي الحديث: عودوا كل بدن ما اعتاد3. 1453- وفي المتزهدين من أخرج ماله كله عن يده زهدًا، ومعلوم أن الحاجات لا تنقضي؛ فلما احتاج، تعرض للطلب، وافتقر إلى أخذ مال من يد من يعلم أنه ظالم، وبذل وجهه! وقد كانت الصحابة تتجر وتحفظ المال، وجهال المتزهدين يرون جمع المال ينافي الزهد!! 1454- فممخضة3 هذا الفصل أن أقول: ينبغي لمن رزق فهمًا أن يسعى في صلاح بدنه، ولا يحمل عليه ما يؤذيه، ولا يناوله من القوت ما لا يوافقه، ولا يضيع ماله، وليجتهد في استثماره لئلا يحتاج؛ فإنه ما نافق زاهد إلا لأجل الدنيا، ولينظر في سير الكاملين من السلف، وليتشاغل بالعلم، فإنه الدليل، فحينئذ يحمله الأمر على الخلوة بربه، والاشتغال بحبه، فيكون ما ظهر منه ثمرة نضيجة لا فجة، والله الموفق.   1 بنيات الطريق: الترهات. 2 الجرعة من اللبن الممزوج بالماء. 3 قال ابن قيم في زاد المعاد "4/ 104": هو من كلام الحارث بن كلدة طبيب العرب، ولا يصح رفعه. يقصد المؤلف بكلمة الحديث المعنى اللغوي لا الاصطلاحي والدليل قوله في الفصل "342": وقد قيل: عودوا كل بدن ما اعتاد. 4 الممخضة: الخلاصة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 334- فصل: متى استقام باطنك استقامت لك الأمور 1455- ما رأيت أظرف من لعب الدنيا بالعقول، وقد سمعنا ورأينا جماعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 من الفطناء الكاملي العقل، لبعت بهم الدنيا، حتى صاروا كالمجانين، فولوا الولايات، فخرجوا إلى القتل والضرب، والحبس والشتم، وذهاب الدين، والمباشرة للظلم كله؛ لأجل دنيا تذهب سريعًا، وهي في مدة إقامتها معجونة بالنغص. 1456- فيا أيها المرزوق عقلًا! لا تبخسه حقه، ولا تطفئ نوره، واسمع ما نشير به، ولا تلتفت إلى بكاء طفل الطبع لفوات غرضه؛ فإنك إن رحمت بكاءه، لم تقدر على فطامه، ولم يمكنك تأديبه، فيبلغ جاهلًا فقيرًا: لا تسه عن أدب الصغيْ ... ـر ولو شكا ألم التعبْ ودع الكبير لشأنه ... كبر الكبير عن الأدبْ 1457- واعلم أن زمان الابتلاء ضيف، قراه الصبر1، كما قال أحمد بن حنبل: "إنما هو طعام دون طعام، ولباس دون لباس، وإنما أيام قلائل"، فلا تنظر إلى لذة المترفين، وتلمح عواقبهم، ولا تضق صدرًا بضيق المعاش، وعلل2 الناقة بالحدو تسر: طاول بها الليل مال النجم أم جَنَحَا ... وماطل النوم ضن الجفن أم سَمَحَا فإن تشكت فعللها المجرة منْ ... ضوء الصباح، وعدها بالرواح ضُحَى 1458- وقد كان أهدي إلى أحمد بن حنبل هدية فردها. ثم قال بعد سنة لأولاده: لو كنا قبلناها كانت قد ذهبت. 1459- ومر بشر على بئر، فقال له صاحبه: أنا عطشان. فقال: البئر الأخرى؛ فمر عليها، فقال له: الأخرى، ثم قال: كذا تقطع الدنيا. 1460- ودخلوا إلى بشر الحافي، وليس في داره حصير، فقيل له: ألا بذا تؤذي؟ فقال: هذا أمر ينقضي. 1461- وكان لداود الطائي دار يأوي إليها، فوقع سقف، فانتقل إلى سقف [آخر] ، إلى أن مات في الدهليز. فهؤلاء الذين نظروا في عواقب الأمور.   1 القرى: طعام الضيفان. 2 علّل: تشاغل وتلهّى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 1462- وبعد هذا، فلا أطالبك بهذه الرتبة، بل أقول لك: إن حصل لك شيء من المباح، لا من فيه ولا أذى، ولا نلته بسؤال، ولا من يد ظالم، تعلم أن ماله حرام، أو فيه شبهة، فافسح لنفسك في مباحاتها بمقدار ما تحتاج إليه، وكن مقدرًا للنفقة غير مبذر؛ فإن الحلال لا يحتمل السرف، ومتى أسرفت، احتجت إلى التعرض للخلق، والتناول من الأكدار. 1463- وإن ضاق بك أمر، فاصبر، فإن ضعف الصبر، فسل فاتح الأبواب، فهو الكريم، وعنده مفاتح الغيب، وإياك أن تبذل دينك بتصنع للخلق، أو بتقرب إلى الأمراء، وتستعطي أموالهم، واذكر طريق السلف. 1464- كان ابن سمعون1 له ثياب يجلس فيها للناس، ثم يطويها إلى المجلس الآخر، ورثها عن أبيه، وبقيت أربعين سنة. 1465- وكانت ميمونة بنت شاقولة2 تعظ الناس، ولها ثياب قد بقيت أربعين سنة. 1466- ومن صفا نظره، وتهذب لفظه، نفع وعظه، ومن كدر، كدر عليه، والحالقة العالية في هذا: إقبال القلب على الله عز وجل، والتوكل عليه، والنظر إليه، والتفات القلب عن الخلق، فإن احتجت، فاسأله، وإن ضعفت، فارغب إليه. ومتى ساكنت الأسباب، انقطعت عنه، ومتى استقام باطنك، استقامت لك الأمور.   1 في حاشية الأصل: وفي نسخة ابن مسعود وهو تصحيف. 2 عابدة زاهدة، وواعظة بليغة، توفيت سنة "393هـ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 335- فصل: المحق لا يطلب إلا الأرفع 1467- رأيت نفسي تأنس بخلطاء نسميهم أصدقاء، فبحثت بالتجارب عنهم؛ فإذا أكثرهم حساد على النعم، وأعداء، لا يسترون زلةً، ولا يعرفون لجليس حقًّا، ولا يواسون من مالهم صديقًا. فتأملت الأمر؛ فإذا الحق سبحانه يغار على قلب المؤمن أن يجعل له شيئًا يأنس به، فهو يكدر عليه الدنيا وأهلها، ليكون أنسه به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 1468- فينبغي أن يعد الخلق كلهم معارف، ليس فيهم صديق، بل تحسبهم أعداء، ولا تظهر سرك لمخلوق منهم، ولا تعدن من يصلح لشدة لا ولدًا ولا أخًا ولا صديقًا؛ بل عاملهم بالظاهر، ولا تخالطهم إلا حالة الضرورة بالتوقي لحظة، ثم انفر عنهم. وأقبل على شأنك، متوكلًا على خالقك؛ فإنه لا يجلب الخير سواه، ولا يصرف السوء إلا إياه. فليكن جليسك وأنيسك، وموضع توكلك وشكواك، فإن ضعف بصرك، فاستغث به، وإن قل يقينك، فسله القوة، وإياك أن تميل إلى غيره؛ فإنه غيور، وأن تشكو من أقداره، فربما غضب ولم يمهل1. 1469- أوحى الله -عز وجل- إلى يوسف عليه السلام: من خلصك من الجب؟ من فعل؟ من فعل؟ قال: أنت. قال: فلم ذكرت غيري؟ فلأطيلن حبسك! أو كما قال. هذا؛ وإنما تعرض يوسف عليه السلام بسبب مباح: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف: 42] ، {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} [التوبة:25] . 1470- وما أعرف العيش إلا لمن يعرفه "جل شأنه"، ويعيش معه، ويتأدب بين يديه في حركاته وكلماته، كأنه يراه، ويقف على باب طرفه حارسًا من نظرة لا تصلح، وعلى باب لسانه حافظًا له من كلمة لا تحسن، وعلى باب قلبه حماية لمسكنه من دخول الأغيار، ويتسوحش من الخلق شغلًا به، وهذا يكون على سيرة الروحانيين؛ فأما المخلط، فالكدر غالب عليه. والمحق لا يطلب إلا الأرفع. قال القائل: ألا لا أحب السير إلا مصاعدًا ... ولا البرق إلا أن يكون يمانيَا   في الأصل: يحتمل، وهو تصحيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 336- فصل: الاشتغال بصورة العلم دون حقيقته ومقصوده 1471- رأيت أكثر العلماء مشتغلين بصورة العلم دون فهم حقيقته ومقصوده؛ فالقارئ مشغول بالروايات، عاكف على الشواذ، يرى أن المقصود نفس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 التلاوة، ولا يتلمح عظمة المتكلم، ولا زجر القرآن ووعده، وربما ظن أن حفظ القرآن يدفع عنه، فتراه يترخص في الذنوب، ولو فهم، لعلم أن الحجة عليه أقوى ممن لم يقرأ! والمحدث يجمع الطرق، ويحفظ الأسانيد، ولا يتأمل مقصود المنقول، ويرى أنه قد حفظ على الناس الأحاديث، فهو يرجو بذلك السلامة، وربما ترخص في الخطايا، ظنًّا منه أن ما فعل في الشريعة يدفع عنه! والفقيه قد وقع له أنه بما قد عرف من الجدال، الذي يقوي به خصامه، أو المسائل التي قد عرف فيها المذهب: قد حصل بما يفتي به الناس ما يرفع قدره، ويمحو ذنبه؛ فربما هجم على الخطايا، ظنًّا منه أن ذلك يدفع عنه! وربما لم يحفظ القرآن، ولم يعرف الحديث، وأنهما ينهيان عن الفواحش بزجر ورفق، وينضاف إليه -مع الجهل بهما- حب الرئاسة، وإيثار الغلبة في الجدل، فتزيد قسوة قلبه! وعلى هذا أكثر الناس، صور العلم عندهم صناعة، فهي تكسبهم الكبر والحماقة. 1472- وقد حكى بعض المعتبرين، عن شيخ أفنى عمره في علوم كثيرة، أنه فتن في آخر عمره بفسق أصر عليه، وبارز الله به، وكانت حاله تعطى بمضمونها: أن علمي يدفع عني شر ما أنا فيه، ولا يبقى له أثر! وكان كأنه قد قطع لنفسه بالنجاة، فلا يرى عنده أثر لخوف، ولا ندم على ذنب!! قال: فتغير في آخر عمره، ولازمه الفقر؛ فكان يلقى الشدائد، ولا ينتهي عن قبح حاله، إلى أن جمعت له يومًا قراريط1 على وجه الكدية2، فاستحيا من ذلك، وقال: يا رب! إلى هذا الحد؟! قال الحاكي: فتعجبت من غفلته، كيف نسي الله عز وجل، وأراد منه حسن التدبير له، والصيانة، وسعة الرزق؟! وكأنه ما سمع قوله تعالى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الجن: 16] ، ولا علم أن المعاصي تسد أبواب الرزق، وأن من ضيع أمر الله ضيعه الله؟! فما رأيت علمًا ما أفاد كعلم هذا؛ لأن العالم إذا زل انكسر3، وهذا   1 القيراط = 0.2232 غ. 2 الكدية: الاستجاء وسؤال الناس. 3 انكسر: انذلّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 مصر، لا تؤلمه معصيته، وكأنه يجوز له ما يفعل، أو كان له التصرف في الدين تحليلًا وتحريمًا، فمرض عاجلًا، ومات على أقبح حال. 1473- قال الحاكي: ورأيت شيخًا آخر، حصل صور علم فما أفادته، كان أي فسق أمكنه، لم يتحاش منه، وأي أمر لم يعجبه من القدر، عارضه بالاعتراض على المقدر واللوم، فعاش أكدر عيش، وعلى أقبح اعتقاد، حتى درج1. 1474- وهؤلاء لم يفهموا معنى العلم، وليس العلم صور الألفاظ؛ إنما المقصود فهم المراد منه، وذاك يورث الخشية والخوف، ويري المنة للمنعم بالعلم، وقوة الحجة له على المتعلم. نسأل الله عز وجل يقظة تفهمنا المقصود، وتعرفنا المعبود. ونعوذ بالله من سبيل رعاع يتسمون بالعلماء، لا ينهاهم ما يحملون، ويعلمون ولا يعملون، ويتكبرون على الناس بما لا يعملون، ويأخذون عرض الأدنى2، وقد نهوا عما يأخذون، غلبتهم طباعهم، وما راضتهم علومهم التي يدرسون، فهم3 أخس حالًا من العوام الذين يجهلون، {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7] .   1 درج: مات. 2 عرض الأدنى: زينة الدنيا. 3 في الأصل: فهي، وهو تصحيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 337- فصل للفقيه أن يطالع من كل فنٍّ طرفًا 1475- للفقيه أن يطالع من كل فن طرفًا: من تاريخ، وحديث، ولغة، وغير ذلك؛ فإن الفقه يحتاج إلى جميع العلوم، فليأخذ من كل شيء منها مهما. 1476- ولقد رأيت بعض الفقهاء يقول: اجتمع الشبلي وشريك القاضي1! فاستعجبت له! كيف لا يدري بعد ما بينهما؟! وقال آخر في مناظرة: كانت الزوجية بين فاطمة وعلي رضي الله عنهما غير منقطعة الحكم؛ فلهذا غسلها! فقلت له: ويحك! فقد   1 شريك بن عبد الله النخعي الكوفي "95-177هـ": الفقيه العلامة، أما الشبلي فقد ولد سنة "247هـ"، فكيف يلتقيان؟! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 تزوج أمامة بنت زينب، وهي ابنة أختها! فانقطع1. 1477- ورأيت في كتاب "إحياء علوم الدين" للغزالي من هذا ما يدهش من التخليط في الأحاديث والتواريخ، فجمعت من أغاليطه كتاب2. وقد ذكر في كتاب له سماه "المستظهري"3 وعرضه على المستظهر بالله4: أن سلميان بن عبد الملك5 بعث إلى أبي حازم6؛ فقال له: ابعث لي من فطورك! فبعث إليه نخالة مقلوة، فأفطر عليها، ثم جامع زوجته، فجاءت بعبد العزيز7، ثم ولد له عمر8!! وهذ تخليط قبيح، فإنه جعل عمر بن عبد العزيز بن سليمان بن عبد الملك! فجعل سليمان جده؛ وإنما هو ابن عمه. 1478- وقد ذكر أبو المعالي الجويني، في أواخر كتاب "الشامل في الأصول"9، قال: قد ذكرت طائفة من الثقات المعتنين بالبحث عن البواطن أن الحلاج والجنابي10 القرمطي وابن المقنع تواصوا على قلب الدول، وإفساد المملكة، واستعطاف القلوب، وارتاد كل منهم قطرًا، فقطن الجنابي في الأحساء، وتوغل ابن المقنع في أطراف بلاد الترك، وقطن الحلاج ببغداد، فحكم عليه صاحباه بالهلكة والقصور عن بلوغ الأمنية، لبعد أهل بغداد عن الانخداع، وتوفر فطنتهم، وصدق فراستهم.   1 انقطع: لم يحر جوابًا. 2 وقد وقع مثل هذا للمؤلف في الفصل "49" من هذا الكتاب. وفي الأصل: في كتاب. 3 وطبع تحت اسم فضائح الباطنية بتحقيق عبد الرحمن بدوي. 4 أحمد بن المقتدي بأمر الله، عبد الله الهاشمي الخليفة العباسي "470-512هـ" كان موصوفًا بالسخاء والجود ومحبة العلماء وأهل الدين. 5 الخليفة الأموي السابع "54-99هـ" وهو الذي رشح عمر بن عبد العزيز للخلافة. 6 سلمة بن دينار عالم المدينة، توفي سنة "140 هـ". 7 عبد العزيز بن مروان أمير مصر، توفي سنة "85هـ". 8 فضائح الباطنية ص "217". 9 كتاب في أصول الدين. طبع قسم منه بتحقيق الدكتور علي سامي النشار. 10 الحسن بن بهرام، أبو سعيد، كبير القرامطة في البحرين، قتله غلام له سنة "301هـ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 قلت: ولو أن هذا الرجل أو من حكى عنه عرف التاريخ، لعلم أن الحلاج لم يدرك ابن المقنع؛ فإن ابن المقنع1 أمر بقتله المنصور، فقتل في سنة أربع وأربعين ومائة، وأبو سعيد الجنابي القرمطي ظهر في سنة ست وثمانين ومائتين، والحلاج قتل سنة تسع وثلاث مائة، فزمان القرمطي والحلاج متقاربان، فأما ابن المقنع؛ فكلا. 1479- فينبغي لكل ذي علم أن يساهم بباقي العلوم، فيطالع منها طرفًا؛ إذ لكل علم بعلم تعلق. وأقبح2 بمحدث يسأل عن حادثة فلا يدري، وقد شغله منها جمع الأحاديث. وقبيح بالفقيه أن يقال له: ما معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا؟ فلا يدري صحة الحديث ولا معناه! نسأل الله عز وجل همة عالية، لا ترضى بالنقائص بمنه ولطفه.   1 الذي قتله المنصور هو عبد الله بن المقفع "106-144هـ" من أئمة الكتاب ترجم كليلة ودمنة. أما المقنع -وليس ابن المقنع- فاسمه عطاء، مشعوذ مشهور ادعى الربوبية، فتبعه قوم، وقاتلوا في سبيله، وكان مشوه الخلق، فاتخذ وجهًا من ذهب تقنع به، جيش المهدي إليه الجيوش فسم نفسه ومات سنة "163هـ"، فالمؤلف رحمه الله التبس عليه الرجلان. 2 في الأصل: ما أقبح، ولا يستقيم مع ما بعده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 338- فصل: همم القدماء من العلماء 1480- كانت همم القدماء من العلماء عالية، تدل عليها تصانيفهم، التي هي زبدة أعمارهم؛ إلا أن أكثر تصانيفهم دثرت؛ لأن همم الطلاب ضعفت، فصاروا يطلبون المختصرات، ولا ينشطون للمطولات، ثم اقتصروا على ما يدرسون به من بعضها1، فدثرت الكتب، ولم تنسخ! 1481- فسبيل طالب الكمال في طلب العلم الاطلاع على الكتب، التي قد تخلفت من المصنفات، فليكثر من المطالعة؛ فإنه يرى من علوم القوم، وعلو هممهم ما يشحذ خاطره، ويحرك عزيمته للجد، وما يخلو كتاب من فائدة. 1482- وأعوذ بالله من سير هؤلاء الذين نعاشرهم! لا نرى فيهم ذا همة غالية؛ فيقتدي به المبتدئ، ولا صاحب ورع، فيستفيد منه الزاهد.   1 وهذا حال كثير من المشايخ ومريديهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 فالله الله وعليكم بملاحظة سير السلف، ومطالعة تاصنيفهم وأخبارهم، فالاستكثار من مطالعة كتبهم رؤية لهم، كما قال1: فاتني أن أرى الديار بطرفي ... فلعلي أرى الديار بسمعي 1483- وإني أخبر عن حالي: ما أشبع من مطالعة الكتب، وإذا رأيت كتابًا لم أره، فكأني وقعت على كنز، ولقد نظرت في ثبت الكتب الموقوفه في المدرسة النظمية2؛ فإذا به يحتوي على نحو ستة آلاف مجلد، وفي ثبت كتب أبي حنيفة، وكتب الحميدي، وكتب شيخنا عبد الوهاب، وابن ناصر، وكتب أبي محمد بن الخشاب -وكانت أحمالًا- وغير ذلك من كل كتاب أقدر عليه، ولو قلت: إني طالعت عشرين ألف مجلد، كان أكثر، وأنا بعد في الطلب! فاستفدت بالنظر فيها من ملاحظة سير القوم، وقدر هممهم، وحفظهم وعباداتهم، وغرائب علومهم: ما لا يعرفه من لم يطالع، فصرت أستزري3 ما الناس فيه، وأحتقر همم الطلاب. ولله الحمد.   1 هو للشريف الرضي، ديوانه "1/ 500". 2 المدرسة الكبرى التي أنشأها الوزير نظام الملك الحسن بن علي الطوسي ببغداد، وبدئ التدريس فيها سنة "459هـ". 3 محمد بن أبي نصر فتوح الحميدي الأندلسي الميورقي، الفقيه، ولد قبل سنة "420هـ" واستوطن بغداد، وتوفي سنة "488هـ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 339- فصل: أثر قلة العقل وترك إعماله 1484- ليس للآدمي أعز من نفسه، وقد عجبت ممن يخاطر بها، ويعرضها للهلاك! والسبب في ذلك قلة العقل، وسوء النظر؛ فمنهم من يعرضها للتلف، ليمدح بزعمه، مثل قوم يخرجون إلى قتل السبع! ومنهم من يصعد إلى إيوان كسرى1، ليقال: شاطر! وساع يمشي ثلاثين فرسخًا! وهؤلاء إذا تلفوا، حملوا إلى النار؛ فإن هلك، ذهبت النفس التي يراد المال لأجلها.   1 قال ياقوت: رأيته وقد بقي منه طاق الإيوان فحسب، وهو مبني بآجر، طول كل أجرة نحو ذراع في عرض أقل من شبر، وهو عظيم جدًّا، وهو من بناء كسرى أبرويز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 وأعجب من الكل من يخاطر بنفسه في الهلاك ولا يدري، مثل أن يغضب، فيقتل المسلم، فيتقي غيظه بالتعذيب في جهنم. 1485- وأظرف من هذا اليهود والنصارى، فإن أحدهم يبلغ، فيجب عليه أن ينظر في نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم؛ فإذا فرط فمات، فله الخلود في جهنم. ولقد قلت لبعضهم: ويحك! تخاطر بنفسك في عذاب الأبد! نحن نؤمن بنبيكم فتقول: لو أن مسلمًا آمن بنبينا، وكذب بنبيكم أو بالتوراة، خلد في النار، فما بيننا وبينكم خلاف!! إذ نحن مؤمنون بصدقه وكتابه، فلو لقيناه، لم نخجل، ولو عاتبنا مثلًا وقال: هل قمتم بالسبت؟ والسبت من الفروع، والفروع لا يعاقب عليها بالخلود. فقال لي رئيس القوم: ما نطالبكم بهذا؛ لأن السبت إنما يلزم بني إسرائيل. فقلت: فقد سلمنا بإجماعكم، وأنتم هالكون؛ لأنكم تخاطرن بأرواحكم في العذاب الدائم!! والعجب بمن يهمل النظر فيما إذا توانى فيه أوجب الخلود في العقاب الدائم. وأعجب من الكل جاحد الخالق، وهو يرى إحكام الصنعة، ويقول: لا صانع. والسبب في هذه الأشياء كلها قلة العقل، وترك إعماله في النظر والاستدلال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 340- فصل : ربّ سرٍّ ظهر فكان سبب الهلاك 1486- لا ينبغي للعاقل أن يظهر سرًّا حتى يعلم أنه إذا ظهر لا يتأذى بظهوره. ومعلوم أن السبب في بث السر طلب الاستراحة ببثه، وذلك ألم قريب؛ فليصبر عليه. فرب مظهر سر لزوجته؛ فإذا طلقت بثته وهلك، أو لصديقه، فيظهر عليه حسدًا له، إذا كان مماثلًا، وإن كان عاميًّا، فالعامي أحمق. ورب سر أظهر فكان سبب الهلاك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 341- فصل: عاشق العلم 1487- ما يتناهى في طلب العلم إلا عاشق العلم، والعاشق ينبغي أن يصبر على المكاره، ومن ضرورة المتشاغل به البعد عن الكسب. ومذ فقد التفقد لهم من الأمراء ومن الإخوان، لازمهم الفقر ضرورة، والفضائل تنادي: {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب: 11] ، فكلما خافت من ابتلاء، قالت: لا تحسب المجد تمرًا أنت آكله ... لن تبلغ المجد حتى تعلق الصبرَا 1488- ولما آثر أحمد بن حنبل رضي الله عنه طلب العلم، وكان فقيرًا؛ بقي أربعين سنة يتشاغل به، ولا يتزوج. فينبغي للفقير أن يصابر فقره كما فعل أحمد، ومن يطيق ما أطاق؟! فقد رد من المال خمسين ألفًا، وكان يأكل الكامخ1 ويتأدم بالملح، فما شاع له الذكر الجميل جزافًا، ولا ترددت الأقدام إلى قبره إلا لمعنى عجيب، فيا له ثناء ملأ الآفاق، وجمالًا زين الوجود، وعزًّا نسخ كل ذلك! هذا في العاجل، وثواب الآجل لا يوصف. 1489- وتلمح قبور أكثر العلماء، لا تعرف ولا تزار، ترخصوا، وتأولوا، وخالطوا السلاطين، فذهبت بركة العلم، ومحي الجاه، ووردوا عند الموت حياض الندم! فيا لها حسرات لا تتلافى، وخسرانًا لا ينجبر! وكانت صحبة اللذات طرفة عين، ولازم الأسف دائمًا. فالصبر الصبر أيها الطالب للفضائل؛ فإن لذة الراحة بالهوى أو بالبطانة تذهب، ويبقى الأسى. وقال الشافعي رضي الله عنه2: يا نفس ما هو إلا صبر أيامٍ ... كأن مدتها أضغاث أحلام يا نفس جوزي عن الدنيا مبادرةً ... وخل عنها فإن العيش قدامِي   1 طعام من السميذ واللبن يجفف، ولعله قريب من الكشك. 2 ديوانه ص "108"ط. دار القلم بدمشق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 1490- ثم أيها العالم الفقير! أيسرك ملك سلطان من السلاطين، وأن ما تعلمه من العلم لا تعلمه؟ كلا، ما أظن بالمتيقظ أن يؤثر هذا! 1491- ثم أنت إذا وقع لك خاطر مستحسن أو معنى عجيب؛ تجد لذة لا يجدها ملتذ باللذات الحسية، فقد حرم من رزق الشهوات ما قد رزقت، وقد شاركتهم في قوام العيش، ولم يبق إلا الفضول، الذي إذا أخذ لم يكد يضر. ثم هم على المخاطرة في باب الآخرة غالبًا، وأنت على السلامة في الأغلب. فتلمح يا أخي عواقب الأحوال! واقمع الكسل المثبط عن الفضائل؛ فإن كثيرًا من العلماء الذين ماتوا مفرطين يتقلبون في حسرات وأسف. 1492- رأى رجل شيخنا ابن الزاغوني1 في المنام، فقال له الشيخ: أكثر ما عندكم الغفلة، وأكثر ما عندنا الندامة. 1493- فاهرب وفقك الله قبل الحبس! وافسخ عقد الهوى على الغبن الفاحش! واعلم أن الفضائل لا تنهال بالهوينى2، وأن يسير التفريط يشين وجه المحاسن! فالبدار البدار، ونفس النفس يتردد، وملك الموت غائب ما قدم بعد، وانهض بعزيمة عازم: إذا هم ألقى بين عينيه عزمه ... ونكب عن ذكر العواقب جانبَا3 ولم يستشر في أمره غير نفسه ... ولم يرض إلا قائم السيف صاحبا 1494- وارفض في هذه العزيمة الدنيا وأربابها، فبارك الله لأهل الدنيا في دنياهم، فنحن الأغنياء، وهم الفقراء، كما قال إبراهيم بن أدهم: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه، لجالدونا4 عليه بالسيوف.   1 أبو الحسن علي بن عبيد الله البغدادي "455-527هـ": الإمام العلامة شيخ الحنابلة. وقد تصحف بالأصل إلى "ابن الزغواني". 2 الهوينى: الاتئداد والرفق. 3 البيتان لسعد بن ناشب المازني. انظر: شرح الحماسة للتبريزي "1/ 35". 4 جالدونا: قاتلونا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 1495- فأبناء الدنيا، أحدهم لا يكاد يأكل لقمة إلا حرامًا أو شبهة، وهو وإن لم يؤثر ذلك، فوكيله يفعله، ولا يبالي هو بقلة دين وكيله، وإن عمروا دارًا، سحروا الفعلة1، وإن جمعوا مالًا، فمن وجوه لا تصلح، ثم كل منهم خائف أن يقتل أو يعزل أو يشتم، فعيشهم نغص. 1496- ونحن نأكل ما ظاهر الشرع يشهد له بالإباحة، ولا نخاف من عدو، ولا ولايتنا تقبل العزل، والعز في الدنيا لنا لا لهم، وإقبال الخلق علينا، وتقبيل أيدينا وتعظيمنا عندهم كثير، وفي الآخرة بيننا وبينهم تفاوت إن شاء الله تعالى؛ فإن لفت أرباب الدنيا أعناقهم، يعلمون قدر مزيتنا، وإن غلت أيديهم عن إعطائنا؛ فلذة العفاف أطيب، ومرارة المنن لا تفي بالمأخوذ، وإنما هو طعام دون طعام، ولباس دون لباس؛ وإنها أيام قلائل. 1497- والعجب لمن شرفت نفسه حتى طلب العلم -إذ لا تطلبه إلا ذو نفس شريفة، كيف يذل لبذل من لا عزه إلا بالدنانير، ولا فخره إلا بالمكنه؟! ولقد أنشدني أبو يعلى العلوي2: رب قوم في خلائقهم ... عرر قد صيروا غررا ستر المال القبيح لهم ... سترى إن زال ما سَتَرَا أيقظنا الله من رقدة الغافلين، ورزقنا فكر المتيقظين، ووفقنا للعمل بمقتضى العلم والعقل، إنه قريب مجيب.   1 هم الذين يعملون بالمياومة في أعمال البناء والترميم ونحوها، وما زال هذا التعبير دارجًا عندنا في الشام وكانوا يسمون في عصر المؤلف الروزجارية. انظر الفصل "371". 2 لم أجد له ترجمة، والعرر: العيوب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 342- فصل: البدن كالراحة إن لم يرفق بها لم تصل بالراكب 1498- لا ينبغي للإنسان أن يحمل على بدنه ما لا يطيق؛ فإن البدن كالراحلة، إن لم يرفق بها، لم تصل بالراكب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 1499- فترى في الناس من يتزهد، وقد ربي جسده على الترف، فيعرض عما ألفه، فتجد له الأمراض، فتقطعه عن كثير من العبادات، وقد قيل: عودوا كل بدن ما اعتاد! وقد قرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ضب، فقال: "أجدني أعافه؛ لأنه ليس بأرض قومي" 1. 