الكتاب: دراسات في علوم القرآن الكريم المؤلف: أ. د. فهد بن عبد الرحمن بن سليمان الرومي الناشر: حقوق الطبع محفوظة للمؤلف الطبعة: الثانية عشرة 1424هـ - 2003م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- دراسات في علوم القرآن - فهد الرومي فهد الرومي الكتاب: دراسات في علوم القرآن الكريم المؤلف: أ. د. فهد بن عبد الرحمن بن سليمان الرومي الناشر: حقوق الطبع محفوظة للمؤلف الطبعة: الثانية عشرة 1424هـ - 2003م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] مقدمة ... بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 1. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} 2. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} 3. أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدى محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. وإن القرآن كلام الله سبحانه أودع فيه الهدى والنور وأبان فيه العلم والحكمة، فأقبل العلماء ينهلون من معينه ويعبون من نُقَاخه، فاستنبط الفقهاء   1 سورة آل عمران: الآية 102. 2 سورة النساء: الآية 1. 3 سورة الأحزاب: الآيتان: 70، 71. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 من أحكامه، واهتدى أهل البيان بنظامه، وتفكر المتفكرون في قصصه وأخباره، وتأملت طائفة في حججه وبراهينه. وأقبلت طائفة على تاريخ نزوله ومكيه ومدنيه وأول ما نزل وآخر ما نزل وأسباب النزول، وجمعه وتدوينه وناسخه ومنسوخه ومجمله ومبينه وأمثاله وقصصه وأقسامه وجدله وتفسيره، حتى أصبحت هذه المباحث علومًا واسعة غاص في بحورها العلماء واستخرجوا منها الدرر، واتسعت هذه الأبحاث حتى احتاج الناس إلى من يجمعها بإيجاز، ويتحدث عنها باختصار. وقد ألف العلماء في كل عصر مؤلفات تناسب معاصريهم في الأسلوب والتنظيم والترتيب، وما زالوا يؤلفون وكل منهم يبذل جهده ويتحرى ما وسعه التحري أن يبسط هذه العلوم بأسلوب ميسر يدني فيه البعيد ويوضح فيه المستغلق ويجلو به المبهم. ثم رأيت أن أشارك بالتأليف في هذه العلوم بجهدي المقل وإن لم أكن من أربابها بأسلوب حرصت على أن يكون ميسرًا وبطريقة حرصت على أن تناسب الراغبين في التحصيل. وقد تتابعت طبعات هذه الكتاب وفي بعضها تصحيحات وإضافات يسيرة لا تتجاوز الصفحات المعدودة. وفي الطبعة -السابعة- أضفت عدة أبواب هي "الوحي" و"أول ما نزل وآخر ما نزل" و"إعجاز القرآن الكريم" و"رسم المصحف" وأضفت في الطبعة العاشرة عدة أبواب هي: "القراءات والقراء" و"المحكم والمتشابه" و"العام والخاص" و"المطلق والمقيد" و"المنطوق والمفهوم". أسأل الله العون والتوفيق إنه سميع مجيب المؤلف الرياض 15/ 8/ 1423هـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 تعريف علوم القرآن الكريم المعجزة الكبرى : خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان في أحسن تقويم. {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} 1 وركب خلقه من جسد وروح، وجعل للجسد غذاءه وللروح غذاءها. أما الجسد فجسم مادي يتغذى بالماديات وهي طعامه وشرابه وعلى الجسد أن يسعى لتحصيلها بالزراعة أو الصيد أو غيرها. وقد أعان الله الأجساد بتقريب غذائها إليها فليس عليها إلا أن تبذر البذرة أو تغرس الغرسة وترعاها فتنبت بإذن ربها، ولو سلب الله من النبات هذه الخاصية لما كان لهذه الأبدان من قوة للإنبات: {أَأَنْتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ} 2 وأدنى إليها الماء ليسهل إخراجه، ولو بعد غوره لما استطاعت إخراجه: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} 3. أما الروح وما أدراك ما الروح، فقد أعانها الله تعالى على تحصيل غذائها وأدناه إليها وأرسل الرسل تهدى إليه ووهب العقول تؤمن به. فإذا انحرفت أمة من الأمم عن سمت الصراط المستقيم أرسل الله   1 سورة التين: الآية 4. 2 سورة الواقعة: الآية 72. 3 سورة الملك: الآية 30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 إليهم رسولًا منهم يعيدهم إليه ويظهر الله على يديه من المعجزات ما يظهر بها صدقه وتقوم بها حجته. وقد كانت سنة الله تعالى في المعجزات أن تكون المعجزة التي يظهرها الله على يد كل نبي من أنبيائه من جنس ما برع فيه قومه وتفوقوا؛ حتى تكون أقوى حجة وأظهر برهانًا وأصدق دليلًا. والتحدي أقوى ما يكون إذا تحديت إنسانًا فيما ظهر فيه وتفوق، فإذا تحدى شاب في سباق طويل رجلًا عجوزًا لا يكاد يقوم من مقعده إلا بعصا تسنده، ولا يكاد يمشي إلا دبيبًا، فإن تحديه هذا يكون موضع سخرية وهزء لا محل احترام وتقدير، ولكن التحدي يلقي التقدير إن تحدى شابًّا اشتهر بسرعة عدوه وتفوق فيه. وهكذا كانت المعجزات التي يظهرها الله على يد أنبيائه تكون في نطاق ما يعرفون بل فيما فاقوا فيه معاصريهم. وتدبر -مثلًا- معجزة موسى عليه السلام. أرسله الله سبحانه وتعالى إلى قوم قد نالوا في السحر درجة وشأوًا بعيدًا حتى امتلأت البلاد منهم، والسحر له حد ينتهي إليه لا يتجاوزه، فالساحر لا يستطيع أن يحول قطعة ورق إلى فئة نقدية "حقيقة" بل "يخيل" لك ذلك فإذا غاب عنك عادت إلى الحقيقة فإذا بها قطعة ورق. والسحرة يلقون حبالهم وعصيهم أمام موسى "فيخيل" إليه أنها تسعى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} 1 وذلك لأنها لم تتحول حقيقة وإنما تحولت خيالًا. وحين ألقى موسى عليه السلام عصاه لم يقل الله: يخيل إليه أنها تسعى، وإنما قال سبحانه: {فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} 2.   1 سورة طه: الآية 66. 2 سورة طه: الآية 20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 ذلكم أنها تحولت إلى ثعبان حقًّا، وهذا لا يمكن حدوثه في عالم السحر1. إذًا فمعجزة موسى عليه السلام من جنس ما برع فيه قومه فكلاهما تحويل من حال إلى حال إلا أن السحر من حقيقة إلى خيال، وأما معجزة موسى فمن حقيقة إلى حقيقة وإذا عجز عنه أولئك فهم عن غيره مما لم يبرعوا فيه أعجز. ولهذا كان أول من أدرك إعجاز موسى عليه السلام هم السحرة أنفسهم أدركوا من فورهم أن معجزة موسى عليه السلام ليست بسحر، وأن السحر لا يصل إلى درجتها وإنها لا يمكن أن تكون من موسى بل هي من رب موسى2 وإذا كانت من ربه فإنما أظهرها على يديه لتكون حجة على صدقه فأذعنوا من فورهم واستولى الإيمان على قلوبهم ولم يستأذنوا أحدًا؛ لأن ما أدركوا أقوى من أن يترك لهم فرصة للتردد والتشاور. وانظر معجزة عيسى عليه السلام نما وازدهر الطب في عهده وبرع فيه قومه والطب له حده الذي ينتهي عنده في علاج الأبدان فهو يعالجها ما دامت الروح فيها لم تخرج، أما إذا خرجت فقد عجز الطب والأطباء ومن هنا بدأت معجزة عيسى عليه السلام حيث قال: {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ} 3. فمعجزته عليه السلام من جنس الطب الذي برع فيه قومه وإذا عجزوا   1 ينبغي أن نفرق هنا بين حقيقة السحر وتأثير السحر فتأثيره حقيقي فقد يؤثر في العين فترى ما لا حقيقة له، وقد يؤثر في القلوب فيكره الزوج زوجته، وتكره الزوجة زوجها ونحو ذلك. 2 لذلك لم يقل السحرة آمنا بموسى وإنما قالوا: {آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} [طه: 70] . 3 سورة آل عمران: الآية 49. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 عن الإتيان بمثل ما برعوا فيه فهم عن سواه أعجز، وبهذا تكون حجته على قومه أقوى وأظهر. أما صالح عليه السلام فقد أرسله الله تعالى إلى قوم كانوا ينحتون من الجبال بيوتًا، ولا تزال آثارهم باقية بزخارفها ونقوشها. والنحات مهما بلغ في فنه يقف عند حد التصوير لا يستطيع أبدًا أن يبعث الحياة فيما نحت وجاءت معجزة صالح بأن أخرج لهم بإذن الله من الصخر1 -الذي ينحتون منه- ناقة ذات روح تأكل وتشرب وتدر الحليب. والنحات يستطيع أن ينحت من الصخر شكل ناقة لكنه لا يستطيع أن يبعث فيها الحياة، فكانت المعجزة من جنس ما تفوقوا فيه وإن لم تكن مثله. أما العرب وقت بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم فإن نظرة فاحصة إلى مجتمعهم تظهر جليًّا أن المجتمع كان مجتمعًا جاهليًّا سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا. أما السياسة فكانت الحكومات تحيط بهم: الأكاسرة في فارس والقياصرة في الروم والمقوقس في مصر والنجاشي في الحبشة، أما الحجاز فلم يكن ثم ملك أو رئيس أو أمير، وإنما زعماء وصناديد لكل قبيلة تفرق أكثر مما تجمع وتشتت أكثر مما توحد؛ ولذا كان العرب أمة مستضعفة هانت على الآخرين يذهب زعماؤها إلى الشام مثلا ويدخلونها كما يدخلها أي إنسان لا مزية له ولا مقام، ولو سافر زعيم فارس إلى الروم لاستقبل بالحفاوة وضربت له السرادق واستقبل استقبالا مميزًا، أما زعماء العرب فكانوا يدخلون الأسواق ويبيعون ويشترون لم يعرف أحد بدخولهم ولم يبال أحد بخروجهم، فأنى لمثل هذه الزعامة أن يكون لها جانب مهاب. وأما الاقتصاد فقوامه الصناعة والزراعة والتجارة. أما الصناعة فلم يكن ثم صناعة وإن وجد صناع فنجار فارسي أو حداد رومي أو صناعات لا تكاد تذكر.   1 انظر: تفسير الطبري ج12 ص525 وما بعدها، وتفسير ابن كثير ج2 ص245. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 أما الزراعة فأرضهم غير ذات زرع وإن وجد فالمياه شحيحة والخبرة نادرة إلا النخيل على قلته فهو النوع الذي يمكن تخزينه والتجارة به من بلد إلى بلد وما سواه فإما أنه لا ينبت في أرضهم، أو لا يمكن الاحتفاظ به والاتجار لسرعة تلفه في مثل أجوائهم، فالزراعة ليست ذات جدوى اقتصادية في بلادهم. أما التجارة فكانت تقوم على رحلتين رحلة الشتاء إلى اليمن ورحمة الصيف إلى الشام وما ظنكم بتجارة تلكم وسائلها وإمكاناتها، وما تجدي بضاعة تحملها النوق من الشام أو من اليمن إلى مكة بعد مضي فترة طويلة بين رحلة وأخرى. وإذا كانت الصناعة والزراعة والتجارة على هذا الحال فكيف سيكون اقتصاد البلاد!! وإذا كان هذا اقتصادهم فكيف ستكون حالتهم المعيشية. وفي الناحية الاجتماعية كانوا قبائل شتى تقع الحرب بين القبيلتين لأتفه سبب وأهونه وتشعل الحرب في أيام ولا تنطفئ إلا بعد سنوات. حتى الأسرة يبدو التفكك فيها ظاهرًا وكيف ترجو الترابط الأسري في مجتمع يمتهن المرأة ويعاملها كالسلعة تباع وتشترى وتوهب وتكترى وتورث كما يورث متاع الدار، ومن ثم فلا تعجب إن خمدت عاطفة الأبوة فيقدم الأب على قتل أولاده لا لشيء إلا خشية الإملاق، ويدفن ابنته وهي حية لا لشيء إلا خشية العار. تأمل في هذا المجتمع حيث لا سياسة توحد صفوفهم ولا اقتصاد يجمع كلمتهم ويوصد مصالحهم، ولا سلام يسود بينهم، ديدنهم توارث العداوات والأحقاد ودأبهم السلب والنهب ومعبودهم الأصنام والأوثان. وإذا كان الأمر كذلك لا سياسة تشغلهم في بحث شئون الدولة وإصدار الأنظمة والقوانين وبحث العلاقات السياسية مع الدول المجاورة ولا اقتصاد يجمعهم للتداول في أمره والتماس السبل الاقتصادية والمعاملات التجارية أو صناعة تشغل وقتهم أو زراعة تملأ فراغهم، إذا كان الأمر كذلك فإن الفراغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 عندهم كبير لم يجدوا ما يملئوه به إلا الاجتماع في الأسواق والدور وأهون ما تملأ به هذه المجالس هي المحادثة فلا عجب أن برع هؤلاء في أساليبها وتذوقوا بليغها وطربوا لبيانها وبديعها. ولا عجب أن عقدوا للكلمة أسواقا1 يعرضون فيها قصائدهم وخطبهم وأن ترسل كل قبيلة وفدها يلتف حول شاعرها يمدح قبيلته ويمجد مآثرها ويعلن محاسن قومه والناس يصدقون الشاعر، وإن كانوا يعلمون كذبه ويرددون أبياته وإن كانوا يعرفون مبالغتها أو افترائها. ولا عجب ما دامت هذه مكانة الكلمة أن تهون قبيلة إذا هجيت بقصيدة وإن كانت كاذبة وأن يرفع أتباع القبيلة رءوسهم فخرا إن مدحوا بقصيدة، وما ذاك إلا لسلطة الكلمة بينهم فالكلمة في تلك الفترة لها سلطتها ترفع فيهم وتضع. وحين أراد الله سبحانه وتعالى بهذه الأمة خيرا واقتضت حكمته أن يبعث إليهم رسولا يخرجهم من الظلمات إلى النور؛ جاءت المعجزة وفق سنة الله في إظهار المعجزات التي جاءت على أيدي الأنبياء من قبله. فكانت معجزته -صلى الله عليه وسلم- من جنس ما تفوقوا فيه وملك ألبابهم وسيطر على عقولهم جاءت معجزته قرآنا يقرأ ويسمع ويمسك البلاعة من أطرافها ويملك الإعجاز من مجامعه. وحين ناوءوه وحاربوه وطاروده هو وأهله وعشيرته وأصحابه وبذلوا كل ما يستطيعون للقضاء على دعوته أظهر لهم سبيلا واحدا لذلك إن استطاعوا بأن يأتوا بمثل هذه القرآن أو بمثل عشر سور أو بمثل سورة أو بمثل حديث منه وكان هذا العرض أشد عليهم مما هم عليه من حربه لأنهم في حربه يؤملون القضاء على دعوته أما فيما تحداهم فيه فإنهم يعرفون سلفا عجزهم عن الإتيان بمثل هذا القرآن ومن ثم لم يحاول أحد منهم -مجرد محاولة- أن يأتي بمثل هذا لأنه يعرف -سلفا- أن لا سبيل إلى ذلك وأن   1 مثل سوق المُشَعَّر بالبحرين وسوق الشَّحْر بين عمان وعدن وسوق ذي المجاز في عرفة بمكة. وسوق مجنة وسوق عكاظ بالطائف وسوق حباشة بمكة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 مجرد المحاولة سيجعله مثار هزء وسخرية أمام مجتمعة تمامًا، كمثل محاولة ذاك الذي يحاول أن يقفز بقدميه ناطحة من ناطحات السحاب. إن مجرد محاولته مثار هزء وسخرية فاختاروا سبيل الحرب مع شدته على الإتيان بمثل هذا القرآن. فإن قلت إذا كان القوم يدركون إعجاز القرآن فلم لم يؤثر في قلوبهم ويذعنون له؟ "قلت": إن القوم أدركوا هذا التأثير ولم يقفوا منه موقف المتفرج وإنما سعوا بكل ما في وسعهم لمحاصرته. فكانوا يحذرون من مجالسة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وكانوا يستقبلون القوافل القادمة إلى مكة ويحذرونهم أول ما يحذورنهم من مجالسة محمد -صلى الله عليه وسلم- أو الاستماع إليه. فإن صدع صلى الله عليه وسلم في مجتمع بالقرآن وجهر به ضجوا بأصواتهم حتى لا يصل صوته إلى الآذان: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} 1 لأنهم يعرفون أن مجرد السماع له تأثيره القوى. {وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} 2. لكن هذا التأثير عند سماع القرآن لا يجدي إذا كان هناك عناد واستكبار لأن العناد لا تجدي معه حجة ولا ينفع معه البرهان. وكان العناد هو المانع لكثير من أهل مكة عن الإسلام وحين لا يكون ثم عناد نرى التأثير القرآني، فأهل المدينة مثلا أرسل إليهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- رجلين هما مصعب بن عمير وعبد الله ابن أم مكتوم3 رضي الله عنهما، فجلسا هناك يقرآن القرآن والناس يستمعون ولم يلبثوا إلا يسيرا حتى دخلت   1 سورة فصلت: الآية 26. 2 سورة التوبة: الآية 6. 3 انظر: سيرة هشام ج2 ص77، 79، والكامل في التاريخ: ابن الأثير ج2 ص67، 68. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 المدينة في الإسلام وفتحت أبوابها لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولهذا قيل: "فتحت البلاد بالسيف وفتحت المدينة بالقرآن"1. فإن قلت: ما الدليل على أن العناد هو المانع من التأثر بالقرآن قلت: الأدلة كثيرة يكفي منها اعتراف صريح لزعيم من زعماء قريش هو أبو جهل، فقد روى ابن هشام أن أبا سفيان بن حرب وأبا جهل بن هشام والأخنس بن شريق خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يصلي من الليل في بيته، فأخذ كل رجل منهم مجلسًا يستمع فيه، وكل لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فتلاوموا وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئًا، ثم انصرفوا ... وحصل في الليلة الثانية ما حصل في الأولى.. وحين التقوا في الليلة الثالثة قال بعضهم لبعض: لا نبرح أبا جهل عن رأيه فيما سمعه من محمد فقال: ماذا سمعت! تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف. أطعموا فأطعمنا وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاذبنا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك مثل هذا!! والله لا نؤمن أبدًا ولا نصدقه2. والتقى الأخنس بن شريق، وأبو جهل بن هشام فقال الأخنس لأبي جهل: يا أبا الحكم، أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس ههنا أحد يسمع كلامك غيري. فقال أبو جهل: والله إن محمدًا لصادق، وما كذب محمد قط، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والندوة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش؟ "3. حتى أبو طالب عم الرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أدرك صدق الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولم يمنعه   1 مجمع الزوائد: الهيثمي ج3 ص298. 2 سيرة ابن هشام: ج1 ص337، 338. 3 أسباب النزول: الواحدي ص218 في الآية: 33 الأنعام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 من الإسلام إلا خشية الملامة من قومه والمسبة فهو يقول: فوالله لولا أن أجيء بسبة ... تجر على أشياخنا في المحافل لكنا اتبعناه على كل حالة ... من الدهر جدا غير قول التهازل لقد علموا أن ابننا لا مكذب ... لدينا ولا يعنى بقول الأباطل إلى أن قال: فأيده رب العباد بنصره ... وأظهره دينا حقه غير باطل1 وقال أيضًا: ولقد علمت بأن دين محمد ... من خير أديان البرية دينا لولا الملامة أو حذار مسبة ... لوجدتني سمحًا بذاك مبينًا كما حكى القرآن الكريم اعتراف الكفار بسلامة القرآن وإعجازه، واعترافهم أن المانع لإسلامهم واقتناعهم ليس الضعف في حجج القرآن وبراهينه، وإنما هو الحسد أن ينزل هذا القرآن على محمد: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} 2. ويظهر هذا في قول الوليد بن المغيرة حين قال: "أينزل على محمد وأترك وأنا كبير قريش وسيدها"3. وبلغ عنادهم أقصاه حين أعلنوا رفضهم لقبوله حتى وإن كان حقا حين قالوا: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} 4. ولعل في هذا دليلًا ظاهرًا على أن المانع من إيمان أولئك كان العناد.   1 سيرة ابن هشام ج1 ص299. 2 سورة الزخرف: الآية31. 3 سيرة ابن هشام: ج1 ص387. 4 سورة الأنفال: الآية32. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 أما طالبو الحق فقد ملك القرآن أفئدتهم وهيمن على قلوبهم وزادهم خشوعًا فأذعنوا وأسلموا وأقبلوا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتلو عليهم الآيات ويزكيهم. وقد كان أصحابه رضوان الله علهيم عربًا خلصًا يفهمون القرآن الكريم بمقتضى اللغة والسليقة العربية فإن اشتبه عليهم لفظ أو غمض عليهم معنى سأل بعضهم بعضًا وإلا سألوا الرسول -صلى الله عليه وسلم- فبينه لهم. وما زالوا يقرءون القرآن ويتدبرون معانيه ويتدارسون أحكامه حتى حفظه كثير منهم واشتهر آخرون بدقة تفسيره واشتهرت طائفة بإحكام تلاوته؛ وبهذا نشأت علوم القرآن الكريم في وقت مبكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 تعريف علوم القرآن : علوم القرآن مركب إضافي يتكون من كلمتين "علوم" و"القرآن" والمقام يقتضي أن نعرف كل كلمة وحدها لغة واصطلاحًا ثم نعقب على ذلك بتعريفهما معا مركبتين تركيبا إضافيًّا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 تعريف العلوم : العلوم جمع علم والعلم نقيض الجهل وهو مصدر مرادف للفهم والمعرفة ويراد به إدراك الشيء بحقيقته أو اليقين أو هو نور يقذفه الله في القلب. ويطلق العلم على مجموع مسائل وأصول كلية تجمعها جهة واحدة مثل علم النحو، وعلم الطب، وعلم الكيمياء. ويجمع على "علوم" وقد تسمى به المباحث التي تتناول موضوعًا واحدًا مثل: علوم العربية، والعلوم الطبيعية، والعلوم التجريبية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 تعريف القرآن مدخل ... تعريف القرآن: من رحمة الله بعباده حين خلقهم أن أمدهم بما يهديهم إلى صراطه المستقيم الذي كلفهم بالاستقامة عليه. فزودهم بالفطرة التي ترشدهم إلى الحق وتدلهم عليه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} 1. وأرسل إليهم الرسل تصحح لهم عقائدهم وتهديهم إلى ما فيه الخير لهم في الدنيا والآخرة وتبشرهم وتنذرهم: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} 2. وأنزل معهم الكتب تبسط دعوتهم وترسي قواعد دينهم وتجلو لهم أمور عقيدتهم. وما زال الأنبياء يتتابعون ويبنون صلاح الدين الإسلامي حتى بعث الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأنزل معه القرآن الكريم فأكمل الله به الدين وأكمل به الرسالة فكان خاتم الأنبياء، وكان القرآن خاتم الكتب السماوية، "إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتًا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة، قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين" 3. وتوفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبقي هذا القرآن محفوظًا من التحريف والتبديل معلنا عموم رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى الناس كافة: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} 4 {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} 5. فلا عجب أن يكون في القرآن الكريم العلاج الحاسم والدواء الناجع لجميع ما يعترض الحياة الإنسانية في مسيرتها من أمراض روحية وعقلية واجتماعية واقتصادية وسياسية، فهو تنزيل من حكيم حميد يعلم أمراض البشرية في ماضيها وحاضرها ومستقبلها ويعلم علاج كل داء فضمنه القرآن الكريم وجعله باقيًا إلى يوم القيامة. فمتى ابتغت البشرية العلاج من غيره فقد ضلت ومن حكم بغيره فقد ظلم فهو العصمة لمن تمسك به وهو النجاة لمن اتبعه.   1 سورة الأعراف: الآية 172. 2 سورة النساء: الآية 165. 3 رواه البخاري ج4 ص162، ورواه مسلم ج4 ص1791. 4 سورة الأعراف: الآية 158. 5 سورة الفرقان: الآية 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 تعريف القرآن لغة : اختلف العلماء -رحمهم الله تعالى- في لفظ القرآن لكنهم اتفقوا على أنه اسم فليس بفعل ولا حرف. وهذا الاسم شأنه شأن الأسماء في العربية إما أن يكون جامدا أو مشتقا. فذهب جماعة من العلماء منهم الشافعي إلى أنه اسم جامد غير مهموز وبه قرأ ابن كثير وهو اسم للقرآن مثل التوراة والإنجيل. وذهبت طائفة إلى أن هذا الاسم مشتق ثم افترقوا إلى فرقتين: فقالت فرقة منهم إن النون أصلية وعلى هذا يكون الاسم مشتقا من مادة "ق ر ن" ثم اختلفوا: 1- فقالت طائفة منهم الأشعري1: إنه مشتق من قرنت الشيء بالشيء إذا ضممته إليه ومنه قولهم: قرن بين البعيرين إذا جمع بينهما ومنه سمي الجمع بين الحج والعمرة في إحرام واحد قران. 2- وقالت طائفة منهم الفراء2: إنه مشتق من القرائن جمع قرينة لأن آياته يشبه بعضها بعضا. وقالت فرقة منهم: إن الهمزة أصلية ثم افترقوا أيضا إلى فرقتين: 1- فقالت طائفة منهم اللحياني3: إن القرآن مصدر مهموز بوزن الغفران مشتق من قرأ بمعنى تلا سمي به المقروء تسمية للمفعول بالمصدر   1 البرهان في علوم القرآن: الزركشي ج1 ص278. 2 الاتقان: ج1 ص87. 3 المرجع السابق: نفس الموضع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 ومنه قوله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} 1 أي قراءته. 2- وقالت طائفة منهم الزجاج2: إنه وصف على وزن فعلان مشتق من القَرْء بمعنى الجمع ومنه: قرأ الماء في الحوض إذا جمعه قال ابن الأثير: "وسمي القرآن قرآنًا لأنه جمع القصص والأمر والنهي والوعد والوعيد والآيات والسور بعضها إلى بعض وهو مصدر كالغفران والكفران"3. تلكم خلاصة الأقوال في تعريف القرآن لغة ولعل الرسم التوضيحي يزيدها بيانا ونستطيع أن نصور هذه الأقوال بطريقتين:   1 سورة القيامة: الآية 17-18. 2 البرهان في علوم القرآن: الزركشي ج1 ص278. 3 النهاية في غريب الحديث والأثر: ابن الأثير ج4 ص30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 تعريف القرآن اصطلاحًا: اختص القرآن الكريم بخصائص كثيرة ولعل هذه الخصائص سبب الاختلاف في تعريف القرآن بين العلماء، فكل تعريف يذكر خاصية للقرآن يعرف بها لا يذكرها الآخر ولهذا تعددت التعريفات. فإذا كان هناك رجل طويل ويلبس ثوبًا أبيض ورداء أحمر وحوله أشخاص أقصر منه قامة ويلبسون ثيابًا ملونة وأردية بيضًا، فإن قلت: فلان هو الطويل فقد عرفته، وإن قلت: إنه الذي يلبس الثوب الأبيض فقد عرفته وإن قلت الذي يلبس الرداء الأحمر فقد عرفته والمقصود في الكل واحد وإن اختلفت التعريفات. وللعلماء في تعريف القرآن الكريم صيغ متعددة بعضها طويل ولعل أقربها تعريفهم للقرآن بأنه: "كلام الله تعالى المنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- المتعبد بتلاوته". شرح التعريف: فقولنا: كلام الله: خرج به كلام الإنس والجن والملائكة. وقولنا: المنزل: خرج به ما استأثر الله بعلمه أو ألقاه إلى ملائكته ليعملوا به لا لينزلوه على أحد من البشر، ذلكم أن من كلام الله ما ينزله إلى الناس ومنها ما يستأثر بعلمه: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} 1. {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} 2. وقولنا: على محمد -صلى الله عليه وسلم- خرج به المنزل على غيره من الأنبياء كالتوراة   1 سورة الكهف: الآية 109. 2 سورة لقمان: الآية 27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 المنزلة على موسى عليه السلاة والإنجيل المنزل على عيسى عليه السلام والزبور المنزل على داود عليه السلام والصحف المنزلة على إبراهيم عليه السلام. وقولنا: المتعبد بتلاوته خرجت به الأحاديث القدسية ونريد بالمتعبد بتلاوته أمرين: الأول: أنه المقروء في الصلاة والذي لا تصح الصلاة إلا به، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" 1. الثاني: أن الثواب على تلاوته لا يعادله ثواب أي تلاوة لغيره فقد ورد في فضل تلاوة القرآن من النصوص ما يميزها عن غيرها، فقد روى ابن مسعود -رضي الله عنه- أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: "من قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول ألم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف" 2. وليس هذا الثواب لغير التعبد بتلاوة القرآن الكريم.   1 صحيح البخاري ج1 ص184، وصحيح مسلم ج1 ص295. 2 رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح ج5 ص175، والدارمي ج2 ص429. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 الفروق بين القرآن الكريم والأحاديث القدسية : لعل من المناسب أن نذكر بعض الفروق بين القرآن الكريم والأحاديث القدسية حتى لا يتوهم أحد أن الفرق بينهما مقصور على التعبد بتلاوة القرآن دون الحديث القدسي. إذ إن هناك فروقًا كثيرة ذكر العلماء منها: 1- أن القرآن الكريم تحدى الله الناس أن يأتوا بمثله أو بعشر سور مثله أو بسورة من مثله أو بحديث مثله فعجزوا أما الحديث القدسي فلم يقع به التحدي والإعجاز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 2- أن القرآن الكريم منقول بطريق التواتر فهو قطعي الثبوت كله سوره وآياته وجمله ومفرداته وحروفه وحركاته وسكناته، أما الحديث القدسي فأغلبه أحاديث آحاد ظني الثبوت. 3- أن القرآن الكريم من عند الله لفظًا ومعنى، أما الحديث القدسي فمعناه من الله باتفاق العلماء، أما لفظه فاختلف فيه. 4- أن القرآن الكريم لا ينسب إلا إلى الله تعالى أما الحديث القدسي فينسب إلى الله تعالى نسبة إنشاء فيقال: قال الله تعالى: ويروى مضافًا إلى الرسول الله -صلى الله عليه وسلم- نسبة إخبار فيقال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه. 5- أن القرآن الكريم لا يمسه إلا المطهرون أما الحديث القدسي فيمسه الطاهر وغيره. 6- أن القرآن الكريم متعبد بتلاوته من وجهين -كما سبق بيانه. أ- أن الصلاة لا تصح إلا بتلاوة القرآن دون الحديث القدسي. ب- أن ثواب تلاوة القرآن ثواب عظيم كما جاء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه: "من قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول آلم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف" 1 والحديث القدسي ليس في تلاوته الثواب الوارد لتلاوة القرآن الكريم. 7- أن القرآن الكريم تحرم روايته بالمعنى أما الحديث القدسي فلا تحرم روايته بالمعنى. 8- أن القرآن الكريم لا يكون إلا بوحي جلي وذلك بنزول جبريل عليه السلام على الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقظة فلم ينزل شيء من القرآن على الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالإلهام أو في المنام، أما الحديث القدسي فنزل بالوحي الجلي والخفي.   1 رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح ج5 ص175، والدارمي ج2 ص429. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 أما ما ورد في صحيح مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: بينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفي ثم رفع رأسه متبسمًا فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله! قال: "أنزلت عليَّ آنفًا سورة" فقرأ: "بسم الله الرحمن الرحيم: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} " الحديث1. فالواقع أن هذه الإغفاءة ليست إغفاءة نوم ولعلها الحال التي تأتيه عند الوحي حيث يصيبه صلى الله عليه وسلم، ثقل في الجسم وتفصد العرق وشبه إغفاءة نوم والله أعلم. 9- أن القرآن الكريم يحرم بيعه عند الإمام أحمد وقال: "لا أعلم في بيع المصاحف رخصة" ورخص في شرائها وقال: الشراء أهون. ورخص في بيعها الشافعي وأصحاب الرأي2. 10- أن القرآن الكريم تسمى الجملة منه آية والجملة من الآيات سورة، والأحاديث القدسية لا يسمى بعضها آية ولا سورة باتفاق. 11- أن القرآن الكريم يكفر من جحد شيئًا منه، أما الحديث القدسي فلا يكفر من جحد غير المتواتر منه. 12- أن القرآن الكريم يشرع الجمع بين الاستعاذة والبسملة عند تلاوته. دون الحديث القدسي. 13- القرآن الكريم يكتب برسم خاص هو رسم المصحف دون الحديث القدسي3.   1 رواه مسلم ج1 ص300. 2 المغني: ابن قدامة ج6 ص367. 3 لعله من المناسب أن نذكر هنا تعريف الحديث القدسي في الاصطلاح وهو -كما قال العلماء: ما يضيفه النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الله تعالى، ولروايته صيغتان: الأولى أن يقول الراوي: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه عز وجل، والثانية: أن يقول: قال رسول الله عليه وسلم: قال الله تعالى أو يقول الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 أسماء القرآن الكريم وصفاته مدخل ... أسماء القرآن الكريم وصفاته: للقرآن الكريم أسماء وصفات كثيرة وردت في بعض الآيات والأحاديث النبوية. ولكثرة هذه الأسماء والصفات فقد أفردها بعض العلماء بمؤلفات مستقلة منهم: 1- علي بن أحمد بن الحسن التجيبي الحرَّالي المتوفى سنة 647هـ. 2- ابن قيم الجوزية المتوفى سنة 751هـ واسم كتابه "شرح أسماء الكتاب العزيز". 3- صالح بن إبراهيم البليهي "معاصر" واسم كتابه "الهدى والبيان في أسماء القرآن" وهو مطبوع. 4- محمد جميل أحمد غازي "معاصر" واسم كتابه "أسماء القرآن في القرآن". مطبوع. 5- د. خمساوي أحمد الخمساوي "معاصر" واسم كتابه "أسماء القرآن الكريم في القرآن". مطبوع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 عدد أسماء القرآن الكريم : وقد وقع الاختلاف بين العلماء رحمهم الله تعالى في عدد أسماء القرآن الكريم، فذكر الزركشي أن الحرَّالي أنهى أساميه إلى نيف وتسعين اسمًا1. لكن الزركشي نفسه لا يورد إلا خمسة وخمسين اسمًا نقلها عن أبي المعالي عزيزي بن عبد الملك المعروف بشيدله2. أما الفيروزآبادي فقد قال في كتابه "بصائر ذوى التمييز": "ذكر الله تعالى للقرآن مائة اسم نسوقها على نسق واحد"3 لكنه -رحمه الله تعالى-   1، 2 البرهان في علوم القرآن: الزركشي ج1 ص273. 3 بصائر ذوى التمييز: الفيروزآبادي ج1 ص88. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 لم يذكر إلا تسعة وثمانين اسمًا وزادها أربعة أسماء فتكون جملتها ثلاثة وتسعين اسمًا في القرآن للقرآن. وذكر الدكتور خمساوي تسعة وتسعين اسمًا مشتقة كما يقول من اثنين وسبعين مادة لغوية1. ولم يورد الشيخ صالح البليهي -رحمه الله تعالى- إلا ستة وأربعين اسمًا لاعتقاده أن بعض هذا العدد -إن لم يكن أكثره- أوصاف للقرآن وليست بأسماء2. ومن أسماء القرآن الكريم: 1- القرآن: في قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} 3. 2- الكتاب: في قوله تعالى: {الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} 4. 3- الذكر: في قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 5. 4- الفرقان: في قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} 6. 5- النور: في قوله تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا} 7. ومن صفات القرآن الكريم: 1- المبارك: في قوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} 8. 2- هدى، ورحمة: في قوله تعالى: {هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِين} 9. 3- الكريم: في قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} 10. 4- الحكيم: في قوله تعالى: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} 11. 5- الفصل: في قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْل} 12.   1 أسماء القرآن الكريم في القرآن: د. خمساوي الخمساوي ص5. 2 الهدى والبيان في أسماء القرآن: صالح البليهي ص44. 3 سورة الواقعة: الآية 77. 4 سورة البقرة: الآية 1. 5 سورة الحجر: الآية 9. 6 سورة الفرقان: الآية 1. 7 سورة التغابن: الآية 8. 8 سورة الأنعام: الآية 92. 9 سورة لقمان: الآية 3. 10 سورة الواقعة: الآية 77. 11 سورة يونس: الآية 1. 12 سورة الطارق: الآية 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 حكمة تعدد أسماء القرآن الكريم : وقد بين العلماء -رحمهم الله تعالى- حكمة تعدد الأسماء للقرآن الكريم فقال الفيروزآبادي -رحمه الله تعالى: "اعلم أن كثرة الأسماء تدل على شرف المسمى أو كماله في أمر من الأمور، أما ترى أن كثرة أسماء الأسد دلت على كمال قوته، وكثرة أسماء القيامة دلت على كمال شدته وصعوبته وكثرة أسماء الداهية دلت على شدة نكايتها، وكذلك كثرة أسماء الله تعالى دلت على كمال جلال عظمته، وكثرة أسماء النبي -صلى الله عليه وسلم- دلت على علو رتبته وسمو درجته وكذلك كثرة أسماء القرآن دلت على شرفه وفضيلته"1.   1 بصائر ذوي التمييز: الفيروزآبادي ج1 ص88. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 الاشتراك والامتياز بين أسماء القرآن الكريم : وبين أسماء القرآن الكريم الكثيرة اشتراك وامتياز، فهي تشترك في دلالتها على ذات واحدة هي القرآن الكريم نفسه ويمتاز كل واحد منها عن الآخر بدلالته على معنى خاص، فكل اسم للقرآن يدل على حصول معناه فيه، فتسميته مثلا بالهدى يدل على الهداية فيه، وتسميته بالتذكرة يدل على أن فيه ذكرى، وهكذا1. كما قال ابن تيمية -رحمه الله تعالى- عن لفظ السيف والصارم والمهند.. فإنها تشترك في دلالتها على الذات فهي من هذا الوجه كالمتواطئة، ويمتاز كل منها بدلالته على معنى خاص فتشبه المتباينة وأسماء الله وأسماء رسوله وكتابه من هذا الباب2.   1 خصائص القرآن الكريم: فهد الرومي ص123. 2 مجموع فتاوى ابن تيمية ج20 ص494. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 مصدر أسماء القرآن الكريم : وأسماء القرآن الكريم وصفاته توقيفية لا نسميه ولا نصفه إلا بما جاء في الكتاب أو في السنة النبوية الشريفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 الفروق بين المصحف والقرآن الكريم ... الفرق بين المصحف والقرآن الكريم: فإن قلت: أرأيت تسميته بالمصحف هل وردت في الكتاب أو السنة؟ قلت: إن المصحف ليس اسمًا للقرآن ذاته وإنما هو اسم للصحف التي كتب عليها القرآن، ولم يطلق عليه "المصحف" إلا بعد جمع القرآن الكريم في عهد أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- في صحف ضم بعضها إلى بعض فسميت مصحفًا. ولهذا نرى العلماء يتحدثون عن حكم بيع المصحف، ولم يقل أحد منهم بيع القرآن، فالقرآن كلام الله تعالى، أما المصحف فهو من عمل البشر وصناعتهم التي يبتغون بها الرزق والكسب الحلال1. ولهذا أيضًا لا يصح أن يجمع لفظ القرآن لأن القرآن واحد لا يختلف في كل المصاحف، أما المصاحف فيصح جمعه فيقال "مصاحف" لأن كل واحد منها أو مجموعة تختلف عن الأخرى. ولهذا -أيضا- لا يقال قرآن عثمان أو قرآن علي أو قرآن أبي وأما المصحف فيصح أن يقال: مصحف عثمان ومصحف علي ومصحف أبي بن كعب ومصحف ابن مسعود رضي الله عنهم؛ لأن هذه المصاحف من عملهم دون القرآن.   1 خصائص القرآن الكريم: فهد الرومي ص124. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 فائدة في تسميته بالقرآن والكتاب : وهناك إشارة دقيقة استنبطها بعض العلماء من تسميته بالقرآن والكتاب فقال: روعي في تسميته قرآنا كونه متلوا بالألسن كما روعي في تسميته كتابا كونه مدونًا بالأقلام، فكلتا التسميتين من تسمية شيء بالمعنى الواقع عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 وفيه تسميته بهذين الاسمين إشارة إلى أن من حقه العناية بحفظه في موضعين لا في موضع واحد، أعني أنه يجب حفظه في الصدور، والسطور جمعيًا. أن تضل إحداهما فتذكر الأخرى، فلا ثقة لنا بحفظ حافظ حتى يوافق الرسم المجمع عليه من الأصحاب المنقول إلينا جيلا بعد جيل على هيئته التي وضع عليها أول مرة، ولا ثقة لنا بكتابة كاتب حتى يوافق ما هو عند الحفاظ بالإسناد الصحيح المتواتر. وبهذه العناية المزدوجة التي بعثها الله في نفوس الأمة المحمدية اقتداء بنبيها بقي القرآن محفوظا في حرز حريز1.   1 النبأ العظيم: د. محمد عبد الله دراز، ص12، 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 تعريف علوم القرآن مدخل ... تعريف علوم القرآن: لعلوم القرآن معنيان: معنى إضافي ومعنى علم على الفن المدون وإليك بيان ذلك: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 المعنى الإضافي : اعلم أن الإضافة بين "علوم" و"القرآن" تشير إلى أنواع العلوم والمعارف المتصلة بالقرآن الكريم سواء كانت خادمة للقرآن بمسائلها أو أحكامها أو مفرداتها، أو أن القرآن دل على مسائلها أو أرشد إلى أحكامها. فيشمل كل علم خدم القرآن أو استند إليه كعلم التفسير وعلم التجويد وعلم الناسخ والمنسوخ وعلم الفقه وعلم التوحيد وعلم الفرائض وعلم اللغة وغير ذلك. بل توسع بعض العلماء فعد منها علم الهيئة والفلك والجبر والهندسة والطب وغيرها1 والحق أنه وإن كان القرآن الكريم يدعو إلى تعلمها إلا أنه لا يجمل عدها من علوم القرآن هناك فرقًا كبيرًا بين الشيء يحث القرآن   1 الاتقان: السيوطي ج2 ص127. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 على تعلمه في عمومياته أو خصوصياته وبين العلم يدل القرآن على مسائله أو يرشد إلى أحكامه1. وبهذا يظهر لك أن علوم القرآن بالمعنى الإضافي تشمل كل العلوم الدينية والعربية.   1 مناهل العرفان: الزرقاني، ج1 ص17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 معناه كفن مدون : ثم نقل المعنى الإضافي وجعل علمًا على الفن المدون وأصبح مدلوله كفن مدون أخص من مدلوله بالمعنى الإضافي. ويعرف علوم القرآن كفن مدون بأنه: مباحث تتعلق بالقرآن الكريم من ناحية نزوله وجمعه وقراءاته وتفسيره وناسخه ومنسوخه وأسباب نزوله ومكيه ومدنيه ونحو ذلك. ويسمى هذا العلم بـ"أصول التفسير" لأنه يتناول العلوم التي يشترط على المفسر معرفتها والعلم بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 موضوع علوم القرآن الكريم مدخل ... موضوع علوم القرآن الكريم: هو القرآن الكريم من أية ناحية من النواحي المذكورة في التعريف1.   1 المرجع السابق: ج1 ص20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 فضله وشرفه ومكانته : علوم القرآن الكريم من أفضل العلوم وأشرفها وأسماها كما قال ابن الجوزي -رحمه الله تعالى: "لما كان القرآن العزيز أشرف العلوم كان الفهم لمعانيه أوفى الفهوم؛ لأن شرف العلم بشرف المعلوم"1.   1 زاد المسير في علم التفسير: ابن الجوزي ج1 ص3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 ثمرة علوم القرآن الكريم : 1- تيسير تفسير القرآن الكريم فهي مفتاح باب التفسير ولا يصح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 لأحد أن يفسر القرآن الكريم قبل أن يتعلم علوم القرآن1. 2- معرفة الجهود العظيمة التي بذلها السلف لدراسة القرآن الكريم وعنايتهم الكبرى به وبعلومه التي كان لها الأثر في حفظه من التغيير والتبديل. 3- التسلح بمجموعة من المعارف القيمة التي تمكن من الدفاع عن هذا الكتاب العزيز ضد من يتعرض له من أعداء الإسلام، ويبث الشكوك والشبهات في عقائده وأحكامه وتعاليمه. 4- الثقافة العالية العامة في القرآن الكريم.   1 مناهل العرفان: ج1 ص20، 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 نشأة علوم القرآن الكريم وتطورها في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ... نشأة علوم القرآن وتطورها في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم: حين نزل جبريل على الرسول -صلى الله عليه وسلم- في غار حراء بصدر سورة اقرأ نزل عليه الصلاة والسلام وذهب إلى زوجته خديجة -رضي الله عنها- وأخبرها بما حدث في الغار وتلا عليها الآيات من حفظه. وحين أمر الله سبحانه وتعالى نبيه بأن يصدع بما يؤمر، وأن يعلن الدعوة إلى الإسلام امتثل الرسول -صلى الله عليه وسلم- الأمر فدعا الناس إلى الإسلام, وأقبل من أسلم منهم على القرآن الكريم يتلونه حق التلاوة ويجتمعون في دار الأرقم بن أبي الأرقم لحفظه وتدبر آياته وكانوا عربًا خلصًا يفهمون القرآن بمقتضى السليقة العربية فإن أشكل عليهم معنى أو غمض عليهم مرمى سأل بعضهم بعضًا, فقد يكون أحدهم أعلم من الآخر فإن أشكل عليهم سألوا الرسول -صلى الله عليه وسلم- فبينه لهم. وبهذا ندرك أن علوم القرآن نشأت منذ وقت مبكر في الإسلام بل منذ أشرقت شمس الإسلام؛ ذلكم أن حفظ القرآن وتلاوته وتدبره وتفسيره من أهم علوم القرآن الكريم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 في عهد الصحابة رضي الله عنهم : وإذا نظرنا إلى حال الصحابة رضوان الله عليهم وجدناهم يتعلمون علوم القرآن مشافهة, ولم يعرف عندهم تدوين لعلوم القرآن لعدة أسباب أهمها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 1- أن أغلب الصحابة كان أميا لا يعرف القراءة ولا الكتابة. 2- أن أدوات الكتابة لم تكن متوافرة عندهم. 3- أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- نهاهم عن كتابة شيء غير القرآن بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تكتبوا عني ومن كتب عني غير القرآن فليمحه" 1. ويعتقد بعض الناس أن الرسول -عليه الصلاة والسلام- إنما نهى الصحابة عن كتابة شيء غير القرآن خشية أن يلتبس بغيره ويظهر لي -والله أعلم- أن هذا ليس بصحيح ذلكم أن القوم كانوا ذوي ذكاء في القريحة، وتذوق للبيان، وتقدير للأساليب ووزن لما يسمعون بأدق المعايير ويدركون إعجاز القرآن الكريم -بمجرد سماعه- إدراكًا تامًّا يأخذ منهم بالألباب ويسيطر منهم على الأفئدة فأنى لهم أن يختلط عندهم بغيره من كلام البشر، بل العلة في ذلك أنه صلى الله عليه وسلم أراد توزيع مسئولية التبليغ عنه على جميع الصحابة ولو أذن للكتاب بالكتابة لاعتقد الأميون أن مسئولية التبليغ مقصورة على الكتّاب الذين يحتفظون عندهم بالنصوص الشرعية وأن ذمتهم هم بريئة، فلما نهى الرسول -صلى الله عليه وسلم- من يكتب عن كتابة غير القرآن أصبح الصحابة كلهم سواسية في التلقي عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا يتميز من يكتب عمن لا يكتب وأصبحت الدعوة إلى الله يشترك فيها الجميع وخير للدعوة أن ينشرها كل الصحابة من أن يقتصر أمرها على عدد من الكتاب. فإن قلت: إن كان الأمر كذلك فلم أذن لهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- بكتابة القرآن؟ قلت لك: إن تبليغ القرآن لا يرد عليه ما يرد على تبليغ غيره فلن يعتقد الأميون منهم أن تبليغه واجب على الكتاب فحسب فهم يقرءونه سرا وجهارا في بيوتهم وفي مساجدهم في خلواتهم وفي مجتمعهم وفي صلواتهم, فلتبليغه وسائل كثيرة لا تتحقق لغيره ولا تقتصر على الكتاب دون الأميين فالجميع يتلوه ويقوم به آناء الليل وأطراف النهار فلن يتكل الأميون   1 رواه مسلم، ج5 ص2298، 2299. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 في تبليغه على الكتاب لإدراكهم أن الجميع مكلف بتلاوته في السطور وحفظه في الصدور. ولهذا تغلب الصحابة -رضوان الله عليهم- على الأسباب السابقة المانعة من تدوين علوم القرآن بما حققوه للقرآن، وذلك بالاعتماد على قوة الحافظة فحفظوا علوم القرآن كما يحفظون الآيات، أخرج الطبري عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن1 وروى أبو عبد الرحمن السلمي قال: "حدثنا الذين كانوا يقرئوننا: أنهم كانوا يستقرئون من النبي -صلى الله عليه وسلم- فكانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يخلفوها حتى يعلموا بما فيها من العمل فتعلمنا القرآن والعمل جميعًا"2. ويقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "والله الذي لا إله غيره ما نزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين نزلت ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيم أنزلت ولو أعلم أحدا أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه"3، ويقول علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وهو على المنبر: "سلوني فوالله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم وسلوني عن كتاب الله فوالله ما من آية إلا وأنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار أم في سهل أم في جبل"4، والنصوص في ذلك كثيرة كلها تثبت أن الصحابة رضوان الله عليهم لم يكتفوا بحفظ نصوص القرآن الكريم فحسب بل حفظوا معها علومه ومعارفه. واشتهر كثير من الصحابة بتفسير القرآن منهم الخلفاء الأربعة، وابن عباس، وابن الزبير، وأبي بن كعب وزيد بن ثابت، وعبد الله بن مسعود،   1، 2 تفسير الطبري: ج1 ص80. 3 صحيح البخاري باب القراء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ج6 ص102. 4 الإتقان في علوم القرآن: السيوطي ج2 ص187. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 وأبو موسى الأشعري وعائشة1 رضي الله عنهم. وكثرت الرواية في التفسير عن علي بن أبي طالب وابن عباس وابن مسعود وأبي بن كعب رضي الله عنهم. ولم يتكلف الصحابة رضوان الله عليهم التفسير ولم يخوضوا فيما لا فائدة كبيرة في تحصيله، ولم يكن تفسيرهم يشمل القرآن كله فبعض الآيات من الوضوح لديهم بحيث لا تحتاج إلى بيان لمعرفتهم للغة وأحوال المجتمع وأسباب النزول وغير ذلك، وقد كانوا يهتمون بنشر علوم القرآن بالرواية والتلقين لا بالكتابة والتدوين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 في عهد التابعين رحمهم الله تعالى مدخل ... في عهد التابعين رحمهم الله تعالى: وحين اتسعت الفتوحات الإسلامية انتشر الصحابة رضوان الله عليهم في البلدان المفتوحة يعلمون أهلها القرآن ويفسرون لهم معانيه، وينشرون لهم علومه ومعارفه فبذله لهم الصحابة وفتحوا لهم صدورهم وأفسحوا لهم مجالسهم؛ فنشأت ما يصح أن نطلق عليها المعنى الحديث "مدارس التفسير" وهي كثيرة وأشهرها ثلاث مدارس: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 مدرسة ابن عباس رضي الله عنهما في مكة : وهو حبر هذه الأمة وترجمان القرآن وهو الذي دعا له الرسول -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل" 1. ومن أشهر تلاميذه سعيد بن جبير، ومجاهد بن جبر، وعكرمة مولى ابن عباس، وطاوس، وعطاء بن أبي رباح.   1 رواه الإمام أحمد في مسنده ج1 ص314، 328، 335. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 مدرسة أبي بن كعب رضي الله عنه بالمدينة : وقد كان رضي الله عنه أحد كتاب الوحي، وإمام القراء، شهد له الرسول -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "أقرؤهم أبي بن كعب" 1. ومن أشهر تلاميذه زيد بن أسلم، وأبو العالية الرياحي، ومحمد بن كعب القرظي.   1 رواه الترمذي ج5 ص664، 665 كتاب المناقب، وابن ماجه في سننه ج1 ص68. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 مدرسة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في الكوفة : وهو أول من جهر بالقرآن وأسمعه قريشًا بعد الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال عنه الرسول عليه الصلاة والسلام: "من أحب أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد" 1 يعني ابن مسعود وأخبر هو عن نفسه فقال: "والله لقد أخذت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعًا وسبعين سورة"2. ومن أشهر تلاميذه علقمة بن قيس، ومسروق بن الأجدع، وقتادة بن دعامة، وعمرو بن شرحبيل، وأبو عبد الرحمن السلمي. وأهل مكة، وأهل المدينة، وأهل الكوفة هم أعلم الناس بالتفسير كما يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى: "وأما التفسير فإن أعلم الناس به أهل مكة، لأنهم أصحاب ابن عباس كمجاهد وعطاء بن أبي رباح، وعكرمة مولى ابن عباس وغيرهم من أصحاب ابن عباس، كطاوس، وأبي الشعثاء، وسعيد بن جبير وأمثالهم، وكذلك أهل الكوفة من أصحاب عبد الله بن مسعود، ومن ذلك ما تميزوا به على غيرهم، وعلماء أهل المدينة في التفسير مثل زيد بن أسلم"3.   1 سنن ابن ماجه: ج1 ص63. 2 صحيح البخاري ج6 ص102 باب القراء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. 3 مقدمة في أصول التفسير: شيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق: د. عدنان زرزور ص61. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 ولم يكن تفسير هؤلاء وغيرهم من الصحابة والتابعين مقتصرًا على علم التفسير بمعناه الخاص بل كان يشمل مع هذا علم غريب القرآن، وعلم أسباب النزول، وعلم الناسخ والمنسوخ، وعلم المكي والمدني، ونحو ذلك. كما لم يكن شاملًا للقرآن الكريم، ولا مدونًا، وإنما كان بالرواية والتلقين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 عهد التدوين : وفي هذا العهد دونت بعض علوم القرآن الكريم كالقراءات وغريب القرآن والناسخ والمنسوخ وأما التفسير فكان تدوينه حين بدأ تدوين الحديث النبوي، ومر بمراحل قبل أن يكون على ما هو عليه الآن. فبدأ تدوينه أول ما بدأ على أنه باب من أبواب الحديث، وممن دونه في هذه المرحلة: يزيد بن هارون السلمي "ت117هـ"، وشعبة بن الحجاج "ت160هـ" ووكيع بن الجراح "ت197هـ"، وسفيان بن عيينه "ت198هـ"، وغيرهم، وكان جمعهم للتفسير جمعًا لباب من أبواب الحديث، ولم يكن جمعًا للتفسير على استقلال وانفراد. وجميع ما نقلوه فيها كان بالإسناد ولم يصل إلينا شيء منها1. ثم دون التفسير مستقلًا وأصبح علمًا قائمًا بنفسه وأشهر من دونه على هذا النحو يحيى بن سلام البصري2 "ت200هـ"، وابن ماجه "ت273هـ"، وابن جرير الطبري "ت310هـ"، وأبو بكر بن المنذر النيسابوري "ت318هـ"، وابن أبي حاتم "ت327هـ"، وابن حبان "ت369هـ"، والحاكم "ت405هـ"، وابن مردويه "ت410هـ"، وغيرهم وكل ما في هذه التفاسير كان بالإسناد.   1 التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي: ج1 ص141 "بتصرف". "قلت" والأمر يحتاج إلى تحقيق ودراسة. 2 قامت بتحقيق هذا التفسير الأخت الفاضلة الدكتورة هند شلبي في تونس ولم يطبع بعد وقام بتحقيقه أيضًا ثلاثة من الباحثين في رسائل علمية، والموجود من التفسير فيه سقط نحو الثلث في مواضع مختلفة ولهذا التفسير ثلاثة مختصرات "تفسير هود بن محكم" و"تفسير أبي المطرف" و"تفسير ابن أبي زمنين". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 ويعد تفسير ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى أقدم تفسير شامل وصل إلينا كاملًا عرض فيه صاحبه للأقوال والروايات المختلفة في التفسير ورجح بعضها على بعض، كما عرض للإعراب والاستنباط واللغة وله في ذلك السبق1. والتفسير -كما نعلم- أحد علوم القرآن الكريم، بل هو نواة علوم القرآن الكريم وبهذا يكون التفسير أول علم من علوم القرآن بدأت الكتابة فيه. وقد ألف العلماء في العلوم الأخرى كتبًا مستقلة منها ما وصل إلينا ومنها ما هو مفقود. ففي القرن الثاني الهجري: ألف الحسن البصري "ت110هـ" في "القراءة"، وعطاء بن أبي رباح "ت114هـ" في "غريب القرآن"، وقتادة بن دعامة السدوسي "ت117هـ" في "الناسخ والمنسوخ". وفي القرن الثالث الهجري: ألف أبو عبيد القاسم بن سلام "ت224هـ"، في "الناسخ والمنسوخ"، وعلي بن المديني "ت234هـ" في "أسباب النزول"، وابن قتيبة "ت276هـ" "تأويل مشكل القرآن" و"تفسير غريب القرآن". وفي القرن الرابع الهجري: ألف أبو إسحاق الزجاج "ت311هـ" "إعراب القرآن"، وألف ابن درستويه "ت330هـ" في "إعجاز القرآن"، وألف أبو بكر السجستاني "ت330هـ" "تفسير غريب القرآن"، وألف أبو بكر الباقلاني "ت403هـ" "إعجاز القرآن".   1 فتفسير يحيى بن سلام غير كامل، وتفسير هود بن محكم غير مسند، وتفسير مجاهد بن جبر وتفسير مقاتل بن سليمان لا تعرض للأقوال والترجيحات كابن جرير ولذا لم أعتبر أسبقيتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 وفي القرن الخامس الهجري: ألف علي بن إبراهيم الحوفي "ت430هـ" "إعراب القرآن"، وألف الماوردي "ت450هـ" "أمثال القرآن"، وألف أبو الحسن الواحدي "ت468هـ" كتابه "أسباب النزول"، وألف ابن ناقيا "ت485هـ" كتابه "الجمان في تشبيهات القرآن". وفي القرن السادس الهجري: ألف الكرماني "ت بعد 500هـ" "البرهان في متشابه القرآن"، وألف الراغب الأصفهاني "ت502هـ" "المفردات في غريب القرآن"، وألف ابن الباذش "ت540هـ" "الإقناع في القراءات السبع"، وألف السهيلي "ت581هـ" "مبهمات القرآن". وفي القرن السابع الهجري: ألف علم الدين السخاوي "ت643هـ" "جمال القراء وكمال الإقراء"، والعز بن عبد السلام "ت660هـ" "مجاز القرآن"، وألف ابن أبي الأصبح "ت654هـ" كتابه "بدائع القرآن"، وألف محمد بن أبي بكر الرازي "ت660هـ" "أسئلة وأجوبتها". وفي القرن الثامن الهجري: ألف ابن القيم "ت751هـ" "التبيان في أقسام القرآن"، وألف الخراز "ت711هـ" تقريبًا "مورد الظمآن في رسم وضبط القرآن"، وألف الطوفي "ت706هـ" "الإكسير في علم التفسير"، وألف أبو حيان النحوي "ت745هـ" "لغات القرآن" وألف ابن كثير "ت774هـ" كتابه "فضائل القرآن". وفي القرن التاسع الهجري: ألف ابن حجر "ت852هـ" "العجائب في بيان الأسباب"، وألف الكافيجي "ت879هـ" "التيسير في قواعد علم التفسير"، وألف السيوطي "ت911هـ" كتابه "مفحمات الأقران في مبهمات القرآن" وكتابه "لباب النقول في أسباب النزول". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 وفي القرن العاشر الهجري: ألف القسطلاني "ت923هـ" "لطائف الإشارات في علم القراءات"، وألف أبو يحيى زكريا الأنصاري "ت926هـ" كتابه "فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن" وألف ابن الشحنة "ت921هـ" "غريب القرآن". وفي القرن الحادي عشر الهجري: ألف الشيخ مرعي الكومي "ت1023هـ" "قلائد المرجان في الناسخ والمنسوخ من القرآن"، وألف أحمد بن محمد المقرى "ت1041هـ" كتابه "إعراب القرآن"، وألف البناء "ت1117هـ" "إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربع عشر". وفي القرن الثاني عشر الهجري: ألف عبد الغني النابلسي "ت1143هـ" "كفاية المستفيد في علم التجويد"، وألف الجمزوري "ت1198هـ" "تحفة الأطفال والغلمان في تجويد القرآن"، وألف شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب "ت1206هـ" "فضائل القرآن". وفي القرن الثالث عشر الهجري: ألف الدمياطي "ت1287هـ" "رسالة في مبادئ التفسير"، وألف الهوريني "كان حيا 1286هـ" "الجوهر الفريد في رسم القرآن المجيد"، وألف ابن حميد العامري "ت1295هـ" "الناسخ والمنسوخ". وفي القرن الرابع عشر الهجري: ألف مصطفى صادق الرافعي "ت1356هـ" "إعجاز القرآن والبلاغة النبوية"، وألف د. محمد عبد الله دراز "ت1377هـ" كتابه "النبأ العظيم"، وألف سيد قطب "ت1387هـ" "التصوير الفني في القرآن"، وكتاب "مشاهد القيامة في القرآن"، وألف محمد حسين الذهبي "ت1397هـ" "التفسير والمفسرون". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 هذه أمثلة للمؤلفات في علوم القرآن الكريم في القرون السابقة وهي مؤلفات كثيرة بل لا تكاد تحصى كثرة. وحين تنظر فيما ذكرت في المؤلفات تجد كل واحد منها يتناول علمًا واحدًا من علوم القرآن الكثيرة، وقد اتجهت أنظار العلماء إلى تأليف كتب تتحدث عن هذه العلوم جميعًا فتعرف كل علم تعريفًا موجزًا وتتناوله تناولًا ميسرًا، فكان هذا العلم الذي سموه "علوم القرآن" بالمعنى المدون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 ظهور اصطلاح علوم القرآن : لم تكن علوم القرآن بخافية على العلماء المبرزين قبل التدوين بل كانت مجموعة في صدورهم، إلا أن اصطلاح "علوم القرآن" لم يظهر في عناوين مؤلفاتهم إلا في فترة متأخرة. حيث ظهر هذا الاصطلاح أول ما ظهر في أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع الهجري حين ألف محمد بن خلف بن المرزبان "ت309هـ" كتابه "الحاوي في علوم القرآن"1. واعتقد بعض الباحثين أن أول عهد لظهور اصطلاح "علوم القرآن" هو بداية القرن الخامس حين ألف علي بن إبراهيم الحوفي "ت430هـ" كتابه "البرهان في علوم القرآن" وهذا غير صحيح لأن اسم كتاب الحوفي "البرهان في تفسير القرآن"2، ولأنه ظهرت كتب في القرن الذي قبله تناولت علوم القرآن بمعناها المدون وأسبقها ما ذكرت لابن المرزبان وغيره.   1 الفهرست, ابن النديم ص214، وطبقات المفسرين: الداودي ج2 ص141. 2 مفتاح السعادة: طاش كبرى زاده، ج2 ص107، ومعجم الأدباء: ياقوت الحموي ج12 ص222، وكشف الظنون: حاجي خليفة ج1 ص241. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 أهم المؤلفات في علوم القرآن "كفن مدون" قديمًا: وقد ظهرت مؤلفات كثيرة بعد ذلك في علوم القرآن كفن مدون ففي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 القرن الرابع الهجري1. ألف أبو الحسن الأشعري "ت324هـ" كتابه "المختزن في علوم القرآن"2 وألف عبيد الله بن جرو الأسدي "ت387هـ" كتابه "الأمد في علوم القرآن"3 وألف محمد بن علي الأدفوي "ت388هـ" كتابه "الاستغناء في علوم القرآن"4. وفي القرن السادس الهجري ألف ابن الجوزي "ت597هـ" كتابه "فنون الأفنان في عجائب علوم القرآن"5 و"المجتبى في علوم القرآن"6، و"المجتنى من المجتبى"7. وفي القرن السابع الهجري ألف القزويني "ت625هـ" كتابه "الجامع الحريز الحاوي لعلوم كتاب الله العزيز"8، وألف أبو شامة المقدسي   1 ينسب كثير من الباحثين كتاب "عجائب علوم القرآن" لأبي بكر الأنباري ت328هـ مستندين في ذلك إلى ما ذكره الزرقاني في "مناهل العرفان" وقد ظهر لي يقينا أن الكتاب المذكور ليس لأبي بكر الأنباري بل هو كتاب "فنون الأفنان في عجائب علوم القرآن" لابن الجوزي وسبب وقوع هذا الوهم نسخة مخطوطة في مكتبة البلدية بالإسكندرية أخطأ مفهرسو المكتبة في معرفة المؤلف فنسبوها لأبي بكر الأنباري. 2 طبقات المفسرين: الداودي ج1 ص391، وتاريخ التراث العربي ج2 ص377، ومعجم المفسرين: عجاج نويهض ج1 ص354. 3 طبقات المفسرين: الداودي ج1 ص372، ومعجم الأدباء: ياقوت الحموي ج12 ص66، ومعجم المفسرين: عادل نويهض ج1 ص341. 4 طبقات المفسرين: الداودي ج2 ص194، ومعجم المفسرين ج2 ص578. 5 طبع بتحقيق الدكتور عبد الفتاح عاشور على نسختين مخطوطتين بعنوان "عجائب علوم القرآن" وطبع مرة أخرى بتحقيق الدكتور حسن ضياء الدين عتر على ست نسخ مخطوطة. 6 الذيل على طبقات الحنابلة ج1 ص417. 7 فنون الأفنان في عيون علوم القرآن: ابن الجوزي تحقيق د. حسن ضياء الدين عتر ص40. 8 الجواهر المضية في طبقات الحنفية: أبي محمد بن أبي الوفاء ج1 ص133، طبقات المفسرين: الداودي ج1 ص33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 "ت665هـ" كتابه "المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز"1. وفي القرن الثامن الهجري ألف بدر الدين الزركشي "ت794هـ" كتابه "البرهان في علوم القرآن" وطبع في أربعة مجلدات بتحقيق الأستاذ محمد أبي الفضل إبراهيم، وهو من أفضل المؤلفات في علوم القرآن الكريم ومن أحسنها تنظيما وتبويبا وأسلوبا، وألف ابن تيمية "ت728هـ" كتابه "مقدمة في أصول التفسير" وهي مع إيجازها قيمة جدا وطبعت مرارًا. وفي القرن التاسع الهجري ألف أبو علي الحسين بن علي بن طلحة الرجراجي الشوشاوي كتابه "الفوائد الجميلة على الآيات الجليلة"، طبع في جزء بتحقيق إدريس عزوزي. وفي القرن العاشر الهجري ألف جلال الدين السيوطي "ت911هـ" كتابه "التحبير في علوم التفسير"2 ذكر فيه 102 نوعًا من علوم القرآن ثم ألف كتابه القيم "الإتقان في علوم القرآن" ذكر فيه ثمانين نوعًا من أنواع علوم القرآن على سبيل الإجمال والدمج، ثم قال بعد سردها: "ولو نوعت باعتبار ما أدمجته في ضمنها لزادت على الثلاث مائة"3 وقد طبع الكتاب عدة مرات وصدر أخيرًا في أربعة مجلدات بتحقيق الأستاذ محمد أبي الفضل إبراهيم، ويعد هذا الكتاب أصل من الأصول المؤلفة في هذا العلم ولئن قيل: إن المفسرين عيال على تفسير الطبري فإن علماء علوم القرآن عيال على الإتقان، وقد استفاد السيوطي كثيرًا من كتاب "البرهان" للزركشي. وفترت همة التأليف بعد ذلك، بل قال بعض العلماء: إن التأليف في تلك الفترة توقف أوكاد4 وظهرت مؤلفات معدودة مثل "الفوز الكبير في أصول التفسير" تأليف ولي الله الدهلوي "ت1176هـ"5، وألف ابن عقيلة "ت1150هـ" كتابه "الزيادة والإحسان في علوم القرآن"6.   1 طبع سنة 1395هـ بتحقيق طيار آلتي قولاج. 2 الإتقان في علوم القرآن: السيوطي ج1 ص3. 3 المرجع السابق ج1 ص7. 4 المدخل لدراسة القرآن الكريم: محمد أبو شهبة، ص41. 5 طبع عدة مرات. 6 مخطوط يعمل على تحقيقه بعض الدارسين في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 المؤلفات في علوم القرآن بمعناه المدون في العصر الحديث : وقد نشط التأليف في العصر الحديث فصدرت مؤلفات كثيرة وأبحاث عديدة ليس المقام إيرادها ولا حصرها ولعل من أشهرها: 1- مناهل العرفان في علوم القرآن للشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني وطبع في مجلدين، وهو بحق من أفضل المؤلفات في هذا العلم, فهو إضافة إلى اشتماله على كثير من علوم القرآن، فقد اعتنى صاحبه بالرد على الشبهات الواردة في كل علم قديمًا أو حديثًا، وهو حين يوردها يسوق حججها وبراهينها ثم يكر عليها فلا يبقى لها أثرًا, وإضافة إلى هذا فإنه يقدم هذه العلوم بأسلوب أدبي يشدك إليه شدًّا حتى لتحسب نفسك -وأنت تخوض عويص القضايا- تقرأ قطعة أدبية ولست أعنى بهذا سلامته من كل عيب ففيه أخطاء تتبعها أحد الباحثين في رسالة علمية, إضافة إلى تقريره مذهب الأشاعرة. 2- المدخل لدراسة القرآن الكريم: للدكتور/ محمد محمد أبو شهبة ألفه لطلبة الدراسات العليا في الجامعة الأزهرية، ويقع في مجلد تبلغ صفحاته نحو خمس مائة صفحة. 3- مباحث في علوم القرآن: للدكتور/ صبحي الصالح ألفه لطلبة كلية الآداب بجامعة دمشق ويقع في نحو ثلاثمائة صفحة. 4- مباحث في علوم القرآن للشيخ مناع القطان ويقع في نحو ثلاثمائة صفحة وقال في مقدمته "كانت طبعته الأولى استجابة لرغبة بعض إخواننا في تقديم أبحاث مختصرة عن أهم مباحث علوم القرآن يستطيع شبابنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 المسلم الذي لا يتيسر له التعمق في الدراسات الإسلامية أن يجد فيها من الثقافة اللازمة له ما يكفيه مئونة البحث في مراجع هذا العلم ويجنبه عناء فهم أساليبها1 وقد أصاب وفقه الله فقد سد كتابه هذا ثغرة في حاجة طلبة العلم. 5- التبيان لبعض المباحث المتعلقة بالقرآن على طريقة الإتقان: تأليف الشيخ طاهر الجزائري، وهي مباحث انتخبها الجزائري انتخاب العالم الذواقة، والمحقق المتقن، اعتنى بنشرها الشيخ عبد الفتاح أبو غدة. 6- لمحات في علوم القرآن تأليف الشيخ محمد الصباغ وهي محاضرات ألقاها على طلاب كليتي الآداب والتربية في جامعة الرياض. 7- علوم القرآن للدكتور عدنان زرزور وهو محاضرات ألقاها على طلابه ويقع في مجلد تبلغ صفحاته 460 صفحة. 8- المنار في علوم القرآن للدكتور محمد علي الحسن وهي محاضرات ألقاها على طلابه في كلية التربية بجامعة الرياض. 9- مدخل إلى علوم القرآن والتفسير للدكتور فاروق حمادة وهو أيضا محاضرات ألقاها على طلاب كلية اللغة العربية بمراكش. 10- علوم القرآن والحديث للشيخ أحمد محمد علي داود وهي محاضرات ألقاها على طلبة دائرة اللغة العربية في جامعة اليرموك. 11- من علوم القرآن: للدكتور فؤاد علي رضا ويقع في نحو 240 صفحة. 12- التبيان في علوم القرآن: للدكتور القصبي محمود زلط تجاوزت صفحاته المائتين. 13- دراسات في علوم القرآن: للدكتور أمير عبد العزيز وتبلغ صفحاته نحو الثلاث مائة صفحة.   1 مباحث في علوم القرآن: مناع القطان، ص5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 14- البيان في علوم القرآن: تأليف الدكتور سليمان بن صالح القرعاوي والدكتور محمد بن علي الحسن في مجلد 400 صفحة تقريبًا. هذه بعض المؤلفات في العصر الحديث في علوم القرآن كفن مدون والمؤلفات غيرها كثيرة، ولعلك تلاحظ أن أغلبها قد ألفها أصحابها لطلابهم, وأحسب أن هذا يؤدي إلى الإجمال في الحديث وتيسير المادة وعدم الخوض في دقائق المسائل ووعر المسالك، واختيار السبيل الأسهل والأيسر، وهذا المنهج يحرم الباحثين المتخصصين من نيل مرادهم والحصول على بغيتهم كما يحرم المؤلفين من الإبداع في القول ومن إعمال الذهن والتجديد في الآراء, بل أدى بهم إلى التسليم في كثير من المسائل والقضايا ونقلها كما هي من غير تمحيص خشية الدخول في تفاصيل تخرج به عن هدفه من التأليف. والحق أن كثيرًا من المباحث في علوم القرآن لا تزال بحاجة إلى النظر في مسائلها وإعادة الكتابة فيها وعدم الاكتفاء والتسليم بما قاله فلان وفلان من غير دليل، وعلوم القرآن أوسع من أن يحيط بها أبناء جيل أو أجيال من البشر. ومما لا شك فيه أن التاريخ كله لا يعرف كتابًا درسه الدارسون وألف في علومه المؤلفون وصنف فيه المصنفون مثل القرآن الكريم، ولا تزال المؤلفات تدون ولا يزال العلماء يبحثون ويتدبرون، ولا يزال القرآن نقيًّا لم تكدره الدلاء وفائضًا لم تنقصه كثرة الواردين وسيظل نورًا يستضيء به طلاب الحقيقة وهدى يهتدي به الناس إلى يوم القيامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 فضائل القرآن الكريم مدخل ... فضائل القرآن الكريم: لا شك أن فضل القرآن الكريم فضل كبير وعظيم فهو كتاب أخرج الله به هذه الأمة من جاهلية جهلاء وضلالة عمياء. وهو كتاب ختم الله به الكتب وأنزله على نبي ختم به الأنبياء وبدين ختم به الأديان. وهو كلام الله العظيم وصراطه المستقيم ونظامه القويم, ناط به كل سعادة، هو رسالة الله الخالدة، ومعجزته الدائمة, ورحمته الواسعة، وحكمته البالغة، ونعمته السابغة، نهل منه العلماء، وشرب من مشربه الأدباء، وخشعت لهيمنته الأبصار، وذلت له القلوب، وقام بتلاوته العابدون والراكعون والساجدون، وهو "كلية الشريعة، وعمدة الملة، وينبوع الحكمة، وآية الرسالة، ونور الأبصار والبصائر، فلا طريق إلى الله سواه، ولا نجاة بغيره، ولا تمسك بشيء يخالفه"1. هو كتاب الإسلام في عقائده، وعباداته، وحكمه، وأحكامه، وآدابه، وأخلاقه، وقصصه، ومواعظه، وعلومه، وأخباره، وهدايته، ودلالته، وهو أساس رسالة التوحيد، والرحمة المسداة للناس، والنور المبين، والمحجة البيضاء التي لا يزيع عنها إلا هالك. وقد ورد بيان فضل القرآن في آيات كثيرة وأحاديث عديدة.   1 الموافقات: الشاطبي ج3 ص346. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 فضائله العامة : - فضل القرآن في القرآن : في أول جملة بعد الفاتحة ورد وصف القرآن بأنه: {لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} 1 ولك أن تتدبر في استنباط المعاني العديدة في ذلك. ومن فضل القرآن في القرآن أن عد إنزاله في شهر مزية لهذا الشهر: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} 2 وبركة لليلة التي أنزل فيها: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} 3. ومن فضله في القرآن نزول الرحمة عند سماعه: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} 4. ووصفه بالعظمة: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنْ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} 5، وبالهداية: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} 6، وأقسم الله به: {وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ، إِنَّكَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ} 7، وأمر بتلاوته: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ} 8، وبتدبره: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} 9 وشهد له بالسلامة من العوج: {قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} 10. ولكثرة فضائله تعددت أسماؤه وصفاته وقد وردت في القرآن أسماء وصفات للقرآن كثيرة تنبئ كثرتها وتعددها عن مكانة القرآن العظيمة ومنزلته السامية.   1 سورة البقرة: الآية 2. 2 سورة البقرة: الآية 185. 3 سورة الدخان: الآية 3. 4 سورة الأعراف: الآية 204. 5 سورة الحجر: الآية 87. 6 سورة الإسراء: الآية 9. 7 سورة يس: الآيتين 2، 3. 8 سورة النمل: الآيتين 91، 92. 9 سورة محمد: الآية 24. 10 سورة الزمر: الآية 28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 فضل القرآن في السنة النبوية : وقد وردت في السنة النبوية أحاديث كثيرة في بيان فضل القرآن الكريم من أجمعها حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: أما إني قد سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ألا إنها ستكون فتنة" فقلت: ما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: "كتاب الله، فيه نبأ ما كان قبلكم، وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم وهو الفصل ليس بالهزل, من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة ولا يشبع منه العلماء ولا يخلق على كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا، يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ} 1 من قال به صدق ومن عمل به أجر ومن حكم به عدل ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم" 2. وفي حديث آخر رواه ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن هذا القرآن مأدبة الله فتعلموا من مأدبته ما استطعتم، إن هذا القرآن حبل الله والنور والشفاء النافع عصمة لمن تمسك به ونجاة لمن اتبعه لا يزيغ فيستعتب ولا يعوج فيقوم، ولا تنقضي عجائبه ولا يخلق عن كثرة الرد فاتلوه فإن الله يأجركم على تلاوته بكل حرف عشر حسنات، أما إني لا أقوال ألم ولكن بألف ولام وميم"3، ويكفي في بيان فضله قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه" 4.   1 سورة الجن: الآيتين 1، 2. 2 رواه الترمذي ج5 ص172 وانظر تخريجه ص292 هنا. 3 رواه الدارمي ج2 ص431. قال ابن الجوزي: "هذا حديث لا يصح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويشبه أن يكون من كلام ابن مسعود" العلل المتناهية ج1 ص102. 4 رواه البخاري ج6 ص108. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 فضائل بعض سوره وآياته : وردت أحاديث في فضل بعض سور القرآن الكريم وقد اختلق بعض الوضاعين أحاديث في فضائل سور القرآن سورة سورة1 وفي بعض سور القرآن وقع ورتع بعض أصحاب الطرق المبتدعة في مثل هذه الأحاديث، ولنا فيما صح عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- غنى عن ذلك، ونذكر مما صح في فضائل بعض السور والآيات ما يلي: - سورة الفاتحة: ما رواه أبو سعيد بن المعلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج من المسجد"، فأخذ بيدي، فلما أردنا أن نخرج، قلت يا رسول الله: إنك قلت ألا أعلمك أعظم سورة من القرآن، قال: " {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته" 2. - سورة البقرة: ورد في فضلها حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة" 3. - سورة قل هو الله أحد: ورد في فضلها أحاديث كثيرة بأنها تعدل ثلث القرآن ومنها حديث أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيعجز أحدكم أن يقرأ في ليلة ثلث القرآن"، قالوا: وكيف يقرأ ثلث القرآن؟ قال: "قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن" 4.   1 وأشهرها الحديث المكذوب على أبي بن كعب رضي الله عنه عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- في فضل سور القرآن سورة سورة وقد فرق هذا الحديث الثعلبي والواحدي والزمخشري في تفاسيرهم على السور. وقال ابن الجوزي عن هذا الحديث: "إنه حدث محال" وروى عن ابن المبارك قوله: "أظن الزنادقة وضعته" الموضوعات: ابن الجوزي ج1 ص239. 2 صحيح البخاري ج6 ص103. 3 صحيح مسلم ج1 ص539. 4 صحيح مسلم ج1 ص556. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 - فضل المعوذتين: ورد في فضلهما حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنزل أو أنزلت علي آيات لم ير مثلهن قط: المعوذتين" 1. - فضل آية الكرسي: ورد في فضلها حديث أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه: "يا أبا المنذر! أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ " قال: قلت: الله لا إله هو الحي القيوم. قال: فضرب في صدري وقال: "والله ليهنك العلم أبا المنذر" 2. - فضل الآيتين في آخر سورة البقرة: ورد في فضلها حديث أبي مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الآيتان من آخر سورة البقرة من قرأهما في ليلة كفتاه" 3 أي دفعتا عنه الشر والمكروه. - فضل عشر آيات من أول الكهف أو آخرها: روى أبو الدرداء أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال" 4. وفي رواية قال شعبة: من آخر الكهف5.   1 رواه مسلم ج1 ص558. 2 رواه مسلم ج1 ص556. 3 رواه مسلم ج1 ص555. 4 رواه مسلم ج1 ص555. 5 رواه مسلم ج1 ص556. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 فضل تلاوته : قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ، لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} 1. وردت في السنة أحاديث كثيرة في ثواب التلاوة منها حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الماهر بالقرآن مع السفرة الكرم البررة والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو على شاق له أجران" رواه البخاري ومسلم2. وبينت السنة أن القرآن يشفع لأصحابه يوم القيامة فعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه" رواه مسلم3. وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار" رواه البخاري ومسلم4. ولو لم يرد في فضل تلاوة القرآن إلا حديث ابن مسعود رضي الله عنه لكفى به داعيا للتنافس بين المسلمين في تلاوة القرآن الكريم آناء الليل وأطراف النهار, فقد قال ابن مسعود -رضي الله عنه- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول ألم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف" 5. تالله لولا ما ران على قلوبنا ما انفك أحدنا عن تلاوة هذا القرآن, وما فرطنا في تلاوته هذا التفريط, ساعات تلو الساعات تنقضي من أعمارنا لا نحسب لها حسابًا, أرأيتم لو أخذ أحدنا المصحف في ساعة من ساعاته   1 سورة فاطر: الآيتين 29، 30. 2 صحيح البخاري ج6 ص80، وصحيح مسلم ج1 ص549، 550. 3 صحيح مسلم ج1 ص553. 4 صحيح البخاري ج9 ص65، وصحيح مسلم ج1 ص558. 5 سنن الترمذي ج5 ص175، وسنن الدارمي ج2 ص429، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح، غريب إسنادا" وقال الألباني في المشكاة ج1 ص659 "وهو صحيح". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 الضائعة وتلا فيها آيات من القرآن الكريم فكم سيقرأ فيها من حرف, وإذا كان بكل حرف عشر حسنات فكم سيثاب في هذه الساعة من حسنة, إنه لثواب كبير وأجر عظيم لا ينبغي لذي لب أن يفرط فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 فضل استماعه : وكما ورد الوعد بالثواب على تلاوة القرآن فقد ورد أيضًا الوعد بالثواب لمستمع التلاوة بخشوع وتدبر وإنصات قال الليث بن سعد رحمه الله تعالى يقال: ما الرحمة إلى أحد بأسرع منها إلى مستمع القرآن لقوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} 1 ولعل من الله واجبه2. ومما جاء في السنة في ثواب استماع القرآن الكريم حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: "من استمع إلى آية من كتاب الله تعالى كتب له حسنة مضاعفة ومن تلاها كانت له نورا يوم القيامة" 3.   1 سورة الأعراف: الآية 204. 2 التذكار في أفضل الأذكار: القرطبي ص79. 3 مسند الإمام أحمد: ج2 ص341. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 فضل الاجتماع لدرسه : من أجمع الأحاديث التي وردت في بيان ثواب الاجتماع لتلاوة القرآن الكريم وتدارسه حديث أبي هريرة رضي الله عنه وفيه: "وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده" 1 فجمع هذا الحديث أربعة أنواع من ثواب تلاوة القرآن ومدارسته. 1- تنزل عليهم السكينة.   1 صحيح مسلم ج4 ص2074. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 2- تغشاهم الرحمة. 3- تحفهم الملائكة. 4- يذكرهم الله فيمن عنده. ومن منا لا يحرص على كل واحدة منها فضلًا عنها كلها، كيف وقد اجتمعت كلها في عمل واحد ميسر، وفي هذا ندب لتعلم القرآن الكريم ومعرفة علومه وأحكامه ومعانيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 آداب التلاوة والاستماع : لا ريب أن لتلاوة هذا الكتاب آدابا ينبغي العمل بها ففي ذلك أيضا زيادة لثواب التلاوة. وآداب التلاوة كثيرة لعل أهمها: 1- الطهارة وتشمل طهارة البدن، وطهارة المكان، وطهارة اللباس، وطهارة الفم وفوق هذا كله طهارة القلب ونقاؤه من الشرك والشك والرياء. أما طهارة البدن فقد اتفق العلماء رحمهم الله تعالى على أن الجنب لا يجوز له مس المصحف أو القراءة للقرآن حتى يغتسل، أما الطهارة من الحدث الأصغر فقد اشترطها بعض العلماء لقوله تعالى: {لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} 1. ولم يشترطها آخرون ومما لا شك فيه أن الأفضل والأولى هو الطهارة من الحدث الأصغر أيضًا. وأما طهارة المكان فلا يجوز أن يقرأ القرآن في الأماكن النجسة سواء كانت نجاسة حسية كالحمامات ونحوها أو نجاسة معنوية كالملاهي وحانات الخمور والفسق والفجور.   1 سورة الواقعة: الآية 79. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 وطهارة اللباس والتطيب عند التلاوة من الآداب المحمودة, وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام بالليل يتهجد اغتلف بالغالية1 وهي أخلاط من الطيب كالمسك والعنبر وكان ابن مسعود رضي الله عنه تعجبه الثياب الحسنة النظيفة والريح الطيب إذا قام إلى الصلاة وكان رضي الله عنه إذا قرأ اعتم ولبس ثيابه وارتدى واستقبل القبلة2. حتى طهارة الفم حرص الإسلام عليها عند تلاوة القرآن روى علي رضي الله عنه حديثا عن الرسول صلى الله عليه وسلم وفيه: "فطهروا أفواهكم للقرآن" 3، وعنه رضي الله عنه قال: "إن أفواهكم طرق للقرآن فطيبوها بالسواك"4، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام في الليل يشوص فاه بالسواك5. 2- ومن آداب التلاوة أن يستوي قاعدا في غير صلاة تأدبا مع القرآن. 3- ومنها أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم عند ابتداء القرآن لقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} 6. 4- ومنها أن يقرأ البسملة بعد الاستعاذة بأن يقول: "بسم الله الرحمن الرحيم" وقد أجمع العلماء على مشروعية البسملة عند تلاوة كل سورة من سورة القرآن الكريم سوى براءة. 5- يستحب إذا تثاءب أن يمسك عن القراءة لأنه مخاطب ربه ومناج له.   1 التذكار في أفضل الأذكار: القرطبي ص108. 2 التذكار في أفضل الأذكار: القرطبي ص108. 3 كشف الأستار عن زوائد البزار: ج1 ص242. وصححه الألباني في الصحيحة رقم 1213. 4 سنن ابن ماجه: ج1 ص125. وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه "236" ولعله تبين له ضعفه بعد ذلك. فقد ضعفه جدا في ضعيف الجامع "1401" والصواب أنه ضعيف. 5 صحيح البخاري: ج1 ص66، وصحيح مسلم ج1 ص221. 6 سورة النحل: الآية 98. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 6- وإذا شرع في القراءة فينبغي أن لا يشتغل عنها ولا يقطعها ولا يخللها بكلام الآدميين إلا لضرورة. 7- أن يقرأ على تؤدة وأن يرتل القرآن ترتيلا ولا يهذه هذًّا. 8- أن يقف عند آية الوعد فيسأل الله من فضله، وعند آية الوعيد فيستجير بالله من عقابه. 9- أن يرفع المصحف بيده أو على شيء مرتفع أمامه ولا يضعه على الأرض لما في ذلك من الامتهان. 10- أن يقرأ بتدبر وتمعن وفهم لما يتلوه ولا يكون كل همه كم قرأ؟! فقد قال أبو جمرة: قلت لابن عباس: إني سريع القراءة، إني أقرأ القرآن في ثلاث. قال: لأن أقرأ البقرة في ليلة فأتدبرها وأرتلها أحب إلي من أن أقرأ كما تقول1. وقال ابن عباس رضي الله عنهما أيضا: لأن أقرأ سورة أرتلها أحب إلي من أن أقرأ القرآن كله2. 11- ومن آداب استماع القرآن الإنصات والإصغاء للتلاوة وترك الكلام والضحك. 12- ومنها أن لا يعبث ولا يكثر من الحركة لغير حاجة. 13- ومنها الخشوع عند سماع القرآن واستحضار القلب والتفكر والتدبر فيما يسمع من الآيات.   1 أخلاق أهل القرآن: الآجري تحقيق محمد عمرو بن عبد اللطيف ص169. 2 التبيان في آداب حملة القرآن: النووي تحقيق عبده الكوشك ص119. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 خصائص القرآن الكريم مدخل ... خصائص القرآن الكريم أنزل الله تعالى هذا القرآن على الرسول صلى الله عليه وسلم ليخرج به هذه الأمة من ظلمات الجاهلية إلى نور الإسلام حتى أصبحت خير أمة أخرجت للناس. وتميزت هذه الأمة بخصائص كثيرة ليست في الأمم كلها واختص أيضا نبيها صلى الله عليه وسلم بخصائص كثيرة، وتميز دينها الإسلامي بخصائص عديدة ليست في الأديان الأخرى، وتميز الكتاب الذي أنزل عليها بخصائص دون سائر الكتب المنزلة. وقد كتب كثير من العلماء في خصائص الإسلام1، وفي خصائص الأمة الإسلامية2 وفي خصائص الرسول الله صلى الله عليه وسلم3. فلا عجب أن يهتم العلماء أيضا بخصائص القرآن الكريم4، وقد أورد العلماء هذه الخصائص في بطون مؤلفاتهم عن علوم القرآن وأفردها بعضهم, وفي هذا الموضوع مجال خصب يمرح فيه بعض المشعوذين والدجالين فيوردون فيه بعض الخرافات والشعوذة. وبالتحقيق والتدقيق يذهب زغل المبطلين. وسأذكر هنا بعض هذه الخصائص:   1 مثلا الخصائص العامة للإسلام: د. يوسف القرضاوي. 2 ذكر ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه "فنون الأفنان" ثلاثين نوعا منها. 3 مثلا: الخصائص الكبرى: السيوطي. 4 جمعت كثيرا من هذه الخصائص في كتابي: "خصائص القرآن الكريم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 خصائص تتعلق ب فضله وشرفه ومكانته فضله ... أولًا- خصائص تتعلق بفضله وشرفه ومكانته "وهي خصائص كثيرة منها": 1- فضله: لا يخفى فضل القرآن عمن لديه أدنى علم شرعي ذلكم أن القرآن الكريم "كلية الشريعة، وعمدة الملة، وينبوع الحكمة، وآية الرسالة، ونور الأبصار والبصائر، فلا طريق إلى الله سواه، ولا نجاة بغيره، ولا تمسك بشيء يخالفه"1. هو كلام الله العظيم، وصراطه المستقيم، ودستوره القويم، ناط به كل سعادة، هو رسالة الله الخالدة، ومعجزته الدائمة، ورحمته الواسعة وحكمته البالغة، ونعمته السابغة. هو حجة الرسول صلى الله عليه وسلم الدامغة، وآيته الكبرى، شاهدة برسالته، وناطقة بنبوته. هو كتاب الإسلام في عقائده، وعباداته، وحكمه وأحكامه، وآدابه، وأخلاقه، وقصصه، ومواعظه، وعلومه، وأخباره، وهدايته، ودلالته. هو أساس رسالة التوحيد، والمصدر القويم للتشريع، ومنهل الحكمة والهداية، والرحمة المسداة للناس، والنور المبين للأمة، والمحجة البيضاء التي لا يزيغ عنها إلا هالك. فضله لا يدانيه فضل، ولا تسمو إليه مكانة، وسبق الحديث عن فضله في القرآن، وفضله في السنة، بما يغني عن إعادته.   1 الموافقات: الشاطبي ج3 ص346. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 2- شفاعته لأهله : ومن خصائص القرآن الكريم أنه يشفع لأهله يوم القيامة ومن الأدلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 على ذلك حديث أبي أمامة الباهلي -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه" 1. إنه شفاء: قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} 2 وقال سبحانه: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} 3، وقال سبحانه وتعالى: {قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى} 4. وتدبر وصف الله للقرآن بأنه شفاء ولم يصفه بأنه دواء؛ لأن الشفاء هو ثمرة الدواء والهدف منه، أما الدواء فقد يفيد وقد يضر فكان وصف القرآن بأنه شفاء تأكيد وأي تأكيد لثمرة التداوي به. وقد ضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المثل بنفسه بالتداوي بالقرآن، فقد روت عائشة -رضي الله عنها- قالت: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفث على نفسه في المرض الذي مات فيه بالمعوذات فلما ثقل كنت أنفث عليه بهن وأمسح بيد نفسه لبركتها"5. وأقر الصحابة -رضي الله عنهم- على الاستشفاء به، فقد روى أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن ناسًا من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- أتوا على حي من أحياء العرب فلم يقروهم فبينما هم كذلك إذ لدغ سيد أولئك فقال: هل معكم من دواء أو راق فقالوا: إنكم لم تقرونا ولا نفعل حتى تجعلوا لنا جُعْلا، فجعلوا لهم قطيعًا من الشاء فجعل يقرأ بأم القرآن ويجمع بُزاقه ويتفل فبرأ فأتوا بالشاء فقالوا لا نأخذه حتى نسأل النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه فضحك.   1 صحيح مسلم: ج1 ص553. 2 سورة الإسراء: الآية 82. 3 سورة فصلت: الآية 44. 4 سورة يونس: الآية 57. 5 صحيح البخاري ج7 ص22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 وقال: "وما أدراك أنها رقية، خذوها واضربوا لي بسهم" 1. والقرآن شفاء للأمراض النفسية وما أحوج مجتمعاتنا المعاصرة إلى التداوي بالقرآن لهذا الداء الوبيل في عالم تتنازعه الأهواء المادية والشهوات الجسدية والملذات الدنيوية، وإنما تحدث الأمراض النفسية حين يعرض الإنسان عن القرآن وعن ذكر الله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} 2 وقال سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} 3، أما العلاج والشفاء فهو قرين الذكر: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} 4. ولكن ينبغي أن نعلم أن الاستشفاء بالقرآن يستدعي كمال اليقين وقوة الاعتقاد وسلامته؛ ولذا قال الزركشي رحمه الله تعالى عن الاستشفاء بالقرآن: "لن ينتفع به إلا من أخلص لله قلبه ونيته، وتدبر الكتاب في عقله وسمعه، وعمر به قلبه، وأعمل به جوارحه، وجعله سميره في ليله ونهاره وتمسك به وتدبره"5. ومن خصائصه التي تتعلق بفضله وشرفه ومكانته: التعبد بتلاوته، وتعدد أسمائه وصفاته، والثواب لقارئه ومستمعه، وأن له نزولين، ونزوله منجمًا دون سائر الكتب السابقة وغير ذلك.   1 صحيح البخاري: ج7 ص23. 2 سورة طه: الآية 124. 3 سورة الزخرف: الآية 36. 4 سورة الرعد: الآية 28. 5 البرهان في علوم القرآن: الزركشي ج3 ص436. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 ثانيًا: خصائص تتعلق بأسلوبه ولغته : 1- أنه لا يعلو عن أفهام العامة ولا يقصر عن مطالب الخاصة. وهذان مطلوبان لا يدركهما الفصحاء والبلغاء من الناس، فلجئوا إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 قاعدة يعتذرون بها فقالوا: "لكل مقام مقال" أما أن يأتي كلام واحد يخاطب به العلماء والعامة، والملوك والسوقة، والأذكياء ومن دونهم، والصغير والكبير، والذكر والأنثى، ويرى فيه كل منهم مطلبه، ويدرك من معانيه ما يكفيه، فذلك ما لا نجده على أتمه وأكمله إلا في القرآن الكريم وحده. يقرأ فيه العامي فيشعر بجلاله، ويذوق حلاوته، ولا يلتوي عليه فهمه، فتدركه هيمنته، ويستولي عليه بيانه، وتغشاه هدايته، فيخشع قلبه، وتدمع عيناه، فينقاد له، ويذعن. ويقرأ فيه العالم فيدرك فصاحته، وتهيمن عليه بلاغته، ويملكه بيانه، وتنجلي له علومه ومعارفه، وتدهشه أخباره وأنباؤه، فيجد فيه زمام فكره، وقيادة عقله، ومنهج علمه، ومحار فكره، ورفعة شأنه1 فيذعن: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} 2 ثم يرفع يديه: {رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} 3 فتدركه الخشية4، ويذعن لربه، ويؤمن بشرعه. والآيات هي هي هنا وهناك لم تتغير ولم تتبدل. 2- ومن خصائص الأسلوب القرآني الكريم: تصوير المعاني: ويراد بها إظهار المعاني بكلمات تكاد أن تجعلها بصورة المحسوس حتى تهم بلمسها بيديك وحتى تلج إلى ذهنك مترابطة متكاملة، لا تكلف ذهنك مشقة تركيبها، ولا تثقله بمهمة تجميعها، فتقسره قسرا على الفهم والإدراك، بل تفجؤه بانطباعها فيه بمجرد توجهه إليها.   1 قال تعالى: {يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: الآية 11] . 2 سورة غافر: الآية 7. 3 سورة طه: الآية 114. 4 قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر من الآية: 28] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 وتفسير سيد قطب رحمه الله تعالى له عناية خاصة بهذا المعنى وتميز فيه بين سائر المفسرين. وتصوير المعاني يكون أحيانًا بطريقة التجسيم أي بجعلها في صورة مجسمة قابلة للوزن والكثافة، فقد وصف الله سبحانه العذاب بأنه غليظ في قوله سبحانه: {وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} 1 واليوم بأنه ثقيل: {وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا} 2 فنقل العذاب من كونه معنى مجردًا إلى شيء ذي غلظ وسمك كما نقل اليوم من زمن لا يمسك إلى شيء ذي كثافة ووزن3. وهناك خصائص أخرى كثيرة لأسلوب القرآن منها: نظمه، ووقعه، وجودة السبك، وإحكام السرد، وتعدد الأساليب، واتحاد المعنى، والجمع بين الإجمال والبيان، وإيجاز اللفظ مع وفاء المعنى وغير ذلك.   1 سورة إبراهيم: الآية 17. 2 سورة الإنسان: الآية 27. 3 لمزيد بيان إسهام المفردة القرآنية في التجسيم انظر كتاب الأستاذ أحمد ياسوف "جماليات المفردية القرآنية في كتب الإعجاز والتفسير". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 خصائص عامة حفظه في الصدور ... ثالثًا: خصائص عامة وهي كذلك خصائص كثيرة عديدة منها: 1- حفظه في الصدور: من أشرف خصائص القرآن الكريم أن الله سبحانه وتعالى كلف الأمة بحفظه كله بحيث يحفظه عدد كثير يثبت به التواتر؛ وإلا أثمت الأمة كلها، وليس هذا الكتاب غير القرآن، فالتوراة والإنجيل ترك لأهلهما أمر الحفظ فاكتفوا بالقراءة دون الحفظ، إلا قلة لا تكاد تذكر ولم تتوافر الدواعي لحفظهما كما توافرت لحفظ القرآن الكريم فلم يكن لهما ثبوت قطعي كما هو للقرآن فسهل تحريفهما وتبديلهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 ولم يترك الرسول -صلى الله عليه وسلم- سبيلًا فيه حث على حفظ القرآن إلا وأرشد إليه وحث عليه فحفظه عدد كبير من الصحابة والتابعين ومن بعدهم وما زالت المسيرة مستمرة يحفظ المسلمون القرآن في صدورهم، ونجد إقبالا لا يخطر ببال ولا يحلم بمثله أهل كتاب؛ انظروا -إن شئتم- مدارس تحفيظ القرآن العديدة منذ نزول القرآن إلى عصرنا هذا ثم التفتوا يسره، فكم من مدرسة لتحفيظ الإنجيل أو التوراة فلن تجدوا منها شيئًا بل ستجدون قلة القلة تحفظ هذا أو ذاك مما لا يذكر -أبدًا- في مقابل مدارس تحفيظ القرآن تقول المستشرقة لورا فاغليري: إن "في مصر وحدها عدد من الحفاظ أكثر من عدد القادرين على تلاوة الأناجيل عن ظهر قلب في أوروبا كلها"1 ويقول جيمي متشيز: "لعل القرآن هو أكثر الكتب التي تقرأ في العالم وهو بكل تأكيد أيسرها حفظًا"2.   1 دفاع عن الإسلام: لورا فاغليري ص59. 2 في رحاب التفسير: عبد الحميد كشك ص28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 2- اتصال السند : من المعلوم أن أغلب الذين يتعلمون تلاوة القرآن إنما يتعلمونها عن طريق السماع ولا يكتفون بتعلمه من المصاحف وحدها، ونعلم أن أساتذتهم تلقوه أيضًا بالسماع عن طريق مشايخهم وهكذا لا تنقطع هذه الطريقة إلى أن تصل طبقة التابعين ثم الصحابة ثم الرسول صلى الله عليه وسلم. وبهذا يكون سند القرآن في كل عصر وفي كل حين متصلًا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وليس هذا لكتاب غير القرآن الكريم، فقد شرف الله هذه الأمة باتصال سندها برسولها صلى الله عليه وسلم. قال محمد بن حاتم المظفر: "إن الله تعالى قد أكرم هذه الأمة، وشرفها وفضلها بالإسناد، وليس لأحد من الأمم كلها قديمها وحديثها إسناد موصول، وإنما هو مصحف في أيديهم، وقد خلطوا بكتبهم أخبارهم، وليس عندهم تمييز بين ما نزل من التوراة والإنجيل، مما جاءهم به أنبياؤهم، وبين ما ألحقوه بكتبهم من الأخبار التي أخذوها عن غير الثقات1.   