الكتاب: دراسات في تاريخ العرب القديم المؤلف: محمد بيومى مهران الناشر: دار المعرفة الجامعية الطبعة: الثانية مزيدة ومنقحة عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- دراسات في تاريخ العرب القديم محمد بيومى مهران الكتاب: دراسات في تاريخ العرب القديم المؤلف: محمد بيومى مهران الناشر: دار المعرفة الجامعية الطبعة: الثانية مزيدة ومنقحة عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] مقدمة ... بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وآله. تقديم لعل من الأمور الغريبة أن المؤرخين الإسلامين قد انصرفوا عن التاريخ العربي القديم، إلا أن يكون مقدمات لتواريخهم المفصلة الدقيقة للعصور الإسلامية، وحتى هذه المقدمات لم تكن مفصلة ولا دقيقة، وربما كان السبب في ذلك أنهم لم يعتمدوا فيما كتبوه على سند مدون، أو مأخوذ من نص مكتوب، وإنما كان عمادهم في ذلك أفواه الرجال، وهو أمر لا يمكن الاطمئنان إليه، ذلك أن رواة الأخبار، حتى وإن كانوا بعيدين عن الميول والأهواء، وحتى إن كانوا من أصحاب الملكات التي وهبت القدرة على التمييز بين الغث والسمين، فإن للذاكرة آمادًا ليست بقادرة على تجاوزها. ومن ثم فإن المتصفح لما كتبه كبار المؤرخين الإسلامين -كالطبري والمسعودي والبلاذري والدينوري، وابن الأثير وابن خلدون وغيرهم- ليعجب للدقة والتحري الصحيح الذي عالجوا به تاريخ الإسلام، في معظم الأحايين، بقدر ما يأسف على الإهمال والخلط، الذي صحب كتاباتهم عن عصور ما قبل الإسلام1. وهكذا كانت المبالغات -إن لم نقل الخرافات- التي أدخلها أهل الأغراض، أو الطامعون ممن دخل الإسلام من يهود أو نصارى، وبخاصة أولئك الذين كانت لهم ثقافة يهودية واسعة، وفي نفس الوقت كانوا يتمتعون بمكانة مرموقة، ومركز ملحوظ بين المسلمين، لأنهم -كما يقول ابن إسحاق- "أهل العلم الأول"، ومن ثم فقد كان العرب يستفتونهم في بعض ما غمض عليهم، فيفتونهم بما تعودوه   1 انظر: محمد مبروك نافع: تاريخ العرب -عصر ما قبل الإسلام- القاهرة 1952 ص5-6، وكذا D.S Margoliouth, Lectures On Arabic Historians, Calcutta, 1930 وكذا J. Sauvaget, Historiens Arabes, Paris, 1946 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 في كتبهم من المبالغة في ضخامة الأجسام وطول الأعمار، وكانت التوراة -والتلمود من بعدها- تشتمل على كثير مما جاء في القرآن الكريم من وقائع وأحداث تتصل بالمصطفين الأخيار، من أنبياء الله الكرام، ولكن بإسهاب وتفصيل، قد يغري في كثير من الأحوال عواطف العامة، أكثر مما يرضي عقول العلماء1. وهكذا بدأت الأساطير اليهودية تنتشر بين الناس، ويصدقها ضعاف المؤرخين، فالقرآن الكريم -على سبيل المثال- لما ذكر عادًا، فإنه قال {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ، إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} 2، فأدخل المفسرون والمؤرخون في شرح هاتين الآيتين الكريمتين مبالغات، رواها كعب الأحبار ووهب بن منية، وغيرهما. ومن ثم فقد وصل إلينا من أخبارها أن رجالها كانوا طوالا كالنخل، لم يكن للطبيعة تأثير على أبدانهم لغلظتها ومتانتها، وأن عادًا إنما تزوج من ألف امرأة، كما رأى كذلك البطن العاشر من أعقابه، وكان الملك من بعده في الأكبر من ولده -وهو شديد- الذي حكم 850 سنة، ثم جاء من بعده أخوه "شداد"، حيث حكم 950 سنة، سيطر فيها على كل ممالك العالم3، وبنى مدينة {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} .   1 مقدمة ابن خلدون ص439-440 تفسير الطبري 6/ 9 - 10، 17/ 10، 27/ 31، تفسير ابن كثير 3/ 102، معجم الأدباء 18/ 8. 2 سورة الفجر: آية 6-7، وانظر: تفسير الطبري 30/ 175-178 "طبعة الحلبي، القاهرة 1954"، تفسير الفخر الرازي 31/ 166-169، تفسير القرطبي 20/ 44-47 "دار الكتب المصرية، القاهرة 1950"، تفسير البيضاوي 2/ 557 "طبعة الحلبي، القاهرة 1968". 3 المسعودي: مروج الذهب ومعادن الجوهر، بيروت 1973، 2/ 12-13، جرجي زيدان: تاريخ التمدن الإسلامي، القاهرة 1922، 3/ 65، ثم قارن: المقدسي: كتاب البدء والتأريخ، 3/ 37، تفسير روح المعاني 30/ 123، تفسير الطبري 30/ 176، تفسير القرطبي 20/ 44-46. 4 عن مدينة إرم ذات العماد: انظر: كتابنا "دراسات في التاريخ القرآني"، تاريخ ابن خلدون 2/ 19-20، دائرة المعارف الإسلامية 3/ 15-16، ياقوت 1/ 155-157، مروج الذهب 2/ 13، 410-411، تفسير الفخر الرازي 31/ 167، تفسير القرطبي 20/ 46-47، تفسير روح المعاني 30/ 123، البكري 1/ 140، 2/ 408-409، طبقات ابن سعد 1/ 19، محمود أبو ريه: أضواء على السنة المحمدية ص158-159 جرجي زيدان: العرب قبل الإسلام ص64-66، الهمداني: صفة جزيرة العرب ص80، الإكليل 8/ 33، عصر ما قبل الإسلام ص34-35، وكذا El, I, P.121. وكذاBasor, 73, 1939, P.13 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 ثم زاد الأمر صعوبة بالنسبة للمؤرخين الإسلامين في تدوين تاريخهم، أن الخط العربي لم يكن في أول أمره منقوطًا، وأن أول من فعل ذلك، إنما كان "أبو الأسود الدؤلي"؛ بإرشاد من الإمام علي -كرم الله وجهه، ورَضِيَ اللَّهُ عَنْه وأرضاه- أو نصر بن عاصم بمشورة من الحجاج الثقفي1، والأمر كذلك بالنسبة إلى الكتابة النبطية التي يرجح أن الخط العربي مشتق منها، ومتطور عنها2، إذ كانت هي الأخرى لا تعرف النقط والإعجام3، وقد أدى ذلك كله إلى التباس غير قليل في قراءة الأسماء4. على أن التفسير التقليدي لإهمال التاريخ العربي القديم وعدم تدوينه، هو أن الإسلام قد اتجه إلى استئصال كل ما يمت إلى الوثنية في بلاد العرب بصلة، اعتمادًا على   1 عبد الصبور شاهين: تاريخ القرآن ص68، 73، أبو أحمد العسكري: شرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف، القاهرة 1963 ص13، القفطي: إنباء الرواة على أنباء النحاة، القاهرة 1950 1/ 4-5، 3/ 343-344، أبو عمرو الداني: المحكم في نقط المصاحف، دمشق 1960 ص3-4، ثم قارن: حفي ناصف: حياة اللغة العربية، القاهرة 1958 ص67-70، حاجي خليفة: كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون 1/ 467، حيث إن هناك اتجاهًا إلى أن النقط والإعجام لم يكونا بدعًا في العصر الأموي، والظاهر أنهما موضوعان مع الحروف، وأن هناك بردية ترجع إلى عام 22هـ "أيام الفاروق رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وأرضاه" مكتوبة باللغتين العربية والونانية، وأن بعض حروفها منقوط معجم، فضلا عن نقش وجد في الطائف، ويرجع إلى عام 58هـ "أي إلى أيام معاوية بن أبي سفيان" وأكثر حروفه التي تحتاج إلى نقط منقوطة معجمة "انظر: تاريخ القرآن ص71-72، مصادر الشعر الجاهلي ص40". 2 عن تطور الخط العربي عن الخط النبطي، انظر: مقالنا: "العرب وعلاقاتهم الدولية في العصور القديمة" مجلة كلية اللغة العربية والعلوم الاجتماعية، الرياض 1976 ص315، فيليب حتى: تاريخ العرب، الجزء الأول ص18-19، جرجي زيدان: العرب قبل الإسلام ص81، عباس العقاد: إبراهيم أبو الأنبياء ص136-137، عبد الرحمن الأنصاري: لمحات عن القبائل البائدة في الجزيرة العربية ص89، ناصر النقشبندي، منشأ الخط العربي وتطوره لغاية عهد الخلفاء الراشدين، مجلة سومر، 1947 ص129: وكذا M. Sprenling, The Alphabet, Its Rise And Development From The Sinai Inscri - Ptions, Chicago, 1931, P.52 وكذا Eb, I, P, 684 وكذا Nabia Abbot, The Rise Of The North Arabic Script., P.2 ثم قارن: عبد الصبور شاهين: تاريخ القرآن ص61-63، ديتلف نلسن: التاريخ العربي القديم ص40-41. 3 خليل يحيى نامي: أصل الخط العربي وتاريخ تطوره إلى ما قبل الإسلام، مجلة كلية الآداب، جامعة القاهرة، المجلد الأول، مايو 1935، ص87. 4 انظر أمثلة في: جرجي زيدان: العرب قبل الإسلام ص16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 الحديث الشريف: " الإسلام يهدم ما قبله "، ومن ثم فقد انصرف العلماء عن الدراسات المتصلة بالجاهلية، مما أدى آخر الأمر إلى ضياع الكثير من أخبارها، وبالتالي نسيانها، وإلى ابتداء التاريخ عند المسلمين بعام الفيل1. وإني لأظن -وليس كل الظن إثمًا- أن أصحاب هذا الرأي قد جانبهم الصواب إلى حد كبير، فالحديث الشريف إنما كان ردًّا على أسئلة بعض الصحابة -رضوان الله عليهم- عما ارتكبوه في جاهليتهم، مما لا يتفق وشرائع الإسلام، أو بالأحرى كان ردًّا على "عمرو بن العاص"، حين اشترط قبل مبايعته سيدنا ومولانا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- أن يغفر له، فقال الحبيب المصطفى -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ: " أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله" 2. وهكذا يبدو بوضوح -لا لبس فيه ولا غموض- أنه ليست هناك صلة بين الحديث الشريف، الذي يدعو إلى أن "الإسلام يهدم ما كان قبله"، وبين إهمال التاريخ العربي القديم، بصورة لم يهمل بها أي تاريخ آخر، من تواريخ الأمم، التي كتب لها أن تعتنق الإسلام، وتؤمن بالقرآن، وتشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله. ثم إذا كان أصحاب هذا الرأي على صواب فيما يقولون، فمن أين إذن جاء "ابن الكلبي" بمادة كتابه "الأصنام" بل كيف يتفق ذلك، والقرآن الكريم قد تعرض لحياة العرب في جاهليتهم، من نواحيها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية، فالقرآن الكريم يتعرض لذكر بعض المعبودات الوثنية، حيث يقول سبحانه وتعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} 3، وحين يقول: {لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ   1 جواد علي: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام 1/ 108-111، مرجليوث: دراسات عن المؤرخين العرب ص53، فؤاد حسنين: التاريخ العربي القديم ص246-247. 2 صحيح مسلم 1/ 78 "باب كون الإسلام يهدم ما قبله، وكذا الهجرة والحج". 3 سورة نوح: آية 23 وانظر: تفسير الطبري 29/ 69-73، تفسير الطبري 29/ 98-100، تفسير ابن كثير 7/ 126-128. تفسير أبي السعود 5/ 198، في ظلال القرآن 29/ 3716، تفسير القرطبي 18/ 307-310، تفسير الكشاف 4/ 164-165، الدر المنثور في التفسير بالمأثور 6/ 269-260. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} 1، ويقول: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى، أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى، تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} 2، هذا فضلا عن أن القرآن الكريم إنما يشير إلى أن ملكة سبأ وقومها، إنما كانوا {يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ} 3. هذا إلى جانب ذكر القرآن لحياة العرب في الجاهلية ومثلهم، وما كانوا يقومون به -ولو شرًّا باطلا- فضلا عما في كتب التفسير والحديث والسير والأخبار، من أوصاف لبعض أصنام الجاهلية وهيآتها وشكل محجاتها وأوقات الحج إليها4، ثم ألم يتعرض الإسلام إلى عرف العرب وتقاليدهم في الجاهلية، فأقرَّ بعضًا، وأنكر بعضًا، وعدل بعضًا5. ثم ألم يكن للصديق -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وَأَرْضَاهُ- علمٌ بأنساب كل قبيلة، ومحامد السابقين منها ومسالبهم، ولا سيما قريش ومن جاورها، ولهذا كانوا يقولون كلما سمعوا أبياتًا من الشعراء المسلمين يردون بها الهجاء على المشركين "هذا تلقين ابن أبي قحافة"، لأنه كان في هذا العلم بين قريش عامة بغير نظير. ثم ألم يكن الفاروق -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وَأَرْضَاهُ- من العالمين بالشعر، والحافظين له، البصيرين به، ثم أليس عمرُ هو القائل "عليكم بديوانكم لا تضلوا، قالوا: وما ديواننا، قال: شعر الجاهلية، فإن فيه تفسير كتابكم، ومعاني كلامكم6".   1 سورة فصلت: آية 37، وانظر: تفسير روح المعاني 2/ 125-126، تفسير النسفي 4/ 33-34، تفسير ابن كثير 6/ 178-179، تفسير أبي السعود 4/ 282، تفسير القرطبي 15/ 363-365، الكشاف 3/ 454، الدر المنثور في التفسير بالمأثور 5/ 295-296، تفسير البيضاوي 2/ 349، تفسير الطبري 24/ 23-26، تفسير الطبري 24/ 121، في ظلال القرآن 23/ 3004-3012. 2 سورة النجم: آية 19-22 وانظر: تفسير البيضاوي 2/ 430، تفسير الطبري 27/ 58-62، تفسير الطبري 27/ 44-51، تفسير روح المعاني 27/ 54-58. 3 انظر القصة كاملة في سورة النمل: آية 20-44، تفسير الطبري 29/ 143-170، تفسير القرطبي 13/ 176-213، الكشاف 3/ 143-151، تفسير روح المعاني 19/ 182-210، تفسير الطبرسي 19/ 208-230، تفسير ابن كثير 3/ 360-366، في ظلال القرآن 19/ 2631-2643، تفسير أبي السعود 4/ 127-134، تاريخ الطبري 1/ 489-495، ابن الأثير 1/ 234-238، ابن كثير 2/ 18-42. 4 جواد علي: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، 1/ 114. 5 أحمد أمين: فجر الإسلام ص227 "بيروت 1969". 6 العقد الفريد 6/ 93، الأغاني 8/ 199، ابن قتيبة: الشعر والشعراء 1/ 93، ناصر الدين الأسد: مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية ص152. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 ثم ألم يحدثنا عكرمة عن ابن عباس -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه- أنه ما فسر آية إلا نزع فيها بيتًا من الشعر، وأنه كان حريصًا على الشعر الجاهلي، وأنه كان يحث الناس على تعلمه وطلبه لتفسير القرآن الكريم، وأنه كان يقول: "إذا سألتم عن شيء من غريب القرآن، فالتمسوه في الشعر، فإن الشعر ديوان العرب"1. وهكذا يمكننا القول أن الإسلام لو تعمد طمس الجاهلية، والقضاء على معالمها، لما أشار القرآن الكريم إليها، ولتحرج المسلمون من الإشارة إليها كذلك. ثم إن الأمر -فيما يبدو لي- لو كان بسبب الإسلام، لما اقتصر على بلاد العرب، وإنما كان يجب أن يتعداه إلى البلاد الإسلامية جمعاء -إلى مصر وسورية والعراق وغيرها- ولرأينا في هذه الحالة طمسًا لتاريخ مصر على أيام الفراعين، ولتاريخ العراق على أيام السومريين والأكديين والآشوريين والبابليين، والأمر كذلك بالنسبة إلى تاريخ الأموريين والكنعانيين والفينيقيين والآراميين وغيرهم في سورية، ولكن الواقع غير ذلك تمامًا، فتاريخ مصر -على سبيل المثال- أوضح من تاريخ العرب بكثير. إذن، لابد وأن تكون هناك أسباب أخرى، لطمس هذا التاريخ العربي القديم، والرأي عندي أن السبب إنما يكمن أولًا في الجاهليين أنفسهم، لقد كان القوم -في معظمهم- أميين، لا يكتبون على الأقل في العصور القريبة من الإسلام، حتى أننا لا نجد في مكة عشية ظهور الإسلام، إلا بضعة عشر نفرًا يقرءون ويكتبون، حددهم "البلاذري" بسبعة عشر، فضلا عن فئة قليلة من الأوس، إلى جانب قلة نادرة من النساء، منهن "الشفاء بنت عبد الله البدرية" -من رهط عمر بن الخطاب وهي التي علمت أم المؤمنين حفصة بنت عمر الكتابة2. وأخيرًا فإليك الحديث الشريف: "إنا أمة أمية لا تكتب ولا تحسب3".   1 السيوطي: المزهر في علوم اللغة 2/ 302، ناصر الدين الأسد: المرجع السابق ص152-153. 2 البلاذري: فتوح البلدان 3/ 580-583، العقد الفريد 3/ 242، الجاحظ: الحيوان 2/ 71، ناصر الدين الأسد: المرجع السابق ص45-46 عبد العزيز سالم: دراسات في تاريخ القرآن ص45-53، ص66-76. 3 صحيح البخاري 4/ 108-109 "كتاب الصوم، باب 13"، ورواه كذلك مسلم وأبو داود والنسائي، كما في الجامع الصغير للسيوطي رقم 2521، وانظر: تفسير الطبري 2/ 257-259، تفسير روح المعاني 9/ 79. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 وهكذا كانت الأمية هي الصفة الغالبة على العرب عشية ظهور الإسلام، حتى وإن كان الحديث الشريف -كما أراد البعض أن يفسره- لا ينفي الكتابة والحساب نفيًا شاملا، لأنه جاء في حديث الصيام ورؤية الهلال، وهو في نصه الكامل: "إنا أمة لا تكتب ولا تحسب الشهر هكذا وهكذا"، وإنما ينفي الحديث الشريف أن تكون الكتابة وأن يكون الحساب نظامًا عامًا متبعًا في كل الشئون، كما كان ذلك عند بعض الأمم الأخرى ذات التقاويم الفلكية1. وهناك سبب آخر، وأعني به تلك الآفة الخبيثة التي ابتليت بها أمة العرب في كل أمصارها ذات التاريخ المجيد -في مصر وسورية والعراق، وفي بلاد العرب نفسها- تلك الآفة هي هدم المباني القديمة، واستخدام أنقاضها في مبان جديدة، بل ليت الأمر اقتصر على ذلك، وإنما تعداه إلى تحطيم كثير من الآثار، والعبث بعدد وافر من المقابر، بحثًا عن كنوز قد يجدها هؤلاء العابثون هنا وهناك، أو سرقة لعدد من التحف الأثرية ثم بيعها لمن يطلبها بثمن بخس دراهم معدودة في أغلب الأحايين، ولكنها في كل الحالات ثروة تاريخية لا تقدر بثمن، أيا كان هذا الثمن. وهناك سبب ثالث، ذلك أن الجاهليين -خاصة في وسط بلاد العرب، في الحجاز ونجد- لم يكونوا يدونون تاريخهم بل كانوا يتذاكرون أيامهم وأحداثهم وما يقع لهم، وليس من المنطق أن نطالب الذاكرة أن تعي كل التاريخ وكل الشعر، أجيالا بعد أجيال، دون تدوين أو تسجيل، ومن ثم فعندما أتى العصر الأموي "41-132هـ = 661-750م"، وبدأ القوم في التسجيل، كان التاريخ العربي القديم قد اختلطت فيه القصص بالأساطير، وهذه بحقائق التاريخ، وبات من الصعب على القوم أن يفرقوا بين رواية صادقة، وأخرى كذوب، مما أدى آخر الأمر، إلى أن تخلوا كتاباتهم -إلى حد كبير- من الصفة التاريخية، وتبعد -كما يقول ابن خلدون- عن الحس والمنظور التاريخيين، اللذين يعتمدان على النقد والتحليل والنظر والتحقيق2.   1 ناصر الدين الأسد: المرجع السابق ص46، إبراهيم أنيس: دلالة الألفاظ، القاهرة 1958 ص183-188، عبد الصبور شاهين: تاريخ القرآن ص53، ثم قارن: مدخل إلى القرآن الكريم ص139-140. 2 مقدمة ابن خلدون ص209، عبد المنعم ماجد: مقدمة لدراسة التاريخ الإسلامي ص32، هاملتون جب: دراسات في حضارة الإسلام ص144، جواد علي: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام: بيروت 1968، 1/ 116. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 وكان رابع الأسباب يكمن في اليهودية -والنصرانية من بعدها- ذلك أن أصحاب هاتين الديانتين، قد عملوا على نشرهما في بلاد العرب، ومن ثم فقد بذلت يهود -بادئ ذي بدء- الجهد، كل الجهد، في نشر قصص التوراة، -وبخاصة ما يتصل منها بالملك سليمان- ثم جاء الإسلام، واعترف بسليمان -عليه السلام- نبيًّا من رب العالمين، ثم سرعان ما ربطت يهود بين هذا، وبين ما جاء في القرآن الكريم بشأن قصة سليمان مع ملكة سبأ، وأخذت تذيع كل ما في التوراة -وما في غير التوراة- من قصص عن سليمان وملكه، وتأثر المؤرخون الإسلاميون بذلك وظهر ما عرف بالإسرائيليات، حيث أخذوا ينسبون إلى سليمان -وهو هنا سليمان النبي، أكثر منه سليمان الملك- كل مدينة لا يعرفون صاحبها، بل إنهم بالغوا في ذلك إلى درجة أنهم كانوا -كما يقول بعض الأخباريين- ينسبون كل مستظرف من البناء إلى سليمان، وأنهم كانوا إذا رأوا بناءً عجيبًا جهلوا بانيه، أضافوه إلى سليمان، وربما إلى الجن كذلك1. ومضى حين من الدهر، وظهرت المسيحية في بلاد العرب، ومن ثم فقد بدأت تنافس اليهودية في نشر نفوذها الديني والثقافي في بلاد العرب، وتعاون أصحاب الديانتين -بقصد أو بغير قصد- على طمس معالم التاريخ العربي القديم، وبدأ القوم يعرضون عن ثقافتهم القديمة -وفي جملتها خط المسند- مما أدى آخر الأمر، إلى انقطاع القوم عن ثقافتهم العربية -والجنوبية بالذات2-. ومرت الأيام، وجاء جيل من المؤرخين الإسلاميين، لا يكاد الواحد منهم يقرأ كلمة بخط المسند، أو يفقه جملة بالثمودية أو المعينية، فضلا عن السبئية والحضرمية، وغيرها من الكتابات العربية، وبقي الأمر كذلك، حتى منتصف القرن الثامن عشر الميلادي، فاتجهت أنظار الباحثين الغربيين إلى ارتياد النقوش، بصفتها المصدر الحقيقي الذي يمكن الاعتماد عليه في التعرف على لغات العرب القدامى، من سبئيين ومعينيين، وديدانيين ولحيانيين وثموديين وصفويين وغيرهم. وأخيرًا فإن سيادة النظام القبلي في بقية شبه الجزيرة العربية، إنما أدى بطبيعة الحال إلى عدم وجود تاريخ مكتوب، واقتصار القوم على رواة الأخبار، يتحدثون   1 ياقوت 2/ 17. قارن: الدينوري: الأخبار الطوال ص20. 2 جواد علي 1/ 121-122. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 عن قبيلتهم وعن علاقتها بالقبائل الأخرى، وعن حوادثها وأيامها، فضلا عن رواة الأنساب، لما للنسب من أهمية في المجتمع القبلي، تفوق أهميته في أي مجتمع آخر، وليس من شك في أن تاريخًا من هذا النوع لا يعيش إلا بقدر ما يعيش رواته، ثم هو غالب الأحايين أقربُ إلى القصص والأساطير، منه إلى التاريخ الحقيقي1. وهكذا يبدو لنا بوضوح أن الإسلام الحنيف، لم يكن هو السبب في إهمال التاريخ العربي القديم، فضلا عن اضطرابه وغموضه، وإنما هناك أسباب أخرى، لا صلة للإسلام بها من قريب أو بعيد، وإن كان للمؤرخين الإسلاميين دون شك، دور فيها، ذلك لأنهم كانوا ينظرون إليه على أساس أنه عصر همجية وإفلاس حضاري، وتدهور أخلاقي، وانحطاط في مجال السياسة والدين، فشوه هؤلاء المؤرخون تاريخ عصر ما قبل الإسلام في قسوة ظاهرة، وربما كان السبب في ذلك هو الرغبة في تمجيد الإسلام ورفع شأنه، ولكنهم أخطئوا الطريق، وأتاحوا للمغرضين من المستشرقين الفرصة في الطعن في الإسلام، واتهامه بما هو براء منه، ناسين أن هذا الدين العظيم، إنما جاء ليحطم البداوة واتجاهاتها الفردية، وليقضي على العصبية المذمومة، وليحل محلها رابطة الدين والعقيدة2. وناسين كذلك أن العرب قبل الإسلام كانت لهم حضارة، ربا لا تقل -في بعض النواحي- عن حضارة معاصريهم من الروم والفرس، وأن نزول الوحي على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- باللسان العربي، لما له من قدرة على التعبير عن الرسالة، ثم ظهور الإسلام في مهد العرب، دليل على ما لأهل هذه الجزيرة العربية من قدرة على حمل الرسالة ومتابعة نشرها في الأرجاء3. وهنا لعل الذين يكيلون الذم جزافًا للعرب وتاريخهم فيما قبل الإسلام، يتذكرون أن الإسلام في حقيقته ليس دعوة سماوية جاءت للعرب خاصة، وإنما للناس عامة، وأن اختيار العرب لحمل هذه الدعوة العالمية للناس جميعًا لم يكن عبثًا، وإنما كان لأن القوم الذين يحملون الدعوة العالمية، لا بد وأن تتوافر فيهم صفات تناسب هذه المهمة الضخمة في الصبر والتحمل والمخاطرة والشجاعة، واحترام العهود   1 عبد الرحمن الطيب الأنصاري: لمحات عن القبائل البائدة في الجزيرة العربية، ص91-92. 2 محمد مبروك نافع: المرجع السابق ص د. 3 يحيى الخشاب: من مقدمة كتاب "اللغة العربية في عصور ما قبل الإسلام" ص12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 والنجدة والمروءة، وحب الحرية وتعشق الشرف والسؤدد، والتمرن على التنقل وتعود الهجرات وعدم التبرم بحياة التقشف ورقة العيش والتطلع إلى النهوض إذا يسرت سبله، إلى غير ذلك من المؤهلات الخلقية العظيمة1. والعربي في هذه الناحية كان فارس الحلبة، لا يبارى في هذه الصفات التي تتطلبها الحياة المستقبلة، وتحدثنا الأخبار أن القرشين كانوا -حفاظًا على شرف نسبهم ورفعة حسبهم- يتجنبون ألوان الخساسة في طلب الرزق فكانوا إذا استعصى على أحدهم الارتزاق من طرق شريفة آثر الموت جوعًا على الحياة من طريق خسيسة، وفي هذا المعنى يروي "أبو الحسين أحمد بن فارس" أن أحدهم كان إذا جاع جرى هو وعياله إلى موضع معروف، فضرب عليه وعلى عياله خباء حتى يموتوا، وما زال أمرهم على ذلك، حتى كان "عمرو بن عبد مناف" سيد زمانه، وكان له ابن يقال له أسد، وكان لأسد هذا ترب من بني مخزوم يحبه ويلعب معه، وذات يوم قال له: نحن غدًا نعتفد2، قال أبو الحسين فدخل أسد على أمه يبكي، وذكر ما قاله تربه من بني مخزوم، فأرسلت أم أسد إلى أولئك بشحم ودقيق عاشوا به أيامًا. ثم إن ترب أسد أتاه مرة أخرى، فقال له مثل ما كان قد قال، وفعل أسد كما فعل، فاشتد ذلك على "عمرو بن عبد مناف"، فقام خطيبًا في قريش وكان فيهم سيدًا مطاعًا؛ فقال: إنكم أحدثتم حدسًا تقلون فيه وتكثر العرب، وأنتم أهلُ حرم الله جَلَّ وعَزَّ، وأنتم أشرف ولد آدم، والناس لكم تبع، ويكاد هذا الاعتفاد أن يأتي عليكم"؛ فقالوا له: نحن لك تبع، فقال: ابتدئوا بهذا الرجل فأغنوه عن الاعتفاد -يعني أبا ترب أسد- ففعلوا، ثم إنه نحر البدن وذبح الكبائش والمعز، ثم هشم الثريد وأطعم الناس، ومن أجل ذلك، سمي "هاشمًا"3 وهو جدُّ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وفيه يقول الشاعر:     1 عطية صقر: الدين العالمي ومنهج الدعوة إليه، القاهرة 1970 "مجمع البحوث الإسلامية" ص135-136. 2 الاعتفاد: هو أن يغلق الرجل بابه على نفسه، فلا يسأل أحدًا حتى يموت جوعًا، وليس يعرف الناس صورة تسامي هذه الصورة أو تدانيها في استرخاص الحياة إيثارًا للترفع عن الدنايا من أجل الحرص على الحياة. 3 انظر: تفسيرات أخرى لهذه التسمية في هذه الدراسة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 عمرو العلا هشم الثريد لقومه ... قوم بمكة مسنتين عجاف1 ومن ناحية أخرى، فلقد أثبت التاريخ ما كان عليه أعظم الدول -قبل بعثة المصطفى، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من أخلاق صبغها الترف بصبغته الرخوة الناعمة، وأنس أهلُها إلى الذل والعبودية، بعبادة ملوكها وتقديس عظمائها، وتسلطت عليهم الأفكار والميول التي خلفها متنبؤوهم وفلاسفتهم. والمأثور من شعراء الجاهلية وأخبار الأولين يفيض بصفات النبل التي كان يفخر بها العربي ويحرص عليها، لأنه يراها عنوان الشرف والكمال، كما كان العربي يمتاز بصفات العقل وتوقد القريحة وقوة الحجة والفصاحة والبيان والاستنتاج والاستدلال، وهي أمور لابد منها لمن يقومون بنشر الدين العالمي الذي يتطلب شرحًا وتفسيرًا وجدلا ونقاشًا. وعلى هذا الوجه يمكن أن نفهم قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن الله اختار خلقه، فاختار منهم آدم، ثم اختار بني آدم، فاختار منهم العرب، ثم اختارني من العرب، فلم أزل خيارًا في خيار، ألا من أحب العرب فبحبي أحبهم، ومن أبغض العرب فببغضي أبغضهم2". ثم أليس في بلاد العرب هذه "بيت الله العتيق" أول بيت وضع للناس، بناه جد العرب إبراهيم الخليل، والذي تنظر إليه الكتب المقدسة جميعًا، على أنه الأب الروحي لكل المؤمنين3، ومن ثم فإن أمم الأرض جميعًا إنما تتبارك به4، ويعتبر الإنجيل المسيح من سلالته5، وينظر إليه القرآن الكريم، على أنه أبو الأنبياء، فقد أخرج الله من صلبه أنبياء بررة، حملوا الراية وتوارثوا المشعل6، ومن ثم فهو الأسوة الحسنة للمؤمنين جميعًا   1 أحمد حسن الباقوري: مع القرآن، القاهرة 1970 ص306-307، قارن: تاريخ الطبري 2/ 251-252، ابن هشام 1/ 145-146، أنساب الأشراف للبلاذري 1/ 85، ابن سعد 1/ 43-46، المقدسي 4/ 128-129، الاشتقاق 1/ 13. 2 رواه الطبراني عن ابن عمر، وروى الترمذي مثله، وقال حديث حسن، كما وردت أحاديث مشابهة أو مقاربة تبين فضل العرب الذين اختار الله منهم نبيه، ففي البخاري عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بعثت في خير قرن بني آدم فقرنا قرنًا، حتى كنت من القرن الذي كنت منه". 3 أشعياء 51: 2، سورة الحج: آية 78. 4 تكوين 12: 3، 18: 18. 5 متى: 1: 2-16، لوقا 3: 33-34. 6 سورة الأنعام: آية 84-87. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} 1، ومن هنا فإن الأديان السماوية الكبرى -اليهودية والمسيحية والإسلام- إنما تحيط الخليل بهالة من الاحترام والإجلال، وتشرف جميعًا بالانتساب إليه. هذا إلى أن الجزيرة العربية قد عرفت في تاريخها الطويل أنواعًا من الرسالات، ولم تكن رسالة الإسلام وحدها هي التي بدأت فيها، فكان هود في الأحقاف، وكان صالح في ثمود، وكان شعيب في مدين، وكان موسى الذي نادى ربه بجانب الطور الأيمن، على حدود الجزيرة العربية، ومن قبل كان إبراهيم الذي بنى البيت، وإسماعيل الذي رعاه وورثه أولاده من بعده2، فهذه الجزيرة بامتدادها إنما كانت مهبط الوحي منذ القدم، ولها عهد بالرسالات وقد تتابعت فيها على مر العصور3. ثم أليس في اختيار العرب لحمل الرسالة العالمية معنى كريمًا، يستحق منا دراسة تاريخ هؤلاء القوم الذين أكرمهم ربهم -دون غيرهم- بدعوتين، لأبيهم إبراهيم الخليل توجه بهما إلى ربه، إحداهما، {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} 4، والثانية {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 5. وقد استجاب الله لإبراهيم فجعل البيت مثابة للناس وأمنًا، ثم انبعث في ذريته محمد، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكانت قريش هي القبيلة التي ولد فيها محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وانبعث منها محمد -عليه الصلاة والسلام- وكان اختيار هذا النبي على سنة الله في اصطفائه رسله وأنبياءه، من أكرم البيوت وأشرف الظهور، وأطهر البطون، وأبعدها عن الدنايا، وألصقها بمكارم الأخلاق6، على ما يقول   1 سورة الممتحنة: آية 4، وانظر: تفسير روح المعاني 28/ 69-73، تفسير الفخر الرازي 29/ 300-301، تفسير الطبري 28/ 672-63، مجمع البيان 28/ 47-49، الكشاف 4/ 90، تفسير القرطبي ص6535، تفسير القاسمي 16/ 5765-5766، تفسير ابن كثير 8/ 113. 2 انظر عن هذه الرسالات، كتابنا "دراسات في التاريخ القرآني" - الجزء الأول، في بلاد العرب. 3 عطية صقر: المرجع السابق ص143. 4 سورة البقرة: آية 126، وانظر تفسير القرطبي ص502-505، تفسير ابن كثير 1/ 247-253، تفسير المنار 1/ 383-386، تفسير الطبري 3/ 44-56، تفسير الكشاف 1/ 186. 5 سورة البقرة: آية 129، وانظر: تفسير ابن كثير 1/ 268-279، تفسير المنار 1/ 388-389 "1972"، تفسير القرطبي ص516-517 "دار الشعب، القاهرة 1969"، تفسير الطبري 3/ 82-88 "دار المعارف" تفسير الكشاف 1/ 186-189. 6 أحمد حسن الباقوري: مع القرآن ص309-310. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ، ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} 1، وعلى ما يقول جل شأنه: {للَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} 2. وقد بين رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هذا المعنى بقوله الشريف: "إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشًا من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم، فأنا خيار من خيار من خيار" 3. ولا أظن -بعد هذا كله- أن هناك من يكابر في ضرورة الاهتمام بدراسة تاريخ هؤلاء القوم الذين تضافرت عوامل شتى على إهمال تاريخهم، فضلا عن التقليل من شأنه، حتى أن معلوماتنا عن تاريخ العرب قبل الإسلام، ظلت -حتى حوالي قرن مضى- تعتمد فقط على ما جاء في التوراة، وعلى ما كتبه القدامى من مؤرخي الإغريق والرومان وجغرافيهم، وكان هذا كله لا يشفي غليل العلماء، حتى لو أضفنا إليه ما كتبه العرب عن تاريخهم قبل الإسلام، أو ما نستطيع أن نحصل عليه من معلومات إذا درسنا الشعر الجاهلي. غير أنه من حسن الحظ أن بدأت الصورة تتغير، عندما أخذت النقوش اليمنية طريقها إلى أيدي العلماء، وقد أصبح عددها الآن أكثر من خمسة آلاف نقش، فيها الكثير من المعلومات عن ممالك جنوب اليمن، كما وصل إلى أيدي العلماء كذلك عشرات الآلاف من "المخربشات" القصيرة على واجهات الصخور في شمال بلاد العرب بين ثمودية ولحيانية وسبئية وغيرها4، فضلا عن تلك التي وجدت   1 سورة آل عمران: آية 33-34، وانظر: تفسير الطبري 6/ 326-328؛ تفسير روح المعاني 3/ 130-133، تفسير الكشاف 1/ 354-355؛ تفسير مجمع البيان 3/ 61-63. 2 سورة الأنعام: آية 124، وانظر: تفسير القرطبي ص2515-2516، تفسير المنار 8/ 32-35، تفسير الطبري 12/ 95-96 "دار المعارف - القاهرة 1957"، تفسير الكشاف 2/ 48-49، تفسير أبي السعود 2/ 280، تفسير روح المعاني 8/ 21-23، تفسير الفخر الرازي الرازي 13/ 175-176، تفسير الطبرسي 7/ 185-188، تفسير ابن كثير 3/ 323-336. 3 رواه مسلم والترمذي، وانظر: المواهب للقسطلاني 1/ 13، ابن كثير: السيرة النبوية 1/ 191 "القاهرة 1964"، عبد الحليم محمود: دلائل النبوة ومعجزات الرسول، القاهرة 1974 ص68، محمد محمد أبو شهبه: السيرة النبوية 1/ 189 "القاهرة 1970"، أحمد حسن الباقوري: مع القرآن ص21، 307، عطية صقر: الدين العالمي ص140. 4 أحمد فخري: دراسات في تاريخ الشرف القديم، القاهرة 1963 ص125. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 خارج شبه جزيرة العرب، وبخاصة النقوش الصفوية التي وجدت فوق جبال الصفا جنوب شرق دمشق، وهي قريبة جدًّا -من حيث الخط واللغة وأسماء الآلهة- من المخربشات الثمودية1. وهكذا أصبح لدينا ما يساعد الآن في الحصول على صورة واضحة إلى حد ما، عما كان جاريًا في تلك البلاد، منذ القرن التاسع قبل الميلاد، وحتى ظهور الإسلام -أي على مدى ألف وخمسمائة سنة- سواء أكان ذلك من الناحية السياسية أو الدينية أو الاقتصادية2. وليس هذا يعني -بحال من الأحوال- أن الآثار قدمت لنا كل ما عندها، فمما لا شك فيه أننا ما زلنا في هذا الصدد بالذات في مرحلة البداية، ومن ثم فهناك فترات في تاريخ العرب القديم، لا يزال الخلاف فيها على أشده، سواء أكان ذلك على ترتيب الملوك طبقًا للتسلسل التاريخي، أو في تحديد فترات حكمهم، بينما هناك فترات أخرى لا تزال مظلمة تمامًا، وليس هناك من حل إلا مزيدًا من الحفائر -ثم مزيدًا من الحفائر- حتى تخرج لنا الأرض الطيبة تاريخًا، لا أظن أنه يقل كثيرًا عن تاريخ العملاقين الكبيرين -مصر والعراق- في تلك العصور من تاريخ الشرق الأدنى القديم. ومن أسف، أن تاريخ العرب القديم لم يلق -حتى في العصر الحديث- الاهتمام اللائق به، فرغم أن في العالم العربي عددًا كبيرًا من الجامعات، تُعنى أقسام التاريخ فيها، بدراسة التاريخ القديم بكل فروعه، ومع ذلك، فالقليل منها، هو الذي يهتم بدراسة التاريخ العربي القديم، ومن ثم فهي في ذلك تنقسم إلى أقسام ثلاث، قسم منها لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، هو الذي يدرس التاريخ العربي القديم، كمادة مستقلة قائمة بذاتها، وقسم ثان لا يدرسه إلا كمقدمة لدراسة التاريخ الإسلامي، وأما القسم الثالث، فلا نكاد نحس أن لهذا التاريخ المجيد ذكر بين برامج الدراسة فيه، ومن عجب أن هذا يحدث في الوقت الذي تهتم فيه الجامعات الأوربية بدراسة هذا التاريخ، وكأن أمر دراسة تاريخنا يهم الأوربيين، أكثر مما يهمنا نحن أسلاف أصحاب هذا التاريخ، بل وكأن دراسة تاريخ إسبرطة وأثينا القديم أهم عندنا من دراسة تاريخ اليمن ونجد والحجاز القديم.   1 ديتلف نلسن: التاريخ العربي القديم، ترجمة فؤاد حسنين، القاهرة ص46. 2 أحمد فخري: المرجع السابق ص126. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 ودراسة التاريخ العربي القديم -فيما أرى- ضرورة قومية ودينية، ضرورة قومية لأن هذا تاريخنا، بل إني لا أظن أنني أغالي كثيرًا، إن قلت إنه -في بعض الأحايين- واحد من الأسس الرئيسية لدراسة تاريخ الشرق الأدنى القديم، فالحقائق العلمية تقول إن بلاد العرب، إنما هي الموطن الأصلي للساميين، وأنهم خرجوا منها في فترات مختلفة، فيما بين الألف الرابعة والثانية قبل الميلاد، إلى مصر وسورية والعراق، وهي كذلك موطن العربية -اللغة السامية الأم1- ثم هي لا تختلف عن غيرها من بلاد المنطقة العريقة في الحضارة، قامت بها دول، ونشأت فيها حضارات، وأسهمت بنصيبها فيما قدمه هذا الشرق الخالد للإنسانية من أياد بيضاء، ومن ثم فقد تأثرت بلاد العرب بحضارة تلك المنطقة، وأثرت فيها، وارتبطت بها بعلاقات، سادها الود أحيانًا، والنفور أحيانًا أخرى، ومن ثم فتاريخها جزء من تاريخ هذا الشرق الأدنى، تعرضت للضغط الخارجي، يوم تعرض هذا الشرق لهذا الضغط أو ذاك، ونعمت بخيراتها، يوم أن كان أمر هذا الشرق في أيدي أبنائه، ولاقت ما لاقى هذا الشرق، يوم أن كانت قوى أجنبية تتحكم في مصايره، وتجني خيراته، ومن ثم فليس عجبًا أن كان التاريخ العربي القديم متأثرًا بتاريخ الشرقي الأدنى القديم، ومؤثرًا فيه2. وضرورة دينية، لأننا نعرف -تاريخيًّا ودينيًّا- أن الله سبحانه وتعالى قد اصطفى من بلاد العرب، بعض أنبيائه ومرسَلِيه، ولأن مكانة الإسلام الفريدة في التاريخ الإنساني، لا يمكن معرفتها بصورة صحيحة، إلا إذا درس تاريخ ما قبل الإسلام، حتى نستطيع التعرف بصورة واضحة على أثره، لا في بلاد العرب فحسب، بل في تاريخ الإنسانية جمعاء، وكما يقولون، فإن الأشياء إنما تعرف بأضدادها. ولعل الذين يتشدقون بالغيرة على الإسلام، من دراسة التاريخ العربي القديم، يتذكرون أنهم ليسوا أشد غيرة على ديننا الحنيف من الفاروق -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وأرضاه- حيث يقول: "إنما تنقص عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية"3.   1 انظر مقالنا "الساميون" والآراء التي دارت حول موطنهم الأصلي" - مجلة كلية اللغة العربية، العدد الرابع، الرياض 1974 ص245-261. 2 انظر دراستنا عن "العرب وعلاقتهم الدولية في العصور القديمة" - مجلة كلية اللغة العربية والعلوم الاجتماعية - العدد السادس، الرياض 1976 ص297-437. 3 محمد رشيد رضا: تفسير المنار 1/ 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 وإنه لمن الأهمية بمكان الإشارة هنا إلى "الجاهلية" و"العصر الجاهلي" وغير ذلك من كلمات ترددت كثيرًا بين صفحات هذه الدراسة. يقول السيوطي إن لفظ الجاهلية اسم حدث في الإسلام للزمن الذي كان قبل البعثة النبوية الشريفة، والقرآن الكريم لم يستعمل كلمة "الجاهلية" هذه، إلا في العصر المدني، ومن ثم فإنك تجدها في السور المدنية -وليس المكية- كما في سورة آل عمران والمائدة والأحزاب والفتح، وإن استعمل كلمة "الجاهليين" في العصر المكي والمدني، كما في سورة البقرة والأعراف والفرقان1. وقد ذهب البعض إلى أن المقصود من كلمة "الجاهلية" إنما هو الجهل والجهالة، نقيضي العلم والمعرفة، أو الجهل بالقراءة والكتابة، ومن ثم فقد ترجمت الكلمة في اللغة الإنجليزية "The Time Of Lgnoravce" وفي الألمانية "Zert Der Unwissenheit"، بينما ذهب فريق ثان إلى أنها إنما تعني الجهل بالله وبرسوله وبشرائع الدين، وباتباع الوثنية والتعبد لغير الله2. على أن فريقًا ثالثًا ذهب إلى أن الكلمة إنما تعني "السفه" الذي هو ضد الحلم، وفي الحديث الشريف: "إذا كان أحدكم صائمًا فلا يرفث ولا يجهل" 3، ومن هذا قول عمرو بن كلثوم.   1 انظر: سورة البقرة: آية 67، آل عمران: آية 154، المائدة: آية 50، الأعراف: آية 199، الفرقان: آية 63، الأحزاب: آية 33، الفتح: آية 26، تفسير الطبري 3/ 183، 7/ 320-326، 10/ 394-395، 13/ 326-332 "دار المعارف" 19/ 32-35، 22/ 2-8 "طبعة الحلبي"، تفسير القرطبي ص1483-1385، 221-2213، 5260-5264، 6108-6109 "دار الشعب 69-1970"، تفسير روح المعاني 22/ 8-9، تفسير ابن كثير 2/ 124-126، 3/ 118-123، تفسير الفخر الرازي 25/ 209، تفسير البيضاوي 2/ 245، 404، جلال الدين عبد الرحمن السيوطي: المزهر في علوم اللغة، القاهرة 1942. 2 إبراهيم أنيس: دلالة الألفاظ ص183-188، عبد الصبور شاهين: تاريخ القرآن ص53، نهاية الرب 1/ 15، جواد علي 1/ 38، تفسير الطبري 7/ 320-326، روح المعاني 22/ 9، يحيى الخشاب: المرجع السابق ص12، محمد عبد الله دراز: مدخل إلى القرآن الكريم ص129-141. وكذا S.M. Zwemer, Arabia, The Cradle Of Islam, P.158. وكذا Ency. Of Islam, I, P.999 3 وانظر قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ثلاث من عمل أهل الجاهلية لا يدعهن الناس، الطعن بالأنساب والاستمطار بالكواكب والنياحة " انظر: تفسير الطبري 22/ 5، مجموعة الحديث - الرياض 1969 ص267-268، ثم قارن رواية أخرى للحديث الشريف في: مجموعة فتاوى ابن تيمية 11/ 174". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا1 ومن ثم فإن الكلمة إنما تعني الخفة والأنفة والحمية والمفاخرة، وهي أمور أوضح ما كانت في حياة العرب، قبل أن تتهذب نفوسهم بما دعا إليه الإسلام من مبادئ خلقية سامية، ومثل عليا وفضائل، ومن ثم فقد سمي العصر "بالجاهلية"، ويقابل هذه المعاني هدوء النفس والتواضع، والاعتداد بالعمل الصالح، لا بالنسب، وهي كلها نزعة سلام2. ومن هنا رأينا الإمام الطبري يفسر قوله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} 3 بأن عباد الله هم الذين يمشون على الأرض بالحلم، لا يجهلون على من جهل عليهم4، ومن ثم فقد جاء في "حديث الإفك"5، "ولكن اجتهلته الحمية"، أي حملته الأنفة والغضب على الجهل، وفي الحديث الشريف أن رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال لأبي ذر -وقد عير رجلا بأمه: "إنك امرؤ فيك جاهلية" أي فيك روح الجاهلية6.   1 نهاية الأرب 1/ 16. 2 أحمد أمين: فجر الإسلام ص69-70، وكذا R.A. Nicholson, A Literary History Of The Arabs, 1962, P.30 وكذا El, I. P.999 3 سورة الفرقان: آية 63. 4 تفسير الطبري 19/ 32-35 "طبعة الحلبي - القاهرة 1954". 5 انظر عن حديث الإفك: سورة النور: آية 11-20، وانظر: تفسير روح المعاني 18/ 111-125، تفسير الفخر الرازي 23/ 172-184، تفسير الطبرسي 18/ 18-25، تفسير الطبري 18/ 86-100، تاريخ الطبري 2/ 610-619، ابن الأثير 2/ 195-199، تفسير البيضاوي 2/ 119-121، تاريخ الخميس ص534-538، ابن تيمية: تفسير سورة النور، تحقيق صلاح عزام "دار الشعب، القاهرة 1972"، كامل سلامة الدقس منهج سورة النور في إصلاح النفس والمجتمع، القاهرة 1974 ص138-168، محمد حسين هيكل: حياة محمد ص366-370، محمد رضا: محمد رسول الله، بيروت 1975 ص223-227، ابن كثير: البداية والنهاية 4/ 160-164، ابن هشام: سيرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 2/ 220-224. 6 رواه الشيخان وأبو داود والترمذي، وانظر: تفسير البيضاوي 2/ 245، تفسير روح المعاني 22/ 8-9، فتاوى ابن تيمية 11/ 174، أحمد أمين: فجر الإسلام ص69، نهاية الأرب 1/ 15-18، ثم قارن: تفسير الطبري 22/ 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 بقيت كلمة أخيرة تتصل بالفترة الزمنية التي تعالجها هذه الدراسة1، ذلك أننا نحن الباحثين في "تاريخ مصر والشرق الأدنى القديم" قد اعتدنا أن نتوقف في دراستنا عند بداية عصر الإسكندر المقدوني "356-323ق. م" بسبب التغيرات الحضارية والسياسية التي حدثت في الشرق الأدنى القديم منذ تلك الفترة، غير أن الأمر جد مختلف هنا في بلاد العرب، فالإسكندر المقدوني -وكذا خلفاؤه من الأغارقة، فضلا عن الرومان من بعدهم- لم يكتب لهم نجحًا بعيد المدى أو قصيره في السيطرة على جزيرة العرب، ومن ثم فقد بقي هذا الجزء العزيز من العالم العربي القديم، بعيدًا عن قبضة اليونان والرومان، رغم المحاولات المتكررة التي بذلها هؤلاء وأولئك لانضواء الجزيرة العربية تحت لواء مقدونيا أو روما أو بيزنطية، كما أن الحضارة اليونانية -والرومانية من بعدها- وإن كتب لها بعض النجح في أطراف الجزيرة العربية، فقد فشلت تمامًا في أن تنتشر بين ربوعها، هذا فضلا عن أن العرب القدامى إنما قد احتفظوا بلغتهم العربية -اللغة السامية الأم- بعيدًا عن سيطرة اللغات الهندو-أوربية، حتى جاء الإسلام الحنيف، فكانت لغة القرآن، ورسول الحضارة الإسلامية إلى البشرية جمعاء. ومن ثم فالرأي عندي أن التاريخ العربي القديم، إنما يبدأ منذ عصور ما قبل التاريخ، وينتهي في بداية القرن السابع الميلادي حيث يبدأ التاريخ الإسلامي، يوم أهدت مكة إلى الدنيا كلها أشرف الخلق جميعًا، مولانا وسيدنا رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما أن يمضي حين من الدهر، حتى يسبغ الله فضله على الدنيا بأسرها، فينزل الوحي بالقرآن الكريم. وهناك، وفي مكة المكرمة، وفي بيت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تبدأ الدعوة إلى الإسلام، دين التوحيد المطلق، ومن هناك -من هذه الأرض الطيبة، من الحجاز الشريف- تنتشر راية الإسلام إلى جميع أنحاء المعمورة، تدعوا إلى التوحيد والحب والعدل والإخاء والمساواة، وكل ما هو جميل ونبيل. وقبل ذلك -وفي حياة الرسول الأعظم، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ- تقوم في الجزيرة العربية -ولأول مرة في تاريخ هذه الدنيا- بفضل الله، وبهداية رسول   1 تمثل هذه الدراسة "الجزء السادس" من سلسلة دراسات يصدرها المؤلف في التاريخ القديم تحت عنوان "دراسات في تاريخ الشرق الأدنى القديم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 الله، تقوم قوة عظمى، قوة لم ينبغ لأحد مثلها من قبل في تلك الجزيرة، التي كان أمرها مفرقًا بين قوى متناحرة، وعشائر بعضها لبعض عدو، فإذا هي الآن -بهدي الإسلام وبنبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دولة موحدة، لها زعيم واحد، وقائد سياسي واحد، وقائد عسكري واحد، لا ينازعه سلطانه أحد، لأن سلطانه فوق مستوى البشر، فهو لسان السماء، وهو نبي الله، وكل في دولته مأمور بطاعته، كما يطيع الله، يفتديه بحياته، بل وتهون عليه حياته في سبيل ما يأمر به، تطلعًا إلى الجنة التي وعد الله المتقين من عباده، وأعدها للشهداء من المجاهدين، وهكذا أصبحت الجزيرة العربية دولة واحدة، تدين بدين واحد، وتعبد ربًّا واحدًا، لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. وهنا، ينتهي التاريخ العربي القديم، ويبدأ التاريخ العربي الإسلامي، لا، بل هنا يبدأ التاريخ الإسلامي، فما كان الإسلام أبدًا، للعرب خاصة، وإنما كان -وسوف يظل أبدًا- للناس كافة، و {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} ، أرسله ربه رحمة للعالمين، وختامًا لرسالات الأنبياء أجمعين، وهداية للناس -كل الناس- إلى سواء السبيل. وبعد: فإن كان علي أن أتقدم بالشكر لكل من أسهم في هذه الدراسة بنصيب، فلعل جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية -ممثلة في شخص مديرها معالي الأستاذ الجليل الدكتور عبد الله التركي، وأمينها العام ورئيس لجنة البحوث والنشر السابق بها، الزميل الكريم الأستاذ الفاضل عبد الله الشبل، ورئيس لجنة البحوث والنشر الحالي، الزميل الفاضل الأستاذ الدكتور عبد العزيز الربيعة- أول من يستحق الشكر، كما أن كلية العلوم الاجتماعية بها -ممثلة في شخص عميدها فضيلة الأساذ الجليل محمد عبد الله عرفة- تستحق مني كل تقدير، فإن كانت الأولى قد أتاحت الفرصة لهذه الدراسة في أن ترى النور - فإن الثانية قد أتاحت لي فرصة العمل في هذه الدراسة كأستاذ لمادة تاريخ الجزيرة العربية القديم طوال سنوات جامعية أربع. وأملي في الله كبير في أن تنال هذه الدراسة بعض الرضى. {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} . دكتور: محمد بيومي مهران أستاذ التاريخ القديم: كلية الآداب - جامعة الإسكندرية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 الفصل الأول: مصادر التاريخ العربي القديم. أولًا: المصادر الأثرية. منذ قرن واحد من الزمان، كانت معلوماتنا عن تاريخ بلاد العرب قبل الإسلام، تعتمد فقط على ما جاء في التوراة، وعلى ما كتبه القدامى من الأغارقة والرومان، وكان هذا كله شيئًا قليلا لا يشفي غليل العلماء، حتى لو أضفنا إليه بعض ما كتبه العرب عن تاريخهم قبل الإسلام، أو ما نستطيع أن نحصل عليه من معلومات إذا درسنا الشعر الجاهلي، إلا أن الأمر سرعان ما بدأ يتغير عندما أخذت النقوش اليمنية طريقها إلى أيدي العلماء، وقد أصبح عددها الآن أكثر من خمسة آلاف نقش، فيها الكثير من المعلومات عن ممالك شبه الجزيرة العربية، كما وصل إلى أيدي العلماء كذلك عشرات الآلاف من "المخربشات" القصيرة على واجهات الصخور في شمال بلاد العرب، بين ثمودية ولحيانية وسبئية وغيرها1، فضلا عن تلك التي وجدت خارج شبه الجزيرة العربية كالنقوش الصفوية التي وجدت فوق جبال الصفا جنوب شرق دمشق، وهي قريبة -من حيث الخط واللغة وأسماء الآلهة- من النقوش الثمودية2. أضف إلى ذلك، تلك النقوش والكتابات غير العربية التي تطرقت إلى ذكر العرب، كما في بعض النقوش الآشورية والبابلية، والتي قدمت لنا معلومات قيمة عن بلاد العرب الشمالية، وعن علاقاتها بالإمبراطوريتين الآشورية والبابلية، كما عرفنا من هذه النقوش -مثلا- أن المرأة العربية قد وصلت منذ القرن الثامن قبل الميلاد إلى منصب رئيس الدولة، كالملكة "زبيبة" والملكة "شمس" والملكة   1 أحمد فخري: دراسات في تاريخ الشرق القديم ص125. 2 ديتلف نلسن: التاريخ العربي القديم ص46. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 "تعلخونو" وغيرهن1. والأمر كذلك بالنسبة إلى النقوش المعينية أو السبئية في مصر أو في الحبشة، فضلا عن النقوش النبطية التي اكتشفت في بعض جزر اليونان، والتي تدل على المدى البعيد الذي بلغه أصحابها في النشاط التجاري والبحري، ومن هذا النوع ذلك النقش الذي اكتشف عام 1936م في جزيرة "كوس" ببحر إيجه، فضلا عن نقشين نبطيين وجدا بالقرب من "نابولي"، إلى جانب نقش ثالث وجد في "روما"2. وهكذا أصبح لدينا الآن ما يساعدنا في تقديم صورة واضحة إلى حد ما، عما كان جاريًا في تلك البلاد منذ القرن التاسع قبل الميلاد، وحتى ظهور الإسلام، أي مدى ألف وخمسمائة سنة، سواء أكان ذلك من الناحية السياسية أو الدينية أو الاقتصادية3. وهكذا تظهر لنا أهمية الآثار في دراسة التاريخ والحضارة، بل لعلها من أهم -إن لم تكن أهم- ما يجب أن يعتمد عليه المؤرخ في دراسته، فهي الشاهد الناطق الوحيد الباقي لنا من تلك الأيام الخوالي، ومن هنا كانت أهميتها في تقديم صورة للحياة العامة في كل مناحيها المختلفة، فمثلا عن طريق الكتابات المعينية الشمالية التي وجدت في "العلا" استطعنا أن نعرف منها أن المعينيين الشماليين كانوا يستخدمون الكتابة والديانة المعينية التي عرفها المعينيون الجنوبيون، واستخدموها في وطنهم الأصلي1.   1 انظر: Nadia Abbot, Pre-Islamic Arab Queens, Ajsl, 58, 1941. وكذا D.D. Luckenbill, Ancient Records Of Assyria And Babylonia, Ii, Chicago, 1927. وكذا A.G. Lie, The Inscriptions Of Sargon Ii, Part, I, The Annals, 1929. وكذا A.L.Oppenheim, Babylonian And Assyrian Historical Texts, Anet, 1966. 2 انظر: مقالنا "العرب وعلاقاتهم الدولية في العصور القديمة "مجلة كلية اللغة العربية والعلوم الاجتماعية، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية" العدد السادس، الرياض 1976 ص287-437، وكذا: سبتينو موسكاتي الحضارات السامية القديمة ص355 وكذا G.A Cooke, A Text-Book Of North Semitic Inscription, Oxford, 1903, P. 256-7. 3 أحمد فخري: دراسات في تاريخ الشرق القديم، القاهرة 1963 ص125-126. 4 ديتلف نلسن: المرجع السابق ص42. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 هذا وقد عرفنا عن طريق الوثائق الصفوية أن الصفويين هم وحدهم الذين نعرف عنهم شيئًا قبل أن يمتزجوا في الشعوب السامية الشمالية، إذ ظلوا محتفظين بالخط السامي الجنوبي واللغة السامية الجنوبية والعقائد السامية الجنوبية1 بل استطعنا أن نعرف عن طريق الجعارين المصرية، والأختام الساسانية، التي وجدت طريقها إلى بلاد العرب الجنوبية، أن نستنتج أن التبادل بين بلاد العرب الجنوبية وبين البلاد الأخرى، لم يكن مقصورًا على التجارة فحسب، بل تعداها إلى الفنون كذلك، وقد تركت هذه الفنون الأجنبية أثرها في الفن العربي الجنوبي2. على أنه يجب أن نلاحظ أن في هذه المصادر الأثرية نقاط ضعف كثيرة، منها "أولًا" أنها في معظمها تتشابه في مضمونها وفي إنشائها، لأنها تتعلق بأمور شخصية، كإنشاء بيت أو بناء معبد أو إقامة سور، ومن ثم فقد كانت أهميتها لغوية أكثر منها تاريخية، ولكنها في الوقت نفسه، قد أمدتنا بأسماء عدد من الملوك، لولاها لما عرفنا عنهم شيئًا، كما قدمت لنا بعض المعلومات عن العلاقة بين القبائل بعضها بالبعض الآخر، ومن هذا النوع نقش Cih.1450"" والذي يتحدث عن حرب دارت رحاها بين قبائل حاشد وحمير في مدينة "ناعط"3. ومنها "ثانيًا" أن معظمها قد وجد في المعابد والقبور، ومن ثم فهي ذات صبغة دينية، ومنها "ثالثًا" أن النصوص اللحيانية عبارة عن "مخربشات" صغيرة، وبعضها -كما في النصوص المعينية الشمالية- ليست نقوشًا كاملة، وإنما هي أجزاء من نقوش، ذلك لأن معظم الأحجار التي دونت عليها النقوش إنما وجدت في غير أماكنها الأصلية، وقد استخدمها القوم أخيرًا كمواد للبناء، ومن ثم فقد وجدت في جدران المنازل وأسوار الحدائق في مدينة "العلاء"، وانطلاقًا من هذا، فإن الفائدة منها جد قليلة، كما أن قلة من العلماء هي التي كانت قادرة على ترجمتها، ومع ذلك فقد أفادتنا في معرفة أسماء بعض الآلهة4. ومنها "رابعًا" أن الكتابات المؤرخة منها قليلة، ومن ثم فلم تهدنا إلى تقويم   1 Dussaud, Les Arabes En Syrie Avant L'islam, Paris, 1907 2 أدولف جرومان: التاريخ العربي القديم ص117 3 جواد علي: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، الجزء الأول ص44-46، وكذا. D.S Margoliouth, Lectures On The Arabic Historians, Calcutta, 1930, P.29 4 ديتلف نلسن: المرجع السابق ص43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 ثابت يمكن القول أن العرب القدامى إنما كانوا يستعملونه، وطبقًا لهذا اتجه الباحثون إلى أن العرب إنما كانوا -كغيرهم من الشعوب القديمة- يؤرخون الأحداث طبقًا لسني حكم الملوك، بل إن القوم قد تجاوزوا ذلك إلى التأريخ بأيام الرؤساء وشيوخ القبائل وأرباب الأسر، بل إن البعض منهم قد أهمل التاريخ تمامًا، وإن كان الحميريون قد اتخذوا من قيام دولتهم في عام 115 قبل الميلاد "وربما عام 118ق. م أو عام 109ق. م"، تقويمًا ثابتًا يؤرخون به الأحداث1. هذا وقد أشار "المسعودي" إلى أن العرب قبل الإسلام إنما كانوا يؤرخون بتواريخ كثيرة، فأما "حمير" و"كهلان" أبناء سبأ، فقد كانوا يؤرخون بملوكهم، أو بما يقع لهم من أحداث جسيمة، فيما يظنون، كنار صوان التي كانت تظهر في بعض الحرار بأقاصي اليمن، وكالحروب التي كانت تنشب بين القبائل والأمم، فضلا عن التأريخ بأيامهم المشهورة, وكذا بوفاة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، كما كانت قريش تؤرخ عند مبعث المصطفى -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ- بوفاة هشام بن المغيرة وبعام الفيل2، ويذهب الطبري إلى أن العرب لم تكن تؤرخ بشيء محدد قبل الإسلام، غير أن قريشًا إنما كانت تؤرخ بعام الفيل، بينما كان سائر العرب يؤرخون بأيامهم المشهورة، كيوم جبلة والكلاب الأول والثاني3.   1 جواد علي: المرجع السابق ص48 وكذا- J.B. Philby, The Background Of Islam, P.97 وكذاE. Glaser, Skizze Der Geschichte Und Geographie Arabiens, Berlin,1890, I,P.3 وكذا Le Museon, 1964, 3-4, P.407-427, 429-430 2 أبو الحسن علي بن الحسين المسعودي: التنبيه والإشراف، القاهرة 1938 ص1720181 "بيروت 1968". 3 أبو جعفر محمد بن جرير الطبري: تاريخ الرسل والملوك - الجزء الأول، القاهرة 1967 ص193، ابن الأثير: الكامل في التاريخ 1/ 549-552، 622-626. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 ثانيًا: المصادر غير العربية. أولًا: الكتابات اليهودية. 1- التوراة : أو "التورة" كلمة عبرية تعني الهداية والإرشاد، ويقصد بها الأسفار الخمسة الأولى "التكوين والخروج واللاويين والعدد والتثنية" والتي تنسب إلى موسى -عليه السلام- وهي جزء من العهد القديم، والذي يطلق عليه تجاوزًا اسم "التوراة" من باب إطلاق الجزء على الكل، أو لأهمية التوراة ونسبتها إلى موسى، والتوراة، أو العهد القديم -تمييزًا له عن العهد الجديد كتاب المسيحيين المقدس- هو كتاب اليهود الذي يضم إلى جانب تاريخهم، عقائدهم وشرائعهم، ويقسمه أحبار اليهود إلى ثلاثة أقسام: الناموس والأنبياء والكتابات"1. هذا وقد تحدثت التوراة في كثير من أسفارها عن العرب وعلاقتهم بالإسرائيليين، كما جاء في أسفار التكوين والخروج والعدد ويشوع والقضاة وصموئيل -الأول والثاني- والملوك -الأول والثاني- وأخبار الأيام -الأول والثاني- ونحميا والمزامير وأشعياء وإرمياء وحزقيال ودانيال والمكابيين-الأول والثاني-. غير أن التوراة عندما تتحدث عن العرب، فإنما تهتم بالقبائل والأماكن العربية ذات العلاقة الاقتصادية باليهود في بعض الأحيان، وذات العلاقة السياسية في أحوال أُخَر، ولهذا نجدها عندما تتحدث عن القبائل في شبه الجزيرة العربية، فإنما تتحدث عنها على أساس أنها قبائل كانت لها علاقة بالعبرانيين، ثم هي قبائل متبدية في المكان الأول، إلا عندما يتصل الأمر بقصة سليمان وملكة سبأ، فالأمر جد مختلف، ويصبح لهذه القبائل شأن آخر2. وعلى أي حال، فعلينا حين نتعامل مع التوراة كمصدر تاريخي، أن نتخلص تمامًا من الهالة التي أسبغها عليها المؤمنون بها، وأن ننظر إليها كما ننظر إلى غيرها من المصارد التاريخية، ولا يهمنا هنا أن تكون التوراة كتابًا مقدسًا أو لا تكون، فذلك شأن من يريدون أن يروها في نصها الراهن على هذا النحو أو ذاك، ولكن   1 قدم المؤلف دراسة مفصلة عن التوراة في كتابه "إسرائيل" ص19-159. 2 عبد الرحمن الطيب الأنصاري: لمحات عن القبائل البادية في الجزيرة العربية "مطبوعات جمعية التاريخ والآثار بكلية الآداب - جامعة الرياض" عام 1969 ص86. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 الذي يهمنا هنا ألا تكون كتاب تاريخ يحاول فرض مضمونه على الحاضر والمستقبل، كما حاول فرضه على الماضي، وإذا كان ما يعزى للتوراة من قيمة تاريخية لا يجد له سندًا، إلا فيما يزعم لها من قداسة، فالذي لا شك فيه أن هناك ثمة علاقة بين قيمة التوراة ككتاب تاريخ، وقيمتها ككتاب مقدس، ذلك أنه كلما تدعمت قيمتها ككتاب مقدس تضاءلت الريبة في صدق ما تضمنته من وقائع وسهل وصول هذه الوقائع إلى يقين الناس على أنها من حقائق التاريخ التي لا ينبغي الشك فيها، وقد أدركت الصهيونية العالمية هذه الحقيقية، فأحسنت استغلالها إعلاميًّا في الغرب المسيحي لدعم ما زعمت أنه حقها في إنشاء دولتها إسرائيل، ولكن أية قيمة تبقى لتاريخ لا يجد سندًا له، إلا فيما يزعم لكتاب واحد من قداسة، وهي بعد قداسة توجه إليها سهام الريب من أكثر من جانب، وليس بالوسع القول بأنها ترقى إلى ما فوق مظان الشبهات1. ومن هنا فإننا سننظر إلى التوراة كمصدر تاريخي، دون أن نتقيد كثيرًا بتلك الهالة التي فرضتها على المؤمنين بها، إن من كتبوا التوراة المتداولة اليوم -كما يقول المؤرخ الإنجليزي سايس- كانوا بشرًا مثلنا، وهم كمؤرخين لا يختلفون كثيرًا عن نظائرهم من معاصريهم في الشرق، كما أنه ليس هناك تاريخ لا يحتمل المناقشة، بل لا يحتمل أن نخطئه، وما دامت التوراة كتاب تاريخ، فليس هناك ما يمنع المؤرخ من أن يناقشها مناقشة حرة دون تمييز، يتقبل ما تقوله بصدر رحب، إن كان يتفق مع الأحداث التاريخية، ويوافق المنطق والمعقول، ويرفضه حين نذهب بعيدًا عن ذلك2.   1 صبري جرجس: التراث اليهودي الصهيوني - القاهرة 1967 ص51، 58-59. 2 انظر عن "التوراة والحقائق التاريخية" كتابنا إسرائيل ص113-123. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 2- كتابات المؤرخ اليهودي يوسف بن متى : ولد يوسف بن متى هذا "أو يوسفيوس فيلافيوس" في أورشليم عام 37م وتوفي في روما عام 98م "أو 100م"، وكان قد أرسل إلى روما في عام 64م من قبل المحكمة العليا عند اليهود "السنهدرين" للدفاع عن الأحبار الذين سجنوا بأمر المفوض الروماني، ونجح في مهمته ثم عاد إلى القدس، واشترك في ثورة ضد الرومان انتهت بأسره، إلا القائد الروماني "فسباسيان" أنقذه، وسرعان ما نال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 تقديره، ثم صحب ابنه "تيتوس" إلى القدس عام 70م، ثم عاد معه إلى روما حيث حمل اسم "فيلافيوس" باعتبار عبدًا حرره سيده "فسباسيان"، ثم منح حقوق المواطن الروماني1. وهناك في روما كتب يوسف اليهودي كتبه المعروفة، والتي من أهمها "آثار اليهود "Anyiqutities Of The Gews" و"الحروب اليهودية" "The Gewish War" في سبعة أجزاء بالأرامية، والذي ترجم إلى اليونانية، ثم كتب "تاريخ اليهود القديم" في عشرين جزءًا، منذ بدء الخليقة، وحتى عام 66م. وعلى الرغم من تحيز يوسف إلى قومه اليهود، فضلا عن الرغبة في إرضاء حُماته من أباطرة الرومان، وعلى اعتماده إلى حد كبير على كتاب العهد القديم في كتاباته، فإن لمؤلفاته قيمة تاريخية لا شك فيها، بخاصة عن الفترة التي عاصرها، والحروب التي شارك فيها، كما أن فيها معلومات ثمينة عن العرب والأنباط، لا نجدها في كتب أخرى قديمة، وكان الأنباط على أيامه يقطنون في منطقة واسعة تمتد من نهر الفرات وتتاخم بلاد الشام، ثم تنزل حتى البحر الأحمر، وقد عاصرهم يوسف هذا، وإن كان لا يهتم إلا فيما يختص بعلاقتهم باليهود، فضلا عن أن بلاد العرب عنده لا تعني سوى ممكة الأنباط2.   1 سبينوزا: رسالة في اللاهوت والسياسة، القاهرة 1971 ص167، فيليب حتى: تاريخ سورية ولبنان وفلسطين بيروت 1958 ص352-353، وكذا. Harvey, The Oxford Companion To Classical Literature, P.228 وكذا Eb, Iii, P.153 2 جواد علي 3/ 55 فيليب حتى: المرجع السابق ص353، سبينوزا: المرجع السابق ص167، وكذا J. Hastings, Dictionary Of The Bible, Edinburgh, 1936, P.68 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 ثانيًا: كتابات الرحالة اليونان والرومان وتشتمل هذه الكتابات-على ما فيها من أخطاء- على معلومات تاريخية وجغرافية عن بلاد العرب قبل الإسلام، وعن أسماء لقبائل عربية كثيرة، لولاها لما عرفنا عنها شيئًا، ويبدو أن أصحاب هذه الكتابات قد استقوا معلوماتهم من الجنود اليونان والرومان الذين اشتركوا في الحملات التي وجهتها بلادهم إلى بلاد العرب، ومن السياح الذين اختلطوا بقبائل عربية وأقاموا بين ظهرانيها، وبخاصة في بلاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 الأنباط، ومن التجار والبحارة الذين كانوا يتوغلون في تلك البلاد، وتعد الإسكندرية من أهم المراكز التي كانت تُعنى عناية خاصة بجمع المعلومات عن بلاد العرب وعن عادات سكانها، وما ينتج فيها لتقديمها إلى من يرغب فيها من تجار البحر المتوسط، وقد استقى كثير من كتاب الإغريق والرومان معارفهم عن بلاد العرب من هذه المصادر التجارية العالمية1. على أنه يجب علينا أن نلاحظ أن هؤلاء الكتاب الكلاسيكيين إنما كانوا يحكمون على ما يرونه ويسمعونه من وجهة نظرهم هم وحسب عقليتهم وإدراكهم وتأثرهم بعادات بلادهم وديانتها، فضلا عن أنهم لم يكونوا يعرفون لغة البلاد التي كانوا يصفونها أو يتحدثون عن تاريخها، ومن ثم فقد اعتمدوا -كما أشرنا من قبل- على أفواه محدثيهم، وجلهم من مستوى لا يزيد عنهم كثيرًا في معرفته لتلك اللغات، أضف إلى ذلك أن كثيرًا منهم قد أساءوا فهم ما رأوه، أو ذهب بهم خيالهم كل مذهب في تفسير أو تعليل ما سمعوه، أو وقعت عليه أبصارهم2، بل إن بعضهم قد ذهب إلى وجود أصل مشترك بين بعض القبائل العربية واليونان، ولعل إن بعضهم قد ذهب إلى وجود أصل مشترك بين بعض القبائل العربية واليونان، ولعل في هذه الفكرة -رغم سذاجتها- ما فيها من إشارات إلى علاقة ممعنة في القدم بين سكان شبه الجزيرة العربية، وبين سكان البحر المتوسط الشماليين3. ولعل أقدم من تحدث عن العرب من اليونان هو "إسكليوس" "525-456ق. م"، ثم جاء من بعده المؤرخ اليوناني المشهور "هيرودوت" "حوالي 484-430ق. م" الذي ندين له بأول عرض رحيب عن مصر ظل سليمًا حتى اليوم، وأما كتابه الثاني "يوتربي" "Euterpe"، فإنه غير مطرد وقصصي كما أنه يميل إلى الانحراف الذي يتسلسل إلى رواية ملحمة الكفاح بين الفرس والهلينيين، وقد تعرض "هيرودوت" لذكر العرب عند الحديث عن الحروب التي قامت بين فارس ومصر على أيام الملك الفارسي "قمييز" "530-522ق. م"، ورغم ما لهيرودوت من سمعة طيبة في عالم التاريخ، حتى دعاه "سيشرون" بأبي التاريخ"،   1 جواد علي: المرجع السابق ص56. 2 أحمد فخري: مصر الفرعونية، القاهرة 1971 ص60. 3 جواد علي 1/ 57. وكذا Charles Forster, The Historical Geography Of Arabia, I, P.Xxxvi وكذا Pliny, Natural History, Vi, P.32, Ii, P.718 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 فهو لم يكن بنجوة من الأفكار الساذجة التي سادت عصره، ومن ثم فقد كان هناك الكثير من القصص الساذج في تاريخه، ولهذا يجب أن نكون على حذر مما يوضع أمامنا بحسبانه تاريخًا، وهو من التراث الشعبي في معايير غير دقيقة الرواية، وتأكيدات بها نواة الحقيقة، وإن غلفت بالمبالغة والتحريف1. وهناك "ثيوفراست" "حوالي 371-287ق. م"، وقد تطرق في كتاباته وأثناء حديثه عن النباتات إلى ذكر بلاد العرب، وبخاصة الجنوبية منها، والتي كانت تصدر التمر واللبان والبخور، وهناك كذلك "إيراتوسثينيس" "276-194ق. م" وقد أفاد كثيرًا من جاءوا بعده من الكتاب اليونان، كما يبدو ذلك بوضوح في جغرافية "سترابو"2. وهناك "ديودور الصقلي" من القرن الأول الميلادي، وقد كتب مؤلفه في "التاريخ العام" "Generai History" في أربعين جزءًا، لم يبق منها سوى خمسة عشر جزءًا، تعرض فيها لتاريخ الفترة ما بين عامي 480، 323ق. م3. وأما "سترابو" "66-24ق. م" فهو من مواطني "بونتس" ويتحدث اليونانية، وقد عاش في الإسكندرية لبضع سنوات، وقد صحب صديقه الوالي الروماني "إليوس جالليوس" في حملته على بلاد العرب عام 24ق. م، وأما كتابه عن بلاد العرب، فيتضمنه الكتاب السادس عشر من مؤلفه "4Geographica" وقد وصف فيه مدائن العرب وقبائلهم على أيامه، كما قدم لنا وصفًا شيقًا عن الأحوال الاجتماعية والتجارية وقت ذاك، والأمر كذلك بالنسبة إلى حملة "إليوس جالليوس" -الآنفة الذكر- حيث قدم لنا وصف شاهد عيان لها، فضلا عن معلومات جديدة   1 انظر: The History Of Herodotus, Translated By G.Rawlinson, In 2 Vols., London, 1920. وكذا A. Gardiner, Egypt Of The Pharaohs, 1964, P.3 2 جواد علي 1/ 57. 3 جواد علي: 1/ 58. 4 انظر: The Geography Of Strabo, Translated By Hamilton, London, 1912 وكذا: The Geography Of Strabo, Translated By H.L. Jones, London, 1949 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 عن بلاد العرب التي مرت بها الحملة، وأخيرًا فعلينا أن نسجل أن "سترابو" كان كاتبًا مرحًا لا تعوزه المهارة1. وأما "أجاثار خيدس السفودي" -الجغرافي المؤرخ من القرن الثاني قبل الميلاد- فهو لم يستطع أن يتجنب الاستعانة "بهيرودوت" على نطاق واسع، وإن انساق وراء جمهرة نقاده2، وأما موسوعة "Historia Naturaiis" لـ "بليني الأكبر" "32-79"ق. م" فتجميع ضخم لقدامى المؤلفين، وقد نالت بلاد العرب والشرق نصيبًا من اهتمامه3 وهناك مؤرخ يوناني مجهول، وضع كتابًا سماه "الطواف حول البحر الأرتيري" وصف فيه رحلته في البحر الأحمر وسواحل بلاد العرب الجنوبية، وقد اختلف الباحثون في التأريخ لهذا الكتاب، فهو قد كتب في الفترة "50-60"4 على رأي، وفي حوالي عام 75م على رأي آخر،5 وفي عام 80م على رأي ثالث6، وفي حوالي عام 106م على رأي رابع، وفي النصف الأول من القرن الثالث الميلادي على رأي خامس7. وأخيرًا هناك "كلوديوس بتولمايوس" الذي أخرج كتابه في الجغرافية حوالي عام 150م، والمعروف باسم "جغرافية بطليموس" وقد جمع فيه بتولمايوس "1380165م" معلومات كثيرة عن بلاد العرب، فقسم الأقاليم حسب درجات الطول والعرض، كما زينه بخرائط تصور وجهة نظر العلم إلى العالم في عصره، ويشير العلماء إلى أن معلوماته عن حضرموت تشير إلى أن مصدره -ولعله تاجرًا أو مبعوثًا رومانيًّا- ربما قد أقام فترة في "شبوة"، ذلك لأن وصف "بتولمايوس" للأودية وللأماكن هناك يشير إلى معرفة بها، والأمر جد مختلف بالنسبة إلى "سبأ" التي لم تكن معلوماته، عنها تتفق ومستوى معلوماته عن حضرموت8.   1 جواد علي 1/ 58-59 وكذا A.Gardiner, Op. Cit., P.6-7 وكذا Delacy O.htm'leary, Arabia Before Muhammed, P.75, 2 A. Gardiner, Op.Cit., P.5 3 Ibid., P.7 4 فضلو حوراتي: العرب والملاحة في المحيط الهندي، القاهرة 1958 ص54. 5 سبتينو موسكاتي: المرجع السابق ص378. 6 W.F. Albright, In Basor, 176, 1964, P.51 7 جواد علي 1/ 59 وكذا J. Pirenne, Le Royaume Sud-Arabe De Qataban Et Sa Datation, P.167-193 وكذا J. Pirenne, La Date Du Periple De La Mer Erythree, Ja, 1961, P.441 8 جواد علي: المرجع السابق ص60 وكذا A. Gardiner, Op.Cit., P.7-8 وكذا Le Museon, 1964, P.466 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 ثالثًا: الكتابات المسيحية. وترجع أهمية هذه الكتابات إلى أنها تؤرخ لانتشار المسيحية في بلاد العرب، وللقبائل العربية نفسها، فضلا عن علاقة العرب بالفرس واليونان، كما أنها تربط الأحداث بالمجامع الكنسية وبتاريخ القديسين، ومن ثم فقد حصلنا على تواريخ ثابتة، الأمر الذي افتقدناه إلى حد كبير في المصادر السابقة، على أنه يجب أن نلاحظ أن هذه الكتابات دينية، أكثر منها تاريخية، ومن هنا فقد غلبت عليها الصبغة النصرانية1. ولعل من أشهر هذه الكتابات مؤلفات "يوسبيوس" "264-349م" والذي كان واحدًا من آباء الكنيسة البارزين في عصره، وأول مؤرخ كنسي يعتد به، حتى لقب "بأبي التاريخ الكنيسي" وبـ"هيرودوت النصارى"2، وقد ولد في فلسطين، وربما في قيصرية التي كان أسقفا لها، وقد ساعدته صلاته بالإمبراطور قسطنطين "306-337م" وبرؤساء الكنيسة وكبار رجال الدولة إلى أن يعرف الكثير من الأسرار، وإلى أن يطلع على المخطوطات والوثائق الثمينة، ومن ثم فقد أفاد منها فائدة كبيرة في مؤلفاته التاريخية3. وهناك كذلك "بروكبيوس" "المتوفى عام 563م"، والذي يعد المؤرخ الكنسي لعصر جستنيان "527-565م" المليء بالأحداث ومما يجعل مادته التاريخية موضع ثقة أن بعضها مستقى من المرويات الشفهية، وأغلبها نتيجة معلوماته الشخصية، فقد عين في عام 267م سكرتيرًا خاصًا ومستشارًا قانونيًّا للقائد الروماني "بليساريوس" وصحبه في حملاته في آسيا وأفريقية وإيطاليا، كما عين عضوًا في مجلس الشيوخ الروماني وقد تحدث في كتابه "تاريخ الحروب" عن المعارك التي دارت بين   1 جواد علي 1/ 61. 2 جواد علي 1/ 61 وكذا W. Smith, A Dictionary Of The Bible, Iii, P.107. 3 فيليب حتى: المرجع السابق ص397، يوسبيوس القيصري: تاريخ الكنيسة، ترجمة مرقص داود، القاهرة 1960. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 الغساسنة واللخميين، فضلا عن غزو الأحباش لليمن في الجاهلية1. هناك كتاب نشره المستشرق "كارل موللر" لمؤلف مجهول، واسمه "Giaucys" يبحث في آثار بلاد العرب2، هذا بالإضافة إلى ما جاء بشأن العرب في المخطوطات السريانية المحفوظة في المتحف البريطاني3، فضلا عن كتابات المؤرخين النصارى -من روم وسريان- والذين عاشوا على أيام الأمويين والعباسيين، وقد كتبوا عن العرب في الجاهلية والإسلام فأمدونا بمعلومات لا نجدها في المصادر الإسلامية، وبخاصة عن انتشار المسيحية في بلاد العرب، وعن علاقة الروم بالعرب والفرس4.   1 عبد المنعم ماجد: التاريخ السياسي للدولة العربية، الجزء الأول ص38 فيليب حتى: المرجع السابق ص397-398. 2 جواد علي 1/ 65 وكذا Glaucus Archaeology Araabica, By Carl Muller, In Fhg,4, Paris, 1851, P.409 3 W. Wright, Catalogue Of The Syriac Manuscripts In The British Musaum, 3, Vol, 1870-72. 4 جواد علي 1/ 64-65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 ثالثًا: المصادر العربية. 1- القرآن الكريم : القرآن الكريم كتاب الله1، الذي: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} 2، نزل على مولانا وسيدنا رسول الله -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ- منجما في ثلاث وعشرين سنة3، حسب الحوادث ومقتضى الحال4، وكانت الآيات والسور تدون ساعة نزولها، إذ كان المصطفى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا ما نزلت عليه آية أو آيات قال: "ضعها في مكان كذا ... من سورة كذا"، فقد ورد أن جبريل -عليه السلام- كان ينزل بالآية أو الآيات على النبي، فيقول له: يا محمد: إن الله يأمرك أن تضعها على رأس كذا من سورة كذا"، ولهذا اتفق العلماء على أن جمع القرآن "توقيفي" بمعنى أن ترتيبه بهذه   1 قدم المؤلف دراسة مفصلة في فصل مطول عن "القرآن الكريم" في كتابه "دراسات في التاريخ القرآني"- الجزء الأول- "الفصل الأول". 2 سورة فصلت: آية42 وانظر: تفسير الكشاف 4/ 2010202؛ تفسير مجمع البيان 24/ 24-26، تفسير روح المعاني 14/ 127-128، تفسير الفخر الرازي 26/ 131، وتفسير النسفي 4/ 380. 3 قارن: صحيح البخاري. 4 نزل القرآن منجمًا فيما بين عامي 13ق. هـ، 11هـ "610-632م" انظر في ذلك: محمد أبو زهرة: القرآن ص23-24، محمد عبد الله دراز: مدخل إلى القرآن الكريم، الكويت 1974 ص33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 الطريقة التي نراه عليها اليوم في المصاحف، إنما هو بأمر ووحي من الله1". وهكذا تمر الأيام بالرسول الكريم -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ- وهو على هذا العهد، يأتيه الوحي نجمًا بعد نجم، كتاب الوحي يسجلونه آية بعد آية، حتى إذا ما كمل التنزيل، وانتقل الرسول الأعظم إلى الرفيق الأعلى، كان القرآن كله مسجلا في صحف، -وإن كانت مفرقة لم يكونوا قد جمعوها فيما بين الدفتين، ولم يلزموا القراء توالي سورها- وكذا في صدور الحفاظ من الصحابة، رضوان الله عليهم2، هؤلاء الصفوة من أمة محمد النبي المختار، والذين كانوا يتسابقون إلى تلاوة القرآن ومدارسته، ويبذلون قصارى جهدهم لاستظهاره وحفظه، ويعلمونه أولادهم وزوجاتهم في البيوت. ومن هنا كان حفاظ القرآن الكريم في حياة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- لا يحصون، وتلك -وايم الله- عناية من الرحمن خاصة بهذا القرآن العظيم، حين يسره للحفظ، {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِر} 3، فكتب له الخلود وحماه من التحريف والتبديل، وصانه من أن يتطرق الضياع إلى شيء منه، عن طريق حفظه في السطور، وحفظه في الصدور4، مصداقًا لقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ، لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} 5 وقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 6، وقوله   1 السيوطي: الإتقان في علوم القرآن 1/ 48، 63، الزركشي: البرهان في علوم القرآن ص234، 237، 241، السجستاني: كتاب المصاحف ص31، مقدمتان في علوم القرآن ص26032، 40-41، 58، تفسير القرطبي 1/ 61، الصابوني: التبيان في علوم القرآن ص59، محمد أبو زهرة: القرآن ص27، 47-49. 2 البرهان في علوم القرآن ص235، الإتقان في علوم القرآن 1/ 59، مقدمتان في علوم القرآن ص32، مقدمة كتاب المصاحف لآرثر جعفري ص5، محمد حسين هيكل: حياة محمد ص49-50. 3 سورة القمر: آية 32. 4 انظر: محمد عبد الله دراز: النبأ العظيم، الكويت 1970 ص12-14. 5 سورة فصلت: آية 41-42، وانظر: تفسير روح المعاني 24/ 127-128، تفسير القرطبي 15/ 366-367 "دار الكتاب العربي، القاهرة 1967"، تفسير الطبري 24/ 124-125 "طبعة الحلبي، 1954"، تفسير البيضاوي 2/ 350 "طبعة الحلبي، 1968". 6 سورة الحجر: آية9، وانظر تفسير الطبري 14/ 6-8 "مطبعة بولاق 1328هـ"، تفسير النيسابوري 24/ 7-10 "نسخة علي هامش الطبري" تفسير الكشاف 2/ 570، تفسير مجمع البيان 14/ 11-14 تفسير روح المعاني 14/ 16، تفسير الفخر الرازي 19/ 158-159، تفسير النسفي 3/ 14، تفسير المنثور 4/ 94-59. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} 1. وليس هناك من شك في أن القرآن الكريم، كمصدر تاريخي، أصدق المصادر وأصحها على الإطلاق، فهو موثوق السند -كما بينا آنفًا- ثم هو قبل ذلك وبعده كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ومن ثم فلا سبيل إلى الشك في صحة نصه2 بحال من الأحوال، لأنه ذو وثاقة تاريخية لا تقبل الجدل، فقد دون في البداية بإملاء الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وتلي فيما بعد أمامه وحمل تصديقه النهائي قبل وفاته3، ولأن القصص القرآني إنما هو أنباء وأحداث تاريخية، لم تلتبس بشيء من الخيال، ولم يدخل عليها شيء غير الواقع4، ثم إن الله -سبحانه وتعالى -قد تعهد- كما أشرنا آنفًا- بحفظه دون تحريف أو تبديل، ومن ثم فلم يصبه ما أصاب الكتب الماضية من التحريف والتبديل وانقطاع السند، حيث لم يتكفل الله بحفظها، بل وكلها إلى حفظ الناس، فقال تعالى: "والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله"، أي بما طلب إليهم حفظه5. غير أني أود أن أنبه -بعد أن أستغفر الله العظيم كثيرًا- إلى أن القرآن الكريم لم ينزل كتابًا في التاريخ، يتحدث عن أخبار الأمم، كما يتحدث عنها المؤرخون، وإنما هو كتاب هداية وإرشاد للتي هي أقوم، أنزله الله سبحانه وتعالى ليكون دستورًا للمسلمين، ومنهاجًا يسيرون عليه في حياتهم، يدعوهم إلى التوحيد، وإلى تهذيب النفوس، وإلى وضع مبادئ للأخلاق، وميزان للعدالة في الحكم، واستنباط لبعض الأحكام، فإذا ما عرض لحادثة تاريخية، فإنما للعبرة والعظة6. إلا أن القرآن الكريم -مع ذلك- إنما يقدم لنا معلومات مهمة عن عصور ما قبل الإسلام، وأخبار دولها، أيدتها الكشوف الحديثة كل التأييد، كما أننا نجد في   1 سورة القيامة: آية 17-19، وانظر: تفسير الطبري 1/ 95-97 "طبعة دار المعارف- القاهرة 1374هـ"، تفسير البيضاوي 2/ 522-532، تفسير الطبري 29/ 187-191 "طبعة الحلبي 1954". 2 طه حسين: الأدب الجاهلي، القاهرة 1933 ص68. 3 محمد عبد الله دراز: مدخل إلى القرآن الكريم ص49. 4 عبد الكريم الخطيب: القصص القرآني، القاهرة 1964 ص52. 5 محمد عبد الله دراز: النبأ العظيم، نظرات جديدة في القرآن ص12-14. 6 انظر: عن أهداف القرآن ومقاصده: تفسير المنار 1/ 206-293. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 كتاب الله الكريم سورة كاملة تحمل اسم مملكة في جنوب شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام -وأعني بها سورة سبأ- هذا إلى أن القرآن الكريم قد انفرد -دون غيره من الكتب السماوية- بذكر أقوام عربية بادت، كقوم عاد1 وثمود2، فضلا عن قصة أصحاب الكهف3 وسيل العرم4، وقصة أصحاب الأخدود5، إلى جانب قصة أصحاب الفيل6، وهجرة الخليل وولده إسماعيل، عليهما السلام، إلى الأرض الطاهرة في الحجاز، ثم إقامة إسماعيل هناك7. على أنه يجب علينا أن نلاحظ أنه رغم أن هدف القرآن من قصصه، ليس التأريخ لهذا القصص، وإنما عبرًا تفرض الاستفادة بما حل بالسابقين، ومع ذلك فيجب أن لا يغيب عن بالنا -دائمًا وأبدًا- أن هذا القصص، إن هو إلا الحق الصراح، وصدق الله العظيم حيث يقول: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً} 8، ويقول: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ} 9 ويقول: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ} 10، ويقول: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ} 11، ويقول: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} 12 ويقول: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} 13.   1 انظر: الأعراف: آية 65، هود: آية 50-60، الشعراء: آية 123-140-، وانظر الفصل السادس من كتابنا "دراسات في التاريخ القرآني". 2 انظر: الأعراف: آية 73-79، هود: آية 61-86، الشعراء: آية 141-159، وانظر: الفصل السابع من كتابنا "دراسات في التاريخ القرآني". 3 سورة الكهف: آية 9-26. 4 سورة سبأ: آية 15-19، وانظر: كتابنا "دراسات في التاريخ القرآني"، الفصل التاسع. 5 سورة البروج: آية 4-10، وانظر: الفصل العاشر من كتابنا الآنف الذكر. 6 سورة الفيل، وانظر الفصل الحادي عشر من كتابنا الآنف الذكر. 7 سورة البقرة: آية 124-137، سورة إبراهيم: آية 35-41، وانظر الفصل الرابع من كتابنا الآنف الذكر. 8 سورة النساء: آية 87. 9 سورة آل عمران: آية 62. 10 سورة الكهف: آية 13. 11 سورة فاطر: آية 31. 12 سورة الزمر: آية 2، وانظر الآية 41. 13 سورة الجاثية: آية 6، وانظر: تفسير البيضاوي 2/ 379، تفسير الطبري 25/ 141، تفسير القرطبي 16/ 158. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 2- الحديث : الحديث هو ما ورد عن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من قول أو فعل أو تقرير1، وللحديث مكانة كبرى في الدين تلي مرتبة القرآن الكريم مباشرة، وصدق رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- حيث يقول: "تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما بعدي أبدًا، كتاب الله وسنتي" 2، والحديث الشريف مفسر للقرآن الكريم، ذلك أن كثيرًا من آيات الذكر الحكيم مجملة أو مطلقة أو عامة، فجاء رسول الله -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ- فبينها أو قيدها أو خصصها3، قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 4. وقال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 5، ومن هنا كان الحديث الشريف هو المصدر الثاني للشريعة الإسلامية، ثم هو أصدق المصادر التاريخية- بعد القرآن الكريم- لمعرفة التاريخ العربي القديم في عصوره القريبة من الإسلام بالذات6. وليس من شك في أن كتب الحديث7 وشروحها- رغم أنها مصدر فقهي أكثر منه تاريخي8 -مورد غني من الموارد الأساسية لتدوين أخبار الجاهلية فيما قبيل الإسلام، على أن الغريب من الأمر أن مؤرخي تلك الفترة قد تجاهلوا هذا المنهل الغزير، وبخاصة فيما يتصل بتاريخ عرب الحجاز، إلى حد كبير، ومن ثم فقد خسروا واحدًا من أهم وأصدق مصادر التاريخ العربي القديم.   1 انظر: تعريفات أخرى: مصطفى السباعي: السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي: القاهرة 1961 ص59-60. 2 الحديث رواه أصحاب السنن. 3 فتاوى الإمام ابن تيمية 15/ 443، 13/ 19، 17/ 431-332. 4 سورة النحل: آية 44. 5 سورة الشورى: آية 52، وانظر: تفسير الطبري 25/ 46047، تفسير القرطبي 16/ 54-60، تفسير البييضاوي 2/ 362. 6 قدم المؤلف دراسة مفصلة عن الحديث في الفصل الثاني من كتابه "دراسات في التاريخ القرآني". 7 أشهر مجاميع الحديث: موطأ الإمام مالك "م179/ 795" ومسند الإمام أحمد بن حنبل "164-241هـ" وسنن الدارمي "م255هـ" وصحيح البخاري "194-256هـ" وصحيح مسلم "204-268هـ" وسنن أبي داود "202-275هـ" وسنن الترمذي "209-279هـ" وسنن النسائي "215-303هـ" وسنن ابن ماجه "209-273 أو 275هـ". 8 R. Blachere, Le Probleme De Mahomet, Paris, 1952, P.7 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 3- التفسير : نزل القرآن الكريم بلغة العرب، وعلى أساليب العرب وكلامهم1، يقول تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عربيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} 2، وهذا أمر طبيعي لأنه أتى يدعو العرب -بادئ ذي بدء- ثم الناس كافة، إلى الإسلام، ومن ثم فلا بد أن يكون بلغة يفهمونها3: تصديقًا لقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} 4. ورغم أن القرآن الكريم نزل بلسان عربي، وفي بيئة عربية كانت تفاخر من نواحي الحضارة بفن القول، فإنه لم يكن كله في متناول الصحابة جميعًا، يستطيعون أن يفهموه -إجمالا وتفصيلا- بمجرد أن يسمعوه، لأن العرب- كما يقول ابن قتيبة5- لا تستوي في المعرفة بجميع ما في القرآن من الغريب والمتشابه، بل إن بعضها يفضل في ذلك على بعض. إلا أن هذا لا يمنعنا من القول بأن الصحابة على العموم كانوا أقدر الناس على فهم القرآن، لأنه نزل بلغتهم، ولأنهم شاهدوا الظروف التي نزل فيها، ومع ذلك فقد اختلفوا في الفهم حسب اختلافهم في أدوات الفهم، وذلك لأسباب، منها "أولًا" أنهم كانوا يعرفون العربية على تفاوت فيما بينهم، وإن كانت العربية لغتهم، ومنها "ثانيًا" أن منهم من كان يلازم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- ويقيم بجانبه، ويشاهد الأسباب التي دعت إلى نزول الآية، ومنهم من ليس كذلك، ومنها "ثالثًا" اختلافهم في معرفة عادات العرب في أقوالهم وأفعالهم، فمن عرف عادات العرب في الحج في الجاهلية، استطاع أن يعرف آيات الحج في القرآن الكريم، أكثر من غيره ممن لم يعرف6.   1 انظر: ابن قتيبة: تأويل مشكلات القرآن ص62. 2 سورة يوسف: آية2، وانظر: الزمر: آية28، والزخرف: آية3، والشعراء: آية192-195، والرعد: آية37، والنحل: آية 102-103، وفصلت: آية 1-3، 44، والشورى: آية 7، والأحقاف: آية 12. 3 قدم المؤلف دراسة مفصلة عن "التفسير" في الفصل الثالث من كتابه "دراسات في التاريخ القرآني". 4 سورة إبراهيم: آية4 وانظر: تفسير الطبري 16/ 516-517 "دار المعارف القاهرة 1969". 5 ابن قتيبة: رسالة في المسائل والأجوبة ص8، ثم قارن: مقدمة ابن خلدون ص366. 6 أحمد أمين: فجر الإسلام ص197-198. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 وهكذا نشأ علم التفسير لفهم القرآن وتدبره، ولتبيان ما أوجز فيه، أو ما أشير إليه إشارات غامضة، أو لما غمض علينا من تشابيهه واستعاراته، وألفاظه أو لشرح أحكامه1، وقد نشأ علم التفسير هذا في عصر الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- فكان النبي أول المفسرين له، ثم تابعه أصحابه من بعده2، على أساس أنهم الواقفون على أسراره، المهتدون بهدي النبي -عليه الصلاة والسلام3- ولعل أشهر المفسرين من الصحابة الإمام علي- كرم الله وجهه ورَضِيَ اللَّهُ عَنْه- وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود4. وفي عصر التابعين تضخم التفسير بالإسرائيليات والنصرانيات، لسبب أو لآخر5 مما دفع الإمام أحمد بن حنبل إلى أن يقول كلمته المشهورة: "ثلاثة ليس لها أصل، التفسير والملاحم والمغازي" أي ليس لها إسناد، لأن الغالب عليها المراسيل6، وإلى أن يقول الإمام ابن تيمية: "والموضوعات في كتب التفسير كثيرة"7. ومع ذلك، ورغم هذه الشوائب، فالذي لا شك فيه أن كتب التفسير تحتوي على ثروة تاريخية قيمة، تفيد المؤرخ في تدوين التاريخ العربي القديم، وتشرح ما جاء مجملا في القرآن العظيم، وتبسط ما كان عالقًا بأذهان الناس عن الأيام التي سبقت عصر الإسلام، وتحكي ما سمعوه عن القبائل العربية البائدة، التي ذكرت على وجه الإجمال في القرآن الكريم، وما ورد عندهم من أحكام وآراء ومعتقدات8.   1 عمر فروخ: تاريخ الجاهلية ص16، وانظر: البرهان في علوم القرآن 2/ 13. 2 فتاوي الإمام ابن تيمية: 13/ 331-333. 3 راجع شروط المفسر وآدابه "الإتقان في علوم القرآن 2/ 175-187، تفسير المنار 1/ 17026، التبيان في علوم القرآن ص1770181". 4 انظر عن أشهر المفسرين من الصحابة "كشف الظنون 1/ 178، الإتقان 2/ 187-189، فتاوى ابن تيمية 13/ 364-366، 17/ 402، فجر الإسلام ص302-204". 5 انظر عن الإسرائيليات في التفسير: كتابنا "دراسات في التاريخ القرآني" -الفصل الثالث-، محمد السيد الذهبي: الإسرائيليات في التفسير والحديث، التفسير والمفسرون. 6 ابن تيمية: مقدمة في أصول التفسير ص14 "طبعة دمشق" تفسير المنار 1/ 8، وانظر: الأسرار المرفوعة ص339 كشف الخفاء 2/ 402، المقاصد الحسنة ص481، تمييز الطيب من الخبيث ص198. 7 ابن تيمية: المرجع السابق ص19. 8 لعل أشهر كتب التفسير إنما هي: تفسير الطبري وتفسير الثعلبي وتفسير المرتضى وتفسير المشكاة وتفسير البغوي وتفسير، الزمخشري وتفسير الطبرسي وتفسير ابن العربي وتفسير ابن عطية وتفسير الرازي وتفسير القرطبي وتفسير النسفي وتفسير النيسابوري وتفسير الخازن وتفسير أبي حيان وتفسير ابن كثير وتفسير البيضاوي وتفسير الجواهر وتفسير السيوطي وتفسير الجلالين وتفسير أبي السعود وتفسير الألوسي وتفسير القاسمي وتفسير المنار وتفسير وجدي وتفسير المراغي وتفسير سيد قطب، ولعل أشهر كتب التفسير التي روت كثيرًا من الإسرائيليات إنما هي: تفسير مقاتل بن سليمان والطبري والثعلبي والخازن، وأما التي تحرجت عن التوسع فيها فأشهرها: تفسير ابن كثير والألوسي ومحمد رشيد رضا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 4- كتب السير والمغازي : وتعتبر هذه الكتب من المصادر المساعدة في التاريخ العربي القديم؛ ذلك لأن كُتاب السير والمغازي إنما كانوا يعرضون لذكر العرب الجاهليين والأنبياء السابقين، ويفصلون القول في نسب الرسول الكريم -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ- وفي أخبار مكة وقريش، ومن يتصل بهما من أفراد وقبائل، كما كانت هذه الكتب تشتمل على الكثير من الشعر الجاهلي الذي كان يستخدمه كتاب السير والمغازي في الاستشهاد على ما يكتبون أو يتحدثون عنه1. ولعل أشهر كتب سيرة مولانا وسيدنا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- هو كتاب ابن هشام، وهو أول كتاب عربي وصل إلينا يؤرخ لسيرة نبي الإسلام الأعظم- وكذا لتاريخ العرب قبل الإسلام- وقد اعتمد صاحبه "أبو محمد عبد الله بن هشام، المتوفى "213/ 828 أو 218/ 834"، على الرواية الشفوية، فضلا عن كتب ضاعت، لعل أهمها كتاب "ابن إسحاق" "م150/ 151، 767/ 768"، الذي كان أول من ألف في سيرة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بناء على طلب الخليفة العباسي المنصور "754-775م"، - واستحق بذلك تسمية ابن خلدون له "بالأستاذ"، إلا أن هناك من سبقه في التأليف في المغازي، من أمثال "عروة بن الزبير" "م124/ 742" و"شرحبيل بن سعد"، وهناك كذلك الواقدي "130/ 747 - 206/ 821 أو 207/ 823" ومحمد بن سعد، صاحب "الطبقات الكبرى" "م230/ 845"، والذي أخذ كثيرًا عن الواقدي حتى حتى كان يسمى أحيانًا بكاتب الواقدي.   1 عبد المنعم ماجد: المرجع السابق ص22-25، سعد زغلول عبد الحميد: في تاريخ العرب قبل الإسلام، بيروت 1975، ص28-29، الفهرست لابن النديم ص98-99، وفيات الأعيان لابن خلكان 1/ 411-412، 722-723. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 5- الأدب الجاهلي : ليس هناك من شك في أن أيام العرب في الجاهلية تعتبر مصدرًا خصبًا من مصادر التاريخ، وينبوعًا صافيًا من ينابيع الأدب ونوعًا طريفًا من أنواع القصص، بما اشتملت عليه من الوقائع والأحداث، وما روي في أثنائها من شعر ونثر وما اشتملت عليه من مأثور الحكم وبارع الحيل، ومصطفى القول، ورائع الكلام، فهي توضح شيئًا من الصلات التي كانت قائمة بين العرب وغيرهم من الأمم كالفرس والروم، وتروي كثيرًا مما كان يقع بين العرب أنفسهم من خلاف، بل إنها سبيل لفهم ما وقع بين العرب بعد الإسلام من حروب شجرت بين القبائل، ووقائع كانت بين البطون والأفخاذ والعشائر. ثم هي في أسلوبها القصصي وبيانها الفني مرآة صادقة لأحوال العرب وعاداتهم وأسلوب حياتهم، وشأنهم في الحرب والسلم، والاجتماع والفرقة، والفداء والأسر، والنجعة والاستقرار، وهي أيضًا مرآة صافية تظهر فيها فضائلهم وشيمهم، كالدفاع عن الحريم والوفاء بالعهد، والانتصار للعشيرة وحماية الجار، والصبر في القتال والصدق عند اللقاء، وغير هذا مما نراه واضحًا في تلك الأيام1. ولو نظرت إلى الشعر الجاهلي في جملته وتفصيله، وبخاصة ما كان في الفخر والحماسة، والرثاء والهجاء، فإنك تجده قد ارتبط بتلك الأيام، فبينما كان الفوارس يناضلون بسيوفهم ورماحهم، ويجودون بنفوسهم رخيصة في سبيل أقوامهم، كان الشعراء من ورائهم يدفعون عن الأحساب بقصيدهم، ويطلقون ألسنتهم في خصومهم وأعدائهم، ويندبون بقوافيهم صرعاهم، والقتلى من أشرافهم وزعمائهم. ترى ذلك في شعر الأعشى وعنترة وابن حلزة وعامر بن الطفيل وقيس بن الأسلت وقيس بن الحطيم، وعبد يغوث ومهلهل بن ربيعة والخنساء وصخر ومعاوية ابني عمرو وحسان بن ثابت، وغيرهم ممن ظهر أثر الأيام في شعرهم من قريب أو بعيد2.   1 محمد أحمد جاد المولى، علي محمد البجاوي، محمد أبو الفضل إبراهيم: أيام العرب في الجاهلية، القاهرة 1942 ص ط-ي. 2 نفس المرجع السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 والشعر الجاهلي دون شك مصدر من مصادر تاريخ العرب قبل الإسلام، وقديمًا قالوا: "إن الشعر ديوان العرب" يعنون بذلك أنه سجلٌ سُجِلَتْ فيه أخلاقهم وعاداتهم ودياناتهم وعقليتهم، وإن شئت فقل إنهم سجلوا فيه أنفسهم، كما نستطيع أن نستدل به على شبه جزيرة العرب، وما فيها من بلاد وجبال ووديان وسهول ونبات وحيوان، فضلا عن عقيدة القوم في الجن وفي الأصنام وفي الخرافات1. وهكذا يروي ابن سيرين عن الفاروق عمر بن الخطاب -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وأرضاه- قوله: "كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه"2 وقريب من هذا ما يروى عن "عكرمة" -تلميذ ابن عباس ومولاه- أنه ما سمع ابن عباس يفسر آية من كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ، إلا ونزع فيها بيتًا من الشعر، وأنه كان يقول: إذا أعياكم تفسير آية من كتاب الله فاطلبوه في الشعر، فإنه ديوان العرب، به حفظت الأنساب، وعرفت المآثر، ومنه تعلمت اللغة، وهو حجة فيما أشكل من غريب كتاب الله، وغريب حديث رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وغريب حديث صحابته والتابعين3. ومن ثم فقد أصبحت كتب الأدب من المصادر المهمة في التاريخ العربي القديم، ففيها ثروة أدبية قيمة، قد لا نجد لها مثيلا في كتب التاريخ، وإن ما جاء بها عن ملوك الحيرة والغساسنة وكندة، أكثر مما جاء في كتب التاريخ، بل هو أحسن منه عرضًا وصفاءً، وأكثر منه دقة، ويدل عرضه بالأسلوب الأدبي المعروف على أنه مستمد من موارد عربية خالصة، لم يعكر صفوها شوائب من إسرائيليات ونصرانيات، فضلا عن أنه قد أخذ من أفواه شهود عيان، شهدوا ما تحدثوا عنه، بل نستطيع أن نذهب بعيدًا، فنقول أن كثيرًا من الأخبار ماتت لموت الشعر الذي قيل في مناسبتها، في أن حين أخبارًا خلقت خلقًا لأن ما قيل فيها من شعر كان سببًا في بقائها، ومن ثم فقد أصبح الشعر سببًا في تخليد الأخبار، لسهولة حفظه، ولاضطرار رواته إلى قص المناسبة التي قيل فيها4.   1 أحمد أمين: فجر الإسلام ص57. 2 محمد بن سلام الجحمي: طبقات فحول الشعراء، القاهرة1952 ص10. 3 جواد علي 1/ 67086، 8/ 663، المزهر في علوم اللغة 2/ 302، 407، الإتقان في علوم القرآن 2/ 55، شرح حماسة أبي تمام للتبريزي 1/ 3. 4 جواد علي 1/ 71، 73، دائرة المعارف الإسلامية، مادة تاريخ ص484، وانظر: سعد زغلول: المرجع السابق ص31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 على أن للأدب -كمصدر تاريخي- عيوبًا، منها "أولًا" أنه لا يرجع إلى أكثر من عصر الجاهلية، وهو جزء من عصر ما قبل الإسلام، يقدر له زمنًا يتراوح بين قرن ونصف، وقرنين ونصف قبل ظهور الإسلام مباشرة، بينما يقدر العلماء لعصور ما قبل الإسلام مدة ربما تتجاوز العشرين قرنًا، تمتد من حوالي 1500ق. م، إلى عام 610م1. ومنها "ثانيًا" أن أكثر ما روي لنا منه إنما قد عني فيه بالمختارات أكبر عناية، وهم في هذا ينظرون إليها نظرة الأديب، لا نظرة المؤرخ، فالقصيد التي لم يحكم نسجها، ولم تهذب ألفاظها، ولم يصح وزنها، قد يعجب بها المؤرخ، أكثر من إعجابه بالقصة الكاملة من جميع نواحيها، ويرى فيها دلالة على الحياة العقلية، أكثر من قصيدة راقية2، ومنها "ثالثًا" أن الشعر الجاهلي لا يتحدث عن التاريخ السياسي، بقدر ما يتحدث عن التاريخ الديني والاجتماعي. ومنها "رابعًا" أن الشعر الجاهلي قد تعرض للضياع بتركه يتناقل على ألسنة الرواة شفاها نحو قرنين من الزمان، إلى أن دون في تاريخ متأخر3، حتى أن "أبا عمرو بن العلاء" يقول: "ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله، ولو جاءكم وافرًا لجاءكم علم وشعر كثير4. ومنها "خامسًا" أن معظم ما وصلنا من الشعر الجاهلي، إنما كان من عمل البدو، وليس من عمل الحضر، ومن ثم فهو يمثل البادية أكثر ما يمثل الحاضرة5، ومنها "سادسًا" أن هناك مجالا للظن -على خلاف الشائع- أن العلماء قد خففوا -مدفوعين بالعامل الديني- من الطابع الوثني في بعض القصائد، كما أن الإفراط في الحرص على صحة اللغة وصفائها في أوساط البصرة قد أدى إلى إجراء بعض التصحيحات في الآثار المروية6. ومنها "سابعًا" أنه حتى هذا الشعر القليل الذي وصل إلينا توجه إليه سهام الريب من كل جانب، وليس بالوسع القول بأنه يرقى إلى ما فوق مظان الشبهات، ذلك   1 محمد مبروك نافع: تاريخ العرب، عصر ما قبل الإسلام، القاهرة 1952 ص9. 2 أحمد أمين: فجر الإسلام ص57. 3 طه حسين: المرجع السابق ص64. 4 محمد بن سلام الجمحي: المرجع السابق ص10. 5 عبد المنعم ماجد: المرجع السابق ص35، القرشي: جمهرة أشعار العرب ص34. 6 ريجيس بلاشير: تاريخ الأدب العربي- العصر الجاهلي، بيروت 1956 ص135. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 أن كثيرًا من الرواة قد تجرأ عليه بالنحل، إما بنقل شيء من قائل إلى قائل، وأما بوضع شيء منه على ألسنة الشعراء1. ذلك أنه في عام 1864م تناول "تيودور نولدكه" الموضوع لأول مرة، مشيرا إلى الشكوك التي يثيرها مظهر الشعر الجاهلي، وفي عام 1872م عاد "إهلوارد" إلى الموضوع مرة أخرى، دون تجديد فيه، وإن عرضه بدقة لم يتوصل إليها سلفه، خرج منها إلى أن عددًا قليلا من القصائد هو الصحيح، وأما غالبيتها فالشك فيها محتوم لا مناص منه، ثم جاء بعد ذلك "موير" و"باسيه" و"ليال" و"بروكلمان" فوافقوا على آراء "نولدكه" و"إهلوارد"، وإن زاد الشك كثيرًا عن كليمان هوارت"2. وفي عام 1925م، جاء "مرجليوث" وأصدر بحثًا له تحت عنوان "أصول الشعر العربي"، رجَّح فيه أن هذا الشعر الذي نقرأه على أنه شعر جاهلي، إنما هو من نتاج العصور الإسلامية، ثم نحله الوضاعون لشعراء جاهليين3، وتابع "ليفي ديلا فيدا" مرجليوث في دعواه، وذهب إلى أن العرب حينما نسوا في القرن الثاني والثالث بعد الهجرة، ما كانوا يذكرونه عن التاريخ الجاهلي، حاول اللغويون والإخباريون أن يملئوا الفجوات، فزيفوا ما لم يجدوه في الوثائق الحقيقية4، ومن ثم فقد رأى هذا الفريق من المستشرقين أن الأدب التاريخي العربي، ليس أوثق من القصص التاريخي، وأن أكثر الشعر موضوع، وبالتالي فليس من المستطاع اتخاذهما أساسًا نبني عليه فهمًا صحيحًا لما كان يحدث في بلاد العرب في العصر الجاهلي5. وأما الأدباء العرب، فلعل أسبقهم في هذا المجال إنما هو "الرافعي" في كتابه   1 عمر فروخ: تاريخ الجاهلية ص18. 2 ريجيس بلاشير: المرجع السابق ص176-177، وكذا. C. Huart, Une Nouvelle Source Du Koran, Ja, 1904, P.142f وانظر كذلك: W. Muir, Ancient Arabic Poetry, Jras, 1875. وكذا C. Lyall, Translations Of Ancient Arabia Poetry, Londres, 1885 3 D.S Margoliouth, The Origins Of Arabic Poetry, Jras, 1925, P.417-449 4 Giorgio Levi Della Vida, Pre-Islamic Arabia, The Arab History, New Jersy, 1944, P.541-44 5 ناصر الدين الأسد: مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية، بيروت 1966 ص353، 375. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 "تاريخ آداب العرب" الذي صدر في عام 1911م، ثم جاء الدكتور طه حسين، وذهب إلى أن الكثرة المطلقة مما نسميه أدبًا جاهليًّا، ليست من الجاهلية في شيء وإنما هي منحولة بعد ظهور الإسلام، فهي إسلامية تمثل حياة المسلمين، وميولهم وأهواءهم، أكثر مما تمثل حياة الجاهليين1، وأن هذا الشعر الذي ينسب إلى "امرئ القيس" أو إلى "الأعشى" أو إلى غيرهما من الشعراء الجاهليين لا يمكن أن يكون من الوجهة اللغوية والفنية لهؤلاء الشعراء، ولا أن يكون قد قيل أو أذيع قبل نزول القرآن الكريم2. وعلى أي حال، فإن قضية الشعر الجاهلي قضية معروفة في جميع كتب الأدب القديم، وأن القدامى قد سبقوا المحدثين إلى القول بأن كثيرًا من الشعر الجاهلي موضوع مختلق، يروي "ابن الجمحي" أن أول من جمع أشعار العرب، وساق أحاديثها، إنما هو "حماد الراوية" "م155/ 772"، وكان غير موثوق به، كان ينحل شعر الرجل غيره، ويزيد في الأشعار3، وأن تلميذه "خلف الأحمر" قد سار على منواله4، وربما كان السبب فيما فعلاه- حماد5 وخلف- حرص الأعاجم مثلهما، على إظهار مقدرتهم أمام العرب في نظم قصائد ومقطوعات تفوق في أصالتها تلك التي ارتجلها الجاهليون، وهكذا يبدو من صنيع الرجلين مبلغ الشك في عملية جمع النصوص الشعرية6. على أن الأستاذ العقاد، إنما ينكر التزييف تمامًا، ويرى أنه ما من قارئ للأدب يسيغ القول بوجود طائفة من الرواة يلفقون أشعار الجاهلية، كما وصلت إلينا، ويفلحون في ذلك التلفيق، إذ معنى ذلك "أولًا" أن هؤلاء الرواة قد بلغوا من الشاعرية ذروتها التي بلغها، امرؤ القيس والنابغة وطرفة وعنترة وزهير وغيرهم من فحول الشعر في الجاهلية، ومعنى ذلك "ثانيًا" أنهم مقتدرون على توزيع   1 طه حسين: المرجع السابق ص71-72. 2 نفس المرجع السابق ص73. 3 محمد بن سلام الجمحي: المرجع السابق ص14-5، المزهر2/ 153، 406، الأغاني 5/ 89، 8/ 283، ريجيس بلاشير: المرجع السابق ص111-114. 4 بلاشير: المرجع السابق ص15، المزهر 1/ 107، 117. 5 انظر عن حماد الراوية: وفيات الأعيان 2/ 206-210، الأغاني 6/ 67، المعارف ص333، الشعر والشعراء ص206، تهذيب ابن عساكر 4/ 427. 6 ريجيس بلاشير: المرجع السابق ص116. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 الأساليب على حسب الأمزجة والأعمار والملكات الأدبية، فينظمون بمزاج الشاب طرفة، ومزاج الشيخ زهير، ومزاج العربيد الغزِل امرئ القيس، ومزاج الفارس المقدام عنترة بن شداد، ويتحرون لكل واحد مناسباته النفسية والتاريخية، ويجمعون له القصائد على نمط واحد في الديوان الذي ينسب إليه، ومعنى ذلك "ثالثًا" أن هذه القدرة توجد عند الرواة، ولا توجد عند أحد من الشعراء، ثم يفرط الرواة في سمعتها، وهم على هذا العلم بقيمة الشعر الأصيل، وما من ناقد يسيغ هذا الفرض ببرهان، فضلا عن إساغته بغير برهان، ولغير سبب، إلا أن يتوهم ويعزز التوهم بالتخمين، وأن تصديق النقائض الجاهلية جميعًا لأهون من تصديق هذه النقيضة التي يضيق بها الحس، ويضيق بها الخيال1. هذا فضلا عن أن هناك إشارات إلى جمع قديم للشعر، فهناك رواية حماد التي تذهب إلى أن ملك الحيرة "النعمان بن المنذر" قد أمر فنسخت له أشعار العرب، وأن "المختار بن أبي عبيد الثقفي" قد اكتشفها في قصر النعمان2، وأن "الفرزدق" كان يملك ديوان الشاعر، "زهير بن أبي سلمى"3. ومع ذلك، فإن هناك وجهًا آخر للنظر، وهو أن الشعر المزيف يصح أن يكون ممثلا للحياة العقلية الجاهلية، متى كان المزيف عالمًا بفنون الشعر، خبيرًا بأساليبه4، ومن ثم فنحن نستطيع إذن أن نتقبل الشعر الجاهلي كله- الثابت والمشكوك فيه- على أنه من مصادر الحياة في الجاهلية، لأن الذين وضعوا ذلك القدر من الشعر الجاهلي قد حرصوا على أن يقلدوا خصائص الجاهليين اللغوية والمعنوية، واللفظية، وهكذا يظل هذا الشعر المنحول يدل على ما يدل عليه الشعر الثابت، من تصوير للحياة في بلاد العرب قبل الإسلام5.   1 عباس العقاد: مطلع النور ص48-49. 2 المزهر 1/ 148-149، وكذا D.S Margoliouth, Op. Cit, P.427 3 ريجيس بلاشير: المرجع السابق ص105-106، الفهرست ص91. 4 أحمد أمين: فجر الإسلام ص51. 5 عمر فروخ: تاريخ الجاهلية ص15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 6- كتب اللغة : تعتبر كتب اللغة من مصادر الحياة في الجاهلية؛ ذلك لأن اللغة العربية التي نكتب بها وننظم إنما هي من نتاج العصر الجاهلي، فهي من أجل ذلك لا تزال تدل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 بمفرادتها على أوجه الحياة والحضارة الجاهلية، هذا فضلا عن أن القاموس العربي ليس للمفردات اللغوية فحسب، بل هو في الحقيقة يجمع المفردات اللغوية والمعارف الجغرافية والتاريخية والعلمية والفنية، ومن ثم فقد كانت كتب اللغة -ومعاجمها بصفة خاصة- مصادر مهمة للحياة في الجاهلية1. وربما كان من الأهمية بمكان أن نشير هنا إلى أنه ربما لم تظفر لغة من اللغات بما ظفرت به اللغة العربية من ثراء في المعاجم وتنوع في مناهجها وطرق تبويبها، وأما قواميس العرب، فلعل أهمها، القاموس المحيط للفيروزآبادي، ولسان العرب لابن منظور، وتاج العروس للمرتضى الزبيدي، والصحاح للجوهري2.   1 عمر فروخ: المرج السابق ص16. 2 راجع عن المعاجم: الدكتور عبد الستار الحلوجي: مدخل لدراسة المراجع، القاهرة 1974 ص35-41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 7- كتب التاريخ والجغرافية : لعل من الأمور الغريبة أن المؤرخين الإسلاميين قد انصرفوا عن تدوين التاريخ الجاهلي -ولا سيما القديم منه- وحين فعلوا لم تكن كتاباتهم إلا مقدمات لتواريخهم المفصلة والدقيقة للعصر الإسلامي، وحتى هذه المقدمات لم تكن مفصلة ولا دقيقة1، ذلك لأنهم لم يعتمدوا فيها على سند مدون، أو يأخذوها من نص مكتوب، وإنما كان عمادهم في ذلك أفواه الرجال، وهو أمر لا يمكن الاطمئنان إليه، ذلك أن رواة الأخبار، حتى إن كانوا بعيدين عن الميول والأهواء، وحتى إن كانوا من أصحاب الملكات التي تستطيع التمييز بين الغث والسمين، فإن للذاكرة آمادًا لا تستطيع تجاوزها. لقد تحدث أهل الأخبار عن عاد وثمود وطسم وجديس وجرهم وغيرهم من الأمم البائدة، وتكلموا عن المباني القديمة وعن جن سليمان وأسلحته، ورووا شعرًا ونثرًا نسبوه إلى الأمم المذكورة، وإلى التبابعة، بل نسبوا شعرًا إلى آدم، وزعموا أنه قاله حين حزن على ولده وأسف على فقده، ونسبوا شعرًا إلى إبليس، قالوا أنه نظمه في الرد على شعر آدم المذكور، وأنه أسمعه آدم بصوته دون أن يراه، ورووا أشياء أخرى كثيرة من هذه القبيل يصعب تصديقها مما جعل تاريخهم   1 محمد مبروك نافع: عصر ما قبل الإسلام ص5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 -للأسف- أقرب إلى القصص الشعبي منه إلى التاريخ الصحيح1. كان مؤرخو العرب يعتمدون في تأريخهم للعصور السابقة على الإسلام على الأدب العربي وعلى بعض آثار اليمن، حيث كان هناك من يزعم -صدقًا أو كذبًا- أنه بمستطيع أن يقرأ خط المسند، هذا إلى جانب اعتمادهم كذلك على بعض كتابات النصارى التي وجدت في الأديرة والكنائس في العراق والشام، وعلى ما تلقفوه من أفواه اليهود في اليمن والحجاز وغيرها2، ومن أهم هذه الكتابات، كتاب أخبار اليمن لعبيد بن شريه الجرهمي، والذي كتب في أخريات أيام معاوية بن أبي سفيان "41/ 60هـ-661/ 680م"، وكتاب التيجان في ملوك حمير لوهب بن منبه "م110/ 728" وكتاب الإكليل وصفة جزيرة العرب للهمداني "م340/ 951" وكتاب الأصنان لابن الكلبي "م204/ 819" وكتاب سني ملوك الأرض والأنبياء لحمزة الأصفهاني3، وكتاب ملوك حمير وأقيال اليمن لنشوان بن سعيد الحميري "م573هـ"4. ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن المتصفح لما كتبه ابن إسحاق "م150/ 767 أو 151/ 768" وابن هشام "م213/ 728 أو 218/ 834" في سيرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وابن قتيبة "م276/ 889" في "المعارف وفي عيون الأخبار وفي الشعر والشعراء وفي الإمامة والسياسة5"، والدينوري "م2828/ 895" في "الأخبار الطوال" واليعقوبي "م284/ 897" في "التاريخ الكبير" والطبري "م310/ 923" في "تاريخ الرسل والملوك"، وابن عبد ربه "م327/ 939" في "العقد الفريد"، والمسعودي "م345/ 956" في "مروج الذهب وفي التنبيه والإشراف وفي أخبار الزمان" و"ياقوت الحموي" "م 626/ 1229" في   1 جواد علي 1/ 73-57، مروج الذهب 1/ 36-47، 84-83، 2/ 72، الأزرقي 1/ 134، ابن الأثير 1/ 350-353، ابن خلدون 2/ 54، ابن كثير 2/ 166، اليعقوبي 2/ 198، ملوك حمير وأقيال اليمن ص122، 134-135، 151-152. 2 جرجي زيدان: المرجع السابق ص15، محمد مبروك نافع: المرجع السابق ص5. 3 انظر: سعد زغلول: المرجع السابق ص31-48. 4 انظر مقدمة الكتاب التي كتبها، السيد علي بن إسماعيل المؤيد بن أحمد الجرافي، في طبعة السلفية، القاهرة 1378هـ. 5 انظر عن نسبة كتاب الإمامة والسياسة لابن قتيبة، وظلال الشك التي تحوم حوله، مقالة للأستاذ عبد الله عبد الرحيم عسيلان، مجلة كلية اللغة العربية، العدد الثاني، الرياض 1972 ص247-257. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 "معجم البلدان" وابن الأثير "م630/ 1233" في "الكامل في التاريخ"، وابن خلدون "م818/ 1406" في المقدمة وفي العبر وديوان المبتدأ والخبر". إن المتصفح لما كتبه هؤلاء العمد الأفاضل، ليعجب للدقة والتحري الصحيح الذي عالجوا به تاريخ الإسلام في معظم الحالات، بقدر ما يأسف على الإهمال والخلط الذي صحب كتاباتهم عن عصور ما قبل الإسلام1. ولعل عذرهم في ذلك أن عصر الاكتشافات الحديثة الذي نعيشه الآن لم يكن قد بدأ بعد، وأن الاعتماد في التأريخ لبلاد العرب قبل الإسلام إنما كان على ما جاء في التوراة، وعلى الأدب العربي القديم، كما أن الأخبار كانت -كما أشرنا من قبل- تتناقل على الألسنة بدون تدوين أو ضبط، وأن الخط العربي كان في أول الأمر غير منقوط، وكذا كانت الكتابة النبطية التي يرجح أن الخط العربي مشتق منها ومتطور عنها، لا تعرف النقط والإعجام2. وهكذا لم يكن عندهم ما يميز بين الباء والتاء والثاء، أو بين الجيم والحاء والخاء، أو بين السين والشين، فكانوا مثلا يكتبون "بلقيس" حروفا بلا نقط، فتقرأ "بلفيس أو بلقيس أو نلفيس أو بلفيش ... إلخ، وقس عليه ما تختلف به قراءتها بنقل النقط واختلاف مواضعها، فوقع بذلك التباس في قراءة الأسماء، وظهر أثره في اختلاف المؤرخين والنسابين في أسماء الأشخاص والقبائل والأماكن3.   1 محمد مبروك نافع: المرجع السابق ص5-6، وفيات الأعيان 1/ 45-46، 411-412، 494-495، 651، 689-890-، الفهرست ص98-99، 154، معجم الأدباء لياقوت الحموي 5/ 153-154، عبد المنعم ماجد: التاريخ السياسي للدولة العربية 1/ 22-32، وكذا. J. Sauvaget, Historiens Arabes, Paris, 1964 وكذا D.S Margsliouth, Lectures On Arabic Historians, Calcutta, 1930 2 خليل يحيى تامي: أصل الخط العربي وتاريخ تطوره إلى ما قبل الإسلام ص87، عبد الرحمن الأنصاري: المرجع السباق ص89، جرجي زيدان: المرجع السابق ص81، فيليب حتى: تاريخ العرب 1/ 108-109، عبد الصبور شاهين: تاريخ القرآن، القاهرة 1966 ص61-73، ثم قارن الروايات العربية: كتاب المصاحف للسجستاني 1/ 54-، كتاب الوزراء والكتاب للجهشياري ثم قارن الروايات العربية: كتاب المصاحف للسجستاني 1/ 54، كتاب الوزراء والكتاب للجهشياري ص1-2، الفهرست ص12-13 حياة اللغة العربية لحفني ناصف ص34، 51، كتاب المحكم في نقط المصاحف ص26 "دمشق196"، فتوح البلدان للبلاذري ص659، البرهان في علوم القرآن 1/ 377، مقدمة ابن خلدون ص293، صبح الأعشى 3/ 10-11، مصادر الشعر الجاهلي ص33. 3 جرجي زيدان: المرجع السابق ص16، وانظر رواية أخرى تذهب إلى النقط والإعجام، إنما كانا معروفين لدى كتاب العرب في الجاهلية "كشف الظنون 1/ 467، المحكم في نقط المصاحف، ص35، حياة اللغة العربية ص70، مصادر الشعر الجاهلي ص40-41". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 ولعل أهم ما في كتب الإخباريين من عيوب، إنما هي "أولًا" تلك المبالغات -إن لم نقل الخرافات- التي أدخلها أهل الأغراض أو الطامعون ممن دخل في الإسلام من اليهود أو المجوس أو النصارى؛ لأن العرب كانوا يستفتونهم فيما غمض عليهم، فيفتونهم بما تعودوه في كتبهم من المبالغة في ضخامة الأجسام وطول الأعمار، فكان العرب يصدقونهم في كثير مما يقولون لأنهم -كما يقول ابن إسحاق- أهل العلم الأول، ولأن التوراة- والتلمود من بعدها- كانت تشتمل على كثير من قصص الأنبياء الكرام، ولكن بإسهاب وتفصيل كثير1، وهكذا تسربت الخرافات إلى كثير من كتب الإخباريين، فمثلا لما ذكر الله سبحانه وتعالى قصة عاد في القرآن الكريم، فإنه يقول: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ، إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ، الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ} 2. أدخل المفسرون في شرحها وتفسيرها مبالغات رواها أمثال كعب الأحبار ووهب بن منبه وغيرهما، فوصل إلينا من أخبارها أن رجالها كانوا طوالا كالنخل، لم يكن للطبيعة تأثير على أبدانهم لغلظتها ومتانتها، وأن عادًا تزوج ألف امرأة، وعاش ألف سنة ومائتي سنة، ثم مات بعد أن رأى من صلبه أربعة آلاف ولد، كما رأى كذلك البطن العاشر من أعقابه، وكان الملك من بعده في الأكبر من ولده،، وهو "شديد" الذي حكم 580 سنة، ثم خلفه أخوه "شديد" حيث حكم 900 سنة، سيطر فيها على ممالك العالم، وبنى مدينة "إرم ذات العماد"3 "الأمر الذي أشرنا إليه في المقدمة". وهنا "ثانيًا" ما تابع العرب فيه اليهود، وأعني رد كل أمة إلى أب من آباء التوراة، حتى المغول والترك والفرس، فمثلا ردوا نسب الفرس إلى "فارس بن ياسور بن سام" وقس على هذا تعليل أسماء البلاد، وردها إلى أسماء من   1 انظر: مقدمة ابن خلدون ص439-440، تفسير الطبري 6/ 9-10، 17/ 10، 27/ 23، تفسير ابن كثير 3/ 102، معجم الأدباء18/ 8. 2 سورة الفجر: آية 6-8، وانظر: تفسير البيضاوي 2/ 557، تفسير القرطبي 20/ 44-47 "دار الكتب المصرية 1950" تفسير الطبري 30/ 175-180، تفسير الفخر الرازي 30/ 166-169. 3 مروج الذهب 2/ 12-13، جرجي زيدان: تاريخ التمدن الإسلامي 3/ 65، محمد مبروك نافع، المرجع السابق ص34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 يظنون أنهم مؤسسوها، بما يشبه قول يهود، فمثلا "مصر" إنما بناها "مصرايم" وآشور بناها أشور، ومن هذا القبيل كذلك قولهم "يعرب" لمن تكلم بالعربية، وأن "سبأ" إنما سميت كذلك لتفرقها أو لكثرة السبي، وهكذا1. وهناك "ثالثًا" اختلاف الإخباريين في الأنساب، حتى أنهم لم يتفقوا إلا في القليل من أسماء الملوك والأمراء، وإن كان الأمر جد مختلف بالنسبة إلى قريش، وهناك "رابعًا" أن العرب كانت تتصرف في الأسماء غير العربية، بتبديل حروفها وتغييرها، ومن ذلك اختلافهم في ذي القرنين بين أن يكون "الصعب بن مداثر" من ملوك اليمن، أو أن يكون الإسكندر المقدوني2، وقريب من هذا ما فعلوه بملوك مصر على أيام الفراعين، فملك مصر على أيام يوسف، عليه السلام، إنما هو "الريان بن الوليد بن الهروان بن أراشه بن فاران بن عمرو بن عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح" وأن فرعون موسى عليه السلام، إنما هو "قابوس بن مصعب بن معاوية" صاحب يوسف الثاني، وكانت إمرأته "آسية بنت مزاحم بن عبيد بن الريان بن الوليد" فرعون يوسف الأول، وأنها من بني إسرائيل على ما يرى بعض الرواة3. ولست أدري -علم الله- من أين جاء المؤرخون الإسلاميون بهذه الأخبار، والتوراة -على فرض أنهم نقلوها عن يهود- لم تذكر هذه الأسماء أبدًا، والأمر كذلك بالنسبة إلى القرآن الكريم، فضلا عن أن الفراعين المصريين -كما نعرف   1 المسعودي: مروج الذهب 1/ 149-150، 260-261، جرجي زيدان: العرب قبل الإسلام ص15. 2 جرجي زيدان، المرجع السابق ص18، ثم قارن: ملوك حمير وأقيال اليمن ص114 "المطبعة السلفية، القاهرة 378هـ". 3 عز الدين أبو الحسن علي بن أبي الكرم ابن الأثير، الكامل في التاريخ، الجزء الأول، بيروت 1965 ص145، 169، تفسير القرطبي ص3427 "طبعة دار الشعب"، محمد رشيد رضا، تفسير سورة يوسف، ص68، الطبري،: تاريخ الرسل والملوك "1/ 335، 336، 342، 363، ابن كثير: البداية والنهاية 1/ 239، تاريخ ابن خلدون 1/ 75-76، مروج الذهب 1/ 61، سعد زغلول: المرجع السابق ص104. ثم انظر عن ملوك مصر الفرعونية -طبقًا للروايات العربية- كتاب الاستبصار في عجائب الأمصار، تحقيق الدكتور سعد زغلول "ط جامعة الإسكندرية 1958"، مروج الذهب "1/ 396-399، ابن خلدون 2/ 74076، سعد زغلول عبد الحميد: في تاريخ العرب قبل الإسلام ص101-106. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 من أسمائهم -ليس من بينهم من يحمل هذه الأسماء، ولكنه الخلط وادعاء العلم، أضف إلى ذلك بأن الزعم بأن فرعون موسى، هو صاحب يوسف الثاني أمر غير مقبول، فمن المعروف تاريخيًّا أن الفترة ما بين دخول بني إسرائيل مصر على أيام الصديق، وخروجهم منها على أيام الكليم، عليهما السلام، حوالي 430 سنة1، فهل حكم هذا الملك المزعوم "قابوس بن مصعب" هذه القرون الأربعة، والتاريخ يحدثنا أن مصر لم تعرف الحكم الطويل لملوكها "إذا استثنينا ببي الثاني، وقد حكم 94 سنة، ورعمسيس الثاني، وقد حكم 67 سنة"، وفرق كبير بين حكم يقرب من القرن من الزمان، وحكم يقارب قرونًا أربعة، والأعجب من ذلك أن يجعل بعض المؤرخين الإسلاميين "آسية إمراة فرعون" حفيدة الريان مرة، ومن بني إسرائيل مرة أخرى. وهكذا يبدو بوضوح، أن الخلط من ناحية، والإسرائيليات من ناحية أخرى، قد لعبا دورًا كبيرًا في مسخ بعض هذا التاريخ الذي كتبه المؤرخون الإسلاميون عن العصور التي سبقت الإسلام بآماد طويلة. ورغم ذلك كله -والحق يقال- فإن المؤرخين الإسلاميين قدموا لنا الكثير من المعلومات التي يمكن الاعتماد عليها في التأريخ لعصور ما قبل الإسلام، وأن كثيرًا منهم قد انتقدوا تلك المبالغات التي جاءت فيما كتب البعض منهم، كما أنه كثيرًا منهم كذلك قد نبهوا إلى الإسرائيليات والنصرانيات التي تسللت إلى التاريخ العربي القديم.   1 التوراة: سفر الخروج 12: 40-41، ثم انظر عن دخول بني إسرائيل مصر وخروجهم منها، كتابنا "إسرائيل" ص225-329. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 الفصل الثاني: تاريخ البحث العلمى في العصر الحديث في تاريخ العرب القديم مدخل ... الفصل الثاني: تاريخ البحث العلمي في العصر الحديث في تاريخ العرب القديم ظل التاريخ العربي القديم -كما أشرنا من قبل- حتى أخريات القرن الثامن عشر الميلادي، يعتمد في الدرجة الأولى على ما جاء عنه في كتب اليهود واليونان والرومان، فضلا عن المصادر العربية بأنواعها المختلفة، إلى أن بدأ الأوربيون يهتمون في العصر الحديث ببلاد العرب، لأسباب كثيرة، منها الرغبة في معرفة ما كان يجري في مكة والمدينة، إذ ألهب ذلك الموضوع خيال الأوربيين، بخاصة وأن المدينتين المقدستين محرمتان على غير المسلمين1، ومنها الرغبة في السيطرة على تلك المنطقة بعد أن امتد نفوذ الغرب إلى الشرقين -الأقصى والأوسط- مما جعل دراسة هذه المنطقة ضرورة سياسية بالنسبة إلى أوربا، ومنها أن الأوربيين في أسفارهم إلى الهند -عن طريق البحر الأحمر ومصر- سمعوا ما يتناقله سكان شواطئ اليمن وحضرموت عن آثار الأبنية المدفونة في رمال تلك البقاع، وما عليها من كتابات لم يستطع العرب- ولا اليهود قراءتها2. وهكذا بدأ نفر من المستشرقين في طليعة القرن التاسع عشر الميلادي يتطلعون إلى ضرورة الاعتماد على مصادر أثرية، من كتابات ونقوش، توضح ما خفي من هذا التاريخ، كما دفعتهم الكتابات القصصية التي سجلها مؤرخو اليونان والرومان والعرب، وما حفلت به الكتب المقدسة عن ملكة سبأ وسليمان، إلى التفكير في الكشف عن التراث القديم لبلاد اليمن3.   1 أحمد فخري: دراسات في تاريخ الشرق القديم ص146. 2 جرجي زيدان: المرجع السابق ص23. 3 أحمد فخري: اليمن ماضيها وحاضرها ص77 "القاهرة1957". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 وانطلاقًا من هذا كله بدأت رحلات الأوربيين إلى شبه الجزيرة العربية، ثم تلتها بعثات علمية منتظمة اتجهت إلى مختلف أنحاء بلاد العرب، لتكشف لنا عن الحضارات العربية المختلفة، وكانت نتيجة هذه البعوث أن حصلنا على كثير من المعلومات التي تلقي أشعة قوية على الماضي العربي المجيد1، ونستطيع أن نتتبع جهود الأوربيين -من مغامرين ورحالة وبعثات علمية- في هذا السبيل، على النحو التالي.   1 فؤاد حسنين: المرجع السابق ص247. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 أولًا: في جنوب شبه الجزيرة العربية تميزت الفترة ما بين عامي 1513، 1756م، بالمغامرين من الرحالة الأوربيين إلى جنوب شبه الجزيرة العربية، ففي عام 1513م يهاجم "ألفونسو دي البوكرك" ميناء "عدن" بعد أن استولى البرتغاليون على مجموعة حصون في جنوب بلاد العرب، وكان قد رسم خطة دنيئة، يستولي بها على الجثمان الشريف، على صاحبه أفضل الصلاة والسلام، ثم يطلب في مقابل ذلك كنيسة القدس، ولكن الله رد كيده في نحره، "ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين"، فباءت قواته بفشل ذريع أمام أسوار عدن الحصينة، كما أدى ذلك إلى أن يقوم الأتراك المسلمون بالاستيلاء على اليمن، بعد حملتين بحريتين في عامي 1519، 1538م1. ثم تلت ذلك مغامرات فردية إلى "جِدّة" و"المخا" في عام 1517م، ثم مغامرة النصرانيّين "بائز ومونصرات" عام 1589م، حيث كانا أول أوربيين يشاهدان "محرم بلقيس"، ثم رحلة المؤرخ اليسوعي "مانوئيل دي الميدا" في عام 1633م، من عدن إلى خنفر ولحج2. إلا أن الفضل الأكبر في الاكتشافات العلمية ببلاد العرب إبان القرن الثامن عشر، إنما يرجع إلى الألمان، وربما كان العالم "ميخايلس" هو أول من وجه الأنظار إلى بلاد العرب، وإلى الصلات القوية التي تربط بينها وبين العلوم المتصلة بالكتاب   1 J. Pirenne, A La Decouverte De L'arabie, Paris, 1958 وقد نقله إلى العربية: قدري قلعجي، تحت عنوان "اكتشاف جزيرة العرب" بيروت 1963 ص57-58. 2 نفس المرجع السابق ص57-64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 المقدس، ومن ثم فقد أقنع "فردريك الخامس" ملك الدانيمارك، بإرسال بعثة علمية إلى بلاد العرب1، تحركت من ميناء "كوبنهاجن" في 4 يناير 1761م، ووصلت إلى ميناء القنفذة في 29 أكتوبر 1762، غير أن النكبات بدأت تحل بها يومًا بعد آخر، حتى لم يبق من أعضائها على قيد الحياة، غير الضابط الصغير "كارستن نيبؤور" الذي أخذ على عاتقه تنفيذ الخطة التي رسمت للبعثة، ومن ثم فقد قرر ألا يعود إلى وطنه، إلا بعد أن يحقق الهدف، وقد بر الرجل بوعده، ولم تطأ قدماه أرض "كوبنهاجن" إلا في عام 1797م، بعد أن قطع رحلة طويلة مارًّا بالبصرة وبغداد والموصل وحلب والقدس وقبرص واستنبول. وبالرغم من أن أربعة من الباحثين قد ماتوا، إلا أن النتائج التي توصلت إليها هذه البعثة كانت أفضل نتائج البعثات العلمية في ذلك الوقت، وما زالت المعلومات التي دونها "نيبؤور" مرجعًا أساسيًّا عن اليمن حتى الآن، فضلا عن أنه لفت أنظار العلماء إلى "المسند" والرُقُم العربية، إلى جانب ما قدمه من خرائط لأماكن مجهولة لم تكن قد وطأتها قدم أوربي قبل ذلك2، هذا وقد وضع هذا الرحالة الممتاز كتابًا عن رحلته باللغة الألمانية، ظهرت له أكثر من ترجمة فرنسية وإنجليزية3. شجعت رحلة "نيبؤور" العلماء على مواصلة البحث عن النقوش العربية الجنوبية، ثم كانت حملة نابليون بونابرت" على مصر في عام 1798م، وكشف حجر رشيد في العام التالي، ثم الجهود المضنية التي بذلها العلماء من أمثال "إكربلاد" عام 1802م، و"توماس يونج" عام 1814م، وأخيرًا جاء "جان فرنسوا   1 تكونت البعثة من: "كريستنس فون هافن" المتخصص في اللغات الشرقية، و"بيتر فورسكال" المتخصص في علم الحيوان، و"كريستنس كارل كرامر" الطبيب، و"جورج فلهلم بورنفيند" الرسام، ثم "كارستن نيبؤور" لعمل الخرائط وتدوين المعلومات الجغرافية. 2 ديتلف نلسن: المرجع السابق ص1-3، أحمد فخري: اليمن ماضيها وحاضرها ص77-99، دراسات في تاريخ الشرق القديم ص148-149، جاكلين بيرين: المرجع السابق ص144-146، وكذا R.H. Sanger, The Arabian Peninsula, 1954, P.241 وكذا R.A. Nicholson, A Literary History Of The Arabs, P.7 وكذا J.B. Philby, Eb, 14, 1929, P.169 3 جواد علي 1/ 125. وكذا Carsten Niebuhr, Description De L'arabie, Copenhagen, 1773 وكذا Voyage En Arabie, Amsterdam, 1774-80 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 شامبليون" "1790-1823م" الذي تمكن من حل رموز الهيروغليفية المصرية1، كل ذلك وغيره دفع الباحثين إلى القيام برحلات كثيرة إلى بلاد العرب. وفي 8 أبريل من عام 1810م، يصل إلى "الحديدة" الدكتور "أولريخ جاسبار سيتزن" الألماني، ويتمكن من الوصول إلى "ظفار" حيث ينجح في العثور على النقوش التي أشار إليها "نيبؤور"، وفي نسخ خمسة نقوش بالقرب من "ذمار" تعتبر أولى النقوش العربية الجنوبية، إلا أن الرجل سرعان ما اختفى في ديسمبر عام 1811م، في ظروف غامضة في "تعز" أو "صنعاء" بيد الأعراب أو بيد الإمام نفسه2. وفي عام 1834م، يدخل الإنجليز الميدان، ويتمكن الضابط "جيمس ولستد" من زيارة جنوب بلاد العرب، واكتشاف "حصن الغراب" ونسخ نقش كتابي وجده مسجلا عليه، يرجع تاريخه إلى عام 525م، ثم يقوم "ولستد" في العام التالي برحلة إلى غرب "وادي ميفعة"، حيث يعثر هناك في "نقب الهجر" على بقايا مدينة أو حصن3. وفي عام 1835م، تمكن "هوتن" من إضافة عدد جديد من النقوش، والأمر كذلك بالنسبة إلى "كروتندن" الذي جاء عام 1838م بنقوش جديدة، وكذا الدكتور "مايكل" الذي زودنا بخمسة نقوش سبئية، مما ساعد على حل رمور "المسند"4. وفي عام 1843م تمكن الرحالة الألماني فون فريدة" من ارتياد الصحراء المعروفة باسم "بحر الصافي" أو "الأحقاف" شمالي حضرموت، حيث اكتشف في سهل ميفعة الشرقي في "وادي أوبنة" بقايا حائط قديم، عليه نقش حضرمي عرف "بنقش أوبنة"5.   1 A. Gardiner, Egypt Of The Pharaohs, P.21-14 2 ديتلف نلسن: المرجع السابق ص6. 3 ديتلف نلسن: المرجع السابق ص8-7 وكذا R.A. Nicholson, Op. Cit., P.8 وكذا J.R. Wellsted, Travels In Arabia, In 2 Vols., London, 1838 وكذا R.H. Sanger, Op. Cit., P.221, 241 4 جواد علي 1/ 126 وكذا. C.J. Cruttenden, An Excursion To San'a, The Capital Of Yemen, Bombay, Jrgsl, Iii, 1838, P.276-289 5 ديتلف نلسن: المرجع السابق ص8-9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 وقد تميز هذا العام كذلك برحلة الصيدلي الفرنسي "جوزيف توما أرنو" الذي نجح في 12 يوليه 1843م في السفر من صنعاء إلى مأرب، فزار خرائب "صرواح" وفحص بقايا أسوار في مأرب، وكذا معبد "المقه" إله القمر، الذي تقوم آثاره خارج مأرب، والذي يطلق العرب عليه اسم "محرم بلقيس"، هذا إلى جانب نقله لـ 56 نقشًا سبئيًّا رآها هناك، وقد قام "فرزنل"، القنصل الفرنسي في جدة بنشر هذه النقوش عام 1845م، أما "أرنو" نفسه، فقد أثرت عليه رحلته وفقد بصره حينًا من الدهر، بسبب ما تعرض له من أمطار عند عودته من صنعاء إلى الشاطئ في بلاد تهامة1. وفي عام 1860م نجح الضابط الإنجليزي "كوجلان" في شراء مجموعة كبيرة من النقوش، عثر عليها في أنقاض مدينة "عمران" عام 1854م، من بينها تماثيل وأحجار مكتوبة وألواح من النحاس لا يقل عددها عن الأربعين2. وفي تلك الأثناء نجح العلماء في فك رموز هذه الكتابة العربية الجنوبية وأطلقوا عليها اسم "الحروف الحميرية"، ولكن سرعان ما تبين لهم أن هذه النقوش ليست كلها حميرية، وأن بعضها نصوص معينية، وبعضها الآخر سبئية، بل إن فيها نصوصًا تختلف عن الحميرية بعض الاختلاف، وهذه الكتابة هي المسماة "بخط المسند"، وبالقلم المسند، وبالمسند في الموارد العربية3. وبدأت فرنسا تهتم بالأمر، ومن ثم فقد رأت أكاديمية الفنون والآداب الجميلة في باريس عام 1869م، إصدار موسوعة النقوش السامية: Corpus Inscriptionum Semiticarum، واختير المستشرق الفرنسي اليهودي "جوزيف هاليفي" لرياسة بعثة إلى اليمن، لتزويد الموسوعة بنقوش جديدة، وكان اختيار "هاليفي" اختيارًا موفقًا، فهو كيهودي يستطيع أن يتجول بين أفراد القبائل العربية المستقلة بكل حرية، لأن اليهود كانوا يعاملون في اليمن معاملة المنبوذين، فلا يسمح لهم بحق من الحقوق إلا ما تجود به النفس العربية مدفوعة بعامل الرفق والعطف، ومن ثم فلا يسمح لليهودي مثلا بحمل السلاح، كما كان المسلم   1 أحمد فخري: دراسات في تاريخ الشرق القديم ص150. 2 نفس المرجع السابق ص152. 3 جواد علي 1/ 127. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 ينظر إليه نظرة كلها احتقار، وفي نفس الوقت، فإن الشهامة العربية إنما كانت تقضي بعدم الاعتداء على اليهودي الأعزل؛ لأن ذلك الاعتداء إنما كان يشين الكرامة البدوية التي رأت أن قتل اليهودي لا يختلف عن قتل المرأة أو الطفل1. وهكذا بدأ "هاليفي" رحلته في عام 1870م، وحينما وصل إلى "عدن" تلقى معونة الجالية اليهودية فيها، فضلا عن خطابات التوصية لكل يهود اليمن، ثم تزي بزي يهودي فقير جاء من القدس، ثم زار بقايا "القليس" في صنعاء، ثم اصطحب معه يهوديًّا يدعى "حاييم حبشوش"، وزار كل جهات اليمن تقريبًا، بما في ذلك مأرب والجوف ونجران، الأمر الذي لم يتحقق لغيره من قبل، وأخيرًا عاد إلى فرنسا، ومعه 676 نقشًا، لم يكن من بينها إلا أحد عشر نقشًا سبق أن نقلها "أرنو" ونشرها "فرزنل"، ومع ذلك فأهم نتائج الرحلة لم يكن في كمية النقوش، بقدر ما كان في المعلومات الجديدة التي جاءت بها هذه النقوش، فضلا عن بعض الآثار القديمة التي رآها، إلى جانب معلومات كثيرة عن حياة بعض القبائل التي زارها في داخل البلاد2. على أن أعظم اكتشافات هاليفي، إنما كان خرائب "قرناو" عاصمة دولة معين، والمعروفة اليوم "بمعين" وكانت تقع على مرتفع حصين تحيط به الأسوار والأبراج، فضلا عن النقوش التي تشير إلى أن "براقش" الحالية، إنما كانت تسمى في العصور القديمة، "يطيل"، هذا إلى جانب مدينة "السوداء" التي يعتقد "هاليفي" أنها كانت مدينة قديمة صناعية3.   1 ديتلف نلسن: المرج السابق ص12. 2 أحمد فخري: المرجع السابق ص153، وكذا Ahmed Fakhry, An Archaeological Journey To Yemen, Cairo, 1952, Vol. I,P.21-24. 3 ديتلف نلسن: المرجع السابق ص14، وأما أهم الأبحاث التي نشرها "هاليفي" عن رحلته، فهي: J. Halevvy, Report Sur Une Mission Archaeologique Dans Le Yemen, Ja, Vi, 1872, P.1-98 J. Halevy, Voyage Au Nedjran, Bsg, 6 Serie, Vi, P.5-13, 249, 581-606, Xiii, P.466-79 J. Halevy, Itineraire D'un Voyage Dans Le Yemen,1869-1870, Bsg, Paris, July, 1877. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 وفي عام 1882م، قام المستشرق النمساوي، "سيجفريد لانجر" المتخصص في اللغة العربية برحلة إلى اليمن، حيث عثر على نقش حميري هام بالقرب من "ظران" كما حصل على نقوش أخرى على مقربة من "ضاف" التي بحث عنها "سيتزن" دون جدوى، كما تمكن من نسخ عدد من النقوش في صنعاء، فضلا عن الحصول على نقوش من عدن، لم يعرف موطنها الأصلي، من بينها نقش حضرمي له أهمية لغوية، على الرغم مما به من تلف1. وجاء "إدوارد جلازر" تلميد "موللر"، والذي ترجم الجزء الثاني من "الإكليل" إلى اللغة الألمانية -فقام فيما بين عامي 1882، 1892م، بثلاث رحلات إلى اليمن، كانت ذات نفع كبير في تاريخ البحث العلمي، وقد أعد "جلازر" نفسه للمهمة إعدادًا طيبًا، فرغم أنه كان أستاذًا للغة العربية، فقد أقام -قبل رحلاته إلى اليمن- فترات في تونس والقاهرة، ليتمكن من اللغة العربية، وليتعرف على العادات العربية، وأخيرًا رغم أنه يهودي، فقد ادعى الإسلام، وارتدى زي علمائه وسمى نفسه "الحاج حسين". وقد بدأ "جلازر" رحلته الأولى في أكتوبر 1882م، في رفقة حملة تركية جردت لفتح مدينة "سودة" التي كانت تناصب الحكومة العداء، وفي هذه الرحلة زار المنطقة الوسطى، وعاد إلى فرنسا في مارس 1884م، ومعه 250 نقشًا، ثم كانت رحلته الثانية، فيما بين أبريل 1885، وفبراير 1886م، وقد اهتم فيها بالمنطقة الواقعة بين عدن وصنعاء، كما زار "ظفار" ونسخ عددًا كبيرًا من النقوش المعينية، وقد أضيفت فيما بعد إلى ممتلكات المتحف البريطاني2. وفيما بين عامي 1887، 1888م، قام برحلته الثالثة، التي زار فيها "مأرب" ورسم تخطيطات لآثار القنوات والسدود القديمة، كما رسم خريطة جغرافية للمناطق التي زارها، فضلا عما قدمه من وصف لآثارها، وفي رحلته الرابعة "1892-   1 ديتلف نلسن: المرجع السابق ص17. وكذا Delacy O'leary, Arabia Before Muhammed, P.221 وكذا F. Hommel, Exploration In Arabia, Philadelphia, 1903, P, 722 وكذا Otto Weber, Arabien Vor Dem Islam, 1904, P.11 2 ديتلف نلسن: المرجع السابق ص19. وكذا O. Weber, Op. Cit., P.11 وكذا H. Derenbourg., Yemen Inscriptions, The Glaser Collection, In The Babyloniana And Oriental Record, I.1887 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 1894م"، نراه يستعين بالأعراب في نسخ النقوش القديمة في مناطق الجوف، ومن ثم فقد تيسر له جمع مئات من النقوش المهمة، دون أن يذهب بنفسه إلى تلك المناطق الخطرة البعيدة، ومن هذه النقوش "نقش صرواح"، الذي يرجع إلى أقدم عصور الدولة السبئية، فضلا عن مجموعة من العملات العربية القديمة، ضمت إلى مقتنيات متحف الفنون بفيّنا، كما نشر الكثير منها، وإن لم يتم للآن نشر كل أعماله1. وتأثرت أكاديمية الفنون بفينا بنتائج رحلات "جلازر"، فقررت عام 1898م، إرسال بعثة إلى جنوب بلاد العرب، يشرف عليها "موللر" و"لندبرج"، غير أن الإنجليز لم يسمحوا لها بالتوغل داخل اليمن مستغلين نفوذهم هناك، فذهبت إلى حضرموت لزيارة الخرائب القريبة من "شبوه" فأقام العرب العقبات في طريقها، مما اضطرها إلى العودة بعد أن بلغت "عزان"، وإن تمكنت من طبع نقوش "نقب الهجر" و"أوبنة" و"حصن الغراب" وفي يناير 1899م، توجهت إلى سوقطرة لدراسة لهجتها، كما درست فيما بعد اللغات الحديثة في الصومال ومهرة وسوقطرة وشخوري، ونشرت أبحاثًا فيها بعد ذلك2. وتقوم الحرب العالمية الأولى "1914-1918م"، ويتوقف هذا النشاط العلمي الممتاز، ولكن ما أن تضع الحرب أوزارها، وتنال اليمن استقلالها، حتى يغلق الإمام يحيى الأبواب أمام البعثات العلمية والمغامرين سواء بسواء، وذلك إبان الصراع الذي نشأ بينه وبين الإنجليز، بشأن قضايا عدن والمحميات، إلا أن الرجل كان -مع ذلك- جد حريص على الكشف عن آثار بلاده، ولكن بطريقته الخاصة. وهكذا -وعلى نفقة ولي العهد- بدأ البحث من جديد عن آثار اليمن، ففي عامي 1931، 1932م، قام كل من "كار راتيز" و"فون فيسمان" برحلات متعددة إلى الحبشة وحضرموت واليمن، وقاما بأول حفائر في منطقة النخلة الحمراء وغيمان وحقه شمالي صنعاء، إلا أن العقبات سرعان ما أحاطت بهما، كما أن الحفائر لم تكن منظمة، وعلى نطاق ضيق، حتى أن الرجلين لم يتيسر لهما مطلقًا -رغم إقامتهما   1 ديتلف نلسن: المرجع السابق ص21-22 وكذا O. Wether, Op. Cit., P.12. وكذا D.H Muller And N. Rhodokanakis, Eduard Glasser, Reise Nach Marib Vienna, 1913. 2 ديتلف نلسن: المرجع السابق ص23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 مدة غير قصيرة في اليمن -أن يزور آثار مأرب أو الجوف، إذ لم تسمح لهما السلطات بالسفر مطلقًا إلى شرقي وشمالي صنعاء، وقد نشر نتيجة أبحاثهما الجغرافية والأثرية في مؤلف من خيرة الكتب عن اليمن، وهو كتاب في ثلاثة أجزاء، خصص الجزء الثاني منه للآثار1. وفي عام 1931م، تمكن الرحالة الإنجليزي "برترام توماس"2، والذي كان وزيرًا للمالية في حكومة سلطان مسقط، مما أتاح له الفرصة لمعرفة الكثير عن أحوال جنوب بلاد العرب، وزيارة الأماكن النائية، ودراسة أحوال تلك البلاد وما فيها3، تمكن من اجتياز الربع الخالي، أو "مفازة صيهد" كما كان يعرف4، في 58 يومًا، فكان أول أوربي جرؤ على اجتياز هذه المنطقة5، وقد كشف "توماس" هناك عن بحيرة ملحة، يتجه البعض إلى أنها كانت من متفرعات الخليج العربي، كما عثر على آثار جاهلية، لم يعرف عنها شيء حتى الآن6. وتابع "جون فلبي" توماس في اجتياز الربع الخالي، فسافر في 7 يناير 1932م، من الهفوف إلى واحة يبرين، ومنها اتجه جنوبًا إلى الربع الخالي في متوسط نقاطه عند "بئر نيفا" حتى وصل إلى بلدة سليل في منتهى وادي الدواسر7، وفي هذه الرحلة زار عسير ونجران وشبوه وتريم، ثم واصل السير حتى بلغ الشحر، وقد نشر رحلته هذه في عام 1939م8.   1 أحمد فخري: اليمن ماضيها وحاضرها ص83، 167-170-، دراسات في تاريخ الشرق القديم ص155، فؤاد حسنين: المرجع السابق ص256. S.C. Rathjens And H. Von Wissmann, Sudarabien - Reise Band, 2 Vorislamische Altertumer, Hamburg, 1934 2 Bertram Thomas, Arabia Felix, Across The Empty Quarter Of Arabia, London 1932. وكذا The Geographical Journal, Across The Empty Quarter, Iii, 1948, P.1-21 3 فؤاد حمزة: قلب جزيرة العرب ص32. 4 ياقوت: معجم البلدان 3/ 448، وكذاEncy. Of Islam, I, P.370 5 Hand Book Of Arabia, By British Admiralty, I, P.11. وكذا El, I, P.183 6 Bertram Thomas, Arabia, Felix, P.180, وكذا Ency. Of Britannica, 2, P.173 7 فؤاد حمزة: قلب جزيرة العرب ص31. 8 J.B. Philpy, Sheba's Daughters, London, 1939 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 وفي عام 1936م سمحت الحكومة اليمنية للصحفي السوري "نزيه مؤيد العظم" بزيارة مأرب، ومن ثم فقد حصل على معلومات ذات قيمة، نشرها في عام 1938م1، ثم قام "ريكمانز2" بدراسة النقوش التي حصل عليها "نزيه العظم". وفي نفس عام 1936، أرسلت جامعة القاهرة بعثة علمية إلى جنوب بلاد العرب، تحت رياسة الدكتور سليمان حزين، كانت مهمتها دراسة المنطقة من نواحيها الجغرافية والزراعية والجيولوجية -وكذا دراسة النقوش السبئية- إلا أن نشاط البعثة الأثري اقتصر على المنطقة المحيطة ببلدة "ناعط"، وقد نشر الدكتور حزين والدكتور خليل نامي بعضًا من نتائج البعثة3. وفي عام 1937م، قامت ثلاث رحالات أوربيات "ج. كاتون طمسون، أ. جاردنر، ف. شترك" برحلة إلى حضرموت نجحن خلالها في الكشف عن معبد الإله القمر في وادي عمد، مقابل حريضة، وعن وسيلة من وسائل الري التي كانت مستخدمة هناك قبل الإسلام في وادي بيش، كما عثرن على عدد من النقوش، وقد ظهرت نتائج الرحلة في كتاب أصدرته "ج. كاتون طمسون" في عام "1944"4. هذا وفي نفس العام "1937" قام "فان درمويلن" و"فون فيسمان" بالتعاون مع "بتينا فون فيسمان" و"فون فاسيلفسكي" برحلة أخرى "غير رحلتهما الأولى التي قاما بها عام 1931"، أتت بفوائد كثيرة لعلم اللغات السامية5. وهناك غير هذه الرحلات العلمية، رحلات سياسية المظهر والمخبر، كتلك التي قام بها "هارولد" و"انجرامز"، وقد أفادتنا من الناحية الجغرافية، وزادت معلوماتنا عن إقليم حضرموت6، ثم هناك رحلة "هاملتون" إلى شبوه في عام   1 نزيه مؤيد العظم: رحلة في بلاد العرب السعيدة "الجزء الأول: من مصر إلى صنعاء، والثاني من صنعاء إلى مأرب"، القاهرة 1938. 2 G. Ryckmans, Inscriptions Sud-Arabes, 7eme Serie, Le Museon, 55, 1942. 3 خليل يحيى نامي: نشر نقوش سامية قديمة من جنوب بلاد العرب وشرحها، القاهرة 1943، وكذا S.A. Huzayyin, Nature, Vol. Cxl, 1937, P.513 F 4 G.Caton Thompson, The Tombs And Moon Temple Of Hureidha, Oxford,1944 5 Van Der Meulen And Von Wissmann, Hadramaut, Some Of Its Mysteries Unveiled, Leiden, 1932 6 Harold And Ingrams, Arabia And Isles, London, 1942-43 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 1938م، هذا إلى جانب رحلات "تزيجر" في عامي 1945-1946م، إلى بلاد العرب السعيدة1. وفي عام 1945م، تغزو أسراب الجراد اليمن، وتستغيث حكومة الإمام بمصر، طالبة منها العون في رد هذا الكرب، وتسرع جامعة القاهرة بإرسال الأستاذ محمد توفيق -عضو بعثة عام 1936- لدراسة هجرة الجراد في بلاد العرب، والبحث عن وسيلة لإنقاذ اليمن منها، وينتهز الأستاذ محمد توفيق الفرصة، فيزور آثار الجوف، وينقل كثيرًا من النقوش ويأخذ لها صورًا "فوتوغرافية"، وقد نشرت هذه النقوش في القاهرة في عامي 1951-1952م2، كما قام الدكتور خليل يحيى نامي بنشر نقوش خربة براقش، على ضوء مجموعة الأستاذ محمد توفيق3. وفي عام 1947م، يقوم أستاذنا الدكتور أحمد فخري -طيب الله ثراه- برحلة إلى اليمن، يزور فيها مناطق صرواح ومأرب وما حولهما، وكذلك جميع مراكز الحضارة المعينية في الجوف، وقد عثر أستاذنا في رحلته هذه على نحو 120 نقشًا جديدًا لم تكن معروفة من قبل، كما أخذ مجموعة من الصور "الفوتوغرافية" لكل ما رآه من آثار، وكانت مجموعته هذه أول صور "فوتوغرافية" وافية تنشر عن سد مأرب والمعابد المختلفة، وقد نشر نتائج رحلته هذه في بضع مقالات، وفي كتاب أصدره عام 1952م، في ثلاثة أجزاء، اقتصر الجزء الثاني منها على النقوش التي فحصها وترجمها الأستاذ "ريكمانز"4. وكانت أمريكا حتى ذلك الوقت لم تدخل الميدان العلمي في اليمن، ومن ثم فقد نظمت "مؤسسة دراسة الإنسان الأمريكية "The American Foundation For The Study Of Man"، في الفترة ما بين عامي 1950، 1952م، بعثتين علميتين برياسة "وندل فليبس"، ضمت بين أعضائها الأثري المشهور "وليم أولبرايت"،   1 100, 1942, P.103-123. Gj, وكذاA. Hamilton, The Master Of Belhavan وكذاA.Hamilton, The Kingdom Of Melchior, London, 1919 2 انظر: محمد توفيق: آثار معين في جوف اليمن، وكذا "نوقوش خربة معين" وكلاهما من منشورات المعهد الفرنسي للآثار الشرقية بالقاهرة، في عامي 1951، 1952م. 3 خليل يحيى نامي: نقوش خربة براقش، مجلة كلية الآداب، جامعة القاهرة، المجلد 16، الجزء الأول، مايو 1954 ص1-21. 4 أحمد فخري: اليمن ماضيها وحاضرها، القاهرة 1957، دراسات في تاريخ الشرق القديم، القاهرة 1958 وكذا AHMED FAKHRY, AN ARCHAEOLOGICAL JOURNY TO YEMEN, 3 VOLS, CAIRO, 1952. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 اتجهت الأولى إلى الحفر في "بيجان" بحضرموت، واتجهت الثانية إلى اليمن، إلا أن بعثة "فيلبس" كانت للأسف غير موفقة في صلتها بالحكومة اليمنية، ومن ثم فلم تتمكن من إتمام حفر المساحة الأمامية لمعبد محرم بلقيس على مقربة من مأرب، ولكن الأسابيع القليلة التي قضتها البعثة هناك كانت كفيلة بإظهار كثير من المباني والنقوش الجديدة، وإظهار مدى النجاح الذي ينتظر أية بعثة علمية تقوم بالحفر في هذه المناطق البكر1. وهكذا تمكنت البعثة من الحصول على نتائج جديدة لم تكن معروفة عن تاريخ قتبان وسبأ، فضلا عن حفائرها في "تل هجر بن حميد" الذي كشفت فيه عن كثير من الفخار الذي يرجع إلى ما قبل الميلاد بألفي سنة، كما كشفت عن معابد وقصور في "تمنع" -العاصمة القتبانية القديمة- والتي يتجه البعض إلى أنها خربت لأول مرة في حوالي عام 25ق. م2، وأما في مأرب فقد كشفت البعثة عن معبد الإله القمر، وعن سد مأرب، وعن خرائب ترجع إلى القرن السابع ق. م، كما عثرت البعثة على كثير من الآثار البرونزية والرخامية وبعض النقوش السبئية3، وأخيرًا فقد ظهرت في الصحف بعض المقالات عن حفائر البعثة، فضلا عن كتابين، الواحد منهما للقارئ العادي كتبه "وندل فيلبس"، والآخر تقرير علمي واف عن الحفائر4. وفي عام 1952م، وبينما كانت البعثة العلمية قد توقفت عن عملها في مأرب، كانت هناك بعثة جامعة الدول العربية في صنعاء، تقوم بتصوير المخطوطات العربية النادرة في اليمن، وهنا طلبت حكومة اليمن من الدكتور خليل يحيى نامي -رئيس البعثة والأستاذ بجامعة القاهرة، والمتخصص في النقوش اليمنية- أن ينضم إلى لجنة   1 أحمد فخري: المرجع السابق ص157-158. 2 فؤاد حسنين: المرجع السابق ص259 وكذا R.H SANGER, OP. CIT., P.241 3 فؤاد حسنين: المرجع السابق ص259-260. 4 WENDELL PHILLIPS, QATABAN AND SHEBA, LONDON, 1955 وقد ترجمه عمر الديراوي تحت عنوان "كنوز مدينة بلقيس، قصة اكتشاف مدينة سبأ الأثرية في اليمن" بيروت 1961م. وانظر كذلك: أحمد فخري: المرجع السابق ص158، وأما التقرير العلمي فقد نشر تحت عنوان: ARCHAEOLOGICAL DISCOVERIES IN SOUTH ARABIA "JOHN HOPKINS PRESS", 1958 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 فحص ما تركه الأمريكيون، وتقديم تقرير عما قاموا به من حفائر، ومن ثم فقد تيسر له أن يزور المنطقة، وأن يأخذ لها كثيرًا من الصور "الفوتوغرافية"1. وفي مايو 1959م، قام أستاذنا الدكتور أحمد فخري -أستاذ تاريخ مصر الفرعونية والشرق الأدنى القديم بجامعة القاهرة -برحلته الثالثة إلى اليمن- وكانت رحلته الثانية في عام 1948م- وفيها زار مأرب وآثارها للمرة الثانية، ونقل نقوشًا جديدة لم تكن معروفة من قبل، كما نجح في الوصول إلى موقع معبد في منطقة المساجد، وهو معبد كبير في حالة لا بأس بها، وقد شيده "يدع إيل ذريح"، والذي شيد كذلك معبد صرواح ومعبد مأرب، وبالرغم من أن اسم هذه المنطقة الأثرية كان معروفًا لنا من روايات البدو، فقد ظل أشبه بأسطورة، ولم يسبق للأثريين من قبل زيارته أو أخذ صور فوتوغرافية له2. وأخيرًا، وفي عام 1960، عادت البعثة الأمريكية للحفر في "ظفار" بعمان، لإكمال ما بدأته في المرة الأولى، حيث كشفت عن بعض الجوانب في تاريخ هذه المنطقة التابعة لسلطنة عمان3، هذا وقد تمت كذلك تنقيبات في "تاج" و"وادي الفاو" عام 1968م، بإشراف بعثة متحف أرهوس الدنماركية، وفي نجران في عام 1968م كذلك، بواسطة "معهد سيمشونيان بواشنطن"4. ولعل من الجدير بالذكر هنا أن الزميل الأستاذ شرف الدين قام بعدة جولات في مناطق الآثار في بلاد اليمن، زار فيها مأرب والجوف وظفار وبيجان، والحدأ وذمار ورداع وهمدان وأرحب، عاد منها وفي حوزته مئات من الصور الفوتوغرافية والنسخ الخطية والأبحاث والخرائط، أصدر أول كتاب له عن لغة المسند في عام 1968م، متضمنًا تراجم عدد من النقوش وبعض الملاحظات عن قواعد لهجات "المسند" كالمعينية والسبئية والقتبانية5، كما أصدر في عام 1975م كتابًا آخر عن   1 أحمد فخري: المرجع السابق ص158. 2 أحمد فخري: المرجع السابق ص159، "وقد نشر بحثًا مختصرًا عن هذا المعبد في المؤتمر الثالث للآثار في البلاد العربية، المنعقد في فاس في نوفمبر 1959م، تحت عنوان "أحدث الاكتشافات الأثرية في اليمن: "معبد المساجد في بلاد مراد". 3 BASOR, 159, 1960, P.14 4 أحمد حسين شرف الدين: اللغة العربية في عصور ما قبل الإسلام، القاهرة 1975 ص28. 5 نفس المرجع السابق ص29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 "اللغة العربية في عصور ما قبل الإسلام" تحدث فيه عن قواعد هذه اللغة، فضلا عن نشر نماذج من نقوش حضرمية وسبئية ومعينية وديدانية ولحيانية وثمودية وصفوية، وإني على علم بأنه قد انتهى من دراسة تاريخية، حقق فيها نصوصًا جديدة تحت عنوان "مختارات من النقوش العربية القديمة"1 "Seiected Arabic Inscription" هذا، وقد بدأت جامعة الرياض تدخل الميدان، فأرسلت بعثة برياسة الدكتور عبد الرحمن الأنصاري للتنقيب تدخل "الفاو"2 في الفترة "من 24/ 11/ 90 إلى 5/ 12/ 1390هـ"ثم تلتها مواسم أخرى فيما بين عامي 1392، 1396هـ، وقد نجحت البعثة في تصوير ونقل حوالي 250 نقشًا منتشرة على سفوح خشم قرية، من شماله حتى جنوبه، فضلا عن مجموعة كبيرة من شواهد القبور والأواني الحجرية والفخارية والخزفية، إلى جانب قطع حجرية تحتوي على نصوص وكتابات هامة بالخط المسند، وكذا مجموعة من قطع النسيج، بالإضافة إلى أشياء دقيقة كالخرز والأساور الزجاجية وأدوات الحياكة وبعض العملات الفضية والنحاسية، وقد أرخت البعثة لهذه القطع الأثرية -وكذا للمواقع الأثرية الهامة كتل القصر الكبير- بالفترة ما بين القرن الثاني قبل الميلاد، والقرن الثاني الميلادي3. ولعل من الأهمية بمكان الإشارة هنا إلى أن إدارة الآثار بوزارة المعارف بالمملكة العربية السعودية -والتي أنشئت في 23/ 6/ 1392هـ- تقوم الآن بعمل مسح أثري لكل المناطق الأثرية بالمملكة، تمهيدًا للقيام بحفائر أثرية على نطاق واسع، وبطريقة علمية. والواقع أن هناك اهتمامًا جديًّا بدراسة الآثار في الجامعات السعودية، فقد   1 انظر: تقديم لكتاب الأستاذ أحمد حسين شرف الدين ص21-25. 