1500- وفي حديث الهجرة: أن أبا بكر رضي الله عنه طلب لرسول الله صلى الله عليه وسلم الظل، وفرش له فروة، وصب على القدح الذي فيه اللبن ماء حتى برد. 1501- وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم على قوم، فقال: "إن كان عندكم ماء بات في شن؛ وإلا كرعنا". وكان صلى الله عليه وسلم يأكل لحم الدجاج. وفي "الصحيح": أنه كان يحب الحلوى والعسل. وكان إذا لم يقدر، أكل ما حضر. 1502- ولعمري، إن في العرب وأهل السواد2 من لا يؤثر عنده التخشن في المطعم والملبس، وذاك إذا جرى بعد توبته على عادته؛ لم يستضر. فأما من قد ألف اللطف؛ فإنه إذا غير حالته، تغير بدنه، وقلت عبادته. 1503- وقد كان الحسن3 يديم أكل اللحم، ويقول: لا رغيفي مالك4، ولا صحني فرقد5. 1504- وكان ابن سيرين لا يخلي منزله من حلوى. وكان سفيان الثوري يسافر، وفي سفرته الحمل المشوي والفالوذج. وقالت رابعة: ما أرى لبدن يراد به العمل لله إذا أكل الفالوذج عيبًا. فمن ألف الترف؛ فينبغي أن يتطلف بنفسه إذا أمكنه. 1505- وقد عرفت هذا من نفسي، فإني ربيت في ترف، فلما ابتدأت في التقلل وهجر المشتهى، أثر معي مرضًا، قطعني عن كثير من التعبد، حتى إني قرأت   1 رواه البخاري "5537"، ومسلم "1946" عن ابن عباس رضي الله عنه. 2 جنوب العراق: وحده من حديثة الموصل إلى عبادان طولًا، ومن العذيب بالقادسية إلى حلوان عرضًا، وسمي سوادًا لخضرته. 3 هو البصري. 4 مالك بن دينار. 5 فرقد السبخي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 في أيام كل يوم خمسة أجزاء من القرآن، فتناولت يومًا ما لا يصلح، فلم أقدر في ذلك اليوم على قراءتها، فقلت: إن لقمة تؤثر قراءة خمسة أجزاء، بكل حرف عشر حسنات، إن تناولها لطاعة عظيمة! وإن مطعمًا يؤذي البدن، فيفوته فعل خير ينبغي أن يهجر! 1506- وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا من أصحابه حضر عنده، وقد تغير من التقشف، فقال له: "من أمرك بهذا؟! "1. 1507- فالعاقل يعطي بدنه من الغذاء ما يوافقه، كما ينفي الغازي شعير الدابة. ولا تظنن أني آمر بأكل الشهوات، ولا بالإكثار من الملذوذ؛ إنما آمر بتناول ما يحفظ النفس، وأنهى عما يؤذي البدن، فأما التوسع في المطاعم؛ فإنه سبب النوم، والشبع يعمي القلب، ويرهل2 البدن ويضعفه. فافهم ما أشرت إليه، فالطريف هي الوسطى.   1 رواه أبو داود "2428"، وابن ماجه "1741" "ضعيف". 2 في الأصل يهزل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 343- فصل: إذا تكامل العقل قوي الذكاء والفطنة 1508- إذا تكامل العقل، قوي الذكاء والفطنة، والذكي يتخلص إذا وقع في آفة، كما قال الحسن: إذا كان اللص ظريفًا؛ لم يقطع، فأما المغفل، فيجني على نفسه المحن. 1509- هؤلاء إخوة يوسف عليهم السلام، أبعدوه عن أبيه، ليتقدموا عنده، وما علموا أن حزنه عليه يشغله عنهم، وتهمته إياهم تبغضهم إليه، ثم رموه في الجب، فقالوا: {يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ} [يوسف: 10] ، وليس بطفل؛ إنما هو صبي كبير، وما علموا أنه إذا التقط، يحدث بحاله، فيبلغ الخبر إلى أبيه! وهذا تغفيل، ثم إنهم قالوا: أكله الذئب، وجاؤوا بقميصه صحيحًا، ولو خرقوه، احتمل الأمر، ثم لما مضوا إليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 يمتارون1، قال: {ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ} [يوسف: 59] ، فلو فطنوا، علموا أن ملك مصر لا غرض له في أخيهم، ثم حبسه بحجة، ثم قال: هذا الصواع يخبرني أنه كان كذا وكذا! هذا كله وما يفطنون. فلما أحس بهذه الأشياء يعقوب عليه السلام، قال: {اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ} [يوسف: 87] ، وكان يوسف عليه السلام قد نهي بالوحي أن يعلم أباه بوجوده، ولهذا، لما التقيا، قال له: هلا كتبت إلي! فقال: إن جبريل عليه السلام منعني. فلما نهي أن يعرفه خبره، ليفذ البلاء، كان ما فعل بأخيه تنبيهًا؛ فصار كأنه يعرض بخطبة المعتدة. وعلى فهم يوسف -والله- بكى يعقوب، لا على مجرد صورته.   1 يمتارون: يجلبون الميرة وهي الطعام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 344- فصل: من رزق اليقظة ينبغي أن يصابر لنيل الفضائل 1510- الآدمي موضوع على مطلوبات تشتت الهم، العين تطلب المنظور، واللسان يطلب الكلام، والبطن يطلب المأكول، والفرج المنكوح، والطبع يحب جمع المال. وقد أمرنا بجمع الهم لذكر الآخرة والهوى يشتته، فكيف إذا اجتمعت إليه حاجات لازمة من طلب قوت البدن، وقوت العيال؟! 1511- وهذا يبكر إلى دكانه، ويتفكر في التحصيل، ويستعمل آلة الفهم في نيل ما لا بد منه، فأي هم يجتمع منه؟! خصوصًا إن أخذه الشره في صورة، فيمضي العمر، فينهض من الدكان إلى القبر، فكيف يحصل العلم أو العمل أو إخلاص القصد أو طلب الفضائل؟! 1512- فمن رزق يقظة؛ فينبغي أن يصابر لنيل الفضائل: فإن كان متزهدًا بغير عائلة، اكتفى بسعي قليل، فقد كان السبتي1 يعمل يوم السبت فيكتفي به طول الأسبوع؛ فإن كان له مال، باضع2 به من يكفيه بدينه وثقته من أن يهتم هو، وإن كان له عائلة، جمع همه في نية الكسب عليهم، فيكون متعبدًا، أو أن يكون [له] قنية   1 أحمد بن هارون الرشيد، توفي سنة "184هـ". 2 باضع: ضارب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 مالٍ كعقارٍ، ناصفة في نفقته1، ليكفيه دخله، وليقلل الهم على مقدار ما يمكنه من حذف العلائق جهده، ليجمع الهم في ذكر الآخرة؛ فإن لم يفعل، أخذ في غفلته، وندم في حفرته. 1513- وأقبح الأحوال حال عالم فقيه، كلما جمع همه لذكر الآخرة، شتته طلب القوت للعائلة، وربما احتاج إلى التعرض للظلمة، وأخذ الشبهات، وبذل الوجه، فيلزم هذا التقدير في النفقة، وإذا حصل له شيء من وجه، دبر فيه. ولا ينبغي أن يحمله قصر الأمل على إخراج ما في يده؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: "لأن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تتركهم عالة يتكففون الناس". 1514- وأذل من كل ذل التعرض للبخلاء والأمراء؛ فليدبر أمره، ويقلل العلائق، ويحفظ جاهه، فالأيام قلائل. وقد بعث إلى أحمد بن حنبل مال، فسأله ابنه قبوله، فقال: يا صالح! صني! ثم قال: أتسخير الله، فأصبح فقال: يا بني! قد عزم لي ألا أقبله، هذا، وكان العطاء هنيًّا، وجاءه من وجوه! فانعكس الأمر اليوم.   1 أي سكن النصف وأجر النصف الآخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 345- فصل: لابد من مخالطة بمقدار 1515- العزلة عن الخلق سبب طيب العيش، ولابد من مخالطة بمقدار. فدار العدو واستمله، فربما كادك فأهلكك! وأحسن إلى من أساء إليك! واستعن على أمورك بالكتمان! 1516- ولتكن الناس عندك معارف، فأما أصدقاء، فلا؛ لأن أعز الأشياء وجود صديق، ذاك أن الصديق يجب أن يكون في مرتبة مماثل، فإن صادفته عاميًّا، لم تنتفع به، لسوء أخلاقه، وقلة علمه وأدبه، وإن صادفت مماثلًا أو مقاربًا، حسدك، وإذا كان لك يقظة، تلمحت من أفعاله ما يدل على حسدك: {ولتعرفنهم في لحن القول} [محمد: 30] ، وإذا أردت تأكيد ذلك، فضع عليه من يضعك1 عنده، فلا يخرج إليه إلا بما في قلبه.   1 وضعه: حطّ من قدره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 1517- فإن أردت العيش، فابعد عن الحسود؛ لأنه يرى نعمتك، فربما أصابها بالعين! فإن اضطرت إلى مخالطته، فلا تفش له سرك، ولا تشاوره، ولا يغرنك تملقه لك، ولا ما يظهره من الدين والتعبد، فإن الحسد يغلب الدين! وقد عرفت أن قابيل أخرجه الحسد إلى القتل! وأن إخوة يوسف باعوه بثمن بخس! وكان أبو عامر الراهب1 من المتعبدين العقلاء، وعبد الله بن أبي2 من الرؤساء، أخرجهما حسد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النفاق، وترك الصواب. 151-8 ولا ينبغي أن تطلب لحاسدك عقوبة أكثر مما فيه، فإنه في أمر عظيم متصل، لا يرضيه إلا زوال نعمتك، وكلما امتدت، امتد عذابه، فلا عيش له! وما طاب عيش أهل الجنة إلا حين نزع الحسد والغل من صدورهم، ولولا أنه نزع، تحاسدوا، وتنغص عيشهم.   1 عمرو بن صيفي بن مالك الأوسي، جاهلي من أهل المدينة، كان يذكر البعث والحنيفية، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم عاداه أشد العداوة، هلك سنة "9هـ". 2 ابن سلول، وسلول جدته لأمه. أبو الحباب رأس المنافقين في المدينة، هلك سنة "9هـ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 346- فصل: من سار مع العقل أمكنه أن يتمتع من الدنيا 1519- من سار مع العقل، وخالف طريق الهوى، ونظر إلى العواقب، أمكنه أن يتمتع من الدنيا أضعاف ما تمتع من استعمل الشهوات؛ فأما المستعجل فيفوت [على] نفسه حظ الدنيا والذكر الجميل، ويكون ذلك سببًا لفوات مراده من اللذات، وبيان هذا من وجهين: أحدهما: أن [مَنْ] مال إلى شهوات النكاح وأكثر منها، قل التذاذه، وفنيت حرارته، وكان ذلك سببًا في عدم مطلوبه منها! ومن استعمل ذلك بمقدار ما يجيزه العقل ويحتمله، كان التذاذه أكثر، لبعد ما بين الجماعين، وأمكنه التردد لبقاء الحرارة. وكذلك من غش في معاملته أو خان؛ فإنه لا يعامل، فيفوته ربح المعاملة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 الدائمة لخيانته مرة، ولو عرف بالثقة؛ دامت معاملة الناس له، فزاد ربحه. والثاني: أنه من اتقى الله، وتشاغل بالعلم أو تحقيق الزهد، فتح له من المباحات ما يلتذ به كثيرًا، ومن تقاعد به الكسل عن العلم أو الهوى عن تحقيق الزهد، لم يحصل له إلا اليسير من مراده، قال عز وجل: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الجن: 16] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 347- فصل: عيش الصديقين وعيش البهائم 1520- ينبغي أن يكون العمل كله لله، ومعه، ومن أجله، وقد كفاك كل مخلوف، وجلب لك كل خير، وإياك أن تميل عنه بموافقة هوى، وإرضاء مخلوق، فإنه يعكس عليك الحال، ويفوتك المقصود، وفي الحديث: "من أرضى الناس بسخط الله، عاد حامده من الناس ذامًّا"1. 1521- وأطيب العيش عيش من يعيش مع الخالق سبحانه، فإن قيل: كيف يعيش معه؟ قلت: بامتثال أمره، واجتناب نهيه، ومراعاة حدوده، والرضا بقضائه، وحسن الأدب في الخلوة، وكثرة ذكره، وسلامة القلب من الاعتراض في أقداره، فإن احتجت، سألته، فإن أعطى، وإلا، رضيت بالمنع، وعلمت أنه لم يمنع بخلًا، وإنما نظرا لك، ولا تنقطع عن السؤال؛ لأنك تتعبد به، ومتى دمت على ذلك، رزقك محبته، وصدق التوكل عليه، فصارت المحبة تدلك على المقصود، وأثمرت لك محبته إياك، فحينئذ تعيش عيش الصديقين. ولا خير في عيش إن لم يكن كذا فإن أكثر الناس مخبط في عيشه، يداري الأسباب، ويميل إليها بقلبه، ويتعب في تحصيل الرزق بحرص زائد على الحد، وبرغبة إلى الخلق، ويعترض عند انكسار الأغراض، والقدر يجري، ولا يبالي بسخط، ولا يحصل له إلا ما قدر، وقد فاته القرب من الحق، والمحبة له، والتأدب معه، فذلك العيش عيش البهائم.   1 رواه البزار "كشف الأستار: 3568"، والبيهقي في الزهد "887" عن عائشة رضي الله عنها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 348- فصل: مقصود الموضوعات وحكمها والمراد منها 1522- نظرت في حكمة المطعم والمشرب والملبس والمنكح؛ فرأيت أن الآدمي لما خلق من أصول تتحلل، وهي الماء والتراب والنار والهواء، وبقاؤه إنما يكون بالحرارة والرطوبة، [والحرارة تحلل الرطوبة] دائمًا؛ فلم يكن له بد من شيء يخلف ما بطل1، ولما كان اللحم لا ينوب عنه إلا اللحم؛ أباح الشرع ذبح الحيوان، ليتقوى به من هو أشرف منه. ولما كان بدنه يحتاج إلى كسوة، وله قدرة تمييز، وقدرة يصنع بها ما يقيه الأذى من الفطن والصوف، لم يجعل على جلده ما يقيه خلقة؛ بخلاف الحيوان البهيم؛ فإنه لما لم يكن له قدرة على ما يغطي جلده، عوضه بالريش والشعر والوبر. ولما لم يكن بد من فناء الآدمي والحيوان، هيج شهوة الجماع، لتخلف النسل؛ فمقتضى العقل الذي حرك على طلب هذه المصالح أن يكون التناول للمطعم والمشرب مقدار الحاجة والمصلحة، ليقع الالتذاذ بالعافية. ومن البلية طلب الالتذاذ بالمطعم، وإن كان غير صالح، والإكثار منه، والشره في تناوله، وكذلك الكسوة والنكاح! 1523- ومن الحزم جمع المال، وادخاره لعارض حاجة من ذلك، ومن التغفيل إنفاق الحاصل، فربما عرضت حاجة؛ فلم يقدر عليها، فأثر عدمها في البدن، أو في العرض بطلبها من الأنذال! 1524- ومن أقبح الأمور الانهماك في النكاح طلبًا لصورة اللذة، ناسيًا ما يجني ذلك من انحلال القوة، ويزيد في الحرام بالعقوبة. 1525- فمن مال إلى تدبير العقل سلم في دنياه وآخرته، ومن أعرض عن مشاورته أو عن القبول منه، تعجل عطبة. فليفهم مقصود الموضوعات وحكمها والمراد منها، فمن لم يفهم، ولم يعمل بمقتضى ما فهم، كان كأجهل العوام، وإن كان عالمًا.   1 هذه نظرية يونانية قديمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 349- فصل: في مخالطة الأمراء 1526- العجب ممن له مسكة من عقلٍ، أو عنده قليل من دين، كيف يؤثر مخالطتهم؛ فإنه بالمخالطة لهم، أو العمل معهم، يكون قطعًا خائفًا من عزل، أو قتل، أو سم، ولا يمكنه أن يعمل إلا بمقتضى أوامرهم؛ فإن أمروا بما لا يجوز، لم يقدر أن يراجع؛ فقد باع دينه قطعًا بدنياه، فمنعه الخوف من القيام بأمر الله، وضاعت عليه آخرته، ولم يبق بيده إلا عاجل التعظيم، وأن يقال بين يديه: بسم الله! وأن ينفذ أوامره! وذلك بعيد من السلامة في باب الدين، وما يلتذ به منه في الدنيا ممزوج بخوف العزل أو القتل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 350- فصل: العاقل من عمل بمقتضى الحزم 1527- من الغلط العظيم أن يتكلم في حق معزول بما لا يصلح؛ فإنه لا يؤمن أن يلي فينتقم. وفي الجملة، لا ينبغي أن يظهر العداوة لأحد أصلًا؛ فقد يرتفع المحتقر، وقد يتمكن من لا يعد1؛ بل ينبغي أن يكتم ما في النفوس من ضغن على الأعداء، فإن أمكن الانتقام منهم، كان العفو انتقامًا؛ لأنه يذلهم. 1528- وينبغي أن يحسن إلى كل أحد، خصوصًا من يجوز أن يكون له ولاية، وأن يخدم المعزول، فربما نفع في ولايته. 1529- وقد روينا أن رجلًا استأذن على قاضي القضاة ابن أبي دواد وقال: قولوا له: أبو جعفر بالباب! فلما سمع؛ هش2 لذلك، وقال: ائذنوا له! فدخل، فقام، وتلقاه، وأكرمه، وأعطاه خمسة آلاف، وودعه، فقيل له: رجل من العوام فعلت به هذا؟! قال: إني كنت فقيرًا، وكان هذا صديقًا، فجئته يومًا، فقلت له: أنا جائع. فقال: اجلس! وخرج، فجاء بشواء وحلوى وخبز؛ فقال: كل. فقلت: كل معي. قال: لا. قلت: والله، لا آكل حتى تأكل معي. فأكل، فجعل الدم يجري من   1 من لا يعد: لا يحسب له حساب. 2 في الأصل: دهش، وهو تصحيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 فمه. فقلت: ما هذا؟ فقال: مرض. فقلت: والله، لا بد أن تخبرني. فقال: إنك لما جئتني، لم أكن أملك شيئًا، وكانت أسناني مضببة بشريط من ذهب، فنزعته، واشتريت به! فهلا أكافئ مثل هذا؟! 1530- وعلى عكس هذه الأشياء كان ابن الزيات1 وزير الواثق2، وكن يضع من المتوكل؛ فلما ولي؛ عذبه بأنواع العذاب. 1531- وكذلك ابن الجزري، كان لا يوقر المسترشد قبل الولاية؛ فجرت عليه الآفات لما ولي. 1532- فالعاقل من تأمل العواقب ورعاها، وصور كل ما يجوز أن يقع، فعمل بمقتضى الحزم. 1533- وأبلغ من هذا تصوير وجود الموت عاجلًا؛ لأنه يجوز أن يأتي بغتة من غير مرض؛ فالحازم من استعد له، وعمل عمل من لا يندم إذا جاءه، وحذر من الذنوب؛ فإنها كعدو مراصد بالجزاء، وادخر لنفسه صالح الأعمال، فإنها كصديق صِدِّيقٍ، ينفع وقت الشدة. 1534- وأبلغ من كل شيء أن يعلم المؤمن أنه كلما زاد عمله في الفضائل، علت مرتبته في الجنة، وإن نقص نقصت؛ فهو -وإن دخل الجنة في نقص بالإضافة إلى كمال غيره؛ غير أنه قد رضي به، ولا يشعر بذلك. فرحم الله من تلمح العواقب، وعمل بمقتضى التلمح، والله تعالى الموفق.   1 محمد بن عبد الملك، أبو جعفر "173-233هـ": هو وزير المعتصم والواثق العباسيين. 2 هارون بن المعتصم، الخليفة العباسي "196-232هـ" كان عالمًا؛ لكنه تابع أباه وعمه في حمل الناس على القول بخلق القرآن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 351- فصل : هلك الهالكون لقلة الصبر عن المشتهى 1535- لما جمعت كتابي المسمى بـ "المنتظم في تاريخ الملوك والأمم"1،   1 طبع من "5-10" بحيدر آباد، ثم طبع كاملًا في دار الكتب العلمية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 اطلعت على سير الخلق من الملوك والوزراء والعلماء والأدباء والفقهاء والمحدثين والزهاد وغيرهم؛ فرأيت الدنيا قد تلاعبت بالأكثرين تلاعبًا أذهب أديانهم، حتى كانوا لا يؤمنون بالعقاب. 1536- فمن الأمراء من يقتل، ويصادر، ويقطع، ويحبس بغير حق، ثم ينخرط في سلك المعاصي، كأن الأمر إليه، أو قد جاءه الأمن من العقاب؛ فربما تخايل أن حفظي الرعايا يرد عني، وينسى أنه قد قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام: 15] 1537- وقد انخرط جماعة ممن يتسم بالعلم في سلك المعاصي لتحصيل أغراضهم العاجلة، فما نفعهم العلم! ورأينا خلقًا من المتزهدين "خالفوا" لنيل أغراضهم! وهذا؛ لأن الدنيا فخ، والناس كعصافير، والعصفور يريد الحبة، وينسى الخنق. قد نسي أكثر الخلق مالهم، ميلًا إلى عاجل لذاتهم، فأقبلوا يسامرون الهوى، ولا يلتفتون إلى مشاورة العقل. فلقد باعوا بلذة يسيرة خيرًا كثيرًا، واستحقوا1 بشهوات مرذولة عذابًا عظيمًا. فإذا نزل بأحدهم الموت، قال: ليتني لم أكن! {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا} [النبأ: 40] ! فيقال له: {آلْآنَ} [يونس: 91] . 1538- فوا أسفًا، لفائت لا يمكن استدراكه، ولمرتهن لا يصلح فكاكه، ولندم لا ينقطع زمانه، ولمعذب عز عليه إيمانه. 1539- بالله، ما نفعت العقول إلا لمن يلتفت إليها، ويعول عليها، ولا يمكن قبول مشاورها إلا بعزيمة الصبر عما يشتهي. 1540- فتأمل في الأمراء عمر بن الخطاب، وابن عبد العزيز رضي الله عنهما، وفي العلماء أحمد بن حنبل رحمة الله عليه، وفي الزهاد أويسًا القرني2، لقد أعطوا الجد حقه، وفهموا مقصود الوجود.   1 في الأصل: استبدلوا. 2 أويس بن عامر بن القرني المرادي اليماني، أبو عمر، القدوة العابد، سيد التابعين بشهادة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، وجد مقتولًا في صفين مع أصحاب علي رضي الله عنه سنة "37هـ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 1541- وما هلك الهالكون إلا لقلة الصبر عن المشتهى، وربما كان فيهم من لا يؤمن بالبعث والعقاب. وليس العجب من ذاك؛ إنما العجب من مؤمن يوقن، ولا ينفعه يقينه! ويعقل العواقب، ولا ينفعه عقله! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 352- فصل: من رزق همة عالية يعذَّب بمقدار علوها 1542- من رزق همة عالية، يعذب بمقدار علوها! كما قال الشاعر1: وإذا كانت النفوس كبارًا ... تعبت في مرادها الأجسامُ وقال الآخر2: ولكل جسم في النحول بلية ... وبلاء جسمي من تفاوت همتي وبيان هذا أن من علت همته؛ طلب العلوم كلها، ولم يتقصر على بعضها، وطلب من كل علم نهايته، وهذا لا يحتمله البدن. 1543- ثم يرى أن المراد العمل، فيجتهد في قيام الليل، وصيام النهار، والجمع بين ذلك وبين العلم صعب، ثم يرى ترك الدنيا، ويحتاج إلى ما لا بد منه، ويحب الإيثار، ولا يقدر على البخل، ويتقاضاه الكرم البذل، ويمنعه عز النفس عن الكسب؛ فإن هو جرى على طبعه من الكرم، احتاج وافتقر، وتأثر بدنه وعائلته، وإن أمسك، فطبعه يأبى ذلك. وفي الجملة، يحتاج إلى معاناة، وجمع بين أضداد؛ فهو أبدًا في نصب لا ينقضي، وتعب لا يفرغ، ثم إذا حقق الإخلاص في الأعمال، زاد تعبه، وقوي وصبة3. 1544- فأين هو، ومن دنت همته؟! إن كان فقيهًا، فسئل عن حديث، قال: ما أعرفه! وإن كان محدثًا، فسئل عن مسألة فقهية، قال: ما أدري! ولا يبالي إن قيل عنه: مقصر!!   1 هو المتنبي، ديوانه ص "249". 2 نسبه المؤلف للرضي في الفصل "170" ولم أجد البيت في ديوانه. 3 الوصب: المرض والتعب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 1545- والعالي الهمة يرى التقصير في بعض العلوم فضيحة قد كشفت عيبه، وقد أرت الناس عورته. والقصير الهمة لا يبالي بمنن الناس، ولا يستقبح سؤالهم، ولا يأنف من رد. والعالي الهمة لا يحمل ذلك. ولكن تعب العالي الهمة راحة في المعنى، وراحة القصير الهمة تعب وشين، إن كان ثم فهم. 1546- والدنيا دار سباق إلى أعالي المعالي؛ فينبغي لذي الهمة ألا يقصر في شوطه، فإن سبق، فهو المقصود، وإن كبا جواده مع اجتهاده، لم يلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 353- فصل: المصيبة العظمى رضا الإنسان عن نفسه 1547- المصيبة العظمى رضا الإنسان عن نفسه، واقتناعه بعلمه! وهذه محنة قد عمت أكثر الخلق: فترى اليهودي أو النصراني يرى أنه على الصواب، ولا يبحث ولا ينظر في دليل نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم، وإذا سمع ما يلين قلبه، مثل القرآن المعجز؛ هرب؛ لئلا يسمع! وكذلك كل ذي هوى يثبت عليه: إما لأنه مذهب أبيه وأهله، أو لأنه نظر نظرا أول فرآه صوابًا، ولم ينظر فيما يناقضه، ولم يباحث العلماء ليبينوا له خطأه! 1548- ومن هذا حال الخوارج على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه؛ فإنهم استحسنوا ما وقع لهم، ولم يرجعوا إلى من يعلم، ولما لقيهم عبد الله بن عباس رضي الله عنه، فبين لهم خطأهم، رجع عن مذهبه منهم ألفان. وممن لم يرجع عن هواه ابن ملجم، فرأى مذهبه هو الحق، فاستحل قتل أمير المؤمنين رضي الله عنه، ورآه دينًا، حتى إنه لم قطعت أعضاؤه، لم يمانع، فلما طلب لسانه ليقطع، انزعج، وقال: كيف أبقى ساعة في الدنيا لا أذكر الله؟! ومثل هذا ما له دواء. 1549- وكذلك كان الحجاج1 يقول: والله، ما أرجو الخير إلا بعد الموت!   1 الحجاج بن يوسف الثقفي: قائد سفاك للدماء، ووال ظالم جبار، وداهية خطيب، وفاتح عظيم "40-95هـ" يعد من مساوئ بني أمية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 هذا قوله! وكم قد قتل من لا يحل قتله، منهم سعيد بن جبيرٍ1 1550- وقد أخبرنا عبد الوهاب، وابن ناصر الحافظ، قالا: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار، قال: أخبرنا الحسين بن محمد النصيبي، قال: أخبرنا إسماعيل بن سعيد، قال: حدثنا أبو بكر بن الأنباري، قال: حدثنا أبو عيسى الختلي، قال: حدثنا أبو يعلى، قال: حدثنا الأصمعي، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عباد بن كثير، عن قحذم، قال: وجد في سجن الحجاج ثلاثة وثلاثون ألفًا، ما يجب على واحد منهم قطع، ولا قتل، ولا صلب. 1551- قلت: وعموم السلاطين يقتلون ويقطعون، ظنًّا منهم جواز ذلك! ولو سألوا العلماء؛ بينوا لهم. 1552- وعموم العوام يبارزون بالذنوب اعتمادًا على العفو، وينسون العقاب! ومنهم من يعتمد أني من أهل السنة، أو أن لي حسنات قد تنفع، وكل هذا لقوة الجهل. فينبغي للإنسان أن يبالغ في معرفة الدليل، ولا يساكن شبهته، ولا يثق بعلم نفسه. فنسأل الله السلامة من جميع الآفات.   1 سيد التابعين، حبشي "45-95هـ" من تلامذة ابن عباس رضي الله عنهما قتله الحجاج ظلمًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 354- فصل ينبغي تأمله: الجزاء بالمرصاد 1553- اعلم أن الجزاء بالمرصاد: إن كانت حسنة، أو كانت سيئة. ومن الاغترار أن يظن المذنب إذا لم ير عقوبة أنه قد سومح، وربما جاءت العقوبة بعد مدة، وقل من فعل ذنبًا إلا وقوبل عليه، قال عز وجل: {من يعمل سوءًا يجز به} [النساء: 123] . 1554- هذا آدم عليه السلام أكل لقمة، فقد عرفتم ما جرى عليه. قال وهب بن منبه: أوحى الله تعالى إليه: ألم أصطنعك لنفسي، وأحللتك داري، وأسجدت لك ملائكتي؟! فعصيت أمري، ونسيت عهدي!! وعزتي، لو ملأت الأرض كلها1 مثلك يعبدون، ويسبحون في الليل والنهار، ثم عصوني؛ لأنزلتهم منازل العاصين. فنزع   1 في الأصل: كلهم، وهو تصحيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 جبريل التاج عن رأسه، وحل ميكائيل الإكليل عن جبينه، وجذب بناصيته، فأهبط. فبكى آدم ثلاث مائة عام على جبل الهند، تجري دموعه في أودية جبالها؛ فنبتت بتلك المدامع أشجار طيبكم هذا1. 