1 توضيح الأفكار محمد بن إسماعيل الصنعاني ج2 ص399، فتح المغيث: للسخاوي ج3 ص4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 3- أنه لا يمسه إلا المطهرون : أنزل الله القرآن بواسطة أفضل الملائكة على أفضل الأنبياء لخير أمة أخرجت للناس، فأخرجهم به من الظلمات إلى النور ومن رجس الجاهلية إلى طهارة الإسلام؛ فحق لهذا الكتاب أن يتهيأ المسلمون لتلاوته وأن يستعدوا لها بالطهارة، ليست الطهارة الصغرى كما يفهمها بعض الناس، ولكنها الطهارة الكبرى بكل معانيها. طهارة القلب من الكفر والشرك، فلا يمس القرآن كافر ولا يمكن من ذلك، ولا يسافر بالمصحف إلى بلاد الكفر، وطهارة القلب أيضا من الرياء والنفاق, وأن يريد بالتلاوة غير وجه الله كمن يقرأه للرياء والسمعة أو ليقال هو قارئ أو كمن يقرأه للتكسب أو لينال به شيئًا من حطام الدنيا. وطهارة البدن من الحدثين الأكبر والأصغر فيجب الاغتسال من الجنابة ونحوها بلا خلاف، ويسن الوضوء من الحدث الأصغر بل أوجبه بعض العلماء. وطهارة اللباس فينبغي أن تكون ثيابه طاهرة نظيفة نقية، وأن يتطيب وأن يلبس من الثياب أحسنها وأن يستعد لها كما يستعد لملاقاة الملوك فإنه مناج ملك الملوك. وطهارة الفم فينبغي أن ينظف فاه ويستاك ويخلل أسنانه اقتداء بسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسنة أصحابه من بعده. وهذه الطهارة خاصة بتلاوة القرآن لا يشترك معه فيها كتاب آخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 4- أن الله تعهد بحفظه : قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 1 وقد مرت بالقرآن أحداث عظيمة وأهوال جسيمة وعوامل خطيرة وتكالب عليه الأعداء وتداعت عليه الأمم ولو مر بعض ذلك على غير القرآن لأصابه ما أصاب الكتب السابقة من التحريف والتغيير والتبديل. أما القرآن فقد مر بهذه الأحوال المتماوجة والدواعي المتكالبة، ولم تنل منه بغيتها بل وصل إلينا كما أنزله الله لم يتبدل ولم يتغير ما طالته الأفواه النافخة، ولا نالته الأصوات اللاغية. ليتم الله نوره ولو كره الكافرون. وقد كانت هذه الآية بالنسبة للصحابة -رضي الله عنهم خبرا- ولكنها الآن خبر ومعجزة، معجزة أن مر خمسة عشر قرنًا ولم يقع ما يخالفها، وخبر بأن الحفظ مستمر إلى يوم القيامة. أما الكتب السابقة فلم يتعهد الله بحفظها بل أوكل أمر حفظها إلى أهلها فقال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} 2. وخصائص القرآن العامة كثيرة ومنها إجمالا: معارفه، إعجازه، أنه لا ينسب إلا إلى الله، والجمع بين البسملة والاستعاذة عند تلاوته، وحرمة تفسيره بمجرد الرأي، وتيسر حفظه وتلاوته، وأن قارئه لا يمله، وتحريم روايته بالمعنى، وأنه يتفلت من حافظه، ورسمه، وهيمنته على الكتب السابقة، والأحرف المقطعة في أوائل السور وغير ذلك3.   1 سورة الحجر: الآية 9. 2 سورة المائدة: الآية 44. 3 اقتبست هذا المبحث من كتابي "خصائص القرآن الكريم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 جمع القرآن الكريم مدخل ... جمع القرآن الكريم: المراد بجمع القرآن: يطلق جمع القرآن الكريم ويراد به أحد ثلاثة أنواع: - الأول: جمعه بمعنى حفظه في الصدور واستظهاره. - الثاني: جمعه بمعنى كتابته وتدوينه كله حروفًا وكلمات وآيات وسورا. - الثالث: جمعه بمعنى تسجيله تسجيلا صوتيا. ولكل نوع من هذه الأنواع الثلاثة تاريخ وخصائص ومزايا، ولذا فسنتناول كل نوع على حدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 أنواعه النوع الأول: جمعه بمعنى حفظه في الصدور واستظهاره الدليل ... النوع الأول: جمعه بمعنى حفظه في الصدور واستظهاره: 1- الدليل: ويشهد لهذا النوع قوله تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} 1. فالمراد بالجمع هنا الحفظ في الصدور، ويفسره حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة، كان   1 سورة القيامة: الآيات 16، 19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 يحرك شفتيه.. فأنزل الله تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} قال: جمعه في صدرك ثم نقرأه. {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} قال فاستمع وأنصت. ثم إن علينا أن نقرأه قال فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه جبريل استمع فإذا انطلق جبريل قرأه النبي -صلى الله عليه وسلم- كما أقرأه1.   1 رواه البخاري: ج1 ص4، ورواه مسلم: ج1 ص330، 331. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 2- حكمه : حفظ القرآن كله واجب على الأمة، بحيث يحفظه عدد كثير يثبت به التواتر وإلا أثمت الأمة كلها وليس هذا لكتاب غير القرآن, وأما الأفراد فيجب على كل فرد أن يحفظ من القرآن ما تقوم به صلاته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 3- فضله : لم يترك الرسول -صلى الله عليه وسلم- أمرا فيه حث على حفظ القرآن إلا وسلكه وأمر به، فكان يفاضل بين أصحابه بحفظ القرآن، ويعقد الراية لأكثرهم حفظًا للقرآن, وإذا بعث بعثًا جعل إمامهم في صلاتهم أكثرهم قراءة للقرآن ويقدم للحد في القبر أكثرهم أخذا للقرآن، ويزوج الرجل المرأة ويمهرها ما مع الرجل من القرآن، فضلًا عن الأحاديث الكثيرة الداعية لحفظ القرآن وتعلمه وتعليمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 4- حفظ الرسول -صلى الله عليه وسلم- القرآن: إدراكا من الرسول -صلى الله عليه وسلم- للأمانة الكبرى التي كلف بها وهي أن يبلغ الناس القرآن: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} 1. وإدراكًا منه عليه الصلاة والسلام أن تبليغ القرآن يجب أن يكون كما سمعه بلا زيادة ولا نقصان ولا استبدال لحرف بحرف أو حركة بحركة، لذا فقد كان عليه الصلاة والسلام يشعر بحرج شديد وخوف عظيم أن ينسى   1 سورة الأنعام: الآية 19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 شيئًا من القرآن مما جعله يحرك لسانه بالقرآن لحظة نزول الوحي مع شدة وطأة الوحي وما يعانيه من الجهد والكرب عند نزوله، وما زال صلى الله عليه وسلم كذلك حتى نزل عليه قوله تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} 1. وقال سبحانه: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} 2. فكان صلى الله عليه وسلم بعد هذا إذا أتاه الوحي أطرق فإذا ذهب جبريل وجد الرسول -صلى الله عليه وسلم- القرآن مجموعًا في صدره كما وعده الله. وقد حفظ الرسول -صلى الله عليه وسلم- القرآن كله وحفظه أصحابه, وكان جبريل يعارضه إياه في كل عام مرة في شهر رمضان, وعارضه إياه في العام الذي توفي فيه مرتين كما في حديث عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن جبريل كان يعارضني القرآن كل سنة مرة وإنه عارضني العام مرتين، ولا أراه إلا حضر أجلي" 3 وكان صلى الله عليه وسلم يقوم بالقرآن ويتلوه آناء الليل وأطراف النهار حتى كادت أن تتشقق قدماه.   1 سورة القيامة: الآيات 16، 19. 2 سورة طه: الآية 114. 3 رواه البخاري ج4 ص183. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 حفظ الصحابة رضي الله عنهم لللقرآن الكريم ... 5- حفظ الصحابة رضي الله عنهم للقرآن الكريم: اشتد التنافس بين الصحابة -رضي الله عنهم- في حفظ القرآن الكريم وتلاوته وتدبره, وتسابقوا إلى مدارسته وتفسيره والعمل به، وكانوا لا يتجاوزون عشر آيات حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، وكانوا يهجرون لذيذ المنام ودفء الفراش ويؤثرون قيام الليل والتهجد بالقرآن حتى كان يسمع لبيوتهم دويًّا كدوي النحل لتلاوتهم القرآن. وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحثهم على ذلك ويحرص على سماع تلاوتهم, فقد قال لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه: "لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 البارحة! لقد أوتيت مزمارًا من مزامير آل داود" 1 واستمع لتلاوة سالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنهما فقال له: "الحمد لله الذي جعل في أمتي مثلك" 2 وقال لابن مسعود رضي الله عنه: "اقرأ عليَّ القرآن"، فقال ابن مسعود: يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: "إني أحب أن أسمعه من غيري"، فقرأ عليه سورة النساء حتى إذا بلغ قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} 3 قال: "حسبك الآن"، قال ابن مسعود: فالتفتُ فإذا عيناه تذرفان" 4، وقال صلى الله عليه وسلم: "إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين بالقرآن حين يدخلون بالليل وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار" 5. والأخبار كثيرة تشهد على عناية الصحابة رضي الله عنهم بالقرآن الكريم وتلاوته، وحفظه وعلى حث الرسول عليه الصلاة والسلام لأصحابه على ذلك. فلا عجب أن يكثر عدد حفاظ القرآن من الصحابة إذ حفظه في حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- الجم الغفير من الصحابة رضي الله عنهم. فمن المهاجرين الذين حفظوا القرآن كله أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، وسعد، وابن مسعود، وحذيفة، وسالم مولى أبي حذيفة، وأبو هريرة، وعبد الله بن عمر، وابن عباس، وعمرو بن العاص، وابنه عبد الله، ومعاوية، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن السائب، وعائشة، وحفصة، وأم سلمة6.   1 رواه مسلم، ج1 ص546. 2 مسند الإمام أحمد ج6 ص165. 3 سورة النساء: الآية 41. 4 رواه البخاري: ج6 ص113. 5 رواه مسلم ج4 ص1944. 6 الإتقان: السيوطي ج1 ص72. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 ومن الأنصار عبادة بن الصامت، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وفضالة بن عبيد، ومسلمة بن مخلد، وأبو الدرداء، وأنس بن مالك، وأبو زيد بن السكن. "إشكال" روى البخاري في صحيحه ثلاثة أحاديث: الأول: عن قتادة قال سألت أنس بن مالك رضي الله عنه: من جمع القرآن على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم؟ قال: أربعة، كلهم من الأنصار: أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد1. الثاني: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "مات النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يجمع القرآن غير أربعة: أبو الدرداء، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت وأبو زيد قال ونحن ورثناه"2. الثالث: عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "خذوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود، وسالم، ومعاذ، وأبي بن كعب" 3. وقد يستدل بهذه الأحاديث على أن الذين يحفظون القرآن هم: عبد الله بن مسعود، وسالم بن معقل مولى أبي حذيفة، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبو زيد بن السكن، وأبو الدرداء. وهذا يخالف ما هو معلوم أن الذين يحفظون القرآن من الصحابة جم غفير وليس محصورًا بهذا العدد. والجواب عن هذا الإشكال من وجوه: الأول: أنه لا يراد بهذه الأحاديث الحصر وإنما يراد به ضرب المثل،   1 رواه البخاري ج6 ص102، 103. 2 رواه البخاري ج6 ص103. 3 رواه البخاري ج6 ص102. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 ويشهد لهذا أن أنسًا نفسه ذكر في حديث "أبي بن كعب" وفي حديث آخر "أبا الدرداء" فلو كان المراد الحصر لاتفقت الأسماء في الحديثين. الثاني: أن المراد بالجمع الكتابة لا الحفظ. الثالث: أن المراد بالجمع حفظه بوجوه القراءات كلها. الرابع: أن المراد بالجمع تلقيه كله من فم الرسول صلى الله عليه وسلم. الخامس: أن المراد أنهم هم الذين عرضوه على النبي -صلى الله عليه وسلم- واتصلت بنا أسانيدهم وأما من حفظه ولم يتصل بنا سنده فكثير1. قال المازري -رحمه الله تعالى- "وقد تمسك بقول أنس هذا جماعة من الملاحدة ولا متمسك لهم فيه، فإنا لا نسلم حمله على ظاهره، سلمناه، ولكن من أين لهم أن الواقع في نفس الأمر كذلك؟ سلمناه، لكن لا يلزم من كون كل من الجم الغفير لم يحفظه كله ألا يكون حفظ مجموعه الجم الغفير، وليس من شرط التواتر أن يحفظ كل فرد جميعه. بل إذا حفظ الكلُّ الكلَّ ولو على التوزيع كفى"2. وقد توافرت الدواعي لحفظ الصحابة للقرآن الكريم: ومنها: 1- قوة الحافظة عندهم وسيلان الذهن وحدة الخاطر وفي التاريخ شواهد لذلك. 2- أنهم كانوا أميين لا يعرفون القراءة ولا يحذقون الخط والكتابة وجعلهم هذا لا يعولون إلا على قوة الحافظة. 3- تمكن الإيمان من قلوبهم -رضي الله عنهم- وحب الله سبحانه وتعالى وحب الرسول -صلى الله عليه وسلم- وحب كتابه مما جعلهم يقبلون على حفظ القرآن.   1 البرهان في علوم القرآن: الزركشي ج1 ص242. 2 الإتقان: السيوطي ج1 ص72، وفتح الباري: ج9 ص52، والمرشد الوجيز ص40 عن المعلم شرح صحيح مسلم للمازري "مخطوط". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 4- بلاغة القرآن التي ملكت الأفئدة، وقد كانوا يتذوقون الكلام ويحفظون أجوده فلا عجب أن يقبلوا على حفظ القرآن. 5- النصوص الكثيرة الواردة في الحث على حفظ القرآن والترهيب من نسيانه وهجره. 6- تشريع قراءة القرآن في الصلاة والقيام به في الليل وهم أهل صلاة وقيام وغير ذلك من العوامل1 التي دفعتهم لحفظ القرآن حتى حفظه عدد كبير كما أشرنا ويكفي أنه قتل في بئر معونة نحو سبعين من حفاظ القرآن وقتل في معركة اليمامة مثلهم؛ مما يدل على كثرة حفاظ القرآن الكريم في عهد الصحابة -رضي الله عنهم- وأرضاهم وعلى تنافسهم في حفظ القرآن وتحفيظه وتعلمه وتعليمه.   1 انظر مناهل العرفان: الزرقاني ج1 ص284، 331. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 6- حفظ التابعين ومن بعدهم -رحمهم الله تعالى- للقرآن الكريم: مر بنا أن الصحابة -رضي الله عنهم- انتشروا في الآفاق الإسلامية والبلدان المفتوحة يعلمون الناس أمور دينهم ويعقدون حلق التعليم والتدريس في مساجد تلك البلدان، وأقبل عليهم كثير من الناس يتحلقون حولهم، ويتلقون العلم منهم وصار لبعض هذه المدارس شهرة كبيرة حملت كثيرًا من التابعين على الرحلة إليها وتلقي العلم من أهلها كمدرسة ابن مسعود -رضي الله عنه- في الكوفة ومدرسة أبي بن كعب -رضي الله عنه- في المدينة ومدرسة ابن عباس -رضي الله عنهما- في مكة وغيرها من مدارس الصحابة رضي الله عنهم. وكان الصحابة يعلمونهم القرآن الكريم ويحفظونهم إياه ويفسرون لهم معانيه ويبينون لهم أحكامه، وقد أقبل التابعون على هذه المدارس فكثر حفاظ القرآن الكريم ولم يقتصروا على تلاوته بل حفظوا أوجه قراءته واشتهر عدد كبير من الحفاظ بالقراءة والرواية. وتجرد بعض التابعين -رحمهم الله تعالى- للعناية بضبط القراءات وإتقانها ووضع القواعد لها والأصول حتى صاروا أئمة يقتدى بهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 7- حفظ القرآن الكريم في العصر الحديث : أما في العصور الحديثة فما زالت المسيرة -والحمد لله- مستمرة يحفظ المسلمون القرآن في صدورهم مع تكالب الأحوال على المسلمين واضطراب المعيشة ومغريات الحضارة وتوافر الموانع، وانحسار الدوافع، وما زلنا نرى كثرة حفاظ القرآن الكريم ونجد إقبالا لا يخطر ببال ولا يحلم بمثله أهل الكتاب. فقد انتشرت مدارس تحفيظ القرآن الكريم العديدة وأنشئت معاهد للقراءات وكليات القرآن في العديد من الدول الإسلامية والحمد لله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 8- خصائص جمع القرآن بمعنى حفظه في الصدور : ولهذا النوع من الجمع مزايا وخصائص منها: 1- أن جمع القرآن بمعنى حفظه هو أول علم نشأ من علوم القرآن الكريم، وذلك أنه حين نزل الوحي على الرسول -صلى الله عليه وسلم- في غار حراء وجرى ما جرى تلا عليه الصلاة والسلام ما نزل عليه من القرآن على خديجة وذلك من حفظه فهو أول علم نشأ من علوم القرآن. 2- أنه دائم لا ينقطع إن شاء الله تعالى، فقد حفظ الرسول -صلى الله عليه وسلم- القرآن وحفظه أصحابه والتابعون ومن بعدهم وما زال المسلمون يحفظونه إلى أن يأذن الله برفعه بخلاف جمعه بمعنى كتابته فقد مر بثلاث مراحل آخرها في عهد عثمان رضي الله عنه. 3- أن الحفظ في الصدور خاص بالقرآن وليس هناك كتاب يحفظه أهله غير القرآن. 4- أنه يجب على كل مسلم أن يحفظ من القرآن ما يؤدي به الصلوات بخلاف جمعه بمعنى كتابته وتدوينه فلا يجب على كل مسلم. 5- الوعيد لمن حفظ شيئًا من القرآن ثم نسيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 النوع الثاني: جمعه بمعنى كتابته وتدوينه مدخل ... النوع الثاني: جمعه بمعنى كتابته وتدوينه: جمع القرآن الكريم بهذا المعنى ثلاث مرات: - الجمع الأول: في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم. - الجمع الثاني: في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه. - الجمع الثالث: في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه. المراد بالجموع الثلاثة: وقد يشكل على الذهن كيف يجمع الشيء الواحد ثلاث مرات فإذا كان جُمِعَ في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- فكيف يجمع في عهد أبي بكر -رضي الله عنه- وإذا جمع في عهد أبي بكر ثانية فكيف يجمع ثالثة. والجواب: أنه لا يراد بالجمع معناه الحقيقي في جميع المراحل. فالمراد بجمع القرآن في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم "كتابته وتدوينه" والمراد بجمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه "جمع في مصحف واحد". والمراد بجمع القرآن في عهد عثمان رضي الله عنه "نسخه" في مصاحف متعددة. ويظهر بهذا أن الجمع بمعناه الحقيقي كان في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه. وسنتحدث عن كل مرحلة من مراحل هذه الجمع: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 أولًا: جمع القرآن بمعنى كتابته وتدوينه في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم : كتاب الوحي: اتخذ الرسول -صلى الله عليه وسلم- عددًا من الصحابة كان إذا نزل عليه شيء من القرآن أمر أحدهم بكتابته وتدوينه ويعرف هؤلاء الصحابة بـ "كتّاب الوحي" ومنهم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 الخلفاء الأربعة، وزيد بن ثابت، وأبي بن كعب، ومعاوية بن أبي سفيان، ويزيد بن أبي سفيان وخالد بن سعيد بن العاصي وحنظلة بن الربيع، والزبير بن العوام وعامر بن فهيرة، وعمرو بن العاص، وعبد الله بن الأرقم، والمغيرة بن شعبة، وعبد الله بن رواحة، وخالد بن الوليد، وثابت بن قيس، وغيرهم1. صفة هذا الجمع: وصف هذا الجمع صحابيان جليلان فقال زيد بن ثابت رضي الله عنه: "كنا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نوَلِّف القرآن من الرِّقاع"2 أي نجمعه لترتيب آياته من الرقاع، وروى عثمان بن عفان -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان إذا نزل عليه الشيء يدعو بعض من كان يكتبه فيقول: "ضعوا هذه في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا". الحديث3. أدوات الكتابة: لم تكن أدوات الكتابة ميسرة للصحابة في ذلك الوقت فكانوا يكتبونه على كل ما تناله أيديهم من العُسُب "وهي جريد النخل". واللِّخَاف: "وهي الحجارة الرقيقة". والرقاع: "وهي القطعة من الجلد أو الورق". الكرانيف: "وهي أطراف العسب العريضة". والأقتاب: "جمع قتَب وهي الخشب الذي يوضع على ظهر البعير ليركب عليه".   1 انظر جوامع السيرة لابن حزم ص26، 27، وزاد المعاد لابن القيم ج1 ص29، وكتاب الوحي للدكتور: أحمد عبد الرحمن عيسى، وكتاب النبي -صلى الله عليه وسلم: للدكتور محمد مصطفى الأعظمي. 2 رواه الحاكم في المستدرك ج2 ص229. 3 رواه الحاكم في المستدرك ج2 ص221. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 والأكتاف: "جمع كتف وهي عظم عريض للإبل والغنم". وكان كتاب الوحي -رضي الله عنهم- يضعون كل ما يكتبون في بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وينسخون لأنفسهم منه نسخة. مميزات جمع القرآن في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم: 1- ثبت في السنة نزول القرآن الكريم على سبعة أحرف ومما ورد في ذلك حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منه" 1 وقد كانت كتابة القرآن في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- على الأحرف السبعة. 2- أجمع العلماء على أن جمع القرآن في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان مرتب الآيات أما ترتيب السور ففيه خلاف. 3- بعض ما كتب في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- نسخت تلاوته وظل مكتوبًا حتى توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفي الحديث عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان فيما أنزل من القرآن: "عشر رضعات معلومات يحرمن" ثم نسخن "بخمس معلومات" فتوفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهن فيما يقرأ من القرآن2. 4- لم يكن القرآن الكريم في عهد الرسول الله -صلى الله عليه وسلم- مجموعًا في مصحف واحد، بل كان مفرقا في الرقاع والأكتاف واللخاف وغيرها؛ ولهذا قال زيد بن ثابت رضي الله عنه: "قبض النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يكن القرآن جمع في شيء"3، وقال أيضًا لما أمر بجمع القرآن في عهد أبي بكر رضي الله عنه: "فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال"4.   1 رواه البخاري ج6 ص100، ورواه مسلم ج1 ص560. 2 رواه مسلم ج2 ص1075. 3 فتح الباري، لابن حجر ج9 ص9، الإتقان في علوم القرآن: السيوطي ج1 ص57. 4 صحيح البخاري ج6 ص98 باب جمع القرآن الكريم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 ولعلك تسأل بعد هذا لماذا لم يجمع القرآن في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- في مصحف واحد؟ وقد أجاب العلماء رحمهم الله تعالى على ذلك، وذكروا أسبابًا منها: 1- أن الله تعالى قد أمن نبيه عليه الصلاة والسلام من النسيان بقوله سبحانه وتعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى، إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ} 1، أي ما شاء أن يرفع حكمه بالنسخ فلا خوف إذن أن يذهب شيء من القرآن الكريم، وأما بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فإن النسيان قد يقع فبادر المسلمون إلى جمعه في مصحف واحد2. 2- قال الخطابي: "إنما لم يجمع صلى الله عليه وسلم القرآن في المصحف لما يترقبه من ورود ناسخ لبعض أحكامه أو تلاوته فلما انقضى نزوله بوفاته ألهم الله الخلفاء الراشدين ذلك وفاء بوعده الصادق بضمان حفظه على هذه الأمة3. وقال الزركشي: "وإنما ترك جمعه في مصحف واحد؛ لأن النسخ كان يرد على بعض، فلو جمعه ثم رفعت تلاوة بعض لأدى إلى الاختلاف واختلاط الدين، فحفظه الله في القلوب إلى انقضاء زمان النسخ ثم وَفق لجمعه الخلفاء الراشدين"4. 3- أن القرآن الكريم لم ينزل جملة واحدة، بل نزل منجمًا في ثلاث وعشرين سنة. 4- أن ترتيب آيات القرآن وسوره ليس على حسب ترتيب نزوله،   1 سورة الأعلى: الآيتين 6، 7. 2 البرهان: الزركشي: ج1 ص238. 3 الإتقان: السيوطي: ج1 ص57، وانظر شرح السنة: للبغوي ج4 ص519. 4 البرهان: الزركشي ج1 ص235. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 ولو جمع القرآن في مصحف واحد حينئذاك لكان عرضة للتغيير كلما نزل شيء من القرآن1. ولم يكن الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- إذا اختلفوا في شيء من القرآن يرجعون إلى ما هو مكتوب بل كانوا يرجعون إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيعرضون عليه قراءتهم ويسألونه عنها. وبعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومقتل بعض القراء من الصحابة دعت الحاجة إلى جمع القرآن في مصحف واحد، فكان ذلك في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه.   1 مناهل العرفان: الزرقاني ج1 ص241، 242. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 ثانيا: جمع القرآن الكريم في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه : سببه: بعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ارتدت بعض قبائل العرب فأرسل أبو بكر -رضي الله عنه- خليفة الرسول -صلى الله عليه وسلم- الجيوش لقتال المرتدين وكان قوام هذه الجيوش هم الصحابة رضوان الله عليهم وفيهم حفاظ القرآن، وكانت حروب الردة شديدة قتل فيها عدد من القراء الذين يحفظون القرآن الكريم، فخشي بعض الصحابة أن يذهب شيء من القرآن بذهاب حفظته1 فأراد أن يجمع القرآن في مصحف واحد بمحضر من الصحابة. وقصة ذلك رواها البخاري في صحيحه عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: أرسل إلي أبو بكر -مقتل أهل اليمامة- فإذا عمر بن الخطاب عنده قال أبو بكر رضي الله عنه: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر2 يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقرآء   1 شرح السنة: البغوي ج4 ص521. 2 يعني: اشتد وكثر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 بالموطن فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن، قلت لعمر: كيف تفعل شيئًا لم يفعله رسول الله عليه وسلم. قال عمر: هذا والله خير، فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك، ورأيت في ذلك الذي كنت تكتب الوحي لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتتبع القرآن فاجمعه، فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن، قلت: كيف تفعلون شيئًا لم يفعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: هو والله خير فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} حتى خاتمة براءة، فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله ثم عند عمر حياته ثم عند حفصة بنت عمر رضي الله عنها"1. تاريخ هذا الجمع: هو كما جاء في الحديث بعد معركة اليمامة، وفي السنة الثانية عشرة من الهجرة. أسباب اختيار زيد بن ثابت رضي الله عنه لهذا الجمع: ترجع أسباب اختيار زيد بن ثابت لأمور منها: 1- أنه كان من حفاظ القرآن الكريم. 2- أنه شهد العرضة الأخيرة للقرآن الكريم، وقد روى البغوي عن أبي عبد الرحمن السلمي أنه قال: قرأ زيد بن ثابت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في العام الذي توفاه الله فيه مرتين إلى أن قال عن زيد بن ثابت أنه: "شهد   1 صحيح البخاري ج6 ص98، 99. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 العرضة الأخيرة، وكان يقرئ الناس بها حتى مات، ولذلك اعتمده أبو بكر وعمر في جمعه، وولاه عثمان كتبة المصاحب رضي الله عنهم أجمعين"1. 3- أنه من كتاب الوحي للرسول صلى الله عليه وسلم. 4- خصوبة عقله، وشدة ورعه، وكمال خلقه، واستقامة دينه، وعظم أمانته ويشهد لذلك قول أبي بكر رضي الله عنه له: "إنك رجل شاب، عاقل، ولا نتهمك وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم" وقوله نفسه رضي الله عنه: "فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن". منهج زيد في هذا الجمع: من المعلوم أن زيد بن ثابت رضي الله عنه كان يحفظ القرآن كله في صدره, وكان القرآن مكتوبًا عنده ومع هذا فلم يعتمد على ما حفظه ولا على ما كتب بيده، وذلك أن عمله ليس جمع القرآن فحسب، وإنما التوثيق والتثبت فيما يكتب؛ ولهذا يقول الزركشي رحمه الله تعالى عن زيد: "وتتبعه للرجال كان للاستظهار لا لاستحداث العلم"2 وقال ابن حجر رحمه الله تعالى: "وفائدة التتبع المبالغة في الاستظهار والوقوف عند ما كتب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم"3. وقد رسم أبو بكر -رضي الله عنه- لزيد المنهج لهذا الجمع فقال له ولعمر بن الخطاب رضي الله عنه: "اقعدوا على باب المسجد، فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه"4، 5.   1 شرح السنة: البغوي ج4 ص525، 526، والبرهان للزركشي ج1 ص237، والإتقان للسيوطي ج1 ص50. 2 البرهان: الزركشي ج1 ص234. 3 فتح الباري: ابن حجر ج9 ص15. 4 المصاحف: لابن أبي داود ص12، وجمال القراء ج1 ص86. 5 قال ابن حجر: "ورجاله ثقات مع انقطاعه" فتح الباري ج9 ص14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 وقد امتثلا ذلك فقد قام عمر في الناس فقال: "من كان تلقى من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئًا من القرآن فليأتنا به"1. وقد بين زيد نفسه المنهج الذي سلكه بقوله رضي الله عنه: "فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال"2. وعلى هذا فإن منهج زيد في جمع القرآن الكريم في عهد أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- يقوم على أسس أربعة: - الأول: ما كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. - الثاني: ما كان محفوظًا في صدور الرجال. - الثالث: أن لا يقبل شيئًا من المكتوب حتى يشهد شاهدان على أنه كتب بين يدي الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال السخاوي معناه: "من جاءكم بشاهدين على شيء من كتاب الله الذي كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم"3. وقال ابن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى: "وكان غرضهم أن لا يكتب إلا من عين ما كتب بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم- لا من مجرد الحفظ"4. - الرابع: أن لا يقبل من صدور الرجال إلا ما تلقوه من فم الرسول -صلى الله عليه وسلم- فإن عمر رضي الله عنه ينادي: "من كان تلقى من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئًا من القرآن فليأتنا به" ولم يقل من حفظ شيئًا من القرآن فليأتنا به.   1 المصاحف: ابن أبي داود ص17. 2 صحيح البخاري: ج6 ص98، 99. 3 جمال القراء: السخاوي ج1 ص86. 4 فتح الباري: ابن حجر ج9 ص15، وانظر المرشد الوجيد: لأبي شامة ص57. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 مميزات جمع القرآن الكريم في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه: 1- جمع القرآن الكريم في هذا العهد على أدق وجوه البحث والتحري والإتقان على الوجه الذي أشرنا إليه في منهج الجمع. 2- أهمل في هذا الجمع ما نسخت تلاوته من الآيات. 3- أن هذا الجمع كان بالأحرف السبعة التي نزل عليها القرآن الكريم كما كان في الرقاع التي كتبت في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم. 4- أن هذا الجمع كان مرتب الآيات باتفاق واختلف العلماء في السور هل كانت مرتبة في هذا الجمع أم أن ترتيبها كان في عهد عثمان رضي الله عنه. 5- اتفق العلماء على أنه كتب نسخة واحدة من القرآن في هذا الجمع حفظها أبو بكر لأنه إمام المسلمين. 6- ظفر هذا الجمع بإجماع الأمة عليه وتواتر ما فيه. مكانة هذا الجمع: ظفر هذا الجمع باتفاق الصحابة -رضي الله عنهم- على صحته ودقته وأجمعوا على سلامته من الزيادة أو النقصان، وتلقوه بالقبول والعناية التي يستحقها حتى قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "أعظم الناس أجرا في المصاحف أبو بكر فإنه أول من جمع ما بين اللوحين"1. ومع هذا التصريح من علي -رضي الله عنه- فقد زعم قوم أن أول من جمع القرآن هو علي -رضي الله عنه- وقد رد عليهم الألوسي فقال: وما شاع أن عليا -كرم الله وجهه- لما توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تخلف لجمعه. فبعض طرقه ضعيفة، وبعضها موضوعة، وما صح فمحمول كما قيل على الجمع في الصدر، وقيل: كان جمعًا بصورة أخرى لغرض آخر، ويؤيده أنه   1 المصاحف: أبو داود السجستاني ص11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 قد كتب فيه الناسخ والمنسوخ فهو ككتاب علم1. ولهذا روي أن أول من جمعه عمر رضي الله عنه، كما روي أن أول من جمعه سالم مولى أبي حذيفة، أقسم أن لا يرتدي برداء حتى يجمعه وكل ذلك محمول على ما حمل عليه جمع علي -رضي الله عنه- بل ذكر ابن حجر وغيره أن جمع علي -رضي الله عنه- كان حسب ترتيب النزول وذكر النهاوندي -أحد مفسري الرافضة- "أن الكتاب الذي جمعه أمير المؤمنين -رضى الله عنه- كان فيه بيان شأن نزول الآيات. وأسماء الذين نزلت فيهم وأوقات نزولها وتأويل متشابهاتها وتعيين ناسخها ومنسوخها، وذكر عامها وخاصها، وبيان العلوم المرتبطة بها، وكيفية قراءاتها"2. وإن صح هذا -مع استحالته- فليس هو بجمع للقرآن وإنما هو كتاب في علوم القرآن. وإنما قلت مع استحالته؛ فلأن جمعه حسب ترتيب النزول غير ممكن فقد سأل محمد بن سيرين عكرمة مولى ابن عباس فقال: "قلت لعكرمة: ألفوه كما أنزل الأول فالأول؟ قال: لو اجتمع الإنس والجن على أن يؤلفوه هذا التأليف ما استطاعوا"3. تسميته بالمصحف: لم يكن "المصحف" يطلق على القرآن قبل جمع أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- وإنما عرف هذا الاسم بعد أن أتم زيد جمع القرآن فقد روى السيوطي عن ابن أشتة في كتابه "المصاحف" أنه قال: "لما جمعوا القرآن فكتبوه في الورق قال أبو بكر: التمسوا له اسمًا فقال بعضهم السفر وقال   1 روح المعاني: الألوسي، ج1 ص22. 2 نفحات الرحمن: ج1 ص8-12. عن كتاب: علوم القرآن عند المفسرين: إصدار مركز الثقافة والمعارف القرآنية في إيران ج1 ص367. 3 الإتقان: السيوطي ج1 ص77. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 بعضهم المصحف فإن الحبشة يسمونه المصحف وكان أبو بكر أول من جمع كتاب الله وسماه المصحف"1. خبر هذا المصحف: بعد أن أتم زيد جمع القرآن في المصحف سلمه لأبي بكر الصديق -رضي الله عنه- فحفظه عنده حتى وفاته، ثم انتقل إلى أمير المؤمنين من بعده عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وبعد وفاته انتقل المصحف إلى حفصة أم المؤمنين -رضي الله عنها- لأن عمر رضي الله عنه جعل أمر الخلافة من بعده شورى، فبقي عند حفصة إلى أن طلبه منها عثمان -رضي الله عنه- لنسخه بعد ذلك، ثم أعاده إليها -لما سيأتي- ولما توفيت حفصة رضي الله عنها أرسل مروان بن الحكم إلى أخيها عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- ساعة رجعوا من جنازة حفصة بعزيمة ليرسلن بها فأرسل بها ابن عمر إلى مروان فمزقها مخافة أن يكون في شيء من ذلك خلاف ما نسخ عثمان رضي الله عنه2.   1 الإتقان: السيوطي ج1 ص51. 2 المرشد الوجيز: أبو شامة المقدسي ص52. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 ثالثا: جمع القرآن بمعنى نسخه في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه : سببه: عندما اتسعت الفتوحات الإسلامية انتشر الصحابة -رضي الله عنهم- في البلاد المفتوحة يعلمون أهلها القرآن وأمور الدين، وكان كل صحابي يعلم بالحرف الذي تلقاه من الأحرف السبعة، فكان أهل الشام يقرءون بقراءة أبي بن كعب -رضي الله عنه- فيأتون بما لم يسمع أهل الشام فيكفر بعضهم بعضًا1. وعندما اتجه جيش المسلمين لفتح "أرمينيه" و"أذربيجان" كان الجنود من أهل العراق وأهل الشام فكان   1 فتح الباري: ابن حجر العسقلاني ج9 ص18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 الشقاق والنزاع يقع بينهم ورأى حذيفة بن اليمان رضي الله عنه اختلافهم في القراءة وبعض ذلك مشوب باللحن مع إلف كل منهم لقراءته واعتياده عليها واعتقاده أنها الصواب وما عداها تحريف وضلال، حتى كفر بعضهم بعضا فأفزع هذا حذيفة -رضي الله عنه- فقال والله لأركبن إلى أمير المؤمنين "يعني عثمان بن عفان رضي الله عنه"، وكان عثمان قد رأى نحو هذا في المدينة, فقد كان المعلم يعلم بقراءة والمعلم الآخر يعلم بقراءة فجعل الصبيان يلتقون فينكر بعضهم قراءة الآخر فبلغ ذلك عثمان -رضي الله عنه- فقام خطيبًا وقال: "أنتم عندي تختلفون فيه فتلحنون فمن نأى عني من الأمصار أشد فيه اختلافًا وأشد لحنًا، اجتمعوا يا أصحاب محمد، واكتبوا للناس إمامًا"1. فلما جاء حذيفة إلى عثمان -رضي الله عنهما- وأخبره بما جرى تحقق عند عثمان ما توقعه، وقد روى البخاري في صحيحه قصة ذلك الجمع في حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "إن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح "أرمينيه" و"أذربيجان" مع أهل العراق فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك فأرسلت بها حفصة إلى عثمان2. تاريخ هذا الجمع: كان ذلك في أواخر سنة 24 وأوائل سنة 25 كما قال ابن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى3.   1 المصاحف: ابن أبي داود ص29. 2 صحيح البخاري ج6 ص99. 3 فتح الباري: ابن حجر ج9 ص17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 فكرة الجمع: لما سمع عثمان -رضي الله عنه- ما سمع وأخبره حذيفة -رضي الله عنه- بما رأى استشار الصحابة فيما يفعل، فقد روى ابن أبي داود بإسناد صحيح -كما يقول ابن حجر1- من طريق سويد بن غفلة قال: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "يا أيها الناس لا تغلوا في عثمان ولا تقولوا له إلا خيرًا في المصاحف.. فوالله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملأ منا جميعًا، قال ما تقولون في هذه القراءة؟ فقد بلغني أن بعضهم يقول: إن قراءتي خير من قراءتك، وهذا يكاد أن يكون كفرًا، قلنا: فما ترى؟ قال: نرى أن نجمع الناس على مصحف واحد فلا تكون فرقة ولا يكون اختلاف. قلنا: فنعم ما رأيت.. قال علي: والله لو وليت لفعلت مثل الذي فعل2. اللجنة المختارة: اختار عثمان -رضي الله عنه- أربعة لنسخ المصاحف هم: زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وهؤلاء الثلاثة من قريش. فقد سأل عثمان -رضي الله عنه- الصحابة: من أكتب الناس؟ قالوا: كاتب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- زيد بن ثابت قال: فأي الناس أعرب؟ وفي رواية أفصح. قالوا: سعيد بن العاص، قال عثمان: فليمل سعيد، وليكتب زيد"3. المنهج في هذا الجمع: بعد أن اتفق عثمان مع الصحابة -رضي الله عنهم- أجمعين على جمع   1 فتح الباري: ابن حجر ج9 ص18. 2 المصاحف: ابن أبي داود ص30. 3 فتح الباري: ابن حجر، ج9 ص19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 القرآن على حرف سلك منهجًا فريدًا، وطريقًا سليمًا، أجمعت الأمة على سلامته ودقته. 1- فبدأ عثمان رضي الله عنه بأن خطب في الناس فقال: "أيها الناس عهدكم بنبيكم منذ ثلاث عشرة وأنتم تمترون في القرآن وتقولون: "قراءة أبي" و"قراءة عبد الله" يقول الرجل: "والله ما تقيم قراءتك"!! فأعزم على كل رجل منكم ما كان من كتاب الله شيء لما جاء به، وكان الرجل يجيء بالورقة والأديم فيه القرآن حتى جمع من ذلك كثرة، ثم دخل عثمان فدعاهم رجلًا رجلًا فناشدهم، لسمعت رسول الله عليه وسلم وهو أملاه عليك؟ فيقول: نعم"1. 2- وأرسل عثمان -رضي الله عنه- إلى أم المؤمنين حفصة بنت عمر -رضي الله عنهما- أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نعيدها إليك، فأرسلت بها إليه، ومن المعلوم أن هذه الصحف هي التي جمعت في عهد أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- على أدق وجوه البحث والتحري. 3- ثم دفع ذلك إلى زيد بن ثابت والقرشيين الثلاثة وأمرهم بنسخ مصاحف منها وقال عثمان للقرشيين: "إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم"2. 4- إذا تواتر في آية أكثر من قراءة تكتب الآية خالية من أية علامة تقصر النطق بها على قراءة واحدة فتكتب برسم واحد يحتمل القراءتين أو القراءات فيها جميعًا مثل: أ- {فَتَبَيَّنُوا} 3 التي قرأت أيضا "فتثبتوا"4.   1 المصاحف ابن أبي داود، ص31. وانظر جمال القراء ج1 ص89. 2 صحيح البخاري ج6 ص99. 3 سورة الحجرات: الآية 6. 4 وهي قراءة حمزة والكسائي وخلف "النشر في القراءات العشر، ابن الجزري ج2 ص251". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 ب- {نُنشِزُهَا} 1 قرأت أيضا "ننشرها"2. أما إذا لم يكن رسمها بحيث تحتمل القراءات فيها فتكتب في بعض المصاحف برسم يدل على قراءة، وفي مصاحف أخرى برسم يدل على القراءة الأخرى مثل: أ- {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ} 3 هكذا تكتب في بعض المصاحف وفي بعضها "وأوصى"4. ب- {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} 5 بواو قبل السين في بعض المصاحف وفي بعضها بحذف الواو6. وبعد الفراغ من نسخ المصاحف بعث عثمان بنسخ منها إلى الأمصار الإسلامية حيث نشط المسلمون في نسخ مصاحف منها للأفراد, وكان زيد بن ثابت في المدينة يتفرغ في رمضان من كل سنة لعرض المصاحف فيعرضون مصاحفهم عليه وبين يديه مصحف أهل المدينة7. مزايا جمع القرآن في عهد عثمان رضي الله عنه: تميز هذا الجمع بمزايا عديدة منها: 1- الاقتصار على حرف واحد من الأحرف السبعة، قال ابن القيم رحمه الله تعالى: جمع عثمان رضي الله عنه الناس على حرف واحد من   1 سورة البقرة: الآية 259. 2 الأولى قراءة ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي وخلف بالزاي والباقون بالراء المهملة "إتحاف فضلاء البشر: البناء ص162". 3 سورة البقرة: الآية 132. 4 وهي قراءة نافع وابن عامر "إتحاف فضلاء البشر ص148". 5 سورة آل عمران: الآية 133. 6 وهي قراءة نافع وابن عامر "إتحاف فضلاء البشر ص179". 7 المصاحف: ابن أبي داود ص175. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 الأحرف السبعة التي أطلق لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- القراءة بها لما كان ذلك مصلحة"1. 2- إهمال ما نسخت تلاوته: فقد كان قصد عثمان -رضي الله عنه- جمع الناس على مصحف لا تقديم فيه ولا تأخير ولا تأويل أثبت مع تنزيل، ولا منسوخ تلاوته كتب مع مثبت رسمه، ومفروض قراءته وحفظه، خشية دخول الفساد والشبهة على من يأتي بعد2. 3- الاقتصار على ما ثبت في العرضة الأخيرة وإهمال ما عداه. فقد روى ابن أبي داود في المصاحف عن محمد بن سيرين عن كثير بن أفلح قال: لما أراد عثمان أن يكتب المصاحف جمع له اثنى عشر رجلًا من قريش والأنصار فيهم أبي بن كعب، وزيد بن ثابت قال فبعثوا إلى الربعة التي في بيت عمر فجيء بها، قال وكان عثمان يتعاهدهم فكانوا إذا تدارءوا في شيء أخروه، قال محمد: فقلت لكثير وكان منهم فيمن يكتب: هل تدرون لم كانوا يؤخرونه؟ قال: لا، قال محمد فظننت ظنا أنما كانوا يؤخرونها لينظروا أحدثهم عهدًا بالعرضة الأخيرة فيكتبونها على قوله3. 4- الاقتصار على القراءات الثابتة المعروفة عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وإلغاء ما لم يثبت4. 5- كان مرتب الآيات والسور على الوجه المعروف الآن. قال الحاكم في المستدرك: "إن جمع القرآن لم يكن مرة واحدة، فقد جمع بعضه بحضرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ثم جمع بعضه بحضرة أبي بكر الصديق،   1 الطرق الحكمية في السياسة الشرعية: ابن القيم ص16. 2 الإتقان: السيوطي ج1 ص60. 3 المصاحف: ابن أبي داود ص33. 4 البرهان، الزركشي ج1 ص235. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 والجمع الثالث هو في ترتيب السور وكان في خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عثمان رضي الله عنهم أجمعين"1. الفروق بين جمع أبي بكر وجمع عثمان رضي الله عنهما: كان معنى "الجمع" ظاهرًا في جمع القرآن في عهد أبي بكر فقد كان القرآن مفرقًا فأمر بجمعه كما قال المحاسبي: "كان ذلك بمنزلة أوراق وجدت في بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيها القرآن منتشر، فجمعها جامع، وربطها بخيط حتى لا يضيع منها شيء"2. إذًا فمعنى الجمع فيه ظاهر لا يحتاج إلى تفريق بينه وبين الجمع في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- لكن الإشكال واللبس هو في الجمعين الثاني والثالث، إذ كيف يأمر عثمان بجمع القرآن وهو مجموع في عهد أبي بكر -رضي الله عنهما- ولذا فإن العلماء يولون التفريق بين جمع القرآن في عهد أبي بكر وجمعه في عهد عثمان عنايتهم لإزالة هذا اللبس، ويذكرون فروقًا. قال القاضي أبو بكر في الانتصار: "لم يقصد عثمان قصد أبي بكر في جمع القرآن بين لوحين وإنما قصد جمعهم على القراءات الثابتة المعروفة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وإلغاء ما ليس كذلك"3 وقال ابن التين وغيره: "الفروق بين جمع أبي بكر وجمع عثمان أن جمع أبي بكر كان لخشية أن يذهب من القرآن شيء بذهاب حملته لأنه لم يكن مجموعًا في أي موضع واحد فجمعه في صحائف مرتبًا لآيات سوره على ما وقفهم عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وجمع عثمان كان لما كثر الاختلاف في وجوه القراءة حتى قرءوه بلغاتهم على اتساع اللغات؛ فأدى ذلك بعضهم إلى تخطئة بعض فخشي من تفاقم الأمر في ذلك فنسخ تلك الصحف في مصحف واحد مرتبًا لسوره، واقتصر   1 المستدرك: الحاكم ج2 ص229. 2 البرهان: الزركشي ج1 ص238. 3 البرهان: الزركشي ج1 ص235. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 من سائر اللغات على لغة قريش محتجًا بأنه نزل بلغتهم1. ومن هذين النصين نستطيع أن نستخلص أهم الفروق وهي: 1- أن الباعث لجمع القرآن في عهد أبي بكر -رضي الله عنه- خشية أن يذهب شيء من القرآن بذهاب حفظته، وذلك حين استحر القتل بالقراء في حروب الردة، أما جمعه في عهد عثمان -رضي الله عنه- فلكثرة الاختلاف في وجوه القراءة. 2- أن جمع أبي بكر -رضي الله عنه- على الأحرف السبعة، أما جمعه في عهد عثمان فقد كان على حرف واحد. 3- أن جمع أبي بكر -رضي الله عنه- كان مرتب الآيات وفي ترتيب السور خلاف، أما جمع عثمان فقد كان مرتب الآيات والسور باتفاق. 4- أن الجمع في عهد أبي بكر -رضي الله عنه- بمعنى الجمع في مصحف واحد وأما الجمع في عهد عثمان -رضي الله عنه- فبمعنى نسخه في مصاحف متعددة. إنفاذ المصاحف: بعد أن أتمت اللجنة نسخ المصاحف أنفذ عثمان إلى آفاق الإسلام بنسخ منها وأرسل مع كل مصحف من يوافق قراءته فأمر زيد بن ثابت أن يقرئ بالمدني وبعث عبد الله بن السائب مع المكي والمغيرة بن أبي شهاب2 مع الشامي وأبا عبد الرحمن السلمي مع الكوفي وعامر بن عبد القيس مع البصري وتلقى التابعون في كل قطر قراءة إمامهم وتفرغ قوم منهم لضبط القراءات حتى صاروا أئمة يرحل إليهم3.   1 الإتقان: السيوطي، ج1 ص59، 60. 2 انظر غاية النهاية: ج2 ص305 حيث قال: "الصواب بن أبي شهاب" وهو عند بعضهم المغيرة بن شهاب. 3 مناهل العرفان: ج1 ص396، 397. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 موقف الصحابة من هذا الجمع: وبعد أن أنفذ عثمان المصاحف أمر بما سوى مصحفه أن يحرق وبعث "إلى أهل الأمصار إني قد صنعت كذا وكذا ومحوت ما عندي فامحوا ما عندكم"1. وقد رضي الصحابة -رضي الله عنهم- ما صنع عثمان وأجمعوا على سلامته وصحته وقال زيد بن ثابت "فرأيت أصحاب محمد يقولون: أحسن والله عثمان، أحسن والله عثمان"2. وروى ابن أبي داود عن مصعب بن سعد قال: "أدركت الناس متوافرين حين حرق عثمان المصاحف فأعجبهم ذلك وقال: لم ينكر ذلك منهم أحد"3. وروى سويد بن غفلة قال: قال علي -رضي الله عنه: لا تقولوا في عثمان إلا خيرًا فوالله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملأ منا"4 وعند ابن أبي داود قال: قال علي في المصاحف "لو لم يصنعه عثمان لصنعته"5. ولم ينقل عن أحد من الصحابة خلاف أو معارضة لما فعل عثمان -رضي الله عنه- إلا ما روي من معارضة عبد الله بن مسعود وينبغي أن نعلم أن معارضته -رضي الله عنه- لم تكن بسبب حصول تقصير في الجمع أو نقص أو زيادة، وإنما جاءت معارضته لعدم تعيينه مع أعضاء لجنة النسخ للمصاحف، ولهذا قال "أعزل عن نسخ المصاحف وتولاها رجل والله لقد   1 فتح الباري: ابن حجر ج9 ص21. 2 غرائب القرآن: النيسابوري ج1 ص27. 3 المصاحف: ابن أبي داود، ص19. 4 فتح الباري، ابن حجر ج9 ص18. 5 المصاحف: ابن أبي داود، ص19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 أسلمت وإنه لفي صلب رجل كافر"1. وروى الترمذي عن ابن شهاب قال: "فبلغني أن ذلك كرهه من مقالة ابن مسعود رجال من أفاضل أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم"2 وقد دافع أبو بكر الأنباري عن اختيار زيد بقوله: "ولم يكن الاختيار لزيد.. إلا أن زيدًا كان أحفظ للقرآن من عبد الله إذا وعاه كله ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- حي، ولا ينبغي أن يظن جاهل أن في هذا طعنًا على عبد الله بن مسعود؛ لأن زيدًا إذا كان أحفظ للقرآن منه فليس ذلك موجبًا لتقدمته عليه؛ لأن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كان زيد أحفظ منهما للقرآن وليس هو خيرًا منهما ولا مساويًا لهما في الفضائل، والمناقب، وما بدا عن عبد الله بن مسعود من نكير فشيء نتجه الغضب، ولا يعمل به ولا يؤخذ به، ولا يشك في أنه رضي الله عنه قد عرف بعد زوال الغضب عنه حسن اختيار عثمان ومن معه من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبقي على موافقتهم وترك الخلاف لهم"3 وأكد ذلك الذهبي فقال: "وقد ورد أن ابن مسعود رضي وتابع عثمان ولله الحمد"4 وقال ابن كثير: "وإنما روي عن عبد الله بن مسعود شيء من الغضب؛ بسبب أنه لم يكن ممن كتب المصاحف إلى أن قال.. ثم رجع ابن مسعود إلى الوفاق"5. فإن قيل كيف جاز للصحابة ترك الأحرف الستة التي أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- قراءة القرآن بها واقتصروا على حرف واحد؟ قيل: إن أمره إياهم بذلك لم يكن أمر إيجاب وفرض، وإنما كان أمر إباحة ورخصة.. وإذا كان ذلك لم يكن القوم بتركهم بقية الأحرف   1 المرجع السابق، ص24، 25، وتفسير القرطبي ج1 ص52، 53. 2 جامع الترمذي ج5 ص285. 3 تفسير القرطبي ج1 ص53. 4 سير أعلام النبلاء للذهبي ج1 ص488. 5 فضائل القرآن: ابن كثير ص20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 تاركين ما عليهم نقله، بل كان الواجب عليهم من الفعل ما يؤدون به الواجب وهو أحد هذه الأحرف, فإذا حفظوه ونقلوه فقد فعلوا ما كلفوا به1. وقد علل ابن القيم -رحمه الله تعالى- جمع الناس على حرف واحد، فأحسن حيث قال: "فلما خاف الصحابة رضي الله عنهم على الأمة أن يختلفوا في القرآن ورأوا أن جمعهم على حرف واحد أسلم وأبعد من وقوع الاختلاف فعلوا ذلك ومنعوا الناس من القراءة بغيره، وهذا كما لو كان للناس عدة طرق إلى البيت، وكان سلوكهم في تلك الطرق يوقعهم في التفرق والتشتيت ويطمع فيهم العدو, فرأى الإمام جمعهم على طريق واحد، فترك بقية الطرق جاز ذلك، ولم يكن فيه إبطال لكون تلك الطرق موصلة إلى المقصود وإن كان فيه نهي عن سلوكه لمصلحة الأمة"2. عدد المصاحف التي أمر عثمان رضي الله عنه بنسخها: اختلف في عدد النسخ التي كتبها عثمان إلى خمسة أقوال: 1- قيل إنها أربع نسخ: قال أبو عمرو الداني: "أكثر العلماء على أن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- لما كتب المصحف جعله على أربع نسخ, وبعث إلى كل ناحية من النواحي بواحدة منهن، فوجه إلى الكوفة إحداهن وإلى البصرة أخرى وإلى الشام الثالثة، وأمسك عند نفسه واحدة3. 2- قيل إنها خمس نسخ: قال السيوطي: "المشهور أنها خمسة"4.   1 انظر تفسير ابن جرير الطبري ج1 ص64 وما بعدها. 2 الطرق الحكمية في السياسة الشرعية: ابن القيم ص16. 3 المقنع: لأبي عمر الداني ص9. 4 الإتقان: السيوطي ج1 ص60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 3- قيل: إنها سبع نسخ: فقد روى ابن أبي داود عن أبي حاتم السجستاني قال: لما كتب عثمان المصاحف حين جمع القرآن كتب سبعة مصاحف فبعث واحدا إلى مكة وآخر إلى الشام وآخر إلى اليمن، وآخر إلى البحرين، وآخر إلى البصرة، وآخر إلى الكوفة، وحبس بالمدينة واحدا"1. وقيل: إنها ثمانية وقيل إنها ستة. خبر هذه المصاحف: ذكر بعض المؤرخين القدامى رؤيتهم لبعض هذه المصاحف وممن ذكر رؤيته لبعضها ابن جبير "ت614هـ" حين زار جامع دمشق رأى في الركن الشرقي من المقصورة الحديثة في المحراب خزانة كبيرة فيها مصحف من مصاحف عثمان -رضي الله عنه- وهو المصحف الذي وجه به إلى الشام كما قال2 وقد زار المسجد أيضًا ابن بطوطة "ت779هـ" فقال: "وفي قبلة المسجد المقصورة العظمى التي يؤم فيها إمام الشافعية وفي الركن الشرقي منها إزاء المحراب خزانة كبيرة فيها المصحف الكريم الذي وجه أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه إلى الشام"3 ورأى النسخة نفسها ابن كثير "774هـ" رحمه الله تعالى حيث قال: "وأما المصاحف العثمانية الأئمة فأشهرها اليوم الذي في الشام بجامع دمشق عند الركن شرقي المقصورة المعمورة بذكر الله، وقد كان قديمًا في طبرية، ثم نقل منها إلى دمشق في حدود ثماني عشرة وخمس مائة, وقد رأيته كتابًا جليلًا عظيمًا ضخمًا بخط حسن مبين قوي بحبر محكم في رق أظنه من جلود الإبل والله أعلم4 كما ذكر ابن بطوطة أنه رأى في مسجد علي رضي الله عنه في   1 المصاحف: ابن أبي داود ص43. 2 رحلة ابن جبير: ص217. 3 رحلة ابن بطوطة ج1 ص54. 4 فضائل القرآن: ابن كثير ص29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 البصرة المصحف الذي كان عثمان -رضي الله عنه- يقرأ فيه لما قتل، وأثر تغيير الدم في الورقة التي فيها قوله تعالى: {فَسَيَكْفِيكَهُمْ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} 1، 2 ويبدو كذلك أن ابن الجزري وابن فضل الله العمري قد رأيا كلاهما هذا المصحف الشامي نفسه3. ورأى ابن الجزري مصحفًا في مصر4. ويبدو -كذلك- أن المصحف الشامي ظل محفوظًا في الجامع الأموي إلى أوائل القرن الرابع عشر الهجري حيث قيل: إنه احترق، فقد قال الأستاذ محمد كرد علي في حديثه عن الجامع الأموي: حتى إذا كانت سنة 1310هـ. سرت النار إلى جذوع سقوفه فالتهمتها في أقل من ثلاث ساعات فدثر آخر ما بقي من آثاره، ورياشه وحرق فيه مصحف كبير بالخط الكوفي كان جيء به من مسجد عتيق في بُصرى, وكان الناس يقولون: إنه المصحف العثماني5 وقيل: إن هذا المصحف أمسى زمنًا في حوزة قياصرة الروس في دار الكتب في لينينجراد ثم نقل إلى إنجلترا6. كما أن هناك مصاحف أثرية تحتويها خزائن الكتب والآثار في مصر، ومنها المصحف المحفوظ في خزائن الآثار بالمسجد الحسيني، ويقال عنها إنها مصاحف عثمانية، وقد شكك كثيرًا الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني بهذا, معللا بأن فيها زركشة ونقوشًا موضوعة كعلامات للفصل بين السور ولبيان أعشار القرآن، ومعلوم أن المصاحف العثمانية كانت خالية من كل هذا7.   1 سورة البقرة: من الآية 137. 2 رحلة ابن بطوطة: ج1 ص116. 3 مباحث في علوم القرآن، د. صبحي الصالح ص88، 89. 4 مناهل العرفان: الزرقاني ج1 ص397. 5 خطط الشام، محمد كرد علي ج5 ص262. 6 مباحث في علوم القرآن، د. صبحي الصالح، ص89. 7 مناهل العرفان، الزرقاني ج1 ص397. وانظر ما كتبته الدكتورة/ سعاد ماهر عن المصاحف الأثرية في مصر والمنسوبة إلى عثمان -رضي الله عنه- وذلك في كتابها "مخلفات الرسول في المسجد الحسيني" من ص109 إلى ص134. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 وفقد هذه المصاحف لا يقلل من ثقتنًا اليقينية بما تواتر واستفاض نقله من المصاحف ثقة عن ثقة وإمامًا عن إمام، وسواء وجدت هذه المصاحف أو فقدت, فإنا على يقين تام لا يزاوله شك ولا يعتريه ريب بسلامة هذه المصاحف من الزيادة أو النقصان، وقد اعترف بذلك غير المسلمين من العلماء المحققين يقول المستشرق موير: "إن المصحف الذي جمعه عثمان قد تواتر انتقاله من يد ليد حتى وصل إلينا بدون أي تحريف، ولقد حفظ بعناية شديدة بحيث لم يطرأ عليه أي تغيير يذكر، بل نستطيع أن نقول: إنه لم يطرأ عليه أي تغيير على الإطلاق في النسخ التي لا حصر لها، والمتداولة في البلاد الإسلامية الواسعة، فلم يجد إلا قرآن واحد لجميع الفرق الإسلامية المتنازعة، وهذا الاستعمال الإجماعي لنفس النص المقبول من الجميع حتى اليوم يعد أكبر حجة ودليل على صحة النص المنزل الموجود معنا1.   1 مدخل إلى القرآن: د. محمد عبد الله دراز، ص40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 النوع الثالث: جمعه بمعنى تسجيله صوتيا مدخل ... النوع الثالث: جمعه بمعنى تسجيله صوتيًّا: من المعلوم أن للتلاوة أحكامًا ينبغي أن يأخذ بها تالي القرآن الكريم كالقلقلة والرَّوْم والإشمام، والإخفاء، والإدغام، والإقلاب، والإظهار، ونحو ذلك. وليس من السهل بل قد تتعذر كتابة مثل هذا. ولهذا قرر العلماء -رحمهم الله تعالى- أنه لا يصح التعويل على المصاحف وحدها، بل لا بد من التلقي عن حافظ متقن، وكانوا يقولون: "من أعظم البلية تشييخ الصحيفة"1. ويقولون: "لا تأخذوا القرآن من مصحفي ولا العلم من صحفي"2. وهو الذي يعلم الناس وينظر إلى رسم المصحف. وكان الشافعي -رحمه الله تعالى- يقول: "من تفقه من بطون   1 تذكرة السامع والمتكلم: ابن جماعة، ص87، الفقيه والمتفقه ج2 ص97. 2 شرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف: العسكري ص10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 الكتب ضيع الأحكام"1. بل إن أعلام حفاظ القرآن يميزون الحفظ بالتلقي، فهذا ابن مسعود -رضي الله عنه- يقول: "والله لقد أخذت من فيِّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بضعًا وسبعين سورة"2 ويبين عمن أخذ باقيه فيقول في رواية أخرى: "وأخذت بقية القرآن عن أصحابه"3 ولإدراكه -رضي الله عنه- مكانة التلقي بالمشافهة كان إذا سئل عن سورة لم يكن تلقاها عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صرح لهم بذلك، ودلهم على من تلقاها بالمشافهة عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- فعن معد يكرب قال: أتينا عبد الله فسألناه أن يقرأ "طسم" المائتين، فقال: ما هي معي, ولكن عليكم من أخذها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم خباب بن الأَرَتّ، قال: فأتينا خباب بن الأرت، فقرأها علينا4. وما قاله ابن مسعود وغيره من أعلام الحفاظ في وجوب التلقي للقرآن مشافهة لم يبتدعوه من عند أنفسهم, وإنما أخذوه من سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- نفسه يتعلم القرآن من جبريل عليه السلام ويشافهه به مشافهة، ويعارضه القرآن في كل عام في شهر رمضان، وعارضه عام وفاته بالقرآن مرتين، والصلوات الخمس يجهر في ثلاث منها، وكذا في صلاة الجمعة، والاستسقاء، والخسوف، والكسوف، والتراويح، والعيدين، وفي هذا إشارة إلى تعلم الناس للتلاوة الصحيحة في الصلاة الجهرية ثم تطبيقها في الصلاة السرية. وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يبعث القراء إلى من يدخل في الإسلام لتعليمهم التلاوة وكان بإمكانه -صلى الله عليه وسلم- أن يكتب لهم، واقتدى بسنته من بعده الخلفاء   1 تذكرة السامع والمتكلم: ابن جماعة، ص87، وشرح المهذب: النووي ج1 ص64. 2 صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب القراء من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ج6 ص102. واللفظ له. ورواه مسلم بلفظ آخر كتاب فضائل الصحابة ج4 ص1912. 3 فتح الباري، ابن حجر: ج9 ص48. 4 مسند الإمام أحمد ج6 ص34، بتحقيق أحمد شاكر، رقم 3980، وقال: إسناده صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 الراشدون فأرسلوا إلى أهل البلدان المفتوحة قراء يعلمونهم القرآن، ولما نسخ عثمان المصاحف أرسل مع كل مصحف قارئًا يعلم الناس عليه. ولا شك أن هذا دليل قاطع على أن من أحكام القراءة ما لا يمكن إتقانه إلا بالتلقي الشفهي. ولم يكن من وسيلة لتحقيق ذلك إلا عن طريق القراء وقد جدت في العصر الحديث وسائل وآلات تسجل الصوت، ثم تعيده. ولا شك أن هذه الآلات والاستفادة منها في نشر القرآن الكريم وبثه في العالم الإسلامي خاصة في البلدان التي تفتقد المعلم الضابط من خير الوسائل لحفظه وتعليمه. وقد أدرك هذا الأمر بعض الغيورين على الإسلام والحريصين على نشره فتداعوا لجمع القرآن في أشرطة صوتية كما جمع على الورق في الصحف. وتبنت الجمع الجمعية العامة للمحافظة على القرآن الكريم بمصر وكان ذلك سنة 1379هـ باقتراح من رئيسها الأستاذ لبيب السعيد1، وقد اتفقوا على تسمية المشروع بـ "المصحف المرتل" أو "الجمع الصوتي".   1 اعتمدت فيما أوردت عن قصة هذا الجمع على ما كتبه الأستاذ لبيب السعيد في كتابه "الجمع الصوتي الأول للقرآن الكريم أو المصحف المرتل". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 تعريف المصحف المرتل : أما المصحف: فمثلثة الميم، والأصل والأشهر الضم، وهو مأخوذ من "أصحف" أي جعلت فيه الصحف1. واصطلاحًا: هو مجموعة صحائف القرآن مرتبة الآيات والسور على الوجه الذي تلقته الأمة الإسلامية من النبي صلى الله عليه وسلم. والفرق بين المصحف والقرآن أن المصحف اسم لمجموع الصحائف المدون فيها القرآن، أما القرآن الكريم فهو الألفاظ ذاتها.   1 القاموس المحيط: ص1068، ولسان العرب: ج9 ص186. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 وأما المرتل لغة: فمأخوذ من رَتِل الثغر، إذا استوى نباته، وحسن تنضيده، وكان مُفلِجا. واصطلاحًا: القراءة بتؤدة واطمئنان وإخراج كل حرف من مخرجه مع إعطائه حقه ومستحقه ومع تدبر المعاني، وقيل هو رعاية مخارج الحروف، وحفظ الوقوف. والترتيل أفضل مراتب القراءة الأربع وهي: 1- التحقيق: وهو أكثرها اطمئنانًا وأكثر ما يستعمل في التعليم. 2- الترتيل: القراءة بتؤدة واطمئنان. 3- التدوير: وهي مرتبة بين الترتيل والحدر. 4- الحدر: وهو الإسراع بالقراءة مع مراعاة الأحكام. المراد به: المصحف المرتل هو التسجيل المسموع للقرآن الكريم. أدواته: أجهزة التسجيل الحديثة وأشرطته وأسطواناته ونحوها. سببه: أما بواعث التفكير في الجمع الصوتي للقرآن الكريم فكثيرة منها: 1- اقتضاء المحافظة على القرآن الكريم وذلك عن طريق: أ- تعليم النطق الصحيح الذي لا محيص عنه لطالب القرآن والذي بغيره لا يؤمن التصحيف. ب- المحافظة على القراءات التي نزل بها القرآن وأجمع عليها المسلمون وثبت تواترها. ج- المنع من القراءة بالشواذ التي تعلق بها أفراد من القراء. 2- تيسير تحفيظ القرآن الكريم وتعليمه. أ- لأن المصاحف المرتلة نماذج صوتية ممتازة للترتيل الصحيح. ب- لأنها تيسر القرآن للحفظ والتعليم خاصة في البلدان التي تفتقد المعلم الضابط. ج- لأنها طِبُّ اختلاف الرسم العثماني عن الرسم الإملائي المعروف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 3- ضرورة الذود عن القرآن الكريم ضد الطاعنين عليه وضد كل محاولة لتحريفه، وكل عقبة توضع أمام وحدة أتباعه أو أمام نشره وتوزيعه بين المسلمين وذلك بأن يبث في الإذاعات ونحوها. 4- معاضدة المصحف العثماني الذي أجمع المسلمون عليه. 5- درء أي تحريف عن القرآن الكريم. 6- نشر لغة القرآن الكريم وتوطيد الوحدة بين المسلمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 تاريخ المصحف المرتل : عقد أول اجتماع في الجمعية العامة للمحافظة على القرآن الكريم برئاسة الأستاذ لبيب السعيد لدراسة الموضوع في مساء 14/ رمضان/ 1378هـ في القاهرة وتمت الموافقة عليه ووضعت الشروط والمواصفات. بدء الطبع: لاقى المشروع في بدايته عقبات كثيرة مادية وعلمية وغيرها، وقد تجاوز بحمد الله كل هذا، وبدأ الطبع لأول مرة سنة 1379هـ في ذي القعدة، وكانت الطبعة الأولى في المحرم من عام 1381هـ, وذلك بقراءة الشيخ محمود خليل الحصري برواية حفص عن عاصم، فأعقب هذا سنة 1382هـ تسجيل قراءة أبي عمرو برواية الدوري. كيفية التسجيل: لم يكن التسجيل شيئًا هينا فمع امتياز القارئ وكونه قد أصبح آنئذ شيخ المقارئ المصرية, فقد كانت اللجنة تستوقفه كثيرًا ليعيد التسجيل على النحو النموذجي المطلوب. القراء وهم: 1- محمود خليل الحصري ويقرأ برواية حفص عن عاصم. 2- مصطفى المَلَّواني ويقرأ برواية خلف عن حمزة. 3- عبد الفتاح القاضي ويقرأ برواية ابن وردان عن أبي جعفر. 4- فؤاد العروسي، ومحمد صديق المنشاوي، وكامل يوسف البهتيمي برواية الدوري عن أبي عمرو. ولم يتم تسجيل شيء لغير الحصري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف : وقد أدركت حكمة المملكة العربية السعودية -وفقها الله تعالى إلى كل خير- الحاجة الماسة للعناية بطباعة المصحف وتسجيله, فأنشأت "مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف" وتم افتتاحه في السادس من شهر صفر عام 1405 ومن أهداف هذا المجمع: 1- طباعة المصحف الشريف: طباعة تنأى به عن الأخطاء المطبعية، حيث أنشأت مطبعة تعد من أضخم المطابع في العالم وأحدثها. ويسمى المصحف الذي تصدره "مصحف المدينة النبوية" وتبلغ طاقة المطبعة ثلاثين مليون نسخة سنويًّا أي بمعدل مصحف كامل كل "ثانية" بدون توقف. 2- ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغات المختلفة: وقد أصدر المجمع حتى نهاية رجب عام 1423هـ أربعين ترجمة لمعاني القرآن الكريم. 3- تسجيل القرآن الكريم: يضم المجمع أستديو للتسجيلات الصوتية، مجهزًا بأحدث الآلات والمعدات ذات التقنية العالية، حيث يتم تسجيل تلاوة القرآن الكريم بأصوات كبار القراء بالمملكة والعالم الإسلامي تحت إشراف لجنة من كبار العلماء تراقب أعمال التسجيل. ويسعى المجمع في خطته المستقبلية إلى إنتاج إصدارات صوتية لترجمة معاني القرآن الكريم باللغات المختلفة. وتبلغ الطاقة الإنتاجية من أشرطة الكاسيت في المجمع أكثر من مليونين وأربع مائة ألف شريط سنويًّا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 وحتى نهاية رجب عام 1423هـ تم تسجيل القرآن الكريم كاملًا برواية حفص عن عاصم بأصوات كل من: 1- الشيخ علي بن عبد الرحمن الحذيفي إمام المسجد النبوي الشريف. 2- الشيخ محمد أيوب محمد يوسف. 3- الشيخ عبد الله بن علي بصفر. 4- الشيخ إبراهيم الأخضر علي القيم. 5- الدكتور عماد بن زهير حافظ. كما تم تسجيل القرآن الكريم كاملًا بصوت الشيخ علي الحذيفي برواية قالون عن نافع. وتم تسجيل معاني القرآن الكريم مترجمة إلى اللغة الأورمية وهناك خطة لتسجيل معاني القرآن الكريم بلغات أخرى. 4- الوفاء باحتياجات الحرمين الشريفين والمساجد والعالم الإسلامي من الإصدارات الخاصة بالقرآن الكريم. 5- خدمة السنة والسيرة النبوية الشريفة. وذلك بجمع وحفظ الكتب والمخطوطات والوثائق والمعلومات المتعلقة بالسنة والسيرة وإعداد موسوعة في الحديث النبوي إلى جانب ترجمة بعض أمهات كتب السنة والسيرة. 6- إجراء البحوث والدراسات المتعلقة بالقرآن والسنة1.   1 رجعت فيما كتبت عن المجمع إلى: - التقرير السنوي للمجمع لعام 1421، 1422هـ. - كتيب تعريف بالمجمع 1418هـ. - مطوية أصدرتها إدارة العلاقات العامة بالمجمع. - اتصال هاتفي بأمين عام المجمع الدكتور محمد سالم شديد العوفي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 ترتيب سور القرآن الكريم وآياته مدخل ... ترتيب سور القرآن الكريم وآياته: وهذا مبحث مهم من المباحث الجليلة، أولاه العلماء اهتمامهم وعنايتهم وزادت قيمته ومكانته حين ظهر الاتجاه الحديث في الدراسات القرآنية بتناول السور القرآنية مستقلة بناء على الوحدة الموضوعية، وأن كل سورة ذات هدف معين وغرض أساس أنزلت لأجله، وأكدوا على هذا المعنى باعتباره مدخلًا لفهم معانيها وكشف أسرارها وحكمها, ثم بنوا على ذلك الوحدة الموضوعية في القرآن الكريم وبيان المناسبات بين الآيات والسور. وتقسيم القرآن إلى سور وآيات من خصائصه التي لا يشاركه فيها كتاب آخر قال الجاحظ: "سمى الله كتابًا اسمه مخالفًا لما سمى العرب كلامهم على الجمل والتفصيل سمى جملته قرآنًا كما سموا ديوانًا، وبعضه سورة كقصيدة، وبعضها آية كالبيت وآخرها فاصلة كقافية"1.   1 الإتقان السيوطي ج1 ص50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 أولا سور القرآن الكريم مدخل ... أولا- سور القرآن الكريم: السور: جمع سورة، وفي نطق "السورة" لغتان: أولاهما: "السؤرة" بالهمزة مشتقة من "أسأر" أي أبقى "والسؤر" البقية التي تبقى من شرب الشارب في الإناء، وسميت سؤرة كأن السؤرة بقية جملة القرآن وقطعة منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 ثانيهما: "السورة" بدون همز ومعناها في اللغة: المنزلة والشرف وما طال من البناء وحسن، والعلامة، وسميت السورة سورة لارتفاعها وشرفها وكونها علامة على صدق من جاء بها، ودليلًا على أن هذا القرآن من عند الله، وهي تشبه السور من وجهين: - الأول: أن السور له علو حسي والسورة لها علو معنوي. - الثاني: أن السور يقوم بناؤه على لبنات بعضها فوق بعض والسورة يقوم بناؤها على آيات يتبع بعضها بعضًا. أما في الاصطلاح: فهي "طائفة مستقلة من آيات القرآن ذات مطلع ومقطع". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 طريق معرفة السورة : معرفة سور القرآن الكريم من حيث بداية كل سورة ونهايتها توقيفي لا مجال للاجتهاد فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 عدد سور القرآن : قال الزركشي رحمه الله تعالى: "اعلم أن عدد سور القرآن العظيم باتفاق أهل الحل والعقد مائة وأربع عشرة سورة كما هي في المصحف العثماني, أولها الفاتحة وآخرها الناس، وقال مجاهد: وثلاث عشرة بجعل الأنفال والتوبة سورة واحدة لاشتباه الطرفين وعدم البسملة، ويرده تسمية النبي -صلى الله عليه وسلم- كلا منهما"1.   1 البرهان: الزركشي ج1 ص251. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 أسماء السور : تنقسم سور القرآن من حيث تعدد الاسم وعدمه إلى ثلاثة أقسام: - الأول: ما له اسم واحد وهو أكثر سور القرآن مثل: النساء، والأعراف، الأنعام، مريم، وغيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 - الثاني: ما له أكثر من اسم، ويشمل هذا النوع سورا لها اسمان كسورة "محمد" صلى الله عليه وسلم حيث تسمى "القتال" وسورة "الجاثية" تسمى "الشريعة" وسورة "النحل" تسمى "النعم" لما عدد الله فيها من النعم على عباده1. ويشمل سورا لها ثلاثة أسماء مثل "المائدة" وتسمى "العقود" و"المنقذة"2 ومثل سورة غافر وتسمى "الطَّّول" و"المؤمن"3. ويشمل سورا لها أكثر من ثلاثة أسماء مثل سورة التوبة ومن أسمائها "براءة" و"الفاضحة" و"الحافرة" وقال حذيفة: هي سورة "العذاب" وقال ابن عمر: كنا ندعوها "المشقشقة" وقال الحارث بن يزيد: كانت تدعى "المبعثرة" ويقال لها: "المسورة" ويقال لها: "البَحوث"4. وكسورة الفاتحة فقد ذكر السيوطي لها خمسة وعشرين اسما منها "أم الكتاب" "أم القرآن" و"السبع المثاني" و"الصلاة" و"الحمد" و"الوافية" و"الكنز" و"الشافية" و"الشفاء" و"الكافية" و"الأساس"5. - الثالث: أن تسمى عدة سور باسم واحد: ومن ذلك تسمية البقرة وآل عمران بـ "الزهراوين" وتسمية سورتي الفلق والناس بـ "المعوذتين" وتسمية السور المبدوءة بـ "حم" بـ "الحواميم".   1 المرجع السابق، ج1 ص269. 2 روى أنها تنقذ صاحبها من أيدي ملائكة العذاب، تفسير القرطبي ج6 ص30. 3 البرهان: الزركشي ج1 ص251. 4 البرهان: الزركشي ج1 ص251. 5 الإتقان: السيوطي ج1 ص52، 53، وانظر البرهان: الزركشي ج1 ص269، 270. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 مصدر التسمية : اختلف العلماء في مصدر أسماء سور القرآن الكريم. 1- قيل إنها اجتهادية واستبعد الزركشي ذلك1: 2- قيل: إنها توقيفية وهو الراجح قال السيوطي: "وقد ثبت جميع أسماء السور بالتوقيف من الأحاديث والآثار"2.   1 البرهان: الزركشي ج1 ص270. 2 الإتقان: السيوطي ج1 ص52. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 أقسام السور : روى واثلة بن الأسقع أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أعطيت مكان التوراة السبع، وأعطيت مكان الزبور المئين، وأعطيت مكان الإنجيل المثاني، وفضلت بالمفصل" 1. وعلى هذا فإن سور القرآن تنقسم إلى أربعة أقسام: - الأول: الطوال وهي سبع: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، واختلف في السابعة فقيل: "الأنفال والتوبة" معا لأنهم كانوا يعدونهما، سورة واحدة لعدم الفصل بينما بالبسملة، وقيل: إن السابعة هي سورة يونس. - الثاني: المئون: وهي ما يلي السبع الطوال، سميت بذلك لأن كل سورة منها تزيد على مائة آية أو تقاربها. - الثالث: المثاني: وهي ما يلي المئين وسميت بذلك لأنها تُثَّنَى في الصلاة وتكرَّر أكثر من الطوال والمئين. - الرابع: المفصل: وهو ما يلي المثاني من قصار السور إلى آخر القرآن وسمى بالمفصل لكثرة الفصل بين سورة بالبسملة وقيل لقلة المنسوخ منه ولهذا يسمى بالمحكم أيضًا، كما روى الإمام أحمد عن ابن عباس أنه قال: "إن الذي تدعونه المفصل هو المحكم"2.   1 مسند الإمام أحمد ج4 ص149 قال الألباني: "الحديث بمجموع طرقه صحيح والله أعلم" الصحيحة ج3 ص469. 2 مسند الإمام أحمد ج1 ص253، وقال الأستاذ أحمد شاكر: إسناده صحيح ج4 ص77. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 وقد اختلف العلماء في أوله فقيل: من أول سورة "ق" وقيل: من أول "الحجرات" وقيل: من أول "القتال"، وذكر الزركشي والسيوطي اثني عشر قولًا في ذلك1. وينقسم المفصل إلى ثلاثة أقسام: أ- الطوال: من أوله إلى سورة "البروج". ب- وأوساطه: من سورة "الطارق" إلى سورة "البينة". ج- وقصاره: من "الزلزلة" إلى آخر القرآن. وفي سورة الفاتحة خلاف فقيل من أوله وقيل من المفصل2.   1 البرهان: الزركشي ج1 ص245، 246، والإتقان: للسيوطي ج1 ص63. 2 فتح الباري: ابن حجر ج8 ص659. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 ترتيب السور : للعلماء في ترتيب السور في القرآن الكريم ثلاثة أقوال: الأول: أن ترتيب السور على ما هو عليه في المصحف الآن توقيفي وأنه لم توضع سورة في مكانها إلا بأمر من الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن جبريل عليه السلام عن ربه عز شأنه كترتيب الآيات سواء بسواء. قال أبو بكر الأنباري: "اتساق السور كاتساق الآيات والحروف كله عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فمن قدم سورة أو أخرها فقد أفسد نظم القرآن"1. وقال الكرماني في البرهان: "ترتيب السور هكذا هو عند الله في اللوح المحفوظ على هذا الترتيب"2. وقال الطيبي: "أنزل القرآن أولا جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ثم نزل مفرقا على   1 الإتقان: السيوطي ج1 ص62. 2 البرهان: الزركشي ج1 ص259، والإتقان للسيوطي ط1 ص62. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 حسب المصالح، ثم أثبت في المصاحف على التأليف والنظم المثبت في اللوح المحفوظ"1. وقال أبو جعفر النحاس: "إن تأليف السور على هذا الترتيب من رسول الله صلى الله عليه وسلم"2. وقال ابن الحصَّار: "ترتيب السور ووضع الآيات موضعها إنما كان بالوحي"3. وغير هؤلاء من العلماء ومن أدلتهم: 1- إجماع الصحابة -رضي الله عنهم- على ترتيب السور في مصحف عثمان رضي الله عنه ولو كان ترتيبه بالاجتهاد لتمسك أصحاب المصاحف المخالفة في الترتيب بمصاحفهم. 2- قال ابن حجر العسقلاني -رحمه الله تعالى: "ومما يدل على أن ترتيب المصحف كان توقيفيًّا ما أخرجه أحمد وأبو داود وغيرهما عن أوس بن أبي أوس حذيفة الثقفي قال: كنت في الوفد الذين أسلموا من ثقيف.. وفيه.. فسألنا أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قلنا: كيف تحزبون القرآن؟ قالوا: نحزبه ثلاث سور، وخمس سور، وسبع سور، وتسع سور، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة، وحزب المفصل من "ق" حتى نختم". ثم قال ابن حجر: "فهذا يدل على أن ترتيب السور على ما هو في المصحف الآن كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم"4. وإذا جمعت أعداد السور المذكورة هكذا 3+5+7+9+11+13 كان المجموع 48 سورة قال الزركشي: "وحينئذ فإذا عددت ثمانيًا   1 الإتقان: السيوطي ج1 ص62. 2 المرجع السابق: ج1 ص62. 3 المرجع السابق: ج1 ص63. 4 فتح الباري: ابن حجر العسقلاني ج9 ص42، 43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 وأربعين سورة كانت التي بعدهن سورة "ق"1. وهذا يدل على أن السور كانت مرتبة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم. 3- قال السيوطي رحمه الله تعالى: "ومما يدل على أنه توقيفي كون الحواميم رتبت وَلاءً "يعني متوالية" وكذا الطواسين، ولم ترتب المسبحات ولاء، بل فصل بين سورها وفصل بين "طسم" الشعراء و"طسم" القصص بـ "طس" مع أنها أقصر منهما، ولو كان الترتيب اجتهادا لذكرت المسبحات ولاء، وأخرت "طس" عن القصص"2. القول الثاني: أن ترتيب السور اجتهاد من فعل الصحابة رضي الله عنهم. وهذا قول جمهور العلماء، قال ابن فارس: جمع القرآن على ضربين: أحدهما: تأليف السور كتقديم السبع الطوال وتعقيبها بالمئين فهذا هو الذي تولته الصحابة وأما الجمع الآخر وهو جمع الآيات في السور فهو توقيفي تولاه النبي -صلى الله عليه وسلم- كما أخبر به جبريل عن أمر ربه3. ومما استدلوا به على ذلك. 1- اختلاف ترتيب السور في مصاحف الصحابة قبل أن يجمع القرآن, فلو كان توقيفيًّا لاتفقت مصاحفهم كما اتفقت في ترتيب الآيات، فقد كان مصحف علي مرتبًا على النزول وأول مصحف ابن مسعود البقرة، ثم النساء، ثم آل عمران، ومصحف أبي الفاتحة، ثم البقرة، ثم النساء، ثم آل عمران.   1 البرهان: الزركشي ج1 ص247. قلت: هذا إذا لم نعد الفاتحة، أما إذا عددناها فإن التي بعدهن سورة "الحجرات" ولهذا وقع الاختلاف في أول المفصل، ومن لم يعد الفاتحة من الطوال فقد عدها من المفصل. 2 الإتقان: السيوطي ج1 ص63. 3 الإتقان: السيوطي ج1 ص62. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 2- ما رواه مسلم في صحيحه عن حذيفة رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى بالبقرة، ثم النساء ثم بآل عمران في ركعة1. قال عياض: هو دليل لكون ترتيب السور وقع باجتهاد الصحابة حين كتبوا المصحف2. القول الثالث: أن ترتيب بعض السور كان توقيفيًّا وبعضها كان باجتهاد الصحابة: قال الزركشي: مال ابن عطية إلى أن كثيرًا من السور كان قد علم ترتيبها في حياته -صلى الله عليه وسلم- كالسبع الطوال والحواميم والمفصل وأن ما سوى ذلك يمكن أن يكون قد فوض الأمر فيه إلى الأمة بعده، وقال أبو جعفر بن الزبير الآثار تشهد بأكثر مما نص عليه ابن عطية ويبقى منها قليل يمكن أن يجري فيه الخلاف3. مناقشة الأدلة: 1- استدل القائلون بالتوقيف في ترتيب السور بإجماع الصحابة على ترتيب عثمان -رضي الله عنه- وهذا لا يدل على ما ذهبوا إليه، لأن إجماعهم على ترتيب عثمان لا يشترط له أن يستند إلى التوقيف عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- فقد وافقوا عثمان على هذا الترتيب توحيدًا لكلمة الأمة وقطعا لأسباب الاختلاف كما وافقوا على الاقتصار على حرف واحد. أما استدلالهم بحديث حذيفة فإن ذكر العدد لا يلزم منه ترتيب السور، بل قال ابن حجر نفسه الذي استدل بهذا الحديث "ويحتمل أن الذي كان مرتبا حينئذ حزب المفصل خاصة بخلاف ما عداه"4.   1 صحيح مسلم، ج1 ص536، 537. 2 إجمال البيان: عبد الله بن أحمد، ص128. 3 البرهان: الزركشي، ج1 ص257، 258، وانظر: الإتقان: السيوطي ج1 ص62. 4 الإتقان: السيوطي، ج1 ص63. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 وأما استدلال السيوطي فإن ما أورده لا يلزم منه أن ترتيب السور توقيفي فعدم ترتيب المسبحات ولاء قد يكون لمراعاة مناسبات أخرى أهم من مناسبة فواتح السور، ولهذا مال السيوطي نفسه إلى رأي آخر. 2- وأما القائلون بأن الترتيب كان كله بطريق الاجتهاد, فإن من أدلتهم اختلاف ترتيب السور في مصاحف الصحابة ولا يصلح هذا دليلًا على ما ذهبوا إليه فقد يكون ترتيب الصحابة قبل أن يعلموا بالتوقيف فلما بلغهم ذلك رجعوا عن ترتيب مصاحفهم. وأما استدلالهم بأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد صلى بالبقرة والنساء وآل عمران في ركعة فلا يدل على ما ذهبوا إليه كما قال السيوطي، وعلل ذلك بقوله: "لأن ترتيب السور في القراءة ليس بواجب ولعله فعل ذلك لبيان الجواز"1. 3- وأما الرأي الثالث فإنه يستند إلى أدلة الرأي الأول وهو أن ترتيب السور توقيفي أما القسم الاجتهادي فإن أدلته ضعيفة لا تستند إلى دليل قوي. الرأي الراجح: إن استعراض الأدلة يوقفنا على ثبوت التوقيف في ترتيب أكثر سور القرآن الكريم وما لم يرد دليل على ترتيبه لا يعني أنه رتب بطريق الاجتهاد، فقد يكون ترتيبه بدليل لم يصل إلينا. وعلى هذا فإن الرأي الراجح أن ترتيب سور القرآن الكريم كترتيب آياته بالتوقيف عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن جبريل عليه السلام عن ربه سبحانه وتعالى مع ما في أدلة هذا الرأي من الاحتمال كما ذكر إلا أنه أقوى الآراء.   1 الإتقان: السيوطي، ج1 ص63. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 الموقف من هذا الترتيب: وعلى كل حال ومهما يكن من أمر سواء أكان هذا الترتيب الذي نجده في المصاحف بطريق التوقيف أم بطريق الاجتهاد, ثم أجمع الصحابة عليه، ومضت الأمة على قبوله، فيجب التمسك به والإعراض عن الدعوات الزائفة لإعادة ترتيب المصاحف حسب النزول أو الموضوع أو غير ذلك؛ لأن في ترتيب سوره معاني لا تقل عن معاني الترتيب في آياته، جد كثير من العلماء في استنباطها وتحصيلها. فضلا عن مخالفة الإجماع وما في ذلك من مفاسد عظيمة. أما ترتيب السور في التلاوة فليس بواجب وإنما هو مندوب إلا في تعليم الصبيان، فالأولى أن يبدأ بهم من آخر المصحف إلى أوله، والله أعلم. حكمة تسوير القرآن: لتقسيم القرآن الكريم إلى سور حكم عديدة منها: 1- التيسير والتشويق لمدارسة القرآن الكريم وحفظه إذ لو كان سبيكة واحدة لشق حفظه وصعبت مدارسته. 2- الدلالة على موضوع السورة وأهدافها إذ إن لكل سورة موضوعا خاصا، وأهدافا معينة، فسورة يوسف تترجم لقصته، وسورة التوبة تتحدث عن المنافقين وتكشف أسرارهم.. وهكذا. 3- التنبيه إلى أن الطول ليس شرطا من شروط الإعجاز والتحدي، فسورة الكوثر ثلاث آيات وهي معجزة إعجاز سورة البقرة. 4- التدرج في تعليم الأطفال من السور القصار إلى السور الطوال تيسيرا من الله لعباده لحفظ كتابه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 5- أن الكتاب إذا انطوت تحته أنواع وأصناف وأبواب وفصول كان أحسن وأفخم من أن يكون بابا واحدا. 6- أن القارئ إذا ختم سورة أو جزءا كان أنشط له وأبعث على التحصيل والاستمرار في التلاوة منه لو استمر على الكتاب بطوله، كالمسافر إذا قطع ميلا نفَّس ذلك عنه وتجدد نشاطه ولذا جزئ القرآن أجزاءً وأحزابًا وأرباعًا وأخماسًا وأعشارًا. 7- أن الحافظ إذا حذق سورة اعتقد أنه أخذ من كتاب الله طائفة مستقلة بنفسها فيعظم عنده ما حفظه ويحرص على معاهدته وتكرار تلاوته, ومنه حديث أنس رضي الله عنه: "كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جد فينا"1. 8- أن التفصيل سبب تلاحق الأشكال والنظائر وملاءمة بعضها لبعض وبذلك تتلاحظ المعاني ويتجاوب النظم2.   1 مسند الإمام أحمد ج3 ص120، 121، وشرح السنة: البغوي ج13 ص306. 2 تفسير الكشاف: الزمخشري: ج1 ص241، وقال الجرجاني في حاشيته على الكشاف: "وكون التفصيل سبب تلاحق الأشكال من حيث أنه يورد في كل منها الأمور المتلائمة فتتلاحظ حينئذ المعاني ويتجاوب أطراف النظم وجوانبه" الكشاف ج1 ص241. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 ثانيًا: آيات القرآن الكريم: تعريف الآية : الآية في اللغة تطلق على عدة معانٍ منها: 1- المعجزة: ومنه قوله تعالى: {سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ} 1. 2- العلامة: ومنه قوله تعالى: {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} 2. 3- العبرة: ومنه قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 3. 4- البرهان والدليل: ومنه قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} 4. 5- الأمر العجب، تقول العرب: "فلان آية في العلم وفي الجمال". 6- الجماعة، تقول العرب: "خرج القوم بآيتهم" أي بجماعتهم5. والآية في الاصطلاح: طائفة ذات مطلع ومقطع مندرجة في سورة من القرآن. المناسبة بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي: لأن الآية القرآنية معجزة ولو باعتبار انضمام غيرها إلينا وهي علامة على صدق من جاء بها وفيها عبرة وعظة لمن أراد أن يعتبر وهي دليل وبرهان, على أن هذا القرآن من الله تعالى، وهي من الأمور العجيبة لسموها وبلاغتها وإعجازها وهي جماعة من الحروف، فمعانيها في اللغة موجودة في معناها الاصطلاحي6.   1 سورة البقرة: من الآية 211. 2 سورة البقرة: من الآية 248. 3 سورة البقرة: من الآية 248. 4 سورة الروم: من الآية 22. 5 البرهان للزركشي ج1 ص266. 6 انظر مناهل العرفان، الزرقاني ج1 ص331، 332. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 إطلاق الآية : تطلق الآية ويراد بها: 1- الآية ومثاله قول ابن مسعود رضي الله عنه: أعظم آية في القرآن: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} 1. 2- وقد يطلق لفظ الآية على ما هو أكثر منها كقول ابن مسعود رضي الله عنه أخوف آية في القرآن: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} 2، 3 فإنهما آيتان باتفاق4.   1 سورة البقرة: من الآية 254. 2 سورة الزلزلة: الآيتان 7، 8. 3 الدر المنثور: السيوطي ج1 ص323. 4 انظر مناهل العرفان، الزرقاني ج1 ص335، 336. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 عدد آيات القرآن الكريم : أجمع العلماء على أن عدد آيات القرآن ستة آلاف آية ومائتا آية ثم اختلفوا في الزيادة: - فمنهم من لم يزد على ذلك. - ومنهم من قال: ومائتا آية وأربع آيات. - ومنهم من قال: وأربع عشرة آية. - ومنهم من قال: وسبع عشرة آية. - ومنهم من قال: وتسع عشرة آية. - ومنهم من قال: وعشرون آية. - ومنهم من قال: وست وثلاثون آية. وغير ذلك. سبب الاختلاف وأثره: سببه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقف على رءوس الآي للتوقيف ليعلم أصحابه أنها رأس آية، حتى إذا علموا ذلك صار يصل الآية بما بعدها لتمام المعنى فيحسب من لم يسمعه أولا أنها فاصلة فيعد الآيتين آية واحدة، ولذا يختلف العدد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 وليس لهذا أثر يذكر ما دام القرآن الكريم سالمًا من الزيادة أو النقصان فالقطعة من القماش إذا قاسها إنسان بذراعه الطويلة, ثم قاسها إنسان آخر بذراعه القصيرة فسيكون هناك اختلاف في العدد سببه اختلاف المقياس مع سلامة القطعة من الزيادة أو النقصان في الحالين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 ترتيب الآيات في القرآن الكريم : قال الإمام السيوطي رحمه الله تعالى: "الإجماع والنصوص المترادفة على أن ترتيب الآيات توقيفي لا شبهة في ذلك، أما الإجماع فنقله غير واحد منهم الزركشي في البرهان، وأبو جعفر بن الزبير في مناسباته، وعبارته: "ترتيب الآيات في سورها واقع بتوقيفه -صلى الله عليه وسلم- وأمره من غير خلاف في هذا بين المسلمين"1، ثم ذكر عددا من النصوص والآثار الشاهدة على ذلك. فقد كان جبريل عليه السلام ينزل بالآيات على الرسول -صلى الله عليه وسلم- ويخبره بموضعها من السورة، ثم يقرؤها الرسول عليه الصلاة والسلام على أصحابه ويأمر كتاب الوحي بكتابتها بعد أن يبين لهم موضعها من السورة. وكان عليه الصلاة والسلام يتلو آيات القرآن الكريم مرتبة في الصلوات المفروضة والنافلة، وفي مواعظه فيسمعها أصحابه ويحفظونها كما سمعوها، وكانوا يعرضون على الرسول -صلى الله عليه وسلم- ما كتبوه على الترتيب المعروف وشاع ذلك وملأ البقاع، والأمة يتدارسونه فيما بينهم ويقرءونه في صلواتهم، ويأخذه بعضهم عن بعض بالترتيب القائم، فليس لأحد من الصحابة يد في ترتيب شيء من آيات القرآن الكريم2. وقد نقل السيوطي عددا من نصوص العلماء في ذلك منها قول مكي وغيره ترتيب الآيات في السور بأمر من النبي صلى الله عليه وسلم، وقال القاضي أبو بكر   1 الإتقان: السيوطي ج1 ص60. 2 انظر مناهل العرفان: الزرقاني ج1 ص339، 340. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 في الانتصار: "ترتيب الآيات أمر واجب وحكم لازم فقد كان جبريل يقول: ضعوا آية كذا في موضع كذا وقال ابن الحَصَّار ترتيب السور ووضع الآيات مواضعها إنما كان بالوحي كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ضعوا آية كذا في موضع كذا" وقد حصل اليقين من النقل المتواتر بهذا الترتيب من تلاوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومما أجمع الصحابة على وضعه هكذا في المصحف"1.   1 الإتقان: السيوطي ج1 ص61، 62. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 طريق معرفة بداية الآية ونهايتها : للعلماء في طريق معرفة بداية الآية ونهايتها قولان: القول الأول: أنه لا سبيل إلى معرفة بدايات الآيات ونهاياتها إلا بتوقيف من الشارع؛ لأنه ليس للقياس والرأي مجال فيه وإنما هو محض تعليم وإرشاد من الرسول -صلى الله عليه وسلم- واستدلوا على ذلك بأدلة منها: 1- النصوص الواردة عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- بتحديد عدد الآيات في بعض السور أو تحديد مواضعها كقوله عليه الصلاة والسلام عن الفاتحة: "هي السبع المثاني" 1 وقوله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه" 2. وقوله صلى الله عليه وسلم: "تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء" 3. وغير ذلك من الأحاديث الكثيرة، مما يدل على أنه لولا أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- هو الذي بين الآيات من حيث بداياتها ونهاياتها لما عرفنا بداية الآيتين في آخر سورة البقرة مثلا، ولا آية الصيف ولا الآيات السبع في الفاتحة.   1 رواه البخاري ج6 ص103. 2 رواه البخاري ج6 ص104، ومسلم ج1 ص555. 3 مسند الإمام أحمد ج1 ص26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 2- أن العلماء1 عدوا "الم" آية ولم يعدوا نظيرها "الر" آية وعدوا "المص" آية ولم يعدوا نظيرها وهو "المر" آية، وعدوا "يس" آية ولم يعدوا نظيرها "طس" آية، وعدوا "حم عسق" آيتين، ولم يعدوا نظيرها "كهيعص" آيتين، بل آية واحدة، فلو كان الأمر مبنيًّا على القياس لم يفرقوا بين المثلين. القول الثاني: وقيل: إن معرفة بداية الآيات ونهاياتها منه ما هو سماعي ومنه ما هو قياسي ومرجع ذلك إلى الفاصلة للآية. فما ثبت أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وقف عليه دائمًا تحققنا أنه رأس آية وما وصله دائما علمنا أنه ليس بآية وما وقف عليه مرة ووصله أخرى احتمل الأمرين, وهذا مجال للقياس ولا محظور فيه لأنه لا يؤدي إلى زيادة ولا نقصان في آيات القرآن, وإنما غايته تعيين محل الفصل أو الوصل2. والرأي الراجح: أن معرفة بداية الآيات ونهاياتها توقيفي لا مجال للقياس فيه قال الزركشي: "قال بعضهم: الصحيح أنها إنما تعلم بتوقيف من الشارع لا مجال للقياس فيه كمعرفة السورة"3 وقال الزمخشري: "علم الآيات توقيفي لا مجال للقياس فيه"4.   1 وهم الكوفيون فقد عدوا كل الفواتح بالأحرف المقطعة في أوائل السور آيات إلا "حم عسق" فقد عدوها آيتين و"طس" و"الر" و"المر" وما كان مفردا وهي "ق" و"ن" و"ص". 2 انظر البرهان للزركشي ج1 ص267، 268، وانظر مناهل العرفان للزرقاني ج1 ص333، 335. 3 البرهان للرزكشي ج1 ص267. 4 الكشاف: الزمخشري ج1 ص18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 فوائد معرفة الآيات : ذكر العلماء لتقسيم السورة إلى آيات حكما كثيرة منها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 1- العلم بأن كل ثلاث آيات قصار معجزة للنبي -صلى الله عليه وسلم- وفي حكمها الآية الطويلة, وبيان ذلك أن سبحانه وتعالى تحدى الناس أن يأتوا بسورة من مثل القرآن وأقصر سورة في القرآن هي سورة الكوثر، وهي ثلاثة آيات قصار فدل على أن كل ثلاث آيات قصار معجزة. 2- يرى بعض العلماء أن الوقف على رأس الآية سنة، وتحديد رأس الآية معين على اتباع السنة. 3- هناك بعض الأحكام الفقهية المترتبة على معرفة الآي، ذكرها السيوطي1 -رحمه الله تعالى- ومنها: أ- اعتبارها فيمن جهل الفاتحة فإنه يجب عليه بدلها سبع آيات عند الشافعي. ب- اعتبارها في خطبة الجمعة، فإنه يجب فيها قراءة آية كاملة من القرآن ولا يكفي شطرها إلا أن تكون طويلة. ج- اعتبارها في طول الصلاة فقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم يقرأ في الصبح بالستين إلى المائة آية، وكذا اتخاذها مقياسًا زمنيًّا للفارق بين الأذان والإقامة. د- اعتبارها في قراءة قيام الليل وعدد الآيات للقيام.   1 الإتقان: السيوطي ج1 ص69، وانظر مناهل العرفان: الزرقاني ج1 ص337، 339. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 فوائد عامة : اعلم أن العلماء -رحمهم الله تعالى- قد اختلفوا في عدد آيات القرآن الكريم وعدد كلماته وعدد حروفه، وسبب ذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقف على رءوس الآي للتوقيف، فإذا علم محلها وصل للتمام فيحسب السامع أنها ليست فاصلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 وسبب الاختلاف في عدد الحروف أن بعض العلماء يعد البسملة آية في أول كل سورة وبعضهم لا يعدها وأحرف المد ونحوها منهم من يعدها ومنهم من لا يعدها. وسبب الاختلاف في عدد كلمات القرآن أن الكلمة لها حقيقة ومجاز ولفظ ورسم واعتبار كل منها جائز، وكل من العلماء اعتبر أحد الجوائز1. وأطول سورة في القرآن الكريم هي البقرة، وأقصر سورة هي الكوثر، وهي ثلاث آيات. وأطول آية: آية الدين وهي الآية 282 من سورة البقرة وأقصر آية "والضحى" و"الفجر". وأطول كلمة فيه لفظًا وكتابة: {فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ} 2. أما أنصاف القرآن فثمانية: - فنصفه بالحروف "النون" من قوله: {نُكْرا} 3 في سورة الكهف والكاف من نصفه الثاني، وقيل عين {تَسْتَطِيع} 4 وقيل اللام الثانية من {وَلْيَتَلَطَّف} 5. - ونصفه بالكلمات الدال من قوله: {وَالْجُلُود} 6 في سورة الحج وقوله تعالى: {وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} 7 من نصفه الثاني. - ونصفه بالآيات {يَأْفِكُونَ} 8 من سورة الشعراء وقوله تعالى: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ} 9 من نصفه الثاني. - ونصفه على عدد السور، فالأول "الحديد" والثاني من "المجادلة"10.   