2 قرية الفاو: وتسمى كذلك "القرية" وتقع على مبعدة 700 كيلو متر إلى الجنوب من الرياض، 60 كيلو مترًا إلى الجنوب الغربي من مدينة الحماسين، وحوالي 50 كيلو مترًا إلى جنوب المنطقة التي يتداخل ويتقاطع فيها وادي الدواسر مع جبال طويق عند فوهة مجرى قناة "الفاو"، وتشرف على الحافة الغربية الشمالية للربع الخالي، وربما من هنا جاءت التسمية، وقد كانت قرية الفاو القديمة على طريق التجارة بين جنوب الجزيرة والخليج العربي، مارًّا بمنطقة اليمامة، وعلى طريق التجارة بين جنوب الجزيرة وشمالها وما يليها من أقطار، عبد الرحمن الأنصاري: مجلة كلية الآداب- جامعة الرياض، المجلد الثالث 1974 ص27، وانظر نشرة معرض آثار الفاو عام 1393هـ، وكذا A. JAMME, SABAEAN ROCKI INSCRIPTION FROM QARYAT AL-FAW, WASHINGTON, 1973. وكذا H. ST. J.B. PHILPY, TOW Notes From Central Araiba, In Gj, 1949, P.113 3 انظر: عبد الرحمن الأنصاري: كتابات من قرية الفاو، مجلة كلية الآداب، جامعة الرياض، العدد الثالث، ص27-70، وكذا نشرة معرض آثار الفاو، عام 1393هـ بالرياض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 أنشأت جامعة الرياض تخصصًا في الآثار بقسم التاريخ منذ العام الجامعي 94/ 1395هـ، كما قامت جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في العام الجامعي 95/ 1396هـ "75/ 1976م" بإدخال مادة الآثار ضمن برامج الدراسة في قسم التاريخ بها، والأمل كبير في أن تثمر هذه الدراسات الأثرية قريبًا، فتخرج أجيالا من علماء الآثار، تعقد البلاد عليهم آمالا كبارًا في الكشف عن تاريخ هذه الأمة العريقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 ثانيًا: في شمال شبه الجزيرة العربية لم يكن حظ شمال شبه الجزيرة العربية ووسطها، بأقل من جنوبها، فإن آثار البتراء وسورية الجنوبية، قد استهوت عددًا من العلماء الأوربيين، كما أن تحريم دخول المدينتين المقدستين، مكة والمدينة، على غير المسلمين، قد ألهب خيال الأوربيين وزادهم رغبة في التعرف على ما يجري فيهما، وبخاصة في موسم الحج، ومن هنا رأينا كثيرًا من الأوربيين يأتون إلى زيارة الحرمين الشريفين متخفين، ذلك لأن منطقة مكة والمدينة إنما كانت تحت حراسة مشددة، خشية أن يتسلل إليها الأوربيون، وهكذا وجدنا من القادمين إلى وسط شبه الجزيرة العربية وشمالها، أنواعًا مختلفة من الرحالة الأوربيين، من مغامرين وحجاج وباحثين. ولعل أقدم ما نعرفه عن هؤلاء الرحالة هو "ل- دي فرتيما" الذي وصل إلى مكة قادمًا من دمشق عام 1503م، وإن كان هناك من يزعم أن "كابوت" الرحالة الكبير قد قام بزيارة مكة بين عامي 1476، 1490م، وأن ملك البرتغال قد أرسل "بور دي كوفيلها"، الذي كان يتكلم العربية، إلى شبه الجزيرة العربية في عام 1487م، وذلك للتحقق من إمكانية الذهاب إلى الهند عن طريق البحر الأحمر، وأنه وصل فعلا إلى عدن، ومنها إلى الهند، وسواء أصح هذا، أم أن الأمر مجرد زعم كذوب، فإن هذه الرحلات لا قيمة لها من الناحية العلمية، وإن كان "دي فرتيما" قد وصف لنا رحلته التي زار فيها الحرمين الشريفين في مكة والمدينة، وصفًا صحح فيه كثيرًا من الأخطاء الشائعة عنهما لدى قومه الأوربيين1.   1 انظر: Jacqueline Pirenne, A La Decouverte De L'arabie, Paris, 1958 وفي الترجمة العربية التي قام بها قدري قلعجي، تحت عنوان "اكتشاف جزيرة العرب" بيروت 1963 ص37-44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 على أن كتابات "دي فرتيما" قد تأثرت إلى حد كبير بعقيدته الدينية، كما دلت على جهل واضح بجغرافية المنطقة، فضلا عن تقديمه معلومات ساذجة عن مشاهداته هناك، فمن ذلك مثلا، تفسيره لعدم صيد الحمام الذي يكثر بمكة، من أن المسلمين يعتقدون أنه سليل تلك الحمامة التي كانت تكلم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بوصفها الروح القدس1، وَفَاتَهُ "أولًا" أن مكة بلد الله الحرام، لا يجوز الصيد فيها، وليس -كما زعم- لأن هذا الحمام ينحدر من تلك الحمامة التي كلمت مولانا وجدنا وسيدنا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- ثم من أين جاء بكل هذا؟، وفاته "ثانيًا" أن المسلمين لا يؤمنون بحمام على أنه الروح القدس، وإنما ذلك هو "جبريل" عليه السلام، ولعله في ذلك كان متأثرًا بعقيدته الدينية. ومنها كذلك حديثه عن "رمي الجمار" وأنه رمز لطاعة إسحاق، ودليل على الرغبة في الاقتداء به، فقد جاء في التعاليم الإسلامية أن الشيطان حاول إقناع إسحاق بعدم اللحاق بأبيه إبراهيم العازم على التضحية به2. ويبدو هنا، مرة أخرى، أن "دي فرتيما" إنما يتحدث بمنطق اليهود والنصارى وعقيدتهم في الذبيح، حتى في موطن العرب أنفسهم، ونسي -أو تناسى- "أولًا" أن الذبيح عند العرب -على الأقل- إنما هو إسماعيل، وليس إسحاق، عليهما السلام، وتناسى "ثانيًا" أنه في مكة، وليس في فلسطين، والأولى موطن إسماعيل، والثانية مستقر إسحاق، ولو كان الأمر، كما يرى "دي فرتيما"، لكان رمي الجمار في فلسطين، وليس في مكة، ومن ثم فلست أدري من أين جاء بذكر إسحاق هنا؟ 3. ثم إن قوله إن مدائن صالح والعلا، إنما هما سدوم وعمورة، لا يدل على جهل واضح بجغرافية المنطقة فحسب، وإنما يدل كذلك على جهل بروايات التوراة، كتابه المقدس، وخاصة حين يذهب إلى أن أهل سدوم وعمورة كانوا يعيشون على المن والسلوى، وأنهم كفروا بأنعم الله، فعاقبهم بأعجوبة منه4.   1 نفس المرجع السابق ص46. 2 نفس المرجع السابق ص45-46. 3 راجع قصة الذبيح في كتابنا "إسرائيل" ص196-209، وفي الفصل الرابع من كتابنا "دراسات في التاريخ القرآني" الجزء الأول. 4 جاكلين بيرين: اكتشاف جزيرة العرب ص41-42. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 والمعروف "أولًا" أن تلك قصة بني إسرائيل في التيه1، و"ثانيًا" أن ما حدث في سدوم وعمورة، إنما كان لأن قوم لوط عليه السلام كانوا يأتون الرجال شهوة من دون النساء2، ومن ثم فقد "أمطر الرب على سدوم وعمورة كبريتًا ونارًا من عند الرب من السماء، وقلب كل المدن وكل الدائرة وجميع سكان المدن ونبات الأرض"3، ومن هنا رأى بعض العلماء أن هناك شَبَهًا بين مصير قوم عاد وثمود من ناحية، وبين مصير سدوم وعمورة وبقية مدن الدائرة في عمق السديم4، من ناحية أخرى، ولعل هذا هو السبب في اضطراب فكرة "دي فرتيما"، ومن ثم فقد ذهب إلى أن مدائن صالح والعلا، هما سدوم وعمورة. وأيًّا ما كان الأمر، ففي عام 1509م، يتابع "دي فرتيما" رحلته إلى الجنوب، وهناك في عدن يتهم بأنه نصراني يتجسس لحساب البرتغاليين الذين كانت سفنهم نشطة أمام السواحل العربية الجنوبية، فيتم القبض عليه، ويودع في قصر السلطان تمهيدًا لإعدامه، وهنا يتجه "دي فرتيما" في كتاباته وجهة دنيئة، فيجعل من زوج السلطان إمراة العزيز، ويجعل من نفسه الصديق، ثم تنتهي مغامراته الفاشلة بالرحيل إلى بلاد الفرس ثم الهند، حيث يقوم هناك بدوره الحقيقي، دور الجاسوس لملك البرتغال، وينال جزاءه على ذلك، فتكرمه جامعة البندقية، وينال حماية أسرتين كبيرتين هناك، فتكرمه جامعة البندقية، وأخيرًا تتم الدراما بأن يعلن الكاردينال "كارفجال" حمايته لـ "دي فرتيما" فضلا عن الإنفاق على ترجمة مؤلفه إلى اللاتينية5. ولعل كل ما قدمته هذه الرحلة خريطة لشبه جزيرة العرب، -كما رسمها بطليموس، منذ ثمانية عشر قرنًا- وبعض المعلومات المشوهة عن المدينتين المقدستين، مكة والمدينة، ثم مقارنة جغرافية بين العربية الشمالية، والعربية الجنوبية، وقبل ذلك   1 خروج 16: 1-36، وانظر كتابنا إسرائيل ص303-329. 2 راجع قصة لوط في القرآن الكريم: سورة الأعراف "80-84" وهود "77-83" والحجر "57-77" والشعراء "160-175" والنحل "54-58"، وفي التوراة: سفر التكوين 18-20-19: 29. 3 تكوين 19: 20-26. 4 قاموس الكتاب المقدس 1/ 551، 2/ 119، 300، وكذا J. Hastings, Dictionary Of The Bible, P.734 وكذا T.K. Cheyne, Encyclopedia Biblica, P.3790 5 جاكلين بيرين: المرجع السابق ص48-50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 وبعده، سموم ضد الإسلام والعرب، وهو أمر لا يعد غريبًا، إن جاء من موطنه، ولكن الغريب حقًّا أن يترجم ذلك1، وأن يذاع بين شباب العرب، والمسلمين منهم بخاصة، حتى دون التعليق على ما فيه من روايات لا تعرف نصيبًا من صواب، وحكايات أشبه بالأساطير منها بحقائق التاريخ، إلى جانب ما فيه من دعاوى تتعارض مع الإسلام، فضلا عن المنطق والحق والصواب، وقد تكون المصيبة أعظم، لو أن الذين ترجموا ذلك يظنون أنهم يقدمون بعملهم هذا للعروبة وللإسلام -فضلا عن العلم- خيرًا، أو حتى بعض الخير. هذا وقد تميزت الفترة ما بين عامي 1604، 1739م، برحلات الحجاج إلى مكة، ففي عام 1643م، قام المطران "ماثيو دي كاسترو" -القاصد الرسولي في بلاد الهند- بزيارة الأماكن المقدسة، متنكرًا في زي رحالة غريب، وذلك أثناء رحلته من الهند إلى روما، مارًّا بشبه الجزيرة العربية، ولا شك في أنه -إذا صحت روايته- رجل الدين المسيحي الوحيد الذي قام بزيارة المدن الإسلامية المقدسة، ولكنه لم يكتب بنفسه شيئًا عن ذلك2. وفي عام 1660م نرى "لويس دارفيو" يزور شمال بلاد العرب، ويكتب وصفًا للبدو، إلا أنه كان بعيدًا عن المنهج العلمي في وصفه، فضلا عما فيه من مطاعن على العرب، وتمجيد للرواية الإسرائيلية عن إسماعيل وإسحاق، عليهما السلام، وعن والدتيهما الكريمتين -سارة وهاجر- بجانب الترجمة غير الصحيحة، أو على الأقل غير الدقيقة، لنصوص التوراة، فيما يتصل بإسماعيل بالذات3. وفي عام 1807م، وصل إلى "جدة" الرحالة الأسباني "باديابي لبلخ" تحت اسم "علي بك العباسي" مدعيًّا أنه ليس مسلمًا فحسب، وإنما آخر أمير من نسل الخلفاء العباسيين4، ومن عجب أن الأوربيين أنفسهم في حيرة من أمرهم، بشأن "علي بك" هذا، فهو جاسوس لنابليون على رأي، وهو أحد موظفي إمارة البحر   1 جاكلين بيرين: اكتشاف جزيرة العربية، ترجمة قدري قلعجي، بيروت 1963. 2 نفس المرجع السابق، ص91. 3 انظر أمثلة على مسخ نصوص التوراة، في كتاب جاكلين بيرين الآنف الذكر ص117-127، إلا أن تكون الترجمة العربية له هي التي أخطات. 4 أحمد فخري: دراسات في تاريخ الشرق القديم ص146. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 الفرنسية على رأي آخر، إلا أن هناك اتفاقًا على أنه كان عالمًا، وأنه قد زود بآلات قياس دقيقة للغاية، وأنه قد نجح إلى حد كبير في تعيين المواقع المختلفة التي مر بها على سواحل البحر الأحمر، مثل ينبع وجدة وغيرهما، وبصورة تقريبية موقع المدينة المنورة التي لم يقدر له أن يشرف بزيارتها، وبصفة دقيقة لموقع مكة المكرمة على خريطة العالم، وهكذا أمكن -ولأول مرة- تحديد الموقع العرضي لأحد الأماكن في داخل بلاد العرب بالنسبة إلى خط الاستواء، هذا إلى جانب وصف دقيق للكعبة المشرفة ولكل ما كان يجري في موسم الحج1. والذي يقرأ وصف الرجل للأماكن المقدسة، كما جاء في كتاب جاكلين بيرين2، يدرك أن الرجل كان مسلمًا عن يقين -كما كان يعلن هو دائمًا- رغم ما أثير حول إسلامه من شبهات. والرأي عندي، أن من يعيش الظروف التي عاشها "علي بك العباسي" ويزور الأماكن الطاهرة التي زارها، وينال شرف رؤية الكعبة -أقدس مقدسات المسلمين- من داخلها، ويسهم في تنظيف البيت الحرام، إن من يسبغ الله عليه كل هذه النعم، ليس ببعيد أن يهديه الله سواء السبيل ويفتح قلبه للإسلام، و {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيم} 3 وعلى أي حال، فإني لا أثبت هنا إسلام "علي بك العباسي"، ولا أنفيه، فليست لدي الأدلة على هذا أو ذاك، والله وحده يعلم الغيب من الأمر، ولكن بعد أن مَنَّ اللهُ عليَّ بفضله، وعشت فترة من عمري بين رحاب هذه المقدسات الشريفة، لا أستبعد أن الله جل وعلا، قد فتح قلب الرجل للإسلام، بصرف النظر عن المهمة التي جاء من أجلها، والله يهدي من يشاء. وجاء بعد ذلك الرحالة السويسري، "جوهان ليدونج بوركهارت" الذي وصل إلى سورية في مارس 1809م، ليقوم بزيارة المناطق المتاخمة لشبه الجزيرة العربية، وليجمع المعلومات عن البدو، وهناك بذل جهدا كبيرًا في دراسة القرآن الكريم وتفسيره -بعد أن كان قد درس اللغة العربية في إنجلترا- حتى عرف باسم الشيخ   1 نفس المرجع السابق ص146، جاكلين بيرين: المرجع السابق ص186-198. 2 نفس المرجع السابق ص186-198. 3 سورة الحديد: آية21، سورة الجمعة آية4، وانظر تفسير القرطبي ص6427، ص6572-6573 "دار الشعب- القاهرة 1970". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 إبراهيم، العالم العظيم في شئون الإسلام1. وهكذا تمكن "بوركهارت" من القيام برحلته إلى الحجاز تحت اسم "الشيخ إبراهيم بن عبد الله"، فزار الحرمين الشريفين، وقدم وصفًا دقيقًا لموسم الحج، وكتب عن مكة والمدينة كتابة علمية، وفي عام 1812م، اكتشف مدينة "البتراء"، ثم أصدر عدة كتب عن رحلاته في سورية وفلسطين وشمال بلاد العرب2، وأخيرًا توفي في 15 أكتوبر 1817م، ودفن بسفح جبل المقطم في القاهرة3. وفي عام 1815م، زار "نجد" المستشرق "جورج أوغسطس فالين" للقيام ببعض الدراسات اللغوية4، وهناك رواية مشكوك فيها تذهب إلى أن "محمد علي باشا" والي مصر، قد أرسله إلى هناك بعد أن فشلت جهوده في توطيد نفوذه في الشام، وذلك للقيام بمهام سياسية في جبل "شمر"5. وفي عام 1853م، زار "سير ريتشارد برتون" الحرمين الشريفين، متنكرًا في زي مسلم يسمى "الحاج عبد الله" ثم كتب وصفًا لرحلته هذه 6. وفي يولية 1862م، قام "وليم بلجريف" برحلته إلى العربية الوسطى، ونشر في عام 1865م كتابًا عن رحلته هذه، سرعان ما ترجم إلى الفرنسية ثم الألمانية بعد ذلك، كواحد من أحسن الكتب عن بلاد العرب، ويزعم "بلجريف" أنه وصل إلى مناطق في قلب بلاد العرب، ولم يصلها أحد قبله7، وأما رفيقه في رحلته هذه   1 جاكلين بيرين: المرجع السابق ص216-217. J.L. Burckhardt, Travels In Arabia, London, 1829 وكذا Johann Ludwing Burckhardt, Travels In Syria And Holy Land, London, 1822 3 Philip K. Hitti, History Of The Arabs, London, 1960, P.7 4 F. Hommel, Explorations In Arabia, P.705 وكذا Encyclopaedia Britannica, Ii, P.171 5 P.K. Hitti, Op. Cit., P.7 6 Sir Ritchard Burton, Personal Narrative Of A Pilgrimage To El-Medina And Meccah, 2 Vols., London, 1857 7 W.G. Palgrave, Observations Made In Central, Eastern And Southern Arabia, In 1862-1863, Jrgs, 34, 1864, P.111-154 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 فقد كان لبنانيا يدعى "بركات"، وهو الذي أصبح فيما بعد بطريرك الروم الكاثوليك تحت اسم "بطرس الجريجيري"1. وتوغلت "الليدي آن بلنت" عام 1789م في شمال بلاد العرب، حتى "نجد" وكانت مولعة بدراسة الخيول العربية2، إلا أن "هوبر"3 و"أويتنج"4 يعدّان من الذين غامروا بحياتهم، وقاموا برحلات شاقة، فيما بين عامي 1876، 1884، وقد بلغا "حايل" في شمالي بلاد العرب، وحصلا على كثير من النقوش العربية الشمالية. وهناك "سنوك هورجونيه" الهولندي، الذي زار الحجاز، فيما بين عامي 1885، 1886م، وقدم لنا دراسة عن الأحوال في مكة، ووصف للحياة في الحجاز، وفي موسم الحج بصفة خاصة5. وهناك كذلك الرحالة الإنجليزي "تشارلسن دوتي"6، وقد كان هذا الرجل من أشد المتعصبين ضد الإسلام، وأكثرهم تطاولا على المسلمين، بل إنه في تطاوله إنما يحاول أحيانًا أن يتجاوز كل حدود الأدب، وأن يمس المثل الأعلى للإنسانية جمعاء، سيدنا ومولانا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- وإن لم يستطع في كل الأحوال، إلا أن يعترف بأن المصطفى المختار- صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ- إنما كان دائمًا وأبدًا، المثل الأعلى، والأسوة الحسنة لكل المسلمين وغير المسلمين، في كل زمان ومكان. وفي عام 1889م، يقوم "تيودور بنت" وزوجته، برحلة إلى البحرين ومسقط وعمان في جنوب شبه الجزيرة العربية، حيث زارا كثيرًا من المناطق الأثرية، وكتبا عنها كتابهما المعروف7.   1 فيليب حتى: تاريخ العرب "مطول" -الجزء الأول- ترجمة إدوار جرجي؛ جبرائيل حبور، بيروت 1965 ص6. 2 Lady Anne Blunt, A Pilgrimage To Najd, 2 Vols, London, 1883 3 C. Huber, Inscriptions Recueillis Dans I'arabie Centrale, 1878-1882 4 Julius Euting, Nabataische Inschriften Aus Arabien, Berlin, 1885 5 Eb, 2, P.170 6 Charlis M. Doughty, Travels In Arabia Deserta, 2 Vols., Cambridge, 1888 7 Theodore Bent And Mrs. Bent, Southern Arabia, Sudan And Socotra, London, 1900. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 وأشرف القرن العشرون، وبدأت الأبحاث العلمية تزداد، وأصبح بين أيدينا مؤلفات مهمة، لعل من أروعها ما كتبه "ألويس موسل"، الذي زار العربية الحجرية، وكتب عدة مؤلفات في وصف شمال الحجاز وبادية الشام ومنطقة الفرات الأوسط وتدمر ونجد1، ثم هناك كذلك ما كتبه "جوسين وسافينياك" في مؤلفهما الشهير عن آثار الحجاز، وبخاصة مدائن صالح والعلا2، أما كتاب "لورنس" "أعمدة الحكمة السبعة3"، فقد نال مكانة عالية بين مؤلفات الأدب الحديث بعد الحرب العالمية الأولى4. وكان أكثر الرحالة نشاطًا في نجد وأواسط بلاد العرب "هاري سان جون بريدجر فلبي" والذي سمى نفسه "الحاج عبد الله" وقد أتيح له ما لم يتح لغيره من الأوربيين، إذ كان من المقربين إلى جلالة الملك المعظم عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود، ملك المملكة العربية السعودية، ومن ثم فقد قام برحلات كثيرة، وكتب عدة كتب5، وكانت آخر رحلاته تلك التي قام بها في صحبة العالم البلجيكي "ج. ريكمانز" في شتاء 1951-1952م، وكانت في المثلث الواقع بين جدة ونجران والرياض، وعاد ومعه 1200 نقش، منها تسعة آلاف نقش ثمودي، وبقيتها نقوش لحيانية وسبئية، بعد أن زارت البعثة كل ما وجدته من بقايا المدنيات القديمة، في المنطقة الواقعة داخل المملكة العربية السعودية6.   1 انظر من مؤلفات "ألويس موسل": Alios Musil, The Northern Hegas, N.Y. 1926. وكذا The Middle Euphrates,N.Y. 1927, وكذا Palmyrena, N.Y., 1928.وكذا The Northern Nejd, N.Y., 1928 وكذا Arabia Petraea, Wien, 1907. وكذا In The Arabian Desert, N.Y., 1930 2 A.J. Jaussen And R. Savignac, Mission Archeologique En Arabie, 4 Vols., Paris 1904, 1911, 1914, 1920. 3 T.E. Lawrence, Seven Pillars Of Wisdom, N.Y., 1939 4 P.K. Hitti, Op. Cit., P.7 5 لعل من أشهر كتب فلبي: H. St. J.B. Philby, Saudi-Arabia, London, 1955 وكذا H. St. J.B. Philby, The Background Of Islam, Alexandria, 1947 وكذا H. St. J.B. Philby, The Heart Of Arabia, 2 Vols., London, 1922 وكذا H. St. J.B. Philby, The Land Of Midian, Mej, 9, 1955 وكذا H. St. J.B. Philby, The Last Ruins Of Quraiya, Gj, 117, 1951 وكذا H. St. J.B. Philby, Arabian Highlands, N.Uy., 1952 وكذا H. St. J.B. Philby, And A.S. Triton, Najran Inscriptions, Jras, 1944 6 أحمد فخري: المرجع السابق ص148، موسكاتي: المرجع السابق ص376. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 وفي عام 1962م، قامت بعثة أمريكية بزيارة مناطق مختلفة من المملكة العربية السعودية، فزارت سكاكا والجوف وتيماء ومدائن صالح والعلا وتبوك، وظفرت بنماذج من فخار قديم، ونقلت صورًا لكتابات ثمودية ونبطية، أهمها ما وجدته في قمة جبل غنيم، على مبعدة ثلاثة أميال إلى الجنوب من تيماء، وتعد من أقدم ما عثر عليه في العربية الشمالية1. وليس من شك في أن تاريخ البحث العلمي في تاريخ العرب القديم يدين بالكثير لنفر من المستشرقين قدموا له أبحاثًا جادة في مختلف الميادين، من أمثال "كوسان ده برسيفال"2، والذي يعتبر من الرواد في التأريخ لبلاد العرب قبل الإسلام، وكذا "تيودور نولدكه"3، و"ج. روتشتاين"4، و"رينيه ديسو"5 و"جاك ريكمانز"6 "كيتاني"7 و"أوليري"8 و"أوتووبير"9 و"فلهاوزن"10،   1 جواد علي 1/ 133 وكذا Basor, 168, 1962, P.9 2 Caussin De Perceval, Essai Sur I'histoire Des Arabes Avant I'islamisme, 3 Vols., Paris 1847-8 3 تيودور نولدكه: أمراء غسان، ترجمة بندلي خوري وقسطنطين زريق، بيروت 1933م، وكذا T.H. Noldeke, Semitic Languages, Eb, 24, 1911 4 G. Rothstein, Die Dynastie Der Lakhmiden In Al-Hira, Berlin, 1891 5 R. Dussaud, Les Arabes En Syrie Avant I'islam, Paris, 1907. وكذا Paris, 1955 6 J. Ryckmans, Aspects Nouveaux Du Probleme Thamoudeen, Si, 5, 1956. وكذا J.Ryckmans, L'institution Monarchique En Arabie Meridionale Avant I'islam, Louvain, 1951 7 L. Caetani, Annali Dell'islam, 10 Vols., Milano, 1905-1926 8 O'leary, "Delacy D.D.", Arabia Lefore Muhammad, London, 1927 9 Weber. "Otto", Arabien Vor Dem Islam, 1904 10 J.Wellmusen, Reste Arabischen Heidentums, Berlin, 1927 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 و"ج ريكمانز"1 و"الكسندر كندي"2 و"أدولف جرومان"3 و"فريتز هومل"4 و"رودوكناكيس" و"ديتلف نلسن"5 و"تشارلس فورستر"6 و"ألفردونيت"7 و"بيستون"8، و"ألبرت جام"9 و"كاسكل"10 و"فون فيسمان وماريا هوفتر"11 و"لودلف كريل"12 و"كوك"13   1 G. Ryckmans, Les Religions Arabes Pre-Jslamiqucs, Louvain, 1951 G. Ryckmans, On Some Problems Of South Arabian Epigraphy, وكذاBSOAS, 1952. G. Ryckmans, Inscriptions Sud-Arabes, Le Museon, XII, 1942 وكذا 2 Kennedy (Sir Alexander. B.W.) , Petra, Its History And Monuments, London, 1925. 3 A. Grohmann, Arabien, Munchen, 1963 4 F. Hommel, Explorations In Arabia, Philadelphia, 1903 5 ديتلف نلسن، فريتز هومل، رودوكناكيس، أدولف جرومان، التاريخ القديم، ترجمه وزاد عليه الدكتور فؤاد حسين؛ القاهرة، 1958. 6 Charles Forster, The Historical Geography Of Arabia, 2 Vols., London 7 F.V. Winnett And W. Reed, Ancient Records From North Arabia, Toronto, 1970. 8 A.F.L. Beeston, Sculptures And Inscriptions From Shabwa, JRAS, 1954 A.FX. Beeston, Problems Of Sabaean Chronology, BASOR, 16, 1954. وكذا A.F.L. Beeston, Epigraphic South Arabian Calendars And Dating, وكذا London, 1956 9 A. Jamme, South-Arabian Inscriptions, Princeton, 1955 A. Jamme, Sabaean Inscriptions From Mahram Biiqis (Marib) , Balti- وكذا More, 1962 A. Jamme, Thamudic Studies, Washington, D.C. 1967. وكذا A. Jamme, New Sabaean Inscriptions From South Arabia, 1968. وكذا 10 W. Caskel, Lihyan Und Lihyanisch, Koln, 1954 11 Hermann Von Wissmann Und Maria Hofner, Beitrage Zur Historischen Geographie Des Vorislatmischen Sudarabien, Wiesbaden, 1953 12 Ludolfkrehl, Ucber Die Religion Der Vorislamischen Araber, Leipzig, 1863 13 G.A. Cooke A Text-Book Of North-Semitic Inscriptions, Oxford, 1903 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 وهوجوفنكلر1 ورايت2 وسبرنجر3 وليتمان4 ووليم أولبرايت5 وغيرهم ممن قاموا ببحوث قيمة، ولا يزالون يبحثون في التاريخ العربي القديم 6. أما العلماء العرب المحدثون -من أمثال جرجي زيدان وسليمان حزين ويحيى نامي وأحمد فخري ومحمد مبروك نافع ومحمد توفيق وعبد العزيز سالم وسعد زغلول، وجواد علي وصالح العلي ومنذر البكر، وحمد الجاسر وعبد الرحمن الأنصاري وعبد القدوس الأنصاري وعبد الله مصري، وأحمد حسين شرف الدين ومظهر الإرياني وغيرهم من علمائنا الأفاضل- فليس من شك في أنهم قد ساهموا في هذا الميدان بقسط وافر وجهد ممتاز، يستحقون عليه كل تقدير واحترام.   1 H. Wincider, Musri,Meluhiia, Main, Mitteilungen Der Vorderasiatischen Gesllschaft 1, Berlin, 1898 H. Wmckler, Arabisches Musri, MVG, II, 1906. وكذا 2 W. Wright, An Account Of Palmyra And Zenibia With Travels Andadventures In Bashan And Deseit, London, 1896 3 A. Sprenger, Dasleben Und Die Lehredes Mohamntad, Berlin, 1861 A. Sprenger, Die Alte Geographis Arabiens, Berlin, 1875. وكذا 4 E. Littmann, Thamud And Safa, Leipzig, 1940 E. Littmann, Safitic Inscriptions, Leyden, 1943. وكذا 5 W.F. Albright, The Chronology Of Ancient South Arabia In The Light Of The First Campaign Of Excavation In Qataban, BASOR, 119, 1950 W.F. Albright, The Chaldaean Inscriptions In Proto-Arabic Script, وكذا BASOR, 128, 1952 W.F. Albright.A Note On Early Sabaeaa Chronology, BASOR,143,1956. وكذا 6 L. Wright, The Bible And The Ancient Near East, Essays In Honour Of William L-.htm'Tixwell Albright, N.Y., 1965 S. Moicati, Ancient Semitic Civilziations, London, 1957 وكذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 ثالثا: في شرق شبه الجزيرة العربية مدخل ... ثالثًا: في شرق شبه الجزيرة العربية في أخريات عام 1953م، أرسل متحف آثار عصور ما قبل التاريخ في أرهوس بالدنيمارك، بعثة علمية إلى البحرين ، برياسة "ب. ف. جلوب وجفري"، كشفت أطلال معبد "باربار"، والتلام الممتدة على مساحات واسعة، ثم امتد نشاطها إلى قطر، حيث كشفت عن مواقع أثرية، وآثار أخرى، تمثل حضارات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 العصر الحجري، وسرعان ما امتد نشاطها إلى الكويت، حيث عثرت على آلات حجرية، تنتمي إلى عصور ما قبل التاريخ، وخاصة العصر الحجري القديم، فضلا عن معابد جزيرة "فيلكا"، وأخيرًا اتسع نطاق ميدان البعثة إلى شرق الجزيرة وإمارات الساحل العربي، ولعلنا نستطيع أن نلخص نتائج هذه البعثة كالآتي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 1- البحرين : لعل أهم اكتشافات البعثة الدنماركية إنما كان الكشف عن أطلال معبد "باربار"، وتلال جنزية عديدة تعود إلى العصر البرونزي، هذا فضلا عن أوان فخارية في تل رأس القلعة1، وهي المنطقة التي حوت أقدم محلة سكنية، ترجع إلى الألف السادس قبل الميلاد، وظلت مأهولة حتى العصر المسيحي، هذا وقد كشفت البعثة عن ست مدن حول القلعة، تؤرخ الأولى بحوالي عام 2800ق. م، وهي مبنية بمحاذاة البحر، وبيوتها صغيرة، وتبدو غير مسورة، وربما كان الملك الأكدي "سرجون الأول" قد قام بغزوها حوالي عام "2300ق. م"2. وأما المدينة الثانية، فتؤرخ بحوالي عام 2300ق. م، ويعتبر سكانها بناة الآلاف من المقابر الواقعة في وسط جزيرة البحرين وكذا معبد باربار، وقد عثر فيها على الأختام المسماة تقليديًّا "الأختام الدلمونية"، والأوزان الهندية التي ظهرت في نفس الوقت في بلاد ما بين النهرين ومدن وادي السند3.   1 تقع القلعة في منتصف ساحل جزيرة البحرين الشمالي، وتعرف باسم "قلعة البحرين" أو "القلعة البرتغالية"، نسبة إلى القلعة التي أسسها البرتغاليون عام 1522م، على أنقاض قلعة عربية قديمة. 2 سليمان سعدون البدر: "دراسة تاريخية لمنطقة الخليج العربي والحضارات التي تمت على شواطئه في أثناء الألف الرابع قبل الميلاد، رسالة ماجستير، الإسكندرية 1972 ص181-182، وانظر: آثار البحرين، جمعية البحرين للآثار، البحرين 1971 ص8. 3 نفس المرجع السابق ص8، سليمان البدر: المرجع السابق ص182. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 2- في قطر : وتعتبر من أهم مناطق الخليج العربي، حيث تتمثل فيها أقدم الحضارات الإنسانية التي تم الكشف عنها في المنطقة حتى الآن، ولقد اهتم الباحثون الأجانب بمنطقة قطر، فقامت بعثة دنماركية للبحث عن آثارها، وتم تحديد حوالي 200 موقع أثري، تنتمي إلى مرحلة عصور ما قبل التاريخ، منها حوالي 131 موقعًا تعود إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 العصر الحجري1، هذا وليس في قطر مخلفات أثرية تنتمي إلى حضارة باربار في البحرين، كما أن آثار قطر لا تتشابه مع آثار البحرين2. وعلى أية حال، فلقد عثر عند الساحل الغربي قرب "رأس عوينات علي" على شظايا مصقولة تنتمي إلى عصور ما قبل التاريخ، فضلا عن أعداد من الأحجار قرب الطرف الجنوبي من جبل الجساسية وقرب عقلة المناصير والحملة وقرب الساحل الشرقي في الوصيل -على مبعدة 25 كيلو مترًا شمالي الدوحة3. هذا ويميل "كابل" إلى أن المخلفات الأثرية في قطر، والتي تتمثل في الصناعات الحجرية، إنما يمكن تقسيمها إلى مجموعات مستقلة ومختلفة عن بعضها تمامًا، وذلك اعتمادًا على الاختلافات المظهرية وطريقة الصناعة الفنية، هذا فضلا عن العثور على طبقة يمكن تصنيفها طبقيًّا، ومن ثم يمكن تحديد التتابع الزمني لهذه الآثار4. على أن البعثة الدنمركية إنما قد حصلت على أدوات وشظايا صوانية عديدة وآثار احتراق، ثم جمعت عينات من الآثار المحترقة، وقد ثبتت بالفحص العلمي، بطريقة الكربون 14، بأن تاريخ هذه العينات إنما يرجع إلى حوالي عام "5020-130ق. م"5. هذا وقد قسمت البعثة الدنمركية المواقع التي تنتمي إلى العصر الحجري -وعددها 68 موقعًا- إلى أربع مجموعات حضارية وذلك وفقًا للتطور المادي المتمثل في التقدم من التقنية البدائية إلى الأحجار الظرانية، إلى تقنية متطورة تتمثل في الرقائق الحجرية الممتازة مثل الفئوس والمعاول ورءوس السهام الكبيرة، غير أنه لا يمكن   1 انظر: ملخص تقرير قدم لمؤتمر الآثار في البحرين، وكذا H. KAPEL, STONE AGE CULTURE OF QATER 2 G. BIBBY, LOOKING FOR DILMUN, LONDON, 1970, P.166 وانظر: سليمان البدر: المرجع السابق ص328-329. 3 V. NIELSEN, THE AL-WUSAIL MESOBTHIC FLINT SITES IN QATER, KUML, 1961, P.182 4 H. KAPEL, KUMAL, 1961, P.149 5 هولجر كابل: أطلس ثقافة العصر الحجري في قطر، أرهوس، الدنيمارك، 1967 ص19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 القول أن هذا التقدم المتدرج قد حدث نتيجة الانتقال من حضارة إلى حضارة أرقى، أو نتيجة لتعاقب مجتمعات إنسانية مختلفة أو قبائل مهاجرة استقرت لفترات طويلة أو قصيرة1.   1 سليمان البدر: المرجع السابق ص242-243، وانظر H. KAPEL, STONE AGE DISCOVERIES IN QATAR, KUML, 1964, P.149 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 3- في دولة الإمارات العربية : قامت البعثة الدنماركية بالتنقيب في بعض المواقع الأثرية التي تنتمي إلى عصور ما قبل التاريخ في دولة الإمارات العربية1، وتعتبر جزيرة "أم النار" في "أبو ظبي" من أهم المواقع التي تضم العديد من المدافن الغنية بأثاثها الجنزي المتضمن للأواني الفخارية والحجرية والأسلحة وأدوات الزينة، هذا وقد تم الكشف في أم النار عن تل يضم أربعة أطوار من الاستقرار2.   1 تتكون دولة الإمارات العربية من سبع إمارات هي: أبو ظبي ودبي والشارقة وعجمان وأم القوين ورأس الخيمة والفجيرة التي تطل على خليج عمان. 2 G. BIBBY, KUMAL, 1965, P.149. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 4- في دولة الكويت : وإنه لمن الأهمية بمكان الإشارة إلى أنه في أوائل عام 1972م، تولى أستاذنا الدكتور رشيد الناضوري، رياسة بعثة علمية كويتية، تمكنت من الكشف عن عديد من المواقع الأثرية المنتمية إلى العصر الحجري القديم، مثل مواقع الصليبخات ووارة والبرقان وجليعة العبيد وكاظمية وجزيرة أم النمل وجزيرة عكاز، فضلا عن التعرف على مواقع جديدة في جزيرة فيلكا1.   1 انظر: رشيد الناضورري، تقرير علمي خاص باستطلاع المواقع الأثرية في دولة الكويت، 1972م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 الفصل الثالث: جغرافية شبه الجزيرة العربية 1- موقع بلاد العرب : تقع شبه الجزيرة العربية بين خطي عرض 12 َ، 32 درجة شمالا، 30 َ، 12 جنوبًا، أي أنها تمتد عشرين درجة من درجات العرض كما أنها تمتد بين خطي الطول 40 َ، 34، 40 َ، 58 شرقًا، وبذا يصبح امتدادها من الغرب إلى الشرق، أربعًا وعشرين درجة، وهي بهذا تأخذ شكلا مستطيلا، وتبلغ مساحتها أكثر من مليون ميل مربع بقليل، ومن ثم فهي أكبر شبه جزيرة في العالم، أما أبعاد شبه الجزيرة، فيبلغ طول ساحلها الغربي من رأس خليج العقبة حتى خليج عدن 1400 ميل، ويبلغ طول ساحلها الشرقي من رأس الخليج العربي شمالا، حتى رأس الحد جنوبًا "أقصى اتساع لخليج عمان" 1500 ميل، ويبلغ امتدادها من بحر العرب جنوبًا إلى الحدود الشمالية للمملكة العربية السعودية 1600 ميل، أما عرضها في أضيق نطاق بين البحر الأحمر والخليج العربي فهو 750 ميلا، وأما بين خليج عمان والبحر الأحمر، فيصل الاتساع إلى 1200 ميل1. وتقع شبه الجزيرة العربية بين بادية الشام شمالا، والخليج العربي وبحر عمان شرقًا، والمحيط الهندي جنوبًا، والبحر الأحمر غربًا، وهكذا يبدو واضحًا أن المياه تحيط بها من أطرافها الثلاثة فقط، ومن ثم أخطأ مؤرخو العرب وجغرافيوهم حين أطلقوا عليها اسم "جزيرة العرب" وربما كان ذلك لأن مياه البحار تحيط بها من ثلاث جهات، ثم يعقد لها نهر الفرات والعاصي عند اقترابهما في أعالي الشام حدًّا من الماء2، ومن ثم كان التعليل "إحاطة البحار والأنهار بها من أقطارها وأطرارها "أو أطرافها" فصاروا منها في مثل الجزيرة من جزائر البحر، وذلك أن الفرات   1 محمود طه أبو العلا: جغرافية شبه الجزيرة العربية، الجزء الأول- القاهرة 1956 - 5-7. 2 عمر فروخ: تاريخ الجاهلية، ص26، ياقوت 3/ 100، وكذا L.D. STAMP, ASIA, AN ECONOMIC AND REGIONAL GEOGRAPHY, P.133 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 القافل من بلاد الروم قد ظهر بناحية "قنسرين"، ثم انحطَّ على الجزيرة وسواد العراق، حتى دفع في البحر من ناحية البصرة والأيلة وامتد إلى "عبادان"1، أو "لأن بحر فارس وبحر الحبش والفرات ودجلة أحاطت بها، وهي أرض العرب ومعدنها"2. على أن شبه جزيرة العرب ليست وحدها هي مسكن العرب، فقد كانت لهم مساكن فيما حولها، إلا أنها مساكن أكثرهم، وأهم مساكنهم، ومن ثم فقد أضيفت إليهم3، وذلك لأن العرب قد سكنوا في العراق من ضفة الفرات الغربية، حتى بلغوا أطراف الشام، كما سكنوا في فلسطين وسيناء إلى ضفاف النيل الشرقية حتى أعلى الصعيد، وهي أرضون يرى الكتاب القدامى -من يونان ولاتين وعبريين وسريان- أنها من مساكن العرب، ومن ثم فقد دعوها "بالعربية" و"بلاد العرب" لأن أغلب سكانها إنما كانوا عربًا4، وأما بلاد العرب في التوراة فهي موطن "الإسماعيليين و"القطوريين"5، وهي بواد تقع في شمال بلاد العرب، وفي الأقسام الشمالية6 منها.   1 البكري 1/ 6-7، ياقوت 2/ 137، الهمداني: صفة جزيرة العرب ص47. 2 البكري 1/ 6. 3 أحمد أمين: فجر الإسلام ص1. 4 أحمد مختار عمر: تاريخ اللغة العربية في مصر، القاهرة 1970 ص12-13، المقريزي: البيان والإعراب عما بأرض مصر من الأعراب، القاهرة 1961 ص89، مصطفى كامل الشريف: عروبة مصر من قبائلها، القاهرة 1965 ص22، دائرة المعارف الإسلامية 6/ 480 "طبعة دار الشعب". وكذا DELACY O.htm'LEARY, ARABIA BEFORE MUHAMMAD, P.5 وكذا انظر: مادة KIBT, في EL, P.991. 5 نسبة إلى "قطورة" الكنعانية، زوجة الخليل الثالثة، بعد سارة وهاجر "انظر كتابنا "إسرائيل" ص213-214". 6 جواد علي 1/ 143-144 وكذا J. HASTINGS, OP. CIT., P.585 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 التقسيم اليوناني والروماني لبلاد العرب العربية الصحراوية ... 2- التقسيم اليوناني لبلاد العرب: هذا ويقسم اليونان واللاتين شبه الجزيرة العربية إلى أقسام ثلاثة: 1- العربية الصحراوية: Arabia Deserta ويعنون بها بادية الشام في أغلب الأمر1، وبادية السماوة في بعض الأحايين2،   1 C. FORSTER, OP. CIT., P.110F 2 A. MUSIL, IN THE ARABIA DESERT, P.235 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 بل إن "ديودور الصقلي" إنما يذهب إلى أنها المناطق الصحراوية التي تسكنها القبائل المتبدية، وأن سكانها من الآراميين والنبط1، وأنها تقع بين سورية ومصر، كما أنها مقسمة بين شعوب ذات مزايا وصفات متباينة، وإن كان يبدو أن الرجل لم يكن لديه خط واضح يفصل بين العربية الصحراوية والصخرية، كما عند الجغرافيين الرومان2، وأما "إيراتو سثينيس"- وربما سترابو كذلك- فقد أطال حدود العربية الصحراوية من الشمال الغربي وجعلها حتى "هيرابوليس" في نهاية خليج السويس، وإن وضع الحد الجنوبي لها عند بابل3. ونقرأ في النصوص الآشورية من عهد "شلمنصر الثالث" "859-824ق. م" أن من بين أعدائه في موقعة "قرقر" عام 853ق. م، مجموعة عربية4، ولعلهم يكونون مشيخة أو إمارة، على رأسها "جندب"، وجدت هناك منذ الألف الثانية قبل الميلاد، وكانت مصدر قلق للحكومات المسيطرة على الهلال الخصيب، وأنها كانت تنتقل في هذه البادية بحرية، لا تعترف بحدود أو فواصل، وإنما كانت تقيم بحيث الماء والكلأ والمكان الذي يتلاءم وطباعها5.   1 IBID., P.449 2 سامي الأحمد: نظرة في جغرافية شبه الجزيرة العربية، مجلة العرب، العدد السابع، أبريل 1969م ص599 DIODORUS SICULUS, II, 48 "LONDON 1932" وكذا 3 سامي الأحمد: المرجع السابق ص602، وكذا STRABO, GEOGRAPHY, EDITED BY H.L. JONES, LONDON, 1917, 1, 2: 32 4 انظر: مقالنا: العرب وعلاقاتهم الدولية في العصور القديمة "مجلة اللغة العربية"، العدد السادس، الرياض 1976 ص287-437 وانظر: D.D. LUCKENBILL, ANCIENT RECORDS OF ASSYRIA AND BABYLONIA, I, CHICAGO, 1927, P.611 5 جواد علي 1/ 165-166 وكذا C. FORSTER, OP. CIT., P.112 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 2- العربية الصخرية : Arabia Peteaee وكان مركزها سيناء وبلاد الأنباط، وعاصمتها البتراء، وأنها سميت كذلك، إما نسبة إلى عاصمتها، أو إلى طبيعة المنطقة الصخرية، ويرى بعض الباحثين أنها إضافة من بطليموس الجغرافي، وقد قصد بها شبه جزيرة سيناء، وما يتصل بها من فلسطين والأردن1، ويرى "ديودور" أنها تقع إلى الشرق من مصر، وإلى   1 W.SMITH, A DICTIONARY OF THE BIBLE, I, P.91 وكذا DIODORUS SICULUS, 11: 48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 الجنوب والجنوب الغربي من البحر الميت، وفي شمال العربية السعيدة وغربها، وأن الأنباط كانوا يقيمون في المنطقة الجبلية منها، فضلا عن المرتفعات المتصلة بها في شرق البحر الميت ووادي عربة، وفي جنوب اليهودية، وحتى خليج العقبة، وأما الأقسام الباقية فقد سكنتها قبائل عربية، دعاها الكتاب اليونان والرومان "سبئية"، الأمر الذي تكرر كثيرًا في كتاباتهم عن القبائل التي كانوا لا يعرفون أسماءها، والتي كانت تقطن فيما وراء نفوذ الأنباط والرومان، ولعلهم يعنون بذلك أنها قبائل جنوبية في غالب الأمر1.   1 البكري 4/ 1401، سامي أحمد: المرجع السابق 597، جواد علي 1/ 166، وكذا DIODORUS SICULUS, 11: 48 وكذا A. MUSIL, IN THE ARABIAN DESERT, P.449 وكذا A. MUSIL, THE NORTHERN HEGAS, P.309 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 3- العربية السعيدة : Arabia Feiix وهي أكثر الأقسام الثلاثة اتساعا، وتشتمل على كل المناطق التي دعاها الكتاب العرب -من مؤرخين وجغرافيين- "بلاد العرب"، كما أن حدودها الشمالية لم تكن ثابتة، وإنما كانت تتغير طبقًا للظروف السياسية، التي تقع إلى الشمال منها، ويتجه البعض إلى أن جهل القدماء بداخل بلاد العرب، هو الذي دعاهم إلى احتساب هذا الجزء من بلاد العرب السعيدة أو الخضراء، مع أنه في الواقع يعتبر من بلاد العرب الصحراوية، وأما الجزء الذي يمكن أن يطلق عليه "بلاد العرب السعيدة"، فهو الجزء الجنوبي الغربي، حيث تقع بلاد اليمن1، لغنى محاصيلها وتنوعها، ولاعتدال مناخها، على النقيض من المناطق المستعرة الحر وراءها، وقد أدت هذه الظروف منذ الألف الأول قبل الميلاد، إلى قيام مجتمعات سياسية مستقرة في تلك المنطقة، امتد أثرها إلى الساحل الأثيوبي المقابل في صورة تجارة واسعة، وموجات من المهاجرين المستوطنين2. وعلى أية حال، فإن الجغرافيين اليونان لم يفرقوا بين بلاد العرب الصحراوية والصخرية، حيث يكون الفاصل بينهما صعبًا جدًّا بالنسبة إليهم، فاعتبار اليونان القسم الشمالي من شبه الجزيرة العربية منطقة واحدة يمكن ملاحظته في تعليق "إريان"   1 محمد مبروك نافع: عصر ما قبل الإسلام ص51. 2 موسكاتي: الحضارات السامية القديمة ص35، وكذا DIODORUS, 11: 48 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 على سفرتي رسل قمبيز وبطليموس الأول عبر صحراء جرداء1، وكذلك اعتبر "إيراتوسثينيس" -كما أشرنا آنفًا- الخط الفاصل بين بلاد العرب السعيدة والصحراوية هو الذي يبدأ من "هيرابوليس" إلى بابل مارًّا بالبتراء، علمًا بأن الجغرافيين اليونانيين- وحتى الرومان من بعدهم- لم يضعوا صحراء النفود الكبرى ضمن بلاد العرب الصحراوية، وإنما جعلوها جزءًا من العربية السعيدة2. أضف إلى ذلك أننا لم نقرأ في كتاباتهم شيئًا عن المدن الهامة كتيماء ودومة الجندل، فضلا عن وادي السرحان الذي ذكره الجغرافيون وبعض المؤرخين التالين لهم تحت اسم "سيرميون- بيديون" "Syrmaion Pedion"، مما يدل على أنهم لم يذهبوا إلى هذه المناطق، وإنما اعتمدوا في الكتابة عنها على معلومات شفهية متداولة، وإن كان هذا لا يعني أن التغلغل اليوناني في المناطق الشمالية من بلاد العرب كان معدومًا، فهناك معالم كثيرة يغلب عليها الطراز اليوناني في العمارة، إلى جانب كثرة ما وجد من النقود اليونانية3.   1 سامي الأحمد: المرجع السابق ص603-604 وكذا ARRIAN, ANABASIS OF ALEXANDER THE GREAT AND INDICA, EDITED BY E.J, CHINNOCK, "LONDON, 1893", CH.43 2 سامي سعيد الأحمد: نظرات في جغرافية شبه الجزيرة العربية في المصادر اليونانية القديمة، مجلة العرب، العدد السابع، السنة الثالثة، أبريل 1969، ص604. 3 سامي الأحمد: المرجع السابق ص604. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 التقسيم العربى مدخل ... 3- التقسيم العربى: وأما الكتاب العرب، فقد قسموا شبه الجزيرة العربية إلى خمسة أقسام، هي: اليمن وتهامة والحجاز ونجد واليمامة "وتسمى أيضًا العروض"1، وكان أساس تقسيمهم "جبل السراة" -أعظم جبال بلاد العرب- وهو سلسلة جبال تبدأ من اليمن، وتمتد شمالا حتى أطراف بادية الشام، على مدى 1100 ميل تقريبًا، ويطلق عليها عدة أسماء، فهي جبال السراة "السراة هي الأرض المرتفعة"، وهي جبال السروات "جمع سراة" وهي جبال الحجاز، كما كانت تسمى باسم الإقليم الذي هي فيه، فيقال جبال الحجاز في الحجاز، وجبال عسير في إقليم عسير2.   1 ياقوت 2/ 137، صبح الأعشى 4/ 245، المفضليات للمفضل الضبي ص416، "دار المعارف- القاهرة 1952" الهمداني: صفة جزيرة العرب ص47. 2 محمود طه أبو العلا: المرجع السابق ص34-36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 وقد أضاف بعض الكتاب قسمًا سادسًا هو البحرين- والذي يسمى كذلك "هجر"- وهو في نظر البعض جزء من اليمامة، وفي نظر آخرين جزء من العراق، وأخيرًا فهناك من يقسم بلاد العرب إلى قسمين اثنين، الواحد: اليمن والحجاز، والآخر: تهامة ونجد واليمامة1.   1 محمد مبروك نافع: عصر ما قبل الإسلام ص18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 1- اليمن : وتمتد على طول المحيط الهندي، ويحدها البحر الأحمر من الغرب، والحجاز من الشمال، وفيها التهائم والنجد، وهي في عرف بعض الباحثين، إنما تقع من وراء تثليث وما سامتها إلى صنعاء، وما قاربها إلى حضرموت والشحر وعمان، إلى عدن أبين وما يلي ذلك من التهائم والنجود، وتخترق "السراة" اليمن من الشمال إلى الجنوب حتى البحر، وتتخللها الأودية التي تنساب فيها الأمطار، وتمتد بين الهضاب والشعاب فلاة تتفرع من الدهناء من ناحية اليمامة والفلج يقال لها "الغائط"، وتظهر في أواسطها، وتقع بين مأرب وحضرموت1. واليمن -في رأي القلقشندي2- قطعة من جزيرة العرب، يحدها من الغرب بحر القلزم، ومن الجنوب بحر الهند، ومن الشرق بحر فارس، ومن الشمال حدود مكة، حيث الموضع المعروف بطلحة الملك، وما على سمت ذلك إلى بحر فارس، وهكذا كان اليمن لا يقتصر على الجنوب الغربي لشبه جزيرة العرب فحسب، ولكنه يشمل كل دويلات جنوب شبه الجزيرة العربية، كسبأ وأوسان وحضرموت وعمان3 وغيرها. وأما سبب تسميتها باليمن، فذلك أمر ما يزال موضع خلاف، فهناك من يذهب إلى أن ذلك إنما كان نسبة إلى أول من قطنها من العرب، الذي قال له والده قحطان أنت   1 ياقوت 2/ 237، 219، 5/ 447، البكري 1/ 16، جواد علي 1/ 170-171، وانظر: الهمداني: صفة جزيرة العرب، تحقيق محمد بن علي الأكوع الحوالي، منشورات دار اليمامة، الرياض 1974 ص65-68 وكذا Ei. 4, P.764 2 القلقشندي: صبح الأعشى 5/ 6. 3 محمود أبو العلا: جغرافية جزيرة العرب- الجزءان الثالث والرابع، القاهرة 1972 ص8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 أيمن ولدي، أو لأنها تقع إلى يمين الكعبة، بينما يتجه فريق ثالث إلى أن السبب إنما كان في طبيعة البلاد نفسها، فهي بلاد اليمن والخير والبركة، على أن رأيًا رابعًا يذهب إلى أنها سميت بذلك لتيامن العرب إليها، أو لأن الناس قد كثروا بمكة فلم تحملهم فالتأمت بنو يمن إلى اليمن، وهي أيمن الأرض فسميت بذلك، وأخيرًا فهناك من يرجح أنها سميت اليمن من كلمة "يمنات" الواردة في نص يرجع إلى أيام الملك "شمر يهرعش"1 غير أن كل تلك الآراء لم تقل شيئًا عن الاسم الذي كان يطلق عليها قبل أن تسمى باليمن. وتشتهر بلاد اليمن بغنى محاصيلها وتنوعها، واعتدال مناخها، حتى لقد سميت -كما يقول الهمداني- باليمن الخضراء، لكثرة أشجارها وثمارها وزروعها، على أن فريقًا من المستشرقين إنما يرى أن ما نسب إلى اليمن من غنى وخصب مبالغ فيه، وأن معظم الحاصلات التي كان يظن أن بلاد اليمن مصدرها، إنما كان يستجلبها العرب -والمصريون الذين كانوا يحتكرون التجارة في البحر الأحمر- من جزائر الهند وسواحل أفريقية الشرقية، وأنهم كانوا يخفون هذا عن جيرانهم، حتى لا يزاحموهم في الحصول عليها من هذه الأنحاء، إلا أن هناك حقيقة واضحة، هي أنها كانت بسبب الجبال التي تقع في داخلها عرضة للرياح الموسمية، فتسقط الأمطار التي تجعل أرض اليمن تجود بالبن أهم حاصلاتها، وبالفاكهة والقمح والأعناب والتوابل2.   1 ياقوت 5/ 447، كتاب التيجان ص32، مروج الذهب 2/ 43، تاريخ ابن خلدون 2/ 42، عبد العزيز سالم: المرجع السابق ص113، سعد زغلول: في تاريخ العرب قبل الإسلام، بيروت 1975 ص69-70، محمد مبروك نافع: عصر ما قبل الإسلام ص19، جواد علي 1/ 171، الإكليل 1/ 46 2 محمد مبروك نافع: عصر ما قبل الإسلام ص19-20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 2- تهامة : ورد اسم تهامة في النصوص العربية الجنوبية "تهمت" "تهمتم"1، وقد حاول بعض الباحثين إيجاد صلة بين هذه اللفظة وكلمة "Tiamtu" البابلية، ومعناها البحر، وكلمة "تيهوم" "Tehom" العبرية2، بينما يتجه "جواد علي"   1 ENCY. OF ISLAM, 4, P.1155 2 جواد علي 1/ 170، وكذا E. SCHRADER, DIE KEILINCHRIFTEN UND DAS ALTE TESTAMENT., BERIN, 1903, P.492 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 إلى أن الكلمة إنما ترجع إلى أصل ساميٍّ قديم، له علاقة بالمنخفضات الواقعة على البحر، ومن ثم فهي شديدة الرطوبة والحرارة في الصيف، ومن هنا سميت "تهامة" من التهم، وهو شدة الحر وركود الريح، إلا أن هناك من يرى أن السبب إنما هو تغير هوائها، كما أن هناك من يرى أن التهمة هي الأرض المتصوبة نحو البحر1، ولعل انخفاض أرض تهامة كان هو السبب في أن يسمى "بالغور" و"بالسافلة"، وعلى أي حال، فهي تتكون من المنطقة الساحلية الضيقة الموازية لامتداد البحر الأحمر من اليمن جنوبًا إلى العقبة شمالا2. وهي تتألف من تهائم، فهناك تهامة اليمن، وتهامة عسير، وتهامة الحجاز، وفي الواقع أن التهائم ليست هي المنطقة الساحلية السهلة فحسب، ولكنها تشتمل كذلك على أكثر المناطق الواقعة إلى المنحدر الغربي لسفوح جبال الحجاز3، وتختلف في عرضها باختلاف قرب السلاسل الجبلية من البحر وبعدها عنه، وقد يبلغ عرضها خمسين ميلا في بعض الأماكن4، وقد تضيق في أماكن أخرى إلى أن تصبح الهضاب القريبة من الساحل متصلة بالشاطئ رأسًا، هذا إلى أن أكثر هذه المنطقة الساحلية رملي شديد الحرارة، قليل الإنبات، كما أن جميع المدن الساحلية إنما تقع في هذه المنطقة5.   1 ياقوت 2/ 63، جواد علي 1/ 170، مبروك نافع: المرجع السابق ص21، البكري 1/ 322. 2 عبد العزيز سالم: المرجع السابق ص109، ياقوت 2/ 137. 3 فؤاد حمزة: قلب جزيرة العرب ص18، الهمداني: صفة جزيرة العرب ص258-260 "طبعة الرياض 1974". 4 جواد علي 1/ 167. 5 فؤاد حمزة: قلب جزيرة العرب ص18-19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 3- الحجاز : وهو منطقة جبلية تقع غرب تهامة، وتحاذيها من الشمال إلى الجنوب، وتمتد رقعته -في رأي أكثر علماء الجغرافية المسلمين- من تخوم الشام عند العقبة إلى "الليث"، وهو واد بأسفل السراة يدفع في البحر، فتبدأ عندئذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 أرض تهامة1، أو هو من تخوم صنعاء من العبلاء وتبالة إلى تخوم الشام2، وقد ذهب البعض إلى أن تبوك وفلسطين، إنما هما من أرض الحجاز، بينما سمي القسم الشمالي من الحجاز بأرض مدين وحسمي، نسبة إلى جبال "حسمي" التي تتجه من الشمال إلى الجنوب3، والتي تتخللها أودية محصورة بين التيه وإيله، وبين أرض "بني عذرة" من ظهر حرة "نهيل"4، وكانت تسكنها في العصر الجاهلي قبائل "جذام"5، وعرب الحويطات في أيامنا هذه والذين يرى بعض الباحثين فيهم بقايا الأنباط6. وأما سبب تسميته حجازًا، فلأنه يحجز بين ساحل البحر الأحمر، وهو هابط مستواه، وبين النجاد الشرقية المرتفعة بالنسبة إلى الساحل الغربي7، أو لأنه احتجز بالجبال8، أو لأنه يحجز بين الغور والشام9، أو لأنه يحجز بين تهامة ونجد، وما سال من "ذات عرق" مقبلا فهو نجد إلى أن يقطعه العراق9، أو لأنه يحجز بين الشام واليمن والتهائم11، أو بين تهامة والعروض، وفيما بين اليمن ونجد12.   1 جواد علي 1/ 167، ياقوت 2/ 137. 2 الحسن بن عبد الله الأصفهاني: بلاد العرب، تحقيق حمد الجاسر، الدكتور صالح العلي، دار اليمامة، الرياض 1968 ص14. 3 ياقوت 2/ 137، البكري 1/ 12، جواد علي 1/ 167 وكذا HANDBOOK OF ARABIA, BY BRITISH ADMIRALTY, I, P.96 وكذا EL, I, P.368 4 لسان العرب 15/ 24، ياقوت 3/ 276 5 C.M. DOUGHTY, TRAVELS IN ARABIA DESERTA, 2, N.Y., 1946, P.624. وكذا EL, I, P.368 EL, I, P.349 7 فؤاد حمزة، المرجع السابق ص17. 8 البكري 1/ 11. 9 ياقوت 2/ 137، أبو العباس أحمد بن علي القلقشندي، صبح الأعشى في صناعة الإنشاء؛ القاهرة 1913؛ 4 / 246. 10 الأصفهاني: المرجع السابق ص14-16. 11 مروج الذهب 2/ 35-43. 12 ياقوت 2/ 63-262، البكري 1/ 10-11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 4- نجد : وهي في الكتب العربية اسم للأرض العريقة التي أعلاها تهامة واليمن، وأسفلها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 العراق والشام1، وحدها "ذات عرق" في الحجاز، وما ارتفع عن بطن الرمة فهو نجد إلى أطراف العراق وبادية السماوة2 -وهي ما بين جرش وسواد العراق- وليست في الكتب العربية حدود واضحة دقيقة لنجد، فهم يقولون "إذا خرجت من المدينة فأنت منجد إلى أن تتصوب في مدارج العرج -وهو واد بين مكة والمدينة3- فإذا تصوبت فيها فقد أتهمت إلى مكة"4، ويقولون "إذا خلفت عمان مصعدًا فقد أنجدت، فلا تزال منجدًا حتى تنزل في ثنايا ذات عرق فإذا فعلت ذلك فقد أتهمت إلى البحر5، وعلى أي حال، فإن "نجدًا" بصفة عامة إنما هي الهضبة التي تكون قلب شبه الجزيرة العربية6، وهي ليست قاحلة- كما يتصورها معظم الناس- وإنما نثرت فيها أراض صالحة للزراعة، بل هي دون شك أصح بلاد العرب، وأجودها هواء، ومن ثم فقد ترنم الشعراء برباها ورياضها. وتتألف نجد من الوجهة الطبيعية من مناطق ثلاثة: منطقة وادي الرمة، فالمنطقة الوسطى، ثم المنطقة الجنوبية، أما علماء العرب فقد قسموا نجدًا إلى عالية وسافلة، أما نجد العالية: فما ولي الحجاز وتهامة، وأما السافلة فما ولي العراق7، وكانت نجد حتى القرن السادس الميلادي ذات أشجار وغابات ولا سيما في "الشربة" جنوب وادي الرمة وفي "وجرة"8.   1 ياقوت 4/ 262، محمود شكري الألوسي: تاريخ نجد ص7. 2 ياقوت 2/ 137، 5/ 262-265، البكري 1/ 14، جواد علي 1/ 181، الهمداني: صفة جزيرة العرب ص48. 3 من عجب أن الأخباريين قد اختلفوا في مكة والمدينة، فرأى البعض أن المدينة من نجد، ومكة من تهامة اليمن، ورأى آخرون أن المدينة حجازية ومكة تهامية، بل لقد ذهب فريق ثالث إلى أن المدينة نفسها بعضها حجازي وبعضها تهامي "الإصطخري: المسالك والممالك ص21، الأصفهاني ص14، ياقوت2/ 219". 4 الأصفهاني: المرجع السابق ص337-338. 5 ياقوت 2/ 63. 6 جواد علي 1/ 181 وكذا K.S. TWITCHELL, SAUDI ARABIA, 1953, P.6. وكذا L.D. STAMP, CP. CIT., P.137 7 ياقوت 2/ 262، جواد علي 1/ 182، تاريخ نجد ص8، عصر ما قبل الإسلام ص21. 8 J.B. PHILBY, THE HEART OF ARABIA, I, P.115. وكذا EL, 3, P.895 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 5- العروض : وتشمل اليمامة والبحرين وما والاهما، وسميت عروضًا لأنها تعترض بين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 اليمن ونجد والعراق1. أما اليمامة فقد سميت كذلك نسبة إلى اليمامة أشهر بلادها، والتي كانت تعرف من قبل "جو والقرية"2، وإن هذا التغيير في الاسم، إنما تم -طبقًا لرواية الأخباريين- بعد القضاء على "طسم" التي كانت تسكن الخضراء، و"جديس" التي كانت تسكن الخضرمة3 -الأمر الذي سنناقشه بالتفصيل في مكانه من هذه الدارسة-. هذا وقد عثر "جون فلبي"، وبعض رجال شركة النفط العربية السعودية، و"ألبرت جام" وبعثة جامعة الرياض، على كتابات ونقوش في موضع "قرية الفاو" -على مبعدة 120 كيلو مترًا من نجران- مكتوبة باللهجات العربية الجنوبية، وترجع إلى ما قبل الميلاد4، كما عثروا على مقابر وعلى أدوات فخارية، ظهر من فحصها أنها تعود إلى القرن الثاني قبل الميلاد5. وإنه لمن الأهمية الإشارة إلى أن "برترام توماس" إنما يذهب إلى أن آبار "العويفرة" القريبة من "القرية" إنما هي موضع "أوفير6"، التي أرسل إليها سليمان ملك اليهود، و"حيرام" ملك صور، بأساطيلهما لإحضار الذهب والأخشاب النفيسة وكل ما هو نادر وغريب7، وأن الاسم العربي القديم إنما هو "عفرة" وقد تحرف بالنقل إلى العبرانية واليونانية فصار "Ophir"، وهذا الموضع قريب من مناجم الذهب8. ويبدو أن هناك عدة عوامل أثرت في اليمامة وفي أواسط شبه الجزيرة العربية،   1 ياقوت 4/ 112، الأصفهاني: المرجع السابق ص336، عبد العزيز سالم: المرجع السابق ص112. 2 ياقوت 5/ 442. 3 تاريخ الطبري 1/ 630. 4 J.B.PHILBY, GJ, CXII, 1949, P.86F. وكذا LE MUSEON, LXII, 1949, 1-2, P.87 5 جواد علي 1/ 179-180 وكذا J.B. PHILPY, GJ, CXII, 1949, P.92 وكذا R.H. SANGER, OP. CIT., P.139 6 انظر مقالنا "العرب وعلاقاتهم الدولية" ص287-437، وكتابنا "إسرائيل" ص444-448. 7 ملوك أول 9: 27، 10: 11-12 8 B.THOMAS, ARABIA FELIX, P.163. وكذاJ.B. PHILBY, THE EMPTY QUARTER, P.177 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 فحولت أرضها إلى مناطق صحراوية، على حين أننا نجد في الكتب العربية، أنها كانت غزيرة المياه، ذات عيون وآبار ومزارع1. وأما البحرين، أو "هجر"، فهي منطقة تمتد من البصرة شمالا إلى عمان جنوبًا، وتتكون من: قطر، والتي تمتد من عمان إلى حدود الإحساء، ثم الإحساء، وكانت تسمى قديمًا "هجر والبحرين" "والتي سميت بالبحرين من أجل نهرها محلم ولنهر عين الجريب" وأما أغنى مناطق الإحساء فهي منطقة الإحساء والقطيف حيث تكثر الآبار والعيون2. وهناك على مقربة من القير -وهي ميناء صغير يقع قريبًا من القطيف- توجد خرائب "جرها" "الجرعاء" المدينة التجارية القديمة، وملتقى طرق القوافل التي كانت ترد من جنوب بلاد العرب إلى العراق وإلى البتراء3، وإن كان "جرانت" يذهب إلى أن الجزء الأوسط من هذا الطريق -والذي يمر في صحراء النفود- يصل حدًّا يستحيل معه المرور4، ويؤيد "ألويس موسل" هذا الاتجاه مضيفًا إليه بأن تركيبات "اللافا" للتربة مسؤولة عن هذه الصعوبة5. وأما القسم الشمالي من هذه المنطقة فهو "الكويت"، ومعظم أرضه منبسطة، وأكثر سواحله رملي، إلا بعض الهضاب أو التلال البارزة، وأكثر ما يزرع هناك النخيل، وليس في الكويت من الأنهار الجارية غير مجرى واحد يقال له "المقطع" وأشهر مدنه الكويت وجهرة، وهي من أخصب بقاع الكويت حاليًّا، كما أنها كانت مأهولة بالسكان منذ عصر ما قبل الإسلام6.   1 جواد علي 1/ 180. 2 ياقوت 5/ 3-3، حافظ وهبه: جزيرة العرب في القرن العشرين ص68، الهمداني: المرجع السابق ص279-280 "طبعة1974" جواد علي: المرجع السابق ص174-185، وكذا HANDBOOK OF ARABIA, P.298 3 جواد علي 1/ 175، فضلو حوراني: المرجع السابق ص43-45، 59-60 وكذا C.FORSTER, OP. CIT., P.217 4 سامي الأحمد: المرجع السابق ص603 وكذا P.C. GRANT, THE SYRIAN DESERT, LONDON, 1947, P.36 5 A. MUSIL, ARABIA DESERT, P.265 6 جواد علي 1/ 176-177، وكذا C. FORSTER, OP. CIT., P.214 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 مظاهر السطح مدخل ... مظاهر السطح: تتكون أغلب الأرض في بلاد العرب من بواد وسهول تغلبت عليها الطبيعة الصحراوية، ولكن قسمًا كبيرًا منها يمكن إصلاحه إذا ما تعهدته يد الإنسان واستخدمت في إصلاحه الوسائل العلمية الحديثة، والأرض الصالحة للزراعة تزرع فعلا لوجود المياه فيها، أما الأرضون التي تعد اليوم من المجموعة الصحراوية1، فهي:   1 جواد علي 1/ 145. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 1- الحرار : الحرة -كما في معجم ياقوت- أرض ذات حجارة سود نخرة كأنها أُحْرِقَت بالنار1، وهذه الحرات إنما هي مقذوفات بركانية تبتدئ من شرق حوران، وتمتد منتثرة إلى المدينة المنورة -التي هي نفسها تقع بين حرتين "واقم والوبرة" وهي كثيرة في بلاد العرب عدة منها بعض الكتاب نحوًا من تسع وعشرين حرة2، وأشهرها حرة واقم، والتي تنسب إليها وقعة الحرة "63/ 683" على أيام يزيد بن معاوية، حيث قتل الأمويون أكثر من عشرة آلاف من أهل المدينة، وارتكبوا ضد أهلها الكثير من الفظائع، وفعلوا بها -كما فعلوا بمكة من بعد- ما لا يتفق مع خلق أو دين، فضلا عن انتهاك حرمة مدينة رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم3. والحرة عادة مستطيلة الشكل، فإذا كان فيها شيء مستطيل غير واسع، فذلك الكراع واللابة4 "اللافا" وهي صخور بركانية، وتكثر الحرات في الأقسام   1 ياقوت 2/ 245. 2 البكري 1/ 14-15، 2/ 435-438، ياقوت 2/ 245-250، الأصفاني: المرجع السابق ص14-15، أحمد أمين: فجر الإسلام ص2. 3 مروج الذهب 3/ 78، التنبيه والإشراف ص305، أبو الفداء 1/ 191-192، تاريخ الطبري 4/ 374، ابن قتيبة: الإمامة والسياسة 1/ 228، ياقوت 2/ 249، ابن الأثير 3/ 310-314، تاريخ اليعقوبي 2/ 298-160، فيليب حتي: تاريخ العرب ص254، عبد المنعم ماجد: المرجع السابق 2/ 86-88، عبد العزيز سالم: تاريخ الدولة العربية، الإسكندرية 1973 ص369-371. 4 ياقوت 2/ 245. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 الغربية من شبه جزيرة العرب، وتمتد حتى تتصل بالحرار التي في بلاد الشام بمنطقة حوران -ولا سيما في الصفاة- وتوجد في المناطق الوسطى، وفي المناطق الشرقية الجنوبية من نجد حيث تتجه نحو الشرق، وفي المناطق الجنوبية والجنوبية الغربية، حيث نلاحظ الحجارة البركانية، على مقربة من باب المندب وعند عدن، وقد ذكر العرب أسماء عدة منها -كما أشرنا آنفًا- وأضاف إليها السياح عدد آخر، عثروا عليه في مناطق ثانية1. ولعل أهم هذه الحرات: حرة العويرض، وتقع غرب درب الحاج الممتد من تبوك إلى العلا، ويبلغ طولها أكثر من مائة ميل، بعرض يكاد يقرب من ذلك، ومتوسط ارتفاعها عن سطح البحر حوالي خمسة آلاف قدم، كما أن أعلى مواقعها جبل عنازة الذي يزيد ارتفاعها على 7000 قدم فوق سطح البحر2، وهناك كذلك حرة الحذرية وحرة واقم وحرة ليلى شوران وحرة النار قرب خيبر، وجميع هذه الحرار في الحجاز قرب المدينة المنورة3. وفي أرض اليمن عدد كبير من الحرار، منها حرة "أرحب" شمالي صنعاء، ولها "لابة" "لافا" يستخرج الناس منها حجارة سوداء لبناء البيوت4، كما أن هناك كثيرًا من الحرار في القسم الشمالي من "وادي أبرد"- بين صنعاء ومأرب- ولعل كثرة الحرار بجوار المدن القديمة هو الذي دفع البعض إلى تفسير هلاك بعض المدن -كخراب مأرب وحقه وشبوه- على أنه من هياج البراكين5. ولعل أشهر حرار اليمن "حرة ضروان" وقد بلغ من شهرة قذفها للحمم وارتفاع لهيبها، أن القوم كانوا يتعبدون لها ويتحاكمون إليها فيما يشجر بينهم من خلاف، إذ كانوا يعتقدون أن النار تخرج فتأكل الظالم وتنصف المظلوم6، وأخيرًا فهناك كذلك حرار في عدن وحضرموت وعمان والربع الخالي7.   1 جواد علي 1/ 147 وكذا C.M. DOUGHTY, OP. CIT., P.618 وكذا A.MUSIL, OP. CIT., P.321 وكذا C.P. GRANT, OP. CIT., P.122 2 فؤاد حمزة: المرجع السابق ص58. 3 ياقوت 2/ 245-250، البكري 1/ 14-15، 2/ 435-438، القاموس المحيط 2/ 6-7، 65، 150، 172، 4/ 48، 187، 265، الأصفهاني: المرجع السابق ص14-15، عمر فروخ: تاريخ الجاهلية ص29-30. 4 جواد علي 1/ 189 وكذا H. SCOTT, IN THE HIGH YEMEN, LANDON, 1947, P.8 5 J.B. PHILBY, SHEBA.htm'S DAUGHTER, P.103, 389. وكذا GJ, 92, 1938, P.127 6 الإكليل 1/ 33، جواد علي 1/ 148، وانظر: ياقوت 3/ 435. 7 جواد علي 1/ 190، وانظر: ياقوت 5/ 356-359 وكذا D.G. HOGARTH, THE NEAR EAST, P.97 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 2- الدهناء : وهي أرض رملية حمراء في الغالب، تمتد من النفود في الشمال، إلى حضرموت ومهرة في الجنوب، واليمن في الغرب، وعمان في الشرق، وفيها سلاسل من التلال الرملية ذات ارتفاعات مختلفة، تنتقل في الغالب مع الرياح وتغطي مساحات واسعة من الأرض1، ويمكن العثور على المياه في قيعانها إذا حفرت فيها الآبار2، وقد تنبت فيها أعشاب إذا ما وصلتها أمطار، وإن كان ذلك لفترة قصيرة، ربما لا تتجاوز أشهرًا ثلاثة. وقد اعتبرها "ألويس موسل" فرعًا من النفود لا يتجاوز عرضه 30 كيلو مترًا، ولكنه يمتد مئات الكيلو مترات، ويبدأ في الشمال من نقطة تقع على مبعدة خمسين كيلو مترًا من درب الحج من جهة العراق3، وأما "جون فلبي" فقد ذهب إلى أنها سلاسل رملية وآكام وكثبان متقطعة، ارتفاعها عن سطح البحر ما بين 1200، 1500 م4، ويطلق الجغرافيون المحدثون على أقسامها الجنوبية اسم "الربع الحالي"5 لندرة السكان فيها، وكانت تعرف من قبل "بمفازة صيهد"6، وتشغلها المنطقة الرملية الواسعة في جنوب المملكة العربية السعودية، والتي تمتد من المرتفعات الغربية القديمة في الغرب، وحتى مرتفعات عمان شرقًا، ومن هضبة نجد في الشمال، إلى مرتفعات حضرموت في الجنوب7. وأما القسم الغربي الجنوبي من الدهناء فيسمى "الأحقاف" "والحقف المعوج   1 جواد علي 1/ 150 وكذا EL, I, P.893 وكذا P.K. HITTI, OP. CIT., P.15 وكذا EB, 2, P.173 2 جواد علي 1/ 150 وكذا HANDBOOK OF ARABIA, I, P.11 3 A. MUSIL, NORTHERN NEJD, 1928, P.160 4 J.B. PHILBY, THE HEART OF ARABIA, I, P.49, 273 5 B. THOMAS, ARABIA FELIX, P.XXIII وكذا EL, I, P.895. وكذا J.B. PHILBY, THE EMPTY QUARTER, GJ, 81, 1933 6 الهمداني: صفة جزيرة العرب ص214، ياقوت: معجم البلدان 3/ 448. 7 محمود طه أبو العلا: المرجع السابق ص56. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 من الرمل أو الرمل العظيم المستدير أو المستطيل المشرف"1 وهي منطقة واسعة من الرمال، بها كثبان من الرمال اقترن اسمها باسم "عاد"، كما تكوّن "وبار" قسمًا من الدهناء، وهي أرض كانت مشهورة بالخصب والنماء، ثم أصبحت اليوم من الصحراوات، وفي الجهة الشمالية من وبار "رمال يبرين" التي يصفها "ياقوت" بأنها "رمل لا تدرك أطرافه عن يمين مطلع الشمس من حجر اليمامة"، وقد كانت مسكونة، غير أن الرمال حولتها آخر الأمر إلى خراب2.   1 القاموس المحيط 3/ 129، عمر فروخ: تاريخ الجاهلية ص128. 2 ياقوت 5/ 427، جواد علي 1/ 1542، الهمداني: المرجع السابق ص51 وما بعدها، وكذا ENCY. OF ISLAM, I, P.370, 4, P.1073. وكذا J.B. PHILBY, OP. CIT., P.157 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 النفود: وهو الصحراء المسماة "بادية السماوة"، أما "النفود" فاسم لم يكن يعرفه العرب، وعلى أي حال، فهي صحراء واسعة ذات رمال بيض أو حمر تذرها الرياح، فتكون كثبانًا مرتفعة وسلاسل رملية متموجة1، يحدها من الشمال وادي السرحان، ومن غربها الجنوبي واحة تيماء، ومن الجنوب جبلا أجأ وسلمى "جبل شمر"، ومن شرقها الجنوبي مدينة حائل2، وهكذا يبدو واضحًا أن صحراء النفود "أو النفوذ بالذال المعجمة" تمتد على مسافة كبيرة من الأرض، تزيد عن مائة ألف كيلو متر مربع. وكان يطلق على النفود الكبير قديمًا "رملة عالج" وقد وصفه البكري وياقوت تحت هذا الاسم3، وتخترق القوافل النفود الكبير بالقرب من رأسه، إذ ترى درب الحج المسمى "درب زبيدة" كما تخترقه كذلك في مناطق معينة بين الكثبان الرملية، فهناك طريق بين الجوف ومنطقة جبل شمر4.   1 أحمد أمين: فجر الإسلام ص1، جواد علي 1/ 152 وكذا B. MORTIZ, ARABIEN, HANOVER, 1923, P.15 وكذا HANDBOOK OF ARABIA, P.11 2 عمر فروخ: تاريخ الجاهلية ص28. 3 البكري 3/ 913-914، ياقوت 4/ 70. 4 محمود أبو العلاء: المرجع السابق ص55. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 التضاريس : 1- الجبال : تكوِّن سلسلة جبال "السراة" العمود الفقري لشبه جزيرة العرب، وتتصل فقراتُه بسلسلة جبال بلاد الشام المشرفة على البادية، وبعض قمم هذه السلسلة مرتفعة، وقد تتساقط عليها الثلوج كجبل "دباغ" الذي يرتفع إلى 2200 فوق سطح البحر، وجبل "وثر" وجبل "شيبان"، وتنخفض هذه السلسلة عند دنوها من مكة، فتكون القمم في أوطأ ارتفاع، ثم تعود إلى الارتفاع، حيث تصل إلى مستوى عال في اليمن، فتتساقط الثلوج على قمم بعض الجبال1. وتشتهر منطقة مكة بمجموعة من الجبال، أشهرها جبل "أبي قبيس" في جنوب مكة، وجبل "حراء" في شرقها، وفيه كان يتحنث جدُّنا ومولانا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- وجبل "ثور" ويشرف على مكة من الجنوب، وفيه الغار الذي بقي فيه -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ- مع أبي بكر، فترة إبان الهجرة من مكة إلى المدينة في عام 622م، وهناك كذلك جبل "رضوى" بين المدينة المنورة والبحر الأحمر2. وتمتد في محاذاة السواحل الجنوبية سلاسل جبلية تتفرع من جبال اليمن، ثم تتجه شرقًا إلى عمان، حيث ترتفع قمة الجبل الأخضر إلى 9900 قدم، وفي نجد -وهي هضبة يبلغ ارتفاعها زهاء2500 قدم- منطقة جبلية تسمى جبل شمر، وتقع بين الحافة الجنوبية للنفود الكبير وبين وادي الرمة، وتتكون من سلسلتي جبال "أجأ وسلمى"، ويمتدان متوازيين من الجنوب الغربي إلى الشمال الشرقي والمسافة بينهما حوالي 45 ميلا، وأما جبل "طويق" فهو مرتفعات تقع في الوسط   1 الواسمي: تاريخ اليمن ص80، جواد علي 1/ 156، وانظر: ياقوت 2/ 204-205، 233-234. 2 البكري 1/ 348، ياقوت 3/ 51، 2/ 80-81، 68-87، محمد مبروك نافع: المرجع السابق ص25؛ وانظر: النويري 10/ 111، ابن الأثير 48، 104، تاريخ الطبري 2/ 300، 378، محمد حسين هيكل: حياة محمد ص147-148، 224، محمد رضا: محمد رسول الله ص128، مولانا محمد علي: حياة محمد ورسالته ص67، 116-117. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 الشرقي من نجد وفي جنوب شرقي الرياض، وتتكون من الصخور الجوراسية، ويطلق الجغرافيون العرب عليها جبال العارض، وهناك ما يشير إلى صخور أو مواد بركانية قذفتها البراكين إلى هنا1.   1 محمود طه أبو العلا: المرجع السابق ص43، 436، البكري 1/ 109-111، ياقوت 1/ 94-95، جواد علي 1/ 157-158، وانظر: الهمداني: صفة جزيرة العرب ص265-166 "طبعة 1974"، تاريخ نجد ص21 وكذا B. MORITZ, OP. CIT., P.6 وكذا P.K. HITTI, OP. CIT., P.15 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 2- الأنهار والأودية : لا تستطيع شبه الجزيرة العربية أن تفاخر بوجود نهر واحد دائم الجريان يصب ماؤه في البحر، وليس في نهيراتها الصغيرة ما يصلح للملاحة1، ومن ثم فهي تعد من جملة الأرضين التي تقل فيها الأنهار والبحيرات، وفي جملة البلاد التي يغلب عليها الجفاف، ويقل فيها سقوط الأمطار، ومن ثم فقد أصبحت أكثر بقاعها صحراوية قليلة السكان2. وقد عوضت عن الأنهار بشبكة من الأودية التي تجري فيها السيول غبّ المطر، وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن كثيرًا من أودية شبه الجزيرة العربية كانت أنهارًا في يوم ما3، ويعتمدون في ذلك على أدلة منها "أولًا" وجود ترسبات في هذه الأودية من النوع الذي يتكون عادة في قيعان الأنهار، ومنها "ثانيًا" ما عثر عليه من عاديات وآثار سكن على حافة الأودية، ومنها "ثالثًا" ما جاء في كتابات القدامى من مؤرخي الأغارقة والرومان وجغرافيهم عن وجود أنهار في شبه الجزيرة العربية، فمثلا "هيرودوت" يحدثنا عن نهر أسماه "كورس"، زعم أنه يصب في البحر   1 K. PHILIP. HITTI, HISTORY OF THE ARABS, LONDON, 1960, P.18 2 جواد علي: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام -الجزء الأول، بيروت 1968 ص157-158، 3 هذا ومما يؤكد وجود الأنهار قديمًا في بلاد العرب ما رواه مسلم في صحيحه في كتاب الزكاة "باب الترغيب في الصدقة قبل أن لا يوجد من يقبلها"، عن أبي هريرة عن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "لا تقوم الساعة حتى يكثر المال ويفيض، وحتى يخرج الرجل بزكاة ماله فلا يجد أحدًا يقبلها منه، وحتى تعود أرض العرب مروجًا وأنهارًا " وهكذا يفيد الحديث الشريف أن شبه الجزيرة العربية كانت فيها المروج والأنهار قديمًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 الأحمر، و"بطليموس" يذكر لنا نهرًا دعاه "لار" وزعم أنه نهر عظيم ينبع من منطقة نجران، ثم يسير في اتجاه شمالي شرقي، مخترقًا بلاد العرب، حتى يصب في الخليج العربي، ويرى "مورتز" أنه وادي الدواسر يمس حافة الربع الخالي عند نقطة تبعد خمسين ميلا، من جنوب شرق السليل، وتمده بعض الأودية المتجهة من سلاسل جبال اليمن بمياه السيول1. والأمر كذلك بالنسبة إلى البحيرات، فليس في بلاد العرب بحيرات، وإنما هناك عدد كبير من "السبخات" الملحة، وهي مناطق واسعة تؤلف مساحة عظيمة من الأرض في نشأتها، وتحتوي على كثير من الأملاح المتجمدة2، وقد اختلف الباحثون في نشأتها، فهناك من ذهب إلى أنها بقايا أنهار أو بحيرات ملحية قديمة3، ومن ذهب إلى أنها بقاع تجمع فيها الكثير من الأملاح، وبمرور الزمن تكونت هذه السبخات4، والتي منها، سبخة رابغ بين جدة ورابغ، وسبخة المدينة المنورة، وسبخة قريات الملح، وسبخة حضوضاء في وادي السرحان، وسبخة الأحساء بين الأحساء والخليج العربي5، وإنه لمن الجدير بالملاحظة أن هذه السبخات تصبح في موسم الأمطار لزجة جدًّا، لا تتحمل ثقلا، وتغور بمن يمرُّ عليها6. وأما الأودية فكثيرة في شبه الجزيرة العربية، لعل من أهمها: 1- وادي الرمة: ويمتد من شرق المدينة المنورة في اتجاه شماليٍّ شرقيٍّ حتى يصل إلى "واحة البعايث"، ثم يتجه شرقًا فجنوب شرق، ثم شرق، حتى أطراف نفود "الثويرات"، حيث تطمس هذه النفود مجراه، وبعدها يأخذ الوادي نفس   1 حافظ وهبة: المرجع السابق ص54، الألوسي: تاريخ نجد ص29، جواد علي 1/ 158-159، وكذا B. MORITZ, OP. CIT., P.21 وكذا HERODOTUS, I, P.214 وكذا P. THOMAS, ARABIA FELIX, ACROSS THE EMPTY QUARTER, P.350F 2 عمر رضا كحالة: جغرافية شبه جزيرة العرب ص74. 3 مصطفى مراد الدباغ: جزيرة العرب، الجزء الأول ص29. 4 عمر رضا كحالة: المرجع السابق ص75. 5 نفس المرجع السابق ص75. 6 مصطفى الدباغ: المرجع السابق ص290. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 اتجاهه إلى الشمال الشرقي حتى رمال الدهناء تحت اسم "وادي الأجردي"، ثم يسير بعد ذلك في نفس الاتجاه باسم "وادي الباطن"، حيث مدينة البصرة على شط العرب، ويتصل بهذا الوادي مجموعة ضخمة من الروافد تجري في كل شمال غربي هضبة نجد، ويبلغ اتساع وادي الرمة في بعض المناطق خمسة أميال، وتقع عليه -وكذا على روافده- أكبر القرى الواحية في منطقة القصيم، وأهمها بريدة وعنيزة والرس ورياض الخبراء وقصر بن عقيل والبديع والخبراء والبكيرية والدليمية والديبية والنبهانية والقرعاء والروضة والعيون والرويضة والربيعية وغيرها1. هذا ويتجه بعض الباحثين إلى اعتبار وادي الرمة هذا، إنما هو نهر "فيشون" المذكور في التوراة كواحد من أنهار الجنة الأربعة، "دجلة، والفرات وجيحون وفيشون"2، وتصف التوراة فيشون هذا بأنه "يحيط بجميع أرض الحويلة حيث الذهب، وذهب تلك الأرض جيد، وفيها المقل وحجر الجزع"3، بل أن هناك من يذهب إلى أن الأنهر المذكورة في التوراة إنما هي أنهر تقع في بلاد العرب، وأنها وادي الدواسر ووادي الرمة ووادي السرحان ووادي حوران، وأن ميل السطح في شبه جزيرة العرب وتعرضه للرياح الموسمية، ربما كان قد تغير بانخساف في طبقات الأرض، فندر الماء في شبه الجزيرة العربية4، ولعل سبق اليمن إلى عمارة السدود وخزانات المياه التي من أشهرها "سد مأرب"، إنما يرجع إلى محاولة القوم التغلب على هذا القحط، بل لعل المأثورات المتداولة بين عرب الجاهلية عن وجود ما يسمى بالعرب البائدة مثل عاد وثمود وطسم وجديس وجرهم ووبار وغيرهم، إنما هو صدى لتلك الكوارث الجغرافية -فضلا عن الأسباب الدينية- التي دفعت بالساميين الأصليين من سكان بلاد العرب إلى البحث عن القوت في أماكن أخرى5،   1 محمود طه أبو العلا: المرجع السابق ص81، 83. 2 تكوين 2: 10-14. 3 تكوين: 2: 12. 4 جواد علي 1/ 244 وكذا انظر: L. CAETANI, STUDI DI STORIA ORIENTALE, I, P.64, 80, 243, II, P.53, 65 وكذا J.A. MONTGOMERY, ARABIA AND THE BIBLE, P.9 وكذا A. MUSIL, NORTHERN NEJD, P.305 5 انظر: حسن ظاظا: المرجع السابق ص14، ومقالنا "الساميون والآراء التي دارت حول موطنهم الأصلي" مجلة كلية اللغة العربية" 1974 العدد الرابع ص265-267، وكتابنا "دراسات في التاريخ القرآني" -الفصل التاسع من الجزء الأول-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 وإن كان "ألويس موسل" يتجه إلى أن سبب الهجرات وتحول الأرض الخصبة إلى صحاري، إنما يرجع إلى ضعف الحكومات، وإلى تحول الطرق التجارية1. 2- وادي الحمض: وكان يسمى قديمًا "وادي إضم"، ويبدأ من جنوب حرة خيبر، ثم يتجه إلى المدينة المنورة حيث به أودية فرعية كوادي العقيق ووادي القرى، ثم يسير في مرتفعات الحجاز، حتى يصل إلى سهول تهامة فيتجه إلى الشمال الغربي، حيث يصب في البحر الأحمر جنوب ميناء "الوجه"، وهناك بقايا قرية يونانية قديمة، ومعبد يعرف عند الأهلين "بقصر كريم"، وهو من مخلفات المستعمرات اليونانية القديمة، التي كان الملاحون والتجار اليونان قد أقاموها عند ساحل البحر الأحمر لحماية سفنهم من القرصان "أولًا"، وللاتجار مع الأعراب "ثانيًا"، ولتموين رجال القوافل البحرية بما يحتاجون إليه من ماء وزاد "ثالثًا"2، ويذهب "مورتز" إلى أن هذا الموضع هو مكان مدينة "لويكة كومي" المشهورة في أحداث حملة "اليوس جالليوس" على اليمن في عام 24ق. م، بينما يذهب آخرون إلى أنها المحل المعروف باسم "الحوراء"، وأما طول وادي الحمض، فيقدره الجغرافيون بحوالي 900 كيلو متر3. 3- وادي السرحان: ويمتد من "عمان" عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية، حتى قرب "الجوف" جنوبًا، على الأطراف الشمالية للنفود الكبير، ويبلغ طوله حوالي 300 ميل، ويصل اتساعه في بعض المناطق إلى عشرة أميال، وهو منخفض واسع يطلق عليه "قريات الملح" و"وادي السرحان"، وهو ليس واديًا بالمعنى المفهوم من هذه الكلمة، وإنما هو منخفض واسع من الأرض يمتد من الجنوب إلى الشمال، وتنحدر منه أودية كثيرة من جميع جهاته، ولا شك أنه كان متصلا بإقليم الجوف، غير أن الرمال قد تراكمت في نقطة التقاء المنطقتين -في الموضع المعروف باسم   1 A. MUSIL, OP. CIT., P.317 2 محمود طه أبو العلاء: المرجع السابق ص87، ياقوت 1/ 214-215، 4/ 338-339، 5/ 345، جواد علي 1/ 161. 3 جواد علي 1/ 161، ياقوت 2/ 316 وكذا B. MORITZ, OP. CIT., P.21, 24 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 عريق الدسم وما بقربه -تراكمًا فصل بينهما، وهذا المنخفض من الأرض كان يدعى قديمًا "فرافر"، كما كان يدعى "البياض" كذلك1. 4- وادي حنيفة: وكان يسمى "فلجا"2، ويمتد هذا الوادي، ومجموعة الوديان المتصلة به، بين جبال طويق غربًا، وبين هضبة العرمة شمالًا، بين خطي عرض 24، 26، ويبلغ طوله حوالي 250ميلا، ويجري موازيًا له من الشمال إلى الجنوب "وادي الأيسن" حتى مدينة الرياض، حيث يمتد في جنوبها وادي السلمى، وطولهما 110 ميلا، وهذه الوديان جميعها تنتهي في منطقة الخرج أو منطقة اليمامة3. 5- وادي الدواسر: وهو وادٍ كبيرٌ يتجه شرقًا عبر وديان جبل طوق، وتنتهي مياهه شرقها عند أطراف الربع الخالي، عند نقطة تبعد خمسين ميلا من جنوب شرقي السليل،، وأهم الوديان المتصلة به من الجنوب وادي تمرة ووادي ريان ووادي الحسي ووادي الحنو، ومن الشمال وادي المجامع ووادي بني ليب، وأهم القرى اللدام والسليل والخماسين والشرافا وليلى والبديع والروضة، وفي وادي الدواسر واحة تقع في مدخلها من جهة الشرق مزارع نخيل الشرافة، وهي غنية بشجر الآثل والكروم4. 6- وادي بيشة: وينبع من مرتفعات عسير الشرقية قرب مدينة "أبها"، ثم يسير موازيًا لوادي "تثليث" حتى يتصل به شمال غرب مدينة الخماسين، ويبلغ طوله حوالي 350 ميلا، ويتصل به من الغرب وادي "رينة" الذي ينبع من مرتفعات عسير الشرقية قرب بلاد "غامد" ثم يتجه شمالا مع الحافة الشرقية لحرة "اليقوم" حتى يتصل بوادي بيشة شرق قرية "رينة" عند الرغوة، ويبلغ طوله حوالي 350 كيلو مترًا5، من بدايته وحتى بعد "الجنينة" ثم يستمر حوالي 100 كيلو متر في الرمال6.   1 الهمداني: المرجع السابق ص129، حمد الجاسر: في شمال غرب الجزيرة ص40. 2 عبد الوهاب عزام: مهد العرب ص77. 3 محمود طه أبو العلا: المرجع السابق ص84. 4 نفس المرجع السابق ص84، عمر رضا كحالة: المرجع السابق ص108-109. 5 محمود طه أبو العلاء: المرجع السابق ص84-86، وانظر: محمود شاكر: شبه جزيرة العرب- الجزء الأول - عسير؛ ص29-32 "بيروت 1976". 6 محمود شاكر: المرجع السابق ص33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 7- وادي فاطمة: وينتهي به وادي السيل، ويصب في البحر الأحمر جنوب ميناء "جدة"، وهو الذي يزود المدينتين المقدستين- مكة المكرمة والمدينة المنورة- بالمياه. 8- وادي نجران: وهو أحد الأودية الكبيرة في شبه الجزيرة العربية، بل هو في الواقع مجموعة أودية كبيرة، منها. أ- وادي حرض: وينبع من مرتفعات "وشحة" ومرتفعات "خولان بن عامر" غربي صعدة، ويتجه مجراه إلى ساحل الأحمر شمالي "ميدي" في المملكة العربية السعودية. ب- وادي مور: وهو واد كبير تتصل به روافد كثيرة متعددة المنابع، بعضها من مرتفعات "العشمة"، وبعضها من مرتفعات "وشحه"، وبعضها من مرتفعات "كحلان"، وبعضها من بلاد "حاشد" ويصب وادي مور في البحر الأحمر شمال "اللحية". جـ- وادي سردد: ويغذي مناطق زراعية واسعة، وتتصل به روافد عدة، أهمها وادي الأهجر الذي تكثر به الشلالات وقد استخدم على أيام "دولة حمير" في طحن الغلال، ويصب وادي سردد جنوب "الزيدية". د- وادي سهام: وتقع منابعه في وادي آنس جنوب صنعاء، ويصب في البحر الأحمر جنوب الحديدة. هـ- وادي رماع: وينبع من المرتفعات الواقعة شمال "ذمار" وتغذيه عدة روافد، ويصب في البحر الأحمر شمال "المفازة". و وادي زبيد: وهو من الأودية الغزيرة المياه، ومنابعه في مرتفعات "لواء آب"، ويصب في البحر غربي مدينة "زبيد". ز- وادي نخلة: ويصب في البحر شمالي "الخوخة"، ثم هناك كذلك وادي "رسيان" ووادي "موزع"، هذا مع ملاحظة أن كل هذه الأودية -الآنفة الذكر- إنما تتجه غربًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 وأما الأودية التي تتجه شرقًا، فلعل أهمها: أ- وادي الجوف: وتتجمع فيه عدة أودية. ب- وادي مأرب: وينبع من جبال "بلق" ثم يتجه شرقًا، مارًّا بمدينة مأرب على مبعدة كيلو متر، من سد مأرب المشهور. جـ- وادي حريب: وينبع من مرتفعات "خولان الطيال". د- وادي أملح والعقيق. هـ- وادي بيجان: وينبع من مرتفعات "لواء البيضاء" ثم يتجه إلى الشمال الشرقي حتى يصل إلى "بيجان القصاب" ثم تضيع مياهه شرقًا في الأحقاف. وإنه لمن الأهمية بمكان الإشارة إلى أن هذه الأودية التي تتجه شرقًا ذات أهمية تاريخية، فقد كانت مركزًا للسكنى والاستقرار، وكان حجم التجمعات السكانية، ولا شك كبيرًا، حتى أنهم فكروا في إقامة السدود العديدة على مجاري هذه الوديان، ومنها "سد مأرب"1، وسد قتبان الذي أقيم في وادي بيجان عند "هجر بن حميد" وكان يسقي منطقة واسعة من دولة قتبان2، هذا فضلا عن تلك السدود التي تظهر آثارها في وادي عديم وعند حصن العروثوبه في جنوب وادي حضرموت3، فضلا عن سد عند "مرخة" وآخر عند شبوة"، وثالث عند "الحريضة"4". ويصف الشاعر العربي السدود5 في منطقة "ياريم" فقط بقوله:   1 محمود طه أبو العلا: جغرافية جزيرة العرب -الجزءان الثالث والرابع- القاهرة 1972 ص43-52، وانظر عن "سد مأرب" الفصل التاسع من كتابنا "دراسات في التاريخ القرآني" -الجزء الأول-. 2 R. HAMILTON, ARCHAEOLOGICAL SITES IN THE WESTERN ADEN PROTECTORATE, IN GJ, 101, 1943, P.116 J.B. PHILPY, THE LAND OF SHEBA, IN GJ, 92, P.113, 119 وكذاA. GROHMANN, ARABIEN, P.153 3 جواد علي 7/ 213 وكذا A. GROHMANN, OP. CIT., P.153 وكذا J.B. PHILPY, OP. CIT., P.16 4 جواد علي 7/ 213، وكذا C. THOMPSON AND E. GARDINER, IN GJ, 93, 1939, P.34-35. 5 أهم سدود اليمن القديمة هي: سد مأرب وسد قصعان وسد قتاب وسد عياد وسد لحج وسد سحر وسد ذي شهال وسد ذي رعين وسد نضار وهران وسد الشعباني وسد الخانق بصعدة وسد ريعان وسد شبام على مقربة من صنعاء وسد سيان وسد نقاطه "انظر كتابنا: دراسات في التاريخ القرآني، الجزء الأول". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 وفي الجنة الخضراء من أرض يحصب ... ثمانون سدًا تقذف الماء سائلا وبقايا هذه السدود ما زال باقيًا يشهد بوجودها في مجاري في هذه الوديان، كما أن آثار العمارة ما زال باقيًا في المدن القديمة، وهناك المدن التي تنتشر بالقرب من مجاري هذه الوديان مثل "براقش" و"معين"، وقد ذكر "بليني" أنها بلاد كثيرة الغاب والأعراس- الأمر الذي سنناقشه في مكانه من هذه الدراسة. أما الأودية التي تتجه شمالا، فقليلة وفقيرة جدًّا، أما المتجهة جنوبًا، فغنية بمائها، وتتركز الأراضي الزراعية في مجاريها الدنيا، وأهمها "وادي تبن" و"وادي بنا"1.   1 محمود طه أبو العلا: المرجع السابق ص50-52. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 المناخ : تعتبر شبه الجزيرة العربية من أشد البلاد جفافًا وحرًّا، وربما كان ذلك لوقوعها في منطقة قريبة من خط الاستواء، ولأن معظمها إنما يقع في الإقليم المداري الحار، ولأنها بعيدة عن المحيطات الواسعة التي تخفف في درجة الحرارة، ولأن المسطحات المائية التي تقع إلى الشرق وإلى الغرب منها- أي الخليج العربي والبحر الأحمر- أضيق من أن تكفي لكسر حدة هذا الجفاف المستمر، فهما مسطحان مائيان يتراوح اتساعهما بين 120، 150 ميلا، ولهذا كان أثرهما في اعتدال الحرارة غير محسوس، أما المحيط الهندي الذي يقع إلى الجنوب منها، فلئن ساعد في الجنوب على سقوط الأمطار في أطراف شبه الجزيرة العربية الجنوبية، فإن مرتفعات حضرموت والربع الخالي قد تمنعه عن داخلها، هذا فضلا عن أن رياح السموم التي تنتاب شبه الجزيرة العربية في مواسم معينة، فتشوي الوجوه وتعمي العيون، تسلب كذلك الرطوبة من الهواء قبل أن يبلغ داخل البلاد، أما الريح الشرقية المنعشة المعروفة "بريح الصبا"1، فقد كانت موضوعًا محببًا يتغنى به شعراء العرب، بل ليس في أشعار العالم ولا في نثرهم شعرًا ونثرًا فيه هذا القدر من التغزل بريح من الرياح.   1 يروي المسعودي أن الرياح أربعة، إحداها تهب من جهة المشرق وهي القبول "الصبا" والثانية من المغرب وهي الدبور، والثالثة من التيمن وهي الجنوب، والرابعة من التيسر وهي الشمال "مروج الذهب 2/ 221". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 والمطر غوث ورحمة لسكان شبه الجزيرة العربية، يبعث الحياة في الأرض، فتنبت العشب والكلأ والكمأة والأزهار، ويحول وجهها الكئيب إلى وجه مشرق ضحوك، فيفرح الناس وتفرح معهم ماشيتهم، ومن هنا كانت مرادفات المطر الغيث، وفيها ما فيها من معاني الغوث والنصرة، وهو على أي حال، جد قليل في داخل البلاد، بالنسبة إلى شدة احتياج البلاد إليه، ولعل أكثر المناطق حظوة ونصيبًا من المطر هي النفود الشمالي وجبل شمر، إذ تنزل بها الأمطار في الشتاء، فتنبت أعشاب الربيع، وأما الصحاري الجنوبية فلا يصيبها المطر إلا زذاذًا، وقد تبخل الطبيعة عليها حتى بهذا الرذاذ، وأما الساحل الغربي حيث معظم الأرض حَرّة، فإن المطر ينهمر هناك مدرارًا فتسيل السيول، ثم تبدو الأرض وكأن لم يصبها شيء، حيث لا يتسرب من هذه السيول شيء كثير إلى باطن الأرض، وإنما تصب في البحر، على أن ثمة بقاعًا قليلة تستفيد من المطر كالعقيق في المدينة وبعض البقاع حول مكة، ولا ريب في أن الطائف مثلا بلد خصب -وكذا خيبر- ولكن تلك الأماكن الخصبة قليلة جدًّا بالنسبة إلى اتساع الجزيرة العربية1. وتسقط الأمطار الموسمية في اليمن وعسير، وهي هناك تكفي لتأمين زراعة الأرض زراعة منتظمة، ففيها نجد خضرة دائمة تنبت في أودية خصبة تمتد إلى نحو مائتي ميل من الساحل، ويزيد ارتفاع صنعاء على 7000 قدم فوق سطح البحر، وهي لذلك من أصح المدن وأجملها في بلاد العرب، ويروي "الإصطخري" أنه ليس في الحجاز أبرد من جبل "غزوان" بجوار الطائف، وأنه ربما جمد الماء في ذروته، وأشار الهمداني إلى جمود الماء في صنعاء، ويضيف "جلازر" إلى هذين الموضعين جبل "حضور الشيخ" في اليمن، الذي كثيرًا ما تسقط عليه الثلوج في الشتاء وأما الصقيع فهو أكثر من ذلك شيوعًا2. وتهب على عسير في الصيف الرياح الموسمية، سواء الغربية منها أم الجنوبية الغربية، فالأولى تصل إلى المنطقة من المحيط الأطلسي وتسبب سقوط الأمطار فوق   1 حافظ وهبة: المرجع السابق ص6، عمر فروخ: المرجع السابق ص31، جواد علي 1/ 214. 2 الإكليل 8/ 7 "طبعة أمين فارس، برنستون 1940" الإصطخري: المسالك والممالك ص19 "طبعة ليدن 1870" نزيه العظم: رحلة في بلاد العرب السعيدة ص118 "القاهرة 1938"، وكذلك. P.K. Hitti, A History Of The Arabs, P.18 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 هضبة الحبشة، وعندما تجتازها تمر فوق مناطق منخفضة ثم فوق البحر الأحمر فتحمل معها بعض الرطوبة فعندما تصطدم بجبال عسير تسبب هطول المطر، بينما لا تسبب تهطالا فوق تهامة لحرارة المنطقة فتقل معها الرطوبة النسبية، ولكنها تسبب العواصف الرملية ولذا تعرف هناك باسم "الغبرة" وغالبًا ما تكون في نهاية الصيف. وبعد الزوال حتى غروب الشمس، أما الرياح الجنوبية الغربية فتأتي من المحيط الهندي وتكون في أوائل الصيف وتثير البحر الأحمر وتهيجه فترتفع الأمواج فيه، ولا تسقط إلا أمطارًا قليلة لأنها تقل في ظل القرن الأفريقي، كما أن جبال اليمن تكون قد أفقدتها أكثر حمولتها، ولا ينال تهامة منها شيئًا1. وتتميز حضرموت بالأودية العميقة وبالرياح الموسمية الجنوبية الغربية المشبعة ببخار الماء، ويصل إلى عمان قدر لا بأس به من المطر ينفع الناس ويعينهم على تصريف أمورهم. ومن الغريب أن المطر ينهمر أحيانًا، وكأنه أفواه قرب قد تفتحت، فيكون سيولا عارمة جارفة، تكتسح كل ما تجده أمامها، وتسيل الأودية، فتتحول إلى أنهار سريعة الجريان، وقد لاقت مكة من السيول مصاعب كثيرة، هذا وقد خصص "البلاذري" في "فتوح البلدان فصلا كاملا لأخبار سيول مكة، والأمر كذلك بالنسبة إلى المدينة، وإلى غيرها من المدن، وقد يهلك في هذه السيول خلق من الناس كثير، كما حدث لشعب سبأ بسبب سيل العرم2، وكما حدث قريبًا في عام 1336هـ عندما حدثت فيضانات كثيرة في وادي "تثليث" فتجاوزت السد الرملي ووصلت إلى وادي الدواسر، وأغرقت عدة قرى3.   1 محمود شاكر: المرجع السابق ص19-20. 2 جواد علي 1/ 215، فتوح البلدان ص53-55، وانظر عن سيول مكة وإعادة بناء الكعبة في حوالي عام 606م "مروج الذهب 2/ 271-272، ابن الأثير 442، الطبري 2/ 287، الأزرقي 1/ 1570158، ياقوت 4/ 466، نهاية الأرب 1/ 232، المقدسي 1/ 9 134-140، الحربي "أبو إسحاق إبراهيم بن إسحاق": كتاب المناسك وأماكن طرق الحج ومعالم الجزيرة، تحقيق حمد الجاسر، الرياض 1969، ص486-487. 3 محمود شاكر: المرجع السابق ص33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 الموارد الطبيعية : 1- المعادن : يمكن أن يقال بصفة عامة أن شبه جزيرة العرب تنقسم إلى قسمين جيولوجيين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 كبيرين، وبخاصة في المملكة العربية السعودية، وأن القسم الشرقي منها يمتاز بوجود صخور رسوبية، حيث تتركز الثروة البترولية، وأما القسم الغربي، فيمتاز بالصخور النارية المتبلورة القديمة، حيث توجد عروق المعادن الفلزية، والتي من أهمها: أ- الذهب: وهو من المعادن التي استخرجت منذ العصور القديمة، ومن ثم قد ذكر الجغرافيون العرب أسماء مواضع عرفت بوجود خام الذهب فيها مثل بيشة وضنكان والمنطقة ما بين القنفذة ومرسى حلج1، كما أشارت المؤلفات اليونانية إلى المنطقة ما بين القنفذة وعتودة، ومن ثم فقد ذهب بعض الباحثين- كما أشرنا من قبل -إلى أنها "أوفير" التي أشارت إليها التوراة على أنها مورد الذهب لسليمان2، كما أن هناك ما يشير إلى وجود الذهب على مقربة من "حمضة"، حيث كان يستخرج الذهب من هناك في العصور القديمة، هذا فضلا عن اشتهار ديار بني سليم بوجود معادن فيها، ومن بينها الذهب3. ويذهب الكتاب القدامى من الأغارقة إلى أن هناك مواضع في شبه جزيرة العرب، يستخرج منها الذهب نقيًّا، لا يعالج بالنار لاستخلاصه من الشوائب، ولا يصهر لتنقيته، ومن ثم فقد قيل له "أبيرون" "Apyron"، وأن العبرانيين إنما أخذوا لفظة "أوفير" من هذه الكلمة، فيما يرى بعض العلماء المحدثين4. وقد عثر في "مهد الذهب" والذي يقع إلى الشمال من المدينة، على أدوات استعملها القدامى في استخراج الذهب واستخلاصه من شوائبه، مثل رحى وأدوات تنظيف ومدقات ومصابيح، فضلا عن آثار القوم في حفر العروق التي يتكون منها الذهب، مما يدل على أن الموقع إنما كان منجمًا للذهب في عصور ما قبل الإسلام، ولعله من المناجم التي أرسلت الذهب إلى سليمان عليه السلام5.   1 ياقوت 2/ 333، فؤاد حمزة: في بلاد عسير، القاهرة 1951 ص61، جواد علي 1/ 192، المسالك والممالك ص188، وكذا B. Moritz, Op Cit., P.105 2 F. Hommel, Grundriss, I, P.13f وكذا B.Moritz, Op. Cit., P.110 3 الهمداني: صفة جزيرة العرب ص113، 153 وكذا K.S. Twitchcll, Op. Cit., P.77 4 جواد علي 1/ 93 وكذا J.A. Montgomery, Arabia And The Bible, Philadelphia, 1934 P.39 5 جواد علي 1/ 193 وكذا R.H. Sanger, Op. Cit., P.20, 23 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 ب- الفضة: وقد وجدت مناجم قديمة للفضة شرقي القنفذة، وعند منتصف المسافة بين وادي قينونة ووادي بنا، هذا وقد أشار الهمداني إلى استخراج الفضة من "الرضواض" في اليمن، وأن فضته لا نظير لها1. ولعل من الجدير بالإشارة أنه قد عثر على خامات الرصاص والزنك شرقي القنفذة، وفي منطقة مهد الذهب، كما عثر على مناجم الحديد في وادي فاطمة، وعلى مصنوعات حديدية في الخرائب والآثار والأماكن القديمة في اليمن، والتي اشتهرت بسيوفها في الجاهلية والإسلام، وإن كنا لا نعرف المواطن التي كانت تستغل لاستخراج الحديد منها، وأخيرًا فلقد ذكر "نيبؤور" أنه كان في "صعدة" منجم يستخرج منه الحديد، فضلا عن "نقم" و"غمدان"2.   1 الهمداني: المرجع السابق ص202، محمود طه أبو العلا: المرجع السابق ص234. 2 جواد علي 1/ 196، محمود طه أبو العلا: المرجع السابق ص235، وكذا H. SCOTT, OP. CIT., P.114, 237 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 2- النبات : ليس هناك من شك في أن الماء هو العنصر الفعال في الإنتاج الزراعي، ومن ثم فإن الإنتاج لا يتيسر إلا حيث تتوفر المياه، الأمر الذي لم يحدث إلا في أقاليم قليلة من بلاد العرب، فإذا أضفنا إلى ذلك أن جفاف الهواء وملوحة التربة يحولان دون نمو النبات وازدهاره، لتبين لنا أن دولة النبات في شبه جزيرة العرب ليست بحال من الأحوال دولة ضخمة، ومن ثم فإن الأراضي الزراعية قد انتثرت في بلاد العرب كالجزر في محيط الصحراوات الرملية، والمرتفعات الوعرة التضاريس العارية من التربة في كثير من الأحايين1، هذا إلى جانب بعض المناطق الجنوبية حيث تفرغ الرياح الموسمية أمطارها على سفوح السلسلة الجبلية، فتقوم فيها بعض الزراعات الناجحة، أو البستنة الرابحة، عن طريق توفير المياه وحسن تصريفها2. وتعتبر نخلة البلح ملكة عالم النبات في شبه جزيرة العرب، وما زالت حتى اليوم تحتفظ بمركز ممتاز بين الحاصلات الزراعية في بلاد العرب، وإن تدهورت قيمة   1 فيليب حتى: تاريخ العرب 1/ 21، محمود طه أبو العلا: المرجع السابق ص186. 2 كارل بروكلمان: تاريخ الشعوب الإسلامية، ترجمة نبيه أمين فارس، منير البعلبكي، بيروت 1965، ص14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 التمور في السنوات الأخيرة، ولم تعد كما كانت من قبل عند البدوي، الذي كان قوام طعامه التمر والحليب، كما لم تعد كذلك منية البدوي أن يحصل على الأسودين الماء والتمر1. وقد أفادت النخلة القوم فوائد جمة، حية وميتة، أفادتهم في تقديم ثمرة صارت إدامًا للعرب، وطبًّا يستطبون بها لمعالجة عدد من الأمراض، ومادة استخرجوا منها دبسًا وخمرًا وشرابًا2، بل لقد ذهبوا في ذلك إلى أبعد من الفوائد المباشرة، فحلوا بها مشكلة الصراع بين الحرارة والملوحة، ذلك أن الإشعاع الشمسي الهائل يرفع البخر إلى درجة تهدد الموارد الباطنية بالنفاد وسط التربة الزراعية بالاستملاح المتزايد، ولهذا لجأ القوم إلى النخيل، لا كغذاء فقط، وإنما لتستظل به الزراعة، ولهذا تمتاز بعض الواحات بعدة ملايين من النخيل، تقوم كالغابة الحقيقية، بينما ترقد عند أقدامها وبين جذوعها الزراعات، وهكذا تصبح الواحة بحق "غابة الصحراء" والنخلة عن جدارة "مظلة الواحة"3. ولقد أدت تلك الفوائد الجمة للنخلة أن أصبحت "سيدة الشجر" لا عند العرب فحسب، بل عند قدماء الساميين جميعًا، وأحيطت عندهم بهالة من التقديس والتعظيم، وقد عثر على صورها وصور سعفها على النقود القديمة، وفي جملتها نقود العبرانيين، الذين يحترمون النخلة احترامًا لا يقل عن احترام العرب لها، ومن ثم فقد ورد ذكرها في مواضع عديدة من التوراة والتلمود4، ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن ملكة الأشجار العربية هذه، غير عربية الأصل، فقد نقلت إلى بلاد العرب من بابل، حيث كانت شجرة النخل من أعظم العوامل التي اجتذبت الإنسان القديم للتوطن هناك5.   1 فيليب حتى: المرجع السباق ص23، وانظر ابن قتيبة: عيون الأخبار 3/ 209-213 "القاهرة 1930"، السيوطي: حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة 2/ 255 "القاهرة 1321هـ". 2 جواد علي 1/ 207. 3 جمال حمدان: أنماط من البيئات ص95-96. 4 جواد علي 1/ 207، لاويون 23: 40، نحميا 18: 15 مكابيين أول 13: 51 وكذا J. HASTINGS, DICTIONARY OF THE BIBLE, P.676 5 P.K. HITTI, OP. CIT., P.19-20 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 أما الكروم فقد غرست في مناطق من شبه جزيرة العرب، اشتهرت بها؛ كالطائف واليمن، كما غرس في الواحات العربية الرمان والتفاح والمشمس والبرتقال والليمون الحامض والبطيخ والموز، ويرجح أن الأنباط واليهود هم الذين أدخلوا هذه الفواكه إلى بلاد العرب من الشمال1، كذلك زرع القمح والشعير في الواحات، كما كان ينمو الأرز في عمان والإحساء، ولا يزال شجر اللبان يزدهر على الهضاب المحاذية للساحل الجنوبي، لاسيما في مهرة، وقد كان لشجر اللبان هذا أهمية كبرى في الحياة التجارية الأولى في بلاد العرب الجنوبية، وأما الصمغ العربي فقد كان من أخص حاصلات عسير، التي أصبحت الآن أكثر الأقاليم زراعة للقمح، تليها في ذلك منطقة القصيم، وأما شجرة البن التي تشتهر بها اليمن الآن فقد أدخلت إلى جنوب بلاد العرب من الحبشة في القرن الرابع عشر الميلادي2. وتوجد في البادية عدة أنواع من شجر السنط، منها الآثل والغضال الذي ينتج الفحم الممتاز، والطلح الذي يستخرج منه الصمغ العربي، والسدر وهو شجر النبق وأوراقه عريضة، وترتفع أشجاره إلى عشرة أمتار عن سطح الأرض، ويكثر في بطون الأودية، ويكون ظلا يقي مَنْ يجلس تحته لهيبَ الشمس ووهجَها المحرق، ويستعمل ورقه استعمال الصابون في تنظيف الجسم، والآراك وهو شجر محبب للشعراء، وهو الحمض، أو شجر من الحمض، تتخذ منه المساويك، وترعاه الإبل، فيه ملوحة ومرارة، وهو للإبل كالفاكهة للإنسان، تأكل منه الإبل بعد أن تشبع من غيره، وللأراك ثمر إذا نضج يدعى الكباث، وأطيب مراعي الإبل السعدان، وهناك البرسيم، وهو حب القرظ -والقرظ نوع من الكراث- وهناك الآس، وهو شجرة طيبة الريح، ولها ثمر أسود وأبيض يؤكل، والأبيض أجود، وهناك العرار، وهو بهار البر، طيب الرائحة، والخزامى المشهور بطيب الرائحة وشقائق النعمان إلى غير ذلك من أشجار البادية3.   1 فيليب حتى: المرجع السابق ص22-23، وانظر: السيوطي: المرجع السابق254. 2 محمود طه أبو العلا: المرجع السابق ص211، وكذا P.K. Hitti, Op. Cit., P.19 3 جواد علي 1/ 209، عمر فروخ: تاريخ الجاهلية ص33-34، وانظر: محمود شاكر: شبه جزيرة العرب- الجزء الأول- عسير، المكتب الإسلامي، بيروت 1976 ص37-41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 3- الحيوان : ليست دولة الحيوان في بلاد العرب بأفضل من دولة النبات، والجمل -على أي حال- هو الحيوان الأليف الوحيد الذي استطاع بعناده وصلابته السير- بجبروت وبتبختر- فوق رمال الصحاري، فهو يتلاءم تمامًا مع ظروف البيئة الصحراوية: الرمال في السير، والعطش في الحرّ، الشوك في الأكل، والوبر في البرد، وارتفاع القامة والرقبة في العواصف الرملية، ولو أنه حين تشتد العواصف الرملية يلزم إلباس الفم والمنخرين لثامًا واقيًا1. والجمل اثنان: جمل العدو، وجمل الحمل، أما الأول، فالهجان أو الهجائن، أي خيار الإبل، وتسمى أيضًا ذللا، والواحد منها ذلول، وتستخدم للركوب، وأحسن الهجائن ما كان من عمارة ومهرة، ثم "البعران" -جمع بعير- وهي الإبل التي تسخدم في حمل الأثقال2، وإن كانت أقل إبل الصحراء لبنًا، بينما تلعب الذلل دور الخيل في نطاقها، من حيث الحرب والانتقال3. والجمل ثروة العربي، وهو أداة انتقاله، بل هو نقده الذي يتبادل السلع بواسطته، وهو فوق ذلك وحدة القياس لمهر العروس، ودية القتيل، وأرباح الميسر، وغنى الشيخ، فكل ذلك قدر بعدد معين من الجمال، والجمل رفيق البدوي، وصنو نفسه، وحاضنته التي ترضعه، فيشرب لبنه بدل الماء "الذي يوفره للماشية"، ويجعل طعامه من لحمه، وكساءه من جلده، ويحوك بعض أجزاء خيمته من وَبَرِهِ، ويتخذ رَوَثَهُ وقودًا، وهكذا لم يعد الجمل -في نظر البدوي- "سفينة الصحراء" فحسب، بل هو "هبة الله"4، وصدق جل وعلا حيث يقول: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ، وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ، وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 5، ومن هنا فقد لعب الجمل دورًا كبيرًا في حياة العرب   1 جمال حمدان: المرجع السابق ص92-93. 2 عمر فروخ: تاريخ الجاهلية ص34. 3 جمال حمدان: المرجع السابق ص93. 4 جواد علي 1/ 197 وكذا P.H. Hitti, Cit., P.21 5 سورة النحل: آية 5-7 وانظر: تفسير الطبري 14/ 54-57 "دار المعرفة بيروت 1972". تفسير النيسابوري 1/ 44-46. "نسخة على هامش الطبري". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 الاقتصادية، يدل على ذلك ما يقال من أن اللغة العربية تضم نحو ألف اسم للجمل في مختلف أنواعه وأشكاله ومراحل نموه، وهو عدد لا ينافسه إلا عدد المترادفات لاسم السيف1. ويرى العلماء أن الإنسان قد ذلل الجمل حين صيره أليفًا مطيعًا في الألف الثانية قبل الميلاد3 هذا وقد ذهب بعضهم إلى أن العربية الشرقية إنما كانت الموطن الذي ذلل هذا الحيوان في الشرق الأدنى القديم، معتمدين في ذلك على أن العراقيين القدامى قد أطلقوا عليه اسم "حمار البحر"، وأن البحر هنا إنما يعني الخليج، وأن لفظة "الجمل" -جملو، وهي في الأكادية كملو- إنما جاءت من بادية الشام، ومعظم سكانها من العرب، وكانوا يستعملون الجمل منذ الألف الثانية ق. م، وأن دخول كلمة الجمل من البادية إلى العراق، دليل على أن العرب قد استخدموه أولًا، ومنهم انتقل إلى العراق والبلاد الأخرى3. وأما الخيل، فبالرغم من اشتهار بلاد العرب بجمال خيلها وبتربيتها لأحسن الخيول وبتصديرها لها، فإنها في شبه الجزيرة العربية من الحيوانات الهجينة غير الأصيلة في الصحراء -رغم الخطأ الشائع- بل هي دخيلة بقصد استعمالها آلة للعدو والكر في الحروب التي تعتبر ضرورة صحراوية4، ولا ترتقي أيام وصولها إلى بلاد العرب إلى ما قبل الميلاد بكثير، وقد وردت إليها من العراق ومن بلاد الشام، أو من مصر5، وربما من سيليسيا، أو حتى من إسرائيل. ويبدو أن مصر كانت في الألف الأول قبل الميلاد، مصدرًا رئيسيًّا للخيل والمركبات، ونقرأ في التوراة "وكان مخرج الخيل التي لسليمان من مصر، وجماعة تجار الملك "سليمان" أخذوا جليبة بثمن، وكانت المركبة تصعد وتخرج من مصر   1 فيليب حتى: تاريخ العرب 1/ 27. 2 جواد علي 1/ 197. وكذا R.L. BOWEN AND F. ALBRIGHT, ARCHAEOLOGICAL DISCOVERIES IN SOUTH ARABIA, BALTIMORE, 1958, P.35 وكذا W.F. ALBRIGHT, FROM THE STONE AGE TO CHRISTIANITY, BALTIMORE, 1946, P.107 3 جواد علي 1971-198 وكذا BASOR, 160, P.42 4 جمال حمدان: المرجع السابق ص91. 5 R.H. SANGER, OP. CIT., P.77 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 بستمائة شاقل من الفضة، والفرس بمائة وخمسين"1، وربما كان ذلك أقل من أسعارها العادية، ويعلل "برستد" لذلك، بأن سليمان ربما كان يتمتع في مصر بامتياز خاص عن طريق الفرعون حميّه2. وهناك مصدر آخر للخيل، هو "Koa"، وهو اسم دولة في سيليسيا، كانت تقع في السهل الخصب بين جبال طوروس والبحر الأبيض المتوسط، وتشتهر بتربية الخيول، ويذكر "هيرودوت" أن الفرس كانوا يحصلون على أحسن خيولهم من سيليسيا3،. وأما المصدر الثالث فربما كان إسرائيل -وفي عهد سليمان بالذات- ونقرأ في التوراة أن سليمان كان شغوفًا بالخيل4 رغم أن رب إسرائيل قد حذر ملوك إسرائيل من الخيل والنساء والذهب5، غير أن سليمان إنما كان يرى أن "الفرس معدة ليوم الحرب" وإن "كانت النصرة من الرب"6، ورغم أن العلماء قد اختلفوا في أسباب ولع سليمان بالخيل، فالذي لا شك فيه أن الخيل كانت على أيامه سلعة تجارية رائجة، وأن أسرائيل كانت تحتكرها تمامًا، وأن كل طرق القوافل الهامة بين مصر وسورية وآسيا الصغرى إنما كانت تمر بمملكة سليمان7، وقد كشفت بعثات الحفائر الأمريكية في مجدو وبيت شان وتعنك وحاصور وأورشليم وغيرها من مدن مملكة سليمان على بقايا من عدة أجزاء كبيرة من إسطبلات الخيول، والتي كان الواحد منها يسع 450 حصانًا8. وهكذا يبدو أن الخيل لم تكن أصيلة في بلاد العرب، هذا فضلا عن أن العربي إنما كان يبدو في الآثار المصرية والبابلية والآشورية والفارسية جمالا، لا خيالا،   1 ملوك أول 10: 28-29. 2 J.H. BREASTED, THE DAWN OF CONSCIENCE, N.Y., 1939, P.355 3 W. KELLER, THE BIBLE AS HISTORY, 1967, P.207 4 ملوك أول 10: 26-29، أخبار أيام ثان 1: 14-17. 5 تثنية 17: 14-20. 6 الأمثال 21: 31. 7 W. KELLER, OP. CIT., P.207 8 W. KELLER, THE BIBLE AS HISTORY, P.206 وكذا W.F. ALBRIGHT, OP. CIT., P.124 وكذا J.W. CROWFOOT, IN PEQ, 1940, P.143-147 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 وكان الجمل -وليس الحصان- هو الذي يذكر عند جمع الجزية التي كان يفرضها الفاتحون الآشوريون على العربي والعربية، فالملك الآشوري "تجلات بلاسر الثالث" "745-727ق. م" يفرض على الملكة "شمسي" جزية "جمالًا ونياقًا"1، وإن رأينا الخيل، بجوار الجمال، في الجزية التي قدمت للملك "سرجون الثاني" "722-705ق. م"2، والذي جاء بعد سليمان "960-922ق. م" بأكثر من قرنين ونصف من الزمان، وفي جيش "إكزركسيس الأول" "486-465ق. م" الذي كان متجهًا إلى بلاد اليونان لفتحها، ظهر العرب يركبون جمالا3، وأخيرًا، فلقد أنكر "سترابو" وجود الحصان في شبه الجزيرة العربية4. وأيًّا ما كان الأمر، فإن بيئة الصحراء ليست أمثل بيئة لتأقلم الخيل، فالعروض الجنوبية الحارة لا تلائمها، وهذا هو السبب في أن الخيل لا تسود في الصحراء، إلا في أقصى نطاقاتها شمالا، والسطح الرملي لا يلائم حوافر الخيل، ولذلك تميل الخيل في نطاقاتها إلى التركيز في صحراء الحمادة، أكثر منها في صحراء الأرج، كذلك يدفع الإنسان ثمن التأقلم باهظًا، فالخيل ليست حلوبًا بدرجة الإستبس، لفقر مراعي الصحراء، بل قد ينبغي إطعام الخيل بلبن الجمل، وبالحبوب المستوردة من بعيد، أو بالأسماك على السواحل، كما في منطقة الخليج العربي، كما ينبغي الاهتمام بها اهتمامًا خاصًّا5، ربما كان اهتمامًا يفوق حد المعقول، وقد لاحظ "ألويس موسل" أن البدوي وذويه قد يبيتون على الطوى في سبيل توفير شيء من الحليب أو الحبوب، لفرس عندهم ذات فلوة6. وهكذا كان اقتناء الخيول هواية وكمالية، لا يقدر عليها إلا من كان على سعة من عيش، ولهذا تصبح سمة من سمات الأبهة والعظمة والتفاخر في المجتمع،   1 A.T. OLMSTEAD, HISTORY OF ASSYRIA, P.189 وكذا ANET, 1966, P.280 وكذا N. ABBOT, PRE-ISLAMIC ARAB QUEENS, IN AJSL, 58, 1941, P.4 2 ANET, 1966, P.284. وكذا A.G. LIE, THE INSCRIPTION OF SARGON, II, P.5 3 فيليب حتي: تاريخ العرب -الجزء الأول، ص25 "بيروت 1965"، وكذا HERODOTUS, VII, 86, 8 4 STRABO, GEOGRAPHY, XVI, 4, 2, 26. وكذا P.K. HITTI, OP. CIT., P.19-20 5 جمال حمدان: المرجع السابق ص92. 6 A.MUSIL, THE MANNERS AND CUSTOMS OF THE RWALA BEDOUINS, P.374-5 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 ولا عجب أن تؤدي العناية المضاعفة بها إلى توليد أعظم السلالات في بلاد العرب، دون موطنها الأصلي، والاعتزاز بها إلى ظهور أنساب لها1، ولعل أعرق الخيل نسبًا ما كان في نجد، بل إن خيول نجد لتعد من أجود الخيول في العالم قاطبة2. ولقد عرفت بلاد العرب كذلك -إلى جانب الإبل والخيل- البغال والحمير: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} 3، وهناك كذلك الشاة والماعز والبقر والقردة والنسانيس والحمير "وهو حامور في العبرية، وأنثاه أتون أي أتان في العربية"، ويظهر أنها أقدم عهدا في بلاد العرب من الجمل والخيل والبغال، إذ كانت وسيلة النقل والركوب في أوائل الألف الثانية ق. م4. وهناك من الحيوانات البرية، الأسد والفهد والنمر والضبع والثعلب والذئب وابن آوى والوعل واليربوع والخنزير والأرانب والغزلان والظباء، ويبدو أن هذه الحيوانا قد قلت الآن، ربما بسبب كثرة السكان واستعمال آلات الصيد الحديثة وتغير المناه، فمثلا كانت الأسود في وادي بيش، ووادي عتود وعثر، بل إن هناك أماكن اشتهرت بكثرة أسودها حتى قيل لها "مآسد" "والواحدة مأسدة"، ومن الطيور هناك النعام والقطا والحجل والكروان والغراب والبجع والرخم والهدهد والنسر والعقاب والصقر والبوم والحدأة وغيرها5. وهناك العقارب بأحجام وألوان مختلفة، والأفاعي والحيات، والتي كان بعضها كبير الحجم يقفرب على من يهاجمه بسرعة خاطفة، فأفزع الناس في البوادي والأودية، وحتى زعم البعض أن لبعضها أجنحة، وأنها ذات ألوان مختلفة، إلى غير ذلك من صفات تركت أثرها في كتابا "هيرودوت" و"سترابو"6، وتحدثنا   1 جمال حمدان: المرجع السابق ص92. 2 فيليب حتى: المرجع السابق ص25. 3 سورة النحل: آية 8. وانظر: تفسير الطبري 14/ 57-58 "المطبعة الأميرية- بولاق مصر، 1328هـ"، تفسير النيسابوري 14/ 46-47 "نسخة على هامش الطبرى". 4 محمد مبروك نافع: المرجع السابق ص29، جواد علي 1/ 203، الهمدني: المرجع السابق ص54 وكذا B. MORITZ, OP. CIT., P.40-42F 5 جواد علي 1/ 203، الهمداني: المرجع السابق ص102، محمود شاكر: المرجع السابق ص41، وكذا B. MORITZ, OP. CIT., P.40 6 جواد علي 1/ 205-206، عمر فروخ: تاريخ الجاهلية ص35، فيليب حتى: المرجع السابق 24، القاموس 1/ 304، 2/ 207، 3/ 4، 374، وكذا STRABO, XVI, 4, 19, 25. وكذا HERODOTUS, III, 107, 113 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 النصوص الآشورية أن جيش "إسرحدون" "680-669ق. م" قد فزع من كثرة الثعابين والحيات في البادية، والتي زعمت النصوص أن من بينها ثعابين ذات رأسينن وأخرى لها أجنحة1، وقد فزع الإسرائيليون كذلك في أثناء التيه من "الثعابين الطائرة"2، كما فزع السياح والمستشرقون المحدثون من كثرة الثعابين في الأماكن التي نزلوا بها، ومنها "وادي السرحان"3.   1 جواد علي 1/ 205 وكذا R.W. ROGERS, CUNEIFORM PARALLELS TO THE OLD TESTAMENT, P.359. وكذا J.A. MONTGOMERY, ARABIA AND THE BIBLE, P.8 D.D. LUCKENBILL, OP. CIT., II, P.209, 220 2 عدد 21: 24 أشعياء: 30: 6. 3 COLONEL LAWRENCE, REVOLT IN THE DESERT, P.93 وكذا T.E. LAWRENCE, SEVEN PILLARS OF WISDOM, P.269-70 وكذا A. MONTGOMERY, OP. CIT., P.9 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 طرق القوافل : تقع شبه جزيرة العرب في مكان وسط من حيث المناطق المناخية والنباتية في العالم القديم، فإلى شرقها يقع الإقليم الموسمي الغني بإنتاجه الزراعي، وإلى غربها وشمالها يقع إقليم البحر المتوسط وما وراءه، وله لون خاص من الإنا الزراعي يختلف عن الإنتاج في الغقليم الموسمي، وبعبارة أخرى، تقع الصحراء العربية على أقصر طريق بين أغنى أقاليم العالم القديم التي تتفاوت في إنتاجها تفاوتًا كبيرًا، مما يؤدي إلى التبادل التجاري، ومن ناحية أخرى يملك البدوي وسيلة المواصلات الوحيدة في الصحراء -الجمل وخاصة المهري- وأخيرًا فالتجارة وسيلة ممتازة للاستفادة، أفضل بكثير من رحلاته التي يقوم بها بطبعه إلى هوامش الصحراء، لمبادلة حاصلاته بحاصلات الزراع المستقرين، أضف إلى ذلك كله، أن البدو يمكنهم عبور الصحراء في قوافل ذات أعداد كبيرة، تضمن الحماية والسلامة من الغارات في أثناء الطريق1. وهكذا تكاملت الأطراف لإنشاء تجارة رابحة بين الإقليم الموسمي وبلاد الهلال الخصيب من ناحية، وبين جنوب غرب شبه الجزيرة العربية وجنوبها، ومصر ودول شرق البحر المتوسط من ناحية أخرى، أو بمعنى آخر، وجدت مناطق الإنتاج   1 جمال حمدان: المرجع السابق ص99. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 وأسواق الاستهلاك، والعرب الرعاة وإبلهم فيما بينهما وسطاء للتجارة، وهكذا نشأت الطرق والدروب الصحراوية لتسلكها التجارة، وأصبح جنوب غرب الجزيرة وجنوبها مركز إشعاع تخرج منه القوافل التجارية إلى الشمال -عبر مكة ويثرب- حتى الساحل الشرقي للبحر المتوسط، وحول خليج العقبة إلى مصر، وكانت موانئ الخليج العربي مركز الإشعاع الثاني للطرق والدروب الصحراوية، فمنه تخرج الطرق إلى غرب شبه الجزيرة وإلى جنوبها، وشمالها الغربي1. لقد كان هناك مركزان تخرج منهما الطرق: جرها على الخليج العربي، ومدن الساحل الجنوبي الغربي، وقد سارت هذه الطرق كالآتي: 1- الطريق الجنوبي الشمالي: من مأرب إلى البتراء، ويبدأ في الواقع من عدن وقنا في بلاد اليمن وحضرموت، ثم مأرب -على مبعدة 80 ميلا إلى الشرق من صنعاء -ثم يتجه إلى نجران فالطائف، ثم مكة ويثرب وخيبر والعلاء ومدائن صالح، ثم ينفصل الطريق هنا ليتجه فرع منه إلى تيماء صوب العراق، ويستمر الفرع الآخر في نفس الاتجاه حتى البتراء فغزة ثم الشام ومصر. 2- طريق مأرب -جرها: ويتجه من مأرب ثم نجران، حيث يتجه إلى الشمال الشرقي في وادي الدواسر، ويمر بقرية "الفاو" -على مبعدة 50 كيلو مترًا إلى جنوب نقطة يتداخل ويتقاطع فيها وادي الدواسر مع جبال طويق عند فوهة مجرى قناة تدعى الفاو، وتشرف على الحافة الشمالية الغربية للربع الخالي- ومن هناك يتجه إلى الأفلاج فاليمامة، أو عن طريق واحة يبرين -على مبعدة 300 كيلو متر جنوب غرب الهفوف- ثم واحة الهفوف، فجرها "الجرعاء"2، على ساحل الخليج العرب.   1 محمود طه أبو العلا: المرجع السابق ص124، 127. 2 جرها: وقد ذكرها الهمداني باسم "جرعاء" وهي سوق لبني تميم في الإحساء، ومنذ قرن مضى رأى "شبرنجر" أن "Gerrha" إنما هي الجرعاء، وقد كانت قائمة بالقرب من ميناء العقير الحالي، وربما -فيما ترى إليزابيث مونرو -أنها تحت أنقاض مدينة من العصور الوسطى تسمى "تاج" Thag" هي الآن فيما وراء "جبير" "Gubair" -وربما الأصح الجبيل، وكانت تعرف قديمًا باسم عينان- والتي كانت تقع على بحيرة أو خليج، على أن دائرة المعارف البريطانية، إنما تتفق مع "جون فلبي" على أن جرها هي العقير نفسها، وأن هذا الاسم الجديد "العقير" قد احتفظ في بنيته بالاسم القديم "جرها" إذا أن هناك ثمة تقارب بين اسمي الجرعاء والعقير، والتي تسمى = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 3- طريق جرها- البتراء: ويبدأ من جرها ثم الهفوف، ثم إلى شمال اليمامة، عند موقع مدينة الرياض الحالية تقريبًا، ثم يتجه إلى الشمال الغربي، موازيًا لجبل طويق، ثم يتجه غربًا إلى بريدة، ومنها حائل فتيماء، وأخيرًا البتراء. 4- ويرفد هذا، الطريق الرابع: البحر العربي والمحيط الهندي والممالك العربية الجنوبية، وخاصة حضرموت ومنطقة عمان، ويبدأ من الخليج متجهًا شمالان بغرب مارًّا بمحاذاة الحدود الشرقية لنجد، فمنها بعدئذ، إما إلى الشمال في اتجاه العراق، وإما إلى بادية الشام. 5- وأما الطريق الخامس: فقد كان عبر الطرف الشرقي من الربع الخالي، ويبدأ من منطقة حضرموت وعمان متجهًا إلى منطقة اليمامة، صاعدًا إلى بلاد الشام أو العراق، حيث يلتقي بالطريق الشرقي وبفرع الطريق الغربي1. وعلى أي حال، ففي القرن الأول الميلادي تحولت التجارة إلى البحر الأحمر، فاضمحلت أهمية هذه الطرق، وأصبح الطريق البحري هو المفضل، وأما أهم مواد تجار النقل في الصحراء، فكان كل ما خف حمله وغلا ثمنه، فمن الجنوب إلى   = محليا "عجيز" وهي قريبة من منطقة "جرعة"، وأما الدكتور سليمان حزين، فالرأي عنده أن جرها هي القطيف وإن كان هناك من يرى أن جرها إنما تقع على مبعدة 15 ميلا إلى الشمال الشرقي من العقير، وقد حدد "سترابو" الجرعاء على مبعدة 60 ميلا داخل اليابسة، بينما رأى "بليني" أنها تقع على الساحل. "انظر: الهمداني: صفة جزيرة العرب، ص281، "طبعة الرياض 1974"، فضلو حوراني: المرجع السابق ص43-44، إليزابيث مونرو: الجزيرة العربية بين البخور والبترول مجلة الدارة، العدد الأول ص35-36 عام 1976، وكذا: بيتر بروس كورنول: البحث عن ماضي جزيرة العرب، ترجمة محمود محمد الشهاوي - القاهرة 1953 ص38. وكذا S.A. HUZAYYIN, ARABIA AND THE FAR EAST, CAIRO, 1942, P.142 وكذا A. SPRENGER. DIE Alte Geographie Arabiens, Berlin, 1875, P.135 وكذا G. Bibby, Lookinh For Dilmun, London, 1970, P.250 وكذا E. Monroe, Arabia, From Incense To Oil, Addarah, I, Riyadh, 1976, P.11 1 عبد الرحمن الأنصاري: لمحات عن بعض المدن القديمة في شمال غربي الجزيرة العربية، مجلة الدارة، العدد الأول 1975، ص87، إليزابيث مونرو: المرجع السابق ص35، محمود طه أبو العلا: المرجع السابق ص127. وكذا A. Amer, The Ancient Trans-Peninsular Routes Of Arabia, Cairo, 1925, P.126-140 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 الشمال يتحرك تبر الذهب والصمغ والعاج وريش النعام والبخور من اللبان والمر، ومن الشمال إلى الجنوب تتحرك الأقمشة والآلات والأدوات والمعادن والملح، أي الخامات من الجنوب والمصنوعات من الشمال1.   1 جمال حمدان: المرجع السابق ص100، وانظر: إليزابيث مونرو: المرجع السابق ص28-43، وانظر: مقالنا "العرب وعلاقاتهم الدولية في العصور القديمة، مجلة كلية اللغة العربية والعلوم الاجتماعية، العدد السادس، الرياض 1976 ص287-437. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 الفصل الرابع: لفظة العرب مدلولها وتطورها التاريخي لعل من الأفضل هنا أن نحدد معنى كلمة "عربي" وأصولها، تلك الكلمة التي تضاربت فيها آراء المفسرين، ولم يتفقوا على رأي واحد بشأنها، حتى أدلى بعضهم برأي أو بآخر، لا يعدو أن يكون مجرد حدس أو تخمين، فما هي المادة التي اشتقت منها كلمة عربي إذن؟، وما هو أقدم ذكر لها؟ وهل سمي سكان بلاد العرب أنفسهم عربًا؟ ومتى كان ذلك؟ إن علماء العربية أنفسهم حيارى في تعيين أول من نطق بالعربية، فبينما ذهب فريق إلى أن "يعرب بن قحطان" كان أول من أعرب في لسانه، وتكلم بهذا اللسان العربي، وأول من انعدل لسانه عن السريانية إلى العربية1، لأنه "أول من سجع في العربية الواسعة، ونطق بأفصحها وأبلغها وأوجزها، والعربية منسوبة إليه مشتقة من اسمه"2، ولكنهم في نفس الوقت يجعلون العربية لسان أهل الجنة،   1 أبو الفداء 1/ 66، المزهر في علوم اللغة 1/ 31-32، تاج العروس 1/ 371، 2/ 437، نهاية الأرب 14/ 339، المعارف ص13، المقدسي 3/ 174، خلاصة الوفا ص161، الإكليل 1/ 116، ياقوت 3/ 96-98، روح المعاني 12/ 172، ثم قارن: تفسير المنار 8/ 495، حيث يذكر رواية مرفوعة لابن عباس تذهب إلى أن هودًا كان أول من تكلم العربية، وأنه قد ولد له أربعة: قحطان ومقحط وقاحط وفالغ، فهو إذن أبو مضر، وقاحط وفالغ، فهو إذن أبو مضر، وقحطان أبو اليمن، ثم انظر: روح المعاني 8/ 154، السمهودي: وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى -الجزء الأول- القاهرة 1326هـ، ص122". 2 عبد الملك بن قريب الأصمعي: تاريخ العرب قبل الإسلام، بغداد 1959 ص8، لسان العرب 1/ 587، روح المعاني 2/ 172، عبد العزيز سالم: المرجع السابق ص75، ثم قارن: وفاء الوفا 1/ 122-114. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 كما هي لسان آدم قبل أن ينحرف إلى السريانية1، أي أنهم يجعلون "يعرب بن قحطان" هذا، إنما يرجع إلى مبدأ الخليقة، ومن نافلة القول أن نقول: إن الأمر لم يكن كذلك. هذا فضلا عن أن هؤلاء الذين ينادون بقحطانية اللغة العربية، إنما يجهدون أنفسهم ليأتوا بالغث والسمين من الروايات لإثبات صحة ما يذهبون إليه، من أن القحطانيين هم أصل العرب، وأن لسانهم هو لسان العرب الأول، ومنهم تعلم العدنانيون العربية2، حتى ذهب البعض منهم إلى أن يكون دليله القاطع على صحة ما ذهب إليه أبياتا من شعر "حسان بن ثابت"3، وتجاهل أصحاب هذا الاتجاه أن شعر حسان هذا جدّ متأخر، بحيث لا يمكن أن يكون دليلنا على أول من نطق بالعربية، فضلا عن أن الصحابي الجليل قحطاني، ومن ثم فربما كان متعصبًا لقومه في شعره. هذا، ويبدو أن فريقًا من أصحاب هذا الاتجاه قد تنبهوا إلى ذلك، ومن ثم فقد نسبوا إلى "يعرب" نفسه شعرًا عربيًّا فصيحًا، يقول فيه: أنا ابن قحطان الهمام الأفضل ... وذو البيان واللسان الأسهل نفرت والأمة في تبلبل ... نحو يمين الشمس في تمهل وكنت منهم ذا الرعيل الأول4   1 المزهر 1/ 20، روح المعاني 2/ 172 وأما اللغة السريانية، فهي لهجة آرامية قديمة، وهي كلغة متأخرة جدًّا من الناحية الزمنية عن اللغة العربية، وقد نشأت السريانية وترعرعت في إقليم مدينة "الرها"، "اديا" عند الرومان، و"أورفا" الحالية جنوب شرق تركيا"، ثم ظهر الخط السرياني المعروف "بالخط السرنجيلي" عقب الانشقاق المسيحي المذهبي بين سريان الرها في عام 489م، ثم سرعان ما نشأت لهجتان من السريانية "غربية وتسمى اليعقوبية وشرقية وتسمى النسطورية"، وعلى أي حال، فلقد أصبحت السريانية لغة حية في العلم والفكر في الشرق حتى القرن العاشر الميلادي، وإن استمرت لغة الكنائس حتى القرن الثالث عشر الميلادي، ثم حلت محلها العربية بعد ذلك، وأما سبب استعمال السريانية، فإن اسم الآراميين هناك أصبح له مدلول وثني غير مستحب بعد انتشار المسيحية هناك، ومن ثم فقد سمى القوم أنفسهم بالاسم اليوناني "سوريين" بالنسبة للشعب، و"سرياني" بالنسبة للغة، تمييزًا لها عن الآراميات الوثنية واليهودية "انظر حسن ظاظا: المرجع السابق ص115-116، فيليب حتى: تاريخ سورية ولبنان وفلسطين، الجزء الأول ص184-185". وهكذا يبدو واضحًا أن السريانية ظهرت بعد المسيح بقرون، وبعد "آدم" عليه السلام، بآلاف السنين. 2 جواد علي 1/ 14-15، ثم قارن: مروج الذهب 2/ 46. 3 الإكليل 1/ 116. 4 البكري 4/ 1401. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 وبدهي أن هذا شعر منحول، ما في ذلك من ريب. أضف إلى ذلك، أنه -على ما يبدو- لم يكن يخطر ببال هؤلاء المنادين بقحطانية اللغة العربية، أن سكان اليمن قبل الإسلام إنما كانوا ينطقون بلجهات تختلف عن لهجة القرآن الكريم، وأن من يأتي بعدهم قد يكشف سر "المسند" -الخط الذي كان الناس يكتبون به في جنوب شبه الجزيرة العربية- ومن ثم يمكن قراءة نصوصه والتعرف على لغته1، وأن عربيته إنما هي عربية تختلف عن هذه العربية التي ندون بها، حتى ذهب الأمر بعلماء العربية في الإسلام إلى إخراج الحميرية واللهجات العربية الأخرى في جنوب شبه الجزيرة العربية من اللغة العربية، وقصر العربية على العربية التي نزل بها القرآن الكريم، وعلى ما تفرع منها من لهجات2، ومن هنا يروي "الجمحي" أن أحد علماء العربية سئل عن لسان حمير، فقال: ما لسان حمير وأقاصي اليمن بلساننا ولا عربيتهم بعربيتنا3، وإن كان دون شك أن هذا هو رأي العدنانيين في القحطانيين. هذا فضلا عن أن القائلين بأن "يعرب بن قحطان" هو جد العربية وموجدها عاجزون عن التوفيق بين رأيهم هذا، وبين رأيهم في أن العربية قديمة قدم العالم، وأنها لغة آدم في الجنة، ثم هم عاجزون أيضًا عن بيان كيف كان لسان أجداد "يعرب"؟ وكيف اهتدى إلى استنباطه لهذه اللغة العربية؟، وكيف تمكن وحده من إيجادها من غير مؤازر ولا معين؟ إلى غير ذلك من أسئلة لم يفطن إليها أهل الأخبار في ذلك الزمن4. على أن هناك من حاول أن يقدم تفسيرًا أسطوريًّا ذهب فيه إلى أن عادًا قد انقرضت من اليمن بعد عهد هود عليه السلام5، فأرسل النمرود ابن عمه قحطان أو ولده يعرب ليسكنها، وحين وصل الأخير إلى اليمن لم يجد فيها إلا قليلا ممن   1 انظر: أحمد حسين شرف الدين: اللغة العربية في عصور ما قبل الإسلام، القاهرة 1975، جويدي: المختصر في لغة حمير 1934، وغيرهما من كتب اللغة. 2 جواد علي 1/ 15، قارن: المسعودي: مروج الذهب 2/ 46. 3 محمد بن سلام الجمحي: طبقات فحول الشعراء، تحقيق محمود محمد شاكر، القاهرة 1952، ص4 4 جواد علي 1/ 15، قارن: الدينوري: الأخبار الطوال ص7، المعارف ص271. 5 انظر عن سيدنا هود: الفصل السادس من كتابنا "دراسات في التاريخ القرآني". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 آمن بهود، ولكنهم سرعان ما بادوا1، ومن ثم فقد خلصت الأرض لقحطان، وكان "يعرب" دون إخوته من امرأة من عاد، فتكلم بلسانها وهو العربية، على أن رواية أخرى تذهب إلى أن المرأة إنما كانت من العماليق، وأن أولادها جميعًا قد أخذوا العربية عنها2، فضلا عن أن "النمرود" هذا -في رأيهم- هو صاحب إبراهيم عليه السلام. والذي يأتي بعد عصر "هود" بقرون، فيما يزعمون. وهناك فريق ثان إنما يزعم أن هودا، عليه السلام، إنما كان أول من تكلم بالعربية، بينما يزعم آخرون أن أباه هو أو من تكلم بها، على أن فريقًا ثالثًا يرى أن نوحًا -عليه السلام- هو أول الناطقين بالعربية3، ويتجه فريق رابع إلى أنه "عمليق"، وهو أبو العمالقة، وذلك حين ظعن القوم من بابل، ومن ثم فقد كان يقال للعماليق -وكذا لجدهم- "العرب العاربة"4. وأخيرًا فلقد ذهب فريق خامس إلى أن إسماعيل بن إبراهيم، عليهما السلام، كان أول من ألهم هذا اللسان العربي المبين، وهو ما يزال بعد في الرابعة عشرة من عمره5، ولعل هذا الاتجاه الأخير إنما كان السبب في أن يذهب البعض إلى أن قحطانًا إنما هو من ولد إسماعيل، عليه السلام6. ولعل هذه الآراء المتضاربة إنما كانت السبب في أن يحاول البعض التوفيق بين الرأيين الأساسيين -الأول والخامس- ومن ثم فقد ذهب هذا النفر إلى أن "يعرب" هو أول من نطق بمنطق العربية، وأن إسماعيل هو أول من نطق بالعربية الحجازية الخالصة، التي أنزل بها القرآن الكريم7.   1 هناك اتجاه إلى أن قوم عاد -مثلهم في ذلك قوم ثمود -إنما كانوا من شمال بلاد العرب، وليس من جنوبها: "انظر كتابنا" دراسات في التاريخ القرآني" الفصل السادس، عبد الرحمن الأنصاري: المرجع السابق: ص88، البكري 1/ 119، نهاية الأرب ص19" وكذا Basor, 73, 1939, P.14-15. وكذا C. Forster, Op. Cit., P.32 2 الدينوري: الأخبار الطوال ص78، وانظر: المعارف ص271. 3 أبو الفداء 1/ 120، المحبر ص384، تفسير المنار 8/ 495، 12/ 114، عبد الوهاب النجار: قصص الأنبياء ص49، قارن: تفسير روح المعاني 8/ 154. 4 الطبري: تاريخ الرسل والملوك، القاهرة 1967، 1/ 207. 5 تاريخ الخميس ص104 تاريخ اليعقوبي 1/ 221، العقد الثمين 1/ 134، شفاء الغرام ص13، وفاء الوفا 1/ 122-124، تاج العروس 2/ 352، لسان العرب 2/ 754، تاريخ ابن خلدون 2/ 86، قارن: ياقوت 4/ 98. 6 وفاء الوفاء 1/ 122-123. 7 تاريخ الخميس ص110، تاج العروس 2/ 352، تفسير روح المعاني 12/ 172-173، الطبقات الكبرى 1/ 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 وعلى أي حال، فإن الألولسي يذهب إلى أن لفظ العرب، إنما يطلق أصلا لقوم جمعوا عدة صفات، منها أن لسانهم كان العربية، ومنها أنهم كانوا من أولاد العرب، ومنها أن مساكنهم كانت بأرض العرب حتى ظهور الإسلام، ثم تفرقوا بعد ذلك في البلاد التي دانت بعقيدة التوحيد وبرسالة محمد -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ1- ويذهب آخرون إلى أن كل من سكن جزيرة العرب ونطق بلسان أهلها، فهم العرب، سموا عربًا باسم بلدهم العربات2. هذا وقد اختلفت الآراء كذلك في معنى كلمة "عرب" ومصدر اشتقاقها، فبينما ذهب البعض إلى أن أصل الكلمة ما يزال غامضًا3، ذهب آخرون إلى أنها مشتقة من الفعل "يعرب"، بمعنى يفصح في الحديث، ومن ثم فقد أصبحت تدل على العرب لفصاحتهم4، إلا أن هناك من يعارض هذا الاتجاه ويرى أن العكس هو الصحيح، وأن الفعل "يعرب" هو الذي اشتق من كلمة "عرب"، ذلك أن المرء عندما يعبر عن أفكاره باللسان، فإنه إنما يعبر عن رأيه5. على أن هناك من يذهب إلى أن كلمة "عرب" إنما هي مشتقة من أصل سامي قديم بمعنى "الغرب"6، وأن القاطنين في بلاد الرافدين هم الذين أطلقوا عليهم هذا الاسم، لأنهم يقيمون في البادية الواقعة إلى الغرب من العراق، والتي كان يطلق عليها "أرض عربي"7، غير أن هناك من يرى أن العرب كانوا يستخدمون هذا الاسم إذا ما تحدثوا عن أنفسهم، ومن ثم فليس من المعقول أن يسمي قوم أنفسهم باسم يدل على موقعهم بالنسبة إلى غيرهم من الشعوب المجاورة8. والرأي عندي أن ذلك ليس صحيحًا، فالأموريون، كما نعرف، كان قد أطلق   1 انظر: السيد محمود شكري الألوسي: بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب، "ثلاثة أجزاء" القاهرة 1942م. 2 ياقوت الحموي: معجم البلدان، بيروت 1957، الجزء الرابع ص7. 3 برنارد لويسك العرب في التاريخ، ترجمة نبيه فارس، ومحمود يوسف بيروت 1954 ص9. 4 محمود شكري الألوسي: المرجع السابق ص8. 5 المزهر 1/ 35، 209، لسان العرب 1/ 588. 6 أحمد فخري: اليمن ماضيها وحاضرها ص13. 7 A. Grohmann Ei, Article Al-Arab P.525 8 برنارد لويس: العرب في التاريخ ص9، عبد العزيز سالم: المرجع السابق ص75. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 عليهم جيرانهم السومريون في الشرق اسم "مارتو"، كما أطلق عليهم الأكديون اسم "أمورو" ويعني "الغرب" وهو الاسم الذي عرفوا به في التاريخ، بل إن البابليين توسعوا في استعمال كلمة "أمورو" فأطلقوها على كل سورية القديمة، كما سموا البحر الأبيض المتوسط "بحر أمورو العظيم"، وأما عاصمتهم فقد كانت "ماري" وهي كلمة سومرية من جهة الاشتقاق، شبيهة باسم البلاد "مارتو" و"أمورو" أي بلاد الغرب1، ناهيك بما نستعمله الآن -سياسيًّا وعلميًّا- من اصطلاحات "الشرق الأدنى" و"الشرق الأوسط" و"الشرق الأقصى"، وكلها اصطلاحات أوربية، تدل على موقع تلك المناطق من أوربا. وهناك من يرى أن كلمة "عربي" ترتبط بكلمة "عبري" ارتباطًا لغويًّا متينًا لأنهما مشتقان من أصل واحد، ويدلان على معنى واحد، فهما مشتقان من الفعل الثلاثي "عبر" بمعنى قطع مرحلة من الطريق، أو عبر الوادي أو النهر من عِبْرِهِ إلى عِبْرِهِ، أو عبر السبيل شقها، ذلك لأن العرب والعبريين كانوا في الأصل من الأمم البدوية الصحراوية التي لا تستقر في مكان، بل ترحل من بقعة إلى أخرى بإبلها وماشيتها بحثًا عن الماء والكلأ، ومن هنا فإن كلمة عربي وعبري مثل كلمة بدوي، أي ساكن الصحراء أو البادية2، وقريب من هذا ما يراه "نولدكه" من أن كلمة عربي معناها صحراء3. وإذا ما تتبعنا تاريخ لفظة "العرب" ومدلولها في اللغات السامية القديمة، لوجدنا أنه على الرغم من وجود علاقات قديمة بين سكان "ميزوبوتاميا" والمناطق الشرقية في شبه الجزيرة العربية4، فإن أقدم نص وجدت فيه هذه اللفظة- فيما نعلم- يرجع تاريخُهُ إلى عهد الملك الآشوري "شلمنصر الثالث" "859-824ق. م"،   1 راجع كتابنا إسرائيل ص322 "القاهرة 1973". 2 إسرائيل ولفنسون: تاريخ اللغات السامية، القاهرة 1929 ص77-78. 3 محمد مبروك نافع: عصر ما قبل الإسلام ص12. 4 انظر عن هذه العلاقات: مقالنا "العرب وعلاقاتهم الدولية في العصور القديمة "مجلة كلية اللغة العربية"، العدد السادس، الرياض 1976 ص287-437، عبد الله حسن مصري: مجلة الدارة، العدد الأول، السنة الثانية، 1976 ص66-75. وكذا A.H. Masry, Prehistory In Northeastern Arabia, Miami, Florida, 1974, P.1f الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 أو بالتحديد إلى موقعة "قرقر" عام 853ق. م، والتي اشترك فيها أمير عربي يدعى "جندب"، "جنديبو"، إلى جانب حلف من الأمراء السوريين ضد العاهل الآشوري1. وهناك من عهد "تجلات بلاسر" الثالث "745-727ق. م"، حوليات عثر عليها في "كالح" جاء في بعضها إشارات إلى جزية من "زبيبة" ملكة "بلاد العرب"، هذا فضلا عن نص آخر يقول فيه الملك الآشوري: "أما شمسي "سمسي" ملكة بلاد العرب، التي حنثت بيمين "شمس" .... فقد أصبحت خائفة من قوة جيشي، وأرسلت لي جمالًا ونياقًا، ثم عينت موظفًا من لدني هناك"2، وعلى أي حال، فيبدو أن "شمسي" قد نقضت عهد الولاء لآشور، ومن ثم رأينا "سرجون الثاني" "722-705ق. م" يحدثنا أنه قد تلقى الجزية" من بيرو صاحب موصري، ومن "شمسي" ملكة بلاد العرب، ومن "أتعمارا" "يثع أمر" أمير سبأ، تبرا وخيلا وجمالا"3. هذا وتتحدث نقوش "سنحريب" "705-681ق. م" وولده "إسرحدون" "680-669ق. م" عن سيطرة الأول على بادية حتى شمال بلاد العرب، حتى دعاه "هيرودوت" بملك العرب والآشوريين، فضلا عن إخضاعه لملكة العرب "تعلوخونو" صاحبة دومة الجندل، وأسر الملكة أو الأميرة العربية "تاوبو" "تبؤة"4.   1 انظر كتابنا "إسرائيل" ص494-495، وكذا M. Noth, History Of Israel, London, 1965, P.245-6 وكذا J.A. Montgomery, Arabia And The Bible, P.27 وكذا Anet, P.279 وكذا S.A Cook, In Cah, Iii, P.363. وكذا The Jewish Encyclopedia, N.Y., 1902, P.41 وكذا Alois Musil, In The Arabia Deserta, N.Y., 1930, P.477 2 انظر: نجيب ميخائيل: مصر والشرق الأدنى القديم، الإسكندرية 1963، الجزء الخامس ص268. وكذا A.T. Olmstead, History Of Assyria, P.189 وكذا A.L. Oppenheim, Babylonian And Assyrian Historical Texts, In Anet, 1966, P.280 3 A.G. Lie, The Inscription Of Sargon, Ii, Part, I, The Annals, P.5 وكذا A. Musil, Op. Cit., P.479. وكذا Anet, P.284 4 Herodotus, Ii, 141. وكذا Anet, P.290 وكذاD.D. Luckenbill, Ancient Records Of Assyria And Babylonia, Ii, Chicago, 1927, P.518 وكذا A. Musil, Op. Cit., P.480 وانظر: موسكاتي: المرجع السابق ص355، نجيب ميخائيل: المرجع السابق ص289-290. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 ولعل من الأهمية بمكان الإشارة هنا إلى أن لفظة "عرب" عند الآشوريين، إنما تعني "بداوة" أو "إمارة" على تخوم الحدود الآشورية، تتسع حدودها وتضيق، طبقًا للظروف التاريخية، وطبقًا لشخصية الأمير الحاكم الذي كان في أغلب الأحايين يحمل لقب "ملك"، هذا إلى جانب أن الكتابة الآشورية لم تكن تحرك المقاطع، وجدت عدة قراءات لكلمة "عرب" مثل "عريبي" "Arabi" و"عربي" "Arbi و"عربو" "Uribu"، إلى غير ذلك من أمثال "Arabi" و "Arub" و "1Arubu" "Aribu". وفي القرن السادس قبل الميلاد، تظهر كلمة "عرب" "عرابة Arabaya" في النصوص الفارسية، المكتوبة باللغة الإخمينية "أو الإكمينية"، وذلك في نقش انتصارات الملك "داوا الأول" "522-486"، المعروف باسم "نقش بهستون" في إحدى الممرات الجبلية في الطريق بين كرمنشاه وهمدان2، تظهر كلمة عرب معنى "البادية التي تفصل بين آشور وبابل من ناحية، وبين مصر من ناحية أخرى، مما جعل بعض العلماء يدخلون شبه جزيرة سيناء في جملة هذه الأرضين، وقد عاشت قبائل عربية عديدة في منطقة سيناء قبل الميلاد3. وأما في التوراة -أو العهد القديم- فقد وردت كلمة "عرب" بمعنى البدو والأعراب، وبمعنى القفر والجفاف، في مواضع كثيرة، فهم رعاة يسكنون   1 جواد علي 1/ 16، وكذا T.K. Cheyne, Eb, I, P.273. وكذاCaussin De Perceval, Op. Cit., I, P.4f وكذا E. Ebling And B. Meissner, Reallexikon Der Assyriologie, Erster Band, Berlin, 1922, P.125 2 انظر عن نقش بهستون: A.T. Olmstead, Darius And His Behiston Inscription, Ajsl, Lv, 1938. وكذا R.G. Kent, Old Persian Texts, Iii, Behiston Inscription, Jnes, Ii, 1943 3 جواد علي 1/ 17-18 وكذا T.K. Cheyne, Eb, I, P.273. وكذا J. Hastings, Op. Cit., P.131 وكذا The Sculptures And Inscription Of Darius, The Great On The Rock Of Behistun In Persia, London, 1907, 4, P.95, 161 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 الخيام، "ولا يخيم هناك أعرابي ولا يربض هناك رعاة"1، ويكثر فيهم المتربصون على طرق القوافل، "في الطرقات جلست لهم كأعرابي في البرية"2، ونفس المعنى يتردد في نصوص توراتية أخرى، كما في أشعياء3، وأرمياء4، لا يقصد بها قومية على جنس معين، وإنما المقصود دائمًا البادية، موطن العزلة والوحشة والخطر5. وأما في التلمود، فقد قصد بكلمة "عرب" و"عربيم" و"عربئيم"، الأعراب كذلك -أي نفس المعنى الذي ورد في أسفار التوراة- كما أصبحت لفظة "عربي" مرادفة في بعض الأحايين لكلمة "إسماعيلي"6، نسبة إلى سيدنا إسماعيل، جد العرب، والأخ الأكبر لإسحاق، والد يعقوب أو إسرائيل، جد اليهود. وفي أخريات القرن السادس قبل الميلاد، بدأ اليونان يتحدثون عن العرب في كتاباتهم، وكان "إسكليوس" "أخيلوس Aeschyus" ""525-456ق. م"، أول من ذكر العرب من اليونان، وذلك إبان الحديث عن الملك الفارسي "إكزركسيس الأول" "486-465ق. م" والذي هاجم اليونان في بلادهم بجيش فيه "ضابط عربي من الرؤساء مشهور"7، ثم جاء هيرودوت "484-430ق. م" فتعرض في كتابه الثاني لذكر العرب، بطريقة تدل على أنه كان على شيء من العلم بهم، كما أطلق على بلاد العرب لفظ "Arabie" ويعني بها البادية وشبه جزيرة العرب والأرضين الواقعة إلى الشرق من نهر النيل، ومن ثم فقد أدخل "هيرودوت" سيناء وكل الأقسام الشرقية من مصر -والواقعة بين سواحل البحر الأحمر ونهر النيل،   1 أشعياء 13: 20. 2 أرمياء 3: 2. 3 أشعياء 21: 13. 4 أرمياء 25: 24. 5 جواد علي 1/ 18. وكذا J. Simons, The Geographical And Topographical Texts Of The Old Testament, Leiden, 1959, P.4 6 جواد علي 1/ 21. 7 Eb, P.273 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 في بلاد العرب1. وجاء "سترابو" "66ق. م-24م" و"بليني" "32-79م"، فأكدوا ما ذهب إليه "هيرودوت" وأضافا إلى ذلك أن عدد العرب في عهدهما قد تضاعف على الضفة الغربية من البحر الأحمر، حتى شغلوا كل المنطقة بينه وبين نهر النيل من أعلى الصعيد، وكان لهم جمال ينقلون عليها التجارة والناس بين البحر الأحمر والنيل2، بل إن "سترابو" قد وصف مدينة "قفط" جنوبي قنا، بأنها مدينة واقعة تحت حكم العرب، وبأن نصف سكانها من أولئك العرب3. وهكذا كانت بلاد العرب تقذف بالموجة تلو الأخرى إلى وادي النيل، عبر البحر الأحمر، وعن طريق سيناء والتي كانت منذ القدم قنطرة ثابتة مفتوحة للهجرات، التي كان من أهمها، "أولًا" قبائل كهلانية من عرب الجنوب، استقرت في الجزء الشمالي الشرقي من مصر في مطلع المسيحية، ومنها "ثانيًا" هجرة قبائل من "طيئ" -فرع كهلاني آخر من المجموعة الجنوبية- كان من أهمها قبيلتا لخم وجذام اللتان استقرتا في محافظة الشرقية، ومنها "ثالثًا" قبيلة "بلي" التي استقرت فيما بين قنا والقصير، وكان عليها الاعتماد في نقل التجارة الهندية، ومنها "رابعًا" هجرة بطون من "خزاعة" -وهم فرع من الأزد- خرجوا في الجاهلية إلى مصر والشام، بسبب قحط أصاب بلادهم، هذا فضلا عن الجماعات التي استقرت في شرق الدلتا قبل الإسلام4. وعلى أي حال، فليس لدينا كتابات جاهلية من ذلك النوع الذي يسميه المستشرقون "كتابات عربية شمالية"، غير نص واحد، ذلك النص الذي يعود   1 Ibid, P.371 2 المقريزي: البيان والإعراب عما بأرض مصر من الأعراب، القاهرة 1961 ص89، أحمد مختار عمر: تاريخ اللغة العربية في مصر، القاهرة 1970 ص12-13. 3 مصطفى كامل الشريف: عروبة مصر من قبائلها، القاهرة 1965 ص22، دائرة المعارف الإسلامية 6/ 480 "طبعة الشعب" وكذا انظر: Encyclopaedia Of Islam مادة Kibt ص991. 4 أحمد مختار عمر: المرجع السابق ص12، وكذا Abbass Ammar, The People Of Sharqiya, Cairo, 1944, I, P.21-24 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 إلى عهد "امرئ القيس" ملك الحيرة، والمعروف "بنقش النمارة"1 والذي سوف نناقشه في مكانه من هذه الدراسة- وقد جاء فيه "تي نفس مر القيس بر عمرو ملك العرب كله ذو إسر التج"2، وترجمته إلى عربية مفهومة يمكن أن يكون كالتالي "هذا جسمان امرئ القيس بن عمرو ملك العرب جميعًا، الذي عقد التاج"3. وأهمية هذا النص الذي يرجع إلى السابع من ديسمبر عام 328م في ورود لفظة "العرب فيه، وإن كنا لا نستطيع القول أن امرأ القيس إنما أراد بكلمة العرب هنا، البدو والحضر سواء بسواء، أو بمعنى آخر أراد بها أن تكون علمًا على قوم وجنس، وإنما الواضح من النص أنه إنما يقصد بها "الأعراب"4، لأن كلمة "ملك هنا لا تعني ما يراد منها حقيقة، وكلمة "عرب" إنما تعني "بدو"، وإن كان الرجل إنما كان يشغل حقًّا وظيفة "ملك الحيرة". وأما النصوص العربية الجنوبية، فلم يرد فيها اسم "عرب" إلا بمعنى "أعراب"، ولم يقصد بها قومية، أي علم لهذا الجنس المعروف، الذي يشمل كل سكان بلاد العرب من بدو وحضر، أما أهل المدن والمتحضرون فكانوا يعرفون بمدنهم وقبائلهم، أنها قبائل مستقرة متحضرة، تمتاز عن القبائل الأخرى المسماة "أعراب" في النصوص العربية الجنوبية، مما يدل على أن لفظة "عرب" و"العرب" لم تكن تؤدي معنى الجنس والقومية في الكتابات العربية المدونة، والتي ترجع إلى ما قبل الإسلام بقليل، أي من عامي 449، 542م، وأن العرب الجنوبيين لم يفهموا هذا المعنى من اللفظة، إلا بعد ظهور الإسلام، ودخولهم في دين الله أفواجًا، رغم ورود اللفظة في   1 انظر عن نقش النمارة: رينيه ديسو: العرب قبل الإسلام ص33، جرجي زيدان، المرجع السابق ص210-212، حسن ظاظا: المرجع السابق ص165-173، جواد علي 3/ 191-192، سعد زغلول: المرجع السابق ص217-218 وكذا P.K. Hitti, Op. Cit., P.82 وكذا R. Dussaud, Nabateo-Arabe D'an-Nemara, In Ra, Ii, 1902, P.409-421 وكذا R. Dussaud, Arabes En Syrie Avant I'islam, P.34-42 2 R. Dussaud, Op. Cit., P.34 وكذا J.A. Montgomery, Op. Cit., P.28 3 حسن ظاظا: المرجع السابق ص165-166. 4 جواد علي 1/ 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 النصوص علمًا لأشخاص1. ولعل من الجدير بالذكر هنا أن "أب كرب أسعد" كان أول ملك يمني يضيف إلى لقبه الرسمي كلمة "الأعراب"، ومن ثم فقد أصبح اللقب الملكي في عهده "ملك سبأ وذي زيدان وحضرموت ويمينات وأعرابها في الجبال والتهائم"2. -وسوف نشير إلى ذلك بالتفصيل في مكانه من هذه الدراسة. وأما الشعر الجاهلي فلم يكن بأفضل من النصوص المكتوبة في هذا الصدد، ومن ثم فإننا لم نجد فيه صيغة من جذر "ع. ر. ب" للدلالة على معنى قومي يتعلق بالجنس، ولا على معنى يتعلق باللغة التي نتكلمها؛ ذلك لأن الجاهليين إنما كانوا غارقين في منازعاتهم القبلية، فلم يكن لديهم -فيما لدينا من التراث اللغوي- ما يدل على المدرك القومي الجامع3، غير أن الأمور سرعان ما تتغير، فيقف العرب في أخريات العصر الجاهلي أمام الفرس، ومن ثم فقد بدءوا يستشعرون شيئًا من البغضة للفرس، ويشعر "عنترة بن شداد" بهذه البغضة، ومن ثم نراه يقول في معلقته عن ناقته: شربت بماء الدحرضين فأصبحت ... زوراء تنفر عن حياض الديلم وهكذا أحس "عنترة" بالدافع القومي الجامع، ولما لم يجد الكلمة التي يعبر عنها، اضطر إلى أن يدور حول المعنى ببيت كامل من الشعر4.   1 جواد علي 1/ 23-24، خليل يحيى نامي: نشر نقوش سامية قديمة من جنوب بلاد العرب وشرحها، القاهرة 1943 ص89، 92. وكذا Eb, I, P.275. وكذا J.A. Montgomery, Op. Cit., P.27 وكذا D.S. Margoliouth, The Relations Between Arabs And Israelites Prior To The Rise Of Islam, London, 1924, P.2 وكذا Albert Jamme, Sabaean Inscriptions From Mahram Bilqis "Marib", P.445 2 F. Altheim And R. Stiehl, Die Araber In Der Alten Welt, Ii, P.321, Iv, P.274 وكذا Le Museon, 1964, 3-4, P.292 3 عمر فروخ: تاريخ الجاهلية، بتروت 1964 ص41. 4 نفس المرجع السابق ص41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 وجاء الإسلام، ونزل القرآن الكريم منجمًا في ثلاث وعشرين سنة في مكة والمدينة، فلم يرد فيه من الجذر "ع. ر. ب" إلا ثلاث صيغ "عُرُبًا" "جمع عَرُوب بفتح العين" نعتًا للمرأة المتحببة إلى زوجها في قوله تعالى: {عُرُبًا أَتْرَابًا} 1، ثم جاءت الصيغة "أعراب" عشر مرات وفي سورة مدنية فقط، منها ست مرات في سورة التوبة وحدها2، ولا حاجة بنا إلى الاستشهاد على أن كلمة "أعراب" تدل في القرآن الكريم- كما تدل في غيره- على البدو3. وأخيرًا حسم القرآن الكريم الأمر نهائيًّا، فجاءت فيه كلمة "عربي" إحدى عشرة مرة -في سورة مدنية وأخرى مكية- جاءت عشر مرات نعتًا للغة التي نز ل بها القرآن الكريم4، وجاءت مرة واحدة نعتًا لشخص الرسول الأعظم- صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ- يقول سبحانه وتعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} 5، أي أقرآن أعجمي اللغة، ونبي عربي؟ وهكذا أصبحت كلمة "عرب" علمًا على العرب جميعًا، كما كان استعمال القرآن الكريم لها دليلا للشعراء على التعبير الذي لم يستطع "عنترة" أن يصل إليه، ومن هنا رأينا "كعب بن مالك" يقول في مولانا وجدنا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ-: بدا لنا فاتبعناه نصدقه ... وكذبوه فكنا أسعد العرب ثم رأينا "حسان بن ثابت" بعد ذلك يقرع "بني هذيل" لما اشترطوا على الحبيب   1 سورة الواقعة: آية37. 2 سورة التوبة: آية 90، 97- 99، 101-102، سورة الفتح: آية11، سورة الحجرات آية 14. وانظر: تفسير الطبري 14/ 416-419، 429-434 "دار المعارف -1958"، 26/ 140-141 "الحلبي 1954"، تفسير الطبري 26/ 98-99، تفسير الكشاف 3/ 570-571، تفسير ابن كثير 7/ 367-368، تفسير القاسمي 15/ 5470-5471. 3 عمر فروخ: تاريخ الجاهلية ص41، وانظر: نهاية الأرب 1/ 12-15. 4 انظر: سورة يوسف: آية 2، والرعد: آية37، والنحل: آية103، وطه: آية113، والزمر: آية28، وفصلت: آية3، والشورى، آية7، والزخرف: آية3، والأحقاف: آية 12. 5 سورة فصلت: آية44، وانظر: تفسير الطبري 24/ 26-129، تفسير البيضاوي 2/ 350، تفسير القرطبي 15/ 368-370. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 المصطفى -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ- أن يبيح لهم الزنا، في مقابل دخولهم في الإسلام سألت هذيل رسول الله فاحشة ... ضلت هذيل بما قالت ولم تصب سألوا رسولهم ما ليس معطيهم ... حتى الممات وكانوا سبة العرب وهكذا بدأ في الشعر العربي مدرك لم يكن معروفًا من قبل، هو أن العرب جماعة واحدة ذات نطاق من الوحدة الجامعة، على أن مدرك العروبة يومذاك، أو المدرك القومي العام على الأصح، كان والإسلام شيئًا واحدًا1. وسرعان ما برزت كلمة "عربي" في مقابل كلمة "روم"، يروي "صاحب الأغاني" أن "قيس بن عاصم" و"عمر بن الأهتم" قدما إلى المصطفى -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ- بعد فتح مكة، فتسابا وتهاترا عنده، ثم قال "قيس" للرسول -عليه الصلاة والسلام- عن "عمرو" وقومه: "والله يا رسول الله ما هم منا، وإنهم لمن أهل الحيرة"، فقال عمرو: "بل هم والله يا رسول الله من الروم، وليسوا منا"، ثم قال عمرو مخاطبًا قيس بن عاصم: إن تبغضونا فإن الروم أصلكم ... والروم لا تملك البغضاء للعرب وقد نهى الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قيسًا وعمرًا عن هذا التلاحي، وأفهمهما أن الإسلام قد أغرق العصبيات كلها2. وهكذا بدأت كلمة "عرب" تستعمل للتعبير عن المعنى القومي للجنس العربي، ولا شك في أن الإسلام كان صاحب الفضل في بعث روح القومية عند العرب، وفي أثناء الفتوحات الإسلامية، وعلى أيام الفاروق عمر بن الخطاب- رضوان الله عليه- بدأ العرب يتباهون بجنسهم العربي، ويتمثل هذا في البيت التالي ليربوع بن مالك3. إذا العرب العرباء جاشت بحورها ... فخرنا على كل البحور الزواخر إلا أن الإسلام لم يكن -ولن يكون أبدًا- دين عنصرية، وإنما هو دين يقوم   1 عمر فروخ: تاريخ الجاهلية ص42. 2 الأغاني "14/ 87-88، عمر فروخ: المرجع السابق ص43. 3 نفس المرجع السابق ص43، تاريخ الطبري 1/ 2536 "ط ليدن". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 على مبدأ {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة} 1، وعلى مبدأ {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُم} 2، وإنه: "لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى" 3، ومن هنا، فرغم أنه هو الذي جعل لكلمة "عرب" هذا المقام في شعور الجماعة، فإنه إنما نهى عن أن يكون هذا الشعور عاملا مفرقًا بين صفوف الأمة التي وحدها الإسلام، ثم إن الإسلام -بخلاف الديانات السماوية الأخرى- إنما هو شريعة الله الخالدة إلى البشرية كافة4، وهكذا حارب الإسلام العصبية الجاهلية، وآخى الرسول، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بين المهاجرين والأنصار، وحالف بين قريش ويثرب، ونهى عن أحلاف الجاهلية، وروي عنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: "لا حلف في الإسلام" 5. وهكذا يبدو بوضوح -لا لبس فيه ولا غموض- أن العربية، في نظر الإسلام، كانت مفهومًا دينيًّا وثقافيًّا، أكثر منه جنسيًّا، وقد روى أن "قيس بن مطاطية" -وكان من المنافقين- جاء إلى حلقة كان فيها" سلمان الفارسي" و"بلال الحبشي" و"صهيب الرومي"، فقال: لقد قام الأوس والخزرج بنصرة هذا الرجل -يعني سيدنا محمدًا رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فما بال هذا؟ يقصد ما الذي يدعو الفارسي أو الحبشي أو الرومي بنصره، فقام إليه، "معاذ بن جبل" وأخذ بتلابيبه ثم أتى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- وأخبره بمقالته، فقام عليه الصلاة والسلام مغضبًا يجرُّ رداءه حتى أتى المسجد، ثم نودي: الصلاة جامعة، وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يا أيها الناس، إن الربَّ واحدٌ، والأب واحد، وإن   1 سورة الحجرات: آية10، وانظر: تفسير القرطبي 16/ 322-324، تفسير البيضاوي 2/ 409 2 سورة الحجرات: آية 13، وانظر تفسير القرطبي 16/ 340-348. تفسير البيضاوي 2/ 411، تفسير روح المعاني 26/ 161-167، تفسير الفخر الرازي 28/ 136-139، تفسير الطبري 26/ 138-140، تفسير مجمع البيان 26/ 91089، تفسير الكشاف 3/ 569-570، تفسير القاسمي 15/ 5467-5470، تفسير ابن كثير 7/ 364-367، وانظر: إبراهيم خليل أحمد محمد في التوراة والإنجيل والقرآن ص211. 3 أبو الحسن الندوي: النبوة والأنبياء في ضوء القرآن، القاهرة 1965 ص77. 4 انظر: مقالنا "قصة الطوفان بين الآثار والكتب المقدسة" مجلة كلية اللغة العربية، العدد الخامس، الرياض 1975 ص4370444 وانظر للأستاذ الشيخ مناع القطان مقاله "الإسلام شريعة الله الخالدة إلى البشرية كافة" "مجلة كلية الشريعة" الرياض 1394، العدد الخامس ص11-40، وانظر مجموعة فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية 4/ 203-208، 11/ 169-170، 19/ 9-12، 101، 103، وانظر: الإسلام دعوة عالمية، القاهرة 1970م. 5 تفسير الطبري 5/ 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 الدين واحد: وليست العربية بأحدكم من أب ولا أم، وإنما هي اللسان، فمن تكلم العربية فهو عربي" فقام "معاذ بن جبل"، وقال: فما تأمرني بهذا المنافق يارسول الله؟ قال: "دعه فإنه إلى النار" 1.   