1555- وكذلك داود عليه السلام، نظر نظرة، فأوجبت عتابه، وبكاءه الدائم، حتى نبت العشب من دموعه. 1556- وأما سليمان عليه السلام؛ فإن قومًا اختصموا إليه، فكان هواه مع أحد الخصمين، فعوقب، وتغير في أعين الناس، وكان يقول: أطعموني فلا يطعم!. 1557- وأما يعقوب عليه السلام؛ فإنه يقال: إنه ذبح عجلًا بين يدي أمه، فعوقب بفراق يوسف. 1558- وأما يوسف عليه السلام، فأخذ بالهم، وكل واحد من إخوته ولد له اثنا عشر ولدًا، ونقص هو ولدًا لتلك الهمة. 1559- وأما أيوب عليه السلام؛ فإنه قصر في الإنكار على ملك ظالم لأجل خيل كانت في ناحيته، فابتلي. 1560- وأما يونس عليه السلام، فخرج عن قومه بغير إذن، فالتقمه الحوت. 1561- وأوحى الله عز وجل إلى أرميا: إن قومك تركوا الأمر، الذي أكرمت به آباءهم، وعزتي، لأهيجن عليهم جنودًا لا يرحمون بكاءهم. فقال: يارب! هم ولد خليلك إبراهيم، وأُمَّة صفيِّك موسى، وقوم نبيك داود. فأوحى الله تعالى إليه: إنما أكرمت إبراهيم وموسى وداود بطاعتي، ولو عصوني، لأنزلتهم منازل العاصين2. 1562- ونظر بعض العباد3 شخصًا مستحسنًا، فقال له شيخه: ما هذا النظر؟! ستجد غبة4. فنسي القرآن بعد أربعين سنةً.   1 هذا خبر يروى للتفكه أو للتحميض كما يسميها السلف. 2 هذه الأخبار عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من الإسرائيليات، يرويها من يرويها للاستكثار من الرواية واستمالة قلوب العامة، ولا حظ لها من الصحة. 3 قلت: هو ابن الجلاء، وقد سبق الخبر في عدة فصول، منها "18". 4 غبه: عاقبته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 1563- وقال آخر: قد عبت شخصًا قد ذهب بعض أسنانه، فانتثرت أسناني! ونظرت إلى امرأة لا تحل، فنظر إلى زوجتي من لا أريد! 1564- وكان بعض العاقين ضرب أباه، وسحبه إلى مكان؛ فقال له الأب: حسبك! إلى ها هنا سحبت أبي!! 1565- وقال ابن سيرين: عيرت رجلًا بالإفلاس، فأفلست. ومثل هذا كثير. 1566- ومن أعجب ما سمعت فيه عن الوزير ابن جهير الملقب بالنظام1: أن المقتفي غضب عليه، وأمر بأن تؤخذ منه عشرة آلاف دينار، فدخل عليه أهله محزونين، وقالوا له: من أين لك عشرة آلاف دينار؟! فقال: ما يؤخذ مني عشرة ولا خمسة ولا أربعة. قالوا: من أين لك؟ قال: إني ظلمت رجلًا؛ فألزمته ثلاثة آلاف، فما يؤخذ مني أكثر منها؛ فلما أدى ثلاثة آلاف دينار، وقع الخليفة بإطلاقه ومسامحته في الباقي. 1567- وأنا أقول عن نفسي: ما نزلت بي آفة أو غم أو ضيق صدر، إلا بزلل أعرفه، حتى يمكنني أن أقول: هذا بالشيء الفلاني. وربما تأولت فيه بعد، فأرى العقوبة. فينبغي للإنسان أن يترقب جزاء الذنوب، فقل أن يسلم منه. 1568- وليجتهد في التوبة؛ فقد روي في الحديث: "ما من شيء أسرع لحاقًا بشيء من حسنة حديثة لذنب قديم" 2، ومع التوبة يكون خائفًا من المؤاخذة، متوقعًا لها؛ فإن الله تعالى قد تاب على الأنبياء عليهم السلام، وفي حديث الشفاعة: "يقول آدم: ذنبي، ويقول إبراهيم وموسى: ذنبي". 1569- فإن قال قائل: قوله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] : خبر، فهو يقتضي ألا يجاوز عن مذنب، وقد عرفنا قبول التوبة، والصفح عن الخاطئين؟   1 هو المظفر بن علي بن محمد بن جهير المتوفى سنة "549هـ"، ولي الوزارة للمقتفي سبعة أعوام ثم عزل. كما أفادنيه الأخ محمد علي بحري فجزاه الله خيرًا، وقد جاء في الأصل "ابن حصير" وهو تصحيف. 2 رواه الحكيم الترمذي، والطبراني في الكبير وابن مروديه، عن ابن عباس رضي الله عنه موقوفًا عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 فالجواب: من وجهين: أحدهما: أن يحمل على من مات مُصِرًّا، ولم يتب؛ فإن التوبة تجب ما قبلها. والثاني: أنه على إطلاقه، وهو الذي أختاره أنا، وأستدل بالنقل والمعنى: أما النقل؛ فإنه لما نزلت هذه الآية، قال أبو بكر: يا رسول الله! أو نجازى بكل ما نعمل؟ فقال: "ألست تمرض؟ ألست تحزن؟ أليس يصيبك اللأواء؟ فذلك ما تجزون به" 1. وأما المعنى، فإن المؤمن إذا تاب وندم، كان أسفه على ذنبه في كل وقت أقوى من كل عقوبة؛ فالويل لمن عرف مرارة الجزاء الدائم، ثم آثر لذة المعصية لحظة!   1- رواه الترمذي "3039"، وأحمد "1/ 11"، وابن حيان "2910" عن أبي بكر رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 355- فصل: محاسبة النفس قبل أن تحاسب 1570- تفكرت في نفسي يومًا تفكر محقق، فحاسبتها قبل أن تحاسب، ووزنتها قبل أن توزن، فرأيت اللطف الرباني: فمنذ الطفولة وإلى الآن أرى لطفًا بعد لطف، وسترًا على قبيح، وعفوًا عما يوجب عقوبة، وما أرى لذلك شكرًا إلا باللسان! 1571- ولقد تفكرت في خطايا، لو عوقبت ببعضها؛ لهلكت سريعًا، ولو كشف للناس بعضها، لاستحييت. ولا يعتقد معتقد عند سماع هذا أنها من كبائر الذنوب، حتى يظن في ما يظن في الفساق؛ بل هي ذنوب قبيحة في حق مثلي، وقعت بتأويلات فاسدة فصرت إذا دعوت، أقول: اللهم! بحمدك وسترك علي اغفر لي! 1572- ثم طالبت نفسي بالشكر على ذلك؛ فما وجدته كما ينبغي. ثم أنا أتقاضى القدر مراداتي، ولا أتقاضى نفسي بصبر على مكروه، ولا بشكر على نعمة. فأخذت أنوح على تقصيري في شكر المنعم، وكوني أتلذذ بإيراد العلم من غير تحقيق عمل به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 1573- وقد كنت أرجو مقامات الكبار، فذهب العمر، وما حصل المقصود!! فوجدت أبا الوفاء ابن عقيل قد ناح نحو ما نحت، فأعجبتني نياحته، فكتبتها ها هنا، قال لنفسه: يا رعناء! تقومين الألفاظ ليقال: مناظر وثمرة هذا أن يقال: يا مناظر! كما يقال للمصارع: الفاره1. ضيعت أعز الأشياء وأنفسها عند العقلاء -وهي أيام العمر- حتى شاع لك بين من يموت غدًا اسم مناظر، ثم ينسى الذاكر والمذكور إذ درست2 القلوب! هذا إن تأخر الأمر إلى موتك؛ بل ربما نشأ شاب أفره منك، فموهوا له، وصار الاسم له. والعقلاء عن الله تشاغلوا بما إذا انطووا نشرهم3، وهو العمل بالعلم، والنظر الخالص لنفوسهم. أف لنفسي! وقد سطرت عدة مجلدات في فنون العلوم4، وما عبق بها فضيلة، إن نوطرت، شمخت، وإن نوصحت؛ تعجرفت، وإن لاحت الدنيا؛ طارت إليها طيران الرخم5، وسقطت عليها سقوط الغراب على الجيف، فليتها أخذت أخذ المضطر من الميتى توقر6 في المخالطة عيوبًا تبلي، ولا تحتشم نظر الحق إليها، وإن انكسر لها غرض؛ تضجرت، إن أمدت7 بالنعم؛ اشتغلت عن المنعم!! أفٍ والله مني، اليوم على وجه الأرض، وغدًا تحتها! والله، إن نتن جسدي بعد ثلاث تحت التراب أقل من نتن خلائقي وأنا بين الأصحاب! والله، إنني قد بهرني حلم هذا الكريم عني، كيف يسترني8، وأنا أتهتك،   1 الفاره: الحسن البارع. 2 درست: عفت وانمحت. 3 أحيا ذكرهم. 4 هو كتاب "الفنون". 5 الرخم: طائر جارح على شكل النسر، غزير الريش، مبقع بسواد وبياض، له منقار طويل التقوس، يوصف بالغدر والحمق. 6 توقر: تحمل وتقترف، وفي الأصل: توفر، وهو تصحيف. 7 في الأصل: امتدت. 8 في الأصل: سترني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 ويجمعني وأنا أتشتت؟! وغدًا يقال: مات الحبر العالم الصالح، ولو عرفوني حق معرفتي بنفسي، ما دفنوني. والله، لأنادين على نفسي نداء المكشفين معايب الأعداء، ولأنوحن نوح الشاكلين للأبناء، إذ لا نائح لي ينوح علي لهذه المصائب المكتومة، والخلال المغطاة، التي قد سترها من خبرها، وغطاها من علمها. والله، ما أجد لنفسي خلة أستحسن أن أقول متوسلًا بها: اللهم! اغفر لي كذا بكذا. والله، ما التفت قط إلا وجدت منه سبحانه برًّا يكفيني، ووقاية تحميني من تسلط الأعداء، ولا عرضت حاجة فمددت يدي إلا قضاها. هذا فعله معي، وهو رب غني عني، وهذا فعلي، وأنا عبد فقير إليه!! ولا عذري لي فأقول: ما دريت، أو: سهوت. والله، لقد خلقني خلقًا صحيحًا سليمًا، ونور قلبي بالفطنة، حتى إن الغائبات والمكنونات تنكشف لفهمي، فوا حسرتاه على عمر انقضى فيما لا يطابق الرضا! وا حرماني لمقامات الرجال والفطناء! يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله، وشماتة العدو بي! وا خيبة من أحسن الظن بي إذا شهدت الجوارح علي! وا خذلاني عند إقامة الحجة! سخر -والله- مني الشيطان، وأنا الفطن!! اللهم، توبة خالصة من هذه الأقذار، ونهضة صادقة لتصفية ما بقي من الأكدار، وقد جئتك بعد الخمسين، وأنا من خلق1 المتاع، وأبى العلم إلا أن يأخذ بيدي إلى معدن الكرم، وليس لي وسيلة إلا التأسف والندم؛ فوالله ما عصيتك جاهلًا بمقدار نعمك، ولا ناسيًا لما أسلفت من كرمك، فاغفر لي سالف فعلي.   1 الخَلق: البالي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 356- فصل: عداوة الأقارب صَعبة 1574- عداوة الأقارب صعبة ، وربما دامت، كحرب بكرٍ وتغلب ابني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 وائل1، وعبس وذبيان ابني بغيض2، والأوس والخزرج ابني قيلة3. قال الجاحظ4: تعدت هذه الحرب أربعين عامًا. والسبب في هذا أن كل واحد من الأقارب يكره أن يفوقه قريبه، فيقع التحاسد. 1575- فينبغي لمن فضل على أقاربه أن يتواضع لها، ويرفعهم جهده، ويرفق بهم؛ لعله يسلم. قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لي أقارب أصلهم فيقطعوني؟ فقال: "فكأنما تسفهم المل، ولن يزال معك من الله ظهير ما دمت على ذلك" 5.   1 تعرف بحرب البسوس وهي ناقة مشؤومة هاجت بسببها الحرب بين بكر وتغلب؛ فضرب بها المثل فقيل: أشأم من البسوس. 2 وقعت بسب سباق بين فرسين هما داحس والغبراء. 3 وهي حروب كثيرة أولها يوم سمير وآخرها بعاث كان قبل الهجرة بخمس سنوات. 4 عمر بن بحر بن محبوب الكناني الليثي "163-255هـ" أبو عثمان، كبير أئمة الأدب وأشهرهم، صاحب التصانيف البديعة الذائعة الصيت، مولده ووفاته بالبصرة. 5 رواه مسلم "2558" عن أبي هريرة رضي الله عنه، "المل": الرماد الحار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 357- فصل: المؤمن العاقل لا يلتفت إلى حاسده 1576- رأيت كلاب الصيد، إذا مرت بكلاب المحلة، نبحتها هذه، وبالغت، وأسرعت خلفها، وكأنها تراها مكرمة مجللة، فتحسدها على ذلك! ورأيت كلاب الصيد حينئذ لا تلتفت إليها، ولا تعيرها الطرف1، ولا تعد نباحها شيئًا! فرأيت أن كلاب الصيد كأنها ليست من جنس تلك الكلاب؛ لأن تلك غليظة البدن، كثيفة الأعضاء، لا أمانة لها، وهذه لطيفة، دقيقة الخلقة، ومعها آداب قد ناسبت خلقتها اللطيفة، وأنها تحبس الصيد على مالكها خوفًا من عقابه، أو مراعاة لشكر نعمته عليها. فرأيت أن الأدب وحسن العشرة يتبع لطافة البدن، وصفاء الروح، وهكذا المؤمن العاقل، لا يلتفت إلى حاسده، ولا يعده شيئًا؛ إذ هو في واد، وذاك في واد، وذاك يحسده على الدنيا، وهذا همته الآخرة، فيا بعد ما بين الواديين!   1 لا يعيرها الطرف: لا يهتم بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 358- فصل : ملاحظتُهُ مِنْ أهم الأشياء 1577- ينبغي لمن آمن بالله تعالى أن يسلم له في أفعاله، ويعلم أنه حكيم ومالك، وأنه لا يعبث1؛ فإن خفيت عليه حكمة فعله، نسب الجهل إلى نفسه، وسلم للحكيم المالك؛ فإذا طالبه العقل بحكمة الفعل، قال: ما بانت لي، فيجب على تسليم الأمر لمالكه. 1578- وإن أقوامًا نظروا بمجرد العقل إلى كثير من أفعال الحق سبحانه؛ فرأوها لو صدرت من مخلوق، نسب فيها إلى ضد الحكمة، فنسبوا الخالق إلى ذلك!! وهذا الكفر المحض، والجنون البارد! والواجب نسبة الجهل إلى النفوس؛ فإن العقول قاصرة عن مطالعة حكمته، وأول من فعل ذلك إبليس؛ فإنه قد رآه قد فضل طينًا على نارٍ، والعقل يرى النار أفضل، فعاب حكمته، وعمت هذه المحنة خلقًا ممن ينسب إلى العلم، وكثيرًا من العوام، فكم قد رأينا عالمًا يعترض، وعاميًّا يرد فيكفر! وهذه محنة قد شملت أكثر الخلق، يرون عالمًا يضيق عليه، وفاسقًا وسع عليه، فيقولون: هذا لا يليق بالحكمة!! 1579- وقد علم العلماء أن الله تعالى قد فرض الزكوات والخراج والجزية والغنائم والكفارات ليستغني بها الفقراء، فاختص بذلك الظلمة، وصانع من تجب عليه الزكاة بإخراج بعضها؛ فجاع الفقير! فينبغي أن نذم هؤلاء الظلمة، ولا نعترض على من قدر الكفاية للفقراء. وقد حصل في ضمن هذا عقوبة الظالمين في حبسهم الحقوق، وابتلاء الفقراء بصبرهم عن حظوظهم. 1580- وأكثر هؤلاء المعترضين لا يكادون يسلمون وقت خروج الروح من اعتراض يخرج إلى الكفر، فتخرج النفس كافرةً.   1 في الأصل: ولا يغيب، وهو تصحيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 فكم عاميٍّ يقول: فلان قد ابتلي، وما يستحق! ومعناه: أنه قد فعل به ما لا يليق بالصواب، وقد قال بعض الخلعاء: أيا رب تخلق أقمار ليل ... وأغصان بان، وكثبان رمل وتنهى عبادك أن يعشقوا ... أيا حاكم العدل ذا حكم عدل ومثل هذا ينشده جماعة من العلماء ويستحسنونه، وهو كفر محض!! وما فهم هؤلاء القائلين لهذا [سر النهي ولا معناه] ؛ لأنه ما نهى عن العشق؛ وإنما نهى عن العمل بمقتضى العشق من الأشياء المحرمة، كالنظر، واللمس، والفعل القبيح. 1581- وفي الامتناع عن المشتهى دليل على الإيمان بوجود الناهي، كصبر العطشان في رمضان عن الماء، فإنه دليل على الإيمان بوجود من أمر بالصوم، وتسليم النفوس إلى القتل والجهاد دليل على اليقين بالجزاء. ثم المستحسن أنموذج ما قد أعد، فأين العقل المتأمل؟! كلا، لو تأمل، وصبر قليلًا، لربح كثيرًا. 1582- ولو ذهبت أذكر ما قد عرفت من اعتراض العلماء والعوام؛ لطال، ومن أحسن الناس حالًا في ذلك ما يحكى عن ابن الراوندي أنه جاع يومًا، واشتد جوعه، فجلس على الجسر وقد أمضه1 الجوع، فمرت خيل مزينة بالحرير والديباج، فقال: لمن هذه؟ فقالوا: لعلي بن بلتق غلام الخليفة. فمرت جوار مستحسنات، فقال: لمن هذه؟ فقالوا: لعلي بن بلتق، فمر به رجل، فرآه، وعليه أثر الضر، فرمى إليه رغيفين، فأخذهما، ورمى بهما، وقال: هذا لعلي بن بلتق، [وهذان لي] ؟! ونسي الجاهل الأحمق أنه بما يقول ويعترض ويفعل أهل2 [لهذه] 3 المجاعة. 1583- فيا معترضين وهم في غاية النقص -على من لا عيب في فعله! أنتم   1 أمضّه: آلمه. 2 في الأصل: قبل. 3 في حاشية الأصل: بياض بالأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 في البداية من ماءٍ وطينٍ، وفي الثاني من ماءٍ مهينٍ، ثم تحملون الأنجاس على الدوام، ولو حبس عنكم الهواء، لصرتم جيفًا، ولو أليق .... 1 منكم أهلككم، وكم من رأي يراه حازمكم؛ فإذا عرضه على غيره، تبين له قبح رأيه. ثم المعاصي منكم زائدة في الحد، فما فيكم إلا الاعتراض على المالك الحكيم؟! ولو لم يكن في هذه البلاوي2 إلا أن يراد منا التسليم؛ لكفى. 1584- ولو أنه أنشأ الخلق ليدلو على وجوده. ثم أهلكهم، ولم يعدهم، كان ذلك له؛ لأنه مالك؛ لكنه بفضله وعد بالإعادة والجزاء والبقاء الدائم في النعيم. فمتى ما جرى أمر لا تعرف علته، فانسب ذلك إلى قصور علمك، وقد ترى مقتولًا ظلمًا، وكم قد قتل وظلم، حتى قوبل ببعضه. وقل أن يجري لأحد آفة إلا ويتسحقها، غير أن تلك الآفات المجازى بها غائبة عنا، ورأينا الجزاء وحده. فسلم تسلم، واحذر كلة اعتراض أو إضمار، فربما أخرجتك من دائرة الإسلام.   1 في حاشية الأصل: كذلك أيضًا. 2 البلايا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 359- فصل: أحوال الناس في العيد تشبه أحوالهم يوم القيامة 1585- رأيت الناس يوم العيد، فشبهت الحال بالقيامة: فإنهم لما انتبهوا من نومهم، خرجوا إلى عيدهم كخروج الموتى من قبورهم إلى حشرهم. 1586- فمنهم من زينته الغاية، ومركبة النهاية1، ومنهم المتوسط، ومنهم المرذول، وعلى هذا أحوال الناس يوم القيامة: قال تعالى: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} ، أي: ركبانًا: {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} [مريم] ، أي: عطاشًا، وقال عليه الصلاة والسلام: "يحشرون ركبانًا ومشاة وعلى وجوههم" 2، ومن الناس من يداس في زحمة العيد، وكذلك الظلمة، يطؤهم الناس بأقدامهم في القيامة.   1 أي: هو في غاية الزينة، ومركبة في غاية الفراهة. 2 رواه الترمذي "2424"، وأحمد "5/ 3و5"، والحاكم "4/ 564"، وصححه ووافقه الذهبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 1587- ومن الناس يوم العيد الغني المتصدق، كذلك يوم القيامة أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة. ومنهم الفقير السائل، الذي يطلب أن يعطى، كذلك يوم الجزاء: "أعددت شفاعتي لأهل الكبائر"1، ومنهم من لا يعطف عليه: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ، وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء] . 1588- والأعلام منشورة في العيد، كذلك أعلام المتقين في القيامة، والبوق يضرب، كذلك يخبر بحال العبد، فيقال: يا أهل الموقف! إن فلانًا قد سعد سعادة لا شقاوة بعدها، وإن فلانًا قد شقي شقاوة لا سعادة بعدها. 1589- ثم يرجعون من العيد بالخواص إلى باب الحجرة يخبرون بامتثال الأوامر: {أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة: 11] ، فيخرج التوقيع إليهم: {وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا} [الإنسان: 22] . ومن هو دونهم يختلف حاله: فمنهم من يرجع إلى بيت عامر {بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة: 24] ، ومنهم متوسط، ومنهم من يعود إلى بيت فقر. فاعتبروا يا أولي الألباب.   1 رواه أبو داود "4739"، والترمذي "2435"، وأحمد "3/ 213"، وابن حبان "6468"، والحاكم "1/ 69" عن أنس رضي الله عنه، وقال: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 360- فصل: يتضمن نصيحة للعلماء والزهاد 1590- يا قوم! قد علمتم أن الأعمال بالنيات، وقد فهمتم قوله تعالى: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِص} [الزمر: 3] ، وقد سمعتم عن السلف أنهم كانوا لا يعلمون، ولا يقولون حتى تتقدم النية وتصح. 1591- أيذهب زمانكم يا فقهاء في الجدل والصياح، وترتفع أصواتكم عند اجتماع العوام تقصدون المغالبة؟! أوما سمعتم: "من طلب العلم ليباهي به العلماء، أو ليماري به السفهاء، أو ليصرف به وجوه الناس إليه؛ لم يرح رائحة الجنة" 2 ثم يقدم أحدكم على الفتوى، وليس من أهلها، وقد كان السلف يتدافعونها.   1 رواه ابن ماجه "254"، وابن حبان "77"، والحاكم "1/ 86"، عن جابر رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 1592- ويا معشر المتزهدين! إنه يعلم السر وأخفى! أتظهرون الفقر في لباسكم، وأنتم تستوفون شهوات النفوس، وتظهرون التخاشع والبكاء في الجلوات دون الخلوات؟! كان ابن سيرين يضحك ويقهقه، فإذا خلا؛ بكى أكثر الليل، وقال سفيان لصاحبه: ما أوقحك! تصلي والناس يرونك؟! أفدي ظباء فلاة ما عرفن بها ... مضغ الكلام، ولا صبغ الحواجيب 1593- آهٍ للمرائي من يوم: {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُور} [العاديات: 10] ، وهي النيات! فأفيقوا من سكركم، وتوبوا من زللكم، واستقيموا على الجادة: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر: 56] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 361- فصل : تخليط بعض العلماء والعبّاد 1594- رأيت جمهور الناس حائدين عن الشريعة، جارين على ما ألفوا من العادة وقد يخلص منهم فريقان: علماء وعباد. 1595- فتأملت جمهور العلماء؛ فرأيتهم في تخليط: منهم من يقتصر على معاملات الدنيا، ويعرض عن معاملات الآخرة: إما لجهله بها، أو لثقل أمرها عليه، فهو لا يجري على ما يثقل عليه مما يوجبه العلم، ويتبع في الباقي العادات! وربما تخايل أنه يسامح في الخطايا، لكونه عالما، وقد نسي أن العلم حجة عليه. ومنهم: من هو واقف مع صورة العلم، غافل عن المقصود بالعلم، وفيهم: من يخالط السلطان، فيتأذى المخالط بما يرى من الذنوب والظلم، ولا يمكنه الإنكار، وربما مدح! ويتأذى السلطان بصحبته، فيقول: لولا أني على صواب ما جالسني هذا! ويتأذى العوام، فيقولون: لولا أن أمر السلطان قريب، ما خالطه هذا العالم! ورأيت الأشراف يثقون بشفاعة آبائهم، وينسون أن اليهود من بني إسرائيل! 1596- وأما الفريق الثاني، وهم العباد، فرأيت أكثرهم في تخليط: أما الصحيحو القصد منهم؛ فعلى غير الجادة في أكثر عملهم: قد وضع لهم جماعة من المتقدمين كتبًا فيها دفائن قبيحة، وأحاديث غير صحيحة، ويأمرون فيها بأشياء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 تخالف الشريعة، مثل كتب الحارث المحاسبي، وأبي عبد الله الترمذي1، وقوت القلوب لأبي طالب المكي، وكتاب "الإحياء" لأبي حامد الطوسي؛ فإذا فتح المبتدئ عينه، وهم بسلوك الطريق بهذه الكتب؛ حملته2 إلى الخطايا؛ لأنهم قد بنوا على أحاديث محالة3، ويذمون الدنيا، ولا يدرون ما المذموم منها؟ فيتصور المبتدئ ذم ذات الدنيا، فيهرب المنقطع إلى الجبل، وربما فاتته الجماعة والجمعة، ويقتصر على البلط والكمثرى4 فيورثه القولنج، ويقنع بعضهم بشرب اللبن، فينحل الطبع، أو يأكل الباقلاء والعدس فيحدث له قراقر5!! 1597- وإنما ينبغي لقاصد الحج أن يرفق أوّلًا بالناقة ليصل، ألا ترى للفطن من الأتراك، يهتم بفرسه قبل تحصيل قوت نفسه؟! 1598- وربما تصدى القاص لشرح أحوال قوم من السلف والمتزهدين، فيتبعهم المريد، فيتأذى بذلك! ومتى رددنا ذلك المنقول، وبينا خطأ فاعله؛ قال الجهال. أترد على الزهاد؟! وإنما ينبغي اتباع الصواب، ولا ينظر إلى أسماء المعظمين في النفوس؛ فإنا نقول: قال أبو حنيفة: ثم يخالفه الشافعي! وإنما ينبغي أن يتبع الدليل. 1599- قال المروذي: مدح أحمد بن حنبل النكاح، فقلت له: قد قال إبراهيم بن أدهم، فصاح وقال: وقعنا في بنيات الطريق! عليك بما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. 1600- وتكلم أحمد في الحارث المحاسبي؛ ورد على سري السقطي حين قال: لما خلق الله الحروف، وقف الألف، وسجدت الباء! فقال: نفروا الناس عنه. فالحق لا ينبغي أن يحابي؛ فإنه جد. 1601- وإني أرى أكثر الناس قد حادوا عن الشريعة، وصار كلام المتزهدين   1 محمد بن علي بن الحسن، بن بشر الحكيم الترمذي: محدث صوفي، توفي نحو ستة "320هـ". 2 في الأصل: فحملته، وهو تصحيف. 3 محالة: باطلة وموضوعة. 4 إجاص. 5 أصوات في الأمعاء لوجود رياح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 كأنه شريعة لهم! فيقال: قال أبو طالب المكي: كان من السلف من يزن قوته بكربة1، فينقص كل يوم!! وهذا شيء ما عرفه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه؛ وإنما كانوا يأكلون دون الشبع، فأما الحمل على النفس بالجوع، فمنهي عنه. 1602- ويقول: قال داود الطائي لسفيان: إذا كنت تشرب الماء البارد، متى تحب الموت؟! وكان ماؤه في دن2! ". وما علم أن للنفس حظًّا، وأن شرب الماء الحار يرهل3 المعدة، ويؤذي، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبرد الماء. 1603- ويقول آخر منهم: منذ خمسين سنة أشتهي الشواء، ما صفَا لي درهمه!! ويقول آخر: أشتهي أن أغمس جزرة في دبس، فما صح لي!!. أتراهم أرادوا حبة منذ خرجت من المعدن4 ما دخلت في شبهة؟! هذا شيء ما نظر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وإن كان الورع حسنًا، ولكن لا على حمل المشاق الشديدة. 1604- وهذا بشر الحافي يقول: لا أحدث؛ لأني أشتهي أن أحدث!!. وهذا تعليل لا يصلح؛ لأن الإنسان مأمور بالنكاح، وهو من أكبر المشتهى. 1605- وكان بشر حافيًا، حتى قيل له: الحافي! ولو ستر أمره بنعلين، كان أصلح، والحفاء يؤذي العين، وليس من أمر الدنيا5 في شيء؛ فقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم نعلان6. 1606- وما كانت سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه على ما المتزهدون عليه اليوم؛ فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك، ويمزح، ويختار المستحسنات، ويسابق عائشة رضي الله عنها، وكان يأكل اللحم، ويحب الحلوى، ويتسعذب له الماء، وعلى هذا كان طريقة أصحابه.   1 الكربة: أصول سعف النخيل وجمعها كرب، وتسمى أيضًا الكرانيف. 2 الدن: الجرة الكبيرة. 3 يرهل المعدة: يوسعها ويرخيها. 4 المعدن: المنجم. 