1 البرهان: الزركشي ج1 ص252. 2 سورة الحجر: الآية 22. 3 سورة الكهف: الآية 74. 4 سورة الكهف: الآية 67. 5 سورة الكهف: الآية 19. 6 سورة الحج: الآية 20. 7 سورة الحج: الآية 21. 8 سورة الشعراء: الآية 45. 9 سورة الشعراء: الآية 46. 10 البرهان: الزركشي ج1 ص253. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 أكثر ما اجتمع في القرآن من الحروف المتحركة متوالية ثمانية أحرف في سورة يوسف: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا} من الآية الرابعة. وفي القرآن آية واحدة تجمع حروف المعجم هي قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} ، الآية 29 من سورة الفتح. وفي القرآن سورة في كل آية منها اسم لله تعالى هي سورة المجادلة. وفي القرآن آية فيها 16 ميمًا هي: {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ ... } الآية 48 هود. وفي آية الدين 33 ميمًا. وليس في القرآن حاء بعدها حاء إلا في موضعين. - الأول في البقرة "235" {عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى} . والثاني في الكهف "60" {لا أَبْرَحُ حَتَّى} . وليس فيه كاف بعدها كاف في كلمة واحدة إلا في موضعين: - البقرة "200" {مَنَاسِكَكُمْ} . - وفي المدثر "42" {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} . وعدد كلمات القرآن الكريم 77439 كلمة وقيل: 77437 وقيل: 77277 وقيل: غير ذلك. وعدد حروفه 323015 حرفا وقيل: 321000 وقيل: 340740 حرفا. قال السيوطي: والاشتغال باستيعاب ذلك مما لا طائل تحته1. "قلت": فيه رياضة للنفس وترويح للذهن في أطهر ميدان، والله أعلم.   1 الإتقان: السيوطي ج1 ص70، وقد نقلت أغلب هذه الفوائد من البرهان: للزركشي ج1 ص249 إلى ص256. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 المكي والمدني مدخل ... المكي والمدني: من المعلوم أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قضى فترة من حياته في مكة قبل البعثة وبعدها، ثم هاجر إلى المدينة النبوية وأقام فيها إلى وفاته صلى الله عليه وسلم. وقد نزل عليه القرآن الكريم في الأمصار والقرى والجبال والوهاد والأودية والسفوح والدور والبراري وفي أوقات مختلفة في الليل والنهار، والسفر، والحضر، والصيف، والشتاء، والسلم، والحرب. وقد اعتنى العلماء عناية فائقة في معرفة مكان النزول وزمن النزول لما في معرفة ذلك من فوائد عديدة لفهم النصوص القرآنية واستيفاء معانيها واستقصاء مدلولاتها. وعندما كان القرآن ينزل في مكة أول البعثة كان المسلمون قلة, وكان المشركون كثرة وللحديث مع الكفار أسلوبه ولمخاطبة المسلمين طريقتها. فالقرآن في مكة يدافع عن القلة من المسلمين، ويرفق بهم وينافح عنهم وسط هذه البيئة من الأعداء المشركين وهم بحاجة إلى من يأخذ بأيديهم ويثبت قلوبهم. والقرآن في مكة يقارع الخصوم ويحطم معتقداتهم الزائفة بالحجة والدليل ويدفع الشبهات، ويبطل الخرافات، ويكشف الأباطيل والترهات، وهم أهل لجاج وعناد، وإصرار واستكبار وظل القرآن ينافحهم حتى أقام الحجة عليهم وأنشأن جماعة إسلامية كانت نواة الدولة الإسلامية. وهاجر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بهذه الجماعة والتقى بجماعة أخرى من المسلمين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 في المدينة وآخى بين الجماعتين ومزج بينهما مزجا كان نتاجه نشأة الدولة الإسلامية الصالحة والمؤهلة لتلقي ما بقي من قواعد الإسلام وأحكام التشريع. ونزل القرآن على المسلمين في المدينة يبسط أحكام الدين، ويرسي قواعده ويبني المجتمع الإسلامي ويؤسس صرح الدولة. وبلا ريب أن معرفة ما نزل بمكة في تلك الظروف ولتلك الأهداف والأغراض ومعرفة ما نزل في المدينة, كذلك يعطى منهجا سليما للدعوة الإسلامية ودروسا للدعاة في مختلف العصور والأمكنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 عناية العلماء بالمكي والمدني : فلا عجب إذًا أن يعتني العلماء بذلك وأن يولوه اهتمامهم، فهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "والله ما نزلت آية إلا وقد علمت فيم أنزلت، وأين أنزلت إن ربي وهب لي قلبا عقولا ولسانا سئولا"1. وهذا ابن مسعود رضي الله عنه يقول: "والله الذي لا إله غيره ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين أنزلت، ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيم أنزلت ولو أعلم أحدا أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه"2. وقد اهتم العلماء من بعدهم بمعرفة المكي والمدني وأفرده جماعة بالتأليف منهم -كما يقول السيوطي- مكي، والعز الدريني3 وفي العصر الحديث صدرت دراسات كثيرة عن خصائص السور المكية، وخصائص السور المدنية. كما اعتنى به العلماء في مؤلفاتهم فلا تكاد تجد كتابا يتناول علوم القرآن إلا وكان المكي والمدني أحد أبوابه وفصل القول فيه السيوطي وأشبع الكلام على أوجهه وأفرد بعضها بمباحث خاصة في كتابه الإتقان4.   1 حلية الأولياء، لأبي نعيم ج1 ص67، 68. 2 صحيح البخاري ج6 ص102، وصحيح مسلم ج4 ص1913. 3 الإتقان: السيوطي، ج1 ص8. 4 المرجع السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 أنواع المكي والمدني : وهي كثيرة منها: ما نزل في مكة، وما نزل في المدينة، وما اختلف فيه، وترتيب ما نزل بمكة والمدينة، وما نزل بمكة وحكمه مدني، وما نزل بالمدينة وحكمه مكي وما نزل بمكة في أهل المدينة، وما نزل بالمدينة في أهل مكة، وما يشبه نزول المكي في المدني، وما يشبه نزول المدني في المكي، وما نزل بالجحفة، وما نزل ببيت المقدس وما نزل بالطائف، وما نزل بالحديبية، وما نزل ليلا، وما نزل نهارا، وما نزل صيفا وما نزل شتاء، وما نزل في الحضر، وما نزل في السفر، وما نزل مشيعا، وما نزل مفردا، والآيات المدنية في السور المكية، والآيات المكية في السور المدنية، وما حمل من مكة إلى المدنية، وما حمل من المدينة إلى مكة1.   1 انظر البرهان في علوم القرآن: الزركشي ج1 ص192. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 السورة المكية والسورة المدنية ... السور المكية والسور المدنية: اختلف العلماء في عدد السور المدنية، وقد نقل السيوطي عن ابن الحصار أن المدني عشرون سورة، والمختلف فيه اثنتا عشرة سورة وما عدا ذلك مكي1. السور المدنية: عشرون هي: 1- البقرة. 2- آل عمران. 3- النساء. 4- المائدة. 5- الأنفال. 6- التوبة. 7- النور. 8- الأحزاب. 9- محمد. 10- الفتح. 11- الحجرات. 12- الحديد.   1 الإتقان: السيوطي ج1 ص11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 13- المجادلة. 14- الحشر. 15- الممتحنة. 16- الجمعة. 17- المنافقون. 18- الطلاق. 19- التحريم. 20- النصر. واختلفوا في اثنتي عشرة سورة هي: 1- الفاتحة. 2- الرعد. 3- الرحمن. 4- الصف. 5- التغابن. 6- المطففين. 7- القدر. 8- البينة. 9- الزلزلة. 10- الإخلاص. 11- الفلق. 12- الناس. السور المكية: ما عدا السور المذكورة فهو مكي وعددها اثنتان وثمانون سورة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 طريق معرفة المكي والمدني مدخل ... طريق معرفة المكي والمدني: يعرف المكي والمدني بأحد طريقين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 الطريق الأول: النقلي السماعي: وهي الآيات والسور التي عرفنا أنها مكية أو مدنية بطريق الرواية عن أحد الصحابة الذين عاشوا فترة الوحي وشاهدوا التنزيل، أو عن أحد التابعين الذين سمعوا ذلك من الصحابة. أما النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم يرد عنه بيان للسور المكية والسور المدنية لأن هذا مما يشاهده ويحضره الصحابة -رضي الله عنهم- فكيف يخبرهم عن شيء يعلمونه! فالمكي والمدني يعرف بغير نص من الرسول صلى الله عليه وسلم. قال الباقلاني: "إنما يرجع في معرفة المكي والمدني لحفظ الصحابة والتابعين، ولم يرد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذلك قول؛ لأنه لم يؤمر به ولم يجعل الله علم ذلك من فرائض الأمة وإن وجب في بعضه على أهل العلم معرفة تاريخ الناسخ والمنسوخ، فقد يعرف ذلك بغير نص من الرسول"1.   1 الإتقان: السيوطي ج1 ص9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 ومن أمثلة ما عرف أنه مكي أو مدني عن طريق الصحابة رضي الله عنه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنْ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} 1. فقد أخرج البزار عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها نزلت لما أسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه, ومن المعلوم أن عمر قد أسلم في مكة فالآية إذًا مكية، وسورة الحج روى مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها مكية2. ومنها ما رواه مسلم عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: أَلِمَن قتل مؤمنا متعمدا من توبة؟ قال: لا. قال: فتلوت عليه هذه الآية التي في الفرقان: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} 3 إلى آخر الآية. قال: هذه آية مكية نسختها آية مدنية: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} 4، 5. ومنها حديث عائشة رضي الله عنها وفيه: "لقد نزل بمكة على محمد -صلى الله عليه وسلم- وإني لجارية ألعب: {بَلْ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} 6 وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده"7.   1 سورة الأنفال: الآية 64. 2 الإتقان: السيوطي ج1 ص13. 3 سورة الفرقان: الآية 68. 4 سورة النساء: الآية 93. 5 صحيح مسلم ج4 ص2318. 6 سورة القمر: الآية 46. 7 صحيح البخاري ج6 ص101. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 الطريق الثاني: القياسي الاجتهادي: نظر العلماء رحمهم الله تعالى في الآيات والسور التي عرفوا أنها مكية أو مدنية بالطريق الأول "السماعي النقلي" واستنبطوا خصائص وضوابط للسور المكية وخصائص وضوابط للسور المدنية، ثم نظروا في السور التي لم يرد نصوص في بيان مكان نزولها، فإن وجدوا فيها خصائص السور المكية قالوا إنها مكية، وإن وجدوا فيها خصائص السورة المدنية قالوا: إنها مدنية، وهذا يكون بالاجتهاد والقياس فسمي هذا الطريق بالقياسي الاجتهادي. نقل الزركشي عن الجعبري قوله: "لمعرفة المكي والمدني طريقان: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 سماعي، وقياسي، فالسماعي ما وصل إلينا نزوله بأحدهما، والقياسي كل سورة فيها: "يا أيها الناس" فقط، أو كلا، أو أولها حرف تهجٍّ سوى الزهراوين، والرعد، أو فيها قصة آدم وإبليس سوى الطولى فهي مكية، وكل سورة فيها قصص الأنبياء والأمم الخالية مكية، وكل سورة فيها فريضة أوحد فهي مدنية"1.   1 البرهان: الزركشي ج1 ص189، وانظر الإتقان، السيوطي ج1 ص17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 تعريف المكي والمدني مدخل ... تعريف المكي والمدني: اختلف العلماء في المراد بالمكي والمدني ومتى تسمى السورة أو الآية مكية أو مدنية إلى ثلاثة أقوال: ويرجع اختلافهم إلى المعتبر في النزول، فمنهم من اعتبر مكان النزول، ومنهم من اعتبر زمن النزول، ومنهم من اعتبر المخاطبين بالآيات أو السورة، وعلى هذا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 القول الأول : لطائفة اعتبرت مكان النزول فقالت: ما نزل في مكة وما حولها ولو بعد الهجرة، فهو مكي، وما نزل في المدنية وما حولها، فهو مدني. وهذا القول غير ضابط ولا حاصر؛ إذ إنه لا يشمل ما نزل من الآيات في غير مكة والمدينة وما حولهما، فقد نزلت آيات قرآنية في تبوك وفي بيت المقدس وفي الطائف، فالتعريف غير ضابط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 و القول الثاني : لطائفة اعتبرت المخاطب بالآية أو السورة وهذه الطائفة نظرت إلى أهل مكة وقت التنزيل، فوجدت أن الغالب على أهلها الكفر والمناسب لمخاطبتهم النداء بـ "يأيها الناس" أو "يا بني آدم" وبما أن الغالب على أهل المدينة هو الإيمان، فإن المناسب نداؤهم بيأيها الذين آمنوا، وعلى هذا فالمكي عندهم ما كان فيه "يا أيها الناس" أو "يا بني آدم" والمدني ما كان فيه "يأيها الذين آمنوا" نقل السيوطي عن أبي عبيد في الفضائل عن ميمون بن مهران قال: ما كان في القرآن "يا أيها الناس" أو "يا بني آدم" فإنه مكي وما كان "يأيها الذين آمنوا" فإنه مدني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 وهذا القول أيضًا غير ضابط ولا حاصر من وجهين: الأول: ضعف هذا القول ابن الحصار فقال: اتفق الناس على أن "النساء" مدنية وأولها "يأيها الناس" وعلى أن "الحج" مكية وفيها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} 1 وقال غيره هذا القول إن أخذ على إطلاقه فيه نظر. فإن سورة البقرة مدنية وفيها: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ} 2. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ} 3 وسورة النساء مدنية وأولها: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} 4. وبهذا يكون هذا القول غير ضابط وغير مطرد. الثاني: أن هناك آيات كثيرة وسور عديدة ليس فيها نداء بيأيها الناس ولا يأيها الذين آمنوا، وهذا القول لا يشملها فلا يكون ضابطًا ولا حاصرًا.   1 سورة الحج: الآية 77. 2 سورة البقرة: الآية 21. 3 سورة البقرة: الآية 168. 4 الإتقان: السيوطي ج1 ص17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 القول الثالث : لطائفة اعتبرت الزمان ورأت أن الهجرة هي الحد الفاصل بين المكي والمدني، فما نزل قبل الهجرة فهو مكي، وما نزل بعد الهجرة فهو مدني وإن نزل في مكة قالوا: "وما نزل في طريق المدينة قبل أن يبلغ النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة فهو من المكي"1. وهذا التعريف ضابط وحاصر لا تخرج عنه آية من آيات القرآن الكريم وعليه فإن قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا} 2. مدنية مع أنها نزلت في عرفات بمكة، بل إن قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} 3. مدنية مع أنها نزلت في جوف الكعبة لأن هاتين الآيتين نزلتا بعد الهجرة عام الفتح. ونعني بالضوابط خصائص الألفاظ، ونعني بالمميزات خصائص الأسلوب والمعاني والأغرض للسور المكية أو المدنية.   1 البرهان: الزركشي ج1 ص188. 2 سورة المائدة: الآية 3. 3 سورة النساء: من الآية 58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 فمن ضوابط السور المكية : 1- كل سورة فيها "كلا" فهي مكية. وردت في القرآن ثلاثًا وثلاثين مرة في خمس عشرة سورة كلها في النصف الأخير من القرآن قال الشيخ الدريني1 رحمه الله تعالى: وما نزلت كلا بيثرب فاعلمن ... ولم تأت في القرآن في نصفه الأعلى وحكمة ذلك أن كلا للردع والزجر, وهذا إنما يكون للمعاند المستكبر فهو مناسب لمخاطبة المشركين في مكة. 2- كل سورة فيها سجدة تلاوة فهي مكية2. وهي أربع عشرة سجدة هي الأعراف والرعد، والنحل، والإسراء، ومريم، وفي الحج سجدتان، والفرقان، والنمل، والسجدة، وفصلت، والنجم، والانشقاق، واقرأ باسم ربك، وأما سورة "ص" فيستحب السجود، وليست من عزائم السجود وزاد بعضهم آخر الحجر3 وفي الرعد خلاف. 3- كل سورة مبدوءه بقسم وهي خمس عشرة سورة هي الصافات، الذاريات، الطور، النجم، المرسلات، النازعات، البروج، الطارق، الفجر، الشمس، الليل، الضحى، التين، العاديات، العصر. 4- كل سورة مفتتحة بأحرف التهجي مثل "الم" "حم" وغيرها سوى البقرة وآل عمران، فإنها مدنيتان بالإجماع وفي الرعد خلاف.   1 البرهان للزركشي ج1 ص369. 2 الإتقان: السيوطي ج1 ص17. 3 الإتقان: السيوطي ج1 ص110. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 5- كل سورة فيها يأيها الناس وليست فيها يأيها الذين آمنوا فهي مكية إلا سورة الحج فإنها مكية مع أن في آخرها يأيها الذين آمنوا. 6- كل سورة مفتتحة بـ "الحمد" فهي مكية وهي خمس سور. 7- كل سورة فيها قصص الأنبياء ما عدا البقرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 مميزات السور المكية : من المعلوم أن ما نزل من القرآن في مكة كان يخاطب مجتمعا وثنيا فشا فيه الشرك، وانتشرت فيه الأصنام، ولم يتلق الدعوة الإسلامية بالقبول والتسليم، بل أخذ يناوؤها العداء، ويضطهد أتباعها، ويحارب رسولها. وفي المدينة كان القرآن الكريم غالبا يخاطب أتباعه المؤمنين يأمرهم فينقادون إليه، وينهاهم فينتهون عما نهى عنه. وإذا كان الأمر كذلك فلا شك أن البلاغة تقتضي الاختلاف في الأسلوب والاختلاف في المعاني والموضوعات بين ما نزل في مكة، وما نزل في المدنية، فمن مميزات السور المكية. 1- تأسيس العقيدة الإسلامية في النفوس بالدعوة إلى عبادة الله وحده والإيمان برسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- وباليوم الآخر، وإبطال المعتقدات الوثنية الجاهلية وعبادة غير الله وإيراد الحجج والبراهين على ذلك. 2- تشريع أصول العبادات والمعاملات والآداب والفضائل العامة ففي مكة فرضت الصلوات الخمس مثلا وحرم أكل مال اليتيم ظلمًا، كما حرم الكبر والخيلاء ونحوها. 3- الاهتمام بتفصيل قصص الأنبياء والأمم السابقة، وبيان ما دعا إليه الأنبياء السابقون من عقائد، ومواقف أممهم منهم وما نزل بالمكذبين من عذاب دنيوي جزاء تكذيبهم وإيراد الحوار بين الأنبياء وخصومهم وإبطال حججهم بما يوحي إلى أهل مكة بوجوب أخذ العبرة من هؤلاء وفي هذا بسط أيضا للعقيدة الإسلامية الصحيحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 4- قصر السور الآيات مع قوة جرس الألفاظ ووقعها. وإيجاز العبارة مع بلاغة المعنى ووفائه، وذلك أن القوم في مكة كانوا معاندين مستكبرين لا يريدون سماع القرآن، بل كانوا إذا شرع الرسول -صلى الله عليه وسلم- في القراءة يتنادون: {لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} 1. ولا يناسب هذا المقام طول الآيات والمقاطع، بل يناسبه إيجازها وقوة معانيها.   1 سورة فصلت: من الآية 26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 ضوابط السور المدنية : 1- كل سورة فيها يأيها الذين آمنوا وليس فيها يأيها الناس فهي مدنية، قال السيوطي عن علقمة عن عبد الله "يعني ابن مسعود رضي الله عنه" قال: ما كان يأيها الذين آمنوا أنزل بالمدينة، وما كان يأيها الناس فبمكة.. ثم قال: قال ابن عطية وابن الفرس وغيرهما: هو في يأيها الذين آمنوا صحيح، وأما يأيها الناس فقد يأتي في المدني"1. 2- كل سورة فيها ذكر للمنافقين قال مكي بن أبي طالب القيسي: "كل سورة فيها ذكر المنافقين فمدنية وزاد غيره سوى العنكبوت"2. والصحيح أن أول العنكبوت الذي ورد فيه ذكر المنافقين مدني لما أخرجه ابن جرير في سبب نزولها3. 3- كل سورة ورد فيها حد أو بيان فريضة، قال عروة بن الزبير: "ما كان من حد أو فريضة فإنه أنزل بالمدينة"4. وقال محمد بن السائب الكلبي: "كل سورة ذكرت فيها الحدود والفرائض فهي مدنية"5.   1 الإتقان: السيوطي ج1 ص17. 2 المرجع السابق ج1 ص16. 3 جامع البيان: الطبري ج20 ص86. 4، 5 البرهان: الزركشي جـ:1 ص188، 189. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 مميزات السور المدنية : 1- يخاطب القرآن في المدينة -غالبا- مجتمعا إسلاميا فكان الغالب تقرير الأحكام التشريعية للعبادات والمعاملات والحدود والفرائض، وأحكام الجهاد وغيرها. 2- نشأ في المجتمع المدني طائفة من المنافقين فتحدث القرآن الكريم عن طبائعهم وهتك أستارهم، وبين خطرهم على الإسلام والمسلمين وكشف عن وسائلهم ومكائدهم وخباياهم ومخططاتهم للكيد للمسلمين، ولم يكن في مكة نفاق لأن المسلمين كانوا قلة مستضعفين فكان الكفار يحاربونهم جهارا. 3- عاش بين المسلمين في المدينة طائفة من أهل الكتاب وهم اليهود، وكانوا يمكرون مكرًا سيئًا، ويكيدون للإسلام وأهله فكشف القرآن في المدينة سرائرهم وأبطل عقائدهم، وكشف تحريفهم لديانتهم، وبين بطلان عقائدهم، ودعاهم إلى الإسلام بالحجة والدليل والبرهان. 4- الغالب على الآيات والسور المدنية طول المقاطع والسور لبسط العقائد الإسلامية والأحكام التشريعية، فقد كان أهل المدينة مسلمين يقبلون على سماع القرآن، وينصتون حتى كأن على رءوسهم الطير، فالمقام ليس مقارعة ولجاجا يناسبه الإيجاز بل المقام مقام إقبال وإنصات وإذعان يناسبه الاسترسال والإطناب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 فوائد معرفة المكي والمدني : 1- تمييز الناسخ من المنسوخ فإن المتأخر ناسخ للمتقدم. 2- الاستعانة به في تفسير القرآن الكريم، فإن معرفة مكان النزول يعين على فهم المراد بالآية، ومعرفة مدلولاتها وما يرد فيها من إشارات أحيانا. 3- معرفة تاريخ التشريع وتدرجه في التكليف ويترتب على هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 الإيمان بأن هذا التدرج لا يكون إلا من عليم خبير، عزيز حكيم، رحمن رحيم. 4- الاستفادة من أسلوب القرآن في الدعوة إلى الله تعالى فهو أسلوب يشتد ويلين ويفصل ويجمل، ويعد ويتوعد، ويرغب ويرهب، ويوجز ويطنب حسب أحوال المخاطبين، وهذا من أسرار الإعجاز في القرآن الكريم1. 5- استخراج سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وذلك بمتابعة أحواله في مكة ومواقفه في الدعوة، ثم أحواله في المدينة وسيرته في الدعوة إلى الله فيها واقتداء الدعاة بهذا المنهج النبوي الحكيم في الدعوة. وقد عني بعض المؤرخين بهذا الجانب فوضعوا المؤلفات في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- على ضوء القرآن الكريم2. 6- بيان عناية المسلمين بالقرآن الكريم واهتمامهم به حتى إنهم لم يكتفوا بحفظ النص القرآني بل تتبعوا مكان نزوله ومعرفة ما نزل قبل الهجرة وما نزل بعدها وما نزل بالليل وما نزل بالنهار وما نزل في الصيف وما نزل في الشتاء ويتبع هذا الاقتداء بهم في دراسة القرآن وعلومه.   1 انظر مباحث في علوم القرآن، د. صبحي الصالح ص233. 2 منهم الدكتور/ عبد الصبور مرزوق في كتابه "السيرة النبوية في القرآن الكريم" ومنهم د. محمد علي الهاشمي في كتابه: "شخصية الرسول ودعوته في القرآن الكريم" والأستاذ/ حسن ضياء الدين عتر وكتابه "نبوة محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن " والأستاذ حسن الملطاوي في كتابه: "رسول الله في القرآن الكريم". والأستاذ محمد إبراهيم شقرة في كتابه "السيرة النبوية العطرة في الآيات القرآنية المسطرة" والشيخ جلال الحنفي البغدادي في كتابه "شخصية الرسول الأعظم قرآنيا" وغيرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 أسباب النزول مدخل ... أسباب النزول: من المعلوم أن سبب نزول آيات القرآن الكريم كلها هو هداية الناس إلى الحق والصراط المستقيم، لكن هناك آيات تزيد على هذا السبب العام بسبب خاص مرتبط بها وحدها دون غيرها وهذا السبب الخاص هو الذي يبحثه العلماء تحت هذا الموضوع. وعلى هذا فإن آيات القرآن الكريم تنقسم من حيث سبب النزول وعدمه إلى قسمين: - الأول: قسم نزل من الله ابتداء غير مرتبط بسبب من الأسباب الخاصة وإنما هو مرتبط بالسبب العام وهو هداية الناس، وهذا القسم هو أكثر آيات القرآن الكريم. - الثاني: قسم نزل مرتبطا بسبب من الأسباب الخاصة يسميه العلماء "سبب نزول الآية" وآيات هذا القسم هي الأقل ولأهميتها أفردها العلماء بالدراسة والبيان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 عناية العلماء بأسباب النزول : اعتنى العلماء -رحمهم الله تعالى- عناية فائقة بدراسة أسباب النزول وتظهر عنايتهم في ثلاث صور: الأولى: أنهم أفردوا أسباب النزول بباب مستقل من أبواب علوم القرآن الكريم في مؤلفاتهم. الثانية: أن المفسرين يوردون أول ما يوردون في تفسير الآية سبب نزولها -إن كان لها سبب نزول- ويعتنون بذلك ويستندون إليه في تفسير الآية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 الثالثة: أن العلماء أفردوا أسباب النزول بمؤلفات مستقلة وهي مؤلفات كثيرة، وأول من أفرده، بالتأليف علي بن المديني "ت234هـ" وممن ألف فيه عبد الرحمن بن محمد المعروف بمطرف الأندلسي "ت402هـ" فقد ألف كتابه "القصص والأسباب التي نزل من أجلها القرآن". ومنهم أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي "ت468هـ" واسم كتابه "أسباب النزول"، وطبع مرارًا1 وقد اختصر الجعبري هذا الكتاب بحذف أسانيده2 ومنهم ابن الجوزي "ت597هـ" واسم كتابه "أسباب نزول القرآن" ومنهم ابن حجر العسقلاني "ت852هـ" واسم كتابه "العجاب في بيان الأسباب" وقد ذكر السيوطي أنه اطلع على مسودة هذا الكتاب وأن ابن حجر مات قبل أن يبيضه3. ومنهم السيوطي "ت911هـ" الذي ألف كتابا سماه "لباب النقول في أسباب النزول" وطبع في مجلد واحد، ولا أعرف أحدًا اعتنى بتحقيقه. ومن المؤلفات الحديثة كتاب "جامع النقول في أسباب النزول" وشرح آياتها للأستاذ ابن خليفة عليوي وهو في جزأين. ومنها كتاب "الصحيح المسند من أسباب النزول" للشيخ مقبل بن هادي الوادعي. ومنها كتاب "نهاية السول فيما استدرك على الواحدي والسيوطي من أسباب النزول" تأليف د. أبو عمر نادي بن محمد الأزهري.   1 حقق عدة مرات وممن حققه السيد أحمد صقر وأيمن صالح شعبان وكمال بسيوني زغلول وعصام الحميدان في أطروحته للماجستير في جامعة الإمام. 2 وهو مخطوط ويحتاج إلى من يقوم بتحقيقه في أطروحة علمية. 3 الإتقان: السيوطي ج1 ص28، وقد صدر كتاب "العجاب" بتحقيق أ. عبد الحكيم محمد الأنيس في مجلدين وهو إلى الآية 78 من سورة النساء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 تعريف سبب النزول : هو "ما نزل قرآن بشأنه وقت وقوعه" كحادثة تقع حين نزول القرآن الكريم فتنزل آية أو آيات من القرآن تبين الحكم فيها أو كسؤال يوجه إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 الرسول -صلى الله عليه وسلم- فتنزل آية أو آيات من القرآن الكريم وفيها الإجابة عليه. ويفيد قولنا "وقت وقوعه" أنه لا بد أن يكون نزول الآيات وقت وقوع الحادثة أو توجيه السؤال فإن كانت الحادثة قبل نزول الآيات بزمن طويل خرج ذلك عن هذا الباب وصار من باب الإخبار عن الوقائع الماضية والأمم السابقة كالآيات التي تتحدث عن خلق آدم عليه السلام، وقصته مع إبليس، وقصة إبني آدم، وقصص الأنبياء السابقين كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم عليهم السلام، فإن الحديث عن ذلك ليس من هذا الباب. ولا يلزم أن يكون نزول الآيات بعد الحادثة أو السؤال مباشرة، بل يصح أن يتأخر زمنا يسيرا فإن قوله تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا، إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِي رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} 1. قد نزل بعد خمس عشرة ليلة من الحادثة وكذا الآيات المتعلقة بحادثة الإفك إنما نزلت بعد نحو شهر منها. والحادثة: التي ينزل القرآن لأجلها قد تكون من الرسول -صلى الله عليه وسلم- كما حدث في سبب نزول سورة عبس حين جاء ابن أم مكتوم إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو يناجي بعض زعماء قريش ويدعوهم إلى الإسلام، فجاءه ابن أم مكتوم وقال: يا رسول الله علمني مما علمك الله وجعل يناديه ويكرر النداء والرسول -صلى الله عليه وسلم- مشغول عنه ومقبل على هؤلاء النفر فنزلت سورة عبس. فكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- إذا رأى ابن أم مكتوم بعد ذلك يقول: "مرحبًا بمن عاتبني فيه ربي" 2. وقد تكون الحادثة من جماعة من الصحابة -رضي الله عنهم- كأولئك الصحابة الذين كانوا يصافون المنافقين ويواصلون رجالا من اليهود لما كان بينهم من القرابة والصداقة والحِلف والجوار والرضاع فأنزل الله تعالى:   1 سورة الكهف: الآيتان 23، 24. 2 أسباب النزول: الواحدي ص297. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} 1، 2. وقد تكون الحادثة من المشركين أو من اليهود أو من المنافقين والأمثلة على ذلك كثيرة. كما أن السؤال قد يكون عن ماض كقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ} 3، أو عن حاضر كقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ} 4. وقوله سبحانه: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ} 5 أو عن مستقبل كقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ} 6، وقوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ} 7.   1 سورة آل عمران: الآية 118. 2 أسباب النزول: الواحدي ص79. 3 سورة الكهف: من الآية 83. 4 سورة البقرة: من الآية 189. 5 سورة الإسراء: من الآية 85. 6 سورة البقرة: من الآية 215. 7 سورة النازعات: من الآية 42. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 طريق معرفة سبب النزول : سبب النزول حادثة من أحداث التاريخ الواقعة في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولهذا فلا طريق لمعرفته إلا طريق الرواية الصحيحة عمن شاهده وحضره ولا يمكن الاجتهاد في معرفة ذلك، بل لا يجوز لأنه من القول في القرآن بغير علم قال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} 1. وقال صلى الله عليه وسلم: "من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار" رواه الترمذي. وقال هذا حديث حسن2.   1 سورة الإسراء: من الآية 36. 2 جامع الترمذي: ج5 ص199. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 وروى الواحدي عن محمد بن سيرين قال: سألت عبيدة عن آية من القرآن فقال: اتق الله، وقل سدادًا، ذهب الذين يعلمون فيما أنزل القرآن1. وقال الواحدي: "ولا يحل القول في أسباب نزول الكتاب إلا بالرواية والسماع ممن شاهدوا التنزيل ووقفوا على الأسباب"2. وإذا ورد سبب النزول عن صحابي فلا تخلو عبارته أن تكون جازمة وصريحة في السببية فلها حكم الحديث المرفوع. وإما أن تكون العبارة غير صريحة كأن يقول: "نزلت هذه الآية في كذا" فإنها تحتمل أن المراد بها سبب النزول وتحتمل أن هذا داخل في الآية وإن لم يكن السبب، بل يراد بيان حكم من الأحكام الواردة في الآية. قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: "وقد تنازع العلماء في قول الصاحب: "نزلت هذا الآية في كذا" هل يجري مجرى المسند، كما لو ذكر السبب الذي أنزلت لأجله أو يجري مجرى التفسير منه الذي ليس بمسند؟ فالبخاري يدخله في المسند، وغيره لا يدخله في المسند، وأكثر المسانيد على هذا الاصطلاح كمسند أحمد وغيره وبخلاف ما إذا ذكر سببا نزلت عقبه، فإنهم كلهم يدخلون مثل هذا في المسند"3. وإذا ورد سبب النزول عن تابعي فيشترط لقبوله أربعة شروط: 1- أن تكون عبارته صريحة في السببية: بأن يقول: "سبب نزول هذه الآية كذا" أو أن يأتي بفاء تعقيبية داخلة على مادة النزول بعد ذكر حادثة أو سؤال، كأن يقول حدث كذا وكذا أو سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن كذا فأنزل الله تعالى هذه الآية أو فنزلت هذه الآية.   1 أسباب النزول: الواحدي ص5. 2 المرجع السابق ص4. 3 مقدمة في أصول التفسير: ابن تيمية تحقيق د. عدنان زرزور ص48، وانظر الإتقان للسيوطي ج1 ص31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 2- أن يكون الإسناد صحيحًا. 3- أن يكون التابعي من أئمة التفسير الذين أخذوه عن الصحابة. 4- أن يعتضد برواية تابعي آخر تتوافر فيه نفس الشروط وإذا اكتملت هذه الشروط في رواية تابعي قبلت وصار لها حكم الحديث المرسل. قال السيوطي -رحمه الله تعالى- عن سبب النزول إذا ورد عن تابعي أنه "قد يقبل إذا صح المسند إليه، وكان من أئمة التفسير الآخذين عن الصحابة كمجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير أو اعتضد بمرسل آخر ونحو ذلك"1. وبهذا ندرك الحيطة الشديدة التي اتخذها العلماء -رحمهم الله تعالى- لصيانة تفسير القرآن من الدخيل والتحريف والتبديل.   1 الإتقان للسيوطي ج1 ص31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 فوائد معرفة سبب النزول : لمعرفة سبب النزول فوائد كثيرة من أهمها: 1- معرفة حكمة التشريع. وأنه قام على رعاية مصلحة الأمة ودفع الضرر عنها وجلب الخير لها والرحمة بها وذلك كحادثة خولة بنت ثعلبة -رضي الله عنها- حين جاءت إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- تشتكي زوجها وهي تقول: يا رسول الله أبلى شبابي، ونثرت له بطني، حتى إذا كبر سني، وانقطع ولدي، ظاهر مني، اللهم إني أشكو إليك. فنزل قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} 1 وهو أوس بن الصامت2. فشرع الله تعالى الكفارة رحمة بها وبأمثالها وصيانة للأسرة في المجتمع الإسلامي من التفكك وحماية للأبناء من التشرد. 2- معرفة سبب النزول يعين على فهم المراد بالآية وتفسيرها التفسير الصحيح ودفع اللبس والإشكال عن معناها قال الواحدي عن أسباب النزول   1 سورة المجادلة: الآية الأولى. 2 لباب المنقول في أسباب النزول: السيوطي ص206. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 "هي أوفى ما يجب الوقوف عليها، وأولى ما تصرف العناية إليها لامتناع معرفة تفسير الآية وقصد سبيلها، دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها"1. وقال أبو الفتح القشيري: "بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني الكتاب العزيز"2. وقال ابن تيمية رحمه الله تعالى: "ومعرفة سبب النزول يعين على فهم الآية؛ فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب ولهذا كان أصح قولي الفقهاء، أنه إذا لم يعرف ما نواه الحالف رجع إلى سبب يمينه وما هيجها وأثارها"3. ومن الأمثلة على ذلك: 1- قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} 4. فظاهر هذه الآية يدل على أن للإنسان أن يصلي إلى أية جهة شاء ولا يجب عليه استقبال القبلة لا في سفر ولا في حضر ولا في فرض ولا في نافلة وهذا مخالف لما هو معلوم من الأدلة الأخرى في الكتاب والسنة بوجوب التوجه إلى شطر المسجد الحرام. ويزول الإشكال إذا عرف سبب نزول هذه الآية كما رواه جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: "بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سرية كنت فيها فأصابتنا ظلمة فلم نعرف القبلة فقالت طائفة منا قد عرفنا؛ القبلة هي ههنا قِبل الشمال، فصلوا وخطوا خطوطا، وقال بعضنا: القبلة ههنا قِبل الجنوب فصلوا وخطوا خطوطا، فلما أصبحوا وطلعت الشمس أصبحت تلك الخطوط لغير القبلة, فلما قفلنا من سفرنا سألنا النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك، فسكت فأنزل الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} 5.   1 أسباب النزول: الواحدي، ص4. 2 البرهان للزركشي، ج1 ص22. 3 مقدمة في أصول التفسير: ابن تيمية ص47. 4 سورة البقرة: الآية 115. 5 أسباب النزول: الواحدي، ص23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 وروى مسلم في صحيحه عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي وهو مقبل من مكة إلى المدينة على راحلته حيث كان وجهه قال: وفيه نزلت: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} 1. وبهذا ندرك أن هذه الآية خاصة بمن صلى وهو لا يعرف القبلة ثم يتبين له خطؤه فإنه لا يعيد الصلاة، وكذا في صلاة النافلة على الراحلة في السفر لا يلزم التوجه إلى القبلة. وبمعرفة سبب النزول زال الإشكال. 2- قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} 2. فظاهر هذه الآية نفي الجناح عمن طاف بالصفا والمروة مع أن الطواف بهما فرض، والتعبير بنفي الإثم لا يدل على الفرضية، وإذا عرف سبب النزول زال الإشكال: فقد كان للمشركين أصنام على الصفا والمروة وكانوا يطوفون بهما فلما جاء الإسلام تحرج هؤلاء عن الطواف بهما فنزلت هذه الآية, وقد روى البخاري عن أنس -رضي الله عنه- أنه سئل: أكنتم تكرهون السعي بين الصفا والمروة؟ قال: نعم، لأنها كانت من شعار الجاهلية حتى أنزل الله {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} 3. فدل سبب النزول على أن المراد بالآية نفي ما وقر في أذهان بعض الصحابة من التحرج من السعي بين الصفا والمروة والاعتقاد بتحريم ذلك؛ لأنه من عمل الجاهلية فنزلت الآية لهذا الإثم ورافعة للتحرج. 3- ومن فوائد معرفة سبب النزول تيسير الحفظ وتسهيل الفهم   1 صحيح مسلم ج1 ص486. 2 سورة البقرة: الآية 158. 3 صحيح البخاري ج2 ص171. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 وتثبيت الوحي في ذهن كل من يسمع الآية، إذا عرف سبب نزولها لأن ربط الأسباب بالمسببات والأحكام بالحوادث، والحوادث بالأشخاص والأزمنة والأمكنة كل ذلك من دواعي ثبوت المعلومات في الذهن وسهولة استذكارها عند تذكر بعضها, وذلك ما يعرف في علم النفس بقانون "تداعي المعاني"1. 4- معرفة من نزلت فيه الآية بعينه حتى لا يبرَّأ المتهم أو يتهم البريء وحتى لا يزعم أحد أن المراد بالذم في تلك الآية فلان من الصحابة وهو بريء، أو ينسب إلى آخر صفات مدح في آية، والمراد بها غيره، وفي تفاسير الشيعة كثير من هذا النوع، فلا تكاد تجد آية فيها مدح وثناء على أحد أيا كان إلا وألصقوها بأحد أئمتهم، ولا يدعون آية فيها ذم إلا وألصقوها بمخالفيهم أو بأحذ صحابة رسول -صلى الله عليه وسلم- كأبي بكر وعمر وعثمان وعائشة وغيرهم رضي الله عنهم2.   1 مناهل العرفان: الزرقاني ج1 ص106، 107. 2 والأمثلة على هذا كثيرة جدًّا، أقتصر على ذكر أمثلة من تفسير واحد من تفاسيرهم وهو المسمى: "تفسير نور الثقلين" تأليف عبد علي الحويزي فمنها تفسير قوله تعالى: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ، عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} قالوا: هي في أمير المؤمنين عليه السلام، كان أمير المؤمنين عليه السلام "يقصدون علي بن أبي طالب رضي الله عنه" يقول: "ما لله عز وجل آية هي أكبر مني. ولا لله من نبأ أعظم مني" نور الثقلين ج5 ص491، وفسروا التراب في قول الكافر يوم القيامة: {يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} بقولهم: "أي من شيعة علي" ج5 ص497، وزعموا أن قوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى} نزلت في عثمان وأنه عبس في وجه ابن أم مكتوم حين رأى الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقدمه عليه ج5 ص508. وفسروا السماء في قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} بأنها أمير المؤمنين "علي بن أبي طالب والطارق هو الروح الذي مع الأئمة و {النَّجْمُ الثَّاقِبُ} رسول الله -صلى الله عليه وسلم" ج5 ص550. أما الشفع والوتر في قوله تعالى: {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْر} فالشفع الحسن والحسين والوتر أمير المؤمنين عليه السلام ج5 ص571، وفي قوله تعالى: {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} قالوا: أمير المؤمنين عليه السلام وما ولد من الأئمة ج5 ص578، وزعموا أن قوله تعالى: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ، يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا} زعموا أنها في عثمان -رضي الله عنه- والمال اللبد يعني الذي جهز به النبي -صلى الله عليه وسلم- في جيش العسرة ج5 ص580، وفي قوله تعالى: {فَكُّ رَقَبَةٍ} قالوا: "ولاية أمير المؤمنين" ج5 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 وقد روى البخاري -رحمه الله تعالى- أن مروان بن الحكم كان على الحجاز استعمله معاوية فخطب فجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يبايع له بعد أبيه فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر شيئا فقال: خذوه، فدخل بيت عائشة فلم يقدروا عليه، فقال مروان: إن هذا الذي أنزل الله فيه: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي} 1. فقالت عائشة من وراء الحجاب: ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن إلا أن الله أنزل عذري2. 5- ومن فوائد معرفة أسباب النزول: معرفة أن سبب النزول غير خارج عن حكم الآية إذا ورد مخصص لها. وبيان ذلك أن اللفظ قد يكون عامًّا ويقوم دليل على تخصيصه فلا يجوز إخراج السبب من حكم الآية بالاجتهاد والإجماع لأن دخول السبب قطعي. وإخراجه بدليل التخصيص اجتهادي، والاجتهاد ظني، ولا يجوز إخراج القطعي بالظني. ومثال ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ   =ص581. وقالوا: عن أصحاب الميمنة هم أصحاب أمير المؤمنين يعني علي بن أبي طالب ج5 ص584، وقالوا: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} . الشمس رسول الله، والقمر إذا تلاها أمير المؤمنين ج5 ص585، وقوله تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} الآيات نزلت في عثمان حين اشترى بئر رومة للمسلمين لكنهم يقولون: المراد بها الحسين بن علي عليه السلام ج5 ص577. وكذا قوله تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى} التي نزلت في أبي بكر رضي الله عنه قالوا: إنها نزلت في أمير المؤمنين عليه السلام ج5 ص593. وحادثة الإفك المشهورة ونزوله قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ..} الآيات، زعموا أنها نزلت في مارية القبطية وزادوا افتراء أن عائشة هي التي رمت مارية بالزنا ج3 ص581. والأمثلة كما قلت كثيرة جدا ومعرفة أسباب النزول تكشف تحريفهم وإلحادهم في القرآن الكريم. 1 سورة الأحقاف: من الآية 17. 2 صحيح البخاري: ج6 ص42. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 1. وسبب نزول هذه الآية حادثة الإفك المشهورة ولفظ الآية عام بالوعيد يشمل التائب وغير التائب. لكن الآية الأخرى استثنت من تاب فقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ، إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 2. فلفظ الآية هنا عام ثم خصص بقوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} . وبهذا التخصيص نخصص عموم الآية الأولى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ} الآية، لكن التخصيص للآية الأولى لا يشمل سبب نزولها وهو قذف عائشة -رضي الله عنها- فيبقى على عمومه بعدم قبول توبة من قذفها لأن دخوله في لفظ الآية الأولى العام قطعي وإخراجه بما ورد في الآية الثانية اجتهادي ظني والقطعي لا يخرج بالظني. وبهذا يبقى حكم عدم قبول توبة القاذف خاصًّا بقذف عائشة وأمهات المؤمنين، ويكون قبول التوبة في قذف غيرهن، ولذا قال ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ} نزلت في عائشة خاصة3. وفي حديث آخر عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية: "هذه في عائشة وأزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم يجعل الله لمن فعل ذلك توبة وجعل لمن رمى امرأة من المؤمنات من غير أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- التوبة، ثم قرأ:   1 سورة: الآية 23. 2 سورة النور: الآيتين 4، 5. 3 رواه الحاكم في مستدركه ج4 ص10، 11، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} إلى قوله: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا} . فجعل لمن قذف امرأة من المؤمنين التوبة ولم يجعل لمن قذف امرأة من أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- توبة1. والخلاصة أن الثانية خصصت عموم الآية الأولى إلا سبب النزول فلا تخصصه لأن دخوله قطعي وتخصيصها ظني. 6- تخصيص الحكم بالسبب عند من يرى أن العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ. ومثال قوله تعالى: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 2. فقد أشكل عموم هذه الآية على مروان بن الحكم فقال لبوابه: اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقال: لئن كان كل امرئ فرح بما أوتي، وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا، لنعذبن أجمعين فقال ابن عباس: وما لكم ولهذا إنما دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- يهود فسألهم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره فأروه أن قد استحمدوا إليه ما أخبروه عنه فيما سألهم وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم ثم قرأ ابن عباس: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} 3. كذلك حتى قوله: {يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} 4، 5. 7- ومن فوائد معرفة سبب النزول كشف وجه من وجوه بلاغة القرآن الكريم حيث مراعاة الكلام لمقتضى الحال وذلك بالمطابقة والمقارنة بين الحادثة والنص القرآني الذي نزل فيها.   1 مجمع الزوائد: الهيثمي، ج7 ص79، 80. 2 سورة آل عمران: الآية 188. 3 سورة آل عمران: الآية 187. 3 سورة آل عمران: الآية 188. 4، 5 صحيح البخاري ج5 ص174، ومسلم ج4 ص2143. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 الاستفادة من معرفة سبب النزول في مجال التربية والتعليم : نقل المعلومات من ذهن إلى ذهن يحتاج إلى أمرين مهمين: - أولهما: القدرة من المدرس. - ثانيهما: الاستعداد من الطالب. ولا نجاح للعملية التعليمية ما لم يكن عند مدرس المادة قدرة على التعبير الصحيح عما يريد إيصاله إلى أذهان الطلاب. ولا نجاح للعملية ما لم يكن ذهن الطالب مهيئًا ومشرعا أبوابه لدخول المادة العلمية. وفتح ذهن الطالب عملية مشتركة بين الطالب والمدرس. فالمدرس الناجح هو الذي يستطيع أن يثير مشاعر الطلاب ويجذب انتباههم، ويهيئ نفوسهم لتقبل المادة العلمية، وليست هذه المهمة بالمهمة السهلة، بل تحتاج إلى جهد كبير، وفطنة لماحة. والتمهيد للدرس من أهم مراحله، وهي مرحلة تحتاج إلى خبرة ودراية: 1- للربط بين المعلومات. 2- لتأسيس قاعدة يقف عليها ذهن الطالب للإنطلاق من معلومة إلى معلومة أو من الكل إلى الجزء، إلى أن يدرك عناصر الدرس ويستوعبها. 3- لإثارة انتباه الطلاب وجذب مشاعرهم. وعرض سبب النزول سبيل ناجح لتحقيق هذه الأمور في تدريس تلاوة القرآن الكريم، وتدريس تفسير القرآن الكريم، إذ إن سبب النزول -كما أشرنا في التعريف- لا يخلو من أن يكون حادثة أو سؤالا، ومثل هذا كاف لجذب انتباه الطلاب وربطهم بالمادة العلمية، وتزويدهم بمعلومة عامة ينطلقون منها إلى التفصيل ومعرفة ما يتعلق بالآية من تفسير لمفرداتها. وبيان لأحكامها وإدراك لأسرار التشريع فيها، وتوثيق صلتهم بالآية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 وإذا كان عرض سبب النزول طريقة ناجحة للتمهيد لدرس التلاوة ودرس التفسير مثلا, فإنه يمكن الاستفادة من هذا الأسلوب في سائر المواد بأن يبدأ المدرس بعرض قصة مناسبة تلائم المادة العلمية التي يريد عرضها، أو يوجه سؤالا يجذب به انتباه الطلاب، ثم ينطلق إلى درسه بعد أن يطمئن إلى إقبال الطلاب عليه وتوجه أذهانهم إليه؛ فيسهل حينئذ تلقيهم للدرس، واستيعابهم له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 التفسير بالمأثور وأهم المؤلفات فيه تعريف التفسير ... التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي: تعريف التفسير: اختلف علماء اللغة في لفظ التفسير: 1- فقيل: هو تفعيل من "الفَسْر" بمعنى الإبانة وكشف المراد عن اللفظ المشكل1. قال تعالى: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} 2. أي تفصيلا3. 2- وقيل: هو مقلوب من "سَفَر" ومعناه أيضا الكشف يقال: سفرت المرأة سفورا إذا ألقت خمارها عن وجهها وهي سافرة وأسفر الصبح: أضاء وإنما بنوا "فسر" على التفعيل فقالوا: "تفسير" للتكثير4. وقال الراغب الأصفهاني: "الفسر" و"السفر" يتقارب معناهما كتقارب لفظيهما، لكن جعل الفسر لإظهار المعنى المعقول ... وجعل السفر لإبراز الأعيان الأبصار فقيل: سفرت المرأة عن وجهها، وأسفر الصبح5.   1 تهذيب اللغة: الأزهري ج12 ص407. 2 سورة الفرقان: الآية 33. 3 البرهان: الزركشي ج2 ص148. 4 المرجع السابع ج2 ص147. 5 المرجع السابق ج2 ص148. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 وفي الاصطلاح: التفسير علم يفهم به كتاب الله تعالى المنزل على نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- وبيان معانيه واستخراج أحكامه وحكمه1.   1 المرجع السابق ج1 ص13، وانظر الإتقان: السيوطي ج2 ص174. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 مناهج التفسير : لم يكن الصحابة -رضي الله عنهم- ولا الناس من بعدهم أيضًا على درجة واحدة في فهم القرآن الكريم، بل كانوا يتفاوتون في ذلك، فقد كان يشكل على بعضهم ما لا يشكل على بعضهم الآخر. ويرجع ذلك إلى تفاوتهم في معرفة اللغة ومعرفة ما يحيط بنزول الآية من أحداث وملابسات كأسباب النزول، زد على ذلك تفاوتهم في القدرة العقلية شأن البشر كلهم. ولو تساوت الأذهان في إدراك معاني القرآن لبطل التنافس وخمدت الهمم لزوال ما يحملهما على القدح وإعمال الذهن والتفكير والتدبر، لكن الله جلت حكمته جعل ألفاظ القرآن تحتمل أحيانًا معاني كثيرة وأمر الناس بالتدبر والتفكر فيها وحث على ذلك فتنافس الصحابة وسائر المسلمين من بعدهم في تفسيرها لينالوا الأجر العظيم والثواب الجزيل. وسلك العلماء منهجين أساسيين لتحصيل معاني القرآن هما: 1- التفسير بالمأثور. 2- التفسير بالرأي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 التفسير بالمأثور وأهم المؤلفات فيه : تعريفه : هو بيان معنى الآية بما ورد في الكتاب أو السنة أو أقوال الصحابة رضي الله عنهم. فهو التفسير الذي يعتمد على صحيح المنقول ولا يجتهد في بيان معنى من غير دليل ويتوقف عما لا طائل تحته ولا فائدة في معرفته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 مكانته : هو أفضل أنواع التفسير وأعلاها لأن التفسير بالمأثور إما أن يكون تفسيرًا للقرآن بكلام الله تعالى، فهو أعلم بمراده، وإما أن يكون تفسيرًا للقرآن بكلام الرسول -صلى الله عليه وسلم- فهو المبين لكلام الله تعالى. وإما أن يكون بأقوال الصحابة فهم الذين شاهدوا التنزيل وهم أهل اللسان وتميزوا عن غيرهم بما شاهدوه من القرائن والأحوال حين النزول. لكن ينبغي أن يعلم أن هذا مشروط بصحة السند عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أو عن الصحابة رضي الله عنهم. وينبغي أن نتفطن إلى أن التفسير بالمأثور قد دخله الوضع وسرى فيه الدس والخرافات ويرجع ذلك إلى أمور منها: 1- ما دسه أعداء الإسلام مثل زنادقة اليهود الذين تظاهروا بالإسلام لدس الأخبار المحرفة التي يجدونها في كتبهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 2- ما دسه أصحاب المذاهب الباطلة والنحل الزائفة كالرافضة الذين افتروا الأحاديث ونسبوها زورًا وبهتانًا إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- أو إلى أصحابه رضي الله عنهم. 3- نقل كثير من الأقوال المنسوبة إلى الصحابة بغير إسناده مما أدى إلى اختلاط الصحيح بغير الصحيح والتباس الحق بالباطل. لذا فإنه ينبغي التثبت عند الرواية للتفسير بالمأثور، وعلى هذا فإن التفسير بالمأثور نوعان: أحدهما: ما توافرت الأدلة على صحته وقبوله. ثانيهما: ما لم يصح لسبب من الأسباب السابقة، وهذا يجب رده ولا يجوز قبوله ولا الاشتغال به إلا لتمحيصه أو التنبيه إلى ضلاله حتى لا يغتر به أحد1.   1 انظر مناهل العرفان: الزرقاني: ج1 ص493. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 مصادر التفسير بالمأثور : وتسمى "طرق التفسير بالمأثور" وهي: 1- القرآن: تفسير القرآن بالقرآن أفضل طرق التفسير ومن أمثلته تفسير الكلمات في قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} 1. بقوله تعالى: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 2. 2- السنة: قال تعالى:   1 سورة البقرة: الآية 37. 2 سورة الأعراف: الآية 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} 1 وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: "السنة تفسر القرآن وتبينه"2. ومن أمثلة تفسير القرآن بالسنة تفسير المغضوب عليهم باليهود والضالين بالنصارى. وتفسير الخيط الأبيض والخيط الأسود بأنه بياض النهار وسواد الليل. 3- أقوال الصحابة: وإذا لم تجد تفسير القرآن في القرآن ولا في السنة فعليك بتفسير الصحابة -رضي الله عنهم- فإنهم أعلم بذلك لما اختصوا به من مجالسة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومشاهدة القرائن والأحداث والوقائع. 4- أقوال التابعين: وقد اختلف العلماء -رحمهم الله تعالى- في الرجوع إلى أقوال التابعين إذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السنة ولا في أقوال الصحابة، فمنهم من عد أقوال التابعين مصدرًا من مصادر التفسير بالمأثور ومنهم من عدها كسائر أقوال العلماء.   1 سورة النحل: الآية 44. 2 الجامع لأحكام القرآن: القرطبي ج1 ص39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 أسباب الاختلاف في التفسير بالمأثور : وقد وقع الاختلاف بين السلف في التفسير بالمأثور، لكنه اختلاف يسير ومع قلته فإن أغلبه يرجع إلى اختلاف التنوع لا إلى اختلاف التضاد وهو أيسر أنواع الاختلاف. ومن أسباب وقوع الاختلاف بين السلف في التفسير: 1- أن يكون في الآية أكثر من قراءة فيفسر كل منهم الآية على قراءة مخصوصة. ومثاله اختلافهم في معنى "سكِّرت" من قوله تعالى: {وَلَوْ فَتَحْنَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ، لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} 1. فقد قال قتادة: من قرأ "سُكِّرت" مشددة يعني سُدَّت، ومن قرأ "سُكِرَت" مخففة فإنه يعني سُحرت2. 2- ومنها الاختلاف في الإعراب، فإن للإعراب أثره في تفسير الآية: ومثاله اختلافهم في قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} 3. فقد اختلفوا في {وَالرَّاسِخُونَ} فقيل: عطف نسق على لفظ الجلالة، وقيل: مبتدأ والخبر في قوله تعالى: {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} فعلى القول الأول أن الراسخين يعلمون تأويله وعلى القول الثاني لا يعلمون، وسبب هذا الاختلاف الاختلاف في الإعراب. 3- ومن أسباب الاختلاف احتمال اللفظ أكثر من معنى كالاشتراك اللغوي، فإن بعض الكلمات لها أكثر من معنى في اللغة كلفظ "قسورة" الذي يطلق على الرامي وعلى الأسد، ولفظ "النكاح" الذي يطلق على العقد وعلى الوطء، ولفظ "القرء" الذي يطلق على الحيض وعلى الطهر، وهناك أسباب أخرى غير ذلك4.   1 سورة الحجر: الآيتان: 14، 15. 2 تفسير ابن جرير الطبري ج14 ص10. 3 سورة آل عمران: من الآية 7. 4 انظر ما ذكرته من أسباب أخرى في كتابي "بحوث في أصول التفسير ومناهجه" وقد أفرد هذه الأسباب بالتأليف الدكتور سعود بن عبد الله الفنيسان بكتابه "اختلاف المفسرين أسبابه وآثاره"، والدكتور محمد بن عبد الرحمن الشايع في كتابه "أسباب اختلاف المفسرين". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 حكم تفسير بالمأثور ... حكم التفسير بالمأثور: قلنا: إن التفسير بالمأثور ينقسم إلى قسمين: 1- ما توافرت الأدلة على صحته. فهذا يجب قبوله، ولا يجوز العدول عنه. 2- ما لم يصح فيجب رده ولا يجوز قبوله ولا الاشتغال به إلا للتحذير منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 أهم المؤلفات فيه مدخل ... أهم المؤلفات فيه: والمؤلفات في التفسير بالمأثور كثيرة ومن أهمها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 أولًا: جامع البيان عن تأويل آي القرآن: مؤلفه: هو أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، ولد في "آمُل" في طبرستان سنة 224هـ وتوفي في بغداد سنة "310"1. كان عالمًا بالقراءات، وإمامًا في التفسير، بارعًا في الحديث، وشيخًا للمؤرخين، انفرد في الفقه بمذهب مستقل وأقاويل واختيارات، وله أتباع ومقلدون2. وقال ابن خزيمة: "ما أعلم على أديم الأرض أعلم من محمد بن جرير"3، وله مؤلفات كثيرة منها: كتاب في القراءات و"تاريخ الرجال" في الصحابة والتابعين، و"لطيف القول" جمع في مذهبه الذي اختاره، "وتهذيب الآثار"، ومن أهم كتبه "تاريخ الأمم والملوك وأخبارهم". تفسيره: أما تفسيره "جامع البيان عن تأويل آي القرآن" فلم يُؤلَّف قبله ولا بعده مثله في موضوعه، ولا يزال المفسرون عالة على تفسيره في التفسير بالمأثور، ويتميز تفسيره بمزايا منها: 1- اعتماده على التفسير بالمأثور عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه والتابعين. 2- التزامه بالإسناد في الرواية. 3- عنايته بتوجيه الأقوال والترجيح. 4- ذكره لوجوه الإعراب. 5- دقته في استنباط الأحكام الشرعية من الآيات.   1 طبقات المفسرين: الداودي ج2 ص114. 2 طبقات المفسرين: السيوطي ص96. 3 طبقات المفسرين: الداودي ج2 ص111. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 وكان هذا التفسير مفقودًا إلى وقت قريب حيث عُثر على نسخة مخطوطة منه عند أحد أمراء حائل، وهو حمود بن عبيد الرشيد1، وقد تم طبعه على هذه النسخة في ثلاثين جزءًا سنة 1319. ثم قام الشيخان الفاضلان محمد وأحمد شاكر بتحقيق الكتاب والتعليق عليه ومراجعته وتخريج أحاديثه وصدر منه ستة عشر جزءًا إلى نهاية تفسير الآية 27 من سورة إبراهيم، ثم توقف العمل، نسأل الله أن يهيئ من عباده العلماء من يُتمُّه. قال الخطيب: "وكتاب التفسير لم يصنف أحد مثله"2 وقال الذهبي: "وله كتاب في التفسير لم يصنف مثله"3 وقال النووي: "أجمعت الأمة على أنه لم يصنف مثل تفسير الطبري"4. وقال أبو حامد الإسفراييني: "لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصل له كتاب تفسير محمد بن جرير لم يكن ذلك كثيرًا"5. وقال ابن تيمية: "وأما التفاسير التي في أيدي الناس فأصحها تفسير محمد بن جرير الطبري، فإنه يذكر مقالات السلف بالأسانيد الثابتة. وليس فيه بدعة، ولا ينقل عن المتهمين، كمقاتل بن بكير والكلبي"6.   1 مذاهب التفسير الإسلامي: جولد تسيهر. ترجمة د. عبد الحليم النجار ص109 والتفسير والمفسرون: الذهبي ج1 ص207. 2 تاريخ بغداد ج2 ص163. 3 سير أعلام النبلاء: ج14 ص270. 4 تهذيب الأسماء واللغات: ج1 ص78. 5 طبقات المفسرين: الداودي ج2 ص109. 6 مجموع فتاوى ابن تيمية ج13 ص385. أما مقاتل بن بكير فلم أجده في كتب الرجال ولعله "مقاتل بن سليمان بن بشير" وتصحف إلى بكير ويؤيد هذا أن تفسيره وتفسير الكلبي متشابهان حتى قيل: "أن مقاتلا أخذ التفسير عن الكلبي" التهذيب ج10 ص281. وابن جرير لم يرو عن مقاتل هذا، أما الكلبي وهو محمد بن السائب فقد روى عنه نادرًا مع وصفه له بأنه ممن لا يحتج بنقله. ج1 ص66 والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 ثانيًا: تفسير القرآن العظيم: ابن كثير: مؤلفه: هو أبو الفداء عماد الدين إسماعيل بن عمرو بن كثير الدمشقي، ولد في بُصْرى في الشام سنة 700، طلب العلم في صغره ورحل في طلبه، وكانت له صلة وثيقة مميزة بابن تيمية ومناضلة عنه1 "ت774هـ" رحمه الله تعالى. ومن مؤلفاته: البداية والنهاية، والاجتهاد في طلب الجهاد، وجامع المسانيد العشرة، والكواكب الدراري، وغير ذلك. تفسيره: يعد تفسير ابن كثير من أشهر ما دون في التفسير بالمأثور ويعتبر في المرتبة الثانية بعد تفسير ابن جرير الطبري. قال السيوطي في ترجمة ابن كثير: "له التفسير الذي لم يؤلف على نمط مثله"2. وقال الشوكاني: "هو من أحسن التفاسير إن لم يكن أحسنها"3. وطريقته في التفسير أن يذكر الآية، ثم يفسرها بعبارة سهلة، موجزة ويجمع الآيات المناسبة لها، ويقارن بينها، وتفسيره أكثر كتب التفسير المعروفة سردًا للآيات المتناسبة في المعنى الواحد4. ثم يورد الأحاديث المرفوعة التي لها صلة بالآية، ثم يردف هذا بأقوال الصحابة والتابعين وعلماء السلف. وينبه إلى ما في التفسير بالمأثور من منكرات الإسرائيليات إجمالا أحيانًا وبالتفصيل حينًا آخر5.   1 طبقات المفسرين: الداودي ج1 ص111. 2، 3 مقدمة تحقيق تفسير ابن كثير ج1 ص19 تحقيق سامي السلامة. 4 التفسير والمفسرون: الذهبي ج1 ص244. 5 المرجع السابق ج1 ص245. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 وبالجملة يعد تفسيره -رحمه الله تعالى- من أفضل المؤلفات في التفسير، وقد طبع مرات كثيرة مع تفاسير أخرى، ومستقلا في أربعة مجلدات كبار، واختصره عدد كبير من العلماء، منهم الأستاذ أحمد شاكر، ومحمد نسيب الرفاعي وغيرهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 ثالثًا: الدر المنثور: السيوطي: مؤلفه: هو جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، ولد سنة 849، وتوفي سنة 911 وبعد أن تلقى العلوم وحصل منها حظا وافرا انصرف إلى التأليف في وقت مبكر من حياته، ثم تجرد للتأليف في أواخر عمره فاعتزل الناس وترك وظائفه من تدريس وإفتاء. تفسيره: ألف السيوطي -رحمه الله تعالى- كتابه "ترجمان القرآن" ثم أراد أن يختصره وعلل هذا بقوله: رأيت قصور أكثر الهمم عن تحصيله ورغبتهم في الاقتصار على متون الأحاديث دون الإسناد وتطويله، فلخصت منه هذا المختصر، مقتصرا فيه على متن الأثر مُصدِّرا بالعزو والتخريج إلى كل كتاب معتبر، وسميته بالدر المنثور في التفسير بالمأثور1. وطبع هذا التفسير في ستة مجلدات وهو بحاجة ماسة إلى عناية طلبة العلم، وخدمته بالتحقيق والتخريج والفهرسة والإخراج.   1 الدر المنثور: السيوطي: ج1 ص2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 رابعًا: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن: الشنقيطي: المؤلف: محمد الأمين ابن محمد المختار الجكني الشنقيطي1. ولد رحمه الله تعالى في شنقيط وهي دولة موريتانيا الإسلامية الآن، سنة 1325.   1 ترجم له تلميذه الشيخ عطية سالم في آخر تفسير الشيخ الشنقيطي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 تلقى العلوم الشرعية واللغة العربية، وحين أدى الحج اتصل بعلماء المملكة فأعجب بهم وعزم على البقاء في هذه البلاد فأذن له الملك عبد العزيز رحمه الله تعالى بالتدريس في المسجد النبوي، وحين افتتحت الجامعة الإسلامية بالمدينة عين مدرسا فيها، وعين عضوا في هيئة كبار العلماء وعضوا في المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي، وتوفي -رحمه الله تعالى- سنة 1393 بمكة. وله مؤلفات كثيرة منها: "منع جواز المجاز في المنزَّل للتعبد والإعجاز" و"دفع إيهام الاضطراب عن آي الكتاب" وغير ذلك. التفسير: وصل المؤلف -رحمه الله تعالى- في تفسيره هذا إلى آخر سورة المجادلة، ثم أكمل التفسير من بعده تلميذه عطية محمد سالم وصدر التفسير في عشرة مجلدات. تميز هذا التفسير بميزتين: "إحداهما" تفسير القرآن بالقرآن، وقد التزم أن لا يبين القرآن إلا بقراءة سَبعية ولم يعتمد البيان بالقراءات الشاذة. "والثانية" بيان الأحكام الفقهية ودقة الاستنباط، وحسن التفصيل وقوة الاستدلال. كما تضمن هذا التفسير تحقيق بعض المسائل اللغوية وما يحتاج إليه من صرف وإعراب، وتحقيق بعض المسائل الأصولية، والكلام على أسانيد الأحاديث. يعد هذا التفسير بحق من خير المؤلفات في التفسير قديمًا وحديثًا ومن أتبعها للسنة وأبعدها عن البدعة، والقارئ فيه يجد رائحة علماء السلف ونقاء سريرتهم، وصفاء عقيدتهم، ودقة استنباطهم، وسعة علمهم رحم الله مؤلفه رحمة واسعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 التفسير بالرأي وأهم المؤلفات فيه : تعريفه : هو تفسير القرآن بالاجتهاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 أقسامه مدخل ... أقسامه: ينقسم التفسير بالرأي إلى قسمين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 الأول: التفسير بالرأي المحمود : وهو التفسير المستمد من القرآن ومن سنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وكان صاحبه عالمًا باللغة العربية وأساليبها، وبقواعد الشريعة وأصولها. حكمه: أجاز العلماء -رحمهم الله تعالى- هذا النوع من التفسير ولهم أدلة كثيرة على ذلك منها: 1- قوله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} 1. وغيرها من الآيات التي تدعو إلى التدبر في القرآن. 2- دعاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس بقوله: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل" ولو كان التفسير مقصورًا على النقل ولا يجوز الاجتهاد فيه لما كان لابن عباس مزية على غيره. 3- أن الصحابة -رضي الله عنه- اختلفوا في التفسير على وجوه، فدل على أنه من اجتهادهم. وبهذا يظهر أن التفسير بالرأي المحمود جائز. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 الثاني: التفسير بالرأي المذموم : هو التفسير بمجرد الرأي والهوى. وأكثر الذين فسروا القرآن بمجرد الرأي هم أهل الأهواء والبدع الذين اعتقدوا معتقدات باطلة ليس لها سند ولا دليل، ففسروا آيات القرآن بما يوافق آراءهم ومعتقداتهم الزائفة وحملوها على ذلك بمجرد الرأي والهوى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 حكمه: وهذا النوع من التفسير حرام لا يجوز، قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: "فأما تفسير القرآن بمجرد الرأي فحرام"1. والأدلة على ذلك كثيرة منها: 1- قوله تعالى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} 2. وقال سبحانه: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} 3. 2- حديث: "من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار" 4. وحديث: "من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ" 5.   1 مقدمة في أصول التفسير: ابن تيمية ص105. 2 سورة البقرة: الآية 169. 3 سورة الإسراء: الآية 36. 4 مسند الإمام أحمد: ج1 ص233، سنن الترمذي ج5 ص199 وقال: "حديث حسن صحيح". 5 سنن الترمذي ج5 ص200 وأبو داود ج3 ص320. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 أهم المؤلفات في التفسير بالرأي مدخل ... أهم المؤلفات في التفسير بالرأي: والمؤلفات في التفسير بالرأي كثيرة منها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 أولًا : الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل: للزمخشري. المؤلف: هو أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري1 المعتزلي، الملقب بجار الله، ولد سنة 467 في زمخشر من قرى خوارزم، بعد أن تلقى العلم رحل إلى مكة وألف فيها تفسيره الكشاف، ثم عاد إلى خوارزم، وتوفي فيها سنة 538 وهو إمام من أئمة اللغة، لا يأنف من انتمائه إلى الاعتزال بل يجاهر به، ويدعو إليه، ومن مؤلفاته: "أساس البلاغة" و"الفائق في غريب الحديث" و"المفصل" في النحو.. وغيرها.   1 انظر ترجمته في طبقات المفسرين: الداودي ج3 ص314، 316، وطبقات المفسرين: للسيوطي ص120، 121. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 تفسيره: اعتنى الزمخشري في تفسيره هذا ببيان وجوه الإعجاز القرآني وإظهار جمال النظم وبلاغته، وخلا هذا التفسير من الحشو والتطويل، وإيراد الإسرائيليات إلا القليل. والزمخشري قليل الاستشهاد بالحديث، ويورد أحيانًا الأحاديث الموضوعة، خاصة في فضائل السور. وملأ تفسيره بعقائد المعتزلة والاستدلال لها وتأويل الآيات وَفْقَهَا ويدس ذلك دسًّا لا يدركه إلا حاذق حتى قال البلقيني: "استخرجت من الكشاف اعتزالا بالمناقيش"1. وهو شديد على أهل السنة والجماعة ويذكرهم بعبارات الاحتقار ويرميهم بالأوصاف المقذعة، ويمزج حديثه عنهم بالسخرية والاستهزاء2. ولهذه الأمور وغيرها نبه كثير من العلماء إلى أخذ الحيطة والحذر عند المطالعة في تفسيره أو النقل منه، فقال الإمام الذهبي: "محمود بن عمر الزمخشري المفسر النحوي صالح، لكنه داعية إلى الاعتزال أجارنا الله، فكن حذرا من كشافه"3. وقال علي القاري: "وله دسائس خفيت على أكثر الناس فلهذا حرم بعض فقهائنا مطالعة تفسيره لما فيه من سوء تعبيره في تأويله وتعبيره"4. وينبغي لمن أراد أن يقرأ فيه أن يرجع لكتاب "الإنصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال" لابن المنير وهو مطبوع مع الكشاف وفيه كشف لاعتزالياته وضلالاته.   1 الإتقان في علوم القرآن: السيوطي ج2 ص190. 2 التفسير والمفسرون: د. محمد حسين الذهبي ج1 ص465. 3 ميزان الاعتدال: الإمام الذهبي ج5 ص203. 4 مناهج المفسرين: د. مساعد آل جعفر ومحيي هلال ص216 عن طبقات الفقهاء الحنفية: لأبي علي القاري ورقة 49 ب "مخطوط". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 ثانيًا : مفاتيح الغيب: فخر الدين الرازي: المؤلف: أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي الملقب بفخر الدين1. ولد في الرَّي سنة 544 وتوفي في هَرَاة سنة 606 جمع كثيرًا من العلوم فكان إمامًا في التفسير، وعلوم الكلام. وكان طبيبا حاذقا، وقد ندم على الاشتغال بعلم الكلام، وكان يقول: ليتني لم أشتغل بعلم الكلام. ثم يبكي2. ومن مؤلفاته: مفاتيح الغيب، والمحصول في علم الأصول، ونهاية الإيجاز في دراية الإعجاز، ومسائل الطب، وغير ذلك. التفسير: يعد تفسير "مفاتيح الغيب" أوسع التفاسير في علم الكلام فقد تأثر كثيرا بالعلوم العقلية، فتوسع فيها، وسلك في تفسيره مسلك الحكماء والفلاسفة وعلماء الكلام، واستطرد في العلوم الرياضية والطبيعية والفلكية والمسائل الطبية، وملأ تفسيره بهذه العلوم حتى قيل عنه: "فيه كل شيء إلا التفسير"1 ومما يعاب عليه أنه يبسط دلائل أهل البدع والفرق المخالفة لأهل السنة بسطا لا مزيد عليه ثم يرد عليها ردا غاية في الوَهَاء حتى قال بعض العلماء: إنه "يورد الشبه نقدًا ويحلها نَسيئة"3. ولم يتم الرازي تفسيره هذا، بل قيل: إنه بلغ في التفسير إلى سورة الأنبياء، ثم جاء تلميذه الخُوَيِِّي فشرع في تكملته ولم يتمه، وأتمه نجم الدين القَمولي، وقيل: إن الخويي أكمله، وكتب القمولي تكلمة أخرى غيرها، ولا يكاد القارئ يلحظ تفاوتا بين أساليبهم4. وقد طبع هذا التفسير في 32 جزءًا وتقع في 16 مجلدًا كبيرًا.   1 انظر ترجمته في طبقات المفسرين: الداودي ج1 ص213-217، وطبقات المفسرين: السيوطي ص115، 116. 2 الإتقان في علوم القرآن: السيوطي ج2 ص290. 3 لسان الميزان: ابن حجر ج4 ص427، 428. 4 التفسير والمفسرون: الذهبي ج1 ص293. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 ثالثًا : تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان: لابن سعدي: المؤلف: هو عبد الرحمن بن ناصر آل سعدي1 ولد في عنيزة في القصيم سنة 1307 توفي والده وهو صبي فكفلته زوجة أبيه وأدخلته مدرسة تحفيظ القرآن، فحفظه في الرابعة عشرة من عمره، واشتغل في طلب العلم فقرأ الكتب، وحفظ المتون ثم تصدى للتعليم ونشر العلم حتى ذاع صيته. ومن مؤلفاته، "تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير القرآن" وهو خلاصة لهذا التفسير و"القواعد الحسان لتفسير القرآن" و"التنبيهات اللطيفة فيما احتوت عليه الواسطية من المباحث المنيفة" و"الفواكه الشهية في الخطب المنبرية".. وغير ذلك. توفي رحمه الله تعالى في عنيزة سنة 1376. التفسير: يقع هذا التفسير في سبعة مجلدات ثم طبع في مجلد واحد، ومع هذا فهو تفسير يميل إلى الإيجاز مع وضوح المعنى، ويعتمد المعنى الإجمالي للآيات حيث يورد مجموعة من الآيات، ثم يفسرها آية آية، وقد يتحدث عنها إجمالا ثم تفصيلا موجزا. ويعرض عن الإسرائليات، ويستطرد أحيانا في ذكر فوائد الآيات وما تدل عليه من الأحكام الشرعية والهدايات القرآنية.   1 انظر ترجمته في كتاب مشاهير علماء نجد وغيرهم تأليف عبد اللطيف آل الشيخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 رابعًا : في ظلال القرآن: سيد قطب: المؤلف: هو سيد بن الحاج قطب بن إبراهيم1 ولد سنة 1906م تخرج في   1 صدر عن سيد قطب رحمه الله تعالى عدد كبير من المؤلفات من أهمها: "سيد قطب الشهيد الحي" للأستاذ صلاح الخالدي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 كلية دار العلوم سنة 1933م فزاول مهنة التدريس سنوات، ثم موظفًا في وزارة المعارف، ثم أوفد إلى أمريكا للاطلاع على مناهج التعليم فيها لتطبيقها في مصر، وكان القصد من إيفاده التخلص من نشاطه في الدعوة، وعاد من أمريكا وقد زاد حماسه ونشاطه للدعوة، حيث انضم إلى جماعة الإخوان المسلمين وكان يردد "لقد ولدت عام 1951م" وهو عام انضمامه إليهم. وحين وقع الصدام بين الإخوان وقادة ثورة يوليو في مصر كان سيد في مقدمة المعتقلين، وحكم عليه بالسجن خمسة عشر عامًا ألف خلالها في السجن تفسيره "في ظلال القرآن" وكان هذا التفسير من أسباب خروجه من السجن حيث قرأه الرئيس العراقي عبد السلام عارف فتوسط عند جمال عبد الناصر لإخراجه بطلب من علماء العراق، وأفرج عنه سنة 1964م فواصل مسيرة الدعوة فأعيد إلى السجن وصدر ضده حكم بالإعدام ونفذ الحكم سنة 1966م رغم نداءات العالم الإسلامي واحتجاجاتهم، وقد طلب من سيد أن يكتب اعتذارا إلى جمال عبد الناصر ووعدوه بالعفو إن فعل فرفض وقال: "إن أصبع السبابة الذي يشهد لله بالوحدانية في الصلاة ليرفض أن يكتب حرفا يقر به حكم طاغية". وقال حين طلب منه الاعتذار: "لن أعتذر عن العمل مع الله" وقال: لماذا أسترحم؟ إن سُجنت بحق فأنا أرضى حكم الحق، وإن سجنت بباطل فأنا أكبر من أن أسترحم الباطل". وله مؤلفات كثيرة منها: "معالم في الطريق" وهو من أهم كتبه ومن أسباب إعدامه، ومنها "التصوير الفني في القرآن" و"مشاهد القيامة في القرآن" و"المستقبل لهذا الدين".. وغير ذلك. التفسير: والكتاب وصف أدبي متميز للحياة كما يرسمها القرآن الكريم، وهو منهج لم يسبق إليه سيد من قبل، فمنهج التذوق الأدبي للقرآن الكريم، والتفاعل مع المجتمع الذي ترسمه الآيات، ومطابقته مع المجتمع الحاضر للخروج بمعالم التصحيح ورسم مسار الدعوة والعودة إلى الله، ثم دراسة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 الإيقاع الصوتي والجرس اللفظي للكلمات القرآنية، ودراسة التراكيب؛ منهج لم يسبق له مثيل في علم التفسير. أما طريقته في ذلك فخلاصتها أنه يقدم لكل سورة بمقدمة يبين فيها موضوع السورة ومحورها، وأهم سماتها، ثم يعرض لمقاطعها ويربط بينها ببيان المناسبة وهكذا.. مع الإعراض عن المباحث اللغوية والنحوية وذكر الخلافات الفقهية وتاركا الخوض فيما أبهمه القرآن مهملا للإسرائيليات. وطبع التفسير مرات عديدة آخرها وأشهرها في ستة مجلدات كبار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 شروط المفسر وآدابه مدخل ... شروط المفسر وآدابه: ورد النهي عن القول في القرآن بغير علم والوعيد الشديد على من اجترأ على ذلك، ولذلك وضع العلماء شروطًا لمن أراد أن يفسر القرآن ليخرج من هذا الوعيد ويصبح من أهل التفسير والتأويل. ولا عجب أن يكون للمفسر شروطًا بل العجب أن يجترئ على كلام الله كل من هب ودب. وكم يحز في النفس حين نرى كثيرًا من الناس يجترئون على تفسير القرآن بغير علم ولا يحسبون لذلك حسابًا فلا تتلكأ ألسنتهم، ولا تَوْجَفُ قلوبهم وكأنهم قد أحاطوا بالقرآن علما، وأصبح من مداركهم القريبة، ومن معارفهم الدانية. وكم من رجل منهم فسر آية لو عرضت على أبي بكر -رضي الله عنه- لقال: "أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا قلت في القرآن برأيي أو بما لا أعلم"، وإن أحدهم ليفسر الآية ولو سمعه عمر -رضي الله عنه- لقرعه بدرته. وقد يقول قائل لم وضع العلماء هذه الشروط؟ أليس القرآن للناس كافة وتدبره واجب على الجميع؟ ونقول لهذا وأمثاله نعم إن تلاوة القرآن حق لكل مسلم، لكن تفسيره للناس وبيانه لهم ليس حقا لكل إنسان، كأي علم آخر، فالطب مثلا حق لكل إنسان أن يدرسه لكن علاج الناس ليس حقا لكل إنسان إلا إذا درس علم الطب وحذقه، فما بالنا نصرخ في وجوه أدعياء الطب ونستعدي عليهم السلطة، ولا ننهر المجترئين على تفسير كلام الله وهم ليسوا من أهل التفسير. ومجمل الشروط التي وضعها العلماء للمفسر هي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 شروط المفسر ... أولًا: سلامة العقيدة: فإن من انحرفت عقيدته يعتقد رأيا ثم يحمل ألفاظ القرآن عليه وليس لهم سلف من الصحابة والتابعين1، فإذا فسر القرآن أوَّل الآيات التي تخالف مذهبه الباطل، وحرفها حتى توافق مذهبه، ومثل هذا لا يطلب الحق فكيف يُطلب منه! ومن هؤلاء فرق الخوارج والروافض والمعتزلة وغلاة الصوفية وغيرهم. ثانيًا: التجرد عن الهوى: فإن الهوى يحمل صاحبه على نصرة مذهبه ولو كان باطلا، ويصرفه عن غيره ولو كان حقا. ثالثًا: أن يكون المفسر عالما بأصول التفسير: وذلك أن أصول التفسير بمثابة المفتاح لعلم التفسير، فلا بد للمفسر أن يكون عالما بالقراءات والناسخ والمنسوخ وأسباب النزول ونحوها. رابعًا: أن يكون عالما بالحديث رواية ودراية: إذ إن أحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- هي المبينة للقرآن، بل قد قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: "كل ما حكم به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهو مما فهمه من القرآن"2. وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: "السنة تفسر القرآن وتبينه"3.   1 مقدمة في أصول التفسير: ابن تيمية ص85. 2 المرجع السابق، ص93. 3 الجامع لأحكام القرآن: القرطبي ج1 ص39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 خامسًا: أن يكون عالمًا بأصول الدين: وهو "علم التوحيد" حتى لا يقع في آيات الأسماء والصفات في التشبيه أو التمثيل أو التعطيل. سادسًا: أن يكون عالمًا بأصول الفقه: إذ به يعرف كيف تستنبط الأحكام من الآيات، ويستدل عليها، ويعرف الإجمال والتبيين، والعموم والخصوص، والمطلق المقيد، ودلالة النص وإشارته ودلالة الأمر والنهي.. وغير ذلك1. سابعًا: أن يكون عالمًا باللغة وعلومها: كالنحو والصرف والاشتقاق، والبلاغة بأقسامها الثلاثة "المعاني والبيان والبديع". ذلكم أن القرآن الكريم نزل بلسان عربي مبين، وهذه العلوم مما يتوصل بها إلى معرفة المعنى وخواص التركيب ووجوه الإعجاز فيه. وهذه الشروط -كما ترى- عزيزة المنال ولهذا تحرج كثير من السلف من القول في القرآن بغير علم لتمكن الإيمان من قلوبهم واستحضارهم الخوف من الله تعالى، وإذا رأيت من يجترئ على القول في القرآن بغير علم فاعلم أنه من نقص إيمانه، والله المستعان.   1 أصول التفسير وقواعده: خالد العك ص187. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 آداب المفسر مدخل ... آداب المفسر: وكما أن للمفسر شروطا فإن له آدابا ينبغي عليه الالتزام بها وهي كثيرة منها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 1- الإخلاص: بأن يريد بعمله وجه الله، وأن يطلب رضاه، ولا يبتغي بذلك جاها ولا منصبا، فإن ابتغى غير ذلك ضل وأضل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 2- العمل : فإنه إذا دعا إلى خير فعليه أن يكون أول المؤدين له حتى يلقى القبول من الناس، وإذا نهى عن أمر وجب أن يكون تاركا له نابذا إياه، فإن الناس إذا رأوه يأمر ولا يفعل وينهى ولا يمتثل نفروا عنه وعن أقواله وإن كانت حقا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 3- حسن الخلق : في قوله وفي فعله وفي سمته، فإن هذا مما يجذب النفوس إليه, وإذا انجذبت إليه أقبل عليه السمع والبصر. فعليه أن يلتزم حسن الخلق في قوله وعباراته فيلزم الكلمة الطيبة ويحذر الكلمات النابية التي ينفر منها السامع ويفزع. وأن يتحرى الصدق في سائر أقواله حتى يطمئن الناس إليها فإنهم إذا جربوا عليه كذبا اضطرب عندهم سائر كلامه. وعليه أن يلتزم حسن الخلق في فعله فيتواضع لمن هم دونه مقامًا ولا يتعالى فلا تطاله أيديهم فلا يستفيدون من علمه، وأن تكون نفسه عزيزة فيترفع عن سفاسف الأمور والتذلل لأصحاب المال أو الجاه فإن العامة إذا رأوا تهافته على ذلك سقط من أعينهم. وعليه أن يجهر بالحق ولا يكتمه فأفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر، والساكت عن الحق شيطان أخرس. ومن حسن الخلق أن يقدم من هو أولى منه وأن يوقرهم حضورا كانوا أو غائبين فلا يغمط أقوالهم حقها بل يظهرها ويعترف بفضلها ومزيتها، ولا يقدم قوله عليها، لا ينكر سبقهم له إلى رأي رآه، أو قول يقول به. وعليه أن يلتزم حسن الخلق في سمته بأن يلبس لباس العلماء ويتزيا بزيهم، ويلتزم الوقار في جلوسه ووقوفه ومشيته دون تكلف، ولا يحضر مجالس لهوهم، وأن يتأنى في حديثه حتى يفهم الناس عنه قوله فلا يضطرهم إلى كثرة الاستفسار والجرأة على قطع حديثه. والله المستعان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 الوحي : حاجة البشر إليه : خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان في أحسن تقويم وركبه أحسن تركيب وجعله من: 1- جسد. 2- روح. قال تعالى: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} 1. وحين نتأمل في غذاء كل من هذين العنصرين "الروح والجسد" نجد أن الجسد خلق من تراب وأن غذاءه من التراب "نبات أو حيوان يتغذى بالنبات". وأنه إذا مات يتحلل ويعود إلى التراب! ولذلك يتمنى الكافر يوم القيامة لو أنه بقي على أصله الترابي الأول فيقول: {لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا} 2. أما الروح فمن الله: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} 3. وإن كانت النسبة إضافة تشريف فلا بد أن يكون غذاؤها من الله وليس من التراب ولا من خلق من التراب، فإن التزمت بالغذاء الرباني   1 سورة ص: الآيتان 71، 72. 2 سورة النبأ: الآية 40. 3 سورة الحجر: الآية 29، وسورة ص: الآية 72. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 صعدت بعد الموت إلى عليين وفتحت لها أبواب السماء: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} 1، وإن حادث وأبت إلا الغداء الترابي أغلقت في وجهها أبواب السماء قال تعالى: {لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} 2، قال كعب: "أرواح المؤمنين في عليين في السماء السابعة، وأرواح الكفار في سجين في الأرض السابعة تحت جند إبليس"3. وغذاء الجسد فيه النافع والضار فإذا غذى الإنسان جسده بالغذاء الجيد صح وقوي بناؤه وظل حيا طريا متماسكًا، وإذا غذاه بالغذاء الرديء أو أهمل غذاءه ضعف وانحرف مزاجه، وساءت صحته، وخارت قواه، وهزل وذبل. وكذا غذاء الروح فيه النافع والضار أيضًا فإذا غذي الإنسان روحه بالغذاء السليم سمت وارتفعت وصحت وسلمت من الأمراض. وغذاؤها صحة الاعتقاد، وسلامتها باتصالها بالله تعالى، قال تعالى: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} 4. وإذا أهمل الإنسان غذاء روحه أو غذاها بالغذاء البشري بأن جعل صلتها بالمبادئ الوضعية والمعتقدات الزائفة أو انقادت لمذلات الجسد الترابي فتغذت بغذائه واستغنت به عن غذائها الرباني ضعفت وخارت وتاهت وانحرف مزاجها ولم يقر لها قرارًا وضاقت عليها الأرض على سعتها.   1 سورة الفجر: الآيتين 27، 28. 2 سورة الأعراف: الآية 40. 3 شرح العقيدة الطحاوية: علي بن أبي العز ج2 ص583. والروح: ابن القيم: ص91. 4 سورة الرعد: الآية 28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} 1، {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} 2. وقد تطلب الخروج من هذا الجسد الذي ضاقت به وضاق بها فتؤدي بصاحبها إلى الانتحار ... إذن فإن على الإنسان أن يحرص على اختيار غذاء الروح كما يحرص على اختيار غذاء الجسد، وأن يسأل أطباء الأرواح عن غذائها النافع كما يحرص على سؤال أطباء الأبدان عن غذاء الجسد الفاني وعليه أن يعرض روحه على أهل الذكر كما يعرض جسده على أهل الطب وأن يعالج روحه كما يعالج بدنه، وأن يتفقدها كما يتفقد بدنه، وأن يحاسبها دوريًّا كما يجري الفحوص الدورية لجسده. وإذا كان غذاء هذه الأجساد الترابية السفلية الفانية من أصلها الترابي يستمد، فإن غذاء هذه الأرواح السامية الباقية من الله العلي الباقي الدائم يستمد3. وقد هيأ الله –عز شأنه- الطعام المناسب لكل من هذين العنصرين فجعل غذاء هذا الجسد من التراب الذي خلق منه يحرث الأرض ويزرعها فينبت الطعام أو يحفرها الماء أو يجده أقرب من ذلك فوقها. وهذه الروح من الله فجعل غذاءها من عنده ينزل به الروح الأمين على الرسل فتنشره بين الناس وتدعوا إليه فمن اهتدى فقد اهتدي لنفسه ومن ضل فعليها. فإذا كان الله سبحانه يهيئ الطعام لهذه الأجساد فلا عجب أن يهيئ الطعام لهذه الأرواح ومن الجهل كل الجهل والضلال كل الضلال الاعتقاد   1 سورة طه: الآية 124. 2 سورة الزخرف: الآية 36. 3 من كتابي "قصة عقيدة" من ص46-48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 أن الإنسان بعقله أصبح يعرف الحق من الباطل فليس هو بحاجة إلى من يخبره بذلك، لا يصح هذا لأن الروح لا تزال بحاجة إلى غذائها العلوي ما بقيت في الجسد كما أن الجسد لا يزال بحاجة إلى غذائه السلفي ما بقيت فيه روح. وإن من رحمة الله تعالى بعباده أن أنزل جبريل عليه السلام بغذاء الأرواح إلى الأنبياء عليهم السلام كما خلق لهذه الأجساد غذاءها، ولا ينكر هذه الحاجة إلا مكابر معاند أو جاهل أحمق. فالوحي من الله رحمة بعباده لتتغذى به الأرواح، وخلق الطعام رحمة من الله بعباده لتتغذى به الأجساد، وببقاء العنصرين يبقى الإنسان وبفقد أحدهما يهلك. والقرآن وحي: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} 1، وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وحي: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} 2.   1 سورة الشورى: الآية 6. 2 سورة النجم: من الآية 3، 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 تعريف الوحي : الوحي لغة : أصل الوحي في اللغة إعلام في خفاء1، وقال الحرَّالي: هو إلقاء المعنى في النفس في خفاء1 قال الأزهري: وكذلك الإشارة والإيماء يسمى وحيًا والكتابة تسمى وحيًا1 وقال الراغب الأصفهاني: أصل الوحي الإشارة السريعة ولتضمن السرعة قيل: أمر وحي، وذلك يكون بالكلام على سبيل الرمز والتعريض، وقد يكون بصوت مجرد عن التركيب وبإشارة ببعض الجوارح، وبالكتابة2 وقال الزبيدي: أوحى إليه: كلمه   1 تاج العروس: الزبيدي ج10 ص385 مادة: "وحي". 2 المفردات في غريب القرآن: الراغب الأصفهاني ص536 مادة: "وحي". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 بكلام يخفيه1 وقال ابن تيمية رحمه الله تعالى: الوحي الإعلام السريع الخفي إما في اليقظة وإما في المنام2. وبهذا يظهر أن الوحي في الأصل: الخفاء والسرعة، وعلى هذا فالوحي في اللغة: الإعلام الخفي السريع الخاص بمن يوجه إليه بحيث يخفى على غيره3. وطرقه كما أشار إليها الراغب الأصفهاني آنفًا: 1- الكلام على سبيل الرمز والتعريض. 2- الصوت المجرد عن التركيب. 3- الإشارة ببعض الجوارح. 4- الكتابة. أنواعه بالمعنى اللغوي: للوحي أنواع بالمعنى اللغوي وأنواع بالمعنى الشرعي وقد يشتركان في بعضها من حيث الكيفية لكنهما يختلفان من حيث الاعتبار، فالوحي بالمعنى الشرعي خاص بالأنبياء عليهم السلام. وأنواعه بالمعنى اللغوي4: 1- إلهام الخواطر أو الإلهام الفطري للإنسان وهو ما يلقيه الله في روع الإنسان السليم الفطرة الطاهر الروح كالوحي إلى أم موسى، قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ ... } 5 الآية.   1 تاج العروس: الزبيدي ج10 ص385 مادة: "وحي". 2 مجموع الفتاوى لابن تيمية: ج12 ص398. 3 الوحي المحمدي: محمد رشيد رضا ص37. 4 انظر الوحي المحمدي: محمد رشيد رضا ص37، 38، والقرآن الكريم تاريخه وعلومه: د. محمد البدري ص50، ومباحث في علوم القرآن: القطان ص32، 33. 5 سورة القصص: الآية 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 ومنه الوحي إلى الحواريين، قال تعالى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} 1. 2- الإلهام الغريزي للحيوان، كالوحي إلى النحل، قال تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} 2. 3- الأمر الكوني للجمادات، قال تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا، وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا، وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا، يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا، بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} 3. وقال تعالى: {وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} 4. 4- ما يلقيه الله إلى ملائكته من أمر ليفعلوه، قال تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} 5 وقال سبحانه: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} 6 فالإيحاء الأول من جبريل عليه السلام إلى محمد -صلى الله عليه وسلم- والثاني من الله سبحانه وتعالى إلى جبريل عليه السلام. والمعنى: فأوحى جبريل إلى محمد -صلى الله عليه وسلم- ما أوحى الله إليه7. 5- الإشارة السريعة بجارحة من الجوارح كإيحاء زكريا عليه السلام إلى قومه: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} 8. 6- وسوسة الشيطان، قال تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} 9 وقال سبحانه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} 10.   1 سورة المائدة: الآية 111. 2 سورة النحل: الآية 68. 3 سورة الزلزلة: الآيات 1، 5. 4 سورة فصلت: الآية 12. 5 سورة الأنفال: الآية 12. 6 سورة النجم: الآية 10. 7 تفسير الطبري ج27 ص28. 8 سورة مريم: الآية 11. 9 سورة الأنعام: الآية 121. 10 سورة الأنعام: الآية 112. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 الوحي شرعا مدخل ... الوحي شرعًا: اختلف العلماء في تعريف الوحي فمنهم من يعرفه بمعنى "الموحى" فيقول هو: كلام الله تعالى المنزل على أحد أنبيائه وقيل: هو ما أنزل الله على أنبيائه وعرفهم به من أنباء الغيب والشرائع1. ومنهم من يعرفه بمعنى "الإيحاء" فيقول هو إعلام الله لأحد أنبيائه بحكم شرعي أو نحوه. وقولنا: "إعلام" يشمل أنواع الوحي بمعناه الشرعي كما سيأتي بيانها. وقولنا: "الله" قصر للوحي الشرعي بأنه من الله لا من غيره سبحانه. وقولنا: "لأحد أنبيائه" قصر للوحي بالمعنى الشرعي على الوحي للأنبياء. وقولنا: "بحكم شرعي" بيان للموحى به. وقولنا: "أو نحوه" يراد به القصص والأخبار ونحوها الواردة في القرآن أو السنة مما لم يرد فيها حكم شرعي فهي من الوحي أيضًا. وظاهر أن الوحي بالمعنى الشرعي لا يخرج عن حد المعنى اللغوي والفرق بينهما هو الفرق بين العام والخاص. فالوحي بالمعنى اللغوي عام يشمل كل "إعلام في خفاء" والوحي بالمعنى الشرعي خاص لا يتناول إلا ما كان من الله تعالى لنبي من الأنبياء، فالوحي بالمعنى الشرعي أخص من المعنى اللغوي لخصوص مصدره ومورده فقد خص المصدر بأنه من الله وخص المورد بالأنبياء2، 3.   1 عمدة القاري: شرح صحيح البخاري: البدر العيني ج1 ص14. 2 الوحي والقرآن: محمد حسين الذهبي ص8، والمدخل لدراسة القرآن الكريم: د. محمد أبو شهبة ص84. 3 ومما يؤسف له أن كثيرًا من الكتب المؤلفة في علوم القرآن في العصر الحديث تنقل تعريف الوحي عن كتاب "رسالة التوحيد" للأستاذ محمد عبده من غير إدراك للأخطاء العلمية والعقدية فيه فهو يعرفه بأنه "عرفان يجده الشخص من نفسه مع اليقين بأنه من قبل الله بواسطة أو بغير واسطة والأول بصوت يتمثل لسمعه أو بغير صوت" وقد نقدت هذا التعريف في كتابي "منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير ج2 ص486، 489. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 أنواع الوحي بالمعنى الشرعي : 1- ما يكون منامًا. وهو أول مراتب الوحي كما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها: "أول ما بدئ به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الوحي الرؤيا الصالحة -وعند مسلم الصادقة- في النوم، وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح الحديث"1. وليست الرؤيا خاصة بالفترة الأولى من الوحي بل وقعت بعد ذلك كما قال تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ} 2 الآية. ووقع الوحي بالمنام لإبراهيم عليه السلام كما جاء في القرآن عنه قوله: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ، فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ، وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ، قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} 3. ومبادرة إبراهيم عليه السلام للامتثال وقول إسماعيل عليه السلام: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} وقول الله تعالى: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا} دليل قاطع على أن رؤيا الأنبياء عليهم السلام وحي وأمر من الله سبحانه لهم عليهم السلام. وفي ابتداء النبي -صلى الله عليه وسلم- من الوحي بالرؤيا الصالحة في المنام تهيئة   1 رواه البخاري ج1 ص3، ومسلم ج1 ص140. 2 سورة الفتح: الآية 27. 3 سورة الصافات: الآيات 102، 105. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 واستعداد لتلقي الوحي في اليقظة، ويدل على هذا حديث علقمة بن قيس صاحب عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: "إن أول ما يؤتى به الأنبياء في المنام حتى تهدأ قلوبهم، ثم ينزل الوحي بعد في اليقظة"1. ولم ينزل من القرآن شيء عن طريق الوحي بالمنام، وقد ظن بعضهم أن سورة الكوثر نزلت في المنام مستدلا بحديث أنس بن مالك رضي الله عنه: "بينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه مبتسما، فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله قال: "أنزلت عليّ آنفا سورة" فقرأ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} ... الحديث"2. والصحيح أن هذه الإغفاءة ليست إغفاءة نوم؛ فقد حكى السيوطي عن الرافعي قوله: "وقد يحمل ذلك على الحالة التي كانت تعتريه عند نزول الوحي ويقال لها برحاء الوحي أ. هـ. قلت -يعني السيوطي: الذي قاله الرافعي في غاية الاتجاه وهو الذي كنت أميل إليه قبل الوقوف عليه3. ونقل القسطلاني عن أمالي الرافعي قوله: "الأشبه أن القرآن نزل كله يقظة"4. وبهذا يظهر أنه لم ينزل قرآن على الرسول -صلى الله عليه وسلم- في المنام، والله أعلم. 2- ما كان مكالمة بين العبد وربه: قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا} الآية5. ومن هذا النوع تكليم الله سبحانه وتعالى لموسى عليه السلام: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} 6.   