1 عبد الرحمن فودة: من معاني القرآن ص132، ثم انظر، تفسير القرطبي 16/ 340-348 "دار الكاتب العربي، القاهرة 1967". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 الفصل الخامس: العرب البائدة مدخل ... الفصل الخامس: العرب البائدة لعل من الأفضل هنا، قبل الحديث عن العرب البائدة، أن نشير -بادئ ذي بدء- إلى ما جرى الأخباريون عليه من تقسيم العرب إلى طبقات، أو ما عرف في الكتب التاريخية ب طبقات العرب . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 طبقات العرب : اتفق الرواة وأهل الأخبار -أو كادوا يتفقون- على تقسيم العرب من حيث القدم إلى طبقات: عرب بائدة، وعرب عاربة، وعرب مستعربة، أو عرب عاربة، وعرب متعربة، وعرب مستعربة1، أو عرب عاربة ومستعربة وتابعة ومستعجمة2. على أن هناك من يجعلهم طبقتين: بائدة وباقية، فأما البائدة فهم الذين كانوا عربًا صرحاء خلصاء ذوي نسب عربي خالص -نظريًّا على الأقل- ويتكونون من قبائل عاد وثمود وطسم وجديس وأميم وعبيل وجرهم والعماليق وحضورا ومدين وغيرهم، وأما العرب الباقية- ويسمون أيضًا المتعربة والمستعربة- فهم الذين ليسوا عربًا خلصًا، ويتكونون من بني يعرب بن قحطان، وبني معد بن عدنان3. وكان يعرب بن قحطان في قول الرواة -كما أشرنا من قبل- أول من انعدل لسانه عن السريانية إلى العربية، أو أول من تكلم العربية، ولسنا الآن في حاجة إلى دحض هذه الروايات، فذلك أمر سبق لنا القيام به.   1 الملك المؤيد عماد الدين إسماعيل أبو الفداء: المختصر في أخبار البشر. القاهرة 1325هـ، الجزء الأول، ص99. 2 تاريخ ابن خلدون 2/ 16-18، نهاية الأرب 1/ 9-11. 3 عمر فروخ: تاريخ الجاهلية ص44، صاعد الأندلسي: طبقات الأمم ص1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 وهناك تقسيم ثالث يعتمد في الدرجة الأولى على النسب، فهم قحطانية في اليمن، وعدنانية في الحجاز1، على أن "ابن خلدون" إنما ينحو نحوًا آخر، يقسم به العرب -طبقًا للتسلسل التاريخي- إلى طبقات أربعة، فهم عرب عاربة قد بادت، ثم مستعربة، وهم القحطانيون، ثم العرب التابعة لهم من عدنان والأوس والخزرج، ثم الغساسنة والمناذرة، وأخيرًا العرب المستعجمة وهم الذين دخلوا في نفوذ الدولة الإسلامية2. هذه هي التقسيمات التي رأى الأخباريون تقسيم العرب إليها -من ناحية القدم والتقدم في العربية- وهي تقسيمات يلاحظ عليها "أولًا" أنها لا ترجع إلى أيام العرب القدامى أنفسهم، وإنما إلى العصور الإسلامية، فليس هناك نص واحد يذكر هذه التقسيمات ويرجع في تأريخه إلى ما قبل الإسلام، حتى يمكن القول أنها من وضع العرب القدامى أنفسهم، ثم هي "ثانيًا" عربية صرفة؛ وذلك لأن المصادر اليهودية، وكذا المصادر اليونانية واللاتينية والسريانية، لم تتعرض لمثل هذه التقسيمات3. والرأي عندي أن هذه التقسيمات غير مقبولة، ومتعسفة كذلك، وذلك لأسباب منها "أولًا" أن القرآن الكريم لم يفرق بين العرب القحطانية والعدنانية، وإنما رفع العرب جميعًا إلى أب واحد، هو إبراهيم الخليل، عليه السلام، يقول سبحانه وتعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} 4، ومنها "ثانيًا" ما روي عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ   1 طه حسين: في الأدب الجاهلي، القاهرة 1933 ص79. 2 عبد العزيز سالم: المرجع السابق ص83، تاريخ ابن خلدون 2/ 28 "بيروت 1965". 3 جواد علي 1/ 295. 4 سورة الحج: آية 78، وانظر تفسير البيضاوي 2/ 100-101 تفسير الطبري 17/ 205-209، تفسير القرطبي 12/ 99-101، تفسير التبيان 7/ 304-306 "للشيخ الطوسي"، تفسير القاسمي 12/ 4384-4385، تفسير روح المعاني 17/ 209-213، الدر المنثور في التفسير بالمأثور 4/ 371-373، تفسير الخازن 5/ 24-25، تفسير البغوي 5/ 24-25 "نسخة على هامش الخازن"، تفسير ابن كثير 4/ 667-669، تفسيرالبحر المحيط 6/ 390-392، تفسير النسفي" 3م 292-293، تفسير المراغي 6/ 147-150، الجواهر في تفسير القرآن الكريم 11/ 40 وما بعدها، في ظلال القرآن 17/ 123-125، تفسير مجمع البيان 17/ 131-132. وانظر كذلك أبياتا من قصيدة لجرير بن عطية التميمي يقول فيها: أبونا خليل الله لا تنكرونه ... فأكرم بإبراهيم جدا ومفخرا أبونا خليل الله والله ربنا ... رضينا بما أعطى الإله وقدرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "كل العرب من ولد إسماعيل بن إبراهيم، عليهما السلام"1. ومنها "ثالثًا" أن هناك من يعتبر "قحطان" نفسه من ولد إسماعيل عليه السلام، اعتمادًا على أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مر بناس من "أسلم خزاعة" -وهم من قحطان- وكانوا يتناضلون، فقال: "ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميًا" 2، ومن ثم فإن "ابن خلدون" يذهب إلى أن جميع العرب إنما هم من ولد إسماعيل عليه السلام؛ لأن عدنان وقحطان يستوعبان العرب العدنانية والقحطانية3. ومنها "رابعًا" أن ابن عباس، روى أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "انتسب فلما بلغ عدنان وقف، فقال كذب النسابون، كما روى ابن إسحاق- عن يزيد بن رومان -أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "استقامت نسبة الناس إلى عدنان"، فإذا صح هذان الحديثان الشريفان، فيمكننا القول أن عدنان هو القرم الأول للقبائل العربية، عدا من سماهم الكتاب العرب بالقبائل البائدة4. ومنها "خامسًا" أن الأخباريين عندما حاولوا كتابة أنساب العرب، إنما اعتمدوا إلى حد كبير على سلسلة الأنساب في التوراة، ومن ثم فقد رفعوا من نسل قحطان، فهم العرب العاربة، ونزلوا بنسب بني إسماعيل، فهم العرب المستعربة، أحدث نسبًا من غيرهم من القبائل البائدة والعاربة في نظر كتاب الجنوب، وبالتالي فهم أقل شأنًا من قبائل جنوب شبه الجزيرة العربية5، وهكذا كان الكتاب المسلمون مروجين لنظرية التوراة في الأنساب، وجهلوا -أو تجاهلوا- أن التوراة إنما كتبت ذلك لترفع من شأن بني إسحاق على بني إسماعيل، ولتجعل منهم دون غيرهم الأمة المختارة، وسلسلة النسب المصطفاة، على بني إسماعيل بالذات، وجهلوا -أو تجاهلوا -أن الخليل، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ، إنما كان عربيًّا خالصًا، والأمر كذلك بالنسبة إلى ذريته من بني إسماعيل6.   1 أبو عبد الله محمد بن سعد: الطبقات الكبرى، دار التحرير، القاهرة 1968، الجزء الأول ص25، 2 الإكليل للهمداني 1/ 103-105. 3 تاريخ ابن خلدون 2/ 241-242، نهاية الأرب للقلقشندي ص396-397، الإكليل 1/ 103-105، قارن، جواد علي 1/ 481-482. 4 عبد الرحمن الأنصاري: لمحات عن القبائل العربية البائدة ص93-943. 5 نفس المرجع السابق ص93. 6 انظر: كتابنا "إسرائيل" ص160-214، وكذا كتابنا "دراسات في التاريخ القرآني"، الفصل الرابع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 ومنها "سادسًا" أن الشعر الجاهلي لم يرد فيه ذكر لتقسيم العرب إلى قحطانية وعدنانية، وإن وردت فيه أبيات يتفاخر أصحابها بعدنان أو قحطان، ترجع في أغلب الظن إلى الحقبة القريبة من الإسلام، كما أن هذا التفاخر -أو حتى الهجاء- لا يصح أن يكون أساسًا لوضع نظرية في اختلاف أجناس القبائل العربية1. ومنها "سابعًا" أن ما يراه الإخباريون من أن العداء كان مستحكمًا بين العدنانيين والقحطانيين من قديم2، حتى رووا أن كل فريق منهم، إنما اتخذ لنفسه شعارًا في الحرب يخالف الآخر، فاتخذ المضريون العمائم والرايات الحمر، واتخذ أهل اليمن العمائم الصفر، فإنما أصل هذا العداء ما كان بين الحضارة والبداوة من نزاع طبيعي، وكان توالي الوقائع والحوادث يزيد في العداء، ويقوي روح الشر بينهم، ومن أوضح الأمثلة على ذلك ما كان من العداء الشديد بين أهل المدينة -من أوس وخزرج، وهم على ما يذكر النسابون قحطانيون، وأهل مكة-وهم عدنانيون- وقد استمر هذا التنافس بينهم بعد الإسلام، وكان بين القومين حزازات ومفاخرات، وكل يدعي أنه أشرف نسبًا، وأعز نفرًا3. ومنها "ثامنًا" أن علماء الأنثروبولوجيا لم يلاحظوا فروقًا واضحة بين العدنايين والقحطانيين، وإن كان من العجيب أن الدراسات الأنثروبولوجية التي أجريت على أفراد من القبائل العربية الجنوبية، قد أثبتت فروقًا بين أفراد هذه القبائل4، هذا إلى أن الجماجم التي عثر عليها من عهود ما قبل الإسلام تشير إلى وجود أعراق متعددة بينها5، فإذا كان ذلك صحيحًا، فربما كان السبب في هذا هو الاختلاط الجنسي عند القبائل العربية الجنوبية، والذي كان نتيجة هجرات من وإلى جنوب شبه الجزيرة العربية، ومن هنا كان التشابه بين أهل عمان وبين سكان السواحل الهندية المقابلة لها، ثم بين أهل عدن وبقية العربية الجنوبية وتهامة، وبين سكان أفريقيا الشرقية، وإن كان أكثر احتمالا في الحالة الأخيرة أن تلك القبائل في   1 عبد العزيز سالم: المرجع السابق ص85، جواد علي 1/ 373-475. 2 R. Dozy, Histoire Des Musulmans D'espagne, I, P.17, 70 3 أحمد أمين: فجر الإسلام ص85، جواد علي 1/ 483، اللسان 7/ 133، 20/ 38، وكذا A. Sprenger, Op. Cit., P.Cxxviii 4 B. Thomas, Arabia Felix, P.301 5 جواد علي 1/ 293، وكذا L.H.D. Buxton, The People Of Asia, London, 1925, P.99f الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 إفريقيا الشرقية، ربما كانت نتيجة هجرات عربية عن طريق باب المندب إلى إفريقيا1. ومنها "تاسعًا" أنه لم يظهر أي انقسام بين العرب على أيام الرسول -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ- وكذا على أيام خليفتيه الصديق والفاروق -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما- كما أن الروايات الخاصة بتنظيم الفاروق عمر بن الخطاب لديوان المظالم لم يرد فيها ما يشير إلى أي انقسام أو تمييز بين القحطانية والعدنانية كجنس، وإنما كانت القربى من رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هي الأساس، ثم يتفاضل الناس بعد ذلك على مقدار سبقهم في الإسلام، وعلى أي حال، فلقد كان بنو هاشم -بيت النبوة- قطب الترتيب، وأن هذا التسجيل قد تم سنة خمس عشرة للهجرة على رأي، وسنة عشرين على رأي آخر2. ومنها "عاشرًا" أن الحروب التي قامت بين الإمام عليٍّ -كرم الله وجهه ورَضِيَ اللَّهُ عَنْه- وبين خصومه، لم تكن حروبًا بين قحطانيين وعدنايين، وإنما كانت بين العدنايين أنفسهم، والأمر كذلك بالنسبة إلى حروب اشتعل أوارها بين القحطانيين أنفسهم. ولعل من الأهمية بمكان الإشارة هنا إلى أن الحروب التي دارت رحاها بين العدنانيين والقحطانيين، أو بين فريق وفريق من هذه القبيلة أو تلك، لا تكاد تسمع فيه انتساب كل العرب إلى عدنان أو قحطان، وإنما تسمع فخرًا بأسماء القبائل أو الأحلاف التي انضمت إلى هذا أو ذاك، تسمع أسماء معد أو نزار أو مضر، ولعل هذا كله، يجيز لنا أن نقول -مع الدكتور جواد علي- كيف يجوز لنا أن نتصور انقسام العرب إلى قحطانيين وعدنانيين انقسامًا حقيقيًّا، وقد كانت القبائل تتحالف فيما بينها، وتحارب بعضها مع بعض بأحلاف قد تكون مزيجًا بين عدنانيين وقحطانيين، فإذا كان الأمر كذلك، وإذا كان العرب قحطانيين   1 انظر: مقالنا "العرب وعلاقاتهم الدولية في العصور القديمة" ص287-437 "مجلة كلية اللغة العربية والعلوم الاجتماعية، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، العدد السادس، الرياض 1976"، وكذا Les Antiquities Du Yemen, In Le Museon, 61, 1948, P.225f 2 ابن الأثير: الكامل في التاريخ 2/ 502-505، تاريخ الطبري 3/ 613-619، تاريخ اليعقوبي 2/ 130. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 وعدنانيين بالأصل، فكيف تحالفت "جديلة" -وهي من طيء- مع "بني شيبان- وهم من بني عدنان- لمحاربة "عبس" العدنانية، وكيف نفسر تحالف قبائل يمنية مع قبائل عدنانية، لمحاربة قبائل يمنية، أو لعقد محالفات دفاعية هجومية معها1. وهكذا يمكننا أن نفسر نظرية الطبقات هذه، بأن الظروف السياسية لعبت دورها في تكوينها، وإن شاء أصحابها الرجعة بها إلى الماضي البعيد، ووضع تأريخ قديم لها، ذلك أن بني أمية، حين وضعت الأقدار أمور المسلمين بأيديهم، إنما عملوا على إحياء العصبية الأولى بين القبائل وضرب الواحدة منها بالأخرى رغبة منهم في السيطرة على القبائل جميعًا، وشغلها عما يقترفه الواحد منهم أو الآخر من أخطاء، وقد تسبب هذا الوضع -في أغلب الأحايين- في الإساءة إلى القبائل الجنوبية إلى حد كبير، وسرعان ما انتهزت هذه القبائل فرصة قيام دولة بني العباس -التي اعتمدت عليهم إلى حد كبير- فعملت على استعادة ما فقدته على أيام الأمويين، وبدأ الإخباريون -ومعظمهم من قبائل الجنوب- يكتبون عن الأنساب، وعن التاريخ العربي القديم، وكان موضع الخطر في هذا، أنهم بدءوا يكتبون وهم في البصرة والكوفة، ومن ثم فلم يجدوا من المصادر التي يعتمودون عليها، إلا ما كان قريبًا منهم، وكانت التوراة -وما يدور في فلكها من تصانيف- قد امتلأت بها مكتبات العراق، ومن ثم فقد نقلوا عنها ما كتبته عن قحطان وإسماعيل وهاجر وسبأ وبعض قبائل الجنوب، زاد الطين بلة، أن العصبية لدى اليمنيين قد لعبت دورًا خطيرًا في الأنساب، ومن ثم فقد نسبوا معظم القبائل البائدة إلى جنوب شبه الجزيرة العربية، كما أنهم لم يكتفوا بنسب أنفسهم، وإنما كانوا ينسبون غيرهم إليهم كذلك2، بل إن الأمر قد وصل إلى أن تتخذ لفظة "الأنصار"- والتي أطلقت   1 جواد علي 1/ 477 وما بعدها، عبد العزيز سالم: المرجع السابق ص86. 2 عبد الرحمن الأنصاري: المرجع السابق ص93، جواد علي 1/ 482-495، وانظر: ديوان الفررذق ص8، 59، 68، 86 "طبعة بوشيه"، ديوان حسان بن ثابت ص40، 70، 73، 89، الإكليل 1/ 965، 106، 116، 118، الأغاني 2/ 148، 1515. وكذا J. Halevy, Ja, Ii, 1882., P.490 وكذا Ei, Ii, P.655 وكذا J. Wellhausen, Op. Cit., P.40 وكذا R.A. Nicholson, A Literary History Of The Arabs, Cambridge, 1962, P.Xx وكذا L. Della Vida, Pre-Islamic Arabia, Princeton, 1944, P.6 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 على أهل المدينة من أوس وخزرج، بسبب نصرتهم لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكأنها قد أصبحت نسبًا، مما ضايق بعض رجالات قريش، وبدأ شعراء المدينة يفخرون بأصلهم اليمني، وبأنهم من أقرباء الغساسنة وذوي رحمهم، كما استعملوا لفظة الأنصار في مقابل قريش ومعد ونزار1. ومن عجب أن بعض النزارية في هذا الجو المحموم بالعصبية افتخروا بالفرس على اليمنية، وعدوهم من ولد إسحاق بن إبراهيم، ومن ثم فقد أصبح إبراهيم جد الفرس والعرب، ولم تكتف النزارية بذلك، بل زعمت أن هذا النسب قديم، معتمدين في ذلك على شعر نسبوه إلى شاعر جاهلي، وجاراهم الفرس في هذا الزعم، تقربًا إلى الحكومة وهي عدنانية، فضلا عن أسباب سياسية أخرى، لا شك أن منها إثارة العصبية البغيضة بين العرب أنفسهم، ويبدو أن العدنانيين لم يكتفوا بربط نسبهم بالفرس والإسرائيليين، وإنما ربطوه كذلك بالأكراد، حين نسبوهم إلى "ربيعة بن نزار بن بكر بن وائل.."، فكان رد القحطانيين أن جعلوا اليونان من ذوي قرباهم، بل إن الترك كذلك أصبحوا من حمير2. وعلى أن "ألويس موسل" إنما يرى أن أسطورة الأنساب هذه، إنما بدأت فيما قبيل الإسلام، ولما كان لليمن في الجاهلية مقام عظيم، فقد انتسب الكثيرون إلى اليمن، ثم جاء علماء الأنساب -متأثرين بالعوامل الآنفة الذكر- فسجلوها على أنها حقيقة واقعة3.   1 جواد علي 1/ 483-493، الأغاني 13/ 142، 14/ 114-122، 20/ 117، الإكليل 1/ 118، شمس العلوم 1/ 271، عبد الرحمن البرقوقي: شرح ديوان حسان بن ثابت ص6، 200. 2 المسعودي: التنبيه والإسراف ص75-78، 94-96، مروج الذهب 1/ 178، 266-277، 300، طه حسين: في الأدب الجاهلي ص123، الأغاني 17/ 52، متخبات ص13، 56، 62، 65، 83-84، 103 جواد علي 1/ 396-409، ابن خلدون 2/ 184 وكذا J.Hastings, Op. Cit., P.235, 386. وكذا Eb, P.1333, 2175 3 Alois Musil, Northern Nejd, New York, 1928, P.318. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 العرب البائدة مدخل ... العرب البائدة: لعل من الأفضل هنا أن نشير -بادئ ذي بدء- إلى أننا لا نعني بالعرب البائدة والعرب الباقية، أن أقوامًا قد انقرضوا فلم يبق منهم أحد، وأن أقوامًا لم يكونوا ثم نشئوا من جديد، وإنما ما نعنيه أن قومًا قد يقل عددهم بالكوارث أو بالذوبان في آخرين، لسبب أو لآخر، ومن ثم يتوقف تاريخهم وتبطل حضارتهم، مع أن بقاياهم لا تزال موجودة، ولكنها بدون قيمة حضارية، والتاريخ في حقيقته إنما هو تطور الحضارة1، وعلى أية حال، فتلك تسمية ابتدعها الكتاب العرب، ذلك لأنه من المعروف أن شيئًا لن يبيد ما دام قد ترك من الآثار ما يدل عليه، وهي دون شك مصدرنا الأساسي للتعرف على الحضارات السابقة2، وربما كان المقصود بلفظة "بائد" عدم وجود أحد من العرب ينتسب إلى هذه القبيلة أو تلك عند كتابة المؤرخين الإسلاميين لتاريخ ما بعد ظهور الإسلام. ومن ثم فليس صحيحًا ما ذهب إليه بعض المستشرقين من أن ما يسمى بالعرب البائدة، ليس من التاريخ الحقيقي في شيء، وإنما هو جزء من الميثولوجيا العربية أو التاريخ الأسطوري، الذي يسبق عاد ة التاريخ الحقيقي لكل أمة، ومن ثم فإنهم إذا ما عالجوا تاريخ بعض القبائل العربية التي تسمى "بالبائدة" فإنما يعالجونه على هذا الأساس3، وإن كانت غالبية المؤرخين الأوربيين الآن قد عدلت عن هذا الاتجاه، بعد أن ثبت لهم أن بعضًا من هذه القبائل البائدة، قد تحدث عنها المؤرخون القدامى من الأغارقة والرومان، وبعد أن أثبتت الأحافير إلى حد ما صحة بعض ما ورد عن هذه القبائل البائدة في المصادر العربية. أما العرب الباقية، فلعنا نعني بهم تلك الجماعات التي كانت -ولا تزال- تعيش في هذه المنطقة، وسوف تظل تعيش إن شاء الله، إلى أن يغير الله الأرض غير الأرض، وأن حضارتها مستمرة يتوارثها جيل بعد جيل، وأن كل جيل يضيف إليها، ما استطاع إلى ذلك سبيلا، ومن ثم فإن مهمتنا أن نقوم بدراسة تلك الحضارات متتبعين دورها في كل طور من أطوار التاريخ، وأما أهم القبائل البائدة التي سنتناولها هنا بالدراسة الموجزة فهي عاد وثمود ومدين وطسم وجديس وأميم وعبيل وجرهم والعماليق وحضورا.   1 عمر فروخ: تاريخ الجاهلية ص49. 2 عبد الرحمن الأنصاري: المرجع السابق ص86. 3 محمد مبروك نافع: المرجع السابق ص30-31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 1- عاد : ينظر الأخباريون إلى قوم عاد1، على أنهم أقدم الأقوام العربية البائدة2، حتى أصبحت كلمة "عادي" و"عادية" إنما تستعملان صفتين للأشياء البالغة القدم3، وحتى أصبح القوم إذا ما شاهدوا آثارًا قديمة لا يعرفون تاريخها أطلقوا عليها صفة "عادية"4، وربما كان السبب في ذلك قدم قوم عاد، أو أن عادًا -ومن بعدها ثمود - قد ورد اسميهما في القرآن الكريم، ومن ثم فقد قدما على بقية الأقوام البائدة، رغم أننا لو جارينا الإخباريين في قوائم أنسابهم، لكان علينا أن نقدم طسم وعمليق وأميم وغيرهم على عاد وثمود، ذلك لأن الأولين من وجهة نظرهم إنما هم من أولاد "لاو بن سام" شقيق "إرم" وأن الآخرين من حفدة "إرم"، ولكن الأخباريين أنفسهم إنما يقدمون عادًا على بقية الشعوب5. ولقد انفرد القرآن الكريم بذكر عاد، ونبيهم هود عليه السلام، فجاء ذكرهم في كثير من سور القرآن الكريم6، بل إن هناك سورة كاملة تسمى سورة "هود" كما أن هناك في القرآن الكريم ما يشير إلى أن هناك عادًا الأولى7، وعادًا   1 قدم المؤلف دراسة مفصلة عن "قوم" شغلت الفصل السادس من كتابه "دراسات في التاريخ القرآني" "الجزء الأول- في بلاد العرب" ناقش فيها المؤلف الموضوعات التالية. "1- العاديون والعرب البائدة. 2- قصة عاد في القرآن الكريم 3- قصة عاد ومحاولة ربطها بالتوراة. 4- موقع منطقة عاد. 5- مبالغات عن العاديين 6- سيدنا هود عليه السام 7- عصر قوم هود" ومن ثم فلسنا في حاجة إلى تكرار ما كتبناه هناك. 2 مروج الذهب 2/ 11. 3 مقدمة ابن خلدون ص613-614 "بيروت 1961". 4 مروج الذهب 2/ 12-14. 5 جواد علي 1/ 299. 6 انظر: مثلا: الأعراف ط65-72" وهود "50-60" والمؤمنون" 31-42" والشعراء "123-140" وفصلت "15-16" والأحقاف "21-26" والقمر "18-21" والحاقة "21-26" والفجر "6-8". 7 سورة النجم "50-51"، سورة الفجر "6-7". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 الثانية1، وأن عادًا الأولى إنما هم عاد إرم الذين كانوا يسكنون الأعمدة التي تحمل الخيام2، وأن عادًا الثانية إنما هم سكان اليمن من قحطان وسبأ وتلك الفروع، وربما كانوا هم ثمود3.   1 مروج الذهب 2/ 11، وانظر: ابن كثير، حيث يرى أن ما ورد في سورة الأحقاف كان عن عاد الثانية، وغير ذلك كله عن عاد الأولى "البداية والنهاية 1/ 130". 2 ابن كثير 1/ 125. 3 عبد الوهاب النجار: قصص الأنبياء ص53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 2- ثمود : تكاد تجمع الكتب العربية على أن ثمودًا1 إنما كان مقامها بالحجر إلى وادي القرى بين الحجاز والشام2، على أن ارتباطها بعاد يقتضي تقاربهما في المكان، ولذا ذهب الأخباريون إلى أن ثمودًا إنما كانت باليمن قديمًا، فلما ملكت حميرًا أخرجوها إلى الحجاز3، ولسنا في حاجة إلى التدليل الآن على خطأ هذا الاتجاه، فذلك أمر سبق لنا مناقشته في كتابنا "دراسات في التاريخ القرآن". وعلى أي حال، فإن الدراسات الحديثة تثبت أن الثموديين قد عاشوا في شمال الجزيرة العربية منذ أعماق التاريخ، وتركوا لنا آثارًا ونقوشًا في كل مكان من هذه الأرضين، التي تمتد من الجوف شمالا إلى الطائف جنوبًا، ومن الأحساء شرقًا إلى يثرب فأرض مدين غربًا، ومن المسالك المؤدية إلى العقبة والأردن وسورية، وحتى في أرض حضرموت من جنوب الجزيرة، وإن ذلك لدليل على أن الثموديين كانوا في يوم ما السكان الأصليين لشمال شبه الجزيرة العربية4. وليس من شك في أن قصة ثمود أوضح بكثير من قصة عاد، فمنذ القرن الثامن   1 قدم المؤلف دراسة مفصلة عن "قوم ثمود" في كتابه "دراسات في التاريخ القرآني" شغلت الفصل السابع من الجزء الأول، ناقش فيها المؤلف الموضوعات التالية: 1- أصل الثموديين 2- ثمود في الكتابات القديمة 3- ثمود في القرآن الكريم 4- عصر قوم صالح عليه السلام 5- النقوش الثمودية 6- المجتمع الثمودي. 2 ابن كثير 1/ 130، أبو الفداء 1/ 12، الطبري 1/ 226-227، ابن الأثير 1/ 89، مروج الذهب 2/ 14، نهاية الأرب 13/ 71، البكري 2/ 426، المحبر ص384، المعارف ص14، ياقوت 2/ 221، تاريخ الخميس ص84. 3 جرجي زيدان: المرجع السابق ص67 مبروك نافع: المرجع السابق ص36. 4 أحمد حسين شرف الدين: المرجع السابق ص61. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 قبل الميلاد والنقوش الآشورية تتحدث عنهم، من بين مَن تحدثت عنهم من قبائل، وقد دعتهم "تامودي"1، كما تحدث عنهم الكتاب القدامى من الأغارقة والرومان من أمثال "أجاثار خيدس" و"ديودور" و"بليني" و"كلوديوس بتولمايس"، وصاحب كتاب "الطواف حول البحر الأرتيري" وغيرهم2. وأما القرآن الكريم، فقد ذكرهم في كثير من سوره3، هذا إلى جانب أن كثيرًا من الآيات الكريمة قد قرنت قوم عاد بثمود، كما في سورة التوبة وإبراهيم والفرقان وص والنجم والفجر، وقد استدل البعض من كلمات "رجفة" و"صيحة" التي جاءت في القرآن الكريم على أن ثمودًا إنما أصيبوا بكارثة عظيمة، من ثوران البراكين أو من الهزات الأرضية4، وربما كان الأمر كذلك، فمنطقة إقامتهم إنما هي واحدة من مناطق الحرارة في شبه الجزيرة العربية.   1 A.G. Lie, Op. Cit., P.5. وكذا G. Rawlinson, Cuneiform Inscription, I, Pl.36 وكذا A. Musil, Northern Hegaz, P.289 وكذا A. Musil, In The Arabia Desert, P.479 وكذا A.L. Oppenheim, Babylonian And Assyrian Historical Texts, In Anet, 1966, P.286 2 ألويس موسل: شمال الحجاز ص92. وكذا C. Forster, I, P.323, Ii, P.30, 117, 274.284 وكذا Pliny, Ii, P.456-456, Iv, 32 وكذا Diodorus, Iii, 44 وكذا J. Hastings, Op. Cit., P.630. وكذا Ptolemy, Vi, 7: 4, V, 19: 7 3 انظر: سورة الأعراف "73-79" وهود "61-86" والحجر "80-84" والإسراء "59" والشعراء "141-159" والنمل "45-53" وص"13" وفصلت "17-18" والذاريات "43-45"، والنجم "5051" والقمر "23-32" والحاقة "4-5" والشمس "11-15". 4 وكذا J.A. Montgomery, Op. Cit., P.91 وكذا Ency. Of Islam, I, P.736 وكذا J. Hastings, Op. Cit., P.734 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 3- طسم وجديس : ينسب الأخباريون "طسم وجديس" إلى "لاوذ بن إرم بن سام بن نوح"، مع قليل أو كثير من التعديل في هذا النسب كالعادة1، وأنهما كانا قريبًا عهد بعاد   1 ابن خلدون 2/ 24، الأغاني 10/ 48، ابن الأثير 1/ 351، اللسان 7/ 333، نهاية الأرب للقلقشندي ص204، المعارف ص13، وكذا Ei, I, P.992 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 الأولى1، أما موطنها فكان في منطقة اليمامة، والتي كانت تسمى "جو" من قبل2، ولكن يبدو أن هذا لم يكن هو الوطن الأول، ومن ثم فعلينا أن نبحث عنه في مكان آخر. لقد حدثتنا التوراة عن كثير من القبائل العربية، ومن بينها قبيلة "طسم" التي دعتها "لتوشيم" وأنها إحدى بطون قبيلة "ديدان" الموجودة في العلا، وهذا يعني أن بداية استقرار "طسم" إنما كان في منطقة العلا، ثم انتقلت بعد ذلك إلى منطقة اليمامة، وهذا القول لا يبدو غريبًا ويمكن تصوره، فنحن نعرف أن أحد الطرق التجارية يبدأ من جنوب بلاد العرب، من "عدن" أو"قنا"، فمدن الحجاز "مكة، المدينة، خيبر" إلى أن يصل إلى العلا، ثم يتجه إلى الشمال، وهناك طريق ثان يبدأ من الجنوب أيضًا، مارًّا بالحافة الغربية للربع الخالي، متجهًا إلى اليمامة، ثم ينحدر باتجاه الشمال الغربي إلى منطقة العلا ومدائن صالح، فبلاد الشام، أو إلى مصر، إذن فمن المحتمل أن يكون نزوح "طسم" إلى اليمامة، إنما كان بسبب العامل الاقتصادي في المكان الأول، على أساس أن جزءًا، من قبيلة ديدان- وهي التي كانت تشارك في الحركة الاقتصادية بين جنوب الجزيرة وشمالها -قد نزح إلى منطقة اليمامة، ليحافظ على استقرار الأمن في الطريق التجاري من جنوب بلاد العرب إلى شمالها عبر اليمامة، ويبدو أن "جديس" قد نزحت كذلك مع "طسم"، وبهذا يمكن أن نجد صلة النسب قائمة بين القبيلتين3. وفي الواقع أننا لا نملك مصادر يعتمد عليها في التأريخ لهما، فالقرآن الكريم لم يتحدث عنهما، والاكتشافات الأثرية لم تصل إليهما، وكتابات الأمم الأخرى لم تذكرهما، إذا استثنينا إشارة التوراة عن طسم، ومن هنا فالشك يحيط بتاريخهما من كل جانب، ومع ذلك فقد حاول البعض أن يلم بشتات ما كتب عنهما، ليخرج لنا صورة عنهما، أقرب إلى الحكايات منها إلى التاريخ الصحيح. ومع ذلك، فعلينا ألا نتعجل في الحكم عليهما، كما فعل نفر من المستشرقين،   1 تاريخ الطبري 1/ 337، اللسان 6/ 35. 2 ياقوت 2/ 190، 5/ 442، البكري 2/ 407. 3 عبد الرحمن الأنصاري: المرجع السابق ص90-91. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 فذهب إلى أنهما من الشعوب الخرافية، فقد تأتي لنا الأيام بمعلومات عنهما قد تغير الصورة الحالية إلى حد كبير، ويبدو أنها بدأت تفعل، فلقد عثر في "صلخد" على نص يوناني يرجع إلى عام 322م، جاء فيه "أنعم طسم1"، كما أن التوراة قد أشارت إلى "طسم"، على أنه من نسل "دادان بن يقطان2" أضف إلى ذلك أن بعضًا من المستشرقين يرى أن اسم "Jodisitae" أو "Joiisiae" الوارد في جغرافية بطليموس، هو اسم قبيلة من قبائل شرق بلاد العرب، وأنها "جديس" بعينها، وأنها كانت معروفة حوالي عام 1253م، بل ومزدهرة كذلك. ويصفها المسعودي -هي وأرض طسم- بأنها من أفضل البلاد وأكثرها خيرًا، فيها صنوف الشجر والأعناب، وهي حدائق ملتفة وقصور مصطفة4. هذا وينسب الإخباريون إلى القبليتين كثيرًا من المواضع، فإلى "طسم" ينسب حصن المشقر، بين نجران والبحرين، وإلى "جديس" ينسب قصر معنق والشموس في اليمامة، فضلا عن بعض القرى في اليمامة كذلك، منها "حجر" حاضرة طسم وجديس. وهناك "جعدة" والتي يصف "الهمداني" جُدرها، بأنها تسمح بأن يركض عليها أربع من الخيل جنبًا إلى جنب، وأن بها حصنًا قديمًا ظل باقيًا حتى أيامه، وأنه كان يحيط بالقرية، وأن أساسه من اللبن، وفي هذا دلالة على خصب التربة ووفرة الأرض الطيبة والماء، كما هو الحال في العراق ومصر منذا أقدم العصور، هذا إلى جانب "الخضرمة" "جو القديمة" التي كانت تسكنها جديس -في مقابل الخضراء لطسم- فضلا عن "الهدار" و"ريمان"5.   1 جواد علي: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، الجزء الأول ص335 وكذا D.H. Mueller, Suedarabische Studien, P.67 2 قاموس الكتاب المقدس 2/ 294، مجلة الهلال، العدد 10 ص776 "القاهرة 1897م". 3 جرجي زيدان: المرجع السابق ص69، سعد زغلول: المرجع السابق ص121-122 وكذا Ptolemy, I, 29. وكذا Ei, I, P.992 وكذا Caussin De Perceval, Op. Cit., I, P.29 4 مروج الذهب 2/ 114. 5 الهمداني: صفة جزيرة العرب ص140-141، ص160، 164، ياقوت 2/ 221، 377، البكري 1/ 85، 2/ 405، 3/ 1070-1071، صحيح الأخبار 1/ 195، 2/ 33، 170، جرجي زيدان: المرجع السابق ص69070، جواد علي 1/ 339-340، سعد زغلول: المرجع السابق ص123-127. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 وقصة القبيلتين العربيتين -كما يقدمها الأخباريون- تذهب إلى أن الغلبة إنما كانت من نصيب "طسم"، وأن أولي الأمر وأصحاب السطوة، إنما كانوا منها كذلك، ومرت الأيام وانتهى الملك في طسم إلى رجل ظلوم غشوم، استذل جديس وانتهك أعراضها، حتى جعل سنته السيئة، ألا تزف البكر من جديس إلى بعلها، قبل أن يقضي منها وطره، إلى أن كان يوم زفت فيه امرأة من جديس تدعى "الشموس" "عفيرة بنت غفار بن جديس" إلى رجل من قومها، وعندما حملت إلى ملك طسم ليفترعها أولًا، سمعت من عبيده ما مس كرامتها، وأهان شرفها، فخرجت من فراش ملك طسم ودمها يسيل، وقد شقت ثوبها من خلف ومن قدام، ثم أخذت تنشد شعرًا في قصيدة طويلة، تثير به نخوة قومها. وتستمر الأقصوصة، فتذهب إلى أن أخا الشموس "الأسود بن غفار بن جديس" سيد قومه وصاحب الرأي فيهم، قد تحركت نخوته، كما أحس المذلة قومه من جديس، فاتفق القوم على ملك طسم، ومن ثم فقد نصبوا له ولخاصة قومه الشباك، وكتب لهم في مهمتهم هذه نجحا بعيد المدى، واستطاع رجل من طسم أن يفر من المذبحة، وأن يستنجد بحسان بن تبع ملك حمير، الذي يعد جيشًا كثيفًا، بغية أن يقضي به على جديس، وبينما كان هذا الجيش العرمرم على مبعدة ثلاثة أيام من اليمامة، يخبر هذا المستجير -ويسمونه رباح بن مرة- ملك حمير، أن له أختًا في جديس ترى على مسيرة ثلاثة أيام، وأنه يخشى أن تراهم فتحذر القوم منهم، ومن ثم فإنه يقترح أن يحمل كل جندي فرعًا من شجرة كبيرة يستتر وراءها، حتى يستطيعوا أن يفجئوا جديسًا قبل أن يتحوطوا للقائهم. وتطلعت أخت الطسمي -وتدعى زرقاء اليمامة- إلى ناحية الجنوب الغربي، وصاحت في جديس تحذرهم من حمير، فهي ترى شجرًا يتحرك ومن ورائه جنودًا تحمل سلاحًا، ولكن القوم ظنوا بها الظنون فلم يصدقوها، حتى حلت الكارثة، فأبيد الرجال، وسبيت النساء، وقتلت الأطفال، وهدمت البيوت والحصون، وفقئت عيني الزرقاء، وتغير اسم مساكن طسم وجديس من "جو" إلى اليمامة، وهكذا كان فناء جديس على يد الحميريين، ومن ثم فقد لحق القومان "طسم وجديس" بعاد وثمود، وصاروا من العرب البائدة1.   1 تاريخ الطبري 1/ 629-632، المسعودي: مروج الذهب 2/ 111-119، أخبار الزمان ص124-126، ابن الأثير 1/ 350-354، تاريخ ابن خلدون 2/ 24-25، جرجي زيدان: المرجع السابق ص69-70، المقدسي: البدء والتأريخ 3/ 28-29، المعارف ص274-275 البكري 2/ 407، أخبار عبيد بن شريه ص483-488، الأخبار الطوال ص14-16، ياقوت 5/ 442-447، سعد زغلول المرجع السابق ص123-124، مبروك نافع: المرجع السابق ص37-39، محمد أحمد جاد المولى وآخرون: أيام العرب في الجاهلية ص396-398. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 هذه هي القصة التي تدور حول الحيين العربيين طسم وجديس -وهي فيما نظن- لا تعدو أن تكون واحدة من القصص الشعبي، ومن الغريب أن القصة تكاد أن تكرر نفسها بين العرب واليهود في المدينة1، فضلا عن شبه قريب بينها وبين قصص أخرى يرويها الأخباريون عن ملوك اليمن، وعن ولعهم بالنساء، وفعل المنكر فيهن، ومنها واحدة تتصل بملكة سبأ "بلقيس2 صاحبة سليمان عليه السلام" وأخرى عن "عتودة" مولى أبرهة الحبشي3. أضف إلى ذلك أن القصة تصور القوم وكأنهم لا يثورون على هذا الوضع الدنيء، إلا بعد أن ظهرت "عفيرة" ودمها يسيل، وقد شقت ثوبها من قدام ومن خلف، فيغضب أخوها -كما غضب أخو فضلاء في يثرب- ويقبل "عملوق" ملك طسم، هذا إلى جانب أن القصة تصور المرأة -وليس الرجل- هي التي تأنف من العار وتأبى الذل، وتحرض الرجال على الانتقام للعرض المستباح، ومن ثم فإننا نرى "عفيرة" تقول: لا أحد أذل من جديس ... أهكذا يفعل بالعروس يرضى بذا يا يقوم بعل حر ... أهدى وقد أعطى وثيق المهر ولو أننا كنا رجالا وكنتم ... نساء لكنا لا نقر بذا الفعل فموتوا كرامًا وأميتوا عدوكم ... ودبوا لنا الحرب بالحطب الجزل وإن أنتم لم تغضبوا بعد هذه ... فكونوا نساء لا تعاب من الكحل ودونكم طيب النساء فإنما ... خلقتم لأثواب العروس وللنسل4   1 وفاء الوفا 1/ 115-126-129، ابن الأثير 1/ 656-658، الاشتقاق 1/ 29، 270، ياقوت 2/ 242، 5/ 84-87، أبو الفداء 1/ 123، المقدسي 1/ 179-180، ابن خلدون 2/ 2870289، الأغاني 29/ 96-7-، إسرائيل ولفنسون: تاريخ اليهود في بلاد العرب ص56. 2 ابن الأثير 1/ 232-233، تاريخ الخميس ص276. 3 تاريخ الطبري 2/ 128-129، ابن الأثير 1/ 423-423. 4 ابن الأثير 1/ 233. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 ومن هنا، فإننا نرفض هذه القصة هنا وهناك، نرفضها لأنها لا تتفق مع الخلق العربي والكرامة العربية، نرفضها لأنها تتعارض تمامًا وأخلاق العرب الذين كانوا يشعلون نار الحرب لأقل كلمة يمكن أن تفسر على أنها إنما تسيء إلى الشرف والعرض الذي كان -وما زال وسوف يظل إن شاء الله- من أقدس ما يحافظ العربي عليه، ثم هل هذا الشعر العربي الفصيح يمكن أن يكون من قول "عفيرة" جديس، وأخيرًا فإن قصة زرقاء اليمامة هذه، إنما رويت في مكان آخر عند حديث الإخباريين عن تفرق ولد معد، وقريب منها ما جاء في قصة "الزباء" ملكة تدمر المشهورة1. وأما الفترة التي عاشت فيها قبيلتا "طسم وجديس"، فهي -طبقًا للرواية الآنفة الذكر- إنما كانت في أوائل القرن الرابع الميلادي، أو أوائل القرن الخامس الميلادي2، على أن "ده برسيفال" إنما يرى أن إغارة الحميريين على جديس إنما كان بعد عام 140م3، وهذا يعني أن القبيلتين قد انتهى أمرهما في حوالي منتصف القرن الثاني الميلادي، ومن ثم فقد أخطأ المؤرخون المسلمون في الربط بينهما وبين عاد الأولى4، والتي ربما عاشت في النصف الثاني من الألف الثاني قبل الميلاد، هذا إلى أن ذلك إنما يتعارض وما رآه البعض من أن بطليموس الجغرافي إنما كان يقصد باسم "Jodisitae" أو "Joiisitae" قوم جديس، وأنهم كانوا معروفين حوالي عام 125/ 5. أضف إلى ذلك أن الفترة التي حكم فيها التبابعة جنوب بلاد العرب، كانت فيها دولة "كندة" هي المسيطرة على منطقة اليمامة، ومن ثم يمكننا القول أن قبيلتي طسم وجديس كانتا معاصرتين لدولة ديدان، وربما انتهتا بنهايتها، أي أننا يمكننا أن نؤرخ لهما فيما بين القرن السادس والخامس قبل الميلاد، ولا نشك في أن الكشف   1 سوف نناقش ذلك كله في مكانه من هذه الدراسة. 2 جرجي زيدان: المرجع السابق ص69، محمد مبروك نافع: المرجع السابق ص39، سعد زغلول عبد الحميد: المرجع السابق ص124-125؟ 3 Caussin De Perceval, Essai Sur L'histoire Des Arabes Avant L'islamisme, I, P.89 4 اللسان 6/ 25. 5 Encyclopaedia Of Islam, I, P.992. وكذا Ptolemy, I, 29 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 الأثري سوف يؤكد أو يعدل أو يأتي بتاريخ لا يبعد كثيرًا عن هذا التاريخ1، وإن كان هذا لا يمنع من وجود بعض جماعات من "جديس" بعد هذا التاريخ، دون أن يكون لها نفس الكيان الذي كان لها من قبل، ولعل هذه الجماعات هي التي عناها بطليموس، إن كان حقًّا أن اسم "Jodisitae" أو "Joiisitae" إنما يعني في نظره قوم جديس.   1 عبد الرحمن الأنصاري: المرجع السابق 91. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 4- أميم : وهم في نظر الأخباريين في طبقة طسم وجديس، وينسبون إلى "لاوذ بن عمليق" أو "لاوذ بن سام بن نوح" أو وبار بن إرم بن سام بن نوح" أو ما شابه ذلك من شجرات نسب1، وأن من شعوبهم "وبار بن أميم"، برمل عالج بين اليمامة والشحر، وأن الرمال قد انهارت عليهم بسبب معصية أصابوها، وإن بقيت منهم بقية دعيت "النسناس"2. ولعل أغرب ما في الأمر دعوى الأخباريين بأن ديار بين أميم، إنما كانت بأرض فارس، ومن ثم فقد رأى الفرس أنهم من أميم من ولده "كيومرث"3، ولست أدري كيف اعتبر المؤرخون المسلمون بني أميم هؤلاء من طبقة العرب العاربة، ثم هم في نفس الوقت من الفرس؟ ثم ما هي العلاقة بين "وبار" و"أميم"، وهل صحيح أن "وبار" هذا شقيق "كيومرث" جد الفرس4؟ وإذا كان ذلك كذلك، فهل هذه القبيلة من العرب البائدة، أم هي قبيلة فارسية؟. وهناك خلاف بين المؤرخين الأوربيين على ذلك الشعب العربي الذي دعاه بطيلموس "Jobaritae"، وهل هو شعب "وبار"5 أم أنه "يوباب"، وأن هناك تحريفًا في النسخ فصارت "الباء" "B" "راء" R" ومن ثم فقد أصبح   1 تاريخ الطبري 1/ 206، ياقوت 5/ 356، 358، الطبقات الكبرى 1/ 19، نهاية الأرب للقلقشندي ص82. 2 تاريخ الطبري 1/ 203-204، ياقوت 4/ 70، 5/ 356-358، 442، البكري 2/ 375-376، 3/ 913، 4/ 1366-1367، المقدسي 3/ 30. 3 تاريخ ابن خلدون 2/ 28، مروج الذهب 1/ 260-266، 2/ 122، البكري 2/ 376. 4 الإكليل 1/ 77، مروج الذهب 2/ 122، جواد علي 1/ 340-341. 5 C. Forster, Op. Cit., I, P.173f, Ii, P.270. وكذا A. Sprenger, Op. Cit., P.296 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 "Jobabitae" وإن كنا لا نملك على هذا التحريف ما يدعمه من أدلة1، هذا فضلا عن أنه على موضع قريب من المكان الذي عناه بطليموس الجغرافي تقع أرض "وبار" بين اليمن ورمال يبرين2. ومع ذلك، فإن شعب وبار -في رأي كثير من المستشرقين- إنما هو من الشعوب الخرافية، وليس هذا بالأمر الغريب على قوم يرون في كل الكتابات العربية، أو معظمها، شيئًا أقرب إلى الخرافة منه إلى الحقيقة3، غير أن بعضًا منهم، ممن قدر له زيارة الأماكن التي ذهب الأخباريون إلى أنها أرض "وبار" لا يرون هذا الرأي4، كما أن ذكرى "وبار" لا تزال في ذاكرة العرب حتى اليوم، ففي الربع الخالي أماكن كثيرة يزعم الأعراب أنها كانت مواضع وبار5، وإن أضافوا إليها أساطير لا يقرها منطق ولا يقبلها عقل6.   1 جواد علي: المرجع السابق ص341، وكذا C. Forster, Op. Cit., I, P.173, 177, Ii, P.270 2 ياقوت 5/ 356-358، البكري 4/ 1366، منتخبات ص113. A. Sprenger, Op. Cit., P.296 4 جواد علي 1/ 342. وكذا El, 4, P.1077. وكذا J.B. Philby. The Heart Of Arabia, Ii, P.353 5 R.H. Sanger, The Arabian Peninsula, Cornell University Press, 1954, P.126, 132. وكذا J.B. Philby, The Empty Quarter, N.Y., 1933, P.165 6 ياقوت 5/ 357-359. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 5- عبيل : وعبيل هذه -فيما يرى الأخباريون- من ولد "عوص" أخي عاد1 وأنهم هم الذين اختطوا مدينة يثرب، إلا أن العماليق سرعان ما طردوهم منها، ومن ثم فقد نزلوا في مكان بين مكة والمدينة، حيث اجتحفهم سيل فذهب بهم، وسمي المكان "الجحفة"2   1تاريخ ابن خلدون 2/ 21، ابن حبيب: المحبر ص395. 2 مروج الذهب 2/ 127، ياقوت 2/ 111، البكري 2/ 367-368، الطبقات الكبرى 1/ 20، تاريخ الطبري 1/ 208، نهاية الأرب للقلقشندي ص348، الحربي ص415، محمد بن حبيب: كتاب المحبر ص385 "حيدر أباد الدكن 1942". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 وتقرأ في التوراة عن "عيبال" أو "عوبال"1، على أنه من ولد "يقطان" "قحطان في المصادر العربية"، ومن هنا رأى فريق من علماء التوراة أن "عبيل" من الممكن أن يكون "عيبال" أو "عوبال"2، ويشير بطليموس إلى موضع يقال له "Avaiitae" على خليج يدعى بهذا الاسم "Avaiites Sinus" عليه مدينة تسمى "Avaiites Emporium" وسكانها يدعون "Avaites"، كما ورد الاسم عند "بليني" محرفًا إلى "Abaiitae" أو "Abaiites"، وربما كان هؤلاء هم "عوبال"، فيما يرى "فورستر"3، وقد يكون أبناء عوبال هم عبيل4. هذا ويحاول البعض أن يوجد صلة بين "عبيل" وبين مكان في اليمن بهذا الاسم، هذا إلى جانب قرية تدعى "عبال" على مقربة من صنعاء5، على أن الحكم في مثل هذه الأمور، اعتمادًا على تشابه الأسماء، فيه من الخطورة ما فيه6.   1 تكوين 10: 28، أخبار أيام أول 1: 22. 2 J. Hastings, Op. Cit., P.201. وكذا T.K. Cheyne, Op. Cit., P.4632. 3 C. Forster, Op. Cit., I, P.148-9. 4 جواد علي 1/ 344. 5 جواد علي 1/ 344. وكذا Hugh Scott, In The High Yemen, London, 1947, P.185. 6 جواد علي 1/ 344 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 6- جرهم : ينظر الأخباريون إلى جرهم على أنهم طبقتان، الواحدة من العرب البائدة، وقد كانت في مكة المكرمة على عهد عاد وثمود والعماليق1، ثم أبيدت بأيدي القحطانيين2، والأخرى من جرهم بن قحطان بن هود، وقد كانوا أصهارًا للنبي الكريم سيدنا إسماعيل عليه السلام3، وقد آلت إليهم ولاية البيت الحرام   1 الإكليل 1/ 78، نهاية الأرب للقلقشندي ص211، أخبار عبيد بن شريه ص314. 2 Ency. Of Islam, I, P.1066. 3 صبح الأعشي 1/ 314، تاريخ ابن خلدون 2/ 30، تاريخ الطبري 1/ 256، 314، ابن الأثير 1/ 103-104، 125، الإكليل 1/ 116، أخبار عبيد بن شربه ص315، 396-398، وانظر: سعد زغلول: المرجع السابق ص127-129، ثم قارن: كتاب التيجان ص177-178، ثم قارن كذلك: رواية التوراة عن زواج سيدنا إسماعيل بمصرية وليس بيمنية "تكوين 21: 21". وانظر: El, I, P.1066 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 حتى غلبتهم عليه خزاعة وكنانة -الأمر الذي سوف نناقشه بالتفصيل عند الحديث عن مكة المكرمة- وعلي أي حال، فلقد نزلوا بعد ذلك بين مكة ويثرب، ثم هلكوا بوباء تفشى فيهم1.   1 البلاذري: أنساب الأشراف ص8-7، صبح الأعشي 1/ 315، نهاية الأرب للقلقشندي ص211، عبد العزيز سالم: المرجع السابق ص99؛ ثم قارن: كتاب التيجان ص180، سعد زغلول: المرجع السابق ص131-133. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 7- العمالقة : ينسب الأخباريون العماليق إلى "عمليق بن لوذ بن سام بن نوح"1، وهو شقيق طسم، هذا ويبالغ الأخباريون في أهمية العماليق وسعة انتشارهم بدرجة لا يمكن أن يقبلها منطق أو يقرها عقل، فيجعلونهم أممًا كثيرة تفرقت في البلاد، فكان منهم أهل عمان والحجاز والشام ومصر، فضلا عن أهل المدينة وبنو هف وبنو مطر وبنو الأزرق وسعد بن هزان، وأهل نجد، وبديل وراحل وغفار هذا، وأخيرًا فقد كان منهم الجبابرة بالشام -وهم الكنعانيون- والفراعين بمصر، والأرقم ملك الحجاز بتيماء2. ولا شك في أن الاضطراب إنما يبدو واضحًا في روايات الأخباريين هذه، فضلا عن أثر التوراة الواضح فيها، فهم يرون أن أهل مصر من العماليق3 -والعماليق، في رأيهم، كجرهم من العرب العاربة-4، ولكنهم في نفس الوقت يرون أن أهل مصر من أبناء "مصرايم بن حام بن نوح"5، وتلك في الواقع إنما هي رواية   1 تاريخ الطبري 1/ 207، الإكليل 2/ 410، المعارف ص13. 2 الإكليل 1/ 74-77، تاريخ الطبري 1/ 206، نهاية الأرب للقلقشندي ص150-151، قاموس الكتاب المقدس 2/ 112، جواد علي 1/ 346 وكذا Hastings, Op. Cit., P.24 وكذا The Jewish Encyclopedia, I, P.218 وكذا El, I, 325 3 انظر كتابنا "حركات التحرير في مصر القديمة" القاهرة 1978، دار المعارف ص131، 134، رشيد رضا، تفسير سورة يوسف ص68، تاريخ الطبري 1/ 335-336، 342، 363، تفسير القرطبي ص3427 "طبعة الشعب"، ابن كثير: قصص الأنبياء 1/ 306، ابن الأثير: الكامل في التاريخ 1/ 101، 141، 169، جرجي زيدان: المرجع السابق ص60، وكذا Josephus, Wars Of The Jews, I, P.19. 4 تاريخ الطبري 1/ 2-7. 5 ابن الأثير 1/ 81، تاريخ الطبري 1/ 206. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 التوراة1، وهكذا فإن المصريين -في نظر المؤرخين المسلمين- ساميون وحاميون في نفس الوقت، والأمر كذلك بالنسبة إلى الكنعانيين، فهم من العماليق، وهم في نفس الوقت، أبناء "حام بن نوح"2، وتلك -مرة أخرى- رواية التوراة3 وإذا كان الحقد الدفين من يهود ضد المصريين والكنعانيين والبابليين، هو الذي دفع بكتبة التوراة إلى إخراج هذه الشعوب جميعًا من الساميين، وجعلها من أبناء حام، فإن النقل عن يهود -والغفلة كذلك- هي التي دفعت بالمؤرخين الإسلاميين إلى هذا الموقف الخاطئ. وأما عن الانتشار غير المقبول للعماليق، فلعله في أحسن الأحوال، إنما كان لأن العماليق قبائل بدوية، انتشرت هنا وهناك في عديد من الأماكن بشبه الجزيرة العربية، ثم جاء الأحباريون وجعلوهم سكانا لمناطق لا تقتصر على بلاد العرب وحدها، وإنما شمتل غيرها من المناطق المجاورة. وأما أصل الكلمة "عماليق" أو عمالقة، فمجهول، وإن غلب على الظن أنهم نحتوه من اسم قبيلة عربية كانت مواطنها بجهة العقبة أو شماليها، ويسميهم البابليون "ماليق" أو "مالوق"، فأضاف إليها اليهود لفظ "عم" أي الشعب أو الأمة، فقالوا "عم ماليق" و "عم مالوق"، ثم جاءت العرب فقالت: "عماليق" أو "عمالقة"، ثم سرعان ما أطلقت الكلمة على طائفة كبيرة من العرب القدامى4. ويكاد يتفق الإخباريون على أن العماليق عرب صرحاء، ومن أقدم العرب زمانا، ولسانهم هو اللسان المضري التي نطقت به كل العرب البائدة5، بل ويذهب الطبري إلى أن عمليقا -وهو أبو العمالقة- كان أول من تكلم العربية حين ظعنوا من بابل، ومن ثم فقد كان يقال لهم -وكذا لجرهم- العرب العاربة6، ومرة أخرى يظهر أثر التوراة في هذه الرواية، فهي لا تتعارض مع الرواية المشهورة التي   1 تكوين 10: 60. 2 تاريخ الطبري 1/ 206. 3 تكوين 10: 60. 3 جرجي زيدان: المرجع السابق ص42-43, 5 جواد علي 1/ 346 وكذا. Ei, I, P.325. 6 تاريخ الطبري 1/ 207. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 تجعل "يعرب بن قحطان" أول الناطقين بالعربية فحسب، وإنما تجعل السريانية أقدم من العربية، وذلك حين جعلتها لغة الناس جميعًا، غير أن القوم قد انحرفوا إلى عبادة الأوثان، خنوعًا "للنمرود بن كوش بن كنعان بن حام" ملك بابل، وصاحب إبراهيم عليه السلام، ومن ثم فقد أصبح القوم ذات يوم، وقد بلبل الله ألسنتهم، فلا يفهم الواحد منهم الآخر، إذ "أصبح لبني سام ثمانية عشر لسانًا، ولبني حام ثمانية عشر لسانًا، ولبني يافث سنة وثلاثون لسانًا، ففهم الله العربية عادًا وعبيل وثمود وجديس عمليق وطسم وأميم وبني يقطن بن عابر بن شالح بن أرفخشد بن سام بن نوح"1. وهكذا فالرواية إذن لا تجعل شرف السبق في النطق بالعربية مقصورًا على "عمليق" وإنما شاركه فيه آخرون، ثم إنها تؤرخ للحادث بعهد "نمرود" صاحب إبراهيم عليه السلام وإبراهيم -كما هو معروف- لا يعده الإخباريون من العرب العاربة، فضلا عن أن يكون من أقدم العرب زمانًا،2، ومن ثم فكل من ذكرهم الإخباريون على أنهم أصحاب السبق في النطق بالعربية، تأتي هذه الرواية فتجعلهم لا ينطقون بها إلا على أيام النمرود، صاحب إبراهيم عليه السلام "1940-1765ق. م". وأخيرًا، فالرواية تحريف لرواية توراتية، أراد كاتبها أن يقدم لنا تفسيرًا لاختلاف اللغات والأجناس3 -كما فعلت الرواية العربية- فقدم لنا تفسيرًا ساذجًا غير علمي، ذهب فيه إلى أن الله سبحانه وتعالى قد رأى أن سلالة الناجين من الطوفان يبنون برجًا بغية الوصول إليه في علياء سمائه، وكانوا يحسبون السماء أشبه بلوح زجاج يعلو بضع مئات من الأمتار، فخشي شرهم واحتاط لنفسه فهبط الأرض وبلبل ألسنتهم، فتقرقوا شذر مذر، ومن ثم فقد سميت المدينة "بابل"، لأن الرب هناك بلبل لسان كل الأرض، ثم بددهم على وجه الأرض4، أضف   1 تاريخ الطبري 1/ 207-208، البكري 1/ 219، الأخبار الطوال ص2، المحبر ص382-385، أخبار الزمان للمسعودي ص204، 209، تاريخ الطبري 1/ 288-290، ابن الأثير 1/ 115، تاريخ الخميس ص95-96. 2 انظر: الفصل الرابع من كتابنا "دراسات في التاريخ القرآني"، كتابنا "إسرائيل" ص60-214 3 تكوين 11: 1-9. 4 عصام حفني ناصف: محنة التوراة على أيدي ص42 وكذا تكوين 11: 1-9 وكذا J. Gray, Near Eastern Mythology, P.104 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 إلى ذلك كله، أن الرواية العربية إنما هي متأثرة بروايات تذهب إلى أن الموطن الأصلي للساميين إنما كان في بابل، بل ربما كانت أساسًا لنظريات حديثة تنحو هذا النحو1. وعلى أي حال، فالعماليق -في نظر التوراة- من أقدم الشعوب التي سكنت جنوب فلسطين، وقد عدهم "بلعام" أول الشعوب2، ربما لأنهم كانوا أول من اصطدم بالإسرائيليين في أثناء التيه في صحراوات سيناء، ومن ثم فليس صحيحًا ما ذهب إليه البعض -طبقًا لرواية توراتية-3 من أنهم من سلالة "اليعازر بن عيسو" جد الآدوميين4، وحفيد إبراهيم، ذلك لأن هناك نصًّا تواراتيًّا آخر يجعلهم يقيمون في جنوب غرب البحر الميت على أيام الخليل إبراهيم5، وأنهم كانوا على أيام موسى الكليم منتشرين في كل صحراء التيه حتى حدود مصر، وفي معظم سيناء، وجنوب فلسطين، كما كان هناك "جبل العمالقة" في أرض أفرايم6. وليس هناك من شك في أن الصدام الحقيقي بين اليهود والعماليق إنما بدأ في المرحلة الأولى من التيه7، ونقرأ في التوراة أن العمالقة قد هاجموا بني إسرائيل المنهكين عند خروجهم من مصر وأسروا جميع مقاتليهم8، كما نقرأ كذلك في التوراة9 أن العماليق قد أتوا لمحاربة بني إسرائيل في "رفيديم"، حيث ضرب موسى الحجر بعصاه، فانبثقت منه اثنتا عشرة عينًا، ويذهب "يوسف بن متى" المؤرخ اليهودي، إلى أن الإسرائيليين حينما وصلوا إلى "رفيديم" كانوا في حالة يرثى لها من العطش، ومن ثم فقد كان هجوم العمالقة عليهم ناجحًا10. وعلى أي حال، فإذا كانت "رفيديم" والتي أطلق الإسرائيليون عليها "مريبة" -وكذا قادش القريبة منها- تقعان حول البتراء، فهما إذن في جوار أرض العماليق   1 انظر: مقالنا "الساميون والآراء التي دارت حول موطنهم الأصلي مجلة كلية اللغة العربية، العدد الرابع، الرياض 1974 ص245-271. 2 عدد 24: 20. 3 تكوين 36: 12 4 قاموس الكتاب المقدس ص636 وكذا M.F. Unger, Op. Cit., P.45 5 تكوين 14: 7 6 قضاة 12: 15. 7 The Jewish Encyclopaedia, I, P.218 وكذا A. Musil, The Northern Hegae P.460 8 تثنية 25: 17-19. 9 خروج 17: 7-16 10 ألويس موسل: شمال الحجاز ص33، كتابنا "إسرائيل" ص313، وكذا W.M.F. Petrie, Egypt And Israel, London, 1925, P.4 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 الذين كانوا يتمكنون في سهولة من أن يهاجموا بني إسرائيل، متنقلين من معسكر إلى آخر، ومن أن يأسروا مقاتليهم1، غير أن العمالقة قد أعانوا أعداء آخرين لبني إسرائيل، حتى بعد استقرارهم في فلسطين، ومن ثم فإننا نقرأ في التوراة2 أن العمالقة قد اتحدوا مع "عجلون" ملك مؤاب، الذي انتزع منهم مدينة النخل "أريحا"، كما كانوا كذلك حلفاء لأهل مدين وبني المشرق "بني قدم" الذين كانوا يسكنون في سهل يزرعيل، وهكذا استمر العماليق يغزون بني إسرائيل في فلسطين3، تقول التوراة: "إذا زرع إسرائيل كان يصعد المديانيون والعمالقة وبنو المشرق، ويتلفون غلة الارض إلى مجيئك إلى غزة، ولا يتركون لإسرائيل قوة الحياة، ولا غنمًا ولا بقرًا ولا حميرًا"4. وهكذا بدأ الإسرائيليون يفكرون في الانتقام من العماليق، وكان "شاول" "1020-100ق. م"5 هو أول ملك إسرائيلي يحارب العماليق، ونقرأ في التوراة أن الربَّ أمر شاؤل أن يحارب العماليق ويبيد كل ممتلكاتهم من ثيران وماشية وجمال وحمير6، ومن هذا نفهم أن العمالقة إنما كانوا يمتلكون عددًا من القرى والديار، وأنهم قد عنوا بحرث الأرض وزراعاتها، فضلا عن تربية الماشية والأنعام7. وطبقًا لرواية التوراة8، فإن شاؤل قد نجح في مهمته، وحقق للإسرائيليين -ولأول مرة- نصرًا على العماليق، كما يفهم من الرواية نفسها أن العمالقة إنما كانوا يسيطرون على طرق القوافل فيما بين جنوب فلسطين وشمال شبه الجزيرة العربية.   1 ألويس موسل: شمال الحجاز ص33. 2 قضاة 3: 13. 3 ألويس موسل: المرجع السابق ص33-34. 4 قضاة 6: 3-4. 5 انظر عن الخلافات في فترة حكم شاؤل، كتابنا "إسرائيل" ص397. 6 صموئيل أول 15: 3-9. 7 ألويس موسل: شمال الحجاز ص34. 8 صموئيل أول 15: 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 وكان هناك طريقان يقعان في أرض العماليق، الواحد عن طريق برزخ السويس، والآخر عن طريق خليج العقبة1، ولما كانت العلاقات التجارية بين مصر وغزة من ناحية، وبين جنوب بلاد العرب من ناحية أخرى، في غاية من الازدهار والنشاط، فقد كانت القوافل التجارية القادمة من غزة إلى العقبة تمر في أرض العماليق، فليس من شك في أنها إنما كانت تعترف بسلطتهم في هذا الجزء من الطريق القادم من غزة متجهًا إلى مصر، والأمر كذلك بالنسبة إلى جزئه الآخر المتجه نحو الجنوب الشرقي، أو أنها على الأقل كانت خاضعة لسلطة العمالقة في هذا الجزء المتاخم لساحل البحر من الطريق2. وفي أيام داود عليه السلام "1000-960ق. م"3 تدق الحرب طبولها من جديد بين بني إسرائيل والعماليق، وطبقًا لرواية التوراة4 فإن العمالقة قد غزوا بني إسرائيل، "وضربوا صقلع وأحرقوها بالنار وسبوا نساءها"، إلا أن داود قد كتب له نجحًا بعيد المدى في رد الغزاة، وفي استعادة الغنائم منهم، بل وفي استعادة بعض السبايا -ومنهم امرأتيه أخينوعم وأبجايل- كما تمكن قائد "يؤاب" من أن يخرجهم من ديارهم الأولى، وإن ظلت بقية منهم تسكن الجزء الجنوبي من جبل سعير، حتى أتى المهاجرون من قبائل شمعون فاحتلوا ديارهم5، ومن ثم أصبحنا لا نجد للعمالقة بعد ذلك ذكرًا في النصوص. بقيت نقطة أخيرة تتصل بعدم ذكر العمالقة في جملة قبائل العرب، وهذا "أولًا" لا يدل على أن العمالقة لم يكونوا عربًا، و"ثانيًا" لأن العبرانيين لم يطلقوا لفظة "عرب" إلا على أعراب البادية، ولا سيما بادية الشام6، و"ثالثًا" لأن العمالقة من أقدم الشعوب التي اصطدم بها بنو إسرائيل، ومن ثم فقد حملوا لهم حقدًا دفينًا، واليهود -كما معروف- قد تأثروا بعواطفهم نحو الشعوب التي يكتبون عنها، وأخيرًا "رابعًا" فإن العمالقة -في نظر اليهود- أقدم من القحطانيين والعدنايين، سواء بسواء7.   1 M.F. Unger.htm's Bible Dictionary, Chicago, 1970, P.41 2 ألويس موسل: شمال الحجاز ص35. 3 انظر: عن الخلافات في فترة حكم داود، كتابنا "إسرائيل" ص417-418. 4 صموئيل أول: 30: 1-30. 5 أخبار أيام أول: 4: 33. 6 A. Hastings, A Dictionary Of The Bible, Edinburgh, 1936, P.77 7 جواد علي: المرجع السابق ص347. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 8- حضوراء : يروي الأخباريون أن حضورا من نسل قحطان، وأنهم كانوا يقيمون بالرس، وهو إما موضع بحضرموت أو اليمامة، أو مكان كانت فيه ديار نفر من ثمود1، وإن كان "الهمداني" يرى أن الرس بناحية "صيهد"، وهي بلدة ما بين بيجان ومأرب والجوف، فنجران فالعقيق فالدهناء، فراجعًا إلى حضرموت، كما فسر الرس بمعنى "البئر القليلة الماء"2، وذهب اليعقوبي إلى أنها بين العراق والشام إلى حد الحجاز3. وقد ربط القرآن الكريم بين أصحاب الرس وبين عاد وثمود مرة4، وبينهم وبين قوم نوح وثمود مرة أخرى5، واختلف المفسرون فيمن أرسل إليهم نبيًّا من رب العالمين، فذهب فريق إلى أنه "شعيب بن ذي مهرع" أو مهدم، ومسجده اليوم في رأس جبل حدة حضور بن عدي، ويعرف رأس الجبل ببيت خولان6، وذهب فريق آخر إلى أنه "خالد بن سنان"، وكان رسول الله -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ- قد تحدث عنه، فقال: "ذاك نبي ضيعه قومه"7، وذهب فريق ثالث إلى أنه "حنظلة بن صفوان"، وقد وجد عند قبره هذه الكتابة "أنا حنظلة بن صفوان، أنا رسول الله، بعثني الله إلى حمير وهمدان والعريب من أهل اليمن فكذبوني   1 ياقوت 3/ 43-44، نهاية الأرب 13/ 88، تفسير الطبري 19/ 14، تفسير الييضاوي 2/ 145 2 الإكليل 1/ 121، البكري 2/ 652، 3/ 849، ياقوت 3/ 448، قارن المسعودي: مروج الذهب 2/ 131. 3 مروج الذهب 2/ 131. 4 سورة الفرقان: آية 38، وانظر: تفسير الطبري 19/ 13-16 "طبعة الحلبي 1954"، تفسير البيضاوي 2/ 145 "طبعة الحلبي 1968"، تفسير الجلالين "نسخة على هامش البيضاوي" 2/ 145. 5 سورة ق: آية 12 6 تاريخ ابن خلدون 2/ 20، نهاية الأرب 2/ 20، البكري 2/ 455-456، الإكليل 2/ 285-286، 400 مروج الذهب 2/ 1340. 7 الإصابة في تمييز الصحابة 1/ 468، جواد علي 1/ 348. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 وقتلوني"1 ويروي الأخباريون أن بختنصر- هو الإمبراطور البابلي نبوخذ نصر "605-562ق. م" قد غزا حضورا وأعمل السيف فيهم، فقتل الغالبية العظمى منهم، بينما هجر بقيتهم إلى أماكن أخرى من إمبراطوريته، وأما سبب ذلك فأن القوم قد كفروا بنبي لهم يدعى "شعيب بن مهدم بن ذي مهدم بن القدم بن حضور"، ومن ثم فقد أوحى إلى النبي اليهودي، "برخيا بن أخيبا" أن يترك نجران وأن يذهب إلى نبوخذ نصر، وأن يأمره "بغزو العرب الذين لا أغلاق لبيوتهم فيقتل مقاتليهم ويسبي ذراريهم ويستبيح أموالهم بسبب كفرهم"2. ويصدع "نبوخذ نصر" بأمر "برخيا" اليهودي، ويبدأ بمن في بلاده من تجار العرب، فيبني لهم "حيرا" في النجف يحبسهم فيه، ثم ينادي في الناس بالغزو، وتسمع العرب بما حدث فتأتي إلى "نبوخذ نصر"، تطلب الأمان وتعلن الولاء والخضوع، فلا يقبل الملك البابلي ذلك منهم إلا بعد استشارة "برخيا"، ثم ينزلهم "السواد" على ضفاف الفرات، حيث يبنون معسكرًا لهم يدعونه "الأنبار"، ثم سرعان ما يشمل العفو العرب الأولين من أهل الحيرة، الذين يستقرون هناك طيلة أيام نبوخذ نصر في هذه الدنيا، فإذا ما انتقل الرجل إلى العالم الآخر، انضم القوم إلى أهل الأنبار وعاشوا بينهم3. وتستمر الرواية -ولعلها هنا تعتمد على مصدر غير مصدرها الأول- فتذهب إلى أن الله قد أوحى إلى "إرمياء" و"برخيا" أن يذهبا إلى "معد بن عدنان" ويحملانه إلى "حران" ليحفظا عليه حياته هناك، لأن الله سوف يخرج من صلبه من يختم به الأنبياء -المصطفى صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ- ولأن بني إسرائيل قد بدءوا منذ مولد "معد بن عدنان" يقتلون أنبياءهم، وكان آخر من قُتِلَ "يحيى بن زكريا" عليهما السلام، كما فعل ذلك أهل الرس وأهل حضورا بأنبيائهم، وأن   1 الإكليل 1/ 120، كتاب المحبر ص6. 2 تاريخ الطبري 1/ 558-560، ابن الأثير 1/ 270-272، مروج الذهب 2/ 130-131، كتاب المحبر ص5-7، الإكليل 2/ 285-289. 3 ياقوت 2/ 328-331، الإكليل 2/ 286. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 النبيّيْن اليهودييْن -إرمياء وبرخيا- قد كتب لهما نجحا بعيد المدى في تحقيق مهمتهما، فقد حملا "معد" إلى حران في ساعة من زمان، وذلك لأن "برخيا" قد استعمل "البراق في مهمته، فحمل "معد" عليه، وأردف هو خلفه، ولأن الأرض كانت تُطْوَى لهما طيًّا. وفي هذه الأثناء كان "نبوخذ نصر" قد جمع جيشًا كثيفًا لإفناء سكان بلاد العرب -بناء على رؤيا رآها في المنام، أو لأن برخيا بوحي من ربه قد أمره بذلك- وأيًّا ما كان السبب، فإن "عدنان" والد معد، قد جمع هو كذلك جيشًا كثيفًا من العرب لمقاومة هجوم الملك البابلي، وسرعان ما التقى الجيشان في "ذات عرق" ودار بينهما قتال شديد، كانت الغلبة فيه من نصيب البابليين، ومن ثم فقد تابع "نبوخذ نصر" مسيرته في بلاد العرب، مطاردًا جيش "عدنان" المهزوم، حتى إذا ما أتى "حضورا"، كان "عدنان" قد جمع العرب -من عربة إلى حضورا- مرة ثانية، وخندق كل واحد من الفريقين على نفسه وأصحابه، إلا أن "نبوخذ نصر" قد أعدَّ للعرب كمينًا، وسرعان ما نادى منادٍ من السماء "يا لثارات الأنبياء"، فأخذتِ العربَ السيوفُ من كلِّ جانب، وحقق العاهلي البابلي نصرًا كاملا على العرب، وعاد بجم غفير من الأسرى والسبايا، حيث أسكنهم "الأنبار"، ثم ما أن يمضي حين من الدهر، حتى ينتقل "عدنان" إلى الدار الآخرة، وتبقى بلاد العرب بعده -وطوال أيام نبوخذ نصر- خرابًا. وأما "معد بن عدنان" فتذهب الرواية إلى أنه قد عاد من حران، ومعه أنبياء بني إسرائيل إلى مكة، ثم أتى "ريسوب" حتى تزوج هناك من "معانة" بنت "جرشم بن جلهمة" من ولد الحارث بن مضاض الجرهمي، والتي أنجبت له ولده "نزار"1. والرواية -كما قدمناها نقلا عن المؤرخين المسلمين- جد هشة، وسهام الريب توجه إليها من كل جانب، وليس بالوسع القول بأنها ترقى إلى ما فوق مظان الشبهات، بل هي نفسها شبهة، وشبهة ساذجة كذلك، حتى وإن تمسح مختلقوها بمعد بن عدنان -الجد الأعلى لمولانا وجدنا رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- فإنما هو العسل يوضع فيه السم، حتى يسهل ابتلاعه، ولكن هيهات، فأثر   1 ابن كثير: البداية والنهاية 2/ 192، ثم انظر: ياقوت 4/ 107-108، شفاء الغرام ص23، تاريخ الخميس ض166-167، بلوغ الأرب 1/ 2089، كتاب المحبر ص6-7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 الإسرائيليات فيها أوضح من أن يشار إليه، والأثر العربي عندما أضيف إليها، فإنما أضيف بطريقة فجة للغاية. ولعل أهم ما يلاحظ على هذه الرواية، إنما هي نقاط كثيرة، منها "أولًا" اعتبار "نبوخذ نصر" -وهو الوثني- هو الغيور على أنبياء الله، والمنتقم لقتلهم، وهذه نظرية يهودية صرفة، فالذي يقرأ التوراة يرى أنها تتخذ من الملوك الوثنيين أداة لربهم "يهوه" للانتقام من إسرائيل، شعبه المختار، حدث ذلك، عندما مسح "إليشع" النبي باسم "يهوه" ملك دمشق "حزائيل"1، رغم أنه ليس إسرائيليًّا، ولم يكن عابدًا ليهوه أبدًا، ذلك لأن رب إسرائيل -فيما يرى الحاخام الدكتور أبشتين- أراد أن يجعله سوط عذاب على إسرائيل، شعبه الآثم الشرير2. ومنها "ثانيًا" أن "برخيا" النبي اليهودي كان يقيم في نجران"، وأنه ذهب إلى "بابلط ليحرض -بأمر ربه- نبوخذ نصر ضد العرب، ولست أدري ما صلة "برخيا" هذا بنجران، والمعروف أن الرجل إنما كان يقيم في أورشليم، وبخاصة في الفترة التي كانت قوات "نبوخذ نصر" تدق أبوابها بعنف، وأن "باروخ" -وهذا هو اسمه الصحيح- وكذا سيده "إرميا" إنما كانا يعلنان في تلك الفترة الحرجة من تاريخ قومهما أن "نبوخذ نصر" هو خادم الرب يهوه، وأن قبضته حديدية ولن تكسر، ومن ثم فقد بدأ إرمياء نصائحه -كما جاءت في التوراة نفسها3- بضرورة الخضوع للعاهل البابلي، حتى أنه اتهم من قبل حكام يهوذا بإضعاف الروح المعنوية بين الجيش والشعب على السواء، ولهذا فليس من العجيب أن نبي الويل هذا، قد ألقي به في غياهب السجون لمجاهرته بالخذلان، ولم يطلق سراحه إلا بأمر من نبوخذ نصر، وإلا بعد أن سقطت أورشليم تحت أقدام البابليين، وأخذ الجزء الأكبر من سكانها أسارى إلى ضفاف الفرات -وهو ما عرف في التاريخ بالسبي البابلي في عام 586ق. م- وكان إرمياء نفسه من بين الأسرى، حيث منحه العاهل البابلي حريته، ربما مكافاة له على الدور الذي قام به في بث روح اليأس بين قومه، مما سهل للفاتح البابلي   1 ملوك أول 19: 15. 2 I. Epstein, Judaism, "Penguin Books", 1970, P.41 3 انظر مثلا: إرمياء 25: 1-14، 27: 5-22، 28: 12-17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 مهمته، وأكسبه نصره المبين1، بل إنك تقرأ عجبًا عن حماس إرمياء للملك البابلي في التوراة2، مما أثار الشكوك حول إرمياء وعلاقته ببابل، حتى ذهب البعض إلى أن النبي اليهودي إنما كان يعمل لحساب "نبوخذ نصر". ومنها "ثالثًا" أن الملك البابلي لا يقبل خضوع عرب الشمال له، إلا بإذن من "برخيا" ولست أدري كيف قبل من كتبوا هذا القصص، أن يجعلوا أقوى رجل في عصره يخضع لواحد من يهود، واليهود -كما نعرف- لم يروا منذ أيام الفراعين العظام في عصر الإمبراطورية المصرية "1575-1087ق. م"، وحتى أيام "نبوخذ نصر" "605-562ق. م"، أعني منذ خروجهم من مصر في حوالي عام 1214ق. م، وحتى السبي البابلي في عام 586ق. م- ما رأوه من إذلال على يد العاهل البابلي، ومن ثم فإني أتساءل مرة أخرى،: كيف يكون أثر الإسرائيليات أوضح من هذا في روايتنا هذه. ومنها "رابعًا" أن الملك البابلي الذي جعله هؤلاء المؤرخون المسلمون -ويا للعجب -يقوم بإفناء العرب -حتى في مواطنهم الأصلية- عقابًا لهم على كفرهم بأنبيائهم، هو نفسه الذي جعله هؤلاء المؤرخون أنفسهم، واحدًا من ملوك أربعة، ملكوا الدنيا بأسرها، وأعني بذلك تلك الأسطورة التي كثيرًا ما تتردد في الكتب العربية، والتي تقول: "ملك الأرض كافران ومؤمنان؛ فأما الكافران فنمرود وبختنصر، وأما المؤمنان فسليمان بن داود وذو القرنين"3، فإذا كان ذلك كذلك "وإن كنا لا نوافق على ذلك أبدًا"، فكيف أصبح نبوخذ نصر -عندما يتصل الأمر بالعرب- هو حامي الدين، والآخذ بثأر الأنبياء، وهو نفسه كافر   1 انظر: كتابنا "إسرائيل" ص529-535، وكذا: 12: 9، 24: 1، 26: 24، 27: 20، 29: 1-2، 38: 4، 39: 11-14، 41: 1-18، 43: 1-7. وكذا S.A. Cook, The Cambridge Ancient History, Iii, Cambridge, 1965, P.399-400 وكذا A. Malamat, The Last Wars Of The Kingdom Of Judah, In Jnes, 9, 1950, P.225 وكذا W. Keller, The Bible As History "Hodder And Sotughton", 1967, P.283-402 وكذا M. Noth, The History Of Israel, London, 1965, P.285-288 2 إرمياء 27: 8 3 تاريخ الطبري 1/ 191، ابن الأثير 1/ 94-95، أبو الفداء 1/ 13، ثم انظر: ابن كثير 1/ 148، المحبر ص392-393. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 بهذا الدين، وغير مؤمن بهؤلاء الأنبياء، إلا أن يكون مؤرخونا -يرحمهم الله- يرددون نظريات التوراة، التي سبق أن أشرنا إليها، والله وحده يعلم إن كانوا يعلمون ذلك أو لا يعلمون. ومنها "خامسًا" أن القصة تذكر أن مولد "معد بن عدنان" جاء في وقت بدأ فيه بنو إسرائيل يقتلون أنبياءهم، وكان آخر من قتلوا منهم "يحيى بن زكريا" عليهما السلام، ومن ثم فقد سلط الله نبوخذ نصر على العرب واليهود سواء بسواء. وسؤال البداهة الآن: كيف اتفقت هذه الأحداث جميعًا في زمن واحد؟ والمعروف تاريخيًّا أن "نبوخذ نصر" إنما كان يحكم في الفترة من "605-562ق. م"، فهل كان "معد بن عدنان" يعيش في هذه الفترة؟، وهل استشهد سيدنا يحيى عليه السلام فيها كذلك؟ إن الجواب على ذلك جد صعب، بالنسبة إلى "معد بن عدنان"، ومع ذلك فلو أخذنا برأي من يعتبرونهم الأئمة في نسب معد بن عدنان -كما يقول ابن كثير- لوجدنا أن بينه وبين جده إسماعيل بن إبراهيم، عليهما السلام، سبعة أجيال، فهو "ابن أدد بن مقوم بن ناحور بن تيرح بن يعرب بن يشجب بن نابت بن إسماعيل"1، بل إن هناك من يرى أنها أربعة أو خمسة أجيال، إذ يرون أن معد هذا، إنما هو "ابن أدد بن زيد بن يرى بن أعراق الثرى" وأما "يرى" فهو "نبت" أو نبايوت، وأما أعراق الثرى فهو إسماعيل بن إبراهيم، عليهما السلام2. وأننا لو أخذنا حتى بالاتجاه الأول، وافترضنا أن ما بين الجيل والجيل نصف قرن -وليس ربع قرن كما هو المعروف- لكانت الفترة بين عدنان وإسماعيل ثلاثة قرون ونصف -أو حتى أربعة قرون- وإذا ما تذكرنا أن إبراهيم الخليل كان يعيش في الفترة "حوالي 1940-1765ق. م" وإسماعيل في الفترة "حوالي 1854-1717ق. م" فإن معد بن عدنان كان يعيش إذن في الفترة ما بين القرنين الخامس عشر والثالث عشر قبل الميلاد، وليس في القرن السادس قبل الميلاد، ثم ما هذا الخليط الغريب من الأسماء العربية واليهودية في نسب "معد" هذا؟.   1 ابن كثير 1/ 193-8-1، تاريخ الطبري 2/ 2720275، ابن خلدون 2/ 298. ثم انظر: مروج الذهب 2/ 266-267، سيرة ابن هشام 1/ 10 "طبعة مكتبة الجمهورية بمصر" القلقشندي: نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب، بغداد 1958 ص24-25، 326-327. 2 تاريخ الطبري 2/ 275، ابن خلدون 2/ 298، نهاية الأرب للقلقشندي ص326. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 ثم ما صلة "يحيى بن زكريا" عليهما السلام بهذه الأحداث، وهو الذي عاصر المسيح عليه السلام، أي في بداية القرن الأول الميلادي، وليس السادس قبل الميلاد، ثم كيف عرفوا -أو بالأحرى كيف عرف برخيا- أن يحيى هو آخر أنبياء اليهود وأنه سوف يموت شهيدًا على أيديهم، وهو "أولًا" ليس آخر أنبياء اليهود، فذلك هو السيد المسيح عليه السلام، حيث أرسل لهداية "خراف بيت إسرائيل الضالة"1، و"ثانيًا" فإن حادث استشهاد يحيى لم يرد في أي نص من نصوص التوراة، وإنما كان ذلك في أناجيل النصارى، حيث يدعونه "يوحنا المعمدان"2 -الأمر الذي سوف نناقشه في مكانه من هذه الدراسة- وأخيرًا كيف غاب كل ذلك على مؤرخينا الكبار، أم أنه النقل عن يهود، حتى دون مناقشة، ثم هو ادعاء العلم من أحبار يهود، حتى لو كان ذلك العلم لم يرد في كتبهم المقدسة، توراة كانت أم تلمودا. ومنها "سادسًا" أن قصة الغزو جميعها ليست إلا ترديدًا لنبوءات إرمياء في التوراة، والتي تنبأ فيها بكل المصائب لليهود، وللمصريين والفلسطينيين والمؤابيين والأدوميين والعمونيين والآراميين والكلدانيين، وكذا لدمشق وحماة وقيدار وحاصور وعيلام وبابل، وكل ما يعرفه من أمم ومدن3. ومنها "سابعًا" أن الأخباريين يروون رواية أخرى تذهب إلى أن أبناء "معد بن عدنان" قد أغاروا على معسكر بني إسرائيل بقيادة موسى نفسه، وأن الكليم -عليه السلام- قد دعا عليهم ثلاث مرات ولم تجب دعوته؛ لأن من هؤلاء المصطفى، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ4، وبصرف النظر عن صدق الرواية أو كذبها، فإنها تشير إلى أن معد بن عدنان، إنما كان قبل موسى عليه السلام، وهو الذي كان في حوالي القرن الثالث عشر قبل الميلاد، طبقًا لأكثر النظريات تأخرًا من الناحية الزمنية5. ومنها "ثامنًا" أن حاصور التي يتحدث عنها إرمياء في التوراة6، إنما تقع في شمال بلاد العرب، وهي لا تعدو أن تكون عدة "إمارات" أو مشيخات" صغيرة،   1 إنجيل متى 15: 23-28؟. 2 متى 14: 2-11، مرقص 6: 17-28 3 انظر: سفر إرمياء، الإصحاحات من 44-51. 4 تاريخ الخميس ص167. 5 راجع نظريات خروج الإسرائيليين من مصر، في كتابنا "إسرائيل" ص268-303. 6 إرمياء 49: 28-33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 كما يفهم من عباراته وعن ممالك حاصور" والتي كانت تتاخم "قيدار"، ولعلها كانت في البادية1، وأن سكانها كانوا على خلاف أهل الوبر، يسكنون في بيوت ثابتة، كما كانت تقع في جنوب فلسطين أو شرقيها2، ومن هنا فلست أدري كيف جعل المؤرخون المسلمون "حاصور" هي "حضور" وأنها في اليمن -وليست في فلسطين- وأن "نبوخذ نصر" إنما غزاهم حماية للدين الحنيف، وانتقامًا لقتل الأنبياء، وهو نفسه كافر بهذا وذاك، ومن ثم فربما كان السبب في هذا الاضطراب -فيما يرى الدكتور جواد علي- أن حربًا قديمة ماحقة، أو كوارث طبيعية حدثت في حضور اليمن، وتركت أثرًا عميقًا في ذاكرة القوم، ثم جاء الأخباريون، وخاصة أولئك الذين لهم صلة بأهل الكتاب، فوجدوا شبهًا بين "حاصور" و"حضور"، وظنوا أن ما رواه "إرمياء" عن حاصور، إنما كان عن "حضور" اليمن، ثم أضافوا إليها ما شاء الله لهم أن يضيفوا على طريقتهم في هذا المجال3. ومنها "تاسعًا" أن قصة الغزو البابلي لبلاد العرب هذه، لم تكتف بترديد نبوءات إرمياء -كما جاءت في التوراة، وكما أشرنا إليها آنفًا- وإنما قد اختلطت فيها كذلك فتوحات "نبونيد" "555-53ق. م" في بلاد العرب، عندما أخضع أدومو وتيماء وديدان وخيبر ويثرب4، بفتوحات "نبوخذ نصر"، وإن كان هذا لا يمنعنا من القول بأن "نبوخذ نصر" قد أرسل حملة في العام السادس من حكمه "605-592ق. م" إلى سكان البادية، دون تحديد لبادية معينة، أو قبيلة بذاتها، وأن الحملة قد نجحت في نهب مواشي القوم وأخذ أصنامهم5.   1 J. Hastings, Op. Cit., P.334 2 T.K. Cheyne, Op. Cit., P.1978 3 جواد علي: المرجع السابق ص351-252. 4 جواد علي 1/ 609 وكذا S. Smith, Op. Cit., P.53, 88. وكذا A. Gardiner, Egypt Of The Pharaohs, P.363 وكذا R.P. Dougherty, Nabonidus And Belshazzar, New Haven, 1929, P.106-107. وكذا C.J. Gad, The Harran Inscriptions Of Nabonidus, As, 8, 1958, P.35, 70-80. وكذا A.R. Burn, Persia And The Greeks, P.38 وكذا Cah, 4, P.194 5 انظر: مقالنا "العرب وعلاقاتهم الدولية في العصور القديمة" مجلة كلية اللغة العربية والعلوم الاجتماعية، ص287-437، والرياض 1976م، وكذا. D.J. Wiseman, Chronicles Of Chaldaean Kings, London, 1956, P.32, 48, 70 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 ومنها أخيرًا "عاشرًا" أن "برخيا بن أخبيا" النبي اليهودي -كما يراه المؤرخون المسلمون- ليس في الواقع إلا "باروخ بن نيريا"، وأنه لم يكن أبدًا نبيًّا، وإنما كان كاتبًا وصديقًا للنبي اليهودي "إرمياء"، ومن ثم فهناك اتفاق بين علماء التوراة على أن "باروخ" هذا، هو الذي كتب سفر إرمياء- كما هو في التوراة المتداولة اليوم- في حوالي عام 605ق. م، وإن كانت الإصحاحات من الأول إلى السادس، إنما ترجع إلى الفترة ما بين عامي 627، 622ق. م1.   1 انظر كتابنا "إسرائيل" ص39، وكذا سفر إرمياء 45: 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 9- المديانيون : تحدث القرآن الكريم عن أهل مدين، وعن نبيهم الكريم شعيب عليه السلام1، في مواطن متفرقة من سوره2، ووفقا لما جاء في القرآن الكريم، فإن شعيبًا أتى مدين وأصحاب الأيكة، فنهاهم عن عبادة الأوثان، كما أمرهم أن يقيموا الوزن بالقسط ولا يخسروا الميزان3؛ ذلك لأن آفة مدين إنما كانت آفة كل المدن على مدرجة الطريق، ومن ثم فقد كانت قصتهم في القرآن قصة التجارة المحتكرة، والعبث بالكيل والميزان وبخس الأسعار والتربص بكل منهج من مناهج الطرق، وهكذا كانت رسالة شعيب عليه السلام، رسالة خلاص من شرور الاحتكار والخداع في البيئة التي تعرضت لها بحكم موقعها من طرق التجارة والمرافق المتبادلة بين الأمم4. وقد كان أهل مدين قومًا عربًا يسكنون مدينتهم "مدين" التي هي قرية من أرض معان في أطراف الشام مما يلي الحجاز، قريبًا من بحيرة قوم لوط5، هذا وقد   1 قدم المؤلف دراسة مفصلة عن "المديانيين" في كتابه "دراسات في التاريخ القرآني شغلت كل "الفصل الثامن" من الجزء الأول، من هذا الكتاب. 2 انظر: سورة الأعراف والتوبة وهود والحجر والحج والشعراء والقصص والعنكبوت وق وغيرها. 3 انظر: سورة الأعراف "85" وهود "84-85" والشعراء "181-183". 4 عباس العقاد: مطلع النور ص93-94، تفسير المعاني 8/ 176، 177، تفسير المنار 8/ 525-526، تفسير الطبري 12/ 554-555. 5 ابن كثير 1/ 184-185، ياقوت 5/ 77-87، 153-154، تفسير المنار 8/ 524. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 كانت مدين هذه إنما تمتد من خليج العقبة إلى مؤاب وطور سيناء1. ويفهم من أسفار التوراة أن مواطن المديانيين إنما كانت تقع إلى الشرق من العبرانيين، ويبدو أنهم قد توغلوا في المناطق الجنوبية لفلسطين، متخذين منها مواطن جديدة، عاشوا فيها أمدًا طويلا، حيث يرد ذكرهم في الأخبار المتأخرة، وقد ذكر بطليموس الجغرافي موضعًا يقال له "مودينا" على ساحل البحر الأحمر، يرى العلماء أنه موضع مدين، وأنه يتفق وحدود مدين المعروفة في الكتب العربية2: وأما "يوسبيوس" فيذكر مدينة "مديم" ويقول أنها سميت باسم أحد أولاد إبراهيم من زوجه قطوره، وهي تقع وراء المقاطعة العربية في الجنوب في بادية العرب الرحل إلى الشرق من البحر الأحمر3، وأما "ألويس موسل" فيذهب إلى أن أرض مدين يجب أن تكون إلى الشرق والجنوب الشرقي من مكان العقبة الحالية، فهناك كان يمر أهم طريق من طرق النقل التجاري4، هذا ويظهر من التوراة أن المدينيين قد غيروا مواضعهم مرارًا بدليل ما يرد فيها من اختلاطهم ببني قدم والعمالقة والكوشيين والإسماعيليين، ويبدو أنهم استقروا في القرون الأخيرة قبل الميلاد في جنوب وادي العربة، وإلى الشرق والجنوب الشرقي من العقبة5. ويرجح بعض الباحثين أن عصر شعيب إنما كان قبل عصر موسى، معتمدين في ذلك على أن الله سبحانه وتعالى قد ذكر شعيبًا في القرآن الكريم -كما في سورة الأعراف ويونس وهود والحج والعنكبوت- بعد نوح وهود وصالح ولوط، وقبل موسى6، وإذا ما عدنا إلى عصر الخليل عليه السلام "1940-1765ق. م"،   1 قاموس الكتاب المقدس 2/ 850. 2 جواد علي 1/ 455 وكذا J. Hastings, Op. Cit., P.616 وكذا T.K. Cheyne, Op. Cit., P.3081 وكذا Ptolemy, Geography, Vi, 7, 27. وكذا El, 3, P.104, 3 ألويس موسل: شمال الحجاز ص69. 4 نفس المرجع السابق ص83-84. 5 تكوين 25: 6، 37: 25، عدد 12، 1، حبقوق 3: 7 وكذا A. Musil, Op. Cit., P.287, 6 عبد الوهاب النجار قصص الأنبياء ص149. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 وتذكرنا أن لوطًا وقومه إنما كانوا معاصرين لأبي الأنبياء، لأمكننا القول أن شعيبًا وقومه إنما كانوا يعيشون بعد القرن الثامن عشر قبل الميلاد، بخاصة وأن التوراة تذكر أن مدين إنما كان من ولد الخليل من زوجه قطوره الكنعانية1. على أننا نستطيع من ناحية أخرى أن نقول -حدسًا عن غير يقين- أن القوم إنما كانوا يعيشون في القرن الثالث عشر قبل الميلاد، إذا ما كان صحيحًا ما ذهب إليه البعض من أن يثرون كاهن مدين وصهر موسى، إنما هو شعيب نبي مدين العربي، وذلك لأن رحلة الخروج من مصر، تحت قيادة موسى -وكذا لقائه مع صهره كاهن مدين -إنما كانت في هذا القرن الثالث ق. م2.   1 انظر: سورة الحجر "51-77" والعنكبوت "26-35" والذاريات "24-37"، وانظر: تكوين 14: 1-24، 18: 1-33، 25: 1-2، أخبار أيام أول 1/ 32. 2 ياقوت 5/ 77-78، والبكري 4/ 1201 مروج الذهب 1/ 61، تاريخ ابن خلدون 2/ 43، 82، العقاد: الثقافة العربية أسبق من ثقافة اليونان والعبريين ص80؛ كتابنا "إسرائيل" ص28-303. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 الفصل السادس: بلاد العرب فيما قبل العصر التاريخي ليس من شك في أن معلوماتنا عن بلاد العرب فيما قبل العصر التاريخي ضيئلة، لا تقدم لنا نفعًا كبيرًا لإقامة الهيكل التاريخي في تلك العصور الممعنة في القدم، ومن هنا فإننا سنحاول أن نقدم ما عثر عليه الأثريون في شبه الجزيرة العربية، وبخاصة في تلك الأماكن التي تقع عند الأودية، وعند الطرق والأماكن التي تتوافر فيها وسائل الحياة، والتي ترجع إلى فترات مختلفة من عصور ما قبل التاريخ، فضلا عن تلك الكهوف التي عاش فيها نفر من القوم في جنوب وغرب شبه الجزيرة العربية، في عصور ترجع إلى ما قبل الميلاد، بأمد لا ندري مداه على وجه التحديد، وقد تحدث الكتاب القدامى من الأغارقة والرومان عن تلك الكهوف، بل إن البعض ما يزال يتخذها سكنًا له في حضرموت، وفي غيرها من المواضع1. وأما أهم الآثار التي عثر عليها في شبه الجزيرة العربية من تلك العصور العتيقة، فمنها تلك الأدوات الحجرية التي عثر عليها في مواضع مختلفة من حضرموت، والتي لم تكن على مستوى نظيراتها في سورية أو في أفريقية، وقد حاول بعض الباحثين أن يرجع ذلك إلى طبيعة أحجار المنطقة نفسها، بينما ذهب آخرون إلى أن السبب في ذلك إنما يرجع إلى مستوى الحضارة نفسها، بالنسبة إلى الحضارات الأخرى2،   1 جواد علي 1/ 531، وكذا Van Der Muelen, Aden To The Hadharmaut, P.120, 200, 203 2 Fraya Stark, An Exploration In The Hadharmaut And Journey To The Coast, Gj, Xciii, 1939. P.30 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 على أن فريقًا ثالثًا إنما يذهب إلى أن عزلة حضرموت عن الحضارة الشمالية، فضلا عن صلتها القوية بأفريقية، إنما كانا من وراء ذلك كله1. وترى "مس كاتون طومسون" أن انفصال جنوب غربي بلاد العرب عن أفريقية الشرقية، قد حدث في حقبة "البليستوسين" -أي قبل مليون عام على أقل تقدير -وأن آلات الظران "حجر الصوان" التي عثر عليها في حضرموت تشبه كثيرًا تلك التي عثر عليها الباحثون في شرقي أفريقية2. أضف إلى ذلك أنه قد عثر في حضرموت كذلك على نماذج من الزجاج البركاني، الذي اتخذ أشكالا هندسية بفعل البراكين، يرى بعض الباحثين أنها ترجع في أصلها إلى سواحل أفريقية الشرقية3، ولعل هذا هو السبب الذي دعا "مس طومسون" إلى القول بأنه كانت توجد في شرق أفريقية ثقافة مركزية تفرعت عنها ثقافات متعددة، ليس في أفريقية وحدها، وإنما في آسيا كذلك، وتدلل "مس طومسون" على نظريتها في انفصال أفريقية عن آسيا، بأنه لا يوجد بين أدوات الظران التي عثر عليها في جنوب بلاد العرب بعض الأدوات المعروفة من العصور الحجرية القديمة "باليوليتية"، والتي كانت منتشرة في تلك الأيام الخوالي على طول أفريقية الشرقية من الشمال إلى الجنوب4. على أن الدكتور سليمان حزين يرى أنه إذا كان ولا بد لنا من البحث عن أي الجهتين -شرقي أفريقية أو جنوبي بلاد العرب- أقدم ثقافة، فإن بلاد العرب هي الأقدم، وأن الثقافة قد انتقلت منها في العصور الحجرية القديمة إلى شرقي أفريقية5، وذلك لأن اليمن وعدن كانتا في تلك العصور الحجرية القديمة مأهولتين بالسكان، وأن قسمًا من هؤلاء السكان قد هاجر إلى عمان ومناطق الخليج العربي، كما هاجر   1 جواد علي: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، الجزء الأول ص530. 2 G. Caton Thompson And E.W. Gardiner, Climate, Irrigation And Early Man In The Hadharmaut, Geographical Journal, 93, 1939, P.18-19, 29-35 3 جواد علي 1/ 531. 4 أحمد فخري: المرجع السابق ص123 وكذا G. Caton Thompson And E. Gardiner, Op. Cit., 5 أحمد فخري: المرجع السابق ص123 وكذا S.A. Huzayyin, Nature, Vol. Xi, 1937, P.513-514 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 قسم آخر -عن طريق مأرب ونجران- إلى شبه جزيرة سيناء، وإلى فلسطين والأردن بينما ذهب فريق ثالث -عن طريق باب المندب- إلى الصومال وكينيا وتنجانيقا1. هذا وقد استمرت هذه الهجرات إلى السواحل الأفريقية، حتى في العصور التاريخية، وربما يرجع ذلك إلى العوامل المناخية والاقتصادية، فضلا عن المصالح التجارية الخارجية، وهكذا كانت حركة التجارة، فضلا عن ثروات أفريقية، دافعًا قويًّا إلى الفتح والاستيطان الدائم، ومن ثم رأينا العرب الجنوبيين يهاجرون إلى أفريقية، وبمرور الزمن أخذوا يستقرون هناك ثم سرعان ما يلعبون دورًا خطيرًا في إرساء قواعد حضارة وثقافة تنبثق من صميم الحضارة في جنوب شبه الجزيرة العربية، وهكذا بدا العرب الجنوبيون يتجهون نحو أفريقية منذ وقت مبكر، على دفعات متعددة، وفي أوقات مختلفة، وفي الألفي سنة الأخيرة قبل الميلاد هاجرت جماعات عربية جنوبية إلى الحبشة، وبلغت هذه الهجرات أقصاها فيما بين عامي 1500، 300ق. م2. ويرى "كارل بيترز" أن جالية عربية كانت تعيش في المنطقة الواقعة بين نهري الزمبيزي واللمبوبو، منذ الألف الثاني قبل الميلاد، وأن المعبد الكبير في "زمببوية" بني عام 1100ق. م، وأن السبئيين كانوا أصحاب السيادة في ذلك الوقت3، على أن الأمر، إنما يزداد وضوحًا منذ القرن السادس قيل الميلاد، حيث نزحت جالية سبئية إلى منطقة "تعزية" في أريتيريا -وكذا إلى هضبة الحبشة- مكونة حكومة محلية هناك4، ولعل هجرة الأوسانيين إلى السواحل الأفريقية، إنما كانت في نفس الفترة، حيث اتخذوا من "عزانيا" مقرًّا لهم، أضف إلى ذلك كله تلك الهجرة السبئية التي حدثت في القرن الخامس قبل الميلاد5.   1 جواد علي 1/ 532 وكذا A. Grohmann, Arabien, Munchen, 1963, P.15 2 انظر: مقالنا "العرب وعلاقاتهم الدولية في العصور القديمة"، مجلة كلية اللغة العربية، الرياض 1976 ص287-437، صلاح الشامي: المواني السودانية ص63، موسكاتي، المرجع السابق ص213، مصطفى مسعد: الإسلام والنوبة في العصور الوسطى ص107. 3 فضلو حوراني: العرب والملاحة في المحيط الهندي، ترجمة يعقوب بكر ص128، وكذا Carl Peters, The Eldorado Of The Ancient, P.271-272 4 A. Grohmann, Op. Cit., P.25 5 جواد علي 3/ 450. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 وأيًّا ما كان الأمر، فهناك حقيقة ثابتة، تتلخص في وجود ثقافة من العصر الحجري القديم في بلاد العرب، وأن هذه الثقافة تشبه إلى حد كبير ما عثر عليه في أفريقية، كما تشبه كذلك -مع وجود اختلافات غير قليلة- ما عثر عليه الباحثون من رجال عصور ما قبل التاريخ في سورية والعراق1. وربما كان نصيب شرق شبه الجزيرة العربية من آثار عصور ما قبل التاريخ أفضل من غيرها، ففي خلال النصف الأخير من هذا القرن استقطبت بلاد العرب -خصوصا الجزء الشرقي منها، بما في ذلك ساحل الخليج العربي- أنظار علماء الآثار عامة، نتيجة للأبحاث التي قامت بها بعثة علمية دنمركية في أجزاء مختلفة من عمان وأبو ظبي وقطر والبحرين والكويت، وأهم ما لفت أنظار المجتمع العلمي هو الكشف عن عاصمة البحرين القديمة، والتي كانت تعرف سابقا بمركز حضارة دلمون2، والتي جاء ذكرها في النصوص السومرية، واشتهر ذكرها في مجال التجارة الدولية وقت ذاك بين مراكز الحضارة في سومر وبلاد نهر السند في باكستان الحالية، ومن ثم فعندما برزت نتائج التنقيبات عن "دلمون" في جزيرة البحرين، تأكدت   1 أحمد فخري: المرجع السابق ص124. 2 كان العلماء مختلفين في موقع "دلمون" السومرية هذه، فذهب بعضهم إلى أنها في الجهة الجنوبية الغرببية من بلاد فارس -أي في الجزء الشرقي من ساحل الخليج العربي - "S.N. Kramer, Dilmun, The Land Of The Living, Basor, 96, P.18-28" وذهب فريق آخر إلى أنها منطقة وادي السند "S.N. Kramer, The Indus Civilization And Dilmun The Sumerian Paradise Land, Expedition, Philadelphia, 1964, P.45" وذهب فريق ثالث إلى أنها سهول العراق الكائنة إلى جنوب غرب بابل "جون الدر،: الأحجار تتكلم، ترجمة عزت زكي ص30" بل إن هناك من رأى أنها إنما تقع في القسم الشرقي من جزيرة العرب بين مجان وبيت نبسانو "F. Hommel, Grundriss I, P. 250" على أن غالبية العلماء إنما تكاد تجمع على أن موقع دلمون هذه، إنما هو جزيرة البحريزن الحالية، أو جزيرة البحرين والساحل المقابل لها "انظر: مقالنا: دراسة حول: قصة الطوفان بين الآثار والكتب المقدسة، مجلة كلية اللغة العربية، العدد الخامس، الرياض 1976 ص390. وكذا P.B. Cornwell, On The Location Of Dilmun, Basor, 103, 1946, P.3-11 وكذا J. Finegan, Light From The Ancient Past, Princeton, 1969, P.32 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 مجددا تلك الأهمية البارزة التي أولتها كتابات السومريين1 القدامى لهذه المنطقة2. وعلى أي حال، فلقد تتم العثور في الإحساء وفي قطر -وبخاصة في عوينات علي، وجنوب دخان- على فؤوس ونبال، فضلا عن كميات من حجر الصوان، ترجع إلى العصور "الباليوليثية" و"النيوليثية"3. هذا وقد عثرت البعثة الدنمركية في عامي 1958/ 1959م ي "تل سعد وسعيد" الواقع في الزاوية الجنوبية الغربية من جزيرة "فيلكا" وتقع على مبعدة 30 كيلو مترا إلى الشرق من مدينة الكويت -على بعض الأختام، وعلى أنقاض من مدينة قديمة في طبقات بُني بعضها فوق بعض، ما عثرت على كسر من الفخار يرجع تاريخها إلى منتصف الألف الثالثة قبل الميلاد، فضلا عن ختم مستدير من حجر التلك، يختلف عن أحجار العراق الأسطوانية -وكذا عن أختام الهند المربعة- وقد نقش من الناحيتين، هذا وقد أرخت البعثة تل سعد -اعتمادًا على فحص طبقات التل، ودراسة الفخار المتنوع الأشكال -بالعصر النحاسي "أي حوالي عام 3500ق. م" أما تل سعد، فقد أرخته بالعصر اليوناني4. وهناك فريق من الباحثين يذهب إلى أن جزيرة البحرين "وهيTyiosعند   1 يتفق الباحثون على أن السومريين جنس غير سامي، وأن لغتهم غريبة لا تشبه اللغات السامية، ولا يعلم زمن مجئيهم إلى وادي الرافدين، وإن ذهب البعض إلى أن ذلك ربما كان في فترة مبكرة من الألف الرابعة قبل الميلاد، وقد اختلفت الأرآء في موطنهم الأصلي، فقد ذكرت أساطيرهم أنهم جاءوا من الجنوب، ومن ثم ذهب رأي إلى أنهم مهاجرون من منطقة البحرين بعد أن استقروا في غربي إيران فترة من وذهب رأي ثان إلى اعتبارهم بدوا مما وراء القوقاز أو بحر قزوين، ويرى آخرون أنهم جاءوا من آسيا الصغرى، بينما ذهب رأي ثالث إلى أنهم جاءوا من السند، بل لقد اتجه فريق رابع إلى أنهم من الأقوام التي قطنت العراق في عصور ما قبل التاريخ، وأن حضارتهم أصيلة في العراق، بل ويمكن تسمية أهل حضارة "العبيد" بالسومريين، على الرغم من عدم معرفتنا للغة أهل حضارة للعبيد "انظر: أحمد فخري: المرجع السابق ص28، عبد العزيز صالح: مصر والعراق ص386، طه باقر مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة جـ1 ص89-90 وكذا E.A. Speiser, The Sumerian Problem Reviewed وكذا Aja, 52, 1948, P.156-164 2 عبد الله حسن مصري: آثار شرق الجزيرة ودورها في نشأة حضارة سومر: مجلة الدارة، العدد الأول، الرياض 1976 ص69-70. 3 جواد علي 1/ 531، تقرير عن الحفريات الأثرية في جزيرة فيلكا "1958/ 1959"، الكويت، ص24. 4 عبد الحميد زايد: الشرق الخالد، القاهرة 1966 ص30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 بليني، وTyrus عند سترابو"، إنما كانت مأهولة بالسكان منذ العصور الجليدية المتأخرة في أوربا، وأن جو البحرين وقت ذاك إنما يشبه مثيله في بلاد اليونان في أيامنا هذه، وأن البحرين إنما كانت خضراء تغطيها الغابات1، وإذا صحت المعلومات التي وصلت إلى الفيلسوف اليوناني "ثيوفراستوس" "371-287ق. م"، فقد كانت تزرع في البحرين مساحات كبيرة من القطن، وأنه كان يوجد في هذه الجزيرة مساحات كبيرة لإنباته، وقد أشار "بليني "32-79م" إلى استمرار زراعة القطن في "Tyios" أو "Aradus" حتى أيامه2. وأما سكان البحرين فقد كانوا قومًا من الصيادين، يعيشون على ما يقنصونه من حيوان، وما يصطادونه من أسماك، وقد عثر على أدوات من حجر الصوان كان القوم يستخدمونها في صيدهم وفي تقطيع لحوم الفرائس التي تقع في أيديهم، وأن هذه الأدوات المكتشفة إنما تنتمي إلى أواسط عصور "Paiothitic"، كما أنها تشبه مثيلاتها في شمال العراق وفلسطين وشمال غرب الهند3. هذا وقد عثر في البحرين كذلك على رؤوس حراب وسكاكين، صنعها أصحابها من صخور صوانية، وقدر لها بعض الباحثين عمرًا يتراوح ما بين عشرة آلاف واثني عشر ألف سنة، ومن ثم فربما ترجع إلى أخريات أيام الرعي، وبداية عهد الاستقرار، بدليل أن منها أحجارًا شذبت لتكون آلات حصد للمحاصيل، فضلا عن قطع الحشائش واجتثاثها من الأرض4. وأما في وسط شبه الجزيرة العربية، فقد عثر في مواضع مختلفة من المملكة العربية السعودية -تمتد من الاحساء شرقًا إلى إلى الحجاز غربًا، ومن مدائن صالح شمالا، وحتى نجران جنوبًا -على أدوات حجرية تنتمي إلى تلك العصور المبكرة، كما في "الدوادمي"- وتقع على الطريق بين مكة والرياض، وعلى مبعدة 336 كيلو مترًا إلى الغرب من الرياض -حيث عثر على أدوات حجرية من بينها فأس تميل لونها إلى الخضرة5، وكما في "تل الهبر" إذ كان الصيادون في عصور ما   1 جواد علي 1/ 534. 2 عبد الحميد زايد: الشرق الخالد ص127. 3 جواد علي 1/ 534. وكذا James, H.D. Belgrave, Welcome To Bahrain, London, 1966, P.50. 4 Ibid., P.51 5 P.B. Cornwall, Ancient Arabia, Exploration In Hasa, 1940-1941, In Gj, Cvii, 1946, P.39 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 قبل التاريخ يتنقلون باتجاه الأودية من مكان إلى آخر، وقد ترك الصيادون -ثم الرعاة من بعدهم- بعض الآثار في الأماكن التي حلوا بها حينًا من الدهر، وما برح السياح، وخبراء شركة "أرامكو" وغيرهم، يعثرون على بعض منها، بين الحين والحين1. وأما في شمال شبه الجزيرة العربية، فقد عثر في "كلوة"، عند سفح جبل الطبيق، على آثار رأى بعض الباحثين أنها ترجع إلى الألف الستين قبل الميلاد، وأن تاريخ السكنى بها، إنما يرجع إلى الألف الثامنة قبل الميلاد2. ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن الباحثين لم يوفقوا بعد في العثور على هياكل كاملة للإنسان من عصور ما قبل التاريخ في شبه الجزيرة العربية، أو حتى سيناء، وإن كان بعض رجال شركة "أرامكو" قد عثروا على بقايا عظام وأسنان لبعض الحيوانات "الحلمية" "Mastodom"، وعلى جزء من جمجمة إنسان قديم، في موضع يبعد تسعين ميلا إلى الغرب من "الدمام"، إلا أن ذلك لا يمكن الباحثين من إعطاء رأي علمي فيما يتصل بالحياة في عصور ما قبل التاريخ، حتى وإن أمكن العثور على مثل هذه البقايا في أماكن أخرى من شبه الجزيرة العربية3. على أن البحرين قدمت للباحثين هيكلين كاملين، رأينا الميت فيهما يرقد على جنبه الأيمن، ويتجه بوجهه نحو المشرق، الأمر الذي كان يتبعه سكان العراق القديم في الألف الثالثة قبل الميلاد4. كما وجدت في المقبرة بقايا عظام حيوانات، فضلا عن أدوات بيت الميت وحليه، ولعلهم في هذا يشبهون المصريين القدامى الذين كانوا يعتقدون في الحياة الآخرة، وأنها على غرار الحياة الدنيا، ومن ثم فقد كانوا يضعون في مقبرة الميت ما قد يحتاجه من متاع في هذه الحياة الأخرى. وأما أبواب مقابر البحرين هذه، ففي الناحية الأخرى من اتجاه الميت -أي في   1 H. Field, Papers Of The Pesbody Museum, 48/ 2, 1956, P.63 وكذا A. Grohmann Op. Cit., P.15 2 جواد علي 1/.532 وكذا A. Grohmann, Op. Cit., P.16 وكذا N. Glueck, The Other Side Of The Jordan, New Haven, 1940, P.43 3 جواد علي 1/ 536، وكذا P.B. Cornwall, Op. Cit., P.39 4 J.H.D. Belgrave, Op. Cit., P.52 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 الناحية الغربية- وربما كان لذلك صلة بدين القوم، وربما كانوا -مرة أخرى- يشبهون المصريين الذين كانوا يطلقون على عالم الموت اسم "عالم الغرب"، كما كان الموتى يسمون "أهل الغرب"، بل إن مقابرهم إنما كانت في كثير من الأحايين، إنما تقع على الضفة الغربية من النيل. وأيًّا ما كان الأمر، فإن هناك من يرى أن القوم إنما كانوا يسكنون على ساحل الخليج العربي، بينما يتخذون من جزيرة البحرين مقبرة لموتاهم، على أن فريقًا آخر إنما يذهب إلى أن تلك المقابر، إنما كانت مقابر الفينيقيين الذين كانوا يقطنون البحرين بعد هجرتهم إليها من الأفلاج والخرج، وأنها إنما ترجع إلى الفترة ما بين عامي 3000 و 1500 قبل الميلاد1، على أن هناك من يعارض هذا الاتجاه أصلا، ويرفض أن يكون الفينيقيون من هناك2. هذا وقد عثرت البعثة الدنماركية في عام 1959م3 جنوب طريق البديع في البحرين، على أربع مقابر، ترجع إلى العصور الحجرية، كما عثر بعض السياح على تلال في مواضع متفرقة في كل من عمان وقطر، ترجع إلى ما قبل الميلاد، هذا وقد عثر رجال شركة "أرامكو" على مقابر كثيرة في جبلي المذري الشمالي والجنوبي4، فضلا عما عثر عليه "جون فلبي" و"كورنول" من مقابر في جنوب غرب شبه الجزيرة العربية، وفي "الرديف" -على مبعدة 110 أميال شمالي غربي الدمام- وفي "الرويق"، وفي مرتفعات العلم الأبيض والعلم الأسود، وفي كثير من هذه المقابر تمكن الباحثون من الحصول على أدوات من الفخار، وعلى قطع من العاج، وعلى قشور من بيض النعام، وعلى أسلحة برونزية كما استدلوا من وجود   1 H. St. J.B. Philby, Sheba's Daughters, 1939, P.373 وكذا جواد علي 1/ 539-540 وكذا R. Sanger, Op. Cit., P.141 وكذا Ei, I, P.585 وانظر: كتابنا "إسرائيل" ص335. 2 سير أرنولد ويلسون: الخليج العربي، ترجمة عبد القادر يوسف، الكويت، ص77-79: 3 P.V. Glob, Archaeological Investigations In Four Arab States, 1959, P.238 4 J.B. Philby, Oa. Cit., P.373 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 بعضها في مناطق صحراوية بعيدة عن العمران الآن، على أن هذه المناطق إنما كانت مأهولة بالسكان في تلك العصور العتيقة1. ومن أسف أننا لا نملك دراسة علمية مقارنة عن هذه المقابر، ومن ثم فقد ذهب البعض إلى أنها إنما ترجع إلى عصر "Chaicoithic"، أو إلى العصر البرونزي، بينما ذهب آخرون إلى أنها إنما ترجع إلى العصر البرونزي المتأخر2، هذا وقد ذهب فريق ثالث إلى أن مقابر "أم النار"، في أبو ظبي، إنما ترجع إلى الألف الثالثة "ق. م"3، وأما عن أصحاب هذه المقابر، فإن الباحثين يتجهون إلى أن مقابر المرتفعات إنما كانت للصيادين أو الرعاة، بينما كانت مقابر السهول للمزارعين المستقرين4. ولعل مما تجدر ملاحظته أنه قد تبين من مخلفات المقابر في أم النار أنها إنما تضم العديد من الهياكل العظمية المتكدسة في المدفن المشترك، ويقل العدد في غرف الدفن والممرات، مما يدل على أن القبر قد استخدم مرات عديدة، هذا ويدل وجود الهياكل العظمية خارج الجدران الخارجية على وجود ظاهرة التضحية البشرية التي تواكب مراسم الدفن حيث توضع جثث الأشخاص الذين يضحى بهم مع بعض خارج المبنى الذي يضم جثة المتوفى5. وإنه لمن الأهمية بمكان الإشارة إلى وجود مراكز استيطان عديدة في شمال شرق الجزيرة العربية، تنتمي إلى حضارة "العبيد" في العراق القديم، من الناحية الزمنية، فضلا عن تشابه حضاري بينهما، وأما موقع هذه المراكز فقد كان بحذاء الساحل، وفي داخل المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية، ولعل من المفيد هنا أن نشير إلى أن منطقة شرق الجزيرة العربية لم تخضع لتطورات عصور ما قبل التاريخ في منطقة الشرق الأدنى القديم، والتي انتقلت من مرحلة الصيد وجمع   1 P.B. Cornwall, Op. Cit., P.36-37. وكذا J.B. Philby, Op. Cit., P.373 2 R. Sanger, Op. Cit., P.141 3 جواد علي 1/ 541-542، تقرير عن الحفريات الأثرية في فيلكا، الكويت ص24. 4 P.B. Cornwall, Op. Cit., P.37 5 G. Bibby, Looking For Dilmun, P.212 وكذا K. Thorvildsen, Kuml, 1962, P.217-218 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 الغذاء "حوالي 9000ق. م" إلى مرحلة استئناس الحيوان ثم الزراعة "حوالي 7000ق. م"، فمرحلة القرى الزراعية، ثم مرحلة التجمعات الزراعية "عصر العبيد"1. وعلى أي حال، فلقد اكتشف في شمال شرق الجزيرة العربية أكثر من ثلاثين موقعًا، ينتمي إلى حضارة العبيد، فيها أربعة عبارة عن أماكن استقرار، والباقي مناطق سطحية تحيط بالأربعة السابقة، وتتوزع هذه المناطق على مساحة واسعة داخل المنطقة الشرقية -وكذا على الساحل، وتوجد الأولى في العروض الجنوبية، بينما توجد الثانية في العروض الشمالية، وإن اتفقت جميعًا في الفخار الملون -وكذا الأدوات التي عثر عليها فيها- إنما تتشابه جميعًا مع مثيلاتها في منطقة العبيد2.   1 حضارة العبيد: وتمثل أقدم أطوار فجر الحضارة في العراق الجنوبي، وإن انتشرت في جميع أنحاء العراق، شماله وجنوب، وقد أخذت اسمها من تل على بضعة كيلو مترات إلى الغرب من "الناصرية" قرب مدينة "أريدو" "أبو شهرين"، ويمثلها في الشمال ما عثر عليه من آثار في "ثبة كورا" و"نوزي" و"تل حسونة" و"نينوى" و"تل حلف"، وأما في الجنوب: فأهم مواقعها "أبو شهرين" و"أور" و"لجش"، و"قلعة الحاج محمد" و"الوركاء"، وقد أثبتت الدراسة المقارنة لحضارات العبيد الشمالية والجنوبية وجود تشابه واختلاف بين إنتاج هاتين الحضارتين، ولكنهما ينتميان أصلا إلى حضارة واحدة، سرعان ما تأثرت بالبيئة المحيطة بها، فأعطتها شكلها المعين. وهناك من الباحثين من يرى أن حضارة العبيد ليست تطورًا لغيرها من الحضارات السابقة، وإنما هي حضارة مستوردة من الهضبة الإيرانية، جاء أصحابها من جنوب غرب إيران في أوائل الألف الرابعة ق. م، أو قبلها بقليل، بينما يذهب آخرون إلى أنها من المنطقة الشمالية "بلاد الآشوريين فيما بعد"، على أن هناك رأيًا حديثًا يتجه بها إلى الجنوب "شرقي جزيرة العرب"، وأنها ليست دخيلة على المنطقة، وإنما نشأت من جراء تطور طبيعي، سبقته مراحل عديدة خلال العصر الحجري الحديث "انظر: نجيب ميخائيل، مصر والشرق الأدنى القديم 5/ 63-65، طه باقر: المرجع السابق، رشيد الناضوري: جنوب غربي آسيا وشمال إفريقيا، الكتاب الأول -بيروت 1968م، وكذا G. Roux, Ancient Iraq, 1966 وكذا Jnes, Iii, 1944, P.47. وكذا Summer, Iii, 1947, P.84f, Iv, 1948, P.115f وكذا A.L. Perkins, The Comparative Stratigraphy Of Early Mesopotamia, 1949 وكذا H. Frankfort, The Art And Architecture Of The Ancient Orient, 1958 2 A.H. Masry, Prehistory In Northeastern Arabia, The Problem Of Interregional Interaction, Miami, Florida, 1974, P.1-11 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 شرق الجزيرة العربية وسكان جنوب العراق من أولئك الذين كانوا يحترفون الصيد وجمع الغذاء، وأن مجموعات بشرية من شرق الجزيرة العربية قد هاجرت إلى السهل الفيضي القريب منهم، وساهمت بذلك في خلق نوع من التفاعل الثقافي، ومن ثم فقد كان هناك تبادل بين جنوب العراق وشمال شرق الجزيرة العربية في الأدوات الحجرية والمنتجات البحرية إبان عصر العبيد، وربما أدى هذا التبادل إلى هجرات دورية من جانب الرعاة والصيادين أو جامعي الغذاء، إن التطور الاقتصادي في كل من المنطقتين "الصيد والجمع وصيد الأسمال في شرق الجزيرة العربية، والزراعة في جنوب العراق" قد ساعد على عملية التبادل المادي والحضاري بين الناحيتين1. وعلى أي حال، فلقد كان من نتائج فحص مناطق الاستقرار التي تنتمي إلى حضارة العبيد في شمال شرق الجزيرة العربية، أن الجنوب قد سادت فيه حضارة العبيد المبكرة، بينما سادت في الشمال نفس الحضارة في عصرها المتأخر، وإن عثر في موقع وحيد -على مقربة من قرية الهفوف- على فخار يشبه فخار العبيد المبكر، كما أن الحضارات التي تعاقبت بعد ذلك في جنوب العراق -كالوركاء وما قبل الكتابة- لا أثر لها في تلك المواقع التي عثر فيها على حضارة العبيد في بلاد العرب، كما أنه ليس هناك من دليل على وجود لحضارة العبيد في جزيرة "تارون"، والتي ظهر أن حضارتها إنما كانت على صلة مباشرة بحضارة الخليج العربي التي تنتمي إلى منتصف الألف الثالثة ق. م، وفيما بعد، مثل حضارة البحرين2. ولعل من نتائج ذلك كله أن هناك عناصر حضارية ثلاثة في شرق الجزيرة العربية في عصور ما قبل التاريخ، تميزت الواحدة بصناعة الأدوات الحجرية، وتأثرت الثانية بحضارة العبيد، وأما الثالثة -ويمثلها موقع جزيرة تارون- فتنتمي إلى حضارة الألف الثالثة ق. م، وما بعدها، وقد كانت نتيجة للعلاقات التجارية بين الجانبين، والتي قامت فيها شواطئ الخليج بدور مهم3. وطبقًا لعلم الطبقات، فإن العنصرين الحضاريين وجدا أنهما على علاقة مباشرة ومتتابعة في موقع "عين قناص" في الداخل، وفي جنوب غرب المنطقة الشرقية،   1 Ibid., P.16 2 G. Bibby Looking, For Dilmun, N.Y., 1969. وكذا A.H. Masry, Op. Cit., P.17-18 3 Abdullah Hassan Masry, Op. Cit., P.18-19 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 فضلا عن ذلك، فإن تحليل الرواسب من هذا الموقع أمدنا بدليل مباشر على تواجد سكاني دوري في المنطقة في العصر الحجري، وهكذا يمكننا أن نستنتج أن حركات سكانية وهجرات دورية حدثت على المدى الطويل تجاه الوادي الغريني في جنوب العراق، ومن الممكن أن نظن أن مواطن الاستقرار التي تنتمي إلى حضارة العبيد في بلاد العرب، خاصة تلك التي تقع على طول الساحل، تبادلت المواد الخام مع مثيلاتها في جنوب العراق، فلقد كانت مواد التبادل هذه تتمثل في الأصداف واللآلئ والمنتجات البحرية الأخرى، فضلا عن المواد الحجرية المنتجة من سواحل الجزيرة العربية، كما أن وجود حجر الأوبسيديون في مواقع الجزيرة العربية، لدليل على العلاقات بين هذه الأخيرة وبين الشمال عن طريق جنوب العراق1. ومما هو جدير بالملاحظة أن الفترة التي بدأت تتكون فيها المدن في العراق، قد توافقت زمنيًّا مع فترة اختفاء حضارة العبيد في الجزيرة العربية، مما يحمل على الظن بأن هجرة كبيرة من سكان الجزيرة نزحت إلى العراق القديم في نهاية الألف الرابعة قبل الميلاد، وهذا يتفق مع ما افترضه العلماء من أن تدفق السكان على سهول العراق كان حاسمًا في قيام المراكز المدنية هناك2. وعلى أي حال، فلعل من الأهمية بمكان الإشارة هنا إلى المراكز الحضارية في منطقة الخليج العربي إنما قد تأثرت في عصور ما قبيل الكتابة بحضارات جنوبي بلاد الرافدين -كما أشرنا من قبل- ووادي السند ووادي النيل وإيران، ذلك لأن المراحل الأخيرة في عصور ما قبل التاريخ إنما قد تأثرت إلى حد كبير بظاهرة الاتصالات الخارجية3. وهناك ما يشير إلى تشابه في أشكال الأدوات الفخارية التي تنتمي إلى عصر حضارة العبيد، وتلك التي في موقع أم النار في أبو ظبي بدولة الإمارات العربية، وموقع باكون بإقليم فارس4 في إيران.   1 A.H. Masry, P. Cit., P.19 2 A.H. Masry, Op. Cit., P.20 3 رشيد الناضوري: جنوب غربي آسيا وشمال أفريقيا -الكتاب الأول- ص235-237. 4 يقع إقليم فارس في الجنوب الغربي من إيران ويوازي ساحل الخليج العربي، وأهم مواقعه الأثرية موقع باكون، ويقع على مبعدة 2.5 كيلو مترا جنوب بيرسبوليس القريبة من شيراز في سهول "مرفت داست" "D. Mccown, Saoc, 23, 1957, P.23." الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 هذا وقد قامت منطقة الخليج العربي بدور فعال في الاتصال بين حضارة جنوب وادي الرافدين وواد السند، وهناك ما يشير إلى أن تجار منطقة وادي السند قد مارسوا التجارة مع سكان الخليج العربي ومدن وادي الرافدين1. وفي هذا المجال فقد عثر في أم النار و"هيلي"- على مبعدة عشرة كيلو مترات من مدينة العين- على أواني فخارية تحمل زخارف تشبه تلك التي عثر عليها في وادي السند، هذا ويستدل على الاتصال التجاري مع وادي السند من العثور على العديد من الأختام المربعة التي تتميز بها حضارة وادي السند في فيلكا وفي البحرين وكذا العثور على أختام دائرية في موقع وادي السند يعود أصلها إلى فيلكا والبحرين2. هذا وقد تبين من الدراسة والمقارنة لفخار أم النار، وفخار "كولي" أن الأول ينتمي إلى الألف الثالثة قبل الميلاد، وأن التشابه بين النوعين إنما يكمن في الصناعة وتطبيق الألوان وأسلوب الزخرفة والحفر البارز، وإن تميز فخار أم النار بتعدد ألوانه وأشكاله وزخارفه3. وفي موقع بلوخستان الإيراني يوجد موقع "بامبور" "بجنوب شرق إيران" ويضم ست طبقات تؤرخ ابتداء من الربع الثاني من الألف الثالثة ق. م، وحتى بداية الألف الثانية ق. م4، وتمثل ست مراحل حضارية، عثر في الطبقات الأربعة الأولى منها على أواني فخارية رمادية تشبه فخار أم النار5، أما المرحلة السادسة فإلى جانب تشابه فخارها مع فخار أم النار، فلقد كشف فيها كذلك عن ختم من أختام الخليج العربي، يؤرخ بحوالي عام 1923ق. م6، ومن ناحية أخرى فلقد وصلت أختام وادي السند -ومنها ما يحمل خصائص أختام الخليج العربي -إلى   1 Bridget And Raymond Allchin, The Irth Of Indian Civilization, London 1968, P.270 2 سليمان البدر: المرجع السابق ص315-316. 3 سليمان البدر: دراسة تاريخية الخليج العربي أثناء الألفين الثاني والأول قبل الميلاد -رسالة دكتوراة -الإسكندرية 1976 ص41، وكذا: حسين جعفر منديل: الآثار في أبو ظبي- مؤتمر الآثار السادس، 1971 ص1 وكذا K. Thorvildsen, Burial Cairns On Umm-An-Nar, Kumal, 1962, P.219 4 De Cardi "B.", Excavations At Bampur, S.E. Iran, Iran, 6, 1968, P.135 5 A.S. Matheson, Persia, An Archaeological Guide, London, 1972, P.274 6 سليمان البدر: المرجع السابق ص51، وانظر: B. DE CARDI, OP.CIT., P.135 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 بلاد الرافدين ومواقع الخليج العربي1، هذا فضلا عما عثر عليه في البحرين وفيلكا من أدوات حجرية من وادي السند، وكذا لوحة لعب من حجر اللازورد عثر عليها في موقع "باربار" في البحرين2. وعلى أي حال، فرغم أن هناك من يرى أن عصر ما قبل التاريخ قد بدأ في شبه الجزيرة العربية حوالي الألف الثالثة ق. م، في وقت كان العصر التاريخي قد بدأ في أماكن أخرى3 -كمصر والعراق القديم- فإن معلوماتنا الحالية لا تسمح لنا بتحديد العصر الذي ينتهي فيه العصر الحجري القديم، ويبدأ فيه العصر الحجري الحديث أو العصر التاريخي في بلاد العرب، فإن ذلك ما زال متوقفًا على الأبحاث الأثرية. على أن هناك حقيقة مهمة تتلخص في أن الهجرات بدأت تفد إلى مصر من بلاد العرب منذ الألف الرابعة قبل الميلاد، وإلى العراق قبل بداية الألف الثالثة قبل الميلاد4، ذلك لأن شبه الجزيرة العربية، فيما يرى غالبية العلماء -ومنهم سبرنجر5 وإيرهارد شرادر6، وهربرت جريمة7 وروبرتسون سمث8 وكارل بروكلمان9 وكنج10 وجون ماير11 ستانلي كوك12، ورايت13، وهوجو فنكلر   1 سليمان البدر: المرجع السابق ص128-129، وكذا B. DE CARDI, CAH, I, PART, II, P.453 2 سليمان البدر: المرجع السابق ص130، وكذا G. BIBBY, OP. CIT., P.354 3 A.H. MASRY, OP. CIT., P.2 4 أحمد فخري: دراسات في تاريخ الشرق القديم ص124؛ قارن: نجيب ميخائيل: المرجع السابق 3/ 182-183. 5 A. SPRENGER, DAS LEBEN UND DIE LEHRE DES MOHAMMAD, BERLIN, 1861, P.241 وكذا A. SPRENGER, ALTE GEOGRAPHIE ARABIENS, 1875, P.293 6 E. SHRADER, ZDMG, 27, 1873, P.397F 7 H. GRIMME, MOHAMMED … , 1904, P.6F 8 R. SMITH, KINSHIP AND MARRIAGE IN EARLY ARABIA, P.178 9 C. BROCKLEMANN, GRUNDRISS DER VERGLEICHENDEN GRAMMATIK DER SEMITISCHEN, SPRACHEN, BERLIN, 1908, 1, 2 10 L.W. KING, HISTORY OF SUMER AND AKKAD, LONDON, 1915, P.119 11 J.L. MEYERS, IN CAH, I, 1923, P.28 12 S.A. COOK, IN CAH, I, 1923, P.192 13 E. WRIGHT, COMPARATIVE GRAMMER OF SEMITIC LANGUAGES, P.8 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 وتيله والأب فنسان وجاك دي مورجان وكايتاني1 وديتلف نلسن2، وفريتز هومل3 وفلبي4 وسايس5 وحسن ظاظا6 سبتينو موسكاتي7 وغيرهم- يرون أن الموطن الأصلي للساميين إنما هو شبه الجزيرة العربية8، ذلك الخزان البشري الشهير، الذي لم يتوقف عن أن يقذف- كإقليم طرد وكصحراء فقيرة، ولكنها ولود -بالموجة تلو الموجة إلى منطقة الهلال الخصيب المتاخمة والجذابة، وإلى وادي النيل، عبر البحر الأحمر، أو عن طريق سيناء9. ورغم اختلاف أصحاب هذه النظرية في المكان الذي كان الموطن الأصلي للساميين من الجزيرة العربية -فيما بين أواسط شبه الجزيرة العربية ولا سيما نجد، وبين العروض ولا سيما جزيرة البحرين والسواحل المقابلة لها، وبين الأقسام الجنوبية من بلاد العرب10- فالذي لا شك فيه أن الجزيرة العربية هي موطن الساميين الأول، وعلى هذا الأساس يمكن تفسير حركات القبائل السامية من البادية إلى أودية الأنهار الخصبة، والتي بدأت منذ عصور ما قبل التاريخ، ولم تتوقف على الإطلاق حتى الفتح الإسلامي في القرن السابع الميلادي. وهكذا انطلقت من شبه الجزيرة العربية هجرات ضخمة تتدفق في موجات متتابعة تشق طريقها إلى الأراضي الخصبة، ويذهب بعض العلماء إلى أن الفترة بين   1 حسن ظاظا: المرجع السابق ص13. 2 D. NIELSEN, HANDBUCH, I, 1927, 47, 55 3 F. HOMMEL, ETHNOLOGIE UND GEOGRAPHIE DES ALTEN ORIENT, 1926, P.10 وكذا A. GROHMANN, OP. CIT., P.14 4 J.B. PHILBY, THE BACKGROUND OF ISLAM, P.9F 5 A.H. SAYCE, ASSYRIAN GRAMMER, 1872, P.13 6 حسن ظاظا: المرجع السابق ص15-16. 7 S. MOSCATI, HISTOIRE ET CIVILISATION DES PEUPLES SEMITIQUES, P.32-3 8 انظر مقالنا: الساميون والآراء التي دارت حول موطنهم الأصلي، مجلة كلية اللغة العربية، العدد الرابع، الرياض 1974م ص245-271. 9 نفس المرجع السابق ص263. 10 A. SPRENGER, OP. CIT., P.241 وكذا J. HASTINGS, A DICTIONARY OF THE BIBLE, 1904, P.74 وكذا J, MONTGOMERY, ARABIA AND THE BIBLE, P.126 وكذا J.B. WARRELL, A STUDY OF RACES IN ANCIENT NEAR EAST, 1927, P.45, 94. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 الموجة والتي تليها تبلغ زهاء ألف عام1، ولعل من أشهر هذه الموجات موجة الأموريين2، ثم الكنعانيين -أو الفينيقيين3- وأما ثالث الموجات فقد كانت الموجة الآرامية4. وتشير الآثار المستخرجة من الأراضي فيما بين دجلة والفرات، على أن أولى الهجرات السامية إنما بدأت حوالي عام 5000ق. م، وأن هذه الاكتشافات لا تنفي فكرة وقوع هجرات سامية قبل هذا التاريخ5، فضلا عن التي أتت بعده، ومنها تلك التي كانت في بداية الألف الثالثة قبل الميلاد، والتي كان أصحابها على قدر غير قليل من الثقافة، حتى أنهم استطاعوا على أيام سرجون الأولى "حوالي عام 2350ق. م" من أن يقيموا دولة اتسعت فتوحاتها حتى وصلت آسيا الصغرى، وبدهي أنهم لن يستطيعوا أن يفرضوا أنفسهم على شعب ذي حضارة كالسومريين، إلا إذا كانوا قد وصلوا إلى درجة من التقدم تجعلهم يعرفون كيف يستفيدون من غيرهم، وتصبح لهم السيطرة على البلاد، وأن تظل لغتهم الأصلية وكثير من مظاهر ثقافتهم، ملازمة لهم قرونًا طويلة، ومن ثم يمكننا القول أن هؤلاء المهاجرين من بلاد العرب إلى العراق قبل خمسة آلاف سنة، لم يكونوا قومًا بدائيين، بل كانوا ذوي ثقافة خاصة بهم، كما كان لهم نظمهم وحياتهم الاجتماعية6.   1 H, WINCKLER, THE HISTORY OF BABYLONIA AND ASSYRIA, N.Y., 1907, P.18-22 وكذاJ.A. MONTGOMERY, OP. CIT., P.21 2 انظر: كتابنا "إسرائيل" ص331-333. 3 انظر كتابنا "إسرائيل" ص334-337. 4 انظر كتابنا "إسرائيل" ص37-342. 5 نجيب ميخائيل: مصر والشرق الأدنى القديم 3/ 182-183. 6 أحمد فخري: المرجع السابق ص124. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 الفصل السابع: دولة معين 1- معين والمعينيون : يتفق العلماء -أو يكادون- على أن دولة معين، إنما هي أول دولة نستطيع أن نلمح بعض معالمها وسط ضباب التاريخ القديم لبلاد العرب الجنوبية، وأنها -طبقًا للنقوش التي تركتها في شمال اليمن حول بلدة معين- قد قامت في منطقة الجوف، بين نجران وحضرموت، وهي منطقة سهلة غرينية، اشتهرت بنخيلها وأخشابها ومراعيها، التي تعتمد على مياه "الخاردن" وعلى الأمطار التي تسقط هناك، فتكون سيولا تسيل في أودية، فإذا أضفنا إلى ذلك كله، أن الجبال تحيط بها من جهات ثلاث، مما يكون حماية طبيعية لها، لتبين لنا إلى أي مدى ساعدت تلك العوامل الطبيعية على أن تكون منطقة الجوف هذه، مركزًا هامًا للحضارات في اليمن القديم1. ومصادرنا الأصلية عن دولة معين، إنما هي الكتابات التي تركها أصحاب هذه الحضارة، فضلا عن كتابات الرحالة القدامى من الأغارقة والرومان2، من أمثال "ديودور الصقلي" "من القرن الأول الميلادي"، و"سترابو" "66ق. م-24م"، الذي دعاهم "Minai= Meinaioi"، وأن عاصمتهم، "قرناو" "Carna=Karna" وأما موقع بلادهم فقد رآه في الشمال من سبأ وقتبان، وإلى الغرب من حضرموت3، أضف إلى ذلك أن "ثيوفراستوس" قد ذكر إلى جانب سبأ وقتبان وحضرموت- أرضًا دعاها "Mamaii"، رأى "أوليري" أن المراد بها "معين" Minaia"   1 زيد بن علي عنان: تاريخ اليمن القديم ص95. 2 J.B. PHILBY, THE BACKGROUND OF ISLAM, 1947, P.141 3 STRABO, GEOGRAPHY, XVI, 768. وكذا DIODORUS OF SICILY, 3, 42 "LONDON, 1946" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 وأن تحريفًا حدث في النسخ، ومن ثم فقد صارت "1Mamaii"، وأما "بليني" "32-79م، فقد وضعهم على حدود حضرموت2. وأما المصادر العربية، فلا علم لها بهذه الدولة، وإن عرفت اسم "معين" و"براقش"، على أنهما موضعان في الجوف، أو محفدان من جملة محافد اليمن وقصورها القديمة، كما أنها جعلتهما من أبنية "التبابعة"3. ويذهب "فريتز هومل" إلى أن صحة اللفظ إنما هو "معان"، وليس معين، وأن معان إنما هو النطق القديم جدًّا للكلمة4، وربما كان "ألويس موسل"5 و"فيليب حتى" يريان نفس الرأي، من أن لفظة معان العربية "والتي جاءت في التوراة تحت اسم ماعون ومعون ومعين، على اعتبار أنها اسم موضع"6 قد أصبحت بعد ذلك "معين" بمعنى ماء نبع7، ومن ثم فقد رأى البعض أن هؤلاء المعينيين المذكورين في التوراة، إنما هم سكان النقب، وحتى سيناء8، بينما ذهب فريق آخر إلى أنهم سكان منطقة معان التي تقع إلى الجنوب الشرقي من البتراء9، هذا وقد ذهب فريق ثالث إلى أنهم أهل "العلا"، "ديدان"، على أن التوراة قد جعلتهم من سكان النقب في بعض نصوصها، بينما جعلتهم في نصوص أخرى من القبائل العربية10.   1 O'LEARY "DE LACY D.D.", ARABIA BEFORE MUHAMMAD, LONDON, 1927, P.93 2 جواد علي 2/ 73-74 وكذا PLINY, NATURAL HISTORY, 6, 28-32, 12, 30 3 البكري 1/ 237-238، ياقوت 1/ 364، 3/ 235، 5/ 160، الهمداني: صفة جزيرة العرب ص167-168، 203 الإكليل 8/ 105. 4 فريتز هومل: التاريخ العربي القديم ص63. 5 ألويس موسل: شمال الحجاز، ترجمة الدكتور عبد المحسن الحسيني ص2-10 "الإسكندرية1952". 6 قضاة 10: 2، أخبار أيام ثان 26: 7. 7 P.K. HITTI, HISTORY OF ARABIS, LONDON, 1960, P.55 وكذا JAMES A. MONTGOMERY, ARABIA AND THE BIBLE, PHILADELPHIA, 1934, P.183 وكذا EP, P.3065 8 J. HASTINGS, OP. CIT., P.619 9 ألويس موسل: المرجع السابق ص9، وكذا J.A. MONTGOMERY, OP. CIT., P.183 10 أخبار أيام أول 4: 41، أخبار أيام ثان 26: 7 وكذا J. HASTINGS, OP. CIT., P.619 وكذا J.A. MONTGOMETY, OP. CIT., P.183 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 هذا ويرى "فريتز هومل" أن كلمة "مجان" التي جاءت في نقش للملك الأكدي "نرام سن" يقول فيه أنه "أخضع بلاد مجان، وأخذ مانيوم أمير مجان أسيرًا"1 إنما هو تحريف لإسم إقليم معين في اليمن2، بل إن هناك رأيًا غريبًا -بعيدًا عن المنطق الزمني والمنطق التاريخي- يذهب إلى أن "مجان" هذه التي جاء ذكرها في النص الآنف الذكر، إنما هي "مصر" وأن "مانيوم ""مانو دانو" إنما هي تحريف لاسم "منى"، "مينا" أول ملوك الأسرة الأولى الفرعونية3. والرأي عند الدكتور حسن ظاظا أنه من المحتمل أن يكون لفظ "مجان" هو في الأصل "معان" في أقصى الشمال من الحجاز شرقي خليج العقبة، وليس قرب هذا المكان من العراق هو الذي يدعو إلى ترجيح هذه الفكرة، ولكن اسم هذا الأمير الذي كان يحكم الإقليم "مانيوم" الذي يبدو أنه نطق آشوري للاسم العربي "معن" "بالضم والتنوين"، وهو شائع في أسماء عرب الشمال، نادر في عرب الجنوب، لا نجده فيما نعلم في النقوش اليمنية، بينما يقابلنا بكثرة جدًّا في الشعر العربي الجاهلي، وفي النقوش العربية القديمة التي عثر عليها في الشمال كالنقوش الصفوية مثلا4. على أن موقع "مجان" هذه، قد أثار جدلا طويلا بين العلماء، فذهب "هوجو فنكلر" إلى أنها في الأقسام الشرقية من شبه جزيرة العرب5، وذهب   1 JEAN BOTTERO, THE NEAR EAST, THE EARLY CIVILIZATIONS, LONDON, 1967, P.126 وكذا L.W. KING, STUDIES IN EASTERN HISTORY, I, P.15. وكذا A. GROHMANN, ARABIEN, P.21 وكذا F. THUREAU-DANGING, LES INSCRIPTIONS DE SUMMER ET D'AKKAD, PARIS, 1905, P.238-9 وكذا CAH, I, 1923, P.41 2 HENRI FLEISCH, INTRODUCTION A L'ETUDE DES LANGUES SEMITIQUES, PARIS, 1947, P.90 3 عبد العزير صالح: مصر والعراق ص18؛ وكذا A.H. SAYCE, MENES AND NARAM-SIN, JEA. 6. 1920, P.296 وكذا S. LANGDON, JEA, 7, 1921, P.121F وكذا W.F. ALBRIGHT, IN JEA, 6, 1920, P.89F 4 حسن ظاظا: الساميون ولغاتهم ص126. 5 E. Schrader, Die Keilschriften Und Alt Testament, P.15f الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 آخرون إلى أنها "جرها" "جرعاء" على ساحل الأحساء1، بينما ذهب فريق ثالث إلى أنها إنما تقع على مقربة من ساحل الخليج العربي في موضع "مجيمنة" جنوب "يبرين"2، وذهب "فلبي"3 إلى أنها على مقربة من الساحل عند مصب وادي شهبة، وهي البقعة التي نشأت فيها مملكة مجان القديمة. ويذهب "كيتاني" إلى أنها "مدين" والتي كانت حوالي الألف الخامسة قبل الميلاد كثيفة الأشجار، وكان البابليون يأخذون منها الذهب والنحاس والأخشاب، ويعارض "موسل" هذا الاتجاه، محددًا موقع مجان على ساحل الخليج العربي4، على أن هناك فريقًا سادسًا إنما يذهب إلى أنها منطقة "عمان" -أي الطرف الجنوبي الشرقي من شبه الجزيرة العربية5. وأخيرًا، فلقد حاول بعض المؤرخين أن يحدد موقعها بخط طول 55 شرقًا، وخط عرض 24 شمالا، وبحوالي 450 ميلا إلى الشمال الغربي من مسقط، وأن كلمة "مجان" إنما تتكون من الكلمة السومرية Ma"" بمعنى ميناء أو أرض السفن، وذلك بسبب شهرة أهلها في ركوب السفن، فضلا عن أن هناك نصًّا يرجع إلى أيام "دونجي" "أحد ملوك أوربا حوالي عام 2450ق. م" يحدثنا عن صناع السفن من "مجان"، وأن النصوص المسمارية قد وصفتها بأنها "جبل النحاس"، كما أطلقت عليها النصوص السومرية "أرض الدولوربت"، ومن ثم فإن الإشارة إلى مجان على أنها جبل النحاس، تدفعنا إلى أن ندخل في دائرتها منطقة الجبل الأخضر بعمان، حيث يوجد النحاس، وهكذا يبدو واضحًا أن لدينا من القرائن القوية التي تقربنا من وضع مجان كمرادف صحيح لعمان، لأن كل ما ذكر آنفًا إنما هو موجود في عمان6.   1 O'leary, Op. Cit., P.47 2 Major. R.E. Cheesman, In Unknown Arabia, London, 1925, P.266 3 J.B. Philby, The Empty Quarter, P.119f 4 A. Musil, Northern Nejd, P.307 5 W.F. Leemans, Foreign Trade In The Old Babylonian Period, Leiden, 1960 P.12 6عبد الحميد زايد: الشرق الخالد ص133. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 وأيًّا ما كان الأمر بالنسبة إلى موقع "مجان" وصلتها بمعين، فإن هناك من ذهب -قبل عصر الاكتشافات الحديثة- إلى أن المراد بلفظ "Minaeo" إنما هم "المنائيون" نسبة إلى "منى" في مجاورات مكة المكرمة1، بل إن واحدًا من المؤرخين المعاصرين ذهب إلى أن المعينيين إنما هم قوم عاد2، بينما ذهب آخرون إلى أنهم من بدو الآراميين الذين كانوا في أعالي جزيرة العرب قبل دولة حمورابي بعدة قرون، فلما ظهرت هذه الدولة واقتبست حضارة السومريين -الدينية والتشريعية والاجتماعية- كان المعينيون في جملة القبائل التي نالت حظًّا من ذلك كله3، وبعد فترة لا ندري مداها على وجه التحقيق، هاجر المعينيون- مع قبائل أخرى- من العراق والتمسوا مقرًّا متحضرًا يقيمون فيه، فنزلوا اليمن في إقليم الجوف وشيدوا القصور والمحافد على مثال ما شاهدوه في بابل4، ويقدم هذا النفر من الباحثين أدلة على زعمهم هذا، منها -فيما يرون- اشتراك المعينيين والآراميين في أسماء الأشخاص وأسماء المعبودات، ومنها الاشتراك في أسس المعتقدات وطرق العبادة5. على أن أرجح الآراء -فيما نعتقد ونميل إلى الأخذ به- أن المعينيين من جنوب شبه الجزيرة العربية، وأنهم لم يفدوا من الشمال كما زعم البعض6، وإن كانوا قد حققوا سيطرة على الطرق التجارية بين جنوب بلاد العرب وشمالها، وقد كانت وقت ذاك وسيلة نقل الطيب والبخور، كما كانت تمتد في الشمال من غزة حتى مصر من ناحية، ومن غزة إلى الشام من ناحية أخرى، ومن ثم فقد أسسوا هناك مركزًا خاصًا بهم يبعد عن اليمن بحوالي 1000 كيلو متر، وتفصل بينه وبين اليمن بلاد عربية أخرى تقع على الطرق التجارية7، ثم سرعان ما بدأ نفوذهم السياسي يتسرب   1 جرجي زيدان: العرب قبل الإسلام ص115. 2 أمين مدني: العرب في أحقاب التاريخ 2/ 128. 3 جرجي زيدان: المرجع السابق ص118. 4 حسن إبراهيم: تاريخ الإسلام 1/ 23. 5 جرجي زيدان: المرجع السابق ص117-119. 6 Guidi "I.", L'arabie Anteislamique, Paris, 1921, P.64 وانظر: السيد عبد العزيز سالم: دراسات في تاريخ العرب، عصر ما قبل الإسلام ص143 7 فيتز هومل: المرجع السابق ص57. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 نحو الشمال بالتدريج، حتى انتهى الأمر بسيطرتهم على شمال الحجاز، ممثلا في الحكومات المحلية في منطقة معان والعلا، وكما يقول "ألويس موسل" فإنه خلال الألف الأولى قبل الميلاد كان الجزء الأعظم من التجارة العالمية في بلاد العرب واقعًا في يد السبئيين والمعينيين الذين كانوا يسيطرون على الجزء الجنوبي الغربي من شبه الجزيرة العربية، وكان السبئيون والمعينيون أبناء جنس واحد ولكنهم كانوا يتنافسون على السيادة، لا في بلادهم فحسب، بل في الواحات التي كانت تمر بها الطرق التجارية كذلك1.   1 الويس موسل: شمال الحجاز ص1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 2- عصر دولة معين : لقد دار- ولا يزال- جدل طويل حول عصر الدولة المعينية، والفرق بين السنوات التي يقدمها العلماء جد شاسع، حتى أننا نرى آراء تذهب إلى أنها إنما كانت بين الألف الثالثة والثانية ق. م، بينما تأخرت بها آراء أخرى إلى النصف الثاني من الألف الأولى ق. م، ذلك أن "إدوارد جلازر" يذهب إلى أن الأبجدية التي استعملها المعينيون في كتاباتهم إنما ترجع إلى الألف الثانية، وربما الثالثة ق. م، وهذا يعني أن تاريخ القوم إنما يرجع إلى ما قبل هذه الفترة1. ويتجه "فريتز هومل" إلى أن دولة معين قد بدأت فيما بين عامي 1500، 1200ق. م، وانتهت حوالي عام 700ق. م، بل نراه يحدد حوالي عام 1300ق. م، كبداية لظهور معين على مسرح التاريخ، وأما الحضارة والكتابة المعينية فيجب أن تكون أقدم من هذا التاريخ، وربما ترجع إلى منتصف الألف الثانية ق. م، ومن ثم فهو يرى أن دولة معين كانت سابقة لدولة سبأ، معتمدًا في ذلك على أن "جلازر" قد عثر على نقوش سبئية قديمة "جلازر 418، 419، 1000"، وفيها نقرأ عن سقوط الدولة المعينية على يد أحد حكام سبأ2، وأن النقش الكبير، والمعروف بنقش صرواح3، يدلنا على أن العصر الذهبي لدولة معين، إنما كان قبل ارتفاع   1 جواد علي: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام -الجزء الثاني- ص77 وكذا Eduard Glaser, Skizze Der Geschichte Und Geographie Arabiens, P.110, 330. 2 فريتز هومل: المرجع السابق ص64-65. وكذا Ei, 4, P.13 وكذا Basor, 73, 1959, P.5 3 انظر: أحمد فخري: دراسات في تاريخ الشرق القديم ص162=165. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 شأن السبئيين1. هذا وقد حدد "فلبي" لدولة معين الفترة "1120-630ق. م"2، بينما ذهب فريق آخر من العلماء "ومنهم هاليفي وموللر وموردتمان وماير وسبرنجر وليدر بارسكي" إلى أن ظهور دولة معين لا يمكن أن يتجاوز الألف الأولى قبل الميلاد3، ولعل "ملاكر" يرى نفس الرأي، وإن كان أكثر تحديدًا في تأريخه، إذ جعل قيام دولة معين في عام 725ق. م، ونهايتها في القرن الثالث ق. م4، ولعل قريبًا من هذا ما ذهب إليه "أوليري" من أن كتابات المسند جميعها -سواء أكانت معينية أو سبئية- لا ترجع في تأريخها إلى أقدم من عام 700ق. م، وربما إلى القرن الثامن ق. م5. ويذهب "وينت" إلى اعتبار سبأ وديدان أقدم الدول العربية، معتمدًا في ذلك على ما ورد في التوراة6 من قدم سبأ، ومن ثم فإنه يرى أن قيام دولة معين لا يمكن أن يتجاوز عام 500ق. م، وأن نهايتها إنما كانت فيما بين عامي 24ق. م، 50م7، وأما "موسكاتي" فالرأي عنده أن الحفائر الحديثة وتطبيق "العملية الراديوكربونية" "Radiocarbon Precess" تشير إلى تعاصر دولتي سبأ ومعين، وأن قيام دولة معين إنما كان حوالي عام 400ق. م8، وأما "وليم أولبرايت" فقد حدد نفس العام "400ق. م" كبداية لدولة معين، كما جعل نهايتها فيما بين عامي 50،   1 فريتز هومل: المرجع السابق ص65. 2 J.B. Philby, Op. Cit., P.141 3 جواد علي 2/ 77. وكذا Zdmg, Xivii, P.400 وكذا Ei, 4, P.13 وكذا Wissman And Hofner, Op. Cit., P.105, 115 4 فؤاد حسنين: التاريخ العربي القديم ص273. 5 جواد علي 2/ 78 وكذا O'leary, Op. Cit., P.95 6 تكوين 10: 7، 28. 7 Basor, 73, 1939, P.8 8 Sabatino Moscati, Ancient Semitic Civilizations, P.174 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 25ق. م1، ثم عاد بعد ذلك فعدل تواريخه، فجعل عام 350ق. م، كبداية لقيام الدولة، وأما النهاية ففي الفترة ما بين عامي 100، 50ق. م2، وأخيرًا فهناك من جعل نهاية دولة معين في حوالي عام 100م3. وهكذا يبدو واضحًا مدى الخلاف بين العلماء على وقت قيام دولة معين ونهايتها، وكيف أن الفرق بين التقديرات المختلفة جد شاسع، وهنا لعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن هذا التفاوت الزمني يؤثر تأثيرًا كبيرًا في معرفتنا للدول العربية الأخرى، وذلك لأن قيام كل دولة عربية جنوبية مرتبط بالأخرى، بخاصة إذا ما سلمنا بأن الدولة السبئية قامت على أنقاض الدولة المعينية، ومن ثم فإن ظهور سبأ على مسرح التاريخ العربي، يجب أن يكون في رأي هؤلاء العلماء معاصر لفترة الاضمحلال التي مرت بها دولة معين4. أضف إلى ذلك كله، أن الذين انتهوا بالدولة في فترة مبكرة، ترجع إلى ما قبل الميلاد بعدة قرون، أو حتى الذين وصلوا بها إلى ما قبل الميلاد بقرن من الزمان، قد يزيد وينقص قليلا، تجاهلوا أن الكتاب القدامى من الأغارقة والرومان -ومنهم سترابو وبليني وديودور الصقلي -قد أشاروا إلى المعينيين وتجارتهم، بل إن بطليموس "138-165م" والذي أخرج كتابه "الجغرافية" حوالي عام 150م، قد وصفهم بأنهم "شعب عظيم"، فضلا عن أن الكتابات المعينية في الجيزة، إنما تشير إلى اشتغالهم بتجارة الطيب والبخور في القرنين الثالث والثاني قبل الميلاد، ولعل هذا كله هو الذي دفع "أوليري" إلى القول بأن المعينيين كانوا نشيطين إلى ما بعد الميلاد،   1 W.F. Albright, The Chronology Of Ancient South Arabia In The Light Of The First Campaign Of Excavation In Qataban, In Basor, 119, 1950- P.5-15, 129, 1953, P.22 2 BASOR, 176, 1964, P.51. وكذا Le Museon, 1964, 3-4, P.434 3 LE MUSEON, 1964, 3-4, P.434 وكذا J. PIRENNE, LE ROYAUME SUD-ARABE DE QATABAN ET SA DATATION, 1961, P.7 4 فؤاد حسنين: المرجع السابق ص273. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 وربما كانت نهاية دولتهم على أيام البطالمة أو الرومان، إلا أن تحقيق ذلك -على ضوء معلوماتنا الحالية- أمر لا نستطيع أن نقول فيه كلمة نزعم أنها القول الفصل، أو أنها أقرب إلى الصواب من غيرها1. وأما بداية دولة معين، فلعلنا إن اعتمدنا على التوراة، لكان رأي الذين يرجعون بها إلى الألف الثانية ق. م، صحيحًا إلى حد كبير، ذلك أن سفر القضاة يحدثنا أن الصيدونيين والعمالقة والمعونيين كانوا يضايقون بني إسرائيل2، وإذا كان خروج بني إسرائيل من مصر -كما رجحنا في كتابنا إسرائل - قد تم على أيام "مرنبتاح" "1224-1214ق. م"3، فإن عصر القضاة سوف يكون في الربع الأخير من الألف الثانية ق. م، وإذا كان المقصود بالمعونيين هنا، الجالية المعونية في شمال غرب الجزيرة العربية، فإن دولة معين لابد وأن تكون قد قامت قبل هذه الفترة، وربما في النصف الثاني من الألف الثانية قبل الميلاد. ونقر أن في سفر أخبار الأيام الثاني، إشارات عن حرب دارت رحاها بين "يهوشافط"، من ناحية، وبين بني مؤاب وبني معون والمعونيين من ناحية أخرى4، وهذا يعني أن المعونيين كان لهم وجود على أيام الملك اليهودي "يهوشافط" "873-849ق. م"- أي في القرن التاسع قبل الميلاد- ووفقا لما جاء في سفر أخبار الأيام الثاني "26: 7"، فإن الملك "عزيا" "77-740ق. م" قد حطم العرب الذين كانوا يسكنون في "حوربعل"، كما حطم أهل معون، ويفهم من نصوص التوراة هذه أن هؤلاء العرب كانوا يسكنون في الإقليم الواقع في الجنوب والجنوب الشرقي من البحر الميت -أي في نفس الإقليم الذي تقع فيه واحة معان5، ومعنى هذا -مرة أخرى- أن المعينيين كانوا أصحاب مستعمرات في شمال بلاد العرب في   1 مظهر علي الأرياني: في تاريخ اليمن ص15، إسرائيل ولفنسون: تاريخ اللغات السامية ص245، فؤاد حسنين: المرجع السابق ص269، وكذا جواد علي 2/ 80. وكذا O'LEARY, OP. CIT., P.94-5 وكذا PTOLEMY, GEOGRAPHY, VI, 7, 23 وكذا BASOR, 73, 1939, P.94-5 2 قضاة 10: 12 3 راجع كتابنا "دراسات في تاريخ الشرق الأدنى القديم" -الجزء الثاني- إسرائيل - القاهرة 1973 ص268-303. 4 أخبار أيام ثان 20: 1، 10، 22. 5 ألويس موسل: المرجع السابق ص3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 القرن الثامن قبل الميلاد، ولعل هذا كله إنما يعضد فكرة البداية المبكرة لقيام دولة معين في حوالي الألف الثانية قبل الميلاد، إلا إذا كانت "معون" التوراة، لا صلة لها بمعين بلاد العرب، وهو أمر لا يوافق عليه الكثير من الباحثين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 3- ملوك معين : لقد توصل العلماء -عن طريق الرحالة والبعثات العلمية- إلى أسماء عدد من حكام معين، إلا أن الأمر لا يزال موضع خلاف، فيما يتصل بحكم هؤلاء الملوك، ولعل السبب في ذلك يرجع "أولًا" إلى عدم الاتفاق بين العلماء على فترة حكم دولة معين، وكذا على وقت سقوطها، ويرجع "ثانيًا" إلى أن الكتابات المعينية نفسها غير مؤرخة طبقًا لأي تقويم من التقاويم، فضلا عن أنها لم تقدم لنا الفترة الزمنية التي استغرقها حكم هؤلاء الملوك -كأفراد أو جماعات- ويرجع "ثالثًا" إلى أنها في جوهرها كتابات شخصية، أكثر منها سياسية، ومن هنا بات من الصعب على العلماء أن يتفقوا على قوائم ثابتة وصحيحة لملوك معين، أو لمدد حكمهم1. وقد رتب "هومل" ملوك معين في ثلاث أسرات، تتكون الواحدة منها من أربعة ملوك، ثم أسرة رابعة من ملكين2، بينما رتبهم "كليمات هوارت" في سبع طبقات، مجموعها 22 ملكًا، تتكون الأولى من أربعة ملوك، والثانية من خمسة، والثالثة من أربعة، والرابعة من اثنين، والخامسة من ثلاثة، بينما تتكون السادسة والسابعة من ملكين3، هذا وقد قدم لنا كذلك كل من "موللر" و"أوتووبير" و"موردتمان" و"ريكمانز" قوائم بملوك معين4. وأما "جون فلبي" فقد رتبهم في خمس أسرات، تفصل الواحدة عن الأخرى فترة مظلمة لا نعرف عنها شيئًا، كما أن فترة حكم كل أسرة تقوم على الفرض والتخمين، لا على الحقيقة والواقع، فهو مثلا يقدر أن فترة حكم الملك لا تتجاوز   1 جواد علي 2/ 81. 2 جواد علي 2/ 82 وكذا F. HOMMEL, GRUNDRISS, I, P.136 3 جواد علي 2/ 82 وكذا C. HUART, GESCHICHTE DER ARABER, I, P.56 4 جواد علي 2/ 124-128 وكذا F. HOMMEL, OP. CIT., P.136 وكذا MORDTMANN, ZDMG, 47, 1893, P.397-417 وكذا J. RYCKMANS, L'INSTITUTION MONARCHIQUE EN ARABIE MERIDIONALE AVANT L'ISLAM, P.335 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 العشرين عامًا، وأن فترة الانتقال بين الأسرة والأخرى تبلغ أيضًا عشرين عامًا1، ويضع "فلبي" على رأس الأسرة الأولى "إل يفع وقه"، متخذًا من عام 1120ق. م، بداية لحكمه، بينما يجعل" "تبع كرب" "650-630ق. م" الملك الأخير من الأسرة الخامسة2. وفي عام 1950م، قد لنا "وليم أولبرايت" قائمة تتكون من سبعة عشر ملكًا، ثم ذكر أن هناك ما لا يقل عن خمسة ملوك لا يعرف فترة حكمهم3، وفي عام 1953م، أعاد "أولبرايت" دراسة القوائم ثم قدمها لنا في ثلاث مجموعات، تتكون الأولى من "12 ملكًا"، والثانية من "6 ملوك"، والثالثة من "3 ملوك"4. ولعل من أهم الأحداث التي روتها النقوش ما كان في عهد الملك "أب يدع يثع" عن حرب وقعت بين الجنوب والشمال، ذلك أن نقوش "جلازر 1115، هاليفي 535، 578" إنما تتحدث عن حرب وقعت بين "ذيمنت" و"ذشامت"5 وكذا عن حرب أخرى وقعت بين "مذي" و"مصر" في وسط مصر6، وأن المقصود من الكتابة إنما هو شكر لآلهة معين "عثتر، ود، نكرح" على نجاة القافلة المعينية من أضرار الحرب الأولى والثانية، ووصولها إلى "قرناو". ويبدو أن القوافل بما تحمله من أموال، كانت كثيرًا ما تتعرض لهجوم من القبائل ومن العشائر، فضلا عن قطاع الطرق، وهي وإن أمنت على نفسها بحماية من الحكومة، وباتفاق مع سادات القبائل نظير مبلغ من المال، فهي لا تأمن على نفسها من القبائل المعادية، ومن ثم فلا غرابة إن نذر أصحاب القوافل لآلهتهم عند عودتهم سالمين من تجارتهم، أو عادت قوافلهم سالمة7. وأما عن الحرب التي استعر أوارها بين الشمال والجنوب، فالرأي عند "هوجو فنكلر" أنها كانت بين حكومة معين وحكومة عربية أخرى، هي حكومة   1 فؤاد حسنين: المرجع السابق ص270. 2 J.B. PHILBY, THE BACKGROUND OF ISLAM, P.141 3 W.F. ALBRIGHT, BASOR, 119, 1950, P.11 4 W.F. ALBRIGHT, BASOR, 129, 1953, P.22 5 جواد علي 2/ 88. 6 جواد علي 2/ 89. 7 جواد علي 2/ 90. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 "أريبي"، والتي كان نفوذها يمتد حتى دمشق1، على أن الكتابة نفسها، إنما حددت موضع الهجوم على القافلة بين معين "أو مادان" وبين رجمت2. وقد قام جدل طويل بين العلماء فيما يختص بالحرب التي دقت طبولها بين "مذي" ومصر، وكان أشد الجدل يدور حول المقصود بمذي هذه، وحول تاريخ هذه الحرب، فذهب فريق إلى أنهم "الماذيون" أي الماديون "الميديون"، والميديون -كما نعرف- قبائل إيرانية كانت منتشرة في منطقة تمتد من جبال "دوماوند" حتى مدينة "همدان"، ثم استطاعوا تحت قيادة "كياكسارس" السيطرة على فارس، واتخاذ مدينة "أكباتانا "ومكانها الآن مدينة همدان" عاصمة لهم، بل والتعاون مع البابليين في القضاء على آشور، واحتلال "نينوى" في عام 612ق. م، ثم الاستيلاء على الجزء الشمالي من الإمبراطورية الآشورية. إلا أن الأمور سرعان ما بدأت تتغير في هضبة إيران، عندما تولى العرش الفارسي "كيروش الثاني" في عام 559ق. م، والذي كتب له نجحا بعيد المدى في القضاء على الميديين، وفي أن يصبح سيد المنطقة كلها3، إلا أن تاريخ الميديين لم يحدثنا عن حروب وقعت بينهم وبين مصر، سواء أكان المقصود بها "مصر" "كنانة الله في أرضه"، أو تلك الولاية "مصرو" في شمال بلاد العرب، والأمر كذلك بالنسبة إلى تاريخ مصر على أيام الفراعين. هذا ويرى "جون فلبي" أن "مذي" إنما هم المديانيون، وأن الحرب التي وقعت إنما كانت بين المديانيين -والذين كانت أرضهم تمتد من خليج العقبة إلى مؤاب إلى سيناء -وبين "معين موصرو4،، وأما "هومل" فالرأي عنده أن "مذي" إنما هم جماعة من بدو سيناء5، ويذهب "ملاكر" إلى أن الحرب بين مذي ومصر، إنما هي إشارة إلى الحرب التي كانت بين المصريين والفرس، والتي انتهت باستيلاء "قمبيز" على مصر في عام 525ق. م6، على أن "وينت"   1 HUGO WINCKLER, MUSRI, MELUHHA, MAIN … , P.20, 22 2 J.B. PHILBY, OP. CIT., P.53. وكذا H. WINCKLER, OP. CIT., P.20 3 A. GARDINER, OP. CIT., P.357 4 J.B. PHILBY, OP. CIT., P.54 5 LE MUSEON, LXII, 3-4, 1949, P.238 6 جواد علي 2/ 92 وكذا 231 Le MUSEON, LXII, 3-4, 1949, P.231. وانظر عن الحرب بين مصر وفارس، وكتابنا "حركات التحرير في مصر القديمة" ص344-362 "دار المعارف 1976" وكذا A. GARDINER, OP. CIT., P.363-365 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 -وربما ألبرايت كذلك- إنما يتجهان إلى أنها لا تشير إلى فتح مصر، وإنما إلى استعادتها مرة ثانية على يد "ارتكزر كسيس الثالث" "أخوس" في عام 343ق. م1، ولعل هذا هو السبب في أن بعض المراجع إنما تضع حكم "أب يدع يثع" في حوالي عام 343ق. م2. وأما "جاكين بيرين" فالرأي عندها أن مذي إنما تعني السلوقيين بصفة عامة، وأن مصر إنما تعني البطالمة وأن هذه الحرب قد وقعت فيما بين عامي 210، 205ق. م وربما تشير إلى الاستيلاء على غزة في حوالي عام 217ق. م، وإلى المعركة التالية عند "رفع "3Rapheia". ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن المعينيين، رغم أنهم شعب عربي جنوبي وأن دولتهم قد قامت في بلاد العرب الجنوبية، إلا أنهم قد انتشروا في شمال بلاد العرب، بل إن هناك من يذهب إلى أن نفوذهم قد امتد حتى الخليج العربي شرقًا وغزة غربًا، كما أن علاقاتهم التجارية قد امتدت إلى سورية وإلى بلاد اليونان ومصر، بدليل العثور على كتابات معينية في جزيرة "ديلوس"، إحدى جزر اليونان4، فضلا عن العثور على كتابات معينية أخرى في الجيزة، وعند قصر البنات -عند منتصف وادي الحمامات- وفي منطقة "إدفو"5 "بمحافظة أسوان"، وترجع بعض هذه الكتابات إلى أيام قمبيز "525-522ق. م"، وبعضها الآخر إلى أيام البطالمة6.   1 BASOR, 73, 1939, P.8, 119, 1950, P.11 وانظر كتابنا "حركات التحرير في مصر القديمة" ص397-401. وكذا A.T. OLMSTEAD, HISTORY OF THE PERSIAN EMPIRE, P.406 وكذا R. GHIRSHMAN, IRAN, P.201 2 فؤاد حسنين: التاريخ العربي القديم ص272، وكذا BASOR, 129, 1953, P.22 3 JACQUELINE PIRENNE, PALEOGRAPHIE DES INSCRIPTIONS SUD ARABES, I, 1956, P.211 4 BASOR, 73, P.7 5 LE MUSEON, XLVIII, P.228, LXII, 1-2, P.56. وكذا BASOR, 37, P.7 وكذا A.E.P. WEIGALL, TRAVELS IN THE UPPER EGYPTIAN DESERTS, LONDON, 1909, P.1, IV, FIG. 13, 14 وكذا H. WINCKLER, ROCK-DRAWINGS OF SOUTHERN UPPER EGYPT, I, LONDON, 1938, P.1 6 مظهر الإرياني: في تاريخ اليمن ص15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 بل لقد حددها بعض الباحثين بعام 264/ 263ق. م1، فإذا ما تذكرنا صلات مصر القوية بفلسطين في العصور الفرعونية، وتذكرنا في الوقت نفسه أن دولة معين إنما كانت تحكم في فترة ازدهارها، ما يقال له الآن الحجاز وحتى فلسطين، وأن معين كانت دولة تجارية أكثر منها عسكرية، لتبين لنا أن العلاقات بين مصر ومعين -وبخاصة في الأمور التجارية- إنما كانت أمرًا طبيعيًّا2. على أن أهم المراكز المعينية خارج اليمن، ما كان في الشمال الغربي لبلاد العرب، حيث تقع واحة ديدان "العلا"، وفي واحة معون -وهي معان الحالية3- ويرى بعض الباحثين أن منطقة ديدان وما صاقبها من أراض إنما كانت بمثابة جزء من دولة معين، التي كان ملوكها يقومون بتعيين ولاة من قبلهم لإدارة هذه المنطقة يطلقون على الواحد منهم لقب "كبر" أي "كبير"، ويعهدون إليه بإدارة شئون المنطقة والمحافظة على الأمن فيها، ثم جمع الضرائب وإرسالها إلى "قرناو"4. وكان بجانب هؤلاء الولاة، حامية عسكرية وجالية تتألف من الأوساط التجارية في تلك الواحات، وكانت هذه البقاع موردًا للكسب بالنسبة لأهل الواحات الأصليين، وللقبائل التي كانت تقيم في مجاوراتها، فكانت القبائل الشمالية تقدم لهذه الجاليات ما تحتاج إليه من القوت والثياب، وكان لهم -من أجل ذلك- نوع من السيطرة والسيادة5. وقد أدى ذلك إلى نتائج هامة، منها "أولًا" احتكاك الحكام المعينيين بحكام سورية وأشور عن طريق التجارة الرئيسي، ومن ثم فلم يعن الأخيرون بتفهم النظم السياسية المختلفة للواحات المتفرقة التي تقع على طول هذا الطريق، ولم يهتموا بالمفاوضات مع الملوك المحليين للإقليم وأشرافه، وإنما اتجهوا إلى ذلك المقيم الجنوبي الذي كان معروفًا لديهم بإشرافه على الإقليم، وكانوا يخلطون بينه وبين الملك الجنوبي -الذي كان هذا المقيم يعمل في خدمته- فذكروا اسمه، كما لو كان هو الملك   1 A. GROHMANN, ARABIEN, P.26 2 انظر مقالنا: العرب وعلاقاتهم الدولية في العصور القديمة، مجلة كلية اللغة العربية والعلوم الاجتماعية -جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية- العدد السادس، 1967م. 3 ألويس موسل: شمال الحجاز ص87. 4 A. MUSIL, OP. CIT., P.295 5 ألويس موسل: المرجع السابق ص87. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 الجنوبي، وهذا يفسر لنا الإشارات التي ترد في الوثائق السريانية والعبرية عن المعينيين والسبئيين، وتذكرهم كما لو كانوا يقيمون في الجنوب الشرقي للبحر الميت1. ومنها "ثانيًا" أن دولة معين إنما كانت -كما أشرنا آنفًا- تحكم كل ما يقال له الحجاز الآن إلى فلسطين، فلما ضعف المعينيون أصبحت سيادتهم مقصورة على ما يسمى "معين مصرو"، التي ما لبثت أن أصبحت بعد فترة تحت سلطان السبئيين، حين كتب لهؤلاء السيادة على الجنوب والشمال معا، وأخيرًا أصبح زمام الأمور بيد "اللحيانيين" الذين كانوا دولة مستقلة هي دولة "لحيان"2، والتي امتد نفوذها في أيام ازدهارها -فيما يرى البعض- على الأرض الممتدة غربي النفود، من شمال يثرب إلى ما يحاذي خليج العقبة، والذي أطلق عليه "أجاثر خيدس"، في القرن الثاني ق. م، اسم خليج لحيان، ثم حرف فيما بعد إلى "لات" "إيلات"3. وقد قام جدل طويل بين العلماء -ولا سيما المتخصصين منهم في الدراسات التوراتية- حول "معين موصرو" هذه، فذهب فريق منهم إلى أن كلمة "مصرايم" التي جاءت في التوراة، لا تدل على "مصر"، وإنما على الإقليم الواقع شمال بلاد العرب، والذي يمتد غربًا حتى حدود مصر الشرقية، ولهذا فإن ما يقال عن إقامة العبرانيين في مصر، إنما يعني إقامتهم في جنوب فلسطين، أو في شبه جزيرة سيناء وطبقًا لهذا الاتجاه، فإن خروج بني إسرائيل لم يحدث من مصر، وإنما من هذه المناطق المشار إليها، ذلك لأن الباحث اليهودي "هوجو فنكلر" إنما يرى أن اسم "مصرايم" لم يكن استعماله في البداية مقصورًا على الإشارة إلى مصر، ولكنه كان يشمل كذلك الإقليم الذي سماه الجغرافيون البابليون "مصر أو موصري"، والذي يقع جنوب البحر الميت، شمال شبه جزيرة العرب، ويمتد غربًا حتى حدود مصر الشرقية، ويضم جبل سعير ومدينة البتراء وأراضي مدين وأدوم. ويعتقد "فنكلر" أن التقاليد اليهودية الأصلية، عندما تحدثت عن إقامة الآباء الأولين -وخاصة موسى- في مصرايم، إنما كانت تشير إلى ذلك الزمن حيث عاش   1 نفس المرجع السابق ص1. 2 A. MUSIL, OP. CIT., P.295 3 F.V. WINNET AND W. REED, ANCIENT RECORDS FROM NORTH ARABIA, TORONTO, 1961, P.116F وكذا A. MUSIL THE NORTHERN HEGAS, N.Y., 1926, P.295 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 أسلاف العبرانيين في صحراء جنوب فلسطين، ثم بدأ سكان كنعان يستخدمون اصطلاح "مصرايم" على المراعي الجنوبية -وكذا على مصر نفسها- ذلك البلد الذي يقع بالنسبة إليهم فيما وراء الصحراء، ولعل مما يفسر هذا الافتراض أن الوادي القريب من "غزة" سمي "نهر مصرايم"، على الرغم من أنه على مسيرة ثلاثة أيام من الحدود المصرية، ومن هنا فمن الممكن أن يشير اسم "مصرايم" في بعض النصوص والتقاليد العبرية، إلى الصحراء المصرية، وليس إلى اسم مصر بالذات1. وقد ناقشنا ذلك الأمر في كتابنا "إسرائيل"2، وخرجنا من المناقشة بأن الأدلة العملية، والتقاليد الإسرائيلية، وما ورد في التوراة من وصف لجو مصر وأحوالها، وأثر الأدب المصري في كتب الإسرائيليين، والنصوص التوراتية الصريحة التي تتحدث عن دخول الإسرائيليين مصر، بل وذكر أسماء الداخلين منهم أرض الكنانة، كل ذلك وغيره مما يؤكد أن المقصود هنا أرض الكنانة3، هذا فضلا عن أن ذلك أمر أجمعت عليه الكتب المقدسة الثلاثة "التوراة والإنجيل والقرآن العظيم"، وإنكارنا لأمر تجمع عليه الكتب المقدسة، لا يتفق ومنهج البحث العلمي، فضلا عن تعارضه مع إيماننا بما جاء في كتب السماء. وانطلاقًا من هذا، وترتيبًا عليه، فإن "مصر" التي جاءت في قصة الإسرائيليين، ليست هي "موصرى" الواقعة في شمال غربي بلاد العرب، وإنما هي "مصر"، كنانة الله في أرضه، ومن ثم فإن ما جاء في نص "تجلات بلاسر الثالث" 745-727ق. م" من أنه قد عين "أدبئيل" حاكمًا على "موصري" فإنما يعني هذه المقاطعة العربية، والتي تقع إلى الشمال من "نخل موصرى" أي "وادي موصرى"4.   1 H. WINCKLER, OP. CIT., P.5. وكذاA. LODS, OP. CIT., P.197-199 وانظر كذلك: مادة Exodus في THE JEWISH ENCYCLOPAEDIA 2 انظر كتابنا "إسرائيل" ص325-237. 3 A. LODS, OP. CIT., P.169-170 وكذا G.E. Wright, Biblical Archaeology, 1957, P.53f وكذا J.M. Smith, Ajsl, 49, P.172-84 وكذا J.H. Breasted, History Of Egypt, P.350 وكذا J. Finegan, Light From The Ancient Past, P.134 وكذا W.S. Smith, Jbr, 19 P.12-15 4 H. Winckler, Op. Cit., P.5. وكذاJ.H. Breasted, Op. Cit., P.549 وكذا W.O.E. Oesterley, Egypt And Israel, In The Legacy Of Egypt, P.228 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 وهناك من يرى أن "معين موصرى" لم تكن تابعة لحكومة معين الجنوبية، وإنما كانت منذ القرن الخامس قبل الميلاد، وحتى القرن الأول قبل الميلاد، مستعمرة معينية مستقلة، وأن لقب "كبير" الوارد في نصوصها لا يعني بالضرورة أن يكون حامله تابعًا لحكومة معين الجنوبية، وإنما هو لقب كان يحمله في "معين موصرى" سيد القوم وحاكمهم، على أن أصحاب هذا الرأي إنما يربطون زوال هذه المستعمرة بزوال الدولة المعينية في الجنوب، وربما كان ذلك في الوقت نفسه دليلا على أن المستعمرة الشمالية، إنما هي ولاية تخضع للحكومة الجنوبية في معين1.   