5 كذا في الأصل، ولعله: الدين. 6 رواه البخاري "3107". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 1607- فأظهر المتزهدون طرائق كأنها ابتداء شريعةٍ، وكلها على غير الجادة، ويحتجون بقول المحاسبي والمكي، ولا يحتج أحد منهم بصحابي ولا تابعي، ولا بإمام من أئمة الإسلام؛ فإن رأوا عالمًا لبس ثوبًا جميلًا، أو تزوج مستحسنةً، أو أفطر بالنهار، أو ضحك؛ عابوه!! 1608- فينبغي أن يعلم أن أكثر من صح قصده منهم على غير الجادة: لقلة علمهم، حتى إن بعضهم يقول: منذ ثمانين سنة ما اضطجعت!، ويقول آخر: حلفت لا أشرب الماء سنةً1!!. وهؤلاء على غير الصواب؛ فإن للنفس حقًّا. 1609- فأما من ساء قصده، ممن نافق وراءى لاجتلاب الدنيا، وتقبيل الأيدي، فلا كلام معه، وهم جمهور المتصوفة؛ فإنهم رفعوا الثياب الملونة، ليراهم الناس بعين الترك للزينة، وما معهم أحسن من السقلاطون2؛ وإنما رقع القدماء للفقر. فهم في اللذات. وجمع المال، وأخذ الشبهات، واستعمال الراحة واللعب، ومخالطة السلاطين. وهؤلاء قد كشفوا القناع، وباينوا زهد أوائلهم، بلى، أعجب منهم من ينفق هذا عليهم.   1 أي: لا يشرب الماء البارد. 2 السقلاطون: ضرب من الثياب. قال أبو حاتم: عرضته على رومية، وقلت لها: ما هذا؟ فقالت: سِجِلَّاطُسْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 362- فصل: جعل الله لأحوال الآدمي أمثلة ليعتبر بها 1610- إن الله -عز وجل- جعل لأحوال الآدمي أمثلة ليعتبر بها: فمن أمثلة أحواله القمر، الذي يبتدئ صغيرًا، ثم يتكامل بدرًا، ثم يتناقص بانمحاق، وقد يطرأ عليه ما يفسده كالكسوف؛ فكذلك الآدمي أوله نطفه، ثم يترقى من الفساد إلى الصلاح؛ فإذا تم، كان بمنزلة البدر الكمل، ثم تتناقص أحواله بالضعف، فربما هجم الموت قبل ذلك هجوم الكسوف على القمر، قال الشاعر: والمرء مثل هلالٍ عند طلعتِهِ ... يبدو ضئيلًا لطيفًا ثم يتسقُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 يزداد حتى إذا ما تم أعقبه ... كر الجديدين نقصًا، ثم ينمحق1 1611- ومن أمثلة حالة دود القز؛ فإنه يكون حيًّا2 إلى أن يبتدئ نبات قوته، حال كانتقال الطفل، ثم يرقد كغفلة الآدمي عن النظر في العواقب، ثم ينتبه، فيحرص على الأكل كحرص الشره على تحصيل الدنيا، ثم يسدي4 على نفسه كما يحطب الآدمي الأوزار على دينه؛ فيرتهن في ذلك الحبس، كما يرتهن الميت في قبره، ثم يقرض، فيخرج خلقًا آخر، كما تنشر الموتى غرلًا5 بهمًا6. وقد دله على البعث تكون النطفة كميت، ثم تصير آدميًّا، وإلقاء الحب تحت الأرض فيفسد، ثم يهتز خضرًا. إذا المرء كانت له فكرَه ... ففي كل شيء له عبرَه   1 الجديدان: الليل والنهار. 2 كذا في الأصل: ولعلها حبًا بالباء، أي: بَيْضًا. 3 الفرصاد: التوت الأحمر. 4 يسدي: يغزل الخيوط ويلفها على نفسه كالسدى. 5 غرلًا: غير مختونين. 6 بهمًا: سالمين من الأمراض والآفات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 363- فصل: إنما فضل العقل بتأمل العواقب . 1612- إنما فضل العقل بتأمل العواقب؛ فأما القليل العقل؛ فإنه يرى الحال الحاضرة، ولا ينظر إلى عاقبتها، فإن اللص يرى أخذ المال، وينسى قطع اليد! والبطال يرى لذة الراحة، وينسى ما تجني من فوات العلم وكسب المال، فإذا كبر فسئل عن علم؛ لم يدر، وإذا احتاج، سأل؛ فذل، فقد أربى ما حصل له من التأسف على لذة البطالة، ثم يفوته ثواب الآخرة بترك العمل في الدنيا. وكذلك شارب الخمر، يلتذ تلك الساعة، وينسى ما يجني من الآفات في الدنيا والآخرة! وكذلك الزنا؛ فإن الإنسان يرى قضاء الشهوة، وينسى ما يجني من فضيحة الدنيا والحد، وربما كان للمرأة زوج، فألحقت الحمل من هذا به، وتسلسل الأمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 فقس على هذه النبذة، وانتبه للعواقب، ولا تؤثر لذة تفوت خيرًا كثيرًا، وصابر المشقة، تحصل ربحًا وافرًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 364- فصل: هيهات أن يصح الدين مع تحصيل اللذات 1613- ليس في الدنيا عيش إلا لعالم أو زاهد. بلى، قد يقع في صفاء حالهما كدر، وهو أن العالم يشتغل بالعلم، أو بالانقطاع عن الكسب، وقد تكون له عائلة؛ فربما تعرض بالسلطان ففسد حاله، وكذلك الزاهد. 1614- فينبغي للعالم والعابد أن يتحركا في معاش، كنسخ بأجرة، أو عمل الخواص1، و2 إن فتح له بشيءٍ، اقتنع باليسير؛ فلا يستعبده أحد، كما كان أحمد بن حنبل له أجرة لعلها لا تبلغ دينارًا يتقوت بها، ومتى لم يقنع، أفسدت مخالطة السلاطين والعوام دينه. 1615- وفي الناس من يريد التوسع في المطاعم، ومنهم: من لا يوافقه خشن العيش، وهيهات أن يصح الدين مع تحصيل اللذات! 1616- وإذا قنع العالم والزاهد بما يكفي، لم يتبذل [أحدهما] للسلطان، ولم يتسخدم بالتردد إلى بابه، ولم يحتج الزاهد إلى تصنع. والعيش اللذيذ للمنقطع، الذي لا يتبذل به، ولا يحمل منة.   1 الخوص: ورق النخل. 2 في الأصل: أو إن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 365- فصل: تفاوت الناس في الفهوم 1617- ما أكثر تفاوت الناس في الفهوم! حتى العلماء يتفاوتون التفاوت الكثير في الأصول والفروع: فترى أقوامًا يسمعون أخبار الصفات، فيحملونها على ما يقتضيه الحس، كقول قائلهم: ينزل بذاته إلى السماء، وينتقل!! وهذا فهم رديء؛ لأن المنتقل يكون من مكان إلى مكان، ويوجب ذلك كون المكان أكبر1   1 في الأصل: أكثر، وهو تصحيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 منه، ويلزم منه الحركة، وكل ذلك محال على الحق عز وجل. 1618- وأما في الفروع: فكما يروى عن داود1: أنه قال في قوله -صلى الله عليه وسلم: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يتوضأ منه" 2، فقال: إن بال غيره؛ جاز!! فما يفهم المراد من التنجيس، بل يأخذ بمجرد اللفظ!! وكذلك يقول: لحم الخنزير حرام: لا جلده!! نعوذ بالله من سوء الفهم. 1619- وكذلك يتفاوت الشعراء الذين شغلهم التفطن لدقائق الأحوال: كقول قائلهم3: لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدةٍ دَمَا والجفنات عدد يسير، فلو قال: الجفان؛ لكان أبلغ! ولو قال: بالدجى، لكان أحسن! ويفطرن دليل على القلة. وكذلك قول القائل4: همها العطر والفراش، ويعلو ... ها لجين ولؤلؤ منظوم وهذا قاصر؛ فإنه لو فعلت هذا سوداء، لحسنها؛ إنما المادح هو القائل5: ألم ترياني كلما جئت طارقًا ... وجدت بها طبيبًا وإن لم تطيب وكذا قول القائل: أدعوا إلى هجرها قلبي فيتبعني ... حتى إذا قلت هذا صادق نزعا ولو كان صادقًا في المحبة لما كان له قلب يخاطبه، وإذا خاطبه في الهجر، لم يوافقه؛ إنما المحب الصادق هو القائل: يقولون: لو عاتبت قلبك لارعوى ... فقلت: وهل للعاشقين قلوب؟ ومثل هذا إذا نوقش كثير؛ فأقل موجود في الناس الفهم والغوص على دقائق المعاني.   1 داود بن علي الأصبهاني، رئيس أهل الظاهر. 2 رواه البخاري "239"، ومسلم "282" عن أبي هريرة رضي الله عنه. 3 هو حسان بن ثابت، شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم، ديوانه ص "427". 4 هو حسان، ديوانه "433" وقد وقع في الأصل: منظوم ولؤلؤ، والتصويب من الديوان. 5 هو امرؤ القيس رئيس الشعراء في الجاهلية، ديوانه ص "41"، وفي الأصل "تر أني" والتصويب من الديوان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 366- فصل : لذة الدنيا شيبت بالنُّغَص 1620- من تأمل الدنيا؛ علم أنه ليس فيها لذة أصلًا، فإن وجدت لذة، شيب بالنغص، التي تزيد على اللذة أضعافًا. 1621- فمن اللذات النساء، فربما لم تثبت المستحسنة، وربما لم تحب الزوج، فمتى علم ذلك، يعزل عنها، وربما خانت، وذلك الهلاك: فإن تمت المرادات، فذكر الفراق زائد في التألم على الالتذاذ. 1622- ومن اللذات الولد: ومقاساة البنت إلى أن تتزوج، وما تلقى من زوجها، وخوف عارها: محن قبيحة. والابن إن مرض ذاب الفؤاد، وإن خرج عن حد الصلاح زاد الأسف، وإن كان عدوًّا، فمراده هلاك الأب، ثم إن تم المراد، فذكر فراقه يذيب القلوب. 1623- ولو أن فاسقًا أحب بعض المردان: انهتك عرضه في الدنيا، وذهب دينه، ثم لا يلبث أن تتغير حليته، فيصير مبغوضًا، مع ما سبق من الهتكة والإثم. وكم قد غلبت شهوة رجل وطئ الجواري السود، فجاء الولد أسود؛ فبقي عارًا عليه1. 1624- ومن هذا الجنس الالتذاذ بالمال، وفي تحصيله آثام، وفراقه حسرة، وذهاب العمر فيه غبن. وهذا أنموذج لما لم يذكر! فينبغي لمن وفقه الله سبحانه: أن يأخذ الضروري الذي يميل إلى سلامة الدين والبدن والعافية، ويهجر الهوى الذي نغصه تتضاعف على لذته. 1625- ومن صبر على ما يكره قصد النفع في العاقبة؛ التذ أضعافًا، كطالب العلم؛ فإنه يتعب يسيرًا، وينال خير الدارين، مع سلامة العاقبة. ولذة البطالة تعقب عدم العلم والعمل، فيزيد الأسى على اللذة أضعافًا.   1 يعني على الولد، إذ يعرف بلونه أن أمّه أمةٌ لا حرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 فالله الله أن يغلبك هواك العاجل، ومتى هم الهوى بالتوثب، فامنعه، وزن عاجله بآجله: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [البقرة: 269] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 367- فصل: من حيل إبليس 1626- رأيت إبليس قد احتال بفنون الحيل على الخلق، وأمال أكثرهم عن العلم الذي هو مصباح السالك، فتركهم يتخبطون في ظلمات الجهل، وشغلهم بأمور الحس1، [فهم يحسنون ما يحسنه الحس] ، ولا يلتفتون إلى مشورة العقل؛ فإذا ضاق بأحدهم عيشه، أو نكب، اعترض فكفر: فمنهم من ينسب ذلك غلى الدهر، ومنهم من يسب الدنيا! وهذا تسفيف2؛ لأن الدهر والدنيا لا يفعلان؛ وإنما هو عيب للمقدر. ومنهم من يخرجه الأمر إلى جحد الحكمة، فيقول: أي فائدة في نقص المبنى؟! 1627- وزعم بعضهم أنه لا يتصور عود المنقوض، وأنكروا البعث، ويقولون: ما جاء من ثم أحد! ونسوا أن الوجود ما انتهى بعد، ولو خلفنا3؛ لصار الإيمان بالغيب عيانًا، ولا يصلح أن يستدل على الإحياء بالأحياء. 1628- ثم نظر إبليس، فرأى في المسلمين قومًا فيهم فطنة، فأراهم أن الوقوف على ظواهر الشريعة حالة يشاركهم فيها العوام، فحسن لهم علوم الكلام، وصاروا يحتجون بقول بقراط4 وجالينوس وفيثاغورس5!! وهؤلاء ليسوا بمتشرعين، ولا تبعوا نبينا صلى الله عليه وسلم؛ وإنما قالوا بمقتضى ما سولت لهم أنفسهم.   1 في الأصل: الحسن، وهو تصحيف. 2 التسفيف: والإسفاف: السفه والتهافت، وفي الأصل: تسقيف، وهو تصحيف. 3 أي: بعثنا جيلًا بعد جيل كما هو الموت. وفي الأصل: حلفت. 4 طبيب يوناني اشتهر بقسمه الذي اعتاد أن يقسمه الأطباء قبل مزاولتهم مهنة الطب. انظر أخباره في: عيون الأنباء "43-61". 5 فيزيائي يوناني عاش في القرن السادس قبل الميلاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 1629- وقد كان السلف إذا نشأ لأحدهم ولد؛ شغلوه بحفظ القرآن وسماع الحديث، فيثبت الإيمان في قلبه؛ فقد توانى الناس عن هذا، فصار الولد الفطن يتشاغل بعلوم الأوائل، وينبذ أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقول: أخبار آحاد! وأصحاب الحديث عندهم يسمون: حشويَّةً!! 1630- ويعتقد هؤلاء أن العلم الدقيق علم الطفرة والهيولى، والجزء الذي لا يتجزأ، ثم يتصاعدون إلى الكلام في صفات الخالق، فيدفعون ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بواقعاتهم. فيقول المعتزلة: إن الله لا يرى؛ لأن المرئي يكون في جهة، ويخالفون قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنكم ترون ربكم كما ترون القمر، لا تضامون في رؤيته" 1؛ فأوجب هذا الحديث إيثار رؤيته، وإن عجزنا عن فهم كيفيتها. 1631- وقد عزل هؤلاء الأغبياء عن التشاغل بالقرآن، وقالوا: مخلوق! فزالت حرمته من القلوب. وعن السنة، وقالوا: أخباره آحاد! وإنما مذاهبهم السرقة من بقراط وجالينوس. وقد استفاد من تبع الفلاسفة أنه يرفه نفسه عن تعب الصلاة والصوم! 1632- وقد كان كبار العلماء يذمون علم الكلام، حتى قال الشافعي: حكمي فيهم أن يركبوا على البغال، ويشهروا، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، واشتغل بالكلام. وقد آل بهم الأمر إلى أن اعتقدوا أن من لم يعرف تحرير دليل التوحيد فليس بمسلم!! فالله الله من مخالطة المبتدعة، وعليكم بالكتاب والسنة، ترشدوا.   1 رواه البخاري "572" ومسلم "633" عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 368- فصل: اغتنام الزمان 1633- رأيت العادات قد غلبت الناس في تضييع الزمان، وكان القدماء يحذرون من ذلك. 1634- قال الفضيل: أعرف من يعد كلامه من الجمعة إلى الجمعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 1635- ودخلوا على رجل من السلف، فقالو: لعلنا شغلناك؟ فقال: أصدقكم، كنت أقرأ، فتركت القراءة لأجلكم. 1636- وجاء رجل من المتعبدين إلى سري السقطي، فرأى عنده جماعَةً، فقال: صرت مناخ البطالين؟ ثم مضى ولم يجلس. 1637- ومتى لان المزور؛ طمع فيه الزائر، فأطال الجلوس، فلم يسلم من أذى. 1638- وقد كان جماعة قعودًا عند معروف، فأطالوا، فقال: إن ملك الشمس لا يفتر في سوقها، أفما تريدون القيام؟! 1639- وممن كان يحفظ اللحظات عامر بن عبد قيس، قال له رجل: قف أكلمك. قال: فأمسك الشمس. 1640- وقيل لكرز بن وبرة1: لو خرجت إلى الصحراء؟ فقال: يبطل الروزجار2. 1641- وكان داود الطائي يتسفت الفتيت3، ويقول: بين سف الفتيت وأكل الخبز قراءة خمسين آية. 1642- وكان عثمان الباقلاوي4 دائم الذكر لله تعالى؛ فقال: إني وقت الإفطار أحس بروحي كأنها تخرج، لأجل اشتغال بالأكل عن الذكر. 1643- وأوصى بعض السلف أصحابه، فقال: إذا خرجتم من عندي، فتفرقوا، لعل أحدكم يقرأ القرآن في طريقه، ومتى اجتمعتم، تحدثتم.   1 الحارثي الكوفي نزيل جرجان، تابعي عابد زاهد. 2 قال النووي في بستان العارفين ص "82" ط الجفان والجابي. والروزجار: هو براء مضمومة ثم واو ساكنة، ثم زاي ثم جيم ثم ألف ثم راء، وهو الذي عمل في الطين بالمجرفة ونحوها، قلت: وهي حرفة يستطيع أن يفعلها كل إنسان؛ لأنها لا تحتاج لمهارة أو خبرة ولذا يسمى محترفها اليوم الفاعل والجمع فعلة. انظر: حاشية الفصل "341". وجاء في حاشية التمثيل والمحاضرة ص "200": الروزجار والروزكار: الخدمة أو الحرفة، وفي القاموس: الراز رئيس البنائين ج الرازة، وحرفته الريازة، أفادنيه الأخ الأستاذ بسام الجابي حفظه الله. 3 الفتيت: الخبز اليابس المبلل بالماء. 4 عثمان بن عيسى، أبو عمرو الباقلاوي والباقلاني، "نسبة إلى الباقلاء، وهو الفول في عرف البغداديين"، أحد الزهاد العباد، توفي سنة "402هـ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 1644- واعلم أن الزمان أشرف من أن يضيع منه لحظة: فإن في "الصحيح". عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: "من قال: سبحان الله العظيم وبحمده؛ غرست له بها نخلة في الجنة" 1 فكم يضيع الآدمي من ساعات يفوته فيها الثواب الجزيل! وهذه الأيام مثل المزرعة، فكأنه قيل للإنسان: كلما بذرت حبة، أخرجنا لك ألف كر2، فهل يجوز للعاقل أن يتوقف في البذر ويتوانى؟! 1645- والذي يعين على اغتنام الزمان: الانفراد والعزلة مهما أمكن، والاختصار على السلام أو حاجة مهمة لمن يلقى، وقلة الأكل؛ فإن كثرته سبب النوم الطويل وضياع الليل، ومن نظر في سير السلف، وآمن بالجزاء، بان له ما ذكرته.   1 رواه الترمذي "2364و 3465"، والنسائي في عمل اليوم والليلة "827" وابن حبان "826و 827"، والحاكم "1/ 501" عن جابر رضي الله عنه، وله شاهد رواه ابن أبي شيبة "29429"، والبزار "2097" وآخر رواه أحمد "3/ 440". 2 الكر = 2925 كغ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 369- فصل: في معاشرة النساء 1646- ينبغي للعاقل أن يتخير امرأة صالحة، من بيت صالح، يغلب عليه الفقر، لترى ما يأتيها به كثيرًا! 1647- وليتزوج من يقاربه في السن، فأما الشيخ، فإنه إذا تزوج صبية، آذاها، وربما فجرت، أو قتلته، أو طلبت الطلاق، وهو يحبها، فيتأذى، وليتمم نقصه بحسن الأخلاق، وكثرة النفقة. 1648- ولا ينبغي للمرأة أن تقرب من زوجها كثيرًا: فتمل، ولا تبعد عنه، فينساها، ولتكن وقت قربها إليه كاملة النظافة متحسنةً. 1649- ولتحذر أن يرى فرجها أو جسمها كله، فإن جسم الإنسان ليس بمستحسن! وكذلك ينبغي له أن لا يريها جسمه؛ وإنما الجماع في الفراش. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 1650- ورأى كسرى يومًا كيف يسلخ الحيوان ويطبخ، فتقلبت نفسه، ونفى اللحم1، فذكر ذلك لوزيره، فقال: أيها الملك! الطبيخ على المائدة، والمرأة في الفراش. ومعناه: لا تفتش عن ذلك. 1651- قالت عائشة رضي الله عنها: "ما رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا رآه مني، قام ليلةً عريانًا، فما رأيت جسمه قبلها"2. وهذا الحزم، وبذلك لا يعيب الرجل المرأة؛ لأنه لم ير عيوبها. وليكن للمرأة فراش، وله فراش، فلا يجتمعان إلا في حال الكمال. ومن الناس من يستهين بهذه الأشياء؛ فيرى المرأة متبذلة، تقول: هذا أبو أولادي! ويتبذل هو! فيرى كل واحد من الآخر ما لا يشتهي، فينفر القلب، وتبقى المعاشرة بغير محبة، وهذا فصل ينبغي تأمله، والعمل به، فإنه أصل عظيم.   1 أي: تجنبه. 2 رواه الترمذي "2732" وفي سنده: إبراهيم بن يحيى وأبوه يحيى بن محمد ضعيفان ومحمد بن إسحاق مدلس. "ضعيف". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 370- فصل: فضل القناعة 1652- لا عيش في الدنيا إلا للقنوع باليسير؛ فإنه كلما زاد الحرص على فضول العيش، زاد الهم، وتشتت القلب، واستعبد العبد. وأما القنوع، فلا يحتاج إلى مخالطة من فوقه، ولا يبالي بمن هو مثله؛ إذ عنده ما عنده. 1653- وإن أقوامًا لم يقنعوا، وطلبوا لذيذ العيش، فأزروا بدينهم، وذلوا لغيرهم، وخصوصًا أرباب العلم؛ فإنهم ترددوا إلى الأمراء فاستعبدوهم، ورأوا المنكرات، فلم يقدروا على إنكارها، وربما مدحوا الظالم اتقاء لشره؛ فالذي نالهم من الذل وقلة الدين أضعاف ما نالوا من الدنيا. 1654- ومن أقبح الناس حالًا من تعرض للقضاء والشهادة. ولقد كانتا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 مرتبتين حسنتين: وكان عبد الحميد القاضي1 لا يحابي، فبعث إلى المعتضد، وقال له: قد استأجرت وقوفًا: فأد أجرتها! ففعل، وقال له المعتضد: قد مات فلان، ولنا عليه مال. فقال: أنت تذكر لما وليتني، قلت لي: قد أخرجت هذا الأمر من عنقي ووضعته في عنقك. ولا أقبل هذا الذي تقول إلا بشاهدين. 1655- وكذلك كان الشهود: دخل جماعة على بعض الخلفاء؛ فقال الخادم: اشهدوا على مولانا بكذا! فشهدوا، فتقدم المجذوعي إلى الستر، فقال: يا أمير المؤمنين! أشهد عليك بما في هذا الكتاب؟ فقال: اشهد! قال: إنه لا يكفي في ذلك، لا أشهد حتى تقول: نعم. قال: نعم. 1656- فأما في زماننا، فتغيرت تلك القواعد من الكل، خصوصًا من يتقرب إليه بالمال ليتشهد، فتراه يسحب ليشهد على ما لا يرى! قال لي أبو المعالي بن شافع2: كنت أحمل إلى بعض أهل السواد وهو محبوس، وأشهد عليه، وأعلم أنه لولا أنه مكره؛ لجاء إلي بقدميه، وأنا أستغفر الله من ذلك. 1657- وليس للشهود جراية3 فيحملون ذلك لأجلها؛ وإنما الذي يحصل جر الطيلسان، وطرق الباب، وقول المعرف: حرس الله نعمتك، شهادة! 1658- ولما قيل لإبراهيم النخعي: تكون قاضيًا! لبس قميصًا أحمر، وجلس في السوق، فقالوا: هذا لا يصلح! 1659- ودخل بعض الكبار على الرشيد، وقد أحضره ليوليه القضاء، فسلم وقال له: كيف أنت، وكيف الصبيان؟ فقيل: هذا مجنون! فيا لله! جنون هو العقل. وما أظن الإيمان بالآخرة إلا متزلزلًا في أكثر القلوب. نسأل الله سبحانه سلامةً للدين؛ فإنه قادر.   1 أبو خازم عبد الحميد بن عبد العزيز البغدادي المعدل، عالم ورع، توفي سنة "292هـ". 2 أحمد بن صالح بن شافع الجيلي "520-565هـ" الإمام محدث بغداد. 3 الجراية: مال أو طعام يعطى لمستحقه يوميًّا أو شهريًّا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 371 فصل: التسليم للحكيم . قد تكرر معناه في هذا الكتاب؛ إلا أن إعادته على النفوس مهمة، لئلا يغفل عن مثله. 1660- ينبغي للمؤمن أن يعلم أن الله سبحانه مالك حكيم لا يعبث، وهذا العلم يوجب نفي الاعتراض على القدر. 1661- وقد لهج خلق بالاعتراض قدحًا في الحكمة، وذلك كفر. وأولهم إبليس في قوله: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [ص: 76] ومعنى قوله: إن تفضيلك الطين على النار ليس بحكمة!! وقد رأيت من كان فقيهًا دأبه الاعتراض؛ وهذا لأن المعترض ينظر إلى صورة الفعل، ولو أن صورة الفعل صدرت من خلوق مثلنا، حسن أن يعترض عليه؛ فأما من نقصت الأفهام عن مطالعة حكمته، فاعتراض الناقص الجاهل عليه جنون. 1662- فأما اعتراض الخلعاء فدائم: لأنهم يريدون جريان الأمور على أغراضهم، فمتى انكسر لأحدهم غرض، اعترض. 1663- وفيهم من يتعدى إلى ذكر الموت، فيقول: بنى ونقض!! وكان لنا رفيق، قرأ القرآن والقراءات، وسمع الحديث الكثير، ثم وقع في الذنوب، وعاش أكثر من سبعين سنة، فلما نزل به الموت، ذكر لي أنه قال: قد ضاقت الدنيا إلا من روحي!! ومن هذا الجنس سمعت شخصًا يقول عند الموت: ربي يظلمني!! وهذا كثير! 1664- ويكره أن يحكى كلام الخلعاء في جنونهم واعتراضاتهم الباردة. ولو فهموا أن الدنيا ميدان مسابقة، ومارستان صبر، ليبين بذلك أثر الخالق، لما اعترضوا، والذي طلبوه من السلامة وبلوغ الأغراض أمامهم1 لو فهموا، فهم كالروزجاري2، يتلوث بالطين، فإذا فرغ، لبس ثياب النظافة.   1 في الآخرة. 2 الروزجاري: الذي يعمل بالفاعل في مهنة البناء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 ولما أريد نقض هذا البدن الذي لا يصلح للبقاء، نحيت عنه النفس الشريفة، وبني بناءً يقبل الدوام1. 1665- وبعد هذا، فقل للمعترض: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظ} [الحج: 15] . قل له: إن اعترض، لم يمنع ذلك جريان القدر، وإن سلم، جرى القدر؛ فلأن يجري وهو مأجور خير من أن يجري وهو مأزور. 1666- وما أحسن سكوت وضاح اليمن2 لما اختبأ في صندوق، فقال السلطان: أيها الصندوق! إن كان فيك ما نظن، فقد محونا أثرك، وإن لم يكن؛ فليس بدفن خشب من جناح؛ فلو أنه صاح، ما انتفع بشيء، ولربما أخرج فقتل أقبح قتلة.   1 في الآخرة. 2 عبد الرحمن بن إسماعيل الخولاني، شاعر، رقيق الغزل، عجيب النسيب، جميل الطلعة، قدم مكة حاجًّا في خلافة الوليد بن عبد الملك، فرأى أم البنين زوجة الوليد، فتغزل بها، فقتله الوليد قيل: كان قد اختبأ في صندوق فدفن الوليد الصندوق، وكان ذلك سنة "90هـ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 372- فصل: من تلمح أحوال الدنيا علم أن مراد الحق اجتنابها 1667- من تلمح أحوال الدنيا، علم أن مراد الحق سبحانه اجتنابها؛ فمن مال إلى مباحها ليلتذ؛ وجد مع كل فرحة ترحة1، وإلى جانب كل راحة تعبًا، وآخر كل لذة نغصًا يزيد عليها، وما رفع شيء من الدنيا؛ إلا ووضع. أحب الرسول صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنه، فجاء حديث الإفك، ومال إلى زينب، فجاء: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا} [الأحزاب: 37] . 1668- ثم يكفي أنه إذا حصل محبوبه، فعين العقل ترى فراقه، فيتنغص عنده وجوده، كما قال الشاعر: أتم الحزن عندي في سرور ... تيقن عنه صاحبه انتقالا 1669- فيعلم العاقل أن مراد الحق بهذا التكدير التنفير عن الدنيا، فيبقى أخذ   1 الترح: الحزن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 البلغة منها ضرورة، وترك الشواغل، فيجتمع الهم في خدمة الحق، ومن عدل عن ذلك؛ ندم على الفوات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 373- فصل: العاقل يدبر بعقله عيشته في الدنيا 1670- العاقل يدبر بعقله عيشته في الدنيا، فإن كان فقيرًا؛ اجتهد في كسب وصناعة تكفه عن الذل للخلق، وقلل العلائق، واستعمل القناعة، فعاش سليمًا من منن الناس عزيزًا بينهم. وإن كان غنيًّا، فينبغي له أن يدبر في نفقته، خوف أن يفتقر، فيحتاج إلى الذل للخلق، ومن البلية أن يبذر في النفقة، ويباهي بها ليكمد الأعداء، كأنه يتعرض بذلك -إن أكثر- لإصابته بالعين! 