1 فتح الباري: ابن حجر ج1 ص10، وقال: رواه أبو نعيم في الدلائل بإسناد حسن عن علقمة بن قيس صاحب ابن مسعود. 2 صحيح مسلم ج1 ص300. 3 الإتقان: السيوطي ج1 ص23. 4 شرح القسطلاني على صحيح البخاري ج1 ص61. 5 سورة الشورى: الآية 51. 6 سورة النساء: الآية 164. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 وقوله سبحانه: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} 1 ومنه تكليم الله لنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- في المعراج حيث قال: "فأوحى الله إلي ففرض عليّ خمسين صلاة في كل يوم وليلة" 2. 3- ما يكون إلهامًا يقذفه الله في قلب نبيه على وجه من العلم الضروري لا يستطيع له دفعًا ولا يجد فيه شكا، ومنه حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن روح القدس نفث في روعي 3 أن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها، ألا فاتقوا الله، وأجملوا في الطلب" 4. 4- ما يكون بواسطة أمين الوحي جبريل -عليه السلام- وهذا النوع أشهر الأنواع وأكثرها، وهو المصطلح عليه بـ "الوحي الجلي" ووحي القرآن كله من هذا القبيل ولم ينزل شيء من القرآن على الرسول -صلى الله عليه وسلم- بغير هذا النوع كالإلهام أو المنام أو التكليم بلا واسطة يدل على هذا قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} 5 وقوله سبحانه: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} 6.   1 سورة الأعراف: الآية 143. 2 صحيح مسلم: ج1 ص146 كتاب الإيمان. 3 الرُّوع بضم الراء القلب والخَلَد والخاطر وهو المراد هنا وبالفتح الخوف والفزع. 4 أخرجه القضاعي في مسند الشهاب 1151، 1152، والبغوي في شرح السنة ج14 ص304، وابن عبد البر في التمهيد ج1 ص284، والخطيب التبريزي في مشكاة المصابيح ج3 ص1458، قال ابن حجر -رحمه الله- وحديث: "أن روح القدس نفث في روعي ..... " أخرجه ابن أبي الدنيا في القناعة، وصححه الحاكم من طريق ابن مسعود "فتح الباري ج1 ص27" وصححه الألباني في تخريجه لأحاديث مشكلة الفقر ص19. 5 سورة الشعراء: الآيات 192، 195. 6 سورة النحل: الآية 102. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 والوحي بجميع أنواعه بالمعنى الشرعي يصحبه علم يقيني ضروري من النبي بأن ما ألقي إليه حق من عند الله ليس من خطرات النفس ولا وسوسة الشياطين، وهذا العلم اليقيني لا يحتاج إلى مقدمات وإنما هو من قبيل إدراك الأمور الوجدانية كالجوع والعطش1. وقد ذُكرت هذه الأقسام الأربعة في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} 2 وقال الإمام البغوي رحمه الله تعالى في تفسيرها: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا} يوحي إليه في المنام أو بالإلهام: {أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} يُسمعه كلامه ولا يراه كما كلم موسى عليه السلام: {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} إما جبريل أو غيره من الملائكة3.   1 المدخل لدراسة القرآن الكريم: د. محمد محمد أبو شهبة ص87. 2 سورة الشورى: الآية 51. 3 معالم التنزيل: البغوي ج4 ص132، وانظر تفسير الطبري ج25 ص45، وابن كثير ج4 ص128. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 كيفية وحي الله سبحانه وتعالى إلى الملائكة عليهم السلام : ورد ذكر إيحاء الله سبحانه وتعالى إلى الملائكة في قوله تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} 1 وقال سبحانه: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} 2 وغير ذلك. وقد ورد وصف وحي الله إلى الملائكة في السُّنة النبوية في أحاديث كثيرة منها حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانًا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، فـ {إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا} للذي قال: {الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} " ... الحديث3.   1 سورة الأنفال: الآية 12. 2 سورة البقرة: الآية 30. 3 رواه البخاري: في تفسير سورة سبأ ج6 ص28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 وعن النواس بن سمعان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد الله تعالى أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي، فإذا تكلم أخذت السموات منه رجفة -أو قال رعدة- شديدة خوفًا من الله عز وجل، فإذا سمع ذلك أهل السموات صعقوا وخروا لله سجدًا، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل، فيكلمه الله من وحيه بما أراد، ثم يمر جبريل على الملائكة كلما مر بسماء سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول جبريل: قال الحق وهو العلي الكبير، فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل، فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله عز وجل" 1. وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء صلصلة كجر السلسلة على الصفا قال: فيصعقون فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل فإذا أتاهم جبريل فزع عن قلوبهم، فيقولون يا جبريل: ماذا قال ربك؟ قال: يقول الحق، قال: فينادون: الحق الحق" 2. وعلى هذا فإن القرآن الكريم كلام الله أسمعه جبريل وبلغه جبريل -عليه السلام- كما سمعه إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- وليس لجبريل ولا للرسول إلا البلاغ، كما دلت على ذلك النصوص القرآنية مثل قوله تعالى مخاطبًا نبيه عليه الصلاة والسلام: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} 3.   1 رواه ابن خزيمة في كتاب التوحيد ص144، والطبري في تفسيره ج22 ص91، والبيهقي في الأسماء والصفات ص203، ورواه ابن أبي حاتم، انظر تفسير ابن كثير ج3 ص591، وقال الألباني: "إسناده ضعيف" السنة: ابن أبي عاصم ج1 ص227. 2 رواه أبو داود ج2 ص536، 537، ورواه ابن خزيمة في كتاب التوحيد ص145، والبيهقي في الأسماء والصفات ص201، وقال الألباني: "وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين" الصحيحة حديث 1293، وأخرجه البخاري تعليقًا وموقوفًا على ابن مسعود ج8 ص194. 3 سورة النمل: الآية 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 وقوله سبحانه: {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي} 1 وقوله سبحانه: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} 2 وقال سبحانه: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ، لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ، فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} 3 وقال سبحانه: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} 4 فالوحي من حيث التبليغ قسمان: 1- قسم يبلغه جبريل كما سمعه بحروفه وحركاته من غير زيادة ولا نقصان وبلغه الرسول عليه الصلاة والسلام كذلك، وهذا ما أجمع عليه العلماء. 2- وقسم بلغه جبريل -عليه السلام- أو الرسول -صلى الله عليه وسلم- أو هما معًا بالمعنى، على خلاف بين العلماء.   1 سورة الأعراف: الآية 203. 2 سورة يونس: الآية 15. 3 سورة الحاقة: الآية 44- 47. 4 سورة التوبة: الآية 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 كيفية وحي الله سبحانه وتعالى إلى الرسل عليهم السلام ... كيفية وحي الله -سبحانه- إلى الرسل -عليهم السلام: وحي الله سبحانه إلى رسله -عليهم السلام- إما أن يكون بواسطة أو بدونها وما يكون بدون واسطة فهو ثلاثة أنواع: 1- ما يكون منامًا. 2- ما يكون كلامًا. 3- ما يكون إلهامًا. وسبق بيان هذه الأنواع. وما يكون بواسطة هو النوع الرابع وهو ما يكون بواسطة جبريل عليه السلام، ويسمى الوحي الجلي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 كيفية وحي الملك إلى الرسول مدخل ... كيفية وحي الملك إلى الرسول: وهذا الوحي يقوم على اتصال بين جبريل عليه السلام وهو "مَلَك" وبين الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو "بشر"، وحين يكون حديث بين اثنين عربي وعجمي -مثلًا- فإن التفاهم بينهما يحتاج إلى أن يتعلم أحدهما لغة الآخر، والوحي اتصال بين "ملك" و"بشر"، فالأمر يحتاج إلى غلبة البشرية على الملك فيفهم البشر كلامه، أو غلبة الروحانية على البشر فيسهل على الملك تبليغه. وقد أشار إلى هذا المعنى ابن حجر -رحمه الله تعالى- حيث قال: "إن العادة جرت بالمناسبة بين القائل والسامع، وهي هنا إما باتصاف السامع بوصف القائل بغلبة الروحانية وهو النوع الأول، وإما باتصاف القائل بوصف السامع وهو البشرية وهو النوع الثاني"1. وقال الزركشي في البرهان والسيوطي في الإتقان: "وفي التنزيل طريقان: أحدهما: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- انخلع من صورة البشرية إلى صورة الملكية وأخذه من جبريل، والثاني: أن الملك انخلع إلى البشرية حتى يأخذه الرسول منه والأول أصعب الحالين"2. ووصف ابن خلدون الحالة الأولى بأنها انسلاخ من البشرية الجسمانية واتصال بالملكية الروحانية، والحالة الأخرى عكسها لأنها انتقال الملك من الروحانية المحضة إلى البشرية الجسمانية3. وبهذا يتبين أن وحي الملك جبريل عليه السلام إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- يكون بإحدى حالتين:   1 فتح الباري: ابن حجر ص28. 2 البرهان في علوم القرآن: الزركشي ج1 ص229. والإتقان: السيوطي ج1 ص58. 3 بتلخيص من مقدمة ابن خلدون ص95، 99. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 الحالة الأولى مدخل ... الحالة الأولى: أن يأتيه مثل صلصلة الجرس، والصلصلة في الأصل: صوت وقوع الحديد بعضه على بعض، ثم أطلق على كل صوت له طنين1. ومن صفات هذه الحالة: 1- أنها الأشد على الرسول -صلى الله عليه وسلم- كما وصفها عليه الصلاة والسلام. 2- أنها شديدة على الرسول -صلى الله عليه وسلم- فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- هل تحس بالوحي؟ فقال: "أسمع صلاصل ثم أسكت عند ذلك، فما من مرة يوحى إلي إلا ظننت أن نفسي تفيض" 2 وفي مجمع الزوائد: "إلا ظننت أن نفسي تقبض" 3. 3- أنه صلى الله عليه وسلم يعرق عرقًا شديدًا في هذه الحالة من الوحي كما قالت عائشة رضي الله عنها: "ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقًا"4 وقال زيد بن ثابت رضي الله عنه: "كنت أكتب الوحي لرسول -صلى الله عليه وسلم- وكان إذا نزل عليه أخذته بُرَحَاءٌ5 شديدة، وعرق عرقًا شديدًا مثل الجمان6 ثم سري عنه"7.   1 فتح الباري ج1 ص27. 2 مسند الإمام أحمد ج2 ص222، وقال الأستاذ أحمد شاكر: إسناده صحيح ج12 ص27. قال: والفيض الموت. 3 مجمع الزوائد: الهيثمي ج8 ص256. 4 صحيح البخاري: ج1 ص3، والفصد: قطع العرق لإسالة الدم، شبه جبينه بالعِرْق المفصود مبالغة في كثرة العرق. فتح الباري ج1 ص29. 5 البرحاء قال ابن الأثير في النهاية: ج1 ص112 "البرحاء أي شدة الكرب من ثقل الوحي". 6 الجمان قال ابن منظور في لسان العرب ج13 ص93: "هو اللؤلؤ الصغار وقيل حب يتخذ من الفضة أمثال اللؤلؤ". 7 مجمع الزوائد: الهيثمي ج8 ص257. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 4- أن جسمه يثقل ثقلًا شديدًا كما روى البيهقي في الدلائل في وصفه للوحي "إن كان ليوحى إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو على ناقته فتضرب على جرانها من ثقل ما يوحى إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإن كان جبينه ليطف بالعرق في اليوم الشاتي إذ أوحى الله إليه"1. وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "إن كان ليوحى إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو على راحلته فتضرب بجرانها"2 أي تمد عنقها من التعب. وكان الوحي ينزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو متكئ على رجل زيد بن ثابت -رضي الله عنه- قال زيد: "حتى تكاد رجلي تنكسر من ثقل القرآن، حتى أقول لا أمشي على رجلي أبدًا"3. 5- أن الرسول في هذه الحالة من الوحي يغط غطيط النائم ويغيب غيبة كأنها غشية أو إغماء وليست كذلك، وقد روى البخاري أن صفوان بن يعلى -رضي الله عنه- قد جاء إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو يوحى إليه "وعلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثوب قد أظل به فأدخل رأسه فإذا رسول الله محمر الوجه وهو يغط"4 الحديث. وأخرج ابن سعد عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا نزل عليه الوحي يغط في رأسه ويتربد وجهه" أي يتغير لونه5. 6- أن للوحي صوتًا يسمعه الرسول -صلى الله عليه وسلم- مثل الصلصلة ويسمعه الصحابة -رضي الله عنهم- مثل دوي النحل6 وفي حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- قال: كان إذا نزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسمع عند وجهه دوي كدوي النحل"7.   1 دلائل النبوة: البيهقي ج7 ص53. 2 مجمع الزوائد: ج8 ص257، وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. 3 مجمع الزوائد: ج8 ص257، وقال: رواه الطبراني بإسنادين ورجال أحمدهما ثقات. 4 صحيح البخاري: ج2 ص144. 5 الإتقان: السيوطي ج1 ص60. 6 فتح الباري: ابن حجر ج1 ص27. 7 مسند الإمام أحمد: تحقيق أحمد شاكر ج1 ص223، 224، ورواه البيهقي في الدلائل ج7 ص55، وقال أحمد شاكر: "إسناده صحيح". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 الحكمة من صوت الصلصلة : قال ابن حجر -رحمه الله تعالى: "والحكمة في تقدمه أن يقرع سمعه الوحي فلا يبقى فيه مكان لغيره"1.   1 فتح الباري: ابن حجر ج1 ص28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 فائدتها : قال القسطلاني: "وفائدة هذه الشدة ما يترتب على المشقة من زيادة الزلفى ورفع الدرجات"1. "قلت": ولعل هذه الشدة لأن الأجسام أوعية للأرواح ولكل جسم روح تناسب كثافته وحجمه، فإذا غلبت الروحانية على الجسم فإن الجسم ينوء بها فيعاني شدة ويعرق نتيجة الجهد، ويثقل لأن أجسام البشر خلقت لأرواح البشر فإذا سمت الروح وعلت فإن هذا الجسد لا يكاد يحتملها، والله أعلم.   1 إرشاد الساري: القسطلاني: ج1 ص58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 الحالة الثانية : أن يأتي جبريل عليه السلام إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- في صورة رجل، كدحية الكلبي أو أعرابي مثلا فيكلمه كما يكلمه البشر. وقد ورد ذكر هاتين الحالتين في الحديث الذي روته عائشة -رضي الله عنها- أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيفصم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانًا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول". قالت عائشة رضي الله عنها: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد وإن جبينه ليتفصد عرقًا1.   1 صحيح البخاري: ج1 ص2، 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 إمكانية وقوع الوحي : من المعلوم أن العالم ينقسم إلى قسمين: 1- عالم الغيب "أو ما وراء المادة". 2- عالم الشهادة: وقد ضاقت عقول فئة من الناس فلم تؤمن إلا بعالم الشهادة وأنكرت عالم الغيب، وهذا بلا شك قصور في الإدراك وفي وسائله. ولو تأمل هؤلاء لأدركوا أن فيما أنكروا ما لا يخفى على ذي لب، وأن في عالم الغيب ما هو أقوى ثبوتًا من بعض ما في عالم الشهادة. أرأيتم ذلك العقل الذي يؤمنون به هل يستطيعون إثبات وجوده بوسائل الإدراك عندهم، وهل يجرؤ أحدهم على إنكار وجوده. وتلكم الروح التي تسري في أجسادهم هل يدعي أحدهم إنكارها ولو مجرد دعوى. هل يجرؤ أحدهم على التسوية بين الجسد الميت والجسد الذي تدب فيه الروح، وهل يستطيع بوسائل إدراكه إثبات وجودها. ألا فليراجع أولئك وسائل الإدراك عندهم وليعلموا قصورها وليبحثوا عن الخلل فيها. وليعلموا -أيضًا- أن هناك عالمًا آخر أوسع من العالم الذي يعيشون فيه. هو عالم الغيب. وللمتأمل في عالم الشهادة علامات بارزة وأدلة ثابتة لذوي الألباب تدل دلالة قاطعة على عالم الغيب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 والوحي من عالم الغيب الذي يجب الإيمان به، ومن صفات المؤمنين أنهم يؤمنون بالغيب، ولمن طلب الأدلة العلمية -للطمأنينة القلبية- على إمكانية وقوع الوحي نذكر منها: 1- الحالة الإنسانية نفسها: فالإنسان نفسه أول ما يولد لا يملك من أمر نفسه شيئًا، فلا يملك التحكم في تحريك يده، ولا رأسه، ولا رجله، ولا تحريك بصره يمنة أو يسرة، حتى برازه يخرج بغير إرادته، فلا حول له ولا قدرة ولا سلطان إلا القدرة على تحريك شفتيه للرضاعة!! لأن هناك من كفاه الحاجة إلى كل حركة وهي أمه التي تقوم بكل حاجته، إلا تلك الحركة فلا يمكن أن تقوم بها ولا يمكن أن يستغنى عنها، فمن الذي ألهمه هذه الحركة، ومن الذي علمه!! لا ريب أن قيوم السموات والأرض هو الذي ألهمه وعلمه، فلا عجب إذًا أن يلهم بعض البشر ما تقوم به حياة البشر عامة وصلاح أمرهم. 2- أن بعض الحشرات كالنحل والنمل وغيرهما تأتي بعجائب الأنظمة ودقائق الأمور مما يطول شرحه وبسطه ويدرك المتأمل أنه من المستحيل أن يكون ذلك صادرًا عن تفكير لها أو منبثق عن غريزتها المجردة، بل يوقن أنها لم تصدر في ذلك إلا عن إلهام رباني ووحي إلهي. فإذا اقتضت رحمة الله الإلهام إلى تلك الحيوانات والحشرات بما تقوم به حياتها هل يستبعد أحد أن يلهم الله أحدًا من البشر ما تقوم به حياتهم وسعادتهم وهم أعز وأكرم. {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} 1. 3- وفي المخترعات الحديثة والمكتشفات العلمية ما يقرب إلى الأذهان إمكانية الاتصال؛ فإذا كان الهاتف مثلًا يمكن للإنسان بواسطته أن يخاطب من في أقصى الأرض، وأن يسمع حديثه لا يخفى عليه منه شيء ولا يسمع الحاضرون إلا دويَّا كدوي النحل!! فضلًا عن الإذاعة التي تنقل   1 سورة الإسراء: الآية 70. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 الأصوات إلى ما هو أعم وأوسع، والتلفاز الذي ينقل الصوت والصورة، إذا كان هذا بعض شأن البشر وقدرتهم التي أعطاهم الله، فهل يجرؤ أحد على إنكار إمكانية اتصال الله بأحد أنبيائه وإسماعه كلامه بواسطة أو بغير واسطة، لا ينكر هذا إلا مكابر معاند. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 أدلة وقوع الوحي : وإذا ثبتت إمكانية وقوع الوحي، فإن الأدلة على وقوعه وتحققه كثيرة: 1- فمن الكتاب: قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} 1. وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 2. وقال سبحانه: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} 3. وقال عز وجل: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} 4. وغير ذلك من الآيات. 2- ومن السنة: حديث عائشة رضي الله عنها "أول ما بدئ به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الوحي الرؤيا الصالحة -وفي رواية- الصادقة في المنام ... الحديث5. وحديث عائشة رضي الله عنها -أيضًا- أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحيانًا يأتيني مثل صلصلة الجرس" ... الحديث6. وغير ذلك من الأحاديث.   1 سورة النجم: الآيتين 3، 4. 2 سورة الأنبياء: الآية 25. 3 سورة الإسراء: الآية 39. 4 سورة النساء: الآية 163. 5 رواه البخاري ج1 ص3، ومسلم ج1 ص140. 6 رواه البخاري ج1 ص2، 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 3- والدليل العقلي: أن النبوة والرسالة ثابتة بأدلة كثيرة وبراهين عديدة، وثبوت ذلك يقتضي ثبوت الصدق والعصمة للنبي، وقد أخبر الصادق المعصوم بأنه يوحى إليه فيلزم من ذلك ثبوت وقوع الوحي، فكل ما أخبر به الصادق المعصوم فهو حق وثابت، فلا يبقى بعد ذلك شبهة ولا نحوها في إمكانية وقوع الوحي وتكرر وقوعه، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 نزول القرآن الكريم مدخل ... نزول القرآن الكريم: في القرآن الكريم آيات ورد فيها النص على نزول القرآن الكريم: 1- فمنها ما يدل على نزول القرآن الكريم جملة واحدة: أ- {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} 1. ب- {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} 2. ج- {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} 3. 2- ومنها ما يدل على نزوله مفرَّقًا: أ- {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} 4. ب- {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} 5.   1 سورة الدخان: الآية 3. 2 سورة القدر: الآية 1. 3 سورة البقرة: الآية 185. 4 سورة الإسراء: الآية 106. 5 سورة الفرقان: الآية 32. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 أقوال العلماء في نزول القرآن الكريم مدخل ... أقوال العلماء في نزول القرآن الكريم: ولتنوع دلالة هذه الآيات فإن للعلماء في نزول القرآن الكريم أقوالًا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 القول الأول : أن للقرآن الكريم نزولين: الأول جملة والثاني منجمًا: النزول الأول: من اللوح المحفوظ في السماء السابعة إلى بيت العزة في السماء الدنيا. وعلى هذا النزول تحمل الآيات التي تدل على نزوله جملة واحدة وهي: 1- {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} 1.   1 سورة القدر، الآية 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 2- {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} 1. 3- {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} 2. والنزول الثاني: نزوله بعد ذلك منجمًا على الرسول صلى الله عليه وسلم. وعلى هذا تحمل الآيات التي تدل على نزوله منجمًا وهي: 1- {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} 3. 2- {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} 4. واستدل أصحاب هذا القول بأدلة منها: 1- أن عطية بن الأسود سأل ابن عباس -رضي الله عنهما- فقال: "إنه قد وقع في قلبي الشك في قول الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} 5 وقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} 6 وقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} 7 وقد أنزل في شوال وذي القعدة وذي الحجة والمحرم وصفر وشهر ربيع الأول، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: إنه أنزل في رمضان وفي ليلة القدر وفي ليلة مباركة جملة واحدة، ثم أنزل بعد ذلك على مواقع النجوم رسلًا في الشهور والأيام"8. 2- ما رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: فُصِلَ القرآن من الذكر فوضع في بيت العزة في السماء الدنيا فجعل جبريل عليه السلام ينزله على النبي -صلى الله عليه وسلم- ويرتله ترتيلًا"9.   1 سورة الدخان: الآية 3. 2 سورة البقرة: الآية 185. 3 سورة الإسراء: الآية 106. 4 سورة الفرقان: الآية 32. 5 سورة البقرة: الآية 185. 6 سورة القدر: الآية 1. 7 سورة الدخان: الآية 3. 8 الأسماء والصفات البيهقي ص236، والطبري في تفسيره ج3 ص448، وقال ابن كثير في تفسيره ج1 ص231، رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه. 9 المستدرك: الحاكم ج2 ص223، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 3- وما رواه عكرمة عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "أنزل الله القرآن إلى السماء الدنيا في ليلة القدر، فكان الله إذا أراد أن يوحى منه شيئًا أوحاه، أو أن يحدث منه في الأرض شيئًا أحدثه"1. 4- عن سعيد بن جبير عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} 2 قال: "أنزل القرآن جملة واحدة في ليلة القدر إلى السماء الدنيا، وكان بمواقع النجوم، وكان الله ينزله على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعضه في إثر بعض ... "3. 5- وعن عكرمة عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "أنزل القرآن جملة واحد إلى السماء الدنيا في ليلة القدر، ثم أنزل بعد ذلك في عشرين سنة وقرأ: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} 4 {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} 5"6. 6- وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "أنزل القرآن ليلة القدر في رمضان إلى السماء الدنيا جملة ثم أنزل نجومًا"7. فهذه الأحاديث كلها موقوفة على ابن عباس وأغلب أسانيدها صحيحة.   1 رواه الحاكم في مستدركه، ج2 ص222، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. 2 سورة القدر: الآية 1. 3 رواه البيهقي في دلائل النبوة، ج7 ص131، ورواه الحاكم في مستدركه ج2 ص222، وقال: هذا حديث صحيح على شرطهما ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. 4 سورة الفرقان: الآية 33. 5 سورة الإسراء: الآية 106. 6 رواه البيهقي في الدلائل، ج7 ص132، وأبو عبيد في فضائل القرآن ج2 ص202، والحاكم في مستدركه ج2 ص222، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. 7 رواه الطبراني في المعجم الكبير، ج11 ص312 برقم 11839، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد ج7 ص140: "فيه عمران القطان وثقه ابن حبان وغيره وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 القول الثاني : وقال به الشعبي1 ومحمد بن إسحاق2 وهو أن للقرآن الكريم نزولًا واحدًا بدأ في ليلة القدر وهي ليلة مباركة في شهر رمضان وعلى هذا تدل الآيات الثلاث: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} 3 {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} 4 {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} 5 ثم نزل بعد ذلك منجمًا في أوقات مختلفة فليس للقرآن إلا نزول واحد منجم على الرسول صلى الله عليه وسلم.   1 النكت والعيون: الماوردي ج6 ص312، والإتقان: السيوطي ج1 ص54. 2 تفسير الرازي: ج5 ص85. 3 سورة البقرة: الآية 185. 4 سورة الدخان: الآية 3. 5 سورة القدر: الآية 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 القول الثالث : أن للقرآن الكريم نزولين منجمين. الأول: من اللوح المحفوظ في السماء السابعة إلى بيت العزة في السماء الدنيا وذلك في ثلاث وعشرين ليلة قدر ينزل في كل ليلة ما سينزل في عامها. الثاني: نزوله منجمًا على الرسول -صلى الله عليه وسلم- وذلك في ثلاث وعشرين سنة. وقد قلل بعض الباحثين المعاصرين من هذا القول وقلده آخرون وزعم أنه لا دليل عليه، والحق أن هذا القول لعدد من العلماء المعتبرين كالفخر الرازي الذي توقف في الترجيح بينه وبين القول الأول بل أوجب التوقف1 وقال بهذا القول أيضًا مقاتل بن حيان2 وابن جريج3.   1 تفسير الرازي: ج5 ص85. 2 تفسير القرطبي: ج2 ص297، والوسيط: الواحدي ج4 ص532. 3 تفسير الطبري: ج3 ص447. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 وقال الحليمي في المنهاج: "أن جبريل كان ينزل منه من اللوح المحفوظ في ليلة القدر إلى السماء الدنيا قدر ما ينزل به على النبي -صلى الله عليه وسلم- في تلك السنة إلى ليلة القدر التي تليها إلى أن أنزله كله في عشرين ليلة من عشرين سنة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا"1.   1 فتح الباري: ابن حجر، ج8 ص620. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 القول الرابع : ما رواه الماوردي1 وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق الضحاك عن ابن عباس -رضي الله عنهما2- أنه قال: نزل القرآن في رمضان وفي ليلة القدر في ليلة مباركة جملة واحدة من عند الله تعالى في اللوح المحفوظ إلى السفرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا فنجمته السفرة على جبريل في عشرين ليلة، ونجمه جبريل على النبي -صلى الله عليه وسلم- في عشرين سنة، وكان ينزل على مواقع النجوم أرسالًا في الشهور والأيام". وقد استغرب بعض العلماء هذا القول وأنكره، فقال ابن حجر رحمه الله تعالى: "وحكى الماوردي في تفسير ليلة القدر أنه نزل من اللوح المحفوظ جملة واحدة، وأن الحفظة نجمته على جبريل في عشرين ليلة، وأن جبريل نجمه على النبي -صلى الله عليه وسلم- في عشرين سنة، وهذا أيضًا غريب"3 بل احتد ابن العربي -رحمه الله تعالى- فقال: "ومن جهالة المفسرين أنهم قالوا: إن السفرة ألقته إلى جبريل في عشرين ليلة وألقاه جبريل إلى محمد عليهما السلام في عشرين سنة. وهذا باطل، ليس بين جبريل وبين الله واسطة، ولا بين جبريل ومحمد صلى الله عليهما واسطة"4. وأما أبو شامة المقدسي فقد وصف ما حكاه الماوردي بقوله: "وكأنه قول ثالث غير القولين المقدمين أو أراد الجمع بينهما فإن قوله: نزل جملة   1 النكت والعيون: الماوردي، ج6 ص311. 2 الإتقان: السيوطي: ج1 ص54. 3 فتح الباري: ابن حجر ج8 ص620، 621. 4 أحكام القرآن: ابن العربي ج4 ص1949، 1950. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 واحدة هو القول الأول، وقوله: فنجمته السفرة على جبريل عشرين ليلة. هو القول الثاني. كأنه فسر قول من قال: نزل في عشرين ليلة، بأن المراد بهذا الإنزال تنجيم السفرة ذلك على جبريل" إلى أن قال عن هذا القول: إنه بعيد مع ما قد صح من الآثار عن ابن عباس أنه نزل جملة إلى سماء الدنيا1.   1 المرشد الوجيز: أبو شامة المقدسي ص19، 20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 القول الراجح : هو القول الأول أن للقرآن الكريم نزولين الأول من اللوح المحفوظ في السماء السابعة إلى بيت العزة في السماء الدنيا، جملة في ليلة واحدة هي ليلة القدر وهي ليلة مباركة في شهر رمضان. والنزول الثاني نزوله منجمًا على الرسول -صلى الله عليه وسلم- وذلك في ثلاث وعشرين سنة. قال ابن حجر عن هذا القول: "هو الصحيح المعتمد"1 بل حكى القرطبي الإجماع على أن القرآن أنزل جملة واحدة2. وقال في موضع آخر: لا خلاف أن القرآن أنزل من اللوح المحفوظ ليلة القدر -على ما بيناه- جملة واحدة فوضع في بيت العزة في سماء الدنيا ثم كان جبريل -صلى الله عليه وسلم- ينزل به نجمًا نجمًا في الأوامر والنواهي والأسباب، وذلك في عشرين سنة"3. ووصف السيوطي هذا القول بأنه "الأصح الأشهر"4. "قلت": وتشهد لصحة هذا القول الأحاديث المروية عن ابن عباس -رضي الله عنهما- وهي كلها صحيحة كما قال السيوطي ولا أثر لكونها موقوفة على ابن عباس؛ لأن قول الصحابي في الأمور الغيبية التي لا مجال للاجتهاد فيها له حكم الرفع.   1 فتح الباري: ابن حجر، ج8 ص620. 2 تفسير القرطبي: ج2 ص298. 3 تفسير القرطبي: ج2 ص297. 4 الإتقان: السيوطي، ج1 ص53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 وإياك أن تفهم أن جبريل عليه السلام أخذ القرآن من اللوح المحفوظ ولم يسمعه من الله، فإن هذا القول باطل. قال ابن تيمية -رحمه الله تعالى: "فمن قال: إنه منزل من بعض المخلوقات كاللوح والهواء فهو مفتر على الله، مكذب لكتاب الله، متبع لغير سبيل المؤمنين، ألا ترى أن الله فرق بين ما نزل منه وما نزل من بعض المخلوقات كالمطر بأن قال: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} 1 فذكر المطر في غير موضع وأخبر أنه نزله من السماء والقرآن أخبر أنه منزل منه"2 في قوله تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} 3 {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} ، {حم، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} 5 وقال ابن تيمية أيضًا: "ثم إن كان جبريل لم يسمعه من الله وإنما وجده مكتوبًا كانت العبارة عبارة جبريل، وكان الكلام كلام جبريل ترجم به عن الله كما يترجم عن الأخرس الذي كتب كلامًا ولم يقدر أن يتكلم به، وهذا خلاف دين المسلمين"2. وقد رد سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي المملكة -رحمه الله تعالى- على قول السيوطي بأن جبريل أخذ القرآن من اللوح المحفوظ فقال: هذه المقالة اغتر بها كثير من الجهلة وراجت عليهم، والسيوطي -رحمه الله تعالى- مع طول باعه وسعة اطلاعه وكثرة مؤلفاته ليس ممن يعتمد عليه في مثل هذه الأصول العظيمة، وهذه المقالة مبنية على أصل فاسد وهو القول بخلق القرآن؛ وهذه مقالة الجهمية والمعتزلة ومن نحا نحوهم، وهذه المقالة   1 سورة البقرة: الآية 22. 2 مجموع الفتاوى: ابن تيمية ج12 ص519، 520. 3 سورة النحل: الآية 102. 4 سورة الزمر: الآية الأولى. 5 سورة فصلت: الآيتين 1، 2، وانظر الآيات: النحل 102، غافر 1، 2، السجدة 1، 2، المائدة 67 وغيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 الخاطئة حقيقتها إنكار أن يكون الله متكلمًا حقيقة" إلى أن قال: "والقائلون بخلق القرآن منهم من يقول: خلقه في اللوح المحفوظ وأخذ جبريل ذلك المخلوق من اللوح وجاء به إلى محمد -صلى الله صلى عليه وسلم- ومنهم من يقول: خلقه في جبريل، ومنهم من يقول: خلقه في محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى غير ذلك من أقوالهم"1. فهذا ما ينتهي إليه هذا القول ويئول إليه، وإن لم يكن كثير من الناقلين له يقصدونه2. وإذا كان الرأي الراجح أن للقرآن الكريم نزولين فلنفصل القول في كل نزول على حِدَة.   1 الجواب الواضح المستقيم في التحقيق في كيفية إنزال القرآن الكريم: للعلامة محمد بن إبراهيم ص2. 2 نزول القرآن الكريم والعناية به في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم: د. محمد بن عبد الرحمن الشايع ص33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 النزول الأول: نزول القرآن الكريم جملة: كيفيته : من المعلوم أن هذا من الأمور الغيبية التي لا يجوز القول فيها إلا بدليل من الكتاب أو السنة، ولا نعرف نصًّا خاصًّا في كيفية هذا النزول، وإنما وردت النصوص العامة في بيان كيفية وحي الله إلى ملائكته، وقد سبق بيانها في مبحث الوحي. ومع هذا فقد نقل أبو شامة المقدسي عن بعض التفاسير كيفية ذلك فقال: ورأيت في بعض التفاسير. قال: وقال جماعة من العلماء: نزل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 القرآن جملة واحدة في ليلة من اللوح المحفوظ إلى بيت يقال له بيت العزة، فحفظه جبريل عليه السلام وغشي على أهل السموات من هيبة كلام الله، فمر بهم جبريل وقد أفاقوا فقالوا: {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ} 1 يعني القرآن، وهو معنى قوله: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} 2 فأتى به جبريل إلى بيت العزة فأملاه جبريل على السفرة الكتبة يعني الملائكة وهو قوله سبحانه وتعالى: {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ، كِرَامٍ بَرَرَةٍ} 3 ثم قال أبو شامة: "نقلته من كتاب "شفاء القلوب" وهو تفسير علي بن سهل النيسابوري"4.   1 سورة سبأ: الآية 23. 2 سورة سبأ: الآية 23. 3 سورة عبس: الآيتين 15، 16. 4 المرشد الوجيز: أبو شامة المقدسي ص23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 دليله : أما الدليل على نزول القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ في السماء السابعة إلى بيت العزة في السماء الدنيا فمن القرآن: أ- قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} 1. ب- قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} 2. ج- قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} 3. والمراد بالنزول في هذه الآيات كما مر بنا نزول القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ في السماء السابعة إلى بيت العزة في السماء الدنيا. ومن السنة: الأحاديث المروية عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقد سبق بيانها.   1 سورة البقرة: الآية 185. 2 سورة الدخان: الآية 3. 3 سورة القدر: الآية 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 واسطته : وهذا أيضًا من الأمور الغيبية التي لم أجد نصًّا صحيحًا صريحًا في بيانها، ومن المعلوم أن جبريل عليه السلام هو الملك الموكل بالوحي كما قال تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} 1 وقال سبحانه وتعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} 2. وقد مر بنا قول ابن العربي "ليس بين جبريل وبين الله واسطة، ولا بين جبريل ومحمد عليهما السلام واسطة"3 والله أعلم.   1 سورة النحل: الآية 102. 2 سورة الشعراء: الآيات 193- 195. 3 أحكام القرآن: ابن العربي ج4 ص1950. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 مدته : أما المدة التي تم فيها النزول الأول نزول القرآن الكريم جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا، فهي ليلة واحدة هي ليلة القدر، وهي ليلة مباركة من شهر رمضان، قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} 1 وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} 2 وقال عز وجل: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} 3. وليس هناك دليل صحيح على تحديد وقت هذه الليلة غير أنها ليلة القدر في شهر رمضان، من غير تحديد للعام الذي كانت فيه، هل كانت قبل ظهور نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- أم بعدها، ومع هذا فقد قال أبو شامة: "الظاهر أنه قبلها وكلاهما محتمل"4 وخالفه السيوطي وقال: "الظاهر هو الثاني، وسياق الآثار   1 سورة القدر: الآية 1. 2 سورة الدخان: الآية 3. 3 سورة البقرة: الآية 185. 4 المرشد الوجيز: أبو شامة المقدسي ص25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 السابقة عن ابن عباس صريح فيه"1. "قلت": سياق الآثار المذكورة لا يدل على ذلك ولو من بعيد، فضلًا عن أن تكون صريحة فيه.   1 الإتقان: السيوطي ج1 ص52. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 حكمته : ولنزول القرآن الكريم جملة واحدة من اللوح المحفوظ في السماء السابعة إلى بيت العزة في السماء الدنيا حكم عديدة، منها ما ذكره أبو شامة المقدسي بقوله: "فإن قلت: ما السر في إنزاله جملة إلى السماء الدنيا؟ قلت: فيه تفخيم لأمره وأمر من أنزل عليه، وذلك بإعلام سكان السموات السبع أن هذا آخر الكتب المنزل على خاتم الرسل لأشرف الأمم، قد قربناه إليهم لننزله عليهم، ولولا أن الحكمة الإلهية اقتضت وصوله إليهما منجمًا بحسب الوقائع لهبط به1 إلى الأرض جملة كسائر الكتب المنزلة قبله، ولكن الله تعالى باين بينه وبينها فجمع له الأمرين: إنزاله جملة ثم إنزاله مفرقًا، وهذا من جملة ما شرف به نبينا صلى الله عليه وسلم"2. وقال السخاوي: فإن قيل: ما في إنزاله جملة إلى سماء الدنيا؟ قلت: في ذلك تكريم بني آدم وتعظيم شأنهم عند الملائكة، وتعريفهم عناية الله عز وجل بهم ورحمته لهم. ولهذا المعنى أمر سبعين ألفًا من الملائكة لما أنزل سورة الأنعام أن تزفها3 وزاد سبحانه في هذا المعنى بأن أمر جبريل عليه السلام بإملائه على السفرة الكرام البررة عليهم السلام وإنساخهم إياه، وتلاوتهم له.   1 في المرشد الوجيز "لم نهبط به" وقد صححتها من الإتقان ج1 ص54 الذي نقل عبارة أبي شامة. 2 المرشد الوجيز: أبو شامة ص24، 25. 3 انظر المعجم الكبير: الطبراني ج12 ص166 رقم 12930 وسيأتي تخريجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 وفيه أيضًا: إعلام عباده من الملائكة وغيرهم أنه علام الغيوب لا يعزب عنه شيء، إذ كان في هذا الكتاب العزيز ذكر الأشياء قبل وقوعها. وفيه أيضًا: التسوية بينه وبين موسى عليه السلام في إنزال كتابه جملة، والتفضيل لمحمد -صلى الله عليه وسلم- في إنزاله عليه منجمًا ليحفظه، قال الله عز وجل: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} 1 وقال عز وجل: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى} 2. وفيه أيضًا: "أن جناب العزة عظيم، ففي إنزاله جملة واحدة وإنزال الملائكة له مفرقًا بحسب الوقائع، ما يوقع في النفوس تعظيم شأن الربوبية"3. "قلت": وبهذا يظهر أن لنزول القرآن الكريم جملة واحدة حكمًا عديدة منها: 1- تعظيم شأن القرآن الكريم وتفخيم أمره. 2- تعظيم شأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتشريفه وتفضيله. 3- تكريم أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- وتعريف الملائكة بفضلها ومكانتها. 4- إعلام أهل السموات أن هذا آخر الكتب المنزل على خاتم الأنبياء. 5- إعلام الملائكة وغيرهم بأن الله يعلم ما كان وما سيكون وأنه علام الغيوب، ففي القرآن ذكر للأشياء قبل وقوعها وبيان لأحداث قبل حدوثها. 6- بيان منزلة محمد -صلى الله عليه وسلم- وفضله على سائر الأنبياء عليهم السلام. "فإن قلت" وما أثر بيان عظمة القرآن ومكانة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأمته عند الملائكة وما فائدة ذلك؟   1 سورة الفرقان: الآية 32. 2 سورة الأعلى: الآية 6. 3 جمال القراء وكمال الإقراء: السخاوي، ج1 ص20، 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 "قلت": إن المسلم ليفرح فرحًا شديدًا بدعوة أخيه المسلم الصالحة وتعظم مكانتها بقدر صلاح الداعي واستقامته، فإذا كانت الدعوة ممن لم يعص الله طرفة عين وهم الملائكة، كانت من أفضل الدعاء وأحراها بالإجابة. والملائكة يصلون على النبي -صلى الله عليه وسلم- ويستغفرون لأمة محمد -صلى الله عليه وسلم- ويدعون لهم، ويحضرون مجالس الذكر ويكثرون في الأزمنة والأماكن الفاضلة، وحضورهم كله خير ودعاؤهم حري بالإجابة، فعلمهم بمنزلة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومكانة أمته وعظمة كتابه من أسباب إكثارهم ومداومتهم على ذلك. واختصاصهم بزيادة الدعاء، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 اختصاص القرآن الكريم بالنزول الأول : وهو النزول من اللوح المحفوظ في السماء السابعة إلى بيت العزة في السماء الدنيا، وذلك أن الكتب السابقة كانت تنزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى الأنبياء إلا القرآن الكريم، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 النزول الثاني: نزول القرآن الكريم منجمًا: كيفيته : سبق في مبحث "الوحي" بيان كيفية وحي الملك إلى الأنبياء عليهم السلام وأنواعه، وأن القرآن كله نزل بالوحي الجلي ولم ينزل منه شيء بالمنام أو الإلهام أو التكليم بلا واسطة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 واسطته : والقرآن كله نزل بواسطة جبريل عليه السلام، كما قال سبحانه وتعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} 1 وقال عز وجل: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} 2.   1 سورة الشعراء: الآيات 193، 195. 2 سورة النحل: الآية 102. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 دليله : من الأدلة على نزول القرآن الكريم منجمًا: 1- قوله تعالى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} 1. 2- قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} 2. 3- ما هو معلوم بالضرورة من سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- من نزول القرآن عليه مفرقًا من بعثته إلى وفاته عليه الصلاة والسلام.   1 سورة الإسراء: الآية 106. 2 سورة الفرقان: الآية 32. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 مقدار ما ينزل في كل مرة : ليس هناك مقدار ثابت لما ينزل من القرآن الكريم في كل مرة، ونفصل الحديث على النحو التالي: 1- الآيات. 2- قصار السور. 3- طوال السور. أما بالنسبة للآيات فقد ينزل خمس آيات أو أكثر أو أقل، بل قد ينزل بعض آية كقوله تعالى: {مِنَ الْفَجْرِ} من قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} 1، 2 وكقوله تعالى: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} 3 ولعل غالب ما ينزل خمس آيات وعشر آيات لما   1 سورة البقرة: الآية 187. 2 انظر صحيح البخاري ج2 ص231، وصحيح مسلم ج2 ص767. 3 سورة النساء: الآية 95. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 رواه أبو نضرة قال: كان أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- يعلمنا القرآن خمس آيات بالغداة وخمس آيات بالعشي، ويخبر أن جبريل نزل بالقرآن خمس آيات خمس آيات1 وما رواه أبو خلدة عن أبي العالية قال: قال عمر رضي الله عنه: تعلموا القرآن خمسًا خمسًا فإن جبريل عليه السلام نزل بالقرآن على النبي -صلى الله عليه وسلم- خمسًا خمسًا2 وقال أبو العالية: تعلموا القرآن خمس آيات؛ فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يأخذه من جبريل خمسًا خمسًا3. أما قصار السور فمنها ما كان ينزل جملة واحدة كالفاتحة والمعوذات، ومنها ما ينزل مفرقًا كسورة العلق والمدثر والضحى. وأما السبع الطول فلم ينزل منها سورة جملة واحدة إلا سورة الأنعام كما روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: "نزلت سورة الأنعام بمكة ليلا جملة، ونزل معها سبعون ألف ملك يجأرون حولها بالتسبيح"4.   1 رواه ابن عساكر، انظر الإتقان: السيوطي ج1 ص57. 2 شعب الإيمان: البيهقي ج4 ص513. 3 المرجع السابق: ج4 ص512. 4 المعجم الكبير: الطبراني ج12 ص166 رقم 1293 وقال محققه الأستاذ حمدي عبد المجيد السلفي: في سنده علي بن زيد وفيه كلام وبقية رجاله رجال الصحيح. ورواه أبو عبيد القاسم بن سلام في فضائل القرآن، ص129، وفضائل القرآن: ابن الضريس ص94، والإتقان السيوطي ج1 ص50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 مدته : اختلف في مدة نزول القرآن منجمًا على الرسول -صلى الله عليه وسلم- تبعًا للاختلاف في مدة بعثة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو في مكة، فقيل: عشرين سنة، وقيل: ثلاث وعشرين سنة، وقيل: خمس وعشرين سنة. فمن المعلوم أن مدة الوحي بالرؤيا الصالحة كانت ستة أشهر ثم فتر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 الوحي في سنتين ونصف، قال السهيلي رحمه الله تعالى: "جاء في بعض الروايات المسندة أن مدة الفترة سنتان ونصف، وفي رواية أخرى أن مدة الرؤيا ستة أشهر، فمن قال مكث عشر سنين حذف مدة الرؤيا والفترة ومن قال ثلاث عشرة أضافهما"1. وروى البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأربعين سنة فمكث بمكة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه، ثم أمر بالهجرة فهاجر عشر سنين، ومات وهو ابن ثلاث وستين"2. وروي عن عائشة وابن عباس -رضي الله عنهما- قالا: لبث النبي -صلى الله عليه وسلم- بمكة عشر سنين ينزل عليه القرآن وبالمدينة عشرًا"3 قال ابن حجر رحمه الله تعالى: "وهذا ظاهره أنه صلى الله عليه وسلم عاش ستين سنة إذا انضم إلى المشهور أنه بعث على رأس الأربعين، لكن يمكن أن يكون الراوي ألغى الكسر" ثم قال: "ويمكن أن يجمع بينه وبين المشهور بوجه آخر وهو أنه بعث على رأس الأربعين فكانت مدة وحي المنام ستة أشهر إلى أن نزل عليه الملك في شهر رمضان من غير فترة، ثم فتر الوحي، ثم تواتر وتتابع فكانت مدة تواتره وتتابعه بمكة عشر سنين من غير فترة"4. وعلى هذا يظهر أن القول: إن مدة النزول عشرون عامًا أو ثلاثة وعشرون عامًا، كالقول الواحد، وهو الصواب والله أعلم.   1 فتح الباري: ابن حجر ج1 ص37. 2 صحيح البخاري، ج4 ص253. 3 صحيح البخاري: ج6 ص96. 4 فتح الباري: ابن حجر، ج8 ص620. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 الحكمة في نزول القرآن الكريم منجما مدخل ... الحكمة في نزول القرآن الكريم منجمًا: ولنزول القرآن منجمًا حكم عديدة وفوائد كثيرة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 أولًا: تثبيت قلب الرسول صلى الله عليه وسلم 1 قال سبحانه وتعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} 2. حين بعث الله عز شأنه عبده ورسوله محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بعثه في أمة صلبة كصلابة أرضها، قاسية كقسوتها، شامخة كشموخ جبالها، بعثه لهذه الأمة ليس لأمر تافه، أو شأن حقير، بل في شأن عظيم وأمر خطير، بعثه ليسفه أحلامها ويحطم أوثانها، ويهدم أصنامها، وهي أعز ما يملكون وأقدس ما يعتقدون. ومن ذا الذي يجرؤ على بعض هذا فضلًا عنه كله وأكثر منه. تصدى محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- لهذه المهمة فكان أصلب منهم وأقوى، وأحكم منهم وأهدى، جمع بين الصلاة والهدى، والقوة والحكمة حتى اشتكوه إلى عمه أبي طالب الذي قال له: يابن أخي إن بني عمك زعموا أنك تؤذيهم في ناديهم وفي مسجدهم فانته عن ذلك، قال: فلحظ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ببصره إلى السماء فقال: "ما أنا بأقدر على أن أدع لكم ذلك على أن تشعلوا لي منها شعلة -يعني الشمس" 3. نعم إنها قوة إيمان، وصلابة عقيدة، وهذه القوة وتلك الصلابة بحاجة إلى من يسوسها ويدعمها، ويرعاها ويحفظها، حتى لا تضعف أمام التيارات العاصفة أو تنهار أمام الضربات المتتابعة، فتعهدها الله القوي الحكيم بقوته   1 في هذا الموضوع كتب الشيخ عبد الرحمن هوساوي رسالته للماجستير وعنوانها "منهج القرآن الكريم في تثبيت الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتكريمه" وطبعت في مجلد سنة 1413هـ. 2 سورة الفرقان: الآية 32. 3 قال الألباني: في سلسلة الأحاديث الصحيحة حديث 92 "إسناده حسن" وقال: وأما حديث "يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته"، فليس له إسناد ثابت، ولذلك أوردته في الأحاديث الضعيفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 وحكمته، وكان في إنزال القرآن منجمًا دعمًا لتلك القوة، وتثبيتًا لتلك الصلابة، وترسيخًا لتلك الحكمة.. {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} 1. والأنبياء عليهم السلام كلهم بشر {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ} 2 يأكلون كما نأكل ويمشون في الأسواق كما يمشي البشر {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} 3 ويتزوجون ويولد لهم ذرية {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} 4 ويعتريهم ما يعتري البشر، من الخوف، والحزن والهم، والفرح والسرور، والضحك، والبكاء ونحو ذلك، وهم بحاجة إلى من يواسيهم، ويثبتهم. وكان لتثبيت قلب الرسول -صلى الله عليه وسلم- صور متعددة منها: 1- إخباره أن ما جرى له من الأذى والتكذيب قد جرى للأنبياء السابقين من قبله {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} 5 {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} 6 ومن طبيعة البشر أن المصيبة تخف إذا كانت عامة وتكون أشد إذا كانت خاصة هذا في الدنيا دون الآخرة، قال سبحانه وتعالى: {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} 7. وإعلام الله تعالى لنبيه -صلى الله عليه وسلم- بأن ما جرى له قد جرى للأنبياء السابقين من أسباب تثبيت قلبه وتجدد عزمه. 2- أمر الله تعالى لنبيه -صلى الله عليه وسلم- بالصبر: فمن المعهود أن الإنسان إذا أصابته مصيبة وكان بجانبه أحد أصحابه   1 سورة الفرقان: الآية 32. 2 سورة يوسف: الآية 109. 3 سورة الفرقان: الآية 20. 4 سورة الرعد: الآية 38. 5 سورة الأنعام: الآية 34. 6 سورة آل عمران: الآية 184. 7 سورة الزخرف: الآية 39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 يربت على كتفه ويأمره بالصبر والاحتساب ويواسيه ويسليه، فإن هذا من أقوى الأسباب لسلوانه. فأمر الله عز وجل لنبيه -صلى الله عليه وسلم- بالصبر من أقوى الأسباب لتثبيت قلبه سيما أن الأمر بالصبر كان مقترنًا أحيانًا بإخباره أن ما جرى له قد جرى للأنبياء السابقين وأنهم صبروا قال تعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} 1 {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} 2. 3- نهيه عن الحزن والضيق: وذلك أن حبس النفس بالحزن والتضييق عليها بالهم من أقوى الدواعي لفتورها ويأسها، فنهى الله نبيه عن الحزن والضيق من مكرهم وما يلاقيه من أذاهم {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} 3 وقال تعالى: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} 4 وقال سبحانه: {فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} 5 وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} 6. ولا شك أن للحزن تأثيرًا على صاحبه ولو كان صابرًا فيعقوب عليه السلام حين فقد ابنه يوسف قال: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} 7 وحين فقد ابنه الآخر قال: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} 8 إلا أنه حزن وتأسف على يوسف {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} فكان أثر الحزن {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} 9.   1 سورة الأنعام: الآية 34. 2 سورة الأحقاف: الآية 35. 3 سورة النحل: الآية 127. 4 سورة النمل: الآية 70. 5 سورة يس: الآية 76. 6 سورة المائدة: الآية 41. 7 سورة يوسف: الآية 18. 8 سورة يوسف: الآيتان 83، 84. 9 سورة يوسف: الآيتين 83، 84. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 وبهذا ندرك الحكمة من نهي الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن الحزن والضيق مما يمكرون لما لهذا من أثر في إعاقة مسار الدعوة، ولما في أمره بالصبر ونهيه عن الحزن من شد لأزره وتجديد لعزمه. 4- إخباره بأن الله يعصمه من الناس: وذلك أنه إذا علم أن ما جرى له قد جرى للأنبياء السابقين من قبله، وأنهم صبروا فوطن نفسه على الصبر واستمر في الدعوة ولم يصبه الهم ولا الحزن، لكنه يخشى أن يقتله قومه قبل أن يتم دعوته وهو الحريص عليهم الرحيم بهم، فأخبره الله بالعصمة من ذلك {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} 1 فكانت هذه البشرى من أعظم الدوافع إلى الاستمرار في الدعوة. أرأيتم ذلك الرجل الذي يتردد في فعل أمر ما فيجد من يشجعه ويطمئنه بأنه لن يصيبه أي مكروه ولا ضرر وأنه سيكون معه ويأخذ بيده ويشد أزره ولا يزال به حتى يجد الطمأنينة، فكيف إذا كانت البشرى من الله والعصمة من عنده عز شأنه. ويجد الرسول -صلى الله عليه وسلم- أثر هذه البشرى {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} في كثير من الصور والمشاهد: أ- حين اجتمع صناديد قريش وقبائل العرب عند بابه ليضربوه ضربة رجل واحد فيتفرق دمه في القبائل فخرج من بين صفوفهم وجعل فوق رءوسهم التراب ولم يره أحد2 {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} .   1 سورة المائدة: الآية 67. 2 سيرة ابن هشام، ج1 ص127، وتفسير ابن كثير ج3 ص620، ودلائل النبوة البيهقي ج2 ص466، 470. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 ب- ويذهب مع صاحبه إلى الغار ويمر به المشركون يبحثون عنهما حتى قال أبو بكر رضي الله عنه: "لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما" 1 ومع هذا القرب لم يرهما أحد {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} . ج- ويلحق بهما سراقة بن مالك ممتطيًا جواده ومعه رمحه حتى إذا اقترب منهما ساخت يدا فرسه في الأرض حتى بلغتا الركبتين وعندما أخرجت يديها؛ إذا لأثرهما عثان ساطع في السماع مثل الدخان فأدرك سراقة أنه منع عنهما2 {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} . د- ويأكل صلى الله عليه وسلم من شاة مسمومة أهدتها إليه يهودية فيموت صاحبه وينجو من الموت3 {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} . هـ- وحاول اليهود قتل النبي -صلى الله عليه وسلم- بإلقاء حجر من جدار كان صلى الله عليه وسلم تحته فجاءه الوحي بذلك فقام من مجلسه4 {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} . والصور كثيرة والمشاهد عديدة لحفظ الله تعالى لنبيه من محاولات الاغتيال5 ولا شك أن هذه البشرى6 من الله سبحانه وتعالى لنبيه -صلى الله عليه وسلم- ورؤية الرسول -صلى الله عليه وسلم- لفشل هذه المحاولات من أقوى الدوافع للطمأنينة والاستمرار في الدعوة وتجدد العزم   1 صحيح البخاري ج4 ص190. 2 انظر صحيح البخاري ج4 ص257. 3 سنن أبي داود، ج4 ص173، 175. 4 سيرة ابن هشام ج3 ص199، 200، والبداية والنهاية، ابن كثير ج4 ص75. 5 لمزيد من هذه الصور انظر كتاب "والله يعصمك من الناس" للأستاذ أحمد الجدع. 6 كانت {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} عند نزولها مجرد بشرى، ثم أصبحت بشرى ومعجزة؛ لثبوتها وعدم وقوع ما يخالفها، وهي من الأخبار الغيبية المستقبلية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 5- تبشيره بالنصر والتمكين: قال تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} 1 وقال جل جلاله: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 2 وقال عز وجل: {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} 3 وقال سبحانه وتعالى: {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} 4 وقال عز وجل: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} 5 ووعده سبحانه بالنصر {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} 6 {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} 7 وقد تحقق نصر الله، فقد نصر عبده وأعز جنده {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} 8 السورة. والوعد بالنصر والتمكين بعد الإخبار بالعصمة من أدعى الدواعي لتثبيت القلب وتجدد العزم. تلكم بعض صور تثبيت قلب الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهي الحكمة الأولى من حكم نزول القرآن منجمًا متتبعًا مسار الدعوة وسيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ينزل عليه بين حين وآخر ما يثبت قلبه ويجدد عزمه. وقد أشار أبو شامة إلى هذه الحكمة من نزول القرآن منجمًا فقال: "إن الوحي إذا كان يتجدد في كل حادثة كان أقوى للقلب وأشد عناية بالمرسل إليه. ويستلزم ذلك كثرة نزول الملك عليه وتجديد العهد به وبما معه من الرسالة الواردة من ذلك الجناب العزيز فيحدث له من السرور ما تقصر عنه العبارة. ولهذا كان أجود ما يكون في رمضان لكثرة نزول جبريل عليه السلام عليه فيه"9.   1 سورة المجادلة: الآية 21. 2 سورة يوسف: الآية 21. 3 سورة المائدة: الآية 56. 4 سورة التوبة: الآية 40. 5 سورة غافر: الآية 51. 6 سورة الفتح: الآية 3. 7 سورة الروم: الآية 47. 8 سورة النصر: الآية 1. 9 المرشد الوجيز: أبو شامة، ص27، 28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 ثانيًا: تيسير حفظه وفهمه : من المعلوم أن الأمة التي بعث فيها الرسول -صلى الله عليه وسلم- كانت أمية، وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- أميًّا {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ} 1 وقال عن نبيه صلى الله عليه وسلم: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} 2 وقال جل جلاله: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ} 3. وليس من السهل على الأمي وعلى الأميين تلقي كتاب كامل دفعة واحدة بل الحكمة في التدرج في تنزيل القرآن والتدرج في تعليمهم إياه، فكان ينزل كما مر بنا خمس آيات خمس آيات أو سورة سورة. وهذا ما يناسب أحوالهم، ولو نزل عليهم جملة واحدة لشق عليهم حفظه وفهمه فضلًا عن العمل به، قال أبو شامة المقدسي -رحمه الله تعالى- في بيان هذه الحكمة: "وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- أميًّا لا يكتب ولا يقرأ ففرق عليه القرآن ليتيسر عليه حفظه، ولو نزل جملة لتعذر عليه حفظه في وقت واحد على ما أجرى الله تعالى به عوائد خلقه، والتوراة نزلت على موسى عليه السلام مكتوبة وكان كاتبها قارئًا وكذا كان غيره، والله أعلم". ثم أورد سؤالًا وأجاب عليه فقال: "فإن قلت: كان في القدرة إذ أنزله جملة أن يسهل عليه حفظه دفعة واحدة. قلت: ما كل ممكن في القدرة بلازم وقوعه، فقد كان في قدرته تعالى أن يعلمه الكتابة والقراءة في   1 سورة الجمعة: الآية 2. 2 سورة الأعراف: الآية 157. 3 سورة الأعراف: الآية 158. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 لحظة واحدة، وأن يلهمهم الإيمان به، ولكنه لم يفعل، ولا معترض عليه في حكمه {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} 1 {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} 2، 3.   1 سورة الأنعام: الآية 35. 2 سورة البقرة: الآية 253. 3 المرشد الوجيز: أبو شامة المقدسي، ص28، 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 ثالثًا: مسايرة الحوادث : فمن المعلوم أن عجلة الحياة تدور، والحوادث تتجدد، وتقع الوقائع، والمسلمون في معمعة هذه الأحداث ووسط هذه الوقائع بحاجة إلى من يرشدهم إلى الحق ويدلهم إلى الصواب. فكان في نزول القرآن الكريم منجمًا مسايرة لهذه الحوادث والوقائع وعلاجًا لما يطرأ في حياة المسلمين من قضايا ومشاكل، ولهذه الحوادث والوقائع صور متعددة نذكر منها1: 1- الإجابة على ما يطرأ من أسئلة: وهذه الأسئلة تقع من الكفار والمشركين للتثبت من رسالته وامتحانه أو لتجيزه بزعمهم، وتقع من المسلمين لغرض معرفة الحق والعمل به. وتكون هذه الأسئلة أيضًا عن أمور ماضية وأحداث سابقة أو حاضرة أو مستقبلة. فمن الأسئلة عن أمور ماضية ما روي أن اليهود اجتمعوا فقالوا لقريش حين سألوهم عن شأن محمد وحاله: سلوا محمدًا عن الروح، وعن فتية فقدوا في أول الزمان، وعن رجل بلغ مشرق الأرض ومغربها، فإن أجاب في ذلك كله فليس بنبي، وإن لم يجب في ذلك كله فليس بنبي، وإن أجاب   1 انظر مناهل العرفان: الزرقاني، ج1 ص51، 53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 في بعض ذلك وأمسك عن بعضه فهو نبي، فسألوه عنها، فأنزل الله تعالى في شأن الفتية: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} 1 إلى آخر القصة؛ وأنزل في الرجل الذي بلغ شرق الأرض وغربها: {وَيَسْأَلونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ} 2 إلى آخر القصة، وأنزل في الروح قوله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ} 3، 4. وقد تكون الأسئلة عن أمور حاضرة ومشاهدة كقوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} 5 وقوله سبحانه: {يَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} 6 وقوله سبحانه: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ} 7 وقوله سبحانه وتعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} 8 وقوله عز وجل: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} 9 وقوله تبارك وتعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} 10 وغير ذلك من الأسئلة. وقد تكون الأسئلة عن أمور مستقبلة كقوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ} 11 وقوله جل جلاله: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا} 12. وفي نزول القرآن منجمًا تتبع لتلك الأسئلة وما يجد منها والإجابة عنها في حينها.   1 سورة الكهف: الآية 9. 2 سورة الكهف: الآية 83. 3 سورة الإسراء: الآية 85. 4 أسباب النزول: الواحدي. تحقيق عصام الحميدان، ص292. 5 سورة البقرة: الآية 189. 6 سورة البقرة: الآية 215. 7 سورة البقرة: الآية 217. 8 سورة البقرة: الآية 219. 9 سورة البقرة: الآية 220. 10 سورة البقرة: الآية 222. 11 سورة الأعراف: الآية 187. 12 سورة طه: الآية 105. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 2- مجازاة الأقضية والوقائع في حينها ببيان حكم الله فيها عند حدوثها: وذلك أن الأقضية والأحداث لم تقع جملة واحدة وإنما حدثت متفرقة في أوقات مختلفة وأماكن متعددة، فالمناسب أن ينزل القرآن كذلك منجمًا مفرقًا في أوقات مختلفة وأماكن متعددة معالجًا لكل قضية في حينها فمن ذلك: أ- حادثة الإفك وهي الحادثة التي رمى فيها نفر من المنافقين -وتبعهم بعض المسلمين- عائشة رضي الله عنها بما برأها الله منه في القصة المشهورة، فأنزل الله قوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} 1 ... الآيات. ب- وقصة خولة بنت ثعلبة التي ظاهرَ منها زوجها أوس بن الصامت فشكت ذلك إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وقالت: يا رسول الله، أبلى شبابي، ونثرت له بطني، حتى إذا كبرت سني وانقطع ولدي؛ ظاهر مني، اللهم إني أشكو إليك، فما برحت حتى نزل جبريل عليه السلام بهذه الآيات: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} 2، 3. 3- تنبيه المسلمين إلى أخطائهم وإرشادهم إلى الصواب والكمال: وقد يقع ذلك من أحد أفراد الصحابة أو جماعة منهم أو من الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيرشده ربه إلى الأكمل والأتم لمقامه صلى الله عليه وسلم. فهذا ثابت بن قيس -رضي الله عنه- لما نزل قوله تعالى: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} 4 قال: أنا الذي كنت أرفع صوتي فوق صوت النبي وأنا من أهل النار، فذكر ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "هو من أهل الجنة" 5.   1 سورة النور: الآية 11. 2 سورة المجادلة: الآية 1. 3 رواه الحاكم في مستدركه ج2 ص481، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وانظر أسباب النزول: الواحدي ص408. 4 سورة الحجرات: الآية 2. 5 أسباب النزول: الواحدي ص386، وانظر صحيح البخاري، ج6 ص46، وصحيح مسلم ج1 ص110. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 ولما تزوج الرسول -صلى الله عليه وسلم- زينب بنت جحش دعا القوم فطعموا، ثم جلسوا يتحدثون، قال: فأخذ كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا، فلما رأى ذلك قام. فلما قام قام من قام من القوم ... فقعد ثلاثة وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- جاء ليدخل فإذا القوم جلوس ... 1 فنزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} 2. وقد يقع من الرسول -صلى الله عليه وسلم- ما يوجهه الله بعده إلى ما فيه الخير والكمال كما وقع من الرسول -صلى الله عليه وسلم- حين جاءه ابن أم مكتوم وهو يخاطب أحد عظماء المشركين، قالت عائشة -رضي الله عنها- فجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعرض عنه ويقبل على الآخر ويقول: أترى ما أقول بأسًا؟ فيقول: لا. ففي هذا أنزلت عبس وتولى3. 4- كشف حال المنافقين وهتك أستارهم حتى يحذرهم المسلمون ويأمنوا مكرهم وشرهم: وذلك أن ركب الدعوة جاد في سيره في مأمن من شر عدوه الظاهر، لكن الخطر يكمن فيمن يندس بين المسلمين يخالطهم ويخالطونه، ويسمع حديثهم، ويعلم أسرارهم، ويكيد لهم وهم يحسبونه منهم، فاقتضت حكمة الله تعالى أن يكون في نزول القرآن منجمًا كشف لهؤلاء المنافقين وهتك لأستارهم وتشنيع عليهم. فإذا نطق أحدهم قولًا مناوئًا للرسول -صلى الله عليه وسلم- نزل فيه القرآن وكشف نفاقه حتى يحذره المسلمون ويرتدع.   1 صحيح مسلم، ج2 ص1050. 2 سورة الأحزاب: الآية 53. 3 المستدرك: الحاكم، ج2 ص514، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 والآيات في هذا الموضوع كثيرة، ففي أول سورة البقرة ثلاث عشرة آية متتالية في المنافقين. وسورة التوبة تسمى "الفاضحة" كما روى سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: سورة التوبة. قال: التوبة هي الفاضحة، ما زالت تنزل: ومنهم ومنهم حتى ظنوا أنها لم تبق أحدًا منهم إلا ذكر فيها1. ويريد ابن عباس -رضي الله عنهما- بقوله: "ومنهم منهم" الآيات الكثيرة في سورة التوبة التي تحدثت عن المنافقين كقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} 2 وقوله سبحانه: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} 3 وقوله تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ} 4 وقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ} 5 وغير ذلك.. بل أنزل الله في المنافقين سورة كاملة سماها باسمهم سورة "المنافقون". وفي نزول القرآن منجمًا تتبع لهذه الحالات في المجتمع الإسلامي وتنقية لطريق الدعوة. 5- رد شبهات أهل الكتاب وإبطال كيدهم للإسلام والمسلمين: فقد كان المسلمون يعيشون في المدينة ويخالطهم اليهود وهم أهل كيد ومكر وخبث وحقد على الإسلام والمسلمين، بذلوا كل ما يستطيعون لبث الفرقة بين المسلمين وبث الشبهات والشكوك في عقائد الإسلام، فكان   1 صحيح البخاري، ج6 ص58، ومسلم ج4 ص2322. 2 سورة التوبة: الآية 49. 3 سورة التوبة: الآية 58. 4 سورة التوبة: الآية 61. 5 سورة التوبة: الآية 75. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 في نزول القرآن منجمًا تتبع لخططهم وكشف لمآربهم ومحق لشبهاتهم والآيات في هذا المعنى كثيرة كقوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} 1 وحذر المسلمين منهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} 2 {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} 3 {وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} 4 {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} 5 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} 6 {هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ} وغير ذلك من الآيات..   1 سورة آل عمران: الآية 99. 2 سورة آل عمران: الآية 100. 3 سورة آل عمران: الآية 72. 4 سورة آل عمران: الآية 69. 5 سورة البقرة: الآية 105. 6 سورة آل عمران: الآية 118. 7 سورة آل عمران: الآية 119. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 رابعًا: التدرج في التشريع وتربية الأمة : لو تدبر الإنسان في نفسه لوجد أنه في كل شأن من شئونه يبدأ من الأدنى إلى الأعلى بالتدرج؛ فحين يولد أول ما يولد لا يستطيع أن يتحكم بحركات يديه ولا رجليه ثم يبدأ التحكم باليدين، وهكذا إلى أن يبدأ بالقدرة على الجلوس ثم القيام ثم السير ثم الجري والقفز، وفي الأكل شرابه أول ما يشرب حليب أمه الخفيف ثم تزداد كثافته ويرتقي بالأكل من السوائل إلى اللحوم وغيرها. وفي نطقه يولد لا يحسن غير البكاء ثم التبسم ثم الصوت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 غير المركب وهكذا إلى أن يصبح متكلمًا وهكذا في التعلم وفي كل شأن من شئونه. والمجتمعات في رقيها تشبه إلى حد كبير حالة الأفراد ليس من السهل تحولها من حال إلى حال دون تدرج. وقد اقتضت حكمة الله تعالى مراعاة حال الأمة في قدرتها وطاقتها فجاءت الأحكام والتشريعات متدرجة حسب طاقة الأمة وما تقتضيه الحكمة الإلهية، فجاء نزول القرآن الكريم منجمًا مطابقًا تمام المطابقة لما فيه الحكمة. وأخبرت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- عن هذا حين قالت: "إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا لا ندع الخمر أبدا، ولو نزل لا تزنوا لقالوا لا ندع الزنا أبدا"1. فبدأ أولًا بتنقيتهم من أدران الشرك بنبذ الأوثان والأصنام وبيان أنها لا تضر ولا تنفع، ثم غرس في قلوبهم العقيدة الصحيحة وهي توحيد الله وإفراده بالعبادة. ثم تدرج في فرض العبادات فبدأ بأصلها وعمودها وهي الصلاة التي شرعت في وقت مبكر ثم الزكاة والصيام ثم الحج، ونزل بعد ذلك مزيد تفصيل لهذه العبادات وغيرها من أنواع العبادة. ولم يزل يتدرج بهم في معالي الأمور وسامي الآداب والأخلاق حتى أصبحت هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس وحتى أصبح هذا القرن من أصحابه خير القرون.   1 صحيح البخاري: ج6 ص101. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 خامسًا: استمرار التحدي والإعجاز : وتجدد ثبوت الإعجاز عند تجدد عجزهم عن الإتيان بمثل كل آية تنزل على مر الأيام والسنون مدة نزول القرآن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 وذلك أن تكرر نزول القرآن مرات عديدة في أماكن مختلفة وأزمان متغايرة ومتباعدة مدة نزول القرآن وفي كل مرة يتحداهم أن يأتوا بمثله، فهذا دليل على تكرر الإعجاز واستمرار التحدي، ولو نزل القرآن جملة واحدة وتحداهم به عند النزول لكان التحدي وقع مرة واحدة والإعجاز كذلك. فكان في تنجيم نزوله وتكرره استمرار للتحدي وتكرار للإعجاز. ولا شك أن الذي يستطيع تكرار عمل ما يعجز عنه الناس أقوى إعجاز ممن يفعله مرة واحدة لا يعيدها أخرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 سادسًا : الدلالة على مصدر القرآن، وأنه من الله تعالى وليس في قدرة البشر: وقد أوضح الشيخ الزرقاني -رحمه الله تعالى- هذه الحكمة فقال: وبيان ذلك: أن القرآن تقرؤه من أوله إلى آخره، فإذا هو محكم السرد، دقيق السبك، متين الأسلوب، قوي الاتصال، آخذ بعضه برقاب بعض في سورة وآياته وجمله، يجري دم الإعجاز فيه من ألفه إلى يائه كأنه سبيكة واحدة، ولا يكاد يوجد بين أجزائه تفكك، ولا تخاذل، كأنه حلقة مفرغة، أو كأنه سمط وحيد، وعقد فريد، يأخذ بالإبصار، نظمت حروفه وكلماته، ونسقت جمله وآياته، وجاء آخره مساوقًا لأوله، وبدا أوله مواتيًا لآخره. وهنا نتساءل: كيف اتسق للقرآن هذا التآليف المعجز؟ وكيف استقام له هذا التناسق المدهش؟ على حين أنه لم ينزل جملة واحدة، بل تنزل آحادًا مفرقة، تفرق الوقائع والحوادث في أكثر من عشرين سنة. الجواب: أننا نلمح هنا سرًّا جديدًا من أسرار الإعجاز، ونشهد سمة فذة من سمات الربوبية، ونقرأ دليلًا ساطعًا على مصدر القرآن وأنه كلام الواحد الديان: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} 1، 2.   1 سورة النساء: الآية 82. 2 مناهل العرفان: الزرقاني: ج1 ص53، 54. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 وبين الأستاذ حيدر قفة هذا الوجه من الإعجاز فقال: "إن القرآن نزل منجمًا مفرقًا في ثلاث وعشرين سنة تقريبًا، وهذه مدة طويلة يعجز أي أديب أو كاتب أو بليغ أن يحتفظ بأسلوبه وبيانه، وخصائصه البلاغية فلا بد أن نجد في أسلوبه اختلافًا ولو للأحسن والأرقى، مما يظهر الضعف والركاكة والإسفاف في بداية الأمر، والجزالة وحسن السبك في نهايته. فهل وجدوا ذلك في القرآن؟ حاشا لله وصدق الله العظيم: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} 1، 2. ويتحدث الشيخ الزرقاني عن الانفصال الزماني واختلاف أسباب النزول لآيات القرآن اللذين يستلزمان في مجرى العادة التفكك والانحلال، ولا يدعان مجالًا للارتباط والاتصال بين نجوم الكلام أما القرآن الكريم فقد خرق العادة في هذه الناحية أيضًا، فقد نزل منجمًا ولكنه تم مترابطًا محكمًا ثم قال: "أليس ذلك برهانًا ساطعًا على أنه كلام خالق القوى والقدر، ومالك الأسباب والمسببات، ومدبر الخلق والكائنات، وقيوم الأرض والسموات، العليم بما كان وما سيكون، الخبير بالزمان وما يحدث فيه من شئون. ثم قال: "لاحظ فوق ما أسلفنا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا نزلت عليه آية أو آيات قال: ضعوها في مكان كذا من سورة كذا، وهو بشر لا يدري "طبعًا" ما ستجيء به الأيام، ولا يعلم ما سيكون في مستقبل الزمان ولا يدرك ما سيحدث من الدواعي والأحداث فضلًا عما سينزل من الله فيها، وهكذا يمضي العمر الطويل والرسول على هذا العهد، يأتيه الوحي بالقرآن نجمًا بعد نجم، وإذا القرآن كله بعد هذا العمر الطويل يكمل ويتم، وينتظم ويتآخى، ويأتلف ويلتئم، ولا يؤخذ عليه أدنى تخاذل ولا تفاوت، بل   1 سورة النساء: الآية 82. 2 مع القرآن الكريم: حيدر قفة. ص55. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 يعجز الخلق طرًّا بما فيه من انسجام ووحدة وترابط: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} 1، 2.   1 سورة هود: الآية 1. 2 مناهل العرفان: الزرقاني ج1 ص54 ت55. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 الاستفادة من نزول القرآن الكريم منجما في مجال التربية والتعليم مدخل ... الاستفادة من نزول القرآن الكريم منجمًا في مجال التربية والتعليم: ينبغي أن يستفاد في العملية التعليمية في منهج القرآن الكريم في تربية هذه الأمة وتهذيب أخلاقها وتصحيح معتقداتها وتحويلها من أمة الجهل والجاهلية إلى أمة الكتاب والقلم. فقد كان الناس في غاية من الجهل والانحطاط في كثير1 من شئون حياتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية فأنزل الله عليهم القرآن ولم يزل يرتقي بهم في سامي المبادئ وعالي الأخلاق، حتى أصبحوا في أعلى الدرجات بل صاروا خير أمة أخرجت للناس بعدما كانوا ما كانوا. وسلك القرآن الكريم في ذلك منهجًا فريدًا، ومسلكًا حميدًا فبدأ بتصحيح العقيدة وغرس المبادئ الصحيحة، ثم تدرج في أحكام العبادات حتى تمامها وكمالها. وفي التربية والتعليم ينبغي الاستفادة من هذا المنهج الحكيم، فمن المعلوم أن العملية التربوية تقوم على أمرين أساسيين2:   1 نعم كان عندهم بعض العادات الحميدة والأخلاق الفاضلة لكنها تضمحل في صور الجاهلية. 2 انظر مباحث في علوم القرآن: مناع القطان ص116، 117. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 الأول: معرفة المستوى الذهني للطلاب : فلا بد قبل التعليم من معرفة المستوى الذهني لديهم حيث يكون نقطة الانطلاق بهم، وإعطائهم ما يتناسب مع قدراتهم الذهنية وطاقاتهم الفكرية. فإنهم إن أعطوا أقل من مستواهم الذهني ملوه وهجروه وإن أعطوا ما هو فوق مستوى إدراكهم وفهمهم عجزوا عنه ونفروا منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 الثاني: تنمية قدراتهم : أ- الذهنية. ب- النفسية. ج- الجسمية. فإذا عرف مستواهم الذهني وما يناسبهم من المادة العلمية بدأ التدرج في تلقينهم وتعليمهم ما يراد تعليمه مراعيًا النواحي الذهنية والجسمية والنفسية. فالمنهج الدراسي الذي يوضع من غير معرفة للمستوى الذهني للطلاب، ثم تنمية مداركهم العامة ببناء الجزئيات على الكليات والتفصيل بعد الإجمال؛ منهج فاشل. والكتاب المدرسي الذي لا يبنى على معرفة دقيقة لمستوى الطلاب الذهني وما سبق لهم من مادة علمية وما يحتاجون إليه بعدها وتتدرج المعلومات فيه من السهل إلى الصعب مع وضوح في الأسلوب، وبساطة في العبارة بعيدة عن التعقيد والغموض في الألفاظ؛ كتاب لا يرجى نفعه. والمدرس وهو العمود الأساس في العملية التعليمية إذا لم يدرك هذين الأمرين الأساسيين في العملية التعليمية إدراكًا تامًّا، فيعرف مستوى طلابه الذهني ويضع ما يمدهم به من معلومات على قواعد وأسس المعلومات السابقة، فإن بناءه سينهار ويسقط. فعلى المعلم أن يدرك تمامًا المستوى الذهني لطلابه ويمدهم بما يلائم قدراتهم الذهنية. ويخطئ من يعتقد أن مهمته التلقين أو حشو أذهانهم بالمادة العلمية فحسب، بل عليه أن يراعي مع الناحية العلمية أيضًا الناحيتين الجسمية والنفسية، فلا يستمر في شرح الدرس مثلا والطلاب في حالة رعب أو فزع لأمر ما، أو حين يرى أحد طلابه في حالة نفسية تستدعي تدخله وعلاجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 المعلم الناجح يراعي الناحية الجسمية للطلاب فيكتشف حالات من في بصره أو سمعه ضعف، فيلتمس علاجه الطبي والفصلي بتقديمه إلى الصفوف الأولى وزيادة والاهتمام بما يناسب حاله ولا يؤثر على الآخر. المعلم الناجح يوازن بين الترغيب والترهيب فلا يقسو قسوة تنفر منه الطلاب، ولا يضعف حتى يصبح ألعوبة بين طلابه وتسقط هيبته واحترامه. المعلم الناجح هو الذي يعرف كيف يعطي طلابه القدر المناسب من الواجبات المدرسية فلا يثقل كاهلهم بأدائها، ولا يشغل بقية نهارهم وليلهم في الحفظ أو الكتابة فهم بحاجة إلى الراحة. المعلم الناجح هو الذي يستطيع المزج بين نظرة الأب لأبنائه ونظرة المعلم لطلابه فيتفقد شئونهم ويلاطفهم ويعالج مشاكلهم فيشعرهم بعطفه ويظهر لهم محبته ويريهم حرصه على مصلحته. ولنا في منهج القرآن الكريم في تربية الأمة والتدرج بها بلطف، ورحمة، وحكمة، أسوة حسنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 أول ما نزل وآخر ما نزل مدخل ... أول ما نزل وآخر ما نزل: منذ أن نزل أول شعاع من نور القرآن الكريم والمسلمون يولونه عنايتهم واهتمامهم إلى يومنا هذا، بل إلى يوم الدين، حتى بلغت عنايتهم أن عرفوا ما نزل بمكة وما نزل بالمدينة وما نزل بالطائف وما نزل بالجحفة وما نزل ببيت المقدس وما نزل بالحديبية، وما نزل في الليل وما نزل بالنهار وما نزل في الصيف وما نزل في الشتاء، وما نزل في السفر وما نزل في الحضر، ومن ذلك معرفة أول ما نزل وآخر ما نزل. ومعرفة ذلك علم توقيفي يعتمد على النقل عن الصحابة أو التابعين ولا مجال للاجتهاد فيه إلا للترجيح بين الأدلة والنقول. ويرجع الاختلاف في معرفة أول ما نزل ومعرفة آخر ما نزل إلى أن صاحب كل قول يخبر عن حد علمه أو عما بلغه من الدليل، أو أنه أراد أولية مخصوصة ففهمت على غير ما أراد ونحو ذلك. وبحث العلماء أول وآخر ما نزل من القرآن على الإطلاق، وأول وآخر ما نزل في معاني خاصة كأول وآخر ما نزل في الأطعمة وأول وآخر ما نزل في الأشربة، وأول وآخر ما نزل في الخمر، وأول وآخر ما نزل في القتال، وأول وآخر ما نزل في الربا، وأول وآخر سورة نزلت كاملة وغير ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 أقوال العلماء في أول ما نزل من القرآن على الإطلاق مدخل ... أقوال العلماء في أول ما نزل من القرآن على الإطلاق: للعلماء في ذلك أقوال كثيرة منها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 القول الأول : إن أول ما نزل من القرآن "صدر سورة اقرأ"، وهو قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} 1 وهذا القول أصح الأقوال وأرجحها، ومن أدلته: 1- ما رواه البخاري ومسلم عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه -وهو التعبد- الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق، وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال له: اقرأ، قال: "ما أنا بقارئ "، قال: "فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجَهد، ثم أرسلني "، فقال: اقرأ، "قلت: ما أنا بقارئ"، فأخذني فغطي الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني " فقال: اقرأ، " فقلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} 1، فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده ... الحديث2. 2- ما رواه الحاكم والبيهقي عن عائشة رضي الله عنها قالت: أول سورة نزلت من القرآن {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} 3. 3- ما رواه الحاكم والطبراني عن أبي رجاء العطاردي قال: كان أبو موسى الأشعري يقرئنا فيجلسنا حلقًا وعليه ثوبان أبيضان، فإذا تلا هذه السورة   1 سورة العلق: الآيات 1- 5. 2 صحيح البخاري ج1 ص3، ومسلم ج1 ص141 واللفظ للبخاري. 3 المستدرك: الحاكم ج2 ص220، 221، ص529، والبيهقي في دلائل النبوة: ج2 ص155 وقال: هذا إسناد صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} . قال: هذه أول سورة نزلت على محمد صلى الله عليه وسلم1. 4- ما رواه أبو عبيد في فضائل القرآن عن مجاهد قال: إن أول ما نزل من القرآن: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} و {نْ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} 2.   1 المستدرك: الحاكم ج2 ص220 وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وقال السيوطي في الإتقان ج1 ص31: "أخرجه الطبراني في الكبير بسند على شرط الصحيح". 2 الإتقان: السيوطي ج1 ص31، فضائل القرآن لأبي عبيد 2: 199 رقم 810. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 القول الثاني : أول ما نزل سورة المدثر: ودليل هذا القول الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أنه قال: سألت جابر بن عبد الله: أي القرآن أنزل قبل؟ قال: يا أيها المدثر، فقلت: أو اقرأ. قال: جابر أحدثكم ما حدثنا به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "جاورت بحراء شهرًا، فلما قضيت جواري، نزلت فاستبطنت بطن الوادي، فنوديت، فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني وعن شمالي فلم أر أحدًا ثم نوديت. فنظرت فلم أر أحدًا ثم نوديت فرفعت رأسي فإذا هو على العرش في الهواء "يعني: جبريل عليه السلام " فأخذتني رجفة شديدة، فأتيت خديجة فقلت: دثروني، فدثروني، فصبوا عليّ الماء، فأنزل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ، وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ، وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} 1، 2. وأجيب عن هذا الحديث: 1- أن المراد بالأولية في هذا الحديث محمول على أولية مخصوصة وليست أولية مطلقة3 فيحتمل: أ- أن المراد أول سورة نزلت بعد فترة الوحي، ويشهد لهذا قول جابر في رواية أخرى "سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم وهو يحدث عن فترة الوحي ... الحديث"4.   1 سورة المدثر: الآيات 1- 4. 2 رواه البخاري ج6 ص75، ومسلم ج1 ص144 واللفظ له. 3 فتح الباري: ابن حجر ج8 ص546. 4 رواه البخاري ج6 ص75. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 ب- أن أول ما نزل للنبوة سورة اقرأ وللرسالة سورة المدثر. ج- أن المدثر أول سورة كمل نزولها أي أن باقيها نزل قبل نزول بقية سورة اقرأ وغيرها. د- أن سورة المدثر أول سورة تنزل لسبب خاص؛ حيث إن الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: "دثروني دثروني " فنزلت، أما سورة اقرأ فلغير سبب خاص بل نزلت ابتداء1. قال ابن حجر: "ولا يخفى بُعْدُ هذا الاحتمال"2. 2- أن جابر -رضي الله عنه- استنبط هذا الرأي باجتهاده وفهمه وليس بنص ما رواه عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- فتقدم عليه رواية عائشة -رضي الله عنها- قال الكرماني: استخرج جابر "أول ما نزل: يأيها المدثر" باجتهاد وليس هو من روايته، والصحيح ما وقع في حديث عائشة3. ويشهد لهذا أن جابر -رضي الله عنه- أخبر عما سمع، ولم يسمع كل ما حدث به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل فترة الوحي الذي روته عائشة، فاقتصر على ما سمع ظانًّا أنه ليس هناك غيره. 3- أن في حديث جابر رضي الله عنه ما يدل على أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- رأى جبريل قبل ذلك، حيث جاء في حديث جابر رضي الله عنه: "فإذا هو على العرش" وإشارته إليه بالضمير تدل على أنه سبق ذكره وفي رواية أصرح "فإذا الملك الذي جاءني بحراء..". ولهذا فإن هذا الدليل غير كاف لإثبات أولية النزول لسورة المدثر، بل وصف النووي رحمه الله تعالى القول بأن أول ما نزل سورة المدثر بأنه "ضعيف بل باطل، والصواب أن أول ما نزل على الإطلاق: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} كما صرح به في حديث عائشة"4.   1 انظر الإتقان: السيوطي ج1 ص32. 2، 3 فتح الباري: ابن حجر ج8 ص546. 4 شرح صحيح مسلم: النووي ج2 ص207. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 القول الثالث : إن أول ما نزل سورة الفاتحة. واستدل أصحاب هذا القول بـ: 1- ما رواه البيهقي عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لخديجة: "إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء، وقد والله خشيت أن يكون هذا أمرًا" فقالت: "معاذ الله ما كان الله ليفعل بك، فوالله إنك لتؤدي الأمانة، وتصل الرحم، وتصدق الحديث، فلما دخل أبو بكر ... " الحديث، وفيه أن خديجة قالت لأبي بكر: اذهب مع محمد إلى ورقة فانطلقا إليه فقصا عليه، فقال: "إذا خلوت وحدي سمعت نداء خلفي يا محمد يا محمد فأنطلق هاربًا في الأرض"، فقال: لا تفعل، فإذا أتاك فاثبت حتى تسمع ما يقول، ثم ائتني فأخبرني، فلما خلا ناداه: يا محمد، قل بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين حتى بلغ ولا الضالين" الحديث1. وقد زعم الزمخشري أن "أكثر المفسرين على أن الفاتحة أول ما نزل ثم سورة القلم"2 ورد عليه ابن حجر: "والذي ذهب إليه أكثر الأئمة هو الأول، وأما الذي نسبه إلى الأكثر فلم يقل به إلا عدد أقل من القليل بالنسبة إلى من قال بالأول"3 ويعني بالأول صدر سورة اقرأ. ويرد على أصحاب هذا القول بردود منها: أ- أن هذا الحديث لا يدل على أن الفاتحة كانت أول ما نزل بل فيه دلالة على أن جبريل خاطب الرسول -صلى الله عليه وسلم- غير مرة وليس فيه نفي بنزول شيء من القرآن في بعضها، فلا يصح الاستدلال بهذا على الأولية. ب- أن الحديث مرسل فلا يقوى على مناهضة حديث عائشة المرفوع   1 دلائل النبوة: البيهقي ج2 ص157، 158. 2 تفسير الكشاف: الزمخشري ج4 ص223. 3 الإتقان: السيوطي ج1 ص32، فتح الباري 8: 714. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 وقد عقب البيهقي على هذا الحديث بقوله: "فهذا منقطع، فإن كان محفوظًا فيحتمل أن يكون خبرًا عن نزولها بعد ما نزلت عليه: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} و {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} والله أعلم"1. وأورد ابن كثير حديث البيهقي ثم عقب عليه بقوله: "هذا لفظ البيهقي وهو مرسل، وفيه غرابة وهو كون الفاتحة أول ما نزل"2. وقال الإمام النووي رحمه الله تعالى: "وأما قول من قال من المفسرين أول ما نزل الفاتحة فبطلانه أظهر من أن يذكر والله أعلم"3.   1 دلائل النبوة: البيهقي ج2 ص159. 2 البداية والنهاية: ابن كثير ج3 ص10. 3 شرح صحيح مسلم: النووي ج2 ص208. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 القول الرابع : إن أول ما نزل "بسم الله الرحمن الرحيم". ولأصحاب هذا القول أدلة منها: 1- حديث أبي ميسرة السابق وقلنا: إنه حديث مرسل لا يقوى على مناهضة المرفوع. 2- ما أخرجه الواحدي عن عكرمة والحسن قالا: أول ما نزل من القرآن بسم الله الرحمن الرحيم، فهو أول ما نزل من القرآن بمكة وأول سورة اقرأ باسم ربك1 وهو أيضًا حديث مرسل لا يقوى على مناهضة حديث عائشة المرفوع. 3- ما أخرجه ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى عن الضحاك عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: أول ما نزل جبريل على محمد. قال: "يا محمد استعذ، قل: أستعيذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم" ثم قال: "قل": بسم الله الرحمن الرحيم" ثم قال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} " قال   1 أسباب نزول القرآن: الواحدي ص8 تحقيق السيد أحمد صقر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 عبد الله: وهي أول سورة أنزلها الله على محمد بلسان جبريل"1 قال ابن كثير: "وهذا الأثر غريب، وإنما ذكرناه ليعرف، فإن في إسناده ضعفًا وانقطاعًا"2. "قلت" ومع ضعفه وانقطاعه فهو حجة عليهم لا لهم؛ إذ إن ابن عباس رضي الله عنهما صرح فيه بأولية نزول اقرأ ولم يعتد بأولية ذكر البسملة. ثم إن البسملة فاتحة لكل سورة تنزل فلا يعتد بأوليتها أولية مطلقة. وبهذا كله يظهر بطلان هذا القول. وقد جمع القاضي أبو بكر في الانتصار -كما نقله عنه الزركشي- بين هذه الأقوال فقال: وطريق الجمع بين الأقاويل أن أول ما نزل من الآيات {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} وأول ما نزل من أوامر التبليغ {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} وأول ما نزل من السور سورة الفاتحة3.   1 تفسير الطبري: ج1 ص113. 2 تفسير ابن كثير: ج1 ص16. 3 البرهان: الزركشي ج1 ص207، 208. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 أقوال العلماء في آخر ما نزل من القرآن الكريم : اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في آخر ما نزل من القرآن. قال البيهقي رحمه الله تعالى في بيان سبب هذا الاختلاف: "قلت: هذا الاختلاف يرجع -والله أعلم- إلى أن كل واحد منهم أخبر بما عنده من العلم، أو أراد أن ما ذكر من أواخر الآيات التي نزلت، والله أعلم"1. وقال القاضي أبو بكر: "هذه الأقوال ليس فيها شيء مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكل قاله بضرب من الاجتهاد، وغلبة الظن، ويحتمل أن كلًّا   1 دلائل النبوة: البيهقي ج7 ص139. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 منهم أخبر عن آخر ما سمعه من النبي -صلى الله عليه وسلم- في اليوم الذي مات فيه، أو قبل مرضه بقليل، وغيره سمع منه بعد ذلك، وإن لم يسمعه هو، ويحتمل أيضًا أن تنزل هذه الآية التي هي آخر آية تلاها الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع آيات نزلت معها فيؤمر برسم ما نزل معها بعد رسم تلك فيظن أنه آخر ما نزل في الترتيب"1.   1 الإتقان: السيوطي ج1 ص37. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 وللعلماء في آخر ما نزل من القرآن الكريم كله أقوال منها : القول الأول : روي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وابن عباس -رضي الله عنهما- أن آخر ما نزل آية الربا وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 1 ومن الأدلة على ذلك: 1- ما رواه البخاري رحمه الله تعالى في باب: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "آخر آية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم آية الربا"2. 2- ما رواه الإمام أحمد في مسنده وابن ماجه والبيهقي عن سعيد بن المسيب قال: قال عمر رضي الله عنه: "إن آخر ما نزل من القرآن آية الربا وأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبض ولم يفسرها فدعوا الربا والريبة"3 وفي لفظ آخر "إن من آخر ما أنزل آية الربا.."4.   1 سورة البقرة: الآية 278. 2 صحيح البخاري: ج5 ص164، 165. 3 مسند الإمام أحمد: ج1 ص36، سنن ابن ماجه ج2 39، دلائل النبوة: البيهقي ج7 ص138، وقال الأستاذ محمود شاكر: "وهذا الحديث على جلالة رواته وثقتهم، ضعيف الإسناد لانقطاعه؛ فإن سعيد بن المسيب لم يسمعه من عمر. تفسير الطبري ج6 ص38" الهامش. 4 مسند الإمام أحمد ج1 ص49، 50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 3- ما رواه ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: خطبنا عمر فقال: إن من آخر القرآن نزولًا آية الربا"1. 