1 J. Grohmann, Arabien, P.277 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 4- أهم المدن المعينية : بقيت نقطة أخيرة تتصل بالمدن المعينية، والتي أهمها دون شك "قرناو" العاصمة -وتقع على مبعدة سبعة كيلو مترات ونصف إلى الشرق من قرية الحزم، مركز الحكومة الحالي في الجوف -وقد عرفت "قرناو" كذلك، كما عرفها الكتاب القدامى من الأغارقة والرومان باسم "1Carna Karnna Katna"، وأما الأخباريون، فإن معين -في رأيهم- إنما هي من أبنية "التبابعة"، وأنها حصن بني في نفس الوقت مع "براقش" وبعد "سلحين" الذي بني -فيما يزعمون- في ثمانين عامًا2. وأما أهم آثار قرناو فمعبد "رصاف" الذي يقع خارج أسوار المدينة، فضلا عن آثار سكنى في مواضع متفرقة من المدينة، التي يرى البعض أنها ظلت مأهولة بالسكان حتى القرن الثاني عشر الميلادي، ثم بدأت الظروف تتغير، فأخذ سكان المدينة يتناقصون شيئًا فشيئًا حتى تحولت آخر الأمر إلى خرائب3. وهناك كذلك المركز الهام "ياثل" "براقش"، والتي بقيت حتى أيام   1 Richard, H. Sanger, The Arabian Peninsula, P.237 وكذا O'leary, Op. Cit., P.95 2 البكري 1/ 237-238، ياقوت 1/ 364، 3/ 235، 5/ 160. 3 جواد علي 2/ 116، وكذا. Hermann Von Wissmann Und Maria Hofner, Beitrage Zur Historischen Geographie Des Vorislamischen Sudarabien, Wiesbaden, 1953, P.14 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 الهمداني "334هـ=945م" فوصف آثارها وخرائبها1، وهي نفسها مدينة "Athiuia=Athruia"- آخر موضع وصلته حملة إليوس جالليوس الروماني على اليمن في عام 24ق. م- وأما سبب التحريف في اسمها، فهو صعوبة لفظية، فيما يرى البعض2، ولعل اسم المدينة "ياثل" قد أصبح في العربية الفصحى "وثلة"، فقد ذكرها "الفيروزآبادي" في القاموس اسما لقرية، وقال من ناحية أخرى "وذو وثلة قيل" يعني من أقيال اليمن3. و"براقش" عند الإخباريين مدينة قديمة جدًّا، كان يسكنها عند ظهور الإسلام "بنو الأوبر من بلحارث بن كعب ومراد"4، وأما سبب تسميتها ببراقش فموضع خلاف عندهم، فرواية تذهب إلى أنها سميت كذلك نسبة إلى "كلبة" عرفت ببراقش، بينما تجعلها رواية أخرى "امرأة" أسند إليها والدها تصريف أمور الدولة في أثناء غيابه في واحدة من غزواته، فما كان منها إلا أن اهتبلت الفرصة، فبنت مدينتي براقش ومعين تخليدًا لذكراها، إلا أن ذلك قد أغضب والدها الملك، ومن ثم فقد أمر بهدم المدينة، وذهبت رواية ثالثة إلى أنها نسبة إلى براقش امرأة لقمان بن عاد، وهكذا يحاول المؤرخون المسلمون تفسير الأمور ببساطة تدعو إلى العجب، إلا أنه مما لا شك فيه أن المثل المشهور "على نفسها جنت براقش" كان سببًا في هذه التفسيرات المتضاربة5. وهناك كذلك مدينة "نشق" "البيضاء" التي استولى عليها السبئيون في أيام "يدع أل بين" مكرب سبأ، وهي نفسها -فيما يرى البعض- "Mesca=Mescus" التي ذكرها الكتاب القدامى من الأغارقة والرومان، وهي " Aska"- عند سترابو- وقد استولى عليها "إليوس جالليوس" إبان حملته على اليمن6. وهناك كذلك "نشان"، "نشن" -وهي الخربة السوداء الحالية- وقد اكتشف   1 الإكليل 8/ 138، 104، 105. 2 H. Von Wissmann Und M. Hofner, Op. Cit., P.32 3 حسن ظاظا: المرجع السابق ص131. 4 البكري 1/ 238. 5 الميداني 2/ 14-15، اللسان 1/ 266، البكري 1/ 238، البيان والتبيين للجاحظ 1/ 222. 6 جواد علي 2/ 118-119، وكذا الإكليل 8/ 128. وكذا H. Von Wissmann And M. Hofner, Op. Cit., P.32 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 هناك ما يشير إلى أن المدينة كانت مركزًا صناعيًّا مهمًّا1، وهناك كذلك موضع "لوق" وهو -فيما يرى جلازر "Labecia" الذي ذكره بليني "32-79م" من بين الأماكن التي استولى عليها "إليوس جالليوس"، بينما هو "لبه" "Labbah" فيما يرى "فون فيسمان"2.   1 الهمداني: صفة جزيرة العرب ص167، محمد توفيق: آثار معين ص11، جواد علي 2/ 118، وكذا وكذا H. Von Wissmann And M, Hofner, Op. Cit., P.16 وكذا Handbuch, I, P.70, 82-83 2 جواد علي 2/ 119 وكذا H. Von Wissmann And M. Hofner, Op. Cit., P.15 وكذا Le Museon, 1964, 3-4, P.435 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 الفصل الثامن: دولة حضرموت موقع حضر موت : تقع حضرموت إلى الشرق من اليمن على ساحل بحر العرب، ويصفها "ياقوت الحموي" بأنها ناحية واسعة في شرق عدن بقرب البحر، وحولها رمال كثيرة تعرف بالأحقاف، وبها قبر هود عليه السلام، وبقربها بئر برهوت، وبها مدينتان يقال لإحداهما "تريم" وللأخرى شبام"، وعندها قلاع وقرى1. وقد تردد اسم حضرموت في كتابات اليونان والرومان، مع شيء قليل أو كثير من التغيير أو التحري، فهو عند "إيراتوسثينيس" "276-194ق. م" "Chatramotitae"وعند "ثيوفراستوس Hadramyta"وعند "بليني" "Atramitae" وعند بطليموس "2Adramitae". وحضرموت عند الأخباريين "ابن يقطان" وتلك في الواقع رواية التوراة حيث نقرأ في التكوين وفي أخبار الأيام الأول أن "يقطان ولد الموارد وشالف وحضرموت ورياح"3. وقد وصف صاحب كتاب "الطواف حول البحر الأرتيري" سواحل حضرموت الجنوبية بأنها مناطق موبوءة يتجنبها الناس، ومن ثم فلا يجمع التوابل منها إلا "دخول" ملك حضرموت، وإلا أولئك الذين كتب عليهم القصاص من جريمة ما4، وربما   1 ياقوت 2/ 270، وانظر: البكري 2/ 455. 2 جواد علي 2/ 129 وكذا Pliny, 6, 28, 32 وكذا Ei, P.207 وكذا O'leary, Op. Cit., P.99 وكذا Ptolemy, Vi, 7, 10 وكذا C. Forster, Op. Cit., P.113, 194 وكذا Theophrastus, Enquiry Into Plants, 2, P.235 وكذا Le Museon, 1964, 3-4, P.441 3 تكوين 10: 26، أخبار أيام أول 1: 20. 4 H. Von Wissmann And M. Hofner, Op. Cit., P.87 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 كان لذلك صلة بالمعنى العبري للكلمة "دار الموت" والذي نقله مسلمة أهل الكتاب، كما نقلوا غيره إلى المصادر العربية1، ومن ثم فقد قيل اسم حضرموت في التوراة "حاضرميت"، وإن قيل كذلك، إنما سميت حضرموت نسبة إلى "حضرموت ابن يقطن بن عابر بن شالح2". على أن "ياقوت الحموي" إنما يقدم لنا تعليلا آخر -توراتيًّا كذلك- يجعل حضرموت اسما لرجل، هو "عامر بن قحطان" وأنه كان إذا حضر حربًا أكثر فيها من القتل، ومن ثم فقد سمي بحضر موت3، أو أنها على اسم "حضرموت ابن قحطان" الذي نزل هذا المكان فسمي به، فهو اسم موضع، واسم قبيلة4. وأيًّا ما كان الصواب في هذه التعليلات، فمما لا شك فيه أن هناك دولة قامت في جنوب بلاد العرب تحمل اسم "حضرموت"، وأنها كانت تعاصر معين وقتبان وسبأ، إلا أن العلماء ما يزالون مختلفين على عصر هذه الدولة، فذهب نفر منهم إلى أنها إنما كانت في الفترة "450ق. م-290م"5، بينما ذهب فريق آخر إلى أنها إنما كانت في الفترة "450ق. م- القرن الثاني الميلادي"6. هذا وقد قدمت لنا الاكتشافات الحديثة الكثير من أسماء ملوك حضرموت، وإن كان العلماء لم يتفقوا بعد على ترتيبهم ترتيبًا تاريخيًّا7. وعلى أي حال، فما تزال البعثات العلمية توالي العمل هناك، وآخرها تلك البعثة الأمريكية التي قامت في عام "1961/ 1962" بمسح أثري للوادي، واكتشفت هناك عدة قرى ومواقع أثرية، وأطلال معابد وفخار، فضلا عن 1200 نقش، منها 18 نقشًا ثموديًّا، لعل أهمها نقوش قرية "سنا" حيث يقوم هناك معبد للإله   1 جواد علي 2/ 120 وقاموس الكتاب المقدس 1/ 378. وكذا Ep, P.1976 وكذا J. Hasting, Op. Cit., P.333 وكذا J. Montgomery, Arabia And The Bible, P.39 2 ياقوت 2/ 270. 3 ياقوت 2/ 270. 4 ياقوت 2/ 270. 5 J.B. Philby, The Background Of Islam, P.141 6 S. Moscati, Op. Cit., P.179 7 أنظر: جواد علي 2/ 1660170، فؤاد حسنين: المرجع السابق ص276-278. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 القمر "سين" ونقوش "العقلة" التي تتضمن أسماء ملوك حضرموت وسبأ1، وإن كان معظمها قد صوره من قبل "فلبي" وكتب عنه. وتدلنا النقوش التي تركها الحكام الحضارمة على مدى عنايتهم بالإصلاحات الداخلية، فضلا عن علاقتهم بالدويلات المجاورة، ومن ذلك الكتابة التي تركها لنا "شكم سلحان بن رضوان"، أحد كبار موظفي حكومة حضرموت، ربما في عهد "يشكر إيل يهرعش بن أبيع"، وفيها يتحدث الرجل عن بناء سور وباب وتحصينات لحصن" "قلت"- ويشرف على واد تقطعه الطريق بين مدينة "حجر" وميناء "قنا" -فضلا عن إنشاء جدار وحواجز في ممرات الوادي الرئيسية، وذلك لحماية منطقة حجر من أي غزو أجنبي، ولا سيما غزو الحميريين الذين كانوا يهددون حضرموت، ويتدخلون في شئونها، وأن ذلك العمل قد تم في خلال ثلاثة أشهر تقريبًا، كما أنشأ استحكامات ساحلية لحماية البر من أي هجوم بحري، ومن ثم فقد أقام على ما يبدو حصونًا على لسانين بارزين في البحر لحماية الخليج الذي كان بينهما، كما حصّن المنفذ المؤدي إلى "ابنة" وإلى مدينة "ميفعة" حيث بنى سورًا قويًّا، فضلا عن برجين وباب وأماكن للجنود لاستخدامها إبان الدفاع عن المدينة2. هذا ويرى نفر من الباحثين أن الكتابة التي دونها صاحبنا "شكم شلجان" هذا، إنما هي أقدم كتابة حضرمية وصلت إلينا حتى الآن، وأنها ترجع إلى القرن الخامس أو أوائل القرن الرابع قبل الميلاد3. ويبدو أن حضرموت كانت تعاني في تلك الأيام من هجمات الحميريين المتتالية عليها، ومن ثم فقد لجأت إلى سد الأودية بجدر حصينة قوية، حتى يمكنها التحكم في المرور في الوادي، وبالتالي تستطيع منع الحميريين من غزوها، وكانوا في تلك الفترة يقيمون في جنوب وجنوب شرق لبنة وميفعة، قبل أن يتحولوا إلى الأماكن التي عرفت باسمهم قبيل القرن الثاني ق. م4.   1 انظر: G.W. Van Beek, G.H. Cala, And A. Jamme, An Archaeological Reconnaissance In Hadhramout, South Arabia, Preliminary Report 2 جواد علي 2/ 132-133 وكذا Le Museon, 1964, 3-4, P.444 وكذا H. Von Wissmann And M. Hofner, Op. Cit., P.95 3 H. Von Wissmann And M. Hofner, Op. Cit., P.109 4 جواد علي 2/ 134-135. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 ويرى "فون فيسمان" أن حمير قد استولت على ميناء "قنا" "Cana" في أيام الملك "يشكر إيل يهرعش بن أبيع"، وقد كان ميناء قنا هو الميناء الوحيد الصالح للملاحة، ومن ثم فإن حركة الملاحة بين حضرموت من ناحية، والهند وإفريقيا من ناحية أخرى، قد تركزت فيه1. وهناك كتابة عثر عليها "فلبي" "عرفت بفلبي 103" تتحدث عن إنشاء طريق على أيام الملك "علهان بن يرعش" في ممر "Hamtaban" شرقي شبوة، لتسهيل وصول القوافل إلى العاصمة، فضلا عن تسهيل وصول الجيش إلى مقر الملك للدفاع عنه2. وهناك كتابة أخرى "فلبي 82" ترجع إلى أيام الملك "العزيلط" ملك حضرموت دونها شريفان من حمير بعث بهما ملك سبأ وذي ريدان، للمشاركة في الاحتفال بتتويج ملك حضرموت في حصن أنود، وأخرى دونها الملك الحضرمي نفسه، وفيها يقول "العزيلط ملك حضرموت، ابن عم ذخر، سار إلى حصن أنود، ليتلقب بلقبه ... "3. وفي الواقع أننا نستطيع أن نستنتج من هذه النصوص عدة نتائج منها "أولًا" أن العلاقات بين حضرموت وسبأ كانت في تلك الأيام ودية، ومن ثم فإننا نرى ملك سبأ يشارك -عن طريق مبعوثيه- في الاحتفال بتتويج الملك الحضرمي، ولكن من ناحية أخرى، ربما كان وجود المبعوثين السبئيين إشارة إلى أن ملك حضرموت، إنما كان يتولى سلطانه برضى من ملك سبأ، بخاصة وأن الكتابة إنما دونها مبعوثا ملك سبأ4، ومنها "ثانيًا" أن القوم في حضرموت قد اعتادوا عند تنصيب ملك جديد، أو إضافة لقب جديد إلى ألقاب الملك القديمة، أن يتم ذلك عند حصن "أنود"5،   1 Le Museon, 1964, 3-4, P.44 2 J.B. Philby, Three New Inscriptions From Hadhramout, Jas, 1945 3 جواد علي 2/ 142 وكذا J.B. Philby, Sheba's Daughters, London, 1939. P.449-450 4 جواد علي 2/ 142. 5 حصن أنود "أنوردم": ويقع في موضع "عقلة الحالية" وهو على شكل مربع، يشرف على واد يتصل بتلال "شبوة"، وقد كان حصنًا ومعسكرًا يقيم فيه الجيش لحماية مزارع الوادي "انظر: جواد علي 2/ 157-158 وكذا "J.B. Philby, Sheba's Daughters, London, 1939, P.314f الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 وإن كنا لا ندري متى بدأ هذا التقليد، وعلى أي حال، فلقد استمر ذلك حتى القرن الثاني الميلادي، فيما يرى "أولبرايت"، أو بالتحديد إلى عام 200م، فيما يرى "ريكمانز"1، ومنها "ثالثًا" أن هذا المكان ربما كان من الأماكن المقدسة عند القوم، أو على الأقل ذا مكانة خاصة جرت العادة على أن يتوج الملوك فيه2. وهناك نصوص تفيد أن "العزيلط" "وربما كان العزيلط الثاني" قد استقبل وفودًا من الهند ومن تدمر ومن الآراميين، بل إن الكتابة المعروفة ب"جام919" تتحدث عن مرافقة عشر نساء قرشيات له إلى حصن أنود، مما يدل على أن ملك حضرموت كانت له علاقات ودية -وربما تجارية في الدرجة الأولى- مع الهند وتدمر والآراميين، كما أن ذكر قريش هنا- إن كان المقصود بها قريش المعروفة صاحبة مكة- يعد أقدم ذكر لها في وثيقة مدونة، وإن كنا لا ندري ما هي صفة هؤلاء النسوة القرشيات3. وإنه لمن الأهمية بمكان الإشارة إلى أن نقش "فلبي84" ذي الأهمية الخاصة بالعاصمة "شبوة"، حيث يتحدث فيه صاحبه "يدع إل بين بن رب شمس" بأنه من أحرار يهبأر -أي من صرحاء القبيلة- وأنه قد عمر مدينة شبوة وأقام بها، وبنى معبدها من الحجارة بعد الخراب الذي حل بها، وأنه -احتفالا بهذه المناسبة- قد أمر بتقديم القرابين في حصن أنود، فذبح "35 ثورًا، 82 خروفًا، 25 غزالًا، 8 فهود"4. ومن أسف أن الملك الحضرمي لم يحدثنا عن سبب هذه المأساة التي حلت بشبوة، ومن ثم فقد تضاربت آراء الباحثين حوله، فذهب نفر منهم إلى أن ذلك إنما كان لأن سبأ قد استولت عليها، وأن قتالا ضاريًّا قد وقع بين الفريقين، بذل فيه "يدع إل بين" كل ما استطاع حتى لا تقع المدينة في أيدي الغزاة، ومن ثم فقد كان خراب المدينة وتدمير معبد الإله "سين" بها.   1 H. Von Wissmann And M. Hofner, Op. Cit., P.108 2 جواد علي 2/ 142. 3 Aj, 919, 931 وكذا Le Museon, 1964, 3-4, P.484 وكذا Basor, 119, 1950, P.14. وكذا Le Museon, Lxiii, 3-4, P.261, 62, 65 4 جواد علي 2/ 147 وكذا J.B. Philby, Op. Cit., P.541 وكذا Le Museon, Lxi, 3-4, 1948, P.190 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 وذهب فريق آخر إلى أن "يدع إل بين" كان ثائرًا حضرميًّا ساءه أن تحتل سبأ عاصمة بلاده، ومن ثم فقد كانت الحرب الضروس بين الفريقين، مما أدى إلى خراب المدينة، وإعلان "يعد إل بين" نفسه ملكًا على حضرموت، وذهب رأي ثالث إلى أن الحرب إنما كانت بين الحضارمة أنفسهم، وأن "يدع إل بين" كان ثائرًا على الملك الشرعي في حضرموت -وليس في سبأ- وأن الحرب قد انتهت بزوال الأسرة الملكية السابقة، وتتويج "يدع إل بين" ملكًا على حضرموت، وإن كتب على المدينة أن تلاقي الأمرين في هذه الحرب الأهلية، وأن يدمر معبدها فيها، وأما تاريخ هذا النص فهو القرن الثاني الميلادي، على رأي "أولبرايت"، وبعد عام 200م، على رأي ريكمانز1. على أن "هومل" إنما يرى أن "يدع إل بين" إنما كان آخر ملوك حضرموت، وأن دولته قد دالت حوالي عام300م، وأن السبئيين قد ورثوها على أيام "شمر يهرعش"2، غير أن "فلبي" قد اعترض على ذلك، محتجًّا بأنه قد عثر في عام 1936م عند "العقلة" على نقش جاء فيه ذكر هذا الملك، كمؤسس لأسرة ظلت تحكم أجيالا، وكذلك كمؤسس لمدينة "شبوة" التي كانت من المدن المشهورة على أيام "سترابو" "66ق. م -24م" و"بليني" "32-79م"، هذا وقد عثر "هارولد إنجرامز" عام 1939م، على نقش عند أول وادي "عرمة"، ربما يرجع إلى ما قبل تأسيس شبوة -"وإن كان من المحتمل أن يكون لغير هذا الملك رغم تشابه الأسماء" -ومن ثم فإن تاريخ شبوه وقيام هذه الأسرة بحكم حضرموت، إنما يرجع إلى القرن الثاني ق. م، بخاصة وأن الظروف وقت ذاك، كانت تتطلب أسرة حضرمية جديدة، تبادر إلى تأسيس عاصمة جديدة، وتهيمن على طرق مواصلات تجارة البخور، بعد أن بدأت عوامل الضعف تدب في مملكة سبأ منذ القرن الثالث قبل الميلاد3.   1 جواد علي 2/ 147-148. وكذا H. Von Wissmann And M. Hofner, Op. Cit., P.115 2 فريتز هومل: المرجع السابق ص107. 3 فؤاد حسنين: المرجع السابق ص275. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 وأما متى انتهت دولة حضرموت، وكيف أصبحت جزءًا من مملكة سبأ وذي ريدان، فذلك موضع خلاف بين الباحثين، فهناك من يرى أن ذلك إنما كان في عام 290، بينما يرى آخرون أنه كان على أيام "شمر يهرعش"، وبعد عام 300م، وأخيرًا فهناك فريق ثالث يذهب إلى أن سقراط حضرموت، إنما كان في القرن الرابع الميلادي، وقبل احتلال الحبشة الأول للعربية الجنوبية "الذي يرونه فيما بين عامي 335، 370م" بقليل1.   1 فؤاد حسنين المرجع السابق ص277. وكذا H. Von Wissmann And M. Hofner, Op. Cit., P.166-144 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 أهم مدن حضرموت: لا ريب في أن "شبوه" العاصمة هي أهم مدن حضرموت، وقد ذكرها الكتاب القدامى من الأغارقة والرومان تحت اسم "1Sabota Sabotha Sabbatha"، وهي "Sabtah" عند "مونتجمري2" و"Sawa" عند "هوجارث"3، وقد ذكرها الهمداني من بين حصون حضرموت ومحافدها4، وذهب "ياقوت" إلى أنها من حصون اليمن في جبل ريمة، وقال "ابن الحائك": شبوه مدينة الحمير، وأحد جبلي "الثلج بها، والثاني لأهل مأرب5، هذا وقد خلط بعض المستشرقين بينها وبين "شبام"6 التي تقع على مقربة من صنعاء7. ويرجع السبق في اكتشاف آثار شبوه إلى "جون فلبي"، والتي من أهمها بقايا المعابد والقصور، فضلا عن بقايا السدود التي كانت مقامة على وادي شبوه لحصر   1 جواد علي 2/ 157 وكذا Pliny, 6, 28, 32, Ptolemy, 6, 7, 38 2 J. Montgomery, Op. Cit., P.42 3 D.G. Hogarth, The Penetration Of Arabia, P.149, 151, 221 4 الهمداني: صفة جزيرة العرب ص87089، الإكليل 8/ 90. 5 ياقوت 3/ 323، وانظر: البكري 3/ 780. 6 يذكر ياقوت الحموي أن في اليمن أربعة مواضع اسمها "شبام" شبان كوكبان غربي صنعاء، وشبام سخيم قبلي صنعاء بشرق، وشبام حراز غربي صنعاء وشبام حضرموت "ياقوت 3/ 318" 7 جواد علي 2/ 157 وكذا. W. Vincent, The Periplus Of The Erythrean Sea, Part The Second, P.301 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 مياه الأمطار، والإفادة منها في إرواء المناطق الخصبة1، ولا يزال يشاهد في وادي "أنصاص"، وفي خرائب شبوه، بقايا سدود وقنوات للإفادة من المياه عند الحاجة إليها2، على أن شبوه كانت كذلك أرض اللبان والمر، وقد كانا يصدران من ميناء "قنا"3. وهناك كذلك مدينة "ميفعة"، العاصمة القديمة لحضرموت، وهي نفسها "Mapharitis" التي أشار إليها صاحب كتاب "الطواف حول البحر الأرتيري"4 على رأي بعض الباحثين5، وهي "Maiph Metropoiis" عند بطليموس الجغرافي "138-165م"6. وهناك الكثير من النصوص التي تتحدث عن تحصين "ميفعة" وعن تسويرها بالحجارة وبالصخر المقدد وبالخشب، فضلا عن الأبراج التي أقيمت حول السور لصد الغزاة، ومنها نص يشير إلى أن "هبسل بن شجب" قد بنى سور المدينة وأبوابها، وأنه قد أقام فيها بيوتًا ومعابد، وأن ابنه "صدق يد" قد زاد في أسوراها وأحكم بناءها، على أن الخراب سرعان ما حل بها في القرن الرابع الميلادي، ثم حل مكانها موضع عرف بـ "Sessani Adrumetorum" أي عيزان7. وهناك مدينة "قنا" ميناء حضرموت الرئيسي -حيث كان يجمع اللبان والبخور، ثم يصدر منها برًّا وبحرًا، وأما موقع "قنا" فهو إلى الشرق من "عدن"، وقد ذهب نفر من الباحثين إلى أنه في مكان "حصن الغراب" الحالي، وكان يعرف   1 J.B. Philby, Op. Cit., P.79 2 جواد علي 2/ 157 وكذا H. Von Wissmann And M. Hofner, Op. Cit., P.108 3 W. Von Vincent, Op. Cit., P.301 وكذا A.M. Fahmy, Muslim Seapower In The Eastern Mediterranean, P.46 4 يحدد البعض تاريخ هذا الكتاب بالفترة من 50-60م فضلو حوراني: المرجع السابق ص54، بينما يرى آخرون أنه يرجع إلى عام 75م موسكاتي: المرجع السابق ص378، وأما جاكلين بيرين فالرأي عندها أنه كتب في عام 106م "J. Pirenne, Op. Cit., P.167-193". 5 J.B. Philby, Op. Cp.80.It., 6 H. Von Wissmann And M. Hofner, Op. Cit., P.86 7 جواد علي 2/ 158-159 وكذا H. Von Wissmann And M. Hofner, Op. Cit., P.86 وكذا Rep. Epig, 2640, V, I, P.14 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 قديمًا باسم "عرموت"1، على أن نقش "Cih7 28" والذي عثر عليه الضابط الإنجليزي "جيمس ولستد" في حصن الغراب عام 1834م -جاء فيه أن "صيد أبرد بن مشن" كان مسئولا عن "بدش" وعن "قنا"، وأن ذلك قد كتب على "عرموية" "عرماوية= حصن ماوية"، فأما "قنا" فهو اسم الميناء المشهور، وأما الحصن الباقي أثره حتى اليوم فهو "حصن ماوية"، وأما "بدش"، "باداش" فما يزال معروفًا حتى اليوم بشيء من التحريف، حيث يعيش قوم رعاة يعرفون باسم "مشايخ باداس"، ومن ثم فحصن غراب هو "عرمويت" وهو حصن مدينة قنا2. وهناك مدينة "مذب" أو مذاب"، وقد اشتهرت بمعبدها المكرس لعبادة إله القمر "سين" وتقع بقاياه اليوم في الموقع المعروف باسم "الحريضة"، وقد قامت ثلاث رحالات أوربيات "ج. كاتون طومسون، أ. جاردنر، ف. شترك" في عام 1937م، برحلة إلى حضرموت، وهناك في وادي عمد، مقابل حريضة، كشفن عن معبد إله القمر "سين"، كما عثرن على عدد من الكتابات تبين أن بعضها سبئية، فضلا عن العثور على بعض القبور والأواني الفخارية والخزفية، التي يظن أنها ترجع إلى القرن السابع أو الخامس قبل الميلاد3، إلا أن البعثة لم تتوصل إلى تاريخ بناء المعبد بصورة نهائية، وإن كانت بعض واجهات المعبد تعود إلى الفترة بين أواسط القرن الخامس، وحتى القرن الرابع ق. م، فضلا عن أن بعض أجزاء المعبد، إنما تعود إلى العهد السلوقي4، وأخيرًا فإن هناك من يرى أن مدينة "مذاب" ومعبدها، إنما يعودان إلى الفترة ما بين القرن الخامس والثالث قبل الميلاد5.   1 C. Forster, The Historical Geography Of Arabia, Ii, P.186 2 جواد علي 2/ 161 وكذا H. Von Wissmann And M. Hofner, Op. Cit., P.91 وكذا J. Wellsted, Travels In Arabia, London, 1838 وكذا Le Museon, 1961, 1-2, P.194 3 Le Museon, Lx, 1-2, 1947, P.71 وكذا G, Caton Thompson, The Tombs And Moon Temple Of Hureidha, وكذا OXFORD, 1944, P.15 4 G. CATON THOMPSON, OP. CIT., P.153 5 إيفاهويك: سنوات في اليمن وحضرموت، ترجمة خيري حماد، بيروت 1962 ص170، جواد علي 2/ 163. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 وهناك في حضرموت أماكن قديمة "حضرمية وسبئية"، ينسبها القوم إلى عاد وثمود، فقرية "سنا" يرون أن بها قبر هود عليه السلام، وفي موضع "غيبون" خرائب يظنها القوم من آثار عاد، بينما يرى الأثريون فيها بقايا مدينة حميرية، وعند ملتقى وادي "منوة" بوادي "ثقبة" صخور مهيمنة على الوادي، نقرها أصحابها لتكون مأوى للجنود، تمكنهم من مهاجمة أعدائهم على غرة، وعلى مقربة من "تريم" خرائب قديمة، لعلها في أغلب الظن من آثار معبد قديم، هذا فضلا عن مواقع أثرية أخرى مثل حصن "عر" و"حدبة الغصن" و"المكنون" و"ثوبة" وغيرها، مما يدل على أن حضرموت قد حصنت حدودها، وأقامت عليها الحاميات العسكرية لحماية نفسها من أي طامع فيها، أو ثائر من داخلها، وأن هذه الحصون قد أقيمت في مواقع منيعة على التلال وقمم الجبال والمرتفعات، حتى تستطيع بسهولة الإشراف على السهول ومضايق الأودية1.   1 جواد على 2/ 163-165 وكذا VAN DER MUELEN AND HERMANN VON WISSMANN, HADRAMAUT, SOME OF ITS MYSTERIES UNVEILED, LEIDEN, 1964, P.57, 83, 130, 139, 145, 143, 173-4 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 الفصل التاسع: دولة قتبان تقع دولة قتبان -كما يروي سترابو، نقلا عن إيراتوسثينيس -في الأقسام الغربية من العربية الجنوبية، وفي جنوب السبئيين وجنوبهم الغربي، وقد امتدت منازلهم حتى بلغت باب المندب1، إلا أن قتبان كانت مبتعدة عن الساحل الهندي إلى الداخل، حيث كانت تقوم بينها وبين البحر مملكة "أوسان" الصغيرة، وأهم بلادها "شقرة" على ساحل المحيط الهندي، ثم تنتهي إلى إمارة عدن2. وعلى أي حال، فلقد تحدثت المصادر الكلاسيكية عن القتبانيين، فذكرهم "ثيوفراست"3 و"سترابو"4 و"بليني"5 وغيرهم، وأما المصادر العربية، فليس فيها شيء يستحق الذكر عن قتبان، سوى أنها موضع من نواحي عدن6، وأنها بطن من رعين من حمير7، ولعل السبب في ذلك هو ضعف قتبان وانضوائها تحت لواء حكومة سبأ، وذي ريدان -وهي الحكومة التي يطلق عليها المؤرخون العرب اسم "حمير" -ولأن قبيلة حمير هذه كانت أقوى القبائل اليمنية عشية ظهور الإسلام، فضلا عن أنها هي التي قاومت الأحباش، وهي التي تركت أثرًا في القصص العربي، وفي قصته أصحاب الأخدود8، حتى أصبحت الحضارة الحميرية علمًا على كل شيء في بلاد اليمن قبل الإسلام، بحيث تلاشت الحضارات الصغرى   1 جواد علي 2/ 172 وكذا EI, 2, P.810 2 حسن ظاظا: المرجع السابق ص129. 3 Theophrastus, Ii, P.235 4 O'leary, Op. Cit., P.96. وكذا Strabo, 16, 4,2 5 O'leary, Op. Cit., P.108. وكذا Pliny, 6, 32 6 ياقوت 4/ 310. 7 تاج العروس 1/ 431. 8 جواد علي 1/ 173. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 التي ظهرت في اليمن في العصر الجاهلي1. وقد اختلف المؤرخون في بداية الدولة القتبانية ونهايتها، ورغم الدراسات التي قدمها العلماء المتخصصون في الدراسات العربية القديمة -ومنهم فريتز هومل2 ونيكولوس رود كناكيس3 وديتلف نلسن4 ووليم أولبرايت5 وأدولف جرومان6 وهاري سان جون بريدجر فلبي7 ومارتن هارتمان8 وجاكلين بيرين9 -فإن الخلاف ما زال قائمًا على تحديد الفترة التي حكمت فيها دولة قتبان، بخاصة وأنها قد عاصرت -كما جاء في الكتابات المعينية والسبئية- دولة معين ودولة سبأ، ومن ثم فإن تاريخ هذه الدول جميعًا مرتبط بعضها بالبعض الآخر، ومرتبط كذلك بالأبحاث والدراسات اللغوية، وكل تلك أمور لم يتفق العلماء عليها حتى الآن. ومن هنا رأينا بعض الباحثين يرجع تاريخ قتبان إلى القرن العاشر، أو الحادي عشر ق. م، وهو التاريخ الذي قد يرجع إليه النقش المخربش الذي حل رموزه "ألبرت جام"، وهو يعتبر أقدم نص جاءنا من بلاد العرب الجنوبية، كما أن عصر هذا النقش كان فترة انتقال في تاريخ قتبان، إذ سرعان ما يظهر بعده عصر المكاربة الذين حكموا قتبان عدة قرون، وقد وصلنا أسماء عدد منهم في فترة حكمهم التي كانت فيما بين القرنين السابع والخامس قبل الميلاد.   1 أحمد فخري: اليمن ماضيها وحاضرها ص53. 2 فريتز هومل: المرجع السابق ص100-104. 3 Nikolaus Rhodokanakis, Katabanische Texte Zur Bodenwirtschaft, Wien, 1922 4 Ditlef Nielsen, Neue Katabanische Inschriften, In Mvag, Xi-Iv, 1906 وانظر: D. Nielsen, Katabanische Texte, I, P.26, P.98 5 W.F. Albright, The Chronology Of Ancient South Arabia In The Light Of The First Campaign Of Excavation In Qataban, Basor, 119, 1950, P.11 6 A. Grohmann, Uber Katabanische Herrscherreihen, 1916, P.42 7 H. St. J.B. Philby, The Background Of Islam, Alexandria, 1947, P.143 8 M. Hartmann, Die Arabische Frage In Der Islamische Orient, Ii, Leipzig, 1909, P.156 9 J. Pirenne, Le Royaume Sud-Arabc De Qataban Et Sa Datation, Louvain, 1961. 10 فؤاد حسنين: التاريخ العربي الإسلامي ص286. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 على أن هناك من يرى أن دولة قتبان، إنما كانت فيما قبل عام 1000ق. م، وحتى القرن الثاني ق. م1، ومن يرى أنها كانت في الفترة من "865-540ق. م"2، ومن يرى أنها كانت فيما بين عام 645ق. م، والقرن الثالث ق. م3، ومن يرى أنها كانت فيما بين القرن السادس ق. م، وعام 50ق. م4، ومن يرى أنها في الفترة "400-50ق. م"5، ومن يرى أنها فيما بين القرن الرابع ق. م، والأول الميلادي6. هذا ويذهب بعض الباحثين إلى أن نهاية دولة قتبان وتخريب عاصمتها "تمنا" "تمنع" إنما كان بين عامي 200، 24ق. م7، بينما يذهب فريق آخر إلى أن ذلك إنما كان بعد الميلاد وليس قبله، فالأب "ريكمانز" يرى أنها كانت عام 207م أو 210م، بينما يرى "فون فسمان" أن ذلك إنما كان حوالي عام 140م أو 146م،8 وأما عن أسماء ملوك قتبان، فهناك كثير من القوائم التي قدمها العلماء ومنها قوائم فريتز هومل ورود كناكيس وكليمانت هوارت وفلبي أولبرايت9. ويحاول بعض الباحثين أن يقسم تاريخ قتبان إلى ثلاث فترات، تختلف الواحدة منها عن الأخرى، ولعل أهم حكام الفترة الأولى "يدع أب ذبيان" بن "شهر"، وقد حكم في الفترة "750-735ق. م" على رأي فلبي، وفي نهاية القرن الخامس قبل الميلاد، على رأي أولبرايت، وكان -في رأي الكثيرين- أول من حمل لقب "ملك" بجانب لقب "مكرب"10، ولعل في هذا ما يشير إلى أنه كان في بادئ   1 F. Hommel, Grundriss Der Geographie Und Geschichte Des Alten Orient, P.139 2 J.B. Philby, P. Cit., P.60, 143 3 جواد علي 2/ 176-177، وكذا Basor, 119, 1950, P.3 4 Basor, 119, P.5 5 S. Moscati, Op. Cit., P.179 6 W. Phillips, Qataban And Sheha, P.222f 7 E. Glaser, Die Abessinier In Arabien And Africa, P.114 8 Le Museon, 3-4, 1964, P.468 9 انظر: جواد علي 2/ 232-240، فؤاد حسنين: المرجع السابق ص279-284 وكذا Basor, 119, P.11. وكذا C. Huart, Op. Cit., P.57 10 حسن ظاظا: المرجع السابق ص132. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 الأمر كاهنًا، ثم حمل لقب ملك، ثم اللقبين معًا، وإن اقتصر في الفترة الأخيرة من حكمه على لقب "ملك"، على أساس أنه اللقب الرسمي لحكام قتبان1. وهناك من يرجح أن "يدع أب ذبيان" هو الذي شيد المدخل الجنوبي لمدينة "تمنع"2، وطبقًا لنص "جلازر1600" فهو "مكرب قتبان وجميع أبناء "عم" "الإله الرسمي لقتبان" و"أوسان وكحد ودهس وتبنو"، هذا ويشير النص إلى إنشاء طريق في الجبل، أو بعبارة أخرى، ثغرة ليمر منها الطريق المار بالجبل من مكان إلى آخر، فضلا عن تجديد بيت "ود وعثتر"، إلى جانب بعض الأعمال الإنشائية الأخرى3. وهناك نص آخر يصف الملك -إلى جانب الألقاب السابقة- "بمكرب "يرفأ" أو "يرفع" وأبناء الجنوب والشمال"، وإن كنا لا ندري شيئًا عن صلة هذه القبائل، غير القتبانية، بالملك القتباني، أكانوا تابعين له في تلك الأيام؟ ومن ثم فقد اشتركوا في إنشاء الطريق الجبلي الآنف الذكر -الذي ربما كان للنص به صلة- أم أن هذه القبائل كانت ذات مصلحة فيه، ومن ثم فقد شاركت في إنشائه، إن الإجابة عن واحد من هذه الأسئلة لا تزال في ضمير الغيب، وعلى أي حال، فإننا أمام عمل هندسي يستحق التقدير، كما يدل على فن هندسي راق عند القتبانيين4. هذا ويرجح بعض الباحثين أن "يدع أب ذبيان" قد شن عدة حروب كتب له فيها نصرًا مؤزرًا، ومن ثم فقد مد حدوده إلى أوسان ومراد، وحتى حدود سبأ، ولعل هذا يفسر لنا اهتمامه بإنشاء الطرق التي تربط بين أطراف مملكته، ومن أشهرها الطريق المعروف باسم "مبلقة"5، ولم تكن هذه الطرق في الأرض السهلة، وإنما كانت في المرتفعات والجبال، ولعل الذي دفعه إلى ذلك عدة عوامل، منها "أولًا" أن الطرق الممتدة في السهول هدف سهل للأعداء، وأن جنوده قد يجدون صعوبة   1 جواد علي 2/ 191-192، وكذا Le Museon, 3-4, 1964, P.432 2 فؤاد حسنين: المرجع السابق ص286. وكذا Wendell Philips, Qataban And Sheba, London, 1955, P.219 3 جواد علي 2/ 189. 4 جواد علي 2/ 189-190. 5 فؤاد حسنين: المرجع السابق ص286. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 في الدفاع عن أنفسهم، إذا ما هاجمتهم قوات غازية، ومنها "ثانيًا" أن الطرق الجبلية وإن كانت صعبة فهي أقصر من طرق السهول، ثم إن الدفاع عنها، لا شك أسهل من الأخرى، فهي إذًا أكثر أمنًا، كما أنها في أرضين تابعة له1. ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن هناك وثيقة على جانب كبير من الأهمية ترجع إلى عهد هذا الملك "يدع أب ذبيان" لأنها تتصل بأصول التشريع وكيفية إصدار القوانين عند العرب الجنوبيين في العصور القديمة، فمنها نعرف أن الملك وحده هو الذي يملك حق إصدار القوانين ونشرها، ثم الأمر بتنفيذها، وأن مجلس الشعب "ويدعونه المزود" -ويتكون من رؤساء المدن والقبائل والشعاب -هو الذي يقترح القوانين ويضع مسودات اللوائح، ثم يعرضها على الملك لإقرارها والأمر بتنفيذها2. ولعلنا نستطيع أن نستنتج من ذلك كله، أن قتبان قد عرفت نظامًا يتكون من مجالس تمثل الشعب تمثيلا نيابيًّا، فقد كان يوجد مجلس قبلي، إلى جانب العرش، كما كانت هذه المجالس تمثل القبائل المختلفة في الهيئات التشريعية المتعددة، كما كانت إدارة البلاد بيدها، وربما كان المجلس يعقد جلساته مرتين في العام، وفي عاصمة الدولة، وبدعوة من الملك، ثم تصدر القوانين بعد ذلك باسم الملك، ويبدو أن هذه المجالس كانت تجتمع عندما يظهر في الجو أسباب سياسية تتصل بسياسة البلاد الخارجية، أو عند الرغبة في إدخال تغيير شامل على النظام الاقتصادي للدولة. هذا وهناك نوع آخر من المجالس، هو المجلس الاستشاري، ويتكون من الملك ومن الأشراف أصحاب الأملاك "مسود أو مزود"، ومن طائفتين أخريين لا يمكن تحديدهما بالضبط، وقد يمثلان أصحاب الأملاك أو الموظفين، ولهذا المجلس الاستشاري حق إصدار القوانين باسم الملك، فضلا عن العمل بالقوانين القديمة، وتنظيم استخدامها، كما كان من حقه أن يحل مجلس القبائل، وأن يصدر أوامر العفو -كليًّا أو جزئيًّا- عن المحكوم عليهم. ولعل هذا كله يدل على أن الملك والمجلس الاستشاري ومجلس القبائل، تكون جميعها الحكومة، وأنه ليست هناك هيئة خاصة بالتشريع، وأخرى للإدارة،   1 H. Von Wissmann And M. Hofner, Op. Cit., P.43-44 2 جواد علي 2/ 192-193، وكذا H. Von Wissmann And M. Hofner, Op. Cit., P.37 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 وثالثة للقضاة، مستقلة عن بعضها -على الأقل فيما يتصل بالأمور المالية للدولة- أما فيما يتعلق بمعرفة الفترة التي كان هذا النظام مستعملا فيها، أو الحالات العديدة التي كان يطبق فيها، فهذا ما لا نعرفه، ولا نستطيع الحكم عليه من النصوص التي تحت أيدينا1. وأما الفترة الثانية من تاريخ قتبان، والتي استمرت زهاء قرن من الزمان "350-250ق. م" فقد كان أول ملوكها "أب شبم" ثم ابنه "شهر غيلان"، الذي ترك لنا كثيرًا من النصوص، وجد بعضها في المدخل الثاني لمدينة "تمنع" هذا إلى جانب كتابة أخرى دونت عند تجديد إحدى العمارات وإنشاء برج2، فضلا عن الكتابة المعروفة بـ "جلازر 1601" والتي تتحدث عن جمع ضرائب من قبيلة "كحد" النازلة في "دتنه"، وقد جاء فيها أن رئيس القبيلة هو المسؤل عن جمع الضرائب، والتي تساوي "عشر كل ربح صافي، وكل ربح من التزام أو من بيع أو من إرث"، كما تتحدث عن توريدها لخزانة الدولة في نهاية كل عام، فضلا عن ضرائب المعابد، والتي تسمى "عصم"، وهي لفظة -يروى رود كناكيس- أنها تطلق على كل ما يسمى للآلهة أو المعابد من ضريبة مقررة، أو نذر، أو صدقة3. ولعل من الأهمية بمكان الإشارة هنا إلى أن إدارة المعابد، إنما كانت تتركز في العاصمة القتبانية، وأنها قد تركت أثرًا بعيدًا في استغلال أراضي الدولة، وفي الحصول على جزء من دخلها، وأن الدولة نفسها قد منحت إدارة المعابد هذا الحق، مجاملة منها لهذه المراكز الدينية التي انتشرت كذلك في خارج العاصمة، وقد كانت القبائل مطالبة بأن تدفع للمعابد عشر الدخل والميراث والمشتريات، إلى جانب ضريبة أخرى كانت تقدم للمعبد كهبة. هذا وقد كان أفراد طائفة المعبد يسمون "المطعمون على يد عم" "وعم هو كبير آلهة قتبان" بسبب اتصالهم بكبار رجال الدين في قتبان، وهم الذين كان القوم يعتقدون أن الله قد فوضهم في إدارة أراضيه الدنيوية، وهكذا قامت الجماعة المعروفة باسم   1 نيكولوس رود كناكيس: الحياة العامة للدول العربية الجنوبية "من كتاب التاريخ العربي القديم" ص132-136. 2 جواد علي 2/ 98 وكذا Basor, 119, 1950, P.12 3 جواد علي 2/ 199 وكذا Ktb, I, P.11-12, 25 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 "المطعَمُون من الله"، وهي جماعة خاصة بالمعبد، وتعيش على نفقة الدولة، مما جعلها في مركز يساعدها على المطالبة بالأراضي للمعبد ودخلها، بدعوى أن هذا الدخل لله سيد الأرض1. هذا وقد نال "معبد بيجان" عناية خاصة من "شهر غيلان"، ومن ثم نراه يأمر بتجديد أقسامه القديمة، وبناء أقسام جديدة فيه2، ونعرف من نقش "ريكمانز 216" أن "شهر غيلان" قد انتصر على حضرموت، وأنه تخليدًا لذكرى هذا النصر فقد أقام معبدًا للإله "عثثر" في "ذبحان" "بيجان القصب الحالية، عند جبل ريدان، حيث ما تزال حتى الآن توجد خرائب واسعة تدل على أنها كانت مدينة، أو على الأقل قرية كبيرة، وأما زمن "شهر غيلان" هذا، فقد كان في أخريات القرن الرابع ق. م، فيما يرى "فيسمان"، وفي القرن السادس ق. م، فيما يرى "جون فلبي"3. ولعل من أشهر ملوك هذه الفترة "شهر يجيل"، وقد جاء اسمه في نقش "جلازر 1602"، وهو عبارة عن مرسوم ملكي يحدد كيفية جمع الضرائب من "طائفة معبد الإله عم في أرض لبخ"، ويظهر من هذا المصطلح أن العرب الجنوبيين كانوا يؤلفون طوائف تنتمي إلى إله من الآلهة تتسمى به وتقيم حول معبده، وربما كانت تتعاون فيما بينها في استغلال الأرض لخير الطائفة بأسرها، وكانت الطائفة تقدم حقوق الحكومة إلى الجباة الذين يجبون تلك الحقوق، فيقدمونها إلى "الكبير" "أي نائب الملك"، ليقدمها بدوره إلى الملك4. ويرى "أولبرايت" أن "شهر يجيل" قد حكم حوالي عام 300ق. م، وأنه قد تغلب على دولة معين، وأخضعها لسلطانه5، ثم خلفه أخوه "شهر هلل يهنعم" وهو   1 نيكلوس رود كناكيس: الحياة العامة للدولة العربية الجنوبية ص149. 2 Rep, Epig, Vii, P.433. وكذا F. Stark, Jras, 1939, P.497 3 فؤاد حسنين: المرجع السابق ص280، جواد علي 2/ 0-2، وكذا Ktb, P.8, 47 وكذا H. Von Wissmann And M. Hofner, Op. Cit., P.48, 65 4 جواد علي 2/ 201 وكذا H. Von Wissmann And M. Hofner, Op. Cit., P.47, وكذا Le Museon, 1951, 3-4, Lxiii, P.268 5 W.F. Albright, Basor, 119, 1950, P.8 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 الذي أقام المسلة التي عثر عليها في مدينة "تمنع"، وبوفاته انتهت الأسرة القتبانية الثانية، وتناوب عرش البلاد عدد من الملوك لم نستطع حتى الآن تعيين أزمنتهم أو ترتيبهم بصفة نهائية، وكان آخرهم "يدع أب غيلان"، وقد بنى في عهده "بيت يفش"، كما أنشئت، أو على الأقل جددت، مدينة دغيلان "غيلان" عند معبد "عم ذى لبخ" في موضع "ذغيلم"، وأن هناك اتجاهًا يرجح أن ذلك إنما كان في القرن الثاني ق. م1. وأما الفترة الثالثة "150-25ق. م" فأول ملوكها "هوف عم يهنعم" والذي حكم حوالي عام 150ق. م، على رأي أولبرايت، ثم جاء من بعده "شهر يجل يهرجب" الذي أعاد بناء المدخل الجنوبي لمدينة "تمنع"، كما جدد كذلك بناء "بيت يفش"، وقد حكم بعد عام 150ق. م، بقليل، على رأي أولبرايت اعتمادًا على تمثالين لأسدين عثر عليهما في خرائب "تمنع"، وعليهما كتابة قتبانية، جاء فيها اسم صانعهما "ثويبم"، الذي ذكر في كتابة أخرى من نفس العهد، وقد استنتج "أولبرايت" أن التمثالين من عهد "شهر يجل يهرجب"، وأنهما صنعا على الطرز اليونانية2 في فترة لا تبعد كثيرًا عن القرن الثاني ق. م، ومن ثم فإن هذا الملك قد حكم حوالي عام 150ق. م3. وهناك ما يشير إلى أن قتبان في عهد "شهر يجل يهرجب" كان لها نفوذ من نوع ما على "معين"، وإن كان العلماء مختلفين على طبيعية هذا النفوذ، أهو خضوع من جانب معين لقتبان؟ أم أنه نوع من التحالف بين الدولتين، كانت فيه قتبان صاحبة اليد العليا4؟   1 فؤاد حسنين: المرجع السابق ص287. وكذا A. Jamme, A New Chronology Of The Qatabanian Kingdom, Basor, 120, 1950, P.26 وكذا H. Von Wissmann And M. Hofner, Op. Cit., P.47 2 انظر: G.E. Wirhg, Op. Cit., P.313, 319, وكذا R.L. Bowen And F. Albright, Archaeological Discoveries In South Arabia, P.155 وكذا Aja, 59, P.207 وكذا J. Pirenne, La Grece Et Saba, Paris, 1955 3 W.F. Albright, Basor, 119, 1950, P.9 4 جواد علي 2/ 207، وكذا Le Museon, Lxii, 3-4, 1949, P.233, 1964, 3-4, P, 446 وكذا Hndabuch, I, P.18., 71. وكذا J.B. Philby, Op. Cit., P.56 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 وأما ابنه "وروإل غيلان يهنعم"، فقد نسب إليه أنه أول من صك نقودًا ذهبية عثر عليها مضروبة في مدينة "حريب"1 كما أن هناك ما يشير إلى أنه ساعد قبيلة "ذو هربت" في مدينة "شوم" على بناء حصن "يخضر"2. ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن هناك نصًّا، يرجع إلى عهد الملك هذا، صاحبته امرأة تدعى "برت" تذكر فيه أنها قدمت إلى "ذات حميم عثتر بعل" تمثالا من ذهب في صورة امرأة، تقربًا إلى الآلهة ووفاء لما في ذمتها للإله "عم ذربحو" ويبدو أن المرأة كانت كاهنة لمعبد الإله "عم" في "ريمت"، فإذا كان ذلك كذلك، فنحن أمام امرأة كاهنة، ومن ثم فإننا نستطيع القول أن المرأة في تلك الفترة من تاريخ قتبان قد وصلت إلى منصب الكهانة3. وهناك نقش عثر عليه في "تمنع" "تمنا-تمنة" جاء فيه اسم ملك يدعى "شهر هلال بن ذر أكرب"، يرى فيه بعض الباحثين "شهر هلال يهقبض" بن "ذر أكرب" الذي حدد "أولبرايت" مكانه في نهاية الأسرة، وأما النص فيقول "قانون أصدره شهر هلال بن ذر أكرب ملك قتبان، لشعب قتبان وذي علش ومعين وذي عثم أصحاب أرض شدو"، وقد نظم هذا القانون واجبات هذه الشعوب الأربعة في كيفية استغلال الأراضي، وعين الأعمال المترتبة عليها، وأنذر المخالفين بأشد العقوبات، فضلا عن الإشارة إلى الموظف الموكل إليه تنفيذ هذا القانون، ولعل هذا كله يفيد أن هذه الشعوب الأربعة التي جاء ذكرها في القانون، إنما كانت خاضعة لقتبان4. ويرى "رود كناكيس" أن هذا النقش إنما يدل على أن معين إنما كانت خاضعة وقت ذاك لقتبان، كما كانت كذلك على أيام "شهر يجل يهرجب"، وإن كان ذلك لا يعني أن معين قد فقدت استقلالها تمامًا، كما يذهب "رود كناكيس" كذلك   1 W.F. Albright, Basor, 119, 1950, P.9 2 جواد علي 2/ 211 وكذا Rep, Epig, Vii, Ii, P. 194, Vi, Ii, P.259 وكذا Le Museon, 1-2, 1951, P.113 3 R.L. Bowen And F. Albright, Archaeological Discoveries In South Arabia, "John Hopkins Press 1958," P.191 4 جواد علي 2/ 213، Basor, 119, P.9. وكذا Ktb, I, 82, Ii, 5, 19 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 إلى أن هذا النص إنما هو أقدم من نص "هاليفي 504"، ومن ثم فإن "شهر هلال" هذا أقدم من "شهر يجل يهرجب1". والواقع أن ما ذهب إليه "رود كناكيس" ربما كان أقرب إلى الصواب مما ذهب إليه "أولبرايت"، بخاصة وأن الأخير قد ختم قائمة ملوك قتبان بالملك "شهر هلال"، مشيرًا إلى الدمار الذي حل بالعاصمة، وإلى سقوط حكومة قتبان، وليس من المقبول أن يكون ملكًا له كل هذا النفوذ على شعوب أخرى، ثم تسقط دولته فجأة، ذلك لأن سقوط الدول إنما هو دليل على ضعفها وانهيارها، وليس في هذا النص إشارة إلى شيء من ذلك2. وعلى أي حال، فهناك من يميل إلى أن عصر قتبان الذهبي إنما كان في الفترة "350-50ق. م"، إذ تشير نصوص هذا العصر إلى أن قتبان كانت وقت ذاك أهم دول العربية الجنوبية، وأنها قد أخضعت لسلطانها كلا من معين وسبأ، لكن حدث قبيل الميلاد أن غزا شعبٌ غير معروف على وجه التأكيد عاصمة قتبان وأحرقها، ثم ظهرت بعد ذلك مملكة سبأ وذي ريدان، على أنقاض كل من قتبان وسبأ ومعين3. وهكذا يميل الباحثون إلى أن السبئيين هم الذين قضوا على دولة قتبان، وإن اختلفوا في الوقت الذي حدث فيه ذلك، فبينما يرى "فلبي" أن ذلك كان في عام 540ق. م4، يذهب "أولبرايت" إلى أنه كان في عام 50ق. م5، على أن آخرين يرونه في عام 10م6، بل إن هناك فريقًا رابعًا يراه فيما بين عامي 100، 106م7. على أن الشيء الجدير بالملاحظة هنا أن دولة "سبأ وذي ريدان"، لم تكن الوريثة الوحية لقتبان، فقد شاركتها في الغنيمة "حضرموت" التي ضمت إليها جزءًا من قتبان، وبذا استطاعت حضرموت منافسة "سبأ وذي ريدان" فترة امتدت حتى   1 Basor, 119, P.13. وكذا Ktb, I, 34, Ii, 7 2 جواد علي 2/ 212-214. 3 فؤاد حسنين: المرجع السابق ص288. 4 J.B. Philby, Op. Cit., P.144 5 Basor, 119, 1950, P.9 6 Basor, 160, 1960, P.15 7 Le Museon, 3-4, 1964, P.463 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 أخريات القرن الأول الميلادي، هذا ويجب الإشارة هنا إلى أن قتبان لم تفقد استقلالها نهائيًّا، كما أن الشعب القتباني لم يزل من الوجود أو يختفي اسمه تمامًا، ذلك لأننا نرى "بطليموس الجغرافي" يذكرهم بين الشعوب التي تقطن بلاد العرب، وقد دعاهم "1Kattabanoi= Kottabani". هذا وقد عثرت البعثة الأمريكية في مأرب على نقش جاء فيه أن الملك "نبط" ملك قتبان، كان معاصرًا لملك سبأ، ويضعه "أولبرايت" في القرن الأول الميلادي، والملك "نبط" هذا هو نفسه الملك "نبط بن شهر هلال" الذي جاء ذكره مع ابنه "مرثد" كملك لقتبان في نقش عثر عليه في "هجر بن حميد" عام 1951م، ويبدو أن ملوكا، قتبانيين استطاعوا الحفاظ على الجزء الغربي من قتبان بعد سقوط "تمنع"، متخذين من "حريب" مقرًّا لهم، بينما اكتفى الحضارمة بالاستيلاء على جزء من شرقي البلاد، وأن ذلك قد حدث فيما بين عامي 25ق. م، والعام الأول الميلادي2. ويرى "فون فيسمان" أن نقش "جام 629" والذي يتحدث عن حرب وقعت على مقربة من "وعلان" واشتركت فيها عدة أطراف، إنما قد حدثت في عهد الملك "نبط عم" ملك قتبان، وأن أصحاب هذا النقش إنما يذكرون أنهم قد حاربوا ضد ملك حضرموت وجيشها، وضد "نبطم" ملك قتبان وآخرين، وأن النصر كان حليفهم، ويحاول "فون فيسمان" أن يستنتج من عدم وجود كلمة "هجرن" بمعنى مدينة قبل اسم "تمنع" من أنها لم تكن وقت ذاك عاصمة قتبان، وإنما كانت موضعًا صغيرًا، أو اسم أرض فحسب، كما أن "نبط عم" وإن كان قد لقب هنا بملك قتبان، إلا أنه لم يكن في الواقع إلا تابعًا لملك حضرموت، وأخيرًا فإنه يؤرخ لهذه الحرب بالفترة ما بين عامي 120-140م3. وليس من شك في أن "تمنع" "تمنا=تمنة" هي أهم مدن قتبان، وقد عرفت في كتابات الكتاب القدامى من الأغارقة والرومان باسم "4Thumna Thomna, Tamna"   1 جواد علي 2/ 217، فؤاد حسنين: المرجع السابق ص288. 2 فؤاد حسنين: المرجع السابق ص288، وكذا Albright, Jas, 73, 1953, P.37 وكذا A.F.L. Beaston, Oa, I, 1962, P.47. وكذا J. B. Philby, Op. Cit., P.221 3 جواد علي 2/ 216، وكذا Le Museon, 3-4, 1964, P.463 4 جواد علي 2/ 222-223 وكذا = E. Glaser, Die Abessinier In Arabien Und Africa, 1895, P.122 = وكذا Pliny, 2, P.453 وكذا F. Hommel, Grundriss, P.137 وكذا Zdmg, Xiiv, 184 وكذا A. Sprenger, Op. Cit., P.160 وكذا Ptolemy, Vi, 7, 37 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 كما أن "أوليري" يذهب إلى أن المدينة التي جاءت في جغرافية بطليموس تحت اسم "Thouma" إنما هي "تمنة"1، وقد وصف "بليني" مدينة "Thomna" بأنها من أكبر المدن في العربية الجنوبية، وأن بها "65 معبدًا"، وأن المسافة بينها وبين "غزة" 4436 ميلا، تقطعها الإبل في 65 يومًا على وجه التقريب، وليست هذه المدينة سوى "تمنة" قتبان2. وتقع "تمنع" في وادي بيجان في منطقة تدل آثار الري فيها على أنها كانت خصبة كثيرة المياه والبساتين، وقد أثبتت أعمال الحفر التي قامت بها البعثة الأمريكية، تحت رياسة "وندل فيلبس"، أن موقع "تمنة" القديم، إنما هو في مكان خرائب كحلان "هجر كحلان الحالية" وأن المدينة قد خربت بسبب حريق هائل، ربما أتى على المدينة، كلها، وأن هذا الحريق ربما كان بأيدي السبئيين إبان الحروب التي استعر أوارها بينهم وبين القتبانيين، كما أثبتت الحفائر أن "تمنة" قد جددت عدة مرات، وأن مقابرها كثيرًا ما انتهكت حرماتها، سواء أكان ذلك في الأيام الغابرة، أو في العصر الحديث3، وأخيرًا فقد كشفت الحفائر في منطقة "تمنع" عن شبكة كاملة من السدود تتصل بها قنوات وصهاريج لتوفير مياه الري لرقعة واسعة من البلاد4. ومن مدن قتبان الهامة كذلك "شور"، "شوم" و"يرم"، وكذا "حريب" التي ذكرها الهمداني5، والتي اشتهرت بالنقود التي ضربت فيها، وحملها اسمها، كما أنها كانت عاصمة قتبان في أخريات أيامها6.   1 O.htm'leary, Op. Cit., P.97 2 Pliny, 6, 32. وكذا O'leary, Op. Cit., P.97 3 جواد علي 2/ 222-230، وكذا: وتدل فيلبس: كنوز مدينة بقليس ص105 وما بعدها وانظر الأصل: Wendell Phillips, Qataban And Sheba, P.58, 64, 119, 166 4 موسكاتي: المرجع السابق ص199. 5 الهمداني: المرجع السابق ص80، 95، 103، 134. 6 جواد علي 2/ 230-231، وكذا C.F. Hill Catalogue Of The Greek Coins Of Arabia, Mesopotamia And Persia P.Ixxiv, 75, Pi. Xi, 21 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 الفصل العاشر: دولة سبأ 1- سبأ: تذهب الروايات العربية إلى أن "سبأ" إنما هو "عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان"1، وأن سبب تسميته بسبأ أن الرجل كان أول من سبى من العرب2، بل ويذهب "ابن منبه" إلى أنه غزا بابل وأرمينية ومصر والمغرب، وأنه قتل من الأمم وسبى من الذراري والعيال الكثير، ومن ثم فقد سمي سبأ3، وأنه كان يسمى كذلك "الرائش" لأنه كان يعطي الناس الأموال من متاعه، ويزعم البعض أنه كان أول من توج، كما يزعم آخرون أنه كان مسلمًا، وله شعر بَشَّرَ فيه بمبعث المصطفى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ4- وأن الرجل قد حكم 484 عامًا، ثم جاء من بعده ولده "حمير"، وأما أهم منشآته، فقد كانت -طبقًا لمزاعم الأخباريين- بناء مدينة سبأ وسدّ مأرب في اليمن، أما في مصر، فقد كانت مدينة "عين شمس" التي خلفه عليها ولده "بابليون"5.   1 تاريخ الطبري 1/ 211، أبو الفداء 1/ 100، ابن الأثير 1/ 230، مروج الذهب 2/ 45-48، أنساب الأشراف للبلاذري: ص4، المحبر ص364، الأخبار الطوال ص10، المعارف ص46، 271، الاشتقاق 1/ 155، 2/ 361-362، تاريخ اليعقوبي 1/ 195، بلوغ الأرب 1/ 207. 2 كتاب التيجان ص48-50، مروج الذهب 2/ 45، تاريخ اليعقوبي 1/ 195، تاريخ ابن خلدون 2/ 47، بلوغ الأرب 1/ 207، المعارف ص271، قارن: ياقوت 3/ 181 "حيث يسمى عامرًا بدل عين شمس"، روح المعاني 22/ 124 أبو الفداء 1/ 100، ابن كثير 2/ 158. 3 وهب بن منبه: كتاب التيجان ص48-50، قارن: عبد المنعم ماجد: التاريخ السياسي للدولة العربية 1/ 72. 4 ابن كثير: البداية والنهاية 2/ 158-159. 5 تاج العروس 10/ 169، تاريخ ابن خلدون 2/ 47، منتخبات ص47، بلوغ الأرب 1/ 207، الدميري 1/ 445، روح المعاني 22/ 124. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 أما أن سبأ هو "عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان"، فقد جاء ذلك في كتابة حفرت على نحاس في مجموعة "P Lamare"، وإن كان العلماء لم يقولوا حتى الآن الكلمة النهائية في نوع الكتابة وزمانها1، وأما سبب التسمية كثرة الغزو والسبي حتى وصلت غزواته إلى بابل وأرمينية في آسيا، ومصر والمغرب في أفريقيا، فإن ذلك لم يحدث إلا في خيال "ابن منبه" ومن دعوا بدعوته، فضلا عن أن تاريخ تلك البلاد لم يعرف سبأ هذا، ولم يشر إليه، حتى مجرد إشارة، في النصوص التي ملأت آثار تلك البلاد، وإن كان أصحاب تلك البلاد قد عرفوا السبئيين في فترات متأخرة من حضارتهم، على أنهم من تجار البخور واللبان وغيرهما من مستلزمات المعابد القديمة، وليس غزاة يحتلون البلاد ويبنون المدن. وأما الدعوى بأن سبأ كان مسلمًا، وأنه بشر بمبعث المصطفى، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فليست إلا من هذا النوع من الخيال الذي سوف يجعل "سيف بن ذي يزن" يبشر بعد ذلك بمبعث المصطفى، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن كنت لا أدري- ولا أظن أن الذين كتبوا ذلك كله يدرون- على أي ملة كان إسلام "سبأ" هذا؟ صحيح أننا نعرف أن الإسلام، في لغة القرآن الكريم2، ليس اسما لدين خاص وإنما هو اسم للدين المشترك الذي هتف به كل الأنبياء، وانتسب إليه كل أتباع الأنبياء3، ومن ثم فإن الإسلام شعار عام يدور في القرآن على ألسنة الأنبياء وأتباعهم منذ أقدم العصور التاريخية إلى عصر البعثة المحمدية4. وسؤال البداهة الآن: هل كان سبأ يعي كل هذا؟ حتى يصبح مسلمًا -كما يقدم القرآن الإسلام -ثم كيف عرف سبأ ببعثة مولانا وسيدنا رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حتى يتنبأ بها قبل حدوثها بمئات السنين، ثم يقول فيها شعرًا، وهل عرف رواة الشعر، أن عربية الجنوب تختلف كثيرًا عن عربية الشمال5.   1 جواد علي 2/ 259. 2 انظر: سورة البقرة: آية 132-133، سورة آل عمران: آية 67، سورة المائدة: آية 111. سورة يونس: آية 72، 84، سورة النمل: آية: 30-31. 3 محمد الراوي: الدعوة الإسلامية دعوة عالمية ص51. 4 محمود الشرقاوي: الأنبياء في القرآن الكريم ص75-76. 5 Ignace Goldziher, History Of Classical Arabic Literature, 1966, P.2 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 -عربية القرآن الكريم- وأن شعرهم المزعوم هذا، إنما هو بعربية الشمال، وليس الجنوب، على أن العجب قد يزول، إذا عرفنا أن هؤلاء الذين ينسبون الآن إلى سبأ شعرًا، إنما قد نسبوا إلى آدم وإبليس -بل وحتى الجن- شعرًا عربيًّا فصيحًا كذلك. أما أن سبأ قد بنى سبأ وسد مأرب، فيكذبه أن التاريخ لا يعرف حتى الآن مدينة باسم سبأ، وأما بناء سد مأرب1، فتلك دعوى عريضة، وإن كانت تفتقر إلى الصواب تمامًا -الأمر الذي ناقشناه بالتفصيل في الجزء الأول من كتابنا "دراسات في التاريخ القرآني". وأما النصوص العربية الجنوبية، فليس فيها شيء عن سبأ أو عن لقبه المزعوم، وكل ما فيها إنما يتحدث عن شعب يدعى "سبأ" له دولة، وله حكام، وله آلهة، كغيره من شعوب العربية الجنوبية، وإن كان مما لا ريب فيه أن المصادر التاريخية قد تحدثت عن دولة سبأ، أكثر من غيرها من دول العربية الجنوبية.   1 تختلف روايات الأخباريين فيمن بنى سد مأرب، فرواية تذهب إلى أنه سبأ، وأخرى أنها بلقيس، وثالثة تذهب إلى أن سبأ قد بدأ بناء السد ثم أكمله ولده حمير، ورابعة ترى أنه لقمان بن عاديا أو لقمان الأكبر العادي "مروج الذهب 2/ 160-162، ياقوت 4/ 34-35، الدميري 1/ 445، تاريخ ابن خلدون 2/ 50، ابن كثير 2/ 159، وفاء الوفا 1/ 117، تفسير الطبري 22/ 78-80، تفسير روح المعاني 25/ 251"، ومع ذلك فإن آثار السد نفسه تكذب كل تلك الأساطير، فهو -كما سوف نعرف فيما بعد- قد بناه "سمه علي ينوف" ثم ولده -"يثع أمر بين"، ثم أخذ الملوك بعد ذلك يضيفون إليه أجزاء أخرى، فضلا عن تقوية أجزائه القديمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 السبئيون والآراء التي دارت حول موطنهم الأصلي: هناك نص سومري يرجع إلى عهد "أرادننار" من أسرة لجش الثانية -والتي تعاصر أسرة أرو الثالثة التي حكمت في النصف الثاني من الألف الثالثة قبل الميلاد1- جاء فيه كلمة "Sabu" وتعني "سبأ"2، ويذهب "هومل"3، إلى أن هذه   1 انظر عن عصر أسرة أور الثالثة، كتاب أستاذنا الدكتور نجيب ميخائيل: مصر والشرق الأدنى القديم 5/ 160-162 2 O'leary, Op. Cit., P.87. وكذا Ei, 4, P.3 3 F. Hommel, In Hilprecht's Exploration In The Bible Land, P.793 وكذا Encyclopaedia Of Islam, 4, P.3 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 الكلمة "Sabum" التي وردت في النصوص السومرية إنما تعني "سبأ" التي وردت في التوراة، فإذا كان ذلك كذلك، فإن تاريخ سبأ يعود إلى الألف الثالثة ق. م1، ويرى "مونتمجري" أن قوم سبأ الذين تحدثت عنهم النصوص السومرية، إنما كانوا من العربية الصحراوية، أي من البادية، ثم هاجروا إلى اليمن، في وقت لا نستطيع تحديده على وجه اليقين، وإن ذهبت بعض الآراء إلى أن ذلك إنما كان في القرن الحادي عشر ق. م، وبعد مئات من السنين من هجرة المعينيين والقتبانيين إلى اليمن2. على أن رأيًا آخر إنما يذهب إلى أن هجرة أهل معين وقتبان وحضرموت إلى اليمن، إنما كانت حوالي عام 1500ق. م، بينما كانت هجرة السبئيين حوالي عام 1200ق. م، وأن الأخيرين كانت لهم قوافل تجارية تصل إلى فلسطين قبل عام 922ق. م، كما يفهم من بعض نصوص العهد القديم3. ويذهب "هومل" إلى أن السبئيين إنما هم أصلا من العربية الشمالية، وأنهم كانوا يعيشون، فيما يعرف عند الآشوريين بـ "أريبي" و"عريبي"، وفي التوراة بـ "يرب" و"يارب"، وفي القرن الثامن ق. م، هاجروا إلى اليمن حيث استقروا في "صرواح" و"مأرب" التي جاء اسمها من "يارب"، و"يرب" ويعتمد "هومل" في ذلك على أدلة، منها "أولًا" ما جاء في نقش "جلازر 1155" من أن السبئيين قد تعرضوا لقافلة معينية في مكان ما بين "معان" و"رجمت" على مقربة من نجران، ومن ثم فإن السبئيين إنما كانوا يقيمون في منطقة تقع إلى الشمال من دولة معين إبان ازدهارها الأخير، ومنها "ثانيًا" اختلاف لهجة السبئيين عن بقية الشعوب العربية الجنوبية، مما يدل على أن السبئيين شماليون هاجروا إلى الجنوب4. على أن هناك وجهًا آخر للنظر، يذهب إلى أن السبئيين إنما كانوا أسبق من   1 A. Grohmann, Op. Cit., P.24 2 R.F. Burton, Royal Inscriptions From Sumer And Akkad, P.115 وكذا J.A. Montgomery, Op. Cit., P.50 وكذا A. Grohmann, Op. Cit., P.24 3 جواد علي 2/ 259-260، وكذا ملوك أول 9: 10 وكذا A. Grohmann, Op. Cit., P.24 4 جواد علي 2/ 260 وكذا F. Hommel, Geographie Und Geschichte Des Alten Orients, I, P.142 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 المعينيين، ذلك لأن النصوص القديمة التي ورد فيها اسمهم في التوراة وعند الآشوريين صريحة في الكلام عنهم، كمجتمع منظم سياسيًّا وعسكريًّا واقتصاديًّا، بينما لم يرد ذكر "معين" بصراحة وتحديد في نفس الفترة، ومهما يكن من أمر الوثائق المكتوبة، فإن الملاحظ من الناحية الأثرية هو أن الكتابات التي وردت بالخط المسند من ممالك اليمن المختلفة تبدأ بالكتابات السبئية، ثم إن الآثار غير المكتوبة تبين لنا أن كل هذه التواريخ متأخرة بالنسبة لقيام الحضارة في اليمن، فهناك بالتأكيد آثار ترجع إلى نهاية الألف الثاني ق. م1. وهناك وجه ثالث للنظر، يذهب إلى أن الحفائر الأثرية وتطبيق "العملية" الراديو كربونية "Radiocarbon Process" تشير إلى تعاصر السبئيين والمعينيين2، ومن ثم فمن المحتمل أن تكون المملكتان قد قامتا في آن واحد، أو في وقتين متقاربين جدًّا، معين في الشمال، وسبأ في الجنوب3. هذا ونستطيع أن نستنتج من قصة ملكة سبأ مع سليمان عليه السلام -كما جاءت في الكتب المقدسة- أنه كانت هناك حكومة قوية ومنظمة في سبأ في القرن العاشر قبل الميلاد، ذلك لأن سليمان إنما حكم في الفترة "960-922ق. م"4، وتلك في الواقع حقيقة يجب الانتباه إليها، ذلك لأن القرآن الكريم5- والتوراة6   1 حسن ظاظا: المرجع السابق ص130. 2 S. Moscati, Op. Cit., P.178 3 E. Dhorme, Langues Et Ecritures Semitiques, P.39 4 يتفق المؤرخون على أن سليمان قد حكم في القرن العاشر قبل الميلاد، ولكنهم يختلفون في تحديد تلك الفترة من هذا القرن، فبينما يرى "فضلو حوراني" أنها في الفترة "974-932"ق. م يرى الدكتور حسن ظاظا أنها في الفترة من "973-936"ق. م، ويرى "أبشتين" أنها في الفترة "972-922"ق. م ويرى "شموكل" أنها في الفترة "970-933"ق. م، ويرى "فيليب حتى" أنها في الفترة "963-923"ق. م ويرى "هيتون" أنها في الفترة "961-922"ق. م ويرى "أولبرايت" أنها في الفترة "960-922"ق. م وهكذا. 5 سورة النمل: آية 20-44 "وانظر: تفسير البيضاوي 2/ 173-178"، تفسير الطبري 19/ 143-170، تفسير روح المعاني 19/ 182-210، تفسير الطبرسي 19/ 208-230، تفسير ابن كثير 3/ 360-366، في ظلال القرآن 19/ 2631-2643، تفسير الكشاف 3/ 142-151، تفسير القرطبي 13/ 176-213، تفسير أبي السعود 4/ 127-134". 6 ملوك أول 10: 1-13، أخبار ثان 9: 1-13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 والإنجيل1 من قبل -قد تحدثت عن قصة سليمان مع ملكة سبأ، وإن اختلفت الكتب المقدسة الثلاثة في سردها للقصة، تبعًا للغرض من السرد نفسه، ولكنها اتفقت جميعًا على وجود مملكة في سبأ، على رأسها ملكة 2، وليس من العلم، فضلا عن الإيمان بكتب السماء، أن نشك في أمر أجمعت عليه هذه الكتب المقدسة، ومن ثم فإن وجود ملكة سبئية، شمالية أو جنوبية، في عهد سليمان- أي في القرن العاشر قبل الميلاد- حقيقة ترقى فوق كل شك، وبالتالي فإن وجود السبئيين كقوة منظمة وقوية على رأسها ملكة في القرن العاشر ق. م، حقيقة تاريخية. على أن التوراة مضطربة في أصل السبئيين، فهم مرة من الحاميين، أبناء كوش ابن حام3، وهم مرة أخرى من الساميين4، وفرق كبير بين الحاميين والساميين، كما هو معروف، ثم إن سبأ "أو شبأ" تقدمه التوراة -وفي سفر التكوين بالذات- مرة على أنه من ولد يقطان5، ولكنه مرة ثانية من ولد يقشان6، والمعروف أن "يقطان" من ولد عابر، ولكن "يقشان" من أولاد الخليل عليه السلام من زوجه قطورة الكنعانية7، وفرق بين الاثنين كبير. ولعل هذا الاضطراب في نصوص التوراة بشأن السبئيين، هو الذي جعل بعض الباحثين يذهب إلى أن ما جاء في التوراة بشأنهم، إنما هو من مصادر غير أصيلة لا يمكن الاعتماد عليها، فضلا عن الثقة بها، فهي مادة كدرة، ليس لها نصيب كبير من الصواب8، على أننا نرى في نفس الوقت فريقًا من المتخصصين في الدراسات التوراتية يرون في هذا الاضطراب، دليلا على انتشار السبئيين في آسيا وأفريقية، فهناك جاليات قد استقرت في أرتيريا والحبشة، ومن ثم فقد جعلتهم التوراة   1 متى 12: 42. 2 انظر مقالنا: "العرب وعلاقاتهم الدولية في العصور القديمة" -مجلة كلية اللغة العربية والعلوم الاجتماعية، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية- العدد السادس ص287-437، الرياض 1976. 3 تكوين 10: 7، أخبار أيام أول 1: 9. 4 تكوين 10: 28. 5 تكوين 19: 28. 6 تكوين 3: 25. 7 تكوين 25: 1-2. 8 W.F. Albright, The Bible And The Ancient Near East, London, 1961, P.300 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 من أبناء كوش، بينما جعلت المستوطنين منهم في آسيا على فريقين، الواحد ينتمي إلى يقطان والآخر إلى يقشان، ومن ثم فقد صار السبئيون فرقًا ثلاث، طبقًا لأماكن استقرارهم1. ولست أدري كيف قبل هذا الفريق من العلماء هذا التقسيم لشعب واحد، إلا أن يكون الإيمان بحرفية ما جاء في التوراة هو السبب، حتى إن كان الذي جاء فيها يخالف المنطق، فضلا عن حقائق التاريخ وعلم الأجناس، وإلا فخبرني بربك، كيف قبل هذا الفريق من علماء التوراة، أن يكون السبئيون حاميين وساميين في نفس الوقت، وأن يكونوا من ولد يقشان ويقطان في الوقت نفسه مرة أخرى. ثم ألم يرجع سفر التكوين نفسه الكنعانيين إلى حام، وذلك حين تعمد اليهود في توراتهم -كما يقول كارل بروكلمان -إقصاء الكنعانيين عن الانتساب إلى سام بن نوح، لأسباب سياسية ودينية، مع أنهم كانوا يعلمون ما بينهم وبين الكنعانيين من صلات عنصرية ولغوية2، والأمر كذلك بالنسبة إلى المصريين الذين جعلوهم من الحاميين "بنو حام كوش ومصرايم وفوط وكنعان"3. إذن: فالأمر متعمد سببه العداء التقليدي الذي يكنه اليهود للمصريين بخاصة، والعرب بعامة4، وليس أدل على ذلك من أن سكان واحة ديدان، والذين كانوا يتألفون من طائفتين، أولاهما من أهل البلاد الأصليين، والثانية هي الجالية السبئية التي هاجرت من جنوب بلاد العرب5، تنظر إليهم التوراة مرة على أنهم من الكوشيين من جنوب بلاد العرب6، ومرة أخرى من السلالة السامية من ولد إبراهيم من زوجة قطوره7، مما يدل على الإصرار- فضلا عن الاضطراب- على أن السبئيين من كوش من ولد حام.   1 J. Hastings, Op. Cit., P.490. وكذا Eb. P.2564 2 جواد علي 1/ 224، وكذا R.A. Nicholson, Op. Cit., P.Xv 3 تكوين 10: 6. 4 انظر: مقالنا "الساميون والآراء التي دارت حول موطنهم الأصلي" مجلة كلية اللغة العربية، العدد الرابع ص245-271، الرياض 1974م. 5 ألويس موسل: شمال الحجاز ص96. 6 تكوين 10: 7. 7 تكوين 25: 1-4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 وأما ما جاء في النصوص الآشورية بشأن السبئيين من عهد "تجلات بلاسر الثالث" "745-727ق. م" و"سرجون الثاني" "722-707ق. م" و"سنحريب" "705-681ق. م" بشأن الجزية التي تلقاها هؤلاء الملوك من الملكات العربيات: زبيبة وشمسي وغيرهن1، والملكين السبئيين "يثع أمر" "أتعمارا" و"كرب إيلو"2، ربما لم تكن جزية، بقدر ما كانت هدايا، وأن السبئيين إنما كانوا ينظرون إلى أنفسهم كأنداد لملوك آشور، أو حلفاء لهم، وربما كان هناك تحالف بين الفريقين ضد غارات البدو الجامحين في الشمال3. على أن الذي لا شك فيه أن سبأ كان لها نفوذ واسع يمتد إلى نجد وإلى شمال الحجاز، وكانت تسيطر على الطريق التجاري الرئيسي الذي يربط جنوب غرب شبه الجزيرة العربية بسورية ومصر، وأن هناك حكامًا سبئيين معتمدين في الواحات الشمالية التي تقع على هذا الطريق، فضلا عن الحامية العسكرية التي تضمن بقاءه تحت النفوذ السبئي، وكانت واحة ديدان "العلا" المركز الرئيسي الذي تمارس فيه دولة سبأ نفوذها في شمال بلاد العرب، إلى جانب تيماء ومعان، وإن كانت ديدان هي المقر الرسمي للحاكم السبئي المقيم4.   1 S. Moscati, The Semites In Ancient History, P.22, 123 وكذا N. Abbot, Preislamic Arab Queens, Ajsl, 58, 1941 2 H. Fleisch, Op. Cit., P.90 وكذا D.D. Luckenbill, Op. Cit., P.518 وكذا D. Nielsen, Handbuch, I, P.75 3 فؤاد حسنين: المرجع السابق ص76، 87، وكذا P.K. Hitti, Op. Cit., P.38 4 عبد العزيز سالم: المرجع السابق ص159-160، ألويس موسل: شمال الحجاز ص96-97. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 أدوار التاريخ السبئي الأربعة الرئيسية مدخل ... أدوار التاريخ السبئي الأربعة الرئيسية: يقسم المؤرخون تاريخ سبأ إلى عصور أربعة، معتمدين في ذلك على أن لقب حكام سبأ لم يكن لقبًا ثابتًا، إنما كان يتغير من عصر لآخر، طبقًا لظروف الدولة نفسها، وأما هذه العصور الأربعة فهي: 1- العصر الأول: ويمتد من حوالي عام 800ق. م إلى عام 650ق. م1، وفيه كان حكام سبأ يحملون لقب "مكرب" ذلك اللقب الذي تغلب عليه الصبغة الدينية، وتقابله في العربية الفصحى "مقرب"، وهو أمير كان يقوم بذبح القرابين للآلهة2، كما كان يقوم كذلك بدور الوساطة بين الآلهة والناس، وربما كانت وظيفة "المكرب" هذه تشبه إلى حد كبير وظيفة المزواد" عند المعينيين3، والقضاة عند بني إسرائيل4، وربما لقب "إيشاكو" عند السومريين، وكل هذه الألقاب إنما تعطي أصحابها صفة دينية في حكم بلادهم، أو على الأقل إشارة إلى القداسة التي يرتكزون إليها في ممارسة هذا الحكم، سواء أكان ذلك من الناحية الدينية أو المدنية. 2- العصر الثاني: ويمتد من حوالي عام 650ق. م، وحتى عام 115ق. م "أو عام 109ق. م"، وفيه حمل حكام سبأ لقب "ملك" كما اتخذوا من "مأرب" عاصمة لهم، بدلا من "صرواح" عاصمة الدولة في العصر الأول، وقد بدأ هذا العصر بـ"كرب إيل وتر"، الذي كان آخر من حمل لقب "مكرب"، وأول من حمل لقب "ملك".   1 جواد علي 2/ 269 وكذا H. Von Wissmann And M. Hofner, Op. Cit., P.7 2 حسن ظاظا: المرجع السابق ص132. 3 J. Hastings, Op. Cit., P.504. وكذا Eb, P.2632 4 راجع عن القضاة عند بني إسرائيل: كتابنا إسرائيل ص375-377، موسكاتي: المرجع السابق ص140-141، نجيب ميخائيل: المرجع السابق 3/ 325، ول ديورانت 2/ 327، جوستاف لوبون: اليهود في تاريخ الحضارات الأولى ص35، وكذا A. Lods, Op. Cit., P.335 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 3- العصر الثالث: ويمتد من حوالي عام 115ق. م، وحتى عام 300م، وفيه حمل حكام سبأ لقب "ملك سبأ وذي ريدان" إشارة إلى ضم "ريدان" إلى التاج السبئي، وربما يشير كذلك إلى دولة قتبان أو حمير فيما يرى بعض الباحثين1، ومن هنا رأينا بعض المراجع تطلق عليه تجاوزًا اسم "عصر الدولة الحميرية الأولى". 4- العصر الرابع: ويمتد من حوالي عام 300م، وحتى عام 525م، وفيه حمل حكام سبأ لقب "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت وأعرابها في المرتفعات وفي التهائم"، "عصر الدولة الحميرية"، وهو آخر دور من أدوار الحكم في سبأ وخاتمة الأدوار، حيث تبدأ البلاد بعد ذلك تقاسي الأمرين من الحكم الأجنبي "الحبشي والفارسي" إلى أن يظهر نور الإسلام في مكة المكرمة، وتنضوي اليمن تحت لوائه في عام 628م، وبذا ينتهي التاريخ اليمني القديم. والمفروض -بناء على تطور هذه الألقاب- أن يكون السبئيون قد بدءوا أمراء صغارًا ممن يسميهم الكتاب العرب "الأذواء" وهم يقصدون بذلك جمع "ذو" أي صاحب، التي يضاف إليها اسم المكان، من حصن أو محفد، مثل غمدان وصاحبه "ذو غمدان"، وريدان، وصاحبه "ذو ريدان"، ثم تحولوا إلى أمراء لعدد من الحصون أو المحافد ممن يسميهم الكتاب العرب "الأقيال"، ومفردها قيل، وهم في الطريق إلى أن يسيروا ملوكًا أو أباطرة على البلاد2.   1 I. Shahid, Pre-Islamic Arabia, Chi, I, P.9. 2 سعد زغلول عبد الحميد: في تاريخ العرب قبل الإسلام ص189. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 أولًا: عصر المكاربة يرى بعض الباحثين، كما أشرنا آنفًا، أن هذا العصر يقع فيما بين عامي 800، 650ق. م، بينما حدد له آخرون الفترة من "750-450ق. م"1، هذا إلى جانب فريق ثالث -وهذا ما نرجحه ونميل إلى الأخذ به- ذهب إلى أنه قد بدأ في القرن العاشر ق. م، وربما في القرن التاسع ق. م2، وكانت عاصمة الدولة وقت ذاك مدينة "صرواح"، كما أن ملكة سبأ المشهورة في تاريخ سليمان بن داود، إنما تنتمي إلى هذه الفترة من الناحية الزمنية. وأما أول المكاربة فهو "سمه علي"3، وقد حدد له "فلبي" الفترة "800-780ق. م"4، ثم عاد بعد عامين فحدد له عام 820ق. م، كبداية لحكمه5، ويذهب بعض الباحثين إلى أن نقش "جلازر1147" إنما يرجع إلى عهد هذا المكرب، فضلا عن نقش "جلازر 926" الذي وردت فيه أسماء سبأ ومأرب وفيشان، وكذا أسماء الآلهة "عثتر والمقة وذات حميم" ثم اسم المكرب طبقًا للعادة المألوفة في التيمن بذكر اسم الحاكم من مكرب أو ملك6. ولعل من المفيد هنا الإشارة إلى أن السبئيين إنما كانوا يعبدون "عتثر" "عشتر" الإله العربي الجنوبي على أنه إله ذكر، ويرمزون له بنجم الزهرة، بينما نظائره في جميع الأديان السامية البشرية الأخرى إلهة مؤنثة، كعشتار عند البابليين والآشوريين،   1 جواد على 2/ 269. وكذا R.L. Bowen And F. Albright, Archaeological Discoveries In South Arabia, 1958. P.37 2 Basor, 137, 1955, P.38. وكذا A. Grohmann, Op. Cit., P.122 3 راجع قوائم مكاربة سبأ في: جواد علي 2/ 307-314 وكذا N. Rhodokankis, Ktb, Ii, P.49 وكذا J. Ryckmans, L'institution Monarchique En Arabie Meridionale Avant وكذا I'islam, L, Louvain, 1951, P.95 وكذاGrundriss, P.671 وكذا J.B. Philby, Op. Cit., P.141 وكذا Le Museon, Lxii, 1949, 3-4, P.248 4 J.B. Philby, The Background Of Islam, 1947, P.141 5 Le Museon, Lxii, 3-4, 1949, P.248, 6 جواد علي 2/ 270. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 وعشتارت عند الكنعانيين، كما أن عبادة "عثتر" هذا لم تكن مقصورة على السبئيين، وإنما كانت منتشرة كذلك بين المعينيين والقتبانيين1، أضف إلى ذلك أن النصوص إنما تذكر عادة الآلهة "عثتر وهوبس والمقة" في صيغ التوسل كوحدة متكاملة، فثلاثتها تأتي بعد "ياء" واحدة، وربما تعني بحق "أي بحق عثتر وهوبس والمقة"، بينما تأتي بقية الآلهة، وكل منها له "ياؤه" الخاصة به- أي كل واحد تسبقه بكلمة بحق- أما الإلهة "ذات حمى" "ذات حميم" فمظم الباحثين يرونها -وكذا ذات بعدن -اسمًا للإلهة الشمس، وأن "ذات حمى" ربما كانت بمعنى ذات حرارة، على أساس أن حمى تعني الحرارة2. وهناك نقش -ربما كان هو الذي الذي أشرنا إليه آنفًا -يتحدث عن تقديم المكرب "سمه علي" البخور والمر للإله القومي "المقه" "الموقاة"، مما يشير إلى أن المكرب كان يقدم البخور باسمه، ونيابة عن قبيلته التي قادها من الفيافي والقفار إلى الأرض السعيدة التي تفيض لبنًا وعسلا3. وجاء بعد "سمه علي" ولده "يدع إيل ذريح" الذي يرى "فلبي" أنه حكم حوالي عام 800ق. م4، بينما يرى "فون فيسمان" أنه حكم حوالي القرن الثامن ق. م5 ويضعه "أولبرايت" في النصف الثاني من القرن السابع ق. م "في فترة مبكرة منه أو في أواسطه"6، وأخيرًا فهناك من يحدد ذلك بعام 750ق. م7. وقد قدمت لنا الحفائر عدة نقوش ترجع إلى أيام "يدع إيل ذريح"، منها ذلك النقش الطويل الموجود على الجدار الخارجي لمعبد "صرواح"، وقد جاء فيه أن هذا المكرب هو الذي بنى هذا الجدار، كما يذكر النقش كذلك الإله المقة وعثتر، والإلهة "ذات حميم" والذين يكونون معًا "ثالوث المدينة القديمة"، هذا ويرى   1 أحمد فخري: المرجع السابق ص162. 2 مظهر علي الأرياني: في تاريخ اليمن ص11-12. 3 فؤاد حسنين: المرجع السابق ص289. 4 Le Museon, Lxii, 3-4, 1949, P.248 5 H. Von Wissmann And M. Hofner, Op. Cit., P.22 6 W.F. Albright, Basor, 143, 1956, P.9 7 A. Grohmann, Op. Cit., P.157 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 الدكتور أحمد فخري1 أن هذا المعبد "معبد صرواح"- والذي يرجع إلى القرن الثامن قبل الميلاد- إنما هو أقدم المعابد السبئية التي ظلت قائمة حتى اليوم. وهناك نقش عثر عليه في "محرم بلقيس" عرف بنقش "جلازر 484" يتحدث عن بناء "يدع إيل ذريح" لجدار في معبد الإله المقة في أوام، وتقديم القرابين للإله "عثتر"2، كما أن هناك في منطقة المساجد بمأرب آثار معبد مستطيل الشكل يحمل نقشين من عهد "يدع إيل ذريح" يتضمنان نصًا ينسب إليه بناء هذا المعبد المعروف بمعبد "محرم بلقيس" والمخصص لإله سبأ الرئيسي "المقة"3. وجاء بعد "يدع إيل ذريح" ولده "يثع أمر وتر"، وقد جاء في النقش "Coh 490" أنه أنشأ معبد الإله القمر الذي أطلق عليه السبئيون لفظ "هوبس" في قرية "دبير" -في منتصف المسافة بين مأرب والمدن المعينية في الجوف- وإن كان "هومل" يرى أن "دبير" هذه ليست قرية، وإنما قبيلة بنت معبدًا باسمها، وأن "يثع أمر" إنما قام بتجديد هذا المعبد، وسواء أكان هذا أو ذاك، فإنه يعني على أي حال، أن المكرب السبئي بدأ يتدخل في شئون معين منذ تلك الفترة المبكرة، التي ترجع إلى القرن الثامن قبل الميلاد4. وجاء بعده -فيما يرى هومل-5 ولده "يدع إيل بين"، وهناك ما يشير إلى أنه قام بتحصين مدينة "نشق"- التي عرفها الرومان باسم "نسكا Nesca"، وتعرف الآن باسم "خربة البيضاء" الواقعة في الجوف- وربما قد يتبادر إلى الذهن أنه قد حصنها بعد نصر أحرزه على سكانها، غير أن المؤرخين لا يعرفون متى تم هذا النصر- أفي عهده أم في عهد أبيه- وإن رأى "هومل" أنه إنما كان على يد "سمه   1 أحمد فخري: دراسات في تاريخ الشرق القديم ص162. 2 جواد علي 2/ 272، صالح أحمد العلي: محاضرات في تاريخ العرب 1/ 19. 3 أحمد فخري: أحدث الاكتشافات الأثرية في اليمن، معبد المساجد ببلاد مراد ص255-256، "القاهرة 1961" وكذا Le Museon, Lxi, 3-4, 1948, P.215, 218, 1949, 3-4, P.248 4 فؤاد حسنين: المرجع السابق ص290. وكذا H. Von Wissmann And M. Hofner, Op. Cit., P.23 وكذا D. Nielsen, Op. Cit., P.77 5 J.B. Philby, Op. Cit., P.37 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 علي ينف"، الذي جاء ذكره على بعض النقوش التي عثر عليها في تلك المنطقة، وإن لم يكن هناك من دليل يؤيد وجهة النظر هذه1. وعلى أي حال، فيبدو أن السبئيين إنما كانوا يحاولون الاستيلاء على معين على مراحل، وقد رأينا من قبل أنهم استولوا على "دبير" ثم اتخذوا منها مركزًا للإغارة على المعينيين، غير أن هناك ما يشير إلى أن "دبير" قد انفصلت عن سبأ، ثم عادت مرة أخرى إلى النفوذ السبئي على أيام "كرب إيل وتر"2. وجاء بعد ذلك المكرب "يثع أمر"، والذي يرى فيه "هومل" ابنًا لسلفه أو شقيقًا له3، وأما "فلبي" فقد ذهب مرة إلى أنه أحد أبناء "سمه على ينف4" وذهب مرة أخرى إلى أنه شقيق أو ابن شقيق سلفه5، وأنه المعاصر للملك الآشوري سرجون الثاني "722-705ق. م"6 وأنه قدم إليه الهدايا، بل إن هناك ما يشير إلى أن "تجلات بلاسر الثالث" "745-726ق. م" قد أخذ الجزية من تيماء وغيرها من الواحات العربية، فضلا عن "سبأ" والتي ربما تعني الجالية السبئية التي خلفت المعينيين في ديدان، ومن هنا فإنها ترد في النص بعد تيماء مباشرة7. وعلى أي حال، فهناك ما يشير إلى أن "يثع أمر" كان يحكم كذلك في شمال بلاد العرب، على مقربة من البادية "إما في أعالي الحجاز أو نجد، وإما في المناطق الجنوبية من الأردن"8، إلا أن عثور بعثة ألمانية على نقش يفيد تقديم هدايا للملك الآشوري "سنحريب" "705-681ق. م" من "كرب إيلو" السبئي، جعل العلماء يرون أن الملكين اللذين قدما الهدايا للآشوريين، إنما هما المكربان "يثع أمر" و"كرب إيلو"9، وأن "يثع أمر" إنما قدم هداياه حوالي عام 715ق. م"10 ذلك لأننا   1فؤاد حسنين: المرجع السابق ص290، وكذا D. Nielson, Op. Cit., P.77. 2 جواد علي 2/ 277، وكذا H. Von Wissmann And M. Hofner, Op. Cit., P.15 3 Handbuch, I, P.77 4 J.B. Philby, Op. Cit., P.141 5 Le Museon, Lxii, 3-4, 1949, P.248 6 J.B. Philby, Op. Cit., P.141 7 A. Musil, The Northern Hegas, P.288 وكذا Van Den Branden, Histoire De Thamoud, P.7 8 جواد علي 2/ 278، وكذا A. Musil, Arabia Deserta, P.479 9 جواد علي 2/ 278: وكذا Basor, 137, 1955, P.232 10 Basor, 143, 1956, P.10 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 نعرف أنه في حوالي عام 270ق. م، وربما عام 715ق. م، قد انتشرت القلاقل والاضطرابات في سورية وفلسطين ضد الآشوريين بدرجة كبيرة، وأن معظم سكان الولايات المختلفة هناك قد ساهموا فيها بدرجة كبيرة أو صغيرة، وطبقًا لرواية التوراة1، فقد أتى الإمبراطور الآشوري بقوم آخرين من "كوت وبابل وعوا وحماة وسفروايم"، وأسكنهم في هذه الأقاليم، وليس من شك في أن الآشوريين كانوا يهدفون من سياستهم هذه كسر التحالفات القديمة، بإدخال أجانب في البلاد "وربما كانوا في بعض الحالات من الآشوريين أنفسهم"، وبداية لظروف جديدة أكثر ملاءمة للإمبراطورية الآشورية الطموح2. ونقرأ في حوليات سرجون الثاني من هذه الفترة، أنه في السنة السابعة من حكمه، وفي حوالي عام 715ق. م، "وطبقًا لوحي صادق من آشور إلهي، قضيت على قبائل تامود وإيباديدي ومرسيمانو وجبايا3 والعرب الذين يعيشون بعيدًا في الصحراء والذين لا يعترفون برؤساء أو موظفين، والذين لم يكونوا قد جاءوا بجزهم لأي ملك، سبيت الأحياء منهم ونقلتهم إلى السامرة، من بيرعو ملك مصرو، ومن شمسي ملكة العرب، ومن "أتعمارا" "يثع أمر" السبئي"4، ومن ثم فربما كان "فلبي" مصيبًا في رأيه حين حدد الفترة "720-700ق. م" لحكم "يثع أمر" هذا5، وعلى أي حال، فهناك من يرى أن نفوذ العاهل الآشوري إنما وصل إلى سبأ نفسها، ومن ثم فقد أسرع ملكها بحمل الجزية إلى سرجون، حتى لا تقع بلاده آخر الأمر ضمن أملاك الآشوريين6. وجاء بعد "يثع أمر" ولده "كرب إيل بين"، وطبقًا للنقش "Cih 639" فإن الرجل قد وسع أطراف مدينة "نشق" ربما لأغراض سياسية واقتصادية، هذا ونقرأ في حوليات "سنحريب" أنه تسلم هدايا من "كرب إيلو" ملك السبئيين.   1 ملوك ثان 17: 24، عزرا 2: 9. 2 انظر كتابنا "إسرائيل" ص511. 3 انظر عن هذه القبائل: ألويس موسل: شمال الحجاز ص91-95. 4 نجيب ميخائيل: المرجع السابق ص175، وكذا A.L. Oppenheim, Anet, P.286 5 J.B. Philby, Op. Cit., P.141 6 F. Hommel, Grundriss, P.580 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 أما الهدايا فقد كانت من الأحجار الكريمة والعطور، وأما "كرب إيلو" فهو المكرب "كرب إيل بين"، وإن كان الآشوريون قد أطلقوا عليه لقب "ملك"، فليس لذلك من تعليل سوى أنهم كانوا يجهلون ألقاب حكام سبأ في تلك الفترة1. وجاء بعد "كرب إيل بين" ولده "ذمار علي وتار"، ونقرأ في نقش "هاليفي 349" أنه أمر بتوسيع مدينة "نشق" فيما وراء الحدود التي اختطها أبوه، كما أمر بتحسين وسائل الري وباستصلاح الأراضي المحيطة بها واستغلالها في الزراعة، وإن جعل ذلك مقصورًا على السبئيين، على أن الاهتمام بمدينة "نشق" "المعينية الأصل" إنما يدل على مدى اهتمام حكام سبأ باستصلاح الأراضي البور فيها، ثم توزيعها على السبئيين من أتباعهم، وبالتالي تحويلها إلى مدينة سبئية بمرور الوقت2. وهناك على مقربة من "مأرب" توجد فتحة لتنظيم تصريف المياه التي كانت تسير في القناة اليمنى "إحدى القناتين اللتين كانتا تخرجان من سد مأرب" وما زالت بقايا جداريها المشيدين بالحجر، باقية حتى الآن في الجهة الجنوبية من المدينة، وهي أمام الباب الرئيسي من السور الذي كان يواجه معبد "أوام" أو محرم بقليس، وعلى الجدار الشمالي من ذلك الأثر النقش رقم "1-44" وقد جاء فيه أن مكرب سبأ "ذمار علي وتار" بن "كرب إيل" "الذي عاش في القرن السابع قبل الميلاد" هو الذي بنى هذه الفتحة، أمام هيكل الإله "عتثر"3. وجاء بعد "ذمار علي وتار" ولده "سه علي ينوف" الذي ينسب إليه أنه صاحب فكرة ومنفذ أكبر مشروع للري عرفته بلاد العرب، وذلك بالرغم من أن سكان "مأرب" كانوا ذوي خبرة بشئون الري، إلا أن سدودهم كانت بدائية، حتى جاء "سمه علي ينوف"، وأحدث تطورًا في وسائل الري، وذلك حين شيد "سد رحب" للسيطرة على مياه الأمطار والإفادة من السيول، وهكذا بدأ المشروع العظيم، والذي عرف في التاريخ باسم "سد مأرب" والذي نما على مر الأيام حتى اكتمل في نهاية القرن الثالث الميلادي على أيام "شمر يهرعش"، فنظم وسائل الري   1 جواد علي 2/ 279-180، وكذا D. Nielsen, Op. Cit., P.76. وكذا Eb, 19, P.785 2 جواد علي 2/ 28. 3 أحمد فخري: المرجع السابق ص171، وكذا J. Ryckmans, Op. Cit., P.62-63 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 وأضاف مساحات كبيرة للأراضي الزراعية1. ونعرف من نقش "جلازر514" أن "سمه علي ينوف" قد ثقب حاجرًا في الحجر وفتح ثغرة فيه لمرور المياه إلى سد "رحب"، ثم إلى منطقة "يسرن" التي كانت تغذيها مسايل وقنوات عديدة تأتي بالمياه من حوض السد2، وتبتلع مياهها من مسيل "ذنة" فتغذي أرضًا كانت، وما تزال، خصبة، يمكن للقوم الإفادة منها إذا ما استعملوا الآلات الحديثة لإيجاد المياه3. وليس هناك من شك في أن عهد "سمه علي ينوف" من أهم عهود مكاربة سبأ، فيما يتصل بالتأريخ لسد مأرب، وأن أقدم ما لدينا من وثائق عنه، إنما يرجع إلى عهد هذا المكرب، ربما إلى حوالي عام 750ق. م، على رأي4، وحوالي عام 700ق. م، على رأي آخر5. وسار ولده وخليفته "يثع أمر بين" على سنته، ويبدو أن سد "رحب" لم يف بجميع احتياجات الأراضي الصالحة للزراعة، ومن ثم فقد عمل، "يثع أمر بين" على إدخال التحسينات على هذا السد، وإنشاء فروع له، ومنها فتح ثغرة في منطقة صخرية حتى تصل المياه إلى أرض "يسرن"، هذا إلى جانب تعلية "سد رحب" وتقويته، أضف إلى ذلك بناء سد "هباذ"، وهو أكبر من سد رحب، والذي كان على الأرجح البوابة الأخرى على اليسار6، كما أقام سد الجبار المعروف باسم "سد حبابض" الذي مكن الأرض من الإفادة بأكبر كمية من المياه كانت تجري عبثًا، فلا تفيد زرعًا ولا ضرعًا7. ولعل هذا كله هو الذي دفع بعض الباحثين إلى اعتبار "يثع أمر" وأبيه "سمه   1 جواد علي 2/ 281 وكذا R.L. Bowen And F. Albright, Op. Cit P.73 وكذا D. Nielsen, Op. Cit., P.79 2 جواد علي 2/ 281-282، وكذا H. Von Wissmann And M. Hofner, Op. Cit., P.27 3 جواد علي 2/ 281، نزيه مؤيد العظم: رحلة في بلاد العرب السعيدة ص88. 4 جواد علي 2/ 282. وكذا R.L. Bowen And F. Albright, Archaeological Discoveries In South Arabia, 1958, P.7 5 جواد علي 7/ 210 وكذا Ei, 3, P.290 6 أحمد فخري: المرجع السابق ص183، جواد علي 2/ 282 وكذا R.L. Bowen And F. Albright, Op. Cit., P.75 7 فؤاد حسنين: المرجع السابق ص291، وكذا Ei, 3, P.290 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 علي ينوف" المؤسسين الحقيقيين لسد مأرب، والذي يعتبر أكبر عمل هندسي شهدته بلاد العرب في تاريخها القديم، وقد تم هذا العمل في القرن السابع ق. م "فيما بين عامي 650، 630ق. م"، هذا وقد كان من أثر الاهتمام بإنشاء السدود وتنظيم الري، أن زادت مساحة الأراضي الزراعية، وخاصة حول مأرب، مما كان سببًا في الإعلاء من شأنها وزيادة سكانها، ولما كان الرخاء الاقتصادي في سبأ يعتمد على الحياة النباتية -وليس الحيوانية- فإن الاهتمام بتنظيم الري إنما كان سببًا في الرخاء الذي ساد البلاد، إبان الفترة، وجعل من مأرب مدينة مزدهرة، وبالتالي فقد أوجد الصورة الرومانتيكية لبلاد العرب في عقول المؤلفين الكلاسيكيين، فأطلقوا عليها "بلاد العرب السعيدة، وهكذا أصبحت مأرب تنازع صرواح مكانتها أول الأمر، ثم احتلال هذه المكانة بعد حين من الدهر، فغدت عاصمة "سبأ"، وصاحبة معبد الإله الموقاه، إله سبأ الكبير1. هذا ولم يكن نشاط "يثع أمر" مقصورًا على النواحي الاقتصادية فحسب، وإنما تعداه إلى النواحي الحربية، ومن ثم فإننا نقرأ في نقش "فلبي 77" أنه سَوَّرَ "حريب" وحَصَّنَ قلعتها2، وأنه قام بحملات عسكرية ضد القبائل والدويلات المجاورة، التي بدأ الضعف يتسرب إلى كيانها، وأخذت حكوماتها تسير نحو الزوال بخطى حثيثة، فطبقًا للنقوش التي عثر عليها في مأرب، فإن "يثع أمر" قد هاجم قتبان على أيام ملكها "سم وتر"، وقتل منها قرابة أربعة آلاف رجل، ولم يكن حظ معين بأفضل من حظ قتبان، وإن كنا لا نعلم عدد الضحايا من أبنائها، إلا أننا نعرف أنه قد تابع انتصاره عليها بنصر آخر أحرزه على القبائل والمدن التي لم تكن قد خضعت بعد لحكومته، حتى وصل إلى نجران، وهناك وعلى مقربة من نجران دارت رحى الحرب بينه وبين "مهأمرم"، "مهامرم" و"أمرم" حتى قتل من أعدائه 45 ألفًا، وأسر 63 ألفًا من الرجال، وغنم 31 ألفًا من الماشية، ودمر عددًا من المدن والقرى، الواقعة بين رجمت ونجران3.   1 فؤاد حسنين: المرجع السابق ص291، وكذا J.B. Philby, Op. Cit., P.39 وكذا I. Shahid, Op. Cit., P.10 2 J.B. Philby, Sheba's Daughters, P.445 وكذا Le Museon, Lxii, 3-4, 1949- P.249 3 جواد علي 3/ 283، وكذا D. Nielsen, Op. Cit., P.81 وكذا J.B. Philby, The Background Of Islam, P.39 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 وأما النشاط الديني، فقد أسهم فيه ببناء "معبد نسور" و"معبد علم" و"معبد في ريدان"، هذا فضلا عن معبد للإلهة "ذات حميم" في "حنن"، وعدة أبنية بإزاء معبد "دهب"، كما أقام مذبحًا عند باب "نوم" للاحتفال بموسم "صيد عثتر" الذي لا نعرف عنه شيئًا، وإن كان يبدو أن مكاربة سبأ إنما كانوا يحتفلون بالصيد في مواسم معينة، ثم يعقدون صلة بين هذه المواسم وبين الآلهة، ربما ابتغاء مرضاة هذه الآلهة، ورغبة منهم في أن تمنحهم صيدًا وفيرًا1. وجاء بعد "يثع أمر"، "كرب إيل وتار" والذي يعد عهده من العهود الحاسمة في تاريخ سبأ، فهو خاتمة لعهود المكربين، وفاتحة لعهود ملوك سبأ، أو بمعنى آخر، الانتقال من حكومة دينية إلى حكومة مدنية، حيث بدأ الحكام السبئيون يخلعون لقب "مكرب" -والذي ربما كان يعني أمير كاهن أو الكاهن الأكبر2، وربما الملك الكاهن، مما يشير إلى الأساس الـ"ثيو قراطي" الذي قامت عليه الدولة3- وعلى أي حال، ففي أخريات عهد هذا الحاكم السبئي "كرب إيل وتار" بدأت الدولة تتحول إلى حكومة دنيوية، وأصبح رئيسها يحمل لقب "ملك". ويرى "فلبي" أن "كرب إيل وتار" قد حكم في الفترة "620-600ق. م" وأنه غير لقبه من مكرب إلى ملك حوالي عام 610ق. م4، بينما يرى آخرون أنه حكم في حوالي نهاية القرن الخامس ق. م5، ويعد "نقش النصر" في صرواح، والذي يغطي وجهي جدار مشيد من المرمر قائم في بهو المعبد، من أهم مصادر التاريخ اليمني، ذلك لأن صاحبه "كرب إيل وتار" قد دون فيه كل أعماله الحربية والدينية. ويبدأ النص: الذي تعد دراسة "نيكلولوس رود كناكيس"6 أهم دراسة له، بتوجيه الملك السبئي الشكر للآلهة السبئية التي أغدقت نعمائها عليه، فوحدت   1 جواد علي 2/ 284-285، وكذا Le Museon, Lxi, 3-4, 1948, P.184 2 موسكاتي: المرجع السابق ص192. 3 I. Shahid, Op. Cit., P.7-8 4 J.B. Philby, Op. Cit., P.40, 141 5 جواد علي 2/ 286، وكذا H. Von Wissmann, And M. Hofner, P.9, 22, 25, 142 6 أحمد فخري: المرجع السابق ص163. وكذا انظر: N. Rhodokanakis, Altsabaische Texte, I, P.19f الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 صفوف قومه، وباركت أرضه، ووهبتها أمطارًا سالت في الأودية وساعدته على إنشاء السدود وحفر القنوات، لري الأرضين التي لم تصلها المياه، ومن ثم فقد نحر الذبائح وقدم القرابين للآلهة -الموقاة وعتثر وهوبس-. وينتقل النص بعد ذلك إلى مجال السياسة والحروب، فيحدثنا كيف أن "كرب إيل وتار" قام بفتوحات كثيرة في البلاد المجاورة وانتصر على "سأد" و"نقبة"، وأحرق جميع مدن "معافر" وقهر "ضبر" و"ضلم" و"أروى" وأحرق مدنهم وقتل منهم ثلاثة آلاف وأسر ثمانية، وضاعف عليهم الجزية التي يدفعونها -ومن بينها البقر والماعز -هذا فضلا عن انتصاره على "ذبحان ذو قشر" وعلى "شرجب" وإحراق مدنهما، كما استولى على جبل "عسمة: و"وادي صير"، وجعلهما وقفًا للإله الموقاة، ولبني قومه من السبئيين1. ولعل من أهم حروبه تلك التي استعر أوارها بينه وبين "أوسكان" "أوزان"، والتي كان من جرائها قتل 16 ألفًا، وأسر 30 ألفًا من أوسان -وهي دويلة صغيرة قامت في جنوب بلاد العرب، ثم سرعان ما بدأت تنافس سبأ نفسها من ناحية، وحضرموت من ناحية أخرى، بعد أن ضمت إليها عددًا من الحلفاء مثل سعد ومعافر، وإقليم دثينة ودهس وتبنو، وسائر القبائل النازلة هناك شرقًا حتى حضرموت -وأما سبب تلك الحروب بين سبأ وأوسان، فيرجع إلى أن حضرموت وقتبان كانتا حليفتين لسبأ، فتقدم ملك أوسان واستولى عليهما، ومن ثم فقد وجد "كرب إيل وتار" نفسه مضطرًا لمناصرة حلفائه، وهكذا اتجه إلى أوسان وأعمل السيف فيها حتى أخضعها، والأمر كذلك بالنسبة إلى دهس وتبنو، حيث قتل منهم ألفًا وأسر خمسة آلاف، وأحرق كثيرًا من مدنهم، ثم ضمها إلى سبأ، ثم أعاد إلى الحضارمة والقتبانيين ما كان لهم من أملاك في أوسان2. واتجه "كرب إيل وتار" بعد ذلك إلى "معين"، وطبقًا لما جاء في "نقش صرواح"، فإن مدينة "نشان" "خربة السوداء" قد عارضت "كرب إيل وتار"   1 جواد علي 2/ 288. 2 انظر: فؤاد حسنين: المرجع السابق ص291، أحمد فخري: المرجع السابق ص164، جواد علي 2/ 289-290. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 وناصبته العداء، ومن ثم أرسل إليها جيشًا نجح في إيقاع الهزيمة بها، كما نهب "عشر" و"بيجان" ومجاوراتها، إلا أن نشان سرعان ما أعلنت الثورة من جديد، غير أن ثورتها هذه لم يكتب لها نصيب من نجاح، فضرب الحصار على "نشق" قرابة أعوام ثلاثة، انتهت بضمها إلى سبأ، وسقط ألف قتيل من "نشان"، فضلا عن الاستيلاء على أراضيها الزراعية والسدود التي نظم الري فيها، إلى جانب إسكان السبئيين فيها، وبناء معبد للموقاة1. ويتحدث نقش النصر بعد ذلك عن مدن "سبل" و"هرم" و"فنن"، وأن الملك "كرب إيل وتار" قد أرسل إليها جيشًا كتب له نصر مؤزر عليها، وأن ملوكها قد قتلوا في المعارك التي دارت رحاها بين جيشه وأهل تلك المدائن، كما سقط منهم ثلاثة آلاف قتيل، وأسر خمسة آلاف، وغنم السبئيون 50 ألف رأس من الماشية، وفرضوا الجزية على أعدائهم، فضلا عن وضعهم تحت الحماية السبئية2. ويشير آخر النقش إلى حملة "كرب إيل وتار" على "نجران" فيحدثنا عن أهل "مه أمر"، "مهامر" و"مه أمرم" و"عوهب"، وكيف أن الملك السبئي قد هزمهم، وقتل منهم خمسة آلاف، كما أسر اثني عشر ألف طفل، وغنم اثني عشر رأس من الماشية، وأن "مه أمرم" قد أحرقت وصودرت مياهها، وفرضت الجزية على البقية من سكانها3. وأما الوجه الآخر من النقش، فيقدم لنا بيانًا بأعمال التحصينات التي قام بها "كرب إيل وتار" لتحصين مدن مملكته، كما يتحدث كذلك عن ممتلكات الملوك الذين دانوا لطاعته، وعن خزانات المياه التي أصلحها أو شيدها، وحدائق النخيل التي قام بغرسها. وهكذا كانت حروب "كرب إيل وتار" فاتحة عهد جديد في تاريخ اليمن القديم، وأصبح مكرب ملكًا على اليمن بأكملها، بما في ذلك حضرموت ونجران،   1 جواد علي 2/ 292-293، أحمد فخري: المرجع السابق ص164. 2 جواد علي 2/ 293، وكذا H. Von Wissmann And M. Hofner, Op. Cit., P.57f 3 جواد علي 2/ 294. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 وما كان يسمى بالمحميات، واستمر ذلك الملك الواسع الكبير لسبأ عدة قرون1 إلا أن هذه الحروب من ناحية أخرى قد أضرت كثيرًا بمدن اليمن، فقد أحرق فيها "كرب إيل وتار" الكثير من المدن، كما قتل الكثير من أبنائها، مما أدى إلى تدهور الأحوال في اليمن، وفي بقية العربية الجنوبية، وإلى اندثار الكثير من الأماكن بسبب إحراقها، واهلاك سكانها2. بقيت كلمة أخيرة تتصل بمدينة "صرواح" -مقر الإله الموقاة، وعاصمة سبأ في تلك الفترة- وواحدة من أهم المدن السبئية لعدة قرون بعد ذلك- وتقع الآن في موضع "الخربة" و"صرواح الخريبة"، ما بين صنعاء ومأرب، هذا وقد تردد ذكرها في أشعار العرب، ويصفها الهمداني بأنها لا يقارن بها شيء من المحافد المختلفة، كما جمع الكثير من الشعر الجاهلي والإسلامي الذي ورد فيه اسمها3، وفي هذا كله دلالة على أهمية تلك المدينة القديمة، وعلى تأثيرها في نفوس الناس تأثيرًا لم يستطع الزمن أن يمحوه بالرغم من أفول نجمها قبل الإسلام. ويروي الأخباريون أنها حصن باليمن، وأن الجن قد بنوه لبلقيس ملكة سبأ بناء على أمر من سليمان عليه السلام4، ولا ريب في أن هذا من نوع الأساطير التي لعب الخيال فيها دورًا كبيرًا، فضلا عن جهل فاضح بالتاريخ، إلى جانب أثر الإسرائيليات في إرجاع أي أثر لا يعرفون صاحبه إلى سليمان وإلى جن سليمان. وتوجد المناطق الأثرية في صرواح في ثلاثة مناطق متقاربة، واحدة منها هي منطقة البناء "مكان السد القديم"، والثانية هي منطقة "القصر- وهي قرية حديثة البناء استخدموا في تشييد بعض منازلها أحجارًا من المعابد -أما الآثار الباقية المهمة   1 أحمد فخري: المرجع السابق ص164. 2 جواد علي 2/ 299. 3 أحمد فخري: المرجع السابق ص160، الهمداني، صفة جزيرة العرب ص102، 110، 203، الإكليل 8/ 45، 75، 10/ 22، 24، 26، 39، 110، منتخبات ص60. 4 الهمداني: صفة جزيرة العرب ص102، 110، 203، الإكليل 8/ 24 وما بعدها، اللسان 3/ 343، ياقوت 5/ 402. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 ففي منطقة "الخريبة"1، على أن أهم آثار صرواح إنما هي المعبد الكبير، معبد إله القمر "الموقاة" الذي استدرات إحدى ناحيتيه، فجعلت منه بناء نصف بيضي الشكل، ولا يمكن معرفة التصميم الأصلي للبناء الذي يبلغ ارتفاع جدرانه أكثر من عشرة أمتار، إلا بعد عمل الحفائر حوله وتنظيف داخله، لأنه قد استخدم خلال قرون طويلة كحصن في العصور الوسطى، وفتحوا فيه بعض المداخل، كما سدوا بعض أبوابه القديمة، واستخدموا كثيرًا من الأحجار الكبيرة في تلك الترميمات، هذا وقد زار أستاذنا الدكتور أحمد فخري أنقاض معبد الموقاة، وصور عددًا كبيرًا من النقوش التي ترجم بعضها الأستاذ "ريكمانز"2، هذا، وإلى جانب معبد الموقاة، توجد بقايا عدة مبان أخرى، نقشت بعض أعمدتها بالكتابات، فهناك دار بلقيس، ومعبد يفعان، الذي نال حظوة كبيرة لدى المكاربة3.   1 أحمد فخري: المرجع السابق ص159-160. 2 أحمد فخري: المرجع السابق ص160-162. وكذا G. Ryckmans, The Publication Of The Inscriptions, Iii, Cairo, 1951 3 نزيه مؤيد العظم 2/ 34، وكذا D. Nielseon, Op. Cit., P.78 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 ثانيًا: عصر ملوك سبأ لعل أهم ما يميز هذا العصر أمران: الأول: انتقال العاصمة من صرواح إلى مأرب، واتخاذ قصر "سلحين" الشهير قاعدة للعرش السبئي، والآخر: أن حكام سبأ بدءوا يتخلون عن لقب "مكرب"، ويتخذون بدلا عنه لقب "ملك"، وأما توقيت هذا العصر فموضع خلاف، فبينما يذهب "هومل" إلى أنه إنما كان في الفترة "650-115ق. م" -أو حتى عام 109ق. م، فيما يرى ريكمانز1- يذهب "فلبي" إلى أنه بدأ في عام 610ق. م، وأن "كرب إيل وتار" إنما كان في الفترة "620-610ق. م" مكربًا لسبأ، وليس ملكًا لها2، ويتجه "أولبرايت" إلى أن ذلك إنما كان بعد قرنين، وأن "كرب إيل وتار" قد حكم كملك في حوالي عام 450ق. م، وبالتالي فإن عهد ملوك سبأ إنما يبدأ في تلك السنة3. وأيًّا ما كان الأمر، فالذي لا شك فيه أن "كرب إيل وتار" هو أول ملوك هذه الفترة، ومن الثابت تاريخيًّا أن هذا الأمير القوي الذي نستطيع أن نقول عنه إنه المؤسس الحقيقي للملكية السبئية كان يحتفظ كذلك بلقب "مكرب" المقدس، -كما احتفظ به الذين جاءوا من بعده- وربم كان لقب مكرب السبئي هذا أصلا لقب أمير قتبان4. وكان "سمه علي ذريح" هو الملك الثاني5، وقد ذهب "فلبي" إلى أنه ربما كان ابنًا لسلفه، وأن حكمه قد بدأ حوالي عام 600ق. م6، ثم جاء من بعده ولده "الشرح"، ونقرأ في نص "Cih374" أنه أقام جدار معبد الإله الموقاة في محرم بلقيس في مأرب، ورمم أبراجه، وأدى ما كان قد نذره للموقاة ولعثتر وهوبس وذات حميم، وأنه أقام هذا النقش تخليدًا لذكرى والده "سمه علي ذريح"   1 فريتز هومل: المرجع السابق ص87، جواد علي 2/ 315. 2 J.B Philby, Op. Cit., P.141 3 Jaos, 73, 1953, P.40. وكذا Basor, 137, 1955, P.38 4 فريتز هومل: المرجع السابق ص87-88. 5 Le Museon, Lxii, 1-4, 1949, P.249 6 J.P. Philby, Op. Cit., P.142 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 هذا وقد سجل هذا الملك اسم شقيقه "كرب إيل"، الذي لا نعرف عنه شيئًا، وإن كان "هومل" -وفلبي من بعده- إنما جعلاه خليفة لوالده، بينما جعلا "الشرح" خليفة له، كما بدأ "فلبي" حكم "كرب إبل" هذا، بعام 580ق. م1. وانتقل حكم سبأ بعد ذلك إلى "يدع إيل بين" الذي يرى بعض الباحثين أنه إنما حكم في أوائل القرن الرابع قبل الميلاد، معتمدين في ذلك على ذكر اسمه- وكذا حصن "إلو"- في نقش "جلازر 105" الذي يرون أنه يرجع إلى هذه الفترة2، وإن كان "فلبي" يرى أنه حكم في الفترة "560-540ق. م"3، فإذا كان ذلك كذلك، فإن سبأ لا بد وأن تكون قد فقدت نفوذها في شمال بلاد العرب في تلك الفترة من القرن السادس قبل الميلاد، لأننا نعرف أن "نبونيد" "555-539ق. م"- ذلك الملك المثقف الذي اشتهر في التاريخ القديم بحبه للآثار وعنايته بها -قد قضى عشر سنوات في تيماء في شمال بلاد العرب4، بعد أن قام بحملته المشهورة التي أخضع فيها تيماء وديدان وخيبر وأتريبو "يثرب- المدينة المنورة" وكبد فيها العرب خسائر فادحة5، ثم أقام قصرًا في تيماء بقي فيه حينًا من الدهر، حتى أصبحت تيماء وكأنها قد غدت خليفة لبابل6، ولم يعد من تيماء إلا في عام 546ق. م، عندما دعاه رعاياه الذين كان على خلاف معهم طوال تلك الفترة التي قضاها في تيماء، وربما كانت عودته من هناك بسبب التهديدات الفارسية لبابل7. وعلى أي حال، فلقد جاء بعد "يدع إيل بين" ولده "يكرب ملك وتار"، ولدينا من عهده نقش "هاليفي51"، وهو عبارة عن وثيقة موافقته على قانون   1 فؤاد حسنين: المرجع السابق ص292، وكذا D. Nielsen, Op. Cit., P.87 وكذا J.B. Philby, Op. Cit., P.142 2 فؤاد حسنين: المرجع السابق ص293 وكذا H. Von Wissmann And M. Hofner, Op. Cit., P.19 3 فؤاد حسنين: المرجع السابق ص293. 4 A. Gardiner, Op. Cit., P.363 5 C.J. Gadd, The Harran Inscriptions Of Nabonidus, P.35, 79-80 وكذا A.R. Burn, Persia And The Greeks, P.38 6 A. Musil, Op. Cit., P.225. وكذا S. Smith, Op. Cit., P.53, 88 وكذا P.K. Hitti, Op. Cit., P.39 وكذا R.P. Doughterty, Nabonidus And Belshazzar, P.106 7 R. P. Dougherty, Op. Cit., P.107 وكذا Cah, 4, P.494. وكذا A. Gardiner, Egypt Of The Pharaohs, P.363, الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 صدر أيام أبيه يبيح لشعب سبأ -وكذا لقبيلة "يهبلح"- حق استغلال أرض زراعية في مقابل ضريبة معينة تدفع للدولة، فضلا عن واجباتهما تجاه الخدمة العسكرية، في أيام السلم والحرب سواء بسواء، كما أشار القانون إلى وضع قبيلة "أربعان" التي كانت تتمتع بالحكم الذاتي، ولها رؤساء يحملون لقب "ملك"1. وجاء بعد ذلك "يثع أمر بين"، وقد جاء اسمه في عدة كتابات تتصل بتقديم قرابين للإله "بعل أوام" والإله "عثتر"، وإن كانت الكتابة التي سجلها "تبع كرب" كاهن الإلهة "ذات غضرن" تتحدث عن ثلاثة ملوك "يدع إيل بين، يكرب ملك، يثع أمر بين"، وعلى أي حال، فإن الكتابة إنما تروي قصة الدور الذي قام به صاحبها "تبع كرب"، كقائد عسكري، في الحروب التي أشعلت نيرانها قتبان ضد سبأ، إلا أن هذا القائد الكاهن نجح في أن يصد هجوم القتبانيين، وأن يسترد الأرضين التي استولوا عليها، وأن يضع شروطًا للصلح بين سبأ وقتبان، ثم يرسلها إلى "يثع أمر بين" في مأرب، حيث تمت الموافقة عليها، وأخيرًا يسجل هذا النص، ثم يضعه في معبد الإله الموقاة، المعروف عند السبئيين "بمعبد أوام بيت الموقاة" تمجيدًا لإله سبأ الكبير، وتخليدًا لذكرى عمله الجليل هذا2. ثم جاء "كرب إيل وتار" ولدينا من عهده عدة كتابات، منها ما يتصل بطريقة جمع الضرائب -وهو أمر قد أوكل القيام به إلى رؤساء القبائل- ومنها ما يتصل بالأعمال الزراعية من بناء للسدود وحفر للقنوات، كما ورد اسم الملك مع اسم "سمه علي" في النص المعروف بـ"3Rep Epig". وهناك كتابة ترجع إلى أيام "ذمار علي" بن "يدع إيل وتار" -وكذا اسم ابنه الذي ضاعت حروفه- وفيها ذكر لآلهة سبأ ومعين في نفس الوقت، فإذا ما تذكرنا أن الرجل من "ريمان" "وهي عشيرة من سبأ" له بيت في "نمران" "بيت نمران الحالية"، ومن ثم اختلط هؤلاء بالمعينيين، مما كان سببًا في ذكر آلهة   1 جواد علي 2/ 318، وكذا J. Halevy, In Ja, 1872, P.137 2 J. Halevy, Ja, Ii, 1874, P.581, 584 جواد علي 2/ 320 وكذا R.L. Bowen And F. Albright, Archaeological Discoveries In South Arabia, P.222 3 جواد علي 2/ 322، وكذا Rep, Epig, Vii, I, P.75, Ii, P.151 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 معين مع آلهة سبأ، وربما كان ملك سبأ هو الذي أسكن هذه الجماعة من الريمانيين عند "نشق" لحماية معين، وللدفاع عنها بعد أن خضعت لسبأ1. وجاء بعد ذلك عدة ملوك منهم "الكرب يهنعم" و"كرب إبل وتار" ثم "أنمار يهأمن"، "أنمار يهنعم"، والذي حدد له "فلبي" الفترة "290-270ق. م"2، وإن ذهب "فون فيسمان" إلى أنه حكم في القرن الأول قبل الميلاد "حوالي عام 60ق. م"3، ثم جاء من بعده ولده "ذمار علي ذريح". وانتقل العرش إلى "نشأ كرب يهأمن"، "نشأ كرب يهنعم"، وهناك ما يدل على أن تماثيل الإله "عثتر ذي ذب"، قد أصابها بعض التلف، وأنها قد رممت، وأن الرجل قد قدم إلى "تنف ربة غضران" أربعة وعشرين وثنًا، بغية أن تبعد الضرَّ عنه وعن أهل بيته، "بحق عثتر والموقاة، وبحق شمس تنف ربة ذي غضران"، وفي هذا دلالة على أن المعبد الذي قدمت فيه هذه الأصنام، إنما كان في "ذي غضران" وأنه قد خصص للإلهة "الشمس الفائقة" وأن كلمة "تنف" إنما هي صفة لها4. وهناك نقش يشير إلى أن أعرابًا قد أغاروا على جماعة من السبئيين، وربما أرض سبأ نفسها، وأن الملك قد أرسل قوة من الجيش ومن الأهلين، إلى أرض هؤلاء الأعراب، نجحت في استرداد ما غنموه من أسلاب وأسرى، وأن صاحب النقش "أبو كرب بن أسلم" قد قدم تمثالين من البرونز للموقاة تخليدًا لذكرى هذا الحادث، وشكرًا للإله على نجاته، ويعد هذا النقش من أقدم نصوص المسند التي تشير إلى الأعراب وإلى غاراتهم على السبئيين وقوافلهم، وإن كنا لا ندري أين كانت مساكن هؤلاء الأعراب، ذلك لأن الأعراب موجودون في كل مكان في   1 Le Museon, 1964, 3-4, P.436 2 J.B. Philby, Op. Cit., P.88 142f 3 H. Von Wissmann And M. Hofner, Op. Cit., P.18 4 جواد علي 2/ 327: وكذا انظر: Handbuch, I, P.90 وكذا Osiander, In Zdmg, Xix, 1865, Ii, P.261 وكذا A. Jamme, Sabaen Inscriptions From Mahram Bilquis "Marib", 1962, P.270 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 شبه الجزيرة العربية، ومنها اليمن1. هذا ويتجه بعض الباحثين إلى اعتبار "نشأ كرب يهأمن" من قبيلة "همدان" معتمدين في ذلك على أن اسمه من الأسماء الهمدانية المعروفة، بينما يرى آخرون أنه من "بني جرت" من قبيلة "سمهر" "سمهرام"، ويعارضون في أنه آخر الأسرة السبئية الحاكمة، بل ونراهم كذلك في ريب من أن أباه كان ملكًا فعليًّا في سبأ2. هذا وتبين لنا النصوص أن الملك كان يقيم في "قصر سلحين" بمأرب، وأنه حكم في الفترة "175-160ق. م" -فيما يرى جام- وأنه كان يتقرب إلى "شمس تنف ربة غضران" حتى إبان إقامته في مأرب في قصر سلحين، مما يدل على أنه لم ينس آلهة قبيلته "بني جرت" وعلى رأسها الإلهة الشمس، ومن ثم فقد قدمها على الآلهة الأخرى بل وذكرها مع "الموقاة" إله سبأ الخاص3. وجاءت بعد "نشأ كرب يهأمن" فترة ظلام، يرى "فلبي" أنها ثلاثون عامًا "230-200ق. م"4، جاء بعدها "نصرم يهنعم" على رأس طائفة جديدة من الملوك، وقد ذهب "فلبي" إلى أن "نصرم يهنعم" هذا، قد حكم حوالي عام 200ق. م5 وعلى أي حال، فهناك نصوص جاء فيها اسم الرجل بدون لقب "ملك"، كما أشار بعضها إلى "تالب ريام" رب معبد "حدثان" الذي ينتسب إليه الهمدانيون، وربما كان عدم وجود لقب ملك بعد اسم "نصرم يهنعم" "ناصر يهأمن"، دلالة على أنه لم يكن ملكًا، وإنما كان أميرًا، ومن ثم فإن الدكتور جواد علي يرى أن الرجل -وكذا أخيه"صدقي يهب"- لم يكونا ملكين، وإنما كانا سيدين من سادات همدان، لهما سلطان واسع على قبيلتهما وفي سبأ، وربما كان "ناصر يهأمن" أميرًا على همدان، والأمر كذلك بالنسبة إلى أخيه، وأن السبب في تقديم "ناصر يهأمن" إنما كان لأنه   1 جواد علي 2/ 327-329 وكذا A. Jamme, Op. Cit., P.31. وكذا Le Museon, 1967, 1-2, P.279 2 جواد علي 2/ 329-330، وكذا A.Jamme, Op. Cit., P.272 3 جواد علي 2/ 330، وكذا A. Jamme, Op. Cit., P.279, 290 4 J.B. Philby, Op. Cit., P.142 5 J.B. Philby, Op. Cit., P.142 وكذا J. Ryckmans, Op. Cit., P.337 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 أكبر سنًا1، وأن الرجلين قد عاصرا "نشأ كرب يهأمن"، وبقيا حتى عصر "وهب إيل ويحز" ومن ثم فإن "نصر يهأمن" قد عاش فيما بين عامي 175، 150ق. م، على أساس أن "نشأ كرب يهأمن" قد عاش في الفترة "175-160ق. م" وأن حكم "وهب إيل يحز" كان فيما بين عامي 160، 145ق. م، فيما يرى "ألبرت جام"2. وأيًّا ما كان الأمر، فإننا الآن أمام ظاهرة جديدة، تبدو واضحة من النصوص التي يتحدث فيها "ناصر يهأمن" وشقيقه "صدق يهب" بصراحة على أنهما من "همدان"، مما يشير إلى أن قبيلة همدان أصبح لها المكانة الأولى بين القبائل، حتى أن أمراءها أصبحوا يلقبون أنفسهم بلقب "ملك" متحدين بذلك سلطة ملوك سبأ الشرعيين3. ويرجع الإخباريون نسب قبيلة همدان إلى "أوسلة بن مالك بن زيد بن أوسلة بن ربيعة الخيار بن زيد بن كهلان" على رأي، وإلى همدان بن مالك بن زيد بن أوسلة بن ربيعة بن الخيار بن مالك بن زيد بن كهلان" على رأي آخر4، وترجع بطون همدان إلى حاشد وبكيل، فأما "حاشد" فتقع مواطنها في الأرض الغربية من همدان، وأما "بكيل" فإنما تسكن المنطقة الشرقية منها، وأن الاثنين "حاشد وبكيل" من نسل "جشم بن خيران بن نوف بن همدان"5، وقد اتخذت همدان من "تالب ريام" إلهًا لها، وسرعان ما ارتفع نجمه بارتفاع نجم همدان،   1 جواد علي 2/ 331-333، يحيى نامي: نشر نقوش سامية قديمة من جنوب بلاد العرب ص33-34، 52. 2 جواد علي 2/ 333، وكذا A.F.L. Beeston, Problems Of Sabaean Chronology, In Basor, 16, 1954, P.27-56 وكذا A. Jamme, Op. Cit., P.277-78, 290.، وكذا D. Nielsen, Op. Cit., P.88 3 جواد علي 2/ 334، وكذا Cih, 287. وكذا A. Jamme, Op. Cit., P.278 4 ابن حزم: جمهرة أنساب العرب ص392، تاريخ ابن خلدون 2/ 252، تاج العروس 2/ 547، ابن هشام 1/ 88 "طبعة مكتبة الجمهورية بمصر"، منتخبات ص110، الاشتقاق 2/ 250، نهاية الأرب للقلقشندي ص438، وكذا Ency. Of Islam, Ii, P.246 5 الإكليل 10/ 28، منتخبات ص27، 53، تاج العروس 2/ 232، 336، الاشتقاق 2/ 350، جمهرة أنساب العرب ص372، وكذا D. Nielsen, Op. Cit., P.113. وكذا Ency. Of Islam, Ii, P.246 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 واغتصابها لعرش سبأ، ومن ثم فقد أصبح الناس يتعبدون له، كما يتعبدون للموقاة إله سبأ، إلا أن الهمدانيين سرعان ما تنكروا لإلههم هذا، ومن ثم نراهم- كما يقول ابن الكلبي1- يتعبدون وقت ظهور الإسلام لصنم هو "يعوق" كان له بيت في "خيوان"، ويجعلون "تالب ريام" بشرًا زعموا أنه جد همدان، وأن أباه هو "شهران الملك"، ثم زوجوه من "ترعة بنت يازل بن شرحبيل بن سار بن أبي شرح يحصب بن الصوار"، وجعلوا له أولادًا منهم "يطاع" و"يارم"2، وهكذا لعب الخيال دورًا قد يرضي أهل الأخبار، ولكنه لا يتفق وحقائق التاريخ. وعلى أي حال، وأيًّا ما كان نسب همدان، فإن "هومل" يقدم لنا "وهب إيل يحز" بعد "ناصر يهأمن"، وقد تابعه في ذلك "فلبي" الذي رأى أن حكمه كان حوالي عام 180ق. م، ونقرأ في نقش "جلازر 1228" إشارات عن حرب دارت رحاها بين "وهب إيل يحز"، وبين الريدانيين بقيادة "ذمار علي" بغية انتزاع عرش سبأ3، ولعل مما تجدر ملاحظته أن نص "جلازر 1228" هذا، إنما يشير، ولأول مرة، إلى مدينة "صنعاء" "صنعو"، والتي سوف يرد اسمها بعد ذلك في نقشي "جام 629، 644"، ويبدو أنها كانت ضمن أراضي قبيلة "جرت" وعلى مسافة قريبة جدًّا من حدود أرض قبيلة "بتع"4. ومن عجب، رغم أن هناك العديد من النصوص التي تشير إلى "وهب إيل يحز"، وإلى حروبه ضد الريدانيين، إلا أنه ليس هناك نص واحد يشير إلى أبيه، مما جعل البعض يذهب إلى أن أباه لم يكن ملكًا من الملوك -أو حتى قيلا من الأقيال البارزين- وإنما كان في غالب الظن واحدًا من عامة الناس، وأن ابنه "وهب إيل يحز" إنما نال ما ناله من قوة وسلطان عن طريق السيف، فربما كان واحدًا من   1 ابن الإكليل: كتاب الأصنام، القاهرة 1965 ص57. 2 الإكليل 8/ 66، ياقوت 3/ 1090110، 5/ 438، المحبر ص317، بلوغ الأرب 2/ 201 القاموس 3/ 270، تفسير ابن كثير 4/ 426، تفسير أبي السعود 5/ 198، تفسير الطبري 5/ 364، تفسير الخازن 4/ 314، البكري 2: 620، جواد علي 2/ 354-355. 3 Le Museon, 1967, 1-2, P.279 وكذا E. Glaser, Die Abessinier In Arabien Und Africa, P.67 4 Le Museon, 1964, 3-4, P.460 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 الثائرين على ملوك سبأ في زمن لا ندريه على وجه التحقيق، ثم كتب له نجح بعيد المدى في مسعاه، فانتزع العرش من أصحابه، ثم لقب نفسه بألقاب الملوك، بل وجعل والده واحدًا منهم، على أن الأمر لم يكن كذلك، إذ لو كان والده ملكًا لما غفلت النصوص عنه، إلا أن يكون ذلك ما يزال في باطن الأرض، ولعل الاكتشافات تأتي لنا بما يؤيد مزاعم "وهب إيل يحز"1. وأيًّا ما كان الأمر، فلقد خلف "وهب إيل يحز" ولده "أنماريهأمن" الذي حدد له "جام" الفترة "145-130ق. م"، غير أن غالبية المؤرخين لم تشر إليهن ووضعت مكانة "كرب إيل وتار يهنعم"2، الذي ورد في النصوص اسم إله جديد من عهده لم يكن معروفًا من قبل، وهو الإله "ذو سماوي" أو "ذو سماي" أي صاحب السماء أو رب السماء3. ونقرأ في نقش "جام 564" إشارات عن ثورة قامت في مأرب، ذلك لأن صاحب النص "أنمار" "من غيمان" كان- وكذا "رثد" "من مازن"- يحكمان من قصر سلحين في مأرب، بتفويض من الملك وبأمر منه، وأن هناك اضطرابًا وقع في المدينة ولمدة خمسة شهور، وأن الحاكمَين لم يستطيعا أن يعيدا الأمور إلى نصابها، إلا بعد الاستعانة بقوات من الجيش، هذا ورغم أن النص لم يشر إلى سبب هذه الاضطرابات التي ألحقت بالمدينة أكبر الأضرار، فربما كان السبب تعيين رجل من "غيمان" حاكمًا على العاصمة التي كان أهلها يكنون لهم أشد البغض، منذ وقعت الحروب بينهم وبين "غيمان" على أيام "أنمار يهأمن" شقيق "كرب إيل وتار يهنعم"، ومن ثم فربما ثارت العاصمة السبئية بسبب تعيين "أنمار" الغيماني، مطالبة بخلعه، وأن الملك قد رفض أن يجيب القوم إلى سؤلهم، ومن ثم فقد اشتدت نيران الثورة اشتعالا، ولم تستطع قوات الأمن القضاء عليها لمدة خمسة أشهر، مما اضطر الملك إلى أن يأمر بتدخل الجيش الذي أنهى الثورة4.   1 A. Jamme, Op. Cit., P.280, 2 وكذا A. Jamme, Op. Cit., P.281, 390 3 جواد علي 2/ 339، وكذا Zdmg, Xix, P.269 وكذا انظر: J. Halevy, Etudes Sabeennes, Ja, Ii, 1874, P.500 4 جواد علي 2/ 339-340، وكذا A. Jamme, Op. Cit., P.44, 47, 280 وكذا Le Museon, 1967, 1-2, P.280 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 هذا، ويرى "ألبرت جام" أن حكم "كرب إيل وتار يهنعم" إنما كان في الفترة "130-115ق. م" أو في الفترة "115-100ق. م"، ومن ثم فإن حكم "وهب إيل يحز" وحكم ابنيه "أنمار يهأمن" و"كرب إيل وتار يهنعم" قد امتد فيما بين عامي 160، 115ق. م، أو "160-100ق. م"1. بقيت كلمة أخيرة تتصل بمدينة "مأرب" عاصمة الدولة في هذه الفترة، وهي نفس المدينة التي جاءت في الآداب اليونانية والرومانية تحت اسم "ماريوبا" أو "مريابا2 "Mariaba"، ويرى البعض أن لفظة "مأرب" مأخوذة من "يارب" و"يرب" اللتين وردتا في التوراة، أو أنها آرامية الأصل مركبة من كلمتين "ماء"راب"، أي الماء الكثير أو السيل الكبير3، وقد توهم "ياقوت" -وتابعه كثيرون- أن سبأ هي مأرب، على أن الصحيح غير ذلك، فسبأ اسم البلاد والأمة، ولم تكن بلدًا أبدًا، كما توهموا أنها اسم لقصر كان للأزد باليمن، أو أنها اسم لكل ملك كان يلي سبأ، كما أن "تبعًا" اسم لكل من ولي اليمن والشحر وحضرموت4. وتقع مأرب على مبعدة مائة كيلو متر على الشرق من صنعاء الحالية، وعلى ارتفاع 3900 قدم فوق سطح البحر، وتقوم بلدة مأرب الحالية فوق جزء مرتفع من كوم أثري كبير هو خرائب المدينة ذات الشهرة الذائعة الصيت في التاريخ، وقد قدم لنا "جوزيف توما أرنو" رسمًا تخطيطيًّا للمدينة القديمة، وذكر أنها مستديرة وبها ثمانية أبواب، إلا أن وصف "أرنو" إنما يحتاج إلى تعديل، فالمدينة مستطيلة -وليست دائرية- وأركانها مستديرة، وربما لم يكن في أسوراها إلا أربعة أبواب فقط، بوابة في وسط كل سور5. على أن هناك من يرى أن مأرب -شأنها في ذلك شأن صرواح- إنما كانت في الأصل مدينة ذات بابين فقط6، ويبدو أن هناك أماكن كثيرة مكسورة في   1 A. Jamme, Op. Cit., P.390 2 Pliny, Ii, P.467 3 جرجي زيدان: المرجع السابق ص148. 4 انظر ياقوت 3/ 181، 5/ 34-38، وكذا P.K. Hitti, Op. Cit., P.54 5 أحمد فخري: المرجع السابق ص165-166، وكذا Ja, Iii, 1874, P.11 6 H.Von Wissman And M. Hofner, Op. Cit., P.27 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 الجدران، اعتبرها "أرنو" أبوابًا، وسماها بالأسماء التي كان يطلقها عليها الأهالي في أيامه، أما الباب الرئيسي في المدينة فقد كان في السور الغربي، وهو الذي يسمى الآن باب المدينة، وما زالت بقاياه موجودة، وعلى كل من جانبيه آثار برج من الحجر، وفي السور البحري باب آخر، وهو الذي يستخدمه أهالي مأرب عند الخروج لدفن موتاهم، في الجبانة الواقعة في الناحية البحرية من الخرائب، ولهذا سموه باسمها، أي باب المجبنة1. ومدينة مأرب- شأنها في ذلك شأن أغلب المدن الكبيرة في اليمن القديم- مدينة مسورة بسور قوي حصين له أبراج، تمكن القوم من الدفاع عن مدينتهم، وأن السور -طبقًا لما جاء في النقوش- قد بني من حجر البلق، وهو حجر صلد قُدَّ من الصخر، فوقه صخور من جرانيت، ومن أسف أننا لا نعرف حتى الآن من النقوش التي تم الكشف عنها في مدينة مأرب اسم الملك الذي أسسها، وربما كانت بعض أجزاء السور الحالي من السور القديم الذي بناه مكربو سبأ القدامى، ونعرف من نقوش كثيرة أن واحدًا منهم "ابن سمه علي ينوف" قد بنى حائطًا حول مأرب، كما نعرف من نقشي "جلازر 418، 419" أن "كرب إيل وتار" "من القرن السابع ق. م" قد أضاف بعض الأجزاء إلى سور مأرب، كما بنى بوابتين وبعض الأبراج2. ويروي الأخباريون أن مؤسس مدينة مأرب إنما هو "سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان"3، كما أشرنا من قبل، ويروي الهمداني في الإكليل أنه كان بمأرب ثلاثة قصور "سلحين والهجر والقشيب" وأهم تلك القصور وأشهرها هو قصر "سلحين"، الذي تردد ذكره كثيرًا في كتب الأدب العربي على أنه قصر الملكة بلقيس، وكثيرًا ما أشاروا إلى أعمدته القائمة وقالوا إنها تحمل العرش، وإن قواعدها تحت الأرض مثل ارتفاعها فوقها، وهي 29 ذراعًا4، وأما خارج بلاد   1 أحمد فخري: المرجع السابق ص166-167. 2 أحمد فخري: المرجع السابق ص167، وكذا A. Fakhry, Op. Cit., Iii, Pl. Xliv, A 3 ياقوت 3/ 181، تاج العروس 10/ 169، منتخبات ص47، بلوغ الأرب 1/ 207، تفسير روح المعاني 22/ 124. 4 أحمد فخري: المرجع السابق ص168، جرجي زيدان: المرجع السابق ص148، الإكليل 8/ 45، سعد زغلول عبد الحميد: المرجع السابق ص382، وكذا Ency. Of Islam, Iii, P.282 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 العرب فقد جاء اسم قصر سلحين في ألقاب ملوك السيادة التي اتخذها ملوك أكسوم في نقوشهم، ومنها لقب "عيزانا" الذي اعتلى العرش حوالي عام 325م1. ورغم أن هناك من يذهب إلى أن قصر سلحين إنما كان في الخرائب الواسعة في غربي المدينة، فمن الصعب علينا- اعتمادًا على أقوال الشعراء ومبالغات الكتاب العرب -تحديد هذا القصر الذي يسميه الكتاب العرب "قصر بلقيس"؛ ذلك لأن اليمنيين إنما اعتادوا أن يطلقوا اسم بلقيس على كثير من المعابد في "صرواح"، كما اعتادوا أن يطلقوا كذلك اسم "بلقيس" على معبد يبعد عن خرائب مدينة مأرب، بل إن اسم بلقيس كان يطلق أيضًا على آثار أخرى بعيدة عن منطقة أرض سبأ، مثل ما جاء في "معجم ياقوت" من أن عرش بلقيس اسم لمكان على مسيرة يوم من "ذمار"، حيث تقوم فيه ستة أعمدة من الرخام، ومن المرجح أنه يشير هنا إلى أحد المعابد التي كانت في مدينة "ظفار" عاصمة الحميريين2. وهناك، وعلى مبعدة أربعة كيلو مترات إلى الجنوب الشرقي من مأرب الحالية، تقع خرائب معبد الإله الموقاة رب أوام، والمعروف "بحرم أو محرم بلقيس"، وقد زار هذا المعبد "أرنو وجلازر ونزيه العظم وأحمد فخري"، كما قامت بعثة المؤسسة الأمريكية لدراسة الإنسان بالحفر في هذه المنطقة بالذات، ومن ثم فقد تم نقل كثير من النقوش، فضلا عما اكتشفته البعثة الأمريكية من بقايا معمارية هامة، هذا ويرى بعض الباحثين أن هذا المعبد -مثله في ذلك مثل معبد الموقاة في صرواح، ومعبد المساجد ببلاد مراد، والذي يقع على مبعدة 17 كيلو مترًا من مأرب- إنما تم بناؤه في القرن الثامن ق. م3. وعلى أي حال، فطبقًا لأقدم نقوش الجدار الخارجي للمعبد4، فإن "يدع   1 موسكاتي: المرجع السابق ص225. وكذا H. Von Wissmann And M. Hofner, Op. Cit., P.27 2 أحمد فخري: المرجع السابق ص168، ياقوت 4/ 100-101. 3 أحمد فخري: المرجع السابق ص174، سعد زغلول عبد الحميد: المرجع السابق ص383، جواد علي 8/ 43-44، وانظر كذلك: W. Phillips, Qataban And Sheba, 1955, P.256f 4 انظر عن ترجمة النقوش: N. Rhodokanakis, Studien, Ii, P.7ff الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 إيل ذريح" بن "سمه علي" ثاني مكاربة سبأ، هو الذي بنى سور هذا المعبد المسمى "معبد أوام"، وأنه قد كرسه لإله القمر الموقاة، كما يسجل نقش آخر في الناحية الغربية من السور أن "إيل شريح" بن "سمه علي ذريح" ملك سبأ، الذي حكم في القرن السادس ق. م" "حوالي عام 570ق. م"، و"يثع أمر بين" بن "يكرب ملك وتار" الذي حكم حوالي عام 520ق. م، قد أتما بناء المعبد، هذا وهناك نقوش أخرى من عصور أحدث لملوك قاموا بأعمال خاصة في ذلك المعبد1. على أن النقوش التي كشفت عنها البعثة الأمريكية في عام 1952م، على مقربة من باب المعبد، إنما ترجع إلى عصور متأخرة، وبعضها يرجع إلى القرنين الثالث والرابع بعد الميلاد، أي أن هذا المعبد ظل يؤدي وظيفته في عبادة الإله الموقاة في مأرب قرابة ألف من الأعوام2. ولعل مما تجدر الإشارة إليه، أن هناك من يرى أن بقايا المعابد التي عثر عليها في روديسيا وفي أوغندة، إنما هي من المعابد المتأثرة بطراز معبد أوام "محرم بلقيس"، فإن بين هذه المعابد جميعًا شبهًا كبيرًا في طراز البناء وفي المساحة وفي الأبعاد كذلك3. وهناك على مبعدة 1400م إلى الشمال الغربي من "محرم بلقيس"، وفي المنطقة المعروفة باسم "العمايد" نرى خمسة أعمدة قائمة، ارتفاع الواحد منها خمسة أمتار عن سطح الأرض، ومقاييس كل منها 82 × 63 سم، وقد أحاطت بها الخرائب من كل جانب، وطبقًا لما جاء في حجر مكتوب رآه "أرنو" عام 1843م، نعرف أن اسم معبد العمايد هو "باران"، وأنه -طبقًا لما جاء في نقش "جلازر 479"- قد شيد للإله الموقاة، وإن كانت الأعمدة الباقية- وكذا ما حولها من نقوش- لا تساعدنا على معرفة الملك الذي قام ببناء المعبد، أو حنى تحديد عصره بوجه عام، وليس أمامنا إلا الانتظار حتى تجري حفائر جديدة، قد نعرف منها ما هو في ضمير الغيب الآن4.   1 أحمد فخري: المرجع السابق ص174-175، وانظر: R.L, Bowen And F. Albright, Archaeological Discoveries In South Arabia, 1958, P.215f 2 أحمد فخري: المرجع السابق ص175. 3 H. Von Wissmann And M. Hofner, Op. Cit., P.28 4 أحمد فخري: المرجع السابق ص172، وكذا H. Von Wissmann And M. Hofner, Op. Cit., P.28 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 ثالثًا: ملوك سبأ وذو ريدان يتميز هذا العصر الثالث من تاريخ سبأ، والذي يطلق عليه أحيانًا "عصر الدولة الحميرية الأولى"، بأن الملوك قد حملوا فيه لقب "ملك سبأ وذي ريدان"، ولعله يعني -كما أشرنا من قبل- إشارة إلى ضم ريدان إلى سبأ، وربما يشير إلى دولة قتبان أو حمير1، غير أن أستاذنا الدكتور سعد زغلول إنما يرى أن الريدانيين هم الذين حققوا الوحدة بعد انتصارهم على السبئيين، والقرينة على ذلك انتقال مركز الحكم إلى مدينتهم "ظفار" عاصمة الدولة المتحدة2. وعلى أي حال، فإن المؤرخين مختلفون في بداية هذه الفترة، فهناك من يذهب إلى أن بدايتها إنما كانت في حوالي عام 118ق. م أو عام 115ق. م، وربما في عام 109ق. م3، بينما يرى آخرون أن "الشرح يحصب" أول من حمل هذا اللقب من السبئيين، إنما حكم في أخريات القرن الأول قبل الميلاد، إبان حملة "إليوس جالليوس" الروماني على اليمن في عام 24ق. م4، ومن ثم فإن لقب "ملك سبأ وذي ريدان"، إنما كان في أخريات القرن الأول ق. م، وليس في أخريات القرن الثاني ق. م5، وبالتالي فإن عام 115ق. م أو عام 109ق. م الذي يرى البعض أن الحميريين قد اتخذوه تقويمًا ثابتًا يؤرخون به، لأنه العام الذي قامت فيه الدولة الحميرية6، أمر يحتاج إلى إعادة نظر، فقد يكون له صلة بحادث ما غير قيام الدولة، وأن هذا الحادث كان من الأهمية بحيث جعله القوم مبدأ تقويم يؤرخون   1 Irfan Shahid, Pre-Islamic Arabia, In Chi, I, P.9 2 سعد زغلول عبد الحميد: المرجع السابق ص193. 3 J.B. Philby, Op. Cit., P.97 4 انظر عن هذه الحملة: فؤاد حسنين: المرجع السابق ص300-301، مقالنا: "العرب وعلاقاتهم الدولية في العصور القديمة"، مجلة كلية اللغة العربية- العدد السادس ص287-437، الرياض 1976، وكذا A. Sprenger, The Campaign Of Aelius Gallus, Jras, 1873. 5 D. Nielsen, Op. Cit., P.89 وكذا H. Von Wissmann And Hofner, Op. Cit., P.142 6 عن مبدأ التقويم الحميري: انظر: E. Glaser, Op. Cit., I, P.3 وكذا F. Hommel, Geschichte Sudarabiens, I, 1937, P.96 وكذا Le Museon, 1964, 3-4, P.407-427, 429-430 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 به، ولهذا رأينا بعض الآراء تذهب إلى أنه ربما كان تاريخ سقوط معين تحت سيادة سبأ بينما رأى آخرون أن هذا العام "عام115ق. م، أو 109ق. م" هو عام انتصار سبأ على قتبان، وضمها إلى حكومة سبأ، وأن "ريدان" هنا إنما هو قصر ملوك سبأ ومقر حكمهم، ونظرًا لأهمية هذا العام، فقد اتخذه القوم مبدأ تأريخ وبداية تقويم، على أننا لو أخذنا بهذا التفسير، لكان ظهور لقب ملوك سبأ وذي ريدان" في حوالي عام 30ق. م، ففي هذا العام -فيما يرى البعض- كان حكم "الشرح يحصب" و"شعر أوتار"1. وهنا علينا أن نعود مرة أخرى إلى عهد "وهب إيل يحز" وولديه "أنماريهأمن" و"كرب إيل وتار يهنعم" حيث نجد أن الحكم إنما ينتقل إلى ملك آخر من همدان هو "يريم أمين، ونقرأ في نقشي "جلازر 1359، 1360" أن "يريم أيمن" إنما يقدم ولاءه للإله "تالب ريام"، على توفيقه في المهمة التي كلف بها من قبل "كرب إيل وتار يهنعم"، في التوفيق بين ملوك سبأ وذى ريان وحضرموت وقتبان، وذلك بعد الحروب التي استعر أوارها بينهم، مما يدل على أن حربًا ضروسًا قد قامت في العربية الجنوبية في هذه الفترة، وأن "يريم أيمن" قد كتب له نجحًا بعيد المدى في إطفاء نيران هذه الحرب، وهو لا يعدو أن يكون "قيلا" من الأقيال، ومن ثم فقد نال حظوة لدى العامة، وهيبة لدى الحكومات، مما مهد الطريق أمامه لينازع ملك سبأ عرشه، بعد حين من الدهر2. ونقرأ في نقش دونه أحد أقيال قبيلة "سمعي" عرف بـ "Wien 669" ويتصل بنذر للإله "تالب ريام" يطلب فيه- بجانب البركة لقومه وسلامة حصن ريمان- أن يبارك في "يرم أيمن" و"كرب إيل وتار" ملكي سبأ، وأن يهلك أعداءهما، وأن ينزل سخطه على من يريد بهما شرًّا3. ويرى "فون فيسمان" أن "يرم أيمن" كان معاصرًا لـ "أنمار يهأمن" و"كرب إيل وتار يهنعم"، وأن الأخيرين كانا معاصرين لـ "شمر يهرعش" الأول من ملوك   1 جواد علي 2/ 416-417، وكذا D. Nielsen, Op. Cit., P.89 2 جواد علي 2/ 358-359، وكذا J. Halevy, Revue Semitique, Iv, 1897, P.76 وكذا Chi, 315, Iv, I, P.346 3 جواد علي 2/ 360، وكذا Rep, Epig, 4190, Vii, I, P.131 وكذا LE MUSEON, 1967, 1-2, P.282 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 حمير أصحاب ظفار، كما يرى أن "كرب إيل وتار يهنعم" معاصرًا "لكرب إيل بين" ملك سبأ الشرعي في مأرب، وأن "يرم أيمن" كان معاصرًا لـ"مرثد يهقبض" من "جرت ومرثد" الذي ذكر بعد "نبط يهنعم" آخر ملوك قتبان، ولـ "يدع إيل بين" ملك حضرموت، وأخيرًا فإنه يرى أن حكم "يرم أمين" إنما كان في الفترة "130-140م"1. وأيًّا ما كان الأمر فلسنا ندري على وجه التحقيق، متى أعلن يرم أيمن نفسه ملكًا على سبأ؟ وربما كان ذلك في عهد "كرب إيل وتار يهنعم" وأنه استمر يحمل اللقب حتى وفاته، فخلفه ولده "علهان نفهان" الذي عاصر، كرب إيل وتار يهنعم وابنه "فرعب ينهب2، هذا ويفرق "نشوان الحميري" بين "علهان" و"يهفان" ويرى أنهما أخوان ولدا "ذى بتع بن يحصب الصوار"3. وعلى أي حال، فإن المؤرخين مختلفون في فترة حكم "علهان نهفان" هذا، فبينما ذهب "فلبي" إلى أنها كانت حوالي عام 135ق. م4، يذهب "ألبرت جام" إلى أنها كانت في الفترة "85-65ق. م"5، هذا إلى أن آخرين يرون أنها كانت في النصف الأول من القرن الأول ق. م6، بل إن "وليم أولبرايت" إنما يحددها بعام 60ق. م7، وأخيرًا فإن "فون فيسمان" يذهب بعيدًا عن الآخرين، فيرى أنها كانت في حوالي عام 160م8، والأمر كذلك إلى "أدولف جرومان" الذي جعل حكم ابنه "شعر أوتر" في حوالي عام 50 أو 60م، وهذا يعني أن "علهان" إنما كان يحكم في القرن الأول الميلادي9.   1 LE MUSEON, 1964, 3-4, P.498 2 جواد علي 2/ 361-361، وكذا LE MUSEON, 1967, 1-2, P.281 3 نشوان بن سعيد الحميري: ملوك حمير وأقيال اليمن - القاهرة 1378هـ ص56-57 منتخبات ص75. 4 J.B. PHILBY, OP. CIT., P.142 5 A. JAMME, OP. CIT., P.390 6 H. VON WISSMANN AND M. HOFNER, OP. CIT., P.113 7 BASOR, 119, 1950, P.9 8 LE MUSEON, 1964, 3-4, P.498 9 A. GROHMANN, OP. CIT., P.28 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 وأيًّا ما كان الأمر، فإن "علهان" قد نجح في أن ينتحل لقب "ملك سبأ"، وإن كانت النصوص التي تشير إلى ذلك لا ندري شيئًا عن تأريخها، كما أننا لا ندري متى أشرك "علهان" ولده "شعر أوتر" معه في الحكم، فهناك من النصوص ما يشير إلى أن الرجلين قد حملا لقب "ملك سبأ"، وربما كانت القلاقل التي كانت تمر بها البلاد، والخصومات التي كانت تسود العلاقات بين حكام سبأ وحضرموت وحمير والحبشة، هي السبب في ذلك1. وعلى أي حال، فلقد نجح "علهان" في أن يضم إلى جانبه "يدع أب غيلان" ملك حضرموت، ومن ثم فقد وجه جهده ضد الحميريين حتى انتصر عليهم في "ذات العرم"2، ثم اتجه بعد وفاة "يدع أب غيلان" إلى عقد معاهدة مع "جدرة" ملك الحبشة، والذي كان فيما يرى فون فيسمان -يسيطر على ساحل البحر الأحمر الشرقي من ينبع حتى عسير، فضلا عن باب المندب3. وانفرد "شعر أوتر" بالحكم، وهناك ما يشير إلى أنه حمل لقب "ملك سبأ وذي ريدان"، وإن كانت بعثة "وندل فيلبس" قد عثرت على كتابة ترجع إلى أوائل عهده، نشرها الدكتور خليل يحيى نامي، بدأت بجملة "شعر أوتر ملك سبأ بن علهان نهفان ملك سبأ"، وفيها إشارة إلى حرب ربما امتدت إلى أرض حمير، وقد انتصر فيها، ومع ذلك كله فإن نص "جلازر 1371" يشير إلى أن كلا من "علهان نهفان" وولده "شعر أوتر" قد حمل لقب "ملك سبأ وذي ريدان"، مما يدل على أن اللقب قد ظهر على أيام "علهان"، وليس على أيام ابنه "شعر أوتر"4. ونقرأ في نص "Ch 334" إشارات عن حرب شنها "شعر أوتر" ضد ملك   1 جواد علي 2/ 365، وكذا انظر: REP, EPIG, 4216 وكذا A. JAMME, OP. CIT., P.290 2 جواد علي 2/ 366-367 وكذا H. VON WISSMANN AND M. HOFNER, OP. CIT., P.113 وكذا LE MUSEON, 1964, 3-4, P.466-68 3 جواد علي 2/ 368، وكذا LE MUSEON, 1964, 3-4, P.470-71 4 جواد علي 2/ 370، وانظر: مجلة الآداب- جامعة القاهرة -المجلد 22، العدد الثاني- القاهرة 1965 ص53، وكذا A. JAMME, OP. CIT., P.295 وكذا LE MUSEON, 1967, 1-2, P.271 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 حضرموت وانتصر فيها1، ويرى الدكتور جواد علي أن "شعر أوتر" قد وجه جيشًا من السبئيين والحميريين، ومن قبائل أخرى إلى حضرموت للقضاء عليها، وقد نجح في أن ينزل خسائر فادحة بقوات "العز" ملك حضرموت بعد معركة مريرة دارت رحاها في "ذات غيل"، وحين أعاد الملك الحضرمي الكرة أصيب بهزيمة أخرى، وهنا قام الردمانيون بهجوء مفاجئ على قوات "شعر أوتر" ولكنهم لم يفلحوا في إيقاع الهزيمة بها2. ونعرف من نصي "جام 636، 637" أن "شعر أوتر" قد انتصر على الحضارمة واستولى على عاصمتهم "شبوه"، ومن ثم فقد قدم لمعبد" أوام" تمثالا، تعبيرًا عن شكره له، واعترافًا بفضلهن هذا ونعرف كذلك من نص "جام 632" أن جيش "شعر أوتر" قد استولى على "شبوه"- وكذا على "قنا" ميناء حضرموت الرئيسي- بل إن هناك ما يشير إلى أن الهجوم على حضرموت قد تم عن طريق البر والبحر معًا، وأن مدينة "قنا" إنما هوجمت عن طريق البحر3. ونقرأ في نص "Geukens" أن الردمانيين -كما أشرنا آنفًا- قد اهتبلوا فرصة انشغال "شعر أوتر" بمحاربة الحضارمة وانقضوا عليه من المؤخرة، وأنهم، وإن لم ينجحوا في إيقاع الهزيمة به، فقد كبدوه خسائر ليست بالقليلة، وفي نفس الوقت أغار الأحباش -وربما باتفاق مع بني ردمان- على جيش شعر أوتر كذلك، فضلا عن الإغارة على أرضين تابعة له، وألحقوا بهما أضرارًا بالغة4، وطبقًا لما جاء في نقش "جام 631" فإن "شعر أوتر" قد أوكل إلى قائده "قطبان أوكان" أمر الانتقام من الأحباش، ومن ثم فإن هذا القائد سرعان ما توجه إلى "بني ردمان" وأنزل بهم من العقاب ما يستحقون، جزاء وفاقًا لما ارتكبوه من خيانة للملك "شعر أوتر"، ثم اتجه بعد ذلك إلى الأحباش، وبمساعدة من قوات سبئية جاءت تعينه على مهمته هذه، نجح في حصارهم، ثم في مهاجمتهم على غرة، ثم أعمل السيف فيهم،   1 H. VON WISSMANN AND M. HOFNER, OP. CIT., P.113 2 جواد علي 2/ 373، وكذا A. JAMME, OP. CIT., P.300 3 A. JAMME, OP. CIT., P.134, 139, 226 4 جواد علي 2/ 376، وكذا A. JAMME, OP. CIT., P.301 وكذا G. RYCKMANS, INSCRIPTIONS SUD-ARABES, IN LE MUSEON, XII, 1942, P.297-308 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 حتى اضطرهم آخر الأمر إلى أن يتركوا منطقة ظفار، وأن يتجهوا إلى المعاهر "معهرتن"، ثم سجل ذلك كله شكرًا للموقاة، داعيًا إياه أن يحفظ سيده "لحيعثت يرخم" ملك سبأ وذي ريدان وأن يمد في عمره، وأن يقهر أعداءه، وأن يبارك له ولأهله1. ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أمور عدة في هذا النص، منها "أولًا" أن الملك إنما أمر قائده أن يسير على رأس قوة إلى أرض الحبشة هنا؟ يحارب فيها "جدرة" ملك الحبشة وأكسوم، فماذا يعني النص بأرض الحبشة هنا؟ أهي الأرض الإفريقية المعروفة؟ أم موضعًا في العربية الجنوبية؟ إن الدكتور جواد علي يرى أنها أرض الحبشة في إفريقيا، وذلك لأن "جدرة" لم يكن يقيم في بلاد العرب، وإنما في إفريقيا، هذا فضلا عن أن الأحباش الذين كانوا في بلاد العرب إنما كانوا تحت قيادة "بيجث" ولد النجاشي، وليس النجاشي نفسه، ثم يفترض بعد ذلك أن "قطبان أوكان"، ربما أبحر من "الحديدة" إلى السواحل الإفريقية، وباغت القوم هناك بغزو غير متوقع، ثم جمع ما استطاع الاستيلاء عليه، وعاد سريعا ليشترك في المعارك التي دارت رحاها ضد "بيجت" ومن معه من قوات2، وفي الواقع أن هذا الرأي قد يبدو مقبولا في ظاهره، إلا أن التكتيك العسكري قد يرفضه، ذلك لأنه من الخطورة بمكان أن يجازف جيش "شعر أوتر" بهذه المغامرة غير المأمونة العواقب، في وقت تدق الحرب طبولها في اليمن نفسها، ثم كيف أمكن تحديد الإبحار من "الحديدة" بالذات، وأخيرًا فإننا لا نملك دليلا تاريخيًّا يؤكد زعم الدكتور جواد علي هذا، بخاصة وأن هناك من يشك في أن "جدارة" كان ملكًا أفريقية، بل ربما كان زعيما لفرقة من الأحباش كانت تقيم في بلاد العرب نفسها3. ومنها "ثانيًا" أن "فون فيسمان"4 قد استدل من عدم ذكر اسم الملك "شعر أوتر" في نهاية النص، فضلا عن وجود اسم لحيعثت يرخم "كملك لسبأ وذى   1 جواد علي 2/ 370-377، وكذا A. JAMME, OP. CIT., P.132 وكذا LE MUSEON, 1964, 3-4, P.475 2 جواد علي 2/ 378. 3 عبد المجيد عابدين: بين الحبشة والعرب ص24، "القاهرة 1947". 4 LE MUSEON, 1964, 3-4, P.475 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 ريدان" على أن "شعر أوتر" قد مات في أثناء تدوين النص، وأن "لحيعثت يرخم" قد خلفه على العرش. ومنها "ثالثًا" أن النص لم يقل لنا شيئًا عن مصير "بيجت" ابن ملك الحبشة وأكسوم، بعد هزيمته في ظفار وفي أرض معافر، فربما بقي في أرض المعاهر، وأن الجيش السبئي لم يكتب له نجحا في تطهير هذه الأرض من الأحباش، ومن ثم فقد بقوا فيها بعد انتهاء المعارك، بل إن نقش "جام635" ليحدثنا عن معارك دارت رحى الحرب فيها خلف "مدينة نجران" بين جيش "شعر أوتر" والأحباش، وربما كان في ذلك إشارة إلى أن "نجران" إنما كانت في أيدي الأحباش في تلك الأونة1. هذا ويشير نفس النقش "جام635" إلى أن "شعر أوتر" قد كلف "أبا كرب أحرس" بقياة جيش من "خولان حضل" وبعض أهل نجران وبعض الأعراب، لمحاربة المنشقين من بني يونم "بني يوان" ومن أهل قريتم "قرية لبني كهل" وأن الرجل قد نجح في مهمته إلى حد كبير، ويرى بعض العلماء أن "بني يونم" إنما هم قوم من اليونان استوطنوا بلاد العرب، وقد جاء ذكرهم في نص "جلازر 967" وأنهم كانوا يحالفون "قرية" بني كهل هذه، ومن ثم فقد هبوا لمساعدتهم ضد "شعر أوتر"2. وأيًّا ما كان الأمر، فليس من شك في أن "شعر أوتر" قد نجح في السيطرة على غالبية الحكومات والأقيال في العربية الجنوبية، إلا أن الأمر لم يكن كذلك في العربية الغربية، والتي تطل على سواحل البحر الأحمر، حيث كان الأحباش أصحاب النفوذ فيها3، وأما فترة حكمه، فقد كانت- فيما يرى "ألبرت جام"- في الفترة "65-55ق. م"، كما كان شقيقه "حيوعثتر يضع" في الفترة "55-50ق. م" ثم يبدأ السلطان ينتقل من أسرة "يرم أيمن" إلى أسرة "فرعم ينهب"، والتي بدأت   1 جوادعلي 2/ 378-380، وكذا A. JAMME, OP. CIT., P.135-6, 303-304 وكذا A. SPRENGER. OP. CIT., P.63 2 جواد علي 2/ 381، وكذا A. JAMME, OP. CIT., P.138 وكذا LE MUSEON, 1964, 3-4, P.374 وكذا A. JAMME, SOUTH ARABIAN INSCRIPTIONS, PRINCETON, 1955, P.503 LE MUSEON, 1964, 3-4, P.475 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 حكمها في مجاورات "صنعاء"، ثم سرعان ما أصبحت صاحبة سبأ وذي ريدان1. وليس من شك في أن النص "Cih 398" من النصوص الهامة في تاريخ سبأ، ذلك لأنه يتحدث عن "شعر أوتر" كملك لسبأ وذي ريدان، وفي الوقت نفسه يتحدث عن "الشرح يحصب" وأخيه "يأزل بين"، بصفتهما ملكي سبأ وذي ريدان، وهذا يعني ببساطة أن الملوك الثلاثة، إنما كانوا يحملون في آن واحد لقب "ملك سبأ وذي ريدان"2. وقد أثار هذا النص جدلا طويلا بين العلماء، فذهبت آراؤهم فيه مذاهب شتى، وكذا في معاصرة "علهان نهفان" لـ "فرعم ينهب"، فضلا عن حكم "شعر أوتر"و"لشرح يحصب" وشقيقه، وبدهي ألا يكون مقبولا أن تكون "مأرب" عاصمة لـ "شعر أوتر" و"الشرح يحصب" وشقيقه في نفس الوقت، وأن يكون الثلاثة قد حكموا حكمًا مشتركًا، رغم ما بين أسرتيهما من تنافس قديم، فضلا عن أن يحمل الجميع لقب "ملك سبأ وذي ريدان" برضى من الثلاثة. وقد ذهب فريق من الباحثين إلى أن النص لا يشير إلى أن الثلاثة قد حكموا في آن واحد، إنما يشير إلى أن "الشرح يحصب" وأخاه، قد حكما بعد "شعر أوتر"، وهنا فالأمر لا غرابة فيه، وذهب فريق ثان إلى أن حكم الأخوين إنما كان مستقلا عن "شعر أوتر"، وأنهما كانا يعتبران نفسيهما خلفين شرعيين لأبيهما "فرعم ينهب"، وذهب فريق ثالث إلى أن "فرعم ينهب" قد اتخذ من منطقة تقع إلى الغرب من "مأرب" مركزًا لنفوذه، وأن ولديه قد خلفاه عليها، وحين سنحت الفرصة لهما اتخذا لقب، "ملك سبأ وذي ريدان" بعد اختفاء "شعر أوتر" وأخيه "حيو عثتر يضع" -الذي شاركه في حمل اللقب- من مسرح الأحداث، وإن كان ملكهما إنما كان مقصورًا على جزء من المملكة3.   1 A. JAMME, SABAEAN INSCRIPTIONS FROM MAHRAN BILQUIS, P.390 2 J.B. PHILBY, OP. CIT., P.95 3 جواد علي 2/ 383-384، وكذا A. JAMME, OP. CIT., P.305 وكذا J. RYCKMANS, OP. CIT., P.297 وكذا A.F.L. BEESTON, PROBLEMS OF SABAEAN CHRONOLOGY, IN BASOR, 16, 1954, P.53 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 على أن هذه الألقاب الملكية التي كان يحملها "شعر أوتر" و"الشرح يحصب" وأخيه "يأزل بين"، فضلا عن "لعززم يهنف يصدق"، والذي رأى فيه بعض الباحثين ملك "ظفار" ومجاوراتها، هذا إلى جانب ملك خامس يدعى، "لحيعثت يرخم"، كل ذلك يدل على أن واحدًا لم يستطع أن يحمل اللقب بمفرده، وأن هناك آخرين ينازعونه سلطانه، وربما استطاعوا آخر الأمر انتزاع العرش نهائيًّا، كما فعل "الشرح يحصب" وأخوه1. أضف إلى ذلك أن النصوص من تلك الفترة، إنما تدل على أن البلاد كانت تمر بفترة اضطراب وقلق، وأن الحرب ما تكاد تضعب أوزراها في مكان، حتى تدق طبولها في مكان آخر، ثم تشتعل نيرانها في مكان ثالث، وفي أغلب الأحايين كانت سجالا بين المتحاربين، وأن المغلوب منهم، سرعان ما يعود بعد حين، فيقف على قدميه ويحمل سيفه من جديد، على أن الخاسر الوحيد فيها دائمًا، إنما كان هو الشعب، يدفع ثمنها من دمه وماله، حيث تساق العامة منه إلى ميدان القتال فتسمع وتطيع، وإلا صب عليها من العذاب ألوانًا، أشد قسوة من أهوال الحروب، وفي كل ذلك لا هدف يرجي إلا إشباع شهوات الحكام، وإرضاء رغباتهم في تحقيق أمجاد شخصية، سرعان ما تزول بعد رحيلهم عن هذه الدنيا، وربما في أحايين كثيرة قبل أن يرحلوا إلى عالم الآخرة. وإلى هذه الفترة العصيبة من تاريخ اليمن، ترجع -فيما يرى كثير من الباحثين- حملة الرومان على العربية الجنوبية، فإذا كان ذلك كذلك، فإن ملوك سبأ وذي ريدان ما كانوا بقادرين على صدها، فالفرقة من ناحية، وضعف الإمكانيات من ناحية أخرى إنما يقفان حجر عثرة في سبيل ذلك. ويحدثنا التاريخ أن الرومان بعد أن استولوا على أرض الكنانة، بعون من الأنباط، استطاع به "يوليوس قيصر" أن يقبض على ناصية الأمور في الإسكندرية عام 47ق. م2، بدأ الرومان في نفس الشيء بالنسبة إلى بلاد العرب، وهكذا كان مشروع حملة "إليوس جالليوس" عام 24ق. م، للاستيلاء على اليمن، لكثرة   1 جواد علي 2/ 387-388. وكذا A. JAMME, OP. CIT., P.134, 306 2 جواد علي 2/ 40، وكذا DIE ARABER, I, P.360 وكذا H. VON WISSMANN AND M. HOFNER, OP. CIT., P.541 وكذا MURRY, THE ROCK CITY PETRA P.101 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 خيراتها، ولاحتكارها طرق النقل التجاري بين العالم، ولجعل البحر الأحمر، بحرًا رومانيًّا، وللقضاء على المنافسة العربية الخطيرة، والتي كان الملاحون الروم يعملون لها ألف حساب عند اجتيازهم باب المندب، أو عندما ترسو سفنهم على بعض المواني في تلك المناطق1. ولو تم المشروع على نحو ما حلم به "أغسطس" "31ق. م-14م" لكان حكم روما قد بلغ العربية الجنوبية، وربما سواحل أفريقية كذلك، إلا أن سوء تقدير الرومان له، واستهانتهم بطبيعة بلاد العرب وعدم إدخالهم في حسابهم قساوة الطبيعة هناك، وعدم تمكن الجيوش الرومانية النظامية من المجابهة فيها، وتحمل العطش والحرارة الشديدة، كل هذه الأمور أدت إلى خيبة المشروع منذ اللحظة الأولى، فكانت انتكاسة شديدة في هيبة روما، وفي مشاريعها التي أرادت تنفيذها في شبه الجزيرة العربية2. على أن "سترابو" مؤرخ الحملة، إنما يرجع فشلها إلى خيانة "صالح" -الوزير النبطي الذي صاحب الحملة كدليل لها-، بأن أقنع قائدها بتعذر الوصول إلى اليمن برًّا، لعدم وجود عدد كاف من الجمال، مما عرض الحملة لمخاطر جسيمة عند عبورها البحر الأحمر، فضلا عن عدم طرق برية لمرور الجيش الروماني، وكان صالح -فيما يرى سترابو- يهدف من ذلك إلى إضعاف الروم وإذلالهم، فضلا عن إضعاف القبائل العربية نفسها، ليكون سيد الموقف يتصرف فيه كيف يشاء ومتى شاء3، وهكذا عمل صالح "سيلئيوس" إلى السير بالحملة في طريق مقفر، وفي أرضين لا زرع فيها ولا ماء، مما أدى في نهاية الأمر إلى فشل الحملة، وإلى أن يحكم الروم على صالح بالإعدام4. وأيًّا ما كانت الأسباب في فشل الحملة، التي تعد أول -بل وآخر- غارة ذات بالٍ، قصدت بها دولة أوربية اكتساح داخل الجزيرة العربية، فإن   1 جواد علي 2/ 43، وكذا O'LEARY, OP. CIT., P.74-5 وكذا PLINY, II, P.415, 6, 101 2 أحمد فخري: المرجع السابق ص141، جواد علي 2/ 43-44. 3 جواد علي 2/ 45، وكذا J. PIRENNE, OP. CIT., P.93F وكذا STRABO, XVI, IV, 23-24 4 ERE, 9 P.121. وكذا EI, 3, P.801 وكذا O'LEARY, OP. CIT., P.75 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 الحملة استطاعت أن تحدث بعض الخراب والدمار في نجران ونشق وكمناء ومأرب ولوق، وربما حريب، وهي أبعد مدينة وصلتها الحملة1. ومن الغريب أن المصادر العربية الجنوبية، قد التزمت الصمت التام إزاء هذه الحملة، وقد تساءل "إدوارد جلازر" عن سبب سكوت هذه المصادر عن حملة لا بد وأنها قد تركت أثرًا بعيد المدى في نفوس السبئيين -بل وفي غيرهم من قبائل اليمن والحجاز -ثم رأى بعد ذلك أن نص "هاليفي 535" إنما يتحدث عن حرب دارت رحاها بين "ذ شمت" و"ديمنت"، وربما كان المراد بالأولين الرومان، وبالآخرين السبئيين، ومن ثم فإن النص إنما يتحدث عن حملت "إليوس جالليوس" هذه، على أن الدكتور جواد علي إنما يستبعد هذا الرأي، ويرى أن سر الحملة ربما كان لا يزال تحت التراب، وإن كانت الحفريات قد فشلت حتى الآن في العصور على شيء يتصل بها، كما فشل هاليفي وفلبي في العصور على شيء يميط اللثام عنها2. وأيًّا ما كان الأمر، فإن الروم بعد أن فشلت حملتهم هذه، بدءوا يغيرون سياستهم نحو العربية الجنوبية، فتخلوا نهائيًّا عن السيطرة العسكرية، وإن اتجهوا في الوقت نفسه نحو تقوية أسطولهم في البحر الأحمر، ويقول سترابو أنهم كانوا يرسلون سنويًّا ما لا يقل عن 120 سفينة إلى الهند، وهو عدد لم يتعودوا إرساله فيما مضى، كما عثر في الهند على نقود رومانية، أضف على ذلك أن وجود معبد لأغسطس في "موزيريس" بساحل "مالابار" يدل على أن عددًا غير قليل من التجار اليونان والرومان كان يقيم هناك3. هذا وقد عمل الروم في نفس الوقت على تقوية علاقاتهم بالعربية الجنوبية، فاحتلوا ميناء عدن إبان حكم "كلاوديوس" "41-54م"، أو قبله، وهكذا كان   1 فؤاد حسنين: المرجع السابق ص300-301 وكذا H. VON WISSMANN AND M. HOFNER, OP. CIT., P.31-4 وكذا O'LEARY, OP. CIT., P.78. وكذا J. PIRENNE, OP. CIT., P.112 2 جواد علي 2/ 58، وكذا J.B. PHILBY, OP. CIT., P.32 وكذا E. GLASER, OP. CIT., P.65 3 فضلو حوراني: المرجع السابق ص75. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 التحالف مع أمير ظفار، مقرونًا بوجود حامية رومانية في "عدن"، أمرًا لا شك في أنه كان ضمانًا كافيًا لسلوك العرب الجنوبيين مسلكًا طيبًا، يضمن للروم نفوذًا تجاريًّا في عدن1. وإن كان الرومان -دون شك- لم يحتلوا جنوب شبه الجزيرة العربية في يوم من الأيام2. وأيًّا ما كان الأمر، فإن عهد ملوك سبأ وذي ريدان، إنما يبدأ حقيقة إبان النزاع بين "الشرح يحصب" وأخيه "يازل بين" من ناحية، وبين "شعر أوتر" من ناحية أخرى، وليس من شك في أن المصادر الإسلامية إنما تحدثت عن "الشرح يحصب" أكثر من غيره من ملوك تلك الفترة، أو التي سبقتها، فصاحب الإكليل يسميه "إلى شرح يحصب" وينسب إليه بناء قصر غمدان، وأن "بقليس" ابنته، فضلا عما ينسبه إليه من شعر مزعوم كالعادة3، وأما "ياقوت الحموي"، فيدعوه "ليشرح بن يحصب"، كما ينسب إليه كذلك -نقلا عن ابن الكلبي- بناء قصر غمدان4، ولم يفت "ابن جرير" أن ينسب إليه بلقيس، وإن كان "حمزة الأصفهاني" قد جعلها حفيدته؛ لأنها فيما يزعم- "بنت هداد بن شراحيل"5، والذي يعني به "الشرح يحصب". ولا ريب في أن القول بأن "الشرح يحصب"، كان أبًا لبلقيس التي عاصرت سليمان، أمر غير مقبول، فالأخير قد عاش في القرن العاشر ق. م، وأن الشرح يحصب -طبقًا لأعلى التقديرات- إنما كان في القرن الثاني ق. م، وإن تأخر البعض به إلى القرن الرابع الميلادي، هذا فضلا عن أن القرن العاشر قبل الميلاد، إنما هو تاريخ متقدم جدًّا -في نظر بعض الباحثين- لقيام دولة سبأ نفسها، حتى على أيام المكاربة، وليس الملوك، فضلا عن أن يكون ذلك على عهد "ملوك سبأ وذي ريدان" الذي ينتمي إليهم "الشرح يحصب".   1 نفس المرجع السابق ص79-80. 2 أحمد فخري: المرجع السابق ص142، وكذا JACQUELINE PIRENNE, LA GRECE, ET SABA, PARIS, 1955 وانظر: مقالنا "العرب وعلاقاتهم الدولية في العصور القديمة" ص416-420. 3 الإكليل 2/ 86، 8/ 19، 24. 4 ياقوت 4/ 210، وانظر: ملوك حمير وأقيال اليمن ص168. 5 حمزة الأصفهاني: تاريخ سني ملوك الأرض والأنبياء ص83، ملوك حمير وأقيال اليمن ص74، تاريخ الطبري 1/ 489، قارن: ياقوت 4/ 210. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 ويبدو أن الشرح كان محاربًا، اشترك في كثير من المعارك، ونقرأ في نقش "جلازر 119" أنه غزا حمير وحضرموت وعاد بالكثير من الغنائم والأسرى، وهو ما يزال في درجة "كبير"،1 ويبدو أن الحميريين كانوا في تلك الفترة قوة فعالة في السياسة العربية الجنوبية، وأنهم كانوا لا يهتمون كثيرًا في أن يحاربوا في جانب هذا الفريق أو ذاك، وأما حضرموت فكانت تقف في جانب "شعر أوتر" ضد "الشرح يحصب"، ونقرأ في نقوش "جام 574، 575، 590، 595" عن حرب نشبت في النصف الأخير من القرن الأول قبل الميلاد، بين "الشرح يحصب" وأخيه "يازل بين" من ناحية، وبين الأحباش من ناحية أخرى، وأن الشرح يحصب وأخاه، قد انتصرا على الأحباش في "وادي سهام" و"وادي سردد" -على مبعدة 40 كيلو مترًا إلى الشمال من الحديدة -وفي غير ذلك من المناطق التي كان يوجد فيها أحباش2. وتشير نقوش "جام 578، 580، 581، 589" إلى حرب دارت رحاها بين "الشرح يحصب" وأخيه، وبين "كرب إيل ذي ريدان" وحلفائه في أرض "حرمة" وفي "عروش" أو بلاد العروش -وتقع على مبعدة 95 كيلوا مترًا إلى الجنوب الغربي من مأرب -وكذا في موقع يحمل نفس الاسم في منتصف المسافة بين صرواح وذمار، وغير ذلك من الأماكن، ونقرأ في نقش "جام 586" أن الشرح يحصب قد سحق عصيانًا قامت به حمير، وأنزل بها خسائر فادحة، والأمر كذلك بالنسبة إلى قوات "كرب إيل"، ويسجل نقش "جام 576" انتصار الشرح يحصب على ملك كندة وحلفائه من إمارة "خصصتن"، وكذا على قوات حبشية، وعلى عشائر   1 جواد علي 2/ 423، وكذا A. JAMME, OP. CIT., P.310 وكذا H. VON WISSMANN AND M. HOFNER, OP. CIT. P.18 وكذا LE MUSEON, 1964, 3-4, P.459 2 جواد علي 2/ 424-427، وكذا HANDBUCH, I, P.92 وكذا D.S. MARGOLIOUTH, TWO SOUTH ARABIAN INSCRIPTIONS, P.1 وكذا J.B. PHILBY, OP. CIT., P.94 وكذا A. JAMME, OP. CIT., P.60, 64, 310-311, 316 وكذا H. VON WISSMANN AND M. HOFNER, OP. CIT., P.38 وكذا عبد المجيد عابدين: المرجع السابق ص24-26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 حمير بقيادة "شمر ذي ريدان"1. ويفهم من نص "Cih 314" أن "شمر ذي ريدان" من حمير -وكانت عاصمته ظفار -قد نازع الشرح يحصب عرشه، وأنه استعان في ذلك بالأحباش، إلا أنه لم يحقق نجاحًا فيما أراده2، هذا ويشير الدكتور جواد علي إلى أن في النص إشارات إلى تدخل الحبشة في شئون العربية الجنوبية وقت ذاك، وإلى وجودهم في مواضع من الساحل، وإلى تكوينهم مستعمرات فيها، تتمون من الساحل الإفريقي المقابل، وربما كان الروم على اتفاق مع الأحباش، يوم أرسلوا حملة "إليوس جالليوس" على اليمن عام 24ق. م، وربما اشترطوا أن يسهل الأحباش مهمة الحملة في العربية الجنوبية، وأن يقدموا لها المساعدات اللازمة، وأن يتعاونوا جميعًا في الأمور السياسية والاقتصادية، وفي مقابل ذلك على الروم أن يضمنوا مصالح الحبشة في العربية الجنوبية3. ويبدو من النصوص أن الأحباش إنما كانوا يغيرون سياستهم نحو العربية الجنوبية طبقًا للظروف، فهم مرة مع الحميريين، وتارة عليهم، وهم مرة ثالثة في حلف مع "شعر أوتر"، ومرة رابعة ضده، وهم في مرة خامسة على علاقة طيبة مع "الشرح يحصب"، ثم مرة سادسة من ألد أعدائه، وهكذا كانت سياستهم قلقة غير مستقرة، بسبب الاضطرابات التي كانت تسود العربية الجنوبية، ولكنها في كل الأحوال، إنما كانت تخضع لمصالح الأحباش أولًا وأخيرًا، وتهدف إلى بسط سلطانهم على العربية الجنوبية، وتوطيد هذا السلطان4. هذا، وهناك من يذهب إلى أن "شمر ذي ريدان"، الذي طالما خاض غمار الحرب ضد الشرح يحصب وأخيه، إنما هو الملك "شمر يهرعش"، وهذا يعني   1 A. JAMME, OP. CIT., P.83, 93, 96, 317-319 وكذا W. CASKEL, ENTDECKUNGEN IN ARABIEN, KOLN, 1954, P.9 2 جواد علي 2/ 429-433 وكذا H. VON WISSMANN AND M. Hofner, Op. Cit., P.38 وكذا Basor, 145, 1957, P.28-29. وكذا Le Museon, 1948, 3-4, P.232 وكذا E. Glaser, Op. Cit. P.117 3 جواد علي 2/ 439-441. 4 جواد علي 2/ 441. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 أنه عاش في القرن الرابع الميلادي، ومن ثم فإنهم يتأخرون بتاريخه حوالي 250 عامًا1، بينما يذهب فريق آخر إلى أنه إنما كان معاصرًا لامرئ القيس، صاحب نقش النمارة، وأن "مراقس" المذكور في نقش "ريكمانز 535" هو "امرؤ القيس"2، إلا أن غالبية الباحثين تعارض هذا الاتجاه. وعلى أي حال، فإن "ألبرت جام" يرى أن "الشرح يحصب" وأخاه "يأزل بين" قد حكما حكمًا مشتركا في الفترة "50-30ق. م"، ثم حكم "الشرح يحصب" بمفرده حتى حوالي عام 20ق. م3، أو بعد ذلك بقليل، إلا أن غالبية الباحثين تذهب إلى أنه كان قبل ذلك، حتى أن "جون فلبي" يذهب إلى أن حكمه إنما كان في الفترة "125-105ق. م"4. وقد اختلف العلماء في خليفة "الشرح يحصب"، فذهب فريق إلى أنه شقيقه "يأزل بين"، ثم ولده "نشأ كرب يهأمن يهرجب"، وذهب فريق آخر إلى أنه "وتريهأمن" ولد "الشرح يحصب" وأنه كان في الفترة "5ق. م-10م"، بل إن هناك من يقدم "وتريهأمن" على أخيه "نشأكرب يهأمن يهرجب"5، وأخيرًا فهناك من يرى أن الشرح يحصب قد تبنى القيلين الجريئين "سعد شمس أسرع" وابنه "مرثد يهحمد"، وقد أصبح هذان القيلان من ملوك سبأ وذي ريدان، نتيجة لهذا التبني السياسي الذي جعلهما ينسبان نفسيهما بعبارة "سعد شمس أسرع وابنه مرثد يهحمد ملكا ذي ريدان، ابنا الشرح يحصب سبأ وذي ريدان"، وأن الرجلين قد آزرا "وتريهأمن" أخاهما بالتبني، إلا أن الأمور رغم ذلك كانت في أيدي الحميريين من بني "ذي ريدان"6. وعلى أي حال، فرغم ما تنسبه النقوش من انتصارات إلى "الشرح يحصب" ثم   1 Basor, 145, 1957, P.75 2 جواد على 2/ 441-442، وكذا Le Museon, 1956, 69, P.139 وكذا Basor, 145, 1957, P.25 3 A. Jamme, Op. Cit., P.390 4 J.B. Philby, Op. Cit., P.142 5 A. Jamme, Op. Cit., P.390 وكذا J.B. Philby, Op. Cit., P.142 وكذا J. Ryckmans, Op. Cit., P.337 6 مظهر علي الإرياني: في تاريخ اليمن ص18-19، وانظر كذلك نفس المرجع: ص21034. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 ابنه "نشأكرب" الذي نجح السبئيون على أيامه في الاستيلاء على ما كان عند الحضارمة من خيل وجمال وحمير، ومن كل حيوان جارح، فإن الدولة السبئية انتهت فعلا على أيام "نشأكرب" هذا، بأيدي الحميريين1. ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أنه في عهد "الشرح يحصب" لمع اسم "صنعاء" "صنعو"، فقد تردد اسمها في النصوص التي ترجع إلى ذلك العهد مثل نص "جام 575"، وفي أيام الحروب التي دارت رحاها بين "الشرح يحصب" و"شمر ذي ريدان"، كما يشير إلى ذلك نقش "جام 577" و"ريكمانز 535"، هذا وتشير الكتابة "Cih 429" إلى قصر غمدان "غندان" -بجانب قصر سلحين- كمقر للملوك، ولعل في هذا إشارة إلى أن الشرح يحصب إنما كان يقيم في كلا القصرين "أي في مأرب وصنعاء"، كما يشير كذلك إلى الهمداني وابن الكلبي، ربما كانا على صواب فيما ذهبا إليه من أن الشرح يحصب هو الذي بنى قصر غمدان، وأن "شعر أوتر" هو الذي بنى سور صنعاء، وإن كانت هناك رواية تذهب إلى أنه من أبناء سليمان، وعلى أي حال، فكل هذا يدل على أن قصر غمدان من القصور الملكية السبئية القديمة، وأن صنعاء بدأت تظهر بين مدن اليمن من تلك الفترة، وأن مكانتها قد زادت على مر الأيام، حتى صارت عاصمة اليمن ومقر الحكام حتى الآن2. وبدهي أن ذلك لا يتفق وروايات الإخباريين من أنها كانت تدعى "أزال"، وأن "وهرز" القائد الفارسي هو الذي أطلق عليها اسم "صنعاء"، حين قال إبان دخوله إياها "صنعة صنعة"، يريد أن الحبشة قد أحكمت صنعها، أو أن التسمية إنما كانت نسبة إلى بانيها "صنعاء بن أزال بن عبير بني عابر بن شالخ" على رواية، و"غُمدان بن سام بن نوح" على رواية أخرى، فكانت تعرف تارة بأزال، وتارة بصنعاء، بل إن بعض الإخباريين لم يقف عند هذا الحد، فزعم أنها واحدة من مدن النار الأربع "أنطاكية والطوانة وقسطنطينية وصنعاء" في مقابل مدن الجنة الأربع   1 سعد زغلول عبد الحميد: المرجع السابق ص194. 2 جواد علي 2/ 442، اللسان 3/ 327، ياقوت 4/ 210، وكذا P.K. Hitti, Op. Cit., P.57 وكذا H. Von Wissmann And M. Hofner, Op. Cit., P.19 وكذا E. Glaser, Die Abessienier In Arabien Und Africa, 1895, P.121f الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 "مكة والمدينة وإيلياء ودمشق"1. وعلى أية حال، فلقد جاء بعد فترة لا ندري مداها على وجه التحقيق "ذمار علي بين"، ورغم أنه لم يحمل لقب "ملك سبأ وذي ريدان"، فإن ابنه قد حمل اللقب العظيم، ومن ثم فهناك من يرى التريث في الحكم على أنه كان ملكًا، ويضعه ألبرت جام" في الفترة "30-45م"2، ثم خلفه ولده "كرب إيل وتار يهنعم" الذي أشرك معه ابنه "هلك أمر" في الفترة الأولى من حكمه -والتي كانت في منتصف القرن الأول الميلادي3- ثم ابنه الثاني "ذمار علي ذريح" الذي جاء اسمه في عدد من النصوص في الفترة الثانية، وقد حدد له "فلبي" الفترة "75-95م"4. وفي أيام "يهقم" بن "ذمار علي ذريح" كثرت الفتن والاضطرابات في البلاد، ونقرأ في نقش "جام 644" أن الثوار من قبيلة شداد "شددم" قد هاجموا قصر سلحين نفسه واستولوا عليه، إلا أن الملك سرعان ما استعان بأمير قبيلة غيمان الذي كتب له النجح في القضاء على الثوار، وطردهم من قصر سلحين، بل ومطاردتهم حتى مأرب، إلا أنهم سرعان ما نظموا صفوفهم مرة أخرى، وتحصنوا في مواضع جديدة، مما اضطر الملك إلى أن يلجأ مرة ثانية إلى عشائر "غيمان" وأن يطلب منهم مهاجمة أرض شداد، وقد نجح أبناء "غيمان" في هزيمة الثوار عند "كومنان" واستولوا منهم على غنائم كثيرة من إبل وخيل ودواب5. وجاء بعد ذلك "كرب إيل بين" وتدل النصوص من عهده على أن العلاقة بينه وبين حضرموت لم تكن طيبة، وأن هناك حربًا دارت رحاها بين الفريقين انتهت بعقد صلح تعهد فيه ملك حضرموت بالمحافظة على حسن الجوار، وأن يكون إلى جانب ملك سبأ إذا ما حدث ما يستدعي ذلك، وأن يضع قوة من حراس "يعكران" "وهو ملك صغير من ملوك حضرموت" تحت تصرف ملك سبأ، إلا أن ملك حضرموت سرعان ما نكث بالعهد، بحجة أن ملك مأرب قد عمل ضد مصالحه، حين   1 ياقوت 3/ 426-427، البكري 3/ 843. 2 A. Jamme, Op. Cit., P.390 3 R.L. Bowen And F. Albright, Archaeological Discoveries In South Arabia, P.22 4 فؤاد حسنين: المرجع السابق ص294. 5 جواد علي 2/ 477، وكذا A. Jamme, Op. Cit., P.145 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 أرسل بعض قواته إلى منطقة "هينان الحالية"، التي كان ملك حضرموت يريدها خالية من الجند -رغم أنها منطقة سبئية، وليست حضرمية- وربما كان يهدف من ذلك أن يجعلها غير قادرة على الدفاع، حتى يستطيع التدخل في شئونها، وتنفيذ مشروعاته التي كان يرمي من ورائها إلى الاستيلاء على القسم الجنوبي الشرقي من سبأ، مستغلا ضعف ملوك سبأ وقت ذاك لمصلحته1. وهكذا منع ملك حضرموت قوات ملك مأرب من أن تعسكر في المدينة السبئية "حنان" بل واتجه إلى أرض "معين" ليهدد سبأ، وسرعان ما هاجم "يثل" "المدينة المعينية القديمة" واستولى عليها، ثم ضرب الحصار على مدينتي "نشق" و"نشان"، ولم يفك الحصار عنهما إلا بعد وصول القوات السبئية، وهنا رأى ملك سبأ وذي ريدان "كرب إيل بين" أن يهاجم خصمه بنفسه، ومن ثم فقد اتجه إلى "يثل"، كما أمر قواته المعسكرة عند نشق ونشان بالهجوم عليهما، وهكذا وجد ملك حضرموت "يدع إيل" نفسه، محاصرًا من ناحيتين بقوات سبأ، مما اضطره إلى الانسحاب من "يثل"، والاتجاه إلى "حنان"، ولكنه حاول نهب مقتنيات المعبد "محرم بلقيس فيما يرى "ألبرت جام" إلا أن القوات السبئية الزاحفة من نسق تمكنت من إنقاذ المعبد من النهب2. وفي تلك الأثناء وصلت قوات إضافية من مأرب، فواصل الملك السبئي زحفه إلى "حنان"، حيث دارت هناك معارك رهيبة بين الفريقين، كتب النصر فيها للسبئيين، ودفع ملك حضرموت ثمن هزيمته ألفين من جنوده لقوا مصرعهم في ميدان القتال، فضلا عما استولى عليه السبئيون من خيل وجمال وحمير، وكل حيوان جارح عند الحضارمة3 -كما أشرنا آنفًا. وتمر فترة لا يستطيع المؤرخون فيها ترتيب الملوك أو معرفة فترات حكمهم، فإذا ما رجعنا إلى "ريكمانز" على سبيل المثال، لوجدنا أنه قد ترك فراغًا بعد "هلك أمر" و"ذمار علي ذريح"، إشارة إلى فترة لا يدري من حكم فيها على وجه اليقين، ثم يذكر بعد ذلك "وتريهأمن"، ثم فراغًا، دون بعده اسم "شمدر يهنعم"،   1 جواد علي 2/ 479-480. 2 جواد علي 2/ 481، وكذا A. Jamme, Op. Cit., P.348 3 A. Jamme, Op. Cit., P.144 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 ثم فراغًا ثالثًا بعد اسم "الشر يحمل"، ثم فراغًا رابعًا، ثم اسم "عمدان بن يهقبض"، ثم فراغًا خامسًا يأتي بعده اسم "لعزنوفان يهصدق" ثم فراغًا سادسًا دون بعده "ياسر يهصدق"1، وإن كان "فلبي" يرى أن هذا الأخير جاء بعد "وتريهأمن" وربما كان والده، وأنه بدأ حكمه حوالي عام 60ق. م2. وأيًّا ما كان الأمر، فلدينا من عهد "ياسر يهصدق" هذا، نص "Cih 41" وقد دونته جماعة من قبيلة، "مهانف" "مهانفم" من "ضافط" بقاع جهران، شمال ذمار، ويذهب "فون فيسمان" إلى أنه أول نص يصل إلينا لقب فيه واحد من ملوك "حمير" بلقب "ملك سبأ وذي ريدان"، وهذا يعني أن ملوك حمير قد نافسوا ملوك سبأ، ثم نازعوهم عرشهم، بل وحملوا ألقابهم كذلك3. ثم يذهب "فون فيسمان" بعد ذلك إلى أن الرجل قد حكم في الفترة "75-80م"، وأنه اتخذ من "ظفار" مقرًّا له، وأن خليفته إنما كان "الشرح"، وأنه حكم حوالي عام 90،، وأن نص "Cih 140" إنما يرجع إلى أيامه4، غير أن "جام" إنما يضع حكم "ياسر يهصدق" في الفترة "200-205م"5. ونقرأ في نص "Cih 365" أن "ذمار علي يهبر" بن "ياسر يهصدق"6 -والذي ربما كان هو صاحب الاسم الذي جاء على بعض النقود7- قد شن حربا ضد الأسرة السبئية المالكة، استولى فيها على حصن "ذات المخاطر"، ولعل هذا هو الذي اعتمد عليه "فون فيسمان" في أن الحميريين قد استولوا على مأرب، ولمدة عشر سنين8.   1 جواد علي 2/ 482، وكذا J. Ryckmans, Op. Cit., P.338 2 J.B. PHILBY, OP. CIT., P.142 3 جواد علي 2/ 283، وكذا KTB, II, P.64 وكذا LE MUSEON, 1964, 3-4, P.448 4 LE MUSEON, 1964, 3-4, P.495, 498 5 A. JAMME, OP. CIT., P.392 6 LE MUSEON, 1948, LXI, 3-4, P.232. وكذا O. WEBER, OP. CIT., P.36 7 جواد علي 2/ 448، وكذا D. NIELSEON, OP. CIT., P.94 8 LE MUSEON, 1964, 3-4, P.459, 498 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 وهناك عدد من النصوص جاء فيها اسم "ذمار علي يهبر" بجانب اسم أبيه، وأخرى جاء اسمه بجانب اسم ولده "ثاران يعب يهنعم"، ويفهم منها أنه أشركه معه في الحكم، كما يفهم منها كذلك أنه أعاد بناء سد ذمار1، وأما الكتابة المعروفة بـ "Rep Epig 4909"، فتتحدث عن وفد أرسله هذا الملك ليهنئ "العزيلط" ملك حضرموت باعتلائه العرش2، وأن ذلك كان في حوالي عام 20ق. م، على رأي3، و200م، على رأي آخر4، بل إن "جام" إنما يحدد لحكم "ثاران يعب يهنعم" الفترة "265-275م"5، بينما يرى "فون فيسمان" أنها في الفترة "230-240م"6. وجاء "ذمار علي يهبر" الثاني، بعد أبيه "ثاران يعب يهنعم"7، ثم جاء "شمر يهرعش"، والذي لقبه "فون فيسمان" بالأول، تمييزًا له عن "شمر يهرعش" المشهور" والذي جاء بعده بفترة طويلة8. ويذهب "جون فلبي" إلى أن عرش سبأ وذي ريدان، إنما جلس عليه في الفترة "115-245م" ملوك من أسرة "بني بتع" من حاشد -وحاشد كما هو معروف من الهمدانيين- وأن عددهم كان اثني عشر ملكًا9، ثم جاءت من بعدهم أسرة من "بكيل"، كان أول رجالها "العز نوفان يهصدق" الذي حكم في الفترة "245-265م"10، ثم جاء من بعده "ياسر يهنعم" والد "شمر يهرعش" الملك المشهور بين الإخباريين، وبذلك ينتقل العرش إلى أسرة جديدة، بل إلى عهد جديد،   1 جواد علي 2/ 484-485، وكذا Le Museon, 1964, 3-4, P.459 وكذا Rep, Epig, Iv, P.355, Vii, Iii, P.360 2 J.B. Philby, Sheba's Daughters, P.449 3 J.B. Philby, The Background Of Islam, P.142 4 H, Von Wissmann And M. Hofner, Op. Cit., P.133, 144 5 A. Jamme, Op. Cit., P.392 6 Le Museon, 1964, 3-4, P.3498. وكذا A. Jamme, Op. Cit., P.392 7 جواد علي 2/ 486-487. 8 Le Museon, 1964, 3-4, P.398 9 J.B. Philby, Op. Cit., P.142 10 Handbuch, P.95. وكذا J.B. Philby, Op. Cit., P.143 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 عهد تسود فيه سيطرة الحميريين على بلاد العرب الجنوبية، دون غيرهم من حكام اليمن؛ ذلك لأن هذا العصر الثالث "115ق. م-300م" إنما كان النفوذ فيه لسبأ ولحمير معًا، بعكس العصر الرابع "300-525م" الذي تسود فيه السيادة الحميرية. ويعرف "ياسر يهنعم" في المصادر العربية باسم "ناشر النعم" أو "ياشر ينعم" أو "ياسر ينعم" أو "ياسر أنعم"1 لإنعامه عليهم "أي الحميريين" بما قوى من ملكهم وجمع من أمرهم2، أو لإنعامه على الناس بالقيام بأمر الملك ورده بعد زواله3، أو لأنه رد ملك حمير بعد أن انتقل إلى سليمان بن داود عليه السلام4، وهو "عمرو بن يعفر بن حمير بن المنتاب بن عمرو بن زيد بن يعفر بن سكسك بن وائل بن حمير بن سبأ"5 أو" يعفر بن عمرو بن حمير بن السباب بن عمرو بن زيد بن يعفر بن سكسك بن وائل بن حمير بن سبأ"6، أو "عمر ذو الأدغار" أو "عمرو بن يعفر بن شرحبيل بن عمرو ذى الأدغار" أو "مالك بن عمرو بن يعفر بن عمرو بن حمير بن السباب بن عمرو بن زيد بن يعفر بن سكسكة المقعقع بن وائل بن حمير7، إلى غير ذلك من أنساب، الخطأ فيها أكثر من الصواب. وقد ذهبت بعض المصادر العربية إلى أنه قد حكم بعد ابنة أخيه أو ابنة عمه، "بلقيس بنت الهدهاد" صاحبة سليمان8، لأن الهدهاد قد أوصى له بالملك في عهد بلقيس وبعدها، فأجابته حمير وقدموه9، أو أنه قد حكم بعد فترة تتراوح ما بين الثلاثين والأربعين عامًا من حكم سليمان لحمير، حيث أخذه منه وأعاده إلى حمير،   1 حمزة الأصفهاني: المرجع السابق ص83، وهب بن منبه: المرجع السابق ص219، تاريخ ابن خلدون 2/ 52، الأخبار الطوال ص20، نشوان بن سعيد الحميري: المرجع السابق ص89، تاريخ اليعقوبي 2/ 50. 2 تاريخ الطبري 1/ 566، وهب بن منبه: المرجع السابق ص426. 3 حمزة الأصفهاني: تاريخ سني ملوك الأرض والأنبياء ص83. 4 نشوان بن سعيد الحميري: المرجع السابق ص89. 5 تاريخ الطبري 1/ 566، 2/ 11، الإكليل 2/ 207، مروج الذهب 2/ 5. 6 وهب بن منبه: المرجع السابق ص219. 7 أبو الفداء 1/ 67، وانظر: أخبار عبيد بن شريه ص4256، كتاب التيجان ص170، ملوك حمير وأقيال اليمن ص89. 8 تاريخ الطبري 1/ 566، أبو الفداء 1/ 67، الأخبار الطوال ص20، كتاب التيجان ص219، مروج الذهب 2/ 50، حمزة الأصفهاني: المرجع السابق ص83. 9 نشوان بن سعيد الحميري: المرجع السابق ص89. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 وبقي صاحبنا هذا على عرشه قرابة خمس وثلاثين سنة1، وهذا يعني -في نظرهم- أن "ياسر يهنعم"، والذي عاش في القرن الثالث بعد الميلاد، إنما كان معاصرًا لسليمان ملك إسرائيل في القرن العاشر قبل الميلاد2، والفرق بينهما، كما نرى، جد شاسع، إذ أن سليمان عليه السلام، إنما سبق "ياسر يهنعم" بزمن قد يزيد في مداه عن اثني عشر قرنًا. وأما الرواية التي ذهبت إلى أن سليمان قد حكم حمير، فلست أدري- علم الله- من أين جاء بها أصحابها، وليس هناك نص واحد- سواء أكان هذا النص من النصوص الحميرية، أو حتى من توراة اليهود، أو غيرها من المصادر اليهودية- يمكن الاعتماد عليه لتدعيم زعم الإخباريين هذا. هذا وقد روى القرآن الكريم -وكذا التوراة3 والإنجيل4، قصة ملكة سبأ مع سليمان عليه السلام في سورة النمل5، ومنها نعرف أن الملكة العربية حين تأكدت أنها أمام واحد من المصطفين الأخيار، يريد لها ولقومها الهداية إلى سواء السبيل، وليس رجلا غرته قوته، فأراد أن يجعل من بلادها جزءًا من ممتلكاته، فتقرر الذهاب بنفسها إلى النبي الكريم، ويستعد سليمان لاستقبال الملكة العظيمة، فيعد لها   1 مروج الذهب 2/ وهب بن منبه: المرجع السابق ص219. 2 يختلف المؤرخون: في الفترة التي حكم فيها سليمان من القرن العاشر قبل الميلاد، فهناك من يرى أنها في الفترة 974-932ق. م "فضلو حوراني: المرجع السابق ص34"، ومن يرى الفترة 973-936ق. م "حسن ظاظا: الساميون ولغاتهم ص84" ومن يرى الفترة "970-933ق. م"، ومن يرى الفترة 963-923ق. م "فيليب حتى: المرجع السابق ص205، عبد الحميد زايد: الشرق الخالد ص387"، ومن يرى الفترة 961-922ق. م "موسكاتي: المرجع السابق ص143، وكذا ""E.W. Heaton, Op. Cit., P.172." ومن يرى الفترة 960-922ق. م "W.F. Aibright, Op. Cit., P.120-122" 3 ملوك أول 10: 1-13، أخبار أيام أول 9: 1-12. 4 متى 12: 14. 5 سورة النمل: آية 20-44، وانظر: تفسير البيضاوي "2/ 173-178، تفسير الطبري 19/ 143-170، تفسير ابن كثير 3/ 360-366 "دار إيحاء التراث العربي" تفسير الجلالين "نسخة على هامش البيضاوي" 2/ 173-178، تفسير روح المعاني 19/ 182-210، تفسير الطبرسي 19/ 208-230، تفسير الكشاف 3/ 142-151، تيسير العلي القدير 3/ 233-240، في ظلال القرآن 19/ 2631-2643، تفسير القرطبي 13/ 176-213، تفسير أبي السعود 4/ 127-134. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 أمرًا يخرج عن قدرة البشر العاديين، ويدخل في عداد معجزات تلك الصفوة المختارة، من رسل الله وأنبيائه الكرام، فيأتي بعرشها إلى قصره، حتى إذا ما وصلت: {قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ، فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ} 1 ثم مفاجأة أخرى: {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ} 2. وهنا كانت الملكة قد رأت كل ما يبعد عنها أية ريبة في أنها أمام نبي الله الكريم، سليمان عليه السلام، وليس، كما كانت تظن -بادئ ذى بدء- أنها أمام ملك يطمع في دولتها، أو يبغي الاستيلاء عليها، ثم يجعل من أعزة قومها أذلة، وكذلك يفعل الطامعون والمستعمرون، وهنا أراد الله لها الهداية والإرشاد، ومن ثم: {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 3. وليس في كل هذا ما يفيد من قريب أو بعيد، أن اليمن قد أصبحت مستعمرة لإسرائيل على أيام سليمان، أو أن بلاد العرب قد أصبحت ضمن دولة اليهود، وكذا ليس في قصة التوراة ما يفيد ذلك، ومن ثم فإذا كان ذلك قد حدث، فهو من خيال الأخباريين، طبقًا لإسرائيليات أوحى إليهم بها مسلمة أهل الكتاب، وليس من حقائق التاريخ وأخباره الصحيحة4. وعلى أية حال، فإن الروايات العربية تنسب إلى "ياسر يهنعم" الفتوحات العظيمة، فتزعم أنه خرج إلى ما حوى آباؤه من التبابعة العظام، فوطئ من الأرض موطئًا عظيمًا، ودوخ الشام ومصر وقبض أقواتهما، ثم توجه إلى المغرب لرؤيا رآها، يريد أن يبلغ وادي الرمل الذي يسيل، وهكذا أخذ يسير حتى إذا ما بلغ البحر المحيط "ولعله هنا البحر الأبيض المتوسط"، أمر ولده "شمر يرعش" أن يركب هذا البحر حتى يعبره، ثم يرجع إليه بما رأى في وادي الرمل، ويصدع "شمر يرعش" بأمر أبيه، فينزل على صنم ذي القرنين، ثم يبعث بعساكره إلى الإفرنج والسكس والصقالبة، حيث يكتب لها النجح فيما أرادت، فتعود وقد   1 سورة النمل: آية 38-42. 2 سورة النمل: آية 44. 3 سورة النمل: آية 44. 4 قدمنا دراسة مفصلة عن علاقة سليمان بملكة سبأ في دراستنا حول "العرب وعلاقاتهم الدولية في العصور القديمة" مجلة كلية اللغة العربية -العدد السادس، الرياض 1976 ص287-437. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 غنمت الأموال وسبت الذراري من كل أمة من جزر البحر، على رواية، وأن هذه الجيوش، والتي كانت في عشرة آلاف مركب، كانت بقيادة واحد من أهل بيت "ياسر يهنعم" -يقال له عمرو بن زيد بن أبي يعفر- وأنها ذهبت إلى وادي الرمل فلم تجد مخرجًا ولا مجازًا؛ لأن الوادي لا يسكن إلا يوم السبت فلا يجري، وهكذا ضاعت هذه الجيوش، وهنا أمر الملك بصنع تمثال من نحاس كتب عليه بالمسند "أنا الملك الحميري ياسر ينعم اليعفري، ليس وراء ما بلغته مذهب، فلا يجاوزه أحد فيعطب"، على رواية أخرى1. ولم تقتصر فتوحات "ياسر ينعم" -فيما تزعم المصادر العربية- على ذلك، وإنما امتدت إلى الحبشة وإلى بلاد الروم والترك، فضلا عن التبت والصين والهند، وأخيرًا مات في "دينور" حيث دفنه ابنه هناك، ثم جلس على عرشه من بعده2، وإن قفزت بعض هذه المراجع، فجعلت من "تبان أب كرب أسعد" خليفة له3، كما أبت مراجع أخرى إلا أن تنسب للرجل شعرًا فيه فخر وفيه حماسة، كما نسبت لوالده "شمر يرعش" شعرًا كذلك، يرثي فيه أباه، ولم تنس هذه القرائح أن تقدم لنا نماذج من كلامه العربي الفصيح، لترينا أنه كان -كسائر ملوك اليمن- يتكلم بلسان عربي مبين4. وليس من شك في أن كل ما جاء في هذه الروايات عن "ياسر يهنعم"، إنما هو من أساطير "ابن منبه" وغيره من الأخباريين الذين سودوا صفحات كتبهم عن هذه المرحلة من التاريخ العربي القديم بكل غث وسمين، وإن كانت هناك روايات تاريخية عن حملات عسكرية قام بها الحميريون في وادي النيل الأوسط وشمال إفريقيا5، وقد أشار "ده برسيفال" إلى حملة قادها أبو مالك بن شمر يرعش إلى معادن الزمرد   1 تاريخ الطبري 1/ 566، ابن الأثير 1/ 276، تاريخ ابن خلدون 2/ 52، وهب بن منبه: المرجع السابق ص220، صبح الأعشى 5/ 22، ملوك حمير وأقيال اليمن ص89-90. 2 وهب بن منبه: المرجع السابق ص220-221، الإكليل 2/ 207-208 ملوك حير وأقيال اليمن ص89-90. 3 تاريخ الطبري 1/ 566، ابن الأثير 1/ 276. 4 انظر: وهب بن منبه، المرجع السابق ص220، حمزة الأصفهاني: المرجع السابق ص83، جواد علي 2/ 534، ملوك حمير وأقيال اليمن ص89-93، أخبار عبيد بن شريه ص426. 5 مصطفى مسعد: الإسلام والنوبة في العصور الوسطى، القاهرة 1960 ص108. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 في أرض البجة، ومن المحتمل أن يكون قد لقي حتفه هو ومعظم جيشه، حوالي منتصف القرن الأول الميلادي1. وعلى أي حال، فهناك الكثير من النصوص التي تحدثت عن "ياسر يهنعم" هذا، منها نص "Cih 46"، والذي عثر عليه في "يكاران" -ويرجع تاريخه إلى عام 276م- وقد جاء فيه اسم الإله "عثتر"، واسم قبيلتي، "مهانف" و"شهر"2، كما جاء اسمه واسم ولده "شمهريهرعش" في نص مؤرخ بعام 276م كذلك، ولعل في هذا إشارة إلى اشتراكه معه في الحكم، حيث لُقِّبَا بملكي سبأ وذي ريدان3. هذا ويجب الإشارة هنا إلى أن القوم وقت ذاك، إنما كانوا يؤرخون وفق تقويمين مختلفين، وأن الفرق بينهما خمسون سنة، أو خمس وسبعون سنة، ثم أهمل أحد التقويمين وبقي الآخر، وهو تقويم "مبحض بن أبحض"، وتقع بدايته فيما بين عامي 118، 110ق. م، وإن لم يستعملوه في الكتابة إلا في القرن الثالث الميلادي4، ويرى "ريكمانز" أن نصوص "ياسر يهنعم" وولده "شمر يهرعش"، تختلف في تأريخها عن التأريخ السبئي المعروف، والذي يبدأ في رأيه في عام 109ق. م، ومن ثم يمكن إثابتها وفق هذا التقويم5. ونقرأ في نقش "Cih 353" عن ثورة حمل لواءها الحميريون ضد "ياسر يهنعم" وولده حوالي عام 300م، في منطقة "ضهر" -والتي لا تبعد كثيرًا عن صنعاء6- هذا فضلا عن اشتباكات جديدة بين "ياسر يهنعم" والهمدانيين، والذين تعانوا مع بني ريدان لمهاجمة مأرب، إلا أن الملك الحميري سرعان ما هاجم الهمدانيين   1 مصطفى مسعد، المرجع السابق ص108، وكذا: Caussin De Perceval, Essai Sur L'histoire Des Arabes Avant L'islamisme, I, Paris, 1847, P.82 2 جواد علي 2/ 535، وكذا D.H. Muller, Zdmg, 37, 1883, P.365-370 وكذا J.B. Philby, Op Cit,. P.109 3 J.B. Philby, Op. Cit., P.110 وكذا Rep, Epig, Vii, P.138 وكذا Le Museon, 1964, 3-4, P.475 4 A.F.L. Beeston, Epigraphic South Arabian Calendars And Dating, London, 1956, P.26-37 5 جواد علي 2/ 536-537، وكذا H. Von Wissmann And M. Hofner Op. Cit., P.116 6 Ibid., P.20 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 غربي صنعاء وانتصر عليهم1. ولعل مما تجدر ملاحظته أن عهد ملوك سبأ وذي ريدان من أصعب العهود في تاريخ سبأ، ورغم أن النصوص التي عثر عليها ليست بالقليلة، إلا أنها لا تفيدنا كثيرًا، ثم إن بعضها قد أصابه التلف، ومن هنا كان الاختلاف البين بين العلماء في تأريخ هذه الفترة، هذا إلى جانب فترات مظلمة تمامًا في كتابة هذا الفصل، نتيجة اضطراب المؤرحين فيه، وعدم اتفاقهم على رأي بشأنه، وليس هناك من حل إلا من مزيد من الحفائر، ثم مزيد من الحفائر، حتى يستطيع العلماء تقديم التاريخ العربي القديم في صورة متكاملة.   1 A. Grohmann, Op. Cit., P.29 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 دويلات أوسان وسمعاي وأربع وجبان ومهأمر : لعل من الأفضل هنا أن نتوقف قليلا -قبل الحديث عن الدولة الحميرية- لنشير إلى بعض الدويلات التي كان لها دور في الأحداث التي جرت في تلك الفترة من تاريخ بلاد العرب الجنوبية. 1- أوسان: رغم أن أوسان دويلة صغيرة في جنوب قتبان، لم تبلغ في موازين القوى المعروفة وقت ذاك "معين وقتبان وحضرموت وسبأ" شيئًا يخشاه الآخرون، فإنها قد انتهزت فرصة الضعف التي ألمت بدولة سبأ، بسبب ظهور قبائل أخرى على المسرح السياسي، مثل همدان وخولان وريدان وغيرها، فوطدت أقدامها في جنوب غرب بلاد العرب، ثم أخذت تنافس سبأ من ناحية، وحضرموت من ناحية أخرى، وسرعان ما مدت نفوذها خارج حدودها، فحكمت "دهس وتبنو وكحد"، وبل إن هناك من يحاول أن يرى في إطلاق مؤلف كتاب "الطواف حول البحر الأرتيري" على المنطقة شمال "بمبا Pemba" و"زنجبار" من الساحل الإفريقي للبحر الأحمر اسم "الساحل الأوساني"، دليلا على أن الأوسانيين قد حكموا تلك المنطقة، في فترة ترجع إلى ما قبل عام 400ق. م، ومن ثم فقد ذهب البعض إلى أن "أوسان" لا بد وأن تكون قوية وذات أرضين واسعة في العربية الجنوبية، حتى يمكنها أن تستولي على هذه المنطقة من الساحل الإفريقي1، فضلا عن أن يكون لها نشاط واسع معها في الميدان التجاري، والذي ربما كان من ميناء "عدن" الذي كان يتبع أوسان في تلك الفترة2   1 A. Grohmann, Op. Cit., P.25. وكذا W. Schoff, Op. Cit., P.22 وكذا H. Von Wissmann And M. Hofner, Op. Cit., P.74 وكذا فؤاد حسنين: المرجع السابق ص298. 2 جواد علي 2/ 502، وكذا R.L. Bowen And F. Albright, Archaeological Discoveries In South Arabia, 1958, P.39 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 ولعل من أشهر ملوك أوسان الملك "يصدق إل فرعم شرح عت"1 بن ود "ودم"، وقد دعا هذا اللقب بعض العلماء إلى القول بوجود فكرة تأليه الملوك في أوسان، وأن الرجل إنما كان يعتقد أنه من نسل الإله "ود"2 ومن ثم فقد اعتمد مؤرخو الأيدان على هذه الحالة كدليل على قيام مملكة للإله في بلاد العرب الجنوبية، ونحن نعرف أن "ود" هو الإله القومي لأوسان ومعين، كما أن "عم" كان إله قتبان" و"سين" معبود حضرموت، وأما الموقاة "المقة" فهو إله سبأ3، هذا وقد خصص الأوسانيون معبدهم الرئيسي في "وادي نعمان" للإله "ود"4. وعلى أي حال، فهناك من يذهب إلى أن الملك "يصدق إل فرعم شرح عت" إنما كان في النصف الأول من القرن الخامس قبل الميلاد، وحتى حوالي عام 450ق. م معتمدين في ذلك على أن طرز اللباس التي تكسو تمثال الملك، إنما هي طرز يونانية ترجع إلى ما قبل منتصف القرن الخامس ق. م، وأنه وصل من اليونان إلى أوسان عن طريق غزة5، إلا أن "جاكلين بيرين" قد ذهبت إلى أن أوسان كانت مملكة في أخريات القرن الأول ق. م، أو بعد الميلاد بقليل، وأن حكم الملك "يصدق إل فرعم شرح عت" بن "ودم" إنما كان حوالي عام 24ق. م6. وهناك بعض الملوك في أوسان نكاد لا نعرف عنهم غير أسمائهم، ومنهم "معد إيل سلحان بن ذي يدم" أو "زيدم" و"عم يثع غيلان لحي"، الذي وجد اسمه محفورًا على تمثال من المرمر7. ونقرأ في نقش النصر في صرواح -كما رأينا من قبل- عن "مارتو" ملك أوسان الذي اجتاحت قوات سبأ في عهد "كرب إيل وتار" بلاده، وقتلت منهم   1 فؤاد حسنين: المرجع السابق ص298-299. 2 نفس المرجع السابق ص199، وكذا D.S. Margoliouth, Op. Cit., P.9 وكذا H. Von Wissmann And M. Hofner, Op. Cit., P.58 3 Ibid., P.58. وكذا I. Shahid, Op. Cit., P.9 4 H. Von Wissmann And M. Hofner, Op. Cit., P.58 5 Ibid., P.8, 58, 69, 70, 142. وكذا Le Museon, 1964, 3-4, P.442 6 J. Pirenne, Op. Cit., P.138, 199. وكذا Le Museon, 1964, 3-4, P.442 7 جواد علي 2/ 501-502. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 16 ألف رجل، وأسرت أربعين ألفًا، فضلا عن احتلالها لعدة مواضع في أوسان1 هذا ويذهب "فلبي" إلى أن حكم "مارتو" إنما كان في الفترة "620-600ق. م" ليكون معاصرًا لـ "كرب إيل وتار"2، وإن رأى البعض أن "مارتو" إنما حكم حوالي عام 450ق. م3، وربما كان بعد ذلك بقليل، وعلى أي حال فإن دولة أوسان قد انتهت على يد "الشرح يحصب" في حوالي عام 115ق. م، فيما يرى "فلبي"4. 2- سمعاي: وهي قبيلة همدانية سكنت المنطقة ما بين حاشد وحملان وفي الحجر5، وهي إمارة أو مشيخة قوية انتحل سادتها لقب "ملك" وتمتعوا بشيء من الاستقلال لا ندري مداه، ولا الفترة التي حدث فيها هذا الاستقلال، ولعل أهم أمرائها "يهعان ذبيان" و"سمه افق" اللذين جاء ذكرهما في نقش "جلازر 302"6. 3- أربع: وهي قبيلة كان يلقب شيوخها بلقب "ملك"، عرفنا منهم "نبط إيل" و"لحي عثت بن سلحان" و"عم أمن" والذي كان معاصرًا لملك سبأ "يثع أمر بين"، على أننا يجب ألا نفهم من لفظة ملك هنا، المعنى المعروف من الكلمة، ذلك لأن أربع لم تكن مملكة بالمعنى المفهوم، وإنما كانت قبيلة لها شيوخ يتمتعون بشيء قليل أو كثير من الاستقلال في حدود أرض قبيلتهم، وإن خلعوا على أنفسهم لقب "ملك"7.   1 انظر: أحمد فخري: المرجع السابق ص163-164، وكذا Ktb, I, P.283 وكذا J.B. Philby, Op. Cit., P.144 2 J.B. Philby, Op. Cit., P.144 3 H. Von Wissmann And M. Hofner, Op. Cit., P.8 4 J.B. Philby, Op. Cit., P.144 5 D. Nielsen, Op. Cit., P.132 6 جواد علي 2/ 410-411. 7 جواد علي 2/ 406-407، وكذا Le Museon, 1949, Lxii, 3-4, P.249 وكذا Ktb, I, P.74 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 4- جبان: يحدثنا "بلينيط عن قوم دعاهم "الجبانيين Gebbanitae" يملكون عدة مدن، لعل أهمها "نجية Nagia" و"تمنة Thamna" وأن بالأخيرة خمسة وستين معبدًا1 وأن اللبان والكندر لم يكن يسمح بتصديره إلا بواسطة هذه المملكة، وإلا بعد دفع ضرائب يحددها، وأما المر فكان الملك يأخذ منه لنفسه ربع الغلة، كما كان يحتكر بيع القرفة2. وربما كان الجبانيون هؤلاء من قتبان، وأنهم استقلوا في فترة لا تبعد كثيرًا عن أيام "بليني" "32-79م"، وأن مواطنهم لا تبعد كثيرًا عن قتبان، فهي إلى الجنوب الشرقي منها على رأي، وإلى الغرب منها على رأي آخر، ويذهب بعض الباحثين إلى أنهم من "جبأ" التي وصفها الهمداني، بأنها مدينة المعافر، وأنها كورة المعافر، في فجوة بين جبل صبر وجبل ذخر في وادي الضباب3. ولعل من الأهمية بمكان الإشارة هنا إلى أن أستاذنا الدكتور عبد العزيز صالح قد عقد مقارنة بين "الجنبتيو" "Gnbtyw" الذين ورد ذكرهم في حوليات الإمبراطور المصري العظيم "تحوتمس الثالث" "1490-1436ق. م"، على أنهم جاءوا يحملون هداياهم أو منتجاتهم من الكندر "البخور" وصمغ كاي "؟ "، وبين هؤلاء "الجبانيين" "Gebbanitae" والذين كانوا ينتشرون في جنوب شبه الجزيرة العربية وحتى باب المندب، ويتاجرون في الكندر، كما أن ذكر بليني لهم ولدولتهم في وقت كانت فيه هذه الدولة قد أصبحت جزءًا من دولة سبأ وحمير "أي في القرن الأول الميلادي"، يدل على أن مصدر معلوماته إنما يرجع إلى مصدر مبكر.   1 جواد علي 2/ 506-507 وكذا H. Von Wissmann And M. Hofner, Op. Cit., P.50 وكذا Pliny, Vi, 154, Vol., 2, P.453f 2 جواد علي 2/ 506، وكذا Pliny, Xii, 69, Vol. Iv, P.51 3 الهمداني: صفة جزيرة العرب ص54، 99، ياقوت 2/ 96-97 وكذا Encyclopaedia Of Islam, 2, P.810-812 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 وهنا ربما يعترض البعض على أن الجبانيين لا يرجعون إلى هذه الفترة المبكرة "عصر تحوتمس الثالث"، على أساس أن أقدم سجلات مكتوبة من بلاد العرب لا ترجع إلى ما قبل القرن العاشر ق. م، غير أن هذا لا ينفي وجود القوم كجماعة في وقت أقدم بكثير من كتاباتهم ومدنهم، وقد أثبت "وليم أولبرايت" أن هجرة القبائل المسماة بالقبائل السينية من شمال بلاد العرب إلى جنوبها، إنما حدث قبل عام 1500ق. م، أي قبل عصر تحوتمس الثالث. أما الأسباب التي دفعتهم إلى تقديم هداياهم إلى العاهل المصري، فربما كانت ترجع في الدرجة الأولى إلى الرغبة في حماية تجارتهم عبر طرق تجارة البخور التي كانت تمر في أراضي إمبراطورية تحوتمس الثالث الآسيوية الإفريقية1. 5- مهأمر: وهي إمارة مقرها "رجمت" "رجمة"، انتحل سادتها لقب ملك، وربما جاءت أهميتها في أنها تقع على طريق القوافل التي تصل "معين" والعربية الجنوبية من ناحية، ومصر من ناحية أخرى2، ويذهب بعض الباحثين إلى أن "رجمت" تقع الآن في أرض نجران، أو في مجاوراتها من ناحية الشمال، وربما كانت واحدة من مدن نجران، وأن نجران نفسها لم تكن في الأصل مدينة معينة، وإنما هي أرض تضم عدة مدن، ومنها "رجمت" التي تحول اسمها بمرور الزمن إلى نجران" وأن هناك الكثير من الأمثلة على ذلك في العربية الجنوبية3. هذا ويذهب "موردتمان" إلى أن "رجمت" ربما كانت "رعمة" في التوراة، وهو الابن الرابع لكوش، يقول سفر التكوين: "وبنو كوش سبأ وحويلة وسبته ورعمة وسبتكا"، ثم يرى بعد ذلك أن المقصود "بكوش" هنا، العربية الجنوبية،   1 Abdel Aziz Saleh, The Gnbtyw Of Thutmosis Iii, Annales And The South Arabian Gebbanitae Of The Classical Writers, Bifa O,Lxxii, 1972, P.246-262 2 H. Von Wissmann And M. Hofner, Op. Cit., P.9-10 3 J.B. Philby, Arabian Highlands, 1952, P.257 وكذا H. Von Wissmann And M. Hofner, Op. Cit., P.10 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 وأن من أولاد كوش، سبأ وديدان، وأن تجار "رعمة" قد ذكروا في سفر حزقيال مع تجار سبأ1، وبدهي أن "موردتمان" لم يفعل سوى أن ردد ما جاء في توراة اليهود2، من إدعاء كذوب، يسلب أغلب العرب ساميتهم، فالعربية الجنوبية وبابل وآشور وكنعان ويبوس ومصر وغيرها من الشعوب العربية، إنما هم جميعًا -في نظر توراة يهود- حاميون3.   1 جواد علي 2/ 507-509، تكوين 10: 7، أخبار أيام أول: 1: 9، حزقيال 27: 22 وكذا H. Von Wissmann And M. Hofner, Op. Cit., P.11 2 تكوين 10: 6-20. 3 انظر مقالنا "الساميون والآراء التي دارت حول موطنهم الأصلي "مجلة كلية اللغة العربية -العدد الرابع، الرياض 1974، ص245-271. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 الفصل الحادى عشر: عصر الدولة الحميرية مدخل ... الفصل الحادي عشر: عصر الدولة الحميرية يتميز هذا العصر من عصور التاريخ السبئي بأن الملوك قد حملوا فيه لقب "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنات"، وهذا يعني أن حضرموت قد أصبحت من هذا العصر الرابع، جزءًا لا يتجزأ من مملكة سبأ، أما "يمنات" "يمنت" فهي لفظة جديدة لم تصل إلينا من قبل، ومنها -فيما يرى البعض- ولدت كلمة "اليمن" التي توسع مدلولها في العصور الإسلامية حتى شملت أرضين واسعة لم تكن تعد من اليمن فيما قبل الإسلام1، ومن ثم فقد قيل إن حدود اليمن إنما تقع بين عمان ونجران، ثم تلتوي على بحر العرب إلى عدن إلى الشحر، حتى تجتاز عمان فتنقطع عند بينونة، وقيل حد اليمن من وراء تثليث وما سامتها إلى صنعاء، وما قاربها إلى حضرموت والشحر وعمان إلى عدن أبين، وما يلي ذلك من التهائم والنجود، واليمن يجمع ذلك كله2. واليمن -في رأي آخر- اسم عام أطلق على السواحل الجنوبية3، وهي -في رأي ثالث- كلمة عامة تشمل الأرضين الواقعة جنوب غرب شبه الجزيرة العربية، من باب المندب وحتى حضرموت، وتتكون من عدة مخاليف، يحكمها أقيال وأذواء شبه مستقلين، إذ كانوا يخضعون لنفوذ "ظفار" أو "ميفعة"، ولعل أشهر مدنها "Oceiis" عند باب المندب "ميناء الجبانيين"، فضلا عن "عدن"   1 جواد علي 2/ 531، ياقوت 5/ 447-449، الهمداني: المرجع السابق ص48. 2 ياقوت 5/ 447. 3 انظر فيما بعد ص348-349، وكذا P.K. Hitti, Op. Cit., P.60 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 و"قنا" في حضرموت1، وهي -في رأي رابع- القسم الجنوبي من حضرموت، وقد كانت "ميفعة" عاصمة لها في ذلك الوقت2. ويذهب المسعودي إلى أن اليمن، إنما سمي يمنًا لأنه على يمين الكعبة، أو ليمنهن أو لأن الناس حين تفرقت لغاتهم ببابل تيامن بعضهم يمين الشمس وهو اليمن3، أو لأن الناس لما تكاثروا بمكة وتفرقوا عنها التأمت بنو يمن إلى اليمن، وهو أيمن الأرض، أو لأنها سميت يمنًا نسبة إلى يمن بن قحطان4. وعلى أي حال، فإن عصر الدولة الحميرية هذا، إنما تميز كذلك بأن لقب الملوك سرعان ما تغير مرة أخرى، فأصبح الواحد منهم يلقب بلقب "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنات، وأعرابها في المرتفعات وفي التهائم"، كما تميز كذلك بدخول اليهودية والمسيحية إلى بلاد اليمن، ومحاولة زحزحة الديانة الوثنية- والتي كانت تدور حول عبادة النجوم والكواكب والشمس- وقد بدأت المسيحية على المذهب المنوفيزي، القائل بالطبيعة الواحدة للسيد المسيح، تأخذ طريقها من الشام إلى اليمن، وكانت بيزنطة تهدف من وراء ذلك أغراضًا سياسية أكثر منها دينية، فقد شجع الحميريون اليهودية، رغبة منهم في مقاومة المسيحية، دين عدوهم السياسي والاقتصادي5. ولعل من الأفضل هنا أن نتوقف قليلا -قبل الاستطراد في الحديث عن العصر الحميري- لنشير في اختصار إلى الحميريين أنفسهم: كانت قبيلة حمير قبيلة قوية لها نفوذ كبير في العربية الجنوبية في أخريات أيام سبأ، وقبل ظهور المسيحية، ولهذا ظل اسمها يتردد دائمًا في كتابات المؤرخين الرومان وفي كتابات العرب، وأصبح اسمها صفة لكل ما يعثر عليه في جنوب شبه   1 جواد علي 2/ 531 وكذا E. Glaser, Punt Und Die Sudarabischen Reiche, Mvg, 1899, P.99 2 Le Museon, 1964, 3-4, P.456 3 المسعودي: مروج الذهب 2/ 3. 4 ياقوت 5/ 447، البكري 4/ 1401، صبح الأعشي 5/ 6، اللسان 13/ 462، 464. 5 محمد مبروك نافع: المرجع السابق ص65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 الجزيرة العربية، وصار اسم النقوش التي بدأ العلماء في حلها هو "النقوش الحميرية"، بل إن كلمة الحضارة الحميرية أصبحت علمًا على كل شيء في بلاد العرب قبل الإسلام1. هذا وقد أطلق الكتاب القدامى من الأغارقة والرومان على الحميريين اسم "Homeritai" "Omyritai "2Hamiroei" "Omeritae"، هذا وقد اعتبر "بليني" الحميريين من أكثر الشعوب عددًا، وأن عاصمتهم هي مدينة "سيفار "3Sapphar" "أي ظفار"، وقد جاءت في التوراة تحت اسم "سفار"4، وهي مدينة في الداخل، على مبعدة مائة ميل إلى الشمال الشرقي من "المخا" وعلى الطريق إلى صنعاء، وقد احتلت في تلك الفترة مكانة "مأرب" عاصمة سبأ، و"قرناو" عاصمة معين، ولا تزال آثارها ماثلة للعيان على قمة تل مستدير بجوار بلدة "يرم" الحديثة5 وهذا وقد عرف الحميريون عند الأحباش باسم "6Hemet"، كما أشار "بليني" إلى مدينة دعاها "مسلة 7Mesaia"- والتي رأى فيها "جلازر" المشالحة الحالية إلى الشرق من "مخا" -بينما ذهب "سبرنجر" على أنها "مأسل الجمع"، وأن المقصود بـ "Homeritae" هنا، جماعة أخرى دعاهم "Nomeritae" وأن التحريف إنما جاء من النساخ8. ويذهب صاحب كتاب "الطواف حول البحر الأرتيري" إلى أن الحميريين إنما كانوا يحكمون منطقة واسعة تمتد من ساحل البحر الأحمر وساحل المحيط حتى حضرموت، فضلا عن ساحل "عزانيا" الأفريقي، وأن ملكهم، كان يسمى   1 أحمد فخري: المرجع السابق ص126. 2 جواد علي 2/ 510، وكذا Pliny, Vi, 28 3 Ei, 2, P.310, 3, P.292. وكذا Pliny, Vi, P.104 وكذا Zdmg, 31, 1877, P.69. وكذا Le Museon, 1964, 3-4, P.429, 438 4 تكوين 10: 30. 5 P.K. Hitti, Op. Cit., P.56 6 جواد علي 2/ 510-511. وكذا Le Museon, Lxxvii, 3-4, 1964, P.429 7 Le Museon, 1964, 3-4, P.446. وكذا Pliny, Vi, 32, 158 8 Pliny, Vi, Xxxii, 158. وكذا E. Glaser, Op. Cit., Ii, P.137 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 "كرب إيل" وأن ظفار كانت عاصمة لهم 1، وأن اسمهم قد جاء في ألقاب "عيزانا" ملك أكسوم، حيث نقرأ في لقبه "ملك أكسوم وحمير وريدان وحبشة والسبئيين وصلح وتهامة2"، ومن الغريب أن الكتاب المسيحيين والبيزنطيين إنما عدوهم من القبائل الحبشية3. وقد شغل الحميريون في الكتب العربية صفحات، ربما كانت أكثر مما شغلته بقية دول العربية الجنوبية مجتمعة، وقد نسبوهم إلى "زيد" الذي لقبوه "حمير" ثم جعلوه ابنا لسبأ، فهو -فيما يزعمون- "حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان"4، وأنه أول من توج بالذهب، وقد ورث أباه في عرشه- ولمدة خمسين عامًا على رأي، وخمسة وثمانين على رأي أخر- وأنه في أثناء ذلك مد حكمه إلى حدود الصين، كما أخرج ثمودًا من اليمن إلى الحجاز، وأنه عاصر الخليل عليه السلام "أو على الأقل هو في درجته من النسب"، ومن ثم فهو الذي سير جرهما إلى الحرم وأرض الحجاز، حيث التقوا بهاجر وولدها إسماعيل الذي تزوج منهم، وهكذا ذهب بعض الإخباريين إلى أنه إنما كان قبل عاد وثمود بدهور طويلة، فضلا عن أنه هو الذي بنى سد مأرب، أو أكمله بعد أبيه سبأ، ثم مات بعد عمر طال إلى ثلاثة قرون كاملة، تاركًا وراءه بنين كثيرين، وإن رأى البعض أنهم ستة تفرعت منهم قبائل حمير، والتي لم يربط الود بينها، بقدر ما دقت طبول الحرب، ويضيف البعض إلى ذلك، أنه لما مات وثب أخوه "كهلان" على الملك فاغتصبه، ولكن أبناء حمير سرعان ما استردوه، ومن ثم فقد بقيت "كهلان" على الحدود، فيما يلي الصحراء5.   1 Ei, 2, P.310 2 فريتز هومل: التاريخ العربي القديم ص108. 3 Ei, 2, P.310 4 ابن كثير: البداية والنهاية 2/ 157، ابن حزم: المرجع السابق ص329، 432، تاريخ ابن خلدون 2/ 50، تاريخ اليعقوبي 1/ 195، مروج الذهب 1/ 48، المعارف ص271، ياقوت 2/ 306-307، أبو الفداء 1/ 66. 5 تاريخ ابن خلدون 2/ 47، الإكليل 1/ 98-2-1، تاريخ اليعقوبي 1/ 59، تفسير روح المعاني 22/ 126، ملوك حمير وأقيال اليمن ص12-18، محمد مبروك نافع: المرجع السابق ص66، وقارن: تفسير البيضاوي 2/ 259، تفسير القرطبي 14/ 486، تفسير الفخر الرازي 25/ 251، تفسير الطبري 22/ 78-80. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 وأما لماذا سمي باسمه هذا؟ فالجواب عند بعض الأخباريين، لأنه كان يلبس حلة حمراء، وإن وقف البعض الآخر موقفًا محايدًا إزاء هذه التفسيرات، فرأى أن هذه الأسماء مثل حمير -وكذا اسمه الآخر العرنج أو العرنجج- لا نقف لها على اشتقاق، لأنها قد بعدت قدم العهد بمن كان يعرفها1. وبدهي أن هذه الروايات لا شك أن الكثير منها، إنما هو أقرب إلى الأساطير منه إلى حقائق التاريخ، وأن حمير -إن كان هناك من يدعى حمير- لم يمد حدوده إلى الصين؛ ذلك لأن التاريخ لا يعرف أن العرب قد وصلوا إلى تلك البلاد غزاة فاتحين، طوال تلك العصور الغابرة، وإني لأظن -وليس كل الظن إثمًا- أن هؤلاء الكتاب الإخباريين إنما كانوا متأثرين بالفتوحات الإسلامية في تلك المناطق، فخيل إليهم أن للأمر سوابق خلت، فإذا كان ذلك كذلك، فتلك مأساة، إذ يصبح الإخباريون بعيدين عن تلك الروح التي تمت بها الفتوح الإسلامية، والتي لم ولن يعرف التاريخ لها مثيلا، وذلك حين خرج المسلمون من بلاد العرب ينشرون التوحيد والهداية والنور في جميع أنحاء الدنيا، لا يبغون من وراء ذلك بلادًا يستعمرونها، أو إمبراطورية يتربعون على عرشها، أو أسلابا يغنمونها، وإنما كانوا يبغون أولًا وأخيرًا، وجه الله، وهداية الناس -كل الناس- إلى الإسلام، دين الله الحنيف. والأمر كذلك بالنسبة إلى إخراج ثمود من اليمن إلى الحجاز؛ ذلك لأن الثموديين2 -كما تدل آثارهم- إنما كانوا أصلا من شمال بلاد العرب، وليس من جنوبها، وقد انتشرت آثارهم في مناطق واسعة، امتدت من الجوف شمالا، إلى الطائف جنوبًا، ومن الأحساء شرقًا، إلى يثرب فأرض مدين غربًا، وفي المسالك المؤدية إلى العقبة والأردن وسورية، ولعل في هذا تفسيرًا لذكر القرآن الكريم لهم دون غيرهم من شعوب بلاد العرب، ممن هم كانوا أكثر منهم شهرة في مجال التجارة أو المدنية أو القوة، كالديدانيين والأنباط واللحيانيين3، فضلا   1 اللسان 4/ 215، الاشتقاق 2/ 523. 2 انظر عن "الثموديين" الفصل السابع من كتابنا "دراسات في التاريخ القرآني"، ومقال: الدكتور خالد الدسوقي "قوم ثمود بين روايات المؤرخين ومحتويات النقوش"، مجلة كلية اللغة العربية، العدد السادس -الرياض 1976، والفصل الخامس من كتابنا هذا. 3 أحمد حسين شرف الدين: اللغة العربية في عصور ما قبل الإسلام ص61. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 عن العظة من قصة النبي الكريم سيدنا صالح عليه السلام، هذا إلى أن الثموديين إنما كانوا يقيمون في شمال بلاد العرب في القرن الثامن ق. م، كما تدلنا على ذلك النصوص الآشورية1، بينما نحن الآن نتحدث عن حمير في فترة تقرب من الميلاد بقليل أو كثير، وأما أنه كان في عصر إبراهيم عليه السلام، فتلك مبالغة، بخاصة إذا ما علمنا أن الخليل كان يعيش في الفترة "1940-1765ق. م"2، والأمر كذلك بالنسبة لمن جعلوه قبل عاد وثمود، وكذا بالنسبة إلى الفترة التي عاشها في هذه الدنيا. ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى لقب "تبع" -وجمعه التبابعة- والذي ظهر في تلك الفترة، من تاريخ اليمن القديم، وهو لقب مجهول الأصل كان يطلق على الملوك3، ومن ثم فقد أصبح المؤرخون والمفسرون في حيرة من تفسير المراد به، فهناك من يرى أن الملوك قد سموا به لأنهم إنما كانوا يتبعون بعضهم البعض الآخر في الملك وفي السيرة، وهناك من يرى أن "التبع" ملك يتبعه قومه ويسيرون تبعًا له، أو لكثرة أتباعه أو من التتابع4، ولست أظن أنهم كانوا في ذلك يختلفون عن غيرهم من الملوك، فالملكية بطبيعتها نظام وراثي، ثم إن الملك إنما يتبعه قومه، لأنه صاحب الأمر فيهم، كما أن أتباعه لا بد وأن يكونوا من الكثرة بحيث يكونون ممكلة. وهناك من يفرق بين لقب "تبع" ولقب "ملك"، فذهب إلى أن اللقب الأول لا يلقب به إلا من يملك اليمن والشحر وحضرموت، وقيل حتى يتبعهم "بنو جشم بن عبد شمس"، فإن لم يكن كذلك فهو ملك، وليس تبعًا5، وأن أول من حمل لقب "تبع" إنما كان "الحارث بن ذى شم" "الرائش"، وأن هذا اللقب قد استمر حتى زال سلطانهم حين استولت الحبشة على اليمن6، ولعلهم في هذا   1 انظر: Anet, P.287 وكذا A. Van Den Branden Histoire De Thamoud, وكذا Les Textes Thamoudeens De Philby, 1956, وكذا Les Inscriptions Thamoudeens, 1950. 2 انظر عن عصر إبراهيم كتابنا إسرائيل ص171-177. 3 تفسير القرطبي 16/ 114، الإكليل 8/ 69-70، وكذا F. Hommel, Explorations In Arabia, P.727-41 4 تاج العروس 5/ 387، اللسان 8/ 31، حمزة الأصفهاني: المرجع السابق ص82، تاريخ ابن خلدون 2/ 50-51، تفسير البيضاوي 2/ 377. 5 ابن كثير 2/ 159، تاج العروس 5/ 287، الإكليل 2/ 55. 6 صبح الأعشي 5/ 480. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 إنما يقصدون أن لقب "تبع" إنما هو أعظم من لقب "ملك"، ومن ثم فإنهم في هذا لم يجانبوا الصواب كثيرًا بالنسبة إلى تاريخ اليمن، فلقد رأينا من قبل -كما في أربع وسمعاي وغيرهما- كثيرًا من مشايخ القبائل والمشيخات الصغيرة، الذين انتحلوا لقب "ملك"، دون أن يكون لديهم شيئًا من مقومات الملكية المعروفة. على أن أسوأ ما في الأمر، مبالغة الأخباريين فيمن أرسلهم الله، سبحانه وتعالى، من المصطفين الأخيار للتبابعة، فيذهب البعض منهم إلى أنهم كانوا اثني عشر ألف نبي، وإن تواضع البعض، فجعلهم ثلاثة عشر نبيًّا1، وأن واحدًا من التبابعة قد صنع "الماذيات" من الحديد، قيل إن الحديد إنما قد سخر له، شأنه في ذلك شأن داود عليه السلام2. هذا وقد تحدث القرآن الكريم عن التبابعة، فقال سبحانه وتعالى: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ} 3، وقال: {وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ} 4، إلا أن القرآن الكريم لم يحدد اسم هذا آل "تبع"، ومن ثم فقد اختلف المفسرون فيه، فرأى بعضهم أنه من حمير، وأنه حَيَّرَ الحيرةَ، وأتى سمرقند فهدمها، وذهب بعض آخر إلى أن "تبعًا" إنما كان رجلا صالحًا من العرب، وإنه لما دنا من اليمن ليدخلها حالت حمير بينه وبين ذلك؛ لأنه فارق دينهم، وانتهى الأمر بأن تحاكموا إلى النار، فانتصر الرجل على قومه الوثنيين، ومن ثم فقد تهودت حمير، وهدم تبع "بيت رئام"5، على أن الرواية نفسها، إنما رويت كذلك عن "تبان أسعد أب كرب"6 وعلى أي حال فإن هناك من يروي عن مولانا وسيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ   1 ابن كثير 2/ 159. 2 تفسير ابن كثير 4/ 142، تفسير الطبرسي 25/ 115، تفسير الخازن 4/ 115، اللسان 8/ 31. 3 سورة الدخان: آية 37، وانظر تفسير الطبري 25/ 128-129 طبعة الحلبي 1954، تفسير القرطبي 16/ 144-147 دار الكاتب العربي - القاهرة 1967 تفسير البيضاوي 2/ 376-377 طبعة الحلبي 1968. 4 سورة ق: آية 14. 5 تفسير الطبري "25/ 128-129، تفسير البيضاوي 2/ 376-377، تفسير القرطبي 16/ 146، تفسير الجلالين "نسخة على هامش البيضاوي" 2/ 376، 414، قارن ملوك حمير وأقيال اليمن ص113. 6 ابن كثير: البداية والنهاية 2/ 164-166. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 وسلم- أنه قال: "لا تسبوا تبعًا فإنه كان قد أسلم" 1. ومن يروي أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- قال: "ما أدري أكان تبعٌ نبيًّا أم غير نبي"2. ولعل من الغريب أن نصوص المسند لم يرد فيها ذكر لكلمة "تبع"، بمعنى "ملك"، أو حتى بمعنى آخر يفيد معنى الرياسة، وإنما كان القوم يستعملون بدلا عنها كلمة "ملك"، ومن ثم فقد ذهب بعض العلماء إلى أن كلمة "تبع"، ربما كان المقصود بها "بتع" -وهو اسم لقبيلة همدانية3- ثم حرفت الكلمة إلى "تبع"4، على أننا لا نستطيع أن نطمئن إلى هذا الاتجاه، فقد تكشف الحفريات عن نصوص ترد فيها هذه اللفظة بالمعنى المتعارف عليه، أو بمعنى آخر. وأما موطن الحميريين، فقد كان إلى الشرق من القسم الجنوبي الغربي من شبه الجزيرة العربية، حيث يكون جزءًا من أرض قتبان، فيقع إلى الجنوب من أرض "رشاوي" و"حبان" وإلى الغرب من حضرموت، وإلى الشرق من "ذياب" وتكون أرض "يافع" الموطن القديم للحميريين قبل هجرتهم حوالي عام 100 قبل الميلاد، إلى مواطنهم الجديدة، حيث حلوا في أرضين" "دهس" ,"رعين" مكونين حكومة "ذي ريدان"، ومتخذين من "ظفار" عاصمة لهم، وأما المصادر العربية فيفهم منها أن الحميريين إنما كانوا يقطنون منطقة "لحج" في ظفار، وفي "سرو حمير" و"نجد حمير5". ورغم أن هناك من يرى أن الحميريين فرع من السبئيين6، أو على الأقل يمتون إليهم بصلة قوية، وأن لغتهم ليست إلا لهجة من لغتي سبأ ومعين7، فإن   1 ابن كثير 2/ 166، تفسير الطبري 25/ 128-129، 26/ 97، تفسير القرطبي 16/ 144-146، قارن: ملوك حمير وأقيال اليمن ص122. 2 تفسير البيضاوي 2/ 377، تفسير القرطبي 16/ 144-147، تفسير النيسابوري "حاشية على تفسير الطبري" 25/ 86، قارن: تفسير الطبري 25/ 129-129. 3 انظر عن قبيلة بتع: جواد علي 2/ 407-409. 4 Ency. Of Islam, 2, P.311 5 جواد علي 2/ 518-520، وكذا Ei, 2, P.310 وكذا H. Von Wissmann And M. Hofner, Op. Cit., P.48, 66, 73 6 جرجي زيدان: المرجع السابق ص126. 7 P.K. Hitti, Op. Cit., P.56 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 العلاقات بين سبأ وحمير كان يسودها طابع العداء في أغلب الأحايين، وكثيرا ما أشارت الكتابات السبئية إلى ذلك1. وعلى أي حال، فهناك ما يشير على أن الحميريين قد استولوا على مأرب -العاصمة السبئية العتيقة-، وربما استغلوا فرصة الضعف التي سادت البلاد في أعقاب حملة "إليوس جالليوس" الفاشلة، على رأي، وفي حوالي عام 110م، على رأي آخر، ومن ثم فقد غير أحد ملوكهم-مجاراة، وربما منافسة لملوك سبأ الشرعيين- لقبه من "ذي ريدان" إلى "ملك سبأ وذي ريدان"، وأعادوا إليه لقبه ونفوذه، وإن ظل الحميريون محتفظين بلقبهم الجديد، ومن ثم فقد رأينا ملكين -الواحد سبئي والآخر حميري- وكل منهما يزعم أنه "ملك سبأ وذي ريدان"2، هذا ويذهب "فون فيسمان" -اعتمادًا على نقش جام 653- إلى أن الحميريين قد أعادوا الكرة واستولوا على مأرب مرة أخرى، حوالي عام 200م، أو عام 210م3. وأما أول من حمل لقب "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنات" فهو "شمر يهرعش" حوالي عام 290، ويبدو أن الرجل قد اتصل بالحكم منذ أيام أبيه "ياسر يهنعم"، كما تشير إلى ذلك نصوص كثيرة، ومنها نص يرجع إلى عام 276م، كما تدلنا كذلك النصوص التي ترجع إلى أيام أبيه، على أنه قد شارك في الحرب التي نشبت في تلك الفترة. ويحتل "شمر يهرعش" في قصص الأخباريين مكانة قد تفوق مكانة أبيه، فهو عندهم "تبع" الذي جاء ذكره في كتاب الله الكريم، لأنه "لم يقم للعرب قائم قط أحفظ لهم منه، فكان جميع العرب -بنو قحطان وبنو عدنان- شاكرين لأيامه، وكان أعقل من رأوه من الملوك، وأعلاهم همة وأبعدهم غورًا، وأشدهم مكرًّا لمن حارب، فضربت به العرب الأمثال"4.   1 Le Museon, 1964, 3-4, P.451 2 جواد علي 2/ 520، وكذا Le Museon, 1964, 3-4, P.451 3 Le Museon, 1964, 3-4, P.498 4 وهب بن منبه: كتاب التيجان في ملوك حمير ص222. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 ويزعم الأخباريون أن صاحبنا "شمر يهرعش"، علم أن الصفد والكرد وأهل نهاوند ودينور، قد هدموا قبر أبيه "ناشر النعم" فأقسم "ليرفعن ذلك القبر بجماجم الرجال حتى يعود جبلا منيفًا شامخًا كما كان"، وهكذا زحف بجيوشه إلى أرمينية وهزم الترك وهدم المدائن بدينور وسنجار، ودخل مدينة الصفد وراء جيحون وهدمها فسميت "شمركند" -أو "شمر كنداي" عند الفرس، من "شمر" أي خرب، في زعمهم- ثم عربت إلى سمرقند، أو لأن شمر هدمها، ثم أمر ببنائها فسميت به1. ويبلغ الخيال بالإخباريين، حين يزعمون أن "شمهر يهرعش"- أو شمر يرعش كما يدعونه2، قد وصل بفتوحاته إلى الصين، وأنه ترك هناك بعضًا من جنوده، ثم ينتقلون به فجأة من الصين إلى مصر فالحبشة، ثم يعودون به مرة ثانية إلى المشرق، حيث يقيم فترة في مدينة "شداد بن عاد"، التي لا ندري عنها شيئًا، وأخيرًا يعودون به إلى اليمن، فيقيم في قصر غمدان، وبعد ذلك كله، لا يرضى له الإخباريون إلا بملك الأرض كلها، وإلا بعمر لا يقل عن ألف وستين عامًا3. هذا إلى أن الرجل -فيما يزعمون- كان أول من أمر بصناعة "الدروع السوابغ المفاضة التي منها سواعدها وأكنها وهي الأبدان"، فضلا عن آلاف الدروع التي فرضها على الفرس والروم واليمن، وكذا على بابل وعمان والبحرين، ولم ينس الإخباريون أن يتحدثوا عن حكمته وشعره، بل إن البعض منهم قد ذهب به الخيال إلى الحد الذي رأى في أهل التبت، وكأنهم بقية من جنود شمر يهرعش، فزيهم زي العرب، وأخلاقهم أخلاق العرب، وهم معترفون بأنهم من العرب ثم من اليمن4.   1 وهب بن منبه المرجع السابق ص223، أخبار عبيد بن شريه ص429، البكري 3/ 754-755، ياقوت 3/ 247، قارن: ملوك وأقيال اليمن ص93-94. 2 يروى الأخباريون أنه سمي "يرعش" بسبب ارتعاش مسه من شرب الخمر، أو لأنه أصابه الفالج في آخر عمره فكان يرتعش منه، أو لأنه كان "يرعش" "بضم الياء وكسر العين" كل من رآه هيبة "انظر: وهب بن منبه: المرجع السابق ص220، ملوك حمير وأقيال اليمن ص93". 3 ياقوت 3/ 247، تاريخ ابن خلدون 2/ 52، وهب بن منبه: المرجع السابق ص222-236، ملوك حمير وأقيال اليمن ص94-95. 4 نشوان الحميري المرجع السابق ص93، وهب بن منبه، المرجع السابق ص، الإكليل ص211. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 وبدهي أن كل هذا من اختراع، "ابن منبه" ومن نحا نحوه من الأخباريين، فليس في آثار اليمن نفسها -والتي ترجع إلى عهد شمر يهرعش- ما يدل على ذلك، كما أن الأمم الأخرى التي تحدث عنها الإخباريون، وكأنها قد خضعت له، لم يعرف تاريخها حتى اسم "شمر يهرعش" هذا، بل إن النصوص لتشير إلى أن "امرأ القيس بن عمرو" ملك الحيرة، قد هدد "شمر يهرعش في دولته ذاتها، حتى أن قواته قد وصلت إلى نجران، كما سوف نشير فيما بعد، ومع ذلك فربما كانت هذه الروايات عن فتوحاته في المشرق والمغرب، إنما هي تعبير عن أصداء فتوحاته في اليمن في سبيل توحيدها تحت سلطانه1. وعلى أي حال، فالرجل عظيم ما في ذلك من شك، وأنه أدى دورًا من أهم الأدوار في تاريخ اليمن القديم، ما في ذلك من شك كذلك، وأن الأحداث التي ترجع إلى أيامه، إنما تدل بوضوح على أنه كان كذلك، ولعل من الأفضل لنا أن نقسمها إلى قسمين، الواحد: يتصل بالفترة التي كان يلقب فيها بلقب "ملك سبأ وذي ريدان"، والآخر: يرجع إلى تلك الفترة التي حمل فيها لقب "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنات". وهناك من الفترة الأولى نقش عرف بـ "جلازر 542"ويتصل بالتشريعات الخاصة بأهل مأرب ومجاوراتها، فيما يتصل ببيع المواشي والرقيق، فلقد حددت تلك التشريعات فترة شهر يصبح بعدها البيع نهائيًّا، كما حددت كذلك فترة تتراوح ما بين عشرة أيام وعشرين يومًا يجوز فيها رد المبيع للبائع، فإن هلك الحيوان بعد أيام سبعة من شرائه، وجب على المشتري دفع ثمنه كاملا2. ويشير نص "شرف الدين 42" أن واحدًا من قواد "شمر يهرعش" "لعله ريمان ذو حزفر"، قد غزا مناطق على ساحل الخليج العربي كانت تخضع وقت ذاك لفارس، وأعني بذلك قبائل تنخ أو تنوخ في الإحساء الحالية، وقطو، أي القطيف   1 سعد زغلول عبد الحميد: المرجع السابق ص196. 2 جواد علي 2/ 540-541، وكذا J.B. Philby, Op. Cit., P.110 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 في الوقت الحاضر1، إلا أن مكتشف النص- الزميل الأستاذ أحمد حسين شرف الدين- يذهب إلى أن الملك "شمر يهرعش" نفسه، هو الذي قاد جيشه إلى الشمال، فعبر بلاد الأزد، واجتمع مع ملكها "مالك بن الكلاع"، ثم سار إلى الشمال حتى بلغ "قط وصف" و"كوك" حاضرتي مملكة فارس وأرض تنوخ2، وفي هذا الوقت كان "أذينه" ملك تدمر، يقوم بحملاته ضد "سابور الأول" 241-272م" ملك فارس، وحاصر المدائن "طيسفون" التي أشير إليها في النص الآنف الذكر باسم "قط وصف"، ومن ثم فربما استعان "أذينة" -الموالي للروم- بالملك "شمر يهرعش" في محاربة الفرس الذين تغلبوا على الروم في معركة "اديسا" عام 260م3. وعلى أي حال، فإننا نستطيع أن نستنتج من النص عدة نتائج، منها "أولًا" أن شمر يهرعش يجب أن يكون -طبقًا لرواية الأستاذ شرف الدين- قد بدأ حكمه قبل عام 260م4، ومنها "ثانيًا" أنه لابد وأن يكون على علاقات طيبة بأعراب "نجد" -وبخاصة سادة كندة- ذلك لأن أعراب نجد هؤلاء كانوا يقيمون وقت ذاك في الخرج والأفلاج، كما أن الأخيرة كانت تعد من مواطن كندة منذ أيام "شعر أوتر" في حوالي عام 180م، وحتى أيام "الشرح يحصب" الثاني في حوالي عام 210م -طبقًا لتقدير فون فيسمان- كما أن "بليني" قد تحدث عن "آل ثور في عين الجبل"، و"آل ثور" هم "كندة فيما يرى الأخباريون5، ومنها "ثالثًا" لعل هذه الأحداث ربما كانت هي السبب في أن الروايات العربية ذهبت إلى أن الرجل قد غزا فارس، وإن كانت هذه الروايات قد بالغت بدرجة غير مقبولة، حتى غدت أقرب إلى القصص منها إلى حقائق التاريخ، بخاصة وأن هناك من يعتبر الحملة إنما كانت مهمة سياسية أكثر منها حربية6.   1 Le Museon, 1964, 3-4, P.487. وكذا Le Museon, 1967, 3-4, P.505, 508 2 A.H. Sharafaddin, Selscted Arabic Inscriptions, P.31 3 أحمد حسين شرف الدين: اللغة العربية في عصور ما قبل الإسلام ص43. 4 نفس المرجع السابق ص44-45. 5 Le Museon, 1964, 3-4, P.487-88. وكذا Pliny, Vi, 158 6 مظهر علي الإرياني: المرجع السابق ص91. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 وأيًّا ما كان الأمر، فإننا نقرأ في نقش "Cih 407" عن حرب شنها "شمر يهرعش" على قبائل تهامة في غربي اليمن، والتي شملت عسير وصبية -بين بيش ووادي سهام -وأن جيوش الملك الحميري قد انتصرت على هذه القبائل برًّا، ثم سرعان ما طاردتهم في البحر، حيث أوقعت بهم خسائر فادحة، وربما كان ذلك يشير إلى أن أولئك المهزومين إنما كانوا من الأحباش الذين كانوا يحكمون ساحل تهامة، وأن المعركة إنما دارت في البحر الأحمر1، وأن "شمر يهرعش" قد استعان بقبيلة "سردود" في قتالهم، وأن هذه المعارك ربما كانت السبب في تدخل الأكسوميين مرة أخرى في شئون العربية الجنوبية، كما يفهم من دراسة النقود، وإن كانت النقوش لا تقدم لنا عونًا في تفهم الأحداث وقت ذاك2، وأخيرًا فهناك نصوص أخرى، ومنها "جام 649-951-953"، تشير إلى حروب انتصر فيها "شمر يهرعش" على المناوئين لحكمه3. وفي النصف الثاني من عهد "شمر يهرعش" نرى أن الملك الحميري يطلق على نفسه لقب "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنات"، ويدل هذا اللقب الجديد على أن "شمر يهرعش" قد استولى على حضرموت، أو على الأقل على الجزء الأكبر منها4، أما يمنات -فكما أشرنا من قبل- ربما كانت اسمًا عامًا أطلق على السواحل الجنوبية5، وربما كانت الأرضون التي تكون القسم الجنوبي من مملكة حضرموت، ويعتمد "فون فيسمان" -في رأيه هذا- على وجود عاصمتين لحضرموت وقت ذاك، الواحدة "شبوة"، والأخرى "ميفعة"، مما يدل على انقسام الدولة إلى قسمين، شمالي ويدعى حضرموت، وجنوبي ويدعى "يمنات" "اليمن"6. هذا وقد حكم "شمر يهرعش" في الفترة" 270-310م"7، وإن كان   1 H. Von Wissmann And M. Hofner, Op. Cit., P.119 وكذا Ra, Xxxv, 1899, P.25 وكذا A. Jamme, Op. Cit., P.369 وكذا Le Museon, 1964, 3-4, P.485. وكذا Rep, Epig, 189, I, Iii, P.150 2 عبد المجيد عابدين: المرجع السابق ص32-33. 3 A. Jamme, Op. Cit., P.151-160, 369 وكذا: جواد علي 2/ 542-547. 4 عبد المجيد عابدين: المرجع السابق ص32، وكذا Le Museon, 1964, 3-4, P.485 5 P.K. Hitti, Op. Cit., P.60 6 Le Museon, 1964, 3-4, P.485 7 فؤاد حسنين: المرجع السابق ص395. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 "فون فيسمان" يذهب إلى أن النصف الثاني من عهده، إنما كان في الفترة "285-291"، أو في الفترة "310-316م"، وأنه كان يعاصر "امرأ القيس بن عمرو" ملك الحيرة "288-328م" وصاحب نقش النمارة1، والذي أخضع عدة قبائل منها "مذحج ومعد وأسد ونزار"، حتى وصل إلى نجران2. ولعل من الأفضل هنا أن نعود إلى النص نفسه، حيث نقرأ "تي نفس مر القيس بر عمرو ملك العرب كله ذو أسر التج، وملك الأسدين ونزار وملوكهم، وهرب محجو عكدي وجا بزجي في حبج نجرن مدينت شمر، وملك معدو، وبين بنيه الشعوب، ووكلهن فرسو لروم، فلم يبلغ ملك مبلغه، عكدي هلك سنت 223 يوم 7 بكسلول، بلسعد ذو ولده". وترجمته إلى لغة مفهومة قد تكون على النحو التالي: "هذا جسمان امرئ القيس بن عمرو ملك العرب جميعًا، الذي عقد التاج وملك قبيلتي أسد ونزار وملوكهم، وصد بني محج؟ حتى اليوم، وجاء بنجاح إلى حصار نجران عاصمة شمر، وملك قبيلة معد، وقسم على أبنائه الشعوب، وجعلها فرسانًا للروم، فلم يبلغ ملك مبلغه حتى اليوم، ومات سنة223، يوم 7 من شهر كسلول، السعادة لأولاده"3. ومن أسف أن النص لا يشير إلى بقية "اسم "شمر" صاحب مدينة نجران، لنعرف من كان "شمر" هذا، وإن كان قد أشار إلى أن قتالا دار حول نجران بين قوات امرئ القيس وقوات شمر، وأن النصر كان من نصيب الأولين، فإذا كان صحيحًا ما ذهب إليه "فون فيسمان" من أن "شمر يهرعش" كان يعاصر امرئ القيس ملك الحيرة، فإن هذا يعني -فيما يرى الدكتور جواد علي- أن بلاد العرب   1 نقش النمارة: اكتشف هذا النقش "رينيه ديسو وفردريك ماكلر" عام 1901م، على مبعدة كيلو متر واحد من النمارة، القائمة على أنقاض مخفر روماني شرقي جبل الدروز، وهو في خمسة أسطر محفورة على حجر من البازلت على قبر امرئ القيس المتوفى في 7 ديسمبر 328م، وموجودة الآن بمتحف اللوفر في باريس، وواضح أن كاتبه نبطي، فالخط المستعمل هو الخط النبطي، واللغة العربية المستعملة تعرضت هي أيضًا لتحريفات نبطية. 2 جواد علي 2/ 548، وكذا Le Museon, 1964, 3-4, P.456, 486 وكذا F. Altheim, Geschichte Der Hunnen, I, 1959, P.127 وكذا Rep, Epig, 483 3 حسن ظاظا: المرجع السابق ص165-166. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 كانت في أوائل القرن الرابع الميلادي ميدانًا للتسابق بين هذين الرجلين القويين، وأن العرب قد انقسموا إلى حزبين: عرب شماليين، وعرب جنوبيين، وأن امرأ القيس، كان قد توغل في بلاد العرب حتى بلغ نجران، وأعالي العربية الجنوبية، وأخضع القبائل العربية المذكورة في النص، التي يرى النسابون أنها قبائل عدنانية في غالبيتها، وأن وصول امرئ القيس إلى حدود العربية الجنوبية من ناحية الشمال، قد جعله وجهًا لوجه أمام "شمر يهرعش"، ومن ثم فقد بدأ النزاع بين الرجلين1. وعلى أي حال، فليس بعيدًا أن يحدث صدام بين امرئ القيس وشمر يهرعش، أو بأي ملك آخر يملك نجران، ما دام الأول قد حكم قبائل معد التي تسكن الحجاز ونجد، وتتصل منازلها بتخوم نجران، وقد خضعت معد لنفوذ الحيرة، لأن نص شمعون من "بيت رشام" يذكر الأعراب الشماليين والمعديين في معسكر المنذر الثالث ملك الحيرة، والأمر كذلك بالنسبة إلى نص "مريغان"2. هذا وقد استدل بعض الباحثين من نص "ريكمانز 535" أن "مر القيس بن عمرو ملك خصصتين" إنما هو "امرؤ القيس البدء" ملك الحيرة، كما أن هناك من يرى أن "شمر ذي ريدان" المذكور في النص، إنما هو "شمر يهرعش"، اعتمادًا على ورود الاسمين "شمر ذي ريدان، وشمر يهرعش" في وثيقتين مدونتين في معبد الإله المقة بأوام في مأرب، ومؤرختين بسنتي "تبع كرب بن ودد إل بن حزفر"، الثالثة والسادسة، ومن ثم فإن "مالك" ملك كندة كان معاصرًا لكل من امرئ القيس وشمر يهرعش3، وبالتالي فإن هذه النتائج تتعارض وما ذهب إليه الأستاذ "شرف الدين" من أن "شمر يهرعش" قد حكم قبل عام 260م، وأنه ساعد "أذينة" ملك تدمر في حروبه ضد الفرس4- كما أشرنا من قبل- وأيًّا ما كان الأمر، فإننا لا نملك دليلا على أن حربًا دارت رحاها بين امرئ القيس ملك الحيرة، وشمر يهرعش، غير أن نص "جام 658"، فيما يرى البعض،   1 جواد علي 2/ 549، وكذا Oriens Antiques, Iii, 1964, P.81, 2 جواد علي 2/ 549، وكذا F. Altheim And R. Stiehl, Op. Cit., Ii, P.321 3 J. Pirenne, Op. Cit., P.30, 166, 168 وكذا Le Museon, 69, 1956, P.139 وكذا A. Altheim And R. Stiehl, Op. Cit, I, P.322, Iv, P.272 وكذا جواد علي 2/ 549-550، مظهر علي الإرياني: المرجع السابق ص95-96. 4 أحمد حسين شرف الدين: المرجع السابق ص44-45. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 إنما يشير إلى حرب بين الرجلين دارت رحاها في "وادي عتود"1، هذا ورغم أننا لا نعرف كذلك كيف استطاع "شمر يهرعش" ضم حضرموت إلى سبأ؟ فإن هناك من يرى أن ذلك قد تم في القرن الرابع الميلادي، وقبل استيلاء الحبشة على العربية -للمرة الأولى-2 بزمن قصير، كما أن نقش "جام 656" قد أشار إلى حرب استعر أوارها بين حضرموت، و"شمر يهرعش" في "وادي السر" "سررن" -على مبعدة سبعة كيلو مترات من وادي شبام- وأن شمر يهرعش قد لقب في هذا النص بلقب "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنات"، وأن نص "جام 662" يشير إلى أن "شبوه" كانت تحت سيادة سبأ، وأن الملك السبئي قد عين عليها حاكمًا من أشراف سبأ، وأن نص "Cih 948" يشير إلى انتصار "شمر يهرعش" على "شرح إيل" ملك حضرموت، كما أن اسم "شمر يهرعش" جاء في النص شمر يرعش، كما يكتبه الأخباريون3. ويختلف المؤرخون فيمن خلف "شمر يهرعش"، فذهب "فلبي" إلى أنه "يرم يهرحب" وأنه حكم حوالي عام 310م، وربما كان ابنًا له4، وأما "فون فيسمان" فالرأي عنده أنه ولده "ياسر يهنعم"، ولقبه بالثالث، تمييزًا له عن جده، وعن "ياسر يهنعم" الأول، الذي عاش قبله بفترة5، هذا ويذهب "ريكمانز" أن "ياسر يهنعم، ولقبه بالثالث، تمييزًا له عن جده، وعن "ياسر يهنعم" هذا لم يكن ابنًا لشمر يهرعش، وإنما كان أخوه، وأنهما قد حكما معا حكمًا مشتركا، ثم انفرد "شمر يهرعش" بالعرش، وعند وفاته عاد العرش مرة ثانية إلى أبيه، فأشرك معه ابنه الآخر "ثران أيفع"، ثم ابنه الثالث "ذرأ أمر أيمن"، ويعارض "فون فيسمان" هذا الاتجاه فهو أمر لم يسبق له مثيل "أولًا"، ولأن "ياسر يهنعم" يكون قد عاش فترة طويلة، "ثانيًا"6, وعلى أي حال، فلقد رأى "فون فيسمان" أن "ياسر يهنعم" وابنه "ثاران أيفع"   1 Le Museon, 1964, 3-4, P.486-7 2 يرى "ريكمانز أن ذلك كان في الفترة ما بين عامي 335-370م. "انظر: "J. Ryckmans, Op. Cit., P.338 3 جواد علي 2/ 553-555، وكذا A. Jamme, Op. Cit., P.96, 163, 372-3, 4 J. Philpy, Op. Cit., P.143 5 Le Museon, 1964, 3-4, P.489 6 Le Museon, 1964, 3-4, P.489, 498 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 قد حكما في الفترة من "310-320م" ثم خلفهما "ثاون يركب" "320-330م"، وأما "ألبرت جام" فقد ذهب إلى ما ذهب إليه "ريكمانز" من قبل، مع قليل من التغيير في الفترة التي تلت موت "شمر يهرعش"، وتقديم فترة اشتراك حكم "ذرأ أمر أيمن" مع أبيه، على فترة اشتراك أخيه "ثاران أيفع" مع أبيه كذلك، وأن الفترة الأولى كانت "305-320م" وأن الثانية كانت "320-325م"1. ونقرأ في نقش "جام 665" عن حرب خاض غمارها أعراب من سبأ ومن كندة، فضلا عن أشراف من "أبعل" و"نشق" و"نشان"، بأمر من الملكين "ذرأ أمر أيمن" وأبيه "ياسر يهنعم"- اللذين جاء اسم كل منهما في النقش -في أرض حضرموت، وقد اشترك معهم 750 من راكبي الجمال، وسبعون من الفرسان، فضلا عن المشاة، وقد تمكن قائد الحملة "سعد تالب" من إحراز النصر في عدة مواقع -في أرك ودهر ورخيت وأعين خرص2- وربما تشير هذه الحروب إلى انفصال حضرموت وسهرت "سهرتن" عن سبأ، هذا وقد استعان الجيش، كذلك السيطرة على سواحل جنوب غرب الجزيرة العربية، كما أن رؤساء القبائل قد انتهزوا فرصة الاضطرابات هذه فأقاموا حكومات إقطاعية، مما يدل على أن هذا العهد، إنما كان من عهود الضعف في حكومة "سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنات"3. وهذا ويذهب "ألبرت جام" إلى أن "كرب إيل وتار يهنعم" قد خلف "ثاران أيفع" وحكم في الفترة "325-330م"، ثم جاء بعده "ثاران يركب ""330-335م"، ثم "ذمار علي يهبر الثاني "335-34/" ثم "ثاران يهنعم" الذي تلاه "ملكيكرب يهأمن"، ثم "أب كرب أسعد و"ذرأ أمر أيمن"4. وأما "فون فيسمان" فقد وضع ذمار علي يهبر" بعد "ثاران يركب"، ثم عاد فوضع "ذمار علي يهبر" مع ابنه "ثاران يهنعم"، وحددها لهما فترة حكم مشترك   1 Le Museon, 1964, 3-4, P.498. وكذا A. Jamme, Op. Cit., P.392 2 جواد علي 2/ 559-561 وكذا Le Mueosn, 1964, 3-4, P.490 وكذا A. Jamme, Op. Cit., P.375. وكذا A. Sprenger, Op. Cit., P.189 ثم قارن: نقش الكهالي رقم 32 رقم ص164-169 من كتاب "في تاريخ اليمن" لمظهر الإرياني. 3 Le Museon, 1964, 3-4, P.490 4 A. Jamme, Op. Cit., P.393 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 "340-350م"، ثم "ثاران يهنعم" مع ابنه "ملكيكرب يهأمن"، ثم "ملكيكرب يهأمن"، مع ابنيه "أب كرب أسعد"و"ذرأ أمر أيمن"، ثم انفرد "أب كرب أسعد" مع ابنه "حسن يهأمن"، حوالي عام 400م1. ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن نصوص "جام 669، 670، 671"، هي آخر النصوص التي نقرأ فيها اسم الإله الموقاة، إله سبأ الكبير، وقد عثر عليها في معبده المعروف بـ "أوام" في مأرب، وترجع إلى أيام "ثاران يهنعم" وابنه "ملكيكرب يهأمن"2، وليس من شك في أن هذا إنما يشير إلى إعراض القوم منذ ذلك العهد -وبداية عصر الديانات السماوية، بل إن الملك "ملكيكرب يهأمن" قد تجاهل المقة ولم يتقرب إليه -كما كان يفعل أسلافه- وإنما بدأ يتقرب إلى الإله "ذي سموي" "رب السماء"، مما يدل على أن عقيدة التوحيد إنما بدأت تأخذ طريقها إلى ملوك سبأ، منذ اختفاء الآلهة الوثنية، أمام رب السموات، الأمر الذي لم يحدث فجأة، وإنما كان عبارة عن تطور يتصل بالمعبود الذي كان يقدس إلى جانب "تالب"، واسمه "ذو سماوي"، وكذا "الله" سيد السموات والأرض، ثم بعد ذلك سرعان ما يظهر "الرحمن" في صورة لا تعدلها تلك الصورة التي نجدها في اليهود المتأخرة3. وعلى أي حال، فهناك رواية تذهب إلى أن هذا التطور الخطير في الديانة، إنما حدث منذ أيام "ثاران يهنعم" اعتمادًا على رواية "Phiiostorgios" التي ذهب فيها إلى أن "ثيوفيلوس" قد نجح في تنصير الحميريين، وبناء كنائس في ظفار وعدن، وأن الإمبرطور البيزنطي "قسطنطين الثاني" "350-361م" هو الذي أرسل الرسل إلى اليمن للدعوة إلى النصرانية، ومن ثم فإن "ثاران يهنعم" -طبقًا لهذه الرواية- هو الذي هجر دينه الوثني واعتنق النصرانية4، اعتمادًا على أن   1 Le Museon, 1964, 3-4, P.498 2 Ibid., P.451 3 فريتز هومل: المرجع السابق ص108، جواد علي 2/ 567. 4 جواد علي 2/ 567-568. وكذا Le Museon, 1964, 3-4, P.492 وكذا J. Ryckmans, Op. Cit., P.22 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 الكتابة التي جاء فيها اسم الإله "ذي سموي"، والتي عثر عليها خارج "ظفار"، إنما ترجع إلى عهد قريب من عهد "ثاران يهنعم"، أي إلى حوالي عام 378، أو عام 384، وبعبارة أخرى إلى عهد ابنه "ملكيكرب يهأمن"، وقد جاء فيها اسم ولديه "أب كرب أسعد"و"ذرأ أمر أيمن" كشريكين له في العرش1. وعلى أي حال، فهناك من يذهب إلى أن "ثيوفيلوس" لم يكتب له نجحا يستحق التقدير في مهمته في اليمن بسبب تدخل الفرس -أعداء الروم- في تلك الفترة في شئون اليمن، وتحريضهم اليمنيين على مقاومة نفوذ الرومان في بلادهم2. ولعل من الأهمية بمكان الإشارة هنا إلى أن "سد مأرب" قد أصابه تصدع أدى إلى سقوط أجزاء منه، وأن المكان "ثاران يهنعم" قد قام بإصلاحه، وإعادته إلى حالته الأولى3. هذا ونشير كذلك إلى أن اسم "ملكيكرب يهأمن" قد جاء محرفًا في المصادر العربية، فهو عند "حمزة الأصفهاني" "كلي كرب بن تبع" وقد حكم 35 عامًا4، وهو عند "ابن جرير" "ملكي كرب تبع بن زيد بن عمرو بن تبع"5، وهو عند القلقشندي "كليكرب بن تبع الأقرن"، وقد حكم ثلاثًا وخمسين سنة أو ثلاثًا وستين سنة، بعد "شمر مرعش" "شمر يهرعش" وأن اسمه "زيد بن شمر"، وقد عرف بالأقرن لشامة كانت في قرنه6، وهو عند ابن الأثير "ملكيكرب تبع زيد بن عمرو بن تبع"7، وهو عند المسعودي، "كليكرب بن تبع"8، وهو عند اليعقوبي "ملكيكرب بن تبع"9، وهو عند نشوان الحميري "ملكي كرب" وهو الرائد بن تبع الأقرن بن شمر يرعش10.   1 Le Museon, 1950, 3-4, P.270, 1964, 3-4, P.492 2 عبد المجيد عابدين: المرجع السابق ص39. 3 جواد علي 2/ 568. وكذا Jamme 671. وكذا Le Museon, 1964, 3-4, P.491, 498 4 حمزة الأصفهاني: المرجع السابق ص85. 5 تاريخ الطبري 2/ 566-567. 6 صبح الأعشي 5/ 23. 7 ابن الأثير 1/ 276، الاشتقاق 2/ 532. 8 مروج الذهب 2/ 50. 9 تاريخ اليعقوبي 1/ 196. 10 ملوك حمير وأقيال اليمن ص117-118. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 وأيًّا ما كان الأمر، فلقد جاء بعد "ملكيكرب يهأمن" هذا، ولده "أب كرب اسعد" وربما كان هو "أسعد كامل تبع" الذي يروي الإخباريون أنه أول من تهود من التبابعة، ثم نشر اليهودية بين اليمنيين في قصة طريفة، يذهبون فيها إلى أنه كان قد قدم المدينة المنورة غازيا بعد عودته من المشرق، ربما لأن القوم قد قتلوا ولده الذي كان قد خلفه فيهم وهو في طريقه إلى المشرق، وربما لأن رجلا من بني عدي ابن النجار عدا على رجل من أصحابه فقتله، وربما لأنه جاء لنصرة الأوس والخزرج من أبناء عمومته على اليهود، وهنا جاءه "حبران من يهود بني قريظة" ينهيانه عن تدمير المدينة، لأنها سوف تكون مهاجر نبي سوف يخرج من قريش -دعوه أحمدا مرة، ومحمدا مرة أخرى- وهكذا صرف الحبران تبعا عن تدمير المدينة، فضلا عن إيمانه بدينهما، وقوله شعرًا في النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- متمنيا فيه أن يعيش حتى يراه، فيكون له وزيرا وابن عم، فضلا عن القتال إلى جانبه، لأنه كان على علم بما سيلاقيه الرسول -عليه الصلاة والسلام- من قومه من أذى، ثم أودع هذا الشعر عند أهل يثرب ودفعه إلى كبيرهم، وأن القوم كانوا يتوارثونه كابرا عن كابر إلى عهد النبوة1. ويتجه "أب كرب أسعد" صوب مكة في طريقه إلى اليمن، حتى إذا ما كان بين "عسفان" و"أمج" أتاه نفر من "هذيل" يغرونه بسلب البيت الحرام، ويستفتي "تبع" أحبار يهود فيصدقونه النصح قائلين: "ما نعلم بيتًا لله عَزَّ وَجَلَّ اتخذه في الأرض لنفسه غيره"، ومن ثم فإنه إن سلبه كان هلاكه فيه، ويعلم الرجل أن الصدق ما نصحا به الحيران اليهوديان، فينتقم من هذيل، ثم يمضي إلى مكة فيطوف بالبيت وينحر الذبائح، ثم يقيم بمكة ستة أيام، يرى أثناءها -فيما يرى النائم- وكأنه يكسو البيت الحرام، وتتكرر الرؤيا ثلاث ليال، ويفعل "تبع" ما أمر به في منامه، ومن ثم يصبح أول من كسا البيت، ثم يعود إلى اليمن فتتكرر قصة تهوده   1 الأزرقي 1/ 132-134، ابن كثير: البداية والنهاية 2/ 163-164، تفسير ابن كثير 4/ 142، تاريخ الطبري 2/ 105-106، بلوغ الأرب 2/ 107، 240-241، ابن هشام 1/ 25-27، وفاء الوفا 1/ 121، ملوك حمير وأقيال اليمن ص122-123، أخبار عبيد بن شريه ص460، مروج الذهب 1/ 82، تاريخ ابن خلدون 2/ 53، تاريخ اليعقوبي 1/ 197-198، تفسير القرطبي 16/ 145. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 مرة ثانية، وهنا يروي الأخباريون حديثا نسبوه -عن طريق أبي هريرة- إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يقول فيه: "لا تسبوا أسعد الحميري، فإنه أول من كسا الكعبة"1، ثم وصفوه بعد ذلك بأنه كان ملكًا عظيمًا، شاعرا فصيحًا، عارفا بالنجوم، وهو أحد المعمرين، عمر ثلاثمائة وإحدى وخمسين سنة، وكان ملكه ثلاثمائة وستة وعشرين سنة، وكان مؤمنا بالله2. وليس من شك في أن رواء هذا القصص، وغيره من أساطير تمتلئ بها الكتب العربية، كعب الأحبار ووهب بن منبه، وغيرهما من مسلمة أهل الكتاب، وهنا لعل سائلا يتساءل: أكان "تبع" هذا يقول الشعر بلغة قريش، ونحن نعرف -من دراستنا للنصوص القديمة- أنها تختلف كثيرًا عن لغة حمير، حتى ذهب الأمر بعلماء العربية في الإسلام إلى إخراج الحميرية واللهجات العربية الأخرى من العربية، التي جعلوها مقصورة على العربية التي نزل بها القرآن الكريم، وحتى قال بعضهم: "ما لسان حمير وأقاصي اليمن بلساننا ولا عربيتهم بعربيتنا3. ثم كيف عرف الحبران اليهوديان أن هناك نبيا سوف يبعث من قريش، ومبلغ علمي أن التوراة -وكذا التلمود- لم يرد فيهما نص صريح بذلك، صحيح أن هناك نصوصًا تشير إلى مبعث نبي من العرب، وأن الإرهاصات بمولد المصطفى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كثيرة، وأن البشارات بمولد النبي الاعظم -عليه الصلاة والسلام- أكثر من أن تحصى، بل إن كان ما في بلاد العرب يكاد يشير بالتغيير المنتظر، على يد رسول الله وخاتم النبيين -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ- ولكن صحيح كذلك أنها لم تشر إلى أنه من قريش بالذات، وأنه سوف يهاجر إلى المدينة كذلك   1 ابن كثير 2/ 164-167، تاريخ الطبري 2/ 107-111، تفسير الطبري 27/ 154، تفسير الخازن 4/ 115، 175، تفسير القرطبي 16/ 145، تاريخ اليعقوبي 1/ 198، ابن هشام 1/ 27-30، العقد الثمين 1/ 71، وفاء الوفا 1/ 134، تاريخ ابن خلدون 2/ 53-54، الأزرقي 1/ 249، تفسير الطبرسي 25/ 66، ملوك حمير وأقيال اليمن ص134-135، الفتح الكبير للنبهاني 3/ 324، ثم قارنك المعارف ص275-276، مروج الذهب 2/ 51، تفسير الطبري 25/ 128-129، تفسير البيضاوي 2/ 376-377، وصايا الملوك ليحيى الوشاء ص30. 2 ملوك حمير وأقيال اليمن ص122. 3 محمد بن سلام الحجمي: طبقات فحول الشعراء ص4 وما بعدها وكذا Igance Goldziher, History Of Classical Arabic Literature, P.2 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 بالذات، وأما نص التوراة الذي تحدث عن البشارة بمبعث نبي من العرب، فهو "أقيم لهم نبيًّا من وسط إخوتهم مثلك، وأجعل كلامي في فمه، فيكلمهم بكل ما أوصيه به، ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي، أنا أطالبه"1. ثم أليس من المضحك المبكي، أن يكون اليهود أشد حرصًا على الحفاظ على الكعبة، وأكثر توقيرًا لها، من العرب أنفسهم، بل ألا يتأنى هؤلاء الرواة حين يجعلون من اليهود بالذات، هداة ملوك العرب إلى مكانة الكعبة المشرفة بالذات كذلك، وأن يصرحوا -كما يزعم هؤلاء الرواة- أن الله لم يتخذ له بيتًا في الأرض غيرها، فإذا كان ذلك كذلك، فلم لم يحج اليهود إليها، كما كان يفعل العرب؟ ثم ما هو موقف اليهود بالنسبة إلى هيكلهم المشهور بهيكل سليمان2، والذي يزعمون له ما يزعمون من قداسة، ما بعدها قداسة؟. ثم من أين عرف "تبع" هذا، أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سوف يسمى "أحمدا" كما جاء في الشعر المنسوب إليه؟ بل إنه يسميه كذلك "المصطفى"3، على أن رواية ثالثة تسميه "محمدا"4، ومبلغ علمي أن ذلك لم يرد في نص من النصوص العربية -التي سبقت عصر الرجل أو عاصرته- وإنما جاء ذلك في الإنجيل، كما قال سبحانه وتعالى في القرآن الكريم -على لسان المسيح عليه السلام: {يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} 5.   1 انظر: سفر التثنية 18: 15-19، سفر أشعياء 42: 1-13، إبراهيم خليل أحمد: محمد في التوراة والإنجيل والقرآن "مكتبة الوعي العربي، القاهرة 1964" محمد رضا: محمد رسول الله، بيروت 1975 ص45 وما بعدها، عماد الدين خليل: دراسة في السيرة، جامعة الموصل، بيروت 1974 ص319 وما بعدها. 2 انظر عن: هيكل سليمان: كتابنا إسرائيل ص464-371. 3 ملوك حمير وأقيال اليمن ص122، قارن: وصايا الملوك ليحيى الوشاه ص30. 4 السمهودي: وفاء الوفا 1/ 133. 5 سورة الصف: آية6، وانظر: تفسير الطبري 28/ 87، تفسير الطبرسي 28/ 60-62، تفسير الكشاف 4/ 98-99، تفسير البيضاوي 2/ 473-474، تفسير روح المعاني 28/ 85-87، تفسير ابن كثير 6/ 646-648، "دار الأندلس"، تفسير القرطبي 18/ 83-8، تفسير أبي السعود 5/ 161، تفسير الجلالين "نسخة على هامش البيضاوي 2/ 473-474، الدر المنثور في التفسير بالمأثور 6/ 213-214. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 ثم كيف آمن "تبع" برسول الإسلام الأعظم -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قبل مبعثه بنحو من سبعمائة عام- كما يروي الأخباريون1- ألمجرد أن الحبرين اليهوديين قد أخبراه أن يثرب سوف تكون مهاجرًا لنبي يخرج من قريش؟ لا أظن أن ذلك سببًا كافيًا لإيمانه بنبي كان حتى تلك اللحظة ما يزال في ضمير الغيب، أضف إلى ذلك أن الفترة بين عهد "أب كرب أسعد" وبين مبعث المصطفى، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ليست سبعة قرون بحال من الأحوال، فإذا كان الرجل قد مات في حوالي عام 415م- أو عام 420م، أو حتى عام 430م- كما سوف نرى، وإذا كان الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قد انتقل إلى الرفيق الأعلى في يونية 632م2، فإن الفرق بين وفاتهما لا تصل إلى أكثر من قرنين من الزمان. ومن ثم فأكبر الظن، أن هناك -بجانب الإسرائيليات في هذه الروايات -هدفًا من ورائها، يقصد منه رفع شأن القحطانيين إبان النزاع السياسي بينهم وبين العدنانيين، ومن ثم فإن هذه الروايات جد حريصة على أن تقدم لنا "تبعًا" وقومه في صورة أفضل من صورة العدنايين بصفة عامة، والقرشيين بصفة خاصة، فهم -أي القحطانيين- كانوا "أولًا" أول من قال الشعر في مدح المصطفى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فعل ذلك سبأ، كما أشرنا من قبل، ويفعله الآن "تبان أب كرب أسعد" وهم "ثانيًا" كانوا على علم باسم المصطفى -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ- وبعثته، بينما لم يكن العدنانيون يعرفون ذلك حتى ظهور الإسلام، وهم "ثالثًا" قوم مؤمنون، كسوا البيت وعمروه أكثر من مرة، قد قدروا مكانته قبل ظهور الإسلام بقرون، حتى إن كان اليهود هداتهم إلى ذلك.   1 تفسير ابن كثير 4/ 144. 2 أرجح الآراء فيما نظن، أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد ولد في 9 ربيع الأول" 20 أبريل 571/" وانتقل إلى الرفيق الأعلى في 12 أو 13 ربيع الأول عام 11هـ "7 أو 8 يونية 632م" "انظر: محمود باشا الفلكي: التقويم العربي قبل الإسلام ص38، محمد عبد الله دراز: مدخل إلى القرآن الكريم ص22، 31، 32، عبد المنعم ماجد: المرجع السابق ص95-96، تاريخ الطبري 2/ 154-155، ابن الأثير 1/ 457-358، ابن كثير البداية والنهاية 2/ 261-262 وكذا Caussin De Perceval, Essi Sur L'histoire Des Arabes, I, P.286f وكذا P. Lammens, Age De Mohammad, P.209f وكذا R. Blachere, La Probleme De Mohamet, P.15 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 وأخيرًا فإن هذا الإلحاح على أن التبابعة قوم مؤمنون بالله وبرسالة محمد، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم الإلحاح على عدم جواز سبهم، إنما قد يدل على أن هناك من كان يسب التبابعة ويلعنهم، وربما كان هذا السب وذلك اللعن، لم يكن موجها بالذات إلى التبابعة، وإنما كان موجها إلى اليمنيين بخاصة، والقحطانيين بعامة، ومن هنا كان هذا الإلحاح على عدم السب، بل ربما قد وضعت -فيما يرى الدكتور جواد علي- هذه الأحاديث على لسان النبي -عليه الصلاة والسلام- للرد على هذه الحملة العدنانية ضد القحطانيين1، أضف إلى ذلك أن هذا الإلحاج ربما كان الهدف منه كذلك، إلقاء ظلال من شك على رواية تاريخية تذهب إلى أن "حسان بن عبد كلال" قد أقبل بجيش من اليمن يزيد نقل حجارة الكعبة الشريفية من مكة إلى اليمن، غير أن حملته هذه انتهت بالفشل2 -كما سوف نشير فيما بعد- فضلا عن حملة أبرهة على مكة، والتي شاركت فيها بعض البطون اليمنية. وأيًّا ما كان الأمر، فإن المصادر العربية إنما تذهب إلى أن "أب كرب أسعد" قد خرج من اليمن حتى وصل إلى جبلي طيئ فسار يريد الأنبار، فلما انتهى إلى موضع الحيرة تحير وكان الوقت ليلا فأقام مكانه، فسمي ذلك المكان بالحيرة، وخلف به قومًا من الأزد ولخم وجذام وعاملة وقضاعة، فبنوا وأقاموا به، ثم انتقل إليهم بعد ذلك ناس من طيئ وكلب والسكون وبلحرث بن كعب وإياد، ثم توجه إلى الموصل، ثم إلى أذربيجان، فلقي الترك فهزمهم، ثم عاد إلى اليمن، فهابته الملوك وأهدوا إليه، ومنها هدايا من الهند التي علم أنها من الصين، ومن ثم فقد غزاها3. وليس من شك في أن "أبا كرب أسعد" قد كتب له نجحا كبيرًا في توسيع ملكه، وأنه قد بلغ البحر الأحمر والمحيط الهندي، والأقسام الجنوبية من نجد، وربما كان قد استولى على جزء كبير من الحجاز، ومن ثم فإن في روايات الأخباريين عن فتوحاته أساسًا من الصحة4، إلا أن عنصر المبالغة فيها إنما قد أفسدها إلى حد كبير، وإن كانت تدل في الوقت نفسه على قوة شخصيته، التي مكنته من إتمام هذه الفتوح، ومن السيطرة على الأعراب، وبالتالي فقد أضاف إلى لقبه "ملك سبأ وذي   1 جواد علي 2/ 515-516. 2 الإكليل 2/ 357-359، تاريخ الطبري 2/ 2626-263، جواد علي 2/ 585، 3 ابن الأثير 1/ 276-277، تاريخ الطبري 1/ 556-567، البكري 2/ 479. 4 جواد علي 2/ 575. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 ريدان وحضرموت ويمنات" جملة "وأعرابها في الجبال والتهائم"، وهكذا ترك الرجل أثرًا عميقًا في الأجيال القادمة، فأضافت إلى فتوحاته، ما شاء لها الخيال أن تضيف. وقد اختلف العلماء في فترة حكم "أب كرب أسعد"، فذهب فريق إلى أنها إنما كانت في الفترة "400-415 أو 420م"1، وذهب آخرون إلى أنها في الفترة "385-420م"2، على أن هناك فريقًا ثالثًا ذهب إلى إنها في الفترة "378-415م"3، ويتجه الدكتور جواد علي إلى أنها استمرت حتى عام "430"م4، ولعل السبب في ذلك أن نص "ريكمانز 534"، والذي جاء فيه ذكر "أب كرب أسعد" وستة من أولاده، إنما يرجع إلى عام 428م أو عام 434م5، وهذا يعني أن حكم "أب كرب أسعد" قد جاوز عام 428م، وربما عام 430م، فإذا ما تذكرنا أن الرجل قد ذكر مع والده في نص يرجع إلى عام 378، أو عام 384، فإن حكمه يكون عندئذ قد جاوز نصف القرن من الزمان، ولو افترضنا أنه كان شابًا في العشرين من عمره، فإن الرجل يكون قد عاش حوالي السبعين عامًا، وربما أكثر من ذلك بقليل6. هذا وقد أشرنا من قبل إلى أن "أبا كرب أسعد" قد أضاف إلى لقبه "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنات" جملة "وأعرابها في الجبال والتهائم"، فكان بذلك أول من حمل هذا اللقب7، ولعل السبب في ذلك إنما هو ظهور قوة الأعراب وأهميتهم، وبخاصة أعراب الهضاب وجنوب نجد وقبائل تهامة، ومن ثم فقد أصبح لهم تأثير في الشئون، الداخلية، ربما قد يصل إلى إحداث تغيير في التنظيم السياسي   1 J.B. Philby, Op. Cit., P.116, 143. وكذا D. Nielsen, Op. Cit., P.104 2 فريتز هومل: المرجع السابق ص108. 3 J.B. Philby, Note On The Last Kings Of Saba, In Le Museon, 1950, Lxiii, 3-4, P.269 4 جواد علي 2/ 571. 5 جواد علي 2/ 574. وكذا F. Altheim And R. Stiehl, Op. Cit., Iv, P.273 وكذا Le Museon, 1964, 3-4, P.492, 1955, P.308 6 Le Museon, 1964, 3-4, P.492 وكذا F. Altheim And R. Stiehl, Op. Cit., P.273 7 Le Museon, 1964, 3-4, P.492 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 نفسه، وهكذا أضاف "أب كرب أسعد" اسمهم إلى لقبه، دلالة على سيطرته عليهم وعلى خضوعهم له، وهو في هذا إنما يتبع سنة أسلافه في تغيير ألقابهم، كلما أخضعوا أرضًا جديدة، مضيفين إلى لقبهم ما يدل على الوضع الجديد1، ومن ثم فإن اللقب الجديد إنما يدل على أن حكم "أب كرب أسعد" قد امتد إلى التهائم -بأعرابها وقراها- وإلى قبائل "معد" التي تمتد منازلها من نجران إلى مكة ونجد2. وقد عثر "جون فلبي" في وادي مأسل الجمح -على الطريق بين مكة والرياض- على كتابة دونت بمناسبة إقامة حصن في هذا المكان، عرفت بـ "فلبي 227"3، وقد استطاع العلماء أن يستخلصوا منها نتائج عدة، منها "أولًا" أن هذا المكان من جملة الأرضين، التي تخضع للملك "أب كرب أسعد"، ومن ثم فإن نفوذه قد تجاوز اليمن حتى بلغ تلك المنطقة من "نجد"، والتي كانت تعد من منازل "معد"4. معقلا لقوات سبئية تحمي هذا الطريق، الذي يربط اليمن بنجد وبشرق الجزيرة العربية، من هجوم القبائل التي كانت تغير على قوافل التجارة5، ومنها "ثالثًا" أن الهمداني كان قد ذكر أن "ماسل الجمح" إنما كان من مواضع "نمير"، وهو اسم قريب من اسم قبيلة "Nomeritae" التي ذكرها بليني، ومن ثم فقد ذهب البعض إلى أن "مأسل الجمح" إنما كانت من مواضع "نمير" على أيام "بليني" "32-79م" وبعده6، ومنها "رابعًا" أن النص إنما يذكر أن اسم والد "أب كرب أسعد" إنما هو "حسان ملكيكرب يهأمن"، وليس "ملكيكرب يهأمن"، ومن ثم فقد تساءل البعض: هل نحن أمام ملك واحد، أم أمام ملكين مختلفين7؟   1 انظر: مثال لذلك من تاريخ مصر الفرعونية من عهد "منوحتب الأول" من الأسرة الحادية عشرة، حيث غير الملك لقبه ثلاث مرات "راجع كتابنا "حركات التحرير في مصر القديمة"- دار المعارف، الإسكندرية 1976 ص96-98". 2 جواد علي 2/ 571-572، وكذا Die Araber, Ii, P.321, Iv, P.274 3 Le Museon, 1951, 1-2, P.99, 1953, 3-4, P.303 وكذا J.B. Philby Motor Tracks And Sabaean Inscriptions In Najd, Gj, Cxvi, 1950, P.211-215 4 جواد علي 2/ 573، وكذا Le Museon, 1964, 3-4, P.492 5 J.B. Philby, In Gj, 1950, Cxvi, 4-6, P.214 6 H. Von Wissmann And M. Hofner, Op. Cit., P.120 7 جواد علي 2/ 573-574. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 بقيت نقطة أخيرة تتصل بذلك الطريق البري، الذي يربط المناطق المرتفعة الزراعية بالمناطق الشمالية، حيث يصل إلى شمال الطائف، ويتصل بطريق الحجاز، ويعرف بـ "درب أسعد كامل" -نسبة إلى الملك أب كرب أسعد- والطريق دون شك، يعد تحولا خطيرا في الطرق البرية القديمة، التي كانت منتشرة في حافة الصحراء الشرقية المتصلة بالجوف، إذ يشير إلى تحول هذا الطريق من الأراضي السهلة إلى الهضاب التي يعيش عليها المزارعون، الذين يعيشون على الزراعة التي تعتمد على المطر، وقد شمل هذا التحول فيما شمله طريق البخور واللبان القديم1. ويروي الأخباريون أن الذي خلف "أب كرب سعد"، إنما هو "ربيعة بن نصر اللخمي"، وأنه قد رأى رؤيا هالته فسار بأهله إلى العراق وأقام بالحيرة وحكم فيها، ومن عقبه كان "النعمان بن المنذر" ملك الحيرة2، ثم عاد الملك إلى "حسان بن تبان بن كرب"، وهو -فيما يرى البعض- أخو زرقاء اليمامة التي صلبت على باب مدينة "جو"، والتي سميت فيما بعد "اليمامة" نسبة إليها3، الأمر الذي ناقشناه من قبل. على أن "جون فلبي" قد جعل العرش بعد وفاة "أب كرب أسعد" لشقيقه "ورو أمر أيمن" "415-425م"، ثم إلى ابن أخيه "شرحبيل يعفر" والذي حكم في الفترة "425-455م" على رأي "فلبي"4 وفي الفترة "420-455م" على رأي هومل5. وإن كان "فلبي" عاد مرة أخرى فحدد له الفترة التي حددها "هومل"6- ولعل من الغريب أن يتجاهل "فلبي" "حسان يهأمن" ابن "أب كرب أسعد"- رغم أنه ذكر في نص "فلبي 227" ونعت بأنه "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنات وأعرابها في الجبال وفي التهائم"7.   1 جواد علي 2/ 576-577، وكذا LE MUSEON, 1964, 3-4, P.423, 493 2 ابن الأثير 1/ 418-420، صبح الأعشي 5/ 23. 3 ابن كثير 2/ 167، أخبار الزمان ص124-126، ياقوت 5/ 442-447، البكري 2/ 407، المعارف ص274-275، مروج الذهب 2/ 111-119، تاريخ ابن خلدون 2/ 24-25، المقدسي 3/ 178، ملوك حمير وأقيال اليمن ص142-143. 4 J.B. PHILBY, OP. CIT., P.143 5 جواد علي 2/ 577، وكذا HANDBUCH, P.104 6 LE MUSEON, 1961, 1-2, P.174. وكذا J.B. PHILBY, ARABIAN HIGHLANDS, P.460 7 جواد علي 2/ 578. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 ويروي الأخباريون أن "حسان" قد سار بأهل اليمن يريد أن يطأ أرض العرب والعجم، فلما كان بالعراق كرهب قبائل اليمن المسير معه، فكلموا أخاه عمرا في قتله وتمليكه من بعده، وهكذا قتل عمرو أخاه، غير أنه بمجرد عودته إلى اليمن قد أصيب بمرض نفسي جعله يفقد القدرة على التحكم في الأمور، مما أدى به في نهاية الأمر إلى أن يقتل كل من أشار عليه بقتل أخيه، ثم لم يلبث أن هلك1، ويزعم الإخباريون أن الحميريين قد تفرقوا بعد هلاك عمرو، فاغتصب العرش رجل من غير الأمراء، دعوه "لختيعة تنوف ذو شناتر" فقتل خيار القوم، وعبث بأعراض الناس، حتى قتله "ذو نواس"- في رواية مزرية سجلها الإخباريون في كتبهم -ثم جلس على العرش من بعده2. وعلى أي حال، فإذا ما عدنا مرة أخرى إلى عهد "شرحبيل" يعفر"، لوجدنا أنفسنا أمان نص خطير "جلازر 554"، يتحدث عن تصدع سد مأرب، وما قام به الملك إزاء هذا الحادث الخطير، حيث نقر في النص أن "شرحبيل يعفر" قد قام بتجديد بناء السد وترميمه على مقربة من "رحب" وعند "عبرن"، فضلا عن إصلاح أجزاء منه حتى موضع "طمحن" "طمحان"، وحفر مسايل المياه وبناء القواعد والجدران بالحجارة وتقوية فروعه، وبناء أقسام جديدة بين "عيلان" و"مفكول" و"مفلل" وتجديد سد "يسرن"، ويذكر النص أن هذه الأعمال قد تمت في عام 564/ 565 من التقويم الحميري، الموافق عام 449/ 450 من التقويم الميلادي3.   1 ابن كثير 2/ 167، ابن الأثير 1/ 420-421، تاريخ الطبري 2/ 115-117، أبو الفداء 1/ 68، الميداني 1/ 73-74، الاشتقاق 2/ 533، المقدسي 3/ 178، ملوك حمير وأقيال اليمن ص142-145. 2 ابن كثير 2/ 167-168، تاريخ الطبري 2/ 117-119، المعارف ص227، ابن الأثير 1/ 424-445. 3 جواد علي 2/ 579-581، وانظر الفصل التاسع من كتابنا "دراسات في التاريخ القرآني" -الجزء الأول- وكذا E. GLASER, MVG, II, 1897, P.372-379 وكذا A. SPRENGER, OP. CIT. P.13 وكذا J.B. PHILBY, THE BACKGROUND OF ISLAM, 1947, P.118 وكذا LE MUSEON, 1964, 3-4, P.493-494 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 هذا ويتحدث النص كذلك عن انتشار عقيدة جديدة، فهو يشير إلى ظهور "رب السماء والأرض"، حيث نقرأ فيه "بنصر وردا إلهن بعل سمين وأرضن" أي "بنصر وبعون الإله رب السموات والأرض"، وهي عقيدة ظهرت عند أهل اليمن بعد الميلاد بتأثير اليهودية والنصرانية ولا شك1. وينتقل العرش بعد "شرحبيل يعفر" إلى "عبد كلال" والذي حكم في الفترة "445-460م" علي رأي "فلبي" و"هومل"2، وإن كان "فلبي" قد رأى أن الرجل كان كاهنًا وشيخًا لقبيلة، نجح -بمساعدة الأحباش- في اغتصاب العرش لمدة خمس سنين3، هذا وقد ذكره الأخباريون بين ملوك حمير، وأنه كان يدين بالنصرانية سرًّا، وبالمصطفى -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ- قبل مبعثه- شأنه في ذلك شأن سبأ، وأب كرب أسعد- وإن من ولده "الحارث بن عبد كلال"، وهو أحد الذين وفدوا على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأفرشهم رداءه4، غير أنهم يرونه قد تولى العرش بعد وفاة "عمرو بن تبان أسعد"، فملك أربعًا وتسعين سنة -وهو تبع الأصغر- ثم خلفه أخوه "مرثد"، وقد ملك سبعة وثلاثين عامًا5، وقد أدى تشابه الاسمين "عبد كلال الذي جاء في نص جلازر7، وعبد كلال عند الأخباريين" إلى أن يرى بعض العلماء أن الاسمين لرجل واحد، وأنه كان ملكًا6. ويروي الهمداني أن "حسان بن عبد كلال" أقبل من اليمن، "في حمير وقبائل من اليمن عظيمة، يريد أن ينقل أحجار الكعبة من مكة إلى اليمن، ليجعل حج البيت عنده، وإلى بلاده"، فأقبل حتى نزل "نخلة"، فخرج إليه القرشيون بقيادة فهر بن مالك، حيث دارت بينهم معركة ضارية، انتهت بانتصار قريش، وأسر "حسان بن عبد كلال"7، فإذا كان ذلك كذلك، فإن حملة أبرهة على مكة كانت لها سابقة يمنية من قبل، ثم إذا ما تذكرنا أن هناك من يرى -كما أشرنا   1 جواد علي 2/ 82، وكذا D.S. MARGOLIOUTH, OP. CIT., P.68 2 J.B. PHILBY, OP. CIT., P.143 3 J.B. PHILBY, ARABIAN, HIGHLANDS, P.260 4 منتخبات ص93، ملوك حمير وأقيال اليمن ص170، الإكليل 2/ 130. 5 وهب بن منبه: المرجع السابق ص299، صبح الأعشي 5/ 23. 6 جواد علي 2/ 584. 7 الإكليل 2/ 357-359، تاريخ الطبري 2/ 262-263 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 آنفًا- أن "عبد كلال" إنما اغتصب عرشه بعون من أكسوم، فهل هذا يعني أن الحبشة النصرانية كانت وراء تلك الحملة؟ لست أدري، فتلك أخبار لا يوثق بها كثيرًا، ثم إن الهمداني يرفض القصة من أساسها، وإن كان هناك من يتهمه بأنه يمني متعصب، لا يؤيد حربًا تنتصر فيها قريش على اليمن، ثم يضع تبعة نقل حجارة الكعبة من مكة إلى اليمن على عاتق "هذيل بن مدركه" أحد سادات مكة1، وإن لم يبين لنا لماذا فعل" ذلك؟ وما الفائدة التي تعود عليه من فعله هذا؟ وعلى أي حال، فلقد جاء بعد ذلك "شرحب إيل يكف" "460-470م" فولداه "معد يكرب يهنعم" و"لحيعث ينوف" "470-495م" على رأي هومل2، و"نوف" "470-480م"، ثم "لحيعث ينوف" "480-500م" علي رأي فلبي3، وربما كان الأخير هو "لختيعة تنوف ذو شناتر" عند الأخباريين، والذين رأوا أنه حكم سبعا وعشرين سنة4، ثم جاء "مرثد ألن ينوف" "495-515م" ثم "ذو نواس" "515-525م"، وهو "زرعة ذو نواس بن تبان أسعد أب كرب" والذي سمي "يوسف" بعد تهوده، وإن ذهب البعض إلى أنه من غير الأسرة المالكة5، وأن السبب في تسميته "ذي نواس" أن كانت له ذؤابتان تنوسان على عاتقه6، وعلى أي حال، فهو الملك الذي احتل الأحباش اليمن في عهده، وبقوا فيها قرابة نصف قرن من الزمان، وإن كانت هذه ليست هي المرة الأولى التي يغزو الأحباش فيها اليمن، فذلك أمر له سوابق خلت من قبل7- كما رأينا آنفًا-.   1 الإكليل 2/ 359، جواد علي 2/ 585. 2 جواد علي 2/ 587، وكذا HANDBUCH, P.105 3 J.B. PHILBY, THE BACKGROUND OF ISLAM, P.143 وكذا LE MUSEON, 1961, 1-2, P.174 4 تاريخ الطبري 2/ 117، صبح الأعشي 5/ 24، تاريخ اليعقوبي 1/ 199. 5 ابن الأثير 1/ 425، المعارف ص311، مروج الذهب 2/ 52، وهب بن منبه: المرجع السابق ص300. 6 تاريخ اليعقوبي 1/ 199، المعارف ص277، تفسير القرطبي 19/ 293. 7 A. GROHMANN, ARABIAN, 1963, P.29. وكذا P.K. HITTI, OP. CIT., P.61 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 الاحتلال الحبشي لليمن : كانت اليهودية بدأت تأخذ طريقها إلى اليمن منذ فترة طويلة، وإن ازدادت منذ تدمير بيت المقدس على يد "تيتوس" في عام 70م، ومن ثم فإن أصحاب هذا الاتجاه الأخير يرون أننا لو تفحصنا أسماء اليهود المقيمين في بلاد العرب، لرأينا أن معظمهم آراميون وعرب متهودون، وليسوا من ذرية إبراهيم الخليل من ولده إسحاق، عليهما السلام1، أو منذ تهود "أب كرب أسعد" وفرضها على الحميريين -طبقًا لرواية أخرى، سبق لنا الإشارة إليها- أو منذ تهود ذي نواس، سواء أكان ذلك رغبة منه في أن يقاوم دينًا سماويًّا بدين سماويٍّ آخر، ومن ثم فهو يمثل الروح القومية في اليمن، حين رأى في النصارى من مواطنيه ما يذكره بحكم الأحباش المسيحيين البغيض2، بخاصة وأن المسيحية قد أصبحت وقت ذاك تستند إلى قوة الدولة الرومانية الشرقية الطامعة في غزو اليمن3، أو لأنه كان في الأصل- طبقًا لرواية ابن العربي- من أهل الحيرة، وأن أمه يهودية من "نصيبين" وقعت في الأسر فتزوجها والد يوسف فأولده منها، ومن ثم فهو يهودي وفد على اليمن من الحيرة4، سواء أكان هذا أو ذاك، فالذي يهمنا هنا أن الفرقة الداخلية -التي ترجع في الدرجة الأولى إلى دخول اليهودية والمسيحية إلى بلاد العرب الجنوبية- بدأت تدفع البلاد في طريق الاضمحلال5. وهكذا فإن ظروف اليمن الداخلية كانت من أهم العوامل التي مهدت للفتح الأثيوبي لليمن، ذلك لأننا نقرأ في نقش "فلبي 228" عن حرب داخلية استعر أوارها قبيل الغزو الحبشي "وربما في عام 516م"، واشتركت فيها قبائل سبأ وحمير ورحبة وكندة ومضر وثعلبة6، ومن ثم فقد مهدت هذه الفتنة الطريق للأحباش بسبب الخصومات القبلية القديمة بين القبائل، والتي أدت إلى ظهور الروح القبلية،   1 P.K. HITTI, OP, CIT., P.61 2 BONT-MAURY, L'ISLAMISME ET LE CHRISTIANISME EN AFRIQUE, PARIS, 1906, P.47 وكذا P.K. HITTI, OP. CIT., E.62 3 عبد المجيد عابدين: المرجع السابق ص45. 4 جواد علي 2/ 593، قارن: الإكليل 2/ 63، وانظر: F. Altheim And R. Stiehl, Op. Cit., I, P.360 5 موسكاتي: المرجع السابق ص193. 6 انظر: Gj, Vol., Cxvi, 4-6, 1950, P.214 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 التي لا تعرف طريقًا للتعاون القومي، إلا إذا كان من أجل القبيلة وفي مصلحتها، دونما أي اهتمام بما يجره ذلك على الكيان القومي للبلاد من نكبات، قد تؤدي باستقلال البلاد وخضوعها للأجنبي. ونقرأ في نصي "ريكمانز 507، 508"- ويرجعان إلى عام 518م- إشارات عن حرب بين الأحباش وملك حميري، هو "يسف أسأر" "يوسف أسار"، ولعل عدم الإشارة هنا إلى اللقب الملكي الطويل، ربما يعني أن سلطان "ذي نواس" لم يكن يمتد إلى كل بلاد العرب الجنوبية، وإنما كان مقصورًا على أجزاء منها، وأن الأحباش -فضلا عن الأقيال اليمنيين- إنما كانوا يشاركونه هذا السلطان، فظفار ومجاوراتها كانت في أيدي الأحباش، كما كان الأقيال قد كونوا حكومات إقطاعية في إماراتهم، كما كانوا يثيرون الفتن والقلاقل في أنحاء البلاد، وهكذا كانت الأحوال الداخلية قلقة، مما جعل البلاد آخر الأمر لقمة سائغة في أيدي المستعمرين الأحباش1، بل إن نص "ريكمانز 508" ليشير إلى حرب وقعت بين الملك يوسف أسار من ناحية، وبين الأحباش، ومن كل يؤيدهم من أقيال اليمن، من ناحية أخرى، وأن الملك قد هاجم "ظفار" و"مخار" واستولى على كنائسها، وإن كان أشد القتال إنما كان بينه وبين قبيلة "الأشاعر"، حيث قتل منهم ثلاثة عشر ألفًا، وأسر تسعة آلاف وخمسمائة أسير، كما استولى على 280 ألف رأس من الإبل والبقر والماعز، ثم اتجه بعد ذلك إلى "نجران" حيث أنزل بالأحباش ومن سار في ركابهم، خسائر فادحة2. وعلى أي حال، فإن المؤرخين إنما يقدمون عدة أسباب لغزو الحبشة لليمن، منها أولًا" الرغبة في السيطرة على اليمن لضمان توزيع البضائع الحبشية، دون أن تتعرض لاعتداءات الحميريين3، ومنها "ثانيًا" أن عداوة الحبش للعرب قديمة، نشأت منذ أن كان عرب اليمن يخطفون الأحباش من سواحل الحبشة ويبيعونهم أرقاء في بلاد العرب، حيث وجد الحبش في الحجاز4، ومنها "ثالثًا"   1 جواد علي 2/ 595-596، وكذا Le Museon, 1953, 3-4, P.284 2 Bsoas, Xvi, 1954, Part, 3, P.434. وكذا Lo Museon, 1953, 3-4, P.296, 3 مراد كامل: مقدمة كتاب "سيرة الحبشة" للحيمي السن بن أحمد، القاهرة 1958 ص6-7 عبد العزيز سالم: المرجع السابق ص182. 4 يوسف أحمد: الإسلام في الحبشة، القاهرة 1935 ص607: عبد المنعم ماجد: المرجع السابق ص74. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 أن بلاد العرب الجنوبية كانت تقوم في ذلك الوقت بنفس الدور الذي تقوم به مصر الآن بعد حفر قناة السويس، نظرا لمركزها الهام على البحر الأحمر والمحيط الهندي، وحيث يوجد مضيق باب المندب، وفي تلك الأيام كانت الإمبراطورية الرومانية الشرقية حريصة على انتزاع هذه المكانة وإعطائها لمصر، ومختلف الولايات الرومانية الشرقية الأخرى، التي تستطيع الإفادة من مركزها الجغرافي، وبخاصة فإن المسيحية كانت قد استقرت في كثير من الولايات الرومانية الشرقية، حتى اضطر "قسطنطين" "306-337م" في عام 311م إلى السماح بانتشار المسيحية في بلاده1. وهنا بدأ الرومان يفكرون في استغلال الدين لضم بلاد العرب الجنوبية إلى إمبراطوريتهم، فعمدوا إلى إرسال البعثات التبشيرية لتلك البلاد، لنشر المسيحية بين الحضر والبادية من جهة، ولتهيئة الأفكار والنفوس لقبول النفوذ الروماني من جهة أخرى2. ومن ثم فلم يكن تعذيب ذي نواس للنصارى في بلاده، هو السبب الحقيقي للغزو الحبشي في اليمن، ودليلنا على ذلك أن المصادر الإغريقية -بل والحبشية نفسها- إنما تذهب إلى أن الأحباش قد أغاروا على اليمن قبل قصة التعذيب هذه بسنين، وأنهم قد انتصروا على "ذي نواس" واضطروه إلى الالتجاء إلى الجبال إلا أنه استطاع بعد فترة أن ينجح في لم شمل جنده، وأن يهاجم الأحباش وينتصر عليهم، وأن يغير على "نجران" ويتمكن من الاستيلاء عليها، بعد حصار دام سبعة أشهر3، ثم ينتقم من أهلها شر انتقام4، بل إن تدخل الأحباش في شئون اليمن ومحاولة غزوها، قد بدأ -كما أشرنا من قبل- منذ القرن الرابع الميلادي،   1 فؤاد حسنين: المرجع السابق ص301. 2 إسرائيل ولفنسون: تاريخ اليهود في بلاد العرب ص36. 3 J.B. Bury, Op. Cit., P.323 4 راجع عن قصة ذي نواس مع نصارى نجران والمعروفة بقصة أصحاب الأخدود: الفصل العاشر من الجزء الأول من كتابنا "دراسات في التاريخ القرآني" ثم انظر: "تاريخ الطبري 2/ 1210125، تاريخ ابن خلدون 2/ 59-56، تاريخ الخميس ص2190220، تاريخ اليعقوبي 1/ 199-200، ابن الأثير 1/ 430-432، ابن كثير: البداية والنهاية 2/ 129-131، 162-169، المعارف ص277، كتاب المحبر ص368، الأخبار الطوال ص61-72، ياقوت 5/ 266-268، مروج الذهب 1/ 80-81، 2/ 52، المقدسي 3/ 182-184، قصص القرآن ص291-293، تفسير الطبري 30/ 133-134، تفسير البيضاوي 2/ 550، تفسير روح المعاني 30/ 88-89، تفسير الفخر الرازي 31/ 118، تفسير الكشاف 2/ 1594، تفسير القرطبي 19/ 286-293. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 وبعد وفاة "شمر يهرعش" وقبله. وهكذا اتفقت مصالح الأحباش والرومان في السيطرة على بلاد العرب الجنوبية، وكانت سياسية "ذي نواس" التي تربط بين انتشار المسيحية في اليمن، وبين ازدياد نفوذ الأحباش في البلاد، سببًا في أن يتخذ من نصارى اليمن موقفًا عدائيًّا، وكان ذلك ذريعة وجدها الرومان للقضاء على استقلال اليمن، ولكن دون التدخل المباشر، وإنما بتحريض الأحباش على غزوها، بل إن هناك من يذهب إلى أن الروم قد اشتركوا بطريقة فعلية في غزو اليمن عن طريق إرسال أسطولهم من مصر، محملا بالأسلحة والمؤن إلى الثغور اليمنية، ولعل الأمبرطور "جستين الأول" "518-527م" قد اتخذ هذه الخطوات نتيجة لأطماع الفرس التي ازدادت في بلاد العرب حتى أنهم استقروا في سواحل الخليج العربي كالبحرين1. وهناك رواية تذهب إلى أن السبب المباشر لغزو الحبشة لليمن، إنما كان لأن الملك الحميري "دميون" "دميانوس"، كان قد أمر بقتل التجار الروم الذين كانوا في بلاده، وبنهب أموالهم، وذلك بسبب اضطهاد اليهود وإساءة معاملتهم في بلاد الروم، مما أدى إلى أن يتجنب تجار الروم الذهاب إلى الحبشة واليمن، أو حتى المناطق القريبة من "حمير"، ومن هنا رأى البعض أن بعثة "ثيوفيلوس" التبشيرية إنما كانت لضمان حسن نية الأمراء اليمنيين إزاء تجار الروم، غير أن تلك البعثة قد فشلت في تحقيق أهدافها بسبب نفوذ الفرس في اليمن وقت ذاك، وقد أثر ذلك كله في التجارة مع الحبشة تأثيرًا سيئًا، وهنا اضطر النجاشي إلى أن يقدم عروضًا رفضها الملك الحميري، مما كان سببًا في نشوب الحرب بينهما، وتزعم الرواية أن النجاشي كان حتى تلك اللحظة لا يزال على الوثنية، ومن ثم فقد عرض عليه أن يعتنق النصرانية إن كتب له النجح على الحميريين، وحين انتهت الحرب في صالحه اعتنق المسيحية، وأرسل إلى قيصر يطلب منه إرسال عدد من رجال الدين ليعلموه العقيدة   1 عبد المنعم ماجد: المرجع السابق ص74، البلاذري: فتوح البلدان ص78، إسرائيل ولفنسون: المرجع السابق ص48، وكذا Graetz, History Of The Jews, Iii, P.88 وكذا A. Kammerer, La Mer Rouge, L'abyssinie Et L'arabie Depuis L'anti-Quite, Le Caire, 1929 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 الجديد، وقد تم له ما أراد1. وعلى أي حال، فإن الكتابات العربية الجنوبية قد أشارت إلى غزو الأحباش لليمن، ذلك أن نقش حصن غراب، والمعروف بـ "Rep Epigr 2633" -ويرجع تاريخه إلى عام 525م- إنما يشير إلى أن الأحباش قد استولوا على اليمن في عهد ملك لم يذكر اسمه، وأنهم قتلوا هذا الملك وأقياله2، على أن "فنكلر" إنما يذهب إلى أن هذا الملك إنما هو "ذو نواس"، وأنه البادئ بهذه الحرب، وأن أصحاب النص "السميفع أشوع وأولاده" كانوا من أنصار الملك الحميري، على غير رغبة منهم، وأن المعارك قد انتهت بانتصار الأحباش، ومن ثم فإن "السميفع أشوع" وأولاده، قد اضطروا إلى الالتجاء إلى حصن "ماوية" حتى انتهت العاصفة، ثم عقدوا صلحًا مع السادة الجدد3. وقد اهتمت المصادر المسيحية المعاصرة بغزو الحبشة لليمن، ومنها "قزما" الذي كان في الحبشة إبان الاستعدادات لغزو اليمن، وقد سجل لنا قصة الغزو، ربما بعد وقوعها بخمس وعشرين سنة، وقد ذهب إلى أن الحملة إنما تمت في أوائل أيام القيصر "جستين الأول"4، بل إن "ثيوفانس" و"سدرينوس" قد حدداها بالعام الخامس من حكم هذا القيصر، أي في عام 523م، وأن سبب الحملة إنما كان تعذيب "ذي نواس"- الذي قتل في المعارك- لنصارى نجران، على أنهما إنما يشيران إلى غزو ثان، قام به الملك الحبشي "أداد" ضد ملك حمير "دميانيوس"ن في العام الخاسم عشر من عهد القيصر "جستنيان" ط527-565م"، في في عام 542م5.   1 عبد المجيد عابدين: المرجع السابق ص39، 45-46، جواد علي 3/ 468-469، وكذا J.B. Bury, Op. Cit., P.322. وكذا Zdmg, Vii, P.357 وكذا E. Glaser, Die Abessinier In Arabien Und Africa, 1895, P.175 2 جواد علي 3/ 459-460 وكذا E. Glsaer, Op. Cit., P.131-132. وكذا Rep, Epigr, V, I, P.5 3 جواد علي 3/ 460، وكذا H. Winckler, Zur Alten Geschichte Yemens Und Abessiniens, Aof, Iv, 1896, P.327 4 جواد علي 3/ 461، وكذا Procopius, History Of The Wars وكذا Cosmas, P.141 وكذا A. Musil, Palmyrena, P.336 وكذا J.B. Bury, Op. Cit., Ii, P.323 5 Zdmg, 31, 1877, P.67. وكذا E. Gibbon, Op. Cit., Ii, P.625 وكذا Cerdenus, I, P,656 وكذا Theophanes, I, P.346 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 ولعل من أهم الوثائق المسيحية التي تتصل بتعذيب نصارى نجران، إنما هي رسالة "مار شمعون"، أسقف بيت رشام، إلى رئيس أساقفة "دير جبلة"، وفيها يتحدث "مارشمعون" كيف عرف بنبأ تعذيب نصارى نجران من رسالة من ملك حمير إلى ملك الحيرة، يطلب منه فيها أن يفعل بنصارى مملكته، ما فعله هو بنصارى نجران، وأن شمعون قد تأكد بنفسه من الحادث عن طريق رسوله الذي أرسله إلى نجران ليتحرى الحقائق، ومن ثم فقد وجه نداء إلى كل الأساقفة الرومان، وإلى بطريق الإسكندرية وإلى أحبار طبرية، طالبا منهم بذل الجهود لإيقاف هذه المذابح البشرية، ورغم ما تفيض به الرسالة من عواطف شخصية، ومن مبالغات متعمدة لإثارة الحمية الدينية عند رجال الدين المسيحي، ورغم أن ما جاء بها على لسان ملك حمير، إنما هو من كلام مار شمعون، وليس من كلام الملك الحميري، فإن الرسالة بصفة عامة صحيحة، ومن ثم فهي وثيقة تاريخية يمكن أن ينظر إليها باهتمام1. وهناك رواية يونانية تذهب إلى أن "ذا نواس" "Dunaas" ملك حمير، قد عذب نصارى نجران، في العام الخامس من عهد "جستين الأول" "518-527م" ومن ثم فقد قام نجاشي الحبشة بغزو حمير، وفر "Dunass" إلى الجبال، حتى إذا ما واتته الفرصة انقض على الجيش الحبشي، فأباده واحتل نجران، مما اضطر الأحباش إلى القيام بحملة ثانية انتصرت على الملك الحميري، وعينت مكانه "2Abrames". على أن هناك رواية أخرى -يونانية كذلك- تذهب إلى أن الذي قضى على ذي نواس، إنما هو قيل من اليمن يدعى "إيدوج"، وذلك بسبب اضطهاد التجار المسيحيين الروم، ردا على اضطهاد الروم لليهود، مما أدى في نهاية الأمر إلى أن يمتنع جميع التجار المسيحيين من دخول اليمن، فأصيبت الأسواق التجارية اليمنية بالكساد، وساءت الأحوال الاقتصادية في البلاد، وقد أدى ذلك كله إلى أن يجمع   1 عبد المجيد عابدين: المرجع السابق ص55-56، جواد علي 3/ 464، النصرانية 1/ 61، مجلة المجمع العلمي، المجلد 23 عام 1948 ص18 "دمشق"، وكذا J.B. Bury, Op. Cit., P.322. وكذا Zdmg, 35, 1881, P.2-4 2 جواد علي 3/ 463 وكذا Zdmg, 31, 1877, P.67 وكذا Graetz, Op. Cit., P.88 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 "إيدوج" الأقيال من حوله، وأن يعلن الثورة ضد ذي نواس وأن يقتله، بل ويعتنق المسيحية1. بقي أن نشير إلى أن الروايات العربية تذهب إلى أن "ذا نواس" إنما أنهى حياته بنفسه2، إلا أن الروايات الحبشية والإغريقية إنما تذهب إلى أنه قد وقع أسيرًا في أيدي أعدائه فقتلوه، بل إن هناك رواية عربية تذهب إلى أنه إنما قتل بيد حمير، وأن جثته لم تقبر، وإنما ألقيت إلى الحيوانات المفترسة فأكلتها، ومن ثم فإن "فون كريمر" إنما يرى أن ذا نواس لم يغرق في البحر -طبقًا للتقاليد العربية- وإنما قتل قتلا3.   1 إسرائيل ولفنسون: "المرجع السابق ص46-47 وكذا Graetz, History Of The Jews, Iii, P.408-409. 2 تاريخ الطبري 2/ 125، 127، مروج الذهب 2/ 52، تاريخ ابن خلدون 2/ 59، ملوك حمير وأقيال اليمن ص149، المقدسي 3/ 185، تاريخ اليعقوبي 1/ 199-200، ابن الأثير 1/ 243-432، تاريخ الخميس ص220. 3 عبد المجيد عابدين: المرجع السابق ص51، ملوك حمير وأقيال اليمن ص149، جواد علي 3/ 371-472، وكذا قارن: سعد زغلول: المرجع السابق ش197-198، وانظر: Malalas, P.433. وكذا Procopius, I, Xx, I وكذا Zdmg, 35, 1881, P.16 وكذا Von Kremer, Sudarabische Sage, 92, 127 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 اليمن في العهد الحبشي : نجح الأحباش في القضاء على ذي نواس والاستيلاء على البلاد وضمها إلى الحبشة، ولكنهم -على ما يبدو- لم يحكموها حكمًا مباشرًا، وإنما اختاروا واحدًا من الأقيال الذين عاونوهم على احتلالها، وكان هذا القيل هو "السميفع أشوع"، الذي سبق أن أشرنا إليه، والذي عينه الأحباش الآن ملكًا على حمير، على أن يدفع لهم جزية سنوية. وهناك نص في "متحف إستنبول" نشره "ريكمانز"، يفهم منه أن "السميفع أشوع" كان ملكًا على سبأ، وكان نصرانيًّا، بدليل أن النص جاء فيه "باسم رحمنن وبنهو كرشتش غلبن" وترجمته "باسم الرحمن وابنه المسيح الغالب1"، ولعل   1 D. Nielsen, Op. Cit., P.105 وكذا Le Museon, 1950, 3-4, P.272, 1964, 1-4, P.165, 167 وكذا C. Conti Rossini, Storia D'etiopia, I, P.180 "Milano, 1925" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 هذا النص يعضد ما ذهب إليه "بركوبيوس" من أن الذي حكم حمير بعد "ذي نواس" إنما هو "Esimiphaeus" "السميفع أشوع= سام يفع أشوع"1، على أنه لم يكن في الواقع إلا تابعًا لملك الحبشة، وأنه قد بدأ حكمه في عام 525م2. وما أن تمضي سنون ستة، حتى تبدأ البقية الباقية من جنود الحبشة في اليمن الثورة "في عام 531م" على "السميفع أشوع" ثم محاصرته في إحدى القلاع، وتعيين "أبراهام" -وهو عبد نصراني كان مملوكًا لتاجر يوناني في مدينة عدولي- في مكانه، وقد حاول النجاشي أن يقضي على هذه الثورة، غير أن هزيمة قواته التي أرسلها مرة بعد أخرى، جعلته يتقبل الوضع على علاته، وما أن تنتهي حياته في هذه الدنيا، حتى يسرع "أبراهام" "أبرهة" إلى عقد صلح مع خليفته، يدفع له بمقتضاه جزية سنوية، في مقابل أن يعترف النجاشي الجديد به نائبًا للملك في اليمن3. وتتجه المصادر العربية اتجاهًا مغايرًا في كيفية وصول "أبرهة" إلى السلطان في اليمن، فتذهب رواية إلى أنه جاء إلى اليمن جنديًّا تحت قيادة "أرياط" الذي فتح اليمن، ولكن ما أن تمضي سنوات معدودات حتى ينازعه السلطان، ثم يغدر به ويأخذ مكانه، بينما تذهب رواية أخرى إلى أن النجاشي إنما كان قد أرسل جيشين، أحدهما تحت قيادة "أبرهة" الذي نجح في أن يصبح ملكًا على صنعاء ومخاليفها بعد مقتل "ذي نواس"، ومن ثم فقد غضب النجاشي وأرسل إليه جيشًا تحت قيادة "أرياط"، فما أن حل بساحته، حتى عرض عليه "أبرهة" أن يبارزه، فأيهما ظفر بصاحبه كان الملك له، فرضي أرياط بذلك، وتبارزا، ونجح أبرهة في أن يوقع بأرياط عن طريق غلام له -هو عتودة- الذي كافأه أبرهة بألا تدخل عروس على زوجها في اليمن، قبل أن يصيبها قبله، مما كان سببًا في أن يدفع حياته   1 جواد علي 3/ 472، وكذا Procopius, I, Xx, 1-2 2 G. Hunt, Himyaric Inscriptions Of Hisn Ghurab, 1848 وكذا Cih, 621, Cih, Iv, Iii, I, P.54 وكذا J.R Wellsted, Op. Cit., P.21 وكذا جواد علي 3/ 475 وكذا Le Museon, Lxii, 3-4, 1950, P.271 3 H. Von Wissmann And M. Hofner, Op. Cit., P.92, 120 وكذا John Malala, Xviii, 457. وكذا J.B. Bury, Op. Cit., P.324 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 ثمنا لرغبته اللئيمة هذه1. وهكذا أصبح "أبرهة" "أبراهام" حاكمًا على اليمن2، وإن اعترف اسميًّا بأنه "عزلي ملكن أجعزين" أي "نائب ملك الأجاعزة" على اليمن، وليس هناك من دليل على أن أبرهة لم يكن الحاكم المطلق على اليمن، ولم يترك لنجاشي أكسوم غير الاسم، حتى أنه دعاه في نص "جلازر 618" وفي نص "Cih 541" "بملك الجعز" فحسب، بينما أطلق على نفسه في نفس النص "ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنات وأعرابها في الجبال والتهائم"، وهو ما يزال بعد -من الناحية الاسمية على الأقل- "نائب ملك الجعز"3. وعلى أي حال، فإن النص المذكور يشير إلى تهدم "سد سبأ" وترميمه في عام 542م4- الأمر الذي ناقشناه في الجزء الأول من كتابنا "دراسات في التاريخ القرآني"- غير أن الذي يهمنا هنا تلك الثورة التي شبت بقيادة "يزيد بن كبشة"، والذي عينه "أبرهة" "Abramios= Abraham" نائبا عنه في قبيلة كندة، وسرعان ما انضم إليه "معد يكرب" بن "السميفع أشوع "وبعض الزعماء اليمنيين، ومن ثم فقد بدأت الثورة تنتشر في أجزاء كثيرة من اليمن، حتى شملت حضر موت وحريب وذو جدن وحباب عند صرواح، إلا أن أبرهة سرعان ما انتصر على الثوار وبطش بهم، بمساعدة قبائل يمنية قوية، ومن ثم فقد انصرف إلى إصلاح ما أفسدته الثورة في سد   1 تاريخ الطبري 2/ 1270130، ابن الأثير 1/ 431-433، ابن كثير 2/ 169، تاريخ ابن خلدون 2/ 60-61، الأزرقي 1/ 136-137، تفسير القرطبي 20/ 193-194، تفسير روح المعاني 30/ 233، تاريخ الخميس ص220-221، الأخبار الطوال ص62، اليعقوبي 1/ 200، ابن هشام 1/ 47-48، سعد زغلول: المرجع السابق ص198. 2 جواد علي 3/ 480. 3 جواد علي 3/ 484، وكذا E. Glaser, Zwei Inschriftten Den Dammbruch Von Marib, Ii, 1897, P.421 4 انظر عن ترميم السد: كتابنا "دراسات في التاريخ القرآني" وكذا: جواد علي 3/ 483-484، أحمد فخري: المرجع السابق ص187 وكذا E. Glaser, Mvg, Ii, 1897, P.390 وكذا A.F.L. Beeston, In Basor, 16, 1954 وكذا F. Altheim And R. Stiehl, Op. Cit., P.587 وكذا Handbuch, P.106 وكذا Le Museon, 1953, 66, P.340 وكذا A. Sprenger, Op. Cit., P.31-126 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 مأرب1، وقد تم هذا الإصلاح الثاني في عام 543م. وتقرأ في نقش "ريكمانز 506"- والذي يرجع تاريخه إلى عام 535م، أو عام 547م2- عن حرب أشعلها أبرهة ضد قبيلة "معد"، وعن العلاقات بين ملوك الحيرة وحكام اليمن من الأحباش، وعن نفوذ الأخيرين على قبائل مثل معد، ولعل هذا يؤيد ما ذهب إليه الكتاب العرب من أن لليمن نفوذًا على قبائل معد، وأن تبابعة اليمن كانوا ينصبون الملوك والحكام على هذه القبائل3. ويبدأ أبرهة نصه هذا بقوله: "بخيل رحمنن ومسحهو" أي "بحول الرحمن ومسيحه" ثم يسبغ على نفسه الألقاب الملكية المعروفة لملوك سبأ، ثم يتحدث بعد ذلك عن الحرب التي أشعلها ضد معد عند "حلبان"، كما أمر رؤساء قبائل "كندة وعل وسعد" بالقضاء على ثورة "بني عامر"، هذا ويشير النص كذلك إلى أن أبرهة قد انتصر على قبيلة معد، ثم أخذ الرهائن منها، اتقاء لثورة أخرى قد تقوم بها، كما قبل أن يبقى "عمرو بن المنذر"- الذي عينه أبوه "المنذر" أميرًا على معد- في مكانه4. وقد ذهب بعض الباحثين مذاهب شتى في تفسيرهم لهذا النص، فذهب البعض إلى أنه إنما يشير إلى حملة أبرهة على مكة في عام الفيل5، وذهب آخرون إلى أنه إنما يشير إلى غزوة قام بها أبرهة تمهيدًا لحملة كبيرة كان ينوي القيام به إلى أعلى شبه الجزيرة العربية، ولكنه توقف عند مكة6، بينما رفض فريق ثالث أن يربط بين الحملتين، لأنهم يرون أن هذه الحملة إنما تمت في عام 547م، بينما كانت الأخرى   1 فؤاد حسنين: المرجع السابق ص303 وكذا H. Von Wissmann And M. Hofner, Op. Cit., P.121 2 Le Museon, 66, 1953, P.275 وكذا A.F.L. Beeston, Notes On The Muraighan Inscription, In Basor, 1954, P.389. وكذاS. Smith, Events In Arabia In The 6th Century A.D., P.435 3 جواد علي 3/ 494. 4 E.A.W. Budge, A History Of Ethiopia, Nubia And Abyssinia, I, London, 1938, P.266. وكذا Le Museon, 1953, 3-4, P,277-279 وكذا جواد علي 3/ 494-496. 5 جواد علي 3/ 495، وكذا Le Museon, 1965, 3-4, P.426 6 جواد علي 3/ 495، وكذا W. Caskel, Entdeckungen In Arabian, P.30 وكذا Le Museon, 1965, 3-4, P.426 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 في عام 563م1، وأخيرًا فإن هناك فريقًا رابعًا يرى أن النص إنما يتحدث عن معركتين، الواحدة قادها أبرهة عند "حلبان"، والأخرى قامت بها مجموعة قبائل من "تربة"2 في بلاد بني عامر -وربما على مبعدة ثمانين ميلا إلى الجنوب الشرقي من الطائف3. وبعد أن فرغ أبرهة من القضاء على الثورات التي هبت ضده، وبعد أن انتهى من ترميم سد مأرب، انصرف إلى نشر المسيحية ومحاربة الأديان الأخرى في بلاد العرب، فقوى ساعد مسيحي بلاد العرب الجنوبية، واتخذ من "نجران" مركزًا رئيسيًّا لحملته الدينية، فنجد جماعة مسيحية في صحراء اليمامة -في منتصف الطريق بين اليمن والحيرة- وفي يثرب، وعلى امتداد الطريق التجاري إلى فلسطين وسورية4 وتبع ذلك إنشاء الكنائس في أنحاء مختلفة من اليمن، لعل أهمها مأرب ونجران وصنعاء، وفي هذه الأخيرة بنى كنيسته المشهورة "القليس" بغية أن يصرف الحجيج من مكة إلى صنعاء، فيكسب من ذلك فوائد مادية وسياسية وأدبية، وبالتالي فقد كان ذلك سببًا في حملته المشهورة على مكة في العام المعروف بعام الفيل5- الأمر الذي   1 Le Museon, 1965, 3-4, P.247 2 جواد علي 3/ 496Bsoas, 1954, P.391 وكذا Le Museon, 1965, 3-4, P.426 وكذا 3 البكري 1/ 308. 4 فؤاد حسنين: المرجع السابق ص304. 5 انظر عن حملة أبرهة على مكة: مقالنا "العرب وعلاقاتهم الدولية في العصور القديمة" -مجلة كلية اللغة العربية- العدد السادس، 1976 من 287-437، وكذا: تاريخ الطبري 2/ 130-139، ابن الأثير 1/ 442-445، ابن كثير 2/ 1760-171، نهاية الأرب 1/ 251-264، تاريخ الخميس ص212-217، صحيح الأخبار 3/ 21-22، الاشتقاق ص306، مطلع النور ص121-122، ياقوت 3/ 53-54، 5/ 161-162، تاريخ اليعقوبي 1/ 251 253، 2/ 7، ابن هشام 1/ 43-52، الطبقات الكبرى 1/ 55-57، دلائل النبوة 1/ 57، 62-66، أعلام النبوة للماوردي ص149، الأزرقي 1/ 140-148، دلائل النبوة للأصفهاني ص100، الإمام محمد عبده: تفسير جزء عم ص121-122، تفسير الطبري 30/ 300-302، تفسير ابن كثير 8/ 503-511 "طبعة الشعب" تفسير النيسابوري 30/ 163، تفسير البيضاوي 2/ 576، تفسير الكشاف 3/ 288، تفسير الجلالين "نسخة على هامش البيضاوي" 2/ 576-577، في ظلال القرآن 8/ 664-675، تفسير روح المعاني 30/ 233-237، الدر المنثور في التفسير بالمأثور 6/ 394، المعارف ص312، حياة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 101-1-2، مروج الذهب 2/ 104-106، تفسير القرطبي ص7277-7290 "طبعة الشعب". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 ناقشناه في الفصل الحادي عشر، من الجزء الأول من كتابنا "دراسات في التاريخ القرآني". ويبالغ الأخباريون كثيرًا في وصف "كنيسة القليس" "وهي محرفة عن كلمة أكليسيا بمعنى كنيسة"، حتى أنهم يروون أن أبرهة لما أتم بناءها كتب إلى النجاشي يقول: "إني قد بنيت لك بصنعاء بيتًا لم تبن العرب ولا العجم مثله"1 أو "إني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يبن مثلها لملك كان قبلك، ولست بمنته حتى أصرف إليها حج العرب"2. وتذهب الروايات العربية إلى أن القليس إنما بنيت بجوار قصر غمدان، وبحجارة من قصر بلقيس بمأرب، وأن أبرهة قد كتب إلى قيصر الروم يطلب منه الرخام والفسيفساء ومهرة الصناع، كما أنه قد استعمل في بنائها طبقات من حجر ذي ألوان مختلفة، لها بريق، وأنه نقشها بالذهب والفضة والفسيفساء وألوان الأصباغ وصنوف الجواهر، وطعموا بابها بالذهب واللؤلؤ، ورشوا حوائطها بالمسك، وأقاموا فيها صلبانا منقوشة بالذهب والفضة والفسيفساء، وفيها رخامة مما يلي مطلع الشمس من البلق مربعة، عشر أذرع في عشر، تغشى عين من ينظر إليها من بطن القبة، تؤدي ضوء الشمس والقمر إلى داخل القبة، وكان تحت القبة منبر من شجر اللبخ- وهو عندهم الأبنوس- مفصد بالعاج الأبيض، ودرج المنبر من خشب الساج ملبسة ذهبًا وفضة، وكان في القبة سلاسل فضية3. وفي الواقع، فإنه رغم ما في وصف الإخباريين للقليس من مبالغات، فإن العصر كان حقًّا، عصر بناء الكنائس الضخمة التي أنشئت في العالم المسيحي، وأهمها: كنيسة "أيا صوفيا" في القسطنطينية، و"كنيسة المهد" في "بيت لحم"، واللتان تعودان إلى عهد الإمبراطور "جستنيان" "527-565م"، وقد تأثرت جميعها   1 تاريخ الطبري 2/ 130 الأزرقي 1/ 138، ابن كثير 1/ 170، ابن هشام 1/ 43، ياقوت 4/ 395، تفسير ابن كثير 8/ 504، تفسير القرطبي 20/ 188 "دار الكتب"، تفسير الطبري 30/ 300. 2 ابن كثير 1/ 170، ابن هشام 1/ 34، تفسير ابن كثير 4/ 548، تفسير الطبري 30/ 300، الأزرقي 1/ 138، تفسير القرطبي 20/ 187. 3 الأزرقي 1/ 138-139، أديان العرب ص35، ابن الأثير 1/ 442، تاريخ الطبري 2/ 130-131، النويري 1/ 182-183، ابن سعد 1/ 55، وكذا H. Scott, Op. Cit., P.212 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 بالفن البيزنطي، وإن جمعت كنيسة القليس بين الفن العربي القديم، والفن البيزنطي النصراني في بناء الكنائس1. هذا وقد لجأ أبرهة في بناء "القليس" إلى السخرة، فضلا عن القسوة الشديدة التي كانت تصل إلى حد قطع يد العامل، إن تهاون أو تكاسل في عمله، ويروي "ياقوت الحموي" أن أبرهة استذل أهل اليمن في بناء هذه الكنيسة وجشمهم فيها أنواعًا من السخرة، وكان ينقل إليها أدوات البناء كالرخام والحجارة المنقوشة بالذهب من قصر بلقيس، صاحبة سليمان عليه السلام، وكان من موضع هذه الكنيسة على فراسخ، وكان فيه بقايا من آثار ملكهم، فاستعان بذلك على ما أراده من بناء هذه الكنيسة وبهجتها وبهائها2. وأيًّا ما كان الأمر ففي عام 570م، أو 571م، مات أبرهة بعد فشله الذريع في حملته المنكودة على مكة المكرمة، وخلفه ابنه "يكسوم" لفترة لا ندري مداها على وجه التحقيق3، ويبدو أنه مارس الحكم منذ أيام أبيه، حين اختاره- فيما يرى جلازر- حاكمًا على أرض معاهر4، وعلى أي حال، فلقد كان "يكسوم" هذا شرًّا من أبيه، كما كان أخوه وخليفته "مسروق" شرًّا من الاثنين، ويرى الأخباريون أنه حكم ثلاث سنين انتهت بقتله، وبخروج الأحباش من اليمن5، بعد حكم دام نحو مائتي سنة على رأي، واثنتين وسبعين على رأي آخر6، وإن كان الصحيح -فيما يرى العلماء المحدثون- أنه لم يدم أكثر من سبع وأربعين سنة "525-572م"، على رأي، وقرابة نصف قرن "525-575م" على رأي آخر7؛ وذلك لأن هؤلاء الباحثين إنما يرون أن حملة أبرهة على مكة المكرمة "عام الفيل" إنما كانت في عام 552م على رأي8، وعام 563 على رأي آخر9، وكلاهما يخالف المعهود من أن الحملة إنما كانت في عام 570م، أو عام 571م.   1 هـ. ج. ويلز: موجز تاريخ العالم ص193. 2 ياقوت 4/ 394-396، تفسير روح المعاني 30/ 233. 3 مروج الذهب 2/ 55، موسكاتي: المرجع السابق ص216، الأخبار الطوال للدينوري ص63، حمزة الأصفهاني: المرجع السابق ص89. 4 جواد علي 3/ 504 وكذا E. Glaser, Mvg, P.420, 461 5 مروج الذهب 2/ 57، تاريخ الطبري 2/ 139، المقدسي 3/ 188. 6 ابن الأثير 1/ 450، مروج الذهب 2/ 57. 7 فؤد حسنين: المرجع السابق ص265، وانظر: سعد زغلول: المرجع السابق ص199، جرجي زيدان: المرجع السابق ص141-151. 8 جواد علي 3/ 500، وكذا Le Museon, 1965, 3-4, P.427-28 9 جواد علي 3/ 496، وكذا Le Museon, 1965, 3-4, P.427 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 حركة التحرير والسيطرة الفارسية : مرت الأيام ثقيلة كئيبة على أحرار اليمن، ولم تكن للسياسة الاستبدادية التي خطها أبرهة -وسار على منوالها خليفتاه من بعده- من نتيجة، سوى نفور اليمنيين من حكم الأحباش، والرغبة في التخلص من احتلالهم البغيض، وزاد الطين بلة أن الأزمة الاقتصادية قد استحكمت في ظل الاحتلال الأثيوبي، فبينما كان الحكام المسيحيون يبنون الكنائس ويحاولون الاندفاع نحو الشمال -كما فعل أبرهة- كانت البلاد تزداد اضمحلالا، لخمود النشاط التجاري الذي كان يتوقف عليه بقاؤها إلى حد كبير، ذلك لأن الحياة الاقتصادية في بلاد العرب الجنوبية، إنما كانت تقوم على التجارة الدولية -فضلا عن مواردها الزراعية- حيث أن هذه البلاد العربية الجنوبية، إنما كانت مركزًا أساسيًّا لتبادل السلع، وكانت مرسى المحيط الهندي للتجارة مع البحر المتوسط، كما أتاحت القواعد التجارية التي أقامها العرب الجنوبيون على سواحل الهند والصومال لهم احتكار تجارة الذهب والبخور والمر وأخشاب الزينة، التي تصدرها تلك المناطق إلى الشمال1. غير أنه في فترة الاحتلال الحبشي هذه، ازداد استعمال الطرق البحرية التي سيطر عليها الرومان والمصريون والهنود، فكانت هذه المنافسة الجديدة كارثة على تجارة القوافل بين العربية الجنوبية، وبين أرض الرافدين وفلسطين، وأخيرًا أدى انهيار سد مأرب في عام 543م، إلى خراب أراضي الري اليانعة، وسدد ضربة الموت إلى ازدهار البلاد2، محولا إياها إلى مناطق مقفرة، إلا القليل من أرضها التي ترويه الأمطار الصيفية أو تنساب فيه بعض السيول أو الجداول3. ومن ثم فقد كانت الثورات تقوم الواحدة تلو الأخرى، حتى جاءت الفرصة المنتظرة في شخص زعيم وطني من "حمير" يدعى "سيف بن ذي يزن" ويكنى "أبا مرة"، وهو معد يكرب بن أبي مرة"، والذي فر أبوه "أبو مرة بن ذي   1 موسكاتي: المرجع السابق ص193، 197. 2 نفس المرجع السابق، ص193. 3 حسن ظاظا: المرجع السابق ص135. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 يزن" إلى الحيرة والتجأ إلى ملكها "عمرو بن هند" بعد أن انتزع منه أبرهة زوجه "ريحانة بنت علقمة" وأم ولده "سيف" هذا، ثم أولدها أبرهة ولده "مسروق" وابنته "بسباسة"1. وتذهب بعض الروايات إلى أن "سيفًا" هذا، إنما قد توجه أول الأمر إلى "بيزنطة"، وحاول عبثًا إقناع قيصرها إرسال حملة تقاتل إلى جانب اليمنيين، الذين يبغون تحرير بلادهم من سيطرة الأحباش، وفي التقاليد المنقولة أن سيفًا إنما أخفق في الحصول على عون من القسطنطينية ضد الحبشة، لما يربط القيصر بحلفائه الأحباش من علاقات سياسية واقتصادية، فضلا عن الروابط الدينية، حتى أن المسعودي ليروي أنه رده قائلا: "أنتم يهود، والحبشة نصارى، وليس في الديانة أن ننصر المخالف على الموافق"، ثم إن مناصرة العناصر الوطنية في اليمن لن تزيد القيصر على ما كان يلقاه من امتيازات في اليمن، امتيازات أخرى2. وهكذا فشل "سيف بن ذي يزن" في أن يحصل على أي عون من الإمبراطورية الرومانية، ومن ثم فقد اتجه إلى فارس لتشد أزره، أسوة بمناصرة الروم للأحباش، ويبدو أنه لجأ إلى النعمان بن المنذر حاكم الحيرة حتى يقدمه إلى "كسرى أنوشروان" "531-589م"، على رواية، أو أنه اتصل به مباشرة بناء على وعد سابق لأبيه بالمساعدة، على رواية أخرى، وأيًّا ما كان الأمر، فإن كسرى قد شق عليه أن يضحي بأبناء فارس، ويطعمهم لرمال الصحراء القاسية، ومن ثم فقد قال له: "بعدت بلادك عنا وقل خيرها، والمسلك إليها وعر، ولست أغرر بجيشي"، وأمر له بمال، فخرج "سيف" وجعل ينثر الدراهم فانتهبها الناس فسمع كسرى، وعندئذ سأله عما حمله على ذلك، فقال: لم آتك للمال، وإنم جئتك للرجال، ولتمنعني من الذل والهوان، وإن جبال بلادي ذهب وفضة"، فأعجب كسرى بقوله، وقال: "يظن المسكين أنه أعرف ببلاده مني"3.   1 ابن الأثير 1/ 433، تاريخ الطبري 2/ 130، قارن: المقدسي 3/ 188. 2 مروج الذهب 2/ 55، تاريخ الطبري 2/ 142، تاريخ الخميس ص218، الأخبار الطوال ص63، تاريخ اليعقوبي 1/ 200 تاريخ ابن خلدون 2/ 63، عبد العزيز سالم: المرجع السابق ص206 وكذا P.K. Hitti, Op. Cit., P.66 3 ابن الأثير 1/ 448، تاريخ الطبري 2/ 140-143، تاريخ الخميس ص218، تاريخ ابن خلدون 2/ 63، الأخبار الطوال ص64، المقدسي 3/ 189-190. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 وسواء أصحت هذه الروايات، أم أنها من نوع أساطير الأخباريين، فالذي لا شك فيه أن الأحباش قد أصبحوا أصحاب الكلمة العليا في سياسة العربية الجنوبية، منذ اختفاء ذي نواس من المسرح السياسي في اليمن، ومن ثم فقد عملوا على تدعيم المسيحية، وإتاحة الفرصة للنفوذ الروماني من أن يقوى ويشتد، الأمر الذي أزعج الفرس إلى حد بعيد، فعملوا على بث النفور في نفوس اليمنيين ضد الأحباش والرومان على السواء، ومن هنا نرى الهمداني يحدثنا عن نقش وجده في بلاد الحميريين- وإن ذهب البكري إلى أن قريشًا إنما وجدته في أساس الكعبة عند إعادة بنائها قبل البعثة -على حجر مكتوب بالمسند1، جاء فيه "لمن ملك ذمار؟ لحمير الأخيار، لمن ملك ذمار؟ للحبشة الأشرار، لمن ملك ذمار؟ لفارس الأحرار لمن ملك ذمار؟ لقريش التجار"2. وأيًّا ما كان الأمر، فإن الرواية تذهب بعد ذلك إلى أن "كسرى أنوشروان" "531-589م" قد استشار وزراءه في الأمر، وتمت الموافقة على مساعدة "سيف بن ذي يزن"، ربما تحقيقًا لحلم فارس في السيطرة على طريق التجارة عبر البحر الأحمر، فضلا عن القضاء على النفوذ الروماني -السياسي والاقتصادي والديني- في اليمن، وأن تكون الحملة على اليمن من نزلاء السجون الفارسية، وأن يتراوح عددها بين ثمانمائة أو أكثر- وإن كانت هناك رواية جعلتهم سبعة آلاف وخمسمائة فارس- وأن تكون تحت قيادة الضابط الفارسي "وهريز"، وأن يتزوج الفرس من نساء اليمن، وأن لا يتزوج اليمنيون من النساء الفارسيات، فضلا عن خراج سنوي يحمله "سيف بن ذي يزن" إلى فارس3، وهكذا وجدت فارس في طلب يهود العرب ووثنيهم مؤازرتها ضد الدولة النصرانية، وسيلة للتوسع في بلاد العرب، ومن ثم فإن بادية الشام في الشمال، وإن حالت دون توسع القوى الكبرى   1 البكري 2/ 614-615، ياقوت 7/ 3. 2 الهمداني: الإكليل، نشر نبيه فارس ص156، ابن هشام 1/ 78 "طبعة مكتبة الجمهورية بمصر"، عبد المجيد عابدين: المرجع السابق ص56-57. 3 المعارف ص638، ابن خلكان 6/ 35-36، مروج الذهب 2/ 55-56، تاريخ الطبري 2/ 144، الأخبار الطوال ش63-64، تاريخ ابن خلدون، المعارف ص632، فضلو حوراني: المرجع السابق ص104، فؤاد حسنين: المرجع السابق ص265، ملوك حمير وأقيال اليمن ص149-150. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 في تلك الفترة من التاريخ في شبه الجزيرة العربية، فقد أصبحت أرض الجنوب مدخلا لتلك الدول توصلها إلى قلب البلاد1. وتبحر الحملة إلى اليمن في ثماني سفائن، غرقت منها سفينتان، ووصل إلى ساحل عدن ست سفائن، وهنا يروي الإخباريون رواية، تكررت من قبل مع "أرياط"، إذ يزعمون أن "وهريز" قد أمر بأن تحرق السفائن جميعًا، ليعلم جنوده أنه ليس أمامهم، سوى النصر أو الموت، وأنه سأل "سيفًا" عما عنده، فأجابه: "ما شئت من رجل عربي وسيف عربي، ثم اجعل رجلي مع رجلك، حتى نموت جميعًا أو نظفر جميعًا"2، وعلى أي حال، فإن الحملة ما أن بلغت اليمن حتى انضم إليها الكثير من أتباع سيف، وفي نفس الوقت سار إليها "مسروق" في مائة ألف من الحبشة وحمير والأعراب- طبقًا لبعض الروايات- إلا أن المعركة سرعان ما انتهت باندحار الأحباش وأتباعهم، ولقى "مسروق" حتفه فيها، ودخل "وهريز" صنعاء، وملك اليمن، ونفى عنها الحبشة، ثم تركها -بأمر من كسى أنوشروان- لسيف بن ذي يزن، الذي رضي بدفع جزية وخراج يؤديه كل عام3. وهكذا نجح العرب اليمنيون في تحرير بلادهم من ربقة الاستعمار الحبشي، وقنع الفرس -على ما يبدو- بإقامة حكم وطني في اليمن يدين بالتبعية لهم، ومن ثم فقد أصبح "سيف بن ذي يزن" ملكًا على اليمن، في حوالي عام 575م، فيما يرى المؤرخون المحدثون، وإن كان حكمه لم يشمل كل أنحاء البلاد، بل يبدو أن هناك رجالا من الفرس كانوا يحكمون في اليمن، منذ حوالي عام 598م،   1 P.K. Hitti, Op. Cit., P.66 2 ابن الأثير 1/ 449، مروج الذهب 2/ 55-56، تاريخ الخميس ص218، تاريخ الطبري 2/ 144-16. 3 ابن الأثير 1/ 449-451، ابن كثير 2/ 177-178، الأخبار الطوال ص64، تاريخ ابن خلدون 2/ 63-64، تاريخ الطبري 2/ 146-148، تاريخ اليعقوبي 1/ 200، مروج الذهب 2/ 56-57، ملوك حمير وأقيال اليمن ص151-152، فضلو حوراني ص104، قارن: سعد زغلول المرجع السابق ص199، المعارف ص278، المقدسي 3/ 190-195، جواد علي 3/ 521-523. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 وأنهم كانوا يحملون لقب "وال ستراب"1، وعلى رأسهم من لقبه العرب بـ "الإصبهبذ"2، وهذا يدل على أن الفرس قد استمرءوا المرعى فأقاموا في البلاد، وكأني بالعرب الجنوبيين وقد استبدلوا استعمارًا باستعمار3. وعلى أي حال، فإن خلاص اليمن من نير الاحتلال الحبشي كان له رنة فرح هائلة في جميع أنحاء شبه الجزيرة العربية، ووفدت العرب من الحجاز وغيرها على "سيف بن ذي يزن" يهنئونه بتحرير البلاد وعودة الملك إليه، ومن هذه الوفود وفد إمارة مكة برياسة سيدها وكبيرها "عبد المطلب بن هاشم"- جد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومعه أمية بن عبد شمس، وعبد الله بن جدعان، وأسد بن خويلد بن عبد العزى، في ناس من أشراف قريش، فأعظمهم سيف وأجلهم، ووصلهم بذهب وفضة، وإبل وجوار وعبيد، وقيل أنه أعطى عبد المطلب أضعاف ما أعطى غيره من الوفد، وهنا لم يرض أصحابنا الأخباريون أن يكون "سيف بن ذي يزن" أقل من غيره من ملوك اليمن العظام، الذين بشروا بمبعث رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومن ثم فقد جعلوه يبشر عبد المطلب بمولد مولانا وسيدنا رسول الله -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ- ويخبره بما يعلم عنه4. ويرى الدكتور جواد علي أننا إذا أخذنا برواية المسعودي وغيره عن وفد مكة، وبما يذكره أهل الأخبار من أن فترة الاحتلال الحبشي لليمن كانت اثنتين وسبعين سنة، فإن الوفد المكي يجب أن يكون قد ذهب إلى صنعاء في عام 597م، الأمر الذي يتناقض ووفاة عبد المطلب في العام الثامن من حملة الفيل -أي حوالي عام 578 أو 579م- وفي المؤرخين المحدثين، والذين ذهبوا إلى أن طرد الأحباش من اليمن، إنما كان في عام 575م، ومن ثم تصبح زيارة وفد مكة برياسة "عبد المطلب   1 H. Von Wissmann And M. Hofner, Op. Cit., P.121 وكذا W. Phillips, Op. Cit., P.223 2 سعد زغلول: المرجع السابق ص199، مروج الذهب 2/ 55. 3 فؤاد حسنين: المرجع السابق ص305. 4 العقد الفريد: 1/ 131، ابن كثير 2/ 178، 328-331، بلوغ الأرب 2/ 266-269، تاريخ ابن خلدون، تاريخ الخميس ص271-272، كتاب التيجان ص308=309، ملوك حمير وأقيال اليمن ص152-1547، وصايا الملوك ليحيى الوشاء ص38-40 "طبع بغداد 1332هـ"، قارن: مروج الذهب 2/ 57-60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 لليمن، أمرًا مقبولا1. وإذا ما عدنا مرة أخرى إلى "سيف بن ذي يزن"، لوجدناه يتخذ سياسة في منتهى العنف بالنسبة إلى البقية الباقية من الحبش، فقتل البعض، واتخذ من البعض الآخر عبيدًا يسعون بين يديه بالحراب، ويبدو أن هذه المعاملة القاسية قد أثرت في نفوسهم، حتى أنهم انتهزوا أول فرصة، فوثبوا عليه وقتلوه2. ويعلم "كسرى" بالأمر، فيرسل، "وهريز" في أربعة آلاف من الفرس، ويأمره ألا يترك باليمن أسود، ولا ولد عربية من أسود، إلا قتله، صغيرًا كان أم كبيرًا، ولا يدع رجلا جعدًا قططًا قد شرك فيه السواد، إلا قتله"، ويفعل "وهريز" ما أمر به كسرى، فيستأصل البقية الباقية من الأحباش في اليمن3. ويبدو أن الفرس -الذين كانوا قد توسعوا في شبه الجزيرة العربية- قد طمعوا في اليمن، لأهميتها التجارية والسياسية "أولًا"، وليمنعوا بيزنطة من الاستيلاء عليها "ثانيًا"، ويبدوا كذلك أن "سيف بن ذي يزن" كان قد أحس بتدخلهم في كل شئون بلاده، ومن ثم فقد بدأ يعد العدة للتخلص منهم، كما تخلص من الأحباش من قبل، إلا أن الفرس كانوا قد فطنوا إلى خطته، ومن ثم فقد تآمروا عليه ودبروا أمر قتله، وربما كان بعض الأحباش وسيلتهم إلى ذلك، حتى تصبح اليمن واحدة من ولايات الإمبراطورية الساسانية4. وأيًّا ما كان الأمر، فلقد أصبح أمر اليمن بيد "وهريز" من قبل كسرى، ثم جاء من بعده ولده "المزربان" ثم حفيده "البينجان" ثم "خرخرة" بن "البينجان" وأخيرًا "باذان" الذي قدر له شرف الدخول في الإسلام5، وهنا لعل من الأهمية   1 مروج الذهب 2/ 57، جواد علي 3/ 526. 2 تاريخ الطبري 1/ 148، ابن الأثير 1/ 450، تاريخ ابن خلدون 2/ 64، حمزة الأصفهاني المرجع السابق ص90. 3 حمزة الأصفهاني: المرجع السابق ص90، مروج الذهب 2/ 62-63، تاريخ ابن خلدون 2/ 64-65، الأخبار الطوال ص64، تاريخ الطبري 1/ 148. 4 عبد العزيز سالم: السابق ش213، عبد المنعم ماجد: المرجع السابق ص76-77، قارن: مروج الذهب 2/ 60. 5 تاريخ الطبري 1/ 148، مروج الذهب 2/ 62، المعارف ص313، ابن هشام 1/ 46. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 بمكان الإشارة إلى أن حكم الفرس لليمن، إنما كان يكاد يكون مقصورًا على العاصمة "صنعاء" ومجاوراتها، وأن قبائل اليمن إنما كانت تتمتع أبدًا بحريتها1، وأن الحكم فيها إنما ترك لأبناء الملوك من الأسر المالكة القديمة، وللأقيال والأذواء، وهم الذين عرفوا عند الإخباريين بملوك الطوائف2، وأن القبائل اليمنية أصبحت تعيش كبقية قبائل شبه الجزيرة العربية في صراع فيما بينها، كما أصبح لها أسواق، تشبه أسواق بقية عرب داخل شبه الجزيرة، تأمن فيها على دمائها وأموالها3. ومع ذلك فليس هناك من شك في أن الفرس قد كسبوا الكثير من احتلالهم لليمن، فقد أصبحوا يسيطرون سيطرة فعلية على الطريق البحري التجاري إلى الهند عبر البحر الأحمر، كما سيطروا كذلك على الطريق البحري التجاري إلى الهند عبر البحر الأحمر، كما سيطروا كذلك على الطريق البري- طريق الحجاز- ولم يلبث الفرس أن توجوا جهودهم بفتح الشام ومصر، وأدرك هرقل "610-641م" أن الفرس قد أصبحوا أصحاب السلطان الفعلي على سواحل البحر المتوسط والبحر الأحمر، وأنهم خنقوا دولة أكسوم الحبشية -حليفة الروم- ولكن هذا الوضع سرعان ما تغير سريعا، إذ تمكن هرقل من استرداد سلطانه على الشام ومصر بعد حملة بحرية واحدة4. أما اليمن فكان الأمر فيها مختلفًا إلى حد كبير، ففي السنة السادسة من هجرة مولانا وسيدنا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دخل "باذان" في الإسلام، ومن ثم فقد قضى على اليهودية والنصرانية والوثنية في اليمن، فضلا عن الحكم الأجنبي -حبشيًّا كان أم فارسيًّا5- في الفترة ما بين عامي 628، 630م6، وإن كانت رواية الطبري يفهم، منها أن "باذان" إنما أسلم في عام 628م، حيث تذكر أنه أسلم بعد أن جاءته الأخبار من فارس بقتل "كسرى أبرويز" "590-628م" وتولية "شيرويه" بعده، والذي لم يبق على العرش أكثر من ثمانية شهور7.   1 عبد المنعم ماجد: المرجع السابق ص77، وكذا E. Gibbon, The Decline And Fall Of The Roman Empire, 5, 1950, P.216 2 ابن قتيبة: المعارف ص278. 3 عبد المنعم ماجد: المرجع السابق ص77. 4 عبد العزيز سالم: المرجع السابق ص214-215، إبراهيم أحمد العدوي: قوات البحرية العربية في مياه البحر المتوسط - القاهرة 1963 - ص11. 5 تاريخ الطبري 2/ 656-657، ابن الأثير 2/ 213-215، ابن هشام 1/ 76-77. 6 جواد علي 3/ 528، وكذا W. Phillips, Op. Cit., P.223 7 جواد علي 3/ 528، وكذا Ei, 4, P.178.