1671- وينبغي التوسط في الأحوال، وكتمان ما يصلح كتمانه. ولقد وجد بعض الغسالين مالًا، فأكثر في النفقة، فعلم به؛ فأخذ منه المال، وعاد إلى الفقر. وإنما التدبير حفظ المال، والتوسط في الإنفاق، وكتمان ما لا يصلح إظهاره. 1672- ومن الغلط إطلاع الزوجة على قدر المال؛ فإنه إن كان قليلًا؛ هان عندها الزوج، وإن كان كثيرًا؛ طلبت زيادة الكسوة والحلي! قال الله عز وجل: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُم} [النساء: 5] . وكذلك الولد. 1673- وكذلك الأسرار، ينبغي أن تحفظ، وأن يحذر منها ومن الصديق، فربما انقلب، فقد قال الشاعر: احذر عدوك مرَّةً ... واحذر صديقك ألف مرَّه فلربما انقلب الصديـ ... ـق فكان أعلم بالمضرَّه 1674- بحمد الله تعالى قد نجز ما توخاه الفكر الفاتر من تقييد ما جمعه القلم، من "صيد الخاطر"، مقتصرًا فيه على ما به "التخلي من الأمراض النفسية، والتحلي بالآداب الشرعية، والأخلاق المرضية"، جعله الله تعالى خير هاد على منبر الوعظ والإرشاد، وأنفع كتاب تجلى في مرايا الظهور لهداية العباد، والحمد لله أولًا وآخرًا، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 لَفْتَةُ الكِبْدِ إلى نصيحَةِ الوِلْدِ بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين. 374- المقدمة 1675- الحمد لله الذي أنشأ الأب الأكبر1 من تراب، وأخرج ذريته من الترائب2 والأصلاب، وعضد3 العشائر بالقرابة والأنساب، وأنعم علي بالعلم وعرفان الصواب، وأحسن تربيتي في الصبا4، وحفظني في الشباب، ورزقني ذرية أرجو بوجودهم5 وفور6 الثواب: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ، رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم] . 1676- أما بعد؛ فإني لما عرفت شرف النكاح، وفضل7 الأولاد، ختمت ختمة، وسألت الله تعالى أن يرزقني عشرة أولاد، فرزقنيهم8، فكانوا: خمسة ذكور، وخمس إناث، فمات من الإناث اثنتان، ومن الذكور أربعة، فلم يبق من الذكور سوى ولدي أبي القاسم9، فسألت الله تعالى أن يجعل فيه الخلف الصالح، وأن يبلغ به المنى والمناجح.   1 الأب الأكبر: آدم عليه السلام. 2 الترائب: عظام الصدر مما يلي الترقوتين. 3 قوّى. 4 في نسخة: الصغر. 5 في نسخة: بهم. 6 وفور: كثرة. 7 في م: طلب. 8 في نسخة: فرزقني إياهم. 9 واسمه علي، ولد سنة "551هـ"، وتوفي سنة "630" هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 1677- ثم رأيت منه نوع توان1 عن الجهد في طلب العلم، فكتبت له2 هذه الرسالة، أحثه بها، وأحركه على سلوك طريقي في كسب العلم، وأدله على الالتجاء3 إلى الموفق سبحانه وتعالى، مع علمي بأنه لا خاذل لمن وفق، ولا مرشد لمن أضل؛ لكن قد قال تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر} [العصر: 3] ، وقال: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى: 9] ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.   1 توانٍ: فتور وكسل. 2 في نسخة: إليه. 3 في نسخة: اللجأ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 1/ 375- فصل: تميز الآدمي بالعقل 1678- اعلم يا بني -وفقك الله للصواب- أنه لم يتميز الآدمي بالعقل إلا ليعمل بمقتضاه، فاستحضر عقلك، وأعمل فكرك، واخل بنفسك. 1679- تعلم بالدليل أنك مخلوق مكلف، وأن عليك فراض أنت مطالب بها، وأن الملكين يحصيان ألفاظك ونظراتك، وأن أنفاس الحي خطاه إلى أجله1، ومقدار اللبث في الدنيا قليل، والحبس في القبول طويل، والعذاب على موافقة الهوى وبيل2، فأين لذة أمس؟ رحلت وأبقت ندمًا!!. وأين شهوة النفس؟ كم نكست رأسًا، وأزلت قدمًا، وما سعد من سعد إلا بخلاف هواه، ولا شقي من شقي إلا بإيثار دنياه. فاعتبر بمن مضى من الملوك والزهاد، أين لذة هؤلاء؟ وأين تعب أولئك؟ بقى الثواب الجزيل، والذكر الجميل للصالحين3، والقالة4 القبيحة والعقاب الوبيل للعاصين، وكأنه ما جاع من جاع، ولا شبع من شبع. 1680- والكسل عن الفضائل بئس الرفيق، وحب الراحة يورث من الندم ما يربو5 على كل لذة، فانتبه واتعب لنفسك.   1 في نسخة: فإن أنفاس خطواتك إلى أجلك. 2 شديد. 3 في نسخة: للطائعين. 4 في ت: المقالة. 5 يزيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 1681- واعلم أن أداء الفرائض واجتناب المحارم لازم، فمتى تعد الإنسان فالنار النار!!. 1682- ثم اعلم أن طلب الفضائل نهاية مراد المجتهدين. 1683- ثم الفضائل تتفاوت، فمن الناس من يرى الفضائل: الزهد في الدنيا، ومنهم من يراها التشاغل بالتعبد. 1684- وعلى الحقيقة، فليست الفضائل الكاملة إلا الجمع بين العلم والعمل، فإذا حصلا رفعات صاحبهما إلى تحقيق معرفة الخالق سبحانه وتعالى، وحركاه إلى محبته وخشيته والشوق إليه. فتلك الغاية المقصودة، و"على قدر أهل العزم تأتي العزائم"1، وليس كل مريد2 مرادًا3، ولا كل طالب واجدًا، ولكن على العبد الاجتهاد، و"كل ميسر لما خلق له"4 والله المستعان.   1 صدر بيت للمتنبي وعجزه: "وتأتي على قدر الكرام المكارم"، ديوانه ص "374". 2 في نسخة: مراد. 3 أي: ليس كل ما يريده الإنسان يريده الله تعالى. 4 رواه البخاري "4949"، ومسلم "2647" عن علي رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 501 2/ 376- فصل: معرفة الله بالدليل أول ما ينبغي النظر فيه 1685- وأول ما ينبغي النظر فيه: معرفة الله تعالى بالدليل، ومعلوم أن من رأى السماء مرفوعة، والأرض موضوعة، وشاهد الأبنية المحكمة خصوصًا في جسد نفسه؛ علم أنه لا بد للصنعة من صانع، وللمبني من بان. 1686- ثم يتأمل صدق الرسول صلى الله عليه وسلم إليه، وأكبر الدلائل القرآن الذي أعجز الخلق أن يأتوا بسورة من مثله. 1687- فإذا ثبت عنده وجود الخالق -جل وعلا- وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وجب تسليم عناية5 إلى الشرع، فمتى لم يفعل؛ دل على خلل في اعتقاده.   1 زمام أمره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 501 1688- يجب عليه1 أن يعرف ما يجب عليه من الوضوء والصلاة والزكاة- إن كان له مال- والحج، وغير ذلك من الواجبات، فإذا عرف قدر الواجب قام بها. 1689- فينبغي لذي الهمة أن يترقى إلى الفضائل فيتشاغل بحفظ القرآن وتفسيره، وبحديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وبمعرفة سيرته وسير أصحابه والعلماء بعدهم، ليتخير مرتبة الأعلى فالأعلى، ولا بد من معرفة ما يقيم به لسانه من النحو، ومعرفة طرف مستعمل من اللغة. 1690- والفقه أصل2 العلوم، والتذكير3 حلواؤها، وأعمها نفعًا، وقد رتبت في هذه المذكورات من التصانيف ما يغني عن كل ما سبق من تصانيف القدماء وغيرها بحمد الله ومنه، فأغنيتك عن تطلب الكتب، وجمع الهمم للتصنيف، وما تقف همة إلا لخساستها؛ وإلا فمتى علت الهمة فلا تقنع بالدون. 1691- وقد عرفت بالدليل أن الهمة مولودة مع الآدمي؛ وإنما تقصر بعض الهمم في بعض الأوقات، فإذا حثت سارت. ومتى رأيت في نفسك عجزًا فسل المنعم، أو كسلًا فالجأ إلى الموفق، فلن تنال خيرًا إلا بطاعته، ولا يفوتك خير إلا بمعصيته، فمن الذي أقبل عليه فلم يرد4 كل مراد؟ ومن الذي أعرض عنه فمضى بفائدة، أو حظي بغرض من أغراضه؟!. أو ما سمعت قول الشاعر5: والله ما جئتكم زائرًا ... إلا وجدت الأرض تطوى لِي ولا ثنيت العزم عن بابكمْ ... إلا تعثرت بأذيالِي   1 في نسخة: ينبغي له. 2 في نسخة: أم. 3 في نسخة: والوعظ. 4 يرد من الورود، وفي نسخة: بر. 5 نسبه المؤلف للشريف الرضي ولم أجدها في ديوانه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 502 3/ 377- فصل: تدبير اللطيف عبده الضعيف 1692- وانظر -يا بني- إلى نفسك عند الحدود1، فتلمح: كيف حفظك   1 الحدود: الحلال والحرام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 502 لها؟ فإنه من راعى روعي1، ومن أهمل ترك. 1693- وإني لأذكر لك بعض أحوالي، لعلك تنظر إلى اجتهادي، وتسأل الموفق لي؛ فإن أكثر الإنعام لم يكن بكسبي؛ وإنما هو من تدبير اللطيف بي، فإني أذكر نفسي ولي همة عالية، وأنا في المكتب ابن ست سنين، وأنا قرين الصبيان الكبار، قد رزقت عقلًا وافرًا في الصغر، يزيد على عقل الشيوخ، فما أذكر أني لعبت في طريق مع الصبيان قط، ولا ضحكت ضحكًا خارجًا2. حتى إني كنت، ولي سبع سنين أو نحوها أحضر رحبة الجامع، فلا أتخير حلقة مشعبذ3، بل أطلب المحدث فيتحدث بالسير4 الطويل، فأحفظ جميع ما أسمعه، وأذهب إلى البيت فأكتبه. 1694- ولقد وفق لي شيخنا أبو الفضل ابن ناصر رحمه الله، وكان يحملني إلى الشيوخ، فأسمعني "المسند"5 وغيره من الكتب الكبار، وأنا لا أعلم ما يراد مني، وضبط لي مسموعاتي إلى أن بلغت، فناولني ثبتها6، ولازمته إلى أن توفي رحمه الله فنلت7 به معرفة الحديث والنقل. 1695- ولقد كان الصبيان ينزلون إلى دجلة، ويتفرجون على الجسر، وأنا في زمن الصغر آخذ جزءًا وأقعد حجرة8 من الناس إلى جانب الرقة9، فأتشاغل بالعلم. 1696- ثم ألهمت الزهد، فسردت الصوم، وتشاغلت بالتقلل من الطعام، وألزمت نفسي الصبر، فاستمرت، وشمرت، ولازمت وعالجت10 السهر، ولم أقنع بفن من العلوم، بل كنت أسمع الفقه والوعظ والحديث، وأتبع الزهاد.   1 أي: من حفظ حدود الله، حفظه الله مصداق حديث ابن عباس الآتي ذكره في الفصل "383". 2 أي: خارجًا عن حدود الأدب. 3 في ت: مشعبة. 4 في نسخة: بالسرد الطويل. 5 مسند الإمام أحمد. 6 مجموع فيه مسموعاته ويسمى المعجم، وعند المغاربة: الفهرس، وعند الأندلسيين: البرنامج. 7 في نسخة: فأدركت. 8 بعيدًا عن الناس. 9 الرقة: منطقة في الجانب الغربي من بغداد مقابل دار الخلافة، سميت الرقة؛ لأنها كانت تشكل لسانًا يمتد إلى النهار، محلها الآن باب السيف، والزركجي القسم المطل على النهر. 10 زاولت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 1697- ثم قرأت اللغة، ولم أترك أحدًا ممن يروي ويعظ، ولا غريبًا يقدم إلا وأحضره، وأتخير الفضائل. 1698- وكنت إذا عرض لي أمران أقدم في أغلب الأحوال حق الحق، فأحسن الله تدبيري وتربيتي، وأجراني على ما هو الأصلح لي، ودفع عني الأعداد والحساد ومن يكيدني، وهيأ لي أسباب العلم، وبعث إلي الكتب من حيث لا أحتسب، ورزقني الفهم، وسرعة الحفظ، والحظ وجودة التصنيف، ولم يعوزني شيئًا من الدنيا؛ بل ساق إلي من الرزق مقدار الكفاية وأزيد. 1699- ووضع لي من القبول في قلوب الخلق فوق الحد، وأوقع كلامي في نفوسهم فلا يرتابون بصحبته، وقد أسلم علي يدي نحو من1 مائتين من أهل الذمة، ولقد تاب في مجالسي أكثر من مائة ألف، وقد قطعت أكثر من عشرين ألف سالف مما يتعاناه الجهال. 1700- ولقد كنت أدور على المشايخ لسماع الحديث، فينقطع نفسي في العدو لئلا أسبق، وكنت أصبح، وليس لي مأكل، وأمسي وليس لي مأكل، ما أذلني الله لمخلوق قط؛ ولكنه ساق رزقي لصيانة عرضي، ولو شرحت أحوالي لطال الشرح. وها أنا قد ترى ما آلت حالي إليه، وأنا أجمعه لك في كلمة واحدة، وهي قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّه} [البقرة: 282] .   1 ساقطة من "ت". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 504 4/ 378- فصل: اجتهد ما دام في الوقت سعة 1701- فانتبه يا بني لنفسك، واندم على ما مضى من تفريطك، واجتهد في لحاق الكاملين، ما دام في الوقت سعة، واسق غصنك ما دامت فيه رطوبة، واذكر ساعتك التي ضاعت فكفى بها عظة، ذهبت لذة الكسل فيها، وفاتت مراتب الفضائل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 504 1702- وقد كان السلف الصالح -رحمهم الله- يحبون جمع كل فضيلة، ويبكون على فوات واحدة منها، قال إبراهيم بن أدهم رحمه الله: دخلنا على عابد مريض، وهو ينظر إلى رجليه ويبكي، فقلنا: ما لك تبكي؟ فقال: ما اغبرتا في سبيل الله. وبكى آخر فقالوا: ما يبكيك؟ فقال: علي يوم مضى ما صمته، وعلى ليلة ذهبت ما قمتها. 1703- واعلم -يا بني- أن الأيام تبسط ساعات، والساعات تبسط أنفاسًا، وكل نفس خزانة؛ فاحذر أن يذهب نفس بغير شيء، فترى في القيامة خزانة فارغة فتندم. 1704- وقد قال رجل لعامر بن عبد قيسٍ: قف أكلمك، فقال: أمسك الشمس. 1705- وقعد قوم عند معروف رحمه الله فقال: أما تريدون أن تقوموا؛ فإن ملك الشمس يجرها لا يفتر!. 1706- وفي الحديث: "من قال: سبحان الله العظيم وبحمده؛ غرست له نخلة في الجنة"، فانظر إلى مضيع الساعات كم يفوته من النخيل!. 1707- وقد كان السف يغتنمون اللحظات، فكان كهمس1 رحمه الله يختم القرآن كل يوم وليلة ثلاث مرات، وكان أربعون رجلًا من السلف يصلون الصبح بوضوء العشاء، وكانت رابعة العدوية تحيي الليل كله؛ فإذا طلع الفجر هجعت هجعة حقيقة، ثم قامت فزعة، وقالت لنفسها: النوم في القبور طويل.   1 كهمس بن الحسين التميمي البصري، أبو الحسن، عابد، توفي سنة "149هـ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 505 5/ 379- فصل: النظر في حقيقة الدنيا 1708- ومن تفكر في الدنيا قبل أن يوجد رأى مدة طويلة؛ فإذا تفكر فيها بعد أن يخرج منها؛ رأى مدة طويلة، وعلم أن اللبث في القبور طويل، فإذا تفكر في يوم القيامة علم أنه خمسون ألف سنة، فإذا تفكر في اللبث في الجنة أو النار علم أنه لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 505 نهاية له؛ فإذا عاد إلى النظر في مقدار بقائه في الدنيا فرضنا ستين سنةً مثلًا؛ فإنه يمضي ثلاثين سنةً في النوم، ونحوًا من خمس عشرة في الصبا؛ فإذا حسب الباقي؛ كان أكثره في الشهوات والمطاعم والمكاسب، فإذا خلص ما للآخرة؛ وجد فيه من الرياء والغفلة كثيرًا، فبماذا تشتري الحياة الأبدية، وإنما الثمن هذه الساعات؟. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 506 6/ 380- فصل: لا تيأس من الخير 1709- ولا يؤيسك -يا بني- من الخير ما مضى من التفريط؛ فإنه قد انتبه خلق كثير بعد الرقاد الطويل. 1710- فقد حدثني الشيخ أبو حكيم عن قاضي القضاة الشيخ أبي الحسن الدامغاني1 رحمه الله قال: كنت في صبوتي متشاغلًا بالبطالة غير ملتفت إلى العلم، فأحضرني أبي، أبو عبد الله2 رحمه الله وقال لي: يا بني! لست أبقى لك أبدًا، فخذ عشرين دينارًا، وأفتح لك دكان خباز وتكسب، فقلت له: ما هذا الكلام؟! قال: فافتح دكان بزاز4 بالعلم، واجتهدت، ففتح الله تعالى عَلَيَّ. 1711- وحكى لي بعض أصحاب أبي محمد الحلواني رحمه الله قال: مات أبي وأنا ابن إحدى وعشرين سنة، وكنت موصوفًا بالبطالة، فأتيت أتقاضى بعض سكان دار قد ورثتها؛ فسمعتهم يقولون: جاء المدبر، أي الربيط5، فقلت لنفسي: يقال عني هذا؛ فجئت إلى والدتي فقلت: إذا أردت طلبي فاطلبيني من مجلس الشيخ أبي الخطاب6، ولازمته؛ فما خرجت إلا إلى القضاء، فصرت قاضيًا مدة.   1 أبو الحسن بن محمد بن علي بن محمد الدامغاني البغدادي، كان هو وأبوه قاضيًا للقضاة. 2 العلامة البارع مفتي العراق، وقاضي القضاة، أبو عبد الله محمد بن علي بن محمد الدامغاني الحنفي "398-478هـ". 3 بزاز: بائع ثياب. 4 في ت: الاشتغال. 5 الربيط: الذي يعيش بمال غيره. 6 محفوظ بن أحمد الكلواذاني، تلميذ أبي يعلى الفراء "432-510هـ"، شيخ الحنابلة حتى صار إمام وقته، قال الذهبي: كان أبو الخطاب من محاسن العلماء، خيرًا صادقًا، حسن الخلق، حلو النادرة، من أذكياء الرجال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 506 قلت: ورأيته أنا، وهو يفتي ويناظر. 1712- فألزم نفسك -يا بني- الانتباه عند طلوع الفجر، ولا تتحدث بحديث الدنيا؛ فقد كان السلف الصالح - رحمهم الله- لا يتكلمون في ذلك الوقت بشيء من أمور الدنيا، وقل عند انتباهك من النوم: "الحمد لله الذي أحياني بعدما أماتني وإليه النشور" 1، الحمد لله الذي: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيم} [الحج: 65] . 1713- ثم قم إلى الطهارة، واركع سنة الفجر، واخرج إلى المسجد خاشعًا، وقل في طريقك: "اللهم إني اسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاي هذا، إني لم أخرج أَشَرًا ولا بَطَرًا، ولا رياءً ولا سمعةً، خرجت اتقاء سخطك، وابتغاء مرضاتك، وأسألك أن تجيرني من النار، وأن تغفر لي ذنوبي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت"2. واقصد الصلاة إلى يمين الإمام؛ فإذا فرغت من الصلاة فقل: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيى ويميت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير" -عشر مرات3- ثم سبح عشرًا، واحمد عشرًا، وكبر عشرًا4، واقرأ آية الكرسي5، واسأل الله سبحانه قبول الصلاة. 1714- فإن صح لك، فاجلس ذاكرًا الله تعالى إلى أن تطلع الشمس وترتفع، ثم صل واركع ما كتب لك، وإن كان ثماني ركعات، فهو حسن.   1 رواه البخاري "6314". 2 رواه ابن ماجه "778"، وأحمد "3/ 21"، والطبراني في الدعاء "421" عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وفي سنده عطية العوفي سيئ الحفظ ومدلس. 3 رواه النسائي في عمل اليوم والليلة "125" عدا قوله: "بيده الخير". 4 رواه أبو داود "5065"، والترمذي "3410"، والنسائي "3/ 74"، وابن ماجه "926" عن عبد الله بن عمرو رضي الله. 5 رواه النسائي في عمل اليوم والليلة "100"، وابن السني "122" عن أبي أمامة رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 507 1715- فإذا أعدت درسك إلى وقت الضحى الأعلى، فصل الضحى ثماني ركعات، ثم تشاغل بمطالعة، أو نسخ إلى وقت العصر، ثم عد إلى درسك من بعد العصر إلى وقت المغرب، وصل بعد المغرب ركعتين بجزأين، فإذا صليت العشاء؛ فعد إلى دروسك. 1716- ثم اضطجع على شقك الأيمن، فسبح ثلاثًا وثلاثين، واحمد ثلاثًا وثلاثين، وكبر أربعًا وثلاثين1، وقل "اللهم قني عذابك، يوم تجمع عبادك" 2. 1717- وإذا فتحت عينيك من النوم فاعلم أن النفس قد أخذت حظها، فقم إلى الوضوء، وصل في ظلام الليل ما أمكن، واستفتح بركعتين خفيفتين، ثم بعدهما ركعتين بجزأين من القرآن، ثم تعود إلى درس العلم، فإن العلم أفضل من كل نافلة.   1 رواه البخاري "3705"، ومسلم "2727" عن علي رضي الله عنه. 2 رواه الترمذي "3398" عن حذيفة رضي الله عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 508 7/ 381- فصل : العزلةُ أصل كل خير 1718- وعليك بالعزلة، فهي أصل كل خيرٍ، واحذر من جليس السوء، وليكن جلساؤك الكتب، والنظر في سير السلف. 1719- ولا تشتغل بعلم حتى تحكم ما قبله، وتلمح سير الكاملين في العلم والعمل، ولا تقنع بالدون، فقد قال الشاعر1: ولم أر في عيوب الناس شَيْئًا ... كنقص القادرين على التَّمَامِ 1720- واعلم أن العلم يرفع الأراذل؛ فقد كان خلق كثير من العلماء لا نسب لهم يذكر، ولا صورة تستحسن. 1721- وكان عطاء بن أبي رباح2 أسود اللون، مستوحش الخلقة، وجاء إليه سليمان بن عبد الملك -وهو خليفة- ومعه ولداه3، فجلسوا يسألونه عن المناسك،   1 المتنبي، ديوانه ص "476". 2 أبو محمد القرشي الجمحي مولاهم، ولد في الجند باليمن، ونشأ بمكة، وكان من أوعية العلم، حتى صار شيخ الإسلام ومفتي الحرم، توفي سنة "114هـ". 3 في م: ولده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 508 فحدثهم، وهو معرض عنهم بوجهه، فقال الخليفة لولديه: قوما ولا تنيا، ولا تكسلا في طلب العلم، فما أنسى ذلنا بين يدي هذا العبد الأسود. 1722- وكان الحسن مولى -أي: مملوكًا- وابن سيرين ومكحول وخلق كثير؛ وإنما شرفوا بالعلم والتقوى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 8/ 382- فصل: اقتنع تعز ّ 1763- واجتهد يا بني في صيانة عرضك من التعرض لطلب الدنيا، والذل لأهلها، واقنع تعز، فقد قيل: من قنع بالخبز والبقل لم يستعبده أحد. 1724- ومر1 أعرابي على البصرة فقال: من سيد هذه البلدة2؟ قيل له: الحسن البصري، قال: وبم3 سادهم؟ قالوا: لأنه استغنى عن دنياهم، وافتقروا إلى علمه. 1725- واعلم -يا بني- أن أبي كان موسرًا وخلف ألوفًا من المال، فلما بلغت، دفعوا لي عشرين دينارًا ودارين، وقالوا لي: هذه التركة كلها، فأخذت الدنانير، واشتريت بها كتبًا من كتب العلم، وبعت الدارين، وأنفقت ثمنهما في طلب العلم، ولم يبق لي شيء من المال، وما ذل أبوك في طلب العلم قط، ولا خرج يطوف في البلدان كغيره من الوعاظ، ولا بعث رقعة إلى أحد يطلب منه شيئًا قط، وأموره تجري على السداد {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3] .   1 في نسخة: وجاز. 2 وفي نسخة: القرية. 3 وفي نسخة: ولم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 9/ 383- فصل: متى صحّت التقوى رأيت كل خير 1726- يا بني! و متى صحت التقوى رأيت كل خير ، والمتقي لا يرائي الخلق، ولا يتعرض لما يؤذي دينه، ومن حفظ حدود الله حفظه الله. قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 10/ 384- فصل: سمو الهمة إلى الكمال 1731- وينبغي أن تسمو همتك إلى الكمال، فإن خلقًا وقوفًا مع الزهد، وخلقًا تشاغلوا بالعلم، وندر أقوام جمعوا بين العلم الكامل، والعمل الكامل. 1732- واعلم أني قد تصفحت التابعين ومن بعدهم، فما رأيت أحظى بالكمال من أربعة أنفس: سعيد بن المسيب، والحسن البصري، وسفيان الثوري، وأحمد بن حنبل رضي الله عنهما، وقد كانوا رجالًا؛ وإنما كانت لهم همم ضعفت عندنا، وقد كان في السلف خلق كثير لهم همم عالية، فإذا أردت أن تنظر إلى أحوالهم، فانظر في كتاب صفة الصفوة1 وإن شئت تأمل أخبار سعيد، والحسن، وسفيان، وأحمد رضي الله عنهم، فقد جمعت لكل واحد منهم كتابًا.   1 للمؤلف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 511 11/ 385- فصل: الحفظ رأس المال والتصرف ربح 1733- وقد علمت يا بني أني صنفت مائة كتاب1، فمنها التفسير الكبير2: عشرون مجلدًا، والتاريخ3: عشرون مجلدًا، وتهذيب المسند عشرون مجلدًا، وباقي الكتب بين كبار وصغار، يكون خمسة مجلدات، ومجلدين، وثلاثة وأربعة، وأقل وأكثر؛ كفيتك بهذه التصانيف عن استعارة الكتب، وجمع الهمم في التأليف. 1734- فعليك بالحفظ! وإنما الحفظ رأس المال والتصرف ربح، واصدق في الحالتين في الالتجاء إلى الحق سبحانه، فراع حدوده، قال الله تعالى: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ   1 هذا إلى وقت كتابة هذه الرسالة. 2 هو المغني الآتي ذكره. 3 هو المنتظم في تاريخ الملوك والأمم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 511 12/ 386- فصل: من أعرض عن العمل منع البركة 1735- وإياك أن تقف مع صورة العلم دون العمل به؛ فإن الداخلين على الأمراء، والمقبلين على أهل الدنيا قد أعرضوا عن العمل بالعلم، فمنعوا البركة، والنفع به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 13/ 387- فصل: على قدر انتفاعك بالعلم ينتفع السمَّاعون 1736- وإياك أن تتشاغل بالتعبد من غير علم، فإن خلقًا كثيرًا من المتزهدين المتصوفة ضلوا طريق الهدى، إذ عملوا بغير علم. 1737- واستر نفسك بثوبين جميلين لا يشهرانك بين أهل الدنيا برفعتهما، ولا بين المتزهدين بضعتهما. 1738- وحاسب نفسك عند كل نظرة وكلمة وخطوة؛ فإنك مسؤول عن ذلك، و على قدر انتفاعك بالعلم ينتفع السماعون ، ومتى لم يعمل الواعظ بعلمه زلت موعظته عن القلوب، كما يزل الماء عن الحجر، فلا تعظن إلا بنية، ولا تمشين إلا بنية، ولا تأكلن لقمة إلا بنية، ومع مطالعة أخلاق السلف ينكشف لك الأمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 14/ 388- فصل: عليك بقراءة هذه الكتب 1739- وعليك بكتاب "منهاج المريدين" فإنه يعلمك السلوك، واجعله جليسك ومعلمك، وتلمح كتاب "صيد الخاطر" فإنك تقع بواقعات تصلح لك دينك ودنياك، وتحفظ كتاب "جنة النظر" فإنه يكفي في تلقيح فهمك للفقه، ومتى تشاغلت بكتاب "الحدائق" أطلعك على جمهور الحديث، وإذا التفت إلى كتاب "الكشف" أبان لك مستور ما في "الصحيحين" من الحديث، ولا تشاغلن بكتب التفاسير التي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 صنفتها الأعاجم، وما ترك "المغني" و"زاد المسير" لك حاجةً! في شيء من التفسير1. وأما ما جمعته لك من كتب الوعظ فلا حاجة بعدها إلى زيادة أصلًا.   1 في نسخة: فن التفسير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 513 حسن المدارة ... 15/ 389- فصل: حسن المداراة 1740- وكن حسن المداراة للخق، مع شدة الاعتزال عنهم، فإن العزلة راحة من خلطاء السوء، ومبقية للوقار؛ فإن الواعظ -خاصة- ينبغي له ألا يرى متبذلًا، ولا ماشيًا في السوق، ولا ضاحكًا، ليحسن الظن به، فينتفع بوعظه، فإذا اضطررت إلى مخالطة الناس؛ فخالطهم بالحلم عنهم، فإنك إن كشفت عن أخلاقهم لم تقدر عن مداراتهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 513 16/ 390- فصل: أدّ إلى كل ذي حقّ حقَّهُ 1741- و أد إلى كل ذي حق حقه من زوجة وولد وقرابة، وانظر كل ساعة من ساعاتك، بماذا تذهب؟ فلا تودعها إلا1 أشرف ما يمكن، ولا تهمل نفسك، وعودها أشرف ما يكون من العمل وأحسنه، وابعث إلى صندوق القبر ما يسرك الوصول إليه، كما قيل: يا من بدنياه اشتغل ... وغره طول الأمل الموت يأتي بغتة ... والقبر صندوق العمل 1742- وراع عواقب الأمور؛ يهن عليك الصبر عن كل ما تشتهي وما تكره، وإن وجدت من نفسك غفلة فاحملها إلى المقابر، وذكرها قرب الرحيل. 1743- ودبر أمرك -والله المدبر- في إنفاقك، من غير تبذير، لئلا تحتاج إلى الناس، فإن حفظ المال من الدين؛ ولأن تخلف لورثتك خير من أن تحتاج إلى الناس.   1 في ت: إلى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 513 17/ 391- فصل: إننا من أولاد أبي بكر الصديق رضي الله عنه 1744- يا بني، واعلم أننا من أولاد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وأبونا القاسم بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد بن أبي بكر رضي الله عنه -وأخباره موثقة في كتاب صفة الصفوة1. 1745- ثم تشاغل سلفنا بالتجارة والبيع والشراء، فما كان من المتأخرين من رزق همة في طلب العلم غيري، وقد آل الأمر إليك، فاجتهد ألا تخيب ظني فيما رجوته فيك ولك، وقد أسلمتك إلى الله سبحانه وتعالى، وإياه أسأل أن يوفقك للعلم والعمل. وهذا قدر اجتهادي في وصيتي، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والحمد لله مزيد الحامدين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. جاء في آخر النسخة الخطية التي نقلنا عنها الموجودة بدار الكتب المصرية تحت نمرة "125" مجامعي، ما نصه: آخر كتاب "لفتة الكبد إلى نصيحة الولد" والحمد لله رب العالمين، وصلوات الله على سيدنا محمد، وعلى آله. وصحبه الأكرمين. كتب في يوم الاثنين ثالث عشر شعبان المعظم سنة ثلاث وسبع مائة. وقوبلت بنسخة أخرى موجودة بدار الكتب تحت نمرة "123" مجاميع، وذلك في يوم الأربعاء 23 من رمضان سنة "1349هـ" بمعرفة عثمان خليل.   1 صفة الصفوة، ترجمة رقم "163": 2/88ط. دار الوعي بحلب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 514 الفهارس العامة 1 فهرس الآيات. 2 فهرس الأحاديث. 3 فهرس الشعر. 4 فهرس الأعلام والأقوام. 5 فهرس البلدان. 6 فهرس الكتب. 7 فهرس الموضوعات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 1- فهرس الآيات الآية رقمها رقم الفصل سورة البقرة {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ} 23-24 309 {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} 25 216، 330 {لا عِلْمَ لَنَا} 32 42 {يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ} 33 42 {فَتَلَقَّى آدَمُ..} 37 135، 154 {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي} 40 384 {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ..} 60 26 {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ..} 94-95 309 {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ} 102 159 {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} 152 384 {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} 183 50 {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} 195 101 {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ} 197 101 {إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ} 210 71 {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ} 214 54، 74، 327 {وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا} 216 148، 293، 297 {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ} 228 235 {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ} 245 101 {أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} 260 71 {يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ} 261 101 {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ..} 267 216 {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} 269 367 {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} 282 121، 377 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 516 الآية رقمها رقم الفصل سورة آل عمران {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا} 8 192 {قَائِمًا بِالْقِسْطِ} 18 71 {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} 28 150 {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} 37 67 {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} 128 293 {لا تَأْكُلُوا الرِّبَا} 130 195 {وَتِلْكَ الأَيَّامُ} 140 72 {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا} 142 54 {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ} 178 54 {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ} 185 19 سورة النساء {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} 5 101، 373 {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} 29 19 {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ} 102 51 {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} 123 29، 122، 354 سورة المائدة {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} 54 26، 88 {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} 64 61، 71 {بَلِّغْ} 67 182 {لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ} 87 36 سورة الأنعام {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ} 15 315 {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا} 28 198، 237 {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} 38 71 {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ} 46 37، 62 {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} 54 50 {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} 90 36 {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ} 92 71، 123 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 517 الآية رقمها رقم الفصل سورة الأعراف {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} 12 192 {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} 54 71 {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ} 146 37، 165 {إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ} 155 215 {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا} 195 228 {إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ} 201 122 سورة الأنفال {لِيُحِقَّ الْحَقَّ} 8 309 سورة التوبة {حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} 6 123، 190 {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ} 14 237 {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} 25 67، 335 {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا} 51 159 {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} 103 101 {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى} 111 231 سورة يونس {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ} 91 351، 383 سورة هود {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} 13 67 سورة يوسف {اقْتُلُوا يُوسُفَ} 9 68 {لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ} 10 68، 343 {وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ} 13 67 {فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ} 17 67 {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} 20 29 {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} 22 283 {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ} 23 142 {مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ} 25 29 {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} 42 67، 335 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 518 الآية رقمها رقم الفصل {فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ} 47 51 {أَنَا رَاوَدتُّهُ} 51 29 {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} 53 289 {وَلأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ} 57 138 {ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ} 59 343 {هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ} 64 101 {وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ} 65 101 {لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ} 67 223 {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} 70 111 {لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا} 73 111 {فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ} 80 69 {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي} 83 74، 194، 327 {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} 84 60 {اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا} 87 343 {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا} 88 29، 73 {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ} 90 17، 76، 383 {إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} 94 67 سورة الرعد {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ} 11 12 {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} 17 331 سورة إبراهيم {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ} 34 142، 285 {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ} 40-41 374 سورة النحل {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ} 44 71 سورة الإسراء {وَإِذَا أَرَدْنَا} 16 54 {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} 26 101 {وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} 29 101 {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} 32 195، 316 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 519 الآية رقمها رقم الفصل {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ} 82 123 {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} 85 43 سورة الكهف {إِذْ قَامُوا فَقَالُوا} 14 262 سورة مريم {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ} 4 74 {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ} 85-86 259 {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} 96 127 سورة طه {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} 39 71 {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} 114 66 {هَلْ أَدُلُّكَ} 120 46 {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ} 121 12، 135 {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ} 123 80 سورة الأنبياء {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ} 29 42 سورة الحج {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} 15 246، 371 {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ} 18 312 {يُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ} 65 380 سورة الفرقان {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ} 44 286 {لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} 67 101 سورة الشعراء {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَََمِينُ} 193 71 {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي} 82 289 {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ} 100-101 359 سورة النمل {أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا} 61 123 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 520 الآية رقمها رقم الفصل سورة القصص {فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا} 27 101 سورة العنكبوت {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ} 43 137، 204 {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ} 48 123 {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} 49 71، 123 سورة الروم {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ} 7 336 سورة السجدة {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} 3 123 سورة الأحزاب {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ} 4 315 {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ} 11 341 {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا} 37 372 {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ} 20 58 {إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} 23 106 سورة سبأ {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} 20 58 {إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} 23 106 سورة يس {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ} 47 233 سورة الصافات {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ} 51 274 {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} 143-144 383 سورة ص {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ} 27 307 {هَبْ لِي مُلْكًا} 35 215 {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ} 76 371 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 521 الآية رقمها رقم الفصل سورة الزمر {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} 3 360 {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ} 56 360 سورة فصلت {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ} 15 237 {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ} 35 164 سورة الشورى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 11 49، 71 {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} 30 80 {وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا} 38 220 سورة الزخرف {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ} 33 54 سورة محمد {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} 7 385 {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} 30 345 سورة الفتح {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} 6 61 {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} 15 123 سورة الحجرات {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ} 7 289 {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا} 17 70 سورة ق {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} 38 221 سورة الذاريات {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} 21 123 سورة الطور {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا} 26 198 {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ} 39 198 سورة النجم {ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} 30 267 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 522 الآية رقمها رقم الفصل سورة الرحمن {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} 27 61 سورة الواقعة {أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} 11 359 سورة الحديد {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ} 10 101 {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ} 20 19 سورة المجادلة {فَيَحْلِفُونَ لَهُ} 18 237 سورة الحشر {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} 2 304 {وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ} 9 11 {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} 10 11 سورة المنافقون {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ} 7 215 سورة الطلاق {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} 2 80، 296، 382 {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} 3 130، 296، 382 {يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} 4 148 سورة القلم {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ} 44 7، 123 سورة الحاقة {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} 19 224 {بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} 24 29، 359 {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا} 44-46 123 سورة نوح {لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ} 26 215 سورة الجن {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ} 16 12، 336، 346 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 523 الآية رقمها رقم الفصل سورة المدثر {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ} 11 123 {إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ} 25-26 123 سورة الإنسان {وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا} 22 359 سورة النبأ {يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} 40 351 سورة المطففين {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} 1 31 سورة البروج {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} 22 71 سورة الأعلى {إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} 9 374 سورة الغاشية {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ} 2-4 276 سورة الفجر {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ} 28-29 198 سورة القدر {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ} 1 71 سورة البينة {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} 8 61، 194 سورة العاديات {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} 10 360 سورة العصر {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} 2 374 سورة الإخلاص {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} 1-3 207 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 524 2- فهرس الأحاديث طرف الحديث رقم الفصل " أ " أبى الله أن يرزق عبده المؤمن ... 67 أجدني أعافه 342 اجعلوا هذه في البيوت 292 احفظ الله يحفظك 383 إدامان في قدح 218 أدخل في جوارك 41، 51، 116، 211 إذا أملقتم فتاجروا الله بالصدقة 29 إذا ضرب أحدكم فليجتنب الوجه 71 إذا هلك كسرى 309 إذا وضع العشاء وحضرت العشاء 28 استبرد له الماء = أن أبا بكر استعينوا على قضاء أموركم 186 استفت قلبك 99 أسلم سالمها الله 114 الأسواق تلهي وتلغي 303 أصب من هذا الطعام 51، 332 أعددت شفاعتي لأهل الكبائر 359 اعقلها وتوكل 51 الأعمال بالنيات 115، 360 أفي شك أنت يا عمر 54 اقرأ وارق 193 ألست تمرض 354 اللهم اجعل رزق آل محمد قوتًا 215، 232 اللهم أدر معه الحق كيفما دار 291 اللهم اشدد وطأتك على مضر 71 اللهم إني أسالك بحق السائلين 380 اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون 215 اللهم قني عذابك 380 ألهتني هذه عن صلاتي 260 أما لك مال 247 أمر بتنقية البراجم 52 أمسك عليك بعض مالك 34 إن أبا بكر رضي الله عنه طلب لرسول الله صلى الله عليه وسلم الظل "حديث الرحل" 19، 342 إن أبا بكر رضي الله عنه لما حلب له الراعي "حديث الهجرة" 19، 342 إن الأعمال بالنية = الأعمال إن بني إسرائيل شددوا فشدد الله عليهم 19 أن تجعل لله ندًا وهو خلقك 202 أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل البطيخ بالرطب 162، 318 أن رسول الله صلى الله عليه وسلم امتنع عن الصلاة على .... 322 أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أن يبيت الرجل وحده 82 إن الصدقة عليه حرام 19 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 525 طرف الحديث رقم الفصل إن العبد ليحرق الرزق 29 إن العين حق 78 إن كان عندكم ماء بات في شن 152، 342 إنكم ترون ربكم 367 لنفسك عليك حقا 162، 200 إن الله لا يمل حتى تملوا 71 إن الله لا ينظر إليك في حالتك 260 إن الله يبغض الشيخ الزاني 202 إن الله يستحي من أبناء الثمانين 102 إنما نفس المؤمن طائر = إنها في حواصل طير إن من السعادة أن يطول عمر العبد 66 إن من عباد الله من لو أقسم على الله 229 إن الموت يذبح بين الجنة والنار 49 إن النبي صلى الله عليه وسلم سابق عائشة 96، 107، 200، 367 إن هذا الدين متين 171 إنها في حواصل طير خضر 20، 196، 239 إنه على عرشه هكذا 61 إنه كان لعبد المطلب 120 إنه ليغان على قلبي 140 إني عبد الله ولن يضيعني 215 أهل المعروف في الدنيا 358 أو يضحك ربنا؟ قال: نعم 61، 71، 123 أي امرئ مسلم اشتهى 219 أين الله 123 " ب " البر لا يبلى 12 بلغوا عني 182 بينا رجل يتبخر في بردته = هذا رجل "ت" تأتي البقرة وآل عمران 49 تركتكم على بيضاء 71 تعلمت الطب من كثرة أمراض 51 التي حبست الهرة 162 " ث " الثلاثة الذين خلفوا 259 ثلث طعام وثلث شراب 19، 333 " ج " الجهنيميون عتقاء الرحمن 224 "ح" حديث الإفك 372 حديث الثلاثة الذين دخلوا الغار 70، 289، 383 حديث الشفاعة 290، 354 حديث الظل = أن أبا بكر طلب حديث الهجرة = أن أبا بكر لما حلب الحمد لله الذي أحياني 380 "خ" خلق آدم على صورته 71 خلق الله الملائكة 71 "د" دخل مكة بجوار المطعم = أدخل في جوارك الدعاء عبادة 314 "ر" رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم سترا 313 الرحم شجنة من الرحمن 71 رحم الله من أظهر من نفسه 223 رخص في الرقية 51 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 526 طرف الحديث رقم الفصل "س" سبحان الله عشر 380 "ش" شغلتني أعلامه 313 شغلني نظرة إليكم ونظرة إليه 260 "ص" الصبحة تمنع الرزق 29 صلاة النهار عجماء 162 186 صلاة مودع 259 صم يومًا وأفطر يومًا = إن لنفسك 162 "ع" عليك بذات الدين 252 عليكم من العمل ما تطيقون 118 "غ" غدًا مصرع فلان 308 "ف" فإن الله إذا أنعم على عبده 247 فصم وأفطر = إن لنفسك 200 فضلت الصلاة بالسواك 52 فقيه واحد أشد على إبليس 19 فكأنما تسفهم المل 356 "ق" قام ليلة عريانًا 141، 369 قلوب العباد بين إصبعين 61، 69 قم ونم = إن لنفسك قيدوا العلم بالكتابة المقدمة "ك" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل لحم الدجاج 19، 36 342، 361 كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوشح عائشة 162، 171، 256 كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك 361 كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمزح ويشغل نفسه 96، 107، 162 177، 200، 361 كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم نعلان 361 كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرًا 186 كان النبي صلى الله عليه وسلم أطيب الناس 52 كان النبي صلى الله عليه وسلم أنظف الناس 52 كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي وهو طفل = أنه كان لعبد المطلب كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرف مجيئه 108 كان نبينا صلى الله عليه وسلم كالقمر ليلة البدر 306 كان ساقه ربما انكشفت فكأنها جمارة 52 كان لا يفارقه السواك 52 كان يأكل البطيخ بالرطب = أن رسول الله كان يتكلم بالمعاريض 62 كان يحث على النكاح 200 كان يحسن معاشرة النساء 162 كان يداعب الأطفال 162 كان يسابق عائشة = أن النبي صلى الله عليه سابق عائشة كان يستعذب له الماء = حديث الهجرة كان يسمع الشعر 162 كان يكره أن يشم منه ريح ليست طيبة 52 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 527 طرف الحديث رقم الفصل كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يقوت 21، 34 200 كفى بالمرء خيانة 322 كل عمل ليس عليه أمرنا 36 كل من هذا = أصب من هذا 51، 332 كل ميسر لما خلق له 375 كنت كنزا لا أعرف 274 كنى صهيبًا أبا يحيى 41 "ل" لا إله إلا الله 380 لا تسافروا بالقرآن 61، 71 لا تسبوا الدهر 299 لا خير في دين ليس فيه ركوع 228 لا يبولن أحدكم في الماء الدائم 365 لا يتحدث الناس أن محمدًا 168 لا يحل لامرأة أن تسافر 19 لا يزال العبد في خير 38، 56، 327 لا يزال العبد يتقرب إلي 55، 71 لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرًا 66 لا يقضي القاضي بين اثنين 28، 48 لأطوفن الليلة 67 لأن تترك ورثتك أغنياء خير لك 24، 34 41، 344 لأن تدع = لأن تترك لأن يزني الرجل بعشرة نسوة 202 لأن يهدي الله بك رجلًا خير لك مما طلعت عليه الشمس 82 لأن يهدي الله بك رجلًا خير لك من حمر النعم 21 لعل الله اطلع على أهل بدر 291 للدنيا أهون على الله من شاة ميتة 19 لو أن الدنيا تساوي عند الله 54 لو أن عبادي أطاعوني 12 لولا حدثان قومك في الكفر 167 لو لم تذنبوا لذهب الله بكم 33 "م " ما أنزل الله داء إلا وأنزل له دواء 51، 331 ما رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا رآه مني 141، 369 ما زالت أكلة خيبر تعاودني 41 ما شانه الله ببيضاء 52 ما لكم تدخلون علي قلحًا 52 ما لي وللدنيا 215، 313 ما من ذنب بعد الشرك أعظم عند الله 316 ما من شاب اتقى الله في شبابه 383 ما من شيء أسرع لحاقًا بشيء من حسنة 354 ما من مسلم دعا الله تعالى إلا أجابه 105 ما منكم أحد إلا يعرض مقعده بالغداة والعشي 214 ما منكم من ينجيه عمله 289 ما نفعني مال كمال أبي بكر 41، 101 ما ينفعه صلاتي عليه 322 من أتاني يمشي 71 من آتى الجمعة فليغتسل 146 من أرضى الناس بسخط الله 347 من اكتسب مالًا من مأثم 268 من أمرك بهذا 342 من ترك شيئًا لله عوضه 99، 138 من رآني في المنام فقد رآني 331 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 528 طرف الحديث رقم الفصل من شغله ذكري عن مسألتي 85 من طلب العلم ليباهي به العلماء 360 من ظن أنه خير من غيره فقد تكبر 203 من غض بصره عن محاسن امرأة 18 من قال: سبحان الله العظيم وبحمده 368، 378 من اكتسب مالًا من إثم فوصل به رحمًا 267 من وضع ثيابًا 215 من يؤويني من ينصرني 210، 215، 271 منهومان لا يشبعان 114 "ن" نافق حنظلة المقدمة النساء شقائق الرجال 52 النظرة إلى المرأة سهم مسموم 29 نعم المال الصالح للرجل الصالح 24، 101 نهى رسول اله صلى الله عليه وسلم عن الكلام في القدر 61 نهى عن إضاعة المال 101 نهى عن الاختلاف 61 نهى عن التبتل 82 نهى عن دخول المسجد ... 52 نهى عن الرهبانية 82 نية المؤمن خير من عمله 14، 165، 170 "هـ " هذا رجل يتبختر في حلته 260، 280 "و" والعاجز من أتبع نفسه هواها 18 والله لا ينال أحد من الدنيا شيئًا 207 واليد العليا 101 وإن آخر وطأة وطئها الله بوج 71 واكرباه 117 وددت أن أنجو كفافًا 203 ومن أتاني يمشي أتيته هرولة = لا يزال العبد 71 ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه 643 وهل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله 288 وهل كانت فتنة داود إلا من النظر 101 "ي" يا أبا عمير ما فعل النغير 41 يبسط يده 71 يحشرون ركبانًا ومشاة 359 يدخل فقراء المؤمنين 224 يرفع يديه حتى تبين عفرة إبطيه 52 يشيب ابن آدم وتشب 243 يضحك 71 يغضب 71 يقال للرجل: اقرأ وارق= اقرأ وارق يقول آدم = حديث الشفاعة 354 يقول الله تعالى: النظرة إلى المرأة= النظرة إلى المرأة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 529 3 فهرس الشعر أوله القافية البحر الشاعر الفصل "أ" قد مات أحياء البسيط - 14 ألقاه بالماء البسيط - 21 بحفظ بالوعاء الوافر ابن شبل 171 "ب" يقولون قلوب الطويل - 365 أحب عيوب بسيط رابعة العدوية 63 لقد أتعبت الكعاب الوافر ابن المعتز 158 قال الشباب الأشيب الكامل - 159 عذابه قرب المجتث - 55 إذا هم جانبا الطويل سعد بن ناشب 341 ما أرى مصيبا الخفيف - 220 ألم تر تطيب الطويل امرؤ القيس 365 أفدي الحواجيب البسيط - 201، 360 يعمر الشباب الوافر - 132 لا تظهرن عجيب الكامل - 252 احفظ مذهب الكامل البزار 78، 253 لو فكر يسبه السريع المتنبي 63 لا تسه التعب مجزوء الكامل - 334 "ت" وإذا هممت عدات الكامل ابن شبل 171 ولكل جسم همتي الكامل الرضي 170، 225، 352 وسواء كسرة الخفيف - 294 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 530 أوله القافية البحر الشاعر الفصل "ح" طاول بها سمحا البسيط - 59، 334 أفد طبعك المزح الطويل البستي 171 "د" وفي الناس جلده الطويل المتنبي 169 ولما تعامى مقاصده الطويل الحريري 299 إن الليالي ما تلد البسيط - 31 ما جحد الجحود الرجز - 312 جزى الله كالمزاد الوافر - 168 إنما الحب عضد مجزوء الرجز - 235، 256 "ر" كأنك الدهر الطويل - 4 ومن ينفق الفقر الطويل - 222 الناس العمر البسيط - 62 ولولا الصغار الوافر نصيب 235 تفضل أميره الطويل - 255 رب قوم غرارا المديد أبو يعلى العلوي 340 لا تحسبن الصبرا البسيط - 341 احذر مره مجزوء الكامل علي بن عيسى 112، 186، 252، 373 وسواء كسره الخفيف - 294 إذا المرء عبوه المتقارب - 363 زوامل الأباعر الطويل مروان بن أبي حفصه 114 فإن تكلمت إضماري البسيط - 88 واحسرتي سير البسيط - 21 اهتز الظفر البسيط - 168 ما في الديار نجاريه البسيط - 261، 273 طبعت الأكدار الكامل التهامي 293 وخذ يدبر المتقارب - 40، 132 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 531 أوله القافية البحر الشاعر الفصل "س" استوحش وأستانس المتقارب - 77 "ض" لا تبر ينقضا السريع - 168، 243 ومن كان رضي المتقارب - 134 "ط" كأن الفتى ينحط الطويل - 189 "ع" نيام هاجع الطويل - 112 كدودة ينتفع البسيط - 114 وتجلدي أتضعضع الكامل أبو ذؤيب 223 أحب منعا البسيط - 23 ادعوها نزعا البسيط - 365 فاتني بسمعي الخفيف الرضي 338 ألا قومي المضجع الهزج مسيلمة الكذاب 309 "ق" أفق شفيق الطويل محمد التميمي 244 والمرء يتسق البسيط - 362 رأى منك فتزندقا الطويل المعري 193 وما في الأرض المذاق الوافر - 169 ما بيننا البواقي مجزوء الكامل - 231 أبلغن أهلنا الخفاق الخفيف - 119 إذا طالبوني الخرق المتقارب الشبلي 58 "ك" ويقبح ذاكا الوافر - 55 "ل" وكيف تنزل الطويل - 4 صليت يملوا المديد الشنفري 71 أتم انتقالا الوافر - 372 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 532 أوله القافية البحر الشاعر الفصل وكم من الوصال الوافر - 161 ولا انثنى بأذيالي السريع الرضي 137، 377 فأكذب بالأمل الرمل لبيد 171 يا من الأمل مجزوء الرجز - 390 "م" همها منظوم الطويل حسان 365 فما لجرح ألم البسيط المتنبي 211 على قدر العزائم الوافر المتنبي 375 ماتوا رميم الكامل - 264 فما لجرح إيلام الخفيف المتنبي 233 وإذا كانت الأجسام الخفيف المتنبي 352 لنا الجفنات دما الطويل حسان 365 صبرت على الرغم الطويل - 138 ليس لي العدم المديد - 108 يا نفس أحلام البسيط الشافعي 341 ولم أر التمام الوافر المتنبي 7، 108، 224، 381 "ن" ما في ثمن البسيط - 230 وعشرالثمانين فنون المتقارب - 189 أضحت نبيتنا ذكرانا البسيط عطارد بن حاجب 309 ما كنت سبعينا البسيط - 158 نحب القدود المنونا المتقارب - 288 حسبي الهوان مخلع البسيط - 222 يا منتهى حفظتني مجزوء الكامل - 314 فتبصر حين الخفيف ابن الحريري 5 أبكي تفارقني الرجز - 98 إن كان وسني المحدث - 54، 231 "هـ" إذا هبط فشفاها الطويل ليلى الأخيلية 49 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 533 أوله القافية البحر الشاعر الفصل "ي" ألا أحب يمانيا الطويل - 335 فكن رجلًًا الثريا المتقارب - 108 فلو أنا حي الوافر - 119 "فنون محدثة" كم كنت غائله المواليا - 98 إيش علي في المواليا الحصري 231 كم كنت قليل كان وكان - 98 غسلت الطين كان وكان - 98 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 534 4- فهرس الأعلام والأقوام. "أ" آدم عليه السلام: 13، 17، 23، 46، 71، 73، 106، 117، 135، 153، 154، 215، 290، 293، 299، 254 آدم: 19 آزاد: 71 إبراهيم عليه السلام: 15، 42، 50، 61، 101، 117، 289، 290، 292، 253 إبراهيم بن أدهم: 19، 34، 36، 40، 101، 155، 207، 292، 293، 341، 354، 361، 387 إبراهيم الحربي: 19، 294 إبراهيم الخواص: 38 إبراهيم النخعي: 11، 170 أبرويز: 242 ابن أبي = عبد الله بن أبي ابن أجود: 167 أحمد بن جعفر: 269 أحمد الحربي: 280 أحمد بن حسن بن البنا: 268 أحمد بن حنبل: 11، 19، 20، 25، 26، 28، 31، 34، 40، 51، 60، 61، 71، 107، 109، 121، 123، 152، 155، 165، 167، 175، 179، 195، 203، 207، 219، 222، 230، 291، 294، 296، 322، 334، 341، 344، 351، 361، 364، 384 أحمد بن أبي الحواري: 19، 118 أحمد بن خالد الخلال: 19، 269 أحمد بن أبي داود: 207، 294، 350 أحمد بن محمد الزعفراني: 129 أحمد بن محمد العتيقي: 19 أرميا: 354 ابن أسباط = يوسف إسحاق عليه السلام: 293 إسحاق وزير المأمون: 184 أبو إسحاق وزير المعتصم: 184 إسحاق بن راهوية: 175 إسحاق بن الضيف: 182 بنو إسرائيل: 29، 260، 271، 289، 339 أسعد بن زرارة: 51 إسماعيل عليه السلام: 117 إسماعيل بن سعيد: 353 الأسود بن يزيد النخعي: 353 الأسود العنسي: 215، 309 الأشاعرة: 197 الأشعري = علي بن إسماعيل أشناس: 184 الأفشين "خيذر بن كاووس": 184 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 535 ابن أفلح = علي أمامة بنت زينب: 337 أبو أمامة: 29 أمية بن أبي الصلت: 228 الأمين "الخليفة": 183 الأنبياء: 15، 21، 60، 61، 82، 101، 194 أنس بن مالك: 52، 147 أنس بن النضر: 89، 229 الأوزاعي: 268 الأوس: 356 أويس القرني: 351 إيتاخ: 184 أيوب عليه السلام: 135، 293، 354 أيوب السختياني: 179 "ب" البخاري: 19 برخ العابد: 228 بريرة: 19 بشر بن الحارث الحافي: 19، 25، 59، 85، 109، 155، 168، 179، 182، 201، 236، 294، 296، 334، 361 بشر المريسي: 19 البصري "صاحب الزنج": 307 البغوي: 323 بغيض: 356 بقراط: 367 بكر "القبيلة": 356 أبو بكر الإسماعيلي: 175 أبو بكر بن الأنباري: 121، 353 أبو بكر الصديق: 15، 19، 26، 34، 40، 41، 101، 152، 289، 292، 310، 391 أبو بكر الصولي: 184 أبو بكر الخطيب البغدادي: 119، 129 أبو بكر الخلال: 219 أبو بكر بن مقسم العطار: 69 بن يامين = يامين " ت" الترك: 77، 183، 337 الترمذي "الحكيم": 360 تميم الداري: 19 "ث" ابن ثابت البناني: 14 ثعلبة بن حاطب: 310 ثقيف: 228 ثمود: 123 أبو ثور: 332 "ج" جابر بن عبد الله: 66 الجاحظ: 356 جالينوس: 198، 367 جبريل عليه السلام: 106، 123، 309،343، 354 جحا: 71 جريج: 36 ابن الجزري: 350 جعفر الخلدي: 58 أبو جعفر العباسي: 197، 207 أبو جعفر = الخليفة العباسي الراشد بالله أبو جعوانة العامري: 309 ابن الجلاء: 18، 122، 133 الجنابي: 337 جندب بن كلثوم: 308 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 536 ابن جني: 176 الجنيد: 71، 98، 222، 268، 313 أبو جهل: 228، 237 ابن جهير "الوزير": 354 ابن الجوزي: مقدمة الجويني: 69، 337 "ح" حاتم الطائي: 310 الحارث المحاسبي: 60، 361 أبو حازم: 337 الحاكم النيسابوري: 174 أبو حامد الطوسي الغزالي: 69، 251، 361، 337 الحباحب: 310 حبان بن عطية: 291 حبيب العجمي: 97 الحجاج بن يوسف الثقفي: 49، 353 ابن الحجاج: 307 حذيفة: 218 الحريري: 298 الخزرج: 356 الحسن البصري: 19، 25، 31، 36، 40، 85، 87، 152، 155، 174، 194، 207، 323، 342، 343، 381، 384 أبو الحسن البسطامي: 312 الحسن بن الحجاج: 297 ابو الحسن الدامغاني: 380 أبو الحسن الراندسي: 286 الحسن بن أبي طالب: 119 الحسن بن علي: 19، 28، 36، 215 أبو الحسن القزويني: 207 حسن بن موسى: 269 الحسين بن إسماعيل: 119 حسين "خادم المأمون": 183 الحسين بن علي: 215، 309 الحسين بن محمد النصيبي: 353 الحسين بن يحيى: 184 الحصري: 231 ابن حصين: 268 الحطيئة: 114 أبو حكيم النهرواني: 71، 380 الحلاج: 160، 234، 309، 337 حماد بن سلمة: 121، 230 حمد بن أحمد: 28 الحميدي: 337 حمزة بن عبد الطلب: 5 حنبل بن إسحاق: 175 حنظلة الأسيدي: 1 حنظلة بن يزيد الكوفي: 309 أبو حنيفة: 25، 40، 121، 153، 338، 361 حيان بن عبد الله: 290 "خ" ابن خاقان: 109 خالد بن سعيد الأموي: 309 خالد بن سلام: 28 خالد بن عيينة: 308 خالد القسري: 309 خالد بن الوليد: 39 الخضر عليه السلام: 31، 101، 198، 237، 271، 284، 307 أبو الخطاب محفوظ الكلواذاني: 96 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 537 الخليل = إبراهيم عليه السلام الخنساء: 49 الخوارج: 247، 276، 353 خولة بنت حكيم: 71 ذو الخويصرة: 36 الخيزران: 214 "د" الدارقطني: 175 داود عليه السلام: 28، 82، 101، 293، 354 داود الطائي: 22، 152، 334، 361، 364،368 داود بن علي الظاهري: 365 أبو داود السجستاني: 175، 268 الدحالي: 71 دراج بن أبي السمح: 269 أبو الدرداء: 11، 25، 115، 234، 303 أم الدرداء: 25 دلف بن أبي دلف: 119 ابن أبي دواد= أحمد ابن أبي الدنيا: 109 "ذ" الذبيح: 117 ذبيان: 356 "ر" رابعة العدوية: 19، 55، 63، 342، 378 الراشد بالله "الخليفة العباسي": 183 ابن الراوندي: 153، 307، 358 ربعي بن حراش: 219 الربيح بنت أنس: 89، 229 الربيع بن خثيم: 19، 40 الرسول صلى الله عليه وسلم: 15، 19، 21، 24، 34، 36، 40، 48، 52، 58، 60، 61، 66، 71، 82، 96، 101، 111، 114، 123، 152، 162، 163، 165، 167، 171، 175، 177، 179، 182، 200، 203، 208، 10، 211، 215، 218، 222، 227، 228، 230، 232، 234، 237، 256، 260، 268، 269، 270، 280، 289، 291، 292، 299، 309، 313، 321، 327، 331، 332، 333، 337، 343، 345، 351، 354، 356، 361، 367، 372، 376، 383، الرضي: 170 ابن الرطبي: 183 رميثة: 36 الروافض: 159 أبو روح: 323 ابن الرومي: 237 "ز" ابن الزاغوني: 341 الزبا: 185، 243 الزبير بن العوام: 19 زرادشت: 309 أبو زرعة الرازي: 332 زكريا عليه السلام: 67، 74، 86، 271 الزهري: 109، 121 ابن الزيات: 35 زينب أم المؤمنين: 82، 372 "س" السبتي: 344 سجاح: 309 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 538 السحرة: 194، 271 سري السقطي: 19، 98، 101، 268، 313، 361، 368 بنو سعد بن زهير: 309 سعد بن أبي وقاص 34، 41 سعدى: 101 سعيد بن جبير: 353 أبو سعيد الخدري: 269 سعيد بن المسيب: 31، 40، 101، 109، 149، 167، 296، 384 سفيان الثوري: 19، 25، 31، 34، 36، 40، 82، 109، 118، 149، 152، 155، 162، 165، 167، 179، 207، 230، 232، 296، 332، 342، 359، 361، 383، 384 سفيان بن عيينة: 114، 207 سلمان الفارسي: 34 سليمان عليه السلام: 28، 67، 82، 215، 293، 354 سليمان بن أحمد: 28 أبو سليمان الداراني: 12 سليمان بن عبد الملك: 337، 381 ابن السماك: 86 ابن سمعون: 86، 334 سمية " أم عمار بن ياسر": 237 آل سهل: 184 أهل السواد: 342، 370 ابن سيرين = محمد "ش" الإمام الشافعي: 11، 19، 25، 40، 61، 152، 194، 341، 361، 367 ابن الشباس: 309 ابن شبل = أبو علي الشبلي: 58، 71، 80، 234، 337 الشريف الرضي = الرضي شريك القاضي: 337 شعيب عليه السلام: 19، 101 شعيب بن حرب: 19 شهر بن باذام: 309 شيبان الراعي: 232 "ص" صالح بن أحمد بن حنبل: 175، 344 الصحابة: 15، 19، 21، 36، 61، 101، 123، 149، 162، 167، 175، 179، 208، 227، 230، 234، 271، 333 صدقة: 19 صدقة بن الحسين الناسخ: 212 صفية أم المؤمنين: 82 صلة بن أشيم: 230 صهيب الرومي: 41 الصوفية: 19، 24، 58، 71، 101، 109، 149، 162، 166، 247، 251، 268، 313 ابن الصياد: 215 "ط" أبو طالب: 228 أبو طالب بن المؤيد الصوفي: 212 أبو طالب المكي: 19، 361 طاهر بن الحسين: 109، 183، 184، 247 أبو طلحة البدي: 292 طلحة بن عبيد الله: 19 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 539 طلحة بن مصرف: 201 طليحة بن خويلد: 309 "ع" عائشة أم المؤمنين: 51، 28، 82، 96، 107، 141، 167، 200، 215، 256، عاد: 123 أبو عامر الراهب: 345 عامر بن عبد قيس: 14، 368، 378 عباس بن كثير: 353 ابن عباس = عبد الله العباس الدوري: 58 عباس بن عبد العظيم: 182 أبو العباس بن واصل المقرئ: 129 ابن عبد البر = يوسف عبد الجبار بن أبي عامر: 28 عبد الحميد: 220 عبد الحميد القاضي: 370 عبد الخالق بن عبد الصمد: 323 أبو عبد الرحمن السلمي: 291 عبد الرحمن بن عوف: 19 عبد الرحمن بن عيسى الفقيه: 227 عبد الرحمن بن محمد القزاز: 119، 129 عبد الرحمن بن ملجم: 54، 353 عبد الرحمن بن مهدي: 19 عبد العزيز بن أبي رواد: 219 عبد العزيز بن مروان: 337 عبد الله بن أبي: 167، 345 عبد الله بن أحمد بن حنبل: 175، 218، 269 أبو عبد الله الترمذي = الترمذي الحكيم أبو عبد الله الحاكم: 175 أبو عبد الله الدامغاني: 380 عبد الله بن أبي سعد: 119 عبد الله بن عباس: 19، 29، 52، 353، 383 260، 289، 332، 361، 369، 372 عبد الله بن عمر: 15، 36، 207، 218، 260 عبد الله بن عمرو: 71، 162 عبد الله بن لهيعة: 269، 296 عبد الله بن المبارك: 109، 167، 296 عبد الله بن محمد الأسدي: 268 عبد الله بن مسعود: 19، 63، 202، 289 عبد المجيد بن عبد العزيز: 221 عبد المحسن الصوري: 286 عبد المطلب: 120 عبد الملك بن مروان: 109 عبد الوهاب الأنماطي: 19، 94، 338، 353 عبس: 356 أبو عبيد القاسم بن سلام: 109 أبو عبيدة عامر بن الجراح: 167، 292 أبو عبيدة الخواص: 318 عثمان الباقلاوي: 368 عثمان بن جني = ابن جني أبو عثمان الحيري النيسابوري الصوفي: 29، 294، 297 عثمان بن عفان: 40، 118 العرب: 102، 237، 256، 342 ابن عرفة: 114 عطاء بن أبي رباح: 381 عطاء الخرساني: 29 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 540 عطارد بن حاجب: 309 ابن عقيل: 31، 60، 69، 98، 101، 123، 318، 355 العقيلي = محمد أبو العلاء المعري: 192، 307 أبو العلاء الهمذاني: 219 علقمة بن قيس النخعي: 11 علي بن إسماعيل الأشعري أبو الحسن: 26، 123، 159 علي بن أفلح الشاعر: 280 علي بن بلتعة: 358 علي بن الحسن: 268 علي بن الحسين الواعظ: 235 أبو علي الروذباري: 12 أبو علي بن شبل: 171 علي بن أبي طالب: 19، 21، 26، 28، 40، 51، 54، 82، 191، 201، 233، 276، 291، 333، 337، 353 علي بن عبيد الله: 244 علي بن المديني: 222، 294 ابن عمار = منصور عمار بن ياسر: 237 عمر بن الخطاب: 31، 40، 54، 71، 89، 101، 167، 215، 230، 247، 289، 351 عمر بن عبد العزيز: 31، 184، 203، 242، 322، 337، 351 عمر بن المهاجر: 31 عمر بن هبيرة: 183 عمرو بن حزم: 309 عمرو بن العاص: 161 أبو عمر بن نجيد: 264 أبو عمير: 41 العنسي = الأسود ابن عوف = عبد الرحمن عيسى عليه السلام: 71، 215، 275، 290، 309 أبو عيسى الختلي: 353 عيينة بن حصن: 309 "غ" غسان بن عباد: 183 "ف" فاطمة بنت الرسول صلى الله عليه وسلم: 337 فتح بن شخرف: 318 فرعون: 13، 19، 194، 227، 271، 383 فرقد السبخي: 19، 36، 342 أبو الفضل الزهري: 129 أبو الفضل بن ناصر = محمد بن ناصر الفضيل بن عياض: 12، 25، 29، 287، 290، 296، 368 فيثاغورس: 367 "ق" القائم بأمر الله: 207 قابيل: 345 قارون: 345 القاسم بن محمد: 391 أبو القاسم الحريري: 299 القاسم بن مخيمرة: 268 ابن قتيبة: 101، 109 قتيبة بن مسلم: 77 قخدم: 353 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 541 القرامطة: 309 قريش: 228 القسري = خالد قصير: 231 قيس بن الربيع: 318 قيصر: 54، 111، 308 ابني قيلة: 356 "ك" كثير: 71، 161 كرز بن وبرة: 368 ابن كريب: 175 كسرى: 54، 308، 339، 369 الكسعي: 187 كعب بن مالك: 34 الكليم = موسى عليه السلام أهل الكهف: 262 كهمس البصري: 378 كهمس الكلابي: 309 "ل" أبو لؤلؤة: 54 لبيد بن ربيعة: 171 لوط عليه السلام: 15،101، 123 ابن لهيعة = عبد الله الليث بن سعد: 19، 296 ليلى: 60، 101 "م" المأمون: 183، 184 ماعز بن مالك: 193 مالك بن أنس: 19، 25، 40، 152، 167، 296، 341 مالك بن دينار: 19،25،292، 342 مالك بن نضلة: 247 ماني: 309 الماوردي: 183 ابن المبارك = عبد الله المبارك بن عبد الجبار: 353 المتنبي: 63، 108، 175 المتوكل: 349 المجذوعي: 370 المجنون: 60، 234 محمد صلى الله عليه وسلم: 117، 293 محمد الأمين الخليفة = الأمين محمد التميمي: 207 أبو محمد التميمي: 207 محمد بن الحسين الفراء: 219 محمد بن حسين المعدل: 129 أبو محمد الحلواني: 380 أبو محمد الخشاب: 227، 338 محمد بن سليم الخواص: 129 محمد بن سيرين: 18، 36، 133، 221، 292، 321، 342، 354، 360، 381 محمد بن شهاب = الزهري محمد بن عبد الباقي البزار: 28، 231، 254 محمد بن عبد الرحمن الصيرفي: 129 محمد بن عساف العقيلي: 176 محمد بن علي الزجاجي: 268 محمد بن علي القوهستاني: 119 محمد بن عمرو العقيلي: 19 محمد بن عون الطائي: 268 محمد بن عيسى: 19 محمد بن قتيبة = ابن قتيبة محمد بن مسلمة البلخي: 119 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 542 محمد بن المظفر الشامي: 19 محمد بن ناصر: 286، 338، 353، 377 محمد بن واسع: 77 المختار بن عبيد الله الثقفي: 309 مخلد بن الحسين: 323 المخلص: 323 المديني = علي مذحج: 309 ابن المذهب: 269 المروزي: 19، 34، 361 مريم عليها السلام: 67 ابن مسعود = عبد الله أبو مسلم الخراساني: 170، 205 أبو مسلم الخولاني: 40 مسلم بن عقبة: 276 الإمام مسلم: 175 المسترشد بالله: 183، 280، 350 المستظهر بالله: 337 المستنجد بالله: 183 مسيلمة الكذاب: 215، 309 المصطفى صلى الله عليه وسلم: 162 المطعم بن عدي: 41، 51، 116 أبو المعالي بن شافع: 370 أبو المعالي الجويني = الجويني معاوية بن أبي سفيان: 223 معروف الكرخي: 25، 97، 155، 168، 179، 203، 207، 368، 378 ابن المعتز: 158 المعتزلة: 123، 237، 367 المعتصم: 184، 293 المعتضد: 109، 121، 270، 294 أبو المغيرة: 268 المقتدي: 197 المقتفي: 183، 354 المقداد بن الأسود: 202 المقنع: 337 مكحول: 121، 381 ابن ملجم = عبد الرحمن المنصورة: 305، 308، 337 أبو منصور الجواليقي: 94 منصور بن عمار: 86،296، 308 منصور بن المعتمر: 40 ابن المنصوري: 227 منكر: 61 موسى عليه السلام: 13، 19، 31، 42، 86، 101، 117، 194، 198، 215، 234، 237، 271، 275، 284، 290، 306، 307، 309، 354 أبو موسى الأشعري: 26 موسى بن سليمان: 268 ابن مهدي = عبد الرحمن ميكائيل: 106، 354 ميمونة بنت شاقولة: 334 "ن" النابغة الذبياني: 309 نافع مولى ابن عمر: 260 النبي صلى الله عليه وسلم: 12، 19، 21، 29، 34، 35، 36، 38، 41، 51، 52، 60، 61، 66، 99، 101، 108، 116، 120، 123، 153، 162، 186، 192، 196، 201، 202، 203، 215، 222، 226، 229، 243، 247، 309، 339، 367 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 543 النخعي = إبراهيم النصارى: 71، 150، 226، 276، 339 أبو نعيم: 28 ابن النقور: 323 نكير: 61 نوح عليه السلام: 66، 117، 215، 290 ذو النون المصري: 19 "هـ" هاروت وماروت: 42 هارون الرشيد: 308، 370 بنو هاشم: 228 ابن هبيرة = عمر هذيل بن واسع: 309 هذيل بن يعفور: 390 أبو هريرة: 66 هشام: 323 أبو الهيثم: 269 "و" الواثق: 350 واعد: 309 الواقدي: 309 وحشي: 5 وصيف: 184 وضاح اليمن: 371 وهب بن منبه: 354 وهيب بن الورد: 29 "ي" بن يامين: 101، 327 يحيى بن أكثم: 129، 407 يحيى البكاء: 38 يحيى بن خالد البرمكي: 294 يحيى بن زكريا عليه السلام: 54، 86، 194، 271 يحيى بن معاذ: 287 يحيى بن معين: 332 يحيى بن نزار: 280 بنو يربوع: 309 أبو يزيد البسطامي: 19، 38، 59، 162، 234، 297 يزيد الرقاشي: 40 يزيد بن معاوية: 275 يعقوب عليه السلام: 67، 74، 101، 117، 129، 135، 194، 223، 293، 327، 343، 354 أبو يعلي: 353 أبو يعلى العلوي: 341 يوسف عليه السلام: 29، 60، 67، 68، 72، 73، 111، 112، 129، 142، 154، 166، 193، 194، 289، 293، 327، 335، 343، 345، 354 يوسف بن أحمد: 19 يوسف بن أسباط: 19، 118 يوسف بن عبد البر: 49 أبو يوسف القاضي: 307 يوسف بن عمر القواص: 119 يوشع: 86 يونس عليه السلام: 354، 383 يهود: 111، 150، 226، 276، 339 يهوذا: 67 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 544 5 فهرس البلدان "أ" أحد: 210 الإحساء: 337 إيوان كسرى: 339 "ب" بدر: 210 البصرة: 382 بغداد: 123، 183، 337 البيت الحرام: 210 بيروت: 137 "ج" جامع الرصافة: 82 جامع المنصور: 71، 162 جبل حراء: 117 جبل اللكام: 162 جبل الهند: 354 الجزيرة: 19 "ح" الحجر: 120 الحجرة النبوية الشريفة: 203، 322 الحديبية: 215 الحرم: 243 حنين: 71 "د" دار الخيزران: 215 دجلة: 19، 354، 377 دكة أحمد: 203 ديار الروم: 19 "ر" رباط البسطامي: 212 الرقة: 377 "ز" زرود: 208، 214، 231، 305 "س" سميراء: 309 "ش" الشام: 261، 309 "ص" صور: 286 "ط" الطائف: 51، 309 الطور: 234 "ع" العراق: 247، 309 عرفة: 243 عرفات = عرفة "غ" غار ثور: 41 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 545 "ك" الكعبة: 123 الكوفة: 174، 201 "م" المدرسة النظامية: 338 المدينة المنورة: 75، 276 مقبرة أحمد: 322 مكة المكرمة: 19، 41، 51، 86، 98، 116، 175، 214، 215، 223 منى: 24، 300، 310 "ن" نجران: 309 نهاوند: 309 نهر عيسى: 168، 212 "و" وج: 71 "ي" اليمامة: 309 اليمن: 260، 308 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 546 6- فهرس الكتب الاحتجاج للقراء: 69 إحياء علوم الدين: 337، 361 أخبار إبراهيم بن أدهم: 155 أخبار أحمد بن حنبل: 155، 384 أخبار بشر الحافي: 155 أخبار الحسن البصري: 155، 384 أخبار سعيد بن المسيب: 384 أخبار سفيان الثوري: 155، 384 أخبار معروف الكرخي: 155 الأذكياء: 185 تاريخ البخاري: 202 التاريخ = المنتظم التفسير الكبير = المغني تلبيس إبليس: 71، 247، 309، 313 التمهيد: 49 تهذيب المسند: 384 التوراة: 276، 339 جزء ابن عرفة: 114 جنة النظر: 388 الحدائق: 388 ذم الهوى: 63 زاد المسير: 388 المستظهري: 337 السنن: 175 الشامل في الأصول: 337 صحيح مسلم: 66 الصحيحين: 162، 202، 388 صفة الصفوة: 384، 391 صيد الخاطر: 337، 388 كتاب العلل: 219 غريب الحديث: 101 قوت القلوب: 19، 361 لفتة الكبد إلى نصيحة الولد: 375 لقط المنافع: 53 المدخل إلى كتاب الإكليل: 175 مسند الإمام أحمد: 175، 219، 291، 377 المغني: 384، 388 لمنتظم في تاريخ الملوك والأمم: 309، 351 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 547 7 فهرس الموضوعات الموضوع الصفحة مقدمة هذه الطبعة 5 ترجمة المؤلف 9 - 1 فصل: المواعظ والسامع 23 2 فصل: جواذب الطبع كثيرة 25 3 فصل: من عاين الأمور بعين بصيرته 25 4 فصل: التفكر في عواقب الدنيا 26 5 فصل: مقاربة الفتنة 26 6 فصل أعظم المعاقبة 27 7 فصل: علو الهمة 28 8 فصل: سبقت محبة الله لأحبابه 28 9 فصل: العاقل يعطي كل لحظة حقها 28 10 فصل: متى رأيت معاقبًا فاعلم أنه لذنوب 29 11 فصل: الحسد منشؤه حب الدنيا 30 12 فصل: من أحب تصفية الأحوال 31 13 فصل: التكليف أقسام 32 14 فصل: لا تضيع لحظة في غير قربة 33 15 فصل: حيل الشيطان ومكره 34 16 فصل: حظوظ الفضلاء من الدنيا 36 17 فصل: أحوال الناس مع المحظورات 37 18 فصل: ميزان العدل لا يحابي 38 19 فصل: أكثر أحوال الصوفية منحرف عن الشريعة 39 20 فصل: أمر النفس وماهيتها 49 21 فصل: تكليف البدن وتكليف العقل 50 22 فصل: حوادث الدنيا وحوادث الآخرة 53 23 فصل: النفس لا تصبر على الحصر 54 24 فصل العزلة عن الشر لا عن الخير 55 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 548 موضوع الصفحة 25 فصل: المقصود من العلم العمل 56 26 فصل: محبة الخالق توجب قلقًا وشوقًا 58 27 فصل: قصور العقل عن درك جميع المطلوب 59 28 فصل: فوائد النكاح 60 29 فصل: العقاب العاجل 65 30 فصل: قد يخفي الإنسان عمله فيظهره الله عليه 67 31 فصل: غلبة الجهل والهوى على أكثر الناس 68 32 فصل: آفات الشهوات وفوائد الصبر عنها 71 33 فصل: القلب عارف والقواطع كثيرة 73 34 فصل: ما يفعله جهلة المتزهدين 74 35 فصل: أفضل الأمور أوساطها 77 36 فصل: لا تحرموا طيبات ما أحل لكم 77 37 فصل: جهاد النفس أعظم الجهاد 80 38 فصل: امتناع إجابة الدعاء 82 39 فصل: من نزلت به بلية 84 40 فصل: فضل العلم وفوائده 84 41 فصل: في غلو بعض المتزهدين 86 42 فصل: شرف الإنسان 88 43 فصل: إذا كانت بعض المخلوقات لا تعلم إلا جملة فالخالق أجل وأعلى 90 44 فصل: إنما تصلح الحياة بالتفاوت بين العباد 91 45 فصل: من حكمة الله في النبات 92 46 فصل: احذروا الترخص فيما لا يؤمن فساده 93 47 فصل: إن الله لا يخادع 95 48 فصل: إصلاح البدن سبب لإصلاح الدين 95 49 فصل: مسألة الصفات 98 50 فصل: لطف الله تعالى بعباده 100 51 فصل: الأمور منوطة بالأسباب 101 52 فصل: أمر المؤمن بالتنظف 103 53 فصل: خلق الله الحر والبرد لمصالح البدن 106 54 فصل: الصبر على القضاء وما يعين عليه 107 55 فصل: الرضا بالقضاء وما يعين عليه 109 56 فصل: انشغال العلماء عن أمور المعاش 110 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 549 موضوع الصفحة 57 فصل: الشرع فيه الرخصة وفيه العزيمة 111 58 فصل: ليس شيء في الوجود أشرف من العلم 112 59 فصل: مداراة النفس والتلطف بها لازم 113 60 فصل: الواعظ مأمور بأن لا يتعدى الصواب 114 61 فصل: الأنبياء بالغوا في إثبات الصفات 116 62 فصل: أخذ السمع والبصر يكون بذهولهما عن الحقائق 119 63 فصل: لا يتمكن العشق غلا مع واقف جامد 120 64 فصل: الاعتراف بالتقصير أنجح في الحوائج 122 65 فصل: أي لب أوغل في النظر مدح على قدر فهمه 123 66 فصل: لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرًا 124 67 فصل: طوبى لمن عرف المسبب وتعلق به 125 68 فصل: المؤمن لا يبالغ في الذنوب 126 69 فصل: أفضل الأشياء التزيد من العلم 127 70 فصل: الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان 128 71 فصل: شرعنا مضبوط الأصول محروس القواعد 129 72 فصل: السعيد من لازم التقوى 137 73 فصل: انهيال الابتلاء على المؤمن 137 74 فصل: يريد اختبارك ليعرف أسرارك 138 75 فصل: اجتلاب الصالح ودفع المؤذي 139 76 فصل: من تأمل عواقب المعاصي رآها قبيحة 140 77 فصل: لا يصلح الأنس إلا بملازمة التقوى 140 78 فصل: كتمان الأمور فعل الحازم 141 79 فصل: الاحتراز من الذنوب 142 80 فصل: ندر من تطرقه البلايا مع التقوى 143 81 فصل: لا ينال لذة المعاصي إلا سكران الغفلة 144 82 فصل: إنما عزلة العالم عن الشر 144 83 فصل: للذنوب عواقب سيئة 148 84 فصل: اعرفوا عظمة الناهي 149 85 فصل: تسأل الله حاجاتها وتنسى جناياتها 150 86 فصل: ما عرف الله إلا من خاف منه 151 87 فصل: المعرفة التي توجب الرضا والصبر 152 88 فصل: صفة العارف 153 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 550 موضوع الصفحة 89 فصل: لا تبع عز التقوى بذل المعاصي 154 90 فصل: ثبتت حكمة الله في حكمه وملكه 156 91 فصل: أعجب الأشياء مجاهدة النفس 156 92 فصل: البدار البدار قبل الفوات 157 93 فصل: تخليط أرباب الآخرة 158 94 فصل: أنفع المشايخ في صحبته العامل بعلمه 158 95 فصل: إن الله عز وجل يمهل ليبلو صبر الصابر 159 96 فصل: الجمع بين العلم والمعاملة 160 97 فصل: نعوذ بالله من طول الأمل 161 98 فصل: أخذ الإشارات من الأشعار 162 99 فصل: الورع الأخذ بالأحوط في اتقاء الشبهات 163 100 فصل: إن العقوبة بالمرصاد 165 101 فصل: اجتهاد العاقل فيما يصلحه لازم 165 102 فصل: لو صحت النفوس لذابت من خوف الله أو لغابت في محبته 169 103 فصل: الواجب الصبر وإن كان الدعاء مشروعًا 170 104 فصل: زاد الصابر 170 105 فصل: المدعو مالك حكيم 171 106 فصل: رتبة العلماء على الزهاد 171 107 فصل: أصلح الأمور الاعتدال في كل شيء 172 108 فصل: الفكر يدل على أشرف المقامات 173 109 فصل: ما أكمل العلم والمال في المؤمن 175 110 فصل: الفقه أفضل العلوم 177 111 فصل: على العاقل أن يحذر الهوى 177 112 فصل: آفة الصداقة الحسد 179 113 فصل: من أحسن فيما مضى يحسن فيما بقى 180 114 فصل: الشره في تحصيل الأشياء يفوت مقصودها 181 115 فصل: إن للخلوة تأثيرات تبين في الجلوة 185 116 فصل: من عرف جريان الأقدار ثبت لها 186 117 فصل: الابتاء لمعرفة الصبر وإظهار الفضل 186 118 فصل: عليكم من العمل بما تطيقون 187 119 فصل: لا خير في لذة من بعدها النار 188 120 فصل: لذتا الحس والعقل 190 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 551 موضوع الصفحة 121 فصل: تعليم حفظ العلم 191 122 فصل: أعظم المحن الاغترار بالسلامة بعد الذنب 193 123 فصل: للباطل جولة وللحق صولة 195 124 فصل: البلاء على العارف 199 125 فصل: ميزان العدل تبين فيها الذرة 200 126 فصل: ابتعد عن اسباب الفتنة 201 127 فصل: البشر كلهم في حرب 202 128 فصل: الدنيا فخ والجاهل يقع بأول نظرة 202 129 فصل: للذنوب تأثيرات قبيحة 202 130 فصل: من يتوكل على الله فهو حسبه 204 131 فصل: نظف طرق الإجابة من أدران الذنوب 205 132 فصل: الاستعداد للموت 205 133 فصل: الحذر من المعاصي 207 134 فصل: من عظم الله عظم الله قدره 207 135 فصل: ملازمة مجلس الإنابة 208 136 فصل: دموع الندم تطفئ نيران الذنوب 209 137 فصل: اقبل نصحي يا مخدوعًا بفرضه 209 138 فصل: حسن جزاء من خاف مقام ربه 211 139 فصل: المحنة على من طلب اللذة من طريق الحرام 212 140 فصل: الحق عز وجل أقرب إلى عبده من حبل الوريد 213 141 فصل: على الإنسان ألا يتنافس بلذات الدنيا 213 142 فصل: معاذ الله إنه ربي 215 143 فصل: قطع أسباب الفتن 217 144 فصل: من بالغ في الاحتراز من المعاصي سلم 217 145 فصل: البلايا على مقادير الرجال 218 146 فصل: اللازم في العلم طلب المهم 219 147 فصل: إذا صح قصد العالم استراح من التكلف 220 148 فصل: الدنيا دار ابتلاء واختبار 220 149 فصل: العالم الذي يتكسب يصون عرضه ودينه 222 150 فصل: الهوى يسوق العصيان 223 151 فصل: التكسب والقناعة 223 152 فصل: مدار الأمر كله على العقل 224 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 552 موضوع الصفحة 153 فصل: الواجب على العاقل أن يتبع الدليل 226 154 فصل: أكل الأرباح في الصبر 227 155 فصل: الرقائق والنظر في سير الصالحين 228 156 فصل: لا حرج في الترخص ما لم يخرق إجماعًا 229 157 فصل: احتياج الخلق بعضهم إلى بعض 230 158 فصل: عليك بالقناعة مهما أمكن 230 159 فصل: قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا 233 160 فصل: الأحمق يتقاوى على الله 233 161 فصل: السعيد من ذل لله 234 162 فصل: الاقتداء بصاحب الشرع 234 163 فصل: جاء الدخل من الفلسفة والرهبانية 239 164 فصل: أعوذ بالله من صحبة البطالين 240 165 فصل: التنصيف المفيد ومراحل عمر العالم 241 166 فصل: العادات غلبت على الناس 243 167 فصل: الواجب على العالم صيانة علمه 245 168 فصل: ثمرات العلم 247 169 فصل: أصلح المقامات التوسط 249 170 فصل: علو الهمة 250 171 فصل: لا بد من مغالطة ليتم العيش 253 172 فصل: في تعليم التدبير 255 173 فصل: بادر وسع الزرع 257 174 فصل: المؤمن بين الخوف والرجاء 258 175 فصل: عدد أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم 258 176 فصل: اللغة منطق العرب 261 177 فصل: العاقل ينظر في العواقب، والغافل لا يرى إلا الحاضر 262 178 فصل: الآمال أكبر من الآجال 263 179 فصل: ما أقل من يعمل لله خالصًا! 264 180 فصل: اعملوا فكل ميسر لما خلق له 265 181 فصل: وفي أنفسكم أفلا تبصرون 265 182 فصل: العلماء حفظة الشريعة 265 183 فصل: العاقل من يحفظ جانب الله عز وجل 266 184 فصل: الأصول والصور 269 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 553 موضوع الصفحة 185 فصل: تحصيل المرادات لا يتم إلا بالاحتيال 271 186 فصل: في حفظ السر 273 187 فصل: ما رأيت أصعب على النفس من الحفظ للعلم! 274 188 فصل: العزلة إنما هي للعالم والزاهد 275 189 فصل: الاستعداد للموت 277 190 فصل: على العاقل أن يكف عن التطلع إلى ما لا يطيق 278 191 فصل: لذة العاقل ولذة الجاهل 279 192 فصل: أصل كل محنة قياس صفات الخالق على صفات المخلوقين 280 193 فصل: كل نفيس يكثر التعب في تحصيله 281 194 فصل: المؤمن هو الكامل الإيمان 283 195 فصل: أضر ما على العوام المتكلمون 284 196 فصل: الأجساد إلى البلى والأرواح إلى راحة 285 197 فصل: حفظ اللسان 286 198 فصل: حكمة الله أوفى من كل حكيم 287 199 فصل: على المؤمن التصبر مهما أمكن 289 200 فصل: الغفلة المحمودة والغفلة المذمومة 290 201 فصل: من راءى الخلق عبدهم وهو لا يعلم 291 202 فصل: كل المعاصي قبيحة 293 203 فصل: التحذير من الإعجاب بالنفس 294 204 فصل: الغضبان كالسكران لا يؤاخذ بما يقول 295 205 فصل: لا ينبغي أن تعادي أحدًا 296 206 فصل: كامل العقل من يتلمح العواقب 297 207 فصل: بقدر صعود الإنسان في الدنيا تنزل مرتبته في الآخرة 298 208 فصل: أكثر الناس يمشون مع العادة 301 209 فصل: الكمال عزيز 301 210 فصل: من أراد السلامة ما عرف التكليف 302 211 فصل: من الابتلاء العظيم إقامة الرجل في غير مقامه 302 312 فصل: العالم الذي يجمع المال من وجوه قبيحة 303 213 فصل: من عرف شرف الوجود يحصل أفضل الموجود 305 214 فصل: البدار البدار فقد قرب الرحيل 306 215 فصل: رضا الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه 307 216 فصل: أكثر شهوات الحسن النساء 309 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 554 موضوع الصفحة 217 فصل: كل شخص شغله الله بفن 310 218 فصل: علم الحديث هو الشريعة 310 219 فصل: مسند الإمام أحمد فيه الصحيح وغيره 312 220 فصل: الأنفة من الرذائل 313 221 فصل: قد تبغت العقوبات، وقد يؤخرها الحلم 314 222 فصل: أسعد الناس من له قوت بقدر الكفاية 315 223 فصل: التجلد عن المصائب 317 224 فصل: منازل المؤمنين في الآخرة على قدرهم 318 225 فصل: الجزاء على قدر العمل 320 226 فصل: الحكمة من أخذ الجزية 322 227 فصل: ينبغي للعالم أن يأخذ طرفًا من كل علم 322 228 فصل: الكبر والحسد يغطيان نور العقل 323 229 فصل: من الصالحين من غلب عليه الرفق ومنهم من غلب عليه الخوف 325 230 فصل: العلم معرفة الأصول 325 231 فصل: سبب تنغيص العيش فوات الحظوظ العاجلة 327 232 فصل: عد منع الله إياك إعطاء لك 328 233 فصل: التعلل بالأقدار 329 234 فصل: الشريعة هي الطريق 331 235 فصل: لا مرحبًا بسرور عاد بالضرر 332 236 فصل: ليس للأمل منتهى ولا للاغترار حد 335 237 فصل: سبب تخليط العقائد قياس الحاضر على الغائب 336 238 فصل: ليكن هم العاقل إقامة الحق والرضا به 339 239 فصل: لا تضيع لحظة من عمرك 340 240 فصل: الإعراض عن الله سبب الهموم والغموم 341 241 فصل: ما العيش إلا في الجنة 342 242 فصل: على من صحب سلطانًا أن يكون ظاهره وباطنه سواء 343 243 فصل: الحرص والأمل 345 244 فصل: كبير السن ينكح الصغيرة 345 245 فصل: العاقل من راقب العواقب 347 246 فصل: ليس غلا المعرفة بالجملة 348 247 فصل: العجب لمن يترخص في المخالطة 349 248 فصل: من البله أن تبادر عدوًا بالمخاصمة 351 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 555 موضوع الصفحة 249 فصل: الخلاص من المحن بالتوبة والدعاء 352 250 فصل: العلماء وأقسامهم والجهال وأقسامهم 352 251 فصل: السلف تشاغلوا بالقرآن والعلم 355 252 فصل: الحزم في كتمان الحب والبغض 356 253 فصل: لا تظهر بغضك لمن تبغضه 357 254 فصل: خادم السلطان يشخى على دينه ودنياه 358 255 فصل: من أنف الذل تجافى عن منن الأنذال 359 256 فصل: يتضمن وصية للشباب 359 257 فصل: ضرر علم الكلام على العوام 360 258 فصل: أشد الناس جهلًا منهوم باللذات 361 259 فصل: الهوى والتسويف والاغترار بالرحمة 362 260 فصل: الإعراض عما يحرك الفخر والزهو والعجب 363 261 فصل: العزلة حمية 364 262 فصل: أسباب الهداية 366 263 فصل: عجبت لمن يعجب بصورته وينسى مبدأ أمره 367 264 فصل: نصائح لأهل العلم وطلابه 368 265 فصل: زيارة المقابر ومفاوضة الكتب 369 266 فصل: صفات أولياء الله 370 267 فصل: يبذلون العرض دون الغرض 371 268 فصل: الإنفاق في بناء المساجد والأربطة 372 269 فصل: الرياء يضيع العمل 374 270 فصل: متى وقع الترخص حمل إلى غيره 375 271 فصل: حكمة الخالق وراء العقول 376 272 فصل: من أوغل في السن فليعتبر بما فقد 377 273 فصل: متى تكامل العقل فقدت لذة الدنيا 378 274 فصل: من قدح في البعث قدح في الحكمة 378 275 فصل: تجلي الخالق سبحانه 379 276 فصل: عالم معاند وجاهل مهمل 380 277 فصل: للنفس ذخائر في البدن 381 278 فصل: زهاد زماننا أهل رياء ونفاق 382 279 فصل: على المؤمن أن يصون نفسه 382 280 فصل: على المؤمن أن يحترز مما يمكن وقوعه 383 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 556 موضوع الصفحة 281 فصل: السعيد من اهتم لحفظ دينه وقنع من الدنيا باليسير 384 282 فصل: الموفق من طلاب العلم 385 283 فصل: التثبت والمشاورة 385 284 فصل: من لم يحترز بعقله هلك بعقله 386 285 فصل: بإنعامك المتقدم أتوسل إليك 387 286 فصل: المحمود من الأشياء التوسط وشيء من أخبار البخلاء 388 287 فصل: إذا أردت أن تصادق أحدًا فاختبره 391 288 فصل: العجب لمطلق يؤثر القيد ومستريح يؤثر التعب 392 289 فصل: إذا تم علم الإنسان لم يدل بعمله 393 290 فصل: الخوف بعد التوبة 395 291 فصل: نعوذ بالله من سوء الفهم 396 292 فصل: نعوذ بالله من رياء يبطل أعمالنا 397 293 فصل: الدنيا وضعت البلاء 399 294 فصل: تحذير العلماء من مخالطة السلاطين 400 295 فصل: جمهور الناس خرج من ربقة العبودية 402 296 فصل: عاقبة الصبر الجميل جميلة 402 297 فصل: الإحسان إلى الزوجة عمل الرجال 404 298 فصل: من أراد اجتماع همه فعليه بالعزلة 406 299 فصل: لا تسبوا الدهر 407 300 فصل: زيادة الثواب في الآخرة بقدر العمل في الدنيا 408 301 فصل: الأمر بحفظ السر 408 302 فصل: تسبيح المتيقظين 409 303 فصل: لا يصفو الاشتغال بالآخرة إلا بالانقطاع عن الخلق 409 304 فصل: يدوم طيب القلب بدوام التقوى 410 305 فصل: همة المؤمن متعلقة بالآخرة 411 306 فصل: كمال الصورة اعتدالها 412 307 فصل: الحق منزه عن العبث 413 308 فصل: من اضطر أن يعظ سلطانًا تلطف معه 414 309 فصل: الحق لا يشتبه بباطل وشيء من أخبار المتنبئين 415 310 فصل: السعيد من انتبه لنفسه 422 311 فصل: ما يسلي من الدنيا ويهون فراقها 424 312 فصل: وهب الله تعالى العقل للإنسان ليثبت عليه الحجة 424 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 557 موضوع الصفحة 313 فصل: ليتزود العبد على قدر طول السفر 425 314 فصل: وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها 427 315 فصل: النفس لا بد لها مما تتشاغل به 428 316 فصل: اللهم أرنا الأشياء كما هي 429 317 فصل: الفائدة في خلق ما يؤذي 430 318 فصل: كلما أوغلت الفهوم في معرفة الخالق تاهت في مبحته 431 319 فصل: في سبب تبذير الولاة 432 320 فصل: تحديث العوام بما لا تحتمله قلوبهم مخاطرة 433 321 فصل: الرجل هو الذي يحفظ الحدود ويخلص العمل 433 322 فصل: حب الصيت 434 323 فصل: خلق الإنسان ومعه الحسد 436 324 فصل: أعظم الضرر كثرة النساء 436 325 فصل: قليل العقل لا يرجى خيره 437 326 فصل: النظر في العواقب شأن العقلاء 438 327 فصل: يظهر إيمان المؤمن عند الابتلاء 438 328 فصل: لذات الدنيا في ضمنها أكدار 439 329 فصل: من تبع العقل سلم 440 330 فصل: العجب لمؤثر شهوات الدنيا 441 331 فصل: رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام 442 332 فصل: العلم كثير والعمر قصير 442 333 فصل: العاقل العالم يسير بين رفيقين: العلم والعقل 444 334 فصل: متى استقام باطنك استقامت لك الأمور 446 335 فصل: المحق لا يطلب إلا الأرفع 448 336 فصل: الاشتغال بصورة العلم دون حقيقته ومقصوده 449 337 فصل: للفقيه أن يطالع من كل فن طرفًا 451 338 فصل: همم القدماء من العلماء 453 339 فصل: أثر قلة العقل وترك إعماله 454 340 فصل: رب سر ظهر فكان سبب الهلاك 455 341 فصل: عاشق العلم 456 342 فصل: البدن كالراحلة إن لم يرفق بها لم تصل بالراكب 458 343 فصل: إذا تكامل العقل قوي الذكاء والفطنة 460 344 فصل: من رزق اليقظة ينبغي أن يصابر لنيل الفضائل 461 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 558 الموضوع الصفحة 345 فصل: لا بد من مخالطة بمقدار 462 346 فصل: من سار مع العقل أمكنه أن يتمتع من الدنيا 463 347 فصل: عيش الصديقين وعيش البهائم 464 348 فصل: مقصود الموضوعات وحكمها والمراد منها 465 349 فصل: في مخالطة الأمراء 466 350 فصل: العاقل من عمل بمقتضى الحزم 466 351 فصل: هلك الهالكون لقلة الصبر عن المشتهي 467 352 فصل: من رزق همة عالية يعذب بمقدار علوها 469 353 فصل: المصيبة العظمى رضا الإنسان عن نفسه 470 354 فصل: الجزاء بالمرصاد 471 355 فصل: محاسبة النفس قبل أن تحاسب 474 356 فصل: عداوة الأقارب صعبة 476 357 فصل: المؤمن العاقل لا يلتفت إلى حاسده 477 358 فصل: ملاحظة من أهم الأشياء 478 359 فصل: أحوال الناس في العيد تشبه أحوالهم يوم القيامة 480 360 فصل: يتضمن نصيحة للعلماء والزهاد 481 361 فصل: تخليط بعض العلماء والعباد 482 362 فصل: جعل الله لأحوال الآدمي أمثلة ليعتبر بها 485 363 فصل: إنما فضل العقل بتأمل العواقب 486 364 فصل: هيهات أن يصح الدين مع تحصيل اللذات 487 365 فصل: تفاوت الناس في الفهوم 487 366 فصل: لذة الدنيا شيبت بالنغص 489 367 فصل: من حيل إبليس 490 368 فصل: اغتنام الزمان 491 369 فصل: في معاشرة النساء 493 370 فصل: فضل القناعة 494 371 فصل: التسليم للحكيم 496 372 فصل: من تلمح أحوال الدنيا علم أن مراد الحق اجتنابها 497 373 فصل: العاقل يدبر بعقله عيشته في الدنيا 498 لفتة الكبد إلى نصيحة الولد 374 المقدمة 499 1/ 375 فصل: تميز الآدمي بالعقل 500 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 559 موضوع الصفحة 2/ 376 فصل: معرفة الله بالدليل أول ما ينبغي النظر فيه 501 3/ 377 فصل: تدبير اللطيف بعبده الضعيف 502 4/ 378 فصل: اجتهد ما دام في الوقت سعة 504 5/ 379 فصل: النظر في حقيقة الدنيا 505 6/ 380 فصل: لا تيأس من الخير 506 7/ 381 فصل: العزلة أصل كل خير 508 8/ 382 فصل: اقتنع تعز 509 9/ 383 فصل: متى صحت التقوى رأي كل خير 509 10/ 384 فصل: سمو الهمة إلى الكمال 511 11/ 385 فصل: الحفظ رأس المال والتصرف ربح 511 12/ 386 فصل: من أعرض عن العمل منع البركة 512 13/ 387 فصل: على قدر انتفاعك بالعلم ينتفع السماعون 512 14/ 388 فصل: عليك بقراءة هذه الكتب 512 15/ 389 فصل: حسن المداراة 513 16/ 390 فصل: أد إلى كل ذي حق حقه 513 17/ 391 فصل: إننا من أولاد أبي بكر الصديق رضي الله عنه 514 * الفهارس العامة 515 1 فهرس الآيات 516 2 فهرس الأحاديث 525 3 فهرس الشعر 530 4 فهرس الأعلام والأقوام 535 5 فهرس البلدان 545 6 فهرس الكتب 547 7 فهرس الموضوعات 548 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 560