4- ما أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن عن ابن شهاب الزهري قال: آخر القرآن عهدًا بالعرش آية الربا وآية الدين"2.   1 الإتقان: السيوطي ج1 ص35، وقال الأستاذ محمود شاكر: "إسناده صحيح" تفسير الطبري ج6 ص39. 2 الإتقان: السيوطي ج1 ص36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 القول الثاني : إن آخر ما نزل قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} الآية1 واستدل أصحاب هذا القول بأدلة منها: 1- ما رواه النسائي2 والبيهقي3 من طريق عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: آخر شيء نزل من القرآن: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} الآية ورواه الطبري بلفظ: آخر آية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} 4. 2- ما أخرجه ابن مردويه5 من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس: آخر آية نزلت من القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} . 3- ما أخرجه ابن جرير الطبري عن الضحاك وعن ابن جريج كلاهما عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: آخر آية نزلت من القرآن: {وَاتَّقُوا يَوْمًا}   1 سورة البقرة: الآية 281. 2 تفسير ابن كثير ج1 ص357، وقال الأستاذ محمود شاكر: "يريد بها السنن الكبرى"، تفسير الطبري ج6 ص40 "الهامش". 3 دلائل النبوة: البيهقي ج7 ص137. 4 تفسير الطبري: ج6 ص40، وقال شاكر: وهذا إسناد صحيح. 5 الدر المنثور: ج1 ص370، والإتقان: ج1 ص36، وابن كثير ج1 ص357. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 الآية قال ابن جريج: يقولون: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- مكث تسع ليال وبدئ يوم السبت ومات يوم الاثنين1. 4- ما أخرجه ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير رحمه الله تعالى قال: آخر ما أنزل من القرآن كله: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} الآية. وعاش النبي -صلى عليه وسلم- بعد نزول الآية تسع ليال ثم مات يوم الاثنين لليلتين خلتا من ربيع الأول2. 5- ما أخرجه الطبري عن عطية العوفي قال: آخر آية نزلت: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} الآية3. 6- ما أخرجه ابن جرير الطبري عن السدي الكبير قال: آخر آية نزلت {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} 4.   1 تفسير الطبري: ج6 ص41، ومعنى "بدئ" يعني مرض. 2 الدر المنثور: ج1 ص370، والإتقان: ج1 ص36. 3 تفسير الطبري ج6 ص40، 41، وفي سنده سهل بن عامر قال الأستاذ محمود شاكر: ضعيف جدًّا ج6 ص41 "الهامش". 4 تفسير الطبري ج6 ص41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 القول الثالث : إن آخر ما نزل من القرآن آية الدين وهي أطول آية في القرآن الكريم وأولها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ ... } الآية1 واستدل أصحاب هذا القول بما يلي: 1- ما أخرجه أبو عبيدة في الفضائل عن ابن شهاب قال: آخر القرآن عهدًا بالعرش آية الربا وآية الدين2. 2- ما أخرجه ابن جرير الطبري عن ابن شهاب قال: حدثني سعيد بن المسيب: أنه بلغه أن أحدث القرآن عهدًا بالعرش آية الدين3.   1 سورة البقرة: الآية 282. 2 الإتقان: السيوطي ج1 ص36. 3 تفسير الطبري ج2 ص41، وقال الأستاذ محمود شاكر: "هذا إسناد صحيح إلى ابن المسيب ولكنه حديث ضعيف لإرساله إذ لم يذكر ابن المسيب من حدثه به" ا. هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 الجمع بين هذه الأقوال الثلاثة: ومن ينظر إلى هذه الأقوال الثلاثة ويتدبرها يجد أنها بمثابة قول واحد؛ ذلك: 1- أن هذه الآيات آيات متتابعة في سورة البقرة من الآية 278 إلى الآية 282 فالقول فيها بمثابة قول واحد فكل راو يذكر بعض آخر ما نزل. 2- أن ابن عباس -رضي الله عنهما- روى عنه القول بأن آخر ما نزل آية {وَاتَّقُوا يَوْمًا} وروي عنه القول بأن آخر ما نزل آية الربا. والجمع بين القولين أولى من إبطال أحدهما. 3- أن البخاري -رحمه الله تعالى- أورد بدقته وثاقب نظره قول ابن عباس آخر آية نزلت على النبي -صلى الله عليه وسلم- آية الربا "في باب قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} فجعل بهذه الإشارة الموضوع واحدا والروايتين متحدتين غير متعارضتين رحمه الله1. ولهذا قال ابن حجر: "وطريق الجمع بين هذين القولين أن هذه الآية يعني: {وَاتَّقُوا يَوْمًا} هي ختام الآيات المنزلة في الربا إذ هي معطوفة عليهن"2. وقد جمع بينهما السيوطي فقال: "قلت: ولا منافاة عندي بين هذه الروايات في آية الربا -واتقوا يومًا- وآية الدين - لأن الظاهر أنها نزلت دفعة واحدة كترتيبها في المصحف، ولأنها في قصة واحدة، فأخبر كل عن بعض ما نزل بأنه آخر وذلك صحيح"3. وبهذا يظهر أن هذه الأقوال الثلاثة قول واحد وهو القول الصحيح.   1 قاله الأستاذ أحمد شاكر، تفسير الطبري ج6 ص40 "الهامش". 2 فتح الباري: ابن حجر ج8 ص53. 3 الإتقان: السيوطي ج1 ص36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 القول الرابع : أن آخر ما نزل قوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} الآية1. واستدل أصحاب هذا القول بما رواه البخاري عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: آخر سورة نزلت براءة، وآخر آية نزلت يستفتونك2. ولمسلم عن البراء "آخر آية أنزلت آية الكلالة وآخر سورة أنزلت براءة" وفي لفظ آخر سورة أنزلت كاملة3. ويجاب عن هذا بحمل المراد على أنه آخر ما نزل في المواريث وليس آخر ما نزل من القرآن على الإطلاق فهي آخرية مقيدة لا مطلقة. وجمع ابن حجر -رحمه الله تعالى- بين هذا القول والقول بأن آخر ما نزل آية الربا وآية {وَاتَّقُوا يَوْمًا} .. الآية بأن الآيتين نزلتا جميعًا فيصدق أن كلا منهما آخر بالنسبة لما عداها ويحتمل أن تكون الآخرية في آية النساء مقيدة بما يتعلق بالمواريث مثلا بخلاف آية البقرة، ويحتمل عكسه والأول أرجح لما في آية البقرة من الإشارة إلى معنى الوفاة المستلزمة لخاتمة النزول4.   1 سورة النساء: الآية 176. 2 صحيح البخاري: ج8 ص53. 3 صحيح مسلم ج3 ص1236، 1237. 4 فتح الباري: ابن حجر ج8 ص53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 القول الخامس : إن آخر ما نزل قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} 1. واستدلوا بما رواه البخاري ومسلم -رحمهما الله تعالى- عن   1 سورة النساء: الآية 93. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 سعيد بن جبير قال: آية اختلف فيها أهل الكوفة، فرحلت فيها إلى ابن عباس فسألته عنها، فقال: نزلت هذه الآية {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} هي آخر ما نزل وما نسخها شيء1. "قلت": ويحمل قول ابن عباس رضي الله عنهما على أنه أراد بالآخرية آخر ما نزل في قتل النفس، ويشهد لهذا المعنى قوله في الحديث "وما نسخها شيء"، كما يشهد له الحديث الذي رواه مسلم عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: ألمن قتل مؤمنًا متعمدًا من توبة؟ قال: لا. قال: فتلوت عليه هذه الآية التي في الفرقان {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} إلى آخر الآية2. قال: هذه آية مكية نسختها آية مدنية: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} 3. "قلت": فقوله عنها: إنها آخر ما نزل، يعني في هذا المعنى والله أعلم، وقد أشكل هذا القول على السيوطي رحمه الله تعالى فعد هذا القول من غريب ما ورد4.   1 صحيح البخاري: ج5 ص182 واللفظ له، ورواه مسلم ج4 ص2317. 2 سورة الفرقان: الآية 68. 3 صحيح مسلم: ج4 ص2318. 4 الإتقان: السيوطي ج1 ص37. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 القول السادس : إن آخر ما نزل الآيتان الأخيرتان من سورة التوبة: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ رَحِيمٌ، فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} 1 ويشهد لهذا القول: 1- ما رواه الحاكم في المستدرك عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال:   1 سورة التوبة: الآيتين 128، 129. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 آخر ما نزل من القرآن: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ رَحِيمٌ} 1. 2- ما أخرجه ابن مردويه عن أبي أيضًا قال: آخر القرآن عهدًا بالله هاتان الآيتان: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} 2. 3- ما أخرجه أبو الشيخ3 في تفسيره من طريق علي بن زيد عن يوسف المكي عن ابن عباس قال: آخر آية نزلت: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} 4. "قلت": ويجاب عن هذا القول بأن يحمل المراد بالآخرية على آخر ما نزل من سورة التوبة لا آخر ما نزل من القرآن على الإطلاق، ويشهد لهذا ما روي أن أبي بن كعب -رضي الله عنه- قال للذين يجمعون القرآن في عهد أبي بكر لما بلغوا قوله تعالى: {ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} 5: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أقرأني بعدها آيتين: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} إلى قوله: {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} وقال: هذا آخر ما نزل من القرآن، قال: فختم بما فتح به بالله الذي لا إله إلا هو"6.   1 المستدرك: ج2 ص238 وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. 2 الإتقان: السيوطي ج1 ص36. 3 هو عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان الأنصاري الأصبهاني المعروف بأبي الشيخ ت369 وله كتاب "العظمة" مطبوع. 4 الإتقان: السيوطي ج1 ص36. 5 سورة التوبة: الآية 127. 6 الإتقان: السيوطي ج1 ص36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 القول السابع : إن آخر ما نزل من القرآن كله قوله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} 1.   1 سورة آل عمران: الآية 195. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 واستدلوا بما أخرجه ابن مردويه عن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: آخر آية نزلت هذه الآية: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ} إلى آخرها1. ويجاب عن هذا بأن المراد آخر ثلاث آيات ذكرت النساء، فقد روي عنها رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله أرى الله يذكر الرجال ولا يذكر النساء، فنزلت {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} 2 ونزلت: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} 3 ونزلت هذه الآية4 فلعلها أرادت: إن هذه الآية آخر هذه الآيات نزولًا، ولهذا قال السيوطي: "فهي آخر الثلاثة نزولًا أو آخر ما نزل بعد ما كان ينزل في الرجال خاصة".   1 الدر المنثور: السيوطي ج2 ص112، والإتقان ج1 ص37. 2 سورة النساء: الآية 32. 3 سورة الأحزاب: الآية 35. 4 الإتقان: السيوطي ج1 ص37. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 القول الثامن : أن آخر ما نزل قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} الآية1. ودليل ذلك ما أخرجه الطبري -رحمه الله تعالى- عن عمرو بن قيس الكندي أنه سمع معاوية بن أبي سفيان تلا هذه الآية: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} وقال: إنها آخر آية أنزلت من القرآن"2. وقد رد ابن كثير -رحمه الله تعالى- هذا القول بقوله: "وهذا أثر مشكل، فإن هذه الآية آخر سورة الكهف، والكهف كلها مكية، ولعل معاوية أراد أنه لم ينزل بعدها آية تنسخها ولا تغير حكمها، بل هي مثبتة محكمة، فاشتبه ذلك على بعض الرواة فروى بالمعنى على ما فهمه، والله   1 سورة الكهف: الآية 110. 2 تفسير الطبري ج16 ص40 طبعة دار الفكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 أعلم"1 وقد عد السيوطي -رحمه الله تعالى- هذا القول من غريب ما ورد في ذلك2. "قلت": ولعل ابن كثير -رحمه الله تعالى- سها عن أن هذه الآية مما لا يدخله النسخ؛ لأنها أمرٌ بالعمل الصالح ونهي عن الشرك، ومثل هذا لا يمكن أن يدخله نسخ، فلا يصح أن يحمل قصد معاوية -رضي الله عنه- على أنها لم تنسخ بل يحمل على أنه أراد أنها آخر آية في سورة الكهف كما مر بنا في آخر سورة التوبة، والله أعلم. هذه هي أهم الأقوال الواردة في آخر ما نزل من القرآن، وهناك أقوال أخرى يوردها كثير من المهتمين في هذا المبحث مع أنها لا تدخل هنا وإنما في مبحث أوائل وأواخر مخصوصة.   1 تفسير ابن كثير ج3 ص122. 2 الإتقان: السيوطي ج1 ص37. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 إشكال ودفعه : قد يشكل فهم قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا} 1. فإن لم تكن هذه الآية هي آخر ما نزل بل نزل بعدها آيات، فكيف يقول اليوم أكملت لكم دينكم؟ والجواب: أن هذه الآية نزلت على الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو يخطب في يوم عرفة في حجة الوداع في السنة العاشرة وبالتحديد ظهر يوم الجمعة 9/ 12/ 10هـ وإذا كان الرسول -عليه الصلاة والسلام- توفي يوم الاثنين لليلتين خلتا من ربيع الأول سنة 11هـ فتكون هذه الآية قد نزلت قبل وفاته صلى الله عليه وسلم بنحو واحد وثمانين يومًا وقد مر بنا أن قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى   1 سورة المائدة: الآية 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 اللَّهِ} 1 قد نزلت قبل وفاته عليه الصلاة والسلام بتسع ليال، وبهذا يظهر أن المراد بقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الآية2، ليس إكمال نزول القرآن أو أن هذه الآية هي آخر ما نزل منه، وقد بين العلماء المراد بإكمال الدين فمن ذلك: 1- ما رواه ابن جرير عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} وهو الإسلام قال: أخبر الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين أنه قد أكمل لهم الإيمان فلا يحتاجون إلى زيادة أبدا وقد أتمه الله عز ذكره، فلا ينقصه أبدا، وقد رضيه فلا يسخطه أبدا3 وفسر قوله: {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} بقوله: كان المشركون والمسلمون يحجون جميعًا فلما نزلت "براءة" فنفي المشركين عن البيت، وحج المسلمون لا يشاركهم في البيت الحرام أحد من المشركين فكان ذلك من تمام النعمة: {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} 4. 2- أن المراد بإكمال الدين إكمال الحج، والمعنى اليوم أكملت لكم حجكم فأفردتم بالبلد الحرام تحجونه أنتم أيها المؤمنون دون المشركين لا يخالطكم في حجكم مشرك5. 3- أن المراد بإكمال الدين إعلاء كلمته وظهوره على الدين كله وفي حجة الوداع ظهرت شوكة هذا الدين وعلت كلمته، فقد كان المشركون يحجون مع المسلمين ويزاحمونهم في المشاعر فأمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن لا يحج مشرك فامتثل المشركون أمره وأعلى الله كلمته ولم يجرؤ أحد منهم على مخالفته.   1 سورة البقرة: الآية 281. 2 سورة المائدة: الآية 3. 3 تفسير الطبري ج9 ص518. 4 المرجع السابق ج9 ص521، 522. 5 المرجع السابق ج9 ص519. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 قال ابن جرير رحمه الله تعالى: "وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله عز وجل أخبر نبيه -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين به، وأنه أكمل لهم -يوم أنزل هذه الآية على نبيه- دينهم بإفرادهم البلد الحرام وإجلائه عنه المشركين حتى حجه المسلمون دونهم لا يخالطونهم المشركون1.   1 المرجع السابق ج9 ص520. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 أوائل وأواخر مخصوصة مدخل ... أوائل وأواخر مخصوصة: وكما بحث العلماء أول ما نزل وآخر ما نزل من القرآن على الإطلاق، فقد أولوا عنايتهم واهتمامهم في معرفة أوائل ما نزل وأواخر ما نزل في موضوعات خاصة كالقتال، والربا، والخمر، والأطعمة، والأشربة، وغير ذلك. ونظرًا لما في معرفة ذلك من أثر كبير في معرفة الحكم الشرعي، والذي وقع بجهله عدد من العلماء فضلًا عن من دونهم في أخطاء عظيمة فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا، وأصبح كلامهم حجة عند آخرين، فإني سأبين هنا بشيء من التفصيل بعض هذه الأوائل والأواخر المخصوصة وهي: 1- أول وآخر ما نزل في الخمر. 2- أول وآخر ما نزل في الربا. 3- أول وآخر ما نزل في الجهاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 أولًا: أول ما نزل وآخر ما نزل في الخمر : وإنما قدمته ليكون لوضوحه وظهوره ميزانًا نعرف به مقدار الخطأ الذي وقع من بعض العلماء والمفتين في البحثين الآخرين الربا والجهاد. وتظهر في التدرج في تحريم الخمر والمراحل التي مر بها حكم الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 سبحانه وتعالى، فقد كان الخمر ميسرًا في الجاهلية لمبتغيه فالتمر والعنب أصناف لا يخلو منها بيت في أرض الحجاز، فالنخيل من زراعة المدينة وما حولها ولا يزال، والعنب في الطائف ولا يزال، واعتصارهما خمرًا أمر معروف لا يكاد ينكره أحد، وشربه شأن مألوف لا يكاد ينكره أحد. وليس من السهل الامتثال للإقلاع عنه لأول الأمر ما لم يكن وراء ذلك عقيدة راسخة واقتناع تام. فجاء القرآن الكريم بترسيخ العقيدة وتثبيت أركانها حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام شرع في الحلال والحرام ومنه حكم الخمر، مراعيًا أحوالهم فيها واعتيادهم عليها، متخذا من رسوخ العقيدة والتدرج في التحريم وسيلة حكيمة لعلاج هذا الداء وانتزاعه من جسد هذه الأمة فجاء تحريمه بالتدريج، وقد وصفت عائشة -رضي الله عنها- هذا التدريج فقالت: "إنما نزل أول ما نزل من القرآن سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا: لا ندع الخمر أبدا، ولو نزل لا تزنوا لقالوا: لا ندع الزنا أبدا. لقد نزل بمكة على محمد -صلى الله عليه وسلم- وإني لجارية ألعب: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} "1. وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده"2. وجاء التدرج في تحريم الخمر على النحو التالي: المرحلة الأولى: أو ما نزل في الخمر قوله تعالى: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} 3. وقد ذكر ابن العربي أقوال العلماء في معنى "سكرا" ثم قال: أما هذه الأقاويل فأسدها قول ابن عباس: "أن السكر الخمر"4 وهل نزلت هذه   1 سورة القمر: الآية 46. 2 صحيح البخاري ج6 ص101. 3 سورة النحل: الآية 67. 4 أحكام القرآن: ابن العربي ج3 ص1141. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 الآية قبل تحريم الخمر أو بعده قال ابن العربي: والصحيح أن ذلك كان قبل تحريم الخمر، فإن هذه الآية مكية باتفاق من العلماء، وتحريم الخمر مدني1. فتقسيم هذه الآية ما يتخذون من الخمر إلى قسمين هما: 1- سكرًا. 2- رزقًا حسنًا. فيه إشارة إلى أن السكر ليس من الرزق الحسن وإذا لم يكن كذلك فهو من الرزق الخبيث، وقد ورد وصف الرسول -صلى الله عليه وسلم- بقوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} 2 وإذا كان السكر من الخبائث والرسول -صلى الله عليه وسلم- يحرم الخبائث فالخمر حرام. لكن هذا ليس نصًّا يوجب الامتناع والكف لكنه إشارة فهمها من فهمها توطئة لدرجة أعلى في التحريم وهي المرحلة الثانية. المرحلة الثانية: قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} 3. كأن السؤال في هذه الآية نتيجة عدم التصريح بالحكم في الآية الأولى، ولهذا روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال لما نزل تحريم الخمر4: اللهم بين لنا في الخمر بيانًا شافيًا فنزلت هذه الآية التي في البقرة: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ ... } الآية5.   1 أحكام القرآن: ابن العربي ج3 ص1141. 2 سورة الأعراف: الآية 157. 3 سورة البقرة: الآية 219. 4 يقتصر بعض الباحثين على ذكر الآيات الثلاث الأخيرة دون الأولى في تحريم الخمر، وقوله في هذا الحديث أن عمر قال: لما نزل تحريم الخمر. إشارة إلى أنه سبق نزول هذه الآية آية أخرى وأنها ليست الأولى. 5 رواه الإمام أحمد في مسنده ج1 ص53، والترمذي ج5 ص253، وأبو داود ج3 ص325. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 وتعتبر هذه المرحلة أعلى من المرتبة التي قبلها في التحريم حيث صرحت بالإثم، وصرحت بأن الإثم أكبر من النفع، وفي ذلك إشارة إلى أن العاقل لا يقدم على فعل شيء ضرره أكبر من نفعه وأن عليه أن يفكر في ذلك، ولهذا جاءت الفاصلة في الآية: {لَعَلَّكُم تَتَفَكَّرُونَ} فكان النص على الإثم توطئة للنص على التحريم ولو في أوقات مخصوصة في المرحلة الثالثة. المرحلة الثالثة: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} 1 وهي أول نص في التحريم، وحتى التحريم كان على مرحلتين تلك المرحلة هي المرحلة الأولى منه تحريم في أوقات معينة وهناك أوقات يظل الخمر فيها مباحًا لكن هذه الأوقات تضيق حتى لا يكاد مبتغيها يجدها؛ فإن شرب بعد الظهر فلن يدري ما يقول قبل العصر وإن شرب بعد العصر فلن يدري قبل المغرب وإن شرب بعد المغرب فلن يدري قبل العشاء، ويقل الشرب بعد العشاء لمزاحمته وقت النوم وهم ليسوا أهل سمر وسهر، فمن يسهر سينام في النهار وكيف يكتسب معاشه، وإن نام بعد العشاء وشرب بعد الفجر فكيف سيعمل ويكتسب وهو في هذه الحالة!! ولهذا قال ابن كثير: "وقد يحتمل أن يكون المراد التعريض بالنهي عن السكر بالكلية لكونهم مأمورين بالصلاة في الخمسة الأوقات من الليل والنهار فلا يتمكن شارب الخمر من أداء الصلاة في أوقاتها دائما والله أعلم"2، كل هذا كان إرهاصا وتوطئة لتحريم الخمر تحريمًا قاطعًا صارمًا عامًّا شاملًا في المرحلة الرابعة وهي: المرحلة الرابعة: قوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 3.   1 سورة النساء: الآية 43. 2 تفسير ابن كثير: ج2 ص548. 3 سورة المائدة: 90. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 وللمتدبر أن يطيل النظر فيما تحويه هذه الآية وما بعدها من تهيئة للتحريم، ومراعاة لواقع القوم وتمكن الخمر منهم فمزج النص القاطع في تحريمها ببيان آثارها وعواقب شربها الخطيرة وآثار طاعة الله وعواقب معصيته. ثم وصف الخمر بأوصاف تكفي لتحريمها بأنها رجس وبأنها من عمل الشيطان، وكفى بهذين الأمرين إشارة للتحريم، ومع هذا فقد صرح بالحكم "فاجتنبوه" وتلكم -والله- أبلغ كلمة، نعم إنها أبلغ من "حرام" أو "فاتركوها" أو "لا تشربوها" لأن من لم يشرب الخمر ولكنها وجدت في بيته أو في غرفته لم يخالف النصوص الأخيرة "حرام، فاتركوه، لا تشربوه" لأنه لم يرتكب شيئًا منها لكنه خالف "فاجتنبوه" إذ الاجتناب يقتضي أن تكون في جانب والخمر في جانب آخر غير جانبك، فإن كانت في غرفتك أو في دارك فأنت لم تجتنبها والخطاب ليس بالإفراد بل بالجمع للمسلمين عامة، فإذا وجد في بيت جارك وجب على المسلمين إتلافه فإن لم يفعلوا فإنهم لم يجتنبوه لأنه بينهم بل إن وجد في بلد آخر من بلاد الإسلام ولهم قدرة على إزالته ولم يفعلوا فهم لم يجتنبوه، إن الأمر بالاجتناب يقتضي أن يكون في جانب وبلاد المسلمين في جانب آخر أرأيتم إلى أي مدى وصل التحريم بهذه الكلمة. تلكم المراحل التي مر بها تحريم الخمر، ولو قال قائل: إن الخمر فيها إثم وفيها منافع قلنا: تلكم مرحلة في التحريم، وإن قال: إن الخمر محرمة قرب الصلاة جائزة في غير أوقات الصلاة قلنا: تلك مرحلة تجاوزها التشريع إلى مرحلة الحسم في التحريم، فإن الحكم الشرعي إذا مر بمراحل فالحكم للمرحلة الأخيرة فيه. أقول هذا توطئة للمرحلتين التاليتين اللتين يقع في خطأ فيهما بعض المفتين وهما مراحل تحريم الربا ومراحل تشريع الجهاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 ثانيًا: أول ما نزل وآخر ما نزل في تحريم الربا : وذلك أن تحريم الربا أيضًا مر بمراحل أربع كالمراحل التي مر بها تحريم الخمر وهي: المرحلة الأولى: أول ما نزل في الربا قوله تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} 1. وليس في هذه الآية نص على تحريم الربا وإنما إشارة إلى أن الله يمحق الربا فلا ينمو ولا يبارك الله فيه بخلاف الزكاة التي يراد بها وجه الله فإنه سبحانه يضاعف الثواب لصاحبه. وهي مرحلة شبيهة تمامًا بالمرحلة الأولى في تحريم الخمر حيث بين هناك أن السكر ليس بالرزق الحسن. المرحلة الثانية: قوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا، وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} 2. وكما بين في المرحلة الثانية من تحريم الخمر أن فيه إثمًا وفيه منافع وأن الإثم أكبر من النفع فإنه هنا في المرحلة الثانية من تحريم الربا أشار إلى أن من معاصي اليهود أكلهم الربا وقد نهوا عنه، وفي ذلك إشارة إلى أنه إذا كان أكل الربا والتعامل به محرمًا على اليهود فأولى أن يكون كذلك بين المسلمين وهم خير أمة أخرجت للناس وهو تحريم بالتلويح والتعريض لا بالنص الصريح3 وفي هذا توطئة للنص على التحريم في المرحلة التالية. المرحلة الثالثة: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا   1 سورة الروم: الآية 39. 2 سورة النساء: الآية 161. 3 منهج القرآن الكريم في تقرير الأحكام: مصطفى الباجقني ص276. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 1. فحرم الربا على مرحلتين كما حرم الخمر على مرحلتين، وإذا كان تحريم الخمر بدأ بتحريمه في أوقات معينة فإن تحريم الربا بدأ بتحريم نسبة منه معينة وهي ما كانت أضعافًا مضاعفة تمهيدًا لتحريمه كله في المرحلة الأخيرة. المرحلة الرابعة: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} 2 وكما أنه -سبحانه- غلظ في تحريم الخمر في المرحلة الأخيرة بالأمر باجتنابه ووصفه بأنه رجس وأنه من عمل الشيطان فإنه هنا في تحريم الربا غلظ في تحريمه بالتهديد والوعيد لأصحابه ووصفهم بأنهم محاربون لله ورسوله وهل بعد هذا أغلظ في التحريم وأبشع في الوصف. ولعدم إدراك بعض الناس لهذه المراحل التي مر بها تحريم الربا وقعوا في الخطأ في الفتيا فأباح بعضهم الربا اليسير وهو الذي لا يصل إلى الأضعاف المتضاعفة جهلًا منه بأن هذا كان في مرحلة من مراحل تحريم الربا وأنه بهذا كمن يبيح الخمر في غير أوقات الصلاة مستدلًّا بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} 3 ولعله يظهر بهذا أهمية معرفة أول ما نزل وآخر ما نزل، والله المستعان.   1 سورة آل عمران: الآية 130. 2 سورة البقرة: الآيتين 278، 279. 3 سورة النساء: الآية 43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 ثالثًا: أول ما نزل وآخر ما نزل في تشريع الجهاد : وقد مر تشريع الجهاد بمراحل هي: المرحلة الأولى: وهي المرحلة المكية، حيث لم يشرع الجهاد وإنما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 أمروا بالعفو والصفح فمن الآيات المكية: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} 1 {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} 2 {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} 3 {وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} 4 {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} 5 {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} 6 {وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} 7 والآيات المكية في هذا المعنى كثيرة فلم يؤمروا بالقتال بل بالكف عنه وقد صرح بهذا الحكم قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} 8. المرحلة الثانية: بعد نيف وسبعين آية مكية في النهي عن القتال9 أذن بالقتال بمعنى إباحته لا وجوبه للمهاجرين منهم خاصة الذين أخرجوا من ديارهم، قال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} 10. قال ابن تيمية -رحمه الله تعالى: ولأن الله لما بعث نبيه وأمره بدعوة الخلق إلى دينه لم يأذن له في قتل أحد على ذلك ولا قتاله حتى   1 سورة الزخرف: الآية 89. 2 سورة فصلت: الآية 34. 3 سورة النحل: الآية 82. 4 سورة الحجر: الآية 85. 5 سورة الفرقان: الآية 63. 6 سورة المزمل: الآية 10. 7 سورة إبراهيم: الآية 12. 8 سورة النساء: الآية 77. 9 الكشاف: الزمخشري ج2 ص15. 10 سورة الحج: الآيتين 39، 40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 هاجر إلى المدينة فأذن له وللمسلمين بقوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} 1. ورجح ابن العربي أن أول آية نزلت آية الحج: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} ثم نزل: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} 2 فكان القتال إذنًا ثم أصبح بعد ذلك فرضًا، ثم أمر بقتال الكل فقال: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} الآية3. وذلك أن قريشًا حتى بعد أن هاجر الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة لم تألو جهدا للإيقاع بالمسلمين فأذن الله سبحانه لنبيه عليه الصلاة والسلام وللمهاجرين معه بالقتال فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يبعث السرايا وكل أفرادها من المهاجرين وليس فيهم من الأنصار أحد4. وحتى هذا الإذن كان لقتال المشركين وحدهم دون غيرهم فاليهود في المدينة لم يؤمر بقتالهم مع أذاهم بل أمر بالعفو والصفح حتى يأتي الله بأمره، قال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} 5 وفترة هذه المرحلة من الهجرة إلى غزوة بدر. المرحلة الثالثة: الأمر بالجهاد للدفاع. وذلك أن قريشًا تضررت من السرايا التي يبعثها الرسول -صلى الله عليه وسلم- للهجوم على قوافل قريش فجمعت جمعها واتجهت إلى المدينة لحماية إحدى   1 السياسة الشرعية: ابن تيمية ضمن مجموع الفتاوى ج28 ص349. 2 سورة البقرة: الآية 190. 3 أحكام القرآن: ابن العربي ج1 ص102. 4 السيرة النبوية: ابن هشام ج2 ص245، وص252، وزاد المعاد: ابن القيم ج2 ص83. 5 سورة البقرة: الآية 109. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 قوافلها وإرهاب المسلمين فانتدب الرسول -صلى الله عليه وسلم- أصحابه للدفاع، والتقى الجيشان في بدر وفرض قتال الذين يقاتلون المسلمين: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} 1. فأصبح القتال مفروضًا على المسلمين كافة المهاجرين والأنصار للدفاع عن أنفسهم لا للابتداء، قال الطبري رحمه الله تعالى عن هذه الآية: "هذه الآية هي أول آية نزلت في أمر المسلمين بقتال أهل الشرك وقالوا: أمر فيها المسلمون بقتال من قاتلهم من المشركين والكف عمن كف عنهم"2. وفي هذه المرحلة ظل القتال قاصرًا على مشركي قريش وبعض اليهود وحدثت فيها عدة غزوات وسرايا منها غزوة السويق، وأحد، وحمراء الأسد، وإجلاء بني قينقاع وبني النضير واستمرت حتى غزوة الخندق3 ومن آيات هذه الفترة4: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} 5 و {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} 6. المرحلة الرابعة: فرض الجهاد في سبيل الله: وفي هذه المرحلة فرض الجهاد ابتداء من غير أن يبدأ الكفار بالقتال، قال تعالى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} 7 وقال سبحانه: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} 8.   1 سورة البقرة: الآية 190. 2 تفسير الطبري: ج3 ص561. 3 انظر منهج القرآن الكريم في تقرير الأحكام: الباجقني ص294. 4 آيات الجهاد في القرآن الكريم: د. كمال سلامة الدقس ص212. 5 سورة الأنفال: الآية 61. 6 سورة البقرة: الآية 216. 7 سورة البقرة: الآية 191. 8 سورة البقرة: الآية 193. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 وتبدأ هذه المرحلة في السنة الخامسة للهجرة حيث زحفت جيوش الأحزاب إلى المدينة حين ألَّبَتْ قريش قبائل الجزيرة العربية ضد المسلمين بمساعدة بعض زعماء اليهود1 ففرض جهاد الكفار كافة: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} 2 وهي آخر مراحل تشريع الجهاد. قال ابن القيم -رحمه الله تعالى- ملخصًا مراحل تشريع الجهاد: "وكان محرمًا ثم مأذونًا به، ثم مأمورًا به لمن بدأهم بالقتال، ثم مأمورًا به لجميع المشركين"3. وبمعرفة هذه المراحل يظهر خطأ بعض المتصدين للدفاع عن عقيدة الجهاد فيخطئون تحت وطأة الهزيمة الداخلية فيزعمون أن الجهاد للدفاع لا للطلب فيقفون به عند حد المرحلة الثالثة تمامًا كأولئك الذين يزعمون أن الربا الحرام هو ما كان أضعافًا مضاعفة، وهؤلاء وأولئك كمن يعتقد إباحة الخمر وأن تحريمها قرب وقت الصلاة، وبمعرفة ذلك كله يظهر الحق والصواب والله المستعان.   1 منهج القرآن في تقرير الأحكام: ص294. 2 سورة التوبة: الآية 36. 3 زاد المعاد: ابن القيم ج2 ص58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 فوائد معرفة أول ما نزل وآخر ما نزل : وتشترك معرفة أول ما نزل وآخر ما نزل مع معرفة المكي والمدني في فوائد كثيرة منها: أولًا: تمييز الناسخ من المنسوخ: وذلك حين ورود آيتين بحكمين مختلفين فإن معرفة أول ما نزل وآخر ما نزل تعين على معرفة الناسخ من المنسوخ، ومثال ذلك قوله تعالى في عدة المرأة المتوفى عنها زوجها: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ} 1 فقد بينت هذه الآية أن العدة عام   1 سورة البقرة: الآية 240. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} 1 جعل العدة أربعة أشهر وعشرًا، وإذا عرفنا أن هذه الآية هي آخر ما نزل عرفنا أنها هي الناسخة. ثانيًا: معرفة تاريخ التشريع الإسلامي وتدرجه الحكيم في التشريع، وقد مر بنا استعراض المراحل التي مر بها تحريم الخمر وكيف تمت مراعاة أحوالهم حيث اعتادوا شرب الخمر، لا يكاد يخلو منها بيت وكيف تدرج في علاج هذه المشكلة حتى خرجوا إلى بر الأمان والسلامة والإسلام بحكمة بالغة. ثالثًا: الاستعانة بمعرفة أول ما نزل وآخر ما نزل في تفسير القرآن التفسير السليم واستنباط الحكم الصحيح، وقد عرفنا ذلك في معرفة أول وآخر ما نزل في الربا والجهاد والخطأ الذي وقع فيه بعضهم بسبب جهل معرفة أول وآخر ما نزل. رابعًا: تذوق أساليب القرآن الكريم والاستفادة من ذلك في أسلوب الدعوة إلى الله تعالى حيث يكون بأسلوب لتقرير حكم ثم يختلف الأسلوب لتقرير حكم آخر بالوعد مرة والوعيد أخرى وبالترغيب أو الترهيب أو بالتخيير أو الإلزام حسب ما يناسب الحال. خامسًا: معرفة السيرة النبوية وترتيب أحداثها حسب حديث القرآن عنها ومتابعة أحوال الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومواقفه في الدعوة في مكة وسيرته في الدعوة إلى الله بعد الهجرة؛ مما يوقف الدعاة خاصة والمسلمين عامة على أصدق حديث عن أفضل سيرة لأحسن قدوة عليه الصلاة والسلام. سادسًا: إظهار عناية الصحابة والعلماء من بعدهم بالقرآن الكريم حتى عرفوا أول ما نزل وآخر ما نزل من القرآن كله وفي كل حكم من أحكامه الذي لا يمكن الوصول إليه وإدراكه إلا بالجهد الكبير والاهتمام العظيم مما يوجب على من بعدهم الاقتداء بهم والسير على نهجهم.   1 سورة البقرة: الآية 234. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 إعجاز القرآن الكريم مدخل ... إعجاز القرآن الكريم: جرت سنة الله تعالى أن يظهر على يد كل نبي من أنبيائه معجزة يظهر بها على قومه وتكون دليلًا على صدقه في أنه مرسل من الله تعالى. وقد كانت معجزة كل نبي من جنس ما برع فيه قومه حتى يكون تحديه لهم فيما يعرفون وفيما يتقنون ليكون التحدي أعظم وأشد. فجاءت معجزة عيسى عليه السلام إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله تعالى وهي من جنس ما برع فيه قومه وهو الطب وإن لم تكن طبًّا. وجاءت معجزة موسى عليه السلام العصا واليد وغيرهما وهي من جنس ما برع فيه قوم فرعون وهو السحر وإن لم تكن سحرًا. وجاءت معجزة محمد -صلى الله عليه وسلم- وقد تفوق قومه في البيان والفصاحة والبلاغة فجاءت معجزته عليه السلام من جنس ما برع فيه قومه فأنزل الله القرآن وأعجزهم ولم يستطيعوا الإتيان بمثله أو بعضه. وقد بين العلماء هذا العجز عن الإنسان بمثل هذا القرآن بدراسة نصوص التحدي وإثبات العجز وما يتعلق بذلك كله في هذا المبحث "إعجاز القرآن" بل تجاوز ذلك إلى أن أصبح هذا الإعجاز علمًا مستقلًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 تعريف المعجزة تعريف المعجزة لغة ... تعريف المعجزة، لغة: أصلها مأخوذ من "عجز" قال ابن فارس: العين والجيم والزاء أصلان صحيحان، يدل أحدهما على الضعف، والآخر على مؤخر الشيء1. وخلاصة كلام أهل اللغة2 في ذلك أن كلمة عجز تطلق على: 1- العجز بمعنى: الضعف تقول "عجزت عن كذا، أعجز أي ضعفت عنه، والعجوز سميت لعجزها في كثير من الأمور قال تعالى: {قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا} 3. 2- العجز بمعنى: مؤخر الشيء والجمع أعجاز، وأعجاز الأمور: أواخرها، وعَجْزُ الشيء وعِجْزُه، وعُجْزُه وعَجُزُه وعَجِزُه: آخره، وعجز بيت الشعر: آخره وعجزه المرأة وعجيزتها مؤخرتها، والعِجْزَة آخر ولد الرجل، وأعجاز النخل، وأعجاز الإبل، وأعجاز الليل: أواخرها، والألف تسميه العرب العجوز لأنه آخر الأرقام عندها وما بعدها يكرر فيقال عشرة آلاف، مائة ألف، ألف ألف. وصار العجز في التعارف: اسم للقصور عن فعل الشيء وهو ضد القدرة قال تعالى: {أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ} 4.   1 معجم مقاييس اللغة: ابن فارس مادة "عجز"، ص738. 2 انظر معجم مقاييس اللغة: ابن فارس ص738، ولسان العرب: ابن منظور ج5 ص369، 373، والمفردات: الأصفهاني ص325. 3 سورة هود: الآية 72. 4 سورة المائدة: الآية 31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 تعريف المعجزة في الاصطلاح ... أما المعجزة في الاصطلاح فهي: أمر خارق للعادة، مقرون بالتحدي، سالم من المعارضة، يجريه الله تعالى على يد نبيه، شاهدًا على صدقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 شرح التعريف : ونريد بقولنا: "خارق للعادة" أنها مخالفة لأحكام العادة المألوفة كحرارة النار، وبرودة الثلج، وحدود القدرة البشرية المعتادة، فالمعجزة لا تخضع لهذه الأحكام، ونؤكد أنها مخالفة لأحكام العادة وليست مخالفة لأحكام العقل. ونريد بقولنا "مقرون بالتحدي" أن يكون مقصودًا بها تحدي القوم وإثارتهم للإتيان بمثلها حتى تقوم عليهم الحجة عند عجزهم، والتحدي يكون إما بلسان المقال أو بلسان الحال من غير نطق به أو تصريح بالتحدي. وقد أخطأ بعض الباحثين فأسقط هذا الشرط1 معتقدًا أن بعض المعجزات غير مقرون بالتحدي لاعتقاده أن التحدي لا بد أن يكون بلسان المقال. ونريد بقولنا "سالم من المعارضة" أنه لا يمكن لأحد أن يأتي بمثلها، ولهذا فإن معجزات الأنبياء لا تتكرر فلكل نبي معجزاته الخاصة به لا يأتي أحد بمثلها حتى من إخوانه الأنبياء، وإلا لاشترك الأنبياء كلهم في نوع واحد من الخوارق لا يأتي به أحد غيرهم يدل على نبوتهم، ولهذا الاختلاف حكم عديدة، وهي صفة يغفل عنها كثير من الباحثين فيقصرون عدم المعارضة على عامة الناس. ونريد بقولنا: "يجريه الله على يد نبيه" أن المعجزة وإن جاء بها النبي فليست من عنده وليست في قدرته ولكنها من الله. ونريد بقولنا "شاهدًا على صدقه" أن الإتيان بالمعجزة إنما هو لإقامة الدليل على أنه مرسل من ربه وإقامة الحجة على قومه.   1 البيان في إعجاز القرآن: د. صلاح الخالدي ص24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 المعجزة في القرآن الكريم : ورد في القرآن الكريم استعمال مشتقات كلمة "عجز" نحو ست وعشرين مرة لكنه لم يرد استعمال مصطلح "معجزة" ولا "إعجاز" في القرآن ولا في السنة. ولم يعرف إطلاق مصطلح "معجزة" على الأمور الخارقة التي تظهر على أيدي الأنبياء عليهم السلام إلا في أواخر القرن الثاني تقريبًا1. وأطلق القرآن على المعجزة عدة مسميات منها: 1- الآية: في قوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ} 2 وقال تعالى على لسان صالح عليه السلام: {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً} 3 وفرعون يقول لموسى عليه السلام: {قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} 4. 2- البينة: قال موسى عليه السلام لفرعون: {قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائيلَ} 5 وقال صالح عليه السلام لقومه: {قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً} 6. 3- البرهان: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} 7 وقال سبحانه وتعالى مخاطبًا نبيه موسى عليه السلام بعدما أمره أن يلقي عصاه فإذا هي حية وأن يخرج يده فإذا هي بيضاء من غير سوء: {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِ} 8.   1 مباحث في إعجاز القرآن: د. مصطفى مسلم، ص13. 2 سورة الأنعام: الآية 109. 3 سورة الأعراف: الآية 73. 4 سورة الأعراف: الآية 106. 5 سورة الأعراف: الآية 106. 6 سورة الأعراف: الآية 73. 7 سورة النساء: الآية 174. 8 سورة القصص: الآية 32. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 4- السلطان: كما قال الكفار لأنبيائهم: {قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} وأجاب الرسل عليهم السلام: {وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} 1 وقال تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآياتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ، إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِ} 2.   1 سورة إبراهيم: الآيتين 10، 11. 2 سورة المؤمنون: الآية 45، 46. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 شروط المعجزة : وللمعجزة شروط منها1: 1- أن تكون من الأمور الخارقة للعادة: سواء كانت كلامًا كالقرآن الكريم، وتسبيح الحصى بين يدي الرسول -صلى الله عليه وسلم- وحنين الجذع وكلام الهدهد ونحو ذلك. أو كانت فعلًا كانشقاق القمر، وانفجاز الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم، وتكثير الطعام القليل ونحو ذلك. أو كانت ترك فعل كعدم إحراق النار لإبراهيم عليه السلام وعدم إغراق البحر لموسى عليه السلام وقومه وعدم تأثير السم في جسده صلى الله عليه وسلم. والمعجز هو الأمر الخارق للعادة ولو فعل النبي أمرًا غير خارق للعادة ولم يستطع الآخرون فعله فإن الإعجاز ليس في فعله وإنما في منعهم وحبسهم عن الإتيان بمثل فعله، كما لو رفع الرسول يده أو مد رجله أو تكلم بالكلام المعتاد ثم تحدى قومه بالإتيان بمثل فعله أو قوله فلم يستطيعوا ذلك فإن الإعجاز ليس في فعله هذا أو قوله؛ لأنه ليس خارقًا للعادة وإنما الإعجاز في هذه الحالة في منعهم وحبسهم عن ذلك لكونه هو الأمر غير المعتاد والخارق للعادة.   1 انظر: الجامع لأحكام القرآن: القرطبي ج1 ص70، 71، وانظر مباحث في إعجاز القرآن: د. مصطفى مسلم ص15، 17 ومنها اقتبست هذا المبحث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 2- أن يكون الأمر الخارق للعادة من الله: كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ} 1 وقال الأنبياء عليهم السلام: {وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} 2 وحين قال الكفار للرسول صلى الله عليه وسلم: {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} أمره الله أن يقول: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} 3. 3- سلامتها من المعارضة بالإتيان بمثلها: إذ لو استطاع البشر الإتيان بمثلها لما صلحت علامة على أن صاحبها مرسل من ربه، فلا بد لكونها علامة على صدق صاحبها في أنه مرسل من ربه أن لا يقدر البشر كلهم بل والجن معهم على الإتيان بمثلها، لأنها من قدرة الله وحده. كما قال تعالى عن القرآن {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} 4. 4- أن تقع وفق مقتضى قول صاحبها: فلا تقع على خلاف قوله. فإذا جاءت على خلاف قوله لم تصلح دليلًا على دعواه، ولا دليل على صدقه لمخالفتها لمقتضى كلامه كما حدث لأدعياء النبوة. 5- أن تقترن بالتحدي عند وقوعها: وذلك لأمرين: أولهما: إثبات عجز المخاطبين عن الإتيان بمثلها وعدم إدعائهم أو من بعدهم عدم وجود الداعي للإتيان بمثلها، وثانيهما: إقامة الحجة عليهم عند عجزهم.   1 سورة الأنعام: الآية 109. 2 سورة إبراهيم: الآية 11. 3 سورة يونس: الآية 15. 4 سورة الطور: الآية 34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 ولا يلزم أن يكون التحدي بلسان المقال كما فهمه بعض المعاصرين، وإنما يكون بلسان المقال وبلسان الحال؛ إذ المقام مقام صراع، وعناد، واحتجاج يغني فيه الحال عن المقال في بعض المقام. 6- أن يستدل بها النبي على صدقه في رسالته: إذ الغرض من إظهارها إثبات أمرين: أولهما أنه صادق في دعوى الرسالة. ثانيهما: أنه مرسل من الله لا من غيره، فينبغي أن يكون إظهارها لإثبات ذلك لا لغيره دونهما. 7- أن يكون ظهور المعجزة أو المعجزات بعد دعوى الرسالة: حتى يصح الاستشهاد بها، أما إذا تقدم وقوع الأمر الخارق على دعوى الرسالة فإنه لا يسمى معجزة وإنما يسمى "إرهاص" كتظليل السحابة للرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو في سفره إلى الشام قبل البعثة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 جواز وقوع المعجزة : لا يشك مؤمن بأن الله سبحانه وتعالى هو خالق هذا الكون كله صغيره وكبيره ومدبر شئونه، وموجد نظامه، والذي يوجد الشيء من العدم أقدر على تغيير سنة من سننه أو نظام من أنظمته بل أقدر على إعادة خلقه: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} 1. فالذي جعل النار حارة في قدرته أن يجعلها باردة، والذي خلق القمر قادر على أن يقسمه إلى نصفين، والذي خلق في السم خاصية قادر على سلبها منه، والذي خلق الثعبان من العدم قادر على خلقه من العصا، وهكذا في بقية المعجزات. ومن ينكر هذا فقد أساء الظن بربه وقدرته واعتقد ربوبية إله عاجز عياذًا بالله تعالى.   1 سورة يس: الآيتين 78، 79. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 ومما يحز في النفس ظهور بعض من ينكر الخوارق أو بعضها، ويئولها بتكلف شديد حتى لا تكون من الأمور الخارقة، فيزعم مثلًا أن المرء إذا اعتقد اعتقادًا جازمًا في أمر من الأمور، وتيقنه يقينًا قاطعًا أنه يقع وفق اعتقاده، فإذا اعتقدت امرأة بكر لم تتزوج ولم يجامعها أحد أنها حامل وتيقنت ذلك فإن الحمل يقع!! 1 ويريدون بذلك تعليل حمل مريم بعيسى عليه السلام فتكلفوا ما هو أغرب من المعجزة، وفروا من خارق إلى أخرق. وفسروا فلق البحر لموسى عليه السلام بالمد والجزر، والطير الأبابيل2 بالجراثيم والميكروبات. ونسي أولئك أن الذي يقدر على جعل الماء سائلًا قادر على أن يجعله متجمدًا أو صلبًا، وما المانع أو المستغرب أن يجعل نوعًا من أنواع الطيور قادرًا على حمل حجارة ورميها على أعداء الله ونحو ذلك.   1 تفسير المنار: ج3 ص309، 310. 2 حكاية طريفة أسوقها للعظة والعبرة طفل صغير سأله والده ماذا حفظت اليوم؟ فقال: سورة العصافير فاستغرب والده وطلب منه قراءتها وحين قرأها وجد أنه فهم من ذكر الطير الأبابيل أنها طيور حقيقية وهو لا يفهم من الطيور إلا العصافير، فانظر لهذا العقل الفطري وانظر لتأويلات أهل العقول الكبيرة!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 المراد بإعجاز القرآن الكريم : للعلماء في تعريف الإعجاز أقوال تختلف ألفاظها وتتحد معانيها منها تعريف الهمداني أن معناه: "أنه يتعذر على المتقدمين في الفصاحة، فعل مثله، في القدر الذي اختص به"1. ويمكن تعريفه بقولنا هو: عجز المخاطبين بالقرآن وقت نزوله ومن بعدهم إلى يوم القيامة عن الإتيان بمثل هذا القرآن مع تمكنهم من البيان وتملكهم لأسباب الفصاحة والبلاغة وتوفر الدواعي واستمرار البواعث.   1 المغني في أبواب التوحيد والعدل: ج16، إعجاز القرآن ص226. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 إثبات إعجاز القرآن الكريم : حين نزل القرآن الكريم لم ينزل بما يوافق معتقدات الجاهلية أو يداريها بل نزل هادمًا لها، مبطلًا لأصولها، منكرًا لمبادئها، ساخرًا من معتقداتها وأهلها أهل جاهلية، أهل عناد واستكبار، أهل طغيان وجبروت، أهل أنفة وعزة، لو كان عندهم أدنى قدرة على معارضة القرآن أو الإتيان بمثله وقد تحداهم واستثارهم لذلك ما ترددوا وما تلكئوا ولكنهم يعلمون من فورهم أن بينهم وبين ذلك بُعد ما بين المشرقين أو قل بعد ما بين السموات والأرضين. نعم عجزوا وهم أهل اللغة وأهل البيان "أجل، لقد سجل التاريخ هذا العجز على أهل اللغة أنفسهم في عصر نزول القرآن. وما أدراك ما عصر نزول القرآن؟ هو أزهى عصور البيان العربي، وأرقى أدوار التهذيب اللغوي"1 جمعوا الحشود في الصحراء، ورفعوا المنابر في الأسواق وعرضوا فيها أنفس بضائعهم، وأجود صناعاتهم وما البضاعة إلا بضاعة الكلام وما الصناعة إلا صناعة الشعر والخطابة، يتبارون في عرضها، ويتنافسون في نقدها، "فما هو إلا أن جاء القرآن.. وإذا الأسواق قد انفضت إلا منه، وإذا الأندية قد صفرت إلا عنه، فما قدر أحد منهم أن يباريه أو يجاريه"2 كرروا النظر ورجعوا البصر علهم يجدون فيه فجوة ينفذون منها فعاد إليهم البصر خاسئًا وهو حسير. "ولم يسد القرآن عليهم باب المعارضة بل فتحه على مصراعيه فدعاهم إليه أفرادًا أو جماعات. بل تحداهم وكرر عليهم ذلك التحدي في صور شتى، متهكمًا بهم، متنزلًا معهم إلى الأخف فالأخف ... ، وأباح   1 النبأ العظيم: د. عبد الله دراز، ص83. 2 المرجع السابق: ص83، 84 بتصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 لهم في كل مرة أن يستعينوا بمن شاءوا ومن استطاعوا، ثم رماهم والعالم كله بالعجز في غير مواربة فقال: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} 1 وقال: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} 2 فانظر أي إلهاب!! وأي استفزاز! لقد أجهز عليهم بالحكم البات المؤبد في قوله: {وَلَنْ تَفْعَلُوا} ثم هددهم بالنار، ثم سواهم بالأحجار، فوالله لو كان فيهم لسان يتحرك، لما صمتوا عن منافسته وهم الأعداء الألداء وأباة الضيم الأعزاء، وقد أصاب منهم موضع عزتهم وفخارهم، ولكنهم لم يجدوا ثغرة ينفذون منها إلى معارضته ولا سلمًا يصعدون به إلى مزاحمته، بل وجدوا أنفسهم منه أمام طود شامخ، فما اسطاعوا أن يظهروه، وما استطاعوا له نقبًا ... حتى إذا استيأسوا من قدرتهم واستيقنوا السيوف بدل الحروف، وتلك هي الحيلة التي يلجأ إليها كل مغلوب في الحجة والبرهان، وكل من لا يستطيع دفعًا عن نفسه بالقلم واللسان"3. سلكوا مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- كل سبيل للتوقف عن دعوته، ساموه بالمال، وعرضوا عليه الملك، وقاطعوه ومن معه حتى يموتوا جوعًا، وتآمروا على قتله، وأخرجوه من بلده وسلكوا أصعب الطرق وأعرضوا كل الإعراض عن الطريق الوحيد الذي عرضه عليهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- لإبطال دعوته وهو أن يأتوا بمثل هذا القرآن، فوجدوا أن كل سبيل أهون من هذا السبيل، وكل مشقة دون هذا المطلب، فأي شيء يكون العجز إن لم يكن هذا هو العجز كل العجز4.   1 سورة الإسراء: الآية 88. 2 سورة البقرة: الآية 24. 3 النبأ العظيم: ص84، 85 بتصرف. 4 المرجع السابق: ص87، 88 بتصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 ولو أثر عنهم معارضة للقرآن الكريم، أو محاولة جادة لتطاير خبرها في الأجيال ولتداولتها الألسن وسطرتها الأقلام ولكن ذلك لم ولن يكون ما دام هناك مِسكة من عقل، أو ذرة من كرامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 عناية العلماء به وأهم المؤلفات فيه : كان للعلماء -رحمهم الله تعالى- عناية كبيرة واهتمام عظيم بإعجاز القرآن الكريم. وسبق أن ذكرنا أن مصطلح "المعجزة" أو "إعجاز القرآن" لم يرد في الكتاب ولا في السنة ولا في أقوال الصحابة -رضي الله عنهم- وإنما ورد التعبير عن هذا المعنى بالآية والبرهان والسلطان.. وغير ذلك. وهي العبارات التي كان يتداولها العلماء في القرنين الأول والثاني الهجريين عند حديثهم عن إعجاز القرآن، وليس هناك تحديد دقيق لتأريخ ظهور مصطلح إعجاز القرآن. وقد استعمل هذا المصطلح في نهاية القرن الثاني وأوائل القرن الثالث ويؤيد هذا أن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى "ت241هـ" استعمل كلمة "معجزة" للأمر الخارق المؤيد للأنبياء ولما استعمل له من بعده مصطلح "الكرامة"1. كما ظهر استعمال هذا المصطلح عند النظام "ت231هـ" أحد أئمة المعتزلة حين زعم أن إعجاز القرآن كان بالصرفة -كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى- فتصدى له علماء السنة والجماعة وردوا عليه وأبطلوا زعمه فشاع مصطلح المعجزة وقل استعمال مصطلح الآية والبرهان والسلطان وغيرها.. وللمعتزلة عناية خاصة بإعجاز القرآن ولعل عنايتهم تلك نتيجة عدم اعتمادهم في إثبات نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- إلا على معجزة القرآن دون سواها من   1 انظر "فكرة إعجاز القرآن": نعيم الحمصي ص8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 المعجزات يقول الهمداني "لم يعتمد شيوخنا في إثبات نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- على المعجزات1.. ويقول عن المعجزات: "فلا يصح أن يستدل بها على صحة النبوة، ولذلك اعتمد شيوخنا في تثبيت نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- على القرآن"2 ويوضح هذا الأمر فيقول: "إن شيوخنا أثبتوها معجزة ودلالة، لكنهم لم يجوزوا الاعتماد عليها في مكالمة المخالفين"3 ولهذا كثرت مؤلفات في إعجاز القرآن وبلاغته ومناظراتهم ومجادلاتهم وشطحاتهم. أما أول كتاب يحمل هذا المصطلح في عنوانه فهو كتاب "إعجاز القرآن" الذي ألفه محمد بن زيد الواسطي المتوفى سنة 306هـ4 وهو كتاب مفقود. إلا أن أقدم كتاب خاص بإعجاز القرآن وصل إلينا هو "النكت في إعجاز القرآن" لأبي الحسن علي بن عيسى الرماني "ت384هـ" وهو من أئمة المعتزلة. ثم تتابعت المؤلفات بعد ذلك وكثرت كثرة لا تكاد تحصى قديمًا وحديثًا وليس من السهل حصرها كلها وسأذكر بعض هذه المؤلفات إجمالًا. فمن المؤلفات قديمًا: 1- النكت في إعجاز القرآن: لأبي الحسن علي بن عيسى الرماني "ت384هـ"5 وهي رسالة مختصرة جاءت جوابًا لسؤال عن ذكر النكت في إعجاز القرآن دون التطويل بالحجاج، وتقع في سبع وثلاثين صفحة طبعت ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن.   1 المغني في أبواب التوحيد والعدل: عبد الجبار الهمداني ج16 ص152. 2 المرجع السابق. 3 المرجع السابق. 4 الفهرست: ابن النديم ص172 أو ص245، والأعلام: الزركلي ج6 ص132. وانظر فكرة إعجاز القرآن: نعيم الحمصي ص8، وإعجاز القرآن بين المعتزلة والأشاعرة: د. منير سلطان ص50. 5 مباحث في إعجاز القرآن: د. مصطفى مسلم ص43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 2- بيان إعجاز القرآن: لأبي سليمان حمد بن محمد الخطابي "ت386هـ" وهي أيضًا رسالة مختصرة تقع في 47 صفحة وطبعت ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن. 3- إعجاز القرآن: لأبي بكر محمد بن الطيب الباقلاني "ت403هـ" طبع بتحقيق عماد الدين أحمد حيدر في مجلد واحد يقع في 325 صفحة الطبعة الأولى 1406 مكتبة العلوم والحكم في المدينة المنورة. 4- الرسالة الشافية: لأبي بكر عبد القاهر الجرجاني "ت471هـ" وهي رسالة موجزة لكنها شاملة قرر فيها أن الإعجاز ثابت عن طريق عجز العرب عن معارضة القرآن وقرر أن العبرة بعجز العرب المعاصرين لنزوله دون المتأخرين عن زمانه ورد على القول بالصرفة، وتقع هذه الرسالة في حوالي 40 صفحة وطبعت ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن. 5- دلائل الإعجاز: وهو أيضًا لعبد القاهر الجرجاني في مجلد طبع أكثر من مرة بتحقيق أحمد مصطفى المراغي، وطبع كذلك بتحقيق محمد عبد المنعم خفاجي. 6- نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز: للفخر الرازي "ت606هـ" اختصر فيه كتابي "دلائل الإعجاز" و"أسرار البلاغة" لعبد القاهرة الجرجاني وزاد فيه بعض الفوائد وبين يدي طبعة مطبعة الآداب والمؤيد بمصر سنة 1317هـ. 7- البرهان الكاشف عن إعجاز القرآن: لعبد الواحد الزملكاني "ت651هـ" طبع بتحقيق د. خديجة الحديثي، ود. أحمد مطلوب في بغداد الطبعة الأولى عام 1394هـ وتقع مع الفهارس في 432 صفحة. وللزملكاني أيضًا كتاب "التبيان في علم البيان المطلع على إعجاز القرآن" طبع في بغداد أيضًا عام 1383هـ. 8- معترك الأقران في إعجاز القرآن: لجلال الدين السيوطي "ت 911هـ" طبع في ثلاثة مجلدات الطبعة الأولى 1408هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 وأما المؤلفات الحديثة: فكثيرة جدًّا في مختلف أوجه الإعجاز، أذكر بعض أشهرها: 1- إعجاز القرآن والبلاغة النبوية: للأستاذ مصطفى الرافعي "ت1356هـ" طبع عدة مرات في مصر. وهو بحق من أفضل المؤلفات في موضوعه قديمًا وحديثًا. 2- النبأ العظيم: د. محمد عبد الله دراز "ت1377هـ" وهو كتاب في الإعجاز اللغوي للقرآن الكريم أحد ثلاثة أنواع من الإعجاز وعد المؤلف بالكتابة عنها فأتم الأول، وتوفي قبل تمام الباقي، وامتاز بأسلوبه الأدبي المتميز، ودقة استنباطه، وسلاسة لفظه، يقع في 216 صفحة وطبع أكثر من مرة. 3- مباحث في إعجاز القرآن: د. مصطفى مسلم وكتبه مؤلفه لطلاب قسم القرآن وعلومه في كلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية لمادة إعجاز القرآن، وهو كتاب قيم يقع في حوالي ثلاثمائة صفحة. 4- فكرة إعجاز القرآن: تأليف نعيم الحمصي وهو في أصله مقالات نشرها في مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق ثم جمعها في هذا الكتاب وصدرت طبعته الأولى عام 1374هـ والثانية 1400هـ ويقع في حوالي خمسمائة صفحة وهو عرض لقضية إعجاز القرآن الكريم منذ البعثة إلى حين تأليفه. 5- البيان في إعجاز القرآن: د. صلاح الخالدي وألفه حين درس مادة إعجاز القرآن في كلية المجتمع في الأردن ولم يجد كتابًا يجمع جزئيات وحدات المادة كما يقول فألف هذا1الكتاب، ويقع في حوالي أربع مائة صفحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 مراحل التحدي بالقرآن: ورد التحدي بالقرآن الكريم في خمس آيات من خمس سور هي على ترتيب السور1: 1- في سورة البقرة: الآية 23 {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} الآية.. 2- في سورة يونس: الآية 38 {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} الآية. 3- سورة هود: الآية 13 {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} . 4- سورة الإسراء: الآية 88 {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} . 5- سورة الطور: الآية 33، 34 {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ، فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} . والتحدي في هذه الآيات كما ترى جاء مرة بالإتيان بمثل القرآن كله، ومرة بعشر سور، ومرة بسورة، ومرة بحديث مثله. فهل جاء التحدي بالقرآن متدرجًا من الأكثر إلى الأقل أم لا؟ للعلماء في مراحل التحديث بالقرآن الكريم أقوال: القول الأول: وهو قول جمهور علماء التفسير والبلاغة أن التحدي   1 أما على ترتيب النزول فأولها: آية الإسراء وثانيها: آية يونس وثالثها: آية هود. ورابعها: آية الطور "وكلها مكي" ثم نزل خامسها: آية البقرة في المدينة. انظر البرهان: الزركشي ج1 ص193، والإتقان: السيوطي ج1 ص27 ويرى الزمخشري والبيضاوي والرازي وأبو حيان وابن كثير وابن عاشور والرافعي وغيرهم أن آية هود نزلت قبل آية يونس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 كان متدرجًا بالقرآن كله كما في سورة الإسراء والطور ثم تحداهم بعشر سور في سورة هود ثم تحداهم بسورة في سورة يونس ثم بسورة من مثله في سورة البقرة، ولكن هذا القول لا يساعد عليه ترتيب نزول القرآن الكريم. القول الثاني: رتب آيات التحدي ترتيب النزول وأنه كان متدرجًا أيضًا، إلا أن التحدي بسورة وقع قبل التحدي بعشر سور، ثم ذهب أصحاب هذا القول يعللون ذلك بتعليلات ليس فيها ما يقنع. القول الثالث: وهو ما أرى صوابه أن القولين السابقين قاما على تصور أن الإتيان بمثل القرآن أصعب من الإتيان بمثل عشر سور وأن الإتيان بالعشر أصعب من الإتيان بسورة وهذا غير صحيح. لأن القرآن كله قليله وكثيره على حد سواء في الإعجاز، فليس الإتيان بسورة أسهل من الإتيان بالقرآن كله فالتحدي في القرآن بالكيف لا بالكم وبالنوع لا بالمقدار فلا يهم إذًا أن يكون التحدي بسورة جاء قبل التحدي بعشر سور أو قبل التحدي بالقرآن كله. واستحالة المجيء بمثل سورة من القرآن كاستحالة المجيء بعشر سور، واستحالة المجيء بمثل القرآن كله على حد سواء فكل ذلك متعذر، ولذا فلا أثر للاختلاف في ترتيب آيات التحدي ما دام لا يترتب عليه أثر في قوة التحدي والعجز كان عن الإتيان بجنس القرآن لا عن مقداره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 مقدار المعجزة من القرآن الكريم ... مقدار المعجز من القرآن الكريم: ومما يتصل بالحديث حديث عن القدر المعجز من القرآن الكريم، فقد وقع في هذا القدر خلافًا أيضًا على أقوال هي: القول الأول: أن الإعجاز متعلق بجميع القرآن لا ببعضه وهذا القول مردود بالآيات التي تتحدى بعشر سور وبسورة واحدة أو حديث مثله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 القول الثاني: أن الإعجاز متعلق بسورة تامة طويلة أو قصيرة وهذا رأي الجمهور، وزاد بعضهم أنه يتعلق أيضًا بقدر سورة تامة1 من الكلام بحيث يظهر به تفاضل قوى البلاغة، وأقصر سورة في القرآن هي سورة الكوثر ثلاث آيات فيكون مقدار هذه السورة من الآيات معجز. القول الثالث: أن الإعجاز يتعلق بقليل القرآن وكثيره لقوله تعالى: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} 2 والتحدي بجنس القرآن لا بالمقدار كما مر بنا بيانه، وهذا هو ما نرجحه، والله أعلم. استمرار التحدي بالقرآن الكريم: والتحدي في القرآن الكريم ليس خاصًّا بأمة دون أمة أو عصر دون عصر بل هو باق ما بقى القرآن يعلن للناس تحديه فقوله عز شأنه: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ..} 3 الآية. عام يشمل جميع الإنس في جميع العصور. ولأن القرآن خاتم الكتب والرسول -صلى الله عليه وسلم- خاتم الرسل والإسلام خاتم الأديان، فقد اقتضت الحكمة بقاء المعجزة لتكون شاهدة على كل جيل كما هي شاهدة على الجيل الأول. ولئن عجز الجيل الأول وهم أهل الفصاحة والبلاغة وأهل البيان والبديع عن الإتيان بمثل هذا القرآن أو بعضها أو مجرد محاولة ذلك لعلمهم سلفًا بعجزهم عن ذلك فإن من بعدهم أعجز وأبعد عن الاستطاعة، فالإعجاز مستمر والتحدي قائم إلى يوم القيامة.   1 إعجاز القرآن: الباقلاني ص261. 2 سورة الطور: الآية 34. 3 سورة الإسراء: الآية 88. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 وجوه الإ‘عجاز في القرآن الكريم مدخل ... وجوه الإعجاز في القرآن الكريم: من المسلم به بين المسلمين عامة أن القرآن معجزة لا يمكن للبشر أن يأتوا بمثله لكنهم اختلفوا في بيان وجه الإعجاز فيه وذكروا أقوالًا كثيرة ومذاهب مختلفة وهم في هذا بين مصيب ومخطئ، ومحسن ومسيء. تعددت الأقوال في وجه أو أوجه الإعجاز في القرآن الكريم فمنهم من لم يذكر للإعجاز إلا وجهًا واحدًا، ومنهم من ذكر وجهين أو أكثر بل قال السيوطي: "أنهى بعضهم وجوه إعجازه إلى ثمانين"1 ثم قال: "والصواب أنه لا نهاية لوجوه إعجازه"2 وذكر هو في كتابه "معترك الأقران في إعجاز القرآن" خمسة وثلاثين وجهًا ضمنها المجلد الأول منه. وذكر غيره وجوهًا أخرى غير ما ذكره السيوطي. والحق أن بين بعض هذه الوجوه تداخل، وليس مرادنا هنا حصرها أو ذكرها كلها، فلنذكر بعض هذه الأقوال:   1 معترك الأقران في إعجاز القرآن: السيوطي ج1 ص5. 2 المرجع السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 القول الأول: أن الإعجاز كان بالصَّرْفَة: القول بالصرفة هو الباعث على نشأة البحث في وجوه الإعجاز للقرآن الكريم، فقد كان المسلمون مُسلِّمين بإعجاز القرآن وألفوا في ذلك كتبًا تشير بصورة غير مباشرة إلى إعجاز القرآن من غير أن يخوضوا أو يتعمقوا في بيان وجهه، حتى أظهر النظام "ت231هـ" مقولته بالصرفة فثار العلماء لإنكار قوله والرد عليه، ومن ثم تحديد الوجه أو أوجه الإعجاز الصحيحة في القرآن الكريم. وأول من قال إن إعجاز القرآن الكريم كان بالصرفة هو أبو إسحاق إبراهيم بن سيار النظام "ت231هـ" أحد أئمة المعتزلة، وصار له مذهب خاص ينسب إليه، وقلده آخرون في هذه المقولة وتشعب القول فيها إلى شعبتين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 1- القول الأول: للنظام وآخرين، أن المراد بالصرفة أن الله صرف العرب عن الاهتمام بمعارضة القرآن الكريم مع قدرتهم عليها ولو توجهوا إليها لقدروا على الإتيان بمثل هذا القرآن. 2- والقول الثاني: للمرتضى من الرافضة، ومراده بالصرفة أن الله سلب العرب العلوم التي يحتاجون إليها للإتيان بمثل هذا القرآن ولو توجهوا للإتيان بمثله لما استطاعوا، لسلبهم هذه العلوم. والفرق بين رأي النظام وأتباعه والمرتضى ومن معه أن النظام يرى أن العرب لو أرادوا الإتيان بمثله لاستطاعوا ولكن همتهم لم تتوجه لذلك، أما المرتضى فيرى أن العرب لا يستطيعون الإتيان بمثله ولو أرادو ذلك؛ لأنهم لا يملكون العلوم التي تمكنهم من ذلك، فالفرق بينهما أن النظام يرى أن العرب يستطيعون لو أرادوا والمرتضى يرى عدم استطاعتهم، وكلا القولين غير صحيح. ونرد على ذلك بثلاثة ردود، الأول: رد مشترك على القولين لإبطال القول بالصرفة عامة، والثاني رد على مذهب النظام، والثالث رد على مذهب المرتضى. أما الرد العام على القول بالصرفة، فإنا نقول: إنه يلزم من القول بالصرفة أن الإعجاز ليس في القرآن ذاته وإنما في غيره وهو عدم استطاعتهم، فالقرآن بزعمهم ليس معجزًا، إنما الإعجاز في المنع، وهذا باطل، قال أبو بكر الباقلاني: "ومما يبطل القول بالصرفة، أنه لو كانت المعارضة ممكنة، وإنما منع منها الصرفة لم يكن الكلام معجزًا وإنما يكون المنع معجزًا، فلا يتضمن الكلام فضيلة على غيره في نفسه"1. ونقول أيضًا: إن ديوان العرب محفوظ شعره ونثره وليس فيه قبل أن يسلبوا الاهتمام بالإتيان بمثله، أو تسلب منهم العلوم كما يزعم هؤلاء وأولئك ما يماثل القرآن أو يدانيه.   1 إعجاز القرآن: أبو بكر الباقلاني ص54. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 أما الرد على النظام ومن معه فإنا نقول: كيف يصح القول أن همتهم لم تتجه للإتيان بمثل القرآن وهم الذين لم يتركوا سبيلًا للقضاء على دعوة محمد -صلى الله عليه وسلم- وسلكوا كل طريق شاق، حاربوه، وناوءوه، وقاطعوه، وآذوه مع إبطاله لمعتقداتهم، وإثارته لحفيظتهم، واستفزازه لمشاعرهم، وإلهابه لغيرتهم، وأصاب موضع عزتهم وفخارهم، وقد مكنهم من نفسه لو استطاعوا، فدعاهم وتحداهم أن يأتوا بمثل سورة من القرآن ولو كان فيهم أدنى قدرة، أو عرفوا أحدًا يملكها في أقصى الأرض لبعثوا إليه كما بعثوا لليهود يسألونهم عما يسألون محمدًا -صلى الله عليه وسلم- عنه ليحرجوه، فلا يصح بعد هذا أن يقال إن همتهم لم تتجه للإتيان بمثله. وأما الرد على المرتضى ومن معه: ففي قوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} 1. وفي هذا دليل أن عجزهم كان مع بقاء قدرتهم ولو لم يكن عندهم قدرة لما صح تحديهم؛ إذ لا يصح لأحد أن يتحدى الموتى، إذ ليس عجز الموتى مما يحتفل بذكره2 كما لا يصح أن يتحدى المبصر الأعمى وإنما يصح التحدي إذا تحدى من يملك البصر أما إذا سلب البصر لم يصح تحدي مثله، كما أن قوله تعالى: {وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} يدل على وجود القدرة لأن المعاونة والمظاهرة إنما تمكن مع القدرة ولا تصح مع العجز والمنع3.   1 سورة الإسراء: الآية 88. 2 الإتقان: السيوطي ج2 ص151. 3 المغني في أبواب التوحيد والعدل: عبد الجبار الهمداني ج16 ص323. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 القول الثاني أن وجه الإعجاز في القرآن الكريم هو الأخبار الغيبية فيه مدخل ... القول الثاني: أن وجه الإعجاز في القرآن الكريم هو الأخبار الغيبية فيه: وذلك أن القرآن الكريم تضمن عددًا من الأخبار الغيبية في الماضي والحاضر والمستقبل؛ وإذا علمنا أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان أميًّا لا يقرأ ولا يكتب، وعلمنا أن أمته أمة أمية لا تقرأ ولا تكتب وليس عندها علم يذكر في تاريخ الأمم الماضية، ومع هذا كله فقد ورد في القرآن الكريم، الحديث عن الأمم الماضية بما يظهر أن هذا القرآن لا يمكن أن يكون إلا من عند الله الذي يعلم الغيب في السموات والأرض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 أنواع الأخبار الغيبية الواردة في القرآن ... والأخبار الغيبية الواردة في القرآن ثلاثة أنواع: الأول: الأخبار الغيبية الماضية "غيب الماضي": وهي الأخبار التي تحدثت عن الأمم الماضية والأنبياء السابقين عليهم السلام وذلك لعدم تلقي الرسول -صلى الله عليه وسلم- لهذه الأخبار عن أحد من البشر ولم يقرأها في كتاب، فلم يبق إلا أن يكون تلقاها عن طريق الوحي، ولهذا كان القرآن كثيرًا ما يشير إلى هذا المعنى كقوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} 1 وكقوله تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} 2 وكقوله تعالى: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} 3 وقال سبحانه وتعالى: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ، أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ، مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَأِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ، إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} 4 وقوله جل جلاله: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} 5 وغير ذلك من الآيات.   1 سورة العنكبوت: الآية 48. 2 سورة آل عمران: الآية 44. 3 سورة يونس: الآية 16. 4 سورة ص: الآية 67، 70. 5 سورة هود: الآية 49. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 الثاني: الأخبار الغيبية عما يقع بغير حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم "غيب الحاضر": إذ كثيرًا ما تحدث بعض الأحداث وتقع بعض القضايا ولا يشهدها الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولا يحضرها ومع هذا ينزل عليه الوحي والخبر الصادق حتى قبل أن يصل أحد ممن رآها إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- حتى كان الكفار يقول بعضهم لبعض: اخفضوا أصواتكم حتى لا يسمعكم إله محمد ولهذا كان المنافقون يحذرون ذلك، قال تعالى: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ} 1. ومن ذلك قوله تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ} 2 وكقوله تعالى عن المنافقين: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} 3 وغير ذلك من الآيات. الثالث: الأخبار الغيبية عن أمور مستقبلة "غيب المستقبل": وكثيرًا ما أخبر القرآن عن أمور ستحدث في المستقبل ووقعت كما جاءت في القرآن، فمن ذلك قوله تعالى عن ظهور الإسلام وسيادته، وقد كان ذلك فيما بعد: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} 4 وعن القرآن أخبر أنهم لن يأتوا بمثله: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} 5 وقال تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا   1 سورة التوبة: الآية 64. 2 سورة التوبة: الآية 74. 3 سورة التوبة: الآية 107. 4 سورة التوبة: الآية 32. 5 سورة الإسراء: الآية 88. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} 1 وحتى الآن لم يأت أحد بمثله ولن يفعل أحد ذلك. ومنه قوله تعالى عن الكفار: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} 2 وقد نزلت هذه الآية وعائشة -رضي الله عنها- بمكة جارية تلعب3 وتحقق ذلك فيما بعد. ومنه قوله تعالى: {الم، غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ، فِي بِضْعِ سِنِينَ} 4 وكقوله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} 5. ومنه قوله تعالى عن أبي لهب: {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} وعن امرأته: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} 6 والخبر الغيبي في هذا أنه أخبر أنهما في النار ويقتضي هذا موتهما على الكفر، وقد كان ذلك ومثله عن أبي جهل7 {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ، ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ، ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} 8 فمات على كفره، وكذلك أبي بن خلف قال عنه9: {كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ} 10 فمات على الكفر، والنضر بن الحارث11: {كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} 12.   1 سورة البقرة: الآية 23، 24. 2 سورة القمر: الآية 45. 3 انظر صحيح البخاري: ج6 ص54. 4 سورة الروم: الآيات 1- 4. 5 سورة الفتح: الآية 28. 6 سورة المسد: الآيات 2، 4. 7 أسباب النزول: الواحدي ص398. 8 سورة الدخان: الآيات 45، 47. 9 لباب النقول: السيوطي ص234. 10 سورة الهمزة: الآية 4. 11 لباب النقول: السيوطي ص169. 12 سورة لقمان: الآية 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 والوليد بن المغيرة1 {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} 2. ومع قوة هذا الوجه من الإعجاز وتحققه في القرآن الكريم إلا أنه لا يصح الزعم بأنه وجه الإعجاز في القرآن الكريم لخلو كثير من الآيات القرآنية من الأخبار الغيبية مع تحقق الإعجاز فيها. الثالث: أن وجه الإعجاز في القرآن الكريم هو: نظمه. ومن أدلة أصحاب هذا القول قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} 3 فحين زعم الكفار أن أخبار القرآن افتراء وكذب قطع جدلهم بأن طلب منهم على التسليم بأنه مفترى أن يأتوا بعشر سور في نظمه وأسلوبه لا صدق خبره بحسب زعمهم. فالتحدي هنا بالنظم لا بالأخبار فضلًا عن الأدلة الأخرى الكثيرة على إدراك العرب بذوقهم لإعجاز القرآن في نظمه واستيلائه على ألبابهم. وقال بهذا الإعجاز عدد من أئمة اللغة والبيان كالواسطي والجاحظ الذي ألف كتابًا عن نظم القرآن ومنهم الجرجاني والخطابي وغيرهم. وقد فسر الخطابي هذا الوجه بقوله: "وإنما تعذر على البشر الإتيان بمثله لأمور منها: أن علمهم لا يحيط بجميع أسماء اللغة العربية وبألفاظها التي هي ظروف المعاني والحوامل، ولا تدرك أفهامهم جميع معاني الأشياء المحمولة على تلك الألفاظ، ولا تكمل معرفتهم لاستيفاء جميع وجوه النظوم التي بها يكون ائتلافها وارتباط بعضها ببعض، فيتوصلوا باختيار الأفضل عن الأحسن من وجوهها إلى أن يأتوا بكلام مثله، وإنما يقوم الكلام بهذه الأشياء الثلاثة. 1- لفظ حامل.   1 لباب النقول: السيوطي ص223، 224. 2 سورة المدثر: الآية 26. 3 سورة هود: الآية 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 2- ومعنى به قائم. 3- ورباط لهما ناظم. وإذا تأملت القرآن وجدت هذه الأمور منه في غاية الشرف والفضيلة حتى لا ترى شيئًا من الألفاظ أفصح ولا أجزل ولا أعذب من ألفاظه، ولا ترى نظمًا أحسن تأليفًا وأشد تلاؤمًا وتشاكلًا من نظمه، وأما المعاني فلا خفاء على ذي عقل أنها هي التي تشهد لها العقول بالتقدم في أبوابها، والترقي إلى أعلى درجات الفضل من نعوتها وصفاتها. وقد توجد هذه الفضائل الثلاث على التفرقة في أنواع الكلام، فأما أن توجد مجموعة في نوع واحد منه فلم توجد إلا في كلام العليم القدير الذي أحاط بكل شيء علمًا، وأحصى كل شيء عددًا". ثم ذكر بعض ما احتوى عليه القرآن من أحكام التوحيد والعبادة والتحليل والتحريم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأمر بمحاسن الأخلاق والزجر عن مساوئها، ثم قال: "ومعلوم أن الإتيان بمثل هذه الأمور والجمع بين شتاتها حتى تنتظم وتتسق أمر تعجز عنه قوى البشر، ولا تبلغه قُدَرُهم، فانقطع الخلق دونه وعجزوا عن معارضته بمثله أو مناقضته في شكله"1. الرابع: أن وجه الإعجاز هو بلاغته: التي فاقت ما عرفته العرب من صور البلاغة وعجزوا عن الإتيان بمثلها، وقال بهذا القول عدد من أئمة البلاغة والبيان كالعسكري2 وحازم القرطاجني3 والسكاكي الذي ذكر أربعة أقوال لوجه الإعجاز في القرآن فردها كلها ثم قال: "فهذه أقوال أربعة يخمسها ما يجده أصحاب الذوق من   1 بيان إعجاز القرآن: الخطابي ص24، 25. 2 فكرة إعجاز القرآن: نعيم الحمصي ص65. 3 الإتقان: السيوطي ج2 ص152. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 أن وجه الإعجاز هو أمر من جنس البلاغة والفصاحة ولا طريق لك إلى هذا الخامس إلا طول خدمة هذين العلمين بعد فضل إلهي"1. الخامس: أن وجه الإعجاز في القرآن الكريم علومه ومعارفه: وذهب إلى هذا القول عدد من العلماء قديمًا وحديثًا؛ قال به الغزالي "ت505هـ" والفخر الرازي "ت606هـ" والزركشي "ت794هـ" والسيوطي "ت911هـ" ومن المتأخرين الجوهري والإسكندراني والكواكبي والمراغي ومحمد رشيد رضا ومحمد فريد وجدي والقاسمي ومصطفى الرافعي ومحمود شكري الألوسي وابن باديس والغمراوي وعبد الرزاق نوفل وغيرهم كثير2 وسيأتي إن شاء الله مزيد بيان لهذا الوجه. والأقوال في وجه الإعجاز في القرآن الكريم كثيرة وكثرتها ناشئة من تكرار بعضها؛ إذ إن بعض هذه الأوجه داخل في بعض، قال الألوسي: "قد أطال العلماء الكلام على وجه إعجاز القرآن وأتوا بوجوه شتى، الكثير منها خواصه وفضائله"3. والرأي الراجح: في وجه الإعجاز في القرآن أن لا يقتصر على وجه واحد فإعجازه مركب من وجوه عدة، فهو معجز في نظمه وفي أسلوبه وفي بلاغته وفي أخباره وفي علومه ومعارفه كما قال الزركشي -رحمه الله تعالى- وهو يعدد أوجه الإعجاز: "الثاني عشر: وهو قول أهل التحقيق أن الإعجاز وقع بجميع ما سبق من الأقوال، لا بكل واحد على انفراده فإنه جمع كلهن فلا معنى لنسبته إلى واحد منها بمفرده مع اشتماله على الجميع، بل وغير ذلك مما لم يسبق"4 وقال الألوسي في ترجيحه: "والذي يخطر بقلب هذا   1 مفتاح العلوم: السكاكي ص216. 2 انظر كتابي "اتجاهات التفسير في القرآن الرابع عشر"، ج2 ص550 وما بعدها. 3 روح المعاني: الألوسي ج1 ص29. 4 البرهان في علوم القرآن: الزركشي ج2 ص106. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 الفقير أن القرآن بجملته وأبعاضه حتى أقصر سورة منه معجزة بالنظر إلى نظمه وبلاغته وإخباره عن الغيب وموافقته لقضية العقل ودقيق المعنى، وقد يظهر كلها في آية، وقد يستتر البعض كالأخبار عن الغيب ولا ضير ولا عيب فيما يبقى كافٍ في العرض وافٍ. نجوم سماء كلما انقض كوكب ... بدا كوكب تأوي إليه كواكب1 وسنذكر بعد ذلك بعض أوجه إعجاز القرآن الكريم بشيء من التفصيل المناسب للمقام.   1 روح المعاني: الألوسي ج14 ص29، والبيت لأبي الطمحان القيني، انظر الشوارد: للأستاذ عبد الله بن خميس ج1 ص60، والقافية عنده "كواكبه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 الإعجاز اللغوي : وهو أبرز وجوه الإعجاز وأظهرها. إذ هو المطابق لأحوال العرب وقت نزول القرآن، فالتحدي يكون بجنس ما برز فيه القوم وتفوقوا، وهم تفوقوا في البيان والبلاغة والفصاحة ولم يتفوقوا في العلوم والمعارف وأخبار الغيب أو التشريع أو نحو ذلك، فكان الإعجاز بالبيان أظهر وجوه التحدي وأبرزها. والقوم أدركوا أول ما أدركوا إعجازه البياني فملك منهم الألباب واستولى على الأفئدة. ويطلق على هذا الوجه عدة مصطلحات فيسمى: "الإعجاز اللغوي" و"الإعجاز البياني" و"الإعجاز البلاغي" وتدخل في هذا المعنى أيضًا أقوالهم المختلفة في أن إعجاز القرآن "بلاغته" أو "فصاحته" أو "ما تضمنه من البديع" أو "نظمه" أو "أسلوبه" أو غير ذلك من فروع اللغة العربية. والناظر في هذا القرآن الكريم لا يخلو من حالتين 1: الأولى: أن لا يكون ممن أوتوا قوة المعرفة للفصل بين درجات   1 لمزيد من التوسع والبيان انظر كتاب النبأ العظيم: د. محمد عبد الله دراز ص92 وما بعدها ومنه اقتبست أفكار هذا المبحث وزينته ببعض ألفاظه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 الكلام والتفريق بين البليغ والأبلغ والفصيح والأفصح. الثانية: أن يكون قد أوتي حظًّا من التمييز بين الأساليب ومعرفة درجات البلاغة والفصاحة. فإن كنت من الفئة الأولى فلا سبيل لك لمعرفة إعجاز القرآن وبلاغته بحسك وذوقك، وإنما سبيلك أن تقنع بشهادة أهل الخبرة والمعرفة، وهم هنا أهل الفصاحة والبلاغة، والبيان والبديع وأعلمهم بذلك سليقة، وأجودهم فطرة، وأتقنهم تربية وسماعًا هم من نزل عليهم القرآن، وأولئك قد أقروا بذلك في مشاهد عديدة، وأقوال كثيرة، فهذا الوليد بن المغيرة يقول لمن أنكر عليه سماعه للقرآن وتأثره به: "والله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار مني ولا أعلم برجزه ولا بقصيده مني، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئًا من هذا، ووالله إن لقوله الذي يقول لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله، وإنه ليعلوا وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته. قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه، قال: فدعني حتى أفكر، فلما فكر قال: هذا سحر يؤثر يأثره عن غيره فنزلت: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} 1 وقد وصف الله تفكيره بقوله: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ، فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ نَظَرَ، ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ، ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ، فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ، إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} 2. قال الدكتور محمد عبد الله دراز: "فانظر تصوير القرآن للجهد العنيف الذي بذله الرجل في إصدار حكمه الثاني حيث يقول: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ} ، {ثُمَّ نَظَرَ، ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ، ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَر} ، معنى هذا كله أنه كان يقاوم فطرته ويستكره نفسه على مخالفة وجدانه، وأنه كان في حيرة وضيق ما يقول.. وأخيرًا استطاع أن يقول ما قال نزولًا على إرادة قومه، وانظر الفرق بين   1 رواه الحاكم في مستدركه ج2 ص506، 507 وقال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، والآية 11 من سورة المدثر. 2 سورة المدثر: الآية 18- 25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 هذا الحكم المصطنع وبين حكم البديهة العربية في قوله أول مرة: إنه يعلو وما يعلى وإنه يحطم ما تحته" هذه شهادة أهل اللغة نفسها وهي شهادة خصم والفضل ما شهدت به الأعداء. وإذا لم تر الهلال فسلم ... لأناس رأوه بالأبصار وإن كنت من الفئة الثانية وهم الذين أوتوا حظًّا من تذوق البيان وشيئًا من إدراك الفصاحة والبلاغة، فدونك نصوص البلغاء، وأبيات الشعراء، وكلمات الخطباء اختر منها ما شئت من أرقى عصور البلاغة وأعلى صور البيان ثم انظر في آية من آيات القرآن ستجد البون شاسعًا، والفرق كما بين الثرى والثريا أو السماء والأرض. فإن قلت: نعم لقد نثرت كنانة الكلام بين يدي وعجمت سهامها، فما وجدت كالقرآن أصلب عودًا، ولقد وردت مناهل القول وتذوقت طعومها فما وجدت كالقرآن أعذب موردًا، وقد آمنت أنه كما وصفتموه غير أن الذي أحس به من ذلك معنى يتجمجم في الصدر لا أحسن تفسيره ولا أملك تعليله، فهل من سبيل إلى عرض شيء من ذلك علينا لتطمئن به قلوبنا ونزداد إيمانًا إلى إيماننا. قلنا: إن هذا أمر جسيم، ومرام بعيد لا يمكن رسمه في هذه العجالة ولو طالت، ولعلنا نذكر ما يقرب البعيد ويدنيه، ونتحدث عن أمرين: أولهما: ألفاظه وهي القشرة البادية. ثانيهما: معانيه وهي اللآلئ الكامنة. فأول ما يلاقيك من ألفاظه خاصية تأليفه الصوتي في شكله وجوهره. 1- دع القارئ المجود يقرأ القرآن يرتله حق ترتيله نازلًا بنفسه على هوى القرآن لا بنفس تاليه ثم انتبذ منه مكانًا قصيًّا لا تسمع فيه جرس حروفه ولكن تسمع حركاتها وسكناتها، ومداتها وغناتها، ووصلها وسكتها ثم ألق سمعك إلى هذه المجموعة الصوتية وستجد اتساقًا وائتلافًا يسترعي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 سمعك لا يعروك منه على كثرة ترداده ملل ولا سأم. هذا الجمال في لغة القرآن لا يخفى على أحد ممن يسمع القرآن حتى الذين لا يعرفون لغة العرب فكيف يخفى على العرب أنفسهم. إنه النظام الصوتي البديع الذي قسمت فيه الحركة والسكون تقسيمًا منوعًا، ووزعت في تضاعيفه حروف المد والغنة توزيعًا بالقسط يساعد على ترجيع الصوت به وتهادي النفس فيه آنًا بعد آن. 2- وإذا ما قربت أذنك قليلًا قليلًا فطرقت سمعك جواهر حروفه خارجة من مخارجها الصحيحة فاجأتك منه لذة أخرى في نظم تلك الحروف ورصفها وعلاقاتها مع بعضها، فهذا ينقر وهذا يصفر وذاك يهمس وذلك يجهر وآخر ينزلق عليه النفس، وآخر يحتبس عنده النفس وهلم جرًّا، فترى الجمال اللغوي ماثلًا أمامك في مجموعة مختلفة مؤتلفة. من هاتين الصفتين السابقتين تتألف القشرة السطحية للجمال القرآني، وليس الشأن في هذا الغلاف إلا كشأن الأصداف مما توحيه اللآلئ النفيسة؛ فاقتضت حكمته تعالى أن يصون معاني القرآن الكريم السامية بألفاظ عذبة تغري بطلاوتها، وتكون بمنزلة "الحداء" يستحث النفوس على السير إليها، ويهون عليها عناء السفر في طلبها، لا جرم اصطفى لها من هذا اللسان العربي المبين ذلك القالب العذب الجميل، ومن أجل ذلك سيبقى صوت القرآن أبدًا في أفواه الناس وآذانهم ما دامت فيهم حاسة تذوق وحاسة تسمع وإن لم يكن لأكثرهم قلوب يفقهون بها حقيقة سره، وينفذون بها إلى بعيد غوره. ثانيًا: المعاني: فإن لم يلهك جمال القشرة البادية عن سامي المعاني المستترة، فكشفت الصدفة عن درها، ونفذت من هذا النظام اللفظي إلى ذلك النظام المعنوي تجلى لك ما هو أبهى وأبهر، ولقيت ما هو أروع وأبدع، ولا تحسبن ذلك الأمر لا يظهر أمره إلا في مجموع القرآن، بل يظهر ذلك في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 القطعة منه، ويظهر في السورة، وسنعرض لك لمحة سريعة عن هاتين المرتبتين: أولًا: بيان القرآن في قطعة قطعة منه: فمن صفاته: 1- القصد في اللفظ والوفاء بالمعنى: وهما طرفان متقابلان الميل لأحدهما ميل عن الآخر فمن أوجز في لفظه لا ينفك من أن يحيف على المعنى قليلًا أو كثيرًا ومن يعتمد إلى الوفاء بالمعنى وإبراز كل دقائقه لا يجد في قليل اللفظ ما يشفي صدره فيسترسل استرسالًا يشعرك بتضاؤل قوة نشاط واضمحلال باعثة إقبالك؛ فإن سرك أن ترى كيف تجتمع هاتان الغايتان على تمامهما بغير فترة ولا انقطاع فانظر حيث شئت من القرآن الكريم تجد وفاء الألفاظ بحق المعاني واحتواء المعاني للألفاظ بحيث لا يستغنى معنى عن لفظة ولا تقصر لفظة عن معنى كما قال ابن عطية:: "لو نزعت منه لفظة ثم أدير لسان العرب في أن يوجد أحسن منها لم يوجد"1. 2- خطاب العامة وخطاب الخاصة: وهما أيضًا غايتان متباعدتان فما تخاطب به الذكي لا تخاطب به الغبي، وما تخاطب به الطفل لا تخاطب به الكبير، أدرك العرب ذلك وسدوا عجزهم عنه بعبارات مثل "لكل مقام مقال" ونحو ذلك. وجاء القرآن الكريم وقد ملك الغايتين فهو قرآن واحد يراه البلغاء أوفى كلام وأبلغه، ويراه العامة أحسن كلام وأوضحه.   1 المحرر الوجيز: ابن عطية ج1 ص60، 61. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 3- إقناع العقل وإمتاع العاطفة: وفي كل إنسان قوتان: أ- قوة تفكير. ب- قوة عاطفة ووجدان. والقوة الأولى تغوص باحثة عن الحقائق المستترة والمعاني الباطنة، وأما الثانية فتطفو تبحث عن الجمال الظاهر في القشرة البادية. والنفس الإنسانية إما أن تغوص مع تلك أو تطفو مع هذه، ولا تستطيع أن تغوص وتطفو في آن واحد أو لحظة واحدة. وحين تظهر "قوة الوجدان" تضعف "قوة التفكير" فلا يتقن عقله فكرًا فإن وفى المتكلم بحق العقل بخس حق العاطفة وإن وفى بحق العاطفة بخس حق العقل، فإما أن يأتي بكلام علمي مجرد يرضي به عقله أو بكلام أدبي منمق يرضي به عاطفته، حتى بات الناس يقسمون الأساليب إلى نوعين لا ثالث لهما: أ- أسلوب علمي. ب- أسلوب أدبي. وقسمت الدراسة في عصورنا هذه إلى علمية أو أدبية؛ فلا تطمع من إنسان في أن يهب لك هاتين الطلبتين على سواء وهو لم يجمعهما في نفسه على سواء وما كلام المتكلم إلا نتاج قوته إما قوة التفكير وإما قوة الوجدان وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه. حاشا القرآن الكريم الذي جمع "قوة الحقيقة البرهانية" "وقوة المتعة الوجدانية" تدبروا في آيات القرآن الكريم فسترون أنها في معمعة البراهين والأحكام لا تنسى نصيب القلب والوجدان؛ ذلك أنها كلام الله رب العالمين الذي لا يشغله شأن عن شأن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 4- البيان والإجمال: وهما أيضًا أمران متقابلان لا يكادان يجتمعان في كلام إن وجد الأول اضمحل الثاني، وإن وجد الثاني تلاشي الأول. فكلام البشر إما أن يكون مجملًا وإما أن يكون مبينًا وأنى له أن يكون مجملًا مبينًا في آن واحد. أما القرآن الكريم كلام الله سبحانه وتعالى فالأمر غير ذلك تقرأ الآية القرآنية فتجد فيها من الوضوح والظهور ما يبوئها الدرجة العليا في البيان بأسلوب محكم خال من كل غريب عن الغرض، يسبق معناها إلى نفسك دون كد ذهن ولا إعادة تلاوة فإن أعدت النظر مرة أخرى لاح لك منها معانٍ جديدة، فإن زدت التدبر زاد العطاء وانكشف لك ما يجعلك توقن أن في الآية "إجمالًا" لمعان عديدة مع بيان ووضوح. ثانيًا: بيان القرآن في سورة سورة منه: وهي أيضًا مرتبة من مراتب البيان في القرآن لها صفات وخصائص أهمها: الكثرة والواحدة: فالكلام هو مرآة المعنى فإن ساء نظمه تبددت معانيه كما تتبدد الصورة الواحدة على المرآة المهشمة أو غير المستوية السطح. ولا بد لإبراز المعنى ووضوحه من إحكام ألفاظه وإتقان بيانه وذلك بتمام التقارب بين كلماته والترابط بين جمله حتى تتماسك وتتعانق أشد ما يكون التماسك وأقوى ما يكون العناق. وليس ذلك بالأمر الهين بل هو مطلب شاق يحتاج إلى مهارة وحذق، ولطف وحس في اختيار أحسن المواقع لتلك الأجزاء، أيها أحق أن يجعل أصلًا أو تتمة، وأيها أحق أن يبدأ به أو يختم، ثم اختيار أحسن الطرق للمزج بينها بالإسناد أو التعليق أو بالعطف، وغير ذلك من أسباب الترابط، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 ذلك حال المعنى الواحد الذي تتصل أجزاؤه فيما بينها، فما ظنك بالمعاني المختلفة في جوهرها، كم تحتاج من المهارة والحذق؟ ولهذه المشقة نرى كثيرًا من البلغاء حين ينتقل من معنى إلى معنى لا يستغنى عن استعمال بعض الأدوات لسد الثغرة التي يحدثها الانفصال بين المعاني من نحو قولهم: "وبعد" أو "ونعود" أو "ننتقل إلى الحديث عن" أو "وسنتحدث" أو "بقي علينا" ونحو ذلك ... وهذا شأن البلغاء في الحديث الواحد في المجلس الواحد فكيف لو جاء حديثه في أماكن مختلفة وأزمان متباعدة ألا تكون سمات الانفصال وظواهر الانقطاع أقوى وأشد. حاشا القرآن فقد اشتملت السورة منه على وصف، وقصص، وتشريع، وجدل، وعقائد، وأمر، ونهي، ونزلت السورة في أوقات مختلفة وأزمان متباعدة، ورتبت آياتها بطريقة عجيبة يرسم مكان الآية ويحدد قبل أن تنزل الآية التي قبلها أو التي بعدها ثم لا يحدث أن تنقل من موضعها إلى آخر، فإذا نزل ما حولها من الآيات رأيت الترابط والتلازم كأنهن قطعة واحدة بل رأيتهن مع بقية آيات السورة كأنهن سبيكة واحدة فلا تجد فرقًا ولا يستبين لك أمر في معرفة ما نزل من السورة منجمًا وما نزل منهن مفرقًا فجاءت الكثرة الكاثرة من المعاني في السورة كأنهن معنى واحدًا أو آية واحدة محكمة السبك متقنة السرد1، 2.   1 إن شئت دراسة وافية دقيقة لنموذج تطبيقي لهذا المعنى فانظر ما كتبه الدكتور محمد عبد الله دراز عن الكثرة والواحدة في سورة البقرة في كتابه النبأ العظيم من ص142 إلى نهاية الكتاب. 2 إلى هنا انتهى ما اقتبسته مما كتبه في هذا الموضوع الدكتور محمد عبد الله دراز في كتابه القيم "النبأ العظيم" من ص92، ولمزيد بيان انظر ما كتبه الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني في كتابه "مناهل العرفان" ج2 ص325، 353، والأستاذ مصطفى صادق الرافعي في كتابه "إعجاز القرآن والبلاغة النبوية" ص213، 309. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 الإعجاز العلمي مدخل ... الإعجاز العلمي: القرآن الكريم كلام الله، والكون كله من خلق الله، ولا يشك مؤمن في التطابق التام بين كلام الله تعالى وبين حقائق هذا الكون ونظامه. ولا ريب أن المؤمن حين يقرأ اكتشافًا علميًّا جديدًا أثبته العلماء بالبرهان القاطع ثم يجد ذلك مذكورًا في القرآن أو ما يوافقه فإنه يشعر بزيادة الطمأنينة القلبية كالتي طلبها إبراهيم -عليه السلام- وبفرح وسرور كفرح الرسول -صلى الله عليه وسلم- بحديث الجساسة1. لكن هذه المقارنة أو التوفيق بين النص القرآني الكريم والاكتشاف العلمي الجديد ينبغي أن تكون له ضوابطه وأن تكون له موازينه. ولهذا وقع الاختلاف بين العلماء في التفسير العلمي للقرآن الكريم بين مؤيد ومعارض.   1 انظر حديث الجساسة في صحيح مسلم ج4 ص2261. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 المراد به : يراد بالتفسير العلمي: "اجتهاد المفسر في كشف الصلة بين آيات القرآن الكريم ومكتشفات العلم التجريبي والربط بينهما بوجه من الوجوه" وهذا تعريفه بما هو عليه، أما تعريفه بما ينبغي أن يكون عليه فهو: "كشف الصلة بين النصوص القرآنية وحقائق العلم التجريبي". والفرق بينهما أن في الأول خلطًا بين النظريات والحقائق بحيث نجد كثيرًا من المفسرين يفسرون القرآن بهما من غير تحقيق، وما ينبغي أن يكون هو التمييز بين النظريات والحقائق والاقتصار على الثانية دون الأولى في تفسير القرآن الكريم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 أقوال العلماء في الإعجاز العلمي 1: مما لا شك فيه أن مثل هذا اللون من التفسير في جدته وتجدده   1 نقلت هذه المبحث بتصرف يسير من كتاب اتجاهات التفسير ج2 ص550، وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 سيكون له خصوم، وسيكون له أنصار، يلتمس كل منهم دليلًا، ينصر به رأيه، ويؤيده به، ثم يكر على دليل الخصم فيبطله. وقد كان هذا الأمر في التفسير العلمي للقرآن الكريم منذ لحظات بزوغه، ونحن وإن كنا لا نعرف هذا الحدث باليوم أو بالسنة إلا أن العلماء اتفقوا على أن الإمام الغزالي المتوفى سنة 505هـ من أوائل المتكلمين في هذا النوع من التفسير وعلى هذا فيكون ظهوره على وجه التقريب في أواخر القرن الخامس الهجري، واتفقوا أيضًا على أن الغزالي نفسه أكثر من استوفى بيان هذا القول إلى عهده1. ومما لا شك فيه أن الغزالي لم يكن وحيدًا في الميدان يجول ويصول فقد نزل معه أنصار ونازله خصوم وما زالت المعركة قائمة لم يهدأ لها بال ولم تقعد لها قائمة وانقسموا إلى فريقين أو ثلاثة: 1- المؤيدون للتفسير العلمي. 2- المعارضون. 3- المعتدلون.   1 انظر مثلًا: التفسير معالم حياته: أمين الخولي ص20، والتفسير والمفسرون: الذهبي ج3 ص140، ولمحات في علوم القرآن: محمد الصباغ ص203، والتفسير العلمي للقرآن الكريم: عبد الله الأهدل ص185، واتجاهات التفسير في العصر الراهن: عبد المجيد المحتسب. ص247، وغيرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 المؤيدون للتفسير العلمي مدخل ... المؤيدون للتفسير العلمي: ومن المؤيدون للتفسير العلمي الإمام الغزالي، الفخر الرازي، الزركشي، السيوطي، البيضاوي، نظام الدين النيسابوري، ومن المعاصرين الألوسي، وطنطاوي الجوهري، والإسكندراني، والكواكبي، ومحمد فريد وجدي، والرافعي، والقاسمي وغيرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 من أدلة المؤيدون للتفسير العلمي ... من أدلة المؤيدين للتفسير العلمي: استدل المؤيدون للتفسير العلمي بأدلة كثيرة منها1: 1- الاستدلال بظاهر عموم بعض الآيات: كقوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} 2 وقوله سبحانه: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} 3 وقوله تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} 4 وقوله سبحانه: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} 5 وغير ذلك من الآيات الداعية إلى التفكر والتدبر في خلق الله عز شأنه. 2- الاستدلال بظاهر عموم بعض الأحاديث والآثار: كحديث: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ستكون فتن " قيل: وما المخرج منها؟ قال: "كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم.. " الحديث6. وما أخرجه سعيد بن منصور عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: "من أراد العلم فعليه بالقرآن فإن فيه خبر الأولين والآخرين"7. 3- وقالوا: إن الله سبحانه وتعالى ملأ كتابه من الاستدلال على العلم   1 نقلت هذه الأدلة بتصرف من بحث "التفسير بمكتشفات العلم التجريبي" للدكتور محمد الشايع مجلة جامعة الإمام، العدد الرابع 1411هـ ص37، 40. 2 سورة الأنعام: الآية 38. 3 سورة النحل: الآية 89. 4 سورة ق: الآية 6. 5 سورة فصلت: الآية 52. 6 رواه الترمذي ج5 ص172، وقال: "هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وإسناده مجهول وفي الحارث مقال "وتعقبه ابن كثير في فضائل القرآن: ص11، فقال: " ... بل قد رواه محمد بن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي عن الحارث الأعور.. ثم قال.. وهو كلام حسن صحيح على أنه قد روي له شاهد عن عبد الله بن مسعود". 7 الإتقان: السيوطي ج2 ص126. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 والقدرة والحكمة بأحوال السموات والأرض، وتعاقب الليل والنهار، وكيفية أحوال الضياء والظلام، وأحوال الشمس والقمر والنجوم، وذكر هذه الأمور في أكثر السور وكررها وأعادها مرة بعد أخرى، فلو لم يكن البحث عنها والتأمل في أحوالهم جائزًا لما ملأ الله كتابه منها1. 4- أن العلم الحديث قد يكون ضروريًّا لفهم بعض المعاني القرآنية، وليس هناك ما يمنع من أن يكون فهم بعض الآيات فهمًا دقيقًا متوقفًا على تقدم بعض العلوم، فتكون الحقيقة العلمية من قواعد الترجيح في التفسير إذا كان للآية أكثر من معنى فيتعين أن يؤخذ بالمعنى الذي تؤيده الحقائق العلمية. 5- تحقق فوائد كثيرة ومنافع كبيرة من التفسير العلمي، منها2: أ- إدراك وجوه جديدة للإعجاز في القرآن الكريم بإثبات التوافق بين حقائق القرآن الكريم وحقائق العلم. ب- استمالة غير المسلمين إلى الإسلام وإقناعهم به ببيان إعجاز القرآن العلمي، وإقامة الحجة عليهم بذلك. ج- امتلاء النفوس إيمانًا بعظمة الله جل جلاله وعظيم سلطانه وقدرته بعد الوقوف على أسرار الكون التي كشفها القرآن.   1 تفسير الرازي: ج4 ص121. 2 انظر كتابي "اتجاهات التفسير" ج2 ص602. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 المعارضون للتفسير العلمي مدخل ... المعارضون للتفسير العلمي: ومن المعارضون للتفسير العلمي أبو حيان الأندلسي، والشاطبي، ومحمود شلتوت، وأمين الخولي، وسيد قطب وغيرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 من أدلة المعارضين 1: واستدل المعارضون للتفسير العلمي بأدلة منها: 1- أن للتفسير شروطًا وقيودًا قررها العلماء ينبغي الالتزام بها فلا يكون تفسير القرآن مباحًا لكل من حصل علمًا من العلوم وغابت عنه علوم أخرى لا بد منها للمفسر. ومن ذلك عدم تحميل ألفاظ القرآن معاني وإطلاقات لم توضع لها ولم تستعمل فيها. 2- أن القرآن الكريم كتاب هداية وإرشاد وليس بكتاب تفصيل لمسائل العلوم ونظرياته ودقائق الاكتشافات والمعارف، ومن طلب ذلك من القرآن فقد أساء فهم طبيعة هذا القرآن ووظيفته. 3- أن التفسير العلمي مدعاة إلى الزلل لدى أكثر الذين خاضوا فيه من المعاصرين؛ لأن عملية التوفيق تفترض غالبًا محاولة للجمع بين موقفين يتوهم أنهما متعاديان ولا عداء، أو يظن أنهما متلاقيان ولا لقاء2. 4- أن تناول القرآن بهذا المنهج يضطر المفسر إلى مجاوزة الحدود التي تحتملها ألفاظ النص القرآني لأنه يحس بالضرورة متابعة العلم في مجالاته المختلفة فيتعجل تلمس المطابقة بين القرآن والعلم تعجلًا غير مشروع. 5- أن ما يكشف من العلوم إنما هو نظريات وفروض قابلة دائمًا للتغيير والتبديل، والتعديل، والنقض، والإضافة بل قابلة لأن تنقلب رأسًا على عقب، ومن ثم فلا يصح أن نعلق الحقائق القرآنية النهائية بمثل تلك النظريات حتى لا نقف محرجين عند ثبوت بطلان تلك النظرية.   1 انظر كتابي "اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر"، ج2 ص602، 603، والتفسير بمكتشفات العلم التجريبي: د. محمد الشايع 28، 33. 2 معالم الشريعة: د. صبحي الصالح ص290. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 الرأي المختار 1: قبل أن نذكر ما نراه صوابًا يجب أن نذكر حقيقة ينبغي إدراكها وهي التفريق بين التفسير العلمي، والإعجاز العلمي. فالأول هو مثار البحث والمناقشة وأما الثاني فقضية مسلمة لا نزاع فيها. ذلكم أن المؤيدين للتفسير العلمي والمعارضين له أيضًا كلهم بلا استثناء يقرون ويعترفون أن القرآن الكريم لم ولن يصادم حقيقة علمية. لم يقولوا هذا عن عاطفة مجردة، ولم يقله أتباع القرآن فحسب، وإنما قاله أولئك، وقاله خصومه أيضًا، بعد أن تناولوا آيات عديدة منه، وقلبوها دراسة وتأملًا، وتدبرًا، ونظروا فيما بين أيديهم من النظريات والحقائق العلمية حتى انتهوا إلى ما انتهوا إليه. وقد يحسب أحد أن السلامة من مصادمة الحقائق العلمية أمر هين فما على المتكلم إلا أن يتجنب الخوض في مجالاتها، ويحذر من الوقوع في مبهمات العلوم، وغوامض المعارف، وأسرار الكون وخفايا العلم وبذا يظفر بهذه السمة. والأمر حق لو كان القرآن سلك هذا المسلك لكنه وقد أنزل قبل أربعة عشر قرنًا من الزمن عرض لكثير من مظاهر هذا الكون كخلق السموات والأرض وخلق الإنسان، وسوق السحب وتراكمه، ونزول المطر، وجريان الشمس، وتحدث عن القمر والنجوم والشهب وأطوار الجنين. وعن النبات والبحار وغير ذلك كثير ومع ذلك كله لم يسقط العلم كلمة من كلماته، ولم يصادم جزئية من جزئياته2، فإذا كان الأمر كذلك فإن هذا بحد ذاته يعتبر إعجازًا علميًّا للقرآن حتى ولو لم يتم الربط بين الآية والاكتشاف العلمي الحديث.   1 نقلته بتصرف من كتابي اتجاهات التفسير ج2 ص600، 604. 2 انظر كتابي "خصائص القرآن الكريم" ص75، 76. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 وهذا أمر يدركه ويقره كل العلماء لا ينكره أحد، فالإعجاز العلمي في القرآن متحقق مدرك ثابت، لا خلاف فيه. ثم انقسم العلماء بعد ذلك إلى قسمين فمنهم من قال: ما دام الإعجاز العلمي متحققًا في القرآن وثابتًا فما علينا أن نطبقه بين آياته واحدة واحدة وبين الحقائق العلمية واحدة واحدة وامتنعت طائفة أخرى عن تطبيقه لا خوفًا عليه من النقض وليس لخشية على حقائقه، ولكن لعدم الثقة في مداركنا نحن البشر، فقد نحسب نظرية علمية حقيقة علمية فما تلبث إلا قليلًا حتى تتقوض بعد رسوخ، وتتزعزع بعد ثبوت، ولات حين مناص نقع في الحرج الشديد فيكذب القرآن وهو الصادق فتكون البلية، فالعيب والنقص في مداركنا وليس في حقائق القرآن. وبهذا تدرك أن الجميع يقول بالإعجاز العلمي في القرآن لكن منهم من قال بجواز التفسير العلمي ومنهم من منعه، والذي نراه صوابًا هو الوسط بين الفريقين. فلا رفض ولا إنكار للتفسير العلمي يمنع من إدراك وجوه الإعجاز الجديدة، ويدفع مزاعم القائلين بالعداوة بين الدين والعلم، ويمنع من استمالة غير المسلمين أو يحث على الانتفاع بقوى الكون. ولا تسليم مطلق للتفسير العلمي لأن إعجاز القرآن ثابت وغني عن أن يسلك في بيانه هذا المسلك، كما أن الدعوة إلى النظر في الكون دعوة لمواضع العبرة والعظة وليس بالضرورة إلى بيان دقائقها وكشف علومها ولأن التفسير العلمي مدعاة إلى الزلل لدى أكثر الذين خاضوا فيه، وأن تناول القرآِن بهذا المنهج يضطر المفسر إلى مجاوزة الحدود التي تحتملها ألفاظ القرآن ويحملها ما لا تحتمل فضلًا عن أن ما يكشف من العلوم إنما هو فروض ونظريات قابلة دائمًا للتغيير والتعديل والنقص والإضافة. إذًا فلا رفض مطلق ولا قبول مطلق بل وسط بين طرفين وجمع بين حقيقتين حقيقة قرآنية ثابتة بالنص الذي لا يقبل الشك، وحقيقة علمية ثابتة بالتجربة والمشاهدة القطعيين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 لهذا فلا بأس -فيما أرى- من إيراد الحقائق العلمية الثابتة في تفسير القرآن بشرط: 1- ألا تطغى تلك المباحث على المقصود الأول من القرآن وهو الهداية. 2- أن تذكر تلك العلوم لأجل تعميق الشعور الديني لدى المسلم والدفاع عن العقيدة ضد أعدائها. 3- أن تذكر تلك الأبحاث على وجه يدفع المسلمين إلى النهضة العلمية. 4- أن لا تذكر هذه الأبحاث على أنها هي التفسير الذي لا يدل النص القرآني على سواه، بل تذكر لتوسيع المدلول، وللاستشهاد بها على وجه لا يؤثر بطلانها فيما بعد على قداسة النص القرآني؛ ذلك أن تفسير النص القرآني بنظرية قابلة للتغيير والإبطال يثير الشكوك حول الحقائق القرآنية في أذهان الناس كلما تعرضت نظرية للرد أو البطلان1. فإذا تحققت هذه الشروط فلا مانع من إيراد الحقائق العلمية في كتب التفسير والله أعلم.   1 مجلة كلية أصول الدين، العدد الثاني ص58، مقال: نظرات في مدرسة التفسير الحديثة. د. مصطفى مسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 من المؤلفات في الإعجاز العلمي : هناك مؤلفات كثيرة في الإعجاز العلمي للقرآن الكريم أذكر منها: 1- الجواهر في تفسير القرآن الكريم: طنطاوي جوهري. 2- كشف الأسرار النورانية القرآنية: محمد بن أحمد الإسكندراني. 3- القرآن ينبوع العلوم والعرفان: علي فكري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 4- ما دل عليه القرآن مما يعضد الهيئة الجديدة القويمة البرهان: محمود شكري الألوسي. 5- التفسير العلمي للآيات الكونية في القرآن: حنفي أحمد. والمؤلفات في ذلك كثيرة جدًّا، وهناك محاضرات وأفلام على هذا النحو، كما أنشأت في المملكة العربية السعودية هيئة للإعجاز العلمي في القرآن والسنة تابعة للمجلس الأعلى للمساجد تعقد الندوات والمحاضرات وتطبع الكتب المتعلقة بذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 أمثلة للتفسير العلمي : والأمثلة على الحقائق العلمية والآيات القرآنية التي توافقها ولا تخالفها كثيرة ليس بوسعنا أن نوردها بالتفصيل بل نذكر الآية وما تشير إليه بإيجاز شديد ومن أراد التوسع فدونه كتب الإعجاز العلمي: 1- في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا} 1 تفريق بين الشمس والقمر ثم أدركه العلماء بعد ذلك. 2- في قوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا، وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} 2 إشارة إلى شكل الجبل الظاهر والباطن، وأدركه العلماء بعد ذلك. 3- في قوله تعالى: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} 3 إشارة إلى مراحل خلق الإنسان في الرحم ولم يدركها العلماء إلا في العصور الحديثة. 4- في قوله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ، خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ   1 سورة يونس: الآية 5. 2 سورة النبأ: الآية 7، 8. 3 سورة المؤمنون: الآية 14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} 1 إشارة إلى موضع تكون النطفة وهو أمر لم يدركه العلماء إلا حديثًا. 5- في قوله تعالى: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} 2 في تخصيص البنان بالذكر صفة تميزه عن غيره من أعضاء الجسم لم يكتشفها العلم إلا حديثًا وهو علم البصمات. 6- في قوله تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} 3 إشارة إلى مركز الحس بالألم في الإنسان وهو الجلد. 7- في قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} 4 إشارة إلى ضيق صدر من يصعد إلى السماء وهو أمر لم يكتشفه العلم إلا حديثًا حيث يقل الأوكسجين وينخفض الضغط. 8- وفي قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ، وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} 5 إشارة إلى ما اكتشف العلم الحديث بعضه من عظمة هذا الكون واتساعه الذي يقصر عن إدراكه إنسان. 9- وفي قوله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} 6 إشارة إلى ما كان مجهولًا من تحديد مصدر اللبن في الأنعام. 10- وفي قوله تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً، أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً   1 سورة الطارق: الآية 5- 7. 2 سورة القيامة: الآية 4. 3 سورة النساء: الآية 56. 4 سورة الأنعام: الآية 125. 5 سورة الواقعة: الآية 75. 6 سورة النحل: الآية 66. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} 1 إشارة إلى أن الإنسان يخلق من جزء ضئيل جدًّا "نطفة" من المني وهذا ما كشفه العلم الحديث. وسبحان الذي أحاط بكل شيء علمًا ...   1 سورة القيامة: الآيتين 36، 37. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 الإعجاز التشريعي مدخل ... الإعجاز التشريعي: والمراد بهذا الوجه ذلكم "التشريع" الذي جاء به القرآن الكريم الشامل الكامل المحكم المتقن. "شامل" لكافة أوجه التشريع سواء ما يتعلق منها بالفرد أو في المجتمع، وسواء أكان في العقيدة أو العبادة أو المبادئ والأخلاق، أو الاجتماع، أو الاقتصاد أو السياسة في السلم أو الحرب، في السفر أو الحضر، في الليل أو النهار. "كامل" لاستيفائه لدقيق المسائل وجليلها، وصغيرها وكبيرها. "محكم متقن" لا نقص فيه ولا عيب، ولا قصور ولا خلل. أحكم تشريع، وأكمل نظام، عجز البشر ولا زالوا عاجزين عن الإتيان بمثل تشريعه، أو الإتيان بمثل سياسته أو نظامه فحين ننظر في التشريعات البشرية والقوانين الوضعية نرى البون الشاسع بين هذا وذاك مما يكشف لنا وجه الإعجاز التشريعي في القرآن الكريم. فهذا التشريع بشموله وكماله وإحكامه أكبر من أن تحيط به العقول البشرية في جيل واحد أو في مجموعة من الأجيال فضلًا عن أن يحيط به عقل بشري واحد في جيل واحد. وليس من السهل أن نرسم في أسطر معالم هذا التشريع المعجز ولكنها إشارة مجرد إشارة بأصبع صغير إلى شيء عظيم. فنشير إلى أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 القرآن نزل في مجتمع جاهلي سادت فيه الجاهلية العقيدية، والاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، وليس من السهل في مثل هذا المجتمع نقد أمر من أمورها فضلًا عن تغييره أو قلب الأمور كلها، فسلك القرآن مسلكًا عجيبًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 منهج القرآن في التشريع مدخل ... منهج القرآن في التشريع: يقوم منهج القرآن في التشريع على أسس منها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 أولًا- تربية الفرد : ومن شأن كل بناء أن يبدأ بالقطع الصغيرة يصفها بعضها إلى بعض حتى يصبح بناء عظيمًا، والأفراد هم لبنات المجتمعات وتهذيب الأفراد وتربيتهم تأسيس لبناء محكم متقن، ومن أسس هذه التربية: 1- تطهير قلبه من أدران الشرك: ببيان أن هذه الأصنام والأوثان لا تضر ولا تنفع فلا تستحق العبادة، ووبخهم وشنع عليهم: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ} 1 وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} 2 وقال سبحانه: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ، وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ، وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ، إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ   1 سورة الأنعام: الآية 76. 2 سورة الحج: الآية 73. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ} 1 وقال سبحانه: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} 2 وقوله: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} 3 وهكذا في آيات كثيرة كشف أحوال هذه الأصنام والأوثان التي يدعونها من دون الله وبسط الأدلة على عدم استحقاقها للعبادة، فطهر قلوبهم من أدران الشرك. 2- غرس عقيدة التوحيد: وبعد أن نزع منهم عقيدة الشرك غرس في الأرض الطيبة عقيدة طيبة، وبعد أن نزع من قلوبهم عبادة الأصنام دعا إلى عبادة الله وحده لا شريك له، مثبتًا استحقاقه سبحانه للعبادة وحده دون سواه: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ، وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} 4 وقال سبحانه: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} 5 وقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ} 6 وقال سبحانه: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى، وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى، وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى} 7.   1 سورة الأعراف: الآيات 191، 196. 2 سورة سبأ: الآية 22. 3 سورة فاطر: الآية 13. 4 سورة الرعد: الآيات 2- 4. 5 سورة الملك: الآية 30. 6 سورة الملك: الآية 19. 7 سورة الأعلى: الآيات 1- 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 ثم بين الوحدانية: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} 1 {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} 2 {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} 3. وحذر من أن يشرك به: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} 4 {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا} 5 {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} 6 {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} 7 {وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا} 8. وإذا كان سبحانه إلهًا واحدًا لا شريك له فالعبادة حق له سبحانه وحده ويجب الإذعان والإسلام له: {فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا} 9 {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 10 {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} 11 {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} 12 {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ} 13.   1 سورة البقرة: الآية 163. 2 سورة البقرة: الآية 254. 3 سورة الصافات: الآية 5. 4 سورة النساء: الآية 48. 5 سورة النساء: الآية 116. 6 سورة المائدة: الآية 74. 7 سورة الإسراء: الآية 22. 8 سورة الإسراء: الآية 39. 9 سورة الحج: الآية 34. 10 سورة الأنبياء: الآية 25. 11 سورة الأنبياء: الآية 92. 12 سورة النساء: الآية 36. 13 سورة الأنعام: الآية 102. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 3- التربية بالعبادة: وانتقل القرآن بالفرد من صحة العقيدة إلى صحة العبادة فشرع العبادات التي تهذب سلوك الفرد، وتربطه بربه في كل شأن من شئونه ومنها: أ- الصلاة: وهي صلة بين العبد وربه، وتنهى عن الفحشاء والمنكر، وهي لقاء يومي بين المسلم وإخوانه خمس مرات في اليوم، ولقاء أسبوعي مع آخرين منهم في يوم الجمعة ولقاء سنوي كالعيدين وهي مدعاة للترابط والشعور بالمسئولية المشتركة في بعضها كصلاة الكسوف والخسوف والاستسقاء. وهي علاج لما نلاحظه في عصرنا هذا من تفكك اجتماعي بين الجيران حيث لا يكاد الجار يعرف جاره حتى اسمه. أرأيتم لو كان هؤلاء الجيران يلتزمون بهذه الشعيرة بأدائها في مسجد واحد خمس مرات في اليوم هل سينكر بعضهم بعضًا، أو يقع بينهم هذا التقاطع. ب- الزكاة: وهي تطهير للنفس من الشح والبخل أولًا، وكبح للنفس في لهائها خلف المادة: وتعليم وأي تعليم أن المال وسيلة وليس بغاية، وتربية للمسلم على الإحساس بمعاناة إخوانه المسلمين، وإعانتهم على قضاء حوائجهم. ج- والصيام: كبح لجماح النفس عن شهواتها، وتقوية للتحكم في رغباتها، وترويض لها على الصبر على الطاعات، والاعتدال في الملذات، حتى يسهل انقيادها لصاحبها، فلا تجمع به إن رام خيرًا، أو تشرد به إلى الآفات والشرور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 وهو أيضًا تذكير للمسلم بحالة إخوانه الفقراء المحتاجين فإن كان المانع له عن الأكل والشرب في هذا الشهر هو التعبد فهناك من يمنعهم طول العام مانع آخر هو الفقر. د- الحج: وهو عبادة مالية، بدنية، وفي الأولى بذل للمال لركوبه، وزاده، وسكنه، وهديه، وغير ذلك. وفي هذا مثل ما في الزكاة، وفي الثانية تربية للنفس على تحمل المشاق وترك ما اعتادت في إقامتها من دعة أو سكون وتعويد لها على الصبر على حرارة الصيف أو برد الشتاء، وعلى الحلول والارتحال، وتغيير المبيت وكثرة التنقل أشبه ما يكون في جيش المجاهدين في سبيل الله، ولا تخفى آثار ذلك وفوائده. وهو فوق هذا لقاء سنوي بين جمع المسلمين من شتى أقطار الأرض يتفقد فيه بعضهم أحوال بعض ويعرف بعضهم بعضًا فيشعر بالأخوة الإسلامية بأبعادها ويعاني بعض معاناتهم. 4- التربية بتهذيب السلوك: وبعد تنقية القلب من أدران الشرك وغرس العقيدة الصحيحة وتوثيق الصلة بين العبد وربه رسم بحكمة العلاقة بين العباد وجعلها تقوم على المحبة والمودة ونهى عن كل ما يؤدي إلى ضعفها أو وهنها، ونرى معالم هذه التربية في صور منها: أ- تزكية النفس: وذلك يكون بإلزامها بالآداب الحميدة والأخلاق الفاضلة فأمر بالصبر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا ... } الآية1   1 سورة آل عمران: الآية 200. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ... } الآية1 {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} 2. وأمر بالصدق: {وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ ... } الآية3 {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} 4 {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} 5. وأمر بالعدل والإحسان: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} 6 ونهى عن الأخلاق السيئة كالتبختر ورفع الصوت: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ، وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} 7. وأمر بغض البصر وحفظ الفرج: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} 8. ب- توثيق أواصر الصلة بين العباد: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا} 9 وأمر بالتآخي: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} 10 وبالتعاون: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} 11 وأمر بأداء الأمانة والعدل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} 12.   1 سورة البقرة: الآية 45. 2 سورة الشورى: الآية 43. 3 سورة الأحزاب: 35. 4 سورة الأحزاب: الآية 23. 5 سورة البقرة: الآية 177. 6 سورة النحل: الآية 90. 7 سورة لقمان: الآيتين 18، 19. 8 سورة النور: الآية 30. 9 سورة الأحقاف: الآية 15. 10 سورة الحجرات: الآية 10. 11 سورة المائدة: 2. 12 سورة النساء: الآية 58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 ج- نهى عن كل ما يؤدي إلى الفرقة والاختلاف: فنهى عن السخرية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ ... } الآية1 ونهى عن سوء الظن والغيبة والتجسس: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} 2 ونهى عن شهادة الزور وقول الزور: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} 3. وبهذا يكتمل بناء الفرد ويصبح لبنة صالحة لبناء أسرة صالحة، قائمة على أسس ثابتة، وقواعد راسخة.   1 سورة الحجرات: الآية 11. 2 سورة الحجرات: الآية 12. 3 سورة الفرقان: الآية 72. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 ثانيًا: بناء الأسرة : ومن بناء الفرد وتهذيبه، وإصلاحه وتقويمه إلى بناء الأسرة الواحدة المترابطة المتماسكة وشرع لها نظامها وأسسها فمن ذلك: أ- الزواج: وهو الطريق الصحيح إلى بناء الأسرة، والأرض الصلبة التي يقوم عليها البناء، ولأهمية هذا الأمر وضرورته وحتى يجد الناس كلهم الدافع القوي لذلك جعل غريزة الجنس من أقوى الدوافع لسلوكه فهذبها بالزواج وحفظها بالآداب. وبين ما للزوج على زوجته من حقوق وما للزوجة على زوجها من حقوق: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} 1.   1 سورة البقرة: الآية 228. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 وجعل القوامة للرجل: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} 1 والقوامة هنا لا تعني التسلط ولو أدركت النساء في عصرنا هذا معنى القوامة لطالبن الرجال بالقوامة عليهن وأدائها، وأصررن على قيام الرجل بها، وحق لهن ذلك. ب- تربية الأولاد: ومن أسس بناء الأسرة حسن تربية الأولاد فهم أمانة في أعناق الآباء، لهم حقوقهم في حسن التربية والرعاية والنفقة، حتى وهو في بطن أمه المطلقة. ج- بر الوالدين: وكما أمر الآباء بأداء حق الأولاد أمر الأبناء أيضًا ببر الوالدين وأوصى بذلك: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا} 2 {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} 3. فإذا أدى الزوج حق زوجته وأدت الزوجة حق زوجها وأدى الابن حقوق والديه وأدى الآباء حقوق الأبناء أصبحت الأسرة متماسكة مترابطة تصلح وأي صلاح لبناء مجتمع قوي.   1 سورة النساء: الآية 34. 2 سورة الأحقاف: الآية 15. 3 سورة الإسراء: الآية 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 ثالثًا: بناء المجتمع : وإذا كان بناء الأسر يقوم على بناء الأفراد وهم لبناته فإن بناء المجتمعات يقوم على هذه الأسر، وقد رسم القرآن نظام هذا المجتمع ووضع له أسسه ونظامه فشرع لذلك: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 1- الحكومة الإسلامية: إذ لا يستقيم لمجتمع أن يظل على ترابطه ما لم يكن له حكومة تسوسه وترعاه، وتتفقده وتحميه وتنظم شئونه، وترتب أموره، وجعل لهذه الحكومة نظامها وقواعدها فمن ذلك: أ- الشورى: وقد أمر الله بذلك نبيه ومن باب أولي ولاة الأمر من بعده: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} 1، {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} 2 ولأهمية الشورى سميت سورة كاملة باسمها. ب- الحكم بما أنزل الله: ويجب على هذه الحكومة أن تحكم بما أنزل الله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} 3 {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} 4 {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} 5. ج- العدل: الذي لا يفرق بين حاكم ومحكوم، وكبير وصغير، وغني وفقير، وعربي وعجمي، وأسود وأبيض، إلا بالتقوى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ   1 سورة آل عمران: الآية 159. 2 سورة الشورى: الآية 38. 3 سورة المائدة: الآية 44. 4 سورة المائدة: الآية 45. 5 سورة المائدة: الآية 47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} 1 وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} 2 وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} 3 وهو عدل لا يتأثر بغضب أو كره أو حقد: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} 4. د- المحافظة على الكليات الخمس: وعلى الحكومة الإسلامية المحافظة على الكليات الخمس وهي "النفس، الدين، العرض، المال، العقل" ففي النفس القصاص: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} 5 {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} 6. وفي العرض: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} 7 {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} 8. وفي المال: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 9. وحرم ما يزيل العقل ولو إلى حين كشرب الخمر، وفي الدين حرم الردة عن دين الله والعياذ بالله وأوجب الله في هذا وذاك العقوبات الصارمة. هـ- تنظيم العلاقات الدولية: وعلى الحكومة الإسلامية أن تنظم علاقات هذا المجتمع الإسلامي   1 سورة النساء: الآية 135. 2 سورة النحل: الآية 90. 3 سورة النساء: الآية 58. 4 سورة المائدة: الآية 8. 5 سورة البقرة: الآية 179. 6 سورة المائدة: الآية 45. 7 سورة النور: الآية 2. 8 سورة النور: الآية 4. 9 سورة المائدة: الآية 38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 بالمجتمعات الأخرى في حالة الحرب والسلم وما يتعلق بذلك من تشريع الجهاد وتنظيمه، والغنائم وأحكامها والمعاهدات وغيرها. 2- ومما شرعه القرآن لبناء المجتمع السمع والطاعة لولي الأمر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} 1 وعندما يتدبر المسلم هذه الآية ويكرر تلاوتها سيجد الإلحاح والحث على الطاعة لما في العصيان والتمرد من أثر سيئ ليس على الفرد بل على بناء المجتمع كله. 3- تحريم الخروج على جماعة المسلمين: وكما حرم الخروج على ولي الأمر ما لم نر كفرًا بَوَاحًا حرم الخروج على جماعة المسلمين: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ... } الآية2. وقال سبحانه: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 3 وقال سبحانه: {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} 4 وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ ... } الآية5.   1 سورة النساء: الآية 59. 2 سورة آل عمران: الآية 103. 3 سورة آل عمران: الآية 105. 4 سورة الروم: الآية 31، 32. 5 سورة التوبة: الآية 107. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 وبهذا كله يتم بناء المجتمع وترابطه، واتحاده وقوته ويصبح للمسلمين قوة ولهم شأن عظيم. بهذا المنهج التشريعي الحكيم جاء القرآن الكريم فدرسه العلماء وتدبروه، وتفكروا فيه وخرجوا بنتيجة واحدة هي أن في تشريعه إعجازًا لا يمكن للبشر أن يخترعوه. ويمكن أن نختم الحديث عن الإعجاز التشريعي بذكر أهم مزاياه فمنها1: 1- أن التشريع مظهر لهداية القرآن: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} 2. 2- أنه خير تشريع وأصدق حديث وأعدل حكم: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} 3. 3- الشمول: فهو في أحكامه شامل لجميع جوانب الحياة العقيدية والتعبدية، والاقتصادية والسياسية، والاجتماعية وغير ذلك. 4- وجوب العمل به: قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} 4 وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} 5.   1 نقلتها بتصرف من كتاب البيان في إعجاز القرآن: د. صلاح الخالدي ص323، 325. 2 سورة الإسراء: الآية 9. 3 سورة البقرة: الآية 138. 4 سورة النساء: الآية 65. 5 سورة المائدة: الآية 44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 5- تحريم أخذ بعضه وترك بعضه: كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} 1 وقال سبحانه: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ} 2. 6- اليسر: قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} 3 وقال سبحانه: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} 4 وقال سبحانه: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} 5. 7- وجوب الإيمان بكمال التشريع وإحكامه: لأنه من الله وهو أحكم الحاكمين: {أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمُ اللَّهُ} 6 والله أعلم.   1 سورة الأحزاب: الآية 36. 2 سورة البقرة: الآية 85. 3 سورة البقرة: الآية 185. 4 سورة الحج: الآية 78. 5 سورة البقرة: الآية 286. 6 سورة البقرة: الآية 140. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 القراءات والقراء : القراءات لغة : القراءات جمع قراءة، والقراءة مصدر سماعي لقرأ، تقول: قرأ يقرأ قراءة، وقرآنا، وقرءًا، والقرء في اللغة الجمع والضم، تقول قرأت الماء في الحوض: إذا جمعته، وسميت القراءة قراءة لأن القارئ يجمع الحرف مع الحرف فتكون الكلمة، والكلمة مع الكلمة فتكون جملة والجملة مع الجملة. فهو يقرأ يعني يجمع ذلك كله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 القراءات اصطلاحًا: يخلط كثير من الباحثين بين تعريف القراءات و تعريف علم القراءات ، والفرق بين القراءات وعلم القراءات كالفرق بين القرآن الكريم وعلوم القرآن الكريم. فالقراءة: هي مذهب من مذاهب النطق بالقرآن الكريم؛ يذهب إليه إمام من الأئمة مذهبًا يخالف غيره مع اتفاق الروايات والطرق عنه، سواء أكانت هذه المخالفة في نطق الحروف أم في نطق هيئاتها1. ومذهب النطق بالكلمة القرآنية له مسميات هي: قراءة، رواية، طريق، وجه. فالقراءة: ما نسب إلى أحد أئمة القراءات إذا اتفقت الروايات والطرق عنه. والرواية: ما نسب إلى الأخذ عن هذا الإمام ولو بواسطة. والطريق: ما نسب إلى الآخذ عن الراوي ولو نزل. والوجه: ما نسب إلى تخير القارئ من قراءة يثبت عليها وتؤخذ عنه2. قال السيوطي: "الخلاف إن كان لأحد الأئمة السبعة أو العشرة أو نحوهم واتفقت عليه الروايات والطرق عنه، فهو قراءة، وإن كان للراوي عنه، فرواية، أو لمن بعده فنازلًا فطريق، أو لأعلى هذه الصفة مما هو راجع إلى تخير القارئ فيه، فوجه"3.   1 مناهل العرفان: الزرقاني ج1 ص410. 2 إتحاف فضلاء البشر: البنا ج1 ص102. 3 الإتقان: السيوطي، ج1 ص99. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 تعريف علم القراءات : وأما علم القراءات: فهو: علم يعرف به كيفية النطق بالكلمات القرآنية، وطريق أدائها اتفاقًا أو اختلافًا مع عزو كل وجه لناقله1، أو "علم بكيفية أداء كلمات القرآن واختلافها معزوًّا لناقله"2. موضوعه: كلمات القرآن الكريم من حيث أحوال النطق بها، وكيفية أدائها. استمداده: النقول الصحيحة والمتواترة عن علماء القراءات إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. حكمه: فرض كفاية تعلمًا وتعليمًا. ثمرته وفائدته: العصمة من الخطأ في النطق بالكلمات القرآنية، وصيانتها عن التحريف والتغيير، والعلم بما يقرأ به كل إمام من الأئمة القراء، والتمييز بين ما يقرأ به، وما لا يقرأ به. مكانته: علم القراءات من أجل العلوم قدرًا، وأعلاها منزلة، لاتصاله بأشرف الكتب السماوية وأفضلها على الإطلاق، وهو القرآن الكريم3، وشرف   1 البدور الزاهرة: عبد الفتاح القاضي ص5. 2 منجد المقرئين: ابن الجزري ص3، لطائف الإشارات: القسطلاني ص170؛ وإتحاف فضلاء البشر: البنا ج1 ص67. 3 صفحات في علوم القراءات: عبد القيوم السندي ص23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 العلم من شرف المعلوم. قال القسطلاني: فإن القرآن ينبوع العلوم ومنشؤها، ومعدن المعارف ومبدؤها، ومبنى قواعد الشرع وأساسه، وأصل كل علم ورأسه، والاستشراف على معانيه لا يتحقق إلا بفهم وصفه ومبانيه، ولا يطمع في حقائقها التي لا منتهى لغرائبها ودقائقها إلا بعد العلم بوجوه قراءته، واختلاف رواياته، ومن ثم صار علم القراءات من أجل العلوم النافعات1. نشأة علم القراءات: ليس هناك تاريخ مقطوع به عند العلماء لنزول القراءات، فمن المعلوم أن القرآن الكريم نزل أول ما نزل في غار حراء قبل الهجرة بنحو ثلاث عشرة سنة، أما القراءات نفسها فاختلف العلماء في بدايتها على قولين2: الأول: أنها نزلت في مكة المكرمة. لأن الآيات منه ما هو مكي ومنها ما هو مدني، وفي المكي ما في المدني من تعدد القراءات. ولا دليل على نزول القراءات المكية في المدينة وانفرادها بالنزول؛ فتبقى على الأصل. ويدل على ذلك حديث اختلاف عمر مع هشام بن حكيم. رضي الله عنهما. لأنهما اختلفا في قراءة سورة الفرقان، وهي مكية، فدل على أن نزول القراءات كان في مكة أيضًا. الثاني: أنها نزلت في المدينة النبوية. لأن القراءات نزلت للتيسير على الأمة؛ بسبب اختلاف اللهجات، ولم تكن الحاجة إليها قائمة إلا بعد الهجرة؛ لدخول القبائل المجاورة والبعيدة في الإسلام، وغموض بعض الألفاظ التي بغير لهجتهم. ولأن اختلاف الصحابة -رضي الله عنهم- في القراءات كان في المدينة ولم يثبت شيء من ذلك في مكة.   1 لطائف الإشارات لفنون القراءات: القسطلاني ص6. 2 انظر صفحات في علوم القراءات: عبد القيوم السندي ص28، 30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 وهناك من جمع بين القولين؛ بأن بداية نزول القراءات كان بمكة مع بداية نزول القرآن، لكن الحاجة لم تدع إلى استخدامها، لوحدة اللغة في مكة وما جاورها "لسان قريش"، واختلاف اللهجات إنما حدث بعد الهجرة في المدينة حين دخلت في الإسلام قبائل متعددة بلهجات مختلفة. وسواء كان نزول القراءات بمكة أو بالمدينة، إلا أنها مرت بمراحل حتى وصلت إلينا نستطيع أن نرسمها كما يلي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 المراحل التي مر بها علم القراءات : المرحلة الأولى : تلقى الرسول -صلى الله عليه وسلم- القراءات كما يتلقى سائر القرآن عن طريق جبريل -عليه السلام- وأمره الله تعالى أن يقرأ على الناس: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} 1 {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} 2. فبلغه الرسول -صلى الله عليه وسلم- حق التبليغ، وكان يقرؤهم القرآن خمس آيات بالغداة وخمس آيات بالعشى، وربما أقرأ صحابيًّا بحرف وأقرأ آخر بحرف آخر، وكان كل صحابي يقرأ بما سمعه من الرسول صلى الله عليه وسلم. وأمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يقرئ بعضهم بعضًا، فكان إذا أسلم رجل دفعه إلى أحد الصحابة ليعلمه القرآن، وكان يرسل بعض أصحابه إلى القبائل لتعليمهم القرآن، وإذا هاجر رجل إلى المدينة دفعه الرسول -صلى الله عليه وسلم إلى من يحفظه القرآن؛ وبهذا تكونت جماعة من الصحابة عرفت بالقراء، وحفظ القرآن عدد كبير من الصحابة.   1 المائدة: الآية 67. 2 الإسراء: الآية 106. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 المرحلة الثانية : بعد وفاته عليه الصلاة والسلام ارتدت كثير من قبائل العرب، فجهز الخليفة أبو بكر رضي الله عنه الجيوش لقتال المرتدين، وقتل في هذه الحروب عدد كبير من القراء؛ خشي الصحابة أن يذهب شيء من القرآن بذهاب حفظته، فجمعوه في مصحف واحد بجميع قراءاته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 المرحلة الثالثة : بعد القضاء على المرتدين وانتهاء حروب الردة، اتجهت جيوش المسلمين لنشر الإسلام، فدخل في الإسلام أمم مختلفة، وانتشر الصحابة -رضي الله عنهم- في البلدان المفتوحة يعلمون أهلها القرآن، وكان كل صحابي يعلم القرآن حسبما تلقاه عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومن ثم اختلف النقل في التابعين وتلاميذهم وكثرت القراءات وتنوعت وتلقاها عدد كبير من التابعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 المرحلة الرابعة : أن جماعة من التابعين وتابعي التابعين كرسوا حياتهم، وقصروا جهودهم على قراءة القرآن وإقرائه، وتعليمه وتلقينه، وعُنوا العناية كلها بضبط ألفاظه، وتجويد كلماته، وتحرير قراءاته، وتحقيق رواياته، وكان ذلك شغلهم الشاغل وغرضهم الهادف حتى صاروا أئمة يقتدى بهم، ويرحل إليهم، ويؤخذ عنهم، وأجمع المسلمون على تلقي قراءاتهم بالقبول، ولم يختلف عليهم اثنان، ولتصديهم للقراءة وجمعهم لها نسبت إليهم1. قال القسطلاني: "ثم لما كثر الاختلاف فيما يحتمله الرسم، وقرأ أهل البدع والأهواء بما لا يحل لأحد تلاوته، وفاقًا لبدعتهم، كمن قال من المعتزلة: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: الآية 164] بنصب الهاء، ومن الرافضة {وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ} [الكهف: الآية 51] بفتح اللام، يعنون أبا بكر وعمر، رأى المسلمون أن يجمعوا على قراءات أئمة ثقات تجردوا للاعتناء بشأن القرآن العظيم، فاختاروا من كل مصر وجه إليه مصحف أئمة مشهورين بالثقة، والأمانة في النقل، وحسن الدراية، وكمال العلم، أفنوا عمرهم في القراءة والإقراء، واشتهر أمرهم وأجمع أهل مصرهم على عدالتهم فيما نقلوا، والثقة فيما قرءوا ولم تخرج قراءتهم عن خط مصحفهم"2.   1 انظر مع القرآن الكريم: د. شعبان إسماعيل، ص390، وصفحات في علوم القراءات: السندي ص37. 2 لطائف الإشارات: القسطلاني، ص66. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 قال ابن الجزري: "ونعتقد أن معنى إضافة كل حرف من حروف الاختلاف إلى من أضيف إليه من الصحابة وغيرهم، إنما هو من حيث إنه كان أضبط له، وأكثر قراءة وإقراءً به، وملازمة له، وميلًا إليه، لا غير ذلك. وكذلك إضافة الحروف والقراءات إلى أئمة القراءة ورواتها المراد بها: أن ذلك القارئ، وذلك الإمام اختار القراءة لذلك الوجه من اللغة، حسب ما قرأ به فآثره على غيره، وداوم عليه، ولزمه، حتى اشتهر وعرف به، وقصد فيه، وأخذ عنه؛ فلذلك أضيف إليه دون غيره من القراء، وهذه الإضافة: إضافة اختيار، ودوام ولزوم، لا إضافة اختراع ورأي واجتهاد"1. وكثر عدد القراء في الأمصار واشتهر في كل مصر عدد منهم: ففي مكة: مجاهد بن جبر، طاوس بن كيسان، عطاء بن أبي رباح، عكرمة مولى ابن عباس -رضي الله عنهما- ابن أبي مليكة وغيرهم. وفي المدينة: سعيد بن المسيب: عروة بن الزبير، عمر بن عبد العزيز، ابن شهاب الزهري، زيد بن أسلم، سليمان وعطاء ابنا يسار، وسالم بن عبد الله بن عمر وغيرهم. وفي الكوفة: علقمة بن قيس، مسروق بن الأجدع، أبو عبد الرحمن السلمي، والنخعي، والشعبي، وعمرو بن شرحبيل، والأسود بن يزيد، وسعيد بن جبير، وغيرهم. وفي البصرة: الحسن البصري: ومحمد بن سيرين، وقتادة بن دعامة السدوسي، ونصر   1 النشر في القراءات العشر: ابن الجزري ج1 ص52. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 ابن عاصم، ويحيى بن يعمر، وأبو العالية الرياحي، وجابر بن زيد، وأبو رجاء العطاردي وغيرهم. وفي الشام: المغيرة بن أبي شهاب المخزومي صاحب عثمان، وخليفة بن سعد صاحب أبي الدرداء، ويحيى بن الحارث الذماري، وعطية بن قيس الكلابي وغيرهم. وغير ذلك كثير من القراء، حتى أصبحت القراءات وجمعها والعناية بها علمًا مستقلًّا كعلوم الشريعة الأخرى. تسبيع السبعة: وكما رأيت فإن القراء بلغوا المئات بل الآلاف من القراء الحفاظ المتقنين، وقد تصدى عدد من العلماء للكتابة والتأليف عن القراء، فألف أبو عبيدة "ت224هـ" كتابًا جمع فيه قراءات خمسة وعشرين قارئًا. وألف أحمد بن جبير الأنطاكي "ت258هـ" كتابًا جمع فيه قراءات خمسة من القراء، وألف أبو بكر الداجاني "ت324هـ" كتابه الثمانية، وألف ابن جرير الطبري "ت324هـ" كتابه "القراءات" وذكر فيه أكثر من عشرين قارئًا، وألف غيرهم كثير، إلا أن هذه المؤلفات لم تنتشر أو تشتهر. فلما ألف أحمد بن مجاهد "ت324هـ" كتابه "السبعة" واقتصر فيه على جمع المتواتر من قراءات سبعة من القراء، وكان هو نفسه حجة في القراءات وإمامًا ثقة ثبتًا، اشتهر كتابه وحظي بالقبول، وتداوله العلماء، واشتهر هؤلاء السبعة حتى توهم بعض الناس أن القراء سبعة، وأن القراءات سبع، وزاد التوهم فاعتقد آخرون أن القراءات السبع هي الأحرف السبعة!! وأخذ بعض العلماء على ابن مجاهد اختياره للسبعة؛ لما في ذلك من الإيهام، فقال أبو العباس أحمد بن عمار المهدوي: "لقد فعل مسبع هذه السبعة ما لا ينبغي له، وأشكل الأمر على العامة بإيهامه كل من قل نظره أن هذه القراءات هي المذكورة في الخبر؛ "أي حديث الأحرف السبعة" وليته إذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 اقتصر نقص عن السبعة أو زاد ليزيل الشبهة"1. وقال القراء في الشافي "التمسك بقراءة سبعة من القراء دون غيرهم ليس فيه أثر ولا سنة، وإنما هو من جمع بعض المتأخرين، فانتشر وأوهم أنه لا تجوز الزيادة على ذلك، وذلك لم يقل به أحد"2. وقد علل مكي بن أبي طالب "ت437هـ" سر اختيارهم سبعة فقال: ليكونوا على وفق مصاحف الأمصار السبعة، وتيمنًا بأحرف القرآن السبعة، ثم قال: على أنه لو جعل عددهم أكثر أو أقل لم يمنع ذلك؛ إذ عدد القراء أكثر من أن يحصى3. وقد دافع كثير من العلماء عن ابن مجاهد -رحمه الله تعالى- في ذلك بأنه لم يقتصر على هؤلاء السبعة إلا بعد اجتهاد طويل ومراجعة متأنية في الأسانيد الطوال، وكان موفقًا في اختياره الذي حظي بموافقة جمهور العلماء والقراء وتأييدهم؛ حيث إن كثرة الروايات في القراءات أدت إلى ضرب من الإضراب عند طائفة من القراء غير المتقنين، فقد حاول بعضهم أن يختار من القراءات لنفسه خاصة فينفرد بها، فقطع ابن مجاهد عليهم الطريق، ودرأ عن القراءات كيدهم، وعن القراء اضطرابهم، ومما يدل على نزاهته -رحمه الله- وحسن قصده أنه لم يسع إلى أن يختار لنفسه قراءة تحمل عنه، وحين سئل عن ذلك أجاب: "نحن أحوج إلى أن نعمل أنفسنا في حفظ ما مضى علينا أئمتنا أحوج منا إلى اختيار حرف يقرأ به من بعدنا"4. وقد أطلت الحديث عن هذه المرحلة لأهميتها، وكثرة المؤلفات والقراء، واتساع علم القراءات فيها.   1 الإتقان: السيوطي ج1 ص106، والنشر في القراءات العشر: ابن الجزري ج1 ص36. 2 الإتقان: السيوطي ج1 ص107. 3 الإبانة عن معاني القراءات: مكي بن أبي طالب ص51. 4 معرفة القراءة الكبار: الذهبي ج1 ص217؛ وانظر صفحات في علوم القراءات: السندي ص51، 54. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 المرحلة الخامسة - مرحلة التدوين في القراءات: اختلف العلماء في أول من ألف في علم القراءات، وذهب الكثيرون إلى أن أول من ألف في علم القراءات هو أبو عبيد القاسم بن سلام "ت224هـ"، وقال ابن الجزري: إنه الإمام أبو حاتم السجستاني "ت255هـ" وقيل: يحيى بن يعمر "ت90هـ". ثم ازدادت المؤلفات في القرن الثالث، وبلغت ذروتها في القرنين الرابع والخامس، ثم فتر التأليف بعد ذلك حتى القرن التاسع حيث قل التصنيف وصارت جهود العلماء تكاد أن تنحصر على شرح منظومة الشاطبي "ت590هـ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 ومن أهم المؤلفات في القراءات قديمًا وحديثًا: وهي كثيرة جدًّا لا يمكن استيفاؤها ولا يسعنا إلا ذكر النزر اليسير منها: 1- السبعة: لأبي بكر أحمد بن محمد بن مجاهد "ت324هـ"، وقد طبع بتحقيق د. شوقي ضيف. 2- التذكرة في القراءات الثمان: لابن غلبون "ت399هـ"، طبع بتحقيق أيمن سويد في مجلدين. 3- المبسوط في القراءات العشر: لأبي بكر بن مهران "ت381هـ" طبع في مجلد واحد بتحقيق سبيع حمزة حاكمي. 4- الكشف عن وجوه القراءات السبع لأبي محمد مكي بن أبي طالب "ت437هـ". 5- التيسير في القراءات السبع: لأبي عمرو الداني "ت444هـ" طبع في مجلد واحد. 6- الإقناع في القراءات السبع: لأبي جعفر ابن الباذش "ت540هـ"، طبع بتحقيق د. عبد المجيد قطامش في مجلدين. 7- حرز الأماني ووجه التهاني المعروفة بـ"الشاطبية"، وهي منظومة للإمام القاسم الشاطبي "ت590هـ" نظم فيها كتاب التيسير للداني، وشرحها عدد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 من العلماء وطبعت كثيرًا. 8- الوافي في شرح الشاطبية في القراءات السبع: عبد الفتاح القاضي "ت1403هـ". 9- معرفة القراء الكبار: لأبي عبد الله الذهبي "ت748هـ"، طبع في مجلدين بتحقيق محمد سيد جاد الحق. 10- غاية النهاية في طبقات القراء: لابن الجزري "ت833هـ"، طبع في مجلدين، واعتنى به المستشرق ج. برجستراسر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 شروط القراءة الصحيحة مدخل ... شروط القراءة الصحيحة: وضع علماء القراءات شروطًا أو ضوابط للقراءة الصحيحة، جمعها ابن الجزري وحررها، وفصل القول فيها حتى صارت تنسب إليه واقترنت باسمه. قال في الطيبة: فكل ما وافق وجه نحو ... وكان للرسم احتمالًا يحوي وصح إسنادًا هو القرآن ... فهذه الثلاثة الأركان وحيثما يختل ركن أثبت ... شذوذه لو أنه في السبعة1 وفصل القول في ذلك في كتابه "النشر في القراءات العشر"2 فقال: "كل قراءة وافقت العربية ولو بوجه، ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالًا، وصح سندها، فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردها ولا يحل إنكارها، بل هي من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، ووجب على الناس قبولها، سواء كانت عن الأئمة السبعة، أم عن العشرة، أم عن غيرهم من الأئمة المقبولين، ومتى اختل ركن من هذه الأركان الثلاثة أطلق عليها ضعيفة أو شاذة أو باطلة، سواء كانت عن السبعة أم عمن هو أكبر منهم؛ هذا هو الصحيح عند أئمة التحقيق من السلف والخلف، صرح بذلك الإمام   1 طيبة النشر في القراءات العشر: ابن الجزري ص32. 2 النشر في القراءات العشر: ابن الجزري ج1 ص9 "بتصرف يسير". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 أبو عمرو الداني، ونص عليه مكي بن أبي طالب، وأبو العباس والمهدوي، وأبو شامة.. وهو مذهب السلف الذي لا يعرف عن أحد منهم خلافه". وبهذا يظهر أن ضوابط أو شروط القراءة الصحيحة ثلاثة هي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 موافقة اللغة العربي ولو بوجه من الوجوه ... الأول: موافقة اللغة العربية ولو بوجه من الوجوه. فلا بد أن توافق القراءة اللغة العربية، ولا يلزم أن توافق الأفشى في اللغة؛ بل يكفي أن توافق أي وجه من أوجه اللغة، قال ابن الجزري: "وقولنا في الضابط "ولو بوجه" نريد وجهًا من وجوه النحو؛ سواء كان أفصح أم فصيحًا مجمعًا عليه أم مختلفًا فيه اختلافًا لا يضر مثله، إذا كانت القراءة مما شاع وذاع وتلقاه الأئمة بالإسناد الصحيح؛ إذ هو الأصل الأعظم والركن الأقوم، وهذا هو المختار عند المحققين في ركن موافقة العربية، فكم من قراءة أنكرها بعض أهل النحو، أو كثير منهم، ولم يعتبر إنكارهم، بل أجمع الأئمة المقتدى بهم من السلف على قبولها كإسكان "بَارِئْكُمْ"1، و"يَأْمُرْكُمْ"2، ونحوه.. وضم، "الْمَلائِكَةُ اسْجُدُوا"3، ونصب "كُنْ فَيَكُونَ"4، وخفض "وَالأَرْحَامِ"5،.. ووصل "وَإِنَّ الْيَاسَ"6، وألف {إِنْ هَذَانِ} 7.. وغير ذلك. قال أبو عمرو الداني في كتابه جامع البيان. "وأئمة القراء لا تعمل في شيء من حروف القرآن على لأفشى في اللغة، والأقيس في العربية، بل على الأثبت في الأثر، والأصح في النقل والرواية، وإذا ثبت عنهم لم يردها قياس عربية، ولا فشو لغة؛ لأن القراءة سنة متبعة يلزم قبولها والمصير إليها"8.   1 سورة البقرة: الآية 54، وهي قراءة أبي عمرو بخلف عن الدوري. 2 سورة البقرة: الآية 67؛ وهي قراءة أبي عمرو بخلف عن الدوري. 3 سورة البقرة: الآية 67؛ وهي قراءة أبي عمرو بخلف عن الدوري. 4 سورة البقرة: الآية 34؛ وهي قراءة أبي جعفر. 5 سورة النساء: من الآية الأولى؛ وهي قراءة حمزة. 6 سورة الصافات: الآية 123؛ وهي قراءة ابن ذكوان بخلف عنه. 7 سورة طه: الآية 63 وقرأها أبو عمرو بالياء وقرأها الباقون بالألف. 8 النشر في القراءات العشر: ابن الجزري، ج1 ص10،11 "بتصرف يسير". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 الثاني : موافقة أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالًا. وذلك أن الصحابة -رضي الله عنهم- عندما كتبوا القرآن في عهد عثمان -رضي الله عنه- تعمدوا كتابته بطريقة تشتمل على جميع القراءات الثابتة عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- إما صراحة أو احتمالًا، وأي قراءة لا توافق رسم المصحف فإن ذلك يعني أن الصحابة لا يعرفونها وإلا لكانوا قد كتبوها، والقراءة التي لا يعرفها الصحابة ليست بقراءة صحيحة، فمن ذا الذي يدعي معرفة قراءة لا يعرفها الصحابة -رضي الله عنهم-!! ِ قال ابن الجزري: "ونعني بقولنا بـ"موافقة أحد المصاحف" ما كان ثابتًا في بعضها دون بعض، كقراءة ابن عامر "قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا" في البقرة1 بدون واو، "وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ"2 بزيادة الباء في الاسمين ونحو ذلك، فإن ذلك ثابت في المصحف الشامي، وكقراءة ابن كثير "جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ"3 في الموضع الأخير من سورة براءة بزيادة "من"، فإن ذلك ثابت في المصحف المكي.. وقولنا بعد ذلك: "ولو احتمالًا" نعني به ما يوافق الرسم ولو تقديرًا؛ إذ موافقة الرسم قد تكون تحقيقًا وهو الموافقة الصريحة، وقد تكون تقديرًا وهو الموافقة احتمالًا، فإنه قد خولف صريح الرسم في مواضع إجماعًا؛ نحو "السموات والصلحات، واليل، والصلوة، والزكوة، والربوا".. وقد توافق بعض القراءات الرسم تحقيقًا ويوافقه بعضها تقديرًا نحو "مَلِكِ يَومِ الدّيِنِ" فإنه كتب بغير ألف في جميع المصاحف. فقراءة الحذف تحتمله تحقيقًا وقراءة الألف محتملة تقديرًا.   1 سورة البقرة: الآية 116. 2 سورة آل عمران: الآية 184. 3 سورة التوبة: الآية 100. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 الثالث: صحة الإسناد قال ابن الجوزي "نعني به أن يروي تلك القراءة العدل الضابط عن مثله كذا حتى تنتهي، وتكون مع ذلك مشهورة عند أئمة هذا الشأن الضابطين له الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 غير معدودة عندهم من الغلط أو مما شذ بها بعضهم. وقد شرط بعض المتأخرين التواتر في هذا الركن، ولم يكتف فيه بصحة السند، وهذا مما لا يخفى ما فيه، فإن التواتر إذ ما ثبت من أحرف الخلاف متواترًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وجب قبوله وقطع بكونه قرآنًا سواء وافق الرسم أم خالفه، وإذا اشترطنا التواتر في كل حرف من حروف الخلاف انتفى كثير من أحرف الخلاف الثابت عن هؤلاء الأئمة السبعة وغيرهم1.   1 النشر في القراءات العشر: ابن الجزري ج1 ص13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 أنواع القراءات مدخل ... أنواع القراءات: اشتهر لدى المتأخرين خاصة علماء أصول الفقه تقسيم القراءات إلى نوعين: متواتر وشاذ أو آحاد1، وقسمها البلقيني إلى ثلاثة أقسام: متواتر وشاذ وآحاد2، وقد حرر السيوطي من كلام متقن لابن الجزري أن القراءات أنواع هي3:   1 قراءة عبد الله بن مسعود، مكانتها، مصادرها، إحصاؤها: د. محمد أحمد خاطر، ص47. 2 الإتقان للسيوطي ج1 ص99. 3 المرجع السابق ج1 ص102. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 الأول: المتواترة: وهو ما رواه جمع لا يمكن تواطؤهم على الكذب عن مثلهم إلى منتهى السند ومثاله: ما اتفقت الطرق في نقله عن السبعة وهذا هو الغالب في القراءات وكقوله تعالى: {مَالِكِ يَومِ الدّيِنِ} 1 وهي قراءة متواترة قرأ بها عاصم والكسائي ويعقوب وخلف وقرأ الباقون بحذف الألف "مَلِكَ يَوْمِ الدِّينِ"2.   1 سورة الفاتحة: الآية 4. 2 البدور الزاهرة في القراءات العشر المتواترة، عبد الفتاح القاضي ص15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 الثاني: المشهور. وهو ما صح سنده ولم يبلغ درجة التواتر ووافق الرسم والعربية، واشتهر عند القراء فلم يعدوه من الغلط ولا من الشذوذ. ومثاله ما اختلفت الطرق في نقله عن السبعة، فرواه بعض الرواة عنهم دون بعض. وأمثلة ذلك كثيرة في فرش الحروف من كتب القراءات كالمتواتر، ومثالها: قراءة أبي جعفر: "مَا أَشْهَدْناهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا"1 بفتح التاء في "وما كنت" وقرأها الباقون "وما كنتُ"، وبلفظ الجمع في "ما أشهدناهم" وقرأها الباقون بالإفراد "ما أشهدتهم".   1 سورة الكهف: الآية 51. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 الثالث: الآحاد وهو ما صح سنده، وخالف الرسم أو العربية، أو لم يشتهر الاشتهار المذكور، وهذا النوع لا يقرأ به، ولا يجب اعتقاده. وعقد الترمذي في جامعه1 والحاكم في مستدركه2 لذلك بابًا أخرجا فيه شيئًا كثيرًا صحيح الإسناد. ومن ذلك ما أخرجه الحاكم في مستدركه من طريق عاصم الجحدري عن أبي بكرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قرأ "متكئين على رفائف خضر وعباقري حسان"3. وكقراءة ابن عباس -رضي الله عنهما: "وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبًا" بزيادة صالحة، وأمامهم بدل وراءهم4.   1 جامع الترمذي: أبواب القراءات، ص658، 660. 2 المستدرك: للحاكم ج2 ص23، 257. 3 المستدرك: ج2 ص250، والقراءة المتواترة: {مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} [الرحمن: الآية 76] . 4 النشر في القراءات العشر: ابن الجزري، ج1 ص14، والقراءة المتواترة: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف: الآية 79] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 وقراءة ابن مسعود -رضي الله عنه: "فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَامٍ مُتَتَابِعَاتٍ"1. واختلف في حكم القراءة بها في الصلاة والجمهور على منع ذلك، وأجاز بعض العلماء ذلك فيما لا يجب من القراءة. أما الاحتجاج بها في الأحكام الشرعية فحكمها حكم أحاديث الآحاد يحتج بها ونفاه الشافعي وأثبته أبو حنيفة واحتج به وبنى عليه وجوب التتابع في صوم كفارة اليمين بقراءة ابن مسعود وهي آحاد: "فصيام ثلاثة أيام متتابعات"2.   1 معاني القرآن: الفراء ج1 ص318؛ وتفسير القرطبي: ج6 ص283؛ والبحر المحيط: لأبي حيان، ج4 ص12؛ والقراءة المتواترة: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّام} [المائدة: 89] . 2 تفسير القرطبي ج6 ص283. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 الرابع الشاذ : وهو: ما لم يصح سنده ونقل ابن الجوزي عن مكي بن أبي طالب في تعريف الشاذ أنه: ما نقله غير ثقة، أو نقله ثقة، ولا وجه في العربية، والمؤلفات في القراءات الشاذة كثيرة، ومن أمثلة ما نقله غير ثقة. كما قال ابن الجزري. كثير مما في كتب الشواذ مما غالب إسناده ضعيف، كقراءة ابن السميفع وأبي السمال وغيرهما في {نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} ننحيك بالحاء المهملة، "وتكون لمن خَلَفَك آية"1 بفتح سكون اللام.. وكالقراءة المنسوبة إلى أبي حنيفة رحمه الله "إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ"2 برفع الهاء ونصب الهمزة.. وقد راج ذلك على أكثر المفسرين ونسبها إليه وتكلف توجيهها، وإن أبا حنيفة لبريء منها. ومثال ما نقله ثقة، ولا وجه له في العربية، ولا يصدر مثل هذا إلا على وجه السهو والغلط وعدم الضبط، ويعرفه الأئمة المحققون والحفاظ الضابطون وهو قليل جدًّا، بل لا يكاد يوجد، وقد جعل بعضهم منه رواية خارجة عن نافع "معائش"3 بالهمز وما رواه يحيى عن ابن عامر من فتح ياء "أدريَ أقريب"4 مع إثبات الهمزة5.   1 سورة يونس: الآية 92. 2 سورة فاطر: الآية 28. 3 سورة الأعراف: الآية 10، وسورة الحجر: الآية 20. 4 سورة الجن: الآية 25. 5 النشر: ابن الجزري ج1 ص14، 16 "بتصرف يسير". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 الخامس: الموضوع وهي التي لا أصل لها، أي ما روي بلا إسناد، وذلك أن القراءات توقيفية، قال ابن الجزري: "وبقي قسم مردود أيضًا، وهو ما وافق العربية والرسم ولم ينقل البتة، فهذا رده أحق، ومنعه أشد، ومرتكبه مرتكب لعظيم من الكبائر"1 ومثاله قراءة "مَلَكَ يوم الدين" بصيغة الماضي2.   1 المرجع السابق ج1 ص16. 2 البحر المحيط: لأبي حيان ج1 ص20؛ والكشاف: الزمخشري ج1 ص9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 السادس: المدرج. وهذا النوع مما أضافه السيوطي إلى أنواع القراءات، ويريد بها "ما زيد في القراءات على وجه التفسير"1 كقراءة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: "وله أخ أو أخت من أم" أخرجها سعيد بن منصور2، وقراءة ابن عباس -رضي الله عنهما: "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلًا من ربكم في مواسم الحج" أخرجها البخاري3 وقراءة ابن الزبير "ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويستعينون الله على ما أصابهم" قال عمرو: فما أدري أكانت قراءته أم فسَّر؟ أخرجه سعيد بن منصور4.   1 الإتقان: السيوطي ج1 ص102. 2 البحر المحيط: لأبي حيان، ج3 ص190، والكشاف: الزمخشري ج1 ص255. 3 صحيح البخاري: حديث "1770"، كتاب الحج، و"4519" كتاب التفسير. 4 البحر المحيط: لأبي حيان، ج3 ص21؛ وتفسير الطبري: ج7 ص91، 92؛ تفسير القرطبي ج4 ص165. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 وأخرجه الأنباري وجزم بأنه تفسير فقال: "وهذه الزيادة تفسير من ابن الزبير وكلام من كلامه غلط فيه بعض الناقلين فألحقه بألفاظ القرآن"1: ثم نقل السيوطي عن ابن الجزري قوله: "وربما كانوا يدخلون التفسير في القراءات إيضاحًا وبيانًا لأنهم محققون لما تلقوه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قرآنًا فهم آمنون من الالتباس، وربما كان بعضهم يكتبه معه، وأما من يقول: إن بعض الصحابة كان يجيز القراءة بالمعنى فقد كذب"2.   1 تفسير القرطبي: ج4 ص165. 2 الإتقان: السيوطي ج1 ص102؛ وانظر النشر في القراءات العشر: لابن الجزري ج1 ص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 حكم هذه القراء ات : وقد لخص الأستاذ عبد الفتاح القاضي حكم هذه القراءات فأجاد حيث قال: "والحاصل أن القراءة إن خالفت العربية أو الرسم فهي مردودة إجماعًا، ولو كانت منقولة عن ثقة مع أن ذلك بعيد، بل لا يكاد يوجد". وإن وافقت العربية والرسم ونقلت بطريق التواتر فهي مقبولة، إجماعًا. وإن وافقت العربية والرسم ونقلت عن الثقات بطريق الآحاد فقد اختلف فيها، فذهب الجمهور إلى ردها وعدم جواز القراءة بها في الصلاة وغيرها. سواء اشتهرت واستفاضت أم لا. وذهب مكي بن أبي طالب وابن الجزري إلى قبولها وصحة القراءة بها، بشرط اشتهارها واستفاضتها، أمّا إذا لم تبلغ حد الاشتهار والاستفاضة فالظاهر المنع من القراءة بها إجماعًا. ومن هنا يعلم أن الشاذ عند الجمهور ما لم يثبت بطريق التواتر، وعند مكي ومن وافقه ما خالف الرسم أو العربية ولو كان منقولًا عن الثقات، أو ما وافق الرسم والعربية ونقله غير ثقة، أو نقله ثقة ولكن لم يتلق بالقبول، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 ولم يبلغ درجة الاستفاضة والشهرة. إلى أن قال: وإذ قد علمت أن القراءة الشاذة لا تجوز القراءة بها مطلقًا فاعلم أنه يجوز تعلمها وتعليمها، وتدوينها في الكتب، وبيان وجهها من حيث اللغة والإعراب والمعنى واستنباط الأحكام الشرعية منها على القول بصحة الاحتجاج بها، والاستدلال بها على وجه من وجوه اللغة العربية، وفتاوى العلماء قديمًا وحديثًا مطبقة على ذلك والله تعالى أعلم1. "قلت" وبقي النوعان الخامس والسادس وهما الموضوع والمدرج، ولا يخفى تحريم القراءة الموضوعة أو العمل بها، أما المدرجة فهي تفسير وليست بقرآن، فلا تقرأ وإنما تستنبط بها الأحكام على أنها قول صحابي وليست بقرآن.   1 القراءات الشاذة وتوجيهها من لغة العرب: عبد الفتاح القاضي، ص10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 القراء : التعريف : القراء جمع قارئ وهو على ثلاث مراتب: المبتدئ: وهو من شرع في الإفراد إلى أن يفرد ثلاثًا من القراءات. المتوسط: إلى أربع أو خمس. المنتهي: وهو من عرف من القراءات أكثرها وأشهرها1. أما المقرئ فهو: العالم بالقراءات، رواها مشافهة، فلو حفظ الشاطبية مثلًا فليس له أن يقرأ بما فيها، إن لم يشافه من شوفه به مسلسلًا؛ لأن في القراءات شيئًا لا يحكم إلا بالسماع والمشافهة2.   1 لطائف الإشارات: القسطلاني، ج1 ص171؛ وإتحاف فضلاء البشر: البنا، ص68. 2 لطائف الإشارات: القسطلاني ج1 ص171. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 تاريخ القراء : يرجع عهد القراء الذين أقاموا الناس على طرائقهم في التلاوة إلى عهد الصحابة1 رضي الله عنهم فقد اشتهر بالإقراء عدد كبير منهم تلقوه مشافهة من الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتلقاه عنهم عدد كبير من التابعين بالمشافهة أيضًا. وذكر الذهبي -رحمه الله تعالى- أن المشتهرين بإقراء القرآن من الصحابة سبعة هم: 1- عثمان بن عفان رضي الله عنه. 2- علي بن أبي طالب رضي الله عنه. 3- أبي بن كعب رضي الله عنه. 4- عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. 5- زيد بن ثابت رضي الله عنه. 6- أبو موسى الأشعري رضي الله عنه. 7- أبو الدرداء عويمر بن زيد رضي الله عنه. ثم قال رحمه الله تعالى: "فهؤلاء الذين بلغنا أنهم حفظوا القرآن في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأخذ عنهم عرضًا، وعليهم دارت أسانيد قراءة الأئمة العشرة. وقد جمع القرآن غيرهم من الصحابة؛ كمعاذ بن جبل، وأبي زيد، وسالم مولى أبي حذيفة، وعبد الله بن عمر، وعتبة بن عامر، ولكن لم يتصل بنا قراءتهم، فلهذا اقتصرت على هؤلاء السبعة رضي الله عنهم"2. وأخذ عن هؤلاء الصحابة خلق كثير من التابعين في كل بلد من بلدان المسلمين كما ذكرنا فيما مضى. واشتهر سبعة من القراء هم الذين ترجم لهم ابن مجاهد في كتابه السبعة، وألحق بهم ثلاثة من القراءة وسموا جميعًا بالعشرة، وزاد بعضهم أربعة آخرين حتى صاروا أربعة عشر.   1 مباحث في علوم القرآن: مناع القطان، ص170. 2 معرفة القراء الكبار: الذهبي ج1 ص39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 أما السبعة فهم: 1- ابن عامر "أبو عمران عبد الله بن عامر اليحصبي"8- 118هـ" تابعي جليل أخذ القرآن عن المغيرة بن أبي شهاب عن عثمان رضي الله عنه وقيل: إنه قرأ على عثمان نفسه، وهو إمام أهل الشام وقاضيهم، وهو قاضي دمشق في خلافة الوليد بن عبد الملك وراوياه هشام وابن ذكوان "بواسطة". 2- ابن كثير "عبد الله بن كثير الداري "45-120هـ" إمام القراء بمكة، قرأ على عبد الله بن السائب وقرأ عبد الله على أبي بن كعب وعمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- وراوياه البزي وقنبل "بواسطة". 3- عاصم بن أبي النجود "أبو بكر" "00-127هـ" انتهت إليه رئاسة الإقراء في الكوفة قرأ على زر بن حبيش على عبد الله بن مسعود، وقرأ على أبي عبد الرحمن السلمي الذي قرأ على علي بن أبي طالب رضي الله عنه وراوياه شعبة وحفص "بلا واسطة". 4- أبو عمرو بن العلاء "زبان بن العلاء البصري" "68-154هـ" ليس في السبعة أكثر شيوخًا منه، قرأ على الحسن البصري، وأبي العالية وسعيد بن جبير وعاصم بن أبي النجود وابن كثير المكي، وعكرمة مولى ابن عباس، وابن محيص، ونصر بن عاصم، ويحيى بن يعمر وقرأ أبو العالية على عمر بن الخطاب وأبي بن كعب -رضي الله عنهما- وراوياه الدوري والسوسي "بواسطة". 5- نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم المدني "أبو رويم" "70-169هـ" إمام دار الهجرة، وكان إمام المسجد النبوي. أخذ القراءة عن جماعة من التابعين كأبي جعفر وعبد الرحمن الأعرج، وبلغ شيوخه السبعين وهم أخذوا عن ابن عباس وأبي بن كعب وأبي هريرة رضي الله عنهم. وراوياه قالون وورش "بلا واسطة". 6- حمزة بن حبيب الزيات الكوفي "80-158هـ" قرأ علي الأعمش على يحيى بن وثاب على زر بن حبيش على عثمان وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم وراوياه خلف وخلاد "بواسطة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 7- الكسائي "علي بن حمزة النحوي الكوفي" "119-189هـ" كان من أعلم الناس بالنحو، أخذ القراءة عن حمزة الزيات وابن أبي ليلى وعيسى الهمداني، وقرأ عيسى على عاصم وراوياه أبو الحارث والدوري "بلا واسطة". وأما الثلاثة تكملة العشرة فهم: 1- أبو جعفر "يزيد بن القعقاع" " -130هـ" إمام أهل المدينة أخذ عن ابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم عن أبي بن كعب، وراوياه ابن وردان وابن جماز. 2- أبو محمد "يعقوب بن إسحاق "117-215هـ" إمام أهل البصرة وراوياه رويس وروح. 3- خلف بن هشام "150-229هـ" وقراءته في اختياره لم تخرج عن قراءة الكوفيين وراوياه إسحاق وإدريس. وأما الأربعة تكملة الأربعة عشر فهم: 1- ابن محيضن المكي" -123هـ". 2- اليزيذي "أبو محمد يحيى بن المبارك اليزيدي البصري"128-202هـ". 3- الحسن البصري "21-110هـ". 4- الأعمش أبو محمد سليمان بن مهران الكوفي "60-148هـ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 حكم هذه القراءات : للعلماء في هذه القراءات أقوال: الأول: أن قراءات السبعة متواترة، والقراءات الثلاث المتممة للعشر آحاد ومثلها ما يكون من قراءات الصحابة، وما بقي فهو شاذ. الثاني: أن العشر متواترة وغيرها شاذ. الثالث: أن المعتمد في ذلك هو الضوابط؛ سواء كانت القراءة من السبع أو العشر أو الأربع عشرة، ويريدون بالضابط توفر أركان القراءة الصحيحة التي سبق ذكرها، قالوا: "فإذا اجتمعت هذه الثلاثة في قراءة وجب قبولها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 وحرم ردها، سواء كانت عن السبعة، أم عن العشرة، أم عن غيرهم من الأئمة المقبولين نص على ذلك الداني والمهدوي، ومكي، وأبو شامة، وغيرهم ممن يطول ذكره"1. وقد لخص البنا في كتابه "إتحاف فضلاء البشر" هذا الخلاف فقال: "والحاصل: أن السبع متواترة اتفاقًا، وكذا الثلاثة "أبو جعفر" و"يعقوب" و"خلف" على الأصح، بل الصحيح المختار، وهو الذي تلقيناه عن عامة شيوخنا، وأخذنا به عنهم، وبه نأخذ، وأن الأربعة بعدها "ابن محيضن"، و"اليزيدي"، و"الحسن"، و"الأعمش" شاذة اتفاقًا"2.   1 لطائف الإشارات: القسطلاني ص68، 69. 2 إتحاف فضلاء البشر بالقراءات الأربعة عشر: أحمد بن محمد البنا ج1 ص72. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 فوائد تعدد القراءات : يجب أن يعلم أولًا أن الاختلاف الواقع في القراءات يرجع كله إلى اختلاف التنوع لا اختلاف التضاد، فإن اختلاف التضاد محال أن يكون في كلام الله تعالى، قال سبحانه: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} 1، 2. ولهذا الاختلاف بين القراءات فوائد كثيرة أذكر منها 3: 1- التخفيف على هذه الأمة وإرادة اليسر بها؛ شرفًا لها، وتوسعة ورحمة، وخصوصية لفضلها. 2- ما في ذلك من نهاية البلاغة، وكمال الإعجاز، وغاية الاختصار، وجمال الإيجاز وتصريف القول؛ إذ كل قراءة بمنزلة الآية، إذ كان تنوع اللفظ   1 سورة النساء: الآية 82. 2 لمزيد بيان في تقرير هذه المسألة انظر النشر في القراءات العشر: ابن الجزري ج1 ص49. 3 أخذت هذه الفوائد بنصها أحيانًا وبتصرف أحيانًا أخرى، من النشر في القراءات العشر: لابن الجزري ج1 ص52، 54؛ ومباحث في علوم القرآن: مناع القطان ص180، 181. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 بكلمة تقوم مقام آيات، ولو جعلت دلالة كل لفظ آية على حدتها لم يخف ما كان ذلك من التطويل. ومثال ذلك اختلاف القراءة في كلمة "وأرجلكم" من قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} 1 بالنصب "وأرجلَكم" والخفض "وأرجلِكم"، ففي قراءة النصب بيان لحكم غسل الرجل حيث يكون العطف على معمول فعل الغسل {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: الآية 6] . وفي قراءة الجر بيان لحكم المسح على الخفين عند وجود ما يقتضيه؛ حيث يكون العطف على معمول فعل المسح "وامسحوا برءوسكم وأرجلِكم" [المائدة: الآية 6] . فدلت الآية بهاتين القراءتين على حكمين متغايرين، ولو لم يكن كذلك لاحتاج كل حكم إلى آية خاصة لبيانه. 3- الدلالة على حفظه وصيانته من التحريف والتغيير؛ إذ هو مع كثرة هذا الاختلاف وتنوعه. لم يتطرق إليه تضاد، ولا تناقض، ولا تخالف؛ بل كله يصدق بعضه بعضًا، ويبين بعضها بعضًا، ويشهد بعضه لبعض على خط واحد، وأسلوب واحد. وما ذاك إلا آية بالغة، وبرهان قاطع على صدق من جاء به صلى الله عليه وسلم إذ لا يمكن أن يكون هذا من كلام البشر. 4- سهولة حفظه، وتيسير نقله على هذه الأمة؛ إذ هو على هذه الصفة من البلاغة والوجازة، فإن من يحفظ كلمة ذات أوجه أسهل عليه وأقرب إلى فهمه وأدعى لقبوله من حفظه جملًا من الكلام تؤدي معاني تلك القراءات المختلفات، لا سيما فيما كان خطه واحدًا، فإن ذلك أسهل حفظًا وأيسر لفظًا. 5- بيان ما يحتمل أن يكون مجملًا في قراءة أخرى كقراءة "يَطْهُرْن" في قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} 2 قرئ بالتشديد "يَطّهَّرن" والتخفيف "يطْهُرن" فقراءة التشديد مبينة لمعنى التخفيف عند الجمهور، فالحائض إذا انقطع دمها طهرت، وإذا اغتسلت تكون قد تطهرت. وإنما تحل   1 سورة المائدة: الآية 6. 2 سورة البقرة: الآية 222. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 لزوجها بالتطهر لا بالطهر وحده. 6- تعظيم أجر هذه الأمة؛ من حيث إنهم يفرغون جهدهم ليبلغوا قصدهم في تتبع معاني ذلك، واستنباط الحكم والأحكام من دلالة كل لفظ، واستخراج كمين أسراره، وخفي إشاراته، وتدبرهم للقرآن بغية الكشف عن التوجيه والترجيح. 7- بيان فضل هذه الأمة وشرفها على سائر الأمم، من حيث تلقيهم كتاب ربهم هذا التلقي، وإقبالهم عليه، والبحث عن لفظه، والكشف عن معانيه، وإتقان تجويده، فلم يهملوا تحريكًا، ولا تسكينًا، ولا تفخيمًا، ولا ترقيقًا حتى ضبطوا مقادير المدات، وتفاوت الإمالات، وميزوا بين الحروف والصفات، مما لم يهتد إليه فكر أمة من الأمم. 8- ومنها ما ادخره الله تعالى من المنقبة العظيمة لهذه الأمة الشريفة من إسناده كتاب ربها.. وكل قارئ يوصل حرفه بالنقل إلى أصله. 9- ظهور حكمة الله تعالى في توليه سبحانه حفظ كتابه العزيز: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 1 حيث لم يخل عصر من الأعصار ولو في قطر من الأقطار من إمام حجة قائم بنقل كتاب الله تعالى وإتقان حروفه ورواياته، وتصحيح وجوهه وقراءاته.   1 سورة الحجر: الآية 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 رسم المصحف مدخل ... رسم المصحف: الأصل في المكتوب أن يطابق المنطوق1، إلا أنا نجد مخالفة لهذا الأصل ليس في الكتابة العربية فحسب بل حتى في اللغات الأجنبية، فمن الحروف ما ينطق ولا يكتب، ومنها ما يكتب ولا ينطق. وكتابة القرآن في المصاحف نوع من أنواع الكتابة التي يخالف نطقها كتابتها في بعض المواضع. ولا شك أن الرسم الإملائي كان معروفًا قبل نزول القرآن الكريم، وقد حرص الصحابة -رضي الله عنهم- على كتابة المصحف بطريقة تمنع من يتلو النص القرآني من الوقوع في اللحن بسبب خلوه من رموز الحركات واشتراك بعض الحروف في رمز كتابي واحد2 فرمز الباء والتاء والثاء مثلا هو "ب" بلا نقط. ويبدو أن الصحابة -رضي الله عنهم- لم يخترعوا كتابة جديدة أو يصطلحوا على طريقة مبتكرة بل كتبوا أكثر القرآن بالطريقة السائدة للكتابة في عصرهم3، وتشهد النقوش التي ترجع إلى القرن الأول الهجري أن الكتابة السائدة حينئذاك مطابقة للصورة التي نجدها في الرسم العثماني إلا أن اتساع استخدام الكتابة العربية في القرون الهجرية الأولى أظهر الحاجة   1 يخالف بعض الباحثين في تقرير هذا الأصل. وليس هذا موضع تقريره. 2 انظر رسم المصحف: غانم قدوري الحمد ص729 وقبله في فقه العربية: رمضان عبد التواب ص90. 3 وهذه مسألة أيضًا يخالف فيها بعض الباحثين ما نراه فيها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 الماسة إلى تطوير الكتابة لتكون أكثر تحديدًا وضباطًا1. فلم يكن الناس عند كتابة المصحف يجدون فرقًا كبيرًا بين كتابتهم وما يجدونه في المصحف وكان الصحابة ومن وافقهم من التابعين وتابعيهم يوافقون الرسم المصحفي في أكثر ما يكتبون ولو لم يكن قرآنًا ولا حديثًا واستمر الأمر على ذلك إلى أن ظهر علماء اللغة في البصرة والكوفة وأسسوا لفن الكتابة ضوابط وروابط بنوها على أقيستهم النحوية وأصولهم الصرفية وسموها على الخط القياسي أو الاصطلاحي المخترع وسموا رسم المصحف بالخط المتبع. وكلما تقدم الزمن ازدادت الحاجة إلى توحيد قواعد الكتابة وضبطها1. إلا أن العلماء المسلمين بتوفيق الله لهم أبقوا رسم المصحف على الكتبة الأولى صيانة للقرآن من أن يتعرض للتغيير والتبديل بين حين وآخر مما قد يؤدي إلى وقوع الخطأ والتحريف والتبديل. وقد أدى هذا الأمر إلى الاختلاف النسبي بين كتابة المصحف والكتابة الإملائية المعروفة مما دعا علماء القراءات والرسم إلى تأليف كتب تشرح هذه الاختلافات، وتستنبط قواعد رسم المصحف، وتضبط كيفية كتابة الكلمات، وكانت مؤلفاتهم بين دراسة منهجية عامة تعنى بضبط القواعد والأصول، ودراسة تطبيقية تتبع الكلمات القرآنية حسب ترتيب السور والآيات فتبين طريقة رسمها، فظهر علم رسم المصحف.   1 انظر رسم المصحف: غانم قدوري الحمد ص735. 2 انظر رسم المصحف ص730. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 تعريفه : وردت في اللغة العربية عدة كلمات للدلالة على تمثيل الألفاظ برموز مرئية من أشهرها "الكتاب، والهجاء، والخط، والرسم، والإملاء" ولم يكن استخدام هذه المصطلحات على حد سواء تأريخيًّا ويظهر أن أولها هو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 أقدمها ثم استعمل الهجاء والخط في عناوين كثيرة من المؤلفات قديمًا في قواعد الكتابة ومصطلحاتها، وفي وقت متأخر استعمل مصطلح الإملاء للدلالة على هذا المعنى ولا يزال هو الغالب في الاستعمال في عصرنا هذا1. أما الرسم وهو ما نتناوله هنا فإن معاجم اللغة العربية لا تذكر لمادته أي معنى يتعلق بالخط فهو في اللغة: بمعنى الأثر، ورسم كل شيء: أثره2. ثم أطلق هذا المصطلح على رسم المصحف أكثر من إطلاقه على رسم غيره. وربما كان استعمال الرسم للدلالة على خط المصحف إشارة إلى معنى الأثر القديم الذي يحرص المسلمون على المحافظة عليه، فظهر مصطلح "مرسوم الخط" و"مرسوم خط المصاحف" و"الرسم"3. ويراد بالرسم اصطلاحًا: تصوير كلمة بحروف هجائها، بتقدير الابتداء بها، والوقوف عليها، لتتحول اللغة المنطوقة إلى آثار مرئية4. أما الرسم العثماني فيراد به: الوضع الذي ارتضاه الصحابة في عهد عثمان -رضي الله عنه- في كتابة كلمات القرآن الكريم وحروفه.   1 انظر مقال: الكتابة العربية: د. غانم قدوري الحمد مجلة الحكمة العدد العاشر ص201. 2 الجمهرة: ابن دريد ج2 ص336، وتهذيب اللغة: الأزهري ج12 ص422، والصحاح: الجوهري ج5 ص1932، ولسان العرب: ابن منظور ج15 ص132، وانظر رسم المصحف: د. قدوري ص156، ومجلة الحكمة عدد 10 ص201. 3 رسم المصحف: د. قدوري ص156. 4 صفحات في علم القراءات: لأبي طاهر عبد القيوم السندي ص166. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 عناية العلماء به : اعتنى العلماء قديمًا وحديثًا برسم المصحف وليس المقام هنا مقام استيعاب واستيفاء وإنما مقام إشارة وتمثيل، فمن أهم المؤلفات: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 1- المقنع في معرفة مرسوم مصاحف أهل الأمصار: لأبي عمرو عثمان بن سعيد الداني "ت444هـ" حققه الأستاذ محمد أحمد دهمان. 2- الجامع لما يحتاج إليه من رسم المصحف: ابن وثيق الأندلسي "ت654هـ" تحقيق د. غانم قدوري الحمد. 3- البديع في معرفة ما رسم في مصحف عثمان بن عفان رضي الله عنه: لأبي عبد الله محمد بن يوسف بن معاذ الجهني "ت442هـ" تقريبًا تحقيق د. غانم قدوري الحمد ونشره في مجلة المورد م15 العدد الرابع 1407هـ. 4- عنوان الدليل في مرسوم خط التنزيل: لأبي العباس أحمد بن البناء المراكشي "ت721هـ" حققته د. هند شلبي. 5- عقيلة أتراب القصائد في أسنى المقاصد: للإمام الشاطبي "ت590هـ" وهي قصيدة نظم فيها مسائل المقنع: لأبي عمرو الداني وزاد عليه ست كلمات حيث قال الشاطبي: وهاك نظم الذي في مقنع عن أبي ... عمرو وفيه زيادات فطب عُمُرا وعدد أبياتها 298 بيتًا وتسمى الرائية وشرحها كثير من العلماء. 6- مورد الظمآن في رسم وضبط القرآن: لأبي عبد الله محمد بن محمد الشريسي الشهير بالخراز "ت718هـ" وهي أيضًا قصيدة جاءت في قسمين الأول في الرسم والثاني في الضبط ويعرف الأول بمورد الظمآن والثاني بضبط الخراز. وجاءت المنظوفة جامعة لما ورد في أمهات مصادر الرسم شاملة للمشهور من أوجه الخلاف بين المصادر فحظيت بالقبول واعتمدتها اللجنة التي أشرفت على طبع المصحف المشهور بالأميري سنة 1342هـ وتعددت شروحها1 واعتمدت ضبطه لجنة طبع مصحف المدينة   1 رسم المصحف: ص181. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 النبوية من إصدار مجمع خادم الحرمين الشريفين الملك فهد لطباعة المصحف الشريف. 7- رسم المصحف: دراسة لغوية تاريخية: ألفها د. غانم قدوري الحمد. وهذا الكتاب من أفضل المؤلفات وأشملها في رسم المصحف، لم يعتمد فيه مؤلفه على مجرد النقل بل كان عماده التحقيق الدقيق. 8- جامع البيان في معرفة رسم القرآن: للأستاذ علي إسماعيل السيد هنداوي وضعه وفق ما جاء في مورد الظمآن حيث يذكر مضمون الأبيات أولًا، ثم يورد الأبيات آخرًا ويعقب كل مبحث بمجموعة من الأسئلة للتدريب والمراجعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 قواعد رسم المصحف مدخل ... قواعد رسم المصحف: لم تكن هذه القواعد منهجًا معلومًا مرسومًا للصحابة يلتزمون عند كتابة المصحف، وإنما هي قواعد استنبطها العلماء بعد ذلك عن طريق الاستقراء والتتبع. كما أن هذه القواعد غير لازمة أو مطردة في كل كلمة قرآنية إذ يخرج عن كل قاعدة عدد من الكلمات أحيانًا، وقد يلتزم في كلمة واحدة كتابتها وفق القاعدة في موضع وبخلافها في موضع آخر، فطريق الكتابة للمصحف هو النقل وحده. وقد استنبط العلماء لرسم المصحف في عهد عثمان رضي الله عنه ست قواعد يجمعها قول الناظم: الرسم في ست قواعد استقل ... حذف زيادة وهمزة وبدل وما أتى بالوصل أو بالفصل ... موافقًا للفظ أو للأصل وذو قراءتين مما قد شهر ... فيه على إحداهما قد اقتصر1 وهذا بيانها.   1 إيقاظ الأعلام لوجوب اتباع رسم المصحف الإمام: محمد حبيب الله الشنقيطي ص35 والأبيات المذكورة لشيخه محمد العاقب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 القاعدة الأولى: قاعدة الحذف: والأحرف التي حذفت في بعض المواضع خمسة هي: الألف، والواو، والياء، واللام، والنون. أما الألف: فتحذف لثلاثة أمور1: 1- حذف إشارة: والمراد الإشارة بحذف الألف إلى قراءة أخرى محذوفة الألف. مثل حذفها في "ملك يوم الدين"2 وكحذفها في قوله تعالى: "وإن يأتوكم أسرى تفادوهم"3 فحذف الألف في {أُسَارَى} إشارة إلى قراءة حمزة حيث قرأها "أسرى" بفتح الهمزة وإسكان السين وبدون ألف بعدها. وأما حذف الألف في "تُفَدوهم" فإشارة إلى قراءة ابن كثير وأبي عمرو وابن عامر وحمزة وخلف حيث قرءوها "تَفْدوهم" بفتح التاء وسكون الفاء وبدون ألف بعدها4.   1 انظر دليل الحيران شرح مورد الظمآن: للمارغني ص44، 45 وقد أنكر بعض الباحثين هذا التقسيم، انظر رسم المصحف: قدوري ص304، 305. 2 سورة الفاتحة: الآية الثالثة. 3 سورة البقرة: الآية 85. 4 جامع البيان: على هنداوي ص46. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 هذه أقسام حذف الألف أما موضع حذف الألف فلا تكاد تنضبط، وقد قال ابن وثيق الأندلسي في الفصل الذي عقده لحذف الألف: "اعلم أن هذا الباب كثير الاضطراب ومتشعب، لا يرجع إلى قياس فيحصر"12. إلا أن العلماء ذكروا ضوابط تقريبية لحذف الألف فمنها: 1- جمع المذكر السالم وما ألحق به إذا لم يقع بعد الألف همز أو تشديد كما مر آنفًا.   1 سورة الفاتحة: الآية الأولى. 2 سورة الذاريات: الآية الأولى. 3 سورة الأحزاب: الآية 35. 4 سورة الأحزاب: الآية 35. 5 سورة الفاتحة: الآية السابعة. 6 سورة البقرة: الآية 102. 7 سورة البقرة: الآية 125. 8 سورة الجج: الآية 26. 9 سورة الأعراف: الآية الرابعة. 10 سورة الأنفال: الآية 42. 11 سورة الرعد: الآية 16. 12 الجامع لما يحتاج إليه من رسم المصحف: ابن وثيق الأندلسي ص31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344   1 سورة البقرة: الآية 99. 2 سورة الممتحنة: الآية 10. 3 سورة البقرة: الآية 13. 4 سورة الأنعام: الآية 87. 5 سورة البقرة: الآية 198. 6 سورة الطلاق: الآية 4. 7 سورة النساء: الآية 135. 8 سورة الإسراء: الآية 25. 9 سورة النور: الآية 58. 10 سورة الذاريات: الآية 10. 11 سورة الحج: الآية 17. 12 سورة القلم: الآية 31. 13 سورة الصافات: الآية 32. 14 سورة هود: الآية 88. 15 سورة المائدة: الآية 109. 16 سورة البقرة: الآية 5. 17 سورة الملك: الآية 9. 18 سورة إبراهيم: الآية 31. 19 سورة النساء: الآية 176. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345   1 سورة القصص: الآية 27. 2 سورة ص: الآية 55. 3 سورة البقرة: الآية 31. 4 سورة الأحزاب الآية 30. 5 سورة البقرة: الآية 21. 6 سورة البقرة: الآية 33. 7 سورة هود: الآية 76. 8 سورة طه: الآية 94. 9 سورة الكهف: الآية 31. 10 سورة غافر: الآية 45. 11 سورة الحجر: الآية 95. 12 سورة مريم: الآية 74. 13 سورة البقرة: الآية 65. 14 سورة القصص: 8. 15 سورة آل عمران: الآية 20. 16 سورة البقرة: الآية 61. 17 سورة آل عمران: الآية 79. 18 سورة الأعراف: الآية 196. 19 سورة آل عمران: الآية 175. 20 سورة النحل: الآية 51. 21 سورة البقرة: الآية 41. 22 سورة آل عمران: الآية 50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346   1 سورة يس: الآية 25. 2 سورة الأنعام: الآية 145. 3 سورة الرعد: الآية 7. 4 سورة الرعد: الآية 10. 5 سورة الرعد: الآية 34. 6 سورة القمر: الآية 6. 7 سورة الحج: الآية 25. 8 سورة الإسراء: الآية 34. 9 سورة البقرة: الآية 255. 10 سورة المعارج: الآية 13. 11 سورة النمل: الآية 15. 12 سورة الأعراف: الآية 20. 13 سورة آل عمران: الآية 153. 14 سورة السجدة: الآية 18. 15 سورة الشعراء: الآية 94. 16 سورة الكهف: الآية 16. 17 سورة الإسراء: الآية 11. 18 سورة الشورى: الآية 24. 19 سورة العلق: الآية 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 وأما اللام: وتحذف اللام إذا وقعت مع لام أخرى في خمس كلمات هي "الليل" و"اللائي" و"التي" و"اللاتي" و"الذي" سواء كان الأخير مفردًا أو مثنى أو مجموعًا وما عدا هذه الكلمات الخمس فلا حذف مثل "اللطيف" و"اللوامة" و"اللؤلؤ" و"اللهم" وغيرها.   1 سورة يوسف: الآية 110. 2 سورة الأنبياء: الآية 88. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 القاعدة الثانية: قاعدة الزيادة: والمراد بالزيادة حقيقة: إثبات حروف في الكلمة لا يقرأ وصلًا ولا وقفًا، وقد تكون الزيادة في بعض الأحرف ليست حقيقة فتقرأ في الوقف مثل "لكنا" أو الابتداء مثل "ابن" والرسم مبني على الوقف والابتداء وما ثبت في أحدهما لم تكن زيادته حقيقية1. والأحرف التي تزاد هي الألف، والواو، والياء. أما الألف: فتزاد في حالات منها: 1- تزاد الألف بعد الواو المتصلة بالفعل التي هي ضمير الجماعة إذا لم يتصل بالفعل ضمير. مثل:   1 دليل الحيران شرح مورد الظمآن: للمارغيني ص244. 2 سورة البقرة: الآية 25. 3 سورة البقرة: الآية 6. 4 سورة المائدة: الآية 8. 5 سورة الجمعة: الآية 9. 6 سورة الأنفال: الآية 72. 7 سورة البقرة: الآية 16. 8 سورة البقرة: الآية 226. 9 سورة الفرقان: الآية 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348   1 سورة يونس: الآية 25. 2 سورة الروم: الآية 39. 3 سورة محمد: الآية 31. 4 سورة النساء: الآية 99. 5 سورة القمر: الآية 27. 6 سورة الدخان: الآية 15. 7 سورة ص: الآية 59. 8 سورة يونس: الآية 90. 9 سورة الأنفال: الآية 75. 10 سورة البقرة: الآية 46. 11 سورة النساء: الآية 176. 12 سورة إبراهيم: الآية 9. 13 سورة يوسف: الآية 85. 14 سورة طه: الآية 18. 15 سورة طه: الآية 18. 16 سورة الكهف: الآية 38. 17 سورة الأحزاب: الآية 10. 18 سورة البقرة: الآية 259. 19 سورة الأنفال: الآية 66. 20 سورة التوبة: الآية 47. 21 سورة النمل: الآية 21. 22 سورة آل عمران: الآية 158. 23 سورة الصافات: الآية 68. 24 سورة الأحزاب: الآية 66. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349   1 سورة يوسف: الآية 87. 2 سورة يوسف: الآية 87. 3 سورة الزمر: الآية 69. 4 سورة الكهف: الآية 23. 5 سورة الأعراف: الآية 145. 6 سورة طه: الآية 71. 7 سورة الأنعام: الآية 34. 8 سورة آل عمران: الآية 144. 9 سورة الأنبياء: الآية 34. 10 سورة يونس: الآية 75. 11 سورة يونس: الآية 83. 12 سورة يونس: الآية 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350   1 سورة النحل: الآية 90. 2 سورة الشورى: الآية 51. 3 سورة طه: الآية 130. 4 سورة الأحزاب: الآية 4. 5 سورة المجادلة: الآية 2. 6 سورة الطلاق: الآية 4. 7 سورة الروم: الآيتين 8، 16. 8 سورة القلم: الآية 6. 9 سورة الذاريات: الآية 47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 القاعدة الثالثة قاعدة البدل ...   1 سورة الجاثية: الآية 23. 2 سورة البقرة: الآية 272. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 ومثالها في آخر الاسم {هُدًى} 1 {عَمًى} 2. ومثالها في وسط الفعل {اسْتَسْقَاه} 3 {يَغْشَاهَا} 4. ومثالها في آخر الفعل {أَعْطَى} 5 {اهْتَدَى} 6. وجاءت الياء في هذه الأمثلة لام فعل، أما مثالها إذا جاءت ياء متكلم فمثل: {يَا أَسَفَى} 7 {يَا حَسْرَتَى} 8 {يَا وَيْلَتَى} 9 ورسمت الألف ياء لأن أصلها يا المتكلم. والقاعدة التي يعرف بها أصل الألف أن تثنى الكلمة إن كانت اسمًا مثل "فتى" فتيان. أو تسند إلى تاء الضمير إن كانت فعلًا مثل "رمى" رميت. 2- وتكتب الألف ياء في ما جاء رباعيًّا سواء كان اسمًا أو فعلًا، وسواء اتصلت الكلمة بضمير أم لم تتصل لقيت ساكنًا أم متحركًا، والأمثلة على ذلك ما يلي: "الموتى، السلوى، أعطى، فترضى، إحديهما، أخريكم، مجريها". 3- إذا كانت الألف تشبه المنقبلة عن ياء فإنها تكتب ياء10. مثل "أتى، يتامى، سكارى، مرضى، متى، بلى، حتى، إلى، أنثى" وما أشبه ذلك إلا ما استثني وهو كل موضع لو كتبت فيه الألف ياء لاجتمع فيه ياءان11. ثانيًا: تكتب الألف واو للتفخيم. إذا كان أصلها واوًا ما لم تكن مضافة. وجاء ذلك في أربع كلمات مطردة حيث وقعن هن {الصَّلاة} 12.   1 سورة البقرة: الآية 5. 2 سورة فصلت: الآية 44. 3 سورة الأعراف: الآية 160. 4 سورة الشمس: الآية 4. 5 سورة الليل: الآية 5. 6 سورة طه: الآية 82. 7 سورة يوسف: الآية 84. 8 سورة الزمر: الآية 56. 9 سورة الفرقان: الآية 28. 10، 11 انظر الجامع: ابن وثيق ص57، 58. 12 سورة البقرة: الآية 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 و {الزَّكَاة} 1 و {الْحَيَاة} 2 و {الرِّبا} 3. وفي أربع كلمات غير مطردة هن: {بِالْغَدَاة} في الأنعام4 والكهف5. {كَمِشْكَاة} في النور6. {النُّجُوم} في غافر7. {وَمَنَاةَ} في النجم8. فإن أضيفت كتبت بالألف ولم ترد الإضافة إلا في كلمتي "الصلاة" و"الحياة" مثل: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} 9 {قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} 10 واستثني من هذا أربع كلمات رسمت بالواو باتفاق مع أنها مضافة وهي: {إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} 11 و {وَصَلَوَاتِ الرَّسُول} 12 و {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُك} 13 و {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} 14 وذلك لتحتمل وجوه القراءات بالإفراد والجمع. أما النون: فتكتب ألفًا في مواضع منها: 1- يرسم التنوين ألفًا في كل اسم منصوبًا ليس فيه هاء التأنيث ولا هو مقصور مثل: {حُكْماً وَعِلْماً} 15 و {مَلْجَإٍ} 16 و {مُتَّكَأً} 17 و {تَقْدِيرًا} 18 وما أشبه ذلك.   1 سورة البقرة: الآية 110. 2 سورة آل عمران: الآية 185. 3 سورة البقرة: الآية 275. 4 سورة الأنعام: الآية 52. 5 سورة الكهف: الآية 28. 6 سورة النور: الآية 35. 7 سورة غافر: الآية 41. 8 سورة النجم: الآية 20. 9 سورة الإسراء: الآية 110. 10 سورة الفجر: الآية 24. 11 سورة التوبة: الآية 103. 12 سورة التوبة: الآية 99. 13 سورة هود: الآية87. 14 سورة المؤمنون: الآية 9. 15 سورة يوسف: الآية 22. 16 سورة الشورى: الآية 47. 17 سورة يوسف: الآية 31. 18 سورة الإنسان: الآية 16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 2- نون التوكيد الخفيفة تكتب ألفًا إذا كان ما قبلها مفتوحًا مثل: {وَلِيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِين} 1 و {لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَة} 2. 3- ومما كتبت نونه ألفًا كلمة "إذن". مثل {إِذاً لَأَذَقْنَاك} 3 و {قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا} 4 و {وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلا} 5 وإنما كتبت بالألف لإجماع القراء على أن الوقف عليها يكون بالألف. أما تاء التأنيث: فترسم هاء في الأسماء دون الأفعال. وتقرأ بالتاء في الوصل وبالهاء في الوقف، وهذا هو الأكثر مثل "رحمة" و"نعمة" و"كلمة". رحمة في {وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِه} 6 ونعمة في {وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّه} 7 وكلمة في {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّك} 8 وغير ذلك. واستثني من هذا ثلاث عشرة كلمة هي: 1- {رَحْمَت} في البقرة9 والأعراف10 والزخرف11 وهود12 ومريم13 والروم14. 2- {نِعْمَت} في البقرة15، وآل عمران16، والمائدة17، وإبراهيم18، وفاطر19، ولقمان20، والنحل21، والطور22.   1 سورة يوسف: الآية 32. 2 سورة العلق: الآية 15. 3 سورة الإسراء: الآية 75. 4 سورة الأنعام: الآية 56. 5 سورة الإسراء: الآية 76. 6 سورة هود: الآية 28. 7 سورة البقرة: الآية 211. 8 سورة يونس: الآية 19. 9 سورة البقرة: الآية 218. 10 سورة الأعراف: الآية 56. 11 سورة الزخرف: الآية 32. 12 سورة هود: الآية 73. 13 سورة مريم: الآية 2. 14 سورة الروم: الآية 50. 15 سورة البقرة: الآية 231. 16 سورة آل عمران: الآية 103. 17 سورة المائدة: الآية 11. 18 سورة إبراهيم: الآيتين 28، 34. 19 سورة فاطر: الآية 3. 20 سورة لقمان: الآية 31. 21 سورة النحل: الآية 72، 83، 114. 22 سورة الطور: الآية 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 3- {سَنَت} في فاطر1، والأنفال2، وغافر3. 4- {ابْنَتَ} في التحريم4. 5- {شَّجَرَتَ} في الدخان5. 6- {امْرَأَت} في آل عمران6 ويوسف7 والقصص8 والتحريم9. 7- {قُرَّت} في القصص10. 8- {بَقِيَّت} في هود11. 9- {فِطْرَت} في الروم12. 10- {لَعْنَت} في آل عمران13 والنور14. 11- {وَجَنَّت} في الواقعة15. 12- {وَمَعْصِيَت} في المجادلة16. 13- {كَلِمَتُ} الأنعام17، ويونس18، وغافر19. والفرق بين ما كتب بالتاء المفتوحة، والهاء أن ما كتب الهاء يوقف عليه بالهاء، ويوصل بالتاء. وأما ما كتب بالتاء المفتوحة فيقرأ بالتاء بالوصل، وبالوقف كذلك عند ضيق نفس، أو مقام تعليم، أو اختبار.   1 سورة فاطر: الآية 43. 2 سورة الأنفال: الآية 38. 3 سورة غافر: الآية 85. 4 سورة التحريم: الآية 12. 5 سورة الدخان: الآية 43. 6 سورة آل عمران: الآية 35. 7 سورة يوسف: الآية 30، 51. 8 سورة القصص: الآية 9. 9 سورة التحريم: الآية 10، 11. 10 سورة القصص: الآية 9. 11 سورة هود: الآية 86. 12 سورة الروم: الآية 30. 13 سورة آل عمران: الآية 61. 14 سورة النور: الآية 7. 15 سورة الواقعة: الآية 89. 16 سورة المجادلة: الآية 8، 9. 17 سورة الأنعام: الآية 115. 18 سورة يونس: الآية 96. 19 سورة غافر: الآية 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 القاعدة الرابعة: قاعدة الهمز : لا تخلو الهمزة من أن تكون في أول الكلمة، أو وسطها، أو في آخرها. فإذا كانت الهمزة في أول الكلمة: فقد اتفق شيوخ النقل على أن الهمزة الواقعة في أول الكلمة تكتب على الألف سواء كانت مكسورة أو مفتوحة أو مرفوعة. وسواء كانت همزة وصل أم قطع، ولو تقدمها حرف زائد فلا يعتد به مثل الباء والسين والفاء إلا أن يكون سقوطها يخل ببنية الكلمة، وهذه الأمثلة لذلك: الهمزة الواقعة في أول الكلمة مكسورة {إِيَّاك} 1. الهمزة الواقعة في أول الكلمة مفتوحة {أَنْعَمْت} 2. الهمزة في أول الكلمة مضمومة {أُولَئِكَ} 3. همزة الوصل في أول الكلمة مكسورة {اتَّخِذُوا} 4. همزة الوصل في أول الكلمة مفتوحة {الْحَمْدُ لِلَّه} 5. همزة الوصل في أول الكلمة مضمومة {ادْعُ} 6. همزة تقدمها حرف زائد لا يعتد به في رسمها: {هَا أَنْتُم} 7 {يَا آدَم} 8 {لَأَنْتُم} 9 {بِأَنَّهُم} 10 {وَأَبْقَى} 11 {فَإِذَا} 12 {سَأَصْرِف} 13. همزة تقدمها حرف زائد يعتد به لأن سقوطه يخل ببناء الكلمة مثل {تَؤُزُّهُم} 14 {يُؤْتَى} 15 {مُؤْمِن} 16.   1 سورة الفاتحة: الآية 5. 2 سورة الفاتحة: الآية 7. 3 سورة البقرة: الآية 5. 4 سورة المنافقون: الآية 2. 5 سورة الفاتحة: الآية الأولى. 6 سورة النحل: الآية 125. 7 سورة آل عمران: الآية 119. 8 سورة البقرة: الآية 33. 9 سورة الحشر: الآية 13. 10 سورة الأنفال: الآية 65. 11 سورة القصص: الآية 60. 12 سورة يس: الآية 80. 13 سورة الأعراف: الآية 146. 14 سورة مريم: الآية 83. 15 سورة البقرة: الآية 269. 16 سورة الإسراء: الآية 19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 وإذا كانت الهمزة في وسط الكلمة: فإنها لا تخلو من أن تكون ساكنة أو متحركة. فإن كانت ساكنة: فإنها تكتب بحرف حركة ما قبلها. فإن كان ما قبلها مضمومًا كتبت على الواو. مثل {يُؤْفَك} 1. وإن كان ما قبلها مفتوحًا كتبت على الألف مثل {يَأْكُلُون} 2. وإن كان ما قبلها مكسورا كتبت على الياء مثل {وَبِئْرٍ} 3. وإن كانت متحركة: فلها ثلاث حالات: 1- أن تكون متحركة وما قبلها ساكن غير حرف الألف: وحكم ذلك أن لا يصور للهمزة صورة مهما كانت حركتها سواء كانت: مضمومة مثل {مَسْئُولا} 4. أو مفتوحة مثل {الْمَشْأَمَة} 5. أو مكسورة مثل {وَالْأَفْئِدَة} 6. 2- أن تكون متحركة وما قبلها ألف ساكنة. فإن كانت حركتها الفتح لم تصور لها صورة مثل {أَبْنَاءَنَا} 7 {وَنِسَاءَنَا} 8 و {مَاء} 9. فإن كانت حركتها الضم صورت واوًا مثل {آبَاؤُكُم} 10 {وَأَبْنَاؤُكُم} 11. فإن كانت حركتها الكسر صورت ياء مثل {نِسَائِكُم} 12 و {أَبْنَائِكُم} 13.   1 سورة الذاريات: الآية 9. 2 سورة النساء: الآية 10. 3 سورة الحج: الآية 45. 4 سورة الإسراء: الآية 36. 5 سورة الواقعة: الآية 9. 6 سورة النحل: الآية 78. 7 سورة آل عمران: الآية 61. 8 سورة آل عمران: الآية 61. 9 سورة البقرة: الآية 22. 10 سورة النساء: الآية 11. 11 سورة النساء: الآية 11. 12 سورة البقرة: الآية 187. 13 سورة النساء: الآية 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 3- أن تكون متحركة وما قبلها متحرك. فإن كانت مفتوحة وما قبلها مفتوح كتبت ألفًا {سْأَل} 1 {بَدَأَكُم} 2. فإن كانت مفتوحة وما قبلها مضموم كتبت واوًا {مُؤَجَّلا} 3 و {وَالْفُؤَاد} 4. فإن كانت مفتوحة وما قبلها مكسور كتبت ياء {خَاطِئَة} 5 و {السَّيِّئَة} 6. فإن كانت مضمومة وما قبلها مفتوح كتبت واوًا {يَذْرؤكُم} 7 و {يَكْلَؤُكُم} 8. فإن كانت مضمومة وما قبلها مكسور كتبت ياء {سَنُقْرِِئُك} 9. فإن كانت مضمومة وما قبلها مضموم كتبت واوًا {بِرُءُوسِكُم} 10. فإن كانت مكسورة صورة ياء سواء كان ما قبلها مضمومًا أو مفتوحًا أو مكسورًا مثل {يَئِس} 11 و {سُئِلَت} 12 و {بَارِئِكُم} 13. وخلاصة حكم الهمزة المتوسطة أنها تكتب بحرف حركة ما قبلها، إلا إذا كانت مكسورة فترسم بالياء مطلقًا، وإذا كانت مضمومة وما قبلها مفتوح فترسم واوًا. وإذا كانت الهمزة في آخر الكلمة: فلا تخلو من أن تكون ساكنة أو متحركة. فإن كانت ساكنة: فإنها تكتب بحرف حركة ما قبلها. فإن كانت ما قبلها مفتوحا كتبت على الألف مثل {اقْرَأ} 14. وإن كان ما قبلها مكسورا كتبت على الياء مثل {نَبِّئ} 15.   1 سورة المعارج: الآية 1. 2 سورة الأعراف: الآية 29. 3 سورة آل عمران: الآية 145. 4 سورة الإسراء: الآية 36. 5 سورة العلق: الآية 16. 6 سورة فصلت: الآية 34. 7 سورة الشورى: الآية 11. 8 سورة الأنبياء: الآية 42. 9 سورة الأعلى: الآية 6. 10 سورة المائدة: الآية 6. 11 سورة المائدة: الآية 3. 12سورة التكوير: الآية 8. 13 سورة البقرة: الآية 54. 14 سورة العلق: الآية الأولى. 15 سورة الحجر: الآية 49. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 ولم يرد في القرآن همزة ساكنة متطرفة قبلها ضمة. وإن كانت متحركة: فلا تخلو من أن يسكن ما قبلها أو يتحرك. 1- فإن كان ما قبلها ساكن: لم يصور لها صورة مثل {دِفْء} 1 و {الْخَبْء} 2 و {جَاء} 3. 2- وإن كان ما قبلها متحرك فتكتب بحرف حركة ما قبلها كالساكنة: فإن كانت مفتوحة وما قبلها مفتوح كتبت على الألف مثل {ذْرَأ} 4. فإن كانت مفتوحة وما قبلها مكسورة كتبت على الياء مثل {قُرِئ} 5. ولم يرد في القرآن همزة متطرفة مفتوحة قبلها ضمة. وإن كانت مضمومة وما قبلها مضموم كتبت على الواو مثل {اللُّؤْلُؤ} 6. وإن كانت مضمومة وما قبلها مكسور كتبت على الياء مثل {تُبَوِّئ} 7. وإن كانت مضمومة وما قبلها مفتوح كتبت على الألف مثل {الْمَلأ} 8. وإن كانت مكسورة وما قبلها كتبت على الياء مثل {امْرِئ} 9. وإن كانت مكسورة وما قبلها مضموم كتبت على الواو مثل {الْلُؤْلُؤِ الْمَكْنُون} 10. وإن كانت مكسورة وما قبلها مفتوح كتبت على الألف مثل {عَنِ النَّبَأ} 11. وخلاصة حكم الهمزة المتطرفة أنها تكتب بحرف حركة ما قبلها، فإن كان ما قبلها ساكنًا لم يصور لها صورة. وهذا رسم بياني تقريبي يبين حكم الهمزة في جميع الحالات مع عدم الاستيفاء أو التفصيل.   1 سورة النحل: الآية 5. 2 سورة النمل: الآية 25. 3 سورة النصر: الآية 1. 4 سورة الأنعام: الآية 136. 5 سورة الأعراف: الآية 204. 6 سورة الرحمن: الآية 22. 7 سورة آل عمران: الآية 121. 8 سورة هود: الآية 27. 9 سورة النور: الآية 11. 10 سورة الواقعة: الآية 23. 11 سورة النبأ: الآية 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 القاعدة الخامسة: قاعدة الفصل والوصل. الأصل في الكتابة فصل الكلمة عن الكلمة لأن كل كلمة تدل على معنى غير معنى الكلمة الأخرى، فكما أن المعنيين متميزان فكذلك اللفظ المعبر عنهما1. وقد نص علماء العربية على أن حق كل كلمة أن تقع مفصولة في الكتاب عما قبلها وما بعدها ليدل كل لفظ على ما وضع له مفردا2 إلا أنا نجد بعض الكلمات في رسم المصحف ترد مرة موصولة بما بعدها، وترد مفصولة في موضع آخر. وفي هذه القاعدة يورد علماء الرسم ما يوصل وما يفصل من هذه الكلمات. ويريدون بالموصول: كل كلمة اتصلت بما بعدهم في الرسم. وبالمفصول: كل كلمة انفصلت عما بعدها في الرسم. وإذا كانت الكلمة مفصولة عن غيرها جاز الوقف عليها في مقام التعليم أو الاختبار أو في حالة الاضطرار. وإذا كانت الكلمة موصولة بما بعدها لم يجز الوقف عليها بل على الكلمة الثانية منهما وتنزل الكلمة الأولى مع الثانية منزلة الكلمة الواحدة. ولعلك تقول: إذا كان الفصل هو الأصل فكان الحق ألا يذكر علماء الرسم إلا ما خالف الأصل دون ما وافقه، فما بالهم يتناولون هنا الموصول، والمفصول جميعًا. وقد علل بعض علماء الرسم ذلك بأنهم تناولوا المفصول اختصارًا لقلته بالنسبة إلى الموصول ولو تعرضوا إلى جميع ما جاء موصولًا على   1 رسم المصحف: د. قدوري ص448. 2 المرجع السابق: د. قدوري ص447، 448. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 خلاف الأصل لطال الكلام وفات الاختصار1. ومن الكلمات التي تدخل في هذه القاعدة: 1- "ألا" أصلها أن لا وكتبت موصولة في {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} 2. 2- "مما" أصلها من ما وكتبت موصولة في {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُون} 3. 3- "أينما" أصلها أين ما وكتبت موصولة في {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه} 4. 4- "بئسما" أصلها بئس ما وكتبت موصولة في {بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي} 5. 5- "كيلا" أصلها كي لا وكتبت موصولة في {لِكَيْلا يَعْلَم} 6. 6- "ويكأن" أصلها وي كأن وكتبت موصولة في {وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُون} 7.   1 دليل الحيران شرح مورد الظمآن: المارغني ص285، 286 ويبدو لي أن هذا التعليل غير مقنع فمن تتبع الكلمات الموصولة والمفصولة كما وردت في دليل الحيران مثلًا سيجد أن الكلمات المفصولة سبعة عشر كلمة والموصولة سبعة عشر كلمة فهما من حيث العدد سواء. بل وسيجد أن التقسيم غير دقيق فهم يذكرون مثلًا في الكلمات المقطوعة "عن ما" وأنها تقطع في موضع واحد في الأعراف وتوصل فيما عداه ومع هذا فإنهم يعدونها في المقطوع ولو قلبت القضية وعددتها في الموصول وقلت إنها توصل في جميع المواضع إلا موضع الأعراف لصح، واختل بهذا تقسيمهم للكلمات المقطوعة والموصولة وما قلته في "عن ما" ينطبق على أغلب الكلمات المقطوعة والموصولة. وهذا يؤكد قضية وجوب الاقتصار على ذكر ما خالف الأصل وهو القطع فلا يذكر في هذا الباب إلا ما هو موصول وحقه القطع. إذ لم يرد في القرآن كلمة مقطوعة وحقها الوصل كما لو قلت "مح مد" أو "الح مد" أو "الس ماء". ولهذا التزمت الاقتصار على كلمات وصلت والأصل فيها القطع. 2 سورة النجم: الآية 38. 3 سورة البقرة: الآية 3. 4 سورة البقرة: الآية 115. 5 سورة الأعراف: الآية 150. 6 سورة الحج: الآية 5. 7 سورة القصص: الآية 82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 7- "ألن" أصلها أن لن وكتبت موصولة في {أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَه} 1. 8- "ممن" أصلها من من وكتبت موصولة في {مِمَّنْ مَنَع} 2. 9- "فيم" أصلها في ما وكتبت موصولة في {قَالُوا فِيمَ كُنْتُم} 3. 10- "نعما" أصلها نعم ما وكتبت موصولة في {نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِه} 4. 11- "يبنؤم" أصلها يا ابن أمي وكتبت موصولة في {يَبْنَؤُم لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي} 5. 12- "كأنما" أصلها كأن ما وكتبت موصولة في {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء} 6. هذه بعض الكلمات التي وردت في القرآن موصولة والأصل في رسمها الفصل.   1 سورة القيامة: الآية 3. 2 سورة البقرة: الآية 114. 3 سورة النساء: الآية 97. 4 سورة النساء: الآية 58. 5 سورة طه: الآية 94. 6 سورة الأنعام: الآية 125. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 القاعدة السادسة: ما فيه قراءتان: ويدخل تحت هذه القاعدة نوعان من الكلمات: النوع الأول: كلمات فيها أكثر من قراءة وتدخل تحت إحدى القواعد السابقة: ففي قاعدة الحذف ترسم "ملك يوم الدين" بحذف الألف لأن في ملك قراءتين بالألف "مالك" وهي قراءة عاصم والكسائي ويعقوب وخلف في اختياره وقرأ الباقون بحذفها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 وفي قاعدة الهمز كلمة النشأة في قوله تعالى: {وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى} 1 رسمت بإثبات الهمزة مع أن القاعدة أن الهمزة المتحركة إذا كان قبلها ساكن غير ألف تحذف صورة الهمزة فتكتب هكذا: "النشـءَ ـة" إلا إنها رسمت بإثبات الهمز، وفي ذلك إشارة إلى قراءة ابن كثير وأبي عمرو "النشاءَة" بفتح الشين وإثبات ألف بعدها وبعد الألف همزة مفتوحة. وفي قاعدة البدل كل ما اختلف فيه القراء جمعًا وإفرادًا يرسم بالتاء ليحتمل القراءتين {غَيَابَت} 2 قرأهما المدنيان بالألف على الجمع والباقون بغير الألف على الإفراد. ومثل {آيَاتٌ لِلسَّائِلِين} 3 قرأها ابن كثير بغير الألف على الإفراد والباقون بالألف على الجمع. أما في الوصل والفصل فقد مر بنا قريبًا صلته بالوقف فلا يجوز الوقف على الكلمة الأولى من كلمتين موصولتين، ويجوز الوقف عند الفصل للتعليم أو الاختبار ونحوهما. والنوع الثاني: كلمات يحتمل رسمها قبل النقط أكثر من قراءة. ومن أمثلة ذلك: {إِثْمٌ كَبِير} 4 بدون نقط قرأ حمزة والكسائي بالثاء "كثير" وقرأ الباقون بالباء. {نُنْشِزُهَا} 5 بدون نقط قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي بالزاي والباقون بالراء. {فَتَبَيَّنُوا} 6 بدون نقط قرأ حمزة والكسائي وخلف "فتثبتوا" وقرأ الباقون "فتبينوا".   1 سورة النجم: الآية 47. 2 سورة يوسف: الآية 10. 3 سورة يوسف: الآية 7. 4 سورة البقرة: الآية 219. 5 سورة البقرة: الآية 259. 6 سورة النساء: الآية 94. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 {يَقُصُّ الْحَق} 1 قرأ أبو جعفر ونافع وابن كثير وعاصم بالصاد المهملة. وقرأ الباقون بالضاد المعجمة المكسورة وقبلها قاف ساكنة. {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُم} 2 قرأها يعقوب "إخوتكم" بكسر الهمزة وسكون الخاء وكسر التاء. وقرأها الباقون بفتح الهمزة والخاء وسكون الياء. وغير ذلك من الكلمات التي ساعد عدم نقطها على جمع رسمها لأكثر من قراءة.   1 سورة الأنعام: الآية 57. 2 سورة الحجرات: الآية 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 فوائد ومزايا رسم المصحف مدخل ... فوائد ومزايا رسم المصحف: ينبغي أن نذكر قبل ذكر الفوائد والمزايا بما قلناه في أول الباب من أن الصحابة -رضي الله عنهم- لم يخترعوا رسمًا خاصًّا لكتابة القرآن وإنما كتبوه بالطريقة السائدة للكتابة في عصرهم1 إلا في مواضع خالفوا فيها هذه الطريقة لحكم وفوائد. وسنذكر بعض الفوائد والمزايا لرسم المصحف العثماني ومنها:   1 وقد خالف في هذا بعض المتأخرين زاعمين أن الرسم كان بالتوقيف ولا تجوز مخالفته وهم يخلطون في هذا بين القول بالتوقيف والقول بوجوب التزام الرسم متوهمين أن الثاني يوجب الأول. والحق أن القول بالتوقيف ظهر في وقت متأخر، أما القول بوجوب التزام الرسم فهو قول جمهور علماء الأمة، ولا يلزم من القول به القول بأن الرسم توقيفي. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 الفائدة الأولى : اشتمال هذا الرسم في جملته على القراءات الصحيحة، ولهذا اشترط علماء القراءات لصحة القراءة موافقة الرسم العثماني ولو احتمالًا. وعلى هذا فإذا كان في الكلمة الواحدة أكثر من قراءة فإنها ترسم بوجه يحتمل هذه القراءات أو أكثرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 فيكتبون مثلًا {مَالِكِ يَوْمِ الدِّين} 1 بحذف الألف بعد الميم الأولى ووضع ألف صغيرة للإشارة إلى الألف المحذوفة في قراءة عاصم والكسائي "مالك" وفي حذفها إشارة إلى قراءة الباقين "ملك". وكذا ما كان فيه أكثر من قراءتين فإنهم يرسمونه بصورة تحتمل هذه القراءات ما أمكنهم ذلك مثل {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَان} 2 فقد رسمت في المصحف قبل النقط هكذا "إن هذن" للإشارة إلى القراءات فيها وهي: 1- "إنَّ هذانِ" وهي قراءة نافع وابن عامر وشبعة وحمزة والكسائي. 2- "إنْ هذانِّ" وهي قراءة ابن كثير. 3- "إنْ هذانِ" وهي قراءة حفص عن عاصم. 4- "إنَّ هذين" وهي قراءة أبي عمر. وكما ترى فإن رسم هاتين الكلمتين بلا نقط ولا شكل ومن غير ألف ولا ياء بعد الذال يحتمل هذه القراءات كلها. وإياك أن تفهم أن الصحابة هم الذين حذفوا النقط أو الشكل وإنما نعني أن عدم وجود النقط أولًا، وعدم وجود الشكل ثانيًا، وحذفهم لبعض الأحرف ثالثًا، كل هذا ساعد على رسم بعض الكلمات بحيث تصلح لأكثر من قراءة. وقد أنكر بعض الباحثين هذه الفائدة معللًا دعواه بأن النقط لم يكن معروفًا عند الصحابة -رضي الله عنهم- حتى يتعمدوا حذفه لهذا الغرض. ونحن لم نقل أن الصحابة -رضي الله عنهم- كانوا يعرفون النقط أو الشكل ولكن نقول إن عدم وجود النقط والشكل في تلك الفترة ساعد على كتابة الكلمة بطريقة تحتمل أكثر من قراءة.   1 سورة الفاتحة: الآية 3. 2 سورة طه: الآية 63. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 بقي أن نقول: إنه إذا كان في الآية أكثر من قراءة ولا يمكن كتابتها برسم واحد يحتمل هذه القراءات فإنهم يكتبون كل قراءة في مصحف ليتفق كل رسم مع القراءة التي يقرأ بها. فمثلًا قوله تعالى: {وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِير} 1 كتبت الكلمتان في المصحف الشامي "وبالزبر وبالكتاب المنير" بزيادة باء في الزبر وباء أخرى في الكتاب. وكتبتا في سائر المصاحف بحذف الباءين. وفي قوله تعالى: {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَار} 2 كتبت في المصحف المكي "من تحتها" بزيادة "من" وفي بقية المصاحف بدونها. وفي قوله تعالى: {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَبا} 3. كتبت في المصحف المكي والمدني والشامي "منهما" بالتثنية وفي بقية المصاحف "منها" بالإفراد4.   1 سورة آل عمران: الآية 184. 2 سورة التوبة: الآية 100. 3 سورة الكهف: الآية 36. 4 للدكتور محمد محمد سالم محيسن كتاب "الفتح الرباني في علاقة القراءات بالرسم العثماني" ظهر فيه أثر هذه الفائدة لرسم المصحف. ومنه أخذت بعض الأمثلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 الفائدة الثانية : أن في اختلاف الرسم عن النطق حملًا للناس على تلقي القرآن من أفواه القراء والحفاظ وعدم الاعتماد على مجرد القراءة من المصحف. ولا شك في أهمية حفظ القرآن عن طريق التلقي، وقد كان أعلام حفاظ القرآن الكريم يميزون الحفظ بالتلقي فهذا ابن مسعود -رضي الله عنه- يقول: "حفظت من في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بضعة وسبعين سورة"1 وبين عمن   1 صحيح البخاري ج:6 ص102، ومسلم ج4 ص1912. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 أخذ باقيه فقال: "وأخذت بقية القرآن عن أصحابه"1 ولإدراكه رضي الله عنه مكانة التلقي بالمشافهة كان إذا سئل عن سورة لم يكن تلقاها عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- صرح لهم بذلك ودلهم على من تلقاها بالمشافهة عنه صلى الله عليه وسلم، فعن معديكرب قال: "أتينا عبد الله فسألناه أن يقرأ "طسم" المائتين2. فقال: ما هي معي ولكن علكيم من أخذها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خباب بن الأرت. قال: فأتينا خباب بن الأرت فقرأها علينا"3. ولهذا قرر العلماء أنه لا يصح التعويل على المصاحف وحدها، بل لا بد من التلقي عن حافظ متقن وكانوا يقولون: "من أعظم البلية تشييخ الصحيفة"4 ويقولون: "لا تأخذوا القرآن من مصحفي ولا العلم من صحفي"5 وهو الذي يعلم الناس وينظر إلى رسم المصحف. وكان الشافعي رحمه الله تعالى يقول: "من تفقه من بطون الكتب ضيع الأحكام"6. ولحمل الناس على تلقي القرآن مشافهة مزيتان: المزية الأولى: التوثق من النطق الصحيح لألفاظ القرآن الكريم، وطريقة الأداء، وحسن الترتيل، وإتقان التجويد، وإخراج الحروف من مخارجها، فإن ذلك كله لا يمكن تحقيقه عن طريق الكتابة وحدها، إذ لا يمكن معرفة الروم، والإشمام، والتسهيل، والتحقيق، والتفخيم والقلقلة، والإدغام، والإخفاء إلا عن طريق السماع الصوتي من معلم متابع مصغ.   1 فتح الباري: ابن حجر العسقلاني ج9 ص48. 2 هي سورة الشعراء. 3 مسند الإمام أحمد: ج2 ص34 بتحقيق أحمد شاكر رقم 3980 وقال: إسناده صحيح. 4 تذكرة السامع والمتكلم: ابن جماعة ص87. 5 شرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف: العسكري ص10. 6 تذكرة السامع والمتكلم: ابن جماعة ص87. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 المزية الثانية: اتصال السند برسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإذا كان كل مسلم يتلقى القرآن عن معلم فإن السند سينتهي بالمعلم الأول عليه الصلاة والسلام عن جبريل عن ربه. ولا شك أن اتصال السند برسول -صلى الله عليه وسلم- في القرآن كله سوره، وآياته، وكلماته، وحروفه، بهيئاتها وحركاتها، وكيفية نطقها بطريق التواتر خاص بهذا القرآن، وهو من خواص هذا الكتاب الذي امتاز به على سائر الكتب، وخواص هذه الأمة التي امتازت به على سائر الأمم1.   1 انظر كتابي خصائص القرآن الكريم: ص172، 173. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 طريق معرفة رسم المصحف مدخل ... طريق معرفة رسم المصحف: اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في طريق معرفة رسم المصحف هل هو توقيفي أو اجتهادي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 القول الأول: أن رسم المصحف توقيفي: ويرى أصحاب هذا القول أن رسم المصحف ما هو إلا أمر توقيفي عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- علمه أصحابه فكتبوا المصحف به كما تعلموه قال الدباغ: "ما للصحابة ولا لغيرهم في رسم القرآن ولا شعرة واحدة وإنما هو توقيف من النبي وهو الذي أمرهم أن يكتبوه على الهيئة المعروفة بزيادة الألف ونقصانها لأسرار لا تهتدي إليها العقول وهو سر من الأسرار خص الله به كتابه العزيز دون سائر الكتب السماوية، وكما أن نظم القرآن معجز فرسمه أيضًا معجز"1!! واستدلوا على ذلك بعدة أدلة منها: 1- إقرار الرسول -صلى الله عليه وسلم- كتاب الوحي على هذا الرسم: وبيان ذلك أن الكتاب الوحي كانوا يكتبون القرآن بين يدي الرسول -صلى الله عليه وسلم- ويقرهم عليه.   1 الإبريز: أحمد بن المبارك ص55، 56. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 2- أن القرآن كتب في عهد أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- بهذا الرسم ولم يغير فيه أو يبدل وكذلك في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه. 3- اتفاق الصحابة على التزام هذا الرسم وإقرارهم لرسم المصحف في عهد أبي بكر وعثمان رضي الله عنهم. 4- اتفاق التابعين وتابعيهم على ذلك وعدم تجويزهم لمخالفته. وهذا كله يدل على أن رسم المصحف توقيفي ولو كان غير ذلك لجاز لهم تغيير رسمه فلما لم يفعلوا دل على التوقيف. 5- واستدلوا ببعض الروايات غير الثابتة، وبعض الآثار غير الصريحة في الدلالة كقول زيد رضي الله عنه: كنت أكتب الوحي عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يملي علي، فإذا فرغت. قال: اقرأ، فأقرؤه، فإن كان فيه سقط أقامه. ثم أخرج به إلى الناس1. وسئل الإمام مالك: أيكتب المصحف على ما أحدثه الناس من الهجاء؟ قال: لا إلا على الكتبة الأولى2 وقال الإمام أحمد: تحرم مخالفة خط المصحف3 وقال البيهقي: من يكتب مصحفًا فينبغي أن يحافظ على الهجاء الذي كتبوا به تلك المصاحف4 وقال الزمخشري: خط المصحف سنة لا تغير5. قالوا: وهذه الروايات والآثار تدل على أن رسم المصحف توقيفي لا تجوز مخالفته.   1 رواه الطبراني في الأوسط ج2 ص544 ورجاله ثقات. 2 المقنع: أبو عمرو الداني ص9. 3 البرهان: الزركشي ج1 ص379، والإتقان: السيوطي ج2 ص213. 4 الإتقان: السيوطي ج2 ص213. 5 الكشاف: الزمخشري ج3 ص82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 القول الثاني : أن رسم المصحف اصطلاحي: ويرى أصحاب هذا القول أن رسم المصحف اصطلاحي لا توقيفي، كتبه الصحابة -رضي الله عنهم- بالطريقة التي كانوا يكتبون بها سائر من غير نص من الرسول صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 وقال بهذا الرأي عدد من العلماء كابن خلدون والباقلاني وابن قتيبة وغيرهم. قال الباقلاني1: "وأما الكتابة فلم يفرض الله على الأمة فيها شيئًا، إذ لم يأخذ على كتاب القرآن وخطاط المصاحف رسمًا بعينه دون غيره أوجبه عليهم وترك ما عداه، وقال: "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يأمر برسمه ولم يبين لهم وجهًا معينًا ولا نهى أحدًا عن كتابته، ولذلك اختلفت خطوط المصاحف فمنهم من كان يكتب الكلمة على مخرج اللفظ، ومنهم من كان يزيد وينقص لعلمه بأن ذلك اصطلاح وأن الناس لا يخفى عليهم الحال" ثم قال: "وإذا كانت خطوط المصاحف وكثير من حروفها مختلفة متغايرة الصورة، وكان الناس قد أجازوا ذلك وأجازوا أن يكتب كل واحد منهم بما هو عادته وما هو أسهل وأشهر وأولى من غير تأثيم ولا تناكر، علم أنه لم يؤخذ في ذلك على الناس حد محدود مخصوص كما أخذ عليهم في القراءة والأذان، والسبب في ذلك أن الخطوط إنما هي علامات ورسوم تجري مجرى الإشارات والعقود والرموز، فكل رسم دال على الكلمة مفيد لوجه قراءتها تجب صحته وتصويب الكاتب به على أي صورة كانت.   1 انظر مناهل العرفان: الزرقاني ج1 ص373، 374، والإبريز: أحمد بن المبارك ص55. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 الرأي الراجح : والذي نراه أن رسم المصحف اصطلاحي وليس بتوقيفي؛ لأن القول بالتوقيف يحتاج إلى دليل وليس ثم دليل من الكتاب ولا من السنة ولا من أقوال الصحابة على ذلك، ولم يقل به أحد من علماء السلف بل هو لبعض المتأخرين. وأما ما روي من روايات فهي إما غير صحيحة أو لا تدل على المراد من القول بالتوقيف بل تدل على وجوب التزام الرسم وليس هذا هو موضع الخلاف هنا واحترام الرسم العثماني واستحسانه والتزامه لا يلزم منه القول بأنه توقيفي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 حكم التزام الرسم العثماني مدخل ... حكم التزام الرسم العثماني: اختلف العلماء في حكم التزام الرسم العثماني إلا ثلاثة أقوال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 القول الأول: وجوب التزام الرسم العثماني وتحريم مخالفته 1: وهو مذهب جمهور العلماء من السلف والخلف، بل حكى بعضهم الإجماع على ذلك وأقوال العلماء ونصوصهم في ذلك كثيرة ومنها أن الإمام مالك رحمه الله تعالى سئل: هل يكتب المصحف على ما أحدثه الناس من الهجاء؟ فقال: لا. إلا على الكتبة الأولى. وقال أشهب: سئل مالك فقيل له: أرأيت من استكتب مصحفًا اليوم أترى أن يكتب على ما أحدث الناس من الهجاء اليوم؟ فقال: لا أرى ذلك. ولكن يكتب على الكتبة الأولى. قال أبو عمرو الداني: "ولا مخالف له في ذلك من علماء الأمة وبالله والتوفيق"2. وقال أشهب: سئل مالك عن الحروف تكون في القرآن مثل الواو والألف أترى أن تغير من المصحف إذا وجدت فيه كذلك؟ قال: لا. قال أبو عمرو الداني: يعني الواو والألف الزائدتين في الرسم لمعنى المعدومتين في اللفظ ... "3.   1 وقد ألف عدد من العلماء رسائل خاصة في وجوب التزام الرسم العثماني ومنع كتابته بالرسم الإملائي أو بالأحرف اللاتينية ومنها: - الفتوى المحمدية على الأسئلة الهندية عن المرسومات القرآنية: محمد قنديل الرحماني. - إيقاظ الأعلام لوجوب اتباع رسم المصحف الإمام: محمد حبيب الجكني. - كتابة القرآن بالرسم الإملائي أو الحروف اللاتينية اقتراحان مرفوضان: عبد الحي الفرماوي. 2 المقنع: لأبي عمرو الداني ص9، 10. 3 المرجع السابق ص28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 وقال الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- تحرم مخالفة خط مصحف عثمان في واو أو ياء أو ألف أو غير ذلك"1. وقال البيهقي في شعب الإيمان: "من يكتب مصحفًا فينبغي أن يحافظ على الهجاء الذي كتبوا به تلك المصاحف، ولا يخالفهم فيه، ولا يغير مما كتبوه شيئًا فإنهم كانوا أكثر علمًا وأصدق قلبًا ولسانًا، وأعظم أمانة منا، فلا ينبغي أن نظن بأنفسنا استدراكًا عليهم"2. بل قال الجعبري في شرح العقيلة: إن ذلك هو مذهب الأئمة الأربعة"3 وقال الزمخشري في تفسيره: "خط المصحف سنة لا تغير"4. وقد صدرت فتوى هيئة كبار العلماء بالرياض رقم71 وتاريخ 21/ 10/ 1399 بأن المحافظة على كتابة المصحف بهذا الرسم "يعني الرسم العثماني" هو المتعين اقتداء بعثمان وعلي وسائر الصحابة وعملًا بإجماعهم". وقد أيد هذه الفتوى مجلس المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة كما أيدتها دار الإفتاء بمصر5.   1، 2 البرهان: الزركشي ج1 ص379، والإتقان: السيوطي ج2 ص213. 3 رسم المصحف: د. غانم قدوري الحمد ص199. 4 الكشاف: الزمخشري ج3 ص82. 5 انظر تحريم كتابة القرآن الكريم بحروف غير عربية: صالح علي العود ص56، 63. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 القول الثاني: جواز كتابة القرآن بالرسم الإملائي الحديث : وممن ذهب إلى هذا القول الباقلاني وابن خلدون وعدد من المعاصرين واستدلوا بأدلة منها1: 1- أن هذه الخطوط والرسوم ليست إلا علامات وأمارات فكل رسم   1تاريخ المصحف الشريف: عبد الفتاح القاضي ص49، 50 وهذه الأدلة مقتبسة من كلام الباقلاني، وقد سبق نقله عند القول بأن رسم المصحف اصطلاحي لا توقيفي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 يدل على الكلمة ويفيد وجه قراءتها فهو رسم صحيح وكاتبه مصيب. 2- أن كتابة المصحف على الرسم العثماني قد توقع الناس في لبس وحيرة، ومشقة وحرج، ولا تمكنهم من القراءة الصحيحة السليمة وكتابة القرآن بالرسم الحديث فيه تيسير على الناس ورفع للحرج والمشقة. 3- ليس في الكتاب ولا في السنة ولا في إجماع الأمة ما يوجب التزام الرسم العثماني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 القول الثالث: جواز كتابته بالرسم الإملائي للتعليم ... القول الثالث: جواز كتابته بالرسم الإملائي للعامة وللتعليم مع الإبقاء على الرسم العثماني في المصاحف والمحافظة عليه للعلماء والخاصة. ومال إلى هذا الرأي الشيخ العز بن عبد السلام والزركشي رحمهما الله تعالى فقد عقب الزركشي على ما قاله الإمامان مالك وأحمد رحمهما الله تعالى بقوله: "قلت: وكان هذا في الصدر الأول، والعلم حي غض، وأما الآن فقد يخشى الإلباس. ولهذا قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: "لا يجوز كتابة المصحف الآن على الرسوم الأولى باصطلاح الأئمة لئلا يوقع في تغيير من الجهال" ولم يرتض الزركشي هذا البعد في الجواز للرسم الإملائي فعقب على كلام العز بقوله: "ولكن لا ينبغي إجراء هذا على إطلاقه، لئلا يؤدي إلى دروس العلم، وشيء أحكمته القدماء لا يترك مراعاته لجهل الجاهلين، ولن تخلو الأرض من قائم لله بالحجة"1.   1 البرهان: الزركشي ج1 ص379، وقد خلط بعض الباحثين بين كلامه وكلام العز وحسبوه كلامًا واحدًا مع ظهور الاختلاف. وممن وقع في الخلط الزرقاني في مناهله ج1 ص378 ود. صبحي الصالح في مباحث علوم القرآن ص280 ونقل كثير من المؤلفين العبارة عن الزرقاني من غير إدراك للخلط، وقد نبه إلى ذلك د. غانم قدوري الحمد في كتابه رسم المصحف ص201. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 و الرأي الراجح : والراجح من هذه الأقوال فيما أرى هو أولها؛ إذ نص علماء السلف على وجوب التزام رسم المصحف وتحريم مخالفته ونستدل على ذلك ما يلي: 1- أن القرآن كتب بهذا الرسم في عهد عثمان وفيه كبار الصحابة فتلقوه هم وبقية الصحابة حينذاك وعددهم لا يقل عن اثني عشر ألفًا بالقبول ولم يعترض أحدهم على زيادة حرف أو نقصانه، وتلقاه من بعدهم التابعون ومن بعدهم. فلا يترك هذا الرسم مراعاة لجهل الجاهلين، وتقصير المقصرين. 2- أن الكتابة كغيرها من العلوم والمعارف تتغير وتتبدل، وتتطور من عصر إلى عصر ومن بلد إلى بلد، فلو كتب في عصرنا هذا على طريقتنا في الكتابة لاحتاج من في المغرب العربي إلى كتابته بصورة أخرى، واحتاج من الهند وباكستان إلى كتابة ثالثة، ولاحتاجت الأجيال من بعدنا إلى تغيير وتبديل يعرض النص القرآني في كل مرة إلى الخطأ أو التحريف والتغيير. 3- أن تغيير رسم المصحف كلما هبت ريح أو أشرقت شمس أو آذنت بغروب يعرض المصحف للامتهان، ويمس قداسته، ويغض من هيبته، ويقلل من احترامه فتعتاد النفوس ويتبلد الإحساس وتخمد الغيرة على النص القرآني. 4- أن إجازة كتابته بالرسم الإملائي وانتشاره بذلك واعتياد الناس لذلك يمهد للدعوة إلى تغيير الأحرف العربية وكتابة اللفظ بالأحرف اللاتينية ما دام النطق واللفظ هو اللفظ. بل الدعوة قائمة الآن إلى كتابة القرآن بالأحرف اللاتينية. 5- أن للرسم العثماني فوائده وحكمه، ومزاياه التي يضمنها الالتزام بالرسم العثماني ولا تتحقق في سواه. 6- أن تعليم القرآن وحفظه لا يكون من المصحف وإنما عن طريق المشافهة عن حافظ متقن، ومن سلك هذا الطريق لم يشكل عليه رسم، وإنما الإشكال ممن لم يلتزم الطريق الصحيح وقرأ من المصحف وحده فالخطأ من قبله هو أتى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 7- أن الاحتجاج بتعليم الصبيان غير مسلم، فها نحن نراهم يتعلمون اللغات الأجنبية بحروفها ولغاتها ويتقنونها وينكرون كل الإنكار كتابة الكلمات لهم بالأحرف العربية بل يوجبون قراءة اللغة الأجنبية بأحرفها الأجنبية مع الاختلاف الكلي بين اللغتين بينا الاختلاف بين الرسم العثماني والإملائي ليس إلا في كلمات معدودة ورسوم محدودة. 8- أن تعليم الصبيان لا يكون بالمساس بالنص الديني وإنما يكون برفع مستوى الأذهان، والتهيئة النفسية لذلك. وعلينا إن كنا حريصين -حقًّا- على تعليم أبنائنا للقرآن الكريم أن نعودهم القراءة في المصحف، ففي التعود على قراءته تأليف لأذهانهم على رسم المصحف، وترويض لمداركهم على مصطلحاته وسيدرك أولئك أن الصعوبة التي تواجههم بادئ الأمر قد تحولت بعد زمن يسير إلى سهولة ووضوح. وإنما تصعب تلاوة القرآن وإتقانه على الذين يهجرونه دهرًا طويلًا ثم يعودون لتلاوته دقائق معدودة، فأولئك سيواجهون -حتمًا- الصعوبة وسيحملون تقصيرهم -جورًا وظلمًا- على رسم المصحف وما هو من الرسم ولكنه من تفريطهم بالتلاوة وهجرهم للقرآن والله المستعان1. 9- أن في الالتزام برسم المصحف ضمان قوي للنص القرآني من التحريف والتبديل، ولو تم تغييره في كل حين والتصرف في كتابته في كل عصر لأدى ذلك إلى تعريض المصحف للتغير والتبديل، والتحريف. 10- أن الذين دعوا إلى كتابة المصاحف بالرسم الإملائي ليسوا من القراء ولا من العلماء المختصين بالرسم، وإنما عمادهم الرأي المجرد بل إن بعضهم من المشهورين بالإلحاد وسوء المعتقد، وفيهم من دعا إلى ذلك بحسن نية كلها دعوة ينقصها العلم الشرعي، والله المستعان.   1 من كتابي خصائص القرآن الكريم: ص178. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 ونحن حين نورد هذه الأدلة لا نستجدي موافقة أو نلتمس تأييدًا1. لإبقاء رسم المصحف العثماني فهو أمر حسمه علماء السلف -رحمهم الله تعالى- ولا خيار للمخالف ولكنا نخشى أن يغتر ببريق هذه الدعوة مغتر، أو تنطلي شبهات هذه الدعوة على من لا يعلم الحكم الشرعي فيغرق في أوحالها.   1 أقول هذا لأني رأيت فيما كتبه بعض المعارضين للرسم الإملائي فتورًا ولينًا، وتنازلًا وكأن في الأمر مقايضة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 نقط المصحف وشكله وتجزئته مدخل ... نقط المصحف وشكله وتجزئته: من المعلوم أن المصاحف في عهد الصحابة -رضي الله عنهم- لم تكن منقوطة ولا مضبوطة بالشكل. وقد كان ذلك لأنهم كانوا عربًا خلصًا يقرءون بفهمهم أكثر أو مثل ما يقرءون بالحروف الماثلة أمامهم. ولما اتسعت الفتوحات الإسلامية واختلط العرب بالعجم دخل اللحن في لسان الأحفاد، وأخطر ما يكون اللحن وأشده حين يقع في القرآن الكريم. وأكثر من يدرك فشو اللحن وانتشاره من يقيم في بلاد العجم السابقة كالعراق بلاد الفرس. وقد كان زياد بن عبيد الله والي البصرة "44-53هـ" في خلافة معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- وحين رأى زياد ظهور اللحن خشي أن ينال القرآن منه شيء فبعث إلى أبي الأسود الدؤلي وقال له: يا أبا الأسود إن هذه الحمراء -يعني العجم- قد كثرت، وأفسدت من ألسن العرب، فلو وضعت شيئًا يصلح به الناس كلامهم، ويعربون به كتاب الله تعالى فأبى ذلك أبو الأسود، وكره إجابة زياد إلى ما سأل هيبة للقرآن وإجلالًا أن يضع فيه ما ليس منه، حتى سمع أبو الأسود رجلًا يقرأ قوله تعالى: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} 1 بكسر اللام من ورسوله فاستعظم أبو الأسود   1 سورة التوبة: الآية 83. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 ذلك وقال: عز وجه الله أن يبرأ من رسوله. ثم رجع إلى زياد وأجابه إلى طلبه ووضع علامات الإعراب1. وكانت علامات الإعراب التي وضعها هي: 1- نقطة فوق الحرف للفتح. 2- نقطة بين يدي الحرف للضم. 3- نقطة تحت الحرف للكسر. 4- نقطتين للحرف المنون. ثم وبعد أن أمن الناس من اللحن أو كادوا بعد وضع علامات الإعراب ظهر نوع آخر من الخطأ وهو التمييز بين الحروف التي تتحد صورتها بدون نقط كالباء والتاء والثاء، وكالجيم والحاء، وكالدال والذال، ونحوها وشق على السواد منهم أن يهتدوا إلى التمييز بين حروف المصحف وكلماته وهي غير معجمة. مما دعا الخليفة عبد الملك بن مروان إلى أن يأمر الحجاج بن يوسف الثقفي واليه في العراق أن يختار من العلماء من يقوم بهذا العمل. واختار الحجاج بن يوسف لهذا العمل عالمين هما: 1- يحيى بن يعمر العدواني ت قبل "90هـ". 2- نصر بن عاصم الليثي "ت90هـ". فقاما بإعجام الحروف بوضع النقاط المعروفة إلى يومنا هذا2، ثم لئلا يقع خلط بين نقط الإعجام ونقط الإعراب قام الخليل بن أحمد   1 المحكم: للداني ص3، 4، والفهرست: لابن النديم ص60، ونزهة الألباء في طبقات الأدباء: لابن الأنباري ص20. 2 لمعرفة أقوال العلماء في علل إعجام الحروف "يعني علة وضع نقطة تحت الباء واثنتين فوق التاء وثلاث للثاء ونقطة للجيم.. إلخ" انظر المحكم: للداني ص35، 41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 "ت 175هـ" بتغيير نقط الإعراب إلى علامات الإعراب المعروفة الآن حتى لا يقع خلط بين نقط الإعراب ونقط الإعجام على النحو التالي: 1- " َ" فوق الحرف للفتح. 2- " ُ" فوق الحرف للضم. 3- "ِ" تحت الحرف للكسر. 4- "ـّ" فوق الحرف للتشديد وهي رأس ش من شديد. 5- "حـ" فوق الحرف للسكون وهي رأس خ من "خفيف". ووضع الخليل أيضًا الهمزة، والتشديد، والروم، والإشمام، وهو أول من صنف في النقط وذكر علله1. وهكذا تتابع العلماء وازدادت عنايتهم في تحسين رسم المصحف حتى إذا كانت نهاية القرن الثالث الهجري بلغ الرسم ذروته وتنافس العلماء في اختيار الخط، وابتكار العلامات المميزة2.   1 المقنع: للداني ص125، والمحكم: له أيضًا ص6 وص9. 2 مباحث في علوم القرآن: د. صبحي الصالح ص94. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 تجزئة المصحف : فقاموا بتجزئة المصحف. ولعل مستند التجزئة هو تيسيره للتلاوة والحفظ ويرجع هذا إلى هذا حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: "قلت: يا رسول الله في كم أقرأ القرآن؟ قال: اختمه في شهر. قلت: إني أطيق أفضل من ذلك قال: اختمه في عشرين. قلت: إني أطيق أفضل من ذلك. قال: اختمه خمسة عشر قلت: إني أطيق أفضل من ذلك. قال: اختمه في عشر. قلت: إني أطيق أفضل من ذلك. قال: اختمه في خمس. قلت: إني أطيق أفضل من ذلك. قال: فما رخص لي" رواه الترمذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 وقال: حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه1 فقاموا بتجزئة القرآن إلى ثلاثين جزءًا وقسموا الجزء إلى حزبين والحزب إلى أربعة أرباع والربع إلى عشرين. وقاموا بوضع علامات مختلفة كالخاء فوق كل آية خامسة أو مضاعفاتها. والعين فوق كل آية عاشرة أو مضاعفاتها. ووضعوا رقمًا لكل آية أو علامة على نهايتها. ووضعوا ديباجة في أول كل سورة يذكرون فيها اسم السورة وعدد آياتها ومكية هي أو مدنية. ووضعوا بين الآيات أو فوقها علامات الوقف بأنواعه اللازم والممنوع والجائز بأنواعه "المستوى الطرفين، والجائز مع كون الوصل أولى، والجائز مع كون الوقف أولى" وتعانق الوقف بحيث إذا وقف على أحدهما لم يقف على الآخر. ووضعوا علامات سجدات التلاوة وزاد بعضهم فيذكر القائلين بالسجدة في كل موضع.   1 رواه الترمذي: ج4 ص196. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 حكم هذه الزيادات مدخل ... حكم هذه الزيادات: للعلماء في نقط المصاحف مذهبان: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 1- المنع : ويستدلون على ذلك بأدلة منها: 1- قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا تكتبوا عني شيئًا سوى القرآن ومن كتب عني شيئًا سوى القرآن فليمحه" 1.   1 رواه مسلم: ج4 ص2298. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 2- ما روى عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: "جردوا القرآن، ولا تخلطوه بشيء"1 وما روى عن ابن مسعود رضي الله عنه: "جردوا القرآن"2. 3- ما روى عن الحسن وابن سيرين أنهما كانا يكرهان نقط المصاحف3.   1، 2 المحكم: الداني ص10. 3 المرجع السابق ص12، 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 2- الجواز : ويستدلون على ذلك بأدلة منها: 1- ما روى عن أئمة السلف في جوازه، فقد سئل الحسن عن نقط المصاحف فقال: لا بأس به ما لم تبغوا" وقال ثابت بن معبد: العجم نور الكتاب، وقال الحذاء: "كنت أمسك على ابن سيرين في مصحف منقوط" وسئل ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن شكل القرآن في المصحف فقال: لا بأس به. وقال الليث: لا أرى بأسًا أن ينقط المصحف بالعربية. وقال الإمام مالك: أما هذه المصاحف الصغار فلا أرى بأسًا وأما الأمهات فلا. وقال أبو يوسف: كان ابن أبي ليلى من أنقط الناس لمصحف1 وقال الأوزاعي سمعت يحيى بن أبي كثير يقول: كان القرآن مجردًا في المصاحف فأول ما أحدثوا فيه النقط على الباء والتاء وقالوا: لا بأس به. هو نور له"2.   1المرجع السابق ص12، 13. 2 المرجع السابق ص35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 و الراجح : هو جواز ذلك لأن النقط لا ينافي الأمر بالتجريد، ولأنه -كما قال الحليمي- ليس له صورة فيتوهم لأجلها ما ليس بقرآن قرآنًا، وإنما هي دلالات على هيئة المقروء فلا يضر إثباتها لمن يحتاج إليها"1 وقال النووي رحمه الله تعالى: "قال العلماء: ويستحب نقط المصحف وشكله، فإنه صيانة من اللحن فيه والتصحيف" وقال: "وأما كراهة الشعبي والنخعي النقط فإنما كرهاه في ذلك الزمان خوفًا من التغيير فيه، وقد أمن ذلك اليوم فلا منع، ولا يمتنع من ذلك لكونه محدثًا فإنه من المحدثات الحسنة فلم يمنع منه"2.   1 الإتقان: السيوطي ج2 ص219. 2 التبيان: النووي ص275. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 حكم التجزئة وعلامات الوقف مدخل ... حكم التجزئة وعلامات الوقف: والخلاف في حكمها أقوى من الخلاف في النقط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 فقالت طائفة: بالمنع. والمنع فيه أظهر من المنع في النقط. فقد روى عن النخعي كراهة النقط والعواشر والفواتح وتصغير المصحف وأن يكتب فيه سورة كذا وكذا1 وروى عنه أنه أتى بمصحف مكتوب فيه سورة كذا وكذا آية فقال: امح هذا فإن ابن مسعود كان يكره هذا2 وعن ابن سيرين أنه كان يكره أن يكتب في المصاحف هذه العواشر والفواتح3 وعن أبي العالية أنه كان يكره الجمل في المصحف وفاتحة سورة كذا وخاتفة سورة كذا1 وقال الحليمي: "تكره كتابة الأعشار والأخماس وأسماء السور وعدد الآيات فيه لقوله: "جردوا القرآن"4. وقال البيهقي: من آداب القرآن أن يفخم فيكتب مفرَّجًا بأحسن خط فلا يصغر ولا تقرمط حروفه، ولا يخلط به ما ليس منه كعدد الآيات والسجدات والعشرات، والوقوف، واختلاف القراعات، ومعاني الآيات"4.   1، 2 المصاحف: ابن أبي داود ص153، 154. 3 المرجع السابق ص157. 4 الإتقان: السيوطي ج2 ص219. 5 الإتقان: السيوطي ج2 ص219. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 وقالت طائفة بالجواز : معللين ذلك بأمن اللبس، وتحقق الفائدة، وأن الخلط بين النص القرآني وهذه المصطلحات بعيد كل البعد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 و الراجح : أن الحق وسط بين الإفراد والتفريط، وقد جاء في التقرير العلمي عن مصحف المدينة النبوية أن اللجنة المشكلة لذلك درست المعلومات التي جرت العادة بإضافتها إلى المصحف دراسة دقيقة وافية، نوقشت فيها سائر الآراء والاتجاهات فتوصلت إلى أنها تنقسم إلى قسمين: قسم: يضاف عادة في أثناء النص القرآني وفي نطاقه وهو: أسماء السور، وعدد آياتها، والمكي والمدني، وما يستثنى من الآيات من ذلك. وبعضهم يزيد وقت نزول السورة، كل ذلك في فواتح السور، ورموز الوقوف وذلك في النص. وقسم: يضاف في حواشي الصفحات إما في أعلى الصفحة كاسم السورة ورقم الجزء، أو في جانب الصفحة كرموز الأجزاء والأحزاب والأرباع والأعشار والأخماس، ورموز السجدات، والسكتات، وبعضهم يذكر خلاف الفقهاء في بعض السجدات. أما "القسم الأول": فلم نتردد في حذفه واستبعاده من المصحف ما عدا أسماء السور لأنه يذكر في موضع خطر هو محل تحذير السلف وهو نطاق النص القرآني، ولأن هذه المعلومات محل ذكرها كتب التفسير وعلوم القرآن ... ولا يتحمل هذا النص القطعي المتواتر أن نثبت خلاله ما يحتمل الخطأ والصواب" إلى أن قالوا: "وهذا ينطبق على أسماء السور أيضًا إلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 أننا لم نتجاسر على حذفها لشدة الحاجة إليها، ولأنه لا خلاف فيها، فأبقينا عليها مع أن النفس تميل إلى حذفها جريًا على قاعدة "التجريد". أما رموز الوقف وهي ألصق بالنص مما سبق فإن الكلام فيها كالكلام في النقط والشكل. "أما القسم الثاني" وهو المعلومات التي تذكر خارج نطاق النص القرآني في حواشي الصفحات من أعلى أو من جانبها، فإن المحذور فيها أهون، والخوف منها أقل، لبعدها عن مجال النص فأثبتنا أكثرها مع تصرف في الإخراج الطباعي يجعل التمييز بينها وبين النص واضحا -قدر الإمكان- إلا ما يشار إليه عادة من خلاف الفقهاء في بعض السجدات فلم نتردد في حذفه لما فيه من التمادي في إثقال صفحات المصحف بما هو أجنبي عنه، ولما فيه من جرأة على كتاب الله بحشر خلاف البشر في صفحاته وإن كان هذا الخلاف معتبرًا لكن مع ذلك لا ينبغي ذكره في المصحف"1.   1 التقرير العلمي عن مصحف المدينة النبوية 35، 40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 مرحلة طباعة المصحف مدخل ... مرحلة طباعة المصحف: ظهرت آلات الطباعة وبدأ استعمالها سنة "835هـ - 1431م" في البلاد الأوروبية ولا شك أن للطباعة أثرها الكبير في انتشار المطبوعات. وكانت الطباعة في بدايتها تقوم على تنضيد الحروف وليس على تصوير المكتوب، لذا فقد كانت الطباعة في تلك الفترة على الرسم الإملائي لتعذر الالتزام بالرسم العثماني. وظهرت أول طبعة للقرآن الكريم في البندقية في إيطاليا في حدود سنة "937هـ - 1530 م" ولكن السلطات الكنسية أصدرت أمرًا بإعدامه حال ظهوره1.   1 مباحث في علوم القرآن: د. صبحي الصالح ص99. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 ثم قام هنلكمان Hinkelmann بطبع القرآن في مدينة هامبورج في ألمانيا سنة "1106هـ-1694م"1 ثم تلاه مراكي Marracci بطبعة في مدينة بادو في إيطاليا سنة "1110هـ - 1698" وليس لهذه الطبعات الثلاث أثر يذكر في العالم الإسلامي2. وظهر فيها أخطاء فاحشة3. أما في العالم الإسلامي فقد ظهرت أول طبعة إسلامية للقرآن في سانت بطرسبرج في روسيا سنة "1201هـ - 1787م" وهي التي قام بها مولاي عثمان. ثم ظهرت في إيران طبعتان حجريتان الأولى في طهران سنة "1244هـ - 1828م" والثانية في تبريز سنة "1249هـ - 1833م". وأصدرت المستشرق فلوجل طبعة خاصة سنة "1250هـ - 1834م" في مدينة ليبزيغ في ألمانيا وتلقاها الأوربيون بحماس منقطع النظير بسبب إملائها الحديث الميسر2. وظهرت طبعة جديدة للقرآن في قازان عاصمة التتار سنة "1295هـ - 1877م" وفي آخرها تصويب للأخطاء المطبعية، ومع طبعها بطريقة صف الحروف إلا أن فيها التزامًا في بعض المواضع لرسم المصحف4. وظهرت طبعات للقرآن الكريم في الهند أيضًا، ثم طبع في الآستانة عاصمة الخلافة العثمانية في تركيا سنة "1295هـ - 1877م" فطبع على أصل مصحف مخطوط بقلم الخطاط التركي المشهور حافظ عثمان5 "ت 1110هـ" وإذا علمنا أن هذه الطبعة من أفضل الطبعات وأدقها، ومع هذا فلم   1 توجد من هذا المصحف نسخة في دار الكتب المصرية تحت رقم "176 مصاحف" ومنه نسخة في مكتبة جامعة القاهرة. 2 مباحث في علوم القرآن: د. صبحي الصالح ص99. 3 رسم المصحف: د. غانم قدوري ص602. 4 توجد منه نسخة في مكتبة جامعة القاهرة برقم "21542". 5 في مكتبة جامعة القاهرة برقم "4405" نموذج من هذا المصحف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 تكن ملتزمة للرسم العثماني التزامًا دقيقًا حتى غلا بعض النقاد فقال: "لا يجوز إطلاق كلام الله على مصحف حافظ عثمان وإنما يجوز إطلاق بعض كلام الله"1 وقال أيضًا: "إن مصحف حافظ عثمان مشتمل على نقص وزيادة"2! وقال في موضع آخر: "فيجب على كل مسلم أن يتخذ لنفسه مصحفًا من المصاحف التي رسمت على رسم مصاحف أهل السنة والجماعة إن كان يحسن القراءة، وإن كان تحت يده مصحف أو مصاحف برسم حافظ عثمان ونحوه بادر إلى حرقه"3. إذا كان هذا النقد الحاد وغير المعتدل لما كتبه حافظ عثمان مع اختلافه عن رسم المصحف في بعض المواضع فكيف سيكون الموقف من الطبعات التي كتبت بطريقة صف الحروف وفيها اختلاف كثير. ولذا فقد كتب الشيخ رضوان بن محمد الشهير بالمخللاتي مصحفًا اعتنى فيه بكتابة الكلمات القرآنية على قواعد الرسم القرآني وأضاف إليها بعض الإفادات المتعلقة بالعد والوقف وتحرير الرسم والضبط وتاريخ كتابة القرآن وغير ذلك وطبع هذا المصحف في المطبعة البهية في القاهرة سنة "1308هـ - 1890م". قال الشيخ عبد الفتاح القاضي: "وكان هذا المصحف هو المتداول بين أهل العلم والقراء.. المعول عليه عندهم المقدم دون سائر المصاحف لما اشتمل عليه من المزايا السابقة بيد أنه لم يبرز في صورة حسنة تروق الناظر وتنشط القارئ لرداءة ورقه، وسوء طبعه إذ إنه طبع في مطبعة حجرية"4. ثم أصدر الملك فؤاد الأول أمره إلى مشيخة الأزهر بتشكيل لجنة من   1، 2 الفرائد الحسان في بيان رسم القرآن: محمد بن يوسف التونسي الشهير بالكافي ص47. 3 المرجع السابق ص57. 4 تاريخ المصحف الشريف: عبد الفتاح القاضي ص59، 60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 العلماء للإشراف على طبع مصحف، وقد تم تشكيل لجنة1 قامت بكتابة القرآن كله حسب قواعد الرسم العثماني، وضبطوه الضبط التام على ما ذهب إليه المحققون من العلماء وأضافوا إليه عدد الآي في كل سورة وأنها مكية أو مدنية وأنها نزلت بعد سورة كذا، ورقموا الآيات، وعلامات الوقوف، والأجزاء والأحزاب والأرباع، والسجدات، وقد كتب هذا المصحف بخط أحد أعضاء اللجنة وهو الشيخ محمد بن علي بن خلف الحسيني الحداد "ت 1357هـ" شيخ المقارئ المصرية حينئذاك وانتهت اللجنة من أعمالها عام "1337هـ" فأمر الملك فؤاد بطبعه فطبع سنة "1342هـ - 1923م" ويعرف هذا المصحف بـ"المصحف الملكي" ثم أعيد طبعه بعد ذلك عدة مرات وفاقت هذه الطبعة كافة الطبعات في الشهرة والقبول مع أنها لا تخلو من ملحوظات2. وفي عام 1368هـ صدر مصحف سمي بمصحف مكة المكرمة وكتبه الخطاط المشهور محمد طاهر بن عبد القادر كردي وراجعه عدد من علماء مكة المكرمة حينذاك. ثم توالت الطبعات التجارية في مختلف بلدان العالم الإسلامي وغير التجارية وأصبح عرضة لإهمال الطابعين وتساهل الناشرين عن العناية بتصحيحه ومراجعته توفيرًا لتكاليف طبعه.   1 تشكلت اللجنة من: حفني ناصف، ومصطفى عناني، وأحمد الإسكندري ورئيسها الشيخ محمد بن علي بن خلف الحسيني المشهور بالحداد. 2 أمرت مشيخة الأزهر بتشكيل لجنة لمراجعة هذه الطبعة فكتبت ملحوظاتها وقد أورد هذه الملحوظات أحد أعضاء هذه اللجنة وهو الشيخ عبد الفتاح القاضي في كتابه "تاريخ المصحف الشريف ص62، 65". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 إنشاء مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف : ولهذا احتاج الأمر أن يهب الغيورون لحماية المصحف والإنفاق على طبعة الطبعات السليمة فتصدت لهذا الأمر حكومة المملكة العربية السعودية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 وفقها الله بإنشاء "مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف" بالمدينة النبوية وزود بأحدث وأرقى أنظمة الطباعة وإمكاناتها لإصدار طبعة سليمة ممتازة للمصحف توفر له العناية العلمية اللازمة بتصحيحه ومراجعته، بإشراف عدد من العلماء البارزين المتخصصيين ونشر هذا المصحف على أوسع نطاق، وبهذا يتحقق سد حاجة المسلمين لهذا النوع من الطباعة، والحد من تلاعب ضعاف النفوس من الناشرين والطابعين بكتاب الله. وفي 20/ 4/ 1404هـ تم تشكيل لجنة لاختيار مصحف تجري طباعته وتكونت اللجنة من خمسة عشر عضوًا وروعي في تشكيلها أن تتضمن علماء مختصين في سائر العلوم المتصلة بالمصحف. وتم اختيار المصحف الذي كتبه الخطاط الدمشقي عثمان طه وذلك لجودة خطه ووضوحه وسلاسته ولقلة الأخطاء فيه وقامت اللجنة بمراجعته وفحصه فحصًا دقيقًا آية آية، وكلمة كلمة، وحرفًا حرفًا، وحركة حركة مع الفحص الدقيق للاصطلاحات والرموز وتم ختم القرآن في أثناء المراجعة أكثر من مائتي مرة. وقامت اللجنة بإجراء تعديلاتها وتصحيحاتها حتى جاءت طبعتها أفضل طبعة صدرت للمصحف حتى الآن وألزمها لرسم المصحف، وأقلها خطأ بتوفيق الله عز وجل. واعتمدت لهذا المصحف اسم "مصحف المدينة النبوية". وقامت حكومة المملكة العربية السعودية بطبع ملايين النسخ1 من هذا المصحف بأحجام مختلفة وتوزيعه في سائر أنحاء العالم الإسلامي هدية منها إلى الشعوب الإسلامية في كل مكان، كما تفضلت بسنة حميدة وهي إهداء نسخة من هذا المصحف لكل حاج في جميع منافذ هذه البلاد، ولسلامة هذه البلاد من أخطاء الطبعات الأخرى منعت الحكومة السعودية   1 بلغ مجموع ما تم توزيعه من مصحف المدينة النبوية منذ بدأ التوزيع سنة 1405هـ حتى شهر رجب 1423هـ بلغ نحو مائة وثمانية وخمسين مليون نسخة "158.000.000". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 دخول أي طبعة للقرآن الكريم غير طبعة "مصحف المدينة النبوية"1. وفقها الله إلى كل خير.   1 رجعت فيما ذكرت من معلومات عن "مصحف المدينة النبوية" إلى طبعة المصحف نفسه وإلى التقرير العلمي عن مصحف المدينة النبوية الذي أصدرته لجنة المراجع سنة 1406. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 المحكم والمتشابه مدخل ... المحكم والمتشابه: تختلف قوى البشر ومداركهم العقلية كما تختلف قواهم ومداركهم الجسمية. فهناك من الأعمال ما يستطيع أن يفعله كل البشر، ومنها ما لا يستطيع فعله إلا الأقوياء منهم، ومنهم ما لا يستطيع أحد من البشر فعله. وكذا في المدارك العقلية هناك من المعاني ما يفهمه كل البشر، ومنها ما لا يفهمه إلا العلماء، ومنها ما لا يدرك المراد به أحد من البشر ولا يعلمه إلا الله. ومن معاني القرآن الكريم ما هو ظاهر الدلالة، واضح المعنى، ومنه ما خفيت دلالته، وغمض معناه. وتدبر العلماء في معاني الآيات القرآنية ودرسوا هذين النوعين في باب المحكم والمتشابه. وينقسم المحكم والمتشابه إلى قسمين: الأول: الإحكام والتشابه العام . الثاني: الإحكام والتشابه الخاص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 الإحكام والتشابه العام الإحكام العام مدخل ... أولا: الإحكام والتشابه العام: أ- الإحكام العام: دليله: وردت آيات كثيرة تصف القرآن الكريم كله بأنه محكم منها قوله تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} 1 وقوله تعالى: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} 2 {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا} 3 {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} 4 {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الحكيم} 5. {الم، تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيم} 6 {يّس، وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} وغير ذلك.   1 سورة هود: الآية الأولى. 2 سورة يونس: الآية الأولى. 3 سورة الرعد: الآية 37. 4 سورة الإسراء: الآية 39. 5 سورة آل عمران: الآية 58. 6 سورة لقمان: الآية 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 معناه : الإحكام بكسر الهمزة له معانٍ متعددة ترجع كلها إلى معنى واحد. هو "المنع" عن الفساد ولا يعتبر المنع عن الإصلاح إحكامًا بل هو خاص بالمنع عن الفساد ومنه: قولهم: أحكم الأمر؛ أي أتقنه ومنعه من الفساد. وقولهم: أحكمه عن الأمر؛ أي منعه منه. وقولهم: حكم نفسه وحكم الناس؛ أي منع نفسه ومنع الناس عما لا ينبغي. وقولهم: أحكم الفرس أي جعل له "حكمة" وهي ما أحط بالحنط من لجام الفرس "تمنعه" من الاضطراب1. وقول جرير2: أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم ... إني أخاف عليكم أن أغضبا ومنه سميت "الحكمة" وهي إصابة الحق لمنعها صاحبها من الوقوع في الباطل، ولذا سمي الحكيم حكيمًا لمعرفته الحكمة. وعلى هذا فالقرآن الكريم كله محكم؛ أي متقن يمتنع عنه الخلل والنقص في ألفاظه ومعانيه، ولهدايته إلى الحق والطريق المستقيم: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيرا} 3 {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تنزيل من حكيم حميد} 4.   1 انظر مناهل العرفان: الزرقاني ج2 ص289. 2 ديوان جرير: ص47. 3 سورة النساء: الآية 82. 4 سورة فصلت: الآية 42. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 ب- التشابه العام : دليله: قوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِها} 1. معناه: التشابه في الأصل هو التماثل بين شيئين فأكثر حتى يشق التمييز بينهما، ثم أطلق بعد ذلك على كل ما فيه غموض والتباس في تحديد معناه أو حقيقته. ومن الأول: قولك فلان يشبه فلانًا؛ أي يماثله ويقاربه، سواء كان في الصفات الحسية كالجسم أو الوجه، أو في الصفات المعنوية كالأخلاق والآداب. ومن الثاني: قولهم "شبه عليه الأمر" إذا التبس، وقولهم "فلان مشبوه" إذا التبست براءته من الجريمة باقترافه لها. "وذلك أن التشابه والتماثل قد يكون سببًا للعجز عن التمييز بين الأشياء متشابهًا من باب إطلاق السبب على المسبب"2. ومنه في القرآن الكريم قوله تعالى: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِها} 3 أي يشبه بعضه بعضًا، وقوله عن بني إسرائيل: {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} 4 أي اختلط أمره علينا والتبس المقصود منه، وقوله سبحانه: {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُم} 5 أي تماثلت في الغي والجهالة.   1 سورة الزمر: الآية 23. 2 المحكم والمتشابه: د. عبد الرحمن المطرودي ص13. 3 سورة البقرة: الآية 25. 4 سورة البقرة: الآية 70. 5 سورة البقرة: الآية 118. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: "إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه" الحديث1 أي أمور تشتبه على كثير من الناس هل هي من الحلال أم من الحرام2. وعلى هذا فقوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِها} 3 أي يشبه بعضه بعضًا في الفصاحة والإعجاز وعدم تناقضه، وإبداع ألفاظه، واستخراج حكمه"4 وهذا هو التشابه العام بين آيات القرآن.   1 متفق عليه. 2 جامع العلوم والحكم: ابن رجب ص58. 3 سورة الزمر: الآية 23. 4 عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ: السمين الحلبي ج2 ص1297. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 ثانيًا: الإحكام والتشابه الخاص : وإذا كان القرآن الكريم كله محكمًا بمعنى: أنه متقن لا يتطرق إليه الخلل والنقص، وهو كله متشابه بمعنى: أن آياته يشبه بعضها بعضًا في الإعجاز والفصاحة، فإنه قد وردت آية قرآنية تصف القرآن بأن بعضه محكم وبعضه متشابه، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَات} 1، فلا بد أن يكون للإحكام والتشابه هنا معنى غير المعنى الأول، وهو خاص ببعض الآيات دون بعض، ولهذا وقع الاختلاف بين العلماء في تعريف المحكم والمتشابه هنا.   1 سورة آل عمران: الآية 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 أقوال العلماء في المحكم والمتشابه : للعلماء في تعريف المحكم الخاص والمتشابه الخاص أقوال كثيرة منها: الأول: المحكم ما عرف المراد منه، والمتشابه ما استأثر الله بعلمه كقيام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 الساعة، وخروج الدجال، والحروف المقطعة في أوائل السور، وينسب هذا القول إلى أهل السنة. الثاني: المحكم ما لا يحتمل إلا وجهًا واحدًا، والمتشابه ما احتمل أكثر من وجه وهو قول الأصوليين، ويروى عن ابن عباس رضي الله عنهما. الثالث: المحكم الذي يعمل به، والمتشابه الذي يؤمن به، ولا يعمل به، وروي هذا القول عن ابن عباس -رضي الله عنهما- وعكرمة وقتادة1. الرابع: المحكم هو ما استقل بنفسه ولم يحتج إلى بيان، والمتشابه ما لا يستقل بنفسه ويحتاج إلى بيان، وهو قول الإمام أحمد. الخامس: المحكم ما اتضح دليله، والمتشابه ما يحتاج إلى تدبر، كقوله تعالى: {وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُون} 2 فأولها محكم، وآخرها متشابه، وهو قول الأصم3. السادس: المحكم ما تضمن حكمًا، والمتشابه ما تضمن أخبارًا وقصصًا. السابع: المحكم هو الناسخ، والتشابه هو المنسوخ، وقيل: المحكم ناسخه، وحلاله، وحرامه، وحدوده، وفرائضه، والمتشابه: منسوخه ومقدمه، ومؤخره، وأمثاله، وأقسامه، وهو قول ابن عباس ومجاهد4 وقتادة. والثامن: المحكم ما كانت دلالته راجحة كالنص، والظاهر، والمتشابه ما كانت دلالته غير راجحة؛ أي أن دلالة اللفظ عليه وعلى غيره متساوية كالمجمل والمئول والمشكل5.   1 الإتقان: السيوطي ج2 ص4. 2 سورة الزخرف: الآية 11. 3 تفسير الرازي ج7 ص170، 171. 4 الإتقان: السيوطي ج2 ص4. 5 تفسير الرازي: ج7 ص170، 171. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 أقسام المتشابه مدخل ... أقسام المتشابه: والتشابه في بعض آيات القرآن الكريم ثلاثة أنواع: الأول: التشابه من جهة اللفظ . الثاني: التشابه من جهة المعنى. الثالث: التشابه من جهة اللفظ والمعنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 التشابه من جهة اللفظ مدخل ... الأول: التشابه من جهة اللفظ: وهو ما كان خفاء معناه ناشئًا من جهة اللفظ وهو نوعان: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 تشابه اللفظ يرجع إلى المفردات ... أ- تشابه لفظي يرجع إلى المفردات: إما لغرابتها وقلة استعمالها مثل: {وَفَاكِهَةً وَأَبّا} 1 وكقوله: {فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّون} 2 {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيم} 3 {وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِين} 4 كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: "لا أدري ما الأواه وما الغسلين"5. وإما لجهة الاشتراك اللفظي كالقراء في قوله: {ثَلاثَةَ قُرُوء} 6؛ حيث يطلق على الحيض والطهر، ومثل عسعس في قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَس} 7 فإنه يطلق على إقبال الليل وإدباره.   1 سورة عبس: الآية 31. 2 سورة الصافات: الآية 94. 3 سورة التوبة: الآية 114. 4 سورة الحاقة: الآية 36. 5 التحرير والتنوير: ابن عاشور ج3 ص159. 6 سورة البقرة: الآية 228. 7 سورة التكوير: الآية 17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 ب- تشابه لفظي يرجع إلى التركيب للألفاظ وهي الجمل : وهو ثلاثة أقسام: أحدها: لاختصار الكلام كقوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} 1 والمعنى ألا تقسطوا في اليتامى إذا تزوجتموهن. ثانيها: بسط الكلام. كقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء} 2 ففي ذكر الكاف بسط للكلام، ولو قال ليس شيء لظهر المعنى، فاشتبه المراد بذكرها مع ظهور المعنى بدونها. ثالثها: نظم الكلام كقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا، قَيِّماً} 3 فجاءت جملة: {وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} فاصلة بين الصفة والموصوف وأصل الكلام: أنزل على عبد الكتاب قيما، ولم يجعل له عوجا. وكقوله: {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِر ٌ، يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} 4 ففصل بين المصدر ومعموله وأصل الكلام وإنه على رجعه يوم تبلى السرائر لقادر.   1 سورة النساء: الآية 3. 2 سورة الشورى: الآية 11. 3 سورة الكهف: الآيتين 1، 2. 4 سورة الطارق: الآية 8، 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 الثاني: التشابه من جهة المعنى : ويتعلق هذا النوع بالغيبيات؛ إذ لا يمكن للإنسان أن يتصور ما غاب عن حواسه على حقيقته، فالتخيل والتصور عنده لا يبتعد عن المحسوسات، فلا تدرك1 صفات الله تعالى ولا ما في الجنة من النعيم، ولا ما في النار من عذاب إلا على سبيل التقريب.   1 المفردات: الأصفهاني ص255، عمدة الحفاظ: السمين ج2 ص1299، وانظر المحكم والمتشابه: د. عبد الرحمن المطرودي ص69. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 الثالث: التشابه من جهة اللفظ والمعنى : وهو خمسة أنواع: الأول: من جهة الكمية كالعموم والخصوص نحو: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِين} 1. الثاني: من جهة الكيفية كالوجوب والندب، كقوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} 2. الثالث: من جهة الزمان؛ كالناسخ والمنسوخ؛ نحو قوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِه} 3. الرابع: من جهة المكان؛ كقوله تعالى: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} الآية4 وكقوله: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْر} 5 فإن من لا يعرف عادة أهل الجاهلية في ذلك يتعذر عليه تفسير هذه الآية. الخامس: من جهة الشروط التي يصح بها الفعل أو يفسد كشروط الصلاة والنكاح6. قال الراغب الأصفهاني: بعد ذكره لهذه الأقسام "وهذه الجملة إذا تصورت، علم أن كل ما ذكره المفسرون في تفسير المتشابه لا يخرج عن هذه التقاسيم"7.   1 سورة التوبة: الآية 5. 2 سورة النساء: الآية 3. 3 سورة آل عمران: الآية 102. 4 سورة البقرة: الآية 189. 5 سورة التوبة: الآية 37. 6 انظر المفردات: الأصفهاني ص254، 255، وعمدة الحفاظ: السمين ج2 ص1298، 1300، والمحكم والمتشابه: المطرودي 65، 70. 7 المفردات: الأصفهاني ص255. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 معرفة المتشابه 1: اختلف العلماء في المتشابه؛ هل يمكن معرفته أم لا؟ والحقيقة أنه   1 المرجع السابق: نفس الموضع. والموافقات: الشاطبي ج3 ص91، 93. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 ينقسم من حيث إمكانية معرفته وعدمها إلى ثلاثة أنواع هي: الأول: المتشابه الحقيقي: وهذا النوع لا يعلمه أحد من البشر، ولا سبيل للوقوع عليه؛ كوقت قيام الساعة، وحقيقة الروح وغير ذلك من الغيبيات التي اختص الله بعلمها. الثاني: المتشابه الإضافي: وهو ما اشتبه معناه لاحتياجه إلى مراعاة دليل آخر، فإذا تقصى المجتهد أدلة الشريعة وجد فيها ما يبين معناه؛ كالألفاظ الغريبة، والأحكام الغَلِقَة، والتي تحتاج إلى استنباط وتدبر، وبعض مسائل الإعجاز العلمي1. الثالث: المتشابه الخفي: وهو ضرب متردد بين الأمرين، يختص بمعرفته بعض الراسخين في العلم ويخفى على من دونهم، وهو الضرب المشار إليه في دعوة الرسول -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس رضي الله عنهما: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل".   1 انظر التحرير والتنوير ج3 ص157 و 159 لبيان وجه كون الإعجاز العلمي من المتشابه عند قوم ومحكم عند من بعدهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 سبب الاختلاف في معرفة المتشابه مدخل ... سبب الاختلاف في معرفة المتشابه: ويرجع بعض الباحثين السبب في الاختلاف في معرفة المتشابه إلى الاختلاف في الوقف في قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} 1 وهذا ليس بصحيح؛ إذ إن الوقف أو الوصل مبني على الاختلاف في معنى التأويل. فسبب الاختلاف إذًا في معرفة المتشابه هو الاختلاف في المراد بالتأويل في قوله سبحانه: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّه} ، وفيه ثلاثة أقوال:   1 سورة آل عمران: الآية 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 القول الأول أن التأويل بمعنى التفسير ... الأول: أن التأويل بمعنى التفسير: وعلى هذا فالتأويل يعلمه الراسخون في العلم. ومنه دعوة الرسول -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس رضي الله عنهما: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل" 1 وقول ابن عباس رضي الله عنهما: "أنا ممن يعلم تأويله"2 وقول مجاهد: "الراسخون في العلم يعلمون تأويله"3 وقول ابن جرير الطبري: "واختلف أهل التأويل في هذه الآية" وقوله: "القول في تأويل قوله تعالى ... " وهو أيضًا المعنى الذي قصده ابن قتيبة وأمثاله ممن يقول: إن الراسخون في العلم يعلمون التأويل ومرادهم به التفسير4. وهو قول متقدمي المفسرين وابن عباس -رضي الله عنهما- ومجاهد، ومحمد بن جعفر بن الزبير، وابن إسحاق، وابن قتيبة، والربيع بن أنس، والضحاك، والنووي، وابن الحاجب5. وعليه فإن الوقف يكون على قوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْم} وتبعهم كثير من المفسرين وأهل الأصول، وقالوا: الخطاب بما لا يفهم بعيد6.   1 رواه الإمام أحمد في مسنده ج1 ص266، والطبراني في المعجم الكبير 10614 و 12506. 2 أخرجه الطبري في تفسيره ج6 ص203 رقم 6632. 3 تفسير مجاهد ج1 ص122. 4 درء تعارض العقل والنقل: ابن تيمية ج5 ص381، 382. 5 انظر درء تعارض العقل والنقل: ابن تيمية ج1 ص205، والقطع والاستئناف: النحاس، ص215، والإتقان: السيوطي ج2 ص4. 6 تفسير ابن كثير ج2 ص11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 القول الثاني أن التأويل هو الحقيقة التي يؤول إليها الخطاب ... القول الثاني: أن التأويل هو الحقيقة التي يئول إليها الخطاب: وهي نفس الحقائق التي أخبر الله عنها. فتأويل ما أخبر به عن اليوم الآخر هو نفس ما يكون في اليوم الآخر، وتأويل ما أخبر به عن نفسه هو نفسه المقدسة الموصوفة بصفاته العلية. وهذا التأويل هو الذي لا يعلمه إلا الله، ولهذا كان السلف يقولون: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول" فيثبتون العلم بالاستواء، وهو التأويل الذي بمعنى التفسير، وهو معرفة المراد بالكلام حتى يتدبر، ويعقل، ويفقه، ويقولون: الكيف مجهول، وهو التأويل الذي انفرد الله بعلمه، وهو الحقيقة التي لا يعلمها إلا هو"1. وعليه فإن الوقف يكون على لفظ الجلالة في قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِه} ، والواو للاستئناف، والراسخون مبتدأ، ويقولون خبره. وقال بهذا القول نيف وعشرون رجلًا من الصحابة والتابعين والقراء والفقهاء وأهل اللغة، فمن الصحابة: عائشة وابن عباس وابن مسعود، وابن عمر، وأبي بن كعب، وجابر بن عبد الله، رضي الله عنهم فقد روي عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: "بلغ رسوخهم في العلم إلى أن قالوا: آمنا به" وفي رواية "ولم يعلموا تأويله" وما أخرجه الشيخان وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها قالت: "تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَاب} إلى قوله: {أُولُو الْأَلْبَاب} ، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم". وكان ابن عباس -رضي الله عنهما- يقرأ: "وما يعلم تأويله إلا الله ويقول الراسخون في العلم آمنا به". وهي قراءة على التفسير وقراءة ابن مسعود رضي الله عنه "وإن تأويله إلا عند الله، والراسخون في العلم يقولون آمنا به" أخرجه ابن أبي داود في المصاحف. وقال به من التابعين ثلاثة: الحسن وابن نهيك والضحاك، وقال به من الفقهاء مالك بن أنس، ومن القراء ثلاثة: نافع ويعقوب والكسائي، ومن النحويين: الأخفش وسعيد، والفراء وسهيل بن محمد، ويروى عن عمر بن   1 درء تعارض العقل والنقل: ابن تيمية ج5 ص382. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 عبد العزيز وعروة بن الزبير وأبي عبيد، وابن جرير، وأبو إسحاق، وابن كيسان، والسدي1. ويدل على ذلك؛ أن الآية دلت على ذم متبعي المتشابه، ووصفهم بالزيغ وابتغاء الفتنة، وعلى مدح الذين فوضوا العلم إلى الله وسلموا إليه، كما مدح الله المؤمنين بالغيب"2. وقال ابن تيمية عن هذا المعنى: إنه هو معنى التأويل في القرآن والمراد به في مثل قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَق} 3 وقوله سبحانه: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} 4 وقال يوسف: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ} 5، 6 وقال عن هذا المعنى: إنه لغة القرآن التي نزل بها.. فتأويل الأحاديث التي هي رؤيا المنام هي نفس مدلولها التي تئول إليه كما قال يوسف: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ} 7.. وقال الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} 8 قالوا: أحسن عاقبة ومصيرًا، فالتأويل هنا تأويل فعلهم، الذي هو الرد إلى الكتاب والسنة، والتأويل في سورة يوسف تأويل أحاديث الرؤيا، والتأويل في الأعراف9   1 القطع والاستئناف: النحاس ص212، 213، ودرء تناقض العقل والنقل: ابن تيمية ج1 ص205، والإتقان السيوطي ج2 ص4، وانظر تفسير ابن جرير الطبري، ج6 ص202، 204، وفتح القدير: الشوكاني ج1 ص315. 2 الإتقان: السيوطي ج2 ص4. 3 سورة الأعراف: الآية 53. 4 سورة النساء: الآية 59. 5 سورة يوسف: الآية 100. 6 درء تعارض العقل والنقل ج1 ص206. 7 سورة يوسف: الآية 100. 8 سورة النساء: الآية 59. 9 سورة الأعراف: الآية 53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 ويونس1 تأويل القرآن وكذلك في سورة آل عمران. وقال تعالى في قصة موسى والعالم: {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرا} 2 إلى قوله: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرا} 3 فالتأويل هنا تأويل الأفعال التي فعلها العالم من خرق السفينة بغير إذن صاحبها، ومن قتل الغلام، ومن إقامة الجدار، فهو تأويل عمل لا تأويل قول، وإنما كان كذلك؛ لأن التأويل مصدر أوله يؤوله تأويلا.. وقولهم: آل يئول: أي عاد إلى كذا ورجع إليه، ومنه "المآل" وهو ما يئول إليه الشيء ويشاركه في الاشتقاق الأكبر "الموئل" فإنه من وأل، وهذا من أول، والموئل المرجع، قال تعالى: {لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلا} 4، 5.   1 في قوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} [يونس: 39] . 2 سورة الكهف: الآية 78. 3 سورة الكهف: الآية 82. 4 سورة الكهف: الآية 58. 5 مجموع فتاوي ابن تيمية ج13 ص290، 291 باختصار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 القول الثالث: وهو اصطلاح طوائف من المتأخرين: قالوا: إن التأويل هو صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل يقترن به. ويريدون بذلك صرف الألفاظ القرآنية عن معانيها الحقيقية إلى معان باطلة ليؤيدوا بها مذاهبهم وآراءهم المنحرفة، فهم اعتقدوا رأيًا ثم حملوا نصوص القرآن عليه لتوافق ما ذهبوا إليه. وهؤلاء -كما قال ابن تيمية رحمه الله تعالى- صاروا مراتب ما بين قرامطة وباطنية يتأولون الأخبار والأوامر، وما بين صابئة وفلاسفة يتأولون عامة الأخبار عن الله وعن اليوم الآخر، حتى عن أكثر أحوال الأنبياء، وما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 بين جهمية ومعتزلة يتأولون بعض ما جاء في اليوم الآخر، وفي آيات القدر، ويتأولون آيات الصفات، وقد وافقهم بعض متأخري الأشعرية على ما جاء في بعض الصفات، وبعضهم في بعض ما جاء في اليوم الآخر، وآخرون من أصناف الأمة وإن كان تغلب عليهم السنة، فقد يتأولون أيضًا مواضع يكون تأويلهم من تحريف الكلم عن مواضعه"1. وذكر في موضع آخر أمثلة لهذه التأويلات فقال: "كتأويل من تأول استوى بمعنى استولى ونحوه فهذا عند السلف والأئمة باطل لا حقيقة له، بل هو من باب تحريف الكلم عن مواضعه والإلحاد في أسماء الله وآياته. فلا يقال في مثل هذا التأويل: "لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم" بل يقال فيه: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} 2 كتأويلات الجهمية والقرامطة الباطنية، كتأويل من تأول الصلوات الخمس بمعرفة أسرارهم، والصيام: بكتمان أسرارهم، والحج بزيارة شيوخهم، والإمام المبين بعلي بن أبي طالب، وأئمة الكفر بطلحة والزبير، والشجرة الملعونة في القرآن ببني أمية، واللؤلؤ والمرجان، بالحس والحسين، والتين والزيتون وطور سينين، وهذا البلد الأمين بأبي بكر وعمر وعثمان وعلي، والبقرة بعائشة، وفرعون بالقلب، والنجم والقمر والشمس بالنفس والعقل ونحو ذلك. فهذه التأويلات من باب تحريف الكلم عن مواضعه والإلحاد في آيات الله وهي من باب الكذب على الله وعلى رسوله وكتابه، ومثل هذه لا تجعل حقًّا حتى يقال: إن الله استأثر بعلمها، بل هي باطل، مثل شهادة الزور، وكفر الكفار، يعلم الله أنها باطل، والله يعلم عباده بطلانها بالأسباب التي   1 مجموع الفتاوى: ابن تيمية ج13 ص287. 2 سورة يونس: الآية 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 بها يعرف عباده، من نصب الأدلة وغيرها"1. وهذا التأويل هو الذي يتكلمون عليه في أصول الفقه ومسائل الخلاف، فإذا قال أحدهم هذا الحديث، أو هذا النص مؤول، أو هو محمول على كذا، قال الآخر هذا نوع تأويل، والتأويل يحتاج إلى دليل ... وهو أيضًا التأويل الذي يتنازعون فيه في مسائل الصفات إذا صنف بعضهم في إبطال التأويل، أو ذم التأويل أو قال بعضهم: آيات الصفات لا تؤول، وقال الآخر: بل يجب تأويلها، وقال الثالث: بل التأويل جائز.. إلخ"2. وبهذا يظهر بطلان القول الثالث وانحرافه وأنه ليس من أقوال السلف. وأما القولان الأول والثاني: فإن الأول: هو معنى التأويل عند الصحابة والتابعين. والثاني: هو معنى التأويل في القرآن نفسه. فمن قال: إن الراسخين في العلم يعلمون تأويله فقد أخذ بالقول الأول وهو أن معنى التأويل التفسير. ومن قال: إن الراسخين في العلم لا يعلمون تأويله فقد أخذ بالقول الثاني وهو أن التأويل هو الحقيقة التي يؤول إليها الكلام وهذا لا يعلمه إلا الله. ولا تعارض بين هذين القولين ولا اختلاف فالجميع يسلم بأن الراسخين في العلم يعلمون تأويله بمعنى تفسيره، ومن زعم أنهم لا يعلمون تأويله بمعنى تفسيره نازعه فيه عامة الصحابة والتابعين الذين فسروا القرآن كله وقالوا بأنهم يعلمون معناه3، والراسخون في العلم لا يعلمون تأويله بمعنى الحقيقة التي يؤول إليها الكلام، وبهذا يظهر التوافق والتطابق والتكامل بين القولين.   1 درء تعارض العقل والنقل: ابن تيمية ج5 ص382، 383. 2 مجموع فتاوى ابن تيمية ج13 ص288، باختصار. 3 درء تعارض العقل والنقل: ابن تيمية ج1 ص208. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 الحكمة في ذكر المتشابهات في القرآن الكريم ... الحكمة من ذكر المتشابهات في القرآن الكريم: ولأن المتشابه منه ما يمكن علمه للراسخين في العلم، ومنه ما لا يمكن علمه ولا يعلمه إلا الله. فإن لذكر كل نوع حكم خاصة أذكر بعضها: من حكم ذكر المتشابه الذي يمكن علمه: أولًا: الحث على زيادة التفكر والتدبر في آيات القرآن الكريم، والبحث عن دقائقه ولذا كرر القرآن الأمر بالتدبر كثيرًا ليظهر في الثانية ما خفي في الأولى. ثانيًا: ظهور التفاضل والتفاوت بين العلماء كل حسب طاقته وقدرته وما بذله من جهد في التفكر والتدبر. ثالثًا: زيادة الأجر والثواب، لأن الأجر على قدر المشقة، فمعرفة المتشابه أشق وأصعب، وكلما كان الوصول إلى الحق أشق وأصعب كان الأجر أعظم وأكبر، "وزيادة المشقة توجب زيادة الثواب، {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِين} 1، 2. رابعًا: تحصيل العلوم الكثيرة لأن معرفة المتشابه تحتاج إلى آلات ووسائل ليمكن بها معرفتها كعلم اللغة والنحو، وأصول الفقه3، وغير ذلك من العلوم والمعارف. خامسًا: حمل الناس على تلقي العلم جثيًا على الركب من الراسخين في العلم واضطرارهم لذلك فإنهم إذا حضروا مجالسهم حصلوا علومًا أخرى، وآدابًا أكمل، وعرفوا شأن العلماء، وعلو مقامهم، ووالوهم وزادت   1 سورة آل عمران: الآية 142. 2 تفسير الرازي: ج7 ص172. 3 تفسير الرازي: ج7 ص172. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 محبتهم. سادسًا: بيان فضل العلماء الراسخين في العلم وعلو مقامهم ومكانتهم واختلاف مراتبهم. سابعًا: تعظيم شأن القرآن وبيان علو معانيه وسموها، واحتياج الناس لمعرفتها إلى التزود بالعلوم والمعارف حتى يرتقوا إلى مداركها. ويحظوا بمعانيها. ثامنًا: زيادة التعلق بمعاني القرآن فإن الإنسان إذا حصل الشيء بمشقة كان تمسكه به، ومحافظته عليه، واهتمامه به أكبر. تاسعًا: بيان رحمة الله وفضله بالأمة إذا لو كان القرآن كله من هذا النوع لكان في تحصيله مشقة عظيمة على الأمة، فاقتضت رحمة الله أن يجعل من القرآن ما هو محكم يدرك الناس معناه وهو أكثر القرآن1 وما يحتاجون إليه في أمور دينهم ضرورة؛ ومنه آخر متشابهات لا يدركها إلا الراسخون في العلم وتذكر الناس بنعمة الآيات المحكمات. وقريب من هذا المعنى حكمة نسخ الحكم وبقاء التلاوة إذ إن فيه تذكير بالنعمة في رفع المشقة.   1 قال الشاطبي رحمه الله تعالى: "قوله في المحكمات {هُنَّ أُمُّ الْكِتَاب} يدل على أنها المعظم والجمهور، وأم الشيء معظمه وعامته، كما قالوا: أم الطريق بمعنى معظمه" الموافقات ج3 ص86. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 من حكم ذكر المتشابه الذي لا يمكن علمه : أولًا: رحمة الله بالإنسان الذي لا يطيق معرفة كل شيء، ولو كشف الله الحجب للبشر لعمت الأضرار، وانتفت المصالح، فلو علم الناس حقيقة جهنم وما فيها من ألوان العذاب ورأوه رأي العين لقضى عليهم الخوف، وانقطعت قواهم عن العمل رهبة، ولو علم الناس بموعد قيام الساعة لقعدوا عن الاستعداد لها، ولو علموا بموعد آجالهم لعم الفساد وانقطع باب العمل الصالح عند كثير من الناس حتى موعد وفاتهم، ولو علموا بما سيرزقون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 لاتكلوا وانقطعوا عن العمل. ثانيًا: إقامة الحجة على عجز الإنسان وجهله، وقصوره قواه ومداركه، فمهما بلغ من العلم والمعرفة، ومهما تقدم في الاكتشافات وجال في الفضاء، وهبط على القمر إلا أنه يبقى حائرًا جاهلًا أمام أشياء قريبة منه كل القرب كالروح مثلًا ما هي، وما وقت خروجها، وغير ذلك كثير وليس له إلا أن يقول ما قالته الملائكة: {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيم} 1. ثالثًا: ابتلاء العباد واختبارهم بالوقوف عندما استأثر الله بعلمه، والإيمان بالغيب: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} 2.   1 سورة البقرة: الآية 32. 2 سورة آل عمران: الآية 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 العام والخاص مدخل ... العام والخاص: نزل القرآن الكريم بلسان عربي مبين، وفي اللغة العربية صيغ عامة تشمل جماعة المخاطبين، وفيها ألفاظ خاصة، وأحيانًا يكون اللفظ عامًّا ويراد به الخصوص والعكس كذلك. وفي القرآن الكريم ألفاظ تحت هذا النحو، ففيه صيغ تفيد العموم ويراد بها العموم، وألفاظ تفيد الخصوص ويراد بها الخصوص، وألفاظ تفيد العموم إلا أنه يراد بها الخصوص، وألفاظ تفيد الخصوص إلا أنه يراد بها العموم، والقرائن توضح ذلك وتزيل اللبس، ويبقى بعد ذلك ألفاظ هي موضع خلاف بين العلماء تؤثر في استنباط بعض الأحكام. وهذا يظهر مكانه علم "العام والخاص" وأثره في استنباط الأحكام؛ ولذا نجد بسط مباحثه في كتب أصول الفقه خاصة، ونظرًا لتعلق الاستنباط بآيات القرآن فقد درسه أيضًا أرباب العلوم القرآنية، وأفردوه بمباحث خاصة في بطون مؤلفاتهم، وسأعرض لبعض قضاياه المتعلقة بالقرآن، معرضًا عن المباحث الأصولية الخاصة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 العام : العام لغة : العَمَمُ: عظم الخلق في الناس وغيرهم، والعمم: الجسم التام، ... وأمر عممٌ: تام عام.. وعمهم الأمر يعمهم عمومًا: شملهم، يقال: عمهم بالعطية، والعامة: خلاف الخاصة"1.   لسان العرب: ابن منظور مادة "عمم" ج12 ص426. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 وفي الاصطلاح : هو: اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له بحسب وضع واحد، من غير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 حصر فقولنا: "الرجال" يستغرق جميع ما يصلح له. ولا يدخل فيه النكرة مثل "رجل"؛ لأنه يصلح لكل واحد من الرجال، لكنه لا يستغرقهم. ولا التثنية ولا الجمع، لأن لفظ "رجلان" و"رجال" يصلحان لكل اثنين وثلاثة، ولا يفيدان الاستغراق. وقولنا: بحسب وضع واحد؛ للاحتراز من اللفظ المشترك، أو الذي له حقيقة ومجاز، فإن عمومه لا يقتضي أن يتناول مفهوميه معًا. فإذا قلت: رأيت كل العيون. فإن في لفظ العيون اشتراك حيث تشمل: 1- عيون الماء الجارية. 2- العيون المبصرة.. وغير ذلك. وأنت لا تريد كل هذه المعاني، وإنما تريد أحدها. فلا يقتضي العموم أن يشمل كل معاني اللفظ؛ بل بحسب وضع أو معنى واحد من معانيه المختلفة. وقولنا: "من غير حصر" يخرج أسماء الأعداد فهي تدل على كثرة معينة محدودة، فإن كانت الكثرة كثرة معينة بحيث لا يتناول ما بعدها. فهو اسم العدد، وإن لم تكن الكثرة كثرة معينة فهو العام. وقيل في تعريفه أيضًا: العام هو: اللفظ الدال على شيئين فصاعدًا، من غير حصر. وقد تعقب القرافي هذا التعريف بأجزائه، وبمجموع حده، ونقصه بأمور منها: أولًا: جموع التكسير: وهي على قسمين: 1- جموع للقلة: من الثلاثة إلى العشرة وهي ما جاءت على أوزان: أ- أَفْعُل: أَفْلُس، وأَكْلُب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 ب- أفعال: أحمال. ج- أفعلة: أقفزة، وأجربة. د- فعلة: صبية، غلمة. وهذه ألفاظ تدل على أكثر من شيئين وليست عامة. 2- جمع الكثرة: وهي موضوعة لما فوق العشرة فيصدق عليها التعريف. ثانيًا: ومنها ألفاظ نكرات مفردات وضعت لما فوق الاثنين، مع أنها ليست من العموم إجماعًا، مع صدق الحد عليها؛ نحو كثير، وعدد. ثالثًا: ألفاظ من هذا النمط؛ مثل طائفة، فرقة، رهط، فإنها تتناول الثلاثة فصاعدًا من غير حصر ولا تفيد العموم1. وهناك تعريفات أخرى كثيرة، وأشمل هذه التعريفات وأصحها هو الأول.   1 نقلت هذين التعريفين والتعقيب عليهما بتصرف من المحصول: للفخر الرازي، ج2 ق2 ص513، 516؛ والعقد المنظوم في الخصوص والعموم: شهاب الدين القرافي ج1 ص283، 295. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 صيغ العموم : وللعموم صيغ كثيرة تدل عليه، ذكر منها القرافي مائتين وخمسين صيغة1، ومن هذه الصيغ: 1- كل: وهي أقوى صيغ العموم، وتدل عليه؛ سواء كانت للتأسيس، مثل: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْت} 2، ومثل: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرَامِ} 3، أو للتأكيد مثل: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُون} 4، ومثل: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْء} 5، ومثلها جميع:   1 العقد المنظوم في الخصوص والعموم: القرافي ج1 ص453، 546. 2 سورة آل عمران: الآية 185. 3 سورة الرحمن: الآيتان 26، 27. 4 سورة الحجر: الآية 73. 5 سورة الأنعام: الآية 102. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} 1 وديارًا: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارا} 2. 2- الأسماء الموصولة: مثل: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا} 3 {وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} 4 و {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَس} 5 {وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاس} 6 {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} 7. 3- أسماء الشرط مثل: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} 8 {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّه} 9 {أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} 10. 4- أسماء الاستفهام: كقوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَه} 11 {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِه} 12 ومن تفيد العموم إذا كانت شرطية أو استفهامية، أما إذا كانت موصولة مثل {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} 13 فإنها قد تكون للعموم وقد تكون للخصوص، والقرائن هي التي تفيد العموم أو الخصوص.   1 سورة فاطر: الآية 10. 2 سورة نوح: الآية 26. 3 سورة الأحقاف: الآية 17. 4 سورة النساء: الآية 16. 5 سورة البقرة: الآية 275. 6 سورة البقرة: الآية 164. 7 سورة النساء: الآية 15. 8 سورة النساء: الآية 92. 9 سورة البقرة: الآية 197. 10 سورة الإسراء: الآية 110. 11 سورة البقرة: الآية 245. 12 سورة البقرة: الآية 254. 13 سورة الأنعام: الآية 25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 5- المعرف بأل التي ليست للعهد وإنما للاستغراق؛ سواء كان جمعًا، مثل: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوء} 1، أو مفردًا مثل: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} 2، ومثل: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 3، أو اسم جنس؛ وهو الذي لا واحد له من لفظه مثل الناس، الحيوان، الماء، التراب، فالناس في قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس} 4 تفيد العموم، أو مثنى كقوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْن} 5؛ أي كل أختين لا يجوز الجمع بينهما. وعلامة "أل" المستغرقة للجنس. أن يصح حلول "كل" محلها، وأن يصح الاستثناء من عمومها. 6- كل ما أضيف إلى معرفة؛ سواء كان مفردا، أو مثنى، أو جمعا، أو اسم جنس6 مثل {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِه} 7 {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَة} 8 {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِين} 9 وفي الاستثناء هنا إشارة إلى عموم اللفظ. 7- النكرة في سياق النفي أو النهي أو الشرط. مثالها في سياق النفي: قوله تعالى: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَج} 10 {لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُون} 11 ومثالها في النهي: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَات   1 سورة البقرة: الآية 228. 2 سورة البقرة: الآية 275. 3 سورة المائدة: الآية 38. 4 سورة الناس: الآية الأولى. 5 سورة النساء: الآية 23. 6 انظر إتحاف ذوي البصائر بشرح روضة الناظر: د. عبد الكريم النملة ج6 ص36. 7 سورة النور: الآية 63. 8 سورة التوبة: الآية 103. 9 سورة الحجر: الآية 42. 10 سورة البقرة: الآية 197. 11 سورة الصافات: الآية 47، والغول ما يعتري شارب الخمر من الصداع والألم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 أَبَداً} 1 فإن "أحد" نكرة بعد نهي فتفيد العموم، ومثل {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} 2، ومثالها في الشرط: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ} 3. أما إذا كانت النكرة في سياق الإثبات فلا تفيد العموم، فإذا قلت: ما رأيت رجلًا فهو نفي يفيد العموم، وإذا قلت: رأيت رجلًا فهو إثبات لا يفيد العموم.   1 سورة التوبة: الآية 84. 2 سورة الإسراء: الآية 23. 3 سورة التوبة: الآية 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 أقسام العام مدخل ... أقسام العام: وأقسام العام ثلاثة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 1- العام الذي لا يدخله التخصيص : وهو العام الذي لا يمكن تخصيصه، وهذا النوع قليل جدًّا؛ إذ الأصل في العموم أن يقبل التخصيص. ومع أن البلقيني قال عن هذا النوع: "ومثاله عزيز، إذ ما من عام إلا ويتخيل فيه التخصيص"1 إلا أن الزركشي قال:"وهو كثير في القرآن"2. وقد جمع السيوطي بينهما بأن مراد البلقيني أنه عزيز في الأحكام الفرعية، ومراد الزركشي أنه كثير في غير الأحكام الفرعية3. ومثال هذا النوع قوله تعالى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 4 {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} 5 {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} 6 {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 7 فالعموم هنا لا يمكن تخصيصه.   1 الإتقان: السيوطي ج2 ص21. 2 البرهان: الزركشي ج2 ص217. 3 الإتقان: السيوطي ج2 ص21. 4 سورة النساء: الآية 176. 5 سورة الكهف: الآية 49. 6 سورة النساء: الآية 23. 7 سورة البقرة: الآية 284. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 2- العام الذي يدخله التخصيص : وهو الذي يمكن تخصيصه، ولعل هذا النوع هو أشهر أنواع العموم، والذي ينصرف إليه الذهن عند إطلاق العموم، وهو ميدان الخلاف بين العلماء في تخصيصه أو بقائه على عمومه. وأمثلته في القرآن كثيرة؛ منها: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} 1 فلفظ "الناس" عام خصص بقوله: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} . ومنها قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} 2 فلفظ "أحدكم" يفيد العموم وخصص بقوله: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} . ومنها قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} 3، فلفظ "المطلقات" عام يشمل الحامل وغير الحامل وخصص بقوله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} 4 وغير ذلك من الأمثلة.   1 سورة آل عمران: الآية 97. 2 سورة البقرة: الآية 180. 3 سورة البقرة: الآية 228. 4 سورة الطلاق: الآية 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 3- العام المراد به الخصوص : وهو ما دل لفظه على العموم ودلت القرينة على الخصوص، كقوله تعالى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ} 1 والمراد بالناس عبد الله بن سلام2 فالآية دعوة لليهود إلى أن يؤمنوا كما آمن عبد الله بن سلام -رضي الله عنه- وقد كان يهوديًّا، ثم إن الناس لم يؤمنوا كلهم، فدلت القرينة على وجوب حمله على فئة منهم. ومن أمثلته أيضًا قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} 3 قال الزركشي: "وعمومه يقتضي دخول جميع الناس في اللفظين جميعًا، والمراد بعضهم؛ لأن القائلين غير المقول لهم، والمراد بالأول نعيم بن مسعود4 والثاني: أبو سفيان وأصحابه". قال الفارسي: ومما يقوي أن المراد بالناس في قوله: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} واحد، قوله: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} 5 فوقعت الإشارة بقوله: {ذَلِكُمُ} إلى واحد بعينه، ولو كان المعني به جمعًا لكان إنما أولئكم الشياطين6، فهذه دلالة ظاهرة في اللفظ"7، وإنما وصف نعيم بأنه الناس؛ لقيامه مقام كثير في تثبيطه المؤمنين عن ملاقاة أبي سفيان8. ومن أمثلته قوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} 9 والمراد بالناس هنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن أمثلته {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} 10 والمراد إبراهيم   1 سورة البقرة: الآية 13. 2 البرهان: الزركشي ج2 ص221. 3 سورة آل عمران: الآية 173. 4 في البرهان: نعيم بن سعيد الثقفي والصواب ابن مسعود. 5 سورة آل عمران: الآية 175. 6 في البرهان إنما الشياطين الشياطين. 7 البرهان: الزركشي ج2 ص220. 8 أصول التفسير وقواعده: خالد العك، ص387. 9 سورة النساء: الآية 54. 10 سورة البقرة: الآية 199. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 عليه السلام أو العرب من غير قريش. ومنها: {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ} 1 والمراد بالملائكة جبريل عليه السلام. ونستطيع بعد هذا أن نذكر تعريفًا آخر لأقسام العام الثلاثة فنقول: 1- عام مقيد بالعموم بحيث لا ينفك عن العموم مثل: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 2. 2- عام مطلق يمكن أن يبقى على عمومه ويمكن تخصيصه مثل: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} 3 فلم لم يقل: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} لبقي عامًّا فهو قابل للعموم والخصوص. 3- عام مقيد بالخصوص، لا يمكن أن يراد به العموم، ولا ينفك عن الخصوص مثل: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} 4.   1 سورة آل عمران: الآية 39. 2 سورة البقرة: الآية 284. 3 سورة آل عمران: الآية 97. 4 سورة البقرة: الآية 199. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 الفرق بين العام المراد به الخصوص والعام الذي يدخله التخصيص 1: وبين العام المراد به الخصوص والعام الذي يمكن أن يدخله التخصيص فروق منها: 1- أن العام المراد به الخصوص لا يراد شموله لجميع الأفراد، ويدرك ذلك من أول وهلة2، وأما العام الذي يدخله التخصيص. فأريد به العموم   1 انظر الإتقان: السيوطي ج2 ص21، 22. 2 قال في لسان العرب ج11 ص737: "ولقيته أول وهْلةٍ ووهَلة وواهِلة؛ أي أول شيء، وقيل: هو أول ما تراه، وفي الحديث فلقيته أول وهلة. أي أول شيء". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 في أول الأمر، وشموله لجميع أفراده، فلفظ "الناس" في قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} 1 الآية يدرك السامع لأول وهلة خصوصها، وأنه لا يمكن أن يراد بها العموم لامتناع ذلك، أما لفظة "الناس" في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} يدرك السامع أن المراد بها جميع الناس، ولا يحوله عن هذا العموم إلا قوله: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} . 2- الأول مجاز قطعًا؛ لنقل اللفظ عن موضعه الأصلي وهو العموم، واستعماله في بعض أفراده، بخلاف الثاني فاستعمل اللفظ بمعناه الحقيقي، وعليه أكثر الشافعية، وكثير من الحنفية، وجميع الحنابلة، ونقله الجويني عن جميع الفقهاء. 3- أن قرينة الأول عقلية لا تنفك عنه، وقرينة الثاني لفظية وقد تنفك عنه. 4- أن الأول يصح أن يراد به واحدًا اتفاقًا، مثل: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} 2 يعني إبراهيم عليه السلام، أما الثاني ففي تخصيص عمومه بحيث لا يراد به إلا واحد بعد العموم خلاف3.   1 سورة آل عمران: الآية 97. 2 سورة آل عمران: الآية 39. 3 انظر تفصيل ذلك في إتحاف ذوي البصائر بشرح روضة الناظر: د. عبد الكريم النملة ج6 ص179، 182. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 الخاص : الخاص لغة : يقال: خصه بالشيء يخصه خصًّا.. أفرده به دون غيره، ويقال: اختص فلان بالأمر وتخصص له إذا انفرد1.   1 لسان العرب: ابن منظور ج7 ص24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 وفي الاصطلاح : الخاص هو اللفظ الذي لا يستغرق الصالح له من غير حصر. أما التخصيص فهو: قصر العام على بعض أفراده1. وقيل: إخراج بعض ما تناوله الخطاب عنه2. والمراد من قولنا: "قصر العام" قصر حكمه، وإن بقي لفظه على عمومه، فيكون العموم باللفظ لا بالحكم، وبذلك يخرج العام الذي يراد به الخصوص، فإن ذلك قصر إرادة لفظ العام لا قصر حكمه3. ومثال التخصيص قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} 4 فلفظ المطلقات عام يشمل كل مطلقة، لكن حكمه مخصوص بقوله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} 5.   1 إتحاف ذوي البصائر ج6 ص211. 2 المحصول: الرازي ج1 ق3 ص7. 3 إتحاف ذوي البصائر ج6 ص211. 4 سورة البقرة: الآية 228. 5 سورة الطلاق: الآية 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 حكم تخصيص العموم : قال الشوكاني رحمه الله تعالى: اتفق أهل العلم سلفًا وخلفًا على أن التخصيص للعمومات جائز، ولم يخالف في ذلك أحد ممن يعتد به، وهو معلوم من هذه الشريعة المطهرة، لا يخفى على من له أدنى تمسك بها"1. وهو جائز مطلقًا، سواء كان أمرًا مثل: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} 2، أو نهيًا مثل:   1 إرشاد الفحول: الشوكاني ص143. 2 سورة النور: الآية 33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} 1، أو خبرًا مثل: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ، إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} 2.   1 سورة البقرة: الآية 222. 2 سورة الحجر: الآية 30، 31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 الفروق بين التخصيص والنسخ : بين التخصيص والنسخ فروق منها1: 1- أن التخصيص يدل على أن ما خرج عن العموم لم يكن مرادًا، والنسخ يدل على أن المنسوخ كان مرادًا. 2- أن النسخ يشترط تراخيه عن المنسوخ، والتخصيص يجوز اقترانه كالتخصيص بالصفة والشرط والاستثناء. 3- أن النسخ رفع الحكم بعد ثبوته، والتخصيص بيان للمحل الذي لم يثبت الحكم فيه؛ بمعنى أن النسخ يثبت فيه الحكم ثم يرفع، أما التخصيص فإن الحكم في المخصوص لم يثبت فيه أصلًا، فلا يحتاج إلى رفع. 4- أن التخصيص قد يقع بخبر الواحد وبالقياس، والنسخ لا يقع بهما. 5- أن التخصيص يكون في الأخبار، والنسخ لا يقع فيها. 6- أن النسخ لا تبقى معه دلالة اللفظ على ما تحته، والتخصيص لا يمتنع معه ذلك. قال الشوكاني رحمه الله تعالى: "التخصيص ترك بعض الأعيان والنسخ ترك الأعيان"2. 7- أنه لا يجوز تخصيص شريعة بشريعة، أما النسخ فيجوز؛ كما نسخت النصرانية بالإسلام.   1 انظر المحصول: الرازي ج1 ق3 ص9، 11، والعقد المنظوم في الخصوص والعموم: القرافي ج2 ص177، 178. 2 إرشاد الفحول: الشوكاني ص142، ونسبه إلى الأسفرائيني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 8- أن التخصيص لا يرد إلا على العام، أما النسخ فيرد على العام والخاص. وبهذا يظهر أن النسخ ليس بتخصيص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 أقسام المخصص مدخل ... أقسام المخصص: والمخصص ينقسم إلى قسمين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 القسم الأول: المخصص المتصل. وهو خمسة أنوع هي: 1- الاستثناء: كقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} 1 وكقوله سبحانه: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} 2. 2- الصفة: والمراد بها الصفة المعنوية على ما حققه علماء البيان، لا مجرد النعت المذكور في علم النحو، قال الجويني: الوصف عند أهل اللغة معناه التخصيص، وقال المازري: ولا خلاف في اتصال التوابع، وهي النعت والتوكيد والعطف والبدل3. وعلى هذا فالمراد بالصفة هنا كل ما أشعر بمعنى يتصف به أفراد العام؛ سواء كان الوصف نعتًا، أو عطف بيان، أو حالًا؛ وسواء كان مفردًا، أو جملة، أو شبه جملة4.   1 سورة القصص: الآية 88. 2 سورة النحل: الآية 106. 3 إرشاد الفحول: الشوكاني ص153 "بتصرف". 4 انظر إتحاف ذوي البصائر: النملة ج6 ص339؛ والعقد المنظوم: القرافي ج2 ص376. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 ومن الأمثلة على ذلك قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} 1 فلفظ "فتياتكم" عام يشمل المؤمنات والكافرات، لكنه خصص بوصف "المؤمنات". ومن الأمثلة قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} 2 فلفظ "نِسَائِكُمُ" يشمل جميع الزوجات المدخول بهن، وغير المدخول بهن ولكن خصص العموم بوصف "اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ". 3- الشرط: ومن أمثلته قوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ} 3 فلفظ "أزواجكم" عام يشمل ذات الولد وغيرها، وخصص بالشرط "إن لم يكن لهن ولد" فالزوجة التي يرث الزوج نصف مالها. هي غير ذات الولد. ومن الأمثلة قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} 4 فقوله "أحدكم" عام يوجب الوصية على من ترك مالا وغيره، وخصص بالشرط "إن ترك خيرًا"، فأصبحت الوصية واجبة على من ترك مالًا دون الآخر. ومن ذلك قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} 5 فالاسم الموصول "الذين" يفيد العموم وخصص بشرط   1 سورة النساء: الآية 25. 2 سورة النساء: الآية 23. 3 سورة النساء: الآية 12. 4 سورة البقرة: الآية 180. 5 سورة النور: الآية 33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 "إن علمتم فيهم خيرا". 4- الغاية: والمراد بها: نهاية الشيء المقتضية لثبوت الحكم قبلها، وانتفائه بعدها ولها لفظان: "حتى" و"إلى". ومثال الأول: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} 1. ومثال الثاني: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} 2. 5- بدل البعض من الكل: وذلك كقوله سبحانه: {ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ} 3 فقوله: "عموا وصموا" يفيد العموم وخصص ببدل البعض "كثير منهم". وكقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} 4 فلفظ "الناس" يفيد العموم وخص بالبدل "من استطاع إليه سبيلا" بدل بعض من كل، هذه أنواع المخصص المتصل.   1 سورة البقرة: الآية 222. 2 سورة المائدة: الآية 6. 3 سورة المائدة: الآية 71. 4 سورة آل عمران: الآية 97. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 القسم الثاني: القسم المنفصل. وهو أن يكون المخصص في موضع آخر غير متصل باللفظ العام اتصالًا لفظيًّا. وهو أنوع منها: 1- التخصيص بآية: فقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} 1 عام يشمل كل   1 سورة البقرة: الآية 228. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 مطلقة، إلا أنه خص الحوامل في قوله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} 1 كما خص الآيسات من الحيض: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} 2 وخص غير المدخول بها قال تعالى: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ} 3. وقوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} 4 يشمل كل مشركة كتابية كانت أو غير كتابية، وجاء التخصيص في قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} 5 فخص الكتابية من المشركات بجواز الزواج منها. 2- التخصيص بالسنة قولًا كان أو فعلًا: فقوله تعالى بعد أن عدد المحرمات من النساء: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} 6. مخصوص بحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها" 7 حيث خص أربع نساء وهن عمة الزوجة وخالتها، وابنة أخيها، وابنة أختها. وقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} 8 عام يدل على أن جميع الأولاد يرثون من آبائهم، لكنه مخصوص بقول   1 سورة الطلاق: الآية 4. 2 سورة الطلاق: الآية 4. 3 سورة الأحزاب: الآية 49. 4 سورة البقرة: الآية 221. 5 سورة المائدة: الآية 5. 6 سورة النساء: الآية 24. 7 رواه مسلم كتاب النكاح، باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح ج2 ص1029. 8 سورة النساء: الآية 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم" 1 وبقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يرث القاتل شيئًا" 2، وبما رواه أبو بكر رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا نورث، ما تركناه صدقة" 3 فخرج أولاد الأنبياء فإنهم لا يرثون. وقوله تعالى في المطلقة البائن: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} 4 وهذا عام في العقد والوطء، وخصه قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- لامرأة رفاعة: "لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك" 5. وقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} 6 عام يشمل المحصن وغير المحصن وتواتر عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه رجم المحصن، وهو فعل. 3- التخصيص بالإجماع: ومذهب جمهور العلماء أن الإجماع من مخصصات العموم المنفصلة، وهناك ما يرى أن المخصص هو دليل الإجماع وليس الإجماع نفسه، ومن الأمثلة قوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} 7 وهو عام يشمل الحر والعبد، والذكر والأنثى، وأجمعوا على أنه لا جمعة على عبد ولا امرأة8. وكقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} 9   1 رواه البخاري، كتاب الفرائض ج8 ص11، ومسلم كتاب الفرائض ج3 ص1233. 2 رواه أبو داود في سننه كتاب الديات باب ديات الأعضاء ص692. 3 رواه البخاري كتاب الفرائض ج8 ص3، ورواه مسلم ج3 ص1381. 4 سورة البقرة: الآية 230. 5 رواه البخاري: كتاب الطلاق باب 37، ج6 ص182. 6 سورة النور: الآية 24. 7 سورة الجمعة: الآية 9. 8 إرشاد الفحول: الشوكاني ص160. 9 سورة النساء: الآية 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 فهو عام يشمل كل الأولاد الأحرار والأرقاء، وخص الرقيق بالإجماع، لأن الرق مانع من الإرث. 4- التخصيص بالقياس: وذلك في قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} 1 فهو عام يشمل كل زان؛ حرًّا أو عبدًا، وكل زانية حرة أو أمة، لكن الأمة خصصت بآية أخرى هي قوله تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} 2 ولم يرد في العبد نص، فقاسه العلماء على الأمة بجامع الرق في كل، فيكون حكمه نصف ما على الأحرار من الرجال. وهناك أيضًا أنواع من المخصصات المنفصلة؛ كالتخصيص بالعقل، وبالحسن، وبالعادة، وقرائن الأحوال، وبالمفهوم، وقول الصحابي، وبالسياق، وبقضايا الأعيان3.   1 سورة النور: الآية 2. 2 سورة النساء: الآية 25. 3 انظر إرشاد الفحول: الشوكاني ص155، 162، وإتحاف ذوي البصائر: د. النملة، ج6 ص216، 278. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 حكم تخصيص السنة بالقرآن : إذا كان القرآن الكريم يخصص بالسنة، فهل تخصص السنة بالقرآن؟ الجواب: اختلف العلماء في ذلك وجمهور أهل العلم على جوازه4، وعد السيوطي أمثلة ذلك من العزيز يعني القليل أو النادر، ثم ذكر أمثلة ذلك1: كقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا   1 الإتقان: السيوطي ج2 ص23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 الله" 1 فإنه مخصوص بقوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} 2. ونهي الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن الصلاة في الأوقات المكروهة عام يشمل النوافل وقضاء الفرائض وهو مخصوص بقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} 3 والمحافظة على الصلوات تقتضي قضاء الفوائت في كل وقت حتى أوقات النهي. وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "ما أبين من حي فهو ميت" 4 عام في تحريم كل ما يقطع من البهيمة وهي حية وخصصه قوله تعالى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} 5. وقوله عليه الصلاة والسلام: "لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي" 6 عام يشمل الأغنياء والأقوياء، وهو مخصوص بقوله تعالى: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} 7؛ حيث يحل لهم الأخذ من الزكاة حتى ولو كانوا أغنياء وأقوياء. وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار" 8 عام مخصوص بقوله تعالى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} 9.   1 رواه البخاري كتاب الزكاة، ج2 ص110، ومسلم كتاب الإيمان، ج1 ص51. 2 سورة التوبة: الآية 29. 3 سورة البقرة: الآية 238. 4 إتحاف السادة المتقين: الزبيدي المرتضى، ج2 ص503، ورواه بلفظ: "ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة"؛ أحمد في مسنده 5/ 218؛ والدارمي 2/ 93، وأبو داود 3/ 277/ 2858، والترمذي 4/ 74، والبيهقي 9/ 245، والحاكم جد4 ص239، وقال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه ووافقه الذهبي وقال الألباني في غاية المرام ص43: الإسناد صحيح. 5 سورة النحل: الآية 80. 6 رواه الإمام أحمد في مسنده ج2 ص192، 389، ج5 ص375، والنسائي في سننه ص360 حديث 2598. 7 سورة التوبة: الآية 60. 8 رواه البخاري كتاب الإيمان ج1 ص13، ومسلم كتاب الفتن ج4 ص2214. 9 سورة الحجرات: الآية 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 عموم الخطاب وخصوصه الخطاب الخاص بالرسول صلى الله عليه وسلم ... عموم الخطاب وخصوصه: وتحته مسائل: الأولى: الخطاب الخاص بالرسول صلى الله عليه وسلم هل يشمل الأمة أم لا؟ كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} 2 وقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} 3. الجواب: للعلماء في ذلك قولان: الأول: أنه يشمل الأمة، لأن أمر القدوة أمر لأتباعه معه عرفًا4 إلا ما دل الدليل على أنه من خواصه؛ كقوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} 5 فلو كان الخطاب الخاص بالرسول -صلى الله عليه وسلم- لا يشمل الأمة لما احتاج إلى التخصيص بقوله "خالصة لك". الثاني: قول الأصوليين: أنه لا يشمل الأمة، وذلك لخصوص اللفظ، وإن شملهم فبدليل آخر، لا بمجرد النص المذكور6.   1 سورة الحجرات: الآية 9. 2 سورة الأحزاب: الآية الأولى. 3 سورة المائدة: الآية 41. 4 الإتقان: السيوطي ج2 ص24. 5 سورة الأحزاب: الآية 50. 6 المحصول: الرازي ج1 ق2 ص620، 621. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 الخطاب العام بلفظ يا أيها الناس هل يشمل الرسول صلى الله عليه وسلم ... المسألة الثانية: الخطاب العام بلفظ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ويَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هل يشمل الرسول صلى الله عليه وسلم أم لا؟ الجواب: للعلماء في ذلك أقوال: الأول: أنه يشمل الرسول -صلى الله عليه وسلم- لعموم الصيغة، وعليه الأكثرون، واختاره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 الغزالي والآمدي وابن الحاجب، والرازي، وابن قدامة، وأبو يعلى وأبو الخطاب الحنبلي. الثاني: أنه لا يشمله؛ لما له من الخصائص دون الأمة، وهو قول الشيرازي. الثالث: فيه تفصيل: إن كان الخطاب موجهًا لأمته، مثل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} الآية فلا يدخل. قال بعضهم: بلا خلاف1، وإن كان الخطاب بلفظ يشمل الرسول -صلى الله عليه وسلم- نحو: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} و {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} و {يَا عِبَادِيَ} فإنه يشمله. الرابع: إن سبق الخطاب بلفظ "قل" لم يشمله؛ كقوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} 2 وإلا شمله وهو قول الصيرفي والحليمي.   1 إرشاد الفحول: الشوكاني ص129. 2 سورة الأعراف: الآية 158. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 الخطاب العام يا أيها الناس هل يشمل الكفار ... المسألة الثالثة: الخطاب العام بلفظ " يَا أَيُّهَا النَّاسُ" هل يشمل الكفار أم لا؟ وذلك نحو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} 1 وللعلماء في ذلك قولان: الأول: أنه يشملهم لعموم الصيغة وهم من الناس. وهو قول الجمهور2. الثاني: أنه لا يشملهم لعدم تكليفهم بالفروع.   1 سورة الحج: الآية الأولى. 2 إرشاد الفحول: الشوكاني ص128. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 الخطاب العام بلفظ يا أيها الذين آمنوا هل يشمل الكفار ... المسألة الرابعة: الخطاب العام بلفظ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} ، مثل {يَا أيُّهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 1 وقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} 2 هل يشمل الكافر أم لا؟ الجواب: للعلماء في ذلك قولان: الأول: أنه لا يشمل الكفار؛ لأنهم غير مخاطبين بالفروع. الثاني: أنه يشملهم لعموم التكليف بهذه الأمور واختصاص المؤمنين بالخطاب للتشريف. وقد ثبت تحريم الربا في حق أهل الذمة. قال الزركشي: وفيه نظر، والخلاف يرجع إلى أن الكفار هل هم مخاطبون بالفروع أم لا؟   1 سورة البقرة: الآية 278. 2 سورة المائدة: الآية 90. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 وهل يشمل العبد أم لا ... المسألة الخامسة: وهل يشمل الخطاب السابق العبد أم لا؟ وفيه أيضا قولان: الأول: أنه لا يشمله لصرف منافعه إلى سيده. الثاني: أنه يشمله لعموم اللفظ، وهو الصحيح، وخروجه في بعض الأحكام إنما هو بأدلة أخرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 صيغة الجمع المذكر هل تشمل النساء ... المسألة السادسة: صيغة الجمع المذكر التي تفيد العموم هل تشمل النساء أم لا؟ الجواب: في ذلك تفصيل: 1- إن كان الجمع يتناول الذكور والإناث لغة ووصفًا مثل "الناس" فهذا يشمل الإناث بالاتفاق. 2- إن كان الجمع بلفظ لا يتبين فيه التذكير والتأنيث؛ مثل أدوات الشرط؛ كقوله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} 3 فإنه يشمل النساء   1 سورة الزلزلة: الآية 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 باتفاق. 3- إذا كان الجمع خاصًّا بالذكور مثل لفظ "الرجال"، فلا يشمل النساء باتفاق. 4- إذا كان الجمع خاصًّا بالإناث مثل "النساء" و "بنات" فلا يشمل الرجال باتفاق. 5- إذا كان الجمع بلفظ ظهرت فيه علامة التذكير مثل "المؤمنون" "الصابرون" "المسلمون" أو ضمير الجمع المذكر مثل: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} 1 ففيه خلاف: فقيل: يشمل النساء، وهو مذهب أكثر الحنفية والحنابلة وبعض المالكية والشافعية، واستدلوا بأنه متى اجتمع المذكر والمؤنث غلب التذكير، ولذلك لو قال لمن بحضرته من الرجال والنساء: قوموا واقعدوا تناول جميعهم، ولو قال: قوموا وقمن واقعدوا واقعدن لعد تطويلًا ولَكْنَةً. وبينه قوله تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا} 2، وكان ذلك خطابًا لآدم وحواء وإبليس، فلو كانت النساء لا يدخلن لقيل لآدم وإبليس: اهبطا، ولحواء: اهبطي، وأكثر خطاب الله تعالى في القرآن بلفظ التذكير، مثل: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} 3 و {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} 4 وغير ذلك، والنساء يدخلن في جملته بالإجماع5. وقيل: لا يشمل النساء، وهو مذهب أكثر الشافعية وأكثر الفقهاء والمتكلمين، واستدلوا بأنه ذكر المسلمات بلفظ متميز، فما يذكر بلفظ   1 سورة الأعراف: الآية 31. 2 سورة البقرة: الآية 38. 3 سورة البقرة: الآية 43. 4 سورة النساء: الآية 36. 5 إتحاف ذوي البصائر: د. النملة ج6 ص159، 161 بتصرف يسير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 المسلمين لا يدخلن فيه إلا بدليل. العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 أحوال الألفاظ مع أسباب النزول من حيث العموم والخصوص عموم اللفظ والسبب ... للألفاظ مع أسباب النزول أحوال هي 1: أولًا: عموم اللفظ والسبب وذلك كقوله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} 2 الآية، فلفظها عام لكل النساء، وسبب نزولها أيضًا عام؛ فقد روى أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "إن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم أخرجوها من البيت ولم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يجامعوها في البيوت، فسئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك، فأنزل الله: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جامعوهن في البيت واصنعوا كل شيء إلا النكاح" 3 وهذا عموم في اللفظ وعموم في السبب.   1 انظر مباحث في علوم القرآن: مناع القطان ص82، 83. 2 سورة البقرة: الآية 222. 3 رواه مسلم ج1 ص246، وأبو داود كتاب الطهارة ص46 ح258. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 ثانيًا: خصوص اللفظ والسبب وذلك؛ كقوله تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى، الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى، وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى، إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى، وَلَسَوْفَ يَرْضَى} 1 فإنها نزلت في أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- و "أل" في "الأتقى" للعهد وتفيد الخصوص، وليست "أل" الاستغراق التي تفيد العموم؛ لأن "أل" تفيد العموم إذا كانت موصولة، أو معرفة في جمع على الراجح. وهي هنا ليست موصولة؛ لأنها لا توصل بأفعل التفضيل، والأتقى ليس جمعًا بل مفرد، والعهد موجود، فدل ذلك على أنها للعهد، وليست للاستغراق. ولذلك قال   1 سورة الليل: الآيات 17- 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 الواحدي: الأتقى: أبو بكر الصديق في قول جميع المفسرين، عن عروة: أن أبا بكر الصديق أعتق سبعة كلهم يعذب في الله، بل، وعامر بن فهيرة، والنهدية وابنتها، وزنيرة، وأم عيسى، وأمة بني المؤمل، وفيه نزلت {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى} إلى آخر السورة1 وهذا خصوص في اللفظ وخصوص في السبب.   1 تفسير ابن أبي حاتم: ج10 ص3441. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 ثالثًا: عموم اللفظ وخصوص السبب : واختلف العلماء في هذه الصورة، هل العبرة بعموم اللفظ أو بخصوص السبب: 1 ذهب الجمهور إلى أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رجلًا أصاب من امرأة قبلة، فأتى النبي -صلى عليه وسلم- فأخبره، فأنزل الله: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} 2 فقال الرجل: يا رسول الله: ألي هذا؟ قال: "لجميع أمتي كلهم" 3. قال الشنقيطي رحمه الله تعالى: "فهذا الذي أصاب القبلة من المرأة نزلت في خصوصه آية عامة اللفظ، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: ألي هذه؟ ومعنى ذلك: هل النص خاص بي لأني سبب وروده؟ أو هو على عموم لفظه؟ وقول النبي -صلى الله عليه وسلم- له: لجميع أمتي. معناه أن العبرة بعموم لفظ: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} لا بخصوص السبب، والعلم عند الله تعالى"4 ولو كان المراد تخصيصه بالحكم، لكان النص: إن حسناتك تذهب سيئاتك، فدل عمومها   1 تفسير ابن أبي حاتم: ج10 ص3441. 2 سورة هود: الآية 114. 3 رواه البخاري كتاب مواقيت الصلاة باب الصلاة كفارة ج1 ص133، 134؛ ورواه مسلم كتاب التوبة حديث 39، 42، ج4 ص2116. 4 أضواء البيان: الشنقيطي ج3 ص250. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 على عموم حكمها وعدم اعتبار سببها. واعتمد هذه القاعدة أكثر علماء الأمة من مفسرين وغيرهم، والمحققون من أهل الأصول، بل حكى الزركشي الإجماع1 على ذلك وطبقها السلف في تفسيرهم2. ففي قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} 3 قال ابن عباس رضي الله عنهما: يعني المنافقين من الأوس والخزرج ومن كان على أمرهم4. وروى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن معقل بن مقرن قال: جلست إلى كعب بن عجرة فسألته عن الفدية فقال: نزلت فيّ خاصة، وهي لكم عامة5. وأخرج الطبري عن محمد بن كعب القرظي قوله: "إن الآية تنزل في الرجل ثم تكون عامة بعد"6. وقال ابن تيمية رحمه الله تعالى: "وقصر عمومات القرآن على أسباب نزولها باطل، فإن عامة الآيات نزلت بأسباب اقتضت ذلك، وقد علم أن شيئًا منها لم يقتصر على سببه7. 2- وذهب جماعة إلى أن العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ: وأن اللفظ دليل على صورة السبب الخاص، ولا بد من دليل كالقياس   1 البحر المحيط: الزركشي ج3 ص198. 2 انظر قواعد الترجيح عند المفسرين: حسين الحربي ج2 ص545، 549، باختصار. 3 سورة البقرة: الآية 8. 4 جامع البيان: الطبري ج1 ص116. 5 رواه البخاري: كتاب التفسير ج1 ص158، ومسلم كتاب الحج ج2 ص862، ح85. 6 جامع البيان: الطبري ج2 ص313. 7 مجموع الفتاوى: ابن تيمية ج15 ص364. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 لدخول غير صورة السبب في الحكم. "قلت" ولعل خلافهم لفظي فهم يعممون الحكم على غير من نزلت فيه بالقياس فيصبح الحكم عامًّا، فالقول الأول أخذ العموم من اللفظ والقول الثاني أخذه بالقياس1.   1 انظر إتحاف ذوي البصائر: د. النملة ج2 ص141. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 الاحتجاج بالعام بعد تخصيصه : والمراد به: الاحتجاج بالعام المخصوص فيما عدا المخصوص ولا يخلو من حالتين: 1- أن يكون المخصص مبهمًا: كأن يقول: اقتلوا المشركين إلا بعضهم. فهذا لا يحتج به لأمرين: أ- لأنه ما من فرد إلا ويجوز أن يكون هي المستثنى. ب- إخراج المجهول من المعلوم يصيره مجهولًا. وحكى الإجماع على عدم الاحتجاج به جماعة منهم القاضي أبو بكر، وابن السمعاني والأصفهاني. ونقل الزركشي مخالفة ابن برهان لذلك وقوله بالإضراب عن المخصص والعمل بالعام في جميع أفراده لأنه الأصل. 2- أن يكون المخصص مبينًا: ولنضرب للتوضيح مثالا قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} 1 فلفظ المطلقات هنا عام يشمل ستًّا: المدخول بها، وغير المدخول بها، والحامل، وغير الحامل، والتي تحيض، والآيسة من المحيض، وجاء تخصيص ثلاث منهن: الحامل في قوله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ   1 سورة البقرة: الآية 228. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 حَمْلَهُنَّ} 1 والآيسة في قوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} 2 وغير المدخول بها في قوله تعالى: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ} 3 فبقي من الست ثلاث: المدخول بها، وغير الحامل، والتي تحيض، فهل يبقى قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} حجة في بيان عدتهن بعد أن خصص منه بعضهن أم لا؟ الجواب: أن للعلماء في ذلك ثلاثة أقوال هي: الأول: أنه حجة فيما بقي. وهو قول الجمهور من الفقهاء والأصوليين وقال الشوكاني: وهو الحق الذي لا شك فيه، ولا شبهة"4. واستدلوا بأدلة منها: 1- إجماع الصحابة -رضي الله عنهم- ومن بعدهم على الاحتجاج بالعمومات وأكثرها قد خصص ومن ذلك: احتجاج فاطمة -رضي الله عنها- بعموم قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} 5 على طلب حقها من ميراث أبيها -صلى الله عليه وسلم- ولم ينكر عليها أبو بكر ولا غيره من الصحابة احتجاجها بالآية مع أنها مخصصة بالكافر، والقاتل، والعبد، وإنما بين لها أبو بكر رضي الله عنه ما سمعه من الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا نورث، ما تركناه صدقة" 6.   1 سورة الطلاق: الآية 4. 2 سورة الطلاق: الآية 4. 3 سورة الأحزاب: الآية 49. 4 إرشاد الفحول: الشوكاني ص137. 5 سورة النساء: الآية 11. 6 رواه البخاري، كتاب الفرائض ج8 ص30، ومسلم ج3 ص1381. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 2- أن العام قبل التخصيص حجة في كل أفراده إجماعًا وإخراج بعضها بمخصص لا يقتضي إلغاء دلالة اللفظ على ما بقي، والأصل ما كان قبل التخصيص على ما كان عليه إلا أن يوجد له معارض، ولا معارض فوجب ثبوت الحكم وبقاؤه. 3- أنه ما من عام إلا وقد خص إلا النادر ولو قلنا: إنه غير حجة فيما بقي للزم إبطال كل عموم، وغالب أحكام الشريعة إنما يثبت بالعموم إذ يتعذر النص على كل فرد من أفراده بالحكم بل يستحيل ولا تدركه مدارك البشر وقواهم. الثاني: أنه ليس بحجة فيما بقي. وذهب إليه عيسى بن أبان وأبو ثور الشافعي. واستدلوا بأن العام قد وضع حقيقة لجميع أفراده، فإذا أخرج بعضها فإن إطلاق العام على ما بقي وهو بعض أفراده يكون مجازًا فلم يبق للفهم إلا القرينة، ولا قرينة فيصير مجملًا ولا يحمل على شيء منها، فلا يصلح للاحتجاج. الثالث: أنه إن خص بمتصل كالشرط والصفة فهو حجة فيما بقي، وإن خص بمنفصل فليس بحجة بل يصير مجملًا وهو قول الكرخي، والبلخي والباقلاني1.   1 انظر إتحاف ذوي البصائر: د. النملة ج6 ص164، 178؛ وإرشاد الفحول: الشوكاني ص137، 138؛ وقد ذكر في المسألة ثمانية أقوال، وانظر المحصول للرازي ج1 ق3 ص22، 29، والعقد المنظوم: القرافي ج2 ص237، 240. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 المطلق والمقيد مدخل ... المطلق والمقيد: جاءت بعض الأحكام الشرعية في القرآن الكريم والسنة النبوية مطلقة غير مقيدة بشرط أو وصف أو غير ذلك. وجاء بعضها مقيدًا بوصف أو شرط أو غيرهما. والأصل في المطلق أن يبقى على إطلاقه، إلا إذا صح الدليل على تقييده؛ لأن الإطلاق لحكمة كما أن التقييد لحكمة، وفي كل منها رعاية لمصلحة العباد في الدنيا والآخرة. والدليل على تقييد المطلق أحيانًا يكون بالنص، وهذا ظاهر لا خلاف فيه، وأحيانًا لا يصرح بالقيد، وإنما تدل عليه الأحوال والقرائن من نصوص أخرى جاءت مقيدة، ومن العلماء من يحمل المطلق منها على المقيد ومنهم من لا يحمله، وعلى هذا قول الشافعي رحمه الله تعالى: "اللفظ بيّن في مقصوده ويحتمل في غير مقصوده"1 وهو ما يدرسه العلماء في باب المطلق والمقيد في كتب الأصول وعلوم القرآن والحديث.   1 البرهان: الزركشي ج2 ص18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 تعريف المطلق : المطلق في اللغة هو المنفك من كل قيد حسيًّا كان أو معنويًّا، تقول: أطلقت الدابة إذا فككت قيدها وسرحتها، وهذا إطلاق حسي، ويقال: طلق الرجل زوجته إذا فك قيدها من الارتباط به وهذا إطلاق معنوي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 المطلق في الاصطلاح : ذكر العلماء تعريفات كثيرة منها: المطلق: هو ما دل على الماهية بلا قيد من حيث هي هي1.   1 البحر المحيط: الزركشي ج5 ص5؛ وانظر إرشاد الفحول: للشوكاني ص164. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 وقال ابن قدامة هو: المتناول لواحد لا بعينه باعتبار حقيقة شاملة لجنسه1. وقال ابن فارس: أما الإطلاق: فأن يذكر الشيء باسمه لا يقرن به صفة، ولا شرط، ولا شيء يشبه ذلك"2. وعند الآمدي: المطلق هو "النكرة في سياق الإثبات"3 قال القرافي: "كل شيء يقول الأصوليون: إنه مطلق، يقول النحاة: إنه نكرة. وكل شيء يقول النحاة: إنه نكرة، يقول الأصوليون: إنه مطلق.. فكل نكرة في سياق الإثبات مطلق عند الأصوليون، فما أعلم موضعًا ولا لفظًا من ألفاظ النكرات يختلف فيها النحاة والأصوليون، بل أسماء الأجناس كلها في سياق الثبوت هي نكرات عند النحاة، ومطلقات عند الأصوليين"4. ومن المعلوم أن النكرة عند النحاة هي: كل اسم شائع في جنسه، لا يختص به واحد دون آخر، مثل رجل، كتاب، فرس5. ولهذا قال الآمدي بعد ذلك: وإن شئت قلت: هو اللفظ الدال على مدلول شائع في جنسه6 وعرف ابن الحاجب وغيره من الأصوليين المطلق بأنه: "ما دل على شائع في جنسه"7. وبهذا يتبين أنه لا فرق بين المطلق والنكرة غير المستغرقة في سياق الإثبات بل هما بمعنى واحد في عرف النحاة والأصوليين8.   1 روضة الناظر: ابن قدامة: ص136. 2 الصاحبي: ابن فارس ص164. 3 الإحكام في أصول الأحكام: الآمدي ج3 ص3. 4 العقد المنظوم: القرافي تحقيق، محمد علوي بنصر ج1 ص304. 5 المرجع السابق: القرافي تحقيق د. أم الختم ج1 ص189 "الهامش". 6 الإحكام: الآمدي ج3 ص3. 7 بيان المختصر "شرح مختصر ابن الحاجب": لأبي الثناء الأصفهاني ج2 ص349. 8 العقد المنظوم: القرافي ج1 ص189 "الهامش". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 ومثال المطلق الرقبة في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} 1.   1 سورة المجادلة: الآية 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 المقيد لغة : هو ما بقابل المطلق في اللغة فالقيد هو الربط حسيًّا كان أو معنويًّا تقول قيدت الدابة إذا ربطتها بحبل ونحوه، وهذا قيد حسي، وفي الحديث: "الإيمان قيد الفتك، لا يفتك مؤمن" 1 قال ابن منظور: "معناه أن الإيمان يمنع عن الفتك بالمؤمن"2 ومنه قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "قيدوا العلم بالكتاب"3 "قلت" وهذا وذاك قيد معنوي.   1 مسند الإمام أحمد ج1 ص166؛ وسنن أبي داود ج3 ص87، مجمع الزوائد: ج1 ص96؛ والمستدرك ج3 ص352، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في الصحيح ج1 ص541 حديث 2802. 2 لسان العرب: ابن منظور ج3 ص372. 3 سنن الدارمي ج1 ص138. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 والمقيد اصطلاحًا: ذكر العلماء له تعريفات كثيرة وهو ما يقابل المطلق على اختلاف التعريفات: فقيل: هو ما دل على الماهية بقيد1. وقيل: هو المتناول لمعين، أو لغير معين موصوف بأمر زائد على الحقيقة الشاملة لجنسه2. ومثال المقيد الرقبة في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا   1 إرشاد الفحول: الشوكاني ص164. 2 روضة الناظر: ابن قدامة ص136. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 خَطأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} 1 فاشترط في الرقبة أن تكون مؤمنة وهذا قيد لها، ولو لم يشترط لكانت الرقبة مطلقة.   1 سورة النساء: الآية 92. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 الفرق بين العام والخاص والمطلق والمقيد : يبحث الأصوليون المطلق والمقيد في كتاب العام والخاص. قال القرافي: "وإنما وضع الأصوليون حمل المطلق على المقيد في كتاب الخصوص والعموم بسبب أن المطلق هو "قسيم" العام والتقييد "قسيم" الخاص. وهذه الأقسام تلتبس جدًّا على كثير من الفضلاء وربما اعتقدوا المطلق عامًّا.. والتبس التقييد بالتخصيص.."1 وقال في موضع آخر: إن "مدلول المطلق فائت ومتعذر ولم أر أحدًا تعرض لذلك بل يسوون في الأصول والفروع بين هذه المثل ويجعلون البحث واحدًا، وليس كذلك"2 وقال عن العموم: "اعلم أن مسمى العموم في غاية الغموض والخفاء، ولقد طالبت بتحقيقه جماعة من الفضلاء فعجزوا عن ذلك"3. ومع هذا فقد عقد في كتابه: "العقد المنظوم في الخصوص والعموم" بابًا خاصًّا في الفرق بين العام والمطلق4 إضافة إلى ذكره الفروق بينهما في تعريفه للعام، ومن أظهر الفروق: أن المطلق يقتصر بحكمه على فرد من أفراده دون الجميع كإعتاق الرقبة فإنه إذا أعتق رقبة لا يلزمه إعتاق الباقي، أما العموم فإن حكمه يعم جميع أفراده بالتساوي، فإذا قتلنا مشركًا ثم وجدنا آخر وجب قتله أيضًا5.   1 العقد المنظوم: القرافي ج2 ص470. 2 المرجع السابق ج2 ص488، العقد المنظوم ج2 ص488. 3 المرجع السابق ج1 ص275. 4 انظر هذا الباب في ج1 ص293، 318. 5 المرجع السابق ج1 ص282. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 بمعنى أن الحكم في العام يثبت لكل أفراده، أما المطلق فيثبت لأحد أفراده بلا تخصيص، فإذا قام في أحدها انقطع عن الباقي. "فإن قلت" هذا هو التخصيص. "قلت": لا، فإن التخصيص قبله عموم، ثم خرج بعض أفراده، وأما المطلق فالمراد به بعض أفراد العام من أول الأمر. فإذا قال رجل: كل زوجة لي فهي طالق فهذا اللفظ عام يوجب طلاق زوجاته جميعًا. وإذا قال: كل زوجة لي فهي طالق إلا فلانة فهذا تخصيص يوجب استثناءها من الطلاق بعد أن كان الحكم يشملها. وإذا قال: إحدى زوجاتي طالق فهذا لفظ مطلق يوجب طلاق إحدى زوجاته دون البقية فإذا طلقت واحدة سلمت الأخريات. وإذا قال: زوجتي الوسطى أو الكبيرة أو الصغيرة طالق فهذا تقييد يوجب طلاقها بعينها من أول الأمر ومن غير أن يشمل غيرها. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 حمل المطلق على المقيد مدخل ... حمل المطلق على المقيد: إذا ورد الخطاب مطلقًا لا مقيد له، وجب حمله على إطلاقه. وإذا ورد الخطاب مقيدًا لا مطلق له وجب حمله على تقييده1. وإذا ورد الخطاب مطلقًا في موضع ومقيدًا في آخر فله أربع صور:   1 البحر المحيط: الزركشي ج5 ص8؛ وإرشاد الفحول: الشوكاني ص164. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 الصورة الأولى: أن يتحد السبب والحكم: فقد ورد تحريم "الدم" مطلقًا في قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} 1 وورد تحريمه مقيدًا بكونه مسفوحًا في قوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ   1 سورة المائدة: الآية 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} 1. والحكم في الآيتين واحد وهو "التحريم"، والسبب واحد، فاتحد الحكم والسبب، فيحتمل المطلق على المقيد باتفاق لأن العمل بالمقيد عمل بالآيتين والعمل بالمطلق عمل بإحدى الآيتين دون الأخرى، والعمل بهما أولى من العمل بإحداهما، وبالعمل بالآيتين يخرج بالمكلف من العهدة بيقين2. وكقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} 3 فإنه مطلق وورد القيد في قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} 4 فنصيبه هنا مقيد بأن يكون بعد الوصية والدين فيحمل المطلق على المقيد في جميع المواريث فلا يوزع شيء من التركة على الورثة إلا بعد الوصية والدين.   1 سورة الأنعام: الآية 145. 2 إرشاد الفحول: الشوكاني ج2، ص6 من تعليق المحقق. 3 سورة النساء: الآية 11. 4 سورة النساء: الآية 11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 الصورة الثانية: أن يختلف السبب والحكم فإذا اختلف السبب والحكم فلا يحمل المطلق على المقيد باتفاق فقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 1 مطلق في الأيدي من غير تقييد لأي اليدين أو إلى أي حد يكون القطع، أما غسل الأيدي في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} 2 فمقيد إلى المرافق ولا يصح هنا حمل المطلق على المقيد لاختلاف السبب "سرقة في المطلق" و "وضوء في المقيد" ولاختلاف الحكم "قطع في المطلق" و "غسل في المقيد" فلا يحمل المطلق على المقيد باتفاق كما قال الشوكاني وحكاه الباقلاني والجويني وإلكيا الهراس وابن برهان والآمدي وغيرهم3.   1 سورة المائدة: الآية 38. 2 سورة المائدة: الآية 6. 3 إرشاد الفحول: الشوكاني ج2 ص9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 الصورة الثالثة: أن يتحد السبب ويختلف الحكم فغسل الأيدي في الوضوء مقيد إلى المرافق في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} 1. ومسح الأيدي في التيمم مطلق في قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} 2. ولو نظرنا في الآيتين لوجدنا سبب الوضوء والتيمم واحد وهو "الحدث" ولكن الحكم مختلف ففي الآية الأولى الحكم "الغسل" وفي الثانية "المسح". وفي هذه الصورة لا يحمل المطلق على المقيد، قال الشوكاني رحمه الله تعالى: "لا خلاف في أنه لا يحمل أحدهما على الآخر بوجه من الوجوه سواء كانا مثبتين أو منفيين أو مختلفين اتحد سببهما أو اختلف، وقد حكى الإجماع جماعة من المحققين آخرهم ابن الحاجب"3.   1 سورة المائدة: الآية 6. 2 سورة المائدة: الآية 6. 3 إرشاد الفحول: الشوكاني ج2 ص12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 الصورة الرابعة: أن يختلف السبب ويتحد الحكم وإذا كان العلماء في الصور الثلاث السابقة اتفقوا أو كادوا على حكم كل صورة فإنهم في هذه الصورة قد اختلفوا. ولهذا الصورة حالتان: الأولى: أن يكون القيد واحدًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 فالرقبة "مطلقة" في كفارة الظهار في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} 1. ومطلقة في كفارة اليمين في قوله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} 2. ومقيدة بالإيمان في كفارة القتل الخطأ في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} 3. وإذا نظرنا إلى أسباب الكفارة في الآيات الثلاث وجدناها مختلفة فالسبب في الآية الأولى "الظهار" وفي الثانية "الحنث باليمين" وفي الثالثة "قتل المؤمن خطأ". وإذا نظرنا إلى الحكم وجدناه واحدًا وهو عتق الرقبة لكنه في الظهار واليمين مطلق، وفي القتل مقيد فهل يحمل المطلق في هذه الصورة على المقيد فنوجب في كفارة الظهار، واليمين أن تكون الرقبة مؤمنة أيضًا. هذا ما وقع الخلاف فيه بين العلماء. فذهب الأحناف وأكثر المالكية وروي عن الإمام أحمد إلى أنه لا يحمل المطلق على المقيد فيجوز في كفارة الظهار واليمين عتق الرقبة الكافرة. ولا يجوز في كفارة القتل إلا الرقبة المؤمنة. وذهب أكثر الشافعية والحنابلة إلى حمل المطلق على المقيد فيجب أن تكون الرقبة مؤمنة في جميع الكفارات. الثانية: أن يكون القيد متعددًا. فالصوم "مطلق" في كفارة اليمين في قوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ   1 سورة المجادلة: الآية 3. 2 سورة المائدة: الآية 89. 3 سورة النساء: الآية 92. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 أَيَّام} 1 وفي قضاء رمضان: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} 2. ومقيد بالتتابع في كفارة القتل في قوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ} 3. وكذلك في كفارة الظهار في قوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} 4. ومقيد بالتفريق في صوم المتمتع بالحج في قوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} 5. واتفق العلماء على أنه لا يحمل المطلق على المقيد لاختلاف القيد وعدم وجود مرجح لأحد القيود. وحمله على أحدهما دون الآخر بلا دليل تحكم فليس أحدهما بأولى من الآخر6.   1 سورة المائدة: الآية 89. 2 سورة البقرة: الآية 184. 3 سورة النساء: الآية 92. 4 سورة المجادلة: الآية 3. 5 سورة البقرة: الآية 196. 6 إتحاف ذوي البصائر: د. النملة ج6 ص363. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 المنطوق والمفهوم مدخل ... المنطوق والمفهوم: حين تريد نقل معنى من ذهن إلى ذهن، فإن الوسيلة لذلك هي الكلمات والألفاظ، فالألفاظ هي قوالب المعاني، أو الظروف الحاملة للمعاني، فكل لفظ ينقل جزءًا من المعنى حتى يتم نقل المعنى كاملًا. ودلالة الألفاظ على المعاني، إما أن تستفاد من جهة النطق والتصريح أو من جهة التعريض والتلويح، ومن التصريح ما يخفى حتى يكاد أن يكون تلويحًا ومن التلويح ما يظهر حتى يكاد أن يكون تصريحًا، وتحت هذه الحالات يدرس العلماء المنطوق والمفهوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 المنطوق مدخل ... المنطوق: وهو ما دل عليه اللفظ في محل النطق1، أو دلالة اللفظ على حكم نطق به مطابقة أو تضمنًا أو التزامًا2. وينقسم بالمنطوق إلى قسمين:   1 بيان المختصر شرح مختصر ابن الحاجب: أبو الثناء الأصفهاني ج2 ص432، وإرشاد الفحول: الشوكاني ج2 ص54. 2 بيان المختصر ج2 ص433. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 الأول منطوق صريح مدخل ... الأول: منطوق صريح: ويراد به دلالة اللفظ على الحكم مطابقة أو تضمنًا، وقيل: هو ما وضع له اللفظ1 وهو ثلاثة أنواع:   1 بيان المختصر: ج2 ص433. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 الأول: النص: وهو ما أفاد بنفسه معنى صريحًا لا يحتمل غيره، وقيل: "ما لا يحتمل التأويل"1 وقيل: ما أفاد معنى لا يحتمل غيره2 ومثاله قوله تعالى: {فَصِيَامُ   1 إرشاد الفحول: ج2 ص54. 2 الإتقان: السيوطي ج2 ص41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَة} 1 فإن قوله "عشرة" دفع توهم دخول الثلاثة في السبعة، وقوله "كاملة" تأكيد لهذا المعنى ودفع لأي احتمال آخر غير العشرة. وقال قوم بندرة هذا النوع في الكتاب والسنة ويجاب: بأن هذا إن عز حصوله بوضع الصيغ ردًّا إلى اللغة فما أكثره مع القرائن الحالية والمقالية2.   1 سورة البقرة: الآية 196. 2 الإتقان: السيوطي ج2 ص41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 الثاني: الظاهر وهو ما أفاد بنفسه معنى صريحًا واحتمل غيره احتمالًا مرجوحًا، "وقيل: ما يسبق إلى الفهم منه عند الإطلاق معنى مع احتمال غيره احتمالًا مرجوحًا"1. ومثال قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} 2 فإنه يقال لانقطاع الدم طهر، وللاغتسال منه طهر، والثاني أظهر وهو الراجح.   1 الإتقان: السيوطي ج2 ص41. 2 سورة البقرة: الآية 222. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 الثالث: المؤول وهو ما حمل لفظه على المعنى المرجوح لدليل. ومثاله قوله تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} 1 فالظاهر من كلمة جناح هو جناح الريش، ويستحيل حمله على الظاهر لاستحالة أن يكون للإنسان أجنحة فيحمل على الخضوع وحسن الخلق2 وبهذا صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل وهو هنا الاستحالة   1 سورة الإسراء: الآية 24. 2 الإتقان: السيوطي ج2 ص41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 الثاني منطوق غير صريح مدخل ... الثاني: منطوق غير صريح: ويراد به دلالة اللفظ على الحكم التزامًا، وهو نوعًا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 الأول: دلالة الاقتضاء: وهو ما توقفت دلالة اللفظ فيه على إضمار: ومثاله قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} 1 فإن دلالة اللفظ على المعنى تلزم إضمار كلمة "فأفطر" والمعنى فمن كان منكم مريضًا أو على سفر فأفطر فعدة من أيام أخر لأن قضاء الصوم إنما يجب إذا أفطر وليس لمجرد السفر أو المرض. وكقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} 2 فإن دلالة اللفظ على المعنى تلزم إضمار كلمة "وطء" أو "نكاح" لأن التحريم ليس لأعيان الأمهات فلزم إضمار فعل يتعلق به التحريم. وكقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} 3 أي فحلق ففدية، لأن الفدية إنما تجب إذا حلق وليس لمجرد المرض أو الأذى. وهذا النوع من باب إيجاز القصر في علوم البلاغة. وسمي دلالة اقتضاء لاقتضاء الكلام لفظًا زائدًا على المنطوق4.   1 سورة البقرة: الآية 184. 2 سورة النساء: الآية 23. 3 سورة البقرة: الآية 196. 4 مباحث في علوم القرآن: الشيخ مناع القطان ص252. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 الثاني: دلالة الإشارة وهو: ما دل لفظه على ما لم يقصد به قصدا أوليًّا بل من لازمه. ومثاله: قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} 1 فإنه يلزم من جواز الأكل والشرب والجماع حتى الفجر بحيث لا يتسع الوقت للغسل من الجنابة أن يصبح الصائم على جنابة فتكون دلالة اللفظ أشارت إلى جواز إصباح الصائم على جنابة وهو معنى لم يقصد باللفظ قصدًا أوليًّا بل من لوازمه. قال السيوطي وحكى هذا الاستنباط عن محمد بن كعب القرظي2. وكقوله تعالى في بيان مصارف الغنيمة: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} 3 ففي وصفهم بأنهم فقراء مع أن لهم أموالًا ودورًا في مكة إشارة إلى تملك الكفار أموالهم بالاستيلاء عليها. وهي دلالة غير مقصودة بالنص لأنها إنما سيقت لبيان مصارف الفيء والغنيمة واستحقاقهم لسهم فيها لا لبيان أن الكفار يملكون أموال المسلمين بالاستيلاء، لكن وقعت الإشارة إليه من حيث أن الله سماهم فقراء مع إضافة الأموال إليهم، فلو كانت أموالهم باقية على ملكهم لما صحت تسميتهم بالفقراء إلا مجازًا وهو خلاف الأصل4. وقد وقع خلاف بين العلماء في اعتبار دلالة الاقتضاء ودلالة الإشارة من المنطوق أو المفهوم فجعلهما الآمدي وابن الحاجب والسيوطي وغيرهم من المنطوق، وجعلهما الغزالي في المستصفى والبيضاوي والزركشي من المفهوم5.   1 سورة البقرة: الآية 187. 2 الإتقان: الآية ج2 ص42. 3 سورة الحشر: الآية 8. 4 البحر المحيط: الزركشي: ج5 ص123، 124 بتصرف. 5 انظر المرجع السابق: ج5 ص123؛ الإتقان للسيوطي ج2 ص41، 42. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 أقسام المنطوق عامة مدخل ... والخلاصة أن المنطوق خمسة أقسام: النص، الظاهر، المؤول، دلالة الاقتضاء، دلالة الإشارة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 المفهوم : وهو ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق1. وينقسم إلى قسمين: 1- مفهوم موافقة. 2- مفهوم مخالفة.   1 بيان المختصر: الأصفهاني ج2 ص432، 433؛ والإتقان: للسيوطي ج2 ص42، وإرشاد الفحول: الشوكاني ج2 ص54. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 أقسامه : 1- مفهوم الموافقة: هو ما وافق حكمه حكم المنطوق. وهو نوعان: النوع الأول: فحوى الخطاب: وهو ما كان المفهوم فيه أولى بالحكم من المنطوق: كقوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} 2 فإن تحريم التأفيف منطوق والمفهوم تحريم الضرب وهو أولى بالحكم، فالضرب أشد حرمة من التأفيف مع أن تحريم التأفيف منطوق وتحريم الضرب مفهوم، وهو تنبيه بالأدنى على الأعلى. وكقوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} 3 فالمنطوق أنه أمين على المبلغ على المبلغ الكثير، والمفهوم من باب أولى أنه لا يخون في المبلغ القليل، وهو تنبيه بالأعلى على الأدنى.   1 سورة الإسراء: الآية 23. 2 سورة آل عمران: الآية 75. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 النوع الثاني: لحن الخطاب: وهو ما كان المفهوم فيه مساويًا لحكم المنطوق كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} 1 فالمنطوق تحريم أكل مال اليتيم ظلمًا، والمفهوم تحريم إحراقه أو أي استهلاك له بغير حق، لأن ذلك مساوٍ للأكل في الإتلاف2. 2- مفهوم المخالفة: هو ما خالف حكمه حكم المنطوق. أو "دلالة اللفظ على ثبوت حكم للمسكوت عنه مخالف لما دل عليه المنطوق، لانتفاء قيد من القيود المعتبرة في الحكم"3. والمخالفة بين المنطوق والمفهوم تتنوع بتنوع القيد في الحكم المنطوق، فقد تكون المخالفة بسبب الشرط في المنطوق دون المفهوم، أو الصفة أو غير ذلك، وعلى هذا فمفهوم المخالفة أنواع منها: 1- مفهوم الصفة: والمراد بها الصفة المعنوية، وذلك بأن يكون في المنطوق صفة لا توجد في المفهوم فيختلف الحكم، سواء كانت هذه الصفة: نعتًا: كقوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} 4 فالمنطوق أن شهادة الفاسق لا تقبل، والمفهوم أن شهادة العدل تقبل. فيجب قبول خبر الواحد الثقة.   1 سورة النساء: الآية 10. 2 الإتقان: السيوطي ج2 ص42. 3 تفسير النصوص: د. محمد أديب صالح ج1 ص609. 4 سورة الحجرات: الآية 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 حالًا كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} 1 فالمنطوق أن الجزاء يجب على من كان متعمدًا والمفهوم أن غير المتعمد لا يجب عليه شيء. ظرفًا: زمنيًّا كقوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} 2 ومفهومه أن الحج في غير هذه الأشهر لا يصح. أو ظرفًا مكانيًّا كقوله سبحانه: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} 3 ومفهومه أن ذكر الله عند غير المشعر الحرام لا يدخل في هذه الآية. عددا: كقوله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} 4 فالمنطوق ثمانين جلدة والمفهوم ألا يجلدوا أقل من الثمانين ولا أكثر منها. 2- مفهوم شرط: وذلك بأن يكون في المنطوق شرط، لا يوجد في المفهوم فيختلف الحكم، كقوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} 5 والمفهوم أن غير الحامل لا تجب لها النفقة لعدم وجود الشرط وهو الحمل. 3- مفهوم غاية: وهو أن يكون الحكم في المنطوق مقيدًا بغاية، والمفهوم أن الحكم يزول بعدها كقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} 6 فالمنطوق إباحة الأكل والشرب حتى طلوع الفجر، والمفهوم تحريم الأكل والشرب بعد طلوع الفجر.   1 سورة المائدة: الآية 95. 2 سورة البقرة: الآية 197. 3 سورة البقرة: الآية 198. 4 سورة النور: الآية 4. 5 سورة الطلاق: الآية 6. 6 سورة البقرة: الآية 187. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 وكقوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} 1 فالمنطوق تحريم جماع الحائض قبل الطهر والمفهوم إباحته بعد الطهر. 4- مفهوم حصر: وهو أن يكون الحكم محصورًا في صورة المنطوق والمفهوم ألا يتحقق الحكم في غير هذه الصورة كقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 2 فالمنطوق أن العبادة لله والاستعانة بالله، والمفهوم ألا يعبد غير الله، ولا يستعان بغيره. وكقوله تعالى: {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ} 3 فالمنطوق أن الإله هو الله والمفهوم أن الألوهية لا تكون لغيره سبحانه.   1 سورة البقرة: الآية 222. 2 سورة الفاتحة: الآية 5. 3 سورة طه: الآية 98. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 حكم الاحتجاج بالمفهوم : أما مفهوم الموافقة فاحتج به الجمهور ولم يخالف في الاحتجاج به إلا الظاهرية. وأما مفهوم المخالفة فاحتج به الجمهور وخالفهم في ذلك الحنفية والظاهرية واستدل الجمهور على صحة الاحتجاج بمفهوم المخالفة بأدلة منها: أولًا: لما نزل قوله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} 1 قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "إني خيرت فاخترت وقد قيل لي": {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} "فلو أني أعلم أني إن زدت على السبعين غفر له لزدت" 2 وفي   1 سورة التوبة: الآية 80. 2 تفسير الطبري ج14 ص408. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 رواية "قد خيرني ربي، فوالله لأزيدن على السبعين" 1 ففهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن ما زاد على السبعين بخلاف السبعين2. ثانيًا: في قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} 3 فمنطوق الآية أنه يباح لمن لم يستطع الزواج من الحرة أن يتزوج أمة، والمفهوم أن من يستطيع أن يتزوج حرة فلا يجوز له أن يتزوج أمة. وقد أجمع العلماء على ذلك واشترطوا لإباحة الزواج من أمة عدم القدرة على الزواج من حرة احتجاجًا بمفهوم المخالفة في هذه الآية4. ثالثًا: استدلوا بما ذهب إليه ابن عباس -رضي الله عنهما- من عدم توريث الأخت مع البنت احتجاجًا بمفهوم المخالفة من قوله تعالى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} 5، 6 فالمفهوم أنه إذا كان له ولد "ابن أو بنت" فإن الأخت لا ترث. رابعًا: استدلوا بما روي أن يعلى بن أمية قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما با لنا نقصر وقد أمنا، وقد قال الله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ} 7 فقال عمر: لقد عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك فقال لي: " هي صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته" فمنطوق الآية أن الصلاة تقصر في حالة الخوف والمفهوم أن   1 مباحث في علوم القرآن: مناع القطان ص255. 2 المرجع السابق: الموضع نفسه. 3 سورة النساء: الآية 25. 4 المهذب: الشيرازي ج2 ص44، 45؛ وتبيين الحقائق: الزيلعي ج2 ص111، وتفسير النصوص: د. محمد أديب صالح ج1 ص671. 5 سورة النساء: الآية 176. 6 تفسير الطبري: ج9 ص443. 7 سورة النساء: الآية 101. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 لا تقصر في حالة الأمن، وهذا ما فهمه يعلى وفهمه عمر -رضي الله عنه- قبله. خامسًا: ومن الأدلة العقلية1. أنه لو كانت الصلاة تقصر في حالة الأمن وحالة الخوف لما كان في ذكر الخوف في الآية فائدة لأنها تقصر بدونه، فدل ذكره على أن عدمه يؤثر في الحكم تأثيرًا مخالفًا، وهكذا في بقية الأمثلة. واستدل الحنفية ومن وافقهم على عدم الاحتجاج بمفهوم المخالفة بأدلة منها2: 1- أن فوائد القيود التي يقيد بها اللفظ كثيرة، ولا يلزم أن تكون محصورة بتقييد الحكم، فلا نستطيع أن نحكم أن الفائدة لذلك القيد هي تخصيص الحكم بالمنطوق، ونفيه عما لا قيد فيه. 2- لم يعمل بمفهوم المخالفة في كثيرة من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، إذ لو عمل به لأدت هذه النصوص إلى معانٍ فاسدة، أو أحكام تنافي المقرر شرعًا. فقوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} 3. لم يكن تخصيص الأربعة بالحرم دليلًا على إباحة الظلم في غيرها من الأشهر. 3- لو كان مفهوم المخالفة معتبرًا لما احتيج إلى النص عليه صراحة كما في قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} 4. وقوله سبحانه: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ   1 انظر تفسير النصوص: د. محمد أديب صالح ج1 ص671، 672. 2 أصول الفقه الإسلامي: وهبة الزحيلي ج1 ص368. 3 سورة التوبة: الآية 36. 4 سورة البقرة: الآية 222. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} 1. ففي الآيتين نص الله سبحانه على حكم المسكوت عنه، ولم يكف مفهوم المخالفة لمعرفة حكم المسكوت عنه. والرد على هذا القول ظاهر ببيان الشروط التي ذكرها الجمهور للاحتجاج بمفهوم المخالفة.   1 سورة النساء: الآية 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 شروط الاحتجاج بمفهوم المخالفة : وقد اشترط العلماء للاحتجاج بمفهوم المخالفة شروطا منها: أولًا: ألا يكون للمسكوت عنه المراد إعطاؤه حكمًا مخالفًا لحكم المنطوق دليل خاص يدل على حكمه: ومثاله قوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ} 2 فمفهوم الآية أنه في حالة الأمن لا تقصر الصلاة، والصواب أنه لا يصح الاحتجاج بهذا المفهوم؛ لأن قصر الصلاة في حالة الأمن ورد بنص آخر صريح ومنطوق، وهو أقوى من المفهوم في هذه الآية. ثانيًا: ألا يكون القيد خرج مخرج الغالب: وذلك كالقيد بالحجور في قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} 3 فالربيبة وهي بنت الزوجة تحرم على زوج الأم ومفهوم المخالفة أنها إذا لم تكن في حجر الزوج لا تحرم عليه والصحيح أنها تحرم سواء كانت في حجره أم لم تكن، وإنما ذكر القيد لأن الغالب أن بنت الزوجة تعيش عند أمها مع الزوج الجديد ولا أثر لذلك في الحكم. ثالثًا: أن لا يكون القيد المذكور لبيان فائدة أخرى غير تقييد الحكم:   1 سورة النساء: الآية 23. 2 سورة النساء: الآية 101. 3 سورة النساء: الآية 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 كالترغيب، أو الامتنان، أو التنفير، أو التفخيم، أو لبيان الواقع، فإن كان القيد لفائدة أخرى غير تقييد الحكم لم يكن له أثر في تقييد الحكم1. فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} 2 لا يدل على أن الربا لا يحرم إلا إذا كان أضعافًا مضاعفة فهو يحرم ولو كان قليلًا وإنما وصف بالأضعاف المضاعفة للتنفير مما كانوا عليه في الجاهلية من الظلم. وكقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} 3 فالقيد بالطري للامتنان وليس لتحريم غير الطري.   1 تفسير النصوص: د. محمد أديب صالح ج1 ص678. 2 سورة آل عمران: الآية 130. 3 سورة النحل: الآية 14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 المصادر 1: 1- إتحاف فضلاء البشر: أحمد بن محمد البنا، دار الندوة الجديدة، بيروت. 2- الإتقان في علوم القرآن: جلال الدين السيوطي، الطبعة الثانية، 1343هـ المطبعة الأزهرية بمصر والطبعة الثالثة 1370هـ، مصطفى البابي الحلبي. 3- إجمال البيان في مباحث من علوم القرآن: د. عبد الله أحمد عثمان أحميد، جامعة قاريونس، 1398هـ. 4- أخلاق أهل القرآن: أبو بكر الآجري: تحقيق محمد عمرو بن عبد اللطيف، دار الباز، مكة المكرمة. 5- أسباب النزول: أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي النيسابوري، مؤسسة الحلبي وشركاه، القاهرة، 1388هـ. 6- أسماء القرآن الكريم في القرآن: د. خمساوي أحمد الخمساوي، دار التحرير، القاهرة. 7- أصول التفسير وقواعده: خالد عبد الرحمن العك، دار النفائس، الطبعة الثانية، 1406هـ. 8- أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن: محمد الأمين الجكني الشنقيطي عالم الكتب، بيروت. 9- البرهان في علوم القرآن: بدر الدين الزركشي تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الفكر الطبعة الثالثة 1400هـ. 10- بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز: الفيروزآبادي تحقيق محمد علي النجار، لجنة إحياء التراث الإسلامي مصر، الطبعة الثانية 1406هـ. 11- تاريخ التراث العربي: فؤاد سزكين ترجمة د. محمود حجازي ود. فهمي أبو الفضل، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1978م.   1 لم أذكر مراجع الأبواب الخمسة الأخيرة، وسأذكرها إن شاء الله بعد اكتمال مباحث الكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 12- التبيان في آداب حملة القرآن: النووي تحقيق: عبده الكوشك، مكتبة الإحسان، دمشق، الطبعة الأولى 1408هـ. 13- التذكار في أفضل الأذكار: أبو عبد الله محمد بن أحمد القرطبي، تحقيق ثروت محمد نافع، دار التوحيد - مصر. 14- تذكرة السامع والمتكلم: بدر الدين بن جماعة، دار الكتب العلمية. 15- تفسير ابن كثير "تفسير القرآن العظيم" مكتبة النهضة الحديثة بمصر، الطبعة الأولى، 1384هـ. 16- التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي، دار الكتب الحديثة، الطبعة الأولى، 1381هـ. 17- توضيح الأفكار: محمد بن إسماعيل الصنعاني، المكتبة السلفية، المدينة المنورة. 18- تهذيب اللغة: أبو منصور الأزهري، تحقيق عبد الحليم النجار، الدار المصرية للتأليف والترجمة. 19- جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ابن جرير الطبري، تحقيق وتخريج محمود وأحمد شاكر، دار المعارف بمصر. وطبعة المطبعة الكبرى الأميرية ببولاق مصر سنة 1328هـ. 20- الجامع لأحكام القرآن: أبو عبد الله القرطبي أعاد طبعه دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1965هـ. 21- الجامع الصحيح: أبو عيسى الترمذي تحقيق وشرح أحمد محمد شاكر، دار إحياء التراث العربي، بيروت. 22- جمال القراء وكمال الإقراء: علم الدين السخاوي تحقيق د. علي البواب مكتبة التراث، مكة، الطبعة الأولى، 1408هـ. 23- جماليات المفردة القرآنية في كتب الإعجاز والتفسير: أحمد ياسوف، دار المكتبي، الطبعة الأولى 1415هـ، دمشق. 24- الجمع الصوتي الأول للقرآن الكريم: لبيب السعيد، دار الكتاب العربي، القاهرة، 1387هـ. 25- جوامع السيرة: ابن حزم، تحقيق إحسان عباس وناصر الدين الأسد دار المعارف بمصر. 26- الجواهر المضية في طبقات الحنفية: أبو محمد بن أبي الوفاء تحقيق د. عبد الفتاح الحلو، مطبعة عيسى البابي الحلبي، 1398هـ. 27- حلية الأولياء: أبو نعيم الأصفهاني، دار الكتب العلمية، بيروت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 28- خصائص القرآن الكريم: فهد بن عبد الرحمن الرومي، دار طيبة، الرياض، الطبعة السابعة، 1411هـ. 29- خطط الشام: محمد كرد علي مكتبة النوري، دمشق، الطبعة الثالثة، 1403هـ. 30- الدر المنثور في التفسير بالمأثور: جلال الدين السيوطي، الناشر: محمد أمين دمج، بيروت، مؤسسة الرسالة. 31- دفاع عن الإسلام: لورا فاغليري ترجمة منير البعلبكي، دار العلم للملايين، الطبعة الثانية 1963م. 32- الذيل على طبقات الحنابلة: ابن رجب، دار المعرفة، بيروت. 33- رحلة ابن بطوطة: المكتبة التجارية الكبرى بمصر 1386هـ. 34- رحلة ابن جبير: دار ومكتبة الهلال، بيروت، 1981م. 35- زاد المعاد: ابن قيم الجوزية، المطبعة المصرية ومكتبتها. 36- سنن الدارمي: دار الفكر، القاهرة، 1398هـ. 37- سنن ابن ماجه: دار الفكر، بيروت، الطبعة الثالثة. 38- سير أعلام النبلاء: شمس الدين الذهبي. أشرف على التحقيق شعيب الأرناؤوط، الطبعة الثانية 1402هـ مؤسسة الريان، بيروت. 39- سيرة ابن هشام: تحقيق السقا، الأبياري، شلبي، مطبعة مصطفى الحلبي مصر 1355هـ. 40- شرح السنة: أبو محمد الفراء البغوي تحقيق شعيب الأرناؤوط ومحمد زهير الشاويش، رئاسة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، الرياض، الطبعة الأولى 1400هـ. 41- شرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف: الحسن العسكري تحقيق عبد العزيز أحمد الناشر، مصطفى الحلبي، مصر، الطبعة الأولى، 1383هـ. 42- صحيح البخاري: المكتبة الإسلامية، استنبول، تركيا، 1979م. 43- صحيح مسلم: تحقيق وتصحيح وترقيم محمد فؤاد عبد الباقي رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، الرياض 1400هـ. 44- طبقات المفسرين: جلال الدين السيوطي تحقيق علي محمد عمر، مكتبة وهبة الطبعة الأولى. 45- طبقات المفسرين: شمس الدين الداودي تحقيق علي محمد عمر، مكتبة وهبة الطبعة الأولى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 46- الطرق الحكمية في السياسة الشرعية: ابن قيم الجوزية مطبعة الاتحاد الشرقي، دمشق. 47- غرائب القرآن ورغائب الفرقان: نظام الدين الحسن بن محمد النيسابوري تحقيق: إبراهيم عطوة عوض، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي مصر، الطبعة الأولى 1381هـ. 48- فتح الباري: ابن حجر العسقلاني، تصحيح عبد العزيز بن باز، ترقيم محمد عبد الباقي، دار الفكر، تصوير عن الطبعة السلفية. 49- فتح المغيث شرح ألفية الحديث: شمس الدين السخاوي، دار الكتب العلمية، بيروت الطبعة الأولى 1403هـ. 50- فضائل القرآن: ابن كثير الدمشقي، دار الأندلس. 51- فنون الأفنان في عيون علوم القرآن: ابن الجوزي، تحقيق حسن ضياء الدين عتر دار البشائر الإسلامية، بيروت، الطبعة الأولى 1408هـ. 52- الفهرست: ابن النديم: دار الباز، مكة المكرمة. 53- في رحاب التفسير: عبد الحميد كشك، المكتب المصري الحديث، القاهرة. 54- الكامل في التاريخ: ابن الأثير، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الرابعة 1403هـ. 55- كتاب النبي صلى الله عليه وسلم: د. محمد مصطفى الأعظمي، المكتب الإسلامي الطبعة الثالثة 1401هـ، بيروت. 56- كتاب الوحي د. أحمد عبد الرحمن عيسى، دار اللواء، الرياض، الطبعة الأولى 1400هـ. 57- الكشاف: الزمخشري، طبعة انتشارات آفتات، تهران، وطبعة دار المعرفة بيروت. 58- كشف الأستار عن زوائد البزار: نور الدين علي الهيثمي تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى 1399هـ. 59- كشف الظنون: حاجي خليفة، دار العلوم الحديثة، بيروت. 60- لباب النقول في أسباب النزول: جلال الدين السيوطي دار إحياء العلوم بيروت، الطبعة الأولى، 1978م. 61- لسان الميزان: ابن حجر العسقلاني، مؤسسة الأعلمي، بيروت، الطبعة الثانية، 1390هـ. 62- مباحث في علوم القرآن: مناع القطان، مكتبة المعارف، الرياض الطبعة الثامنة 1401هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 63- مباحث في علوم القرآن: د. صبحي الصالح دار العلم للملايين الطبعة الثامنة 1974م. 64- مجمع الزوائد: علي الهيثمي، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الثالثة 1402هـ. 65- مجموع الفتاوى ابن تيمية: جمع عبد الرحمن بن قاسم وابنه محمد، مطابع الرياض، الطبعة الأولى، 1381هـ. 66- مخلفات الرسول -صلى الله عليه وسلم- في المسجد الحسيني، د. سعاد ماهر دار النشر لجامعة القاهرة 1989م. 67- مدخل إلى القرآن الكريم: د. محمد عبد الله دراز، دار القلم، الكويت الطبعة الثانية 1399هـ. 68- المدخل لدراسة القرآن الكريم: د. محمد محمد أبو شهبة، الطبعة الثانية. 69- مذاهب التفسير الإسلامي: اجنتس جولد تسيهر ترجمة د. عبد الحليم النجار، دار اقرأ بيروت، الطبعة الثانية، 1403هـ. 70- المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز: أبو شامة المقدسي تحقيق طيار قولاج، دار صادر، بيروت 1395. 71- المستدرك: الحاكم النيسابوري، دار الكتب العلمية. 72- مسند الإمام أحمد بن حنبل، المكتب الإسلامي، دار صادر بيروت، مصورة عن طبعة المطبعة الميمنية 1313هـ، وطبعة دار المعارف بمصر سنة 1373هـ. الطبعة الرابعة بتحقيق وتخريج أحمد محمد شاكر. 73- مشاهير علماء نجد وغيرهم: عبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ، الطبعة الأولى، 1392هـ. 74- المصاحف: أبو بكر عبد الله بن أبي داود السجستاني، دار الباز، مكة المكرمة، الطبعة الأولى 1405هـ. 75- معجم الأدباء: ياقوت الحموي، دار إحياء التراث العربية، بيروت الطبعة الأخيرة. 76- معجم المفسرين: عادل نويهض، مؤسسة نويهض الثقافية الطبعة الأولى 1403هـ. 77- مفتاح السعاد: طاش كبرى زاده مراجعة وتحقيق كامل بكري وعبد الوهاب أبو النور، دار الكتب الحديثة، القاهرة. 78- مقدمة في أصول التفسير: ابن تيمية تحقيق د. عدنان زرزور، دار القرآن الكريم الكويت، الطبعة الأولى، 1391هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 79- المقنع: أبو عمرو الداني تحقيق: محمد أحمد دهمان، دار الفكر، دمشق، 1403هـ. 80- مناهج المفسرين: د. مساعد مسلم آل جعفر، ود. محيي هلال السرحان، وزارة التعليم العالي، العراق، الطبعة الأولى، 1980م. 81- مناهل العرفان في علوم القرآن: محمد عبد العظيم الزرقاني، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة. 82- الموافقات في أصول الشريعة، أبو إسحاق الشاطبي، بشرح عبد الله دراز وترقيم محمد عبد الله دراز، دار المعرفة، بيروت. 83- ميزان الاعتدال: محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، تحقيق: على وفتحية البجاوي، دار الفكر العربي. 84- النبأ العظيم: د. محمد عبد الله بن دراز، دار القلم، الكويت، الطبعة الرابعة، 1397هـ. 85- النشر في القراءات العشر، ابن الجزري، دار الكتب العلمية ببيروت. 86- نور الثقلين: "عبد علي" الحويزي دار الكتب العلمية، قم - إيران. 87- النهاية في غريب الحديث والأثر: ابن الأثير تحقيق محمود الطناحي المكتبة الإسلامية. 88- الهدى والبيان في أسماء القرآن: صالح بن إبراهيم البليهي، الطبعة الأولى 1397هـ، المطابع الأهلية للأوفست، الرياض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 الفهارس ... الفهرس: الموضوع رقم الصفحة المقدمة 5 أولًا: تعريف علوم القرآن الكريم: المعجزة الكبرى 7 تعريف علوم القرآن 16 تعريف العلوم 16 تعريف القرآن 16 التعريف بالقرآن لغة 18 التعريف بالقرآن اصطلاحًا 21 الفروق بين القرآن الكريم والحديث القدسي 22 أسماء القرآن الكريم وصفاته 25 تعريف علوم القرآن بالمعنى الإضافي 29 تعريف علوم القرآن كفن مدون 30 موضوع علوم القرآن الكريم 30 ثمرة علوم القرآن الكريم 30 ثانيًا: نشأة علوم القرآن الكريم وتطورها: في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم 32 في عهد الصحابة رضي الله عنه 32 في عهد التابعين رحمهم الله تعالى 35 بداية التأليف في علوم القرآن الكريم "عهد التدوين" 37 ظهور اصطلاح علوم القرآن الكريم 41 أهم المؤلفات في علوم القرآن الكريم 41 أهم المؤلفات في علوم القرآن كفن مدون "قديمًا" 41 أهم المؤلفات في علوم القرآن كفن مدون "حديثا" 41 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 الموضوع رقم الصفحة ثالثًا: فضائل القرآن الكريم وآداب تلاوته: فضائله العامة: 47 في القرآن 48 في السنة النبوية 49 فضائل بعض سوره وآياته 50 فضل تلاوته 51 فضل استماعه 53 فضل الاجتماع لتدارسه 53 آداب التلاوة والاستماع 54 رابعًا: خصائص القرآن الكريم 57 أولًا: خصائص تتعلق بفضله وشرفه ومكانته 58 ثانيًا: خصائص تتعلق بأسلوبه ولغته 60 ثالثًا: خصائص عامة 62 خامسًا: جمع القرآن الكريم: أنواعه 66 جمع القرآن بمعنى حفظه في الصدور: الدليل عليه 66 حكمه 67 فضله 67 حفظ الرسول صلى الله عليه وسلم 67 حفظ الصحابة رضي الله عنهم 68 إشكال 70 جواب 70 من دواعي حفظ الصحابة للقرآن 71 حفظ التابعين رحمهم الله تعالى 72 خصائص جمع القرآن بمعنى حفظه في الصدور 73 جمع القرآن بمعنى كتابته وتدوينه في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم 74 كتاب الوحي 74 صفته 75 أدوات الكتابة 75 مزاياه 76 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 الموضوع رقم الصفحة في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه سببه 78 تاريخه 79 أسباب اختيار زيد رضي الله عنه لجمعه 79 منهجه في الجمع 80 مميزات هذا الجمع 82 مكانته 82 تسمية المصحف 83 خبر هذا المصحف 84 في عهد عثمان رضي الله عنه 84 سببه 84 تاريخه 85 فكرة الجمع 86 اللجنة المختارة 86 المنهج لهذا الجمع 86 مزاياه 88 الفروق بين جمع أبي بكر وعثمان رضي الله عنهما 90 إنفاذ المصاحف 92 موقف الصحابة من هذا الجمع 94 عدد المصاحف التي أمر عثمان رضي الله عنه بنسخها 95 خبر هذه المصاحف 97 جمعه بمعنى تسجيله تسجيلًا صوتيًّا 99 تعريف المصحف المرتل 100 المراد به وأدواته 100 أسبابه ودواعيه 101 تاريخه 101 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 الموضوع رقم الصفحة بدء الطبع وكيفية التسجيل 101 القراء 101 مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف 102 ترتيب سورة القرآن الكريم وآياته 104 سورة القرآن الكريم 104 طريق معرفة السورة 105 عدد سور القرآن 105 أسماء السور 105 مصدر التسمية 106 أقسام السور 107 أقوال العلماء في ترتيب السور 108 حكمة تسوير القرآن 113 آيات القرآن الكريم 115 تعريف الآية 115 إطلاق الآية 116 عدد آيات القرآن الكريم 116 ترتيب الآيات 117 طريق معرفة بداية الآيات ونهايتها 118 فوائد معرفة الآيات 119 فوائد عامة 120 سادسًا: المكي والمدني 123 عناية العلماء بالمكي والمدني 124 أنواع المكي والمدني 125 السور المكية والسور المدنية 125 طريق معرفة المكي والمدني 126 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 الموضوع رقم الصفحة أقوال العلماء في الفرق بين المكي والمدني "تعريف المكي والمدني" 128 ضوابط السور المكية 129 مميزات السور المكية 131 ضوابط السور المدنية 132 مميزات السور المدنية 133 فوائد معرفة المكي والمدني 133 سابعًا: أسباب النزول 135 عناية العلماء بأسباب النزول 135 تعريف سبب النزول 136 طريق معرفة سبب النزول 138 فوائد معرفة سبب النزول 140 الاستفادة من معرفة سبب النزول في مجال التربية والتعليم 147 ثامنًا: التفسير بالمأثور وأهم المؤلفات فيه: 149 تعريف التفسير 149 مناهج التفسير 150 التفسير بالمأثور وأهم المؤلفات فيه 151 تعريفه 151 مكانته 151 مصادره 152 أسباب الاختلاف فيه 153 حكمه 154 أهم المؤلفات فيه 155 أولًا: جامع البيان في تفسير القرآن: للطبري 155 ثانيًا: تفسير القرآن العظيم: ابن كثير 157 ثالثًا: الدر المنثور: السيوطي 158 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 الموضوع رقم الصفحة رابعًا: أضواء البيان: الشنقيطي 158 تاسعًا: التفسير بالرأي وأهم المؤلفات فيه 160 تعريفه 160 أقسامه 160 التفسير بالرأي المحمود وحكمه 160 التفسير بالرأي المذموم وحكمه 160 أهم المؤلفات في التفسير بالرأي 161 أولا: الكشاف: الزمخشري 161 ثانيًا: مفاتيح الغيب: الرازي 163 ثالثًا: تيسير الكريم الرحمن: ابن سعدي 164 رابعًا: في ظلال القرآن: سيد قطب 164 عاشرًا: شروط المفسر وآدابه: 167 شروط المفسر 168 آداب المفسر 169 11- الوحي 171 حاجة البشر إليه 171 تعريف الوحي لغة 174 أنواعه بالمعنى اللغوي 175 الوحي شرعًا 177 أنواعه بالمعنى الشرعي 178 كيفية وحي الله سبحانه وتعالى إلى الملائكة عليهم السلام 181 كيفية وحي الله سبحانه وتعالى إلى الرسل عليهم السلام 183 كيفية وحي الملك إلى الرسول 184 إمكانية وقوع الوحي 188 أدلة وقوع الوحي 190 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 الموضوع رقم الصفحة 12- نزول القرآن الكريم 192 أدلته 193 أقوال العلماء في نزول القرآن الكريم 193 القول الأول 193 القول الثاني 196 القول الثالث 196 القول الرابع 197 الراجح 198 نزول القرآن جملة 199 كيفيته 199 دليله 200 واسطته 201 مدته 201 حكمته 202 اختصاص القرآن الكريم بنزوله جملة 204 نزول القرآن الكريم منجمًا 204 كيفيته 204 واسطته 204 دليله 205 مقدار ما ينزل في كل مرة 205 مدته 206 الحكمة في نزول القرآن منجمًا 208 أولًا 208 ثانيًا 214 ثالثًا 215 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 الموضوع رقم الصفحة رابعًا 220 خامسًا 221 سادسًا 222 الاستفادة من نزول القرآن منجمًا في مجال التربية والتعليم 224 13- أول ما نزل وآخر ما نزل 227 أقوال العلماء في أول ما نزل 228 أقول العلماء في أول ما نزل من القرآن على الإطلاق 228 الأول 229 الثاني 231 الثالث 232 الرابع 233 أقوال العلماء في آخر ما نزل 233 الأول 234 الثاني 235 الثالث 236 الرابع 238 الخامس 238 السادس 239 السابع 240 الثامن 241 إشكال ودفعه 242 أوائل وأواخر مخصوصة 244 أولًا: أول ما نزل وآخر ما نزل في الخمر 244 ثانيًا: أول ما نزل وآخر ما نزل في الربا 249 ثالثًا: أول ما نزل وآخر ما نزل في الجهاد 250 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 الموضوع رقم الصفحة فوائد معرفة أول ما نزل وآخر ما نزل 254 14- إعجاز القرآن الكريم 256 تعريف المعجزة لغة 256 المعجزة في القرآن الكريم 258 شروط المعجزة 260 جواز وقوع المعجزة 262 المراد بإعجاز القرآن الكريم 263 إثبات إعجاز القرآن الكريم 264 عناية العلماء به، وأهم المؤلفات فيه 266 مراحل التحدي بالقرآن الكريم 270 مقدار المعجزة من القرآن الكريم 271 وجوه الإعجاز في القرآن الكريم 272 القول الأول 273 القول الثاني 275 القول الثالث 279 القول الرابع 280 القول الخامس 281 الإعجاز اللغوي 282 الإعجاز العلمي 290 المراد به 290 أقوال العلماء فيه 290 المؤيدون للتفسير العلمي 291 أدلتهم 292 المعارضون للتفسير العلمي 293 أدلتهم 294 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 الموضوع رقم الصفحة الرأي المختار 295 من المؤلفات في الإعجاز العلمي 297 أمثلة للتفسير العلمي 298 الإعجاز التشريعي 300 منهج القرآن في التشريع 301 أولًا: تربية الفرد 301 ثانيًا: بناء الأسرة 307 ثالثًا: بناء المجتمع 308 مزايا التشريع القرآني 312 15- القراءات والقراء 314 القراءات لغة 314 القراءات اصطلاحًا 314 تعريف علم القراءات 315 موضوعه 315 استمداده 315 حكمه 315 ثمرته وفائدته 315 مكانته 315 نشأة علم القراءات 316 المراحل التي مر بها علم القراءات 317 من أهم المؤلفات في القراءات 322 شروط القراءة الصحيحة 323 أنواع القراءات 326 حكم هذه القراءات 330 القراء 331 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 الموضوع رقم الصفحة مراتب القراء 331 تعريف المقرئ 331 تاريخ القراء وأحكام قراءتهم 331 فوائد تعدد القراءات 335 16- رسم المصحف 338 تعريفه 339 عناية العلماء به 340 قواعد رسم المصحف 342 القاعدة الأولى: قاعدة الحذف 343 القاعدة الثانية: قاعدة الزيادة 348 القاعدة الثالثة: قاعدة البدل 351 القاعدة الرابعة: قاعدة الهمز 356 رسم بياني لهذه القاعدة 360 القاعدة الخامسة: قاعدة الوصل والفصل 361 القاعدة السادسة: ما فيه قراءتان 363 فوائد ومزايا رسم المصحف 365 طريق معرفة رسم المصحف 369 القول الأول: أنه توقيفي 369 القول الثاني: أنه اصطلاحي 370 الرأي الراجح 371 حكم التزام الرسم العثماني 372 القول الأول: وجوب التزامه 372 القول الثاني: وجوب مخالفته 373 القول الثالث: جواز كتابته بالرسم الإملائي للتعليم 374 الرأي الراجح 375 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 الموضوع رقم الصفحة نقط المصحف وشكله وتجزئته 377 تجزئة المصحف 379 حكم هذه الزيادات 380 حكم التجزئة وعلامات الوقف 382 مرحلة طباعة المصحف 384 إنشاء مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف 387 17- المحكم والمتشابه 390 أولًا: الإحكام والتشابه العام 390 أ- الإحكام العام 390 دليله 390 معناه 391 ب- التشابه العام 392 دليله 392 معناه 392 ثانيًا: الإحكام والتشابه الخاص 393 أقوال العلماء في المحكم والمتشابه 393 أقسام المتشابه 395 معرفة المتشابه 397 سبب الاختلاف في معرفة المتشابه 397 الحكمة من ذكر المتشابهات في القرآن الكريم 405 من حكم ذكر المتشابه الذي يمكن علمه 405 من حكم ذكر المتشابه الذي لا يمكن عليه 406 18- العام والخاص 408 العام لغة 408 العام اصطلاحًا 408 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 الموضوع رقم الصفحة صيغ العموم 410 أقسام العام 413 الفرق بين العام المراد به الخصوص والعام الذي يدخله التخصيص 416 الخاص لغة 417 الخاص اصطلاحًا 418 حكم تخصيص العموم 418 الفرق بين التخصيص والنسخ 419 أقسام المخصص 420 الأول: المخصص المتصل وأنواعه 420 الثاني: المخصص المنفصل وأنواعه 422 حكم تخصيص السنة بالقرآن 425 عموم الخطاب وخصوصه وتحته مسائل 427 1- الخطاب الخاص بالرسول صلى الله عليه وسلم 427 2- الخطاب العام بلفظ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} هل يشمل الرسول صلى الله عليه وسلم 427 3- الخطاب العام بلفظ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} هل يشمل الكفار 428 4- الخطاب العام بلفظ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} هل يشمل الكفار 428 5- وهل يشمل العبد أم لا 429 6- صيغة الجمع المذكر هل تشمل النساء 429 أحوال الألفاظ مع أسباب النزول من حيث العموم والخصوص 431 الاحتجاج بالعام بعد تخصيصه فيما عدا المخصوص 434 19- المطلق والمقيد 437 تعريف المطلق لغة 437 تعريف المطلق اصطلاحًا 437 تعريف المقيد لغة 439 تعريف المقيد اصطلاحًا 439 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 الموضوع رقم الصفحة الفرق بين العام والخاص والمطلق والمقيد 440 صور حمل المطلق على المقيد 441 20- المنطوق والمفهوم 445 المنطوق وأقسامه 446 الأول: المنطوق الصريح وأقسامه 446 الثاني: المنطوق غير الصريح وأقسامه 448 أقسام المنطوق عامة 450 المفهوم 450 أقسامه 450 1- مفهوم الموافقة 450 2- مفهوم المخالفة 451 حكم الاحتجاج بالمفهوم 453 شروط الاحتجاج بمفهوم المخالفة 456 المصادر والمراجع 458 المحتويات 464 للمؤلف 478 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 للمؤلف : تأليف: 1- منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير "مجلدين" الطبعة الخامسة 1422هـ. 2- اتجاهات التفسير في القرآن الرابع عشر "3 مجلدات" الطبعة الرابعة 1422هـ. 3- الصلاة في القرآن الكريم مفهومها وفقهها، الطبعة السابعة 1417هـ. 4- خصائص القرآن الكريم، الطبعة الحادية عشرة 1422هـ. 5- دراسات في علوم القرآن الكريم، الطبعة الحادية عشرة 1423هـ. 6- بحوث في أصول التفسير ومناهجه، الطبعة الثامنة 422هـ. 7- قصة عقيدة، الطبعة الأولى 1414هـ. 8- البدهيات في القرآن الكريم "دراسة نظرية" الطبعة الثانية 1418هـ. 9- البدهيات في الحزب الأول من القرآن الكريم "دراسة تطبيقية" الطبعة الثانية 1418هـ. 11- التفسير الفقهي في القيروان حتى القرن الخامس الهجري الطبعة الثانية 1418هـ. 12- منهج المدرسة الأندلسية في التفسير "صفاته وخصائصه" الطبعة الثانية 1418هـ. 13- مسألة خلق القرآن وموقف علماء القيروان منها الطبعة الثانية 1418هـ. 14- قول الصحابي في التفسير الأندلسي حتى القرن السادس، الطبعة الأولى، 1420هـ. 15- تطبيق الحدود الشرعية وأثره على الأمن في المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى 1420هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 تحقيق: 1- تفسير سورة الفاتحة للإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى الطبعة الخامسة 1409هـ. 2- تفسير سورة الفلق للإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى الطبعة الرابعة 1417هـ. 3- تفسير سورة الناس للإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى الطبعة الثانية 1414هـ. 4- تفسير سورة الفاتحة للإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى "مختصر" الطبعة الثالثة 1415هـ. 5- فضائل القرآن الكريم للإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى الطبعة الثانية 1418هـ. 6- قصيدة الواعظ الأندلسي في مناقب أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها موسى بن محمد بن عبد الله الطبعة الأولى 1418هـ. بالاشتراك: 1- طرق تدريس التجويد وأحكام تعلمه وتعليمه "مع الدكتور محمد الزعبلاوي" الطبعة الثالثة 1418هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479