، وانظر: تاريخ الطبري 1/ 656-657، ابن الأثير 1/ 492-497، 2/ 214-215. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 الفصل الثاني عشر: مكة المكرمة. 1- مكة: نشأتها وتطورها . ليس من شك في أن مكة المكرمة أهم مواضع الحضر في الحجاز على الإطلاق، وأنها ربما ترجع في نشأتها الأولى إلى عهد الخليل وولده إسماعيل، عليهما السلام، وأن سكانها من الإسماعيليين، إلى جانب قبائل عربية، لم يذكر لنا المؤرخون عنها معلومات دقيقة، كالعماليق وجرهم وخزاعة1، وأن الإسماعيليين -أو العدنايين كما يسميهم المؤرخون المسلمون- كانوا يتكلمون اللغة العربية التي لم تصلنا بها نقوش مكتوبة، ربما بسبب عدم وجود خط متميز لهم قبل الإسلام -كخط المسند في الجنوب- وربما لأن طبيعة السكان في الحجاز لم تكن تميل إلى الكتابة2، وإن وجدت كتابات لغير الإسماعيليين في الحجاز. ويختلف المؤرخون في اشتقاق كلمة "مكة"، فذهب فريق إلى أنها إنما سميت كذلك، لأنها تمك الجبارين، أي تذهب نخوتهم، وذهب فريق ثان إلى أنها إنما تقع بين جبلين مرتفعين عليها، وهي في هبطة بمنزلة المكوك، وذهب فريق ثالث إلى أن الكلمة مشتقة من "أمتك" من قولهم: أمتك الفصيل ضرع أمه، إذا مصه مصا شديدا، ولما كانت مكة مكانا مقدسا للعبادة فقد أمتكت الناس، أي جذبتهم من   1 الأغاني 19/ 94، المعارف ص313. 2 النويري 2/ 278، كشف الظنون 1/ 25-26، أصل الخط العربي ص7، عبد المنعم ماجد: التاريخ السياسي للدولة العربية 1/ 77، وكذا E. Gibbon, Op. Cit., 5, P.220 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 جميع الأطراف1، إلى غير ذلك من التفسيرات المألوفة عند الأخباريين في تفسير الأسماء القديمة التي لا علم لهم بها. غير أن اسم مكة لما كان سابقا لتفسيرات الأخباريين هذه، ولما كان الجنوبيون قد سكنوا مكة مع الإسماعيليين، فإن هناك من يرجح أن الاسم إنما أخذ من لغة الجنوب، مستندا إلى البيت الحرام، فمكة أو "مكرب" -في رأي هذا الفريق من العلماء- كلمة يمنية مكونة من "مك" و "رب"، ومك بمعنى بيت، فتكون "مكرب" بمعنى "بيت الرب" أو "بيت الإله"، ومن هذه الكلمة أخذت مكة -أو بكة بقلب الميم باء على عادة أهل الجنوب- ويرى "بروكلمان" أنها مأخوذة من كلمة "مقرب" العربية الجنوبية، ومعناها "الهيكل"2. ويطلق القرآن الكريم على مكة عدة أسماء، منها "بكة" لقوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدىً لِلْعَالَمِين} 3، وهنا يحاول الأخباريون أن يفرقوا بين مكة، وبكة، فالأولى هي القرية كلها، والثانية إنما المراد بها موضع البيت الحرام، أو أن "بكة" هي موضع البيت، ومكة ما سوى ذلك4. ومنها "أم القرى" لقوله تعالى: {وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} 5، ولعل هذه التسمية إنما تشير إلى أن مكة هي أعظم مدن الحجاز؛ ولأنها تضم بيت الله، أول   1 ياقوت 1/ 181-182، ابن هشام 1/ 125-126، عبد العزيز سالم: المرجع السابق ص4391. 2 أحمد إبراهيم الشريف: المرجع السابق ص97-98، كارل بروكلمان: تاريخ الشعوب الإسلامية 1/ 33، وكذا Gerald De Gaury, Rulers Of Mecca, London 1951, P.24. 3 سورة آل عمران: آية 96 "وانظر: تفسير الطبري 7/ 19-37 "دار المعارف"، تفسير مجمع البيان للطبرسي 4/ 144-150، تفسير المنار 4/ 1-14، تيسير تفسير ابن كثير 1/ 291-295 "بيروت 1972"، تفسير ابن كثير 2/ 73-74، تفسير النسفي 1/ 170-171، في ظلال القرآن 4/ 431-436 "دار الشروق، بيروت 1974" تفسير القرطبي 4/ 137-139، الكشاف 1/ 446-447، الدرر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي 2/ 52-55. 4 الأزرقي 1/ 188، ياقوت 5/ 182، 1/ 475، نهاية الأرب 1/ 227-228، نزهة الجليس 1/ 27، صبح الأعشي 4/ 248، تاريخ الكعبة المعظمة ص33، تاج العروس 7/ 179، تفسير الطبري 7/ 23-26، تفسير المنار 4/ 7، تفسير الكشاف 1/ 446، تفسير البيضاوي 1/ 172. 5 سورة الأنعام: آية 92، وانظر: تفسير القرطبي 7/ 38، تفسير الطبري 11/ 530-532 "دار المعارف" تفسير روح المعاني 7/ 1136، 1147-1148، تفسير ابن كثير 3/ 54-56، تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير 2/ 33-34، وانظر: تفسير سورة الشورى: آية7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 بيت وضع للناس، فيه هدى وفيه البركة، وفيه الخير الكثير، جعله الله مثابة أمن للناس1، وللأحياء جميعًا، ومنه خرجت الدعوة العامة لأهل الأرض، ولم تكن هناك دعوة عامة من قبل، وإليه يحج المؤمنون بهذه الدعوة من كل الأجناس2، وصدق الله العظيم حيث يقول: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيق} 3. ومن أسماء مكة كذلك "البلد" لقوله تعالى: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ، وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} 4، ومنها: "البلد الأمين"5 لقوله تعالى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ، وَطُورِ سِينِينَ، وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِين ِ} 6. وأما أقدم ذكر للبلد الحرام في النصوص القديمة، فإنما يرجع إلى القرن الثاني الميلادي، إذ يحدثنا الجغرافي اليوناني بطليموس "138-165م" عن مدينة دعاها   1 هناك رواية تنسب إلى الإمام علي -كرم الله وجهه- أن رجلا سأله عن البيت الحرام: أهو أول بيت، فقال: لا، قد كان قبله بيوت، ولكنه أول بيت وضع للناس مباركًا، وأول من بناه إبراهيم الخليل "انظر: تفسير الكشاف للزمخشري 1/ 446، تفسير الطبري 3/ 69، 7/ 19، قارن 7م 20، 22، البداية والنهاية 2/ 299". 2 في ظلال القرآن 7/ 1148، 25/ 3142. 3 سورة الحج: آية 27. 4 سورة البلد: آية 102، وانظر تفسير الطبري 30/ 193-195، تفسير البيضاوي 2/ 557، تفسير الفخر الرازي 31/ 180-181، تفسير القرطبي 20/ 59-61، تفسير روح المعاني 30/ 133-134. 5 راجع أسماء أخرى في: ياقوت 1/ 457، 5/ 181-182، العقد الثمين 1/ 35-36، ابن هشام 1/ 125-126، تاريخ الخميس ص125، تاريخ مكة ص38، النويري 1/ 313-314، بلوغ الأرب 1/ 228، القاموس 1/ 235، 239، 3/ 97، 329، كتاب الإعلام بأعلام بيت الله الحرام ص18 "طبعة ليبزج 1857م"، صبحي الأعشي 4/ 248، تفسير البيضاوي 3/ 559، تفسير القرطبي 20/ 59-60، تفسير الفخر الرازي 31/ 180، تفسير الطبري 7/ 19-26 "دار المعارف"، 30/ 193-194 "طبعة الحلبي". 6 سورة التين: آية 1-3، وانظر: تفسير روح الماني 30/ 173-175، تفسير الطبري 30/ 238-246، تفسير البيضاوي 2/ 556، تفسير القرطبي 20/ 110-113، تفسير الفخر الرازي 32/ 8-10، مجمع البيان في تفسير القرآن للطبرسي 30/ 177-181" بيروت 1961"، الكشاف 4/ 268، تيسير العلي القدير 4/ 405-406، تفسير ابن كثير 7/ 323-324 "دار الأندلس" الدرر المنثور في التفسير بالمأثور 6/ 365-366، في ظلال القرآن 6/ 3932 "بيروت 1974" تفسير النسفي 4/ 366-367، تفسير أبي السعود "إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم" 5/ 271-272. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 "ماكورابا" "مكربة" "Macoraba"، رأى العلماء أنها مكة المكرمة1، هذا ويذهب "أوجست ميلر" وغيره، إلى أن المعبد الذي ذكره "ديودور الصقلي"- "من القرن الأول الميلادي" في أرض قبيلة عربية دعاها "Bizomeni"، إنما يعني به "بيت مكة"، أمر غير مقبول، فهو يقع بعيدًا عن مكة في "حسمي" في مكان دعاه "ألويس موسل" باسم "عوافة"، حيث بنت قبيلة ثمود، فيما بين عام 166، وبداية عام 169م معبدا هناك2، وربما كان هذا المعبد هو الذي أشار إليه "ديودور" على أنه المعبد الذي يقدسه العرب3. على أن تاريخ المدينة إنما يعود إلى ما قبل عصر بطليموس بكثير، فهناك من يرى أنها سابقة لكتابة أسفار العهد القديم "التوراة"4، فإنما هي "ميشا" المشار إليها في سفر التكوين5، وهي "ميشا" التي يقول الرحالة "برتون" أنها كانت بيتًا مقصودا لعبادة أناس من الهند، ويقول الرحالة الشرقيون أنها كانت كذلك بيتًا مقصودا للصابئين، الذين أقاموا في جنوب العراق قبل الميلاد بأكثر من عشرة قرون6. على أنه من الغريب أن بعض المؤرخين العرب إنما يذهب إلى أن تأسيس المدينة المقدسة، إنما كان في منتصف القرن الخامس الميلادي7، ومن ثم فإنه يتأخر بتاريخها حوالي ثلاثة وعشرين قرنًا، لسبب لا أدريه، وإن كان يخيل إلي أنه اعتبر تاريخ مكة لا يبدأ إلا بقصي بن كلاب، الذي حدد له القرن الخامس   1 كارل بروكلمان: المرجع السابق 1/ 33 وكذا Ptolemy, Vi, 7, 32. وكذا Gerald De Gaury, Op. Cit., P.24 2 انظر عن معبد العوافة: J.B. Philby, The Land Of Midian, Meg, 9, 1955, P.127f وكذا Van Den Branden, Histoire De Thamoud, P.15, وكذا Bior, 15, 1958, P.8-9 3 جواد علي 4/ 9-10 وكذا C.H. Oldfather, Diodorus Siculus, Bibliotheca, Book, Iii, Xxxi, وكذا Gerald De Gaury, Op. Cit., P.12 4 انظر: عن تاريخ كتابة أسفار التوراة "كتابنا إسرائيل" ص24-45. 5 التوراة: سفر التكوين 10: 30. 6 عباس العقاد: مطلع النور ص113. 7 حسن إبراهيم: تاريخ الإسلام السياسي، 1/ 45، صبح الأعشي 4/ 250. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 الميلادي1، وطبقًا لرواية الأخباريين التي ذهبت إلى أن مكة لم يكن بها بناء غير الكعبة إلى أن تولى أمرها "قصي بن كلاب"، ذلك لأن جرهم وخزاعة- فيما يزعمون- لم يكونوا براغبين في إقامة بيوت بجوار بيت الله الحرام2، وكأنما يريد هؤلاء الإخباريون أن يقولوا لنا أن مكة ظلت على بداوتها، منذ أن أقام بها إسماعيل، عليه السلام، في القرن التاسع عشر ق. م، وحتى أصبح أمرها بيد "قصي بن كلاب" في القرن الخامس الميلادي، وتلك مبالغة -فيما أظن- غير مقبولة. هذا وقد ذهبت آراء أخرى إلى أن تأريخ مكة، إنما يرجع إلى القرن الأول ق. م، اعتمادًا على رواية "ديودور الصقلي" -الآنفة الذكر- ورغم أن ديودور لم يذكر تاريخ واسم المعبد، إلا أن أصحاب هذا الاتجاه إنما رأوا أن وصف ديودور للمعبد بأنه كان محجة للعرب جميعًا، لا ينطبق إلا على الكعبة المشرفة3، ولكن "ديودور" لم يحدد لنا بدء سكنى المدينة المقدسة، فضلا عن تحديد تاريخ بناء المعبد نفسه، ومن ثم فربما اعتمد المؤرخون في تحديدهم للقرن الأول ق. م، كبداية لسكني مكة، على أنه العصر الذي عاش بعده ديودور الصقلي. ويذهب "دوزي" إلى أن تاريخ مكة إنما يرجع إلى أيام داود عليه السلام، حيث أقام بني شمعون بن يعقوب -والذين يسميهم الأخباريون جرهم- الكعبة4، في القرن العاشر ق. م5، وتلك أكذوبة كبرى لأسباب، منها "أولًا" أن قبيلة شمعون الإسرائيلية لم تهاجر أبدًا إلى مكة، وإنما كل ما جاء عنها -وطبقًا لرواية التوراة نفسها6- أنها هاجرت على أيام حزقيا ملك يهوذا "715-687ق. م" إلى الجنوب الغربي من واحة معان، ثم تابعت سيرها حتى نهاية الجنوب الغربي لجبل سعير، حيث قضوا على بقايا ضعيفة، أو جيوب صغيرة للعماليق هناك7، ومنها   1 حسن إبراهيم: المرجع السابق ص46. 2 تاريخ اليعقوبي 1/ 197. 3 جواد علي 4/ 12، وكذا R. Dozy, Die Israeliten Zu Mekka, P.13 وكذا E. Gibbon, Op. Cit., P.50 وكذا Caussin De Perceval, Op. Cit., I, P.174 4 R. Dozy, Op. Cit., P.15 5 انظر عن تاريخ داود، كتابنا إسرائيل ص417-417. 6 أخبار أيام ثان 4: 41-43. 7 ألويس موسل: شمال الحجاز ص509، وكذا D.S. Margoliouth, Op. Cit., P.51 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 "ثانيًا" أن قبيلة شمعون هذه كانت أضعف القبائل الإسرائيلية حتى عشية موت سليمان، عليه السلام، في عام 922ق. م، وانقسام الدولة بعد ذلك مباشرة، إلى يهوذا وإسرائيل، ويكاد يجمع المؤرخون اليهود أنفسهم على أن قبيلة شمعون إنما كانت دائمًا وأبدا تعيش على هامش القبائل الإسرائيلية، وأنها أبدًا لم تحتل المكانة التي تجعلها تقوم بدور مستقل في العصر التاريخي الإسرائيل1، فضلا عن أن تقوم بهجوم ساحق على بلاد العرب وتستولي على مكة. ومنها "ثالثًا" أن التوراة نفسها تكاد تتجاهل سبط شمعون، دون غيره من أسباط إسرائيل، ربما لضآلة شأنه، حتى إنها لا تكاد تتعرض لذكر هذا السبط، إلا عند دخول بني إسرائيل أرض كنعان2، وإلا بعد طلب يهوذا3، ثم مرة أخرى، عند رحيله من جنوب يهوذا إلى واحة معان، في أخريات القرن الثامن وأوائل القرن السابع ق. م، كما أشرنا من قبل، مما دفع بعض الباحثين إلى أن يذهبوا بعيدًا، فيرون أن سبط شمعون لم يكن له وجود في عالم الحقيقة4. ومنها "رابعًا" أن هذا الرأي إنما يؤمن بغير حدود بما ذهب إليه بعض المستشرقين من أن الخليل عليه السلام، لم يذهب إلى الحجاز، وبالتالي لم يقم مع ولده إسماعيل ببناء الكعبة، وهو زعم لا يعتمد إلا على التعصب ضد العرب، وعلى معارضة الحقائق التاريخية، فضلا عما جاء في القرآن الكريم بشأن هذه الأحداث الثابتة5، ومنها "خامسًا" أنه يتأخر بتاريخ مكة المكرمة، قرابة قرون تسعة. وهناك رواية إخبارية يزعم أصحابها أن العماليق إنما كانو يعيشون في مكة والمدينة وبقية مدن الحجاز، وأنهم قد عاثوا في الأرض فسادا، ومن ثم فقد أرسل إليهم، موسى، عليه السلام، جيشا قضى عليهم، وسكن اليهود المنطقة بدلا عنهم6   1 M. Noth, The History Of Israel, P.23 2 يشوع 19: 1-9. 3 قضاة 1: 3. 4 C.F. Burney, Israel's Settlement In Canaan, P.37-58 وكذا إسرائيل ولفنسون: تاريخ اليهود في بلاد العرب ص3. 5 انظر كتابنا إسرائيل ص183-189، وكتابنا "دراسات في التاريخ القرآني"، الفصل السابع -من الجزء الأول- 6 جواد علي 4/ 13، الأعلاق النفيسة ص60 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 ولا ريب في أن هذا زعم مكذوب من أساسه -الأمر الذي سوف نناقشه بالتفصيل عند الحديث عن المدينة المنورة- وعلى أي حال، فإن موسى إنما كان يعيش في القرن الثالث عشر ق. م، وأنه خرج بالإسرائيليين من مصر حوالي عام 1214ق. م، كما حددنا ذلك في كتابنا إسرائيل1. والرأي عندي أن تاريخ مكة إنما يرجع إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر قبل الميلاد، ذلك أننا نعرف -تاريخيًّا ودينيا- أن الخليل عليه السلام، قد أتى بولده إسماعيل وزوجه هاجر من فلسطين، وأسكنهما هناك في هذه البقعة المباركة2، طبقًا لصريح القرآن الكريم، حيث يقول {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ 3 تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} 4، وإذا ما تذكرنا أن الخليل عليه السلام، كان يعيش في الفترة "1940-1765ق. م"5، وأنه قد رزق بولده إسماعيل، وهو في السادسة والثمانين من عمره6، فإن إسماعيل يكون قد ولد حوالي عام 1854ق. م، ولما كان قد عاش 137 عامًا7، فإنه يكون قد انتقل إلى جوار ربه الكريم، حوالي عام 1717ق. م، ومن ثم فإنه قد عاش في الفترة "1854-1717ق. م" وإذا كان صحيحًا ما ذهب إليه بعض المؤرخين من أنه قد شارك أباه   1 انظر كتابنا: إسرائيل ص268-303. 2 تاريخ الطبري 1/ 251-259، ابن الأثير 1/ 102-105، ابن كثير 1/ 154-154، المقدسي 3/ 60، تاريخ ابن خلدون 2/ 36-37، شفاء الغرام 2/ 3، تاريخ الخميس ص106، تاريه اليعقوبي 1/ 25، تفسير روح المعاني 13/ 236-237، تفسر الطبري 13/ 230-233، تفسيرالفخر الرازي 19/ 136، الأزرقي 1/ 54-56. 3 تذهب كتب التفسير إلى أن الله سبحانه وتعالى لو قال: "أفئدة الناس" ولم يقل: {أَفْئِدَةً مِنَ النَّاس} ، لازدحم عليهم الفرس والروم والناس كلهم، ولحجت اليهود والنصارى والمجوس، ولكنه قال: {أَفْئِدَةً مِنَ النَّاس} فاختص به المسلمون "انظر: تفسير ابن كثير 4/ 142، تفسير البيضاوي 1/ 533، تفسير القرطبي 9/ 373، التفسير الكبير للفخر الرازي 19/ 137، تفسير النسفي 3/ 264، تفسير روح المعاني 13/ 238-239، تفسير الطبري 13/ 233-234. 4 سورة إبراهيم: آية 37، وانظر: تفسير روح المعاني 13/ 236-241، مجمع البيان للطبرسي 13/ 224-230 تفسير الطبري 13/ 229-235، تفسير ابن كثير 4/ 141-142، تفسير الكشاف 2/ 380. 5 انظر كتابنا: إسرائيل ص171-177. 6 تكوين 16/ 16 7 تكوين 25: 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 في بناء الكعبة، وهو في الثلاثين من عمره1، تصديقا لقوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيم} 2، فإن بناء الكعبة حينئذ يكون حوالي عام 1824ق. م، وهذا يعني أن مكة قد عمرت منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر ق. م، وهو تاريخ يجعلها واحدة من أقدم مدن بلاد العرب الجنوبية والشمالية سواء بسواء. وعلى أي حال، فلقد عاش إسماعيل بجوار بيت الله الحرام، وتزوج من امرأة مصرية على رواية التوراة3، ومن يمنية على رواية الأخباريين4، وقد أنجب من زوجته المصرية أو اليمنية، لست أدري على وجه التأكيد، أولاده الاثني عشر، وهم -طبقًا لرواية التوراة5- "بنايوت وقيدار وأدبئيل ومبسام ومشماع ودومه ومسا وحدار ويطور ونافيش وقدمه" وقد نقلهم الأخباريون في كتبهم بشيء قليل أو كثير من التحريف6. وأيا ما كان الأمر، فإن إسماعيل قد ظل -بعد إبراهيم- يدعو الناس إلى عبادة الله في مكة ومجاوراتها، حتى إذا ما انتقل إلى جوار ربه الكريم، قام بنوه من بعده على السلطة الزمنية في مكة، وعلى خدمة البيت الحرام، غير أن "جرهم"- طبقا لرواية الإخباريين -سرعان ما تولت أمر البيت، وأبناء إسماعيل مع أخوالهم لا يرون أن ينازعوهم الأمر، لخوؤلتهم وقرابتهم، وإعظاما للحرمة أن يكون بها   1 مروج الذهب 2/ 22، وانظر مقالنا "قصة الطوفان بين الآثار والكتب المقدسة" مجلة كلية اللغة العربية، العد الخامس، ص383-457 "الرياض "1975". 2 سورة البقرة: آية 127، وانظر: تفسير الطبري 3/ 57-73، الكشاف 1/ 311، تفسير روح المعاني 1/ 383-384، تفسير البحر المحيط 1/ 387-289، تفسير النسفي 1/ 74، الدرر المنثور في التفسير بالمأثور 1/ 125-137 "طبعة طهران 1377هـ"، تفسير القرطبي 2/ 120-126، تفسير أبي السعود 1/ 124-125، في ظلال القرآن 1/ 109-113 "دار الشروق، بيروت 1973". 3 تكوين 21: 21. 4 ابن كثير 1/ 2-1-193، تاريخ الطبري 1/ 314، ابن كثير 1/ 4-1-105، 125، الأزرقي 1/ 86، مروج الذهب 2/ 20-21، تاريخ ابن خلدون 1/ 37، المعارف ص16. 5 تكوين 25: 14-16. 6 ابن الأثير 1/ 125، تاريخ الطبري 1/ 314، ابن كثير 1/ 193، مروج الذهب 1/ 21-22، تاريخ ابن خلدون 2/ 39، الأخبار الطوال ص9، تاريخ الخميس ص111، جمهرة أنساب العرب ص7، 9-15، شفاء الغرام 2/ 17-18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 بغي أو قتال، إلى أن قدمت قبائل "الأزد" مهاجرة من اليمن، في فترة لا نستطيع تحديدها على وجه اليقين، ونازعت واحدة من هذه القبائل "خزاعة" جرهم أمر البيت، حتى استولت عليه وطردت جرهم من مكة، ولم يلبث أبناء إسماعيل أن انتشروا في أنحاء الجزيرة العربية، وخاصة في شمالها، وليست أسماء القبائل التي تنسب إلى إسماعيل، إلا أسماء أبنائه أو أحفادهم1. وتاريخ بني إسماعيل من هذه الفترة، وحتى عهد قصي، غامض غموضا شديدا، ولا يعرف حنى المؤرخون العرب كيف يملئون فراغ هذه القرون المتطاولة، ولا تبزغ شمسهم -مشبعة بالغيوم- فوق أفق التاريخ الحقيقي، إلا من عهد قصي في منتصف القرن الخامس الميلادي، على أن هذا لا يمنعنا أن نذكر -طبقًا لروايات الإخباريين- أنهم هم الذين قاموا على الحكومة والبيت في مكة، ثم تلاهم الجراهمة، فالخزاعيون، ثم ردت إليهم بضاعتهم من جديد، على أيام قصي بن كلاب2.   1 مروج الذهب 2/ 22-24، الأخبار الطوال ص9-10، صبح الأعشي 1/ 315، العقد الثمين 1/ 131-132، تاريخ الخميس ص124-126، أحمد إبراهيم الشريف: مكة والمدينة في الجاهلية وعصر الرسول ص101، مبروك نافع: المرجع السابق ص133، ابن هشام 1/ 125. 2 مبروك نافع: المرجع السابق ص133، تاريخ الطبري 2/ 284، المعارف ص313، ابن سعد 1/ 36-42، ابن خلدون 2/ 332-335، شفاء الغرام 2/ 48-54، اليعقوبي 1/ 222، الأزرقي 1/ 82-87. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 2- مكة في عصر قصي: لعل أهم ما يميز ذلك العصر، أنه العصر الذي بدأت به السيادة القرشية على مكة، بقيادة رجلها العظيم "قصي بن كلاب" -الجد الرابع للمصطفى صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ- الذي جمع أمر مكة في يديه، ثم ورثه لأبنائه من بعده، بعد أن أزاح الخزاعيين عنها في حوالي منتصف القرن الخامس الميلادي، مما اضطرهم إلى الرحيل عن مكة، والنزول في بطن مر "وادي فاطمة"، وهكذا أصبح قصي رئيسًا للحكومة المكية وزعيما لديانتها، ومن ثم فقد اجتمعت له السقاية والحجابة والرفادة واللواء ودار الندوة، وهي أمور لم تجتمع لرجل من قبله1.   1 ابن هشام 1/ 130-137، أحمد إبراهيم: المرجع السابق ص105، مبروك نافع: المرجع السابق ص133. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 ويجمع المؤرخون على أن قصيا هذا من ولد إسماعيل، فهو "قصي1 بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان بن أدد"، وإن كانوا يختلفون في أسماء الفترة حتى إسماعيل، ولعل أرجح سلسلة الأنساب هي التي تقول إن عدنان هو "ابن أدد بن زيد بن ثري بن أعراق الثري"، وأما "ثري" فهو نبت أو نبايوت، وأما "أعراق الثري" فهو إسماعيل بن إبراهيم الخليل، عليهما السلام2، وإلى هذا يشير الحديث الشريف: "اختار الله من ولد إسماعيل كنانة، واختار قريشًا من كنانة، واختار بني هاشم من قريش، واختارني من بني هاشم، فأنا خيار من خيار " 3. ويروي الأخباريون أن "فاطمة بنت سعد" قد تزوجت بعد وفاة "كلاب" برجل من "بني عذرة" فحملها معه إلى موطن قبيلته على مشارف الشام، فأخذت معها ولدها زيد، والذي لقب بقصي لبعده عن ديار أبيه، ولما بلغ قصي مبلغ الرجال وعرف حقيقة نسبه، وأنه قرشي -وليس عذريا- عاد إلى مكة، ثم تزوج من ابنة خليل الخزاعي، غير أن الرجل لم يلبث إلا قليلا حتى هلك، وهنا يعلن قصي حقه في ولاية البيت الحرام -إرثا من جده إسماعيل- فتقوم الحرب بين خزاعة وحلفائها من جانب، وبين قصي ومن ناصره من كنانة وإخواته من بني عذرة من جانب آخر، ويكتب في نهايتها لقصي نجاحا بعيد المدى في هزيمة خزاعة ومن والاها من بكر، وفي أن يجليها عن المدينة المقدسة، وفي أن يصبح سيد مكة دون منازع4.   1 تذهب المراجع العربية إلى أن قصيا إنما كان على أيام المنذر بن النعمان ملك الحيرة "418-462م" وبهرام جور ملك الفرس "420-438م" "ياقوت 5/ 186، بلوغ الأرب 1/ 247، وكذا Ency, Of Islam, 4, P.174.، ويرى "وليم موير" في كتابه "حياة محمد". The Life Of Mohammed, Edinburgh, 1923 أنه ولد في حوالي عام 400م، وولده عبد مناف في حوالي عام 430م، وولد هاشم في حوالي عام 464م، ثم ولد عبد المطلب في حوالي عام 497م، أما عبد الله والد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فحوالي عام 545م. 2 تاريخ الطبري 2/ 254-275، ابن الأثير 2/ 18-33، ابن خلدون 2/ 298، تاريخ الإسلام للذهبي 1/ 18، الاشتقاق 1/ 20-32، الإكليل 1/ 110-116، أخبار الزمان للمسعودي ص104 القلقلشندي: نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب ص23-25 "القاهرة 1059"، المعارف ص29-32، الزبيري: كتاب نسب قريش، القاهرة 1953، ص13-14. 3 ابن كثير: البداية والنهاية 2/ 202، وانظر: المواهب للقلاني 1/ 13. 4 تاريخ الطبري 2/ 254-258، تاريخ ابن خلدون 2/ 334، ابن كثير 2/ 18-20، ابن هشام = 1/ 128-135 "مراجعة محمد خليل هراس"، البداية والنهاية 2/ 205-206، تاريخ اليعقوبي 1/ 237-239، الأزرقي 1/ 103-107، القلقشندي: نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب ص365-366 "طبعة بغداد 1957"، الدميري: حياة الحيوان 2/ 278، نسب قريش للزبيري ص14، أنساب العرب للبلاذري 1/ 48، المحبر ص562، حسين باسلامة: تاريخ الكعبة المعظمة ص281-283 حياة محمد ص110-111. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 وتذهب بعض المراجع إلى أن القيصر إنما قد أعان قصيا على خزاعة1، فإذا كان ذلك كذلك، فربما كان الغساسنة هم وسيلة قيصر إلى ذلك، وربما كانت قبيلة عذرة -التي تربى فيها قصي- هي التي قامت بهذا الدور، بخاصة وأنها من القبائل المتنصرة، التي كانت تعيش على مقربة من النفوذ الروماني في الشام، والذي ربما كان يمتد إليها كذلك، وهنا فلعل أقرب الفروض إلى الصواب، أن تكون المساعدة الرومية لقصي عن طريق واحد من حكام الولايات الجنوبية، ولعلها "بصرى" في شكل مساعدة مالية، أو بإيعاز إلى إحدى القبائل الظاعنة حول الحدود الفلسطينية، بمساعدة قصي2، وإذا كان صحيحًا ما ذهبت إليه المراجع العربية، من أن إخوة قصي من عذرة قد ساعدوه في القضاء على خزاعة3، كما أشرنا من قبل، فإن قبيلة عذرة هي التي قامت بهذا الدور. وأيا ما كان الأمر، فلقد نجح قصي في القضاء على نفوذ خزاعة ومن والاها من بكر، وفي أن يجليهم عن مكة، وفي أن يصبح هو سيد المدينة المقدسة، وصاحب ولاية البيت الحرام، وأن يفرض نفوذه على بطون كنانة التي كانت تلي بعض مناسك الحج، وأن ينزل قريشًا مكة، وكان بعضًا من بطونها مقيما في الشعاب ورءوس الجبال، ثم يقسمها أرباعا بينهم، ومن ثم فقد سمي "مجمعا"، وهكذا تزعم قصي قومه فملكوه عليهم، فكان أول ولد كعب بن لؤي أصاب ملكًا وأطاع له به قومه، وكانت إليه الحجابة والسقاية والرفادة والندوة واللواء، فحاز شرف قريش كله4.   1 انظر: المعارف ص313، وكذا H. Lammenes, La Mecque A La Veille De L'hegire, P.289 2 جواد علي 4/ 39، وكذا W. Montgomery Watt, Muhammed At Mecca, Oxford, 1953, P.13 3 ابن الأثير 2/ 19، ابن كثير 2/ 205، تاريخ الطبري 2/ 256-257، تاريخ ابن خلدون 2/ 334، تاريخ اليعقوبي 1/ 238، ابن سعد 1/ 68، الأزرقي 1/ 105. 4 ابن كثير 2/ 205-209 - تاريخ اليعقوبي 1/ 237-240، تاريخ الطبري 2/ 254-258، تاريخ ابن خلدون 2/ 334، مروج الذهب 2/ 31-33، الأزرقي 1/ 103-107، صبح الأعشي 1/ 300-306، نهاية الأرب للقلقشندي ص399-400، نهاية الأرب للنويري 1/ 246-247، بلوغ الأرب للألوسي 2/ 173، 285، أنساب الأشراف 1/ 50، الطبقات الكبرى 1/ 36-39، 4/ 1-9، الميداني 1/ 216-217، المعارف ص279، شفاه الغرام 1/ 54، 67-72، الاشتقاق 1/ 36-39، 155، 2/ 469، العقد الثمين 1/ 145-147، أحمد السباعي: تاريخ مكة ص45، حياة محمد ص111، تاريخ الكعبة المعظمة ص281-284. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 ولعل هذه الأحداث هي التي كانت سببًا في أن يذهب بعض المستشرقين الذين اعتادوا الشك في كل رواية عربية أو إسلامية، إلى أن قصيا إنما هو شخصية خيالية، ابتدعها خيال الإسلاميين على زعم، وشخصية حربية جاءت من الشمال من السهول المحيطة بسورية على زعم آخر، ويبلغ الخيال أشده بهؤلاء المؤرخين الأوربيين حين يزعمون أن قريشًا نفسها -تلك القبيلة التي نجحت في أن تحكم مكة وأن تنقلها من مرحلة البداوة إلى زعامة شبه الجزيرة العربية، وأن تنشئ لنفسها من التنظيم السياسي والاقتصادي والديني ما يكفل لها هذا التقدم، وما يدل على معرفة كبيرة بشئون الحكم والاستقرار- لا يمكن أن تكون من هذه القبائل المتبدية في تهامة والحجاز، ومن ثم فلا بد أن تكون -فيما يزعمون- قد قدمت من الشمال، أو من وديان العراق، وربما كانت من بقايا الأنباط الذين قضى الرومان على دولتهم في أوائل القرن الثاني الميلادي، خاصة وأن قريشًا قد برعت في التجارة التي برع الأنباط فيها من قبل، كما أن لغتها التي سادت بلاد العرب، إنما هي لغة شمالية أكثر منها جنوبية1. ولا ريب في أن هذا الزعم قد جانبه الصواب إلى حد كبير، وذلك لأسباب منها "أولًا" أن قصيا إنما هو شخصية حقيقية قد عاشت في فترة لا تبعد كثيرًا عن الإسلام، ومن ثم فلا يمكن القول أن الخيال قد اختلط بالتاريخ فيما يدور حولها من أحداث، ومنها "ثانيًا" أن القرشيين أنفسهم قد سبقوا هؤلاء المتشككين من المستشرقين إلى القول، بأنهم إنما يرتبطون بالأنباط بصلات القربي حتى أن "ابن عباس" قد أعلن منذ ما يقرب من أربعة عشر قرنًا "نحن معاشر قريش من النبط"، فضلا عن أن لغة الحجاز لم تتطور من اليمنية مباشرة، وإنما جاء التطور   1 أحمد إبراهيم: المرجع السابق ص105-106، شوقي ضيف: العصر الجاهلي ص49، وكذا H. Lammens, Op. Cit., P.148-94, وكذا W.M. Watt, Op. Cit., P.4 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 من العربية القديمة إلى الآشورية إلى الآرامية إلى النبطية إلى القرشية1، ومن ثم فإن القرابة بين الأنباط والقرشيين أمر معروف، وما أتى المستشرقون بجديد فيها، الأمر الذي سنشير إليه عند الحديث عن الأنباط، ومنها "ثالثًا" أن هناك في المراجع العربية ما يشير إلى أن قريشًا عندما طردت خزاعة من مكة، فإن بعضًا من رجال خزاعة قد وهب مسكنه، ومنهم من باعه، ومنهم من أسكنه، مما يدل على أن مكة إنما كانت عشية تسلم قصي زمام السلطة فيها مأهولة بسكانها من الخزاعيين، فما فعل قصي إلا أن أحل قريشًا مكان خزاعة، بعد أن كان بعض منها يسكن الشعاب ورءوس الجبال -كما أشرنا من قبل- ويؤيد هذه الحقيقة أن القرآن الكريم إنما يسمي مكة "أم القرى"، حيث يقول سبحانه وتعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} 2، ويقول: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا} 3، وبدهي أن ذلك إنما يعني أن مكة كانت عاصمة المنطقة وقت ذاك، وأن أهل المنطقة إنما كانوا يعرفون هذه التسمية التي أطلقها القرآن الكريم على مكة، كما أن مكة هذه لن توجد بين عشية وضحاها، أو أن العمران يتطور فيها إلى أن تصبح عاصمة للحجاز، فيما بين عهد قصي والبعثة النبوية الشريفة، وهي فترة لا تزيد كثيرًا عن قرن ونصف قرن من الزمان.   1 العقاد: إبراهيم أبو الأنبياء ص136-137، عبد الرحمن الأنصاري: لمحات عن القبائل البائدة ص89، فيليب حتى: تاريخ العرب ص108-109، وكذا The Universal Jewish Encyclopaedia, I, P.198 وكذا M. Sprenling, The Alphabet, Its Rise And Development From The Sina Inscriptions. P.52 2 سورة الشورى: آية7، وانظر: تفسير النسفي 4/ 100، تفسير أبي السعود 5/ 29، الكشاف 3/ 275، تفسير البيضاوي 2/ 353، تفسير الطبري 25/ 8010، تفسير القرطبي 16/ 16، تفسير الطبرسي 25/ 38-39، تفسير روح المعاني 25/ 13-14، تفسير ابن كثير 6/ 188-190، تيسير العلي القدير 3/ 563، وانظر: سورة الأنعام: آية 92. 3 سورة القصص: آية 59، وانظر: تفسير البيضاوي 2/ 198، تفسير الطبري 20/ 65-96، تفسير روح المعاني 20/ 98، تفسير الطبرسي 20/ 305-310، تفسير ابن كثير 3/ 395-396 "دار إحياء التراث العربي" تفسير القرطبي 13/ 301-203، تيسير العلي القدير 3/ 273، في ظلال القرآن 20/ 2696-2697، 2704-2705 "بيروت 1974"، الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل للزمخشري 3/ 186. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 ومنها "رابعًا" أن مكة إنما تقع على طريق القوافل بين جنوب بلاد العرب وشمالها، فضلا عن أنها قريبة من البحر الأحمر، ومن ثم فمن غير المقبول أن نتصور مكة، ولها مثل هذا الموقع الجغرافي الممتاز، دون أن تتصل بالعالم الخارجي، وتأخذ عنه بأسباب الحضارة، وقد فعلت مكة ذلك منذ أيام خزاعة على الأقل، على أن ما أقرته مكة في عهد قصي من نوع الحكم، إنما هو في جوهره تنظيم قبلي موجود في تشكيل القبيلة العربية1. وأخيرًا منها "خامسًا" فإن هناك من آثار قصي، وأعني به دار الندوة، وما بقي حتى أيام الأمويين والعباسيين من بعدهم، ويحدثنا التاريخ أن معاوية بن أبي سفيان "41-60هـ-661-680م" قد اشترى دار الندوة من صاحبها بمائة ألف درهم، وجعلها دارا للإمارة في مكة، وأن الخليفة العباسي المعتضد بالله قد أمر بهدمها وإدخالها في المسجد الحرام2. وأيا ما كان الأمر، فإن قصيا إنما هو أول رئيس من رؤساء مكة يمكننا الحديث عنه، دون أن يخالجنا ريب فيما نقول، فالرجل قد خلد ذكراه في التاريخ بأعماله العظيمة في مكة، رغم ريب المرتابين، والرجل قد أوجد من النظم في تنظيم الحج إلى بيت الله الحرام، ما بقي بعده مئات السنين، والرجل هو الذي جعل البلد الحرام خالصا لأهله من بني كنانة من ولد إسماعيل، عليه السلام، بعد أن أبعد عنه المغتصبين من خزاعة. وقد قام قصي بعدة إصلاحات في مكة، فبعد أن جمع القرشيين المبعثرين في نواحي متعددة إلى وادي مكة، جعل لكل بطن حيا خاصًا به على مقربة من الكعبة، حتى تكون منازل القوم بجوار البيت الحرام، فيتعهدونه بالصيانة، ويدفعون عنه الخطر، ومن ثم فإنه لم يترك بين الكعبة والبيوت التي بنتها بطون قريش، إلا بمقدار ما يسمح للناس بالطواف، وإن كان أهم أعماله إنما هو إنشاؤه "دار الندوة"، حيث كان يدار فيها -تحت رياسته- كل أمر قريش وما أرادوه من حرب   1 أحمد إبراهيم الشريف: مكة والمدينة في الجاهلية وعصر الرسول ص107-108، محمد حسين هيكل: حياة محمد ص110 "القاهرة 1971". 2 ابن الأثير 2/ 21، ابن كثير 2/ 207، السهيلي 1/ 88، العبادي: صور من التاريخ الإسلامي -العصر العربي -ص12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 أو تجارة أو مشورة أو نكاح، فما كان لرجل ولا لامرأة أن يتزوج إلا فيها، وما كان لفتاة من قريش أن لا تدرع إلا فيها، ومن ثم فقد كان على صاحب الدار أن يشق درعها بيده، وكان القوم يفعلون ذلك ببناتهم إذا بلغن الحلم، وربما كان الغرض من ذلك التعريف بالبالغين من قريش -ذكورا كانوا أم إناثا- وأما أعضاء دار الندوة هذه، فكانوا جميع ولد قصي، وبعضا من غيرهم، على شريطة أن يكون الواحد منهم قد بلغ الأربعين من عمره، أو كان من ذوي القدرات الخاصة1، وهكذا كانت دار الندوة بمثابة دار مشورة ودار حكومة في آن واحد، يديرها الملأ من القوم -الذين كانوا يشبهون إلى حد ما أعضاء مجلس الشيوخ الآثيني2- ويتكونون من رؤساء العشائر وأصحاب الرأي والحكمة فيهم، للنظر فيما يعترض القوم من صعاب3. وكان قصي شديد العناية بعمارة البيت الحرام، الذي يزعم البعض أنه أعاد بناءه، ومن ثم فهو أول من جدد بناء الكعبة من قريش، ثم سقفها بخشب الدوم وجريد النخل، كما كان أول من أظهر الحجر الأسود بعد أن دفنته "إياد" في جبال مكة، ثم أوكل أمره من بعده إلى جماعة من قريش، حتى أعاد القوم بناء الكعبة في عام 606م "35ق. م" فوضعوه في ركن البيت بإزاء باب الكعبة في آخر الركن الشرقي، ويحدثنا التاريخ أن القوم كادوا يقتتلون على من يحوز شرف إعادة الحجر الأسود إلى مكانه، لولا حكمة سيد الأولين والآخرين -محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- وذلك بأن وضع الحجر في ثوب، ثم أمر بأن تأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ثم رفعوه جميعًا، فلما بلغوا موضعه، وضعه بيده الشريفة، ثم بنى عليه4.   1 عبد الحميد العبادي: المرجع السابق ص8-9، الأغاني 4/ 384، الألوسي 1/ 248، ابن هشام 1/ 134-136 "مكتبة الجمهورية بمصر"، ابن سعد 1/ 39-40 المقدسي 4/ 127، الأزرقي 1/ 207-109، ياقوت 5/ 186-187، تاريخ الطبري 2/ 257-259، تاريخ اليعقوبي 1/ 240، تاريخ ابن خلدون 2/ 235، أنساب العرب للبلاذري 1/ 52، نهاية الأرب للقلقشندي ص4300، شفاء الغرام 2/ 86-87، الاشتقاق 1/ 155، تاريخ مكة ص45، حياة محمد ص111، أحمد إبراهيم: المرجع السابق ص115، P.K. Hitti, Op. Cit., P.104 2 W.M. Watt, Op. Cit., P.9 3 جواد علي 4/ 47، وكذا De Lacy O'leary, Op. Cit., P.183 4 مروج الذهب 2/ 272-273، مدخل إلى القرآن الكريم ص25-26، تاريخ الطبري 2/ 288-290، ابن كثير 2/ 299-304، ابن الأثير 2/ 44-45، ياقوت 4/ 4366، ابن هشام 1/ 199-2-، الأزرقي 1/ 157-164، تاريخ الخميس ص1260131، المقدسي 1/ 140، ابن سعد 1/ 93-95، تفسير القرطبي 2/ 122-123 هيكل: حياة محمد ص141-142. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 ولعل من أهم أعمال قصي أنه جعل وظيفة "سدانة الكعبة" -وهي خدمة البيت الحرام- من أهم الوظائف في عهده، والأمر كذلك بالنسبة إلى وظيفة "السقاية"، بخاصة في بلد شحت مياهه في وقت كان يستقبل فيه أكثر مما يطيق من الحجيج، ومن ثم فقد كان على صاحب السقاية توفير المياه لزوار بيت الله الحرام، حتى ييسر لهم مهمة الحج، ويجعل الإقبال عليه كبيرا، ومن ثم يذهب الأخباريون إلى أن قصيا قد حفر بئرًا سماها "العجول"، وكانت "الرفادة" -وهي خرج تدفعه قريش من أموالها إلى قصي ليصنع منه طعامًا للحجاج ممن لم يكونوا على ميسرة- من الوظائف الهامة التي ظهرت في مكة على أيام قصي، وتروي المصادر العربية أن قصيا قال لقومه: "إنكم جيران الله وأهل بيته وأهل الحرم، وأن الحاج ضيف الله وزوار بيته، وهم أحق الضيف بالكرامة، فاجعلوا لهم طعامًا وشرابا أيام الحج حتى يصدروا عنكم"، ففعلوا فكانوا يخرجون من أموالهم فيصنع به الطعام أيام "منى"، فجرى الامر على ذلك في الجاهلية والإسلام، وأخيرًا كان من أعمال قصي "اللواء" وهو رياسة الجيش في الحروب، ويسند لمن بيده اللواء، يسلمونه إليه عند قيام الحرب1، وتجمع المصادر الإسلامية على أن مولانا وسيدنا رسول الله -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ- قد ألغى هذه المناصب جميعًا يوم فتح مكة، إلا سقاية الحاج وسدانة الكعبة2. ويجمع المؤرخون على أن قصيا إنما ظل يمسك بهذه الوظائف جميعًا حتى وفاته، كما ظل كذلك الرجل الوقور المطاع في قومه، لا يخالف، ولا يرد عليه شيء أقره، ولعله في جمعه لرياسة دار الندوة وعقده اللواء وجمعه الرفادة، يقابل في اصطلاحاتنا الحديثة، رياسة السلطات التشريعية والحربية والمالية، إن جاز هذا التعبير3-   1 ابن الاثير 2/ 21-23، الطبري 2/ 258-260، ابن هشام 1/ 134-140، ياقوت 5/ 1876، ابن سعد 1/ 41، البلاذري 1/ 51، ابن خلدون 2/ 235، اليعقوبي 1/ 240-242، الأزرقي 1/ 62، 127. 2 العقد الفريد 3/ 313-315، ابن كثير 4/ 310، تاريخ مكة ص53، الطبري 3/ 60-61، المقدسي 4/ 127-128، الأزرقي 1/ 110-111، 114-115 شفاء الغرام 2/ 120 3 محمد مبروك نافع: المرجع السابق ص139. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 ولعل هذا هو الذي دفع "الأب هنري لامانس" إلى القول بأن مكة إنما كانت جمهورية بالمعنى الكامل للجمهورية، وقد يكون لشخصية "قصي" الفذة تأثير في ذلك، إلا أن تنظيمات قريش لم تكن في واقع الأمر، إلا تنظيما قبليا في جوهره، وإن بدا في ظاهره تنظيما جمهوريا، لأن الزعيم لم يكن يحمل لقبًا معينا، فضلا عن أن هناك من الأدلة ما يشير إلى أن العشيرة إنما كانت تتمتع بحرية كاملة، ولا تخضع لسلطان غيرها في كثير من الأحايين، بل إن كثيرًا من الأفراد إنما كانوا يخرجون على رأي العشيرة نفسها، ومن النوع الأول عدم مشاركة بني زهرة لقريش في موقعة بدر، رغم موافقتها على القتال وخروجها إليه، بل إن بني عدي لم يخرجوا للقتال أصلا، ومن النوع الثاني خروج أبي لهب على رأي بني هاشم، وانضمامه إلى بقية بطون قريش في مقاطعتها لبني هاشم، وبقاء العباس على علاقاته الودية ببطون قريش، رغم تضامنه مع بني هاشم، هذا إلى أن العشيرة إنما كانت تخرج أحيانًا على مجلس القبيلة، ومثال ذلك اجتماع بني هاشم والمطلب على حماية المصطفى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- ومواجهة قريش1. ويرى الدكتور طه حسين -يرحمه الله- أنه من العسير أن نحدد لمكة نظاما من نظم الحكم التي يعرفها الناس، فلم يكن ملك، ولم تكن جمهورية أرستقراطية بالمعنى المألوف لهذ العبارة، ولم تكن جمهورية ديمقراطية بالمعنى المألوف لهذه العبارة أيضًا، ولم يكن لها طاغية يدير أمورها على رغمها، وإنما كانت قبيلة عربية احتفظت بكثير من خصاص القبائل البادية، فهي منقسمة إلى أحياء وبطون وفصائل، والتنافس بين هذه جميعًا قد يشتد حينا ويلين آخر، ولكنه لا يصل إلى الخصومات الدامية، كما هو الحال في البادية وأمور الحكم، تجري كما تجري في البادية، وكل ما وصلت إليه قريش من التطور في شؤون الحكم هو أنها لم يكن لها سيد أو شيخ يرجع إليه فيما يشكل من الأمر، وإنما كان لها سادة أوشيوخ يلتئم منهم مجلس في المسجد الحرام، أو في دار الندوة2.   1 أحمد إبراهيم الشرفي المرجع السابق ص112-113 ابن هشام 1/ 365، الطبري 2/ 323-328، 429، 438، 4432، ابن الأثير 2/ 87، 117، 121، ابن كثير 3/ 84-88، 257، 266، وكذا H. Lammens, La Republique De La Mecque 2 طه حسين: مرآة الإسلام ص22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن قريشًا هذه -كما يرجح المؤرخون الإسلاميون- إنما هي من نسل رجل واحد، هو "فهر بن مالك بن النضر بن كنانة" من ولد إسماعيل عليه السلام، وأن اسم قريش لم يعرف إلا منذ أيام "فهر"، ومن ثم فقريش هم "فهر" ومن تحدر من صلبه من سكان مكة وظواهرها1. وأما أقدم ذكر لقريش في النصوص العربية الجنوبية القديمة، فربما كان -كما أشرنا من قبل -يرجع إلى أيام الملك الحضرمي "العزيلط"، والذي حكم في القرن الأول قبل الميلاد على رأي، وفي القرن الثالث الميلادي على رأي آخر2، فهناك ما يشير إلى أن عشر نساء قرشيات رافقن الملك "العزيلط" إلى حصن "أنو"، فإذا كان النص يعني حقًّا بقريش، قريش صاحبة مكة، فإننا نكون قد وقفنا لأول مرة على اسم قريش في وثيقة مدونة من عصر هذا الملك3. وأيا ما كان الأمر، فلقد أنجب قصي ثلاثة أبناء -عبد الدار وعبد مناف وعبد العزى- ورغم أن عبد الدار كان أكبر إخوته، إلا أن عبد مناف كان أكثر شهرة، وأرفع شأنا، وأعظم مهابة، ومن ثم فقد رأى قصي أن يعوض عبد الدار عما فقده من مقومات الزعامة، فأسند إليه كثيرًا من الوظائف ليقاوم شخصية أخيه القوية، وتمضي الأيام ويرث الأبناء الآباء، ويقوم النزاع بينهم، حتى ينتهي آخر الأمر، بأن يتولى عبد مناف السقاية والرفادة، وأن تكون الحجابة "مفاتيح الكعبة" واللواء ورياسة دار الندوة لبني عبد الدار4.   1 البلاذري 1/ 39، نور الأبصار في مناقب آل بيت النبي المختار ص9، ابن سعد 1/ 55، نهاية الأرب ص364 "بغداد 1958"، ابن هشام 1/ 103، المعارف ص31، شفاء الغزام 2/ 63 64، نسب قريش للزبيري ص12، ابن حزم: جمهرة أنساب العرب ص12، تاريخ ابن خلدون 2/ 324، قارن الاشتقاق 1/ 27. 2 فؤاد حسنين: المرجع السابق ص274-279، وكذا H. Von Wissmann And M. Hofner, Op. Cit., P.114 وكذا Basor, 119, P.14 3 جواد علي 2/ 145، وكذا Le Museon, 1964, 3-4, P.484 4 ابن الأثير 2/ 21، تاريخ الطبري 2/ 255، 259، تاريخ ابن خلدون 2/ 335-336، تاريخ اليعقوبي 1/ 241، تاريخ الكعبة المعظمة ص284، ابن سعد 1/ 41-42، المحبر ص166، المعارف ص604، أنساب الأشراف 1/ 60، العقد الثمين 1/ 148، شفاء الغرام 2/ 75-76، 87، نسب قريش ص4، ياقوت 5/ 187، جمهرة أنساب العرب ص14، نهاية الأرب 1/ 248، الأزرقي 1/ 109-110. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 ويتولى هاشم السقاية والرفادة بعد أبيه عبد مناف، ويروي المؤرخون أنه كان غياث قومه في عام المجاعة، فرحل إلى فلسطين حيث اشترى كميات من الدقيق وقدم بها إلى مكة، فبذل طعامه لكل نازل بالبلد المقدس أو وارد عليه، وسمي بالهاشم من ذلك اليوم لهشمه الثريد ودعوة الجياع إلى قصاعه، بدلا من اسمه الأصلي عمرو، ومما يروى عنه كذلك أنه أول من سن الرحلتين لقريش، رحلة الشتاء والصيف، وحقيقة ذلك فيما يخلص لنا من سوابق الرحلات أنه كان يحمي تلك الرحلات وينظمها، فنسب إليه أنه أول من سنها1. هذا بالإضافة إلى أن الرجل العظيم قد عقد بنفسه مع الإمبراطورية الرومانية، ومع أمير غسان، معاهدة حسن جوار ومودة، وحصل من الإمبراطور الروماني على الإذن لقريش بأن تجوب الشام في أمن وطمأنينة، كما عقد نوفل والمطلب حلقا مع فارس، ومعاهدة تجارية مع الحميريين في اليمن2. ويذهب الأخباريون إلى أن هاشما وعبد شمس توأمان، وأن أحدهما ولد قبل الآخر وأصبع له ملتصقة بجبهة صاحبه، فنحيت فسال الدم، فقيل يكون بينهما دم، ومن ثم فإنهم يرون أن أمية بن عبد شمس قد حسد هاشما على رياسته وإطعامه، فتكلف أن يصنع مثله، ولكنه قد عجز، ومن ثم فقد شمت به ناس من قريش، وتنافر هو وهاشم، وانتهى الأمر بجلاء أمية عن مكة عشر سنين، فكان ذلك أول خلاف بين بني هاشم وبني أمية3.   1 تاريخ الطبري 2/ 251-252، تاريخ ابن خلدون 2/ 336-337، تاريخ الكعبة المعظمة ص285-286، ابن هشام 1/ 1450146، أنساب الأشراف 1/ 58، الاشتقاق 1/ 13، المقدسي 4/ 128-129، ابن سعد 1/ 43-44، ذيل الأمالي والنوادر ص199-200، حياة محمد ص112، العقاد: المرجع السابق ص120، الأزرقي 1/ 111، تاريخ اليعقوبي 1/ 242-243، صبح الأعشي 1/ 358، نهاية الأرب للقلقشندي ص395، العقد الثمين 1/ 148، بلوغ الأرب 2/ 284، شفاء الغرام 2/ 77، 88. 2 تاريخ اليعقوبي 1/ 242-243، تفسير الفخر الرازي 31/ 180، ثمر القلوب للثعالبي ص115-116، ذيل الأمالي والنوادر ص199، حياة محمد ص115، وكذا L. Caetani, Annali Dell' Islam, 1905, P.109 3 ابن الأثير 2/ 16-17، تاريخ الطبري 2/ 252-254، تاريخ اليعقوبي 1/ 242، ابن سعد 1/ 44، 52، شفاء الغرام 21/ 85، نسب قريش ص14، بلوغ الأرب 2/ 283-384، نهاية الأرب 1/ 307-308، المقريزي: كتاب النزاع والتخاصم فيما بين بني أمية وبني هاشم ص2، 7 جواد علي 4/ 71-72، عبد المنعم ماجد: المرجع السابق 1/ 103-104، قارن: تفسير المنار 11/ 97. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 وفي الواقع -وكما يقول الأستاذ العقاد- فلقد كان بنو هاشم أصحاب عقيدة وأريحية ووسامة، وكان بنو أمية أصحاب عمل وحيلة ومظهر مشنوء، وينعقد الإجماع -أو ما يشبه الإجماع- على أخبار الجاهلية التي تنم على هذه الخصال في الأسرتين، وبقي الكثير منها إلى ما بعد قيام الدولة الأموية فلم يفندوه1. وورث عبد المطلب زعامة أبيه هاشم، فأصبح سيد قريش، وإن لم يكن أغناها، وهكذا تولى السقاية والرفادة بعد عمه المطلب، فأقامها للناس، وأقام لقومه ما كان آباؤه يقيمون قبله لقومهم من أمرهم، وشرف في قومه شرفًا لم يبلغه أحد من آبائه، وأحبه قومه، وعظم خطره فيهم، وفي الواقع فإن عبد المطلب لم يكن عظيمًا عند قريش فحسب، وإنما كان عظيمًا كذلك في جميع أنحاء شبه الجزيرة العربية، ومن ثم فإن المؤرخين يرون أنه قد ذهب إلى اليمن مهنئًا بالملك، عندما تولى "معديكرب" سيف بن ذي يزن" عرش اليمن، بعد أن -نجح بمساعدة الفرس- في طرد الأحباش من اليمن2، مما يدل على أن الرجل كان ذا مكانة عند ملوك العرب، تعطيه الحق في الاتصال بهم، ثم تهنئتهم بعروشهم، كما يدل في الوقت نفسه على مكانته عند قريش، حتى أنه كان رئيسًا لوفدها في هذه المهمات العظيمة، والتي ربما كان من نتائجها أن يأخذ إيلافا لقومه من ملوك اليمن، ومن ثم فقد أصبحت قريش تنظم عيرا إلى اليمن في كل عام3. هذا وتذهب المصادر العربية إلى أن عبد المطلب قد لقي الكثير من المتاعب في توفير المياه للحجيج عندما تولى أمر السقاية والرفادة، وذلك بسبب دفن زمزم، ربما منذ أيام جرهم، وزاد الأمر صعوبة أن مكة كانت آن ذاك تمر بفترة قاسية ندرت فيها الأمطار، وجفت مياه الآبار -أو كادت- في وقت كان موسم الحج قد بدت طلائعه، وهنا رأى عبد المطلب -فيما يرى النائم- أنه يؤمر بحفر طيبة،   1 العقاد: مطلع النور ص118. 2 مروج الذهب 2/ 57-59، ابن الأثير 2/ 12، بلوغ الأرب 2/ 266-269، تاريخ الخميس ص271-272، تاريخ ابن خلدون 2/ 64، ابن كثير 2/ 328-330، الأزرقي 1/ 149-154، ابن هشام 1/ 151، تاريخ الطبري 2/ 251. 3 ذيل الأمالي ص199، جواد علي 3/ 77-78. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 وحين يسأل عنها لا يتلقى جوابا، غير أن الرؤية تتكرر أياما ثلاثة، يؤمر فيها عبد المطلب بحفر "برة" ثم "المضنونة" ثم "زمزم"، وحين يسأل عبد المطلب عن "زمزم" يجيبه الهاتف "تراث من أبيك الأعظم، لا تنزف أبدًا ولا تذم، تسقي الحجيج الأعظم، وهي بين الفرث والدم، عند نقرة الغراب الأعصم عند قرية النمل"، وينجح عبد المطلب في حفر زمزم، غير أن قريشًا سرعان ما تطالب بحقها في زمزم، على أساس أنها بئر أبيهم إسماعيل، وإن انتهت الأمور إلى جانب عبد المطلب1. وعلي أي حال، فلقد تميز عبد المطلب -جد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- بأريحة لا نستطيع أن نسميها إلا "بالمطلبية"، أريحية فريدة في نوعها، لا تدل إلا عليه ولا تصدر إلا منه، وكانت كلها مزيجا من الأنفة والكرم، والرصانة والاستقلال، ومواجهة الغيب على ثقة وصبر وأناة، وهناك طائفة من أخباره لا تفتقد في واحدة منها تلك المناقب المطلبية التي تعز على خيال المتخيل، ما لم يكن وراءها أصل تحكيه وترجع إليه، فعلى سبيل المثال يروي المؤرخون في حادث فداء ولده عبد الله، أن القداح بعد أن خرجت على الإبل -التي بلغ عددها مائة على رواية، وثلاثمائة على رواية أخرى- فإذا بعبد المطلب يأمر بذبحها، وحين تنحر تترك في الفضاء لا يمنع من لحمها إنس ولا وحش ولا طير، إلا أن يكون ذلك عبد المطلب وولده2. وهناك ما يشير إلى أن المنافرات بين البيتين -الهاشمي والأموي- قد استمرت، وذلك أمر لا غرابة فيه، فالبيتان -فيما نظن- على طرفي نقيض، وربما خفي   1 ابن الأثير 2/ 12-14، ابن كثير 2/ 244-248، تاريخ الطبري 2/ 251، الروض الأنف 1/ 80، 98، المقدسي 4/ 113-114، الطبقات الكبرى 1/ 49-50، أنساب الأشراف للبلاذري 1/ 78، سيرة النبي لابن هشام 1/ 151-158، تاريخ اليعقوبي 1/ 246-247، الأزرقي 2/ 42-47، تاريخ الخميس ص202-204، ياقوت 3/ 149، كتاب المناسك للحربي ص485. 2 العقاد: مطلع النور ص121-124، وانظر، شرح نهج البلاغة 1/ 88، وما بعدها، الطبقات الكبرى 1/ 50، 53-54، المقدسي 1/ 114-116، مروج الذهب 2/ 104، الأزرقي 2/ 43-44، 47-49، ابن الأثير 2/ 5-7، تاريخ الطبري 2/ 239-243، ابن كثير 2/ 248-249، تاريخ الخميس ص129، 206-207. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 السبب الذي يرجع إليه هذا الفارق بين الأسرتين فقد يرى بعضهم أنه يرجع إلى النسب المدخول، وقد رمي الأمويون الأوائل بشبهات كثيرة في عمود النسب، وعرض لهم بذلك أناس من ذوي قرباهم في صدر الإسلام، وأشهر ما اشتهر من هذه الشبهات قصة "ذكوان" الذي يقولون أنه من آبائهم، ويقول النسابون أنه عبد مستلحق على غير سنة العرب في الجاهلية، وعلى أي حال، وأيا ما كان سر هذا الفارق البين، فلقد كان بنو هاشم -أسرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أصحاب رئاسة، وكانت لهم أخلاق رئاسة، عرفوا بالنبل والكرم والهمة والوفاء والعفة، وبرزت كل خليقة من هذه الخلائق في حادثة مأثورة مذكورة، فلم تكن خلائقهم هذه من مناقب الأماديح التي يتبرع بها الشعراء، أو من الكلمات التي ترسل إرسالا على الألسنة ولا يراد بها معناها. ويبلغ هذا التنافر بين الأسرتين شأوًا بعيدًا، فيما بين عبد المطلب وحرب بن أمية، إذ كان كلاهما نمطا في بابه، ويروي المؤرخون أن حربا نافر عبد المطلب إلى نفيل جد عمر بن الخطاب، وإن رأى البعض أن المنافرة إنما كانت مع هاشم، وأن نفيلا قد قضى فيها لعبد المطلب، وأنه خاطب حربا قائلا: "أتنافر رجلا هو أطول منك قامة، وأعظم منك هامة، وأوسم منك وسامة، وأقل منك لامة، وأكثر منك ولدا، وأجزل منك صفدا، وأطول منك مذودا"1. وأما في الإسلام، فقد كان بنو أمية حجر عثرة في سبيل الدعوة الإسلامية وناصبوها العداء الشديد، إلا قليلا منهم ممن هداهم الله للإسلام، وبعد هجرة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- إلى المدينة المنورة واشتباك المسلمين مع مشركي قريش، كان عتبة بن ربيعة بن عبد شمس قائد الجيش في غزوة بدر، وكان أبو سفيان قائد العير، وفي غزوتي أحد والأحزاب، كان أبو سفيان قائدا للجيش، بل إن أبا سفيان، حتى بعد إسلامه يوم فتح مكة، فقد كان -وكذا ولده معاوية- من المؤلفة قلوبهم، فضلا عن أنه هو القائل بعد اضطراب المسلمين في غزوة حنين والأزلام في كنانته "لا تنتهي هزيمتهم دون البحر"، تعبيرا عما في نفسه من   1 العقاد: مطلع النور ص118-120، وانظر: بلوغ الأرب "1/ 307-308، أعلام النبوة للماوري ص138 "القاهرة 1935"، عبد الفتاح شحاتة: تاريخ الأمة العربية قبل ظهور الإسلام 2/ 249-250. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 الضغن على الإسلام ورسول الإسلام1. وعلى أي حال، فلقد تم في عهد عبد المطلب إعادة حفر زمزم، كما حدث في عهده أخطر الأحداث في تاريخ مكة القريب من الإسلام، وأعني به حملة أبرهة الحبشي -الأمر الذي ناقشناه بالتفصيل في كتابنا "دراسات في التاريخ القرآني"- على أن أهم الأحداث من عهده دون منازع، ليس في تاريخ مكة فحسب، وإنما في تاريخ البشرية جمعاء، إنما كان مولد جدنا ومولانا وسيدنا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- وبذا كتب للرجل العظيم أن يكون جد المصطفى، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.   1 عبد الفتاح شحاتة المرجع السابق ص250، ابن الأثير 2/ 123-124، 149، 178، 263، ابن كثير 3/ 269-270، 4/ 11، 95، 327، تاريخ الطبري 2/ 4420443، 501، 566، 3/ 74، المعارف ص75، المحبر ص473، تفسير الطبري 14/ 313 "دار المعارف 1958" نهاية الأرب للقلقشندي ص798 "بغداد 1958" عبد المنعم ماجد: المرجع السابق ص113، 115-117. 2 تذهب الروايات العربية إلى أن المولد النبوي الشريف إنما كان في عام الفيل، غير أن هذا العام غير معروف على وجه التحديد "عام 552 أو 563، أو 570 أو 571م" وكذا من رأوه يتفق وموقعة ذي قار، ومن ثم فقد اعتمد العلماء على تاريخين محققين من سيرة النبي، وهما تاريخ الهجرة في عام 622م، وتاريخ الانتقال إلى الرفيق الأعلى في عام 632م، ومع ذلك لم يصلوا إلى نتيجة مؤكدة، وعلى أي حال فهناك من يرى أنه في27 أغسطس عام 570م، أو 29 أغسطس عام 570، وأما محمود الفلكي فقد رآه في يوم 9 ربيع الأول "20 أبريل 571م" ,على أي حال، فيكاد المؤرخون يجمعون على أنه كان في يوم الاثنين من الأسبوع الثاني من شهر ربيع الأول من عام الفيل، والموافق للعام الثالث والخمسين قبل الهجرة "571م"، وأما الانتقال إلى الرفيق الأعلى فقد كان في يوم 12 أو 13 من ربيع الأول عام 11هـ "7 أو 8 يونيو عام 632م" بعد أن بلغ 63 عامًا قمريا بالكامل "أكثر من 61 عامًا شمسيا" "انظر: تاريخ الطبري 2/ 1550157، ابن الأثير 1/ 458-459، ابن كثير 1/ 259-262، ياقوت 4/ 293-294، الفلكي: التقويم العربي قبل الإسلام ص38، دراز: مدخل إلى القرآن الكريم ص22، عبد المنعم ماجد: المرجع السابق 1/ 95-96، المحبر ص8-9، "دراسات في التاريخ القرآني". وكذا P. Lammens, Age De Mohammed, P.209f وكذا R. Blachere, Le Problem De Mahomet, P.15 وكذا Caussin Des Perceval, Essi Sur L.htm'histoire Des Arabs, I, P.283 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 3- مكانة مكة : أصبحت مكة منذ آل أمرها إلى قريش على أيام قصي مركزًا للحياة الدينية في شبه الجزيرة العربية، تشد إليه الرحال، وتشخص إليه الأبصار، وفيها أكثر من كل جهة سواها، كانت ترعى الأشهر الحرم، بسبب وجود الكعبة المشرفة هناك، لذلك كله، ولمركزها الممتاز في تجارة العرب، كانت تعتبر وكأنها عاصمة شبه الجزيرة العربية. وفي الواقع أنه رغم وجود "البيوت الحرام" في بلاد العرب، كبيت الأقيصر وبيت ذي الخلصة وبيت صنعاء وبيت نجران، وغيرها من البيوت الحرام1، فإن واحدًا منها لم يجتمع له ما اجتمع لبيت مكة، ذلك لأن مكة إنما كانت ملتقى القوافل بين الجنوب والشمال، وبين الشرق والغرب، وكانت لازمة لمن يحمل تجارة اليمن إلى الشام، ولمن يعود من الشام بتجارة يحملها إلى شواطئ الجنوب، وكانت القبائل تلوذ منها بمثابة مطروقة تتردد عليها، ولم تكن فيها سيادة قاهرة على تلك القبائل في باديتها أو في رحلاتها، فليست في مكة دولة كدولة التبابعة في اليمن، أو المناذرة في الحيرة، أو الغساسنة في الشام، وليس من وراء أصحاب الرئاسة فيها سلطان، كسلطان الروم أو الفرس أو الأحباش، وراء الإمارات العربية المتفرقة على الشواطئ أو بين بوادي الصحراء، وإنما كانت مكة بمثابة عبادة وتجارة، وليست حوزة ملك يستبد بها صاحب العرش فيها ولا يبالي من عداه وهي وإن لم تكن كذلك من أقدم زمانها، فقد صارت إلى هذه الحالة بعد عهد جرهم والعماليق، الذين روى عنهم الرواة أنهم كانوا يعشرون كل ما دخلها من تجارة2. وزاد من قيمة مكة أن اليمن -بعد الاحتلال الحبشي في عام 525م- لم تنجح في سد الفراغ الذي تركته البحرية الرومية، ربما لظروف جغرافية أكثر منها سياسية، ومن ثم فقد أصبح الطريق البري -عبر تهامة والحجاز- هو الطريق الوحيد المفتوح   1 انظر: ياقوت 1/ 238، 3/ 427، 4/ 394-395، 5/ 268-269، بلوغ الأرب 1/ 346-347، 2/ 202، 207-109، 112، جمهرة أنساب العرب ص493، الأصنام ص38، الروض الأنف 1/ 66، الأغاني 3/ 172. 2 العقاد: مطلع النور ص112-113. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 أما التجارة، فكان لا بد -بعد زوال النشاط اليمني- أن يوجد من يسد هذا الفراغ ويقوم بدور الوسيط المحايد بين المتنازعين، لنقل التجارة، وقد وجد هذا الوسيط ممثلا في مكة1، التي حظيت منذ منتصف القرن الخامس الميلادي بمكانة ممتازة بين عرب الشمال، فضلا عن طرفي الصراع الدولي "الفرس والروم" وقت زامن وساعد على ذلك رغبة الفريقين المتنافسين في وجود مثل هذا الوسيط المحايد من ناحية، وبعد مكة وصعوبة الوصول إليها ما ناحية أخرى2. وهكذا كان موقع مكة الجغرافي سببًا في أن يجعل من المدينة المقدسة عقدة تتجمع فيها القوافل، التي تدر من العربية الجنوبية تريد الشام، أو القادمة من الشام تريد اليمن، حتى إذا ما كان القرن السادس الميلادي نجح القرشيون في احتكار التجارة في بلاد العرب، فضلا عن السيطرة على طرق القوافل التي تربط اليمن بالشام من ناحية، وبالعراق من ناحية أخرى3. وقد بلغت شهرة القرشيين في التجارة ومهارتهم فيها، إلى أن يذهب البعض إلى القول بأن "قريشًا" إنما سميت كذلك لاحترافها التجارة، لأن التقرش إنما هو التجارة والاكتساب4، وإلى أن تذكر رحلاتهم التجارية في القرآن الكريم، حيث يقول سبحانه وتعالى "لإيلاف قريش، إيلافهم رحلة الشتاء والصيف، فليعبدوا رب هذا البيت، الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف"5.   1 أحمد إبراهيم: مكة والمدينة في الجاهلية وعصر الرسول - القاهرة 1965 - ص154 وكذا S.A. Huzayyin, Arabia And The Far East, P.142-3 وكذا E. Gibbon, Op. Cit., 5, P.213 2 انظر كتابنا "دراسات في التاريخ القرآني". 3 W.M. Watt, Muhammad At Mecca, Oxford, 1953, P.3 4 ابن هشام 1/ 60، ياقوت 4/ 336، مجمع الأمثال 2/ 72، نهاية الأرب ص364 "بغداد 1958"، فجر الإسلام ص13-14، تاريخ مكة ص59، البلاذري 1/ 59، وراجع تفسيرات أخرى في: ياقوت 4/ 336-337، تفسير روح المعاني 30/ 238-239، تفسير الفخر الرازي 32/ 106 5 سورة قريش، وانظر: تفسير القرطبي 20/ 200-209 "دار الكتب المصرية"، تفسير الفخر الرازي 32/ 103-110، تفسير البيضاوي 2/ 577، تفسير الطبري 30/ 305-309 "طبعة الحلبي"، تفسير روح المعاني 30/ 238-241. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 على حمايتها جيش خاص دعوه "الأحابيش"1 لعلهم من العرب أو السودان، فكانت مكة أشبه ببنك كبير، فلم تكن القوافل ملكًا لشخص واحد، وإنما كانت هناك طريقة لجمع المال من عدة أسر معروفة، كهاشم وأمية ومخزوم ونوفل2، وقد أدى ذلك إلى تضخم أموال قريش، حتى بلغت قوافلهم التجارية في عهد غزوة بدر3 ألف بعير، مضافا إليها خمسون ألف دينار منقولة بين أثقالهم، بل إن رجلا واحدًا -هو سعيد بن العاص "أبو أحيحة"- استطاع أن يسهم في رأس مالها بثلاثين ألف دينار، كما بلغت قوافلهم في بعض المرات ألفين وخمسمائة بعير، وهي نسبة ما قيمتها المادية، إذا قيست بالثروات في عهدها، هذا وقد بلغ ثراء قريش إلى أنها قد استطاعت في غزوة بدر أن تفتدي أسراها من المكيين بأربعة آلاف درهم للرجل، إلى ألف درهم، إلا من عفا عنهم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من المعدمين4. وعلى أي حال، فإن ظروف مكة السياسية والاقتصادية والجغرافية قد جعلت منها مدينة عربية لجميع العرب، فلم تكن كسروية أو قيصرية، ولا تبعية أو نجاشية، كما عساها أن تكون لو استقرت على مشارف الشام، أو عند تخوم الجنوب، ولهذا تمت لها الخصائص التي كانت لازمة لمن يقصدونها، ويجدون فيها من يبادلهم ويبادلونه على حكم المنفعة المشتركة، لا على حكم القهر والإكراه5.   1 انظر عن الأحابيش: تاج العروس 4/ 130، 9/ 300، تاريخ الطبري 2/ 501، تاريخ اليعقوبي 1/ 241، تاريخ مكة ص52، نسب قريش ص389، ابن الأثير 2/ 149، المعارف ص302-303، العمدة 2/ 194، اللسان 6/ 278، البلاذري 1/ 52، 76، المحبر ص246، 267، العبادي: المرجع السابق 2/ 13، جواد علي 3/ 30-36. 2 تاريخ الطبري 2/ 421-422، تاريخ ابن خلدون 2/ 17، الطبقات الكبرى 1/ 40، عبد المنعم ماجد 1/ 79، وكذا Essad Bey, La Vie De Mahomet, P.42 3 انظر عن "غزوة بدر" "يوم الجمعة 17 رمضان 2هـ = 14 مارس 624م": تاريخ الطبري 2/ 421-479، تاريخ ابن خلدون 2/ 17-21، ابن الأثير 2/ 116-137، ابن كثير 3/ 256-344، وفاء الوفا 1/ 196-197، ابن هشام 2/ 63-84، المعارف ص75-78، الأغاني 4/ 176-209، ياقوت 1/ 357-358، الكبري 1/ 241-232، تفسير الطبري 13/ 409، 443، 578. 4 أحمد السباعي: تاريخ مكة ص36-37، المغازي ص136، وكذا P.K. Hitti, Op. Cit., P.104, 5 العقاد: مطلع النور ص113. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 وقد عملت قريش على توفير الأمن في منطقة مكة، وهو أمر ضروري في بيئة تغلي بالغارات وطلب الثأر، حتى يكون البيت الحرام ملاذا للناس وأمنًا، وحتى يجد فيها من تضيق به الحياة، ويتعرض لطلب الثأر، الأمن والحماية، ولعل هذا هو السبب في أن تسن قريش الأشهر الحرم في موسم الحج، حتى يأمن الناس فيه على أنفسهم وأموالهم، هذا فضلا عن حركة إصلاح أخرى قامت بها قريش، مؤداها ألا تقر بمكة ظلما، سواء أكان من أهلها أم من سائر الناس، فعقدت مع قبائلها ومع القبائل الأخرى المجاورة حلفا عرف "بحلف الفضول"، يروي المؤرخون أن قبائل من قريش تداعت إلى حلف، فاجتمع في دار "عبد الله بن جدعان" بنو هاشم وبنو المطلب وبنو أسد وبنو زهرة وبنو تيم، وتعاهدوا على أن لا يظلم بمكة غريب ولا قريب، ولا حر ولا عبد، وإلا كانوا معه حتى يأخذوا له بحقه من أنفسهم ومن غيرهم، وعمدوا إلى ماء زمزم فجعلوه في جفنة وبعثوا به إلى البيت الحرام، فغسلت به أركانه وشربوه، ومن عجب أن الأمويين وبني عبد شمس قد أبوا على أحد منهم أن يدخل هذا الحلف، وقد روي عن رسول الله -صلى الله وعلى آله وسلم- أنه قال: "لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت " 1. ولم تكتف قريش بذلك، وإنما عملت على توفير الماء والطعام للحجيج في منطقة يشح فيها الماء ويقل الطعام، ومن ثم فقد قامت بحفر الآبار في منطقة مكة وأنشأت فيها أماكن للسقاية، ثم أوكلت سقاية الحاج إلى البطون القوية منها، وهكذا غدت سقاية الحاج -بجانب عمارة البيت وسدانته- عملا يراه القوم في قمة مفاخرهم وإلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} 2.   1 العقاد: المرجع السابق ص113-119، ابن هشام 1/ 143-145 "مكتبة الجمهورية بمصر"، المحبر ص167، المعارف ص294، ابن كثير 2/ 291-293، ابن كثير 2/ 41-42، السيرة الحلبية 1/ 157، الروض الآنف 1/ 91، ثمار القلوب للثعالبي ص141، تاريخ اليعقوبي 2/ 17، وما بعدها، عبد المنعم ماجد 1/ 83، محمد حسين هيكل: حياة محمد ص135 "القاهرة 1971". 2 سورة التوبة: آية 19، وانظر: تفسير الطبري 14/ 168-173، تفسير المنار 10/ 215-220، الكشاف 2/ 180، تفسير ابن كثير 3/ 373-374، تفسير القرطبي 8/ 91-92، في ظلال القرآن 10/ 1614-1615، تيسير العلي القدير 2/ 216-217. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 وكان أمر ضيافة الحجيج عملا لا يقل عن سقايتهم، وقد أسندتها قريش إلى الأغنياء من رجالاتها؛ لأن قدوم الحجاج من أماكن بعيدة من شبه الجزيرة العربية، يصعب معه حمل الزاد، ومن ثم فقد كانت الرفادة تكلف أصحابها الكثير من أموالهم، بجانب ما تقدمه قريش لهم، إلا أن هذا الأمر في الوقت نفسه قد أفاد قريشًا كثيرًا، إذ كانت المؤاكلة في نظر العرب، إنما عقد حلف وجوار، فضلا عن أن الضيافة في ذاتها من أكبر ما يحمد الرجل عليه، وهكذا كانت قريش بعملها هذا، وكأنها تعقد حلفا مع كل القبائل العربية، تحمي به تجارتها، وتسبغ على رجالاتها نوعًا من التقدير والاحترام عن العرب، لا يتوفر لغيرهم1. وخطت قريش خطوة أخرى في اجتذاب القبائل العربية، فنصبت أصنام جميع القبائل عند الكعبة2، فكان لكل قبيلة أوثانها تأتي في الموسم لزيارتها وتقديم القرابين لها، وهكذا أخذ عدد الأصنام يزداد عند الكعبة بمرور الزمن، حتى جاء وقت زاد عددها على ثلاثمائة، كان منها الكبير ومنها الصغير، ومنها ما هو على هيئة الآدميين أو على هيئة بعض الحيوانات أو النباتات، وإن كان أكبرها جميعًا إنما هو "هبل" الذي جعله القوم على هيئة إنسان من عقيق أحمر3. ويبدو أن الأساس الذي قامت عليه مكانة الكعبة، أن البيت الحرام بجملته كان هو المقصود بالقداسة، غير منظور، إلى الأوثان والأصنام التي اشتمل عليها، وربما   1 ابن هشام 1/ 145، ابن سعد 1/ 58. 2 تعرضت الكعبة قبيل الإسلام لعدة سيول في أوقات مختلفة، أدت إلى تصدع جدرانها، مما اضطر القوم إلى هدمها وإعادة بنائها، ويكاد يجمع المؤرخون أن ذلك تم، والمصطفى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الخامسة والثلاثين من عمره الشريف، فإذا كان ذلك كذلك، وإذا كان المولد النبوي في 20 أبريل 571م -كما حدده محمود الفلكي- فإن إعادة بناء الكعبة إنما كان في عام 606م "انظر: الطبري 2/ 187-290، ابن كثير 2/ 42-45، المسعودي 1/ 271-273، ابن كثير 2/ 299-204، ياقوت 4/ 466، الأزرقي 1/ 157-167، اليعقوبي 1/ 254-255، العمري 1/ 64، المقدسي 4/ 139-140، ابن هشام 1/ 192-199، التقويم العربي قبل الإسلام ص38، تفسير الطبري 2/ 122-123، تاريخ الخميس ص126-136، نهاية الأرب 1/ 232، مدخل إلى القرآن الكريم ص25-26، وكذا A. GUILLAUME, OP. CIT., P.23 وكذا I. SHAHID, IN CHI, I, 1970, P.31 3 تاريخ اليعقوبي 1/ 254-255، الروض الأنف 2/ 276، الأزرقي1/ 120-121، لوبون: حضارة العرب ص124، تاريخ التمدن الإسلامي 1/ 37، الأصنام ص27-28، وكذا E. GIBBON, OP. CIT., P.225 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 اشتمل على الوثن المعظم تقدسه بعض القبائل، وتزدريه قبائل أخرى، فلا يغض ذلك من مكانة البيت عند المعظمين والمزدرين، واختلفت الشعائر والدعاوى التي يدعيها كل فريق لصنمه ووثنه، ولم تختلف شعائر البيت -كما يتولاها سدنته المقيمون إلى جواره والمتكلفون بخدمته- فكانت قداسة البيت هي القداسة التي لا خلاف عليها بين أهل مكة وأهل البادية، وجاز عندهم -من ثم- أن يحكموا بالضلالة على أتباع صنم معلوم، ويعطوا البيت غاية حقه من الرعاية والتقدير1. وانطلاقًا من هذا كله، فقد كان يتفق في موسم الحج أن يجتمع حول البيت أناس من العرب، يأخذون بأشتات متفرقة من المجوسية واليهودية والمسيحية وعبادات الأمم المختلفة، ولا يجتمع منها دين واحد يؤمن به متعبدان على نحو واحد، وما من كلمة من كلمات الفرائض لم تعرف بين عرب الجاهلة بلفظها وجملة معناها، كالصلاة والصوم والزكاة والطهارة، ومناطها كلها أنها حسنة عند رب البيت أو عند الله2. وهكذا تمضي الأيام، وتزداد مكانة الكعبة عند العرب، حتى تصبح آخر الأمر المفخرة القومية والحرم الإلهي عندهم، ثم تغدو بعد حين من الدهر، الجوار الوحيد الذي يشعر العرب عنده بشعور العروبة الموحدة، عالية الرأس، غير مستكينة لأجنبي، كائنا من كان، ذلك لأنهم كانوا يحسون أنهم من رعايا الروم في الشام، ومن رعايا الفرس في الحيرة، وأتباع للفرس أو الأحباش في اليمن، ولكنهم هنا، في مكة، عند بيت الله في حرم الله يقدسونه جميعًا؛ لأنه لهم جميعًا يضمهم إليه كما يضم أصنامهم وأوثانهم وأربابهم، يلوذون به ويأوون إليه، فكلهم من معبود أو عابد في حماية الكعبة بيت الله، وشعورهم هنا بأنهم "عرب" لم يماثله شعور قط في أنحاء شبه الجزيرة العربية، وقد أوشك أن يشمل شعب اليمن وجمهرة أقوامه، على الرغم من سادته وحكامه، فما كان هؤلاء الحكام لينفسوا على الكعبة مكانتها، ويقيموا لها نظيرا في أرضهم، لو كان شعب اليمن منصرفا عنها غير معتز بها كاعتزاز البادية والصحراء3.   1 العقاد: مطلع النور ص115. 2 العقاد: المرجع السابق ص116. 3 العقاد: مطلع النور ص56. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 ولعل هذه المكانة الفريدة للكعبة هي التي دفعت بأصحاب القوة في تلك الأيام إلى محاولة هدمها، أو على الأقل انضوائها تحت لوائهم، فعل ذلك "حسان بن عبد كلال" ولكن أمره انتهى بفشل ذريع، وبأن يصبح أسيرا في مكة سنوات ثلاث1، وفعل ذلك أبرهة الحبشي، ولكن الله سبحانه وتعالى: {أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ، تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ، فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} 2، وفي هذا العصف المأكول كان أبرهة نفسه3، وقد ناقشنا ذلك كله بالتفصيل في الجزء الأول من كتابنا "دراسات في التاريخ القرآني". وتمضي السنون، ويغير الرومان بمرور الزمن من سياستهم نحو العرب، ويرون أن الوسائل غير المباشرة ربما كانت أجدى في السيطرة على شبه الجزيرة العربية، ومن ثم فقد كانوا من وراء حملة أبرهة على مكة، وحين تفشل هذه، ويطرد الأحباش من اليمن، يعملون على تمليك سيد من العرب على مكة يدين بالولاء لهم، ومن ثم فقد ارتضى قيصر أن يكون "عثمان بن الحويرث" ملكًا على مكة من قبله، وإن باءت محاولته هذه بالفشل كذلك4. وليس من شك في أن هذه المحاولة السياسية، إنما غرضها غرض تلك المحاولة العسكرية، وأن المحاولتين قد فشلتا، وبقيت مكة -كما أراد الله، ولحكمة لا   1 تاريخ الطبري 2/ 262-263، الإكليل 2/ 357-359، جواد علي 584-585 2 سورة الفيل: آية 3-5. 3 انظر عن حملة الفيل: ابن الأثير 1/ 442-447، ابن كثير 2/ 170-171، تفسير ابن كثير 8/ 503-511، تفسير النيسابوري 30/ 163، الكشاف 3/ 288، الدر المنثور في التفسير بالمأثور 6/ 394، في ظلال القرآن 8/ 664-675، تفسير روح المعاني 30/ 234-237، ابن هشام 1/ 48-69، تاريخ اليعقوبي 1/ 252-253، صحيح الأخبار 4/ 21-22، مروج الذهب 1/ 104-106، تفسير البيضاوي 1/ 576، تفسير الطبري 30/ 300-304، تفسير القرطبي ص7277-7290 "طبعة الشعب" تفسير الرازي 32/ 96-97، دلائل النبوة للأصبهاني ص100، الأزرقي 1/ 141-149، ياقوت 3/ 53-54، 5/ 161-163، مطلع النور ص114. 4 العقاد: المرجع السابق ص114-115، ابن هشام 1/ 224، ابن حزم: جمهرة أنساب العرب ص118، شمال الحجاز ص31، الروض الأنف 1/ 1436، الأغاني 3/ 112، العقد الثمين 1/ 153، شفاء الغرام 2/ 108-109، جواد علي 4/ 39-40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 يعلمها إلا هو -حرما آمنا للعرب وغير العرب، وبذلت قريش في المحاولتين جهدا لإخفاق الواحدة تلو الأخرى، وليس من شك في أن الأولى كانت أشد خطرا، وإن دفعت في الثانية ببعض رجالها، يقضون في سجون القيصر فترة لا ندري مداها على وجه التحقيق، ثم سرعان ما عادت الأمور إلى سيرتها الأولى1. وبدهي أن هذه المحاولات -السياسية والعسكرية- إنما تثبت قيام كعبة الحجاز على كره من ذوي السلطان، في الجنوب والشمال، وفي كل الحالات استطاعت الكعبة أن تحتفظ بمكانتها، على الرغم من خلو مكة من العروش الغالبة على أنحاء الجزيرة بجميع أطرافها، بل لقد استطاعت ذلك لخلوها من تلك العروش، وقيام الأمر فيها على التعميم دون التخصيص، وعلى تمثيل جملة العرب بمأثوراتهم ومعبوداتهم، دون أن يسخرهم المسخرون، أو يستبد فيهم فريق يسخرهم تسخير السادة للأتباع المكرهين على الطاعة وبذل الإتاوة2. وهكذا كان المكيون يشعرون بمكانة الكعبة عند العرب عامة، ومن ثم فقد كانوا يرون لأنفسهم ميزة لا يتطاول إليها غيرهم من العرب، لأنها تتصل بكرامة البيت الحرام وحرمته، فهم أولياؤه، وهم سدنته والقائمون بالأمر فيه، يسقون الحجيج ويطعمونهم، ويوفرون لهم الأمن والراحة، ومن ثم فقد نشأ عندهم ما يسمى بنظام "الحمس"3، ويعنون به ابن البلد، وابن الحرم، والوطني المقيم، والذي ينتمي إلى الكعبة والمقام، فهو امتياز لأبناء الوطن وأهل الحرمة وولاة البيت، وقطان مكة وساكنيها4، ومن ثم فقد نادوا بين الناس، "نحن بنو إبراهيم وأهل   1 تاريخ ابن خلدون 2/ 327، أحمد إبراهيم الشريف: المرجع السابق ص162-163، الروض الأنف 1/ 146، وكذا W. MONTGOMERY WATT, MUHAMMED AT MECCA, OXFORD, 1953, P.16 2 العقاد: مطلع النور ص115. 3 كانت قريش هي التي ابتدعت نظام الحمس هذا، ثم انضمت إليها كنانة وخزاعة، وربما بنو عامر ابن صعصة من هوازن ثم الأوس والخرزج "انظر ابن هشام 1/ 201-202، تاريخ مكة ص34" 4 ابن هشام 1/ 199، المحبر ص178-179، شفاء الغرام 2/ 43، علي حسني الخربوطيلي: الكعبة على مر العصور ص50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 الحرمة وولاة البيت وقاطنو مكة وساكنوها، فليس لأحد من العرب مثل حقنا، ولا تعرف له العرب مثل ما تعرف لنا"1. وكانوا إذا بلغت الفتاة سن الزواج ألبسوها ما يزينها وخرجوا بها سافرة إلى المطاف ثم أعادوها إلى بيتها لتبقى حبيسة فيه لا تخرج إلا إلى بيت من تزوجها، وهم يريدون بطوافها ذلك عرضها سافرة على أعين الخاطبين، ولعلهم اختاروا المطاف، ليأمنوا في جوار البيت نظرات الفاسقين، هذا وقد كان الحمس يختنون أولادهم ويغتسلون من الجنابة، وقد تباعدوا في المناكح من البنت وبنت البنت والأخت وبنت الأخت، كما كانوا يتزوجون بالصداق والشهود ويطلقون ثلاثا، وإذا ما تزوجت امرأة منهم بغريب عنهم، اشترطوا أن يكون أبناؤهم منهم. هذا وقد جعل الحمس لأنفسهم علامة، وهي ألا يعظم الأحمس شيئًا من الحل، أي الأرض التي وراء الحرم، كما يعظم الحرم وقالوا: "إن فعلتم ذلك استخفت العرب بحرمكم"، ولذا فقد تركوا الوقوف بعرفة -لأنه خارج الحرم- والإفاضة منها، مع إقرارهم بأنها من المشاعر والحج ودين إبراهيم، ويرون لسائر العرب أن يقفوا عليها، وأن يفيضوا منها، وأما هم فقد جعلوا موقفهم في طرف الحرم من "نمرة" يقفون به عشية "عرفة"، ويظلون به يوم عرفة في الإراك من نمرة، ويفيضون منه إلى "المزدلفة"، فإذا عممت الشمس رءوس الجبال دفعوا، وكانوا يقولون: "نحن قطين الله، فأظهروا بذلك تعصبهم لبقعة من الأرض وترفعوا أن يخرجوا عنها، ولو كان في خروجهم إتمام لمشاعر الحج2، وبقي الأمر كذلك حتى بعث الله محمدا   1 تفسير الطبري 4/ 188، ابن هشام 1/ 201، الأزرقي 1/ 176، محمد الخضري 1/ 56-57، أحمد السباعي: تاريخ مكة ص35. 2 تفسير الطبري 4/ 184-191 "دار المعارف"، صحيح البخاري 2/ 163، 3/ 411-413، 8/ 139، صحيح مسلم 1/ 348، ابن كثير 1/ 233، 293، ابن هشام 1/ 201-202، العقد الثمين 1/ 141، نهاية الأرب 1/ 244، المقدسي 4/ 32، تفسير القرطبي 2/ 427-428، الأزرقي 1/ 176-180، تاريخ اليعقوبي 1/ 156، تاريخ مكة ص34-35، محمد الخضري 1/ 57، جواد علي 6/ 362، أحمد إبراهيم الشريف: المرجع السابق ص188، وكذا- EI, II, P.335 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- فأنزل الله عليه حين أحكم له دينه، وشرع له سنن حجه: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيم} 1. هذا وقد بلغ من تشدد الحمس أن الرجل منهم إذا ما أحرم بالحج أو العمرة لا يدخل دارا أو حائطا، وقد تعرض له الحاجة فلا يدخل بيته، بل ينقب نقبا في ظهره وينادي بأهله ليخرجوا له ما أراد، وكان بعض منهم إذا أرادوا بعض أطعمتهم وأمتعتهم تسوروا من ظهر بيوتهم وأدبارها حتى يظهروا على السطح، ثم ينزلون في حجراتهم، ويحرمون على أنفسهم أن يمروا تحت عتبة الباب. وكانوا بعد الإحرام يحرمون على أنفسهم السمن واللبن والزبد ولبس الوبر، كما كانوا لا يدخلون بيتًا من الشعر، ولا يستظلون -إن استظلوا- إلا في بيوت الأدم، فهم إذن يحرمون على أنفسهم أشياء لم تكن العرب تحرمها، كما أنهم اختصوا أنفسهم بالقباب الحمر- وهي علامة الشرف والرياسة- تضرب لهم في الأشهر الحرم، كما فرضوا على العرب ألا يأكلوا من طعام جاءوا به من الحل إلى الحرم، إذا جاءوا حجاجا أو عمارا، ولا يطوفون بالبيت إذا قدموا أول طوافهم إلا في ثيات الحمس، فإن لم يجدوا طافوا بالبيت عراة، فإن تكرم منهم متكرم من رجل وامرأة، ولم يجد ثياب الحمس فطاف في ثيابه التي جاء بها من الحل، ألقاها إذا فرغ من طوافه ثم لم ينتفع بها، ولم يمسها هو ولا أحد غيره أبدًا، وكانت العرب تسمى تلك الثياب "اللقي"2، وبقي الأمر كذلك حتى أنزل الله سبحانه وتعالى قوله: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ، قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ، ْ   1 سورة البقرة: آية 199، وانظر: تفسير الطبري 4/ 184-195، تفسير روح المعاني 2/ 86-90، تفسير الطبرسي 2/ 162-164، الكشاف 1/ 349-350، تيسير العلي القدير 1/ 163-164. 2 ابن كثير 2/ 305، تفسير الطبري 4/ 188-189، الأزرقي 1/ 180-182، ابن هشام 1/ 204-206، ابن سعد 1/ 41، تاريخ اليعقوبي 1/ 257، المقدسي 4/ 32-33، نهاية الأرب 1/ 244، شفاء الغرام 2/ 41-42، ياقوت 5/ 184، المعارف ص269، صحيح البخاري 2/ 163، تاج العروس 4/ 132-133، محمد الخضري 1/ 57، أحمد إبراهيم: المرجع السابق ص189-190، العقاد: مطلع النور ص117، وكذا H. LAMMENS, L'ARABIE OCCIDENTALE AVANT L'HEGIRE, BEYROUTH, 1928, P.130 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُون َ} 1، فوضع الله تعالى أمر الحمس -وما كانت قريش ابتدعت منه على الناس- بالإسلام حين بعث الله به رسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-2. وكان من مناسك الحمس أن يطوف الحجاج في صفوف وهم يعجون بالأناشيد ويصفرون وكأنهم يتعبدون، وإلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُون} 3، هذا وقد كان الحمس كذلك يدخلون الكعبة لابسي أحذيتهم، حتى سن لهم "الوليد بن المغيرة" خلعها، وكانت الحوائض من نسائهم لا يدنين من الكعبة ولا يتمسحن بأصنامها، بل يقفن بعيدًا عنها، وكان الطائف منهم يبدأ بإساف فيستلمه، ثم يستلم الركن الأسود، ثم يجعل الكعبة على يمينه فيطوف بها، فإذا ختم طوافه سبعا استلم الركن ثم استلم نائلة4.   1 سورة الأعراف: آية 31-32، وانظر: تفسير الطبري 12/ 389-395 "دار المعارف"، تفسير ابن كثير 3/ 160-163 "دار الأندلس"، تفسير الكشاف 2/ 76. 2 ابن هشام 1/ 206 3 سورة الأنفال: آية 35، وانظر: تفسير الطبري 13/ 421-528 "دار المعارف 1958". 4 أحمد السباعي: تاريخ مكة ص35-36 "مكة المكرمة 1387هـ"، تاريخ اليعقوبي 1/ 254. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 الفصل الثالث عشر: المدينة المنورة مدخل ... الفصل الثالث عشر: المدينة المنورة المدينة المنورة، ثاني مدن الحجاز بعد مكة دون ريب، ودار الهجرة التي نصرت الإسلام، وأعزت كلمة المسلمين، فاستحقت التكريم والتخليد حتى يقوم الناس لرب العالمين، ثم شاءت إرادة الكريم المنان ذي الفضل العظيم-أن تعطي المدينة ما لم تعطه لغيرها من المدائن، وأن تخصها بميزة لا تتطاول إليها واحدة من مدن الدنيا، حيث شرفت بأن تضم في ثراها جثمان سيد الأولين والآخرين، جدنا ومولانا وسيدنا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ. هذا إلى أن بالمدينة المنورة ثاني الحرمين الشريفين، فضلا عن أنها البلد الذي اختاره الله، ليكون أول عاصمة إسلامية في التاريخ، تخرج منها جيوش النور، تحمل راية الإسلام، وهداية القرآن، إلى جميع أنحاء المعمورة، فتنشر التوحيد والحب والعدل والإخاء والمساواة، ومن ثم فقد كانت وما زالت -وسوف تظل أبد الدهر إن شاء الله- قلوب المؤمنين في كل أنحاء الدنيا تنبض بحب المدينة، وتهفو إلى زيارتها، وتتعبد إلى الله في مسجدها، وتنعم بالصلاة في روضته الشريفة، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وما عليها. هذا وقد حبت الطبيعة المدينة المقدسة1 بمزايا لم تعرفها مكة المكرمة، من طيب الهواء وجودة التربة، كما أنها لم تكن على طريق القوافل التي تحمل الطيوب بين اليمن والشام فحسب، بل كانت واحة حقيقية ذات تربة صالحة لزراعة النخيل، وهو كثير فيها، ومن ثم فقد أصبحت المدينة واحدة من أمهات المراكز الزراعية في بلاد العرب2.   1 كتب السمهودي في كتابه "وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" بابا كاملا من ستة عشر فصلا في فضائل المدينة، فليرجع إليه من يشاء "وفاء الوفا 1/ 19-109". 2 P.K. HITTI, HISTORY OF ARABS, P.104 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 والمدينة المنورة لم تكن تعرف بهذا الاسم قبل نصرتها للإسلام، وهجرة المصطفى، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إليها في عام 622م، وإنما كانت تسمى "يثرب"، وإلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله تعالى {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا} 1، وقد ذكرت يثرب في الكتابات المعينية، ربما بسبب وجود جالية معينية كانت تقيم هناك خلفتها أخرى سبئية، بعد أن ورث السبئيون دولة معين في اليمن، ومستعمراتها في شمال غرب شبه الجزيرة العربية، ولعل هذا هو السبب الذي دفع بالنسابين من بعد أن يروا في سكان يثرب من العرب، أزدا من قحطان2. ولعل أقدم إشارة إلى "يثرب" في النصوص البابلية، إنما ترجع إلى القرن السادس ق. م، إذ تحدثنا كتابة عثر عليها في "حران" عام 1956م، تتحدث عن أعمال الملك البابلي "نبونيد" "555-539ق. م" في بلاد العرب، فتروي أن ذلك الملك المثقف الذي اشتهر بحبه للآثار3، قد قام بحملة في العام الثالث من حكمه إلى شمال غرب شبه الجزيرة العربية، احتل فيها تيماء وديدان وخيبر ويثرب، والتي جاءت تحت اسم "أتريبو"، وكانت آخر موضع وصل إليه العاهل البابلي في بلاد العرب، وربما كان السبب في هذه الحملة، إنما كان مهاجمة العرب لمناطق خاضعة للبابليين، وربما كان رغبة البابليين في السيطرة على الطريق التجاري البري بين الشام وجنوب بلاد العرب4. وأيا ما كان السبب، فإن العاهل البابلي قد استقر في "تيماء" فترة تقرب من   1 سورة الأحزاب: آية13، وانظر: تفسير القرطبي 14/ 147-149 "دار الكتب" تفسير الفخر الرازي 25/ 199-200، تفسير روح المعاني 21/ 158-161، تفسير البيضاوي 2/ 240-241، تفسير الطبري 21/ 187-188، تيسير العلي القدير 3/ 355-356، تفسير الكشاف 3/ 254، في ظلال القرآن 21/ 2838-2839. 2 جواد علي 4/ 128، وكذا ENCY. OF ISLAM, III. P,83 وكذا H. WINCKLER, ARABISCH-SEMITISCH ORIENTALISCH, IN MVG, 1901, P.63 3 A. GARDINER, EGYPT Of The Pharaohs, P.363 4 A.R. Burn, Persia And The Greeks, P.38 وكذا C.J. Gadd, The Harran Inscriptions Of Nabonidus, P.35 وكذا A. Musil, Northern Nejd, P.225. وكذا As, 8, 1958,. P.84 وكذا P.K. Hitti, Op. Cit., P.39. وكذا S. Smith, Op. Cit., P3, 88 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 سنوات عشر، بعيدًا عن عاصمته "بابل" التي لم يعد إليها إلا بسبب التهديدات الفارسية لها، فضلا عن بلاد العرب نفسها، وإلا بعد دعوة رعاياه الذين كانوا على خلاف معه طوال تلك الفترة1. هذا وقد جاء اسم "يثرب" كذلك في جغرافية بطليموس، وعند "إصطفيانوس البيزنطي" تحت اسم "يثربة 2Jathripa"، أما الأخباريون فيعرفونها باسم "أثرب" و"يثرب"3، وأن يثرب -في رأيهم- إنما هي "أم قرى المدينة، التي حددوا امتدادها من طرف وادي قناة شرقًا، إلى طرف الجرف غربًا، ومن زبالة الزج جنوبًا، إلى البساتين التي كانت تعرف بالمال شمالا، وأما وادي قناة فيقع في الناحية الشمالية من المدينة، ويبعد عنها بأربعة كيلو مترات ونصف، ويقع في شمال جبل أحد، الذي يبعد عنه بنحو كيلو متر واحد تقريبًا، وأما المال فهو بعض بساتين العيون في الشمال الغربي، وأما زبالة الزج فهي قرية من قرى المدينة كانت بشمالي "سلع" إلى قرب وادي قناة، اندثرت آثارها فلم تعد معروفة، وذلك اعتمادًا على رواية السمهودي عن "زبالة الزج" بأن "كان لأهلها أطمان"، على روايته، وكان بالمدينة في الجاهلية سوق بزبالة من الناحية التي تدعى يثرب، ومن ثم فإن حدود المدينة المنورة4 -طبقا لرواية السمهودي- إنما كانت تتمثل في الأرض كثيرة النخل غربي مشهد سيدنا حمزة، رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، وشرقي البركة التي هي مصرف عين الأزرق، قريبًا من مسجد قباء5.   1 هـ. ج ويلز: موجز تاريخ العالم ص86، لودز: أنبياء بني إسرائيل ص205 "باريس 1935"، وكذا وكذا Cah, 4, P.194 وكذا R.P. Doughty, Nabonidus And Belshazzar, 1929, P.107 وكذا A. Gardiner, Op. Cit., P.363 2 جواد علي 4/ 130، وكذا P.K. HITTI, OP. CIT., P.104 وكذا PTOLEMY, VI, 7, 31, 3 السمودي: وفاء الوفا 1/ 6-7 - القاهرة 1326هـ - خلاصة الوفا بأخبار دار المصطفى ص6-7 "المدينة المنورة 1972"، ياقوت 5/ 84، عبد العزيز سالم: المرجع السابق ص535. 4 تقع المدينة المنورة على مبعدة 443 كيلو مترا من مكة المكرمة عن طريق وادي فاطمة، وعلى مبعدة 502 كيلو مترا عن طريق جدة المسفلت. 5 محمد بن محمود بن النجار: الدرر الثمينة في تاريخ المدينة ص323، إبراهيم بن علي العياشي: المدينة بين الماضي والحاضر ص490، عبد القدوس ًُالأنصاري، آثار المدينة المنورة ص177-178 "المدينة 1973" وفاء الوفا 1/ 7، الأعلاق النفيسة ص62. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 وعلى أي حال، فلم ينس أصحابنا الأخباريون أن يختلقوا تعليلا للاسم، فهي "يثرب" نسبة إلى "يثرب بن قانية بن مهلائيل من ولد سام بن نوح" أو "يثرب بن قائد بن عبيل بن مهلائيل"، هو أول من نزل بها عند تفرق ذرية نوح، على زعم، وهي من الثرب بمعنى الفساد، أو الترثيب أي المؤاخذة بالذنب، على زعم آخر، هي نسبة إلى رئيس العماليق الذين نزلوا بها بعد أن طردوا منها بني عيبل، من ولد سام كذلك، على زعم ثالث، بل إن هناك رواية رابعة -تنسب إلى ابن عباس- وتذهب إلى أن يثرب في الأصل إنما كان اسما لابن عبيل، الذي هو أول من نزل المدينة1. وأما اسم المدينة، والذي جاء في القرآن الكريم، حيث يقول سبحانه وتعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} 2 ويقول: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِه} 3 ويقول: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَة} 4، فهو اسم شرفها به المصطفى -صلى الله عليه وعلي آله وسلم- حتى وإن رأى البعض أن الاسم مأخوذ   1 وفاء الوفا 1/ 8، 109-110، خلاصة الوفا ص7، 155، الاشتقاق 2/ 350، البكري 4/ 1389، ياقوت 5/ 430، تاريخ ابن خلدون 2/ 286، أحمد بن عبد الحميد العباسي: عمدة الأخبار في مدينة المختار ص41-42، مروج الذهب 2/ 127، أنساب الأشراف للبلاذري ص6، عبد القدوس الأنصاري: المرجع السابق ص177. 2 تفسير روح المعاني 11/ 9-12، تفسير المنار 11/ 13-22، تفسير الطبري 14/ 440-445، تفسير البحر المحيط 5/ 92-93، الكشاف 2/ 211-212، تفسير ابن كثير 3/ 445-447، تفسير القرطبي 8/ 240-241، وانظر الآية الكريمة: سورة التوبة 101. 3 سورة التوبة: آية 120، وانظر: تفسير الطبري 14/ 561-564، تفسير القرطبي 8/ 290-292، تفسير البحر المحيط 5/ 112-113، تفسير روح المعاني 11/ 45-47، تفسير المنار 11/ 74-76، تفسير ابن كثير 3/ 447-448، الكشاف 2/ 219-220، في ظلال القرآن 11/ 2838-2839. 4 سورة الأحزاب: آية 60، وانظر: تفسير البيضاوي 2/ 252، تفسير روح المعاني 22/ 90-91، تفسير الجلالين "نسخة على هامش البيضاوي" 2/ 252، تفسير الطبرسي 21/ 114-120، تفسير الطبري 22/ 47-48 "طبعة الحلبي"، تفسير القرطبي 14/ 245-247 "دار الكتب المصرية" تفسير الفخر الرازي 25/ 230-231، الدرر المنثور في التفسير بالماثور 5/ 222-223 الكشاف 3/ 274، تفسير أبي السعود 3/ 219، في ظلال القرآن 22-2880-2881، تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير 3/ 391-392. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 من الكلمة الأرامية "مدينتا" "Medinto Mcdinta" بمعنى "الحمى" أي المدينة، على رأي من يرى أن اليهود المتأثرين بالثقافة الآرامية، أو بعض المتهودة من بني إرم الذين نزلوا يثرب، هم الذين دعوها "مدينتا"، وأنها ربما عرفت بمدينة يثرب -كما جاء في اصطيفان البيزنطي- ثم اختصرت إلى "مدينتا أي المدينة"، ثم عرفت بمدينة الرسول، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ، بعد هجرته إليها1. هذا ويرى "البتنوني" -طبقًا لرواية سوف نناقشها فيما بعد وتتصل بغزو إسرائيلي للمدينة بأمر من الكليم عليه السلام- أن الجنود الإسرائيليين هم الذين أطلقوا عليها اسم "يثرب"، تحريفًا لكلمة مصرية هي "اتريبس"، كما أن اسم طيبة الذي استعمل اسما للمدينة مأخوذ عن طيبة المصرية2. على أن هذا الرأي يحتاج "أولًا" أن تكون قصة الغزو المزعومة حقيقية، وهو أمر تقوم كل الأدلة التاريخية على نقيضه، ثم هو يحتاج "ثانيًا" إلى إيجاد اسم آخر ليثرب قبل هذا الاسم، على أيام العماليق الذين تزعم قصة الغزو المزعومة أنهم كانوا يسكنونها، الأمر الذي لم يشر إليه صاحب هذا الرأي، وأخيرًا "ثالثًا" إذا كان صحيحًا أن الجنود الإسرائيليين هم الذين أطلقوا على المدينة اسم "يثرب"، لكان من الأولى أن يطلقوا عليها واحدًا من أسماء المدن التي كانت في المنطقة التي كانوا يعيشون فيها في مصر -هناك على أطراف الدلتا الشرقية- مثل "بي رعمسيس" العاصمة المصرية وقت ذاك، أو "تانيس" التي جاءت في التوراة تحت اسم "صوعن" وأما أن يثرب تحريف للكلمة المصرية "أتريبس"، ولعله يعني "أتريب" "بنها الحالية"، فليس هناك من دليل على ذلك، وربما كان الأقرب إلى الصواب أن تكون تحريفًا لـ "أتريبو"، التي جاءت في نص نبونيد الآنف الذكر، كما أن القول بأن اسم "طيبة" منقول عن اسم العاصمة المصرية الشهيرة "طيبة"3 أمر يحتاج   1 عبد العزيز سالم: المرجع السابق ص537، أحمد إبراهيم: المرجع السابق ص291، جواد علي 4/ 130، وكذا O'leary, OP. CIT., P.17 وكذا EI, III, P.83 وكذا H. WINCKLER, OP. CIT., P.53 وكذا P.K. HITTI, OP. CIT., P.104 وكذا ZDMG, 22, P.668 2 محمد لبيب البتنوني: الرحلة الحجازية - القاهرة 1229هـ- ص252-253. 3 تقع طيبة "الأقصر الحالية" على مبعدة حوالي 500 كيلو مترا إلى الجنوب من القاهرة، وأما اسم المدينة الأصلي فهو "ويسة" "ويزة"، بمعنى الصولجان وهو رمز الحكم والسلطان عند الفراعين، وأما اسم= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 إلى نظر؛ لأسباب منها "أولًا" أن طيبة كانت وقت ظهور الإسلام، قد ودعت أمجادها التليدة، يوم أن كانت عاصمة للإمبراطورية المصرية لمئات السنين، ومنها "ثانيًا" أننا حتى لو افترضنا أن المسلمين كانوا يعرفون شيئا عن المدن المصرية القديمة الكبرى في تلك الفترة، بسبب العلاقات بين مصر وبلاد العرب، والتي بدأت منذ فترة مبكرة في التاريخ، واستمرت حتى الفتح العربي لمصر "عام 20هـ -640م"1. فإن طيبة إنما تقع في منطقة نائية هناك في الصعيد الأقصى، وأن القادمين من بلاد العرب ينتظر أن يكونوا على معرفة بالإسكندرية، عاصمة مصر وقت ذاك، فضلا عن مدن الدلتا القريبة من سيناء -حلقة الاتصال بين مصر وبلاد العرب- ثم إن اسم طيبة نفسه قد لا يشجع على القول بأن المسلمين قد أخذوه عن العاصمة المصرية القديمة، فهو اسم وثني يرتبط بالإله آمون على رأي، ومأخوذ عن اسم المدينة اليونانية "طيبة" على رأي آخر. وأيا ما كان الأمر، فلقد كثرت أسماء المدينة المنورة في العصر الإسلامي، حتى بلغت عشرة أسماء على رأي، وأحد عشر اسما على رأي آخر، وتسعة وعشرين على رأي ثالث، وأربعة وتسعين على رأي رابع، وإن كان أهمها جميعًا: المدينة ويثرب وطيبة وطابة والعاصمة والقاصمة والجدية والمحبوبة والمؤمنة والمباركة والمحفوظة والمختارة والجابرة والعذراء والغراء والبارة والمقدسة والناجية وذات الحرار ومدخل صدق وقرية الأنصار وسيدة البلدان والخيرة وأرض الهجرة ودار   = طيبة فربما كان مصري الأصل، ويتكون من "غبه" أحد أماكن عبادة آمون، ومن أداة التعريف "تي" بحيث يصبح الاسم كله "تيبه" "طيبة"، ولما جاء الإغريق إلى مصر لم يجدوا مشقة في الملاءمة بين ذلك الاسم وبين اسم مدينتهم المعروفة "طيبة"، هذا وقد اشتهرت المدينة بعدة أسماء منها "نو آمون" أي مدينة آمون و "المدينة" فقط، و "المدينة الجنوبية"، تمييزا لها عن "منف" التي تقع على مقربة من القاهرة الحالية، و "سيدة المدائن"، ثم خلع عليها الإغريق اسم "ديوس بوليس مجنا" "مدينة الله الكبرى"، ثم أطلق عليها الكتاب القدامى من أمثال ديودور وسترابو وبليني واصطيفانوس البيزنطي اسم "طيبة ذات المائة باب"، وأما اسمها الحالي "الأقصر" "جمع تكسير لكلمة قصر" فقد أطلقه العرب عليها حين بهرتهم عمائرها الكبرى فعدوها قصورا، هذا وقد كانت طيبة عاصمة لمصر في أغلب عصور ازدهار الحضارة المصرية "انظر: أحمد بدوي: في موكب الشمس 2/ 317-335، إرمياء 46: 25، وكذا J. BAIKI, EGYPT. ANTIQ. IN THE NILE VALLEY, P.342.F 1 انظر عن هذه العلاقات مقالنا "العرب وعلاقاتهم الدولية في العصور القديمة" -مجلة كلية اللغة العربية- العدد السادس - الرياض 1976. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 الهجرة ودار الأخيار ودار الإيمان ودار الأبرار ودار السنة وبيت الرسول ومدينة الرسول ومضجع الرسول وحرم رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ1. ومن أسف أن تاريخ يثرب القديم مجهول، فلا توجد مدونات يمكن الرجوع إليها، ولم تقم بها حفريات علمية يمكن أن تقدم لنا معلومات ذات قيمة عن تاريخ المدينة المقدسة القديم، وإن كانت هناك حفريات قد أجريت دون أن يقصد بها ذلك الهدف العلمي -كالتي حدثت في الأعوام 1333، 1335، 1352هـ- في أحد البساتين، وإبان حفر أساس القسم الشمالي لمدرسة العلو الشرعية الواقعة بقرب باب النساء، وفي المناخية جنوبي السبيل، إلا أنها قد كشفت عن بعض أشياء قد تشير إلى أن المدينة الحالية، إنما قامت على أنقاض مدينة أخرى -الأمر الذي اشار إليه اليهود منذ القرن التاسع الهجري- ومن ثم فإن معلوماتنا الحالية، إنما تعتمد في الدرجة الأولى على روايات الأخباريين، وأكثرها من ذلك النوع الذي عرفناه من قبل2.   1 وفاء الوفا 1/ 7-19، خلاصة الوفا ص7-17، الدرر الثمينة في تاريخ المدينة "ملحق بالجزء الثاني من شفاء الغرام" ص323، المقدسي: أحسن التقاسيم ص30 "ليدن 1906"، الأغلاق ص59، 87، البكري 4/ 1201-1202، ياقوت 5/ 82-83، 430، عمدة الأخبار ص41، عبد العزيز سالم: المرجع السابق ص538. 2 عبد القدوس الأنصاري: آثار المدينة المنورة ص192-194، أحمد إبراهيم الشريف: المرجع السابق ص290-291، محمد حسين هيكل: في منزل الوحي ص512-514. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 سكان المدينة مدخل ... سكان المدينة: يروي الأخباريون أن سكان يثرب إنما كانوا من العماليق، ثم اليهود ، ثم العرب -من أوس وخزرج- وأن العماليق إنما كانوا أول من زرع الزرع واتخذ بها النخيل، وعمر بها الدور والآطام، واتخذ الضياع، وأنهم يرجعون في نسبهم إلى عملاق ابن أرفخشد بن سام1.   1 وفاء الوفا 1/ 107، 111، خلاصة الوفا ص154-156، ياقوت 5/ 84 "مادة مدينة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 1- اليهود : وقصة اليهود -طبقًا لرواية الأخباريين، ومن تابعهم من المؤرخين المحدثين- أمرها عجب، إذ تذهب رواياتهم إلى أن موسى -عليه السلام- بعد أن أظهره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 الله على فرعون وطئ الشام وأهلك من بها من الكنعانيين، أو أنه بعث إليهم بعثا أهلك من بها، ثم بعث بعثا آخر إلى الحجاز، للعماليق الذين كانوا يسكنون المدينة قبل بني إسرئيل، وكانوا أهل بغي وغزو، ملكوا على أنفسهم رجلا يقال له "الأرقم" وتذهب الرواية إلى أن موسى كان قد بعث الجنود إلى الجبابرة من أهل القرى، فضلا عن جيش من بني إسرائيل كان قد بعثه إلى العماليق، وأمره أن يقتل القوم جميعًا ولا يستبقي منهم أحدا، وأن هذا الجيش قد كتب له نجاح بعيد المدى في مهمته هذه، فقتل العماليق جميعًا، ولم يبق على أحد منهم إلا ولدا للأرقم كان وضيئا فأشفقوا على شبابه، ومن ثم فقد حملوه إلى موسى ليرى رأيه فيه، غير أن موسى كان قد انتقل إلى الرفيق الأعلى قبل عودة الجيش بولد الأرقم، وقد اعتبر الإسرائيليون أن إبقاء الجيش على حياة ولد الأرقم خروج على تعليمات موسى، ومن ثم فقد رفضوا أن يسمحوا للعائدين بدخول الشام، مما اضطر هذا الجيش إلى العودة إلى المدينة والإقامة فيها، ومن ثم فقد كانوا أول من سكن المدينة من يهود1. والقصة على هذا النحو توجه إليها سهام الريب من أكثر من جانب، وليس بالوسع القول بأنها ترقى إلى ما فوق مظان الشبهات، هذا إذا لم تكن هي نفسها شبهة؛ وذلك لأسباب كثيرة: منها "أولًا" أن هذا الرأي الذي ذهب إلى أن موسى عليه السلام قد وطئ الشام وأهلك الكنعانيين، لا أقول يتعارض مع الحقائق التاريخية فحسب، وإنما يتعارض كذلك مع آيات القرآن الكريم- فضلا عن نصوص التوراة- ولتقرأ هذه الآيات الكريمة من سورة المائدة، يقول سبحانه وتعالى: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ، قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ، قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، قَالُوا   1 الأغاني 3/ 116، 19/ 94، ياقوت 5/ 84، أبوالفداء 1/ 123، تاريخ ابن خلدون 2/ 87-88 "القسم الأول" 2/ 286-287 "القسم الثاني" "طبعة بيروت 1971، عن طبعة بولاق 1284هـ" اب هشام 2/ 17، جواد علي 6/ 516-517، الإعلاق ص60-61، الدرر الثمينة ص324، المدينة بني الماضي والحاضر ص14-15، وفاء الوفا 1/ 111، خلاصة الوفا ص156-157، عبد الفتاح شحاتة، المرجع السابق ص271-272، إسرائيل ولفنسون: تاريخ اليهود في بلاد العرب ص6 "القاهرة 1927"، الروض الأنف 2/ 16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ، قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ، قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} 1. والأمر كذلك بالنسبة إلى التوراة2 التي تحدثت عن كل صغيرة وكبيرة في حياة موسى، وهكذا فإن كل النصوص المقدسة -آيات القرآن وإصحاحات التوراة- تشير إلى أن الإسرائيليين الذين صحبوا موسى في رحلة الخروج من مصر، لم يكتب لواحد منهم- بما في ذلك موسى3 وهارون4 عليهما السلام -أن يدخل الأرض المقدسة أبدًا، إذا استثنيا يشوع بن نون وكالب بن يفنه5، وقد ناقشنا ذلك كله بالتفصيل في كتابنا إسرائيل6. ومنها "ثانيًا" أن القرآن الكريم -والتوراة من قبل- يكذبان إرسال جيش إسرائيلي إلى الحجاز، فالقوم الذين جبنوا عن أن يدخلوا الأرض المقدسة التي كتبها الله لهم، ويصفون أنفسهم بأنهم "كالجراد في أعين الجبابرة من بني عناق" من سكان كنعان7، هؤلاء القوم ليسوا هم الذين يجتازون صحراوات بلاد العرب حتى يصلوا إلى يثرب، ثم يقوموا فيها بمجزرة بشرية تنتهي بإفناء بلد بأسره، إلا ولد الأرقم ملكها، ثم أليسوا هم أنفسهم الذين حاول الكليم عليه السلام أن يحرضهم على القتال، حتى يصدعوا بأمر الله ويدخلوا الأرض التي كتبها لهم، إلا أنهم كانوا مع كثرتهم "تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتى"، كانا يخافون الحرب ويهابون القتال، بعد أن تمكنت منهم المذلة والصغار، ومن ثم فقد صاحوا بموسى -كما تروي توراتهم -"ليتنا متنا في أرض مصر، أو ليتنا متنا في هذا القفر، ولماذا أتى بنا الرب   1 سورة المائدة: آية 21-26، وانظر: تفسير روح المعاني 6/ 1067-111، تفسير الطبرسي 6/ 62-71، تفسير الطبرسي 10/ 178-200، تفسير المنار 6/ 81-89، الكشاف 1/ 602-606، تفسير ابن كثير 2/ 532-541 "دار الأندلس" تفسير القرطبي 6/ 123-133، تفسير أبي السعود 2/ 17-19، تيسير العلي القدير 1/ 473-475. 2 عدد 13: 1-14: 45. 3 تثنية 3/ 27-28، 32: 28-52، 34: 1-6. 4 عدد 20: 22-29. 5 عدد 14: 14، 30، تثنية 3: 28. 6 انظر كتابنا "إسرائيل" ص317-329. 7 عدد 13: 25-33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 لنسقط بالسيف"1. وليت الأمر اقتصر على هذا، فإن التمرد سرعان ما يمتد إلى حد الثورة على موسى شخصيا، والمناداة بخلع رياسته وقيام سلطة جديدة تعود بهم إلى مصر، تقول التوراة على لسان الإسرائيليين: "أليس خيرًا لنا أن نرجع إلى مصر، فقال بعضهم نقيم رئيسًا ونرجع إلى مصر"2. هذه هي النصوص القرآنية والتوراتية وكلها تتحدث عن جبن الإسرائيليين وتقاعسهم عن القتال، أفليس من الغريب بعد ذلك أن يأتي بعض المؤرخين -ويا للعجب فهم من المسلمين- فيزعم لليهود أمجادا عسكرية ما كانت لهم أبدًا، والحق يقال أنهم ما زعموها لأنفسهم أبدًا. ومنها "ثالثًا" أن التوراة تحدثنا عن معارك دارت رحاها بين اليهود والعماليق، ولكن ليس في المدينة المنورة -كما يزعم بعض المؤرخين المسلمين القدامى، ومن تابعهم من المحدثين- وإنما في سيناء، حيث كان يقيم فريق من العماليق3، في منطقة منها تدعى "رفيديم"، وأن العماليق استمروا يضايقون الإسرائيليين حتى أيام شاؤل "1020-1000ق. م"4، أول ملوك إسرائيل، كما يروي سفر صموئيل الأول5. ومنها "رابعًا" أن الرواية تقدم لنا موسى عليه السلام في صورة لا تتفق ومكانة الكليم، فليس من شيم الأنبياء أن يرسلوا الجيوش لتقتل الناس جميعًا، كنت أفهم أن يدعو الكليم العماليق إلى عبادة الله الواحد القهار، فإذا ما رفضوا كانت الحرب   1 عدد 14: 1-3. 2 عدد 14: 3-4. 3 انظر عن العماليق: ما كتبناه هنا عن مواطنهم "في الفصل الخامس"، وانظر "كتابنا "إسرائيل" ص348-349. 4 هناك عدة آراء عن فترة حكم شاؤل منها الفترة "1020-1004ق. م" ومنها "1030-1004ق. م" ومنها "1025-1013ق. م" ومنها "1000-985ق. م" ثم انظر: W.F. Albright, The Archaeology Of Palestine, P.120 وكذا I. Epstein, Judaism, P.35 وكذا W. Keller, Op. Cit., P.181 وكذا Hahl, P.81 5 خروج 17: 8-16، صموئيل أول 15: 1-35. وكذا The Universal Jewish Encyclopaedia, I, P.218. وكذا J. Hastings, Op. Cit., I, P.77. وكذا A.Musil, Op. Cit., P.460 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 ولينصرن الله من ينصره، أما أن يرسل النبي الكريم -فيما يزعم الرواة- جيشا إلى المدينة ليقوم فيها بمجزرة بشرية مروعة، تنتهي بإفناء القوم جميعًا، إلا طفل ضنوا عليه من الموت لوضاءته، فأمر لا يمكن أن يقبل على علاته من عامة الناس، فضلا عن أن يكون ذلك من كليم الله عليه السلام، وحتى هذه، فما شأن موسى بالعماليق في وسط بلاد العرب، أنسي أصحاب هذه الرواية أن موسى قد أرسل إلى بني إسرائيل خاصة1، وليس العماليق بالتأكيد من بني إسرائيل، كما أنهم هنا في المدينة المنورة -بعيدًا عن مصر وعن فلسطين، فضلا عن صحراء التيه- لم يعترضوا دعوته، وربما لم يسمعوا بها أبدًا، وحتى لو كانوا قوما جبارين-كما تذهب الرواية- أفكان موسى مكلفا بالقضاء على الجبارين في الأرض، وإذا كان ذلك كذلك، فلماذا القضاء على العماليق بالذات، وليسوا هم وحدهم الجبارين في الأرض، ثم ما هو الموقف بالنسبة إلى العماليق في غير يثرب؟ ومنها "خامسًا" أن بعض المؤرخين المسلمين أنفسهم إنما يشكون في صحة الرواية2، ومنها "سادسًا" أن هناك رواية أخرى -إخبارية كذلك- تقدم سببًا مختلفا لإقامة اليهود في المدينة، ذلك أن موسى -طبقًا لهذه الرواية- قد حج إلى بيت الله الحرام ومعه أناس من بني إسرائيل، وعند العودة رأوا في موضع المدينة صفة بلد نبي يجدون وصفه في التوراة بأنه خاتم النبيين، ومن ثم فقد أقاموا في موضع سوق بني قينقاع، ثم تآلفت إليهم أناس من العرب، فرجعوا على دينهم، فكانوا أول من سكن موضع المدينة3، وهكذا يبدو التضارب واضحًا في روايات   1 من المعروف أنه ليس هناك نبي على الإطلاق قد أرسل إلى الناس كافة، غير سيدنا محمد رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" انظر: مقالنا: "قصة الطوفان بين الآثار والكتب المقدسة" مجلة كلية اللغة العربية بالرياض، العدد الخامس ص383-457، وانظر، على سبيل المثال الآيات الكريمة من سورة النساء "79" والأعراف "158" وإبراهيم "31-33، 52" والأنبياء "107" والحج" 49" والفرقان"1" وسبأ "82" وص"87" وانظر تفسير الطبري"8/ 561، 13/ 170 "دار المعارف"، 18/ 179-180، 22/ 96، 23/ 188-189 "لحلبي"، تفسير القرطبي 14/ 300-301 "دار الكتب" 15/ 229-231 "الكاتب العربي"، تفسير البييضاوي 2/ 83، 95، 137، 261-316، تفسير روح المعاني 11/ 160-161، 13/ 258-260. 2 السهيلي: الروض الأنف 2/ 16، قارن ابن خلدون 2/ 88. 3 وفاء الوفا 1/ 110، خلاصة الوفا ص155-156، الدرر الثمينة ص324-325، علي حافظ: فصول من تاريخ المدينة ص13-14، قارن ابن كثير 1/ 316. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 الأخباريين، بل إن البعض منهم قد ذهب إلى أن هارون عليه السلام قد دفن بالمدينة كذلك، وهنا تتجه الروايات اتجاها غريبا، حيث تذهب إلى أن موسى وهارون قد خرجا حاجين أو معتمرين، حتى إذا ما قدما المدينة خافا من يهود، فنزلا أحد، وهارون مريض، فحفر له موسى قبرا بأحد، وقال: ادخل فيه فإنك تموت، فقام هارون فدخل في لحده فقبض فحثى عليه موسى التراب1. ولست أدري كيف يخاف موسى وهارون من اليهود، أما كان الأولى أن يقول أصحاب هذه الرواية أن النبيين الكريمين قد خافا من العماليق، بخاصة وأن أصحاب الرواية نفسها، إنما يرون أن الذين كانوا بالمدينة من يهود من بني قينيقاع، وهم من أوفى شيعة موسى وهارون، وفي نفس الوقت كان العماليق -طبقًا للرواية نفسها- يملأون السهل والجبل، وفيهم بنو هف وبنو مطر وبنو الأزرق، ثم كيف علم موسى أن هارون سوف يموت، وعلم ذلك عند ربي وحده، ثم كيف يأمر موسى هارون بدخول القبر قبل أن يموت، ثم أليست هذه الرواية هي رواية التوراة -كما جاءت في سفر العدد "20: 22-29"- وإن غير أصحابنا الأخباريون فيها، بأن جعلوا في موت هارون على جبل أحد في المدينة المنورة، بدلا من موته على جبل هور في أرض التيه، وإن كانت رواية التوراة جعلت ذلك بوحي من الله لموسى، وإن انحرفت عن الجادة من الصواب بعد ذلك، فجعلت الموت إنما كان سببه العصيان2. ومنها "سابعًا" أن سكنى اليهود في يثرب -طبقًا لهذه الرواية- بعيد جدًّا، بخاصة إذا ما تذكرنا أن موسى عليه السلام قد خرج ببني إسرائيل من مصر حوالي عام 1214ق. م3 -ولا أقول في عام 1447ق. م، كما ترجح بعض الآراء4.   1 وفاء الوفا 1/ 113-114، خلاصة الوفا ص156، الدرر الثمنية ص156، إبراهيم العياشي: المرجع السابق ص15-16. 2 عدد 20: 24، تثنية 32: 48-50، كتابنا إسرائيل ص325-326. 3 انظر كتابنا "إسرائيل" ص292-303. 4 ول ديورانت: المرجع السابق ص326، وكذا J. Finegan, Op. Cit., P.117-118 وكذا J.A. Jack, The Date Of The Exodus, 1925 وكذا A. Lods, Op. Cit., P.128 وكذا Orr, The Problem Of The Old Testament, P.422-4 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 بل إن هناك من يذهب إلى أن الخروج إنما كان في حوالي عام 1575ق. م1، طبقًا للآراء التي تربط بين اليهود والهكسوس2. ولعل سؤال البداهة الآن: إذن ما هو أصل هذه الروايات التي جعلت موسى عليه السلام يرسل جيشا إلى المدينة المنورة يقضي على سكانها؟ ومن أين جاء بها الأخباريون؟. والرأي عندي أن مصدرها التوراة، وأنها وصلت إلى الإخباريين محرفة حتى، ثم افترض بعد ذلك مصدرين لهما من قصص التوراة، الواحد قصة موسى والمديانيين، والآخر قصة شاؤل والعماليق، وأن المؤرخين المسلمين لم يطلعوا حتى على أي من القصتين في التوراة، ومن ثم فقد نقلوها عن مصادر غير علمية بما جاء في التوراة، وربما عن مسلمة أهل الكتاب. وعلى أي حال، ففي الأولى نرى رب إسرائيل يأمر موسى بالانتقام من المديانيين، ومن ثم نرى الجيش يخرج إلى مديان فيقتل الذكور منهم، ويسبي النساء، ثم ينهب المواشي ويحرق المدن ويهدم الحصون، ثم يعود ومعه "الغنيمة وكل النهب من الناس والبهائم"، فيخرج إليهم موسى غضبان أسفا، مهددا ثائرا، آمرا إياهم "أن اقتلوا كل ذكر من الأطفال، وكل امرأة عرفت رجلا بمضاجعة ذكر"3، وهكذا يأبى كاتبوا التوراة -المتداولة الآن- إلا أن يصوروا موسى عليه السلام، حريصًا على قتل رجال مديان، فضلا عن السبايا من نسائهم، والذين لم يبلغوا الحلم من ذكورهم4. وفي الرواية الأخرى يأمر رب إسرائيل ملك إسرائيل بأن يقضي على العماليق الذين استذلوا يهود، ومن ثم فإن شاؤل سرعان ما يخرج على رأس جيشه فيبيد عماليق، وإن أبقى على "أجاج" ملكهم، فضلا عن خيار الغنم والبقر، وعن كل   1 باهور لبيب: لمحات من الدراسات المصرية القديمة: ص41-54، كتابنا "حركات التحرير في مصر القديمة" ص131-137 "دار المعارف -1978"، كتابنا "إسرائيل" ص269-276، وكذا H.R. Hall, The Ancient History Of The Near East, P.406-9 2 انظر كتابنا "إسرائيل" ص268-303. 3 عدد 31: 1-18. 4 انظر كتابنا "إسرائيل" ص78-79. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 ثمين غال مما يملكون، وهنا يغضب "يهوه" رب إسرائيل، فيتراءى لصموئيل النبي، معلنا أنه قد "ندم على أن جعل شاؤل ملكًا" لأنه خالف أمره، فلم يقض على عماليق وما يملكون، وكانت النتيجة أن ذبح ملك العماليق في الجلجال، ورفعت بركة رب إسرائيل عن شاول، وأعطيت لواحد من يهود من غير بيت شاؤل1. ولا ريب في أن أقاصيص التوراة هذه ليس لها ظل من حقيقة، وإنما هي روايات سجلها يهود الأسر البابلي "586-539ق. م"، وبعد حدوثها بقرون وقرون، ولعل في بعد الشقة ما بين وقوع الأحداث وتسجيلها ما يشفع في هذا الخلط العجيب، بل ما يشفع في المغالات والتفاخر بما ارتكبت يهود من مجازر، لم يكن لها من أساس إلا في أذهان مؤلفيها، الذين شهدوا بربرية الآشوريين والبابليين، فخيل إليهم أن أسلافهم مارسوا نفس اللون من القهر والإذلال2. ويبقى بعد ذلك سؤالنا: متى أتى اليهود إلى يثرب؟ في الواقع إن الآراء متضاربة في هذا الأمر إلى درجة أننا لا نستطيع التوفيق بينهما، إذ تذهب بعض الآراء إلى أن ذلك إنما حدث في القرن الثالث عشر ق. م3، بينما تذهب آراء أخرى إلى أنه إنما كان في القرنين الأول والثاني بعد الميلاد4، والفرق بينهما جد شاسع، قد يصل إلى حوالي أربعة عشر قرنًا، ومن هنا كانت الصعوبة في التوفيق بين هذه الآراء المختلفة أحيانًا، والمتضاربة أحيانًا أخرى. لقد رأينا من قبل كيف أن بعض الروايات إنما تذهب إلى وجود اليهود في يثرب، إنما كان منذ أيام موسى عليه السلام، ورأينا كذلك كيف أن هذه الروايات لا تستطيع حتى أن تقف على قدميها، ومن ثم فإننا نتجه إلى رواية أخرى، تذهب إلى أن اليهود إنما قدموا على أيام داود عليه السلام "1000-960"5، ذلك أن   1 التوراة: سفر صموئيل الأول 15: 1-35. 2 نجيب ميخائيل: مصر والشرق الأدني القديم 3/ 322. 3 وفاء الوفا 1/ 107، 111، الروض الأنف 2/ 16، أبو الفداء 1/ 123، ياقوت 5/ 84، ابن خلدون 2/ 87-88 "القسم الأول" 2/ 286-287 "القسم الثاني" الأغاني 3/ 116، 19/ 94. 4 Josephus, The Jewish War, Ii, 18, 1, 3-4 وكذا Ic, Iii, P.170. وكذا O'leary, Op. Cit., 173 5 هناك اتجاهات مختلفة لفترة حكم داود، فهي في الفترة "1010-955ق. م" أو "1004-963ق. م" أو "1000-960ق. م" أو "975-963ق. م" أو "1012-972ق. م": انظر: فيليب حتى: المرجع السابق ص203، وكذا W.F. Albright, Op. Cit., P.120-122 وكذا I. Epstein, Op. Cit., P.35 وكذا G. Roux, Op. Cit., P.454 وكذا Historical Atlas Of The Holy Land, P.81 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 الإسرائيليين -فيما يرى البعض- قد خلعوا طاعة داود وانضموا إلى ولده "أبشالوم"، وأن النبي الكريم قد لجأ إلى أطراف الشام، ثم لحق بخيبر وما إليها من بلاد الحجاز، ثم أعد العدة لاستعادة ملكه فحارب ولده وانتصر عليه، ثم انتهى الأمر بقتل أبشالوم على يد "يؤاب" قائد جيش داود، فضلا عن قتل عشرين ألفا من بني إسرائيل1، ولعل "دوزي" يتجه نفس الاتجاه، وإن رأي أن الأمر كان ممثلا في هجرة سبط شمعون قبيل أيام داود2، ومن ثم فالهجرة لا علاقة لها بداود -الأمر الذي ناقشناه من قبل. وعلى أي حال، فإن رواية الإخباريين الآنفة الذكر، لا تعدوا أن تكون تحريفًا لأحداث جاءت في التوراة، حيث تروى أن أخريات أيام داود قد تميزت بعدة ثورات، امتدت حتى إلى أهل بيته، ومنها ثورة ولده أبشالوم الذي نجح في أن يضم إليه قبائل إسرائيل الثائرة ضد أبيه، دون سبب ندريه على وجه اليقين، ثم تمكن أبشالوم من خلع أبيه، وتنصيب نفسه ملكًا على إسرائيل في مكانه، مما اضطر داود إلى أن يذهب إلى "محانيم" في شرق الأردن، حتى لا يفاجأ بأبشالوم وأتباعه داود إلى أن يذهب إلى "محانيم" في شرق الأردن، حتى لا يفاجأ بأبشالوم وأتباعه في أورشليم، إلا أن تصرفات أبشالوم المخزية مكنت داود من استعادة ولاء بعض القبائل الإسرائيلية القوية، والانتصار على أبشالوم وقتله كذلك، على الرغم من أوامر داود الصريحة لجنوده بعدم قتله، مما أدى إلى حزن داود المرير على ولده3. وهكذا يبدو واضحًا أن الإخباريين لم يفعلوا أكثر من نقل القصة التي روتها التوراة، وإن غيروا فيها بما يجعل اليهود يصلون إلى بلاد العرب على أيام داود عليه السلام، بل إن هناك من يذهب به الخيال إلى أن يرى أن داود قد غزا يثرب، وكان يسكنها صلع وفالج، وأنه قد أخذ من سكانها مائة ألف عذراء، وان الله قد   1 تاريخ ابن خلدون 2/ 97، وفاء الوفا 1/ 110-111-112، خلاصة الوفا ص157. 2 R. Dozy, Op. Cit., P.40-48 3 صموئيل ثان 13: 1-18: 33، ف. ب. ماير: حياة داود ص262 وكذا M. Noth, Op. Cit., P.201-202 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 سلط الدود على أهل يثرب بعد ذلك فأهلكهم، ثم دفنوا في السهل والجبل في ناحية الجوف1. غير أن أصحابنا الأخباريين لم يقولوا لنا ماذا فعل النبي الأواب بهذه المائة ألف من عذاري يثرب، فضلا عن السبب في سبيهم، ثم وهل صحيح أن يثرب كان بها في تلك الآونة من القرن العاشر قبل الميلاد مائة ألف من العذاري؟، ثم وهل صحيح كذلك أن الله قد أهل يثرب جميعًا؟ وأخيرًا ماذا فعل هؤلاء الناس ليصب عليهم داود نقمته إلى هذا الحد؟، وهكذا يبدو لنا بوضوح ما في هذه الرواية من بعد عن الصواب. وهناك فريق ثالث يذهب إلى أن اليهود إنما قدموا إلى بلاد العرب في القرن الثامن قبل الميلاد، بعد سقوط السامرة -عاصمة إسرائيل- في أيد الآشوريين عام 722ق. م2، وليس من شك في أن هذا الاتجاه قد تأثر إلى حد كبير بسقوط السامرة في يوم ما من شهر ديسمبر عام 722ق. م3، وأن العاهل الآشوري "سرجون الثاني" "722-705ق. م" قد هجر أكثر عناصر السكان أهمية، وربما النبلاء والإغنياء، غير أن التهجير إنما كان -طبقًا لرواية التوراة4- إلى "حلج وخابور ومدن مادي"، وحين تكررت العملية في عام 720 أو 715ق. م، فإن العاهل الآشوري قد جاء بقوم من "بابل وكوت وحماة"، ومن سوسة وعيلام، فضلا عن قبائل ثمود "تامود" ومرسيمانو وجبايا، والعرب الذين يعيشون بعيدًا في الصحراء وأسكنهم في السامرة، وذلك رغبة من العاهل الآشوري في كسر التحالفات القديمة في سورية وفلسطين، بإدخال إلى البلاد5، وهكذا يبدوا واضحًا أنه   1 وفاء الوفا 1/ 110، خلاصة الوفا ص156، الدرر الثمينة في تاريخ المدينة ص323، جواد علي 4/ 129. 2 A. Guillaume, Islam, 1964, P.11. 3 A.T. Olmstead, In Ajsl, 47, P.262 وكذا A. Leo Oppenheim, In Anet, P.284 وكذا J. Finegan, Op. Cit., P.210 وكذا A.G. Lie, The Inscriptions Of Sargon Ii, Part, I, The Annals, 1929, P.5 4 ملوك ثان 17: 6. 5 ملوك ثان 17: 1/\-26، عزرا 4: 2، 9 كتابنا "إسرائيل" ص509-512 وكذا A.L. Oppenheim, In Anet, P.260 وكذا S.A. Cook, In Cah. Iii, P.385 وكذا C. Roth, A Short History Of The Jewish People, P.28-9 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 ليست هناك أية إشارة في التوراة، أو في النصوص الآشورية، إلى تهجير يهود من السامرة إلى يثرب، وإلى غيرها من بلاد العرب، ومن ثم فإن المؤرخين يرفضون هذا الاتجاه. وهناك فريق رابع يرى أن هجرة اليهود إلى يثرب إنما كانت بعد سقوط اليهودية وتدمير الهيكل في القرن السادس قبل الميلاد، على يد "نبوخذ نصر" في عام 586ق. م -وربما في أغسطس 587ق. م- وإبعاد كثير من اليهود إلى بابل، وهو ما عرف في التاريخ "بالسبي البابلي"1، وعندما قتل اليهود "جداليا" نائب نبوخذ نصر في أورشليم2، أدركوا مدى الكارثة الت حلت بهم، وخوفا من انتقام العاهل البابلي، فقد كان الهروب إلى مصر هو سبيل النجاة الوحيد أمامهم، ونقرأ في التوراة "فقام جميع الشعب من الصغير إلى الكبير ورؤساء الجيوش وجاءوا إلى مصر، لأنهم خافوا من الكلدانيين"3، ومرة أخرى ليس في هذه الأحداث إشارة إلى هروب يهود إلى يثرب، كما تذهب الروايات العربية4. على أنه في هذه الاضطرابات، لا يمكنا القول إن مصر كانت هي سبيل النجاة الوحيد أمام اليهود -كما تقول التوراة- ومن ثم فربما فر فريق من يهود إلى بلاد العرب، وإن كنا لا نستطيع -بحال من الأحوال- أن نقول أنهم قد ذهبوا إلى يثرب بالذات، ولعل الذهاب إلى تيماء وإلى وادي القرى ومجاوراتهما، ربما كان أقرب إلى الصواب من الذهاب بعيدًا إلى يثرب؛ ذلك لأن الطريق إلى الحجاز لم يكن مقفلا أمام يهود في تلك الفترة، بخاصة وأن اليهود كانوا هاربين من فلسطين، يبحثون عن ملجأ يقيهم شر العذاب الذي يمكن أن يصبه عليهم العاهل البابلي، والحجاز أقرب المناطق إلى فلسطين، كما أن وجود بعضًا من يهود على طرق التجارة بين جنوب بلاد العرب وشمالها فيما بعد في العصر الروماني، قد يدعم الرأي القائل   1 تاريخ الطبري 1/ 539، أبو الفداء 1/ 133، الأغاني 19/ 94، الروض الأنف 2/ 16، إسرائيل ولفنسون: المرجع السابق ص6. وكذا E. Dozy, Op. Cit., P.135. وكذا A. Guillaume, Op. Cit., P.11 2 إرمياء 41: 1-18، زكريا 7: 5. 3 ملوك ثان 25: 26. 4 وفاء الوفا 1/ 112، تاريخ ابن خلدون 2/ 107. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 بوجود هجرة يهودية إلى بلاد العرب منذ تلك الفترة1. غير أن حملات البابليين المتكررة بعد ذلك على شمال بلاد العرب، فضلا عن استقرار "نبونيد" في تيماء، ولمدة قد تقرب من سنوات عشر، كما أشرنا من قبل، قد يضعف هذا الاتجاه، ورغم أن هناك من يذهب إلى أن حملة نبونيد على بلاد العرب، قد ضمت بين رجالها بعضًا من يهود، وأن هذا النفر من يهود، إنما أقاموا في شمال الحجاز -وحتى يثرب- إقامة دائمة استمرت حتى ظهور الإسلام، فإن العاهل البابلي لم يشر أبدًا إلى عناصر يهودية في جيوشه، أو أنه قد أسكن يهود في تلك المناطق، كما أننا لا نملك من الأدلة ما يؤيد وجهة النظر هذه2. وهناك فريق خامس يذهب إلى أن وجود اليهود في يثرب إنما يرجع إلى القرنين الأول والثاني بعد الميلاد، وليس من شك في أن الأدلة التاريخية، إنما هي في جانب هذا الاتجاه أكثر من غيره، ولعل من أهم هذه الأدلة أن الظروف السياسية التي كانت يهود تمر بها في تلك الفترة -بعد أن نجح الرومان في السيطرة على سورية ومصر في القرن الأول ق. م، وعلى يهودية ودولة الأنباط في القرن الثاني بعد الميلاد -قد ساعدت هذه الظروف على هجرة أعداد من يهود إلى شبه الجزيرة العربية، التي ساعدت هذه الظروف على هجرة أعداد من يهود إلى شبه الجزيرة العربية، التي كانت بعيدة عن السيطرة الرومانية، فضلا عن أن بلاد العرب إنما كانت ما تزال في بداوة تشبه ما كان عليه اليهود إلى حد ما، هذا إلى أن اليهود أنفسهم إنما كانوا ينظرون إلى العرب على أنهم من ولد إسماعيل، وبما أنهم -أي اليهود- من ولد إسحاق، فهم جميعًا إذن من نسل إبراهيم الخليل عليه السلام، وبالتالي فهم من ذوي رحمهم، ولهم بهم صلة من قربى، هذا فضلا عن أن أمر هروب اليهود إلى أعالي الحجاز ودخولهم إليه أمر سهل ميسور، فالأرض واحدة وهي متصلة، والطرق مفتوحة مطروقة، ولا يوجد مانع يمنع اليهود، أو غير اليهود، من دخول الحجاز، ولا سيما أن اليهود كانوا خائفين، فارين بأنفسهم من فتك الرومان، وأقرب مكان مأمون إليهم هو الحجاز3.   1 إسرائيل ولفنسون: تاريخ اليهود في بلاد العرب ص6، وكذا A. Guillaume, Op. Cit., P.11 2 جواد علي 6/ 513. 3 جواد علي 6/ 514، وكذا F. Altheim And R. Stiehl, Op. Cit., Ii, P.74 وكذا O'leary, Op. Cit., P.173 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 غير أن الهجرة الحقيقية إنما كانت بعد الثورة اليهودية ضد الرومان، ثم إخماد هذه الثورة بأشد العنف وأقسى أنواع التدمير على يد "تيتوس" في عام 70م، حيث دمرت المدينة المقدسة، وأحرق المعبد اليهودي الذي بناه "هيرودوس" إحراقًا تامًّا، حتى أن القوم نسوا بعد حين من الدهر، إن كان المعبد قد بنى على التل الشرقي أو الغربي من أورشليم، وحتى أن محاولة بنائه -اعتمادًا على وصف التوراة له- قد فشلت نهائيًّا، كما منع بقية السكان من مجرد الاقتراب من أورشليم، ومن ثم فقد هاجرت مجموعات من السكان إلى بلاد العرب، ووصلت إلى يثرب. غير أن الثورة سرعان ما تجددت مرة أخرى على أيام هدريان، فيما بين عامي 132، 135م، وانتهت الثورة إلى القضاء تمامًا على اليهود، ككيان سياسي في فلسطين، وتغير اسم المدينة المقدسة "القدس" إلى "إيليا كابتيولينا" وتحول المعبد اليهودي إلى معبد لإله الرومان "جوبيتر"، ثم بيعت النساء اليهوديات كإماء، وضاع اليهود في غياهب التاريخ، وسرعان ما فر -من أسعده الخظ فنجا- إلى مكان يحتمي به من غضبة الرومان القاسية، وكان من هؤلاء المحظوظين فريق من يهود وصلوا إلى يثرب، وكان هؤلاء -إلى جانب من وصلوا بعد تدمير القدس على يد تيتوس- هم الذين كونوا الجالية اليهودية في شمال الحجاز، وفي يثرب بصة خاصة1، وزاد عددهم بمرور الزمن، حتى إذا ما ظهر الإسلام كان معظم سكان وادي القرى إلى يثرب من اليهود، هذا وهناك في الحجر، وفي مواضع أخرى من أرض الأنباط، كتابات نبطية، يرجع بعضها إلى القرن الأول الميلادي، وبعضها الآخر إلى القرن الرابع الميلادي، وردت بها أسماء عبرية تشير إلى أن أصحابها من يهود2. وتؤيد المصادر العربية هذا الاتجاه، فتذكر أنه لما ظهرت الروم على بني إسرائيل جميعًا بالشام فوطئوهم ونكحوا نساءهم، خرج بنو النضير وبني قريظة وبنو هدل "بهدل" هاربين إلى من بالحجاز من يهود، فلما فصلوا عنهم بأهليهم اتبعهم الروم فأعجزوهم، وهلك جند الروم في المفاوز والصحاري الخالية من الماء، وهذه الروايات   1 فيليب حتى: المرجع السابق ص375-377، وكذا Josephus, The Jewish War, Ii, 18, 1, 3-4 2 J. Horovity, Judaeo-Arabic Relations In Pre-Islamic Times, Ic, Iii, 1929, P.170 وكذا جواد علي 6/ 513. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 مأخوذة عن يهود المدينة أنفسهم، ثم أخذت جموع اليهود في الجزيرة العربية تزداد وتكثر بعد اضطهاد الروم لهم، ثم قصد بنو النضير وقريظة منطقة يثرب، وارتادوا حتى تخيروا أخصب بقاعها فسكنوها1. وهكذا سكنت جاليات يهودية منطقة يثرب، والطرق المؤدية إلى الشام، وإن تركزت كتل اليهود الكبرى في يثرب بالذات، حيث كان فيها ثلاث قبلائل، ربما بلغ عدد رجالها البالغين أكثر من ألفين، وهي قينقاع2، والنضير وقريظة، إلى جانب بطون وعشائر يهودية أخرى، ذهب الأخباريون إلى أنها بلغت أكثر من عشرين بطنا، منهم بنو عكرمة وبنو محمر وبنو زعورا وبنو الشظية وبنو جشم وبنو بهدل وبنو عوف وبنو القصيص "العصيص" وبنو ثعلبة3. هذا وهناك من يرجع بنسب بني النضير وبني قريظة إلى طبقة الكهان -سلالة هارون عليه السلام- وأما بقية يهود بلاد العرب، فبعضهم يرجع إلى نفس طبقة الكهان، وبعضهم الآخر إنما ينتمي إلى نسل الأسباط العشرة المفقودة4. غير أننا لا نستطيع أن نوافق على هذا الاتجاه، ذلك لأن الأسباط العشرة -والذين كانت تتكون منهم دويلة إسرائيل التي قامت عقب انفصال الدولة عشية موت سليمان في عام 922ق. م، إلى إسرائيل وعاصمتها السامرة، ويهوذا وعاصمتها أورشليم5- إنما ضاعوا في غياهب التاريخ بعد الاحتلال الآشوري للسامرة في   1 الأغاني 19/ 95، ابن خلدون 2/ 287، وفاء الوفا 2/ 112 إسرائيل: المرجع السابق ص9، 10، أحمد إبراهيم الشريف: المرجع السابق ص307. 2 يرى "أوليري" أن بني قينقاع إما عرب متهودون، أو من بني آدوم "Op. Cit., P.173" وانظر عن موقفهم من الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعن علاقاتهم مع غيرهم من يهود بني قريظة وبني النضير، واشتراكهم في يوم بعاث "ابن كثير 4/ 3-4، المقدسي 4/ 195"، ابن خلدون 2/ 23، ابن هشام 2/ 334، المعارف ص94، تاريخ الطبري 2/ 478-483، إسرائيل: المرجع السابق ص127-131". 3 وفاء الوفا 1/ 112-116، ابن هشام 2/ 259، الأغاني 19/ 95، إسرائيل ولفنسون: المرجع السابق ص14، أحمد إبراهيم الشريف: المرجع السابق ش294-295، جواد علي 6/ 522. 4 Freidlander, The Jews Of Arabia And The Rechabites, In Jor, 1910-1911, O'leary, Op. Cit., P.173 وكذا P.254 5 ملوك أول 11: 35-36، 12: 20-25، وكذ M. Noth, Op. Cit., P.58 وكذا C. Roth, Op. Cit., P.23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 عام 722ق. م، ثم قيام سرجون الثاني بتهجير أكثرهم إلى مناطق أخرى من الإمبراطورية، ثم أتى بقبائل أخرى من بابل وعيلام وسورية وبلاد العرب، لتحل محل الإسرائييلين المسبيين، ثم أسكنهم في السامرة ومجاوراتها، ومن هذا الخليط الجديد ظهر في التاريخ ما سمي "بالسامريين"1. وهكذا وضع سرجون الثاني نهاية لكيانهم كأمة، وأنهى وجود الأسباط العشرة كدولة، ولم يقدر لهم العودة مرة أخرى إلى المنطقة التي أخذوها غيلة واغتصابا من أصحابها، ثم سرعان ما اندمجوا مع غيرهم من السكان الأصليين في المناطق التي أجبروا على الإقامة فيها، وليست هنا أية إشارة على أن بلاد العرب كانت ضمن هذهه المناطق وإن ذكرت نصوص العاهل الآشوري أن من بين من أتى بهم إلى السامرة قبائل من بلاد العرب2 -كما أشرنا من قبل- فهل أتى سرجون بجزء من الأسباط العشرة في مكان هؤلاء المهجرين من بلاد العرب؟ هذا ما سكتت عنه النصوص تمامًا، ومن ثم فإننا لا نستطيع القول بأن بعضًا من يهود بلاد العرب كانوا من الأسباط العشرة. وعلى أي حال، فإن فريقًا من المؤرخين إنما يذهب إلى ن يهود بلاد العرب، إنما هم عرب تهودوا، وإن لم يكونوا مزودين بمعلومات كافية في التوحيد، وأنهم لم يكونوا خاضعين لقانون التلمود كله، حتى أن بعضًا من يهود دمشق وحلب في القرن الثالث الميلادي أنكروا عليهم يهوديتهم، وإن كانوا مع ذلك شديدي التمسك بدينهم3. هذا ويذهب فريق من المؤرخين إلى أن بني النضير وبني قريظة فرعان من قبيلة جذام العربية، تهودوا وسموا باسم المكان الذي نزلوا فيه4، وطبقًا لرواية   1 فيليب حتى: المرجع السابق ص214، وكذا C. Roth, Op. Cit., P.28-29 وكذا The Book Of Jewish Knowledge, 1964, P.120 2 A.L. Oppenheim, Anet, P.286 3 إسرائيل ولفنسون: المرجع السابق ص13، 73، حسن إبراهيم: المرجع السابق ص73 وكذا D.S. Margoliouth, Op. Cit., P.60 وكذا H. Lammens, Op. Cit., P.66, 81 وكذا Graetz, History Of The Jews, Iii, P.51, 75 4 تاريخ اليعقوبي 2/ 36، 39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 الأخباريين، فإن "جبل بن جوال" من بني ثعلبة بن سعد بن ذبيان، قد تهود هو وقومه، وعاش مع بني قريظة، حتى ظهور الإسلام، ثم هداه الله إلى الدين القويم فأسلم1. ويكاد يجمع المؤرخون على أن يهود بلاد العرب إنما هم من يهود فلسطين، وأنهم تركوها فيما بين عامي 70، 135م2، كما أشرنا من قبل -ويذهبون إلى أن يهود بني النضير وبني قريظة من نسل هارون3، وأن بقية البطون اليهودية من أسباط بني إسرائيل الأخرى4، وأن يهود خيبر من نسل "يهونا داب بن ركاب، وأنهم قد هاجروا إلى خيبر بعد خراب الهيكل الأول في عام 586ق. م، ثم بقوا فيها حتى عهد الخليفة الراشد "عمر بن الخطاب" "13-23هـ-634-644م"، وأن كلمة "خيبر" كلمة عبرانية بمعنى الطائفة والجماعة، وبمعنى الحصن والمعسكر5، وهو نفس الرأي الذي ذهب إليه الأخباريون، وإن نسبوها إلى رجل دعوه "خيبر بن قانية بن مهلاثيل"، رأى فيه البعض "شفطيا بن مهللثيل" من بني فارص6، على أن هناك من يفسرها بمعنى مجموعة من المستوطنات، وإن رأى أن اللفظة عبرية7. على أن الاستدلال ببحث لغوي على جنسية يهود بلاد العرب، طبقًا لما تشير إليه الأسماء التي يحملها اليهود -قبائل وأفرادا- لا يمكن أن يعتد به ويعول عليه، فمن الحق أن بعض أسماء القبائل اليهودية عربية محضة، ولكنها لا تدل على أنها عربية الجنس، إذ يمكن أن تكون جموع اليهود التي هاجرت إلى بلاد العرب، قد اتخذت أسماء الأماكن التي نزلت بها أسماء لها، بل إن الواقع إنما يدلنا على أن اليهود   1 جواد علي 6/ 515، وكذا الإصابة 1/ 223، وما بعدها "رقم1071" 2 O'leary, Op. Cit., P.173 3 D.S. Margoliouth, Op. Cit., P.59. وكذا Graetz, Op. Cit., P.56 4 جواد علي 6/ 522-523، وكذا Freidlander, Op. Cit., P.254 5 ملوك ثان 10: 15-28، البكري 1/ 521، تاج العروس 3/ 168، زاد المعاد 2/ 133 وكذا Graetz, Op. Cit., P.56 وكذا C.C. Torrey, The Jewish Foundations Of Islam P.13 وكذا Ei, 3, P.869 وكذا J. Hastings, Op. Cit., P.784 6 أبو الفداء 1/ 89، وكذا R. Dozy, Op. Cit., P.136 7 جواد علي 6/ 526، وكذا G. Weil, Mohammed Der Prophet, P.185 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 كانوا قد تركوا منذ أمد طويل الانتساب إلى قبائلهم، وأصبحوا يعرفون بأسماء القرى والأقاليم التي جاءوا منها، فكان يقال فلان الأوشليمي أو فلان الحبروني.. وهكذا، ومن ثم فالطريقة المثلى -فيما يرى إسرائيل ولفنسون- إنما هي النظر في الأخلاق والتقاليد، واتجاه الأعمال والأفكار، وهنا فسوف نجد أن يهود بلاد العرب يهودا أكثر منهم عربًا، هذا إلى جانب أن فكرة إقامة الحصون والآطام على قمم الجبال في شمال بلاد العرب، إنما أتى اليهود بها من فلسطين، حيث تكثر هناك الحصون المنيعة في الجبال1. أضف إلى ذلك أن القرآن الكريم إنما وجه الخطاب إلى اليهود بتعبير "بني إسرائيل"، ونعي عليهم مسلك اليهود الأقدمين مع موسى والأنبياء من بعده، وما كان منهم من تعجيز وإحراج وكفر وتكذيب وغدر، ونقض للشرائع وتحريف للكلام عن مواضعه، وأخذهم الربا وقد نهوا عنه، وأكلهم أموال الناس بالباطل، وذلك في صدد التنديد بموقفهم من النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- وفي كثير من الآيات جعل اليهود المعاصرين والقدامى موضوع خطاب وسياق وسلسلة واحدة، حيث يوجه الخطاب إلى بني إسرائيل أو إلى اليهود بصيغة المخاطب القريب، فيقص ما كان من الأقدمين وما كان من المعاصرين بأسلوب يرجح أن المقصود به تقرير الصلة النسبية بين هؤلاء وأولئك، وربط ما بدا من أخلاق المعاصرين ومواقفهم بما كان من أخلاق القدماء، كأن الجميع يصدرون عن جبلة واحدة وأخلاق متوارثة، وإذن: فتوجيه الخطاب في القرآن الكريم إلى يهود يثرب بـ"بني إسرائيل" يسوغ الترجيح، بل الجزم، بأن اليهود الذين كانوا في الحجاز، بصفة عامة، هم نازحون وأنهم إسرائيليون، وأنهم ليسوا قبائل عربية تهودت، وإن كان هناك عرب تهودوا، فإنهم لم يكونوا جماعة محسوسة، وليسوا إلا أفرادا2. على أنه يجب ألا يفهم من هذا كله، أن كل يهود بلاد العرب من أصل يهودي، فهناك الكثير من العرب المتهودين، ولا سيما القبائل اليهودية المسماة بأسماء عربية أصيلة، لها صلة بالوثنية، مما يدل على أنها إنما كانت وثنية قبل أن تتهود، وهناك الكثير من البطون العربية التي تهودت3، فقد تهود قوم من الأوس والخزرج بعد   1 إسرائيل ولفنسون: المرجع السابق ص15-16. 2 عبد الفتاح شحاته: تاريخ الأمة العربية قبل ظهور الإسلام -الجزء الثاني -ص279-280. 3 T. Noldeke, Op. Cit. - P.52 وكذا D.S. Margoliouth, Op. Cit., P.60 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 خروجهم من اليمن لمجاورتهم يهود خيبر وقريظة والنضير، وتهود قوم من بني الحارث بن كعب، وقوم من غسان، وقوم من جذام، وقوم من "بلى"1، فضلا عن أن هناك ما يشير إلى أن المرأة المقلات في الجاهلية كانت تنذر إن عاش لها ولد أن تهوده، ومن ثم فقد تهود بعض منهم، فلما جاء الإسلام أراد الأنصار إكراه أبنائهم عليه، فنهاهم الله عن ذلك2، حيث يقول سبحانه وتعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَي} 3، كما أن اليهود قد عملوا على التبشير بدينهم بين العرب إلى حد ما.   1 تاريخ اليعقوبي 1/ 257، جواد 6/ 525 وكذا Graetz, Op. Cit., P.408. وكذا Islamic Culture, Iii, 2, P.177. 2 أديان العرب في الجاهلية ص201، إسرائيل ولفنسون: المرجع السابق ص88، السنن الكبرى للبيهقي 9/ 186، سنن أبي داود 3/ 78-79. 3 سورة البقرة: آية 256، وانظر: تفسير الطبري 5/ 407-424 "دار المعارف بمصر"، تفسير القرطبي 3/ 279-282، تفسير روح المعاني 3/ 13-15، تفسير مجمع البيان للطبرسي 3/ 304-307، تفسير المنار 3/ 35-40، تفسير أبي السعود 1/ 189-190، تفسير ابن كثير 1/ 310-312، "دار إحياء التراث العربي"، تيسير العلي القدير 1/ 220-222، تفسير الكشاف 1/ 387، في ظلال القرآن 2/ 293-296، الدرر المنثور في التفسير بالمأثور 1/ 329-331، تفسير النسقي 1/ 129. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 3- العرب : يروي الأخباريون أن القبائل العربية -من أوس وخزرج- قد هاجرت من اليمن إلى يثرب على إثر حادث حادث سيل العرم، وهناك في يثرب وجدت تلك القبائل أن الأموال والآطام والنخيل في أيدي اليهود، فضلا عن العدد والقوة، فأقام الأوس والخزرج مع اليهود، وعقدوا معهم حلفا يأمن من بعضهم إلى بعض، ويمتنعون به ممن سواهم1. وهكذا فإن هجرة الأوس والخزرج إلى يثرب، إنما كانت -طبقًا لرواية الأخباريين- بسبب سبل العرم، الأمر الذي لا يمكن تحديد زمنه بسهوله؛ ذلك لأن سد مأرب إنما تهدم عدة مرات، خلال الفترة الطويلة التي مضت منذ تشييده في منتصف القرن السابع   1 ابن كثير 2/ 160، الأغاني 19/ 69، ياقوت 5/ 35-38، تاريخ اليعقوبي 1/ 203-420، ابن هشام 1/ 17-19، الأعلاق النفيسة ص62، جواد علي 4/ 129، على حافظ: فصول من تاريخ المدينة ص14-15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 ق. م- وربما الثامن ق. م1- وبين آخر مرة أصلح فيها السد في عام 543م، على أيام أبرهة الحبشي طبقًا لما جاء في نصي "جلازر 618" و"2Cih 451"، إذ أن هناك عدة إشارات إلى تهدم السد وإصلاحه، منها ما حدث على أيام "شمر يهرعش"3، ومنها ما حدث على أيام "ثاران يهنعم" عندما تهدم السد عند موضع "حبابض" و"رحبتن"، وأن القوم قد كتب لهم نجحا كبيرًا في إصلاحه4. ولعل التهدم الذي حدث على أيام "شرحبيل يعفر" في القرن الخامس الميلادي، إنما كان واحدًا من أشد تهدمات السد خطورة، لأن آثارة تعدت الآثار الجانبية، إلى هروب سكان المنطقة إلى الهضاب والجبال، ثم هجرتهم من هذه المنطقة إلى أرضين أخرى، ربما لأنه كان بسبب كوارث طبيعية، كالزلازل والبراكين، وليس لمجرد سقوط أمطار غزيرة، ومع ذلك فقد نجح القوم بعد كل هذا في تجديد بناء السد وترميمه، على مقربة من "رحب" وعند "عبرن"، فضلا عن حفر مسايل للمياه، وبناء القواعد والجدران، كما أشرنا من قبل، وقد تم ذلك في عام 449/ 450م،5 وأخيرًا ذلك التهدم الذي كان على أيام أبرهة الحبشي. وهكذا يبدو بوضوح أن تحديد تاريخ معين لخراب سد مأرب، وهجرة القبائل العربية من اليمن إلى وسط بلاد العرب وشمالها، أمر لا يمكن -على ضوء معلوماتنا الحالية- أن نقول فيه كلمة نظن أنها القول الفصل، أو حتى قريبًا من هذا القول، وأن الأمر ما يزال في مرحلة الحدس والتخمين، حتى تقدم لنا الأرض الطيبة في اليمن أو في غيرها، ما ينير أمامنا الطريق.   1 جواد علي 2/ 281، نزيه مؤيد العظم: المرجع السابق ص88 وكذا D. Nielsen, Op. Cit., P.79. وكذا Die Araber, P.27 2 F. Altheim And R. Stiehl, Op. Cit., P.587 وكذا A. Sprenger, Op. Cit., P.31-126 وكذا E. Glaser, Op. Cit., P.390 وكذا Le Museon, 1953, 66, P.340 وكذا A.F.L. Beeston, Problems Of Sabaean Chronology, Basor, 16, 1954 3 جواد علي 7/ 210 4 A. Jamme, Op. Cit., P.176. وكذا Le Museon, 1964, 3-4, P.491-498 5 E. Glaser, In Mvg, Ii, 1897, P.372-379, 389-390 وكذا Le Museon, 1964, 3-4, P.493-4 وكذا H. St. J.B. Philby, The Background Of Islam, Alexandria, 1947, P.118. وكذا A. Sprenger, Die Alte Geographie Arabiens, Berlin, 1875, P.13, 20, 28 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 وأما الروايات العربية، فإن بعضًا منها إنما يشير إلى أن ذلك إنما قد حدث قبل الإسلام بأربعة قرون، بينما يشير البعض الآخر إلى أن تلك الهجرات إنما تمت في القرن الخامس الميلادي، وعلى أيام "حسان بن تبان أسعد1"، علي أن هناك فريقًا ثالثًا إنما يقترح أخريات القرن الرابع الميلادي، معتمدا في ذلك على نسب "سعد بن عبادة الخرزجي"، وجعله مقياسا للزمن الذي ربما تكون الهجرة تمت فيه، فنسب سعد -طبقًا لرواية النسابين- إنما هو "سعد بن عبادة بن دليم بن حارثة بن أبي خزيمة بن ثعلبة بن طريف بن الخرزج الأصغر بن ساعدة بن كعب بن الخزرج الأكبر بن حارثة"، فمن سعد إلى الخزرج الأكبر أحد عشر جيلا، وإذا افترضنا أن الفرق بين كل جيلين خمسة وعشرين عامًا، كانت المدة بين الهجرة النبوية الشريفة "في عام 622م"، وبين الخزرج الأكبر، حوالي مائتين وخمسين وسبعين سنة، أي أن هجرة الأوس والخزرج، ربما كانت في أخريات القرن الرابع2، هذا ويحدد "سديو" هذه الهجرة بعام 300م، ثم الاستيلاء على المدينة في عام 492م3. وأما أن تهدم السيل كان بسبب "جرذ" له مخالب وأنياب من حديد4، فتلك أساطير لا تدور إلا في رءوس أصحابها، ومن ثم فهي لا تعرف نصيبًا من صواب، أو جانبا من منهج علمي، الأمر الذي ناقشناه بالتفصيل في كتابنا "دراسات في التاريخ القرآني" كما أن "كيتاني" قد جانبه الصواب كثيرًا حين ظن أن خراب سد مأرب، إنما كان بسبب الجفاف الذي أثر على السد، بل إن ضغط الماء على جوانب السد، ثم حدوث سيل العرم، إنما هو في حد ذاته لدليل على فساد نظرية الجفاف هذه5، فضلا عن معارضتها لما جاء في القرآن الكريم عن حادث السيل   1 ياقوت 5/ 35، جرجي زيدان: العرب قبل الإسلام ص155، الفصل التاسع من كتابنا "دراسات في التاريخ القرآني". 2 أحمد إبراهيم الشريف: مكة والمدينة في الجاهلية وعصر الرسول ص315. 3 لويس أميل سديو: تاريخ العرب العام، ترجمة عادل زعيتر ص51. 4 ابن خلدون 2/ 50، اليعقوبي 1/ 205، ياقوت 5/ 35، وفاء الوفا 1/ 117-120، مروج الذهب 2/ 163-164، نهاية الأرب 3/ 283-288، الدرر الثمينة ص326، الميداني 1/ 275-276، الدميري: حياة الحيوان الكبرى 1/ 445. 5 جواد علي 1/ 244-246، وكذا I. Caetani, Studi Della Historia Orientale, I, P.367, 296 وكذا A. Musil, Op. Cit., P.310 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 هذا1. على أن المؤرخين إنما يشككون كثيرًا في أن يكون السيل وحده هو سبب هجرة الأوس والخزرج؛ ذلك لأن السد إنما كان يسقي ربوة من الأرض لم تكن مسكنا لكل بطون الأزد، ومن ثم فإنه يصبح من الصعب أن نتقبل القول، بأن جميع البطون الأزدية قد هاجرت إلى شمال شبه الجزيرة العربية بسبب انهيار السد وحده، وإنه لمن المحتمل أن تكون هناك أسباب أخرى تعاونت مع سيل العرم، واضطرت بعض هذه البطون إلى ترك وطنها مهاجرة إلى الأرجاء النائية2. ولعل أهم هذه الأسباب إنما هو ضعف الحكومة، ثم تحول الطرق التجارية، فضعف الحكومة في اليمن أدى إلى تزعم سادة القبائل والرؤساء، وانشقاق الزعامة في البلاد، فضلا عن المشاحنات الدينية بين أتباع النصرانية وأتباع الموسوية في اليمن، وزاد الطين بلة أن صاحب تلك القلاقل الداخلية تدخل الحبشة ثم الفرس في شئون اليمن الداخلية، وكان نتيجة ذلك كله اضطراب الأمن في البلاد، وظهور ثورات داخلية وحروب، كما تدلنا على ذلك نقوش النصف الثاني من القرن السادس الميلادي، فألهى ذلك الحكومة عن القيام بواجباتها، مما أدى إلى إهمال السد، ومن ثم فقد تصدعت جوانبه، وكان السيل الذي أغرق مناطق واسعة من الأرض الخصبة، التي كان القوم يعتمدون عليها في حياتهم الاقتصادية3، فإذا أضفنا إلى ذلك كله أن اليمن لم تصبح في تلك الفترة صاحبة السيادة على الطرق التجارية، كما أنها لم تعد الوسيط الوحيد في نقل التجارة إلى المناطق الشمالية، بل ربما لم يعد دور اليمن -بعد سيطرة الرومان على البحر المتوسط ونقل تجارة الهند عن طريق هذا البحر،   1 سورة سبأ: آية 15019، وانظر: تفسير البيضاوي 2/ 258-259، التفسير الكبير للفخر الرازي 25/ 250-252، تفسير القرطبي 14/ 282-291 "جار الكتب المصرية 1945"، تفسير الطبري 22/ 124-134، ابن هشام 1/ 17019 "مكتبة الجمهورية بمصر"، تفسير الجلالين "نسخة على هامش تفسير البيضاوي" 2/ 258-259، مروج الذهب 2/ 163-164، الدميري 1/ 445، البداية والنهاية لابن كثير 2/ 158-161، الميداني 1/ 185، وفاء الوفا 1/ 116-122. 2 إسرائيل ولفنسون: المرجع السابق ص54. 3 جواد علي 1/ 246، وكذا Corpus Inscriptionum Semiticarum, Part, 4, Vol. 2, 384, 540-41, 554-64 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 فضلا عن ظهور القرشيين وقيامهم برحلتي الشتاء والصيف المشهورتين، إلا دورا ثانويا، وهكذا تجمعت العوامل السياسية والاقتصادية معا على إهمال الزراعة وكساد التجارة، مما دفع بقبائل عربية غير قليلة إلى الهجرة إلى بلاد العرب الشمالية، وكان من بين المهاجرين الأوس والخزرج1. ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن القول بأن قبائل الأزد هاجرت دفعة واحدة، أمر غير مقبول؛ ذلك لأن خزاعة -وهي بطن من الأزد- كانت لا تزال تحكم مكة حوالي عام 450م، وكانت قد استمرت مدة طويلة تلي هذا الأمر- رأى البعض أنها حوالي ثلاثة قرون، ورأى آخرون أنها خمسة قرون- وهذا يعني أنها هاجرت من اليمن حوالي منتصف القرن الثاني، وربما منذ القرن الثالث، في عام 207م2. وأيًّا ما كان الأمر، فإن الأخباريين يذهبون إلى أن الأوس3 والخزرج أخوان، فهما أبناء "حارثة بن ثعلبة العنقاء بن عمرو مزيقياء بن عامر ماء السماء بن حارثة الغطريف بن امرئ القيس البطريق، بن ثعلبة بن مازن بن الأز"4، الذي ينتهي نسبه إلى "يعرب بن قحطان"، ولكن القوم إنما كانوا ينسبون إلى أمهم "قيلة بنت الأرقم بن عمرو بن جفنة"، ولهذا كانوا يدعون "أبناء قيلة"، مما يدل على أن هذه المرأة إنما كانت تتمتع بشهرة عريضة، دفعتهم إلى الانتساب إليها5. وعلى أي حال، فلقد أقام الأوس والخزرج في المدينة، وربما لم يكونوا في أول الأمر يملكون من القوة وكثرة العدد، بحيث يخشى اليهود بأسهم، هذا ويبدو أن اليهود قد عملوا على الإفادة من خبراتهم التي اكتسبوها منذ فترة طويلة، في مجال الزراعة والتجارة في مواطنهم القديمة في اليمن، ومن ثم فقد سمحوا لهم بالإقامة في   1 Alois Musil, Northern Nejd, N.Y., 1928, P.309-317 2 أحمد إبراهيم: المرجع السابق ص315، ابن كثير 2/ 183. 3 هناك من يفسر كلمة الأوس بأنها اختصار لجملة "أوس مناة" وهو صنم جاهلي "جواد علي 4/ 135" 4 ابن الأثير 1/ 655، وفاء الوفا 1/ 124، اللسان 4/ 18، تاج العروس 4/ 103، العقد الفريد 3/ 16، 159، ابن هشام 3/ 347، الاشتقاق 2/ 435، 437، ياقوت 4/ 203، 5/ 85، المعارف ص49، المقدسي 4/ 120-121، دائرة المعارف الإسلامية 3/ 150، جمهرة أنساب العرب ص332، نهاية الأرب للقلقشندي ص52-53، 93-94. 5 ابن حزم 1/ 332، اللسان 11/ 580، نهاية الأرب للقلقشندي ص404، المعارف ص49، خلاصة الوفا ص164، التنبيه والإشراف للمسعودي ص174، ياقوت 5/ 85، وفاء الوفا 1/ 124، جواد علي 4/ 133. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 مجاوراتهم، إلا أن وجود الثروة والسلطان في أيدي اليهود جعل الأوس والخزرج يعيشون حياة قاسية، ومن ثم فقد كان الواحد منهم، إما أن يعمل في مزارع يهود، وإما أن يستغل خبرته السابقة في الزراعة، فيعمل في أرض لا تنتج الكثير من الغلات، لأنها في غالب الأحايين إنما كانت أرض موات تركها اليهود، وفي كلا الحالين فقد كان القوم غير ميسر عليهم في الرزق1. وما أن يمضي حين من الدهر، حتى استطاع أصحابنا من أوس الخزرج وخزرج أن يكونوا أصحاب مال وعدد، حتى أن يهود بني قريظة والنضير أحسوا أنهم لو تركوهم على حالهم هذا، فقد يشكلون في وقت قريب خطرا، قد يهدد مصالح يهود في المدينة، وربما قد يهدد القوم أنفسهم، ومن ثم فقد "تنمروا لهم حتى قطعوا الحلف الذي بينهم، فأقامت الأوس والخزرج في منازلهم خائفين أن تجليهم يهود، حتى نجم منهم مالك بن العجلان، من بني سالم بن عوف بن الخزرج، فكان سببًا في أن يسود الحيان، الأوس والخزرج"2. وهنا تجنح المصادر العربية إلى رواية -علم الله- أننا ما كنا براغبين في التعرض لها، لولا أنها -وأمثالها- قد تكررت بصورة أو بأخرى في مواضع وأزمنة مختلفة، وفي مراجع لها من القيمة مالها عند الناس، ورغم ذلك فهي لا تتعارض مع المنطق والتاريخ فحسب، ولكنها تتعارض كذلك مع العادات والتقاليد العربية التي يعترف الأعداء بها قبل الأصدقاء، والمخالفون قبل الموافقين، فضلا عن الحاقدين والمتشككين في كل خلة عربية كريمة. تزعم المصادر العربية -دون غيرها من المصادر، حتى اليهودية- أن واحدًا دعوه "الفيطون" "الفطيون أو الفطيوان" كان ملكًا على يهود في يثرب، وأنه كان جبارًا عشوما، فاجرا فاسقا، حتى أن المرأة من الأوس والخزرج- وكذا من اليهود في بعض الروايات- كانت لا تهدى إلى زوجها حتى تدخل عليه أولًا، فيكون هو الذي يفتضها، ثم إن أختا لابن العجلان -دعوها فضلاء- قد تزوجت برجل   1 تاريخ ابن خلدون 2/ 286-287، الأغاني 19/ 69، خلاصة الوفا ص165، وفاء الوفا 1/ 125، على حافظ: المرجع السابق ص15. 2 السمهودي: وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى 1/ 125-126، الدرر الثمينة ص326-327، الأعلاق النفيسة لابن رسته، ص63، أحمد إبراهيم الشريف: المرجع السابق ص324-325. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 من قومها، فلما كان يوم زفافها، خرجت على مجلس قومها، وفيه أخوها مالك بن عجلان، فكشفت عن ساقيها، فغضب مالك، ولكنها ردت عليه إن "الذي يراد بي الليلة من هذا، أدخل على غير زوجي"، وهنا أضمر مالك في نفسها أمرًا، أسر إلى أخته. وهكذا ما أن ذهبت النسوة بفضلاء إلى الفيطون، حتى كان مالك معهن في زي امرأة، وانتظر هناك في مخدع العروس، حتى خرجت النسوة ودخل الفيطون، فما أن أراد أن يقضي من فضلاء وطره، حتى صرعه مالك بسيفه فأرداه قتيلا، ثم ولي هاربًا إلى الشام، مستنجدًا بأبي جبلة ملك غسان، الذي أسرع بنجدته، فأقبل في جيش كثيف من الشام، حتى إذا ما وصل يثرب، نزل "بذي حرض". وبدأ يكتب ليهود يتودد إليهم ويدعوهم لزيارته، حتى إذا ما لبوا دعوته انقض عليهم وقتلهم، ثم قال للأوس والخزرج "إن لم تغلبوا على البلاد بعد قتل هؤلاء لأحرقنكم"، ثم رجع إلى الشام، ومنذ ذلك اليوم بدأت كفة العرب ترجح على يهود، وأصبح الأوس والخزرج أعز أهل المدينة، فتفرقوا في عالية يثرب وسافلها يتبوؤن منها حيث يشاءون، واتخذوا الديار والأموال والآطام، غير أن يهود ما لبثت غير قليل حتى بدأت تعترض الأوس والخزرج وتناوشهم، فرأى مالك أن الغلبة لم تكتمل لهم بعد على يهود فكادهم كيدًا شبيها بكيد أبي جبلة، وقتل منهم من قتل، فذلوا وقل امتناعهم، وضاع سلطانهم على الأرض، وأخذوا يصورون مالكًا في بيعهم وكنائسهم في صورة شيطان رجيم، يلعنونه كلما دخلوا هذه البيع وكلما خرجوا منها، فضلا عن ذكره في شعرهم في أقبح هجاء قالوه1. ولعل من الأفضل هنا أن نناقش هذه الروايات، على أنها تتكون من شقين.   1 وفاء الوفا 1/ 115، 126-129، خلاصة الوفا ص159، 166-167، ابن الأثير 1/ 656-658، الاشتقاق ص259، 270، ياقوت 2/ 242، 5/ 84-87، أبو الفداء 1/ 123، المقدسي 1/ 179-180 البكري 2/ 439، جمهرة أنساب العرب ص356، الدرر الثمينة ص327، ابن خلدون 2/ 287-289، الأغاني 19/ 96-97، علي حافظ: المرجع السابق ص15، إسرائيل ولفنسون ص56، الشريف: المرجع السابق ص324-327، وكذا Caussin De Perceval, Op. Cit., Ii, P.652 وكذا H. Hirschfeld, Essai De L'histoire Des Juives De Medine, Rej, Vll, 1883, P.173 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 الواحد يتصل بقصة الفيطون، وعرائس يثرب العربيات، والآخر يتصل بغلبة الأوس والخزرج على يهود يثرب. وقد اختلفت الآراء في الرواية الأولى، فذهبت جمهرة من المؤرخين على رفضها، فالدكتور إسرائيل ولفنسون يذهب إلى أن القصة ملفقة، معتمدًا في ذلك على أدلة، منها "أولًا" أن أصحابها لم يكن لهم إلمام كاف بحياة العرب في الجاهلية، بل كانوا يعتبرونهم متوحشين همجيين لا يعرفون من النظم الاجتماعية شيئًا، ولا يفهمون من الآداب قليلا ولا كثيرًا، ولا ينقادون إلا لما يدعو إليه الخرق والسفاهة، ولا شك أن قولا كهذا ليس إلا طعنًا فاحشًا في قبائل العرب في الجاهلية، وإنكارًا شنيعًا لما هو معروف عنهم من الأنفة والغيرة وإباء الضيم والشجاعة والبسالة، إلى حد التضحية بكل شيء في سبيل العرض وحفظ الشرف والكرامة. ومنها "ثانيًا" أن يهود الحجاز إنما كانوا أصحاب دين سماوي يأمر بالمعروف وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، وليس من المعقول أن يرتكب ملك يهودي جريمة منكرة كهذه تناقض روح التوراة وتخالف الإيمان بإله موسى، دون أن يجد مقاومة عنيفة وإنكارًا شديدًا من شعبه وأبناء جلدته، ومنها "ثالثًا" أنه لم يوجد في المدينة ملوك من يهود، ومنها "رابعًا" أن الطبري يذكر قصة تشبه هذه عن طسم وجديس. ومنها "خامسًا" أننا لا نجد صلة بين هذه القصة وبين "يوم بعاث" الذي جاء بعدها، بل على العكس من ذلك، فإننا نستطيع أن نستنتج- اعتمادًا على الأخبار التي وصلتنا عن يوم بعاث- أن اليهود كانوا متمتعين بجميع حقوقهم السياسية والاجتماعية، وكانت مزارعهم وأموالهم وآطامهم كاملة غير منقوصة. ويخلص الدكتور إسرائيل ولفنسون من ذلك كله إلى أن الباعث على اختلاق هذه القصة وتلفيقها، إنما هو محاولة إخفاء الحقيقة في حادثة غدر ابن عجلان، بدليل أن ابن هشام، والواقدي، وصاحب الأغاني، قدموا أسبابًا أخرى -غير حادث الفطيون- لتغير الأحوال بين العرب واليهود في المدينة، ومن ثم فالقصة -في رأيه- لا تعدو أن تكون واحدة من الخرافات عند أمم الشرق في قصصهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 وتواريخهم1. وذهبت قلة من المؤرخين -ومنهم الدكتور عبد الفتاح شحاتة- إلى أن القصة حقيقية، وأن حكم الدكتور ولفنسون عليها بالخرافة والتلفيق ليس عجبًا، فاسمه يغني عن التعريف به، وإنما العجيب حقًّا محاولته إخفاء التاريخية من أخلاق اليهود والعرب، ثم يقدم أدلة على صحة رأيه، منها "أولًا" أن العرب من أوس وخزرج لم يسكتوا على هتك الأعراض وثلم الشرف، ودبروا الخطة للتخلص من الفيطون وقتلوه دفاعًا عن شرفهم، وإذا كانوا قد رضوا بالسكوت على العار حينًا من الدهر، فإنما كان ذلك تحت جبروت الملك وبطش السلطان، ويشهد لذلك أن مالكًا لما هم بقتل الملك لم يتمكن من ذلك علانية، بل تنكر في زي النساء، ومنها "ثانيًا" أن كون دين اليهود ينهي عن الفحشاء والمنكر، لا يمنع من أن يخرج على تعاليم الدين ومبادئ الأخلاق الفاضلة من يتبع هواه ويركب رأسه، ثم هل كل من يعتنق دينًا ينهى عن الفحشاء منزه عن الإثم والخطأ؟ ومنها "ثالثًا" أن رواية الطبري وغيره عن أمثال هذه القصص ليست دليلا على أنها من الأساطير، وقد تكون من العادات التي شاعت في تلك العصور الأولى عند الملوك والرؤساء، ثم يتساءل الدكتور شحاتة بعد ذلك عن الدوافع التي دعت الطبري وغيره إلى اختلاق قصة الفيطون؟ ثم يجيب بعد ذلك عن تساؤله: بأنه إذا كان المراد منها إخفاء غدر مالك بجيرانه اليهود، كما يزعم ولفنسون، فذلك أمر بعيد، فمالك ليس قديسًا من القديسين، بل رجل جاهلي، الظلم عنده قوة، وسفك الدماء بطولة وشجاعة2. ولعل أفضل ما نفعله في موقفنا هذا أن نناقش حجج الطرفين -قبل أن ندلي بدلونا في القصة- حتى نتبين في كل منها موقف القوة والضعف، فضلا عن جانب الخطأ والصواب، بخاصة وأن الطرفين يمثلان اتجاهين مختلفين، لا التقاء بينهما، فالأول إسرائيلي يهودي، والثاني عربي مسلم.   1 إسرائيل ولفنسون: تاريخ اليهود في بلاد العرب - القاهرة 1927 - ص56-61. 2 عبد الفتاح شحاتة: تاريخ الأمة العربية قبل ظهور الإسلام -الجزء الثاني - القاهرة 1960، ص286-292. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 يرى الدكتور إسرائيل ولفنسون أن أخلاق العرب تتعارض وقصة الفيطون، وهو أمر لا نشك فيه لحظة واحدة، وأن اليهود لم يكن لهم ملوك في يثرب، وتلك حقيقة أخرى نوافقه عليها تمامًا، كما نوافقه كذلك على أن قصة الفيطون تشبه إلى حد كبير قصة طسم وجديس -كما رواها الطبري- وعلى أن يهود كانوا أصحاب دين سماوي ينهاهم عن الفحشاء والمنكر والبغي. غير أننا نختلف معه تمامًا أنه ليس من المعقول أن يرتكب ملك يهودي ما يناقض روح التوراة، دون أن يجد مقاومة عنيفة من اليهود أنفسهم، وسوف نحتكم إلى التوراة نفسها التي يحتج بها الدكتور ولفنسون، لنرى رأيها فيما تعرض له ولن نلجأ إلى الغزل المكشوف فيها، الذي ينتمي إلى مدرسة "عمر بن أبي ربيعة" وإلى كل مدرسة غزلية إباحية لا تهتم إلا بالجسد وحده1، كما أننا لن نلجأ إلى ما جاء في التوراة -المتداولة حاليًّا- من تهم بذيئة ألصقتها بالمصطفين الأخيار، والتي تتصل بمثل هذه الأمور2، ولكننا سوف نقدم بعض الأدلة المحدودة. تقول توراة اليهود -المتداولة اليوم، وليست توراة موسى بالتأكيد- أن راؤبين بكر إسرائيل، قد زنى ببلهة، زوج أبيه يعقوب وأم أخويه دان ونفتالي3، ولم تحدثنا التوراة عما فعل يعقوب وبنوه إزاء تلك الجريمة النكراء، حتى أننا لا ندري سببًا مقبولا أو غير مقبول لسكوتها، هذا إلى جانب مأساة أخرى تسجلها توراة اليهود -ولا أقول توراة موسى- تذهب فيها إلى أن يهوذا- رابع أبناء يعقوب- قد زنى بزوجة ابنه "ثامارا"4، وموقف التوراة هنا، هو موقفها في القصة الأولى، رغم أن نصوصها صريحة، في أنه "إذا اضطجع رجل من امرأة   1 ول ديورانت: المرجع السابق ص388، حبيب سعد: المدخل إلى الكتاب المقدس ص145، 155، عبده الراجحي: الشخصية الإسرائيلية ص61، كتابنا إسرائيل ص134-138، التوراة: سفر الإنشاد "انظر جميع إصحاحات السفر". 2 كتابنا إسرائيل ص69-87، ف. ب.ماير: حياة إبراهيم ص650221، القس عبد المسيح عبد النور: إبراهيم السائح الروحي ص26، وانظر ي التوراة، سفر التكوين، صموئيل ثان، ملوك أول. 3 التوراة: سفر التكوين 35/ 22، كتابنا إسرائيل ص76=77. 4 التوراة: سفر التكوين 37: 12-30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 أبيه، فقد كشف فقط كشف عورة أبيه، إنهما يقتلان، وكلاهما دمهما عليهما1"، وأنه "إذا اضطجع رجل مع كنته "زوجة ابنه" فإنهما يقتلان كلاهما، فقد فعلا فاحشة، دمهما عليهما"2، وأخيرًا فإن التوراة التي حرمت الزنا في الوصايا العشر3، هي نفسها التوراة التي تصمت تمامًا عن زنى "راؤيين" بزوج أبيه، وزنى "يهوذا" بزوج ابنه، وهي نفسها التي تمجد الفتاة اليهودية "أستير" على ما ارتضته من أن تكون محظية الملك الفارسي وعشيقته، ما دام في ذلك تحقيق لمصلحة مبتغاة، بل لقد وصل هذا التمجيد بالتوراة إلى أن تفرد لها سفرًا خاصًا من أسفارها، هو سفر أستير4. وتلك مأساة ثالثة ترويها توراة اليهود -ولا أقول توراة موسى- حين تروي أن "أمنون" بن داود عليه السلام، قد أحب أخته "ثامارا" إلا أنه لم يستطع أن يشبع منها شهوته، لأن الفتاة إنما كانت عذراء، ومن ثم فإنه يلجأ إلى إعمال الحيلة، وبمشورة ابن عم لهما، حتى تصل الفتاة إلى مخدعه، فيراودها عن نفسها، فترفض، ومع ذلك فإنها تقترح عليه أن "كلم الملك فإنه لا يمنعني منك"، ولكن أمنون يأبى إلا أن ينالها اغتصابًا، وليت الأمر اقتصر على ذلك -وما أشنعه وأخزاه- بل إن أمنون بعد أن ينال وطره منها، يأمر خادمه أن يطردها ويقفل الباب من ورائها، وهنا لا تملك الفتاة المجروحة إلا أن تهيل التراب على رأسها، ويسمع أبوها بالمأساة فيغضب، ولكن غضبه لا يمتد إلى عقاب الجاني، مما اضطر شقيقها "أبشالوم" إلى أن يثأر لعرضها، فيقتل أمنون5، غير أنه سرعان ما يتجاوز كل حدود الشرف، فيثور على أبيه وينتزع منه عرشه، ثم لا يتورع عن أن ينتهك عرضه على مرأى من عامة القوم، وفي خيمة نصبت له على سطح بيت أبيه6. ولعل الدكتور إسرائيل ولفنسون لا ينسى ما جاء في توراة يهود7 بشأن قصة   1 لاويين: 20: 11. 2 لاويين 20: 12. 3 صبري جرجس: التراث اليهودي الصهيوني ص66. 4 خروج 20: 1-17. 5 صموئيل ثان 13: 1-39. 6 صموئيل ثان 16: 20-23. 7 صموئيل ثان: 11: 3-37، 12: 1-31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 داود، و"بتشبع" امرأة أوريا الحيثي، وكيف تصور توراة قومه النبي الأواب، وقد قضى منها وطره، ثم دبر أمر قتل زوجها في ميدان القتال، ثم ضمها آخر الأمر إلى حريمه1. هذه أمثلة عن رأي التوراة فيما تعرض له "ولفنسون"، وهو رأي لا يسر على أي حال، ونحن نؤمن -الإيمان كل الإيمان- أن هذه الأكاذيب قد دستها طغمة باغية من يهود، ومن ثم فقد لعبت أصابع التحريف بتوراة موسى عليه السلام، وبالتالي فقد بعدت نسبتها إليه، فضلا عن أن تكون من لدن عَلِيٍّ قدير، فَجَلَّ اللهُ عما يقول المبطلون من بني إسرائيل ويفتري الظالمون من يهود، ومن ثم -والحال كما قدمنا، وفيها من النصوص ما رأينا -فلا يصح أن يتخذ منها "ولفنسون"، دليلا على أن من يرتكب جريمة تناقض روح التوراة، لن يجد من يهود، إلا كل المقاومة، وكل الإنكار، وانطلاقًا من هذا، فإن كذب رواية الفيطون، ليس لأن مرتكبها، يؤمن باليهودية ويقرأ التوراة، وإنما كذبها -فيما أرى- لأنها لم تحدث أصلا، وما أكثر ما ارتكب اليهود من جرائم يندى لها جبين الإنسانية، فضلا عن الشرف والكرامة. ثم هناك التلمود -وهو في نظر اليهود يقف على قدم المساواة مع التوراة- يرى أن اليهودي إذا اعتدى على عرض الأجنبية لا يعاقب، لأن كل عقد نكاح- فيما يرى التلمود- عند الأجانب "أي الأمميين" فاسد؛ وذلك لأن المرأة غير اليهودية، إنما تعتبر بهيمة، والعقد لا يصح بين البهائم، ومن ثم فلليهودي الحق في اغتصاب   1 أخطأ بعض المفسرين خطأ كبيرًا، عندما فسروا ما في سورة ص "آية 21-25" عن داود والخصمين اللذين اختصما إليه على النحو الذي جاء في التوراة، مع أن العبارة التي ذكرت بها القصة في القرآن الكريم لا تدل صراحة على شيء من ذلك، ومن هنا ختمت هذه الآيات الكريمة بقوله تعالى: {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} ، ولا يمكن أن يكون هذا للزناة القتلة، ولهذا يروى عن الإمام علي -كرم الله وجهه- أنه قال: "لو سمعت رجلا يذكر أن داود عليه السلام قارف من تلك المرأة محرمًا، لجلدته ستين ومائة؛ لأن حد قاذف الناس ثمانون، وحد قاذف الأنبياء ستون ومائة"، "بل إن ابن العربي يرى أن من قال إن نبيًّا زنى فإنه يقتل" "انظر: تفسير القرطبي ص5625 "طبعة الشعب"، تفسير النسفي 4/ 29-30، تفسير ابن كثير 4/ 30-31، تفسير الخازن 6/ 38-42، تفسير الطبري 23/ 141-152، تفسير البيضاوي 2/ 307-310، تفسير روح المعاني 23/ 173-190، تفسير مقاتل 3/ 1266-1268، تفسير الفخر الرازي 26/ 188-198، تفسير الجلالين "نسخة على هامش البيضاوي" 2/ 207-310". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 النساء غير المؤمنات، أي غير اليهوديات؛ لأن الزنا بغير اليهود -ذكورًا وإناثًا- لا عقاب عليه؛ لأن كل الأجانب إنما هم من نسل الحيوان1. وهكذا يبدو بوضوح أن الاعتماد على كتب اليهود الدينية -سواء أكانت توراة أو تلمودًا- إنما تؤكد قصة الفيطون ولا تنفيها، وإنما يمكن نفيها- كما أشرنا من قبل- عن طريق دراسة أحوال العرب وتقاليدهم في تلك العصور الخالية، بل وفي كل عصور التاريخ قاطبة، وحتى يومنا هذا. وأما الدكتور عبد الفتاح شحاتة فلم يقدم لنا في الواقع أدلة مقنعة تثبت هذه الرواية، وإنما أخذ أضعف مواقفها واتخذها حججًا له، فقتل الفيطون- كما جاء في القصة- لا يثبت شرفًا، ولا ينفي عارًا، وأما أن أمثال هذه القصة حدثت في أوربا في العصور الوسطى، ومن ثم فقد تكون عادة شائعة في تلك العصور القديمة عند بعض ملوك الشرق ورؤسائه، فليست حجة يحتج بها لإثبات قصة الفيطون وأمثالها، فليس هناك من شك في أن ما يحدث في بلد قد لا يحدث في بلد آخر، لاختلاف العادات والتقاليد، فضلا عن الظروف السياسية والاقتصادية، ولست أدري كيف قبل الشيخ الجليل أن يجعل تاريخ أوربا في عصورها الوسطى نموذجًا يحتذى عند بعض ملوك الشرق القديم ورؤسائه، والفرق بين العادات والتقاليد في المنطقتين كان -وما يزال- جد شاسعًا، بل إن أمور العرض حتى اليوم هذه قد يختلف الناس عليها في بلد واحد، وفي عصر واحد، فما أشد الخلاف حتى اليوم في كيفية معالجة هذه الأمور -خطأ أو صوابًا- في صعيد مصر، وفي غيره من أقاليم الكنانة. وأما عن تساؤله عن الدوافع التي دعت الطبري وغيره إلى اختلاق مثل قصة طسم وجديس وغيرها، فليس ذلك إثباتا لها، وما أكثر ما جاء في كتب المؤرخين من روايات لا تتفق مع المنطق والتاريخ، فضلا عن تعارضها في بعض الأحايين مع الخلق والدين، وليس من المنطق، فضلا عن التاريخ الصحيح، القول بأن كل ما جاء في كتب المؤرخين صحيح، لمجرد التساؤل عن الدوافع التي دعت إلى هذا القول أو ذاك، أو حتى عدم معرفة هذه الدوافع، وأخيرًا فنحن لسنا مسؤلين عن هذه الدوافع، فضلا عن الدفاع عنها.   1 انظر مقالتنا عن "التلمود" مجلة الأسطول، العدد 70، الإسكندرية 1970 ص5-21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 والرأي عندي أن القصة مختلقة تمامًا؛ وذلك لأسباب منها "أولًا" أنها تتعارض مع حقائق التاريخ، تلك الحقائق التي لا تعرف لليهود في يثرب ملكًا، وبالتالي فليس هناك ملك يدعى الفيطون، وحتى لو وجد الشخص بذاته، فلا يعدو أن يكون رئيس قبيل، وفي أحسن الظروف زعيم يهود في يثرب، ومن ثم فليس صحيحًا ما ذهب إليه البعض من أن كلمة "الفيطون" إنما تعني "ملك"، وأنها تقابل النجاشي عند الأحباش، و"خاقان" عند الأتراك1. ومنها "ثانيًا" أن تاريخ الغساسنة لا يعرف ملكًا باسم "أبي جبلة"، والذي يزعم الإخباريون أن "مالكان بن العجلان" قد لجأ إليه، يستنصره ضد يهود، ومرة أخرىن حتى لو عرف هذا الشخص بذاته، فربما كان واحدًا من المقربين لأمراء بني غسان، وإن صدقت "نسبة أبي جبلة" هذا إلى الخزرج، وأنهه رحل إلى الشام وأقام عند الغساسنة2، فأكبر الظن أن الرجل قد أصبح واحدًا من رجال البلاط الغساني، وربما كان ذا مكانة عند ذوي قرباه، ومنها "ثالثًا" أن بعضًا من المؤرخين -كالسمهودي- إنما ينكر هذه القصة، بل إن هذا الفريق من المؤرخين إنما يرى أن الفيطون كان يمارس هوايته الدنئية هذه في غير الأوس والخزرج، وعندا أراد ذلك مع بنات "بني قيلة" قتله مالك بن العلجان3، ومنها "رابعًا" أن بعضًا آخر من المؤرخين المسلمين -كابن هشان والواقدي والأصفهاني- إنما تجاهلوا الرواية تمامًا. ومنها "خامسًا" أن الإخباريين لم يستقروا على رأي واحد، بشأن ذلك الذي لجأ إليه ابن العجلان، فبينما يذهب فريق إلى أنه "أبو جبلة"، كما رأينا، يذهب فريق آخر إلى أنه إنما كان "تبع الأصغر بن حسان"- الذي رأوا فيه "أسعد أب كرب" أو "تبع بن حسان" -ملك اليمن، وليس ملك غسان4، ومنها "سادسًا" ذلك الخلاف بين الأخباريين على جنسية الفيطون هذا، فهناك آراء ذهبت إلى أنه يهودي،   1 الاشتقاق 2/ 259، جواد علي 6/ 522. 2 تاريخ ابن خلدون 2/ 289، ابن الأثير: الكامل في التاريخ 1/ 657، الاشتقاق 2/ 272، وفاء الوفا 1/ 126، ابن حزم: جمهرة أنساب العرب ص236. 3 وفاء الوفا 1/ 126-127، إبراهيم العياشي: المرجع السابق ص34-35. 4 وفاء الوفا 1/ 128، 131، خلاصة الوفا ص167-169، المقدسي: البدء والتأريخ 3/ 179، تاريخ اليعقوبي 1/ 197، 204، إسرائيل ولفنسون: المرجع السابق ص61-62. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 كما أشرنا من قبل، بينما ذهبت آراء أخرى إلى أنه عربي، ومن اليمن كذلك، وأنه يدعي "عامر بن عامر بن ثعلبة بن حارثة"، وينتهي نسبه إلى "عمرو مزيقياء1" ومنها "سابعًا" ذلك الخلاف بين الأخباريين فيمن أرسله القوم إلى الشام، أهو "مالك بن العجلان" نفسه، أم هو شخص آخر دعوه "الرمق بن زيد بن امرئ القيس الخزرجي"2. ومنها "ثامنًا" أن عنصر الخيلا قد لعب دورا في هذه القصة، ومن الغريب أن نقرأ قصصا -كقصة الفيطون- يرويها الإخباريون عن ملوك اليمن، وعن ولعهم بالنساء وعمل المنكر بهن، ومنها واحدة تتصل بملكة سبأ -"بلقيس"3 صاحبة سليمان عليه السلام- وأخرى عن "عتودة" مولى أبرهة الحبشي4، وكلها تشبه قصة الفيطون، أضف إلى ذلك أننا نجد للعلاقات الجنسية مكانة في هذا القصص الجاهلي الذي يرويه الإخباريون، وما قصة الفيطون إلا واحدة من هذا القصص الذي تلعب الغرائز الجنسية فيه مكانة بارزة5، على أن الشبه أكثر وضوحا بين قصة الفيطون هذه، وبين قصة "عملوق" ملك طسم، الذي كان يفعل بالعذارى من بنات جديس، ما يفعل الفيطون ببنات الأوس والخزرج، فضلا عن عذاري يهود6. ومنها "تاسعًا" أن الطريقة التي قدمتها الرواية عن قتل زعما يهود في "ذي حرض" طريقة ساذجة، لا تتفق وما عرف عن يهود من مكر وخداع ودسيسة، فضلا عن أن يهود إنما كانوا يتخذون دائمًا جانب الحذر والحيطة من الروم وعمالهم بسبب ما لاقوه من الروم الذين قضوا عليهم في فلسطين، ثم شردوا البقية الباقية منهم في جميع أنحاء الدنيا، بل إن وجودهم نفسه في يثرب لم يكن إلا بسبب الروم. ومنها "عاشرا" أن القصة، كما يرويها الأخباريون، تتعارض تمامًا وأخلاق العرب الذين كانوا يشعلون نار الحرب لأقل كلمة، يمكن أن تفسر على أنها تسيء   1 الاشتقاق 2/ 436. 2 وفاء الوفا 1/ 126-127. 3 ابن الأثير 1/ 232-233، تاريخ الخميس ص276. 4 تاريخ الطبري 2/ 128-129، ابن الأثير 1/ 432-433. 5 جواد علي 4/ 135. 6 تاريخ الطبري 1/ 629-632، ابن الأثير 1/ 351-354، تاريخ ابن خلدون 2/ 24-25، مروج الذهب 2/ 111-119، وفاء الوفا 1/ 129-132. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 إلى الكرامة والشرف، فضلا عن تعارضها مع أخلاق قوم يصل بهم الحفاظ على العرض إلى ارتكاب أكثر الجرائم قسوة، حتى كان بعض منهم يلجأ إلى وأد بناتهم، خوفا من عار قد تجلبة هذه البنت أو تلك، إذا ما كبرت وتعرضت للسبي، وإلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ، يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُون} 1. ومنها "حادي عشر" أن القصة تصور القوم وكأنهم لا يثورون على هذا الوضع الدنيء، إلا بعد أن ظهرت "فضلا" أمام قومها وقد كشفت عن ساقيها، فيغضب أخوها، وهنا تذكرة أخته بأمر هذه الليلة، وكيف أنها سوف تزف ليلة عرسها إلى غير زوجها، ومن ثم فإن مالكا إنما يتذكر شرفه وشرف قومه المستباح، فيغضب ويقتل الفيطون، وهذا يعني ببساطة أن القوم ما كانوا يأنفون من أن ينتهك الفيطون أعراضهم، ولكنهم يثورون أشد الثورة إذا ما بدت ساقا أخت مالك هذا، أمام بعض رجالات قومها، فهل هذا صحيح؟ ثم كيف استطاع اليهود أن ينزلوا بالعرب كل هذا الهوان، وفي وسط بلاد العرب، أي في عرين الأسد كما يقولون؟ وهل صحيح أن اليهود كانوا بقادرين في أي فترة من فترات التاريخ أن يفعلوا بالعرب ما تصوره قصة الفيطون؟ إن التاريخ يحدثنا -واليهود يشهدون بذلك- أن العكس هو الذي حدث، وأن كل شعوب المنطقة إنما فعلت ذلك باليهود، فالفراعين يقتلون أبناءهم ويستحيون نساءهم2، والآشوريون والبابليون يأخذون نساء اليهود سبايا3، بل إن انتهاك أعراض اليهود إنما تم في مصر وفي فارس برض من اليهود أنفسهم، ونقرأ في كتاب يهودي، أن الإسرائيلي الذي كان يريد   1 سورة النحل: آية 58-59، وانظر: تفسير روح المعاني 14/ 168-170، الكشاف 2/ 414، تفسير ابن كثير 4/ 200-202، تفسير القرطبي 10/ 116-118، في ظلال القرآن 14/ 2178-2179. 2 انظر على سبيل المثال: سورة البقرة: آية 49، وكذا تفسير روح المعاني 2/ 253-254، تفسير البحر المحيط 1/ 187-188، تفسير الطبري 2/ 36-49، تفسير المنار 1/ 308-313، الكشاف 1/ 279-280، تفسير ابن كثير 1/ 90-91، "دار إحياء التراث العربي"، في ظلال القرآن 1/ 70-72، الدرر المنثور في التفسير بالمأثور 1/ 68-69 "طهران 1377هـ" وانظر سورة القصصن آية، وكذا تفسير الطبري 20/ 27-28، تفسير ابن كثير 13/ 379-280، روح المعاني 20/ 42-44، في ظلال القرآن 20/ 2676، وانظر التوراة: سفر الخروج 1/ 22 3 حسن ظاظا: المرجع السابق ص18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 الراحة في مصر يهب زوجته لمن يقوم عليه من المصريين، حتى تحمل منه فيردها لزوجها بحملها1، ونقرأ في كتاب آخر، أن رؤساء العمل كانوا يأخذون النساء الإسرائيليات ليضطجعن معهن حتى يحبلن، فإذا حبلت المرأة اليهودية ترد إلى زوجها فتلد له ابنا ينسب إليه2، وأما في فارس فما جاء في التوراة عن "أستير" ليس في حاجة إلى بيان3، والأمر كذلك بما فعله الرومان ببنات يهود -طوعا أو كرها، ومن عجب أن يحدثنا التاريخ بكل هذا -ويقر اليهود به- ثم يأتي بعض مؤرخي المسلمين، فيجعلوا بنات يثرب العربيات متاعا مباحا لشخص- لا يدري التاريخ عنه شيئًا -دعوه الفيطون، ثم يأتي بعض المؤرخين المحدثين، فيجهدوا أنفسهم في إثبات تلك الأكذوبة، لا لسبب، إلا ليثبتوا أن مؤرخينا القدامى فوق الخطأ، وكأن تاريخ أمة يمكن أن يدنس، رغبة في إثبات أن مؤرخيها ما عرفوا الخطأ أبدًا. ومنها "ثاني عشر" أن المرأة -وليس الرجل- في كل هذه الروايات، هي التي تأنف من العار، وتأبى الذل، وتحرض الرجال على الانتقام للعرض المستباح، فبلقيس سبأ تقول لقومها "أما كان فيكم من يأنف لكريمته وكرائم عشيرته4" و"عفيرة" جديس تقول: لا أحد أذل من جديس ... أهكذا يفعل بالعروس يرضى بذا يا قوم بعل حر ... أهدى وقد أعطى وثيق المهر ولو أننا كنا رجالا وكنتم ... نساء لكنا لا نقر بذا الفعل فموتوا كراما أو أميتوا عدوكم ... ودبوا لنار الحرب بالحطب الجزل وإن أنتم لم تغضبوا بعد هذه ... فكونوا نساء لا تعاب من الكحل ودونكم طيب النساء فإنما ... خلقتم لأثواب العروس وللنسل5 و"فضلاء" يثرب تقول: "الذي يراد بي الليلة أشد من ذلك، أهدى إلى غير زوجي6، فهل حقًّا كانت النساء تغير على العرض أكثر من الرجال؟ ثم وهل   1 انظر: كتاب عذاب عبيد الرب في مصر، لمؤلفه عزرا، محمد فؤاد الهاشمي: اليهود في الكتب المقدسة ص69. 2 انظر: كتاب أخبار إسرائيل في مصر، لمؤلفه حاييم ناحوم. 3 انظر سفر أستير 1-10. 4 ابن الأثير 1/ 233. 5 ابن الأثير 1/ 352-353. 6 ابن الأثير 1/ 657. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 حقًّا هذا الحديث -نثرًا وشعرًا- قالته النسوة اللآتي أشرنا إليهن؟، أم أن الأمر كله لا يعدو أن يكون أسطورة من أساطير الأخباريين، ولكنها هذه المرة مؤلمة، أشد ما يكون الألم، حيث تجعل أعراض العرب مستباحة ليهود. ومنها "ثالث عشر" أن الذين يذهبون إلى صحة هذه الروايات الكذوب، لا يعرفون أم مسألة العرض مسألة تتصل بنفس الأصول التي قامت عليها العصبية القبلية بالمعنى المفهوم القديم، باعتبارها عاملا دمويا حيويا، فأساس العصبية هو الرباط الدموي القائم بين الأفراد، وأساس العرض هو الحرص -كل الحرص- على ألا يدنس هذا الرباط الدموي بحال من الأحوال1، ومن ثم فإن صيانة المرأة صيانة لعرض العشيرة كلها، بهدف الرغبة في الإبقاء على نقاء الدم فيها بعدم دخول غريب عليها مهما علا قدره2، فما بالك إذا كان دخول هذا الغريب إلى دماء القبيلة ليس عن طريق الزواج، وإنما كان الاغتصاب وسيلته، وبأحط الطرق وأعنفها، وذلك بأن يقدم القوم ابنتهم بأنفسهم إلى هذا الرجل أو ذاك، ليفترعها أمام أعين أبناء القبيلة، وعلى مسمع من الشيبة والشبان فيها، فضلا عن الصبايا وذوات البعول. ومنها "رابع عشر" هذا التشابه العجيب بين قصة الفيطون وقصة عملوق، فف كل منهما تنتهك أعراض القوم، حتى لا تهدى بكر إلى زوجها قبل أن تدخل على الفيطون أو عملوق فيفترعها، وفي كل من الروايتين للعروس أخ ذو حسب وجاه في قومه، يقتل الفاعل ثم يهرب إلى تبايعة اليمن، وإن ترددت قصة الفيطون بين ملوك اليمن وأمراءغسان، وفي كل من الروايتينن فإن المرأة هي التي تثور لشرفها، وتحرض الرجال من قومها على الانتقام لعرضها المستباح، وفي كل من الروايتين ينتهي الأمر بنصرة المظلومين عن طريق قوة تأتي من خارج القبيلة ... إلخ. وسؤال البداهة الآن: والذي كان يجب أن يسأله لأنفسهم هؤلاء المتعصبون لصحة هذه الرواية وأمثالها، كيف قبل هؤلاء الإخباريون أن يجعلوا أعراض العرب مباحة لكل من يريدها؟ فمرة بينهم وبين بعضهم الآخر، كما في قصة بلقيس وقصة   1 مصطفى محمد حسنين: نظام المسئولية عند العشائر العراقية العربية المعاصرة - القاهرة 1967 ص62. 2 نفس المرجع السابق ص61. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 طسم وجديس، ومرة أخرى لعبد حبشي دعوه "عتودة"، ومرة ثالثة ليهودي دعوة الفيطون أو القيطوان، وليست واحدة من هذه الروايات لها ظل من حقيقة، حتى نقبلها على مضض، ثم نسدل الستار على هفوة في تاريخ العروبة المجيد، ولكن أن تكون الرواية مجرد زعم كذوب، ردده بعض الأخباريين في كتبهم، ثم جاء من بعدهم من تابعهم في هذا دون أدنى تمحيص أو تحقيق، وكذبه المؤرخون المحققون، وحتى الأعداء منهم، ثم يأتي بعض مؤرخينا في العصر الحديث فينبري للدفاع عن هذه الرواية المختلقة، فشيء آخر تمامًا، وكان الأولى بهم أن يسألوا أنفسهم: أيستحق تصديق مؤرخ -كائنا من كان- أن يسود تاريخنا المجيد من أجله، وأن نسلب الأسلاف العظام كل مقومات الشرف والكرامة، لتكون روايات الأخباريين تاريخًا صحيحًا، اللهم له، وألف لا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 وأما الشق الثاني من الموضوع: فهو غلبة الأوس والخزرج على يهود يثرب وهنا فيما يبدو لي، فإن العامل الاقتصادي قد لعب دورا مهما فيما آلت إليه الأمور فيما بعد، وتقدم لنا المصادر العربية ما يشير إلى أن العرب في المدينة قد قبلوا الحياة القاسية في أول الأمر؛ لأنهم ما كانوا بقادرين على مجابهة اليهود، فلما اشتد ساعدهم وقويت شوكتهم، سرعان ما تطلعوا إلى وضع اقتصادي أفضل عن طريق مشاركة يهود في تملك الأرض الخصبة أو مغالبتهم عليها، وهناك رواية تذهب إلى أن "عمر بن النعمان البياضي الخزرجي" قال لقومه بني بياضه: "إن أباكم أنزلكم منزل سوء، والله لا يمس رأسي ماء حتى أنزلكم منازل قريظة والنضير على عذب الماء وكريم النخل أو قتل رهنهم1"، وهذا القول، وإن كانت المصادر العربية قد أوردته في ذكر "يوم بعاث" بين الأوس والخرزج، ومن حالف الطرفين من يهود، إلا أنه يعطينا فكرة عن اتجاه العلاقات العامة بين السكان في يثرب، وأن العامل الاقتصادي إنما كان هو الموجة لها2. على أن "إسرائيل ولفنسون" إنما يحاول أن يربط هذه الأحداث التي كانت تجري في يثرب، سواء أكانت بين اليهود والعرب، أو بين العرب أنفسهم، من   1 ابن الأثير 1/ 679، الأغاني 15/ 155-159، وفاء الوفا 1/ 153. 2 أحمد إبراهيم الشريف: المرجع السابق ص327-328. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 أوس وخزرج، بالسياسة الدولية وقت ذاك، وبين الصراع الديني بين اليهودية والمسيحية، ويجعل من نكسة اليهود في حمير، سببًا في نكستهم في يثرب، وأن الدولة البيزنطية إنما كانت من وراء ذلك كله، فقضت على اليهودية في اليمن بعد حملة أبرهة المعروفة، والتي أدت إلى جعل اليمن مستعمرة حبشية، ثم دفعت بالغساسنة إلى التدخل في شئون يثرب، وتعضيد الأوس والخزرج ومناصرتهم ضد يهود1. وربما كان "ولفنسون" متأثرًا في هذا، بما ذهب إليه من قبل "جريتز" حين رأى أن الأوس والخزرج لم يصارحوا اليهود بالعداوة والمعصية إلا بعد النكبة التي حلت بيهود في اليمن، لأنه من غير المقبول -فيما يرى- أن يضطهد اليهود في الحجاز، في الوقت الذي كان فيه ملوك متهودون يسيطرون على اليمن ويتعصبون لدينهم، ويناهضون كل من يناهضهم أو يعتدي عليهم2، أضف إلى ذلك أن مؤرخي العرب -كما أشرنا من قبل- يرون أن شمال الحجاز، إنما كان في شبه تبعية للحميريين، حتى أنهم كانوا لهم بمثابة الخلفاء الراشدين للمسلمين3، ويضيف "كوسان ده برسيفال" أن واحدًا من الأسرة المالكة في اليمن كان يشرف على شئون الطوائف المختلفة في شمال الحجاز4. ويخرج "ولفنسون" من ذلك كله بأن البطون العربية بقيت في يثرب عصورا طويلة على موالاة اليهود ومناصرتهم، دون أن يظهر عليهم شيء يدل على أنهم يتربصون لهم الغوائل، إلى أن أخذت دولة غسان تنصب لليهود المكايد وتحرض عليهم زعماء الأوس والخزرج ليفتكوا بهم، وأن غسان إنما فعلت ذلك بإيعاز من الروم، الذين أرسلوا أسطولهم لمساعدة الحبشة في الاستيلاء على اليمن، والذين كانت لهم سياسة واضحة في شبه الجزيرة العربية أثناء القرنين الخامس والسادس بعد الميلاد5.   1 إسرائيل ولفنسون: المرجع السابق ص59-61. 2 إسرائيل ولفنسون: المرجع السابق ص61، وكذا. Graetz, History Of The Jews, Iii, P.91, 410 3 ابن الأثير 1/ 511-512. 4 Caussin De Perceval, Essai Sur L'histoire Des Arabes Avant L'islamisme, 2, P.654 5 إسرائيل ولفنسون: المرجع السابق ص61. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 على أن المؤرخين المحدثين إنما يعارضون هذا الاتجاه، ويرون أن النزاع كان محليا بين العرب واليهود في يثرب، وأنه كان بسبب الظروف الاقتصادية، واعتماد السكان في المدينة على استثمار الأراضي الزراعية، ويقدمون على ذلك عدة أدلة، منها "أولًا" استمرار هذا النزاع بين الأوس والخزرج أنفسهم بعد تغلبهم على اليهود، واشتراك كل طوائف المدينة فيه تبعا لمصلحتها الاقتصادية1، ومنها "ثانيًا" أننا لا نستطيع تحديد تاريخ هذا النزاع، وهل كان بعد استيلاء الأحباش على اليمن، أم كان قبله؟، على أننا لو أخذنا بوجهة نظر "سديو" في أن سيادة الأوس والخزرج على المدينة إنما كانت في عام 492م، وما ذهبت إليه المصادر العربية من أن الحرب بين الأوس والخزرج قد استمرت مائة وعشرين سنة حتى جاء الإسلام، وأن هذه الحرب لم تبدأ بين الحيين العربيين إلا بعد سيادتهم على المدينة، فإن الاتجاه الذي ذهب إلى أن هذه السيادة إنما حدثت قبل استيلاء الحبشة على اليمن، ربما كان أقرب إلى الصواب2. غير أننا سوف نواجه هنا بمشكلة موقف الحميريين أما القضاء على نفوذ أبناء دينهم في يثرب، وأكبر الظن عندي -إن صح هذا الأمر- أن ظروف اليمن الداخلية، وتهديدات الأحباش لها، ربما لم تمكنها من التدخل في هذا النزاع، أو أن الحميريين لم يروا معاداة العرب بتدخلهم ضد الأوس والخزرج -وهم في نفس الوقت من قبائل الأزد اليمنية- ومناصرة يهود الذين أصبحوا يرتبطون بهم برباط الدين. ومنها "ثالثًا" أن العلماء يكادون يجمعون -كما أشرنا من قبل- أن أبا جبلة لم يكن ملكًا في غسان، وإنما كان زعيما من الخزرج عاش في البلاط الغساني، ومن ثم فإن نصرته للعرب -إن صحت الرواية، وهذا ما نشك فيه- لا تعني تدخل دولة بني غسان، إذ لو كان الأمر كذلك ما اقتصر التدخل على يهود يثرب، ولشمل الجاليات اليهودية ي خيبر ووادي القرى، فضلا عن تبوك وتيماء، ومن ثم فإن هذا العون ربما كان من نوع المحالفات القبلية، وربما قد حالف الأوس   1 أحمد إبراهيم الشريف: المرجع السابق ص332. 2 أحمد إبراهيم الشريف: المرجع السابق ص229-130، لويس أميل سديو: تاريخ العرب العام ص51، السمهودي: وفاء الوفا 1/ 152. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 والخزرج وقت ذاك بطونا من بني غسان لمحاربة يهود، وأنه مجرد استنفار أمير خزرجي لنصرة ذوي قرباه، ويبدو هذا واضحًا في طريقة القضاء على زعماء يهود، الأمر الذي لا يدل على أن هناك جيشا غسانيا جاء ليحارب يهود يثرب وإنما هي فرقة على رأسها أبو جيلة، مما اضطره إلى استعمال الحيلة والمكر لتنفيذ خطته1. ومنها "رابعًا" أن الصراع لم يكن صراعا دينيًّا، وإنما كان صراعا اقتصاديا في الدرجة الأولى، وسياسيا في الدرجة الثانية، ومن ثم فليس صحيحًا ما ذهب إليه "فلهازون" من أن الكفاح بين النصرانية واليهودية في الحجاز كان عنيفا جدًّا، وأن غارات الفرس على حدود الإمبرطورية الرومانية أوقفت الملحمة الفاصلة لوقت ما، ولولا ظهور الإسلام لأصبحت بلاد العرب منقسمة دينيًّا إلى قسمين، يهودية ونصرانية2، صحيح أن الدين كان وسيلة من وسائل الصراع الهامة، ولكن صحيح كذلك أن الإمبراطورية الرومانية لم تكن تعمل لقهرب اليهودية كدين، كما أن الفرس لم يكونوا يشجعونها لغرض ديني، وإنما كن الغرض سياسيا عند كلتا الدولتين، على أن علاقة اليهود لم تكن سيئة ببلاد الشام، بل إنها على الأرجح كانت حسنة، فكان بعض اليهود يرسلون قوافلهم التجارية إلى بلاد الغساسنة، فضلا عن أن يهود عندما أجلاهم المصطفى -صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ- عن يثرب، إنما هاجروا إلى بلاد الشام، ولو كانت العلاقة بينهم وبين الغساسنة، أو الروم سيئة لا تجهوا إلى مكان آخر، كالعراق الذي كانت به جاليات يهودية، تحت سيادة الدولة الفارسية التي كانت تشجع اليهود في بلاد العرب3. وأيًّا ما كان الأمر، فإن الغلبة في هذا الصراع إنما كانت من نصيب الأوس والخزرج، ومن ثم فقد أصبح لهم كيان سياسي في يثرب، يفوق ما كان لليهود   1 تاريخ ابن خلدون 2/ 289، ابن حزم: جمهرة أنساب العرب ص236، ابن الأثير 1/ 657، عبد العزيز سالم: المرجع السابق ص558، إسرائيل ولفنسون: المرجع السابق ص103، أحمد إبراهيم الشريف: المرجع السابق ص330. 2 إسرائيل ولفنسون: المرجع السابق ص12، وكذا J. Welhausen, Skizzen Und Vorarbeiten, Berlin, 1899, P.12 3 أحمد إبراهيم الشريف: المرجع السابق ص331. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 فيها، ومن أسف أن القوم ما لبثوا أن أصيبوا بلعنة الصراع القبلي، وتحولت المنافسات التي كانت بينهم وبين يهود، إلى مشاحنات بينهم وبين بعضهم البعض الآخر، أدت في النهاية إلى قيام الحروب بين الحيين العربيين، لعبت فيها العوامل السياسية والتنافس على الزعامة في يثرب دورا كبيرا، هذا فضلا عن العوالم الاقتصادية والتي تتخلص في رغبة في كل من الفريقين في الاستيلاء على ما عند يهود، ثم حدث أن احتل الأوس بقاعا أخضب وأغنى من تلك التي احتلها الخزرج، في الوقت الذي كان الخزرج يتمتعون فيه بمركز الصدارة، لأن نصرة العرب، إنما جاءت على يد رجل خزرجي -هو مالك بن العجلان. وهكذا كان الخزرج ينفثون على الأوس مكانتهم الاقتصادية، بينما كان الآخرين ينفثون على الأولين، مكانتهم السياسية، حدث هذا في وقت كانت فيه سياسة اليهود مع القبائل العربية إنما تقوم على الإيقاع بينها، وإثارة الأحقاد بين المتخاصمين منهم، كلما جنحوا إلى النسيان وتعاهدوا على الصلح والأمان، ومن ثم فقد عملت يهود في إذكاء روح التحاسد والتباغض التي بدأت تظهر في سماء العلاقات بين الحيين العربيين الشقيقين، حتى يشعلوا نارا، إن لم تقض على الأوس والخزرج معا، فعلى الأقل تشغل كل فريق بالآخر، وتنتهز يهود الفرصة استعدادًا لجولة قادمة، أو على الأقل الحفاظ على ما هي عليه. وحققت يهود نجحا بعيد المدى فيما تريد، ودقت طبول حرب بين الفريقين، تناوب فيها الأوس والخزرج النصر والهزيمة، وكان من أهمها ما عرف بحرب سمير، وحرب كعب بن عمرو المازني1 وحرب حاطب بن قيس2، فضلا عن يوم السرارة3، ويوم فارع4، ويوم الفجار الأولى والثاني5، وحرب الحصين ابن الأسلت6، ثم حرب بعاث، وكان أولها حرب سمير، وآخرها حرب بعاث قبل الهجرة بخمس سنوات7، "617م".   1 ابن الأثير 1/ 660-662، وفاء الوفا 1/ 152، أيام العرب في الجاهلية ص69-71. 2 ابن الأثير 1/ 671-672. 3 ابن الأثير 1/ 662-665. 4 ابن الأثير 1/ 668-671. 5 ابن الأثير 1/ 676، 678-680. 6 ابن الأثير 1/ 665-666. 7 وفاء الوفا 1/ 152، 155، ابن الأثير 1/ 655-684، الأغاني 3/ 19-42، إسرائيل ولفنسون: المرجع السابق ص68. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 وأما يوم سمير، فقد كان -طبقًا لرواية الأخباريين- كأغلب أيام العرب لسبب غير خطير، ذلك أن رجلا من بني ذبيان يقال له "كعب الثعلبي" نزل ضيفا على مالك بن العجلان، ثم خرج إلى سوق بني قينقاع، فرأى رجلا من "غطفان" معه فرس، وهو يقول "ليأخذ هذا الفرس أعز أهل يثرب" فقال كعب: مالك ابن العجلان، فسمه "سمير الأوسي فشتمه ثم قتله بعد مدة في حديث طويل، وخاف الحيان ان تنشب الحرب، وقبل الأوس أن يدفعوا للخزرج دية الحليف، وهي نصف دية النسيب، إلا أن الخزرج أبو إلا دية الصريح، ولج الأمر بينهم حتى أتى إلى المحاربة، فاجتمعوا واقتتلوا اقتتالا شديدا على مقربة من قباء"، ثم انصرفوا منتصفين، ثم التقوا مرة ثانية عند إطم لبني قينقاع، فانتصر الأوس، وانتهى الأمر إلى أن يحتكموا إلى "المنذر بن حرام" الخزرجي، جد حسان بن ثابت، الذي حكم بأن تدفع الأوس دية الصريح، وانتهت الحرب، وإن افترق القوم وقد شبت البغضاء في نفوسهم وتمكنت العدواة بينهم1. وأما "يوم بعاث"، فقد كان آخر الحروب التي نشبت بين الأوس والخزرج، وقبل هجرة المصطفى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- بخمس سنوات، وتروي المصادر العربية أن الحروب السابقة بين الأوس والخزرج، إنما كانت في غالبيتها للخزرج، ومن ثم فقد رأى الأوس محالفة بني قريظة، فأرسلت إليهم الخزرج، "لئن فعلتم فأذنوا بحرب" فتفرقوا وأرسلوا إلى الخزرج "إنا لا نحالفهم ولا ندخل بينكم"، ومع ذلك فقد استمر كل فريق يستميل إليه يهود، فضلا عن قبائل عربية أخرى، ولعب اليهود أخطر الأدوار في إشعال نار الحرب بين الحيين العربيين، بغية تفتيت وحدتهم، وأملا في أن يكتب له نجاح في القضاء على الوحدة العربية، وبالتالي عودة السيادة لهم في يثرب من جديد. وهكذا جدد بنو قريظة والنضير تحالفهم مع الأوس، ثم ضموا إليهم قبائل أخرى من اليهود واستعدوا للحرب، وخشي الخزرج أن تنزل بهم هزيمة، فراسلوا   1 ابن الأثير 1/ 658-662، أحمد إبراهيم الشريف: المرجع السابق ص333، المفضليات ص135، البدء والتأريخ 3/ 130، الاشتقاق 1/ 266، الأعلاق النفيسة ص64، وفاء الوفا 1/ 152، الأغاني 2/ 1621-164، أيام العرب في الجاهلية ص62-64، جرجي زيدان: المرجع السابق ص361-362، قارن: تاريخ الجاهلية ص123-124. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 حلفاءهم من بني أشجع وبني جهينة، وراسل الأوس حلفاءهم من بني مزينة. وأخيرًا نشبت الحرب بين الفريقين عند "بعاث" -حصن بني قريظة- وانهزم الأوس في اليوم الأول، غير أن "عمر بن الخزرج" قائد الخزرج، سرعان ما قتل، وانتهز الأوس الفرصة، فمالوا على الخزرج ميلة رجل واحد، يقتلون رجالهم ويحرقون منازلهم ونخيلهم، بعد أن كانت يهود قد نهبت ما استطاعت من أموالهم، ولم ينقذ الخزرج ونخيلهم، إلا خشية الأوس من أن يستعيد اليهود مركزهم السابق في يثرب، فيضطروا لمواجهتهم منفردين بعد القضاء على الخزرج، وفعلا فلقد بدت نيات اليهود في واضحة في تحطيم الخزرج وإذلالهم، بخاصة وأنهم أصحاب اليد الطولى في القضاء على نفوذ اليهود في المدينة، ومن ثم فقد فضلت الأوس ال بالقضاء على روح التسلط في الخزرج، وصاح واحد منهم "يا معشر الأوس: أحسنوا ولا تهلكوا إخوانكم، فجوارهم خير من جوار الثعالب". ويروي أن السيدة عائشة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه- قالت عن هذا اليوم "كان يوم بعاث يومًا قدمه الله لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقدم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد افترق ملؤهم وقتلت سرواتهم وجرحوا، قدمه الله لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في دخولهم الإسلام"؛ ذلك لأن يوم بعاث قد أضعف بطون يثرب كلها وأوجد فيها ميلا إلى الاتحاد، كما أضعف كذلك روح العداوة والحقد في نفوس البطون اليثربية، حتى أخذ الناس ينصرفون لأعمالهم ويتذوقون لذة الراحة وهناءة العيش وصفاء البال، وكانوا كلما هم أحدهم أن يصب زيتا حارا على نار العداوة الكامنة في القلوب ليزيد في ضرامها، ويعظم من أوارها، سعى كثير من الزعماء وذوي النفوذ من الطرفين لكف يده حتى لا تسل السيوف من أغمادها، وجاء الإسلام واتفقت الكلمة، واجتمع الأوس والخزرج على نصرة الإسلام وأهله، وكفى الله المؤمنين شر القتال، وأصبح القوم بنعمة الله إخوانا1.   1 وفاء الوفا 1/ 152-155، خلاصة الوفا ص177-178، البكري 1/ 259-260، ياقوت 1/ 45، تاريخ ابن خلدون 2/ 289-290، ابن الأثير 1/ 680-684، الأغاني 3/ 19-42، الميداني 1/ 2، اللسان 6/ 18، تاج العروس 1/ 604، شرح ديوان حسان بن ثابت ص278، ابن هشام 2/ 183، صحيح البخاري 5/ 108، إسرائيل ولفنسون: المرجع السابق ص62-70، أحمد إبراهيم الشريف: المرجع السابق ص336، محمد أحمد جاد المولى وآخرون: أيام العرب في الجاهلية ص73-84، إبراهيم العياشي: المدينة بين الماضي والحاضر ص41-43، وكذا P.K. Hitti, Op. Cit., P.89 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 من مدن الحجاز الطائف ... من مدن الحجاز: بقي أن نتحدث بإيجاز شديد عن أهم المدن القديمة في شمال غرب الجزيرة العربية، غير مكة والمدينة، مثل الطائف و تيماء ودومة الجندل ومدائن صالح. 1- الطائف: تقع الطائف على مبعدة حوالي 90 كيلو مترا إلى الجنوب الشرقي من مكة، على جبل غزوان، أبرد مكان في الحجاز، وتتميز على مكة المكرمة بأنها ذات جو طيب في الصيف، وبأنها كثيرة الشجر والثمر، وأكثر ثمارها "الزبيب والرمان والموز والأعناب"1. وتاريخ الطائف لا يزال غامضا، وإن عثر الباحثون على كتابات مدونة على الصخور المحيطة بالمدينة، وفي مواضع ليست بعيدة عنها، بعضها بالنبطية، وبعضها بالثمودية، وبعضها الثالث بعربية القرآن الكريم، كما عثر على كتابات تشبه اليونانية، وأخرى تشبه الخط الكوفي، وإن كانت جميعها لم تدرس حتى الآن2. ويذهب الأخباريون إلى أن اسمها القديم "وج" نسبة إلى "وج" أخو "أجأ" الذي سمي به أحد جبلي طيئ، وهما من العماليق، وإنما سميت بالطائف بحائطها المطيف بها، وقد أقامه رجل دعوه "الدمون" حتى لا يصل إليهم أحد من العرب، ثم حاولوا بعد ذلك إعطاء المدينة صفة مقدسة، ربما بتأثير من بني ثقيف سكان الطائف، فزعموا بأنها من دعوات إبراهيم الخليل، وأنها أرض ذات شجر كانت حول الكعبة، ثم انتقلت من مكانها بدعوة إبراهيم، فطافت حول البيت، ثم استقرت في مكانها، فسميت الطائف، وزعم آخرون أن جبريل قد اقتطفها من فلسطين،   1 ياقوت 4/ 9، تقويم البلدان ص95، جواد علي 4/ 142. 2 جواد علي 4/ 143، وكذا Osmsn R. Rostem, Rock Inscriptions In The Hijaz, P.11 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 وسار بها إلى مكة فطاف بها حول البيت، ثم أنزلها حول الطائف1 ... إلى غير ذلك من أساطير لا تقدم نفعًا، ولا تفيد علمًا. هذا وهناك من يزعم أن أول من سكن الطائف إنما هم العماليق، ثم غلبهم عليها بنو عدوان من قيس ين عيلان، ثم بنو عامر بن صعصعة، ثم أخذتها منهم ثقيف2، ورغم آخرون أن الذين سكنوا الطائف بعد العماليق، إنما هم قوم ثمود قبل ارتحالهم إلى وادي القرى، ومن ثم فقد ربط أصحاب هذه الرواية نسب ثقيف بالثموديين الذين نسبوهم إلى جد أعلى هو "قسي بن منبه"، الذي يجعله بعضهم من "إياد" بينما يجعله البعض الآخر من "هوزان"3. وأما أهم معبودات الطائف في الجاهلية، فقد كانت "اللات"- الأمر الذي سوف نناقشه في كتابنا عن "الحضارة العربية القديمة"- وقد هدمها "المغيرة بن شعبة" بعد أن اعتنق أهل الطائف الإسلام، وأعطى أموالها وحليها لأبي سفيان بن حرب4، ويختلف أهل الطائف عن أهل مكة وعن الأعراب، من حيث ميلهم إلى الزراعة والاشتغال بها، وعنايتهم بغرس الأشجار المثمرة التي كانوا دائمي السعي إلى تحسين أنواعها وجلب أنواع جديدة منها، كما كان لهم خبرة ومهارة بالأمور العسكرية، الأمر الذي ظهر واضحًا إبان محاصرة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لمدينتهم وتحصنهم بسورها، هذا إلى جانب ميل إلى الحرف اليدوية كالدباغة والنجارة والحدادة، وهي أمور مستهجنة في نظر العربي5.   1 ياقوت 4/ 9، 12، البكري 3/ 886، تاج العروس 1/ 184، المقدسي 2/ 109، تقويم البلدان 3/ 499، وما بعدها. 2 المعارف ص91، تاج العروس 2/ 110، اللسان 2/ 397. 3 الأغاني 4/ 74، أنساب الأشراف ص25، الاشتقاق ص183، ياقوت 3/ 9-11، ابن خلدون 2/ 24، نهاية الأرب للقلقشندي ص198، 200، وكذا Ei, 4, P.734. وكذا J.A. Montgomery, Op. Cit., P.137 4 ياقوت 4/ 11-12، تاريخ الطبري 3/ 96-100، ابن الأثير 2/ 283-284. 5 ابن سعد 1/ 312، أنساب الأشراف 1/ 366، تاريخ الطبري 3/ 82-85، ابن الأثير 2/ 266 268، ابن كثير 4/ 345-352، ابن خلدون 2/ 50-51، السيرة الحلبية 3/ 131. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 2- تيماء : تقع تيماء على مبعدة 65 ميلا إلى الشمال من العلا، على الطريق التجاري بين جنوب بلاد العرب وشماليها، وقد بدأت تيماء تظهر في التاريخ على الأقل منذ أيام الملك الآشوري، "تجلات بلاسر الثالث" "745-727ق. م" الذي تدلنا حولياته التي عثر عليها في "كالح" أنه أخذ منها الجزية، كما أخذها من زبيبي "زبيبه" ملكة دومة الجندل ، ومن "شمسي"، فضلا عن الجالية السبئية في ديدان1، هذا وقد جاء ذكر "تيماء" في التوراة2 -كما في أسفار أيوب3 وأشعياء4 وأرميا5 وحبقوق6 وعوبديا7 وعاموس8. وتيماء في الروايات العربية، بلد في أطراف الشام بين الشام ووادي القرى، على طريق حاج الشام ودمشق، والأبلق الفرد حصن السموأل بين عاديا اليهودي9، مشرف عليها من ناحية الغرب10، وهو مربع الشكل تقريبًا، وفي وسطه بئر، وله دعامًات من الخارج، ويشبه في تصميمه وتنفيذه حصن كعب بن الأشرف في   1 Van Den Branden, Histoire De Thamoud, P.7 وكذا A.I. Olmstead, History Of Assyria, P.189 وكذا Anet, P.280. وكذا A. Musil, Op. Cit., P.288 2 انظر تاريخ كتابة أسفار التوراة، كتابنا إسرائيل. 3 أيوب 6: 19. 4 أشعياء 21: 14. 5 أرمياء 49: 7. 6 حبقوق: 3: 3. 7 عوبديا 1: 9. 8 عاموس 1: 12، وانظر قاموس الكتاب المقدس 1/ 296 وما بعدها. 9 هناك من يذهب إلى أن الرجل إنما كان عربيًّا غسانيًّا "المحبر ص349، الاشتقاق 2/ 436" وهذا يتمشى مع الفترة السياسية التي حكم فيها الغساسنة وعاصرها السموأل، فقد كان الغساسنة هم المسيطرون على الطريق التجاري من الشمال صوب الجنوب ولذلك فهم في حاجة إلى من يحمي الطريق، ولا يستبعد أن يكون السموأل ممن لهم سلطة في هذه الناحية مستمدة من صلته بالغساسنة "عبد الرحمن الأنصاري: مجلة الدارة 1/ 82". 10 ياقوت 1/ 67، البكري 1/ 329-330، اللسان 12/ 72، تقويم البلدان ص86، دائرة المعارف الإسلامية 6/ 130. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 المدينة المنورة1، وإن كان هناك من يذهب إلى أن الحصن ربما كان من بقايا قصر نبونيد، أو من بقايا قصور رجاله، أو من بقايا أبنية غيره ممن نزل هذا المكان2. ونقرأ في النصوص البابلية-كما أشرنا من قبل- إلى أن نبونيد "555-539ق. م" قد قام بحملة في العام الثالث من حكمة، استولى فيها على عدة مدن في شمال غرب الجزيرة العربية، ثم أقام قصرا في تيماء بقي فيه حينا من الدهر، قارب سنوات عشر، حتى أصبحت تيماء وكأنها قد غدت خليفة لبابل3. وهناك على مقربة من تيماء معبد عثر فيه على نقش، محفوظ الآن بمتحف اللوفر، ويرجع تاريخه إلى القرن الخامس قبل الميلاد، نقرأ فيه بلغة أرامية، أن كاهنا قد أتى بصنم جديد "صلم هجم"، وبنى له معبدا وعين له كهانا، كما صوره في زي آشوري، مما دفع البعض إلى أن يذهب إلى أن قدوم هذا الإله إنما كان على أيام نبونيد4. هذا وقد عثر "Euting" على آثار معبد قديم، وعلى كتابة آرامية، تعود إلى فترة كانت المدينة فيها تحت السيطرة الفارسية، وإن أشارات الكتابة إلى ازدهار المدينة وقت ذاك5، هذا فضلا عن أن "جوسين وسافينياك" قد عثرا كذلك على تل هناك، فيه بقايا معبد ومجموعة من قبور القوم6.   1 عبد الرحمن الأنصاري: لمحات عن بعض المدن القديمة في شمال غربي الجزيرة العربية، مجلة الدارة 1/ 82 "الرياض 1975". 2 جواد علي 6/ 529. 3 R.P. Dougherty, Nabonidus And Belshazzar, New Haven, 1929, P.106-7 وكذا S. Smith, Op. Cit., P.53, 88 وكذا A. Musil, Northern Nejd, P.225 وكذا P.K. Hitti, Op. Cit., P.39 وكذا C.J. Gadd, The Harran Inscriptions Of Nabonidus, As, 8, 1958, P.8 4 J.A. Montgomery, Op. Cit., P.67 وكذا S. Smith, Op. Cit., P.79-80 وكذا G.A. Cooke, Op. Cit., P.195-6 5 جواد علي 6/ 528، وكذا Ei, 4, P.622 6 جواد علي 4/ 529 وكذا A.J. Jaussen And R. Savignac, Mission Archeologique En Arabie, Ii, P.133, 163. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 وفي عام 1883م، عثر "هوبر" في تيماء على مسلتها المشهورة، والتي كتبت على وجه واحد بالخط الآرامي، وعلى الجانب الأيسر نقش عليها رسمان، ربما كان لملك وكاهن، يتجه بعض الباحثين إلى أن الملك هنا إنما هو نبونيد، اعتمادًا على المقارنة بين هذه المسلة ومسلة حران، وعلى أي حال، فمن المتفق عليه الآن أن هذه المسلة إنما ترجع إلى القرن الخامس ق. م1.   1 عبد الرحمن الأنصاري: المرجع السابق ص82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 3- دومة الجندل : وتسمى دومة الجندل الآن "الجوف"، وكان يطلق عليها في العصور الآشورية "أدوماتو"، وفي التوراة "دومة"، وفي جغرافية بطليموس "1Adomatho" "Doumatha"، وأما في المصادر العربية فهي "دومة الجندل"، نسبة إلى دوم "أو دومان أو دما أو دوماء" بن إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام2 وعلى أي حال فقد نسبت إلى الجندل؛ لأن حصنها مبني بالجندل وهو الصخر، وهي في رأي "السكوني" حصن وقرى بين الشام والمدينة قرب جبلي طيئ، كانت به بنو كنانة من كلب3. ودومة أو دومة الجندل، واحة آدوم الكبيرة، وتقع على مبعدة، 400 كيلو متر إلى الشرق من البتراء عصامة الأنباط4، على حافة النفود الكبير، ومن ثم فقد كانت ذات أهمية كبيرة في التاريخ القديم، إذ كانت تعتبر بمثابة قلعة الجزيرة العربية الشمالية في وجه المهاجمين من الشمال والشمال الشرقي، وإذا ما سقطت دومة الجندل تساقطت بالتالي باقي المدن المجاورة5. ونقرأ في حوليات العاهل الآشوري "تجلات بلاسر الثالث "التي عثر عليها في "كالح" عن جزية من "زبيبي" ملكة بلاد العرب، التي يرى "ألويس موسل" أن   1 W.F. Albright, Jras, 1925, P.293 وكذا F. Hommel- Op. Cit., P.581, 594 2 ياقوت 2/ 486-487، البكري 2/ 565، وتلك رواية إسرائيلية في الواقع، حيث تذهب نصوص التوراة إلى أن سلالة إسماعيل إنما كانت تسكن في المنطقة الواقعة إلى شمال البحر الأحمر، وتمتد من حدود مصر حتى دومة الجندل "تكوين 21: 21، ألويس موسل: شمال الحجاز ص67" 3 ياقوت 2/ 487، قارن: البكري 2/ 564-565. 4 ألويس موسل: شمال الحجاز ص128. 5 عبد الرحمن الأنصاري: المرجع السابق ص82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 مقرها إنما كان في "دومة الجندل"1، كما نقرأ في نقوش الملك "إسرحدون" "680669ق. م" أن أباه "سنحريب" "507-681ق. م" قد أخضع أدوماتو "أدمو Adumu"" حوالي عام 688ق. م، وأخذ أصنامها إلى عاصمته، والأمر كذلك بالنسبة إلى الأمير "تاربي" "تبؤة" "Tabua"، وكانت ملكة دومة الجندل "تلخونو" "تعلخونو" قد امتد سلطانها حتى حدود بابل، ثم وقفت بجانب الثوار البابليين ضد "سنحريب" "705-681ق. م" ومن ثم فإن العاهل البابلي ما أن انتهى من القضاء على الثورة، حتى اته إلى دومة الجندل وفرض الحصار عليها2، وهناك ما يشير إلى أن خلافا قد حدث بين الملكة وبين حزائيل -سيد قبيلة قيدار- الذي تولى قيادة الجيوش ضد سنحريب، مما أدى إلى استسلام الملكة وفرار حزائيل إلى البادية، فضلا عن أسر الأميرة تبؤة وأخذها إلى بابل، تمهيدًا لإعدادها لتكون ملكة على قومها، تعمل بأمر آشور، وتنفذ سياسة ملوكها فيما يختص بالأعراب3، غير أن آمال الآشوريين في الملكة الجديدة قد خابت، فما أن يتم تعيينها ملكة على دومة الجندل حتى تفشل في مهمتها، ولعل السبب في ذلك إنما يرجع إلى العداء الدفين بين العرب والآشوريين، والذي ما كان في استطاعة تبؤة القضاء عليه4. وعلى أي حلال، فيبدو أن دومة الجندل كانت في هذه الفترة مركزًا دينيًّا مهما للقبائل العربية، كما أن هذه المنطقة قد عرفت في هذه الفترة حكم الملكات اللآتي كن يجمعن بين السلطتين الدينية والزمنية، ولعل أشهرهن زبيبه "زبيبي" وشمسي وتعلخونو وتبؤة5.   1 A.T. Olmstead, Op. Cit., P.189. وكذا A. Musil, Arabia Deserta, P.477 2 D.D. Luckenbill, Ancient Records Of Assyria And Babylonia, Ii, 518 وكذا P.K. Hitti, Op. Cit., P.38 وكذا Anet, P.290 وكذا A. Musil, Op. Cit., P.48 3 British Museum Tablets, K, 3087, 3405 وكذا P.K. Hitti, Op. Cit., P.38 4 A.L. Oppenheim, In Anet, P.291 وكذا D.J. Wiseman, The Vassal - Treaties Of Esarhaddon, London, 1958, P.4 5 عبد الرحمن الأنصاري: المرجع السابق ص82 وكذا N. Abbot, Pre-Islamic Arab Queens, In Ajsl, 58, 1941 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 وفي العهد البابلي خضعت دومة الجندل للملك نبونيد، وكما أشرنا من قبل، فلقد جرد الملك البابلي في العام الثالث من حكمه على المدينة واحتلها1. هذا وتشير المراجع العربية إلى دومة الجندل إنما كانت مدينة محصنة بسور، في داخله حصن منيع، يقال له "مارد"، نسبة البعض-طبقًا للروايات التقليدية- إلى سليمان عليه السلام، ونسبه آخرون إلى "أكيدر الملك بن عبد الملك السكوني"، وهو يهودي على رأي، وعربي من كندة على رأي آخر، وعلى أي حال، فإن الحصن على ما يبدو قد بني قبيل الثالث الميلادي؛ لأسباب منها صلة السكونيين بكندة، ومنها أن الحصن يشتمل في بعض أجزائه على نقوش نبطية- والأنباط كما نعرف قد انتهت دولتهم في عام 106م -ومع ذلك فالحصن ليس من عمل فرد واحد، ولا من فترة واحدة، وإنما من فترات متعاقبة، لعل آخرها منذ نصف قرن فقط2. وهناك في المصادر العربية ما يشير إلى أن سكان دومة الجندل، إنما كانوا أصحاب نخل وزرع، يسقون على النواضح، وزرعهم الشعير، وكان في بلدهم سوق يبدأ في أول يوم من شهر ربيع الأول، وينتهي في النصف منه، هذا وقد كانت تسكن دومة قبل الإسلام قبائل كلب وجديلة وطيئ، كما كما يتنازع السلطان فيها "الأكيدر" و"قنافة الكلبي" الذي كان يتولى الأمر فيها، حين تكون الغلبة من نصيب الغساسنة، مما يدل على التنافس بين كندة وبني غسان على الطريق التجاري3، "وكانت مبايعة العرب في دومة إلقاء الحجارة، وذلك أنه ربما اجتمع على السلعة النفر، يساومون بها صاحبها، فأيهم رضي ألقى حجره، فربما اتفق في السلعة الرهط، فلا يجدون بدا من أن يشتركوا وهم كارهون، وربما اتفقوا فالقوا الحجارة جميعًا إذا كانوا عددًا على أمر بينهم، فوكسوا صاحب السلعة إذا طابقوا عليه"4.   1 Cah, 4, P.194 وكذا P.R. Dougherty, Op. Cit., P.107 وكذا C.J. Gadd, Op. Cit., P.35 2 عبد الرحمن الأنصاري: المرجع السابق ص84، ياقوت 2/ 487، جواد علي 4/ 236-237. 3 عبد الرحمن الأنصاري: المرجع السابق ص84، تاج العروس 3/ 518، 8/ 297، المحبر ص 263-264، التاريخ الكبير لابن عساكر 1/ 89، وما بعدها، نسب قريش ص276، جواد علي 4/ 22-234، 238، 240. 4 أبو جعفر محمد بن حبيب، كتاب المحبر - حيدر أباد الدكن 1942 - ص264. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 4- الحجر "مدائن صالح" : وتقع على مبعدة 15 كيلو مترا إلى الشمال من مدينة العلا الحالية، على الطريق التجاري العظيم الذي يربط جنوب بلاد العرب بسورية، وتتكون من عدة جبال رملية متناثرة، ومن ثم فقد سهل على سكانها أن ينحتوا فيها مقابر لهم، انتشرت في معظم هذه الجبال1. هذا وقد جاء ذكر المدينة في جغرافية بطليموس2، كما ذكرها "إصطيفانوس البيزنطي"3، والحجر -فيما يرى البعض- هي "أجزاء Eera" التي ذكرها "سترابو" في حديثه عن حملة "إليوس جالليوس" على اليمن في عام 24ق. م، وربما كان لها ميناء يعرف بـ "فرضة الحجر"، ومن الممكن، بل من المحتمل أن تكون هذه الفرصة معروفة بنفس الاسم الذي عرفت به الحجر4 -كما أن ميناء مدين كانت تعرف كذلك باسم مدين- وأن ميناء الحجر هذه ربما كانت هي بعينها الميناء التي تعرف اليوم باسم "الوجه"5. وتشير الكتابات التي وجدت في مدائن صالح إلى المدينة ربما كان قد أنشأها المعينيون، كما تشير مقابرها التي جمعت في نحتها عناصر فنية مختلفة -فرعونية وإغريقية ورومانية وعربية- إلى أنها تشبه إلى حد كبير ما هو موجود في البتراء، ولعل هذا سببه أنهما ذات حضارة واحدة، وإن كانت مقابر مدائن صالح إنما تتميز بوجود شواهد عليها، مكتوبة بالخط الآرامي النبطي6، كما أن هناك في جبل أثلت معبدا يذكرنا بمعابد البتراء، فضلا عن معبد آخر صغير يقع على مبعدة 150م إلى الجنوب من الجبل الآنف الذكر7، وأخيرًا فلعل من الأهمية بمكان   1 عبد الرحمن الأنصاري: المرجع السابق ص81. 2 Ptolemy, Vi, 7, 29 3 Stephanus Byzantus, I, 260. وكذا A. Grohmann, Arabien, P.44 4 يذهب بعض الباحثين إلى أن الحجر إنما هي مدائن صالح، بينما يذهب آخرون إلى أن مداين صالح هي العلا، لا الحجر، وفرق آخرون بين موضع مدائن صالح والعلا "جواد علي 3/ 55، وكذا A. Grohmann, Op. Cit., P.4, 15, 39, 40 5 ألويس موسل: شمال الحجاز ص106. 6 عبد الرحمن الأنصاري: المرجع السابق ص81. 7 جواد علي 3/ 56، وكذا A. Musil, Arabia Petrae, P.133, 146 وكذا C.M. Doughty, Op Cit., I. P.113. وكذا A. Grohmann, Op. Cit., P.66 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 الإشارة إلى أن هناك من يرى في الموقع النبطي "إرم" اكتشفت على مبعدة 25 ميلا إلى الشرق من العقبة، "إرم" المذكورة في القرآن الكريم1. ويشير "بليني" في "التاريخ الطبيعي "6: 156" أن عاصمة اللحيانيين هي "هجرا Hagra"، وأن مركزهم الرئيسي هو واحة ديدان- على مبعدة 15 كيلو مترا إلى الجنوب من الحجر- وأن اللحيانيين إنما كانوا يسكنون بكل تأكيد في واحة الحجر، كما كانوا يسكنون كذلك في ديدان، ومن هذا يمكن أن نستنتج أن "هجرا" عاصمة اللحيانيين، هي بعينها الحجر2. وأما المصادر العربية فتذهب إلى أن الحجر، إنما هي ديار ثمود، ناحية الشام عد وادي القرى3، وهم قوم سيدنا صالح عليه السلام، وقد ورد ذكرها في القرآن الكريم4، وفي الحديث الشريف5. وعلى أي حال، فإن المدينة قد أخذت مكانها بالتدريج، حتى إذا ما كان القرن العاشر الميلادي أصبحت خرائب لا يسكنها أحد، هذا وقد عثر في هذه الخرائب -التي تقع بين جبل أثلت وقصر البنت وسكة حديد الحجاز القديمة- على آثار حصن قديم، وبقايا أبراج وأعمدة ومزولة شمسية، فضلا عن نقود ترجع إلى أيام الحارث الرابع النبطي "9ق. م - 40م"6.   1 انظر: سورة الفجر: آية 809، وانظر: تفسير البيضاوي 2/ 557، تفسير الطبري 30/ 175-180 "طبعة الحلبي 1954"، التفسير الكبير للفخر الرازي 30/ 166-169، تفسير القرطبي 20/ 44-47 "طبعة دار المصرية 1950"، وانظر. P.K. Hitti, Op. Cit., P.73 2 الويسل موسل: شمال الحجاز ص107. 3 تاريخ الطبري "1/ 226، البكري 2/ 426، ياقوت 2/ 220-221، ابن بطوطة ص259، المحبر ص384، المعارف ص14، نهاية الأرب ص199-200، اللسان 4/ 170، ألويس موسل: المرجع السابق ص108-109، ابن الأثير 1/ 89، تاريخ الخميس ص84، قصص الأنبياء ص58-59، ابن كثير: البداية والنهاية 1/ 130، تفسير ابن كثير 4/ 171، تفسير النسفي 2/ 277، تفسير روح المعاني 8/ 162، 4/ 76، 30/ 124، تفسير المنار 8/ 508، 12/ 120، تفسير الطبري 12/ 524، 825، 14/ 49-50 تفسير البيضاوي 1/ 545، تفسير القرطبي 10/ 46، 20/ 48، تفسير الجلالين "نسخة على هامش البيضاوي" 1/ 545. 4 سورة الحجر: آية 80-84، وانظر: تفسير القرطبي 10/ 45-46، تفسير روح المعاني 14/ 75-77. 5 اللسان 4/ 170. 6 جواد علي 3/ 56، وكذا A. Grohmann, Op. Cit., P.66 وكذا C.M. Doughty, Op. Cit., P.113 وكذا A.J. Jaussin And R. Savignac, Mission Aracheologique En Arabie, I, P.316 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 الفصل الرابع عشر: الأنباط مدخل ... الفصل الرابع عشر: الأنباط إن تاريخ شبه الجزيرة العربية -إذا استثنينا الجزء الجنوبي منها -هو تاريخ الأحداث التي شهدتها جماعات سياسية صغيرة، قامت واحدة وراء الأخرى على طول حدود الصحراء من ساحل البحر الأحمر، إلى أطراف سورية وفلسطين وأرض الرافدين، ولم تكن هذه الدويلات مستقرة في تركيبها، وكانت قصيرة العمر، فهي في الواقع ليست سوى نتاج فرعي لعملية الاتصال والانتقال بين منطقة البداوة ومنطقة الحضارة المستقرة، فهي لم تكن فقط ملتقى ومحطا لحركات التوسع الموسمية، وإنما كانت في الوقت نفسه ستار حماية تنصبه المناطق المحيطة بالصحراء1. وقد شجعت الدول الكبرى التي كانت تسيطر بجوار هذه المناطق على قيام هذه الدويلات، واتخذتها درعا تتقي به من غارات البدو على تخوم حدودها، فكانت أشبه بالدويلات الحاجزة "Buffer State"، ولا ريب أن حب العربي للوفاء جعله يستطيع أن يتعامل مع هذه الأمم الغربية عنه، فكان لقاء "جعل" و"إتاوة" يترك مهنته في الغارة، ويخفر حدود حلفائه من تعدي القبائل الأخرى، وينعم في الوقت ذاته بحياة مستقرة نوعًا، ولكن الفرس والروم لم يكونوا يبقون على ثقتهم الدائمة في عرب الحدود، ولذلك كانوا يقضون أحيانًا على هذه الممالك البدوية أو يهملونها، فكانت تعود إلى حياتها الأولى2. ولكن بالإضافة إلى هذا العامل الجغرافي، شاركت قوى اقتصادية في تكوين   1 سبتينو موسكاتي: المرجع السابق ص201. 2 عبد المنعم ماجد: المرجع السابق ص83-84، الاصطخري: مسالك الممالك ص14 وكذا E. Gibbon, Op. Cit., P.216 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 شبه الجزيرة العربية في العصور القديمة، فقد كان يحد شبه الجزيرة طريقان أساسيان على حافة الصحراء، تنتقل عليها السلع من المحيط الهندي إلى موانئ فلسطين وسورية، فكان أحد هذين الطريقين التجاريين يمتد من اليمن إلى جنوب فلسطين، والثاني يمتد من الخليج العربي، ويدخل وادي الرافدين، ثم ينحرف إلى سورية قاصدا دمشق، فعلى هذين الطريقين قامت دويلات الحدود العربية1. ولعل من أهم هذه الدويلات "دولة الأنباط" التي قامت على الأطراف الخارجية لمنطقة فلسطين، في حوالي القرن الخامس قبل الميلاد، متخذة من "البتراء" عاصمة لها، ومكونة حضارة عربية في لغتها، أرامية في كتابتها، سامية في ديانتها، يونانية رومانية في فنها وهندستها المعمارية، وهي لذلك حضارة مركبة، سطحية في مظهر الهليني، ولكنها عربية في أساسها2. هذا وقد اختلف المؤرخون في الموطن الأصلي للأنباط، فذهب فريق إلى أنهم من أهل العراق، وأن لغتهم التي تركوها على آثارهم، إنما هي أرامية متخلفة عن لغة ما بين النهرين، وأنهم قد هاجروا من العراق إلى "أدوم"، وذهب فريق آخر إلى أنهم عراقيون أتى بهم "نبوخذ نصر" في القرن السادس قبل الميلاد، عندما اكتسح فلسطين، فأنزلهم "البتراء"3، ومجاوراتها، وذهب فريق ثالث إلى أنهم من جبل "شمر" في أواسط بلاد العرب، ثم سرعان ما نزحوا إلى العراق، وأقاموا هناك حتى دهمهم الآشوريون أو الميديون، فأخرجوهم من هناك، وأخيرًا ذهب فريق رابع إلى أنهم من شواطئ الخليج العربي4، بينما ذهب فريق خامس إلى أنهم من قبائل بدوية، نزحت في القرن السادس قبل الميلاد "في حوالي عام 587ق. م" إلى شرق الأرن، فنزلت أرض الآدوميين- أحفاد عيسو بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليهما السلام5- وانتزعت منهم "البتراء" ثم سرعان ما امتدت سلطتهم إلى المناطق المجاورة6.   1 موسكاتي: المرجع السابق ص201. 2 فيليب حتى: المرجع السابق ص426. 3 هناك "بتراء" أخرى في نجد تقع إلى الغرب من "بريدة" بحوالي 136 كيلا، ومن الرياض 620 كيلا عن طريق بريدة، 580 كيلا عن طريق عنيزة. 4 جرجي زيدان: المرجع السابق ص81. 5 انظر عن الأدوميين: كتابنا إسرائيل ص342-344، وكذا عدد 24: 18، يشوع 15: 1، صموئيل أول 8: 14، إسرائيل ولفنسون: تاريخ اللغات السامية ص104-105 وكذاM. Noth, Op. Cit., P.154-155. وكذا A. Lods, Op. Cit., P.58 6 P.K. Hitti, Op. Cit., P.67 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 ويرى المسعودي أن السريانيين إنما هم من النبط، وأن أهل "نينوى"-وكذا بابل- من السريان والنبط كذلك1، ويذهب أستاذنا الدكتور سعد زغلول2، إلى أن المسعودي من بين آرائه العبقرية التي كانت مصدر إلهام "ابن خلدون" في "مقدمته"، نظرية تقول: إن النبط وملوكها ترجع في أنسابها إلى "نبيط بن هامش" ومنهم كل العرب البائدة من عاد وثمود وجديس وطسم وعمليق، إلى جانب "عيلام في الأهواز وفارس" و"نبيط في بابل والعراق"، فكأنه ربط بين تاريخ بلاد العرب القديم جميعًا. غير أن الأمر، إن كان صحيحًا بالنسبة إلى القبائل العربية في بلاد العرب والعراق فقد يحتاج -فيما نظن- إلى إعادة نظر، فيما يختص بعيلام وفارس، وقد سكنتهما شعوب هندو أوربية، وليست عربية على أي حال. ومهما يكن من أمر، فإن النبط الذين أشار إليهم الإخباريون، إنما هم من بقايا الآراميين في العراق والشام، وهم- وإن كانوا يتكلمون بلهجات ربما كانت عربية، إلا أنها بكنة غربية عن العربية- ربما كانوا غير النبط الذين نتحدث عنهم وقد عاشوا في العربية الحجرية، ولهم كتابات دونت بالأرامية، وأن فريقًا منهم قد عاش في "تدمر"3. وأما استعمال الأنباط للغة الأرامية، فلأنها اللغة الشائعة في ذلك العصر، بل إننا نرى الآرامية، منذ حوالي عام 500ق. م، قد أصبحت لغة المراسلات الدولية في منطقة الشرق الأدنى القديم، كما أصبحت اللغة التي يستعملها سكان منطقة الهلال الخصيب -وكذا الأنباط4- كما أنها سوف تصبح لغة المسيح وشعبه فيما بعد5، فضلا عن أن الحروف العربية لم تكن قد وجدت بعد6، ومن ثم فلا عجب إذا ما دون الأنباط أو غيرهم من العرب بالأرامية- لغة الفكر والثقافة- وتكلموا بلغة   1 مروج الذهب 1/ 23، 238-242، 2/ 25-26. 2 سعد زغلول عبد الحميد: في تاريخ العرب قبل الإسلام ص136، وكذا مروج الذهب 2/ 25-26 "دار الأندلس، بيروت 1973". 3 جواد علي 3/ 13-14". 4 انظر: J. Cantineau, Le Nabateen, 2vols, Paris, 1930, 1932 5 انظر: C.C. Torrey, Our Translated Gospehs, N.Y., 1936 6 فيليب حتى: المرجع السابق ص427. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 أخرى هي لغة اللسان، وقد كان الأعاجم في الإسلام يتكلمون بألسنة أعجمية، ويدونون باللسان العربي، لسان العلم والفكر والقرآن الكريم1. ولعل الخلاف الأصلي بين الباحثين يكمن في أن الأنباط: قوم عرب، أم آراميون؟ وتتجه الآراء الحديثة إلى أنهم عرب، حتى وإن تبرأ العرب منهم، ربما لأنهم احترافهم مهنا يزدريها العربي الصميم، ويحتقر من يشتغل بها كالزراعة والصناعات اليدوية2، وإن كانت بعض المراجع إنما تصف الأنباط بأنهم قوم يكرهون الزراعة ويزدرونها، كما كانوا يأنفون من السكنى في بيوت مستقرة، وقد كانوا رعاة يربون الأغنام وغيرها من الماشية، كما كانوا لا يأمنون وجود الأجانب بينهم، خشية أن يقعوا تحت سيطرتهم، ومن ثم فقد كانوا إذا ما وجدوا غريبًا بينهم قتلوه3. وأيًّا ما كان الأمر، فإن العلماء يقدمون كثيرًا من الأدلة على عروبة الأنباط، منها "أولًا" أن أسماءهم- كما ظهرت في النقوش النبطية- إنما هي أسماء عربية خالصة، ومن ذلك نقش "بوتيولي"، على مقربة من نابلي بإيطاليا، حيث نقرأ -ولأول مرة- اسم "علي" الذي شاع بين المسلمين بعد ذلك، كما نقرأ كذلك في نقوش أخرى أسماء عربية -مثل حبيب وسعيد وكهلان وسعد الله ومرة وخلف وتيم الله وعميرة ووهب وحميد وسكينة وجميلة4- ومنها "ثانيًا" أن الأنباط إنما كانوا يشاركون العرب في عبادة الأصنام المعروفة عند عرب الحجاز، مثل "دوشرا" "ذو الشرى" واللات والعزى ومناة، ومنها "ثالثًا" أن أثر التحريف العربي في كتاباتهم الآرامية، لا يدع مجالا للشك بأن لغتهم الوطنية، إنما كانت لهجة عربية شمالية، حتى بلغ الأمر من كثرة استعمال الكلمات العربية الصرفة في إحدى الكتابات الأثرية المتأخرة -والتي ترجع إلى حوالي عام 268م- أن النص كله يكاد يكون عربيا5.   1 جواد علي 3/ 10، وكذا Eb, P.277, 282 2 جواد علي 3/ 17. 3 F. Altheim And R. Stiehl, Op. Cit., P.283 4 Corpus Inscriptionum Semiticarum, P.242, 260 5 ريجيس بلاشير: تاريخ الأدب العربي- العصر الجاهلي ص56. وكذا A.J. Jaussen And R. Savignac, Op. Cit., P.172-6 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 ومنها "رابعًا" أن أسماء ملوكهم -كالحارث وعبادة ومالك وجميلة- أسماء عربية، وليس من شك في أن للأعلام دخل كبير في بيان أصول الأمم1، ومنها "خامسًا" أن الكتاب القدامى من الأغارقة والرومان- وكذا المؤرخ اليهودي يوسف ابن متى- إنما يطلقون على النبط كلمة "العرب"، وعلى أرضهم لفظ "العربية الحجرية" "2Arabia Petraea"، ومنها "سادسًا" أن لغتهم الأصلية إنما كانت العربية، وأنهم لم يستعملوا اللغة والكتابة الآرامية إلا في النقوش3. وهكذا يتجه كثير من العلماء إلى أن الموطن الأصلي للأنباط، إنما هو بلاد العرب -سواء أكان ذلك في الوسط أو في الجنوب- ومن ثم فإن فريقًا من الباحثين يذهب إلى أنهم قد نزحوا من البوادي إلى أعالي الحجاز، حيث استقروا هناك واشتغلوا بالزراعة والتجارة والإشراف على القوافل التجارية، بينما ذهب فريق آخر إلى أنهم من العربية الجنوبية، ومن ثم فقد كان هذا سببًا في احترافهم للحرف المألوفة في بلاد العرب الجنوبية منذ العهود القديمة4. ويرى الدكتور جواد علي أن الأنباط عرب، بل هم أقرب إلى قريش وإلى القبائل الحجازية التي أدركت الإسلام، من العرب الجنوبيين؛ ذلك لأنهم إنما يشاركون قريشًا في كثير من الأسماء، مثل حبيب وسعيد والحارث وقصي وعمرو ومسعود، وفي كثير من عبادة الأصنام كاللات والعزى ومناة -كما أشرنا آنفًا- ولأن خط النبط قريب من خط كتبة الوحي، ولأنهم يتكلمون لهجة قريبة من العربية، بل إن كثيرًا من الكلمات العربية المدونة بالأرامية، من نوع عربية القرآن الكريم5، ثم هناك ما جاء في التوراة6 من أن "نبايوت" -وهو نابت عند   1 فيليب حتى: المرجع السابق ص81. 2 جواد علي 2/ 9. 3 بلاشير: تاريخ الأدب العربي -العصر الجاهلي- بيروت 1956 ص55056. وكذا R. Dussaud, Les Arabes En Syrie Avant L'islam, Paris, 1907 وكذا E. Dhorme, Op. Cit., P.34 وكذا A. Kammerer, Petra Et La Nabatene, Paris, 1929, P.27 4 جواد علي 3/ 10. 5 جواد علي 3/ 14، يحيى نامي: أصل الخط العربي وتاريخ تطوره إلى ما قبل الإسلام ص7 وكذا G.A. Cooke, Op. Cit., P.18 وكذا E. Littmann, Nabataen Inscriptions From The Southern Hauran, P.17, 24. 6 تكوين 25: 3، أخبار أيام أول 1: 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 الأخباريين- إنما هو الابن الأكبر لإسماعيل، عليه السلام1، وإسماعيل-كما هو معروف- جد العرب العدنانية. وأخيرًا فهناك الخبر الذي جاء على لسان "ابن عباس"، "نحن معاشر قريش من النبط، من أهل كوثاريا، قيل إن إبراهيم ولد بها، وكان النبط سكانها"2، وأما أن "إبراهيم" قد ولد في "كوثاريا" فتلك رواية المصادر العربية3، وإن كانت رواية التوراة تذهب إلى أنه ولد في "أور"4 -سواء أكانت في منطقة الفرات الأدنى، أو في منطقة العراق الأعلى في منطقة الجزيرة بين دجلة والفرات5- بل إن هناك رواية أخرى -عربية كذلك- تنسب قريشًا إلى "كوثا" "كوثي" هذه، فقد روى ابن الأعرابي أن رجلا سأل الإمام علي بن أبي طالب -رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وكرم الله وجهه- فقا: أخبرني يا أمير المؤمنين عن أصلكم معاشر قريش، قال: نحن قوم من كوثى، فقال قوم إنه أراد كوثى التي ولد بها إبراهيم، وتأولوا في هذا قول الله عَزَّ وَجَلَّ: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيم} 6، وسواء أصحت هذه الروايات أم داخلها التحريف، فإنها تشير دون شك إلى صلة قريش، أبناء إبراهيم عليه السلام، بالأنباط وبكوثى في العراق، فإذا كان ذلك صحيحًا، فإن الأنباط يصبحون إذن من المجموعة الآرامية التي هاجرت من شبه الجزيرة العربية بعد الآموريين والكنعانيين -وكانوا بادي ذي بدء- يجوبون أنحاء وادي الجزيرة من ناحية الشمال، ويتحركون إلى الشرق من ناحية العراق، وإلى الغرب من ناحية سورية، حتى بدءوا يستقرون في العراق الأوسط7، ومن المعروف أن هناك من يجعل قوم إبراهيم من هذه المجموعة الآرامية، وفي هذا ما يفيد إلى حد كبير صحة ما ذهبت   1 J. Flavius, Antiquities Of The Jews, I, Xii, 4, P.103 وكذا. Hastings, Ere, 9, P.121. ثم قارن: E. Schrader, Klt, P.151: 2 اللسان 7/ 411. 3 ياقوت 4/ 487-488، البكري 4/ 1138، ابن الأثير 1/ 94، الطبري 1/ 233، اليعقوبي 1/ 23، ابن خلدون 2/ 35. 4 تكوين 11: 28، 31، 15: 7، نحميا 9: 78. 5 انظر عن موطن الخليل عليه السلام، كتابنا "إسرائيل" ص165-171. 6 البكري 4/ 1139. 7 كتابنا إسرائيل ص337. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 إليه من المصادر العربية، من وجود قرابة بين القرشيين من ناحية، وبين الأنباط من ناحية أخرى. ويرى الأستاذ العقاد -طيب الله ثراه- أن مباحث اللغة إنما تقدم لنا البينة الكبرى على قرابة النبطيين لأهل الحجاز؛ ذلك لأن لغة الحجاز لم تتطور من اللغة اليمنية مباشرة، وإنما جاء التطور من العربية القديمة إلى الآشورية إلى الآرامية إلى النبطية إلى القرشية، فتقارب لغة النبط ولغة قريش من هذا السبيل، وكان التقارب بينهما في الزمان والمكان، أو في درجات التطور، ولم يكن تقاربا يقاس بالفراسخ والأميال، وكانت هذه هي البينة الكبرى من مباحث اللغة على قرابة أهل الحجاز من النبطيين، ولم تكن هذه القرابة من اختراع النسابين أو فقهاء الإسلام، ولكنها كانت قرابة الواقع التي حفظتها أسانيد اللغة والثقافة، واستخرجتها من حجارة الأحافير والكشوف الحديثة1. هذا وقد أشار من قبل "مارتن شبر نجلنج" إلى ظاهرة انتقال الكتابة النبطية من منطقة مدين إلى الحجاز، وإلى تطور الخط العربي عن الخط النبطي2، ومن ثم فإن الكتابة التي نكتب بها اليوم، إنما هي كتابة متطورة عن الخط النبطي، وهذا بدوره متطور عن الخط الآرامي، الذي استعمل في شمال شبه الجزيرة العربية منذ حوالي القرن الثالث قبل الميلاد، وقد كان منذ القرن السادس قبل الميلاد، خط كثير من دول الشرق الأدنى القديم3، وأما أقدم نص عربي وصلنا بالخط النبطي، فهو "نقش النمارة"، الذي يرجع إلى عام 328م، وقد سبق لنا مناقشته بالتفصيل من قبل. وعلى أي حال، فلقد أخذ النبط الأبجدية التي تلقاها الآراميون عن الفينقيين، ثم طوروها وحولوها من كتابة منفصلة الحروف، إلى كتابة متصلة الحروف، وبهذا   1 عباس العقاد: إبراهيم أبو الأنبياء ص136-137. 2 Martin Sprengling, The Alphabet, Its Rise And Development From The Sinai Uje, I, P.198. وكذا Inscriptions, P.52 3 عبد الرحمن الأنصاري: لمحات من القبائل البائدة في الجزيرة العربية ص89، وانظر: فيليب حتى: تاريخ العرب ص108-109، جرجي زيدان: المرجع السابق ص81، ديتلف نلسن: المرجع السابق ص40-41، سعد زغلول عبد الحميد: المرجع السابق ص137. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 أراحوا الكتاب من كتابة كل حرف على حدة، ومن وضع خطوط رأسية، أو نقط لتحديد حدود كل كلمة، أو ترك مسافات بيضاء بين كل كلمة وأخرى، وعنهم أخذ العرب الكتابة التي ما زلنا نستعملها إلى اليوم1 -كما أشرنا آنفًا-. على أن هناك من يرى أن الألفاظ العربية التي وجدت في الآرامية النبطية، فضلا عن تشابه الأسماء بين العرب والنبط، إنما كان من أثر الاختلاط بينهما بسبب السكنى والجوار، وليس بسبب روابط جنسية بين الفريقين، ومن ثم فإن الأنباط إنما هم أراميون بالعرب وتأثروا بهم، أو على الأقل، إنما هم أراميون استعربوا بعد حين من الدهر2. وعلى أي حال، فإن أقدم معلوماتنا عن النبط، مصدرها مؤلفو العصر الهليستي، ومنهم "ديودور" و"استرابو"، وقد أخذ الأخبر معلوماته عن "أثينودورس"، ذلك الفيلسوف الذي ولد وعاش بين النبط3، هذا وقد اصطدم الأنباط باليهود مرارا، ولهذا يحدثنا المؤرخ اليهودي "يوسف بن متى" عنهم كثيرًا، وقد كان الأنباط -فيما يرى- يسكنون منطقة واسعة تمتد من نهر الفرات، فتتاخم بلاد الشام حتى تنزل إلى البحر الأحمر4، كما أنه يرى- وكذا سان جيروم "345-420م"- أن هناك صلة بين اسم "نبايوت" بن إسماعيل، وبين اسم النبط5، غير أن يوسف اليهودي لم يهتم بتاريخ الأنباط، إلا إذا كان هذا التاريخ له علاقة بتاريخ قومه اليهود6. هذا وقد ترك لنا الأنباط كتابات كثيرة في مواضع متفرقة- كالبتراء والحجر والعلا وتيماء وخيبر، وفي صيدا ودمشق، فضلا عن أماكن أخرى في حوران   1 حسن ظاظا: المرجع السابق ص114. 2 A.B.W. Kennedy, Petra, Its History And Monuments, London, 1925, P.34 وكذا جواد علي 3/ 10، قاموس الكتاب المقدس 1/ 58. 3 A.B.W. Kennedy, Op. Cit., P.33 4 J. Flavius, Antiquities Of The Jews, I, 21, 4 5 جواد علي 3/ 16، وكذا Eb, P.3254 6 P.K. Hitti, Op. Cit., P.69 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 واللجاة وسيناء والجوف واليمن ومصر وإيطاليا- اهتم العلماء بدراستها ونشرها1. وعلى أي حال، فيمكننا القول أن مملكة الأنباط قد وصلت إلى أوج مجدها على أيام "الحارث الرابع" "9ق. م-40م"، وأنها كانت تشمل منطقة واسعة تضم دمشق وسهل البقاع، والأقسام الجنوبية الشرقية من فلسطين، وحوران وأدوم، ومدن العلا وسواحل البحر الأحمر، وبعبارة أخرى، فإنها كانت تضم جنوبي فلسطين وشرق الأردن وسورية الجنوبية الشرقية وشمالي شبه الجزيرة العربية، وأن القسم السوري منها إنما كانت تفصله عن قسم شرقي الأردن منطقة "اتحاد الديكابولس"2، وأن وادي السرحان كان يربط ما بين القسمين، وأخيرًا فهناك ما يشير إلى وجود آثار للأنباط في الأقسام الشرقية من دلتا النيل3. وقد ظهر الأنباط لأول مرة في القرن السادس قبل الميلاد، كقبائل بدوية في الصحراء الواقعة شرقي الأردن، ثم استمروا كذلك حتى القرن الرابع ق. م، رحلا يعيشون في خيام، ويتكلمون العربية ويكرهون الخمر، ولا يهتمون كثيرًا بالزراعة، وفي القرن التالي تركوا حياة الرعي، واتبعوا حياة الاستقرار، وعملوا في الزراعة والتجارة، وفي أواخر القرن الثاني قبل الميلاد تحولوا إلى مجتمع منظم جدًّا متقدم في الحضارة ومتصل بالتطور والترف، وكان مثالهم هذا مثالا آخر4 يوضح الحادث الذي كان يتكرر في تاريخ الشرق الأدنى القديم، وهو تحول الرعاة إلى مزارعين ثم إلى تجار في بلاد قليلة الموارد، ولكنها حسنة الموقع بالنسبة إلى تجارة   1 A. Musil, Arabia Deserta, P.471 2 اتحاد الديكابولس: أو "حلف المدن العشر"، والذي تبدأ حيث يتصل مرج ابن عامر بوادي الأردن، ثم تمتد نحو الشرق، وكانت هذه المدن التي كانت تسيطر على تلك المنطقة هي "بيت شان" "بيسان" وبيلا وديون "تل الأشعري" وجرش وفيلادلفيا "ربة عمان= عمان الحالية" وجدرة ورافانا "الرافة في حوران وكناثا "القنوات" وهيبوس "قلعة الحصن جنبو شرق بحيرة طبرية" ودمشق، وقد أضيفت إليها مدن أخرى بعد ذلك، فأصبح العدد ثمانية عشر "فيليب حتى: تاريخ سورية ولبنان وفلسطين ص350-351، حسن ظاظا: المرجع السابق ص114، وكذا Pliny, V, 16" 3 فيليب حتى: المرجع السابق ص422، جواد علي 3/ 15. وكذا CLERMONT Ganneau, Les Nabatiens En Egypt, In Recveil D'arc:Eol Ei, 3, P.801. وكذا Orientale, Ii, P.229 4 المثال الأول هو العبرانيون، انظر: فيليب حتى: المرجع السابق ص221، وكذا كتابنا إسرائيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 القوافل التي عوضت قلة مواردها الطبيعية1. وأما أقدم ما وصلنا من أخبار عن الأنباط، فإنما يرجع إلى عام 312ق. م، حيث يسجل هذا العام انتصار الأنباط على قوات "أنتيجونوس"، ذلك أن "ديودور الصقلي" يروي أن "أنتيجونوس" الذي خلف الإسكندر المقدوني "356-322ق. م" في سورية2، قد أغار على "البتراء" في عام 312ق. م، بسبب موالاة النبط لـ "بطليموس الأول" "322-283ق. م"، ومن ثم فقد أعد حملة تحت قيادة صديقه "أثنيوس"، من أربعة آلاف من المشاة وستمائة فارس، ليجبرهم على التحالف معه ضد "بطليموس"، ونجح "أثنيوس" في أن يخفي أمر حملته، وأن يسير إلى البتراء عن طريق أدوم، وأن يباغتها ليلا، والناس نيام، فضلا عن غياب حراسها من الشباب والرجال الأشداء في سوق لهم، ومن ثم فقد كتب له النجح عليها، ونهب ما استطاع من بخور وتوابل وطيب وفضة، إلا أن الأنباط سرعان ما علموا بالأمر، فطاردوا الغزاة ذات ليلة كانوا يستريحون فيها من وعثاء السفر ومشقة الطريق، وأعملوا السيف فيهم، حتى قضوا عليهم، إلا خمسين فارسا هربوا بسلام، وإن أصيبوا بجراح من سيوف الأنباط، ويعلل "ديودور" ذلك الفشل الذي منيت به الحملة، بأن رجالها ما كانوا يتوقعون أن أن يطاردهم الأنباط بهذه السرعة، ومن ثم فقد أهملوا الحراسة، وكانت المأساة3. وعاد الأنباط إلى البتراء، وكتبوا رسالة بالسريانية4 إلى "أنتيجونوس"   1 فيليب حتى: المرجع السابق ص417. 2 انظر عن الظروف التي أحاطت بدولة الإسكندرية عقب وفاته في بابل في 13 يونية 323ق. م، وتقسيم إمبراطوريته بين قواده "إبراهيم نصحي: تاريخ الحضارة المصرية- العصر اليوناني الروماني ص4-8، تاريخ مصر في عصر البطالمة 2/ 45 وما بعدها، لطفي عبد الوهاب: دراسات في تاريخ مصر 1/ 85-94، مصطفى العبادي: مصر من الإسكندر حتى الفتح العربي ص28-44، و. و.تارن: الإسكندر الأكبر ص185". 3 A.B.W. KENNEDY, OP. CIT., P.3. وكذا J.HASTINGS, ERE, 9, P.121 وكذا EI, 3, P.801. وكذا F. ALTHEIM AND R. STIEHL, OP. CIT., P.33 4 اللغة السريانية: لهجة أرامية قديمة نشأت في إقليم الرها "أديسا عند الرومان، وأرفا الحالية، في جنوب شرق تركيا، قريبًا من الحدود السورية"، وقد بدأت لغة الرها الأرامية هذه تسمى "السريانية" بعد انتشار المسيحية، تمييزا لها عن الآراميات الوثنية أو اليهودية، لا سيما أن لفظ آرامي كان قد اتخذ في أذهان العامة في هذا الإقليم مدلولا يشبه لفظ "جاهلي" عند المسلمين، أي لا يؤمن ويعبد الأصنام وهكذا أصبحت السريانية -لغة أديسا- لغة الكنائس في سورية ولبنان وبلاد الرافدين، فيما بين القرنين، الثالث والثالث عشر الميلادي، ومن ثم فقد أصبح المسيحيون الآراميون يعرفون باسم "سوريين" تمييزًا لهم عن بني جنسهم الوثنيين، ثم سرعان ما استعملت التعابير اليونانية، وهي "سوري" بالنسبة للشعب، و"سرياني" بالنسبة إلى اللغة "انظر: فيليب حتى: المرجع السابق ص184-185، حسن ظاظا: المرجع السابق ص118-119". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 "Antigonus" يحملون فيها قائده وزر ما حدث، ويرد عليهم الرجل ردًّا مرضيًا، أن ما حدث إنما كان بغير علم منه، وأن قائده قد تصرف برأيه، ثم يختم رسالته بإعلان صداقته لهم، بينما كان في واقع الأمر، إنما يعد لجولة جديدة، قد يهيئ لها من الأسباب ما يكفل له النجاح، وهكذا ما أمضى طويل وقت، حتى يرسل إليهم ولده "ديمتريوس" على رأس حملة قوامها أربعة آلاف من الفرسان، ومثلهم من المشاة، ويبدو أن الأنباط إنما كانوا يتوقعون الخيانة من "أنتيجونوس"، ومن ثم فقد كانوا في حيطة من أمرهم، فأمنوا أموالهم في مواضع حصينة لا تصل إليها أيدي الطغاة الطامعين، ثم تفرقوا في الصحراء، وهكذا ما أن وصل "ديمتريوس" إلى الصخرة "أم البيارة" حتى هاجمها بعنف وشراسة، إلا أن محاولته هذه لم يكتب لها نصيب من نجاح، ومن ثم فقد عاد بخفي حنين، قانعا بما قدم إليه الأنباط من هدايا1. ويبدو أن علاقة الأنباط بالبطالمة بدأت تتدهور على أيام "بطليموس الثاني" "284-246ق. م" ذلك أن الرجل قد بدأ يفكر في احتكار التجارة البحرية والسيطرة على البحر الأحمر، ومن ثم فقد أمر بإعادة فتح القناة القديمة التي كانت تصل النيل بالبحر الأحمر2، وهو المشروع الذي طالما فكر المصريون في تنفيذه على أيام الدولة الحديثة "1575-1087ق. م"، ثم على أيام "نخاو الثاني" "610-595ق. م" الذي تخلى عنه فجأة، لأن نبوءة جاءت من "بوتو" تقول أن القناة ليست في مصلحة مصر، وأنه لن يستفيد منها إلا الأجانب3، وهو نفس   1 جواد علي 3/ 19-20 صالح العلي: محاضرات في تاريخ العرب1/ 37 وكذا A.B.W. KENNEDY, OP. CIT., P.31 وكذا F. ALTHEIM AND R. STIEHL, OP. CIT., P.32 2 دائرة المعارف الإسلامية 6/ 480، إبراهيم نصحي: دراسات في تاريخ مصر ص124. 3 G. POSENER, LE CANAL DU NIL A LA MER ROUGE, IN CHRONIQUE D'EGYPT, 26, P.272 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 المشروع الذي أتمه "دارا الأول" الفارسي "522-386ق. م" لمصلحة بلاده1. وأيًّا ما كان الأمر، فإن بطليموس الثاني قد أرسل بعد ذلك "أرستون" لكشف الساحل الشرقي للبحر الأحمر2، إلى جانب إنشاء موانئ على هذا البحر3، فضلا عن توسيع دائرة التبادل التجاري بين مصر وبلاد العرب والهند، وذلك رغبة منه في تصريف المنتجات المصرية كالمنسوجات والزيوت والآنية الزجاجية والأسلحة وغيرها من معدات القتال، فضلا عن الحصول على العطور والبهار والبخور والمر والقرفة والعاج والأرز والأصداف والآلئ والأصباغ والقطن والحرير من الصومال ومن بلاد العرب الجنوبية والهند4. وهكذا وضع بطليموس الثاني الساحل العربي للبحر الأحمر تحت سلطانه، كما عمل في نفس الوقت على توطيد علاقاته الطيبة بـ "ديدان" على طريق القوافل، وربطها بميناء جديد على البحر الأحمر، مما أدى في نهاية الأمر إلى تحويل تجارة البخور عن طريقها القديم الذي كان يمر ببلاد الأنباط إلى هذا الطريق الجديد، ثم العمل على نقلها بعد ذلك إلى مصر، عبر البحر الأحمر، عن طريق المراكب5. وقد أدى ذلك كله إلى أن تشهد العلاقات التجارية بين مصر وبلاد العرب، نشاطًا لم تعهده من قبل6، ولا أدل على ذلك من أن البطالمة قد أنشئوا منصبا جديدًا في أواخر القرن الثاني وبداية القرن الأول قبل الميلاد، وهو منصب "قائد البحر الأحمر والبحري الهندي"، الذي يرجع أن الذي كان يتولاه في بادئ الأمر،   1 أحمد فخري: مصر الفرعونية ص426. 2 فضلو حوراني: المرجع السابق ص53، إبراهيم نصحي: المرجع السابق ص121 وكذا W.W. TARN, JEA, 15, P.14 3 جواد علي 3/ 21 وكذا W. VINCENT, THE PERIPLUS OF THE ERYTHREAN SEA, P.309 وكذا M. ROSTOYTZEFF, SOCIAL AND ECONOMIC HISTORY OF THE HELLENISTIC WORLD, I, P.387 4 إبراهيم نصحي: تاريخ الحضارة المصرية -العصر اليوناني الروماني- ص45. 5 دائرة المعارف الإسلامية 6/ 480-481. 6 فضلو حوراني: المرجع السابق ص55-56 وكذا S.A. HUZAYYIN ARABIA AND THE FAR EAST, CAIRO, 1942, P.86 وكذا DE LACY O'LEARY, ARABIA BEFORE MUHAMMED, LONDON, 1927, P.71ذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 قائد مديرية "قفط" "بمحافظة قنا"، أما بعد عام 78ق. م فقد شغل المنصب قائد منطقة طيبة1. على أن الأمر جد مختلف بالنسبة إلى الأنباط، فقد كان استكشاف السواحل العربية على البحر الأحمر، وإعادة القناة التي تصل النيل بالبحر الأحمر، فضلا عن خضوع فلسطين وفينيقيا لمصر، إنما يعني سيطرة مصر على التجارة البحرية، وهذا يعني ببساطة خسائر فادحة للأنباط الذين كانوا يحصلون على أرباح باهظة من تجارة القوافل التي كانت تمر ببلادهم، ومن ثم فقد انتهز القوم فرصة الحروب التي استعر أوارها بين البطالمة والسلوقيين، وأخذوا يشنون الغارة تلو الأخرى على السفائن الذاهبة أو الآيبة من مصر2، وقد أدى هذا الوضع الجديد إلى أن ينشئ بطليموس الثاني قوة بحرية لحراسة هذه السفن التجارية3، بل إن هناك من يرى أن الرجل ربما قد أرسل -عقب رحلة أرستون- حملة ضد النبط4، فضلا عن الاستيلاء على أهم المحطات والموانئ التجارية، كميناء أيله عند خليج العقبة5، و"لوكي كومي" على ساحل الحجاز -وهي الحوراء مرفأ سفن مصر إلى المدينة على رأي6، والمويلح على رأي آخر7، وعينونة أو الحربية على رأي ثالث8. ومن المحتمل أيضًا أن بطليموس الثاني قد استولى وقت ذاك على الشاطئ الشرقي للبحر الميت الذي كان في قبضة النبط، كما أن هناك احتمالا، أنه قد شجع "ميليتوس" على إنشاء مستعمرة لها على الشاطئ الشرقي للبحر الأحمر، في مواجهة "المدينة المنورة"، ومن هذا الثغر الذي عرف باسم "أمبلوني Ampione" كانت تجارة بلاد العرب والهند تنقل إلى مصر9.   1 إبراهيم نصحي: دراسات في تاريخ مصر ص151، وكذا M. ROSTOVTZEFF, OP. CIT., P.928. وانظر مقالنا: "العرب وعلاقاتهم الدولية القديمة "مجلة كلية اللغة العربية والعلوم الاجتماعية، العدد السادس ص287-437. 2 جواد علي 3/ 20-21، وكذا STRABO, III, P.402 وكذا MURRY, THE ROCK CITY PETRA, P.80 3 M. ROSTOVTZEFF, OP. CIT., P.383F 4 إبراهيم نصحي: المرجع السابق ص122. 5 جواد علي 3/ 27. 6 C. FORSTER, OP. CIT., P.220 7 C. FORSTER, OP, CIT. P.285. وكذا W. VINCENT, OP, CIT. P.230 8 جواد علي 3/ 28. 9 إبراهيم نصحي: المرجع السابق ص122-123. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 ملوك الأنباط : كان "الحارث الأول" "169-146ق. م" على رأس هؤلاء الملوك1، وكان يدعى عند اليهود "أريتاس Aretas" ملك العرب2، وقد تسمى باسم "الحارث" كثير من ملوك الأنباط، ومن ثم فقد ذهبت بعض الآراء إلى أن هذا الاسم إنما كان لقبًا لملوك الأنباط، مثله في ذلك مثل فرعون عند المصريين، وقيصر عند الروم، وكسرى عند الفرس، والنجاشي عن الحبشة، وتبع عند اليمنيين3. وكان الحارث معاصرًا لمؤسس الأسرة المكابية4، وأن الأسرتين قد بدأتا عهدهما كحليفين طبيعيين ضد ملوك سورية السلوقيين5، ومن ثم فإننا نقرأ في سفر المكابيين الثاني6 أن "أريتاس" "الحارث" قد طرد "جاسون" -الحاخام اليهودي في بيت المقدس- من بلاده، وأن الأخير قد اضطر إلى الفرار إلى مصر، كما وقف "أريتاس" كذلك إلى جانب المكابيين قد ثورتهم ضد السلوقيين7. وجاء "زيدإيل" "146-110ق. م" بعد الحارث الأول، ثم خلفه "الحارث الثاني" في الفترة "110-96ق. م"، على رأي8، وفي الفترة "139-97ق. م" على رأي آخر، وربما في الفترة "120-96ق. م" على رأي ثالث9، وعلى أي   1 G.A. COOKE, OP. CIT., P.216 2 مكابيين ثان 5: 8. 3 جواد علي 3/ 22، وكذا THE BIBLE DICTIONARY, I, P.107 4 هو يهوذا المكابي الذي قام بثورة في عام 168ق. م، ضد الارستقراطية اليهودية، ثم سرعان ما تحولت إلى ثورة لتحرير اليهودية نفسها من سيطرة "أنطيوخس الرابع" "175-164ق. م"، وانتهت بتنصيب "سمعان" شقيق يهوذا كاهنا وحاكما على اليهودية في عام 141ق. م "مكابيين أول 13: 34-42"، وهكذا ولدت دويلة يهودية دامت حتى مجئ الرومان بعد ثمانين عامًا "فيليب حتى: المرجع السابق ص267-269". 5 مكابيين أول 5: 24-27، 9: 35. 6 مكابيين ثان 5: 8. 7 عبد العزيز سالم: المرجع السابق ص230، تاريخ يوسفيوس ص70. 8 EI, III, P.801 وكذا J. HASTINGS, ERE, 9, P.121 9 جواد علي 3/ 25، وكذا F. ALTHEIM AND R. STIEHL, OP. CIT., P.290 وكذا E. SCHRADER, OP. CIT., P.153 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 حال، فهو المعروف باسم "إيروتيموس Erotimus"، وربما كان هو الذي عناه "يوسف اليهودي" في أحداث عام 97ق. م، فيما يرى بعض الباحثين1، وذلك حين لجأ إليه أهالي غزة يطلبون معونته في أثناء حصار "إسكندر جنايوس" "103-76ق. م" لمدينتهم، إلا أنه لم يكن عند حسن الظن به على رأي2، وأنه قدم إليهم ما يطلبون على رأي آخر3، ومن ثم فقد بدأت العلاقات بين الطرفين تأخذ اتجاها آخر، حين رأي الأنباط أن المكابيين إنما يسعون إلى الاستيلاء على الأردن، ثم التوغل في أرض النبط نفسها، مما كان سببًا في أن يقف الأنباط في وجه السياسة المكابية4. وفي عهد الملك "عبادة الأول" نجح الأنباط في إلحاق الهزيمة بإسكندر جنايوس في موقعة دارت رحاها على الشاطئ الشرقي لبحر الجليل، ومهدت الطريق لاحتلال الجنوب الشرقي من سورية "منطقة حوران وجبل الدروز اليوم" أما إسكندر المكابي فقد فر إلى القدس، حيث قوبل هناك بمعارضة شديدة، سرعان ما تحولت إلى عداء صريح، يتمثل في استدعاء أحد الحكام السلوقيين وتنصيبه ملكًا، وهكذا وضعت الظروف، "إسكندر" بين خصمين قويين "ديمتريوس الحاكم السلوقي وعبادة الملك النبطي"، ومن ثم فقد رأى "إسكندر" أن من الخير له أن يكسب ود الأنباط، حتى يستطيع الحفاظ على عرشه، فتنازل لهم عن مؤاب وجلعاد، وأماكن أخرى كان يخشى من انضمامها إلى أعدائه5. ويعد "الحارث الثالث"- الذي جاء بعد "رب إيل الأول"6- من أشهر   1 KLT, P.153. وكذا EI, III, P.801. وكذا J. HASTINGS, OP. CIT., P.121 2 F. ALTHEIM AND R. STIEHL, OP. CIT., P.290 3 فيليب حتى: المرجع السابق ص419. 4 جواد علي 3/ 26 وكذا THE UNIVERSAL JEWISH ENCYCLOPAEDIA, 8, P.79 5 فيليب حتى: المرجع السابق ص419، جواد علي 3/ 27 وكذا CAH, P, P.409. وكذا EI, 3, P.801 وكذا J. HASTINGS, ERE, 9, P.121 وكذا JOSEPHUS THE JEWISH WAR, I, IV, 3-4 6 يبدو أن حكمه كان قصيرا لم يتجاوز العام "87/ 86ق. م"، وقد عثر له عن تمثال في البتراء عام 1898م "انظر: J. CANTINEAU, OP. CIT., P.1 وكذا SYRIA, IV, 1923, P.152. وكذا DIE ARABER, I, P.291 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 ملوك الأنباط، وإن اختلف المؤرخون في فترة حكمه، فهي في الفترة "87-62ق. م" على رأي، وفي الفترة "85-60ق. م" على رأي آخر1، إلا أنه مما لا شك فيه أن عهده قد اقترن بفتوحات واسعة، بدأت باستيلائه على دمشق، وعلى سهل البقاع في حوالي 85ق. م، وذلك بناء على دعوة تلقاها من سكان المدينة العريقة -وكانت عاصمة السلوقيين وقت ذاك- لإنقاذهم من هجوم "الأيتوريين"2 الذين كانوا يطمعون في الاستيلاء عليها، ومن ثم فقد أطلق عليه القوم، "محب اليونانيين وحاميهم"3. وكان الحارث قد بدأ يستغل ضعف السلوقيين في مصلحته، ومن ثم فقد اهتبل فرصة هجوم "أنطيوخس الثاني عشر" "88-84ق. م" على بلاده، ولقنه درسا قاسيا عند "Kana" عند ساحل "يافا" في عام 85/ 86ق. م "أو في عام 84/ 83ق. م" قضى فيها على معظم جيشه4. وهكذا استطاع الحارث الثالث أن يوطد حكمه في الداخل، وأن يفرض نفوذه في الخارج، وقد واتته فرصة نادرة بعد استيلائه على دمشق، وذلك حين انضم إلى جيشه فريق من رجال الحرب اليونان، وقد عمل الحارث على الإفادة منهم في تنظيم جيشه وتدريبه، بل وتحويله من جيش يعتمد على رجال من الأعراب، يخوضون المعارك بروح من البداوة التي لا تقبل الخضوع للأوامر والنظم العسكرية، وتهتم أول ما تهتم بالغنائم والأسلاب، إلى جيش نظامي مدرب، كان الدعامة الأساسية في فرض نفوذه في الخارج، فضلا عن أن الرجل قد نجح بقوة هذا الجيش في أن يصبح أقوى حاكم عرفته بلاد الأنباط حتى يومه، ومن ثم فقد بدأ الحارث   1 جواد علي 3/ 29، وكذا E. SCHRADER, OP. CIT., P.153 2 الإيتوريون: من أصل عربي، ولغتهم آرامية، وهم "يطور" في التوراة "انظر: نكوين 25: 15، أخبار أيام أول 1/ 31، فيليب حتى: المرجع السابق ص269". 3 جواد علي 3/ 30، وكذا A. KAMMERER, OP. CIT., P.515 وكذا R. DUSSAUD, LA PENETRATION DES ARABES EN SYRIE AVANT L'ISLAM, PARIS, 1955, P.55 4 فيليب حتى: المرجع السابق ص270-271، جواد علي 3/ 29-30 وكذا CAH, 9, P.400 وكذا J. HASTINGS, OP. CIT., P.147 وكذا Josephus, The Jewish War, I, Iv, 7-8, Antiquities, Xiii, 15, 2 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 يتدخل في شئون مملكة يهوذا المتداعية، في أول الأمر، ثم يقدم على مواجهة جيوش الرومان بعد ذلك، وإن كانت النتيجة في كلتا الحالتين مختلفة1. كانت الأمور في دولة يهوذا قلقة، ومن ثم فقد كان على الحارث أن يضع حدا لهذا القلق، فإن لم يفعل، فإن الأحزاب اليهودية ما كانت بقادرة على أن تتركه على الحياد، وهكذا ما أن يمضي حين من الدهر، حتى يبدأ الجيش النبطي يهاجم يهوذا، ويشتبك معها في معركة ضارية عند "Addida" "الحديثة على مقربة من اللد"، ينهزم فيها جيش اليهود شر هزيمة، ويطلب "إسكندر" الصلح على شروط الأنباط، التي تجاهلها المؤرخ اليهودي "يوسفيوس" ولم يقل لنا عنها شيئًا2. ويبدو أن الظروف السياسية دعت الحارث مرة أخرى للتدخل في شئون يهوذا، إبان الخلاف الذي دب بين ولدي "إسكندر جنايوس" "أرسطو بولس وهركانوس"، وانقسام اليهود إلى فريقين، الصدقيون ويؤيدون "أرسطوبولس"، والفريسيون ويؤيدون "هركانوس"، الذي فر إلى البتراء، لعله يجد الحمى عند الحارث، فضلا عن إعادة التاجر إليه وتثبيت ملكه، على أن يعبد للحارث في مقابل ذلك، المدن الإثني عشر التي كان قد أخذها أبوه من العرب، ويقبل الحارث العرض أملا في أن يوسع أملاكه على حساب يهوذا، إن لم يقدر له أن يوجه إليها الضربة القاضية، وهكذا يوجه الحارث جيشا قوامه خمسون ألف رجل لمهاجمة "أرسطو بولس" الذي سرعان ما يفر إلى القدس بعد هزيمة منكرة، فيتابعه الحارث إلى المدينة المقدسة، ويكاد يستولي عليها، لولا قيام الرومان بالهجوم على دمشق، ثم إرسال حملة عسكرية إلى القدس نفسها للتدخل في النواع القائم وقت ذاك، ولمنع الأنباط من الاستيلاء عليها3. وهكذا يضطر الحارث إلى فك الحصار عن القدس، إلا أن "أرسطو بولس" -الذي نجح في أن يضم إليه قائد الحملة الرومانية- سرعان ما يتعقب الأنباط،   1 جواد علي 3/ 30. 2 جواد علي 3/ 31، وكذا Josephus, Xiii, Xv, 2, Vol. Ii, P.428 وكذا J. Hastings, Op. Cit., P.12. وكذا Eb, P.1932. وكذا Cah, Ix, P.400 3 تاريخ يوسفيوس ص110-115 وكذا Josephus, The Jewish War, P.302 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 وهم في الطريق إلى "ربة عمون"1، وهناك عند "بابيرون Ppayron" دارت معركة بين الجانبين، انتصر فيها "أرسطوبولس"، وقتل ستة آلاف من أتباع الحارث2. وفي عام 62ق. م، بدأ الرومان يتحرشونب بالحارث النبطي، ورغم أنه قد صمم -بادئ ذي بدء- على أن يعلنها حربا شعواء على الرومان واليهود سواء بسواء، إلا أنه سرعان ما أدرك الحقيقة المرة، وهي أن جيشه ما كان في استطاعته أن يقف أمام جيوش الرومان الكثيرة العدد والعدة، والمدربة تدريبا يفوق تدريب جيوشه إلى حد كبير، ومن ثم فقد لجأ إلى مهادنة هذا العدو القوي الشرس، وتم الصلح بينهما على أن يدفع الحارث جعالة للرومان، واعتبر "بومبي" أن ذلك إنما هو خضوع من الأنباط للرومان، ومن ثم فقد وضع صورة الحارث في موكب نصره، كما أمر القائد الروماني "سكورس" أن تضرب النقود وعليها صورة الحارث، وهو منكس الرأس، وحاملا سعفه، تعبيرا عن استسلامه3. وهكذا انتهت آمال الحارث في أن يرث مملكة السلوقيين في الشام، بخاصة وأن "بومبي" كان قد استولى على دمشق منذ عام 64ق. م، بعد أن كان الحارث قد أخلاها منذ عام 70ق. م، وإن رأى البعض أن الحارث قد احتفظ بدمشق في مقابل مبلغ ضخم من المال، وعلى أي حال، فإن "بومبي" قد ضم سورية الجغرافية   1 وتسمى "ربة" ثم تغير اسمها في العصر الإغريقي إلى "فيلادلفيا" نسبة إلى بطليموس فيلادلفيوس "بطليموس الثاني" وهي في موقع "عمان" الحالية عاصمة الأردن، حيث يوجد في اسمها جزء من اسم العمونيين الذين تنسبهم التوراة إلى "بني عمي" بن لوط، وكانوا يسكنون إلى الشمال الشرقي من "مؤاب" في الإقليم الأعلى من "يبوق" "انظر: تكوين 19: 38، كتابنا "إسرائيل" ص345-346 وكذا M. Noth, Op. Cit., P.157-8. وكذا F. Unger, Op. Cit., P.45 2 جواد علي 3/ 33 وكذا F. Altheim And R. Stiehl, Op. Cit., P.302. وكذا Cah, Ix, P.382 3 وكذا F. Altheim And R. Stiehl, Op. Cit., P.303 وكذا J. De Morgan, Manuel De Numisme Orient, 2, 1924, P.237 وكذا جواد علي 3/ 33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 والتقليدية في ولاية واحدة وجعل من "أنطاكية" عاصمة لها1. وهناك في البتراء كتابة عليها اسم الحارث، دونها أحد قواده في "المدارس" -وهو معبد ذي الشرى إله الأنباط الكبير- هذا وقد كان الحارث مغرما بالحضارة الهلينيستية، ومن ثم فقد ترك الباب مفتوحا على مصراعيه للتأثيرات اليونانية، فهو أول من سك نقودا نبطية، اقتبس لها النموذج المعروف عند البطالمة، كما أتى بالصناع السوريين الذي أدخلوا النماذج الهلينستية إلى عاصمته، وربما كانوا هم الذين نحتوا الواجهة الجميلة المعروفة اليوم "بالخزانة"، كما يرجع أن المسرح- وهو بناء على الطراز اليوناني- قد بنى زمن الرومان، وهكذا بدأت البتراء تتخذ مظاهر مدينة هلينستية نموذجية، فكان فيها شارع رئيسي جميل، وعدة أبنية وعامة2. وجاء بعد الحارث ولده "عبادة الثاني" الذي حكم في الفترة "62-60ق. م" على رأي، وفي الفترة "62-47ق. م" على رأي آخر، ولدينا من عهده نقد من الفضة من فئة "الدراخما"، يرجع إلى العام الثاني أو الثالث من حكمه، وقد صور الملك عليه بوجه حليق ورأس ذات شعر قصير، ويبدو أن سياسة الأنباط منذ أيام هذا الرجل كانت مقصورة على المحافظة على استقلالهم، والارتباط بالرومان بروابط الحلف والولاء، ومن ثم فقد شاركوا على أيام مالك الأول في حملة "يوليوس قيصر" على الإسكندرية في عام 47ق. م، بفرقة من الفرسان، ساعدته على القيض على ناصية الأمور هناك، والخروج من المأزق الذي كان فيه3. وجاء "مالك الأول"، وقد حكم في الفترة "47-30ق. م" على رأي، وفي الفترة "50 أو 47-30ق. م" على رأي ثان، أو "50-28ق. م" على رأي ثالث، بل إن هناك من يذهب إلى أنه قد حكم بعد "الحارث الثالث" مباشرة   1 فيليب حتى: المرجع السابق ص309، جواد علي 3/ 29، وكذا Eb, P.991 2 فيليب حتى: المرجع السابق ص420 وكذا Clermont-Ganneau, Rao, Ii, P.379 وكذا Provincia Arabia, I, P.209 3 جرجي زيدان: المرجع السابق ص88، صالح العلي: المرجع السابق ص39، عبد العزيز سالم: المرجع السابق ص234، جواد علي 3/ 34 وكذا H. Von Wissmann And M. Hofner, Op. Cit., P.306 وكذا P.K. Hitti, Op. Cit., P.68 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 وأن ذلك إنما كان في الفترة "62ق. م"1. وأيًّا ما الأمر، فإن التاريخ يحدثنا أن الأنواء قد عصفت بسفينة الأنباط على أيامه، ولم يكن ذلك بسبب يتصل بالرجل، بقدر ما كان يتصل بالتغييرات التي حدثت في "يهوذا"، ذلك أن الرومان كانوا قد عهدوا بأمور الشرق إلى "مارك أنطونيو" "4-36ق. م" الذي عمل على القضاء على سلطة المكابيين، وإقامة سلطة أخرى من الأدوميين على رأسها "هيركانوس" إلا أن زمام الأمور إنما كان بيد "انتيباتر"، وما جاء عام 37ق. م، حتى أصبح "هيرودوس" بن "انتيباتر" ملكًا على أورشليم، واستمر كذلك حتى عام 4ق. م، وبعد نحو عامين من مولد السيد المسيح عليه السلام، الذي رأى العلماء أنه كان حوالي 6-2ق. م" إلا أن "هيرودوس" كان طوال تلك الفترة أداة طيعة في أيدي الرومان الذين نصبوه ملكًا على اليهودية2. وفي تلك الأثناء كانت العلاقات بين الروم والنبط قد تدهورت إلى حد كبير، ربما بسبب امتناع الأنباط عن دفع الجزية للرومان، وربما لأن النبط قد وقفوا إلى جانب الفرس عندما أرادوا الاستيلاء على فلسطين، وأيًّا ما كان السبب، فإن الروم، -وقد انتصروا على الفرس- بدءوا يتجهون نحو النبط، ومن ثم فقد أجبروهم حوالي عام 40ق. م، على دفع جزية كبيرة، ثم زاد الموقف تعقيد عندما منح "مارك أنطونيو" جزءًا كبيرًا من فينيقيا وسورية، فضلا عن بلاد الأنباط، إلى "كيلوبترا" ملكة مصر، جزءًا كبيرًا من فينيقيا وسورية، فضلا عن بلاد الأنباط، إلى "كيلوبترا" ملكة مصر، كما بايع ولده منها -ويدعى بطليموس- ملكًا على سورية، وهكذا أصبحت "كليوبترا" صاحبة الحق في جزية الرومان من الأنباط، غير أن النبط قد امتنعوا عن دفع الجزية لملكة مصر، ومن ثم فقد طلبت كليوبترا من مارك أنطونيو الإسراع في تأديب الأنباط. وكانت سياسة "كيلوبترا" تهدف إلى السيطرة على بلاد العرب الشمالية، فضلا عما منحه إياها "أنطونيو" من أجزاء في فينيقيا وسورية، ومن ثم فقد أرادت   1 فيليب حتى: المرجع السابق ص420 وكذا J. Hastings, Ere, 9, P.121 2 فيليب حتى: المرجع السابق ص311-312 جواد علي 3/ 35-36 وكذا Josephus, Antquities, Xiv, 8, 3, 5, Xv, 6, 4, The Jewish War, I, Xiii, 8 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 التخلص من ملكي العرب واليهود على السواء، وهكذا شجعت "هيرودوس" ملك اليهودية على محاربة الأنباط، ويبدو أن "هيرودوس" كان ينتظر هذه الفرصة، ومن ثم فقد أسرع بشن هجوم على الأنباط عند "اللد" وما أن يتم له النصر هنا، حتى يسرع بالهجوم عليهم مرة أخرى عند "قنا" في البقاع، ويكاد ينتصر عليهم، إلا أن موازين النصر سرعان ما تغيرت إلى جانب النبط، فقتلوا عددًا كبيرًا من جيشه، وأسروا آخرين، وفر "هيرودوس" إلى القدس1. وهنا بدأ "هيردوس" يعد العدة لجولة أخرى، بخاصة وأن النبط بدءوا يهاجمون مدنه، مما أدى إلى قيام سلسلة من المعارك تبادل فيها الجانبان النصر النصر والهزيمة، فضلا عن الخسائر في الرجال والمعدات، ويزعم المؤرخ اليهودي يوسفيوس أن النصر كان في النهاية إلى جانب، وذلك حين جمع هيرودوس قواته وأعاد تنظيمها، فعبر الأردن، والتحم مع الأنباط في معركة ضارية عند "عمان" فأنزل بهم خسائر فادحة، فاقت خمسة آلاف قتيل، وأربعة آلاف أسير، فضلا عن سبعة آلاف أخرى لقوا حتفهم بأيدي اليهود، حينما حاولوا الفرار من الحصار، وكان نتيجة ذلك كله أن اضطر الأنباط إلى دفع جزية لـ "هيرودوس"، وإذا كان ما زعمه المؤرخ اليهوديب صحيحًا، أو حتى قريبًا من الصواب، فليس هناك من ريب في أن قوة هيرودوس لم تكن وراء هذه الانتصارات، وإنما كان السبب قوة الرومان الطاغية، وجنود الأنباط غير المدربين2. وجاء "عبادة الثالث" "30-9ق. م"، وربما لقى ميتة عنيفة على يد وزيره صالح "سيليئوس" الذي لقى نفس المصير في روما حوالي عام 5ق. م3، وعل أي حال، فإلى عهد هذا الملك ترجع الحملة الرومانية على اليمن بقيادة "إليوس   1 تاريخ يوسفيوس ص168، فيليب حتى: المرجع السابق ص311-312، جواد علي 3/ 35-36، وكذا The Jewish War, I, Xviii, 4, 1-4 وكذا F. Altheim And R. Stiehl, Op. Cit., I, P.3-6-307 2 جواد علي 3/ 37، وكذا F. Altheim And R. Stiehl, Op. Cit., P.306 وكذا Josephus, The Jewish War, I, P.383 3 F. Altheim And R. Stiehl, Op. Cit., P.286 وكذا Ei, 3, P.801 وكذا J. Hastings, Op. Cit., P.121 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 جالليوس"- الأمر الذي أشرنا إليه من قبل- وإنه لمن الأهمية بمكان الإشارة إلى أن هناك كتابة أثرية على تمثال لـ"عبادة الثالث" هذا، تصفه "بالإلهي"، مما يدل على أن الأنباط كانوا يؤلهون ملوكهم بعد الموت1، وربما كان الأنباط في ذلك يقلدون السلوقيين الذين لقبوا أنفسهم بلقب "ديوس Deos" أي "الإله". وخلف عبادة الثالث على عرش الأنباط "الحارث الرابع"، لمدة تقارب نصف القرن من الزمان "9ق. م-40ق. م" وقد حمل لقب "رحم عم" أي المحب لأمته، ولقب "ملك النبط"2، ورغم أن الرجل كاد أن يفقد عرشه حين تولاة دون إذن من "أغسطس" "27ق. م-14م"، قيصر روما، إلا أن عهده كان عهد رخاء وسلام، تابع فيه نشر الحضارة الرومانية، كما كانت علاقاته بجيرانه اليهود في بادئ الأمر طيبة، ومن ثم فقدزوج ابنته من "هيرودوس" حاكم اليهودية،، وابن هيرودوس الكبير، إلا أن هيرودوس قد تجرأ بعد حين من الدهر، فطلق ابنة الحارث الرابع، ليتزوج من راقصة كانت السبب في مقتل "يوحنا المعمدان". ونقرأ في الإنجيل أن هيرودوس أراد أن يتزوج من "هيروديا" أمراة أخيه "فيلبس"، إلا أن يوحنا المعمدان قد أفتى بغير ذلك، ومن ثم فقد قرر هيرودوس التخلص منه، غير أنه خشي غضب القوم "لأنه كان عندهم مثل نبي"3، ومن ثم فقد اكتفى بإلقائه في غياهب السجون، وتنتهز هيروديا فرصة عيد ميلاد هيرودوس فتتفق مع ابنتها "سالومي" على أن ترقص شبه عارية لعمها الملك، وحين تنتهي من رقصتها، ويفتن الملك بها، تطلب منه أن يعطيها رأس يوحنا في طبق، وتفعل سالومي ما أرادت أمها، وهنا يضطر الملك إن تنفيذ رغبتها، بناء على وعد منه أن يعطيها ما تريد، أيا كان هذا الذي تريد4.   1 فيليب حتى: المرجع السابق ص423، وكذا G.A. Cooke, Op. Cit., P.244 2 J. Hastings, Op. Cit., 9, P.121 3 ليس من شك في أن يوحنا المعمدان نبي من أنبياء الله الكرام، وهو يحيى بن زكريا عليهما السلام، وقد جاءت نبوته صريحة في القرآن الكريم "آل عمران آية39" وأما عصره فقد كان على أيام المسيح، وربما على أيام القيصر أغسطس، وقد كان يحيى يعمد القوم، أي يغسلهم في نهر الأردن للتوبة من الخطايا "متى 3: 506" وقد عمد المسيح نفسه "متى 3: 13-16". 4 متى 14: 3-11، تاريخ يوسفيوس ص214، فيليب حتى: المرجع السابق ص420-422. قارن: ابن الأثير 1/ 301-302، تاريخ الطبري 1/ 585-593، تاريخ ابن خلدون 2/ 144، ولكن للأسف، فإن المراجع العربية "ابن الأثير، الطبري" مضطربة في تأريخها لهذه الفترة، حتى أنها تذهب إلى أن الله -سبحانه وتعالى- قد سلط على اليهود بخت نصر "نبوخذنصر 605-562ق. م" جزاءً وفاقًا لما ارتكبوه في حق النبي الكريم سيدنا يحيى عليه السلام، وأنه قتل منهم سبعين ألف رجل وامرأة حتى سكن دم يحيى، مع العلم بأن العاهل البابلي كان يعيش في أخريات القرن السابع، وحتى عام 62 من القرن السادس قبل الميلاد، وأن سيدنا يحيى عليه السلام كان يعيش بعد ذلك بحوالي ستة قرون، حيث عاصر المسيح عليهما السلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 والأمر بهذه الصورة يحتاج إلى وقفة، "فأولا" ليس هناك من شك في أن يوحنا المعمدان "يحيى عليه السلام" نبي من أنبياء الله المصطفين الأخيار، "وثانيًا" لماذ يمنع يوحنا هذا الزواج، ومبلغ علمي أن اليهودية -دين هيرودوس- لا تمنع ذلك بل تفرضه على المؤمنين بها، كما تفرض كذلك أن ينسب الأبناء من هذا الزواج الجديد إلى الأخ المتوفى1، فإذا كان ذلك صحيحًا، فإن المسيحيين إنما يفسرون الأحداث طبقًا لتعاليم دينهم، وما كان هيرودوس مسيحيا، وإنما كان ملكًا يهوديا على دولة يهودية، فالتاريخ حتى تلك اللحة لا يتعامل مع ملوك، أو حتى شعوب مسيحية، كما أن يحيى -أو يوحنا المعمدان- كما يسمونه- لم يكن نصرانيا، حتى يفتي بشريعة النصارى، إلا أن يكون السبب الوسيلة التي تزوج بها "هيرودوس" من "هيروديا"، حيث تذهب بعض الروايات إلى أنه قتل أخاه "فيلبس" زوج هيروديا. وأيًّا ما كان الأمر، فإن الحرب سرعان ما تدق طبولها بين اليهود والأنباط، ولكن ليس بسبب قتل النبي الكريم، وإنما بسبب زواج هيرودوس بأرملة أخيه، وطلاق ابنة الحارث الرابع، فضلا عن اختلافهما على بعض مناطق الحدود، وهكذا نشبت المعارك بينهما، وانتهت بانتصار الحارث في "جلعاد"، ومن ثم فقد استنجد "هيرودوس" بالقيصر "تيبيريوس" "14-37م" الذي أمر عامله في سورية بالقضاء على الأنباط، ولكن بينما كان القوات الرومانية تتحرك نحو "البتراء" تأتي الأخبار بوفاة القيصر، فتتوقف الحرب، وينجو الحارث الرابع، بل وتسوء حالة "هيرودوس"، فيضطر الرومان إلى تنحيته عن العرش، ونفيه إلى أسبانيا2. وإذا ما عدنا مرة أخرى إلى الإنجيل، فإننا نقرأ أن دمشق كانت في يد الحارث   1 تكوين 38: 6-11. 2 تاريخ يوسفيوس ص213، جواد علي 3/ 43-44. وكذا Josephus, Antiquities Of The Jews, 18, V, 1 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 الرابع، وأن عامله هو الذي سعى إلى القبض على بولس الرسول، الذي استطاع أن ينجو منه بأن تدلى من طاقة في زنبيل من السور1، وأما متى خضعت دمشق للحارث، فربما كان ذلك حوالي عام 37م، وإبان الحرب التي استعر اوراها بينه وبين هيرودوس2، وربما بقيت تحت سيادة الأنباط، في مقابل مبلغ بدفعونه للرومان. وهناك عدد من النقوش جاء فيها ذكر الحارث الرابع، ومنها "197-216K354 Cih 11160"، وترجع في تواريخا إلى السنوات، الخامسة والتاسعة والثالثة عشرة والتاسعة والعشرين والأربعين والثالثة والأربعين، من حكم هذا الملك، وهي نصوص تتحدث في أمور دينية مرة، وفي أمور شخصية مرة أخرى، وتذكر أسماء بعض الأفراد مرة ثالثة، ومنها عرفنا أسماء بعض آلهة الأنباط مثل "دوشرا" و"منوتو" "مناة" و"قيشح"3، وقد وصف الحارث في بعضها بـ "رحم عم" أل المحب لأمته، كما جاء في بعضها أسماء بعض أفراد الأسرة المالكة، مثل "شقيلة" ملكة الأنباط وزوج الحارث، ومالك وعبادة ورب إيل، فضلا عن مجموعة أسماء كانت شائعة عند العرب قبل الإسلام، مثل كهلان ووعلان وسعد الله ومرة وسكينة وحميد وحوشب وخلف وقين وتيم الله وجهلمة وعميرة ووهب4. وخلف "مالك الثاني" "40-71 أو 75م" أباه الحارث الرابع5، ويبدو أن الأنباط قد فقدوا على أيام هذا الرجل مدينة دمشق، وإن كانت مجاوراتها من الناحية الشرقية والجنوبية الشرقية ظلت تحت السيادة النبطية6، هذا وقد وصلتنا من عهد مالك الثاني عملات فضية وبرونزية، نقشت عليها صورته وصورة زوجته   1 رسالة بولس الثانية إلى أهل كورنثوس 11: 32، وكذا P.K. Hitti, Op. Cit., P.69 2 J. Hastings, Eb, P.206 3 جواد علي 3/ 41، وكذا J. Hastings, Ere, 9, P.121 وكذا Ei, 3, P.801 وكذا F. Altheim And R. Stiehl, Op. Cit., P.304 وكذا Zdmg, 1869, Xxiii, P.435 4 جواد علي 3/ 41-43، وكذا Rep, Epig, I, Ii, P.44, Ii, Iii, P.357 وكذا Cis, Ii, 354 وكذا G.A. Cooke, Op. Cit., P.244 وكذا Pronvincia Arabia, I, P.383 5 جواد علي 3/ 46، وكذا J. Hastings, Ere, 9, P.121 وكذا Ei, 3, P.801 6 N Glueck, Op. Cit., P.542 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 التي وصفت بأنها "شقيقة الملك"، مما يشير إلى أن بعض الملكات كن زوجات شقيقات للملوك الحاكمين، متبعين في ذلك عادة البطالمة، والذين نقولها بدورهم عن الفراعنة، وتشير كتابة أثرية على تمثال للملك عبادة بأن إحدى زوجات الحارث كانت أخته كذلك1، ولعل ذلك كله -بجانب ظهور التماثيل النصفية المزدوجة للزوجين منذ عهد عبادة الثالث، وحتى نهاية عهد الملكية، يشير إلى أن المرأة النبطية، إنما قد وصلت إلى منزلة رفيعة في أثناء عهد الملكية. وهناك ما يشير إلى أن الملك النبطي قد اشترك بفرقة من جيشه -بلغ عددها خمسة آلاف من المشاة، فضلا عن ألف من الفرسان، في الهجوم الذي شنه "تيتوس" في عام 70م على أورشليم، والذي انتهى آخر الأمر بتدمير المدينة المقدسة، وبانتهاء اليهود ككيان سياسي له وزن في فلسطين2. وجاء بعد مالك الثاني ولده "رب إيل" الثاني "سوتر Soter" وقد حكم في الفترة "70-106م" أو "75-101م"3، ويبدو أن حكمه كان تحت وصاية أمه "شقيلة"، وأن أخاه "أنيس "أنيشو" كان يساعد أمه في شئون الحكم، وحينما بلغ الملك الصبي رشده، تزوج من أخته "جميلة" التي نقشت صورتها بجانب صورته على إحدى العملات واستقل بالحكم4، ويبدو أنه هو الذي وصف بأنه "الذي جلب الحياة والخلاص لشعبه"5. ويبدو أن الظروف السياسية بدأت تتغير عند وفاة "رب إيل الثاني"، ذلك أن الإمبراطورية الرومانية التي كانت قد ابتلعت الدويلات الصغيرة في سورية وفلسطين، بدأت تعد العدة لجولة فاصلة مع "الفريتيين"، ومن ثم فقد بدأ القادة الرومان يرون ضرورة إخضاع كل الدول التي كانت تفصل بينهم وبين أعدائهم، وهكذا أمر "تراجان" "98-117م" نائبه في سورية "كورنيليوس بالماء" في عام 106م، بأن يزحف على البتراء، وأن يضم دولة الأنباط إلى الإمبراطورية الرومانية، وهكذا   1 فيليب حتى: المرجع السابق ص423، وكذا A. KAMMERER, OP. CIT., P.254 2 فيليب حتى: المرجع السابق ص423، وكذا JOSEPHUS, THE JEWISH WAR, III, 4, 2. 3 J. HASTINGS, ERE, 9, P.121. وكذا EI, 3, P.801 4 جواد علي 3/ 48، وكذا REP, EPIG, 468 5 فيليب حتى: المرجع السابق ص423، وكذا A. KAMMERER, OP. CIT., P.255-6 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 أصبحت تعرف فيما بعد باسم "المقاطعة العربية Provincia"، وغدت "بصرى"1 عاصمة لها، بينما أخذت البتراء تتضاءل شيئا فشيئا، حتى أصبحت في القرن الثالث الميلادي مجرد مكان ضيئل الشأن، وإن احتفظت بمكانها كمركز ديني مسيحي مهم2. على أن نشاط الأنباط الاقتصادي -رغم ضياع نفوذهم السياسي- لم يتوقف، وظلوا يمارسون التجارة وقيادة القوافل بين مصر وبلاد العرب وموانئ البحر الأحمر، وبخاصة تلك التي تواجه السواحل المصرية، كما تدلنا على ذلك كتابات نبطية من سيناء ومن داخل مصر، ومنها تلك الكتابة، التي ترجع إلى عام "266م"3، وأخيرا فإن بعضا من المستشرقين إنما يظن أن "عرب الحويطات" القاطنين في منطقة "حسمى" في شمال الحجاز، إنما هم من بقايا النبط4.   1 انظر: فيليب حتى: المرجع السابق ص323-324، مكابين أول 5: 26، 28، البكري 1/ 253-254، ياقون 1/ 441-442. 2 N. GLUECK, OP. CIT., P.543. وكذا E. GIBBON, OP. CIT., P.214 3 E. LITTMANN, NABATAEAN INSCRIPTIONS FROM EGYPT, P.1 وكذا H. WINCKLER, ROCK-DRAWINGS OF SOUTHERN UPPER EGYPT I, LONDON, 1938 وكذاجواد علي 3/ 49-50. 4 جواد علي 3/ 50، وكذا EI, I, P.368, III, P.802 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 البتراء : تعد البتراء واحدة من أشهر مدن العالم القديم، كانت عاصمة لأدوم1، ثم صارت لمؤاب2، ومن بعدهم أصبحت عاصمة للأنباط، وتقع إلى الشرق من وادي عربة، في منتصف المسافة تقريبا بين رأس خليج العقبة والبحر الميت، أو على مبعدة خمسين ميلا إلى الجنوب من البحر الميت3. والبتراء: كلمة يونانية تعني الصخر4، ولعلها ترجمة للكلمة العبرانية "سلع" التي جاءت في التوراة5، والتي كانت تطلق على البتراء من قبل6.   1 انظر عن مؤاب وأدوم، كتابنا إسرائيل ص342-345. 2 قاموس الكتاب المقدس 1/ 528. 3 جواد علي 3/ 53. 4 PLINY, 2, P.447 5 أشعياء 16: 1، 42: 11. 6 انظر: كتابنا إسرائيل ص344. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 كما تعني كذلك "الشق في الصخر"، وربما كانت التسمية العبرية أكثر دقة؛ لأن مدخل البتراء يتسم بوجود أخدود عميق بين جبلين يعرف باسم "السيق"، ولعله لفظ نبطي متوارث، حرفه الناس عن "الشق" في السبئية القديمة1، وعلى أي حال، فإن العرب قد عرفوا هذه التسمية كذلك، وقد ذكر ياقوت بأن "سلع" حصن بوادي موسى عليه السلام بقرب بيت المقدس2. وأما الاسم العربي للبتراء فهو "الرقيم"، وربما هو اسم ثان للبتراء كان الإغريق يعرفونها به هو "Arke" فحرفه العرب إلى الرقيم، وربما أرادوا بالرقيم "خزانة فرعون" بالذات3، وأما اسمها الحديث فوادي موسى4. ونقرأ في التوراة أن "أمصيا" "800-783ق. م" قد خلف أباه "يهواش" على عرش يهوذا، وأنه حاول أن يسترد أدوم وسلع، وقد نجح في الاستيلاء على الأخيرة، ومن ثم فقد أطلق عليها اسم "يقتئيل" بمعنى "الخاضع لله"5. وقد وصف "سترابو" البتراء بأنها عاصمة الأنباط، ولا تبعد عن أريحا إلا بأربعة أيام، وعن غابة النخيل بخمسة أيام، وهي موضع غني بالمياه، بل ربما كانت هي البقعة الوحيدة بين نهر الأردن وأواسط بلاد العرب، التي كان يوجد فيها الماء الصافي بكثرة، هذا ويشير سترابو كذلك إلى سكنى بعض الأجانب في المدينة، ومنهم جمع من الروم6. ولقد ازدهرت البتراء في أخريات القرن الرابع ق. م، واستمرت كذلك حوالي أربعة قرون، كانت تشغل في أثنائها مركزا خطيرا على طريق القوافل، الذي يقطع   1 عبد العزيز سالم: المرجع السابق ص244، لا نكستر هاردنج: آثار الأردن ص117. 2 ياقوت 2/ 236. 3 جرجي زيدان: المرجع السابق ص73. 4 ياقوت 5/ 346. 5 ملوك ثان 14/ 1-7، وكذا A.B.W. KENNEDY, OP. CIT., P.78 وكذا A. LODS, OP. CIT., P.385-6 وكذا J. HASTINGS, OP. CIT., P.853 وكذا F. ALTHEIM AND R. STIEHL, OP. CIT., P.283 6 محمد مبروك نافع: المرجع السابق ص87، جواد علي 3/ 54 وكذا STRABO, 16, 779 وكذا A. KAMMERER, OP. CIT., P.510 وكذا F. ALTHEIM AND R. STIEHL, OP. CIT., P.285 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 الصحراء واصلا بين سبأ في الجنوب، وثغور بحر الروم في الشمال1، ويبدو أن ملوك الأنباط في أخريات أيام دولتهم قد أقاموا في أكثر الأحايين في "بصرى"، ثم جاء الغزو الروماني للمدينة في عام 105م "أو106م"، فنقل مركز الثقل بصفة نهائية إلى بصرى، وسرعان ما أخذت أهمية المدينة تتضاءل شيئا فشيئا، حتى أصبحت في ذمة التاريخ، وأخيرا كشف عنها "بوركهارت" في عام 1812م2. ولعل أهم آثار البتراء "خزانة فرعون" المنحوتة في الصخر، ومعبد ربما بني في القرن الأول قبل الميلاد، ويشبه إلى حد ما الكعبة في الجاهلية، حيث كان يضم عدة أصنام على رأسها "دوشرا" "ذو الشرى"، وكان يعبد على شكل حجر أسود مستطيل، ويعتبر إله الكرمة، وقد جئ به إلى أرض الأنباط في الحقبة الهلينية فاكتسب صفات "ديونيسوس"، أما سيدة الآلهات عندهم فهي "اللات" التي اعتبرها "هيرودوت" "أفروديت"، هذا وهناك كذلك "النجر" وهو جبل مقدس، تمتد على مقربة منه مذابح لتقديم القرابين3. وأخيرا، فلعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن مولانا وسيدنا رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- حينما خرج في السنة السادسة من الهجرة لغزو بني لحيان، سار على غراب "جبل بناحية المدينة على طريق الشام" ثم على مخيض ثم على "البتراء"4، هذا فضلا عن أن ابن إسحاق قد ذكر من بين مساجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مسجد بطرف البتراء5.   1 P.K. HITTI, OP. CIT., P.67 2 انظر: J.L. BURCKHARDT, TRAVELS IN SYRIA AND THE HOLY LAND, P.418-34, "LONDON, 1822" 3 THE QUARTERLY OF THE DEPARTMENT OF ANTIQUITIES IN PALESTINE, VII, 1938, P1. 1 وكذا P.K. HITTI, OP. CIT., P.72. وانظر كذلك: المشرق، الجزء 21 عام 1905 ص965 وما بعدها، فيليب حتى: المرجع السابق ص428-429، محمد مبروك نافع: المرجع السابق ص89 وكذا HERODOTUS, BK. III, CH.8 4 تاريخ الطبري 2/ 595، البكري 1/ 224، ياقوت 1/ 335. 5 البكري 1/ 224، ياقوت 1/ 335. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 الفصل الخامس عشر: اللحيانيون يختلف المؤرخون في أصل اللحيانيين هؤلاء، فمنهم من يرى أهم فرع من ثمود1، بينما يرى آخرون أنهم من شعوب العربية الجنوبية، بدليل ورود اسم لحيان في نص عربي جنوب2، وربما كان السكان يتألفون من طائفتين أولاهما من أهل البلاد الأصليين، والثانية هي الجالية السبئية التي هاجرت من جنوب بلاد العرب، وربما يفسر لنا هذا اضطراب التوراة بالنسبة إليهم فهي تعتبر "ددان" تارة من الكوشيين من جنوب بلاد العرب، وتارة أخرى من الساميين من ولد إبراهيم من زوجته قطورة3. وكانت العلا "أو الخريبة وهي جزء منها" مركزا للحيانيين، وهي على أي حال مستعمرة معينية قديمة، كما أنها القاعدة الشمالية القصوى للحضارة العربية الجنوبية، وتقع في وادي القرى جنوب شرق حرة العويرض بين سلسلة من الجبال في الشرق والغرب، وعلى مبعدة حوالي 15 ك م إلى الجنوب من مدائن صالح، وكانت تسمى على أيام النبي -صلى الله عليه وسلم- وادي القرى، وأما الاسم القديم فهو "ددان" "ديدان" -كما جاء في التوراة وفي النصوص المعينية- وقد اختلف العلماء في مدلول هذه الكلمة، فمنهم من رأى أنها اسم للمكان نفسه، ومنهم من حاول أن   1 P.K. HITTI, OP. CIT., P.72 2 جواد علي 2/ 244، وكذا F. ALTHEIM AND R. STIEHL, OP. CIT., P.93 3 ألويس موسل: شمال الحجاز ص96، تكوين 10: 7، 125-4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 يقرن بين هذا الاسم وبين اسم الإله "دد"، الذي كان يعبد لدى الساميين الشماليين1 وقد اختلف الباحثون فيمن حكم هذه المنطقة أولا: أهم الديدانيون أم المعينيون أم اللحيانيون؟، فذهب فريق إلى أن الديدانيين إنما كانوا هم السابقون، وأنهم قد حكموا فيما بين القرنين السادس والخامس ق. م، على رأي، وفي حوالي عام 500ق. م على رأي آخر، وفي عام 160ق. م، على رأي ثالث، ثم جاء المعينيون وانتزعوا الحكم منهم2، على أن فريقا آخر إنما يذهب إلى أن المعينيين إنما كانوا هم السابقون، وأن اللحيانيين قد ورثوا سلطتهم هناك، مكونين دولة مستقلة -هي دولة لحيان3- والتي امتد نفوذها على الأرض الممتدة غربي النفود، من شمال يثرب إلى ما يحاذي خليج العقبة4، بل إن هناك من يرى أنها قد امتدت حتى شملت نجدا ووصلت إلى الأحساء، ويعتمد أصحاب هذا الاتجاه على محاولة الجمع بين اسم الإله "ذو حرج" -وهو أحد معبودات اللحيانيين- وبين إله مدينة "الخرج"، على أساس أن مدلول الكلمتين واحد، وهو الخصوبة وكثرة المياه، ولكن توارد الأسماء متشابها بين مكان وآخر، وبين معبود واسم مكان، لا يمكن أن يقوى كدليل على اتساع مملكة لحيان، ومع ذلك، فليس من المستبعد أن يكون نفوذها التجاري قد اتسع حتى شمل هذه المنطقة، كما لا يستبعد كذلك وجود جاليات لحيانية عاشت فيها حفاظا على الطريق التجاري في شمال الحجاز، أما اتساع مملكة لحيان شمالا، فمن المحتمل أن يكون قد وصل إلى البتراء، إذا   1 موسكاتي: المرجع السابق ص203، عبد الرحمن الأنصاري: لمحات عن بعض المدن القديمة في شمال غربي الجزيرة العربية، مجلة الدارة "1/ 79 "1975"، تكوين 10: 7، 25: 3، أشعياء 21: 13-15، إرمياء 25: 23، 49: 8، حزقيال 25: 13، 27: 20. وكذا W. CASKEL, LIHYAN UND LIHYANISCH, P.44 2 عبد الرحمن الأنصاري: المرجع السابق 1/ 79، جواد علي 2/ 243، وكذا وكذا BASOR, 73, 1939, 119, 1953, P.23 وكذا LE MUSEON, 1938, 51, P.307 3 جواد علي 2/ 245، وكذا F. ALTHEIM AND R. STIEHL, OP. CIT., P.94 وكذا A. MUSIL, THE NORTHERN HEGAS, P.29 4 F.V. WINNET AND W. REED, OP. CIT., P.116F الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 أخذنا تسمية خليج العقبة بخليج لحيان في الاعتبار1، والذي حرف فيما بعد إلى "لات" أو "إيلات"2. وعلى أي حال، فإن تسمية خليج العقبة باسم "خليج لحيان"، إنما يدل على أن لحيان أو اللحيانيين -والذين ذكرهم "بليني" تحت اسم "لخيني"3- لم يكونوا يسيطرون على طريق التجارة البري فقط، بل كانوا يسيطرون كذلك على الطريق البحري إلى "إيلات"، وأن البحارة والتجار الإغريق كانوا يدفعون الجزية للجباة من لحيان4. وكانت تجارة اللحيانيين مع مصر في الدرجة الأولى، ومن ثم فقد كانت علاقاتهم بها جدا وثيقة، فتأثروا بالثقافة اليونانية التي كانت منتشرة في مصر وقت ذاك، حتى أنهم سموا ملوكهم بأسماء يونانية مثل "تخمى" و"بتحمي" و"تلمى" التي أخذت من بطليموس5، بل إن هناك من يذهب إلى أن الدولة نفسها، إنما قامت على أيام بطليموس الثاني "284-246ق. م"، وبتشجيع من الحكام المصريين أنفسهم، وذلك للضغط على الأنباط6، الذين كانوا في منافسة تجارية مع البطالمة -كما أشرنا من قبل- انتهت بسيطرة مصر على الساحل العربي للبحر الأحمر. هذا وقد اختلف المؤرخون في التأريخ لدولة لحيان، فذهب فريق إلى أنها إنما كانت فيما بين بداية القرن الخامس ونهاية القرن الثالث ق. م7، وذهب فريق آخر إلى أنها إنما كانت فيما بين القرن الثاني قبل الميلاد "حوالي عام 160ق. م"8 وبين نهاية القرن الثالث بعد الميلاد9، بل إن الذين ذهبوا إلى أنها إنما كانت بتشجيع   1 عبد الرحمن الطيب الأنصاري: المرجع السابق ص80. 2 F.V. WINNET AND W. REED, ANCIENT RECORDS FROM NORTH ARABIA, TORONTO, 1970, P.116F 3 فيليب حتى: تاريخ العرب -الجزء الأول ص4، وكذا PLINY, VI, 23 4 الويس موسل: المرجع السابق ص99. 5 جواد علي 2/ 244-245، وكذا W. CASKEL, OP. CIT., P.39 6 EI, 3, P.26. وكذا F. ALTHEIM AND R. STIEHL, OP. CIT., P.104 7 عبد الرحمن الأنصاري: المرجع السابق ص80. 8 جواد علي 2/ 24. 9 جواد علي 2/ 247 وكذا F. ALTHEIM AND R. STIEHL, OP. CIT., P.95 وكذا CIH, 2, I, 232. وكذا W. CASKEL, OP. CIT., P.35 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 البطالمة، حددوا الفترة ما بين عامي 280، 200 قبل الميلاد لقيامها1، وأن نهايتها إنما كانت على يد الأنباط استولوا على "الحجر" في عام 65ق. م، و"ديدان" في عام 9ق. م2، وربما كان سندهم في ذلك شاهد قبر عثر عليه في العلا، يرجع إلى أيام الملك النبطي الحارث الرابع "9ق. م-40م" وكذا عدم إشارة "سترابو" إلى مملكة لحيانية في أثناء حديثه عن حملة "إليوس جالليوس" إلى اليمن في عام 24ق. م، فضلا عن أن حديثه عن دولة الأنباط قد يشير إلى أن دولتهم قد امتدت حتى يثرب3. وعلى أي حال، فإن هناك من يرى أن نهاية دولة لحيان إنما كانت على أيدي المعينيين، وأن ذلك كان فيما بين نهاية القرن الثالث، والقرن الأول قبل الميلاد، وإن كان هذا لا يعني نهاية اللحيانيين، فإن هناك -في رأي هذا الفريق من العلماء- اتفاقا بين الطرفين على أن يكون للمعينيين إدارة النواحي التجارية، وللحيانيين الناحية الإدارية وتنظيم شئون الحكم، ويستدل على ذلك من أن شخصية معينية قدمت قربانا للمعبود اللحياني، ذو غبت" "صاحب الغابة"، وإن كنا لا نستطيع أن نستدل من ذلك على استمرار دولة لحيان، فأمر كهذا لا يعني أكثر من أن بعض الولاة إنما يقومون بمشاركة الشعب الذي يحكمونه، وخاصة إذا ما كان مفهوم هذا المعبود مع مفهوم أحد معبودات الحاكم في العصور القديمة4. هذا وقد عثر في العلاء على ما يقرب من أربعمائة نقش لحياني، غير أن الكثرة المطلقة منها عبارة عن مخربشات صغيرة، وبعضها -كما هو الحال في النقوش المعينية الشمالية- عبارة عن أجزاء صغيرة من نقوش، وجدت في غير أماكنها الأصلية، وقد استخدم القوم حجارة هذه النقوش أخيرا كموا للبناء، حيث نجدها في جدران المنازل وأسوار الحدائق في العلا الحالية، ومن ثم فنصوص هذه أوضاعها   1 جواد علي 2/ 246، وكذا EI, III, P.26 2 جواد علي 2/ 246، وكذا W. CASKEL, OP. CIT., P.35 3 جواد علي 2/ 247 وكذا CIH, II, I, 332. وكذا F. ALTHEIM AND R. STIEHL, OP. CIT., P.95 4 عبد الرحمن الطيب الأنصاري: لمحات عن بعض المدن القديمة في شمال غربي الجزيرة العربية -مجلة الدارة، العدد الأول، مارس 1975 ص80، قارن: ألويس موسل: شمال الحجاز ص98-99. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 لا يمكن الإفادة منها كثيرا، لذا لم يتمكن إلا قليل من العلماء من ترجمة بعض جملها، وإن كان من حسن الحظ أننا وجدنا فيا بعض أسماء الملوك والآلهة، فضلا عن الفائدة اللغوية والثقافية لهذه النقوش1. وأما الكتابة اللحيانية، فكتابة محلية حروفها سامية جنوبية، وقريبة جدا من الكتابة العربية الجنوبية والحبشية، أما اللهجة فعربية شمالية، وهي أيضا سامية جنوبية، وأما عصرها، فلن يكون أحدث من القرن الخامس أو السادس ق. م، وعلى أي حال، فرغم أن البعض يعتقد أنها مسيحية، فمن الثابت أنها عربية جاهلية وضعت قبل ظهور الإسلام2. وقد قدمت لنا هذه النقوش بعض أسماء ملوك لحيان، منها "هنوس بن شهر" و"ذو أسفعين تخمى بن لوذان" الذي يرجع حكمه إلى النصف الأول من القرن الأول قبل الميلاد، وقد أنشأ بيتا للإله "ذو غابت" إليه لحيان، كما نعرف من النص "Js 85" الذي يذكر كذلك الملك "شامت جشم لن لوذان"3. ونقرا في النص"Js 85" أن معبد المدينة قد أصيب بهزة أرضية في عهد الملك "منعى لوذان بن هانؤاس"- والذي حكم فيما بين عامي 35-30ق. م، فيما يرى كاسكل -وقد كانت تلك الهزة من القوة بحيث سقط سقف المعبد على أعضاء مجلس المدينة "هجبل -هاجبل" الذين كانوا مجتمعين في المعبد وقت الحادث، ثم قتل أكثرهم، وأن القوم لم يتمكنوا من إعادة بناء المعبد، إلا بعد فترة طويلة، فيما بين عامي 127، 134م، مما يدل على الحالة الإقتصادية السيئة التي كانت تمر بها البلاد، فضلا عن الإضطرابات، وضعف الحكومة4. ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن هذا المعبد، الذي يقع في الخريبة الحالية، والذي أشار إليه "جوسين وسافينياك" قد وجدت فيه تماثيل بطول الإنسان لملوك لحيان، كسر بعضها أهل العلا أنفسهم، وأنقذ البعض الآخر، وإن كنا لا نعرف مكانها الآن، وعلى أي حال، فهذه التماثيل متأثرة بالنحت الفرعوني في النصف   1 ديتلف نلسن: التاريخ العربي القديم ص43. 2 نفس المرجع السابق ص43-44. 3 جواد علي 2/ 248، وكذا W. CASKEL, OP. CIT., P.41, 88-90 4 جواد علي 2/ 249، وكذا W. CASKEL, OP. CIT., P.41-2 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 الأعلى من الجسم، ومن حيث اللبس، ولكنها تحمل الطابع العربي المتمثل في شكل الوجه، وما وضع على الرأس مما يشبه العقال والعمامة1. ويذهب "كاسل" إلى أن الأنباط قد استولوا على "الحجر" في عام 65ق. م، ثم ساروا منها إلى "تيماء" ثم قطعوا كل اتصال للحيانيين بالبحر، فاستولوا على ميناء "لوكي كومة" التابع للحيانيين، وأحاطوا بهم من كل الجهات، كما يبدو أن الطريق التجاري قد غير اتجاهه بفعل النبطيين في جنوب الحجر، فكان يمر على مسافة سبعة كيلات إلى الشرق من واحة ديدان القديمة، وهكذا تم القضاء على البقية الباقية منها، ثم أخضعوها لنفوذهم، وإن عاد السلطان مرة أخرى للحيانيين بعد سقوط البتراء على أيدي الرومان في عام 106م2، والذين مدوا نفوذهم إلى منطقة تبعد عشرة كيلو مترات إلى الشمال من ديدان3. على أن الأمر، إنما كان جد مختلف بالنسبة إلى سلطة الملوك، إذ انتقلت سلطاتهم إلى مجلس المدينة، ومن ثم فقد بدأ القوم لايهتمون كثيرا بتسجيل أسماء الملوك في كتاباتهم4، بل إن النصوص من هذه الفترة إنما تدل على اضطراب في الأمور، وعلى حكم غير مستقر، وعلى سلطة غير وطيدة الأركان، ويذهب "كاسكل" إلى أن النصوص قد تشير كذلك إلى هجوم حبشي على طول سواحل البحر الأحمر العربية5، يرى بعض العلماء أنه ربما وقع على أيام ملك أكسوم "Sembruthes" فيما بين نهاية القرن الرابع، وبداية القرن الخامس الميلادي6. هذا وقد عثر على كتابات عبرية ونبطية في وادي "ددان" "ديدان في الترجمة السبعينية7، ترجع إلى حوالي عام 300م، وما بعدها، مما يدل على أن قوما من يهود، فضلا عن قوم من النبط، أو ممن يتكلمون بالنبطية، قد استقروا في هذه المنطقة، وعلى أي حال، فإن اليهود كانوا قد بدءوا يهاجرون إلى الحجاز منذ   1 عبد الرحمن الأنصاري: المرجع السابق ص81. 2 جواد علي 2/ 255، وكذا W. CASKEL, OP. CIT., P.42 3 جواد علي 2/ 253، قارن: P.K. HITTI, OP. CIT., P.72 4 W. CASKEL, OP. CIT., P.43 5 جواد علي 2/ 253 6 نفس المرجع السابق ص253 وكذا F. ALTHEIM AND R. STIEHL, OP. CIT., P.100. 7 انظر عن الترجمة السبعينية للتوراة، كتابنا "إسرائيل" ص48-50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 القرن الأول والثاني بعد الميلاد، حتى إذا كان معظم سكان وادي القرى إلى يثرب من يهود1. وأما الدين اللحياني، فهو دين عربي جنوبي، كما يتبين من أسماء الآلهة وأسماء الأفراد، ومن ثم فإننا نجد إلى جانب الأسماء السامية المشتركة لبعض المعبودات -مثل "إل" أسماء آلهة سامية جنوبية مثل "ود وسميع ونسر ومناة"، أما كبير الآلهة اللحيانية فهو "ذو غابت"، وقد كان له معبد عثر على أنقاضه في خرائب المدينة، كما عثر على اسم إله آخر هو "سلمان" الذي كان يكنى "أبا إيلاف"، وهو إله القوافل التي كان يتولى حمايتها وحراستها في ذهابها وإيابها، وهناك كذلك الإله "كاتب"، والذي يرى فيه "كاسكل" الإله المقابل للإله "تحوت"، إله الكتابة والحكمة عند المصريين القدامى2. وعلى أي حال، فلقد انتهت دولة اللحيانيين في فترة لا نعرفها على وجه التحقيق، بل لا نعرف كذلك كيف انتهت، ومن الذي قضى عليها، وإلى أين ذهب اللحيانيون بعد سقوط دولتهم، فربما عاد معظمهم إلى البادية، واندمج في قبائلها3، وربما اتجه فريق منهم -كما تذكر المصادر العربية- إلى العراق، وتركزوا في الحيرة، ومن هنا رأى البعض أن "أوس بن قلام" منهم، وأنه حكم الحيرة حينا من الدهر4، وربما بقوا في نفس منطقتهم، كما نفهم من الأحداث التي جرت عند ظهور الإسلام. ويروي الأخباريون أن القوم من "بني لحيان بن هذيل بن مدركة بن الياس بن مضر"، فهم عدنانيون، كانوا ينزلون في شمال شرقي مكة، ويبدو أنهم لم يكونوا من القبائل القوية عند ظهور الإسلام5. وتروي المصادر العربية أن اللحيانيين كانوا على خلاف مع الرسول -صلى الله   1 جواد علي 2/ 256 وكذا W. CASKEL, LIHYAN UND LIHYANISCH, KOLN UND OPLADEN, 1954, P.44 2 أدولف إرمان: ديانة مصر القديمة، ترجمة عبد المنعم أبو بكر، محمد أنور شكري، القاهرة 1952 ص67-68، جواد علي 2/ 256-257، ديتلف نلسن: المرجع السابق ص44، وكذا URK, IV, P.53 3 جواد علي 2/ 255، وكذا W. CASKEL, OP. CIT., P.44 4 المحبر ص358، وكذا W. CASKEL, OP. CIT., P.44 5 المعارف ص31، الاشتقاق 1/ 109، تاج العروس 10/ 324. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 عليه وسلم- في بدء الدعوة، وأنه -صلوات الله وسلامه عليه- قد قام بغزوهم في السنة السادسة من الهجرة "628م" في ديارهم، بين أمج وعسفان، فاعتصموا برءوس الجبال، وهجم الرسول -صلى الله عليه وسلم- على طائفة منهم على ماء لهم يقال له "الكدر" فهزموا وغنم المسلمون أموالهم1، وربما كان ذلك بسبب غدرهم "بمرثد بن أبي مرثد الغنوي" وصحبه، فيما عرف بغزوة الرجيع في السنة الرابعة من الهجرة2 "625م".   1 تاريخ الطبري 2/ 595، ابن الأثير 2/ 188، ابن كثير 4/ 149، المحبر ص114. 2 ابن الأثير 2/ 167-168، المحبر ص118، تاريخ الطبري 2/ 538-542، ابن كثير 4/ 62-69، وكذا EI, III, P.26-27 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 الفصل السادس عشر: التدمريون 1- مدينة تدمر وتطورها التاريخي : تقع مدينة تدمر على مبعدة 100 كيلو مترا من حمص، 150 كيلو مترا إلى الشمال الشرقي من دمشق، في منتصف المسافة تقريبا بين دمشق والفرات1، ومن ثم فقد كانت موقعا مهما على الطريق التجاري بين العراق والشام، بل كانت نقطة التقاء التجارة القادمة من أسواق العراق، وما يتصل بها من أسواق في إيران والهند والخليج والعربية الشرقية، وبين تلك التي على البحر المتوسط، وبخاصة في الشام ومصر، فضلا عن اتصالها بالعربية الغربية وبأسواقها الغنية بأموال إفريقيا والعربية الجنوبية والهند، وهكذا أصبحت "تدمر" ملتقى جميع القوافل، وبخاصة فيما بين القرن الأول قبل الميلاد، وعام 273م، ومن ثم فقد وجد في نقوشها عبارة "زعيم القافلة" و"زعيم السوق"، باعتبار أن المشار إليه من زعماء المواطنين2. واسم "تدمر" اسم سامي، يرجع ظهوره للمرة الأولى إلى أيام الملك الأشوري "تجلات بلاسر" الأول "1116-1090ق. م" في صورة "تدمر أمورو"3، وأما إسم "تدمر" فهو النطق الآرامي لكلمة "تتمر" العربية، ومعناها المدينة التي   1 EB, 17, P.161 2 جواد علي 3/ 81، قارن: مروج الذهب 2/ 244-245، وانظر: P.K. HITTI, OP. CIT., P.73 وكذا G.A. COOKE, OP. CIT., P.274, 279 3 D.D. LUCKENBILL, OP. CIT., I, 287, 308 وكذا E. DHORME, PALMYRA DANS LES ASSYRIENS, RB, 1924, P.106 وكذا EB, 17, P.161. وكذا EI, 3, P.1020 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 يكثر فيها التمر والنخيل1، وإن كنا على غير يقين من اشتقاق كلمة "تدمر"، وربما كان لها صلة بكلمة، "تدمورتا Tedmorta" السريانية، ومعناها "يعجب من"2. وقد ورد اسم "تدمر" في المصادر اليهودية، فكاتب الحوليات العبراني يسجل في التوراة، أن سليمان قد بنى مدينة تدمر في البرية3، والأمر كذلك بالنسبة إلى المؤرخ اليهودي "يوسف بن متى"4، وليس من شك في أن وجهة النظر اليهودية هذه خاطئة؛ ذلك لأن المدينة -كما أشرنا آنفا- إنما ذكرت في الوثائق الآشورية قبل أن يولد سليمان نفسه، وبفترة تسبق ما دون في التوراة بشأنها، بأكثر من سبعة قرون5. ومن هنا فقد رأى العلماء أن الرواية التي تذهب إلى أن سليمان هو الذي بنى تدمر، إما إنها أرادت تعظيم شأن مملكة سليمان كعادة الروايات اليهودية -وكأن مكانة النبي الكريم لا تأتي إلا ببناء المدن واتساع مملكته، وليست برسالته السماوية- ومن ثم فقد نسبت إليه بناء هذه المدينة، التي تقع في منطقة بعيدة عن حدود دولته إسرائيل6، وأما أن هناك خطأ وقع فيه كاتب الحوليات العبراني حين خلط بين "ثامار" التي أسسها سليمان، وهي موضع جاء ذكره في سفر حزقيال7، ويقع إلى الجنوب الشرقي من "يهوذا" وإن كنا لا ندري موقعه الآن على وجه التحقيق8، وربما كانت الشهرة التي اكتسبتها "تدمر" على أيام كتبة الأسفار العبرانيين هي السبب في نسبة بنائها إلى النبي الكريم، ومن ثم فقد ذهب هؤلاء الكتبة إلى أن المدينة   1 حسن ظاظا: المرجع السابق ص115. 2 فيليب حتى: المرجع السابق ص433. 3 ملوك أول 9: 18، أخبار أيام ثان 8: 4. 4 EI, III, P.1020. وكذا F. HOMMEL, ZDMG, XIIV, 547 وكذا E. DHORME, OP. CIT., P.106 5 انظر عن تاريخ كتابة أسفار التوراة كتابنا "إسرائيل" ص33-34. 6 جواد علي 3/ 77، فيليب حتى: المرجع السابق ص432- وكذا EB, P. 4886 وكذا J. HASTINGS, OP. CIT., P.889 7 حزقيال 47: 19. 8 جواد علي 3/ 77، قاموس الكتاب المقدس 1/ 282. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 التي بناها سليمان، ليست هي "ثامار"، وإنما "تدمر" والتي كانت مدينة عامرة، بسكانها، وذات شهرة في مجاوراتها فيما بين عامي 300، 200ق. م1. وأما الاسم اليوناني للمدينة فهو "بالميرا Paimya"، وهي ترجمة لكلمة "ثامار" العبرية، وتعني مدينة النخيل، وإن كان هناك من يرى أن كلمة "Paimyra" من كلمة "Paima" بمعنى النخل حتى الآن في بعض اللغات الأوربية، وأن الإسكندر المقدوني هو الذي أطلق عليها اسم "Paimyra" بعد أن استولى عليها، بسبب ما يكتنفها من غابات النخيل، ومن ثم فقد عرفت عند اليونان واللاتين بهذا الاسم، وهو رأي لا يزال بعد في مرحلة التخمين، ويحتاج إلى ما يدعمه من أدلة وبراهين2. وهناك ما يشير إلى وجود نفوذ سلوقي في تدمر، وربما كانت من نصيب السلوقيين بعد وفاة الإسكندر الأكبر في عام 323ق. م، وتقسيم امبراطوريته بين قواده، وعلى أي حال، فهناك حصن سلوقي في المدينة، وربما أقيم في عام 280ق. م، كواحد من سلسلة الحصون التي أقامها القوم في المناطق الإستراتيجية التي خضعت لهم3. أما الروايات العربية فلا تفيد علما، ولا تصلح أن تكون دليلان فهي روايات متأخرة دخلت إلى المسلمين من أهل الكتاب، فأخذوها بغير تحقيق ولا تدقيق4، فضلا عن أن ضخامة آثار المدينة وعظمتها، ربما أدهشتهم، ومن ثم فقد نسبوا بناءها إلى الجن بأمر من سليمان عليه السلام5، على أن "ياقوت الحموي" إنما يستبعد نسبة تدمر إلى سليمان، معللا ذلك بأن أهلها إنما يزعمون أنها ترجع إلى ما قبل عهد سليمان، بفترة تقارب ما بيننا وبينه، وأن الناس إذا ما رأوا بناء عجيبا جهلوا بانيه، أضافوه إلى سليمان وإلى الجن6.   1 جواد علي 3/ 78، وكذا F. ALTHEIM AND R. STIEHL, OP. CIT., P.344 وكذا J. HASTINGS, OP. CIT., P.889 2 عباس العقاد: الثقافة العربية أسبق من ثقافة اليونان والعبريين ص22، وكذا EI, III, P.1020 3 جواد علي 3/ 85، وكذا FREYA STERK, ROME ON THE EUPHRATES, 1967, P.242 4 جواد علي 3/ 78 5 فيليب حتى: المرجع السابق ص433، بلوغ الأرب 1/ 209-210، ياقوت 2/ 17-19، البكري 1/ 306-307، صحيح الأخبار 2/ 6-7، قارن: مروج الذهب 2/ 244-245. 6 ياقوت 2/ 27، قارن: الأخبار الطوال ص20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 ومع ذلك فهناك من يقدم لنا أبياتا من شعر "النابغة الذبياني"، يذهب فيه إلى أن المدينة من بناء جن سليمان، وفات أصحاب هذا الزعم أن النابغة لم يكن عالما من علماء التاريخ والآثار، حتى يكون شعره حجة في بناء مدينة يرجع ظهورها في التاريخ إلى أخريات القرن الثاني عشر، أو الحادي عشر قبل الميلاد، ثم من أدرانا أن هذا الشعر للنابغة الذبياني حقا، فإن من نسبوا شعرا إلى آدم وهابيل وقابيل، وإلى الجن وإبليس، أليسوا بقادرين على وضع شعر على لسان النابغة الذبياني1، وأما قصة بناء المدينة بأمر من امرأة تدعى "تدمر بنت حسان بن أذينة"، فليست إلا من هذا النوع من الكتابات التي ملأ الأخباريون بها صفحات كتبهم2. ولعل "بليني" "32-79م" أول الكتاب الكلاسيكيين الذين أشاروا إلى تدمر، فوصفها بأنها مدينة شهيرة ذات موقع ممتاز، وأرض خصبة، وأن بها عيونا وينابيع، وتحيط بحدائقها الرمال، وأنها تقع بين الأمبراطورية الرومانية والفارسية، ومن ثم فقد اضطر أهلها -ضمانا لاستقلالهم- أن يقفوا موقف الحياد بين هاتين القوتين المتصارعتين، ثم تابع "بليني" من جاء من بعده من الكتاب، مما يدل على أن شهرة المدينة كانت في ازدياد3. وأما أقدم كتابة عثر عليها في المدينة، فإنما ترجع إلى شهر نوفمبر من السنة التاسعة قبل الميلاد4، وإن كان قد عثر في مدينة "دورا" -وتقع في مكانها الصالحية الحالية- على العرات الأوسط تجاه تدمر، على نقش يعتبر من أقدم النقوش التدمرية التي كشف عنها حتى الآن، ويرجع إلى عام 33ق. م5، وفي هذا الوقت كانت تدمر مركزا تجاريا خطيرا بين دولتي الروم والفرس، ومع ذلك فإن أكثر ما نعرفه عنها إنما يرجع إلى ما بعد الميلاد، حيث لدينا نصوص إلى عام 271م6.   1 جواد علي 3/ 79، صحيح الأخبار 2/ 6، بلوغ الأرب 1/ 209-210، العدد11، عام 1898م ص496، ياقوت 2/ 17. 2 البكرر 1/ 307، ياقوت 2/ 17. 3 W. WRIGHT AN ACCOUNT OF PALMYRA AND ZENIBIA WITH TRAVELS AND ADVENTURES IN BASHAN AND THE DESERT, P.110 وكذا PLINY, V, XXI, 88 وكذا EB, P.4886 4 جواد علي 3/ 81، حسن ظاظا: المرجع السابق ص115 وكذا G.A. COOKE, OP. CIT., P.141 5 CAH, IX, P.599 6 حسن ظاظا: المرجع السابق ص115. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 وليس من شك في أهل كانوا عربا -شأنهم في ذلك الأنباط في البتراء- بدليل وجود بضع المصطلحات والكلمات العربية الأصلية في كتاباتهم، كما أن أسماء الأصنام عندهم عربية، والأمر كذلك بالنسبة إلى أسماء الأعلام، ومن ثم فقد رأى بعض العلماء أنهم من القبائل العربية التي أخذت تستولي على المناطق الخصبة في شرق الأردن، عقب انهيار الدولة البابلية الحديثة، وسقوط بابل تحت السيادة الفارسية في عام 539ق. م، ثم أخذت تستعمل الآرامية -وهي لغة الكتابة والثقافة في غرب الفرات وقت ذاك- لغة لها، ومع هذا فإن لغتهم هذه، ليست إلا لهجة من اللهجات الآرامية، وأنها لا تختلف كثيرا عن لغة الأنباط، وعن الآرامية المصرية1. ومع ذلك فإن اللهجة الآرامية التدمرية لها مميزات بررت أن يختصها بعض الباحثين بدراسة لغوية منفصلة، ومن أشهر هذه الدراسات كتابات المستشرق الفرنسي "كانتنيو"2، وقد طور التدمريون الكتابة الآرامية، وعنهم انتقلت إلى السريان في "الرها"، فظهر منها الخط السرياني القديم المعروف باسم "الخط السرنجيلي" الذي ظهر بعد الانشقاق المذهبي بين سريان الرها في عام 489م، ثم ظهور لهجة غربية تسمى اليعقوبية، وشرقية تسمى النسطورية3. وأما الثقافة التدمرية، فكانت مزيجا من الثقافات العربية والآرامية واليونانية واللاتينية؛ ذلك لأن تدمر -كما كانت البتراء من قبل- قد نمت في ظل حضارة الآراميين، واتخذت لغتهم، فضلا عن المبادئ الأساسية في تفكيرهم الثقافي والديني، هذا في وقت الذي أخذت فيه كذلك كثيرا عن دنيا اليونان والرومان4. هذا، وقد قامت كذلك في تدمر جالية يهودية، منذ وقت لا نستطيع تحديده   1 محمد بيومي مهران: حركات التحرير في مصر القديمة ص342-343 وكذا R. GHIRSHMAN, IRAN, 1954, P.131-132 وكذا P.K. HITTI, OP. CIT., P.76 وكذا EB, 17, P.161 وكذا A.T. OLMSTEAD, HISTORY OF THE PERESIAN EMPIRE, CHICAGO, 1970, P.50-51 2 حسن ظاظا: الساميون ولغاتهم ص115، وكذا J. CANTINEAU, GRAMMAIRE DU PALMYRENIEN EPIGRAPHIQUE, LE CAIRE, 1935. 3 حسن ظاظا: المرجع السابق ص115-121. 4 موسكاتي: المرجع السابق ص203. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 على وجه اليقين، فربما كان ذلك قبل سقوط القدس في أيدي الرومان على أيام الإمبراطور "فسباسيان" "69-79م"، ثم عمل هؤلاء اليهود بالتجارة وربما نشطوا في تهويد بعض السكان، وأن فريقا من هؤلاء اليهود، ربما رجعوا إلى القدس قبل تدميرها -المشار إليه آنفا- على يد "تيتوس" في عام70م1. وعلى أي حال، فلقد بدأت تدمر تزداد قوة وشهرة منذ النصف الأول من القرن الأول قبل الميلاد، بسبب الأهمية التجارية والدبلوماسية لموقعها بين إمبراطوريتي الفرس والروم المتنافستين، ثم ساعد موقعها الجغرافي على عدم تمكن أي من الفريقين المتنازعين من سهولة الاستيلاء عليها2، وقد حاول "مارك أنطونيو" عام 41ق. م، الاستيلاء على خزائن المدينة ففشل، وإن أصابها منه ضرر كبير3 غير أن مدينة مهمة كتدمر، لها مال وثروة، وليس لها جيش قوي ضخم، ولا مجال لتكوين هذا الجيش فيها، لا يمكن أن تبقى في مأمن ومنجاة من مطامع الغزاة، ولو كانت في بقعة منعزلة، أو في بادية بعيدة4. ومن هنا، فإن تدمر -على الأرجح- قد اعترفت بنوع من السيادة عليها للرومان، منذ أوائل العصور المسيحية، ودليلنا على ذلك المراسيم الإمبراطورية التي ترجع إلى عهد "تيبيريوس" "14-37م"5، والتي تتعلق بالرسوم الجمركية، وقد عثر في تدمر على قوائم ترجع إلى عام 17م، وتبين بعض الرسوم على البضائع أثمانها باليونانية والتدمرية6، هذا ويبدو أن تدمر قد أصبحت على أيام "فسباسيان" تحت الإشراف الروماني، وإن كان هذا لا يعني الخضوع لروما، أو أن الإشراف على الشئون المدنية بالمدينة، كان بأيدي الرومان، وإنما كان هناك إشراف رومي عام   1 جواد علي 3/ 84، وكذا UJE, 8, P.381 2 فيليب حتى: المرجع السابق ض433. 3 EB, 17, P.162. وكذا W. WRIGHT, OP. CIT., P.110 4 جواد علي 3/ 84. 5 بدأ السيد المسيح عليه السلام، وكان قد ناهز الثلاثين من عمره، يبشر بدعوته في يهوذا في عهد هذا الإمبراطور، وكان قد ولد على أيام سلفه أول قياصرة روما "أغسطس" "27ق. م -14"، ويرى بعض الباحثين أنه ولد فيما بين عامي 6، 2ق. م، بينما يرى آخرون أنه ولد في عام 4م ورفع إلى السماء في عام 27م وربما، في 23 مارس 29م"انظر: هج. ويلز: موجز تاريخ العالم ص172، 416، فيليب حتى: المرجع السابق ص311-312، 363". 6 G.A. COOKE, OP. CIT., P.313-332 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 على المدينة، بدليل أن الروم قد سمحوا للمدينة بحق الاحتفاظ بحامياتها "Miiitia" في خارج تدمر1. وقد بذل "تراجان" "98-117م" جهده لضم تدمر إلى المقاطعة العربية، التي أنشأها في عام 106م، واتخذ من "بصرى" مقرا لها، وفي عام 130م، زار "هدريان" "117-138م" تدمر، وجعلها تابعة لروما، ثم منحها لقب "هدريانا بالميرا" "Hadrinana Paimya" و"هدريانوبوليس" "Hadrianopoiis"، كما أصبحت المدن التابعة لتدمر، تابعة لروما2، وفي الواقع لقد نالت تدمر عناية كبيرة من "هدريان"، حتى قيل أنه "المؤسس الثاني" لها، فاهتم بحماية الطرق البرية التي توصلها إلى نهر الفرات، والتي كانت شريانا مهمًا للتجارة العالمية وقت ذاك، ثم كانت العلاقة الطيبة بين الفرس والروم في عهده سببا في رخاء تدمر، فوصلت الحاميات الرومية إلى شواطئ الفرات الغربية، وأقام التجار في مدينة "Voiogasia"، كما بنوا لهم معبدا هناك3، ولدينا كتابة ترجع إلى عام 137م، أصدرها مجلس شيوخ المدينة لتنظيم التجارة وتثبيت الضرائب، وكيفية جبايتها4. وفي أوائل القرن الثالث الميلادي منح "سبتميوس سيفيروس" "193-211م" تدمر حقوق المستعمرة، واستمرت كذلك حتى على أيام "كراكلا" "211-217م"، وهكذا اكتسبت تدمر حق الملكية والإعفاء من الخراج، فضلا عن الحرية التامة في إدارة شئونها، وبدأ كبار القوم يضيفون إلى أسمائهم العربية أو الآرامية، أسماء رومية، بل وقد أضافت إحدى الأسر اسم "سبتميوس" أمام أسمها السامي، مما يدل على نوالها حق الرعاية في عهد "سيفيروس"، وربما كان ذلك سبب الخدمات التي قدمتها في الصراع ضد الفرس، إلا أن ذلك لا يعني أن   1 جواد علي 3/ 86، وكذا J. STARCKY, PALMYRE, P.27 2 فيليب حتى: المرجع السابق ص435، وكذا EB, 17, P.162 3 جواد علي 3/ 82، وكذا M. ROSTOUTZEFF, CARAVAN CITIES, P.144 وكذا F. STARK, OP. CIT., P.253 وكذا MOMMSEN, PROVINCES OF THE ROMAN EMPIRE, 2, P.236 4 جواد علي 3/ 87، المشرقي، الجزء12، عام 1898، ص538، وكذا EB, 17, P.162 وكذا W. WRIGHT, OP. CIT., P.III, وكذا G.A. COOKE, OP. CIT., P.322 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 تدمر، إنما أصبحت مقاطعة رومية تماما، وإنما كانت حكومة شبه مستقلة، تدير شئونها الإدارية بنفسها، ولكنها تخضع لإشراف روما عليها1. وانتهزت تدمر فرصة انشغال روما بغزوات الجرمان التي كانت تهدد دولتهم في أوروبا الغربية، وأخذت توسع رقعتها، وإن ظلت وفية للروم، وهكذا أصبحت دولة تدمر تشمل عددا من المدن الصغيرة التابعة لها، مثل "دورا" و"الرصافة"2، وقد استخدمت "دورا" كمعقل لحماية تجارة تدمر الناشئة، وقد وجدت فيها بقايا أبنية ذات زخارف نافرة تمثل جنودا تدمريين، وأما "الرصافة" فقد دعيت في كتابة أثرية أشورية تعود إلى أخريات القرن التاسع قبل الميلاد باسم "رصابا Rasappa" وهي نفس المدينة التي جاءت في التوراة3 تحت اسم "رصف" بمعنى "الجمر المتوهج" وهدمها "سنحريب" "705-681ق. م" في أوائل القرن السابع ق. م، وقد عرفت فيما بعد باسم "سرجيوس بولس" نسبة إلى قديسها المحلي "سرجيوس" الذي استشهد في عهد دقلديانوس" "284-305م"4.   1 فيليب حتى: المرجع السابق ص435-436. وكذا G.A. COOKE, OP. CIT., P.250, 312 وكذا CAH, XI, P.139, XII, P.18 2 عب العزيز سالم: المرجع السابق ص249. 3 ملوك ثان: 19: 12، أشعياء 27: 12. 4 فيليب حتى: المرجع السابق ص436، وكذا EB, 17, P.162 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 2- أذينة : ارتفعت أسرة أذينة التي كان يتصدر اسمها كلمة "سبتميوس" إلى مكان الزعامة في تدمر في منتصف القرن الثالث الميلادي، وهناك ما يشير إلى أن جد "أذينة" الكبير كان يدعى "ناصر" "نصرو" والد "وهب اللات" "وهبلات"، وأن هذا الأخير إنما هو والد "خيران" أبو "أذينة"1، وهناك كتابة ترجع إلى عام 235م ورد فيها اسم "أذينة بن خيران بن وهب اللات بن نصرو"، وأنه كان عضوا   1 جواد علي 3/ 90-91، وكذا FRANZ ALTHEIM AND RUTH STIEHL, OP. CIT., P.252 وكذا J. CANTINEAU, INVENTAIRE DES INSCRIPTIONS DE PALMYRE, 8, 1936, NO.55 وكذا J. CANTINEAU, PALMYRENIEN DU TEMPLE DE BEL, P.138 وكذا SYRIA, XII, 1931 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 بمجلس الشيوخ الروماني1، كما أن أباه "خيران" كان يحمل لقب "سبتميوس خيران"، وأنه كان "رأس" تدمر، وعضو مجلس شيوخها الممتاز، وأنه قد تمكن من تثبيت حكم أسرته، ومن الهيمنة على شئون المدينة، ومن توسيع تجارتها، فاكتسب بذلك منزلة كبيرة عند أهل تدمر وعند الرومان2. وفي عهد "خيران" هذا، أخذت تدمر دورها في القضايا الدولية، وما أن قامت الدولة الساسانية في عام 226م، تحت زعامة "أردشير بن بابك بن ساسان" "226-241م"3، حتى بدأ الشرق يضطرب بالصراع بين الروم والفرس، وكان على التدامرة أن يختاروا الانضمام إلى إحدى القوتين الكبيرتين، فآثروا الإنضمام إلى الروم بسبب العلاقات القديمة، ولأن الأمبرطور الروماني بسبب بعد روما، إنما هو أقل خطرا عليهم من الإمبرطور الساساني القريب منهم، واغتنم أهل تدمر فرصة نجاج "سابور" "241-272م" ملك فارس في التوغل في سورية، والقبض على الإمبراطور الروماني "فاليران" "253-260م" بعد هزيمة مخجلة للجيوش الرومانية قرب "ايسا" في عام 260م، كسب الساسانيون من ورائها شهرة عريضة، فضلا عن أسر ستين ألفا من جنود الرومان، واستيلاء الفرس على آسيا الصغرى وشمال سورية4. وكان أذينة له ثأر عند الرومان، منذ أن قتل قائدهم "روفينوس" أباه "أذينة الأول" وعدم موافقة الإمبراطور فاليران على أن يأخذ له بثأر أبيه من "روفينوس"، ومن ثم فإنه ما أن علم بهزيمة الروم في عام 260م، وأسر "فاليران" حتى أسرع بالاتصال بالفرس، مقدما لهم الهدايا، وعارضا عليهم صداقته، إلا أن الإمبرطور الفارسي، الذي كان يحس في ذلك الوقت أنه ملك الشرق والغرب جميعا، احتقر العرض التدمري، وأمر بإلقاء الهدايا في النهر، وتوعد أذينة بسوء المصير.   1 F. ALTHEIM AND R. STIEHL, OP. CIT., P.252 2 جواد علي 3/ 91، المشرق، الجزء 13 عام 1898 ص50 وكذا F. ALTHEIM AND R. STIEHL, OP. CIT., P.252 3 انظر: آرثر كريستنس: إيران في عهد الساسانيين، ترجمة الدكتور يحيى الخشاب ص72-83. 4 آرثر كريستنس: المرجع السابق ص210-212، عبد العزيز سالم: المرجع السابق ص251، وكذا A. MUSIL, PALMYRENA, P.247 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 جزاء وفاقا على جرأته على مخاطبة ملك الملوك "شاهنشاه إيران وأنيران، أي ملك ملوك إيران وغير إيران"، وهو لا يعدو أن يكون شيخا لمدينة صغيرة في بيداء قاحلة، لا أهمية لها ولا نفع منها1. وكان هذا التصرف الأحمق من ملك الفرس، سببا في أن يجمع أذينة القبائل بظاهر تدمر تحت إمرة ولده "هيرودوس"، والفرسان تحت قيادة "زيدا"، والقواسة ورماة السهام تحت قيادة "زباي"، وأن يضمم إلى أولئك وهؤلاء فلول جيش "فالريان"، وأن يخرج بكل هذه الجموع إلى "المدائن" للانتقام من "سابور"، ولإنقاذ "فالريان" من الأسر، وهناك على ضفاف الفرات تدور رحى الحرب بين أذينة والفرس، وتنتهي المعركة الضارية بهزيمة منكرة للفرس، يصل مداها إلى أن يترك "سابور" حريمه وأمواله غنيمة في أيد التدمريين، وأن يفر بالبقية الباقية من فلول جيشه إلى ما وراء الفرات ثم لا تستطيع هذه البقية أن تعبر النهر إلا بشق الأنفس وإلا بعد خسائر فادحة في الأرواح، بل وتذهب بعض الروايات إلى أن "أذينة" قد طارد المهزومين حتى أسوار عاصمتهم "اصطخر"2 -التي خلفت مدينة "برسيبوبوليس" القديمة- وإن لم ينجح في فك أسر الإمبراطور السجين، ولكنه استولى على الكوخ ونصيبين، بل وامتد نفوذه إلى الشام، وبعض أقاليم آسيا الصغرى الرومية3. ويكتب "أذينة" إلى الإمبراطور الروماني الجديد "جالينيو" "260-268م" بن فالربان، بكل هذه الأحداث، فيطرب الأخير لسماع هذه الأخبار، ويطلب من أذينة الاستمرار في الحرب، حتى ينقذ "فالريان"، ثم ينعم عليه في عام 262م بلقب "زعيم الشرق" "Dux Orientis"، مما جعله أشبه بنائب الإمبراطور   1 جواد علي 3/ 93، آرثر كويستنس: المرجع السابق ص210 وكذا W. Wright, Op. Cit., P.115. وكذا E. Gibbon, Op. Cit., P.236 2 بدأ الفرس في إنشاء مدينة "اصطخر" على أيام الملك "دارا الأول" "522-486ق. م" ولكن ذلك لم يتم إلا على أيام "ارتختشتا" الأول، حوالي عام 460ق. م "انظر: أحمد فخري: المرجع السابق ص229، آرثر كريستنس: المرجع السابق ص80" 3 فيليب حتى: السابق ص437، آرثر كريستنس: المرجع السابق ص80، 210. وكذا Malalas, Xxiii, 5,2 وكذا W. Wright, Op. Cit., P.118-120 وكذا A. Musil, Palmyrena, P.247 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 الروماني في الشرق1، وكان "فالريان" قد أنعم عليه في عام 258م، بمرتبة "القنصلية"2. وبدأ "أذينة" "أودينات Odenathus" يسترجع أرض الإمبراطورية الرومية من الفرس، فنجح في استرداد نصيبين -كما أشرنا آنفا- وحران، واستقبل هناك استقبال الأبطال، ثم سرعان ما اتجه في عام 264م، نحو "طيسفون" وضرب الحصار حولها، وكاد الإمبراطور الفارسي أن يستسلم، لولا أن المؤامرات الرومية قد لعبت دورا خطيرا في إفساد نجاح أذينة، ذلك أن القائد الروماني "مكريانوس" -الذي كان سببا في هزيمة الروم ووقوع فالريان في الأسر- قد أعلن الثورة على "جالينو"، ونصب نفسه امبراطورا على القسم الشرقي من الإمبراطورية الرومانية "آسيا الصغرى والشام ومصر"، ومن ثم فقد اضطر أذينة إلى أن يرفع الحصار عن الفرس، وأن يعود لإخماد هذه القتنة الجديدة، إلا أنه ما أن بدأ يعد العدة لمواجهة "مكريانوس" حتى علم بقتله، ثم اتجه إلى حمص للقضاء على ولده "كياثوس"، وبعد أن شدد الحصار على المدينة، قتل "كاليستوس" سيده "كياثوس"، ورمى برأسه من فوق السور تحت قدمي أذينة، وفتح الأبواب والتمس الأمان منه، وبذا انتهت ثورة القائد "مكريانوس"، غير أن "كاليستوس" سرعان ما عاد إلى الثورة من جد، ومن ثم فقد أمر أذينة بعضا من رجاله باغتيال "كاليستوس" وعاد الهدء إلى هذه المنقطة الهامة من الإمبراطورية الرومانية بفضل جهود "أذينة"3. وفرح جالينيو" بالقضاء على الثورة، ومن ثم فقد أمر عام 264م بمنح أذينة لقب "Imperator Touyius Orientis" أي "إمبراطور جميع بلاد الشرق"، وعهد إليه بالإشراف على جميع القوات الرومية في الشرق، والقضاء على فلول   1 المشرق، الجزء 13، عام 1898م ص639، وكذا W. Wright, Op. Cit P.120 وكذا E. Gibbon, Op. Cit., P.236 وكذا Eb 23, P.494 وكذا P.K. Hitti, Op. Cit., P.75 2 Eb, 17, P.162. وكذا G.A. Cooke, Op. Cit., P.286 وكذا Franz Altheim And Ruth Stiehl, Op. Cit., Ii, P.253 3 جواد علي 3/ 96، المشرق، السنة الأولى، الجزء 15، عام 18989م ص687، ثم نظر: ياقوت 4/ 55، وكذا F. Altheim And R. Stiehl, Op. Cit., P.250 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 جيش "مكريانوس" غير أن أذينة لم يكتف بكل هذا، فلقب نفسه بلقب "ملك الملوك" تقليدا لملك الفرس، كما أمر بأن تنقش صورته بجوار صورة الإمبراطور الروماني على النقود التي أخذت غنيمة من الفرس، أضف إلى ذلك أن مجلس الشيوخ الروماني قد منحه لقب "أغسطس"، وهكذا صار أذينة مساويا لإمبراطور روما نفسها1. وفي عام 265م، اتجه أذينة، أو ملك الملوك، إلى محاربة الفرس من جديد، ربما لأنه لم ينس إهانة "سابور" له، يوم مزق رسالته أما رسله، وربما رغبة منه في التودد إلى الرومان، ونيل الحظوة عند "جالينو"، وأيأ ما كان السبب فإننا نرى أذينة يترك ولده البكر من زوجته الأولى، ويدعى "سيبتميوس هيرودوس" نائبا عنه في تدمر، ثم يخرج على رأسه جيشه إلى "طيسفون"، فيضرب الحصار عليها، ويضطر "سابور" إلى أن يظهر استعداده لعقد محالفة مع أذينة، إلا أن الأخير طلب فك أسر "فاليران، وهو شرط في نظر الفرس جد عظيم، ومن ثم فقد أوقفت المفاوضات بين الطرفين2. وهنا يتغير الموقف -للمرة الثانية- في مصلحة الفرس، إذ يعبر "القوط" البحر الأسود، منتهزين فرصة غياب أذينة عن آسيا الصغرى والشام، وينزلوا بميناء "هرقلية" ويتجهوا نحو "قبادوقيا"، ومن ثم فإن أذينة سرعان ما يضطر إلى رفع الحصار عن مدينة الفرس، والعودة لقتال الغزاة الجدد، إلا أن القوط سرعان ما علموا بعودة أذينة، فعادوا إلى مياء هرقلية، ثم أبحروا منها عائدين إلى بلادهم3. وهنا، وفي هذه اللحظات التي وصل فيها أذينة إلى ذروة مجده، وبينما كان يجهز لجولة أخيرة مع الفرس، يفتح فيها "طيسفون"، يذهب البطل العربي- وكذا ولده هيرودوس- ضحية الغدر والخيانة في أحوال غامضة في عام 266م "أو 267م"، يلعب فيها ابن ماجه "معنى بن خيران" الدول الأول، وإن كان الروم   1 Eb, 17, P.162. وكذا E. Gibbon, Op. Cit., P.241 وكذا Cah, 12, P.1745 وكذا F. Altheim And R. Stiehl, Op. Cit., P.253 وكذا P.K. Hitti, Op. Cit., P.75. وكذا Syria, Xviii, 1937, P.2 2 جواد علي 3/ 98. 3 جواد علي 3/ 98-99، المشرق، السنة الأولى، الجزء15، عام 1898م ص691. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 ربما قد أدركوا خطورة أذينة على إمبراطوريتهم، فعملوا على التخلص منه، وبيد أقرب الناس إليه، وإن كان هناك من يرى عكس ذلك تماما، وأن الرومان بموت أذينة، إنما فقدوا الحماية لإمبراطوريتهم في الشرق، وأن المؤامرة ربما تكون قد لعبت فيها أطراف أخرى، قد تكون "الزباء" التي رأت أن العرش سوف يذهب إلى ابن ضرتها، بينما يحرم منه بنوها، وقد تكون عصبة من الوطنيين، خيل إليهم أن أذينة قد أصبح أداة طيعة في أدي الرومان فقرروا التخلص منه، وهكذا بات من الصعب على العلماء الوصول إلى قرار صائب، أو حتى قريب من الصواب، فالأدلة غير متوفرة، والوثائق صامتة، غير أن الظروف التي أعقبت مقتل أذينة، قد تثير، والوثائق صامتة، غير أن الظروف التي أعقبت مقتل أذينة، قد تثير أكثر من شك، فالجيش يبايع القاتل دون ثورة، أو حتى تردد، وأهل حمص يقتلون القاتل بعد حين من الدهر، ثم تنصيب "الزباء" بعده مباشرة، ألا يثير كل ذلك شكا؟ أو حتى يلقي شبهة من ظن في شخص آخر؟، ومع ذلك، فما لا شك فيه، أن هناك أمورا تحتاج إلى وقفة، ولكنها لا تقدم جديدا، ما لم تحدثنا الوثائق ع هذا الجديد1.   1 نفس المرجع السابق ص691 وما بعدها، فيليب حتى: المرجع السابق ص4389، جواد علي 3/ 99-100، وكذا P.K. Hitti, Op. Cit., P.75. وكذا E. Gibbon, Op. Cit., I, P.263 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 3- الزباء : جاءت الزباء أو "زنوبيا" إلى العرش وصية على ولدها القاصر "وهب اللات" بعد مقتل أبيه أذينة، وتدعى في الكتابات التدمرية "بيت زباي" "Bath Zabbay" أي "ابنة العطية"، وهي "الزباء" في المصادر العربية، وإن اختلفت هذه المصادر في اسم هذه المرأة، فيه "الزباء بنت عمرو بن ظرب بن حسان بن أذينة" وهي "ليلى" على زعم آخر، ولها أخت دعوها "زبيبة" لها قصر حصين على شاطئ الفرات الغربي، فكانت تشتو عند أختها، وتربع ببطن النجار، وتصير إلى تدمر، كما كان لها جنود، هم -في نظر هذه المصادر العربية- من العماليق والعرب العاربة الأولي، ويروي الأخباريون أن ملك العرب بأرض الحيرة، ومشارف الشام كان لعمرو بن الظرب، وكان جنود الزباء "بمعنى الجميلة ذات الشعر الطويل" من بقايا العماليق من عاد الأولى، ومن نهد وسليح ابني حلوان، ومن كان معهم من قبائل قضاعة، وكانت تسكن على شاطئ الفرات في قصر لها هناك، وتربع ببطن المجاز، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 وتصيف بتدمر1. وينسب الأخباريون إلى الزباء كثيرا من القصص، بعضها لطيف وبعضها غريب، وإن كان معظمه بعيد عن الحقائق التاريخية، فإذا ما تجاوزنا الاختلاف في نسبها، بل وحتى في اسمها "الزباء، فارغة، ميسون، ليلى"، لرأينا بعضهم ينسب إليها شعرا، وبعضهم ينسب إليها حكما وأمثالا، في لغة عربية بليغة، وإن كان هذا ليس غريبا، على من ينسبون إلى آدم وإلى إبليس شعرا مضبوطا وفق قواعد النحو والصرف، ومن ثم فليس من العجيب أن ينسبوا إلى الزباء شعرا كذلك2. وهناك رواية تزعم أن "جذيمة الأبرش" ملك الحيرة، كان قد قتل والد الزباء "عمرو بن الظرب"، ومن ثم فقد أرادت الزباء أن تثأر لأبيها، غير أن أختها "زبيبة" قد نصحتها بترك الحرب، واصطناع الحيلة عن طريق دعوة جذيمة إلى تدمر ثم قتله، وهكذا تنجح الزباء في استدعاء جذيمة إلى عاصمتها وفي قتله، إلا أن ابن أخته وخليفته "عمرو بن عدي" سرعان ما يحتال على الزباء، بمساعدة "قصير"، فينتقم منها في مدينتها، وذلك بأن حمل إلى تدمر رجالا في جوالق كبيرة، يستطيع عن طريقهم القضاء على حرس الزباء التي تهرب إلى نفق كانت قد حفرته في قصرها لمثل هذه الظروف، غير أن "قصيرا" -وكان على علم بسر النفق- سرعان ما يضع في طريقها "عمر بن عدي"، الذي ما أن تراه الزباء، والسيف في يده، حتى تمص خاتمها المسموم، قائلة "بيدي لا بيد عمرو"، ومع ذلك فإن عمرا قد أطاح رأسها بسيفه، وأخذ بثأره3.   1 مروج الذهب 2/ 69، تاريخ ابن خلدون 2/ 261، تاريخ الطبري 1/ 617-618، حمزة الأصفهاني: المرجع السابق ص65، جواد علي 3/ 103-104. وكذا P.K. Hitti, Op. Cit., P.76 ثم قارن Caussin De Perceval, Op. Cit., 2, P.198 2 ابن الأثير 1/ 345، تاريخ الطبري 1/ 625، تاريخ ابن خلدون 2/ 259-261، مروج الذهب 2/ 72، جواد علي 3/ 61، سعد زغلول: المرجع السابق ص156-157، قارن: Caussin De Perceval, Op. Cit., Ii, P.28 3 تاريخ اليعقوبي 1/ 208-209، ابن الأثير 1/ 345-351، مروج الذهب 2/ 69-73، بلوغ الأرب 2/ 181-183، تاريخ ابن خلدون 1/ 259-262، الميداني 1/ 233-237، المعارف ص282، المقدسي 3/ 196-199، تاريخ الطبري 1/ 1/ 618-627، جرجي زيدان: المرجع السابق ص92، محمد مبروك نافع، المرجع السابق ص99-100، محمد الخضري: تاريخ الأمم الإسلامية 1/ 30، جواد علي 3/ 104-106. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 والقصة في صورتها الراهنة لطيفة، ولكنها بعيدة عن الحقائق التاريخية، فقد جمع الأخباريون فيها كل ما عرفوه من أساطير الشرق القديم، كقصة تحوتمس الثالث "1490-1436ق. م" وفتح يافا، وكقصة عدي مع أخت جذيمة1، هذا فضلا عن قصة وفاة الزباء مسمومة، وصلتها بقصة كليوبترا ملكة مصر، أضف إلى ذلك أن الصنعة واضحة في الأمثال التي نسبت في القصة إلى جذيمة وقصير والزباء وعدي وابنه عمرو، وأخيرا فالثابت تاريخيا أن الزباء قد حملت أسيرة إلى روما بعد استيلاء الرومان على تدمر -كما سوف نرى فيما بعد. على أن الغريب من الأمر حقا، ذلك الإغريق في رواية الأساطير، من جانب المؤرخين المسلمين، وفي نفس الوقت، ذلك التجاهل غير الطبيعي منهم، لدور "الزباء" الفذ في تاريخ الشرق القديم في تلك الفترة، بل إننا نرى في نفس الوقت كذلك، إطنابا في مدح الفرس لا يتفق وحقائق التاريخ، بل هو مديح لم يقل مثله مؤرخوا الفرس أنفسهم -الأمر الذي نراه كثيرا من المؤرخين المسلمين، وبصورة واضحة، حين يتحدثون عن تاريخ اليهود- وربما كان السبب في ذلك أن مصادر المؤرخين الإسلاميين- وبخاصة في تاريخ مصر وسورية والعراق فيما قبل الإسلام- إنما هي مصادر فارسية ويهودية في الدرجة الأولى، وهي مصادر لا يمكن أن توصف بأقل من أنها متحيزة لأصحابها، وأن الأخباريين إنما كانوا -في أغلب الأحايين- يتساهلون في نقل أخبارهم عن عصور ما قبل الإسلام بدرجة ملفتة للنظر، بل إن الواحد منهم إنما كان ينقل من أخبار عن يهود أو فارس، دونما تعقيب أو تعليق، وكأنها حقائق ترقى فوق مظان الشهات، وإن كان الأمر غير ذلك تماما بالنسبة إلى المصادر اليونانية والرومانية2. وأيا ما كان الأمر، فهناك روايات يفهم منها أن الزباء إنما كانت تزعم أنها مصرية، من سلالة كيلوبترا، وأنها كانت تتحدث المصرية بطلاقة، وقد ألفت كتابا في التاريخ -وبخاصة في تاريخ مصر- خطته بيدها3، وأنها كانت مثقفة   1 انظر: تاريخ الطبري 1/ 614-617، مروج الذهب 2/ 66-67، تاريخ ابن خلدون 2/ 260-261، المعارف ص281-282، الميداني 2/ 137-139، بلوغ الأرب 2/ 177-180. 2 محمد أحمد باشميل: العرب في الشام قبل الإسلام ص93-98، جوا علي 3/ 102-103. 3 جواد علي 3/ 107، وكذا E. Gibbon, Op. Cit., P.202 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 ومن ثم فقد استدعت إلى عاصمتها المشاهير من رجال الفكر، وذهبت روايات أخرى إلى أنها سمحت لجالية يهودية بالإقامة في عاصمتها، وأن هذه الجالية قد جاءت إلى تدمر بعد تدمير بيت المقدس على يد "تيتوس" في عام 70م، وأنها قد بلغت حوالي نصف سكان المدينة، بل إن القديس "أثناسيوس" والمؤرخ "فوتيوس" إنما يذهبان إلى أن الزباء نفسها قد اعتنقت اليهودية، وإن لم تسمح بإقامة معابد يهودية في تدمر1، غير إن هناك ما يشير إلى أن اليهود ربما قد اضطهدوا على أيامها، حتى أن واحدا من أحبار عصرها يقول "مخلد وسعيد من يدرك نهاية أيام تدمر"2. ومن عجب أن هذه الآراء المتضاربة، إنما تذهب كذلك إلى أن الذي هود الزباء، إنما كان الأسقف "بولس السميساطي" ولست أدري كيف يهود أسقف مسيحي الزباء، أما كان الأولى أن ينصرها؟ ومن ثم فإن التحيز- فضلا عن الاضطراب- في هذه الرواية، لا يحتاج إلى إثبات، وربما كان السبب أن هذا الأسقف المسيحي قد أبدى رأيه في "الثالوث" بما لا يتفق وآراء الكنيسة وقت ذاك، ومن ثم فقد حكم عليه في أنطاكية عام 269م بالعزل من الأسقفية، وعلى أي حال، فهناك الكثير من الشواهد التي تدل على أن اليهود إنما كانوا ناقمين على المملكة وعلى الدولة كذلك، ربما بسبب أذينة ضد الفرس؛ ذلك لأن الزواج المختلط إنما نتج عنه جيل جديد أضاع الدين والتقاليد الإسرائيلية، وأن الحروب ضد الفرس قد ألحقت ضررا كبيرا بالجاليات اليهودية التي كانت تسكن شواطئ الفرات، ومعظمها من التجار الذين كانوا يتاجرون مع الفرس والروم، وبين العراق والشام3. هذا، وقد حرص فريق آخر على أن يجعل الزباء نصرانية، وإن ذهب فريق   1 المشرق، السنة الأولى آخر الجزء 20، عام 1898م ص924، الجزء21، عام 1898م ص995، جواد علي 3/ وكذا G. Moss, Jews And Judaism In Palmyra, Pefq, 60, 1928, P.100-107 وكذا Milman, History Of The Jews, Iii, P.175 وكذا Zdmg, Vii, 1864, P.88 2 جواد علي 3/ 110 وكذا Ujn, 10, P.639 وكذا S. Graetz, History Of The Jews, Ii, 1927, P.528 3 جواد علي 3/ 110-111، المشرق، الجزء 21، عام 1898م ص991 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 ثالث إلى أنها إنما كانت محبة للنصارى، ولكنها لم تكن نصرانية، بينما اتجه فريق رابع إلى أن المرأة لم تكن يهودية ولا نصرانية، وإنما كانت بين بين، كانت تعتقد بوجود الله -سبحانه وتعالى- وترى التوحيد، كما يراه الفلاسفة، وليس كما تصوره ديانة الكليم أو المسيح عليهما السلام1. ويختلف المؤرخون كذلك في أصل الزباء، فذهب فريق منهم إلى أنها مصرية، وذهب فريق ثان إلى أنها من العماليق، وذهب فريق ثالث إلى أنها آدومية، واتجه فريق رابع إلى أنها من أصل عربي، ولكنها من دم مصري من ناحية الأم، بل إن المسعودي ليرى أنها رومية تتكلم العربية، ومع ذلك فإن الغالبية العظمى إنما تكاد تجمع على أنها عربية2. وأيا ما كان الصواب في هذه الروايات المتضاربة، فمما لا شك فيه أن شخصية تلك المرأة القوية لتعد واحدة من الشخصيات الهامة في تاريخ الشرق الأدنى القديم، ويصفها المؤرخون بأنها امرأة قوية الشخصية، قوية البنية، شجاعة جميلة، ذات هيبة ووقار، كانت تستوي في الجمال مع كيلوبترا، وإن فاقتها عفة وطهارة، وجرأة وشجاعة، كانت من ألطف بنات جنسها، وأكثرهن بطولة، كانت سمراء الوجه، ذات أسنان ناصعة البياض كاللؤلؤ، تفيض عيناها السوداوان حيوية غير عادية، مع رقة جذابة إلى أبعد حد، كان صوتها قويا مطربا، وكانت سيرتها أقرب إلى سير الأبطال، منها إلى سير النساء، فلم تكن تركب في الأسفار غير الخيل، وقد سارت على قدميها في بعض المرات عدة أميال على رأس الجيش، وكانت تلبس في المناسبات الرسمية ثوبا من الأرجوان موشى بالجواهر، مشدودا عند الحصر، وإذا ما استعرضت جيشها في الميادين العامة تمر أمام الصفوف فوق جوادها، وعليها لباس الحرب، وفوق رأسها الخوذة الرومانية، تاركة إحدى ذراعيها عاريا حتى الكتف -كما يفعل المحاربون من اليونان القدامى- تحرض جندها على الصبر في   1 جواد علي 3/ 112. 2 مروج الذهب 2/ 69، تاريخ الطبري 1/ 617-618، إدوارد جيبون: إضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها، ترجمة محمد علي أبو ريدة ص265، وكذا W. Wright, Op. Cit., P.131 وكذا سعد زغلول: المرجع السابق ص158. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 القتال، والشجاعة عند لقاء العدو، فإذا ما كان عندها فراغ من وقت، قضته -كما كان يفعل أذينة- في صيد وحوش الصحراء الكاسرة، كالأسد والدب والنمر. كانت طموحة أريبة ذات سبق في مضمار السياسة، تبت في الأمور بحزم وحكمة، بدلا من أن تتردى في حمأة الأهواء التافهة، التي كثيرا ما تشوب حكم النساء، فإذا كان الأوفق أن تعفو وتصفح، استطاعت أن تحد من غضبها وتخفف من غلوائها، وإذا كان لزاما أن تبطش، استطاعت أن تخرس نداء الشفقة والرحمة، وكانت مثقفة، لم تكن تجهل الاتينية، ولكنها كانت تجيد اليونانية والسريانية والمصرية بنفس القدر، وهي لغات المثقفين في ذلك العصر، كما ألفت أن تعقد موازنة بين روائع هوميروس وأفلاطون تحت إشراف "لونجينوس"، وأن تعيش في قصرها على نظام بلاط الأكاسرة، إذ كان حاشيتها تحييها بالسجود، حسب الأسلوب الفارسي1. وأيا ما كانت المبالغة في ذلك كله، فالذي لا شك فيه أن تلك المرأة كانت خيرب خلف لزوجها البطل، وأنها منذ أعلنت نفسها ملكة على الشرق- مستخفة إلى حين بالإمبرطورية الرومانية- بدأت تعمل على تكوين دولة عربية قوية تحت زعامتها، بخاصة وأنها أدركت بفطتها السياسية أن أعداء تدمر، إنما هم الرومان، والذين لا يفكرون إلا في مصلحة روما فحسب، ومن ثم فقد بدأت تتقرب إلى العناصر العربية المستوطنة في المدن، فضلا عن الأعراب الذين كانت ترى أنهم عمادها في القتال وسندها في الحروب، إلا أن الرومان كانوا أسرع منها، فقضوا على آمالها قبل أن تتحقق، بل واحتلوا تدمر نفسها2. وكانت بداية النزاع بين الزباء والرومان، يوم أرسل "جالينو" بجيش لاحتلال تدمر والقضاء على الزباء، قبل أن يستفحل خطرها، متظاهرا بأنه يريد محاربة   1 أدوارد جيبون: المرجع السابق ص265-267، فيليب حتى: المرجع السابق ص438، جرجي زيدان: المرجع السابق ص91-92، سعد زغلول: المرجع السابق ص151. 2 جواد علي 3/ 113، وكذا F. Altheim And R. Stiehl, Op. Cit., P.270 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 الفرس، إلا أن الملكة العربية سرعان ما اكتشفت السر، ومن ثم فقد دارت بين الفريقين معركة حامية الوطيس، كتب النصر فيها للزباء، وحاقت الهزيمة بالروم1، وفي نفس الوقت، فإن الملكة قد خافت أن يستغل الفرس الفرصة، فيوجهوا إليها ضربة قد تكون غير مستعدة لها، ومن ثم فقد أنشأت حصنا على الفرات، دعته "زنوبيا" "Zenobia" نسبة إليها2. وأخيرا بدأت الزباء ترنو بناظريها نحو أرض الكنانة -تلك الأرض الخصبة الآهلة بالسكان، وذات التاريخ المجيد، والثقافة العريقة- بعد أن أذاعت- إن صدقا أو كذاب- أنها مصرية من نسل كليوبترا، وجاءتها الفرصة ممثلة في مقتل "جالينو" عام 268م، وتولية "كلوديوس" "268-270م" خلفا له، وفي نفس الوقت كان الألمان والقوط قد بدءوا بهاجمون القسم الغربي من الإمبراطورية الرومانية، مما دفع "بروبوس" -الحاكم الروماني في مصر- إلى أن يخرج بأسطول الإسكندرية لمطاردة القوط، وهنا بدا الزعماء المصريون -وعلى رأسهم تيماجنيس وفرموس- يحرضون الزباء على فتح مصر، بل ويقدمون لها العون المادي على هذا الفتح. وهكذا تحرك "زبدا" -قائد جيش الزباء، على راس حملة، قوامها سبعون ألف رجل- إلى مصر، وهناك دارت معركة رهيبة بين الفريقين، انتهت بنصر مبين لجيش زنوبيا، وهزيمة ساحقة لجيوش الرومان، وضم مصر إلى دولة الزباء، ولكن ما أن يمضي حين من الدهر، حتى يعود "زبداط بجيشه إلى تدمر، تاركا الأمور بيد "تيماجنيس" ومع فرقة صغيرة لا يتجاوز عددها خمسة آلاف جندي، وفي نفس الوقت كان "بروبوس" قد علم بما حدث، فأسرع عائدا إلى مصر، وأخذ يتعقب الجنود التدمريين، ويطاردهم في كل مكان، وتعلم الزباء بالتطورات الجديدة، فتأمر "زبدا" بالعودة إلى مصر، حيث يشتبك الرومان والتدمريون في معارك ضارية، يلعب فيها عرب مصر من سكان المناطق الشرقية، فضلا عن   1 المشرق، السنة الأولى، الجزء 18 ص824، وكذا E. Gibbon, Op. Cit., P.263. وفي الترجمة العربية ص267. 2 جواد علي 3/ 113، وكذا Procopius, History Of The Wars, Ii, V, Iv-Vi, P.295 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 "تيماجنيس" -وهو مصري على رأي، وعربي متمصر على رأي آخر- أخطر الأدوار إلى جانب التدمريين، وبخاصة في المعارك التي دارت حول حصن بابليون1. وتنتهي المعارك باتفاق بين الزباء والرومان في أخريات أيام "كلوديوس"، على أن يكون حكم مصر مشتركا بينهما، بدليل ما جاء في بعض المراجع من أن المصريين قد حلفوا يمين الولاء للقيصر، وبدليل ما عثر عليه من عملات تدمرية نقشت في الإسكندرية في عام 270، 271م، وعلى وجهها صورة القيصر" "أورليان" "270-275م"، بجانب صورة "وهب اللات" "ابن الزباء"، مما يدل على الحكم المزدوج بينهما2. كان فتح الزباء مصر، والاستيلاء على الإسكندرية -أهم مدن الإمبراطورية الرومانية قاطبة بعد روما- ضربة أصابت الروم في الصميم، ثم جاءت سياسة الزباء التوسعية في الشام وآسيا الصغرى، دليلا على أن طموح تلك المرأة القوية لا يقف عند حد، ومن ثم فإن الإمبراطور "أورليان" سرعان ما انتهز فرصة القضاء على الاضطرابات في روما، ورد هجوم القوط، حتى بدأ يعد العدة لمعركة فاصلة مع الزباء، غير أن الملكة العربية سرعان ما علمت بدورها بنية الإمبرطور الروماني، فقررت أن تتحداه إلى آخر الشوط، وهكذا نراها تأمر بإلغاء الإتفاقية المبرمة مع سلفه "كلوديوس"، فتصدر النقود في الإسكندرية وقد خلت من صورة "أورليان" واقتصرت على صورة ولدها "وهب اللات" الذي اتخذ لقب "أغسطس" -وهو اللقب الخاص بأورليان- كما أسبغت هي على نفسها لقب "اغسطا"، ثم أقامت لزوجها المتوفي تمثالا كتب عليه "تمثال سبتميوس أذينة ملك الملوك، ومجدد   1 جواد علي 3/ 114-115 وكذا Eb, 17, P.163. وكذا F. Altheim And R. Stiehl, Op. Cit., P.272 2 جواد علي 3/ 115، وكذا W. Wright, Op. Cit., P.137 وكذا F. Altheim And R. Stiehl, Op. Cit., P.254 وكذا G. Ryckmans, Les Noms Propres And Sud-Semitiques, P.62 وكذا Cah, 12, P.301. وكذا Eb, 17, P.163 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 الشرق كله"1. وهناك رواية تذهب إلى أن الزباء قد اتصلت بالملكة "فيكتوريا" ملكة إقليم الغال، لتنسيق خططهما ضد الرومان، ثم بدأت جيوشها تتوغل في آسيا الصغرى، وأقامت الحاميات باتجه الشمال الغربي حتى "أنقره"، وظلت جيوشها تتقدم دونما أدنى مقاومة، حتى "خلقدونية" مقابل بيزنطة، وهكذا استطاعت ملكة البادية أن تكون لنفسها ولإبنها إمبراطورية انتزعتها من بين مخالب النسر الروماني، وهو في أوج قوته، ورغم أنها كانت إمبراطورية قصيرة الأجل، إلا أنها كانت ومضة عربية تستحق التقدير في تاريخ العلاقات العربية الرومية، وتسبق إمبراطورية الأمويين "1-132هـ = 661-750م" بأربعة قرون2. غير أن تنفيذ هذه الخطة، دعا الزباء إلى أن تسحب كثيرا من قواتها من مصر، وانتهز أورليان الفرصة، ونجح قائده في أن يلحق بالتدمريين في عام 271م، هزيمة كانت نتيجتها خروج مصر من إمبراطورية الزباء، وانقطاع ضرب النقود في الإسكندرية باسم ولدها "وهب اللات"، وإن كان أخطر النتائج التي تمخضت عن فقد مصر، أن الزباء بدأت تفقد الثقة بنفسها وبجيشها، كما شجعت أهل خلقدونية بآسيا الصغرى على صد هجوم التدمريين، أملا في نجده قريبة تأتي من القيصر الروماني، وهذا ما حدث بالفعل، إذ سرعان ما قدمت الجيوش الرومانية بقيادة القيصر نفسه فعبرت البسفور، وطردت التدمريين من "بتينية" ثم اتجهت إلى "غلاطية" فـ "قبادوقيا" حتى بلغت "أنقرة"، وهكذا استطاع أوليان في عام 272م، أن يخضع الحاميات التدمرية في آسياء الصغرى، وأن يتابع مسيرته حتى سورية3. وحاولت جيوش الزباء أن توقف جيوش الروم في سورية، في الوقت الذي بدأت فيه الدعايات الرومانية تنتشر بين الناس بنبؤات الآلهة عن سقطو تدمر،   1 جواد علي 3/ 116، وكذا Encyclopaedia Biblica, 17, P.163 2 فيليب حتى: المرجع السابق ص440 وكذا Mommsen, Provinces Of The Roman Empire, 2, P.107 وكذا J. Starcky, Palmyre, Paris, 1952, P.64 3 جواد علي 3/ 117، المشرق، السنة الأولى، الجوء 22، عام 1898 ص1034، وكذا Eb, 17, P.163 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 وقبلت عقول العامة هذه الأكاذيب، وأخذ اليأس يتسرب إلى نفوس الجنود، وأرادت الزباء أن تخرس الألسنة فخرجت لملاقاة أورليان عند أنطاكية- فارسة تحارب في طليعة الجيش- ونجحت شخصيتها القوية في أن تعيد الثقة إلى جنودها، وحققت نصرا على الرومان، إلا أن أورليان الذي تراجع بقواته سرعان ما باغت الزباء بهجوم مفاجئ حقق فيه نصرا كبيرا، مما اضطر الزباء إلى ترك أنطاكية لأورليان، لا بسبب هزيمتها فحسب، ولكن لأن القوم هناك كانوا يميلون إلى جانب الرومان بعواطفهم، فهناك جالية يونانية ذات نفوذ في المدينة تفضل حكم الرومان على حكم الشرقيين، وهناك كره النصارى للزباء بسبب موقفها من الأسقف "بولس السميساطي" الذي عزله مجمع أنطاكية، ولكنها لم تنفذ قرار العزل، وهناك كراهية اليهود للتدمريين1. واستعدت الزباء لملاقة "أورليان" في حمص، على رأس جيش قوامه سبعون ألفا، وتكرر ما حدث في أنطاكية، نصر الزباء في أول الأمر، ثم هزيمة لها بعد ذلك، مما اضطرها إلى ترك حمص، والاحتماء بتدمر نفسهان وهكذا دخل أورليان حمص، فزار معبد الشمس، وقدم القرابين لإله المدينة، كما تعهد بتجميل المعبد وتوسيعه2. وحاولت الزباء الاتصال بالفرس طلبا للمساعدة ضد عدوهما المشترك، غير أن القوم قد انشغلوا عن ذلك كله، بموت "سابور"، وتولية ولده "هرمز الأول" "272-273م"، ثم عزله بعد عام واحدا، هذا فضلا عن أن حراب القيصر وسخائه، كانا كفيلين بقطع الطريق على أية مساعدة فارسية تأتي للزباء، أضف إلى ذلك أن أورليان كان قد عزز قواته بنجدات أتته من مختلف أنحاء سورية، إلى جانب وصول "بروبوس" بقواته الظافرة من مصر3. وهكذا بدأ الحصار القاتل على المدينة الشجاعة، التي قابلته بصبر وبطولة، بل وسخرية من قيصر روما، حتى أن هذه السخرية سرعان ما وصلت إلى روما   1 المشرق، الجزء22 عام 1898 ص1035، جواد علي 118-119. 2 فيليب حتى: المرجع السابق ص440، وكذا E. Gibbon, Op. Cit., P.256 وكذا Zosimus, I, 25 3 آرثر كريستنس: المرجع السابق ص215، إدوار جيبون: المرجع السابق ص271-272، وكذا W. Wright, Op. Cit., P.167f الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 نفسها، فبدأ الرومان بدورهم يسخرون من القيصر الذي عجز عن التغلب على امرأة في مدينة صحراوية، وهناك رواية تذهب إلى أن القيصر قد كتب إلى مجلس الشيوخ يقول: "قد يضحك مني بعض الناس لمحاربتي امرأة، ألا فليعلموا أن الزباء إذا قاتلت كانت أرجل من الرجال"1. ويعرض القيصر على الزباء التسليم بشروط معتدلة، وترفض الملكة العربية العرض بإباء وشمم، مذكرة إياه بأنها تفضل كيلوبترا على عار الاستسلام له، وأنها سوف تلقنه درسا قاسيا على جرأته على الكتابة إليها، طالبا منها الاستسلام، عندما يحين الوقت، ويأتي إليها أعوانها من الفرس والعرب والأرمن، ومن أسف أن الملكة انتظرت، وطال انتظارها، وأخيرا أدركت أنها تحارب في معركة خاسرة، ومن ثم فقد قررت أن تذهب بنفسها إلى ملك الفرس، فخرجت ليلا على هجين سريع تبغي حصنها "زنوبيا"، ثم تعبر الفرات من هناك إلى فارس، إلا أن الأقدار أبت أن تكتب لها أي نجح في إثرها، فقبضت عليها، وهي تهم بركوب زورق ينقلها إلى الشاطئ من الفرات، وهكذا فقدت الزباء الأمل في نصرة الفرس لها، كما فقدت ابنها، وهو يذود عن حياض بلاده2. وهكذا لم يصبح أمام تدمر سوى الاستسلام، ومن ثم فقد فتحت أبوابها في أوائل عام 273م لقيصر روما، فدخلها أورليان دخول الفاتحين، كما جردها من تحفها الثمينة التي أخذ بعضها لتزيين معبد الشمس الجديد في روما، واقتصر عقاب السكان على فرض غرامة مالية عليهم، وتعيين حاكم روماني، مع عدد من الرماة، وهكذا عادت تدمر إلى حظيرة الإمبراطورية الرومانية، بعد أن شقت عصا الطاعة، منذ أسر فالريان في عام 260م3.   1 جواد علي 3/ 720، إدوارد جيبون: المرجع السابق ص271 وكذا W. Wright, Op. Cit., P.167 وكذا E. Gibbon, Op. Cit., P.266 2 جواد علي 3/ 127، وكذا Freya Stark, Op. Cit., P.367 وكذا Malalas, P.308. وكذا P.K. Hitti, Op. Cit., P.76 3 إدوارد جيبون: المرجع السابق ص272، فيليب حتى: المرجع السابق ص441 وكذا E. Gibbon, Op. Cit., P.267. وكذا W. Wright, Op. Cit., P.160 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 وأخذت الزباء إلى حمص، وهناك عقد مجلس لمحاكمة الملكة العربية العظيمة ورجال بلاطها، وتذهب بعض الروايات إلى أن الزباء قد تنصلت عن مسئوليتها عما حدث، فضلا عن اعترافها بأنها لم تكن إلا الاحتقار لأمثال جالينوس وكلوديوس، ولكنها تعترف لأورليان وحده بأنه ملك فاتح، إلا أن كثيرا من المؤرخين ينكرون هذه الرواية التي لا تتفق وما كانت عليه الزباء من سمو الأخلاق، فضلا عن الكرم والشجاعة والثقافة، وأيا ما كان نصيب هذه الرواية من الخطأ والصواب، فإن أورليان قد أمر بإعدام بعض رجال الزباء، وإن كان قد أبقى عليها، هي وابنها "وهب اللات" "الذي ذهبت الروايات إلى أنه قتل في ميدان القتال"، بغية إلحاقهما بموكب النصر، الذي سوف يقيمه عند دخوله روما، عاصمة الإمبراطورية الرومانية1. وجاءت الأنباء إلى قيصر، وهو في طريقه إلى روما، بثورة عاتية في تدمر، وأخرى في مصر، وهنا لم يتردد "أورليان" لحظة في أن يتولى وجهه شطر سورية، وروعت أنطاكية لعودة الأمبراطور على عجل، وأحست تدمر وطأة حنقه الذي لا يمكن دفعه، وهناك رسالة يعترف فيها أورليان بأن الشيوخ والنساء والأطفال والفلاحين لم ينجوا من العقاب الرهيب، الذي كان خليقا بأن يقتصر على المتمردين المسلحين، وبعد أن أشبع أورليان نهمه الدنيء من التدمريين، أمر بالكف عن المذابح وترميم معب الشمس، إلا أن المدينة كانت قد فقدت كل عظمتها القديمة، وأخذ رماة السهام وقواسي تدمر ليعملوا في خدمة الجيش الروماني في إفريقيا، وحتى في بريطانيا2. وهكذا أخذت تدمر تتوارى في الظلام، حتى أنها غدت على أيام "دقلديانوس" "284-305م" بمثابة قرية صغيرة، وقلعة من قلاع الحدود، وطبقا لرواية "ملالا" فإن "دقلديانوس" قد ابتنى فيها "Castra"، بعد أن تم صلح بينه وبين الفرس، كما يشير الأب "سبستيان رتزقال" إلى أنه فعل بنصارى تدمر، ما فعله بإخوتهم في كل أقاليم الإمبراطورية3.   1 جواد علي 3/ 124، وكذا Memmsen, Op. Cit., P.748 وكذا Eb, 17, P.163 2 إدوارد جيبون: المرجع السابق ص273-274، وكذا Eb, 17, P.163. 3 المشرق: الجزء 23، عام 1898م ص1036، جواد علي 3/ 127، وكذا Malamas, P.308 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 وفي أوائل القرن الخامس الميلادي، أصبحت تدمر تابعة لولاية "فينيقيا"، وقد عين فيها "ثيودوسيوس" "408-450م" فرقة من الجنود لحمايتها من هجمات رجال البادية، وفي العام الأول من حكم "جستينيان" "527-565م" أصبحت تدمر على خط الحدود الخارجية للإمبراطورية، ومن ثم فقد أمر بتقوية حاميتها، وإصلاح ما تهدم من مبانيها، فضلا عن تحصين قلاعها وأسوارها وتحسين موارد مياها، ثم اتخاذها مقرا لحاكم ولاية فينيقيا، ومع ذلك، فإن تدمر بدأت تفقد أهميتها شيئا فشيئا، ورغم الإشارة إليها كمركز أسقفي في الصحراء، فإن الصحراء قد تغلبت عليها يوم فقد سكانها السيطرة على هذه الصحراء، وظلت كذلك حتى فتحها "خالد بن الوليد" صلحا في عام 634م، على أيام الخليفة الراشد أبي بكر الصديق- رضي الله عنه وأرضاه- "11-13هـ=632-634م" غير أنها لم ولن تعود كما كانت على أيام الزباء1.   1 جواد علي 3/ 128-129، المشرق، الجزء 23، ص1063. وكذا Syria, Vii, 1926, P.77 وكذا A. Musil, Palmyrena, P.247-248 وكذاMalamas, P.426 وكذا W. Wright, Op. Cit., P.169 وكذا Theophanus, Chronographia, I, 267 وكذا Encyclopaedia Biblica, 17, P.163 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 501 الفصل السابع عشر: الغساسنة مدخل ... الفصل السابع عشر: الغساسنة في أثناء الفترة التي كانت فيها دولة تدمر تتوارى في الظلام، بعيدا عن المسرح السياسي والحضاري، كان بدو شبه الجزيرة العربية يمتلئون بقوة جديدة، فالظروف الاقتصادية التي أحاطت باليمن، من انهيار سد مأرب، ثم حدوث سيل العرم، وغيره من أحداث أدت إلى اضمحلال دولة حمير اليمنية، كل ذلك وغيره كان سببا في أن تهاجر قبائل بأسرها من جنوب بلاد العرب إلى شمالها، بحثا عن أرض جديدة1. وكانت النتيجة الأخيرة لهذه الحركة أن ذاق الفرس والروم مر العذاب من هجرة الأعراب وغزواتهم، فأنشئوا على أطراف الصحراء الحصون ومدوا الطرق العسكرية ليأمنوا غارات قبائل البدو، وليسهلوا طرق التجارة، واتخذ الفرس قبائل من العرب عرفوا باللخميين أو المناذرة، كما اتخذ الرومان أولا قبائل من بني سليح، ثم قبائل من بني غسان أعوانا لهم2. وهكذا جاءت عقب البتراء وتدمر دويلتان جديدتان على أطراف الصحراء، ففي القرن الخامس والسادس الميلادي، ازدهرت حول دمشق مملكة الغساسنة، وفي نفس الوقت ازدهرت دويلة اللخميين في الحيرة بالقرب من ضفاف الفرات، وكانت هاتان الدويلتان تابعتين لإمبراطوريتي بيزنطة وفارس- وكانتا بمثابة مركزي حراسة لهما على حدود الصحراء، وقد نتج عن هذه السياسة التي سارت عليها   1 سبتينو موسكاتي: المرجع السابق ص204، وانظر: عبد اللطيف الطيباوي: محاضرات في تاريخ العرب والإسلام -الجزء الثاني- بيروت 1966 ص9-10. 2 عبد اللطيف الطيباوي: المرجع السابق ص12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 الإمبراطوريتان القديمتان دوام الحرب بين دولتي المناذرة والغساسنة -وهما أبناء عم ومن دم واحد- ولكنهما اضمحلتا واختفتا قبيل الفتح الإسلامي العظيم1، تاركتين الإمبراطوريتين وجها لوجه مع الهداة الجدد، حملة لواء الإسلام، وهداية القرآن، وسنة المصطفى -صلوات الله وسلامه عليه. وهكذا قامت دولة الغساسنة للروم، مقابل دولة المناذرة للفرس، بمعنى أنها كانت دولة حاجزة "Buffer State" اتخذ منها الروم مجنا يقيهم شر هجمات البدو عليهم من أطراف الصحراء من جهة، وليثيروهم ضد الفرس ويستعينوا بهم عليهم من جهة أخرى2، هذا إلى أن المناذرة إنما كانوا يجمعون الضرائب من القبائل العربية القريبة منهم، ويقدمونها للفرس، كما كان الغساسنة يجمعون مثل هذه الضرائب للروم3. وتاريخ دولة الغساسنة هذه غامض لقلة المصادر، ولامتزاج الحقائق فيه بالأساطير، ولضياع معظم آثار بني غسان، ومن ثم فلا تتفق المصادر العربية مع اليونانية إلا في النذر اليسير، بل إن المؤرخين العرب أنفسهم إنما يختلفون في عدد الملوك وأسمائهم وسني حكمهم4، فهم عند "حمزة الأصفهاني" 32 ملكا، وعند "أبي الفداء" 31 ملكا5، وعند المسعودي وابن قتيبة إنما هم أحد عشر فقط6، وأما "نولدكه" فالرأي عنده أن عددهم لا يتجاوز العشرة، وأنهم حكموا في الفترة "500-635م"، بل إن "هرشفلد" ليحددهم بسبعة فقط7، ويرى "جرجي زيدان" أنهم سبعة عشر وأنهم حكموا في الفترة "220-633م"8.   1 موسكاتي: المرجع السابق ص204، قارن: ابن كثير 2/ 218. 2 محمد مبروك نافع: المرجع السابق ص111. 3 عمر فروخ: تاريخ الجاهلية ص68. 4 راجع القوائم في: جواد علي 3/ 443-447، جرجي زيدان: المرجع السابق ص2-1، عبد اللطيف الطيباوي: المرجع السابق ص12. 5 حمزة الأصفهاني: المرجع السابق ص99، أبو الفداء 1/ 72-73، ابن خلدون 2/ 282. 6 مروج الذهب 2/ 82-86، المعارف ص642، ابن خلدون 2/ 281. 7 جوا علي 3/ 446، هرشفلد، ديوان حسان بن ثابت ص96، جرجي زيدان: المرجع السابق ص193، قارن: كتاب المحبرب لابن حبيب ص372. 8 جرجي زيدان: المرجع السابق ص197-198. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 504 ولعل السبب في هذا الاختلاف إنما هو اختلاط أخبار آل غسان بالقبائل العربية التي سبقتهم إلى سورية، ودانت بالنصرانية، وخضعت لحكم الرومان، كما أن من أسبابه أيضا اقتصار مؤرخي العرب على الناحية الأدبية من تاريخ الغساسنة، وإهمال تاريخهم السياسي، بالطريقة التي أهملوا بها تاريخ اليونان والرومان، أضف إلى ذلك هذا التشابه في الأسماء بين حارث ومنذر ونعمان، واختلاط ذلك أيضا بالتشابه والتقارب مع أسماء ملوك المناذرة1. أضف إلى ذلك أن هذا الاختلاط أو الخلاف بين مؤرخي العرب على عدد ملوك آل غسان، إنما هو دليل على ما يحيط بأسرة "آل جفنة" من غموض، وفي الواقع أن تاريخ الأسرة بكامله غامض، حتى أصل الأسرة نفسها، فالمؤرخون العرب يرون أن الغساسنة -وكذا المناذرة- إنما ويرجحون أنهم من عرب الشمال، لأسباب، المحدثين ما يزالون في ريب من هذا، ويرجحون أنهم من عرب الشمال، لأسباب، منها "أولا" أن لغة الغساسنة -وكذا المناذرة- إنما هي لغة عدنانية، أكثر منها قحطانية، بل إنها لا تمت إلى الحميرية الجنوبية بصلة، ومنها "ثانيا" أن أسماءهم إنما تشبه في مجموعها أسماء عرب الشمال، وكذا العادات والذين، والتي هي أكثر انطباقا على عادات وديانة عرب الشمال2. وأيا ما كان الأمر، فإن الرواية العربية- كما أشرنا من قبل- تذهب إلى أنهم قد هاجروا من اليمن واستوطنوا أرض حوران3 حيث كان هناك قوم يعرفون "بالضجاعمة" من قبائل بني سليح بن حلوان من قضاعة، قد استقروا هناك، ورضخوا لحكم الرومان ودانوا بالنصرانية من قبل مجئ بني غسان، ثم اعترفت الدولة البيزنطية بهم ووضعتهم تحت حمايتها، واتخذتهم أعوانا لها ضد المناذرة والفرس، وكان ذلك في زمن الأمبراطور "أنستاسيوس" حوالي آخر القرن الخامس الميلادي، ومن ثم كانوا أول من شيد ملكا للعرب هناك4.   1 عبد اللطيف الطيباوي: المرجع السابق ص13. 2 محمد مبروك نافع: المرجع السابق ص96. 3 هي حورانو في الآشورية، وباشان في التوراة، وأورانيتس في آداب اليونان وأن جبل الدوز اليوم داخل ضمن نطاق حوران "فيليب حتى: تاريخ العرب ص102 وكذا قارن: D.D. Luckenbill, Op. Cit., I, P.672, 721 4 عبد اللطيف الطيباوي: المرجع السابق ص11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 505 وأما الغساسنة، فقد استقروا في نواحي الجنوب الشرقي من دمشق، على مقربة من الطرف الشمالي لطريق النقل الهام الذي كان يربط بين "مأرب" في الجنوب، و"دمشق" في الشمال1، وأما متى حدثت هجرة الغساسنة -وكذا المناذرة- من اليمن إلى الشام، فذلك موضع خلاف بين العلماء، صحيح أن الروايات العربية تحدد ذلك بانهيار سد مأرب، ثم حدوث سيل العرم، ولكن صحيح كذلك أن سد مأرب إنما انهار عدة مرات خلال الفترة الطويلة التي مضت منذ تشييده -لأول مرة- في منتصف القرن السابع قبل الميلاد- وربما الثامن كذلك2- وبين آخر مرة أصلح فيها السد في عام 543م على أيام أبرهة الحبشي، إذ أن هناك عدة إشارات في النصوص العربية الجنوبية إلى تهدم السد وإصلاح3، ومن ثم فلا ندري على وجه التحديد في أي وقت من هذه الفترة -التي ربما تزيد على اثني عشر قرنا- قد حدثت هذه الهجرة، وأما الروايات العربية، فبعضها يذهب إلى أن ذلك إنما كان قبل الإسلام بأربعة قرون، وبعضها يرى أن ذلك إنما كان على أيام الحبشة، وبعضها يرى ذلك في القرن الخامس الميلادي، على أيام "حسان بن تبان أسعد"، وأخيرا فإن هناك روايات ترى أن ذلك إنما كان في القرن الرابع الميلادي4. وعلى أي حال، فما أن يمضي حين من الدهر على هجرة الغساسنة إلى الشام، حتى تبدأ الخلافات بينهم وبين الضجاعمة وينتهي الأمر بغلبة بني غسان على بني سليح، وإن لم يقضوا عليهم نهائيا، ومن ثم فقد بقوا -كما يرى نولدكه- في مواضع أخرى من الشام إلى زمن متأخر، بدليل أن النابغة الذبياني قد زار أحدهم في "بصرى"، وأن جماعة منهم قد حاربوا خالد بن الوليد في دومة الجندل تحت قيادة "ابن الحدرجان" وفي "قصم"5.   1 المسعودي: التنبية والإشراف ص158، كتاب المحبر ص370-371 وكذا P.K. Hitti, Op. Cit., P.78 2 جواد علي 2/ 281، نزيه مؤيد العظم: المرجع السابق ص88، وكذا - D. Nielseon, Op. Cit., P.79. وكذا F. Altheim And R. Stiehl, Op. Cit., P.27 3 فريتز هومل: المرجع السابق ص109، فؤاد حسنين: المرجع السابق ص304، أحمد فخري: المرجع السابق ص183، جواد علي 2/ 586، 3/ 383-384. وكذا A. Jamme, Op. Cit., P.176 وكذا J.B. Philby, Op. Cit., P.118 وكذا Le Museon, 1964, P.493-4. وكذا R.A. Nicholson, Op. Cit., P.16 4 ياقوت 5/ 35، جرجي زيدان: المرجع السابق ص155، أحمد إبراهيم الشريف: المرجع السابق ص315. 5 تاريخ الطبري 3/ 378، ابن خلدون 21/ 278، فتوح البلدان 1/ 132، المحبر ص371. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 506 ويروي الأخباريون أن الغساسنة إنما يسمون بعدة أسماء، منها "أزدغسان"، ويذهبون إلى أن "أزد" إنما هو اسم قبيلة، وأما "غسان" فهو اسم ماء في تهامة، نزل القوم عليه وشربوا منه، ومن ثم فقد عرفوا بأزدغسان، وعرف نسلهم بالغساسنة1، ويسمون كذلك "آل ثعلبة" نسبة إلى جد لهم يعرف باسم "ثعلبة ابن مازن"2، كما يسمون كذلك "آل جفنة" و"أولا جفنة"، لأن أول ملوكهم إنما كان يسمى "جفنة بن عمرو مزيقياء"3. وأما العاصمة السياسية لآل جفنة، فيبدو أنها كانت في البدء مخيما متنقلا، ثم استقرت بعد ذلك في "الجابية" في منطقة الجولان جنوب غربي دمشق، كما كانت في بعض الوقت في "جلق" في جنوب حوران4- والتي ربما كانت "الكسوة" الحالية، على مبعدة عشرة أميال جنوبي دمشق- وأما ديارهم، فكانت "الكسوة" الحالية، على مبعدة عشرة أميال جنوبي دمشق- وأما ديارهم، فكانت -طبقا لبعض الروايات العربية- في اليرموك والجولان وغيرهما من غوطة دمشق وأعمالها، وأن منهم من نزل الأرن من أرض الشام5، وعلى أي فلقد امتدت دولتهم حتى شملت الجولان وحوران والبقاء، وأحيانا فينيقيا، فضلا عن أعراب سورية وفلسطين6. وعلى أي حال، فليس هناك من دليل على أن الغساسنة، قد ملكوا المدن الكبيرة   1 مروج الذهب 2/ 82-83، ابن خلدون 2/ 279، الاشتقاق 2/ 435، ياقوت 2/ 329، 4/ 203-204، نهاية الأرب ص21، حمزة الأصفهاني ص76، عبد اللطيف الطيباوي: المرجع السابق ص11. 2 تيودور نولكه: أمراء غسان ص4، المحبر ص371. 3 المسعودي: التنبيه والإشراف ص158، الأصمعي: تاريخ ملوك العرب الأولية ص110-102، شرح ديوان حسان بن ثابت للبرقوقي ص287، الاشتقاق 2/ 435، ابن خلدون 2/ 279-281، عبد العزيز سالم: المرجع السابق ص271-273، حمزة الأصفهاني: المرجع السابق ص76-77، وكذا F. Altheim And R. Stiehl, Op. Cit., Ii, P.332 4 فيليب حتى: المرجع السابق ص449، ياقوت 2/ 91، 155، البكري 2/ 355، 390، عبد المنعم ماجد: المرجع السابق ص188-198، بلاشير: المرجع السابق ص59، دائرة المعارف الإسلامية: مادة جابية ومادة جلق، عبد اللطيف الطيباوي: المرجع السابق ص12، محمد مبروك نافع: المرجع السابق ص116 وكذا R. Dussaud, Topographie Historique De La Syrie Antique Et Medievale, P.317-18, 332-3. وكذا Leone Caetani, Annali Dell' Islam, Ii, P.928 5 المسعودي: مروج الذهب 2/ 85. 6 عبد اللطيف الطيباوي: المرجع السابق ص12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 507 في الشام كتدمر وبصرى ودمشق، إذ أن هذه كانت محصنة، تتمركز فيها الحامية البيزنطية، ولكنهم كانوا يعتمدون على الصحراء، إذا داهمهم الخطر، فكانت تغنيهم عن المدن المحصنة، ومن ثم فقد كانت معظم حروبهم تدور على أطراف البادية، وإليها التجأوا عندما خلعوا سلطان الإمبرطور وثاروا عليه في عند "النعمان بن المنذر"، ولهذا فقد كان الروم يقيمون عمالا صغار بجانب ملوك غسان، حفاظا على التوازن الساسي، وإبقاء لسلطان الدولة في الأوقات العصبية، طبقا لسياسة "فرق تسد"1.   1 نفس المرجع السابق ص12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 508 ملوك الغساسنة : لعل "الحارث بن جبلة" "528-569م"، والمعروف بالأعرج، وبالحارث الأكبر، أول أمراء بني جفنة الذين يمكن الاطمئنان إلى وجودهم، وهو في نظر "نولدكه" اريتاس "Aretas" الذي ذكره المؤرخ السرياني "ملالا" على أنه كان عاملا للروم1، وقد عاصر الرجل من أباطرة الروم "جستنيان" "527-565م"، ومن أكاسرة الفرس "قباذ" "448-531م" و"كسرى أنوشروان" "531-579م"، ومن أمراء الحيرة "المنذر الثالث" "521-554م". وهناك ما يشير إلى نشوب حرب بين الحارث والمنذر الثالث، ربما بسبب بالعداوة التي انتقلت إليهم من العداوة التي كانت الفرس والروم، وربما لأن أمير الحيرة اعدى أن القبائل العربية النازلة فيما بين دمشق وتدمر، إنما تخضع لسلطانه، فنازعه الأمير الغساني هذا السلطان، وأيا ما كان السبب، فإن الرجلين قد اشتبكا في أبريل من عام 528م في حرب كتب النصر فيها للحارث الغساني، ومن ثم فقد منحه "جستنيان" لقب "ملك"- وهو لقب لم يمنحه الروم لواحد من عمالهم في سورية من قبل -كما بسط سلطانه على قبائل عربية متعددة، بغية أن يجعل منه خصما قويا لأمير الحيرة، إلا أن المنذر لم يرعو مع ذلك عن غزو حدود الشام الشرقية، حتى بلغ أسوار أنطاكية، وإن أجبره ظهور القوات الرومانية على العودة إلى بلاده قبل أن يشتبك معها2.   1 نولدكه: أمراء غسان ص9، وكذا Malalas, 2, 166 2 نولدكه: أمراء غسان ص11، وكذا J.B. Bury, Op. Cit., P.81, 91 وكذا Procopius, I, Xvii, 43-48 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 508 على أن "نولدكه" إنما يرى أن "جستنيان" لم يمنح الحارث بن جبلة لقب "ملك" فذلك لقب كان مقصورا على أباطرة الروم، وإنما منحه في عام 529م، لقب "بطريق" "Patricius" أو لقب "شيخ قبيلة" "فيلارخ Phiarch" ثم ترجم العرب -وكذا السريان- هذا اللقب بمعنى "ملك"1، هذا ونعرف من نقش "جلازر 618"2 أن أبرهة الحبشي لم يسبغ على الحارث بن جبلة في هذا النقش لقب ملك، مما يدل على أن الرجل لم يكن يحمل لقب "ملك" بصفة رسمية، وأن الملوك من تلك الفترة لم يكونوا يعدونه واحدا منهم، وعلى أية حال، فإن الحارث بن جبلة كان أول أمراء بني غسان الذين حملوا اللقبين "بطريق وفيلارخ" معا، ثم توارثهما الأبناء عن الآباء فيما بعد3. هذا ويرى "ملالا" أن الحارث قد أخمد ثورة في فلسطين قام بها السامريون في عام 529م4، وهم من بقايا الإسرائيليين الذين بقوا في السامرة -عاصمة إسرائيل- بعد الأسر الأشوري في عام 722ق. م، ثم اختلطوا بالمهجرين الجدد الذين أتى بهم سرجون الثاني "722-705ق. م"، من بلاد بعيدة، ومن ثم فقد ظهر جنس جديد، هم السامريون، الذين يختلفون عن اليهود دما، وإن كانوا أقرب إليهم من غيرهم ثقافة ودينا5، غير أنهم رغم اتفاقهم مع اليهود في عبادة "يهوه"، إلا أن شقاقا قد حدث بين الفريقين حوالي عام 432ق. م، بعد عودة "عزرا" و"نحميا" من السبي البابلي، بسبب النقاوة العنصرية لليهود، ومن ثم فقد أصبح   1 نولدكه: أمراء غسان ص11-12، جواد علي 3/ 406، المشرق، الجزء1 ص485، جرجي زيدان: المرجع السابق ص198-199. 2 انظر عن هذا النقش E. Glaser, Mvg, 1897, P.390 وكذا Le Museon, 66, P.360 وكذا A. Sprenger, Op. Cit., P.189, 306 وكذا A. Beeston, Bsoas, 16, 1954 وكذا A.J. Drewes, Inscriptions De L'ethique, 1961, 65, 1962, 71 وكذا F. Altheim And R. Stiehl, Op. Cit., I, P.587 3 بلاشير: المرجع السابق ص60، عبد اللطيف الطيباوي: المرجع السابق ص13، جواد علي 3/ 406-407، وكذا Provincia Arabia, Ii, P.174 4 نولدكه: أمراء غسان ص10، جواد علي 3/ 405، وكذا O'leary, Op. Cit., P.164 وكذا P.K. Hitti, Op. Cit., P.79. وكذا Malalas, Ii, P.108 5 انظر كتابنا "إسرائيل" ص511-512، وكذا C. Noth, Op. Cit., P.28-9 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 السامريون يتخذون من "جرزيم"- وليس أورشليم- مكانا مقدسا لهم، وأن التوراة المعترف بها في نظرهم، إنما هي الأسفار الخمسة الأولى دون سواها، وإن أضافوا إليها في بعض الأحايين سفر يشوع، ومن ثم فإن كتابهم المقدس إنما يتكون من ستة أسفار فقط "التكوين، الخروج، اللاويين، العدد التثنية، يشوع"1. وعلى أي حال، ففي 19 من أبريل عام 531م، تنشب معركة حامية الوطيس بين الفرس والروم، يشترك فيها الحارث بن جبلة إلى جانب الروم تحت قيادة "بليزاريوس"، وتنتهي بنصر للفرس وهزيمة للروم، وبإلقاء ظلال من شك في إخلاص الحارث للروم، ولعل السبب في ذلك أن الحارث لم يكد يعبر الدجلة حتى ارتد إلى مواقعة السابقة عن طريق غير التي سلكها معظم الجيش، وربما أنف الرجل أن يعمل تحت قيادة بيزنطي، وربما كان يفضل أن يعمل بمفرده، وربما كان السبب خلافا بين الرجلين على أمر ما2. وفي عام 544م، تتجدد المعارك بين الحارث والمنذر، وينتهي القتال بهزيمة الأمير الغساني وأسر أحد أولاده، الذي قدمه المنذر قربانا للإلهة العزى، وفي عام 545م "أو 546م" ترفرف رايات السلام على المعسكرين المتنافسين -الفرس والروم- ولكن الأمر كان جد مختلف بالنسبة لحلفائهما من المناذرة والغساسنة، إذ سرعان ما يتجدد القتال بينهما، وهناك، وعلى مقربة من "قنسرين" تنشب بين المنذر والحارث معركة رهيبة في عام 554م، تنتهي بقتل المنذر نفسه، فضلا عن ابن للحارث يدعى "جبلة" دفنه أبوه في قلعة "عين عوداجة" على مقربة من قنسرين -وربما كانت "عذبة" الحالية على مقربة من الطريق الروماني- على أن "نولدكه" إنما يرى أن الموقعة قد حدثت بالقرب من "الحيار" ربما اعتمادا على رواية عربية   1 ملوك ثان: 17: 25، 33، نحميا 13: 28، قاموس الكتاب المقدس 1/ 451، فيليب حتى: المرجع السابق ص214، كتابنا إسرائيل ص20، حسن ظاظا: الفكر الديني الإسرائيلي ص248 249، وكذا M. Unger, Op. Cit., P.959 2 نولدكه: المرجع السابق ص18، جرجي زيدان: المرجع السابق ص199-200، عبد العزيز سالم: المرجع السابق ص281، جواد علي 3/ 407، بلاشير: المرجع السابق ص60، وكذا P.K. Hitti, Op. Cit., P.79 وكذا A. Musil, Palmyrena P.274 وكذا Malalas, 2, 199, 202. وكذا Procopius, I, 8 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 510 تجعل موت المنذر في هذا المكان قريبا من "قنسرين"1. ولعل هذه المعركة هي التي عرفت في أخبار العرب بـ"يوم حليمة"؛ ذلك لأن حليمة بنت الحارث هذه -طبقا للرواية العربية- كانت تحرض الرجال على القتال، أو لأن أباها قد أعلن أنها سوف تكون زوجة لمن يقتل المنذر، أو لأنها كانت قد أقبلت على مائة من المحاربين تطيب أجسامهم وتلبسهم الأكفان والدروع2، وأيا ما كان الأمر، فهناك ما يشير إلى شهرة هذا اليوم من بين أيام العرب في الجاهلية، فقد جاء ذكره في شعر النابغة الذبياني، كما جاء في الأمثال، "ما يوم حليمة بسر"3، وإن كان "نولدكه" إنما يذهب إلى أن "حليمة" هذا، إنما هو اسم مكان، وليس اسما لامرأة، هي ابنة الحارث -طبقا لرواية الأخباريين- كما أنه لا يفرق بين المواضع والمعارك التي دارت في "الحيار" و"ذات الخيار" و"يوم الحيارين"، التي ترددت في كتب التاريخ والشعر العربي، كما أنه يرى أنها جميعا، إنما تشير إلى معركة واحدة، لقي المنذر فيها حتفه4. وعلى أي حال، فهناك ما يشير إلى أن الحارث قد اعتنق النصرانية على المذهب "المونوفيزي" القائل بوجود طبيعة واحدة للسيد المسيح، وليس طبيعتين -الواحدة إلهية، والأخرى بشرية- ومن ثم فقد سعى في عام 542/ 543م، لدى الإمبراطورة "ثيودورة" زوج الإمبراطور جستنيان "527-565م" لتعيين يعقوب البرادعي، مؤسس الكنيسة السورية اليعقوبية ورفيقه "ثيودوروس" أسقفين في المقاطعة العربية   1 نولدكه: المرجع السابق ص18، فيليب حتى: المرجع السابق ص448، المعارف ص218، قارن: أبو الفداء 1/ 84، وانظر: A. MUSIL, POLMYRENA, P.144 J.B. BURY, OP. CIT., P.92. وكذا P.K. HITTI, OP. CIT., P.79, 82 2 المعارف ص280، مجمع الأمثال 2/ 272-273، المفضليات ص187، خزانة الأدب 3/ 303، إبن خلدون 2/ 281، أيام العرب في الجاهلية ص54-55، جرجي زيدان: المرجع السابق ص200-201، عبد اللطيف الطيباوي: المرجع السابق ص13-14، سعد زغلول: المرجع السابق ص208، وكذا P.K. HITTI, OP. CIT., P.79 3 ابن الأثير 1/ 542-547، ديوان النابغة ص37، صحيح الأخبار 2/ 26، ياقوت 1/ 296-7-2. 4 ابن الأثير 1/ 541، نولدكه: المرجع السابق ص19-20، البكري 2/ 465، صحيح الأخبار 4/ 13-14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 511 السورية على رأي1، وفي أثناء رحلته إلى القسطنطينية في عام 563م، على رأي آخر2. وأيا ما كان الأمر، فلقد عمل الحارث على نشر المذهب المونوفيزي في دويلته، وأصبحت "بصرى" عاصمة دينية للمنطقة، وذلك على الرغم من أن الإمبراطورية الرومانية كانت تنظر إلى هذا المذهب المسيحي نظرة شك وريبة، ومن ثم فقد كان هذا سببا في أن ينظر الإمبراطور إلى الحارث نفسه، نظرة الشك ذاتها، وزاد النار اشتعالا بطارقة القسطنطينة الذين كانوا يكرهون المذهب اليعقوبي، ويعتبرونه نوعا من الهرطقة الدينية3. ومهما يكن من أمر، فلقد وصلت دولة الغساسنة وقت ذاك إلى ذروة اتساعها، فقد كانت تمتد من قرب البتراء إلى الرصافة شمالي تدمر، وتشمل البلقاء والصفا وحران، وأصبحت "بصرى" التي بنيت "كاتدارئيتها" في عام 512م العاصمة الدينية في المنطقة، فضلا عن شهرتها كمركز تجاري مهم4. وفي عام 563م، زار الحارث جستنيان في القسطنطينية، فترك أثرا عميقا في نفوس رجال البلاط الإمبراطوري، كشيخ عربي مهيب، وإن لم يقابل بما يجب أن يقابل به الأبطال من مظاهر الحفاوة والتكريم، بسبب الخلافات المذهبية، ولعل السبب في هذه الزيارة، إنما كان مفاوضة الرومان فيمن يخلفه من أولاده، فضلا عن الاتفاق على السياسة التي يجب اتخاذها إزاء "عمرو بن المنذر"5.   1 نولدكه: المرجع السابق ص20-21، عبد العزيز سالم: المرجع السابق ص484، وكذا وكذا J.B. BURY, OP. CIT., II, 391 وكذا R. BELL, OP. CIT., P.21 وكذا W. SMITH, OP. CIT., II, P.328 وكذا FRANCOIS NAU, LES ARABES CHRISTIENS, P.52 2 عبد اللطيف الطيباوي: المرجع السابق ص14، وكذا P.K. HITTI, OP. CIT., P.79 3 نولدكه: المرجع السابق ص22، المشرق، الجزء11، ص486 وكذا PROVINCIA ARABIA, II, P.174. وكذا R. BELL, OP. CIT., P.23 4 فيليب حتى: المرجع السابق ص448. 5 نولدكه: المرجع السابق ص20، جواد علي 3/ 409، جرجي زيدان: المرجع السابق ص201 سعد زغلول المرجع السابق ص209، عبد اللطيف الطيباوي: المرجع السابق ص14، فيليب حتى: المرجع السابق ص448، وكذا O'LEARY, OP. CIT., P.165 وكذا F. NAU, OP. CIT., P.58 وكذا THEOPHANES, CHRONOLOGRAPHIA, P.24 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 وجاء بعد الحارث ولده المنذر "569-581م، أو 570-582م"1، وهو المعروف بـ "Aiamoundaroes" عند اليونان والسريان، وبالمنذر الأكبر عند "حمزة الأصفهاني"2، وقد نهج نهج أبيه في معاداة اللخميين أتباع الفرس، وإن كان أكبر الظن أن ملك الحيرة "قابوس بن هند" هوالبادئ بالحرب، وهكذا دارت رحى الحرب بين الفريقين عند "عين أباغ" في مايو من عام 570م، كتب النصر فيها للمنذر الغساني، ولقي اللخميون هزيمة نكراء3. وما أن يمضي حين من الدهر، حتى تبدأ العلاقات بين الروم وآل جفنة تتلبد بالغيوم، ربما بسبب الخلافات المذهبية بين الفريقين وتعصب المنذر الغساني للمذهب المونوفيزي، بل إن هناك من يذهب إلى أن المنذر قد عقد مجمعا كنسيا أعلن فيه هرطقة القائلين بالتثليث، وعلى رأسهم الإمبراطور نفسه، وربما لأن سياسية المنذر كانت هي السبب في استيلاء الفرس على "4Rhomaye". وأيا ما كان السبب فإن الإمبراطور "جستين الثاني" "565-578م"، بدأ يرتاب في ولاء المنذر السياسي، ومن ثم فقد قرر التخلص منه عن طريق البطريق "مرقيانوس"، إلا أن المنذر -على ما يبدو- لم يكن غافلا عما يدور حوله، أو أن حامل الرسالة إلى "مرقيانوس" قد أخطأ صاحبها، فسلمها إلى المنذر بدلا من البطريق، وهكذا قر المنذر إلى البادية، وتحصن بها، بل إن هناك من يذهب إلى أنه قد انتهز الفرصة، فصالح أعداءه التقليديين "ملوك الحيرة"، وقد أدى هذا الوضع الجديد إلى أن يشن قابوس بمفرده -أو بالاشتراك مع المنذر- الغارات على سورية، وأن يعيث فيها فسادًا5.   1 نولدكه: المرجع السابق ص25، جواد علي 3/ 412 وكذا F. ALTHEIM AND E. STIEHL, OP. CIT., I, P.10 2 حمزة الأصفهاني: تاريخ سني ملوك الأرض والأنبياء ص68 وكذا PRCOPIUS, BK, I, CH.17, 47 3 نولدكه: المرجع السابق ص27، تاريخ ابن خلدون 2/ 281، محمد الخضري: المرجع السابق ص35، قارن: ابن الأثير 1/ 540-541، أبو الفداء 1/ 97، جواد علي 3/ 413. وكذا PROVINCIA ARABIA, III, P.355 وكذا P.K. HITTI, OP. CIT., P.79 4 عبد اللطيف الطيباوي: المرجع السابق ص15، فيليب حتى: المرجع السابق ص449. 5 نولدكه: المرجع السابق ص26، ريجيس بلاشير: المرجع السابق ص60، فيليب حتى: المرجع السابق ص449، جواد علي 3/ 413-414، سعد زغلول: المرجع السابق ص210 وكذا PROVINCIA ARABIA, II, P.174 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 513 ويضطر الإمبراطور الروماني في عام 578م، إلى عقد صلح مع المنذر في الرصافة، وهناك ما يشير إلى أن ملك غسان قد قام بعدة إصلاحات في الرصافة، كما بنى أو جدد كنيستها1، كما قام في عام 580م، بزيارة القسطنطينية، حيث استقبله "تيبيريوس" الثاني "578-582م" استقبالا حافلا، فضلا عن الإنعام عليه بالهدايا وعلى ولديه برتب عسكرية، إلا أن أعظم المنح إنما كان "التاج" بدل "الإكليل"، الأمر الذي لم يسبق له مثيل مع ملوك الغساسنة، حتى أطلق عليه مؤرخو الروم "المنذر ملك العرب"2. على أن العلاقات بين المنذر والروم، سرعان ما بدأت تسوء من جديد، وربما كان السبب هذه المرة فشل المحاولة اليت قام بها الروم لغزو الفرس، بسبب هدم الجسر المنصوب على الفرات، واتهما المنذر بذلك، وزاد الطين بلة أن المنذر أراد استرضاء الروم فأغار على الحيرة وأحرقها بالنار، ثم عاد محملا بالغنائم الكثيرة، غير أن هذا النجاح الساحق الذي حققه المنذر على اللخميين لم يمح ريبة الروم في ولائه لهم، وإنما اعتبروه تحديا لهم، ورغبة منه في الخروج على طاعتهم، ومن ثم فقد انتهزوا فرصة تدشينه لكنيسة في حوارين، وقبضوا عليه وأرسلوه مخفورا إلى العاصمة البيزنطية، مع إحدى نسائه وبعض بناته وأولاده، حيث بقي هناك، إلى أن تولى "موريس" "582-602م" العرش، فأمر بنفيه إلى صقلية في عام 582م، فلا عن قطع المعونة السنوية عن آل جفنة3. وقد أدى هذا التصرف من جانب البيزنطيين، إلى ثورة أبناء المنذر، وأخذوا يهاجمون حدود الروم بقيادة "النعمان" الذي خدع حوالي عام 584م- كما خدع أبوه من قبل- فأرسل إلى القسطنطينية، وهكذا تصدع ملك الغساسنة، وانقسم   1 P.K. HITTI, OP. CIT., P.80 وكذاA. MUSIL, OP. CIT., P.165, 264, 323 وكذا F. NAU, OP. CIT., P.69 2 جرجي زيدان: المرجع السابق ص201، سعد زغلول، المرجع السابق ص210، عبد اللطيف الطيباوي: المرجع السابق ص15، وكذا P.K. HITTI, OP. CIT., P.80 وكذا F. ALTHEIM AND R. STIEHL, OP. CIT., I, P.10 وكذا A. MUSIL, Op. Cit., P.263-4, 267 3 نولدكه: المرجع السابق ص30-31، فيليب حتى: المرجع السابق ص449، ريجيس بلاشير: المرجع السابق ص60. وكذا Provincia Arabia, Ii, P.175. وكذا P.K Hitti, Op. Cit., P.80 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 514 أمراؤهم شيعًا وأحزابًا، وحاول الروم أن يجدوا لهم بديلا في القبائل العربية، لإعادة الأمن وحماية الحدود من عرب الحيرة، ولكن دون جدوى1، حتى استطاع الفرس على أيام "كسرى أبرويز" "590-628م" غزو سورية "611-614م" فاستولوا على أنطاكية ودمشق وبيت المقدس وخلقدونية -في مقابل القسطنطينية بآسيا الصغرى- ثم فتحوا مصر في عام 619م، وإن كان، فيما يبدو، أن هرقل "610-641م" حين نجح في استعادة سورية عام 629م، ربما استعمل الغساسنة مرة أخرى، بدليل أنهم قد حاربوا المسلمين مرارا في جانب الروم، وأن خالد بن الوليد قد أوقع بهم في "مرج الصفر" جنوب دمشق، عام 634م2. وأيا ما كان الأمر، فإن الروايات العربية تنظر إلى "جبلة بن الأيهم" على أنه آخر الغساسنة، وأنه قد حارب المسلمين في جانب الروم في موقعة اليرموك عام 636م، على أن رواية أخرى إنما تذهب إلى أنه قد انحاز إلى جانب الأنصار، قائلا "أنتم إخوتنا، وبنو أبينا"، وأظهر الإسلام3، إلا أنه قد ارتد بعد ذلك بسبب إهانة لحقته، حين وطئ أعرابي من فزارة فضل إزاره، وهو يسحبه في الأرض بمكة، فلطمه جبلة، ومن ثم فقد نابذه الأعرابي إلى الخليفة الراشد "عمر بن الخطاب" -رضي الله عنه وأرضاه- فحكم له بالقصاص، واعتبر "جبلة" ذلك إهانة له، ففر إلى بلاد الروم وارتد عن الإسلام، وبقي هناك حتى وافته منيته4. على أن رواية أخرى إنما تذهب إلى أن الحادث إنما كان في دمشق- وليس في مكة- وأنه كان عندما مر جبلة في سوقها فأوطأ رجلا فرسه، فوثب الرجل فلطمه،   1 نولدكه: المرجع السابق ص33، 35، عبد اللطيف الطيباوي: المرجع السابق ص15، وكذا Ei, Ii, P.143 2 عبد العزيز سالم: المرجع السابق ص293، هـ. ج. ويلز: موجز تاريخ العالم ص195، قارن: سعد زغلول: المرجع السابق ص214. 3 فتوح البلدان ص141، جواد علي 3/ 427، قارن: تارخ الطبري 3/ 378، عبد اللطيف الطيباوي: المرجع السابق ص16. 4 مروج الذهب 2/ 84-85، تاريخ ابن خلدون 2/ 281، المحبر ص372، تاريخ الخميس 2/ 61، الأغاني 14/ 2، وما بعدها، عبد اللطيف الطيباوي، المرجع السابق ص20، قارن: العقد الفريد 1/ 187 وكذا P.K. Hitti, Op. Cit., P.80 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 فأدخلوه على "أبي عبيدة بن الجراح" الذي حكم بالقصاص، وكان جبلة يريد أن يقتل الرجل أو تقطع يده، فرفض أبو عبيدة، إلا حكم الله، فخرج جبلة إلى بلاد الروم وارتد1، وأخيرا فهناك رواية ثالثة تذهب إلى أن جبلة لم يدخل في الإسلام أبدا2.   1 ابن سعد: الطبقات الكبرى 1/ 265، المعارف ص281، قارن: الواقدي: فتوح الشام 1/ 106، 110، 114. 2 البلاذري: فتوح البلدان ص142 ما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 516 الفصل الثامن عشر: المناذرة 1- مدينة الحيرة : كان العرب منذ قديم الزمان يهاجرون إلى تخوم شبه الجزيرة العربية الشرقية، حتى إذا ما وصلوا إلى وادي الفرات أقاموا في ربوعه، وفي أوائل القرن الثالث الميلادي، وإبان الاضطرابات التي أعقبت سقوط الأسرة البارثية وقيام الأسرة الساسانية في حوالي عام 226م، تحت زعامة "أردشير بن بابك بن ساسان" وفدت طلائع عربية جديدة من قبائل تنوخ اليمنية، وسكنت في المنطقة الخصبة الواقعة إلى الغرب من الفرات، وما أن يمضي حين من الدهر حتى تحولت الخيام إلى مدينة عرفت "بالحيرة"، تحولت بمرور الأيام إلى إمارة الحيرة- وراء نهر الفرات عند منعطفه نحو دجلة، واقترابه منه على مبعدة خمسين كيلو مترا- التي أصبحت بمثابة حصن للملك الفارسي حيال العرب الرحل1. على أن هناك من يرجع بتاريخ المدينة إلى أيام الملك البابلي "نبوخذ نصر" "605-562ق. م" طبقا لرواية سبق لنا مناقشتها في هذه الدراسة2- بينما يرى آخرون أن مؤسس الحيرة إنما هو "الأردوان" ملك الأنباط3، بينما يذهب فريق ثالث إلى أنها من بناء "تبع أب كرب"4، وأخيرًا فهناك من يرى أنها مدينة بارثية5.   1 آرثر كريستنس: المرجع السابق ص82. 2 انظر: تاريخ الطبري 1/ 558-560، ياقوت 2/ 329. 3 ياقوت 2/ 329. 4 ياقوت 2/ 329-330، البكري 2/ 478-479. 5 عبد العزيز سالم: المرجع السابق ص318، وكذا A. Musil, The Middle Euphrates, P.102 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 517 وليس هناك من شك في أن "الحيرة" مدينة قديمة، وإن كنا لا نعرف تاريخها على وجه التحقيق، ولعل أقدم ما وصلنا عنها إنما هي كتابة ترجع إلى عام 132م، ذكرت فيها المدينة تحت اسم "حيرتا"، فإذا كانت "حيرتا" هذه، إنما هي "الحيرة" حقا، فإن أقدم ما نعرفه عنها إنما يرجع إلى عام 132م1، ولعل مما تجدر ملاحظته هنا أن الحفريات لم تقدم لنا شيئا يمكن الاعتماد عليه فيما يتصل بموقع المدينة وتاريخها، وأن كل ما وصلنا لا يعدو نقوشا من الجبس مما تكسى به الجدران، فضلا عن مجموعة من الجرار وآثار صغيرة، بعضها يرجع إلى ما قبل الإسلام، ويرجع بعضها الآخر إلى العصر الإسلامي2. وقد اختلف المؤرخون في تفسير اسم "الحيرة" ومصدر اشتقاقه، فهناك رواية تذهب إلى أن "تبان أسعد أب كرب" كان قد خرج من اليمن يريد الأنبار، فلما انتهى إلى موضع الحيرة ليلا تحير، فأقام مكانه، ومن ثم فقد سمي ذلك الموضع "الحيرة"3، وتذهب رواية أخرى إلى أن "تبعا الأكبر" قد ترك ضعاف جنود في ذلك الموضع، وقال لهم "حنروابه" أي أقيموا به4. هذا ويذهب العلماء المحدثون إلى أن كلمة "الحيرة" إنما هي كلمة "أرامية" وأنها "حرتا" "حرتو" السريانية الأصل، بمعنى "المخيم أو المعسكر" وأنها تقابل "المعسكر" عند المسلمين، و"حاصير" عند العبرانيين5. على أن هناك من يرى أن الحيرة الآرامية، والحير العربي، إنما هما من أصل سامٍ واحد، ذلك أن المضرب والمعسكر والحمى، إنما هي ألفاظ يدل أصلها على   1 جواد علي 3/ 157، وكذا Cis, Ii, P.156, Iii, P.3073 2 جواد علي 3/ 160 وكذا D. Talbot Rice, The Oxford Excavation At Hira, In Ars. Islamica I, Part, I, P.51. 3 ابن الأثير 1/ 276-277، تاريخ الطبري 1/ 566-567، ملوك حمير وأقيال اليمن ص132، ياقوت 2/ 329 البكري 2/ 479، جواد علي 3/ 162. 4 البكري 2/ 478، ياقوت الحموي: معجم البلدان 2/ 329. 5 ريجيس بلاشير: المرجع السابق ص85، وكذا A. Musil, Palmyrena, P.289 وكذا F. Altheim, Geschichte Der Hunnen, I, 1959, P.130 وكذا G. Rothstein, Die Dynastie Der Lakhmiden, Iu Ol Hira, Berlin, 1899. P.12 وكذا Zdmg, 32, P.753. وكذا Ei, Ii, P.314 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 518 معنى واحد1، ويميل أستاذنا الدكتور عبد العزيز سالم إلى هذا الرأي، معتمدا في ذلك على وصف "اليعقوبي" على خطط "سر من رأى" والحير الذي أقيم بها، وجعل حظيرة للوحش من الظباء والحمير الوحشي والأيايل والأرانب والأنعام2. وتقع الحيرة قريبا من مدينة بابل القديمة، وعلى مبعدة ثلاثة أميال إلى الجنوب من الكوفة3، في نهاية طريق يجتاز شبه الجزيرة العربية، ومن ثم فقد غدت بحكم موقعها الجغرافي هذا، مركزا هاما جدا للقوافل، لم يسع الساسانين إهماله، ومن ثم فما تكاد تقيم فيه سلالة عربية حتى يضعوها تحت حمايتهم4. هذا وقد اشتهرت المدينة باسم "حيرة النعمان" عند المؤرخين العرب، و"الحيرة مدينة العرب" عند المؤرخين السريان، و"حيرته" في المجمع الكنسي الذي عقد في عام 410م، كما سميت كذلك باسم "حيرة النعمان التي في بلاد الفرس" في تاريخ يوحنا الإفسوسي -من القرن السادس الميلادي- وأما "التلمود" فقد أطلق عليها اسم "حيرتا دي طيبة" أي "معسكر العرب وحيرة العرب"6، وقد أطنبت المؤلفات العربية في وصف هوائها النقي، وصفاء جوها، وعذوبة مائها، حتى قيل "يوم وليلة بالحيرة خير من دواء سنة" وقيل "إنها منزل بريء مريء صحيح من الأدواء والأسقام" و"أن هوءاها وترابها أصح من الكوفة"، ولعل كل هذه الأوصاف ربما كانت السبب في أن تقول العرب "لبيتة ليلة بالحيرة أنفع من تناول شربة"، بل إن "حمزة الأصفهاني" ليزعم أنه لم يمت بالحيرة بسبب هوائها النقي أحد من الملوك إلا قابوس بن المنذر"7.   1 يوسف رزق الله غنيمة: الحيرة المدينة والمملكة العربية ص11. 2 عبد العزيز سالم: المرجع السابق ص320، كتاب البلدان ص263. 3 P.K. Hitti, Op. Cit., P.81 4 ريجيس بلاشير: المرجع السابق ص58. 5 جواد علي 3/ 156، وكذا Zdmg, 43, P.388 وكذاA. Musil, Op. Cit., P.20 وكذا John Of Ephesus, 10, 13, 352 وكذا J. Obermeyer, Die Landschaft Babylonien, P.234 وكذا F. Altheim And R.Stiehl, Op. Cit., I, P.275, Ii, P.225 6 جواد علي 3/ 156-157. 7 حمزة الأصفهاني: المرجع السابق ص75، البكري 2/ 479، الميداني 2/ 137-139، جواد علي 3/ 158. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 519 هذا وقد كان لعرب الحيرة لهجة من اللسان العربي يتحدثون بها في حياتهم العادية، وأما في الكتابة فقد كانوا يستعملون السريانية، ولعلهم في هذا يشبهون الأنباط والتدمريين الذين كانوا يتكلمون العربية ويكتبون بالآرامية، هذا وهناك من يذهب إلى أن دخول النصرانية إلى اليمن إنما كان بجهود رجال الكنيسة السورية في الحيرة، فضلا عن انتقال الكتابة من الحيرة إلى الحجاز1، وعلى أية حال، فلقد أصبحت الحيرة في القرن السادس الميلادي، وعلى أثر اتساع نفوذ سلالة اللخميين نقطة التقاء للتيارات الإيرانية والآرامية على حدود المحيط العربي الفاصلة، حتى لقد ظهرت المدينة بمظهر العاصمة الفكرية2.   1 انظر: المزهر 2/ 349، صبح الأعشى 3/ 10، مقدمة ابن خلدون ص349، الجهشياري: كتاب الوزراء والكتاب ص2 وما بعدها، كتاب المصاحف للسجستاني 1/ 4-5، الأعلاق النفيسة لابن رسته ص192، 217 "طبعة ليدن 1892م" قارن: المعارف ص247 وما بعدها، ثم انظر: F.A Itheim And R. Stiehl, Op. Cit., I, P.198 P.K. Hitti, Op. Cit., P.84 2 ريجيس بلاشير: المرجع السابق ص62. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 520 2- ملوك الحيرة : يزعم الأخباريون أن مالك بن فهم الأزدي أول من ولي أمر العرب في العراق، وأنه كان يسكن الأنبار، ثم جاء من بعده أخوه "عمرو" على رأي، و"جذيمة الأبرش" -صاحب القصة المشهورة مع الزباء- على رأي آخر1، على أن المؤسس الحقيقي لدولة اللخميين إنما كان "عمرو بن عدي"2 "268-288م"، ابن أخت جذيمة، وأول من اتخذ الحيرة منزلا من ملوك العرب، وأول من مجده أهل الحيرة في كتبهم، وإليه ينسب ملوك العرب في العراق3. وجاء بعده ولده، "امرؤ القيس" "288-328م" -والمعروف بامرئ القيس   1 تاريخ اليعقوبي 1/ 208، تاريخ الطبري 1/ 617-627، بلوغ الأرب 2/ 157، ياقوت 2/ 329-330، البكري 2/ 479، محمد الخضري: المرجع السابق ص30، حمزة الأصفهاني: المرجع السابق ص64، وكذا P.K. Hitti, Op. Cit., P.82 2 انظر عن قوائم ملوك الحيرة: جواد علي 3/ 304-314، كتاب المحبر ص358-361، حمزة الأصفهاني: المرجع السابق ص65 وما بعدها، ومروج الذهب للمسعودي ص65، 74، 75، 80، 81، تاريخ اليعقوبي 1/ 208-215. 3 تاريخ الطبري 1/ 627، ياقوت 2/ 330-331، تاريخ اليعقوبي 1/ 209، الاشتقاق 2/ 377-378. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 520 البدء، وامرئ القيس الأول -وكان ملكه واسعا، فقد كان عاملا لملك الفرس على فرج العرب من ربيعة ومضر وسائر من ببادية العراق والحجاز والجزيرة، كما كان أول من تنصر من ملوك آل نصر بن ربيعة وعمال ملوك الفرس -فيما يرى الأخباريون1. وامرؤ القيس هذا هو صاحب "نقش النمارة"2 -الذي أشرنا إليه من قبل- والذي يمكن أن نستخلص منه عدة نتائج، منها "أولا" أن امرأ القيس هذا، إنما هو أول ملوك الحيرة الذي وصل إلينا بعضا من أخبارهم مكتوبا، ومنها "ثانيا" أنه قد توفي في عام 328م "الموافق لعام 223 من تقويم بصرى"3، ومنها "ثالثا" أن النص- وهو أقدم وثيقة مكتوبة باللغة العربية- يؤكد أن لغتنا العربية كانت هي هي، منذ ما قبل الجاهلية المعروفة في تاريخ الأدب العربي، وهي متأخرة في الزمن بنحو قرنين من الزمان على الأقل بالنسبة إليه، ومنها "رابعا" أن النص يؤكد لنا أن المناذرة -شأنهم في ذلك شأن الغساسنة- إنما هم عرب شماليون؛ لأنه مكتوب بلغة عربية شمالية، وبالحرف النبطي، وليس باللغة الحميرية أو الحرف المسند4، وهو بهذا يمثل مرحلة انتقال من الحروف النبطية إلى الحروف العربية الشمالية التي لا تزال مستعملة حتى الآن5، لأن الخط العربي الشائع بيننا الآن منحول عن الخط النبطي الذي كان شائعا في مملكة الأنباط6 -كما أشرنا من قبل.   1 تاريخ الطبري 2/ 53، ابن خلدون 2/ 171، 263، قارن: مروج الذهب 2/ 74، تاريخ اليعقوبي 1/ 209. 2 انظر عن نقش النمارة: حسن ظاظا: المرجع السابق ص165-173، جواد علي 3/ 191-192، رينيه ديسو: المرجع السابق ص33، جرجي زيدان: المرجع السابق ص210-212، فيليب حتى: تاريخ العرب ص108-109. وكذا R. Dussaud, Nabateo-Arabe D'an Nemara, Rev. Arch. 2, P.409-21 وكذا R. Dussaud Arabes En Syrie Avant I'islam, P.34-42 وكذا Le Museon, 1964, 3-4, P.456f 3 F. Nau, Op. Cit., P.32 وكذا J. Cantineau, Op. Cit., P.49 وكذا Rep, Epig, I, 3561 وكذا Syria, Iv, 1923, P.154 وكذا F. Altheim And R. Stiehl, Op. Cit., P.313 4 حسن ظاظا: المرجع السابق ص173، جرجي زيدان: المرجع السابق ص21211. 5 فيليب حتى: المرجع السابق ص108-109، وكذا P.K. Hitti, Op. Cit., P.82 6 جرجي زيدان: تاريخ التمدن الإسلامي 3/ 54، عبد الرحمن الأنصاري: المرجع السابق ص89، عباس العقاد: المرجع السابق ص136، سعد زغلول: المرجع السابق ص137، وكذا P.K. Hitti, Op. Cit., P.82. وكذا Martin Sprenling, Op. Cit., P.52 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 521 ومنها "خامسا" أن النص إنما يفيد أن امرأ القيس قد فتح معظم شبه الجزيرة العربية، ومن ثم فهذا يتناقض والروايات التي تنسب إلى "شمر يهرعش" الفتوحات العظيمة، وتجعله فاتحا للعراق وما وراءه حتى الصين، وتعكس القضية تماما، بل إن النص إنما يصل بفتوحات امرئ القيس حتى أسوار نجران، ومن ثم فقد سمي -كما يقول النص- "ملك العرب كلهم" و"لم يبلغ ملك مبلغه"، وبعبارة أخرى فقد مد حكمه من الحيرة وبلاد الشام إلى نجد والحجاز، حتى بلغ مدينة نجران1، وإن كان يبدو لي أن في النص مبالغات، شأنه في ذلك شأن روايات الأخباريين عن "شهر يهرعش"، وإن كانت الأخيرة تكاد أن تكون أقرب إلى الأساطير منها إلى حقائق التاريخ. على أن في "نقش النمارة" عبارة تدعو إلى التساؤل، وذلك حين يقول النقش "واستعمل أبناءه على القبائل، ووكلهم على الفرس والروم" مما دعا بعض الباحثين إلى أن يرى امرأ القيس قد جاء إلى الشام -حيث كتب النص بعد وفاته في النمارة- على إثر خلاف بين أمراء الفرس على العرش وأن الخلاف قد انتهى في غير مصلحة الحزب الذي كان يؤيده امرؤ القيس، ومن ثم فقد أقام في الشام، وبدأ يتجه نحو الروم، الذين انتهزوا الفرصة فأقروه على عرب الشام، وبالتالي فإن الرجل قد عمل في أول أمره للفرس، ثم بعد ذلك للروم2، ومن ثم فإن القراءة الصحيحة، ربما تكون "واستعمل أبناءه على الشعوب وجعلهم فرسانا للروم"، وهذا يعني أن امرأ القيس كان يعمل عند وفانه للروم فحسب، لأنه ليس من المقبول أن يذكر عمله للفرس في نص مكتوب في بلاد تخضع للروم، وحتى لو كان قد امتلك هذه المنطقة بحد السيف، فالمنطق هنا يستدعي عدم ذكر الروم، ويرى "كلير مونت جانيو" أن لفظ التاج وحده كاف على علاقة امرئ القيس بالفرس، لأنه من ألقاب ملوك الحيرة، وأما وجود قبره في حوران، فربما كان دليلا على أن سلطته قد امتدت إلى هناك3، ومع ذلك، وعلى فرض صحة تفسير، "كلير مونت جانيو" هذا،   1 جواد علي 3/ 190-191، وكذا Le Museon, 1964, 3-4, P.456, 486 وكذا F. Altheim And R. Stiehl, P.Cit., Ii, P.321 2 رينية ديسو: العرب في سورية قبل الإسلام ص36، وكذا F. Altheim And R. Stiehl Op. Cit., Ii, P.319 3 جرجي زيدان: العرب قبل الإسلام ص212، وانظر: بلاشير: المرجع السابق ص58، وكذا Clermont Ganneau, Recueil D'archeologie Orient, Vi, P.395, Vii, P.167 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 522 فيبقى سؤالنا: لماذا ذكر الروم في نص امرئ القيس هذا؟ بدون جواب. ويرى الطبري أن الفرس قد استعملوا "عمرو بن امرئ القيس" "328-363م" بعد أبيه، ثم تلاه "أوس بن قلام"1 "363-368م"، والرجل -كما يبدو من اسمه- ليس من بني لخم، ومن ثم فهناك من يرى أن نزاعا قد حدث بين أولاد عمرو على وراثة العرش، مما أدى إلى قيام الفتن والاضطرابات، فأقام "سابور ذو الأكتاف" "310-379م" "أوسا" هذا ملكا على الحيرة2، غير أن "أوسا" سرعان ما قتل بيد أحد أبناء بني نصر، فعادت حكومة الحيرة إليهم، في شخص "امرئ القيس بن عمرو بن امرئ القيس" "368-390م"3. وجاء "النعمان الأول" "390-418م" -والمعروف بالنعمان الأعور، والنعمان السائح- بعد أبيه امرئ القيس الثاني، وينسب الإخباريون إليه بناء "قصر الخورنق" "وهو لفظة فارسية بمعنى حصن منيع"، ليقيم فيه "بهرام بن يزدجر الأول" "399-410م" ملك الفرس، وأن الذي بناه إنما هو رجل رومي يدعى "سنمار"، كتب عليه أن يلقى ميتة عنيفة على يد "النعمان" نفسه، ذلك أن سنمار بعد أن فرغ من بنائه، وأعجب النعمان به قال: "لو عرفت أنكم توفونني أجري، وتصنعون بي ما أنا أهله، لجعلته بناء يدور مع الشمس حيثما دارت"، فقال النعمان: "وإنك لتقدر على بناء ما هو أفضل منه ثم لم تبنه"؟، وأمر به فطرح من رأس الخورنق، على أن هناك رواية أخرى تذهب إلى أن سنمار قد أخبر النعمان، إنه يعرف في القصر حجرا واحدا، وأنه لو حرك من مكانه لتردى القصر، ثم عرف الملك موضع الحجر، وخشي أن يدل سنمار آخرين عليه، فأمر به فأردى من أعلى القصر فتقطع، فضربت العرب به المثل4.   1 تاريخ الطبري 2/ 61-65، ابن الأثير 1/ 400، الأغاني 2/ 18، حمزة الأصفهاني: المرجع السابق ص67. 2 يوسف رزق الله المرجع السابق ص141. 3 جرجي زيدان: المرجع السابق ص213، وانظر: تاريخ الطبري 2/ 61-65، ابن الأثير 1/ 396-400. 4 تاريخ الطبري 2/ 65066، مروج الذهب 2/ 74، نهاية الأرب 1/ 213-214، البكري 2/ 15-516، المحبر ص358، ابن خلدون 2/ 263، ياقوت 2/ 401-403، الميداني 1/ 159-160، ابن الأثير 1/ 400-401، الروض الأنف 1/ 67، تاج اللغة 1/ 79، الأغاني 2/ 144، اللسان 1/ 78، 4/ 383، 10/ 79، أمثال العرب للمفضل الضبي ص96، دائرة المعارف الإسلامية 9/ 35، القاموس 3/ 22، سعد زغلول: المرجع السابق ص218، حمزة الأصفهاني: المرجع السابق ص68، محمد مبروك نافع: المرجع السابق ص112، وكذا P.K. Hitti, Op. Cit., P.82 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 523 ويبدو أن النعمان كان على علاقة طيبة بالنصارى من قومه -على الأقل في الفترة الأخيرة من حكمه- وأنه بدأ يتقبل المسيحية، أو أنه كان يميل إليها، ولعل السبب في ذلك، أننا نقرأ في سجل الكنيسة الشرقية أن الحيرة كان عليها أسقف في عام 410م، وأن ملكها قد حمى النصرانية، ومن ثم فقد كانت الروايات التي تدور حول تنسكه حين أدرك أن حطام الدنيا لا محالة زائل، بما فيها قصره الفخم، ومن ثم فقد زهد فيها، وعكف على البر والتقوى، فانقلب سائحا زاهد1، وإن كان أمر اعتناقه المسيحية ما يزال موضع شك كبير، ذلك لأن ملوك الحيرة كانوا حتى أواسط القرن السادس الميلادي ما يزالون على الوثنية، وأن المنذر بن ماء السماء كان يقدم الذبائح البشرية إلى العزى2. وعلى أي حال، فلقد اشتهر النعمان كذلك بكتيبتي الخيالة الشهيرتين عند العرب، وهما: الدوسر ورجالها من الفرس، والشهباء ورجالها من تنوخ، وغزا بهما عرب الشام عدة مرات، وعلى أيامه ازدهرت مدينة الحيرة، كما لم تكن من قبل3. وجاء بعد النعمان ولده "المنذر" "418-462م" من زوجه "هند بنت زيد مناة بن زيد الله بن عمرو الغساني"4، وقد وصلت الحيرة في عهده إلى درجة مكنتها من أن يكون لها صوت مسموع في أحداث العصر، كما مكنت المنذر من أن يحمل كهنة الفرس على تتويج "بهرام" الذي رباه أبوه النعمان، غير عابئين بمنع آخر كان يسعى إلى العرش بكل قوته5. وقد شارك المنذر في الحروب التي قامت بين الفرس والروم، بسبب اضطهاد   1 تاريخ الطبري 2/ 67-68، تاريخ اليعقوبي 1/ 209، ابن الأثير 1/ 401، ياقوت 2/ 402، كتاب المعارف ص282، بلوغ الأرب 1/ 214، المقدسي 3/ 199-200، المحبر ص358-359، جرجي زيدان: المرجع السابق ص223، سعد زغلول: المرجع السابق ص218-219 R. Nicholson, Op. Cit., P.41. وكذا P.K. Hitti, Op. Cit., P.83 2 جرجي زيدان: المرجع السابق ص223. 3 سعد زغلول: المرجع السابق 218. 4 تاريخ الطبري 2/ 90، حمزة الأصفهاني: المرجع السابق ص69. 5 P.K. Hitti, History Of The Arabas, P.82-3 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 524 المسيحيين في فارس، وكانت أرض العراق هي ميدان المعركة، وحاصر الروم "نصيبين"، وأسرع "بهرام" لإنقاذها، واشترك المنذر في المعارك، كما اتجه بعد ذلك إلى أنطاكية للاستيلاء عليها، إلا أنه لم يحقق نصرا، وانتهت الأمور بعقد صلح بين الفرس والروم في عام 422م1. وجاء بعد المنذر ولده الأسود، ثم أخوه المنذر، ثم النعمان بن الأسود، ثم انتقل العرش بعد ذلك من أمراء بني نصر، إلى "يعفر بن علقمة"، غير أنه عاد مرة أخرى إلى بني نصر، حيث تولى عرش الحيرة "امرؤ القيس الثالث" ثم "المنذر بن امرئ القيس" "596 أو 508-554م"2، والذي يعرف بذي القرنين، بسبب ضفيرتين كانتا له، وبابن ماء السماء "وماء السماء هو لقب أمه مارية أو أو ماوية بنت عوف بن جشم بن هلال من بني النمر بن قاسط"3، وعلى أي حال، ففي عام 506م عقد صلح بين الروم والفرس، في مقابل إتاوة يدفعها القيصر لملك الفرس، غير أن الروم قد تأخروا في دفعها، مما كان سببا في أن يقوم المنذر في عام 519م بغزو الحدود الرومانية، وأسر قائدين رومانيين4. وفي عام 524م، أرسل القيصر "جستنين الأول" "518-527م" إلى المنذر، وفدا يتكون من إبراهيم والد المؤرخ "نونوسرس"، وشمعون الأرشامي، وسرجيوس أسقف الرصافة، يطلب إطلاق سراح القائدين الرومانيين "جان وتموستران" وعقد صلح مع المنذر، ويبدو أن الوفد قد حقق الهدف الأول من مهمته، وأن الشواهد تشير إلى أن الهدف الثاني كان بعيدا عن التحقيق، هذا ويجدر الإشارة هنا إلى أن هذا الوفد الرومي قد صادف وصول، وفد ذي نواس" الحميري الذي يطلب من ملك الحيرة أن يفعل بنصارى مملكته، ما يفعله هو بنصارى نجران، وأن شمعون الأرشامي ليزعم أنه قد دون قصة تعذيب نصارى نجران، طبقا لما جاء في رسالة   1 عبد العزيز سالم: المرجع السابق ص336-337، جواد علي 3/ 208، وكذا Caussin De Perceval, Op. Cit., Ii, P.63 2 جواد علي 3/ 209، وكذا J.B. Bury, Op. Cit., P.91 3 تاريخ الطبري 2/ 104، تاريخ ابن خلدون 2/ 265، مروج الذهب 2/ 74، المحبر ص359 4 سعد زغلول: المرجع السابق ص220، وكذا G. Rothstein, Op. Cit., P.79 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 525 ذى نواس، ومن ثم فقد نشرها في صورة كتاب يقرأ على الناس في الكنائس1. وتسوء العلاقات بين الروم والفرس وتدق طبول الحرب بينهما في عام 528م، ويشترك المنذر فيها إلى جانب الفرس، فيهاجم بلاد الشام حتى يصل إلى أنطاكية ويحرق عددا من المدن، منها خلقدونية، ويضحي -فيما يزعم المؤرخون السريان- بأربعمائة امرأة للعزى، وإن كان "ابن العبري" يرى أنه أخذهن لنفسه، وهنا يضطر القيصر "جستنيان" إلى طلب مساعدة الحارث الغساني، فيسبغ عليه لقب "فيلارخ"2، كما أشرنا من قبل. ومن أسف أن الجيوش العربية -اللخمية والغسانية- إنما كانت تحارب بعضها البعض الآخر، بينما كان الروم يحاربون الفرس3، وهكذا كان العربي يقتل أخاه العربي ابتغاء مرضاة الفرس أوالروم، أو حبا في المغامرة، وفي أحسن الفروض، إيفاء بما وعد به الحارث أو المنذر أصدقاءه الروم أو الفرس، وإن كان الوفاء بالوعد يبيح قتل الأخ لأخيه، إرضاء لصديق أو سيد، وعلى أي حال، فإن الموقف سرعان ما يتغير حين تنطفئ نيران الحرب بين الكبار، بينما لا يزال الصغار يلعبون بمقدرات شعوبهم، ولم تنتهي نيران الحرب بين الكبار، بينما لا يزال الصغار يلعبون بمقدرات شعوبهم، ولم تنتهي إلا بقتل المنذر في عام 554م في موقعة يوم حليمة -كما أشرنا من قبل- وإن كان "أوليري" يرى -طبقا لرواية المؤرخ ثيوقانس- أن المنذر بقي حيا، حتى تم الصلح بين الروم والفرس في عام 562م4، والذي اتفق الطرفان فيه على أن يترك لكل منهما ماله من الأراضي القديمة، وعلى حرية التجارة بين إيران وبيزنطة، وعلى أن يمنح النصارى حرية العقيدة، وعلى أن لا يسعى أحد من رجال الدين في الدولتين إلى التبشير بدينه5.   1 عبد المجيد عابدين: المرجع السابق ص55-65، سعد زغلول: المرجع السابق ص220، جواد علي 3/ 219، وانظر: I. Guidi, La Lettera Di Simeone Vescova Di Beth Arsham, P.507 وكذا J.B. Bury, Op. Cit., P.323 وكذا A. Musil, Op. Cit., P.267 وكذا Zdmg, 35, P.3-4 2 جوادعلي 3/ 221، وكذا Malalas, Ii, P.166 3 A. Musil, Palmyrena, P.274 4 O'leary, Op. Cit., P.160 5 أرثر كريستنس: المرجع السابق ص358. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 526 وجاء بعد المنذر ولده "عمرو بن هند" "554-69م" من زوجه "هند بنت عمرو بن حجر آكل المرار"، وهو -فيما يرى الأخباريون- "مضرط الحجارة" كناية عن قوة ملكه وشدة بأسه، وهو "المحرق" لأنه حرق بني تميم، أو حرق نخل اليمامة، وقد كان عاتيا جبارًا، لا يبتسم ولا يضحك، ومن ثم فقد كانت العرب تهابه وتخشاه1. وقد حذا عمرو حذو غيره من ملوك لخم وجفنه، الذين أدركوا أن الشعراء من معاصريهم هم زعماء الرأي العام بين العرب، يديرون دفة الدعاية كيفما شاءوا، فلم يأل جهدا في إكرامهم وغمرهم بفضله، كما فعل سواه من الملوك، طمعا في اجتذاب العرب إليه، وهكذا أصبحت الحيرة في عصره موئل الشعراء يأتون إليه من شبه الجزيرة العربية ينشدونه شعرهم، وينالون جوائزه، ويعقدون المناظرات في حضرته، وعلى رأسهم ثلاثة من أصحاب المعلقات السبع2 -طرفة بن العبد، والحارث بن حلزة، وعمرو بن كلثوم3. ويبدو أن "عمر بن هند" هذا، كان شديد الغرور لدرجة جعلته يعتقد أنه ليس هناك من بين أمراء العرب من يستنكف أن يخدمه، أو يأبى أن يسعى إلى مرضاته، أيا كانت الوسيلة، وأن هذا الزعم الكذوب إنما كان سببا في أن يجندله "عمرو بن كلثوم" بسيفه في رواية تقول: إنه قال لجلسائه ذات يوم: هل تعرفون أحدا من العرب من أهل مملكتي يأنف أن تخدم أمه أمي، فقالوا: ما نعرفه إلا أن يكون عمرو بن كلثوم التغلبي، فإن أمه "ليلى" بنت "مهلهل بن ربيعة، وعمها "كليب بن وائل"، وزوجها "كلثوم"، وولدها "عمرو"، وهكذا أمر "عمرو بن هند" أن يطلب من "عمرو بن كلثوم"، أن يحضر إلى قصره، ثم أمر أمه "هند" أن تصرف الخدم بعد الفراغ من الطعام، ثم تطلب من "ليلى" أن تناولها الشيء بعد الشيء، وتفعل "هند" ما أمر به ابنها الملك، غير أن "ليلى" سرعان   1 تاريخ الطبري 2/ 104، المعارف ص283، المقدسي 3/ 203، الميداني 2/ 143، المحبر ص359، ابن خلدون 2/ 265، أيام العرب في الجاهلية ص100-106، حمزة الأصفهاني ص72. 2 يروي الأخباريون أن العرب كانوا إذا ما عمل أحدهم قصيدة عرضها على قريش، فإن أجازوها علقوها على الكعبة تعظيما لشأنها، فاجتمع من ذلك المعلقات السبع أو العشر المشهورة "انظر: ابن كثير 2/ 218-220، صحيح الأخبار 1/ 16-14". 3 P.K. Hitti, Op. Cit., P.83 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 527 ما ترفض ذلك في إباء وشمم، قائلة: لتقم صاحبة الحاجة إلى حاجتها، ثم تصيح، واذلاه يا آل تغلب، فما كان من عمرو بن كلثوم، إلا أن أمسك بسيف الملك، وأطاح به رأسه، وهكذا جنى عمرو بن هند ثمرة غروره" إن صحت الرواية1. ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن "هندا" أم "عمرو بن هند" هذه، إنما كانت نصرانية، وقد نسب إليها بناء "دير هند الكبرى"، الذي بقي حتى القرن الثاني الهجري، ويذهب البعض إلى أن البناء إنما تم على أيام الأسقف "مار أفرايم" في عهد ملك الفرس "خسرو أنوشروان"، وقد جاء في صدر هيكل الدير: "بنت هذه البيعة هند بنت الحارث بن عمرو بن حجر، الملكة بنت الأملاك، وأم الملك عمرو بن المنذر، أم المسيح وأم عبده، في زمن ملك الأملاك خسرو أنوشروان وفي زمن مار أفرايم الأسقف، فالإله الذي بنت له هذا البيت يغفر خطيئتها ويترحم عليها وعلى ولدها، ويقبل بهما، ويقومها إقامة الحق، ويكون الإله معها ومع ولدها الدهر الداهر"2، فإذا صحت هذه القراءة فإن بناء الدير، إنما يرجع إلى عهد "عمرو بن هند"3. هذا ويذهب "لويس شيخو" إلى أن "عمرو بن هند" قد تنصر، إذ كانت الحيرة في وقته تموج بالمبشرين المسيحيين، ومن ثم فليس ببعيد أن تكون هند قد أجابت دعوتهم، فاعتنقت النصرانية، ثم عملت على جذب ابنها لاعتناقها4، وإن كان هناك من يشك في ذلك، ويرى أن النعمان بن المنذر "580-602م" هو الوحيد الذي تنصر من ملوك الحيرة5. وجاء بعد "عمرو بن هند" أخوه "قابوس بن المنذر"، والذي كان موضع   1 ابن الأثير 1/ 547-549، الأغاني 9/ 175، 11/ 53، الشعر والشعراء ص157-159، الأمالي 1/ 193، بلوغ الأرب 2/ 142، شعراء النصرانية 1/ 200، محمد الخضرمي 1/ 33. 2 البكري 2/ 606، ياقوت 2/ 542، صحيح الأخبار 3/ 89. 3 ياقوت الحموي 2/ 541-542، يوسف رزق الله، المرجع السابق ص47، وكذا P.K. Hitti, Op. Cit., P.83 4 البكري 2/ 606-607، جرجي زيدان: المرجع السابق ص223، لويس شيخو: النصرانية وآدابها: بيروت ص1912 ص91. P.K. Hitti, Op. Cit., P.84 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 528 ثقة أخيه، وقائد جيوشه ضد الرومان وبخاصة تلك الحملات التي قادها في عامي 556/ 557م، بسبب عدم دفع الرومان ما كانوا يدفعونه من قبل للمنذر، أو بسبب المقابلة السيئة التي قوبل بها رسول عمرو بن هند في بلاد "جستين الثاني"، وأيا ما كان السبب في هاتين الغزوتين اللتين شنهما عمرو بن هند على الروم، فإن أخاه قابوس كان القائد فيهما، هذا وقد كان عمرو يعهد إلى أخيه قابوس كذلك بشئون البادية، ويعتقد "كوسان ده برسيفال" أن قابوسا إنما كان يحكم الحيرة مع النعمان أخيه، بينما يرجع "يوسف زرق الله" أن إدارة شئون الحيرة على أيام قابوس إنما كان يتولاها "زيد بن حماد بن أيوب"1. وليس صحيحا ما ذهب إليه البعض من أن قابوسا كان ضعيفا، أو أنه لم يكن ملكا، فقد أطلق عليه "يوحنا الأفسوسي" لقب "ملك"، كما أنه كثير ما كان يقود الجيوش على أيام أخيه -كما أشرنا آنفا- فضلا عن الغارات التي شنها ضد الغساسنة إبان فترة جلوسه على العرش، وإن لم يجن منها سوى الفشل والهزيمة2. وجاء بعد قابوس أمير فارسي يدعى "فيشهرت" أو "السهراب"، وربما كان السبب في ذلك وجود خلاف بين أمراء بني لخم بعد قابوس على ولاية العرش3 وربما رغبة من الفرس في إضعاف مركز العر ب في الحيرة، بعد أن قوي أمرهم، واستفحل خطرهم، في ذلك الوقت الذي أخذت فيه قوى الغساسنة في الاضمحلال4. وأيا ما كان الأمر، فلقد جلس على عرش الحيرة بعد ذلك "المنذر بن المنذر" الذي ترك من بعده ثلاثة عشر ولدًا، دون أن يوصي لواحد منهم دون الآخر بالعرش، وإنما ترك الأمر بيد "إياس بن قبيصة" الطائي، حتى يرى كسرى رأيه، ومن ثم فإننا نرى "كسرى" يستشير "عدي بن زيد" الذي يشير بامتحان للأبناء جميعا،   1 عبد العزيز سالم: المرجع السابق ص350، يوسف رزق الله: المرجع السابق ص195، المحبر ص359، حمزة الأصفهاني ص73، وكذا G. Rothstein, Op. Cit., P.96. وكذا Caussin De Perceval, Op. Cit., P.129 2 جواد علي 3/ 259، وكذا John Of Ephesus, Vi, 3.، قارن: سعد زغلول: المرجع السابق ص224-225. 3 تاريخ الطبري 2/ 213، حمزة الأصفهاني ص73. 4 عبد العزيز سالم: المرجع السابق ص351. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 529 ثم يتفق مع واحد منهم "النعمان" على إجابة، خلاصتها: أن يتعهد لكسرى بأن يقيه شر العرب جميعا، وعلى رأسهم إخوته، بينما يتفق مع الآخرين بأن يتعهدوا لكسرى بذلك، إلا شرا يأتي من أخيهم النعمان، وهكذا يتم اختيار النعمان ملكا بعد أبيه1، وأن هذا كله إنما يشير من ناحية أخرى إلى أن عرش الحيرة إنما أصبح أمره بيد كسرى، وليس بيد آل لخم2. وهناك من يتجه إلى أن النعمان "580-602م" إنما كان في أول الأمر وثنيا، يتعبد للعزى، ويقدم الأضاحي للأوثان غير أنه سرعان ما غير دينه الوثني، واعتنق النصرانية بعد نجاح آباء الكنيسة النسطورية في شفائه من مرض ألم به، أو بتأثير عدي بن زيد عليه، فضلا عن نشأته في بيئة نصرانية3، وأن ذلك إنما كان في عام 593م، ومن ثم فقد أصبح النعمان -فيما يرى أصحاب هذا الاتجاه- الملك الوحيد من ملوك آل لخم الذي اعتنق النصرانية، وعلى المذهب النسطوري4، أقل المذاهب النصرانية كراهية عند الفرس، والذين كانوا سببا في عدم اعتناق أسلاف النعمان للمسيحية5، وعلى أي حال، فلقد كان اعتناق النعمان للمسيحية على المذهب النسطوري سببا في أن يعلو شأن الكنيسة النسطورية في الحيرة، وأن ينضم إليها الكثير من سادة القوم، فضلا عن إرسال القديس "سرجيوس" إلى اليمن، حيث بقي في نجران ثلاث سنوات يبشر بمذهبه هذا6. هذا ويختلف المؤرخون في نسب "سلمى" أم النعمان، فهي من كلب على رأي، ومن "فدك" على رأي آخر، ومن دومة الجندل على رأي ثالث، وطبقا   1 تاريخ الطبري 2/ 194-195، الأغاني 2/ 106، وما بعدها، المقدسي 3/ 204-205، اليعقوبي 1/ 212-213، أيام العرب في الجاهلية ص11-13. 2 عبد العزيز سالم: المرجع السابق ص352. 3 حمزة الأصفهاني ص73، الأغاني 2/ 96، معجم الشعراء ص249، جواد علي 3/ 284-285، وكذا F. Altheim And R. Stiehl, Op. Cit., P.198 وكذا P.K. Hitti, Op. Cit., P.84 4 ينسب هذا المذهب إلى "نسطوريوس" مطران القسطنطينية "428-431م"، والذي يرفض الرأي القائل باتحاد طبيعتي المسيح في شخص واحد، ويذهب إلى أنه ذو شخصيتين متميزتين تجمعهما روابط الألفة الوثيقة "انظر: P.K. Hitti, Op. Cit., P.84." 5 P. K. Hitti, History of the Arabs, London, 1960, P. 84 6 جواد علي 3/ 385، وكذا F. Altheim And R. Stiehl, Op. Cit., I, P.198 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 530 لهذا الرأي الأخير فهي "أمة الحارث بن حصين"، ومن ثم فهي من أصل يهودي1، فإذا أضفنا إلى ذلك أنه كان أحمر أبرش قصير2، لتبين لنا بوضوح السبب في أن القوم كانوا كثيرًا ما يتهكمون به، مما أثر في نفسيته وفي سلوكه، حتى أصبح سريع الغضب، سهل التصديق للوشايات، حتى أوقع بـ "عدي بن زيد" الذي أجلسه على العرش، وحين أراد أن يكفر عن خطيئته هذه، أضاع نفسه وأضاع عرشه3. وهكذا تذهب بعض الروايات إلى أنه ساعد "زيد بن عدي بن زيد"، ليكون عند "كسرى أبرويز" "590-628م" في مكان أبيه، وأن زيدا إنما كان يضمر الحقد للنعمان، وينتهز الفرصة للانتقام منه، وقد جاءته هذه في طلب كسرى زوجاته لأولاده، ومن ثم فقد أشار عليه بأن يطلبهن من النعمان، ففي بناته وبنات عمه وأهله، أكثر من عشرين امرأة، يصلحن لمصاهرة كسرى، وكان زيد يعلم أن النعمان إنما يضن بذلك على كسرى، بل إن جوابه إنما كان على طلب كسرى "أما في بقر السواد وفارس ما يكفيه "أي كسرى" "حتى يطلب ما عندنا"، وكان ذلك سببا في غضب كسرى، وفي استدعاء النعمان إلى فارس بغية القضاء عليه، ومن ثم فقد هرب النعمان إلى أصهاره في "طيء"، أملا في حمايتهم له، ولكن القوم رفضوا حمايته، مما دفعه إلى أن يودع أهله وماله عند "هانئ بن مسعود الشيباني" وأن يتوجه إلى كسرى، حيث أرسل مخفورا إلى "خانقين" أو "ساباط"، وبقي هناك حتى مات بالطاعون على رواية، وطرح بين أرجل الفيلة فداسته حتى مات على رواية أخرى4. وعلى أي حال، فيبدو أن دولة الحيرة قد بدأ الضعف يتسرب إليها على أيام النعمان، لانصرافه إلى اللعب والشراب، فعلى أيامه هزم "بنو يربوع" جيش   1 تاريخ الطبري 2/ 194، تاريخ اليعقوبي 1/ 212، حمزة الأصفهاني، المرجع السابق ص73. 2 تاريخ الطبري 2/ 194، تاريخ ابن خلدون 2/ 266. 3 محمد أحمد جاد المولى وآخرون: أيام العرب في الجاهلية ص13-18. 4 ابن الأثير 1/ 482-488، ابن خلدون 2/ 265-267، تاريخ اليعقوبي 1/ 214-215، مروج الذهب 2/ 76-87، تاريخ الطبري 2/ 201-206، المعارف ص384، الشعر والشعراء 1/ 150-156، المقدسي 3/ 205-206، ياقوت 4/ 293-294، اللسان 6/ 308، أيام العرب في الجاهلية ص18-24، دائرة معارف وجدي 7/ 24، شعراء النصرانية ص491، ديوان الأعشى ص128، محمد الخضري 1/ 32، جرجي زيدان: المرجع السابق ص220. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 531 النعمان لما أراد أن ينقل الحجابة منهم، كذلك انهزمت جموعه أمام "بني عامر بن صعصعة" بعد أن تعرضوا لإحدى قوافله التي كان قد أرسلها إلى سوق عكاظ، كما كانت حروب الفجار المشهورة بين كنانة وقيس، بسبب تعرض القيسية لإحدى قوافله التي كانت في حراسة بعض الكنانيين1. وأيا ما كان الأمر، فلقد تولى أمر الحيرة بعد النعمان أحد أشرافها المشهورين "إياس بن قبيصة" "602-611م"2، الذي كان المنذر قد عهد إليه من قبل بأمر أولاده، وإن كان هناك من يرى أن الذي خلف النعمان إنما كان واحدا من الفرس3، بينما ذهب فريق ثالث إلى أن الرجلين، إنما توليا الأمر معا4. ومهما يكن من أمر، فإن "كسرى أبرويز" قد طلب من "إياس بن قبيصة الطائي" أن يجمع ما خلفه النعمان وأن يرسله إليه، ومن ثم فقد بعث "إياس" إلى "هانئ بن مسعود" أن يرسل إليه ما استودعه النعمان إياه، فأبى هانئ ذلك، وغضب كسرى، وهنا أشار عليه أحد أعداء بني شيبان وسائر بكر بن وائل، أن ينتظر ريثما ينزل القوم "ذي قار"5، فيبعث إليهم من يأخذهم بالقوة، وهكذا ما أن يحين الحين، حتى يرسل إليهم كسرى من يخيرهم بين ثلاث، أحلاهن مر، الاستسلام، أو الرحيل عن الديار، أو الحرب، وكان رد العرب أن   1 سعد زغلول عبد الحميد المرجع السابق ص226، وانظر: ابن الأثير 1/ 588-595، المحبر ص169-171. 2 تاريخ الطبري 2/ 206، ابن الأثير 1/ 488، المحبر ص360، مروج الذهب 2/ 80، ديوان الأعشى ص126، شعراء النصرانية ص135، الاشتقاق ص231، المعارف ص284، جرجي زيدان: المرجع السابق ص221، حمزة الأصفهاني: المرجع السابق ص74. 3 المحبر ص360، حمزة الأصفهاني: المرجع السابق ص74، شعراء النصرانية ص137، وكذا G. Rothetein, Op. Cit., P.120 4 تاريخ الطبري 2/ 213، ابن الأثير 1/ 439. 5 ذي قار: ماء لبكر بن وائل قريب من الكوفة بينها وبين واسط، و"حنو ذي قار" على ليلة منه، وفيه كانت الموقعة المشهورة بين بكر بن وائل والفرس "ياقوت 4/ 293، الطبري 2/ 207، وكذا G. Rothstien, Op. Cit., P.121." ومن ثم فإنه يسمى كذلك "يوم حنو ذي قار" أو قرار، ويوم الجبايات ويوم العجر ويوم الغذوان ويوم البطحاء ويوم ذي قار، وكلهن حول ذي قار، دارت فيهن معارك ختمت بذي قار، فنسبت المعركة إليها "البكري 3/ 1043، المعارف ص260، تاريخ الطبري 2/ 193، 2/ 207-210، ابن الأثير 1/ 488-489". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 532 السيف هو الحكم، وهكذا وقعت الواقعة وأبلى العرب بلاء حسنا، وكتب لهم -ولأول مرة- نصرا مؤزرا على الفرس1. ويختلف المؤرخون في زمن موقعة ذي قار هذه، فذهب فريق إلى أنها إنما كانت يوم مولد المصطفى -صلوات الله وسلامه عليه- ومن ثم فإن هناك رواية تذهب إلى أنه -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: "هذا أول يوم انتصف فيه العرب من العجم وبي نصروا"، بينما ذهب رأي آخر إلى أنها إنما كانت سنة أربعين لمولد النبي الأعظم -عليه الصلاة والسلام- وذهب رأي ثالث إلى أنها إنما كانت في العام الثالث من مبعث المصطفى -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- هذا وقد رأى فريق رابع إلى أنها كانت بعد الهجرة النبوية الشريفة من مكة إلى المدينة، على أن فريقا خامسا إنما يرى كانت بعد موقعة بدر الكبرى مباشرة، وربما بعدها بأشهر معدودات2، فإذا كان صحيحا ما ذهبنا إليه من قبل في هذه الدراسة من أصحابنا الأخباريين إنما يضعون تاريخ معركة ذي قار، فيما بين الأعوام 571م، 611م، 613م، 624م. ويذهب "روتشتاين" إلى أن موقعة ذي قار، إنما كانت حوالي عام 604م،   1 تاريخ الطبري 2/ 206-212، ابن الأثير 1/ 482-490، المعارف ص260 ياقوت 4/ 293-294، الميداني 2/ 216، الشعر والشعراء 1/ 375، مروج الذهب 2/ 78، أيام العرب في الجاهلية ص25-39، تاريخ الأمم الإسلامية 1/ 32، 41، صبح الأعشى 1/ 2-3، الاشتقاق ص208، الأغاني 2/ 127، تاريخ اليعقوبي 1/ 224، أبو الفداء 1/ 101، العمدة لابن رشيق 2/ 169، 218، شعراء النصرانية، ص137، الآمالي 1/ 169-171، البكري 3/ 1042-1043، ابن خلدون 2/ 267-268، حمزة الأصفهاني: المرجع السابق ص91، جرجي زيدان: المرجع السابق ص221، جواد علي 3/ 293-294، سعد زغلول: المرجع السابق ص230-2310 ريجيسي بلاشير: المرجع السابق ص61. 2 ياقوت 4/ 293-294، أبو الفداء 1/ 101، مروج الذهب 1/ 306-307، 2/ 78، التنبية والإشراف ص207-208، تاريخ اليعقوبي 1/ 215، تاريخ ابن خلدون 2/ 268، 271، نهاية الارب للقلقشندي ص457، ابن الأثير 1/ 482-483، تاريخ الطبري 2/ 307، البكري 3/ 1043، المحبر ص360، جرجي زيدان: المرجع السابق ص222، جواد علي 3/ 294، سعد زغلول: المرجع السابق ص231. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 533 بينما يتجه "نولدكه" إلى أنها ما بين عامي 604، 611م1، والعام الأخير هو الذي يميل إليه "نيكسون"2، وأما "كوسان ده برسيفال"3 فالرأي عنده أنها حدثت في يناير من عام 611م، وهو ما تميل إليه الغالبية العظمى من المؤرخين4. ويميل أستاذنا الدكتور عبد العزيز سالم إلى أن الموقعة إنما حدثت حوالي عام 609م -أو بعد ذلك بأشهر- معتمد في ذلك على أن المصادر تكاد تجمع على أن مبدأ النبوة إنما حدث على رأس أربع سنين من ملك "أياس بن قبيصة"، وروى قوم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد بعث وهو في الأربعين من عمره الشريف، ولما كان من المعروف أن الرسول -عليه الصلاة والسلام- قد انتقل إلى الرفيق الأعلى في 12 ربيع الأول سنة 11هـ "8 يونية 632هـ، وهو في سن الثالثة والستين على أرجح الآراء5، فإن بعتثه تكون قد حدثت في سنة 609م، وهو ابن أربعين سنة، وتكون وقعة ذي قار قد حدثت بعد سنة 609م، بقليل، أو على أبعد تقدير في سنة 610م6. وأيا ما كان تاريخ موقعة ذي قار، فقد تولى ملك الحيرة بعد "إياس" اثنان من قبل ملك الفرس، كان آخرهما "المنذر الخامس" -الملقب بالمغرور- ثم سقطت الحيرة تحت أقدام خالد بن الوليد في سنة 13هـ "633م"، على أيام الخليفة   1 جواد علي 3/ 294، وكذا Rothstein, Op. Cit., P.123 2 R. Nicholson, Op. Cit., P.70 3 لاحظ أن "كوسان ده برسيفال" -وكذا جوستاف لوبون -إنما يؤرخون للمولد النبوي الشريف بيوم 27 أو 29 أغسطس 570م "جوستاف لوبون: حضارة العرب ص129 وكذا وكذا Caussin De Perceval, Op. Cit., I. P.283 4 Caussin De Perceval, Op. Cit., I. P.184 وانظر: بلاشير: المرجع السابق ص61، سعد زغلول: المرجع السابق ص231. 5 راجع ما كتبناه سابقا في هذه الدارسة عن المولد النبوي الشريف وأنه عاش 63 عاما قمريا بالكامل، أي أكثر من61 عاما شمسيا، وأن البعثة كانت في عام 611م، أو بعد ذلك بعدة أشهر. 6 عبد العزيز سالم: المرجع السابق ص371-372، حمزة الأصفهاني: المرجع السابق ص98، أنساب الأشراف ص579، أشد الغابة 1/ 53، ابن هشام 1/ 249. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 534 الراشد أبي بكر الصديق -رضي الله عنه وأرضاه- "11-13هـ-632-634م"1 وإن كان هناك من يرى أن الفرس قد أقاموا إلى جانب "إياس" مقيما فارسيا، يشرف على مهام الحكومة، بل إن ملوك الفرس سرعان ما ألغوا نظام الإمارة العربية وولوا من قبلهم حكاما من الفرس، يخضع لهم زعماء العرب، وأن الأمر قد استمر كذلك حتى الفتح الإسلامي في عام 633م2.   1 تاريخ الطبري 3/ 344-346، ابن الأثير 2/ 384، الأغاني 14/ 48، المحبر ص360-361، حمزة الأصفهاني: المرجع السابق ص74-75. 2 P.K. Hitti, Op. Cit., P.84 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 535 الفصل التاسع عشر: مملكة كندة 1- كندة قبل عهد الملكية : يكاد يجمع النسابون على أن كندة، إنما هي قبيلة قحطانية تنسب إلى كندة وهو "ثور بن عفير بن عدي بن الحارث بن مرة"، الذي ينتهي نسبه إلى "كهلان بن سبأ"1، وأن مساكنهم إنما كانت في جبال اليمن الشرقية مما يلي حضرموت، وأن مدينة "دموت" كانت حاضرة لهم2، ويرى "ألبرت جام" أن أرض كندة، إنما كانت إلى الجنوب من "قشم"؛ ذلك لأن نقش "جام 660" يضعها بين حضرموت ومذحج3. على أن فريقا من الكتاب العرب، إنما يعتبر الكنديين مهاجرين إلى اليمن من البحرين والمشقر4، بينما يرى فريق آخر أن الكنديين عدنانيون، وأنهم كانوا يقيمون في دهرهم الأول في "غمر كندة"، أي في مواطن العدنانيين5، ولعل هذا الخلاف في نسب كندة إنما يدل على اختلاط القوم بين العدنانيين والقحطانيين، ربما بسبب عدم استقرارهم في مناطق معينة، وربما بسبب اضطراب المؤرخين العرب في نسب الكنديين، بعد اختلاطهم بعرب الشمال، اختلاطا أصبحوا به   1 تاريخ ابن خلدون 2/ 276، جمهرة العرب ص419، 485، نهاية الأرب للقلقشندي ص409، الإكليل 10/ 4-5، ثم قارن: الاشتقاق 2/ 362-363، التنبية والإشراف ص159، البيان والتبين 3/ 328. 2 ياقوت 2/ 472، البكري 2/ 557، ابن خلدون 2/ 276، الهمداني: صفة جزيرة العرب ص85. 3 جواد علي 3/ 318، وكذا A. Jamme, Sabaean Inscriptions From Mahram Bilqis "Marib", P.318, 372 4 الهمداني: المرجع السابق ش85، 88. 5 ياقوت الحموي: معجم البلدان 4/ 212. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 537 وكأنهم منهم. وتعرف كندة في النقوش العربية الجنوبية بكدت "أو كدة بتشديد الدال"، ونقرأ في نقش "جام 635"، والذي يرجع إلى عهد الملك "شعر أوتر"، أن "ربيعة" من آل ثور، كان ملكا على كندة، وعلى قحطن "قحطان" وأنه كان يحارب في صفوف أعداء الملك "شعر أوتر"، وهذا يعني أن كندة كانت ذات كيان سياسي، منذ القرن الأول قبل الميلاد، إذا أخذنا برأي "جام" من أن حكم "شعر أوتر" كان في الفترة "65-50ق. م"1، ومنذ أخريات القرن الثاني قبل الميلاد، إذا أخذنا بتقدير غيره من المؤرخين، هذا فضلا عن أن ربيعة ملك كندة كان يحكم كذلك قبيلة قحطان، المتحالفة مع كندة، ولعل من الأهمية بمكان الإشارة هنا إلى أنه من اسم قحطان هذا، أخذ الإخباريون قحطانهم، فصيروه جد العرب القحطانية2. وفي عهد "الشرح يحصب" كانت كندة لا تزال مملكة مستقلة، وقد شارك ملكها "مالك"، ملك دويلة "خصصتين" بأرض عدن، المسمى، "امرئ القيس بن عوف" في الهجوم على قوات "الشرح يحصب" وأخيه "يأزل بين"، إلا أنهما منيا بهزيمة منكرة، انتهت بأسر ملك كندة، ومجموعة من أشرافها، ثم أخذوا إلى مدينة "مأرب" "وربما كانت إحدى مدن شعب مرب الذي يسكن أرض عدن، وليست مأرب مدينة سبأ المشهورة"، وعلى أي حال، فلقد أطلق سراحهم آخر الأمر، بشروط منها أن يبقى ولدا ملكي كندة وخصصتين كرهينة عند "الشرح يحصب"، وأن يتعهد الملكان بعدم التحرش بقوات ملك سبأ وذي ريدان، ومساعدتها ضد أعدائها، ومنها أن يبقى أبناء الأشراف من كندة وخصصتين رهينة عند ملك سبأ3.   1 جواد علي 3/ 316، وكذا A. Jamme, Op. Cit., P.390-381 2 جواد علي 3/ 316. 3 جواد علي 3/ 317، وكذا A. Jamme, Op. Cit., P.57, 164, 318 وكذا F. Altheim And R. Stiehl, Op. Cit., Ii, P.322 وكذا W. Caskel, Entdeckungen In Arabien, 1954, P.9 وكذا Ryckmans, 535 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 538 وسرعان ما فقدت كندة بعد ذلك استقلالها، ونعرف من نقشي "جام 660، 665" أنها أصبحت تابعة لدولة "ملك سبأ وذى ريدان وحضرموت ويمنت"، وأن "شمر يهرعش" قد عين عليها واليا من قبله، رفعت درجته في عهد "ياسر ينعم" إلى درجة "كبير"، وهي من أعلى الوظائف في ذلك العهد1. وأما أقدم من تحدث عن كندة من الأغارقة والرومان، فهو "نونوسوس" وقد دعاها "Kindynoi"، كما ذهب إلى أنها -وكذا قبيلة معد- من أشهر القبائل العربية، وأن حاكمها على أيامه إنما هو "قيس" "2Kaisos"، وربما كان آخر مرة يرد فيها اسم كندة في النقوش العربية الجنوبية، إنما كان في نقش أبرهة من القرن السادس الميلادي3. ويذهب الأخباريون إلى أن جماعات من كندة قد غادرت مواطنها في النصف الأول من القرن الرابع الميلادي، واتجهت شمالا حتى نزلت في مكان دعي فيما بعد "غمر كندة" أو "غمر ذى كندة" وهي أرض لبني جنادة بن معد في نجد، وتقع وراء "وجرة" على مسيرة يومين من مكة "باقوت 4/ 212" على أن الأخباريين غنما يختلفون في أسباب هجرة الكنديين إلى الشمال، فذهب فريق إلى أن السبب كان حربا استعر أوارها بين حضرموت وكندة، ثم طال أمدها حتى كادت أن تقضي على الكنديين، ومن ثم فقد اضطروا إلى النزوح إلى الشمال، فرارا بأنفسهم من الفناء4. ويرى آخرون أن السبب إنما كان لأن "حسان بن تبع" كان آخا لحجر آكل المرار من أمه، وأن "حسان" كان قد دوخ بلاد العرب وسار في الحجاز "ربما حوالي عام 480م"، وعندما أراد العودة إلى اليمن ولى أخاه حجرا على معد بن عدنان كلها، فنجح في ولايته، وأحسن السيرة في رعيته حتى لم يرضوا به وبا له   1 جواد علي 3/ 317-318، وكذا Jamme 660, 665 وكذا A. Jamme, Op. Cit., P.164 2 جواد علي 3/ 318، وكذا G. Olinder, The Kings Of Kinds, 1927, P.114 3 G. Olinder, Op. Cit., P.33 وكذا E. Glaser, Zei Inschriften Uber Den Dammbruch Von Marib, P.55 4 تاريخ اليعقوبي 1/ 216، قارن: البكري 3/ 1003، الحربي ص603. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 539 بديلا1، على أن "ابن خلدون" إنما يذهب إلى أن التبابعة إنما كانوا يصاهرون "بني معاوية بن عنزة" الذين كانوا يملكون في "دمون"، وأنهم كانوا يولونهم على بني معد بن عدنان في الحجاز، وأن أول من ولي منهم إنما كان حجرا آكل المرار، وأن الذي ولاه، إنما هو "تبع بن كرب" الذي كسا الكعبة2. وهناك رواية رابعة تذهب إلى أن سفهاء بكر قد غلبوا عقلاءها، وأن القوي منهم قد أكل الضعيف، فنظر العقلاء في أمرهم، ثم استقر رأيهم آخر الأمر، أن يملكوا عليهم ملكا يأخذ للضعيف من القوي، فنهاهم العرب، وعلموا أن هذا لا يستقيم بأن يكون الملك منهم؛ لأنه يطيعه قوم ويخالفه آخرون، ومن ثم فقد ساروا إلى بعض تبابعة اليمن، وكانوا للعرب بمنزلة الخلفاء للمسلمين، وطلبوا منهم أن يملكوا عليهم ملكا، فكان ذلك الملك هو حجر آكل المرار3. وعلى أي حال، فربما كانت هذه الروايات جميعا، إنما تمثل مرحلتين من تاريخ كندة، الأولى وتمثل الهجرة من اليمن إلى نجد، والثانية وتمثل مرحلة استقرار الكنديين في مواطنهم الجديدة، وكيف كونوا لهم إمارة في نجد، ومن ثم فيمكن القول أن هذه المرحلة الثانية إنما تمثل التاريخ الحقيقي لكندة4. ومن ثم فإذا كان لنا أن نختار رواية، نميل إلى أنها ربما كانت أقرب إلى الصواب من غيرها، فربما كانت الرواية التي تذهب إلى أن ملك حمير قد أقام حجرا زعيما على عدة قبائل كان ملك حمير قد أخضعها في وسط شبه الجزيرة العربية، فقامت بذلك دولة يحمل رؤساؤها لقب "ملك"، وتفرض سلطانها على منطقة واسعة، وإن كان بحكم الضرورة سلطانا محدودًا5. ولعل الهدف من إقامة دولة كندة، أن التبابعة لجئوا إلى ذلك كوسيلة للسيطرة على   1 تاريخ ابن خلدون 2/ 273، المعارف ص275، سعد زغلول: المرجع السابق ص232، إيليا حاوي: امرؤ القيس ص708 "بيروت 1970"، وكذا P.K. Hitti, Op. Cit., P.85 2 تاريخ ابن خلدون 2/ 273، 276، بلوغ الأرب 2/ 240، المحبرب ص368-369، حمزة الأصفهاني: المرجع السابق ص92. 3 ابن الأثير 1/ 511-512، الإكليل 1/ 145. 4 سعد زغلول عبد الحميد، في تاريخ العرب قبل الإسلام ص233. 5 سبتينو موسكاتي: المرجع السابق ص356. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 540 الطرق التجارية الشمالية التي كانت ترتادها قوافل اليمن التجارية، حتى يأمنوا اعتداء قبائل البدو الشمالية عليها، بخاصة وأن الدول الكبرى القائمة على تخوم الصحراء، إنما كانت وقت ذاك تحاول أن تؤلف القبائل إليها لتحمي حدودها من غزواتها، وتمدها بالجند، وتسير معها في الحروب متحالفة على أعدائها، فإذا كان ذلك صحيحا، فإن تولية حجر آكل المرار، تكون سياسية يمنية حكيمة، فقد كانت عصبة حجر يمنية، وكان هو من أسرة تولت الملك في بلادها الأولى، ثم إن هذه الأسرة كانت قد استقرت في الشمال منذ فترة عرفت فيها اتجاه العصبيات وفهمت العقلية الشمالية1، وهكذا يكون ملوك حمير قد حققوا من إقامة دولة كندة، ما حققه الروم من إقامة دولة الغساسنة، والفرس من إقامة دولة اللخميين، وتصبح كندة لتبابعة اليمن، ما كان اللخميون للفرس، والغساسنة للروم2. ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن الروايات العربية عن تأسيس مملكة كندة، تجد لها تأييدا في نقش عربي جنوبي -هو نقش "ريكمانز509"- يتحدث عن حملة قام بها الملك الحميري "أب كرب أسعد" هو وابنه "حسن يهأمن" واشتركت فيها كندة، هذا إلى أن هناك مخربشة عربية جنوبية تتحدث عن "حجر بن عمرو" ملك كندة3.   1 عمر فروخ: تاريخ الجاهلية، ص83، إيليا حاوي: امرؤ القيس "دار الثقافة، بيروت 1970"ص7. 2 جرجي زيدان: المرجع السابق ص226، وكذا P.K. Hitti, Op. Cit., P.85-86 3 S. Moscati, Op. Cit., P.127 وكذا M. Hofner, Die Beduinen In! Den Vorislamischen Arabischen Inschriften, P.53-68 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 541 2- ملوك كندة : عرفت كندة لدى الأخباريين بكندة الملوك، ربما لأن الملك كان لهم على بادية الحجاز من بني عدنان1؛ ولأنهم نصبوا أولادهم على القبائل، ولأنهم كانوا يتعززون بنسبهم إلى كندة، وإلى آكل المرار، لأنهم كانوا ملوكا، ولأنهم "ساسوا العباد وتمكنوا من البلاد"2، على أنه يجب أن نشير إلى أن مملكة كندة لم تكن مملكة   1 تاريخ ابن خلدون 2/ 275، الإكليل 2/ 221، 224، منتخبات ص94. 2 تاريخ الطبري 3/ 139، مروج الذهب 2/ 325، ابن هشام 2/ 345، جواد علي 3/ 315. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 541 بالمعنى المعروف، وإنما كانت أقرب ما تكون "اتحادا فدراليا" "Cofederation قبليا، تشغل فيه قبيلة كندة مركز الصدارة، وتتولى فيه الحكم أسرة من أسرها1. وأيا ما كان الأمر، ففي الربع الأخير من القرن الخامس الميلادي2، وربما في حوالي عام 480م3، أصبح "حجر بن عمرو آكل المرار" ملكا على كندة في قلب نجد، وانتزع جانبا من الأرض التي كانت تحت سيطرة المناذرة، ثم نزل في مكان يدعى "بطن عاقل" -جنوب وادي الرمة على الطريق بين مكة والبصرة4، وهكذا -كما يقول الدكتور عمر فروخ- تسرب النفوذ الأجنبي إلى مكان جديد في شبه الجزيرة العربية، نفوذ رومي مناهض لنفوذ الفرس في الحيرة، ومغلف بسياسية يمنية ظاهرة5، إلا أننا لا يمكننا أن نقبل وجهة النظر هذه ببساطة؛ ذلك لأن الدكتور فروخ نفسه يوافق الروايات العربية التي ذهبت إلى أن الذي أقام حجرا ملكا على كندة، إنما هم الحميريون وليس الروم أو الأحباش، كما أن اليمن لم تكن وقت ذاك تسير في فلك النفوذ الرومي أو الحبشي، فضلا عن أن ملوك كندة إنما عملوا بعد ذلك عند الفرس، وليس عند الروم أو الأحباش، كما سوف نرى وإن تحالفوا مع الروم حينا من الدهر. وعلى أي حال، فإن حجرا، إنما يدعى عند المؤرخين العرب "آكل المرار"، ويعللون ذلك بقصة خلاصتها: أن حجرا قد سار بقبائل ربيعة لغزو البحرين، فعلم بذلك "زيادة بن الهبولة" من سليح بن حلوان، فأغار على غمر كندة، وقتل من وجد من الرجال، واستولى على الأموال، وسبى النساء، ومن بينهم "هند" زوج حجر نفسه، وما أن يعلم حجر بهذا الأمر، حتى يسرع فيدرك زياد عند "البردان"، فينزل على ماء يقال له "الحفير" -على مقربة من عين أباغ بين الفرات والشام- ويرسل رجالا ليأتوه بخبر زياد، وهنا يعلم -عن طريق رجل يقال له سدوس- أن هندا إنما هي راضية عما حدث، وأنها قد أجابت زيادا عندما سألها عن موقف   1 موسكاتي: المرجع السابق ص356. 2 G. Olinder, Op. Cit., P.46 3 P.K. Hitti, Op. Cit., P.85 4 ابن الأثير 1/ 512، وكذا G. Olinder, Op. Cit., P.42 5 عمر فروخ: المرجع السابق ص86. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 542 حجر: "إنه والله لن يدع طلبك حتى تعاين القصور الحمر -يعني قصور الشام- وكأنني به في فوارس من بني شيبان، يذمرهم ويذمرونه، وهو شديد الكلب، تزبد شفتاه كأنه بعير أكل مرارًا، فالنجاء النجاء، فإن وراءك طلبا حثيثا وجمعا كثيفا، وكيدا متينا، ورأيا صليبا". وما أن ينتهي "سدوس" من روايته، حتى يعبث حجر بالمرار، ويأكل منها، غضبا وأسفا، ولا يشعر أنه يأكله من شدة الغضب، فسمي يومئذ "بآكل المرار" أو أنه -على رواية أخرى- كان يوما على سفر، فلما لم يجد ما يأكله أكل المرار حتى شبع1، وأيا ما كان الأمر، فإن معركة حامية الوطيس سرعان ما تدور رحاها بين الفريقين، ينال فيها "زياد" هزيمة منكرة، ثم يقع في أسر "سدوس"، وتنجح بكر في استرداد ما سلبه زياد من غنائم وسبي، ثم يأخذ حجر هندا فيربطها في فرسين، ثم يركضهما، فشقاها نصفين على رواية، وأنه قد أحرقها على رواية أخرى، ثم عاد إلى الحيرة2. وفي الواقع أن الرواية على هذا النحو، إنما تعترضها عقبات عدة، منها "أولا" أن هناك من يرى أن الذي هاجم ديار حجر، إنما هو الحارث بن الأهيم بن الحارث الغساني على رواية، والحارث بن جبلة على رواية أخرى، ودون ذكر اسم الذي أغار على غمر كندة، على رواية ثالثة، وهو الحارث بن منذلة الضجعي من بني سليح، على رواية رابعة، وهو عمرو بن الهبولة الغساني على رواية خامسة3، وهكذا يختلف الإخباريون في الرواية بصورة تلقي ظلالا من شك على صحتها من أساس، ومنها "ثالثا" أن الأسيرة -في رواية أخرى- ليست هندا، وإنما هي قينة من أحب قيان حجر إلى نفسه4. ومنها "ثالثا" أن ابن الأثير5، سرعان ما يدرك الخطأ في الرواية؛ لأن ملوك   1 هناك تفسير آخر يذهب إلى أن المرار، إنما هو نبات إذا أكلته الإبل تقلصت مشافرها فبدت أسنانها، لذلك قيل الحجر، "آكل المرار" لكشر كان به، انظر: جواد علي 3/ 320، سعد زغلول: المرجع السابق ص232، أبوالفداء 1/ 74، اللسان 4/ 171، وكذا Caussin De Perceval, Op. Cit., Ii, P.267. وكذا P.K. Hitti, Op. Cit., P.85 2 ابن الأثير 1/ 5067-509، الاشتقاق 1/ 22، الأغاني 15/ 82، البيان والتبيين 3/ 328، تاج العروس 2/ 300، القاموس 1/ 277، أيام العرب في الجاهلية ص42-50. 3 جواد علي 3/ 322-323، منتخبات ص97، الأغاني 13/ 63، الهمداني: صفة جزيرة العرب ص86 وكذا G. Olinder, Op. Cit., P.44-5 4 منتخبات ص97، جواد علي 3/ 322. 5 ابن الأثير 1/ 510-511. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 543 سليح كانوا بأطراف الشام عمالا للروم، ثم خلفهم الغساسنة في مكانتهم هذه، وأما الحيرة فقد كانت ملكا للخميين، ومن ثم فإن عودة حجر للحيرة بعد انتصاره على "زياد" لا تتفق والحقائق التاريخية، صحيح أن الفرس على أيام "قباذ" "448-531م" قد استعملوا ملوك كندة على الحيرة، ولكن صحيح كذلك أن ذلك إنما حدث بعد وفاة "آكل المرار"، وعلى أيام حفيده "الحارث"، ثم إن "زياد بن الهبولة" هذا، إنما كان يعيش قبل "آكل المرار" بفترة طويلة، ومن ثم فإنه يفترض أن "زيادا" إنما كان رئيسا على قوم، أو متغلبا على بعض أطراف الشام، أضف إلى هذا كله أن هناك من يرى أن الذي غزا آكل المرار، إنما كان "غالب بن هبولة"، وأنه لم يشر إطلاقا إلى عودة آكل المرار إلى الحيرة. وعلى أي حال، فلقد مات آكل المرار في "بطن عاقل" في وقت لا نستطيع تحديده على وجه اليقين، وإن اتجه "أوليندر" إلى أن ذلك ربما كان في العقد الأخير من القرن الخامس الميلادي، معتمدا في ذلك على وفاة حفيده "الحارث" في عام 528م1، وإن كان هناك من يرى أن "حجرا" إنما هو "Ogarus" المذكور في بعض التقاويم في حوادث أعوام 497م، 501، 502م، وقد ذكر معه أخ له يدعى "معديكرب" "Badicharimus"، فضلا عن حفيد يدعى "الحارث2 Aretha. وخلف حجر آكل المرار ولده المعروف بالمقصور "عمرو بن حجر"؛ ربما لأنه اقتصر على ملك أبيه؛ وربما لأن "ربيعة" قد اضطرته إلى ذلك3، وأنه لم يحمل لقب "ملك"، وإنما اكتفى بلقب "سيد كندة"، وأن اليمامة إنما كانت من نصيب أخيه معاوية المعروف بالجون4، ويبدو أن "عمر بن حجر" كان على علاقة طيبة بملوك اليمن" ومن ثم فقد تزوج بنتا لحسان بن تبع أسعد الأكبر،   1 ابن الأثير 1/ 512 وكذا جواد علي 3/ 325، وكذا G. Olinder, Op. Cit., P.46 2 جواد علي 3/ 325، وكذا Provincia Arabia, Iii, P.286 3 ابن الأثير 1/ 512، المحبر ص369، المفضليات ص429، الأغاني 8/ 60، حمزة الأصفهاني: المرجع السابق ص92". 4 الأغاني 15/ 82، 18/ 62، ابن الأثير 1/ 512، تاريخ الطبري 2/ 89، المحبر ص369. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 544 كما كانت كذلك باللخميين، ولهذا فقد تزوج "الأسود بن المنذر" ملك الحيرة من "أم الملك" ابنة عمرو المقصور، فولدت له النعمان بن الأسود1. على أن علاقة عمرو المقصور هذا بالغساسنة إنما هي موضع خلاف بين المؤرخين، فذهب البعض إلى أنها كانت علاقة عدائية، وأن عمرا إنما كان في أحايين كثيرة يشن الغارة عليهم، حتى لقي حتفه آخر الأمر بيد "الحارث بن أبي شمر" الغساني2 بينما يذهب فريق آخر إلى أن العلاقات بينهما إنما كانت طيبة، وأن عمرا قد تزوج من "هند الهنود" بنت "ظالم بن وهب"، وكانت أختها "ماريا" زوجة للحارث الغساني الأكبر، وأن الذي قتل عمرا، إنما هو "عامر الجون" في "يوم القنان"، إبان ثورة ربيعة على عمرو المقصور3، وذلك حين انتهزت فرصة الضعف في آل كندة على أيامه، وكان قد ظهر من بني تغلب في نفس الوقت رجل قوي، هو "وائل بن ربيعة" المعروف بكليب وائل، فانتزع من عمرو السيطرة على جميع قبائل ربيعة، أو أن قبائل ربيعة قد انحازت من تلقاء نفسها إلى "كليب"، ومن ثم فقد اضطر عمرو إلى أن يستنجد "بمرشد بن عبد ينكف الحميري"، الذي أنجده بجيش كبير، والتقى عمرو بكليب في ديار بني أسد -على مقربة من جبل القنان- فقتل عمرو في المعركة، وتحررت قبائل ربيعة من سيطرة آل كندة إلى حين4. وجاء بعد عمرو ولده "الحارث" من زوجه أم إياس أو أم إناس بنت عوف على رأي5، ومن امرأة من بني عامر بن صعصة على رأي ثان6، ومن بنت حسان بن تبع الحميري على رأي ثالث7، ويرى الطبري أن "عمرو بن تبع" إنما أراد بهذا الزواج الإقلال من شأن بني أخيه "حسان بن تبع" بعد أن قتله بنفسه، وفي نفس الوقت الإعلاء من شأن عمرو بن حجر الكندي؛ ذلك لأن العرب لم تكن   1 تاريخ الطبري 2/ 104، حمزة الأصفهاني: المرجع السابق ص69، المعارف ص275. 2 تاريخ اليعقوبي 1/ 216، الأغاني 8/ 65، مروج الذهب 2/ 83-84. 3 ياقوت 4/ 401، المفضليات ص429، عمر فروخ: تاريخ الجاهلية ص87. 4 عمر فروخ: المرجع السابق ص88، المفضليات ص416. 5 جواد علي 3/ 326، كتاب المعاني الكبير لابن قتيبة 1/ 531، وما بعدها، الأغاني 8/ 62، ثم قارن: الأغاني 15/ 83، وانظر: G. Olinder, Op. Cit., P.48 6 الدينوري: الأخبار الطوال ص52. 7 تاريخ الطبري 2/ 89، حمزة الأصفهاني: المرجع السابق ص69. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 545 تطمع في مصاهرة هذا البيت العريق1. وقد اختلف المؤرخون في فترة حكم "الحارث بن عمرو المقصور" هذا، فبينما يحدد له أستاذنا الدكتور عبد العزيز سالم الفترة "495-528م"2، يرى "كوسان ده يرسيفال" أنه حكم في الفترة "495-524م"3، ويذهب "أوليندر" إلى أنه كان في الفترة "490-528م"4، وعلى أي حال، فلقد كان الحارث أقوى ملوك كندة قاطبة، وأشدهم بأسأ، وأعظمهم شخصية، وأكثرهم طموحا، وقد ساعدته الظروف، فأصبح أعداؤه من بني بكر وتغلب -بعد حرب البسوس التي دامت أربعين عاما5- في حالة ضعف شديد، ومن ثم فقد نجح في أن يعيد سلطانه على قبائل ربيعة في نجد، وعلى بني أسد وبني كنانة وبني بكر. وتذهب الروايات العربية إلى أن الحارث قد كتب له نُجْحًا بعيد المدى في توسيع مملكة كندة، حتى أنه استطاع آخر الأمر أن يضم إليه ملك آل لخم، وأن يجلس على عرشهم في الحيرة نفسها، منتهزا الفرصة التي أتاحتها له الظروف التي كانت تمر بها الدول الشمالية "الروم والفرس والغساسنة والمناذرة"، ومن ثم فقد بدأ حوالي عام 497م بغزو فلسطين، إلا أن الحاكم الروماني قد ألحق بجيشه -الذي كان بقيادة ولده حجر- هزيمة منكرة، ولكن ما أن تمضي سنون خمسة حتى تصبح بيزنطة في موضع حرج، إذ تبدأ قبائل البلغار والصقالبة تتغلغل في تخوم الإمبراطورية الشمالية، ثم سرعان ما تعود الحرب بين الروم والفرس، من جديد في حوالي عام 502م، وهكذا رأى الإمبرطور الروماني "أنسطاسيوس" "491-518م" أن يخفف من مشكلاته، وأن يقلل من أعدائه، فعقد مع الحارث معاهدة تنص على أن   1 تاريخ الطبري 2/ 89. 2 عبد العزيز سالم: المرجع السابق ص411. 3 Caussin De Perceval, Op. Cit., Ii, P.286 4 G. Olinder, Op. Cit., P.54, 56 5 انظر عن حرب البسوس: ابن الأثير 1/ 523-53، الميداني 1/ 374-376، تاريخ اليعقوبي 1/ 225، بلوغ الأرب 2/ 149-157، كتاب المعارف ص261، ياقوت 1/ 112-113، الأغاني 4/ 140-152، العقد الفريد 3/ 95، أيام العرب في الجاهلية ص142-168، أبو تمام: الحماسة ص420-423، تاريخ الجاهلية ص98-103، جرجي زيدان: المرجع السابق ص245-248، وكذا P.K. Hitti, History Of The Arabs, P.89-90 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 546 يترك آل كندة مهاجمة الشام، وأن يتعاونوا مع الروم على قتال الفرس والمناذرة، وهكذا قام الروم في العام التالي "503م" -بمساعدة الحارث- بهجوم على الحيرة، واستولوا على قافلة1. ولم يكن الحال بالنسبة إلى الفرس، بأفضل منه بالنسبة إلى الروم، فعلى أيام قباذ "488-531م"، انتشرت الاضطرابات في أنحاء البلاد، وأصبح الأمر بيد "الموابذة" كما كان للأغنياء والإقطاعيين دور كبير في إدارة شئون البلاد، وهنا رأى قباذ أملاً في استرداد سلطانه، ورغبة في القضاء على الأغنياء، وعلى رجال الدين أن ينشر مبادئ "مزدوك" بين الناس2، والتي تدعوا إلى نوع من الاشتراكية البدائية في الأموال والنساء، حيث إن الناس قد تظالموا في الأموال والأرزاق، فاغتصبها بعضهم من بعض، وأن الأغنياء قد اغتصبوا أرزاق الفقراء، ومن ثم فإنهم "يأخذون للفقراء من الأغنياء، ويردون من المكثرين على المقلين، وأن من كان عنده فضل من الأموال والنساء والأمتعة، فليس هو بأولى به من غيره، فافترض السفلة ذلك واغتنموه، وكانفوا مزدوك وأصحابه وشايعوهم، فابتلى الناس بهم، وقوي أمرهم، حتى كانوا يدخلون على الرجل في داره، فيغلبونه على منزله ونسائه وأموال، لا يستيطع الامتناع عنهم"3. وقد أدت هذه الأحداث إلى قيام ضد قباذ، انتهت بخلعه في عام 498م -وربما في عام496م4- ولكنه استطاع أن يفلت من السجن، وأن يستعيد عرشه في عام 502 - أو عام 504م- طبقا لرواية يذهب الأخباريون فيها إلى أن أخته -بمساعدة واحد من ضباطه- قد لعبت الدور الأول في هروبه من السجن، بعد أن مكث فيه ست سنين5. وفي أثناء ذلك كان قباذ قد دعا "المنذر بن ماء السماء" إلى المزدكية فأبى،   1 عمر فروخ: تاريخ الجاهلية ص89. 2 جواد علي 3/ 333، وانظر T. Noldeke, Aufsatze Zur Persischen Geschichte, Leipzig, 1887, P.109 3 تاريخ الطبري 2/ 92-93، ابن الأثير 1/ 512-415، إيليا حاوي: المرجع السابق ص8، سعد زغلول: المرجع السابق ص222. 4 جواد علي 3/ 334، وكذا Eb, 17, P.574. وكذا Ei, 4, P.178 5 ابن الأثير 1/ 414، تاريخ الطبري 2/ 93-94. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 547 وأسرها قباذ في نفسه، وعندما عرض دعوته هذه على الحارث الكندي أسرع بإجابته إليها، ومن ثم فقد عزل المنذر عن عرش الحيرة، وأقام مكانه الحارث الكندي1، فيما بين عامي 525م، 528م، على رأي2، وفي حوالي عام 529م على رأي آخر3، وهكذا اتسع ملك الحارث وعظم شأنه، وجعل أولاد ملوكا على القبائل، فكان "حجر" على بني أسد وغطفان، وكان "شرحبيل" على بكر بن وائل بأسرها، وعلى عدد من القبائل الأخرى، وكان "معد يكرب" على قيس بن عيلان وطوائف من غيرهم، وكان "سلمة" على بني تغلب والنمر بن قاسط، وعلى بني سعد بن زيد مناة من تميم4. على أن هناك من يذهب إلى أن العرب قد انتهزوا فرصة ضعف قباذ، فتواثبوا على المنذر بن ماء السماء، واضطروه إلى الهروب من الحيرة، ومن ثم فقد استدعي عرب الحيرة الحارث الكندي فملكوه على بكر، وحشدوا له وقاتلوا معه، ثم اضطر المنذر -بعد أن فشل في الحصول على مساعدة عسكرية من قباذ- إلى أن يخضع للحارث، وأن يتقرب إليه، وأن يتزوج من ابنته "هند" "عمة امرئ القيس الشاعر"5. ويرى حمزة الأصفهاني أن الحارث الكندي كان قد طمع في ملك آل لخم، فانتهز فرصة ضعف قباذ، وباغت الحيرة، واضطر المنذر إلى الهرب إلى "الجرساء الكلبي" حيث بقي هناك حتى وفاة قباذ، وتولية كسرى أنوشروان الذي أعاده إلى ملكه6.   1 تاريخ ابن خلدون 2/ 274، المحبر ص369، أيام العرب في الجاهلية ص46، ابن الأثير 1/ 512، تاريخ الطبري 2/ 59، محمد الخضري: المرجع السابق ص31. 2 جواد علي 3/ 341، وكذا G. Olinder, Op. Cit., P.65 3 P.K. Hitti, Op. Cit., P.85 4 ابن الأثير 1/ 513-514، المفضليات ص427-428، تاريخ اليعقوبي 1/ 217، محمد الخضري 1/ 31، تاريخ ابن خلدون 2/ 274، المحبر ص369-370، الأغاني 9/ 82 "دار الكتب المصرية"، ياقوت 4/ 472-473 حمزة الأصفهاني: المرجع السابق ص92، أيام العرب في الجاهلية ص46، 112. Ei, Ii, P.1018 وكذا G. Olinder, Op. Cit., P.82 5 تاريخ ابن خلدون 2/ 274-275، حمزة الأصفهاني: المرجع السابق ص70، ابن قتيبة الدينوري: الشعر والشعراء ص75. 6 حمزة الأصفهاني: المرجع السابق ص70 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 548 على أن هناك رواية أخرى تذهب إلى أن النعمان بن المنذر قد لقي مصرعه، في معركة دارت رحاها بينه وبين الحارث الكندي، وإن نجا منها ولده المنذر، وأمه ماء السماء، ومن ثم فقد أصبح الحارث الكندي يملك ما يملكون، وهنا بعث "قباذ" يطلب لقاء الحارث، ويبدو أن الأخير قد استشعر ضعف الملك الفارسي عندما التقيا، ومن ثم فقد بدأ يخطط لنفوذ أوسع في العراق على حساب الفرس، وهكذا أمر رجاله بأن يشنوا الغارة على السواد، ويعلم قباذ بالأمر، ويدرك أن الحارث أقوى شخصية، وأكثر دهاء مما كان يتصور، ومن ثم فقد عمل على أن يدرأه عن نفسه، فأعطاه بعض المناطق التي تقع في مجاورات الحيرة، إلا أن الحارث كان أكثر طموحا، ومن ثم فقد كتب إلى "تبع" ملك اليمن، يقول له: "إني قد طمعت في ملك الأعاجم، وقد أخذت منه ست طساسيح فاجمع الجنود وأقبل"، وتذهب الرواية بعد ذلك، إلى أن "تبعا" قد جمع الجنود وسار بهم حتى نزل الحيرة، ثم وجه ابن أخيه "شمر بن ذى الجناج" إلى قباذ، فحاربه وانتصر عليه ثم قتله بالري1، وأما التقاء الحارث بقباذ، فقد كان -فيما يرى الويس موسل- في عام 525م، عند قنطرة الفيوم، وهي موضع لا يبعد كثيرا عن "هيث"، والتي يصفها "ياقوت" بأنها بلدة على الفرات، من نواحي بغداد فوق الأنبار ذات نخل كثير وخيرات واسعة2. وهكذا تختلف الروايات في كيفية وصول الحارث الكندي إلى عرش الحيرة، فبعضها يزعم أن ذلك إنما كان بأمر من قباذ نفسه، بعد أن رفض المنذر اعتناق المزدكية، ومن ثم فقد حل الحارث مكانه في الحيرة، وأن الأخير قد اصطنع المنذر بعد ذلك، وزوجه من ابنته "هند"، وأن المنذر قد قبل بعد أن أصبح لا يملك من أسباب القوة ما يعيد إليه عرشه الأسلاف، ومنها ما يزعم أن الحارث إنما استولى على عرش الحيرة بحد السيف، فقد قتل النعمان بن المنذر، ثم أجبر "قباذ" بعد ذلك أن يزيد من أملاكه فيما وراء الفرات، ثم استعا بملوك اليمن الذين حاربوا قباذ فانتصروا عليه وقتلوه في الري، ثم استمروا يفتحون البلاد في إتجاه الصين شرقا، والقسطنطينية غربا.   1 ابن الأثير 1/ 415، تاريخ الطبري 2/ 89، 95-96، تاريخ ابن خلدون 2/ 264-265. 2 ياقوت 4/ 286، البكري 4/ 1356، وكذا A. Musil, The Middle Ehuprates, P.350 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 549 إلا أننا رغم ذلك، نستطيع أن نستخلص من تلك الروايات المتضاربة أحيانا، والتي تمتلئ بالمبالغات أحيانا أخرى، حقيقة مهمة، وهي أن الحارث الكندي قد كتب له أن يجلس على عرش الحيرة حينا من الدهر، قد يكون في الفترة "525-528م" إبان فتنة المزدكية في إيران1، وربما كان الحارث قد اتصل من قبل بالفرس بعد عقد صلح بينهم وبين الروم في عام 506م، اعتقادا منه أن العمل في جانب الفرس، ربما كان أفضل له منه في جانب الروم، ثم زحفت بكر وتغلب بعد ذلك من مواطنها القديمة في اليمامة ونجد نحو العراق، وأن الفرس قد أقروه على ذلك، مقابل جعل يدفعه لهم كل عام، إلى جانب أهداف أخرى أرادوا من ورائها كسر شوكة اللخميين في الحيرة، وضم الحارث القوى إلى جانبهم، خوفا من أن ينحاز إلى جانب الروم -أعدائهم التقليديين- وقد أدى ذلك كله- إلى جانب الخلافات بسبب المزدكية، فضلا عن ضعف قباذ العاهل الفارسي- إلى أن تسوء العلاقات بين الفرس وأتباعهم اللخميين، واستغل الحارث الفرصة، حتى انتهى الأمر باستيلائه على عرش الحيرة نفسه2. وأما استنجاد الحارث الكندي بملوك اليمن، وانتصارات هؤلاء الملوك في أرض العراق وما وراءها، فليس ذلك إلا من نوع الإشادة بماضي القحطانيين -الذي يردهه الكتاب العرب في صفحات كتبهم دائما، دونما ملل -فهم- دون العدنانيين- أصحاب التاريخ التليد والمجيد كذلك، وهم أصل العروبة وأول الناطقين بلغتها، فضلا عن التركيز هنا بصورة ملفتة للنظر، من أن دولة كندة ما كانت بقادرة على تحقيق مجد، أو إحراز نصر، دون عون يأتيها من الجنوب، من اليمن. هذا وقد اختلف المؤرخون في مقر الحكم الذي اختاره الحارث الكندي في العراق، فبينما يذهب فريق إلى أنه في الحيرة، عاصمته اللخميين، يرى آخرون أنه في "الأنبار" -وتقع على مبعدة أربعين ميلا إلى الشمال الغربي من بغداد -على أن فريقا ثالثا رأى أن الرجل إنما كان سيارة في أرض العرب3.   1 G. Olinder, Op. Cit., P.65 2 جواد علي 3/ 337-342 وكذا G. Olinder, Op. Cit., P.65 وكذا Zdmg, 23, 1869, P.559 3 ابن الأثير 1/ 512، الأغاني 8/ 62، ياقوت 1/ 257-258، البكري 1/ 197، جواد علي 3/ 342، حمزة الأصفهاني: المرجع السابق ص72، 93 وكذا P.K. Hitti, Op. Cit., P.85 وكذا G. Rothstein, Die Dynastie Der Lackmiden, In Al Aira, Berbin, 1899, P.88 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 550 وأيا ما كان الأمر، فإن ملك الحارث لم يستمر طويلا في العراق، فما هو إلا أن مات قباذ في عام 531م، وآل أمر الفرس إلى "كسرى أنوشروان" "531-589م"، حتى اتخذ العاهل الجديد سياسة مناهضة للمزدكية، فقتل "مزدوك" وصلبه، كما قتل كبار أصحابه غدرا، ثم تتبع الزنادقة من المزدكية في كل أرجاء الإمبراطورية الفارسية، حتى قيل إنه قتل منهم في يوم واحد مائة ألف، وحتى قيل أنه اتخذ من هذا اليوم لقب "أنوشروان" أي "الروح الطيبة"، ثم طرد الحارث الكندي، وأعاد المنذر الثاث على عرش الحيرة، ربما بسبب المزدكية، وربما بسبب سياسية الحارث الكندي نفسه، إذ يبدو أن الرجل قد لجأ في أخريات أيامه إلى إيجاد علاقات طيبة بينه وبين الروم، مما كان سببا في قضاء كسرى أنوشروان على سلطته في الحيرة1. على أن المنذر الثالث، سرعان ما تتبع الحارث الكندي وأهله، حتى أسر اثني عشر أميرا من بني حجر بن عمرو، ثم قتلهم في دير بني مرينا -بين دير هند والكوفة- وإن كانت هناك رواية أخرى تذهب إلى أن المنذر قد لحق بالحارث في أرض كلب، فهرب الحارث تاركا ماله وإبله فانتهبها المنذر، وأسر ثمانية وأربعين من بني آكل المرار -من بينهم عمرو ومالك ولدى الحارث- فأمر المنذر بهم فقتلوا في ديار بني مرينا2، على أن رواية ثالثة تذهب إلى أن الذين قتلوا الحارث إنما هم بني كلب، بينما تذهب رواية رابعة إلى أنه مات حتف أنفه بعد مطاردة لتيس من الظبا، دامت ثلاثة أيام، حتى إذا ما تمكن منه شويت له بطنه، فأكل فلذة حارة من كبده فمات، ثم دفن في "بطن عاقل"3 وإن ذهب "أوليندر"4 إلى أن هناك   1 تاريخ الطبري 2/ 101-103، حمزة الأصفهاني: المرجع السابق ص17، سعد زغلول: المرجع السابق ص222-223، جواد علي 3/ 342، وانظر: John Malalas, Xviii, Col.653 وكذا Caussin De Perceval, Op. Cit., Ii, P.79-85 وكذا G. Olinder, Op. Cit., P.65-6 2 ابن الأثير 1/ 512-513، إيليا حاوي: امرؤ القيس ص8-9، تاريخ الأمم الإسلامية 1/ 31، سعد زغلول: المرجع السابق ص223، وكذا P.K. Hitti, Op. Cit., P.85 3 ابن الأثير 1/ 513، أبو الفداء 1/ 74، الأغاني 8/ 62، العقد الفريد 3/ 77، نهاية الأرب 15/ 406، صحيح الأخيرا 1/ 45، أيام العرب في الجاهلية ص46، جواد علي 3/ 344-345، وكذا وكذا G. Olinder, Op. Cit., 68. وكذا A. Musil, Op. Cit., P.350 4 جواد علي 3/ 345، وكذا G. Olinder- Op. Cit., P.68 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 551 اضطرابا في الرواية العربية بين "حجر" الذي دفن ببطن عاقل1، وبين حفيده الحارث. وأيا ما كان الصواب في موت الحارث الكندي، فمما لا شك فيه أن ذلك المصير التعس الذي لقيه الرجل، ومن أسر من أهل بيته، إنما كان ضربة في الصميم وجهت إلى دولة كندة، وسرعان ما دب الشقاق فيها، فانحلت عراها بعد أن قتل أبناء الحارث واحدا بعد الآخر، وعاد إلى حضرموت من أهل كندة، هؤلاء الذين هاجروا من قبل إلى وسط شبه الجزيرة العربية. ويبدو أن المنذر اللخمي لم يرضه ما ناله من بني الحارث الكندي، ولم يقتنع بما آل إليه أمرهم بعد موت أبيهم، إذ تفرقت كلمتهم، ومشت الرجال بينهم، وتفاقم أمرهم حتى جمع كل واحد منهم لصاحبه الجموع، وزحف إليه بالجيوش، وكان المنذر من وراء ذلك كله، حتى أنه وجه إلى "سلمه" بهدايا، ثم دس إلى "شرحبيل" من قال له: "إن سلمة أكبر منك، وهذه الهدايا تأتيه من المنذر"، وما زال المنذر يغري كل واحد منهما بمحاربة الآخر، حتى نشبت الحرب بينهما، في يوم عرف بين العرب "بيوم الكلاب الأول"، أعلن كل فيه من الأخوين عن جائزة مقدارها مائة من الإبل لمن يأتيه براس أخيه، وكان يوما عصيبا اشتدت فيه الحرب حتى آخر النهار، وانتهى بقتل "شرحبيل"2. ويذهب الرواة إلى أن "سلمة" سرعان ما أخرجه بنو تغلب من بينهم، فلجأ إلى بني بكر بن وائل، ثم انضم بنو تغلب إلى المنذر اللخمي، الذي بذل الجهد -كل الجهد- لطرد سلمه من ديار بني بكر، وانضوائهم تحت لوائه، إلا أن جهوده ذهبت أدراج الرياح، ومن ثم فقد مصمم على غزوهم، بل وذبحهم -إذ ظفر بهم- على قمة أوارة، حتى يبلغ دمهم سفح الجبل، وهكذا كان "يوم أوارة الأول"، حيث اقتتل الفريقان قتالا شديدا، وانتهت المعركة بهزيمة   1 عاقل واد قريب من الرس، ولا يزال بهذا الاسم إلى يومنا هذا، غير أنه يقال له العاقلي "صحيح الأخبار 1/ 45" أو هو ماء لبني أبان بن درام من وراء القريتين، او جبل كان يسكنه حجر "البكري 9123" 2 ابن الأثير 1/ 549-552، المحبر ص370، البكري 4/ 1132، ياقوت 4/ 472-473، نهاية الأرب 1/ 406، صحيح الأخبار 1/ 44-45، العقد الفريد 6/ 78، 5/ 222، تاريخ اليعقوبي 1/ 217، 225، ابن خلدون 2/ 274، أيام العرب في الجاهلية ص47-48، بلوغ الأرب 2/ 72، جرجي زيدان: المرجع السابق ص227-228. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 552 بكر، وأسر "يزيد بن شرحبيل الكندي"، فأمر المنذر بقتله، مع جمع كبير من بكر1. وأما الابن الثالث "معد يكرب" فقد ظل بعد موت أبيه الحارث الكندي رئيسا على "قيس عيلان"، إلا أن الأحزان كانت قد هدت قواه بعد مقتل أخوية "شرحبيل وحجر" وبعد موت "سلمه" فاعتراه وسواس هلك به2. وأما رابع الأخوة "حجر بن الحارث" من زوجه "فطام بنت سلمة" فقد قتل أول إخوته، وإن كنا قد أخرنا قصته لنربط بينها وبين قصة ولده الشاعر المشهور "امرؤ القيس"، وحجر هذا، هو أكبر أبناء الحارث وأعظمهم جاها، ومن ثم فقد انتقل إليه عامة ملك كندة، ولعل هذا هو السبب في أن بعض الباحثين يرون أن حجرا قد قام بغارة على اللخميين بعد وفاة أبيه الحارث، أملا في أن يسترجع ما فقده أبوه، وأن يعيد نفوذ كندة، كما كما على عهد الحارث3، إلا أن الحملة لم يكتب لها نصيبا من نجاح. وعلى أي حال، فلقد أثرت كل هذه الأحداث على دولة كندة، فعملت على إضعاف ملوكها وتضعضع نفوذهم، فكانت البداية تتمثل في خروج بني أسد على حجر، فامتنعوا عن أداء الإتاوة التي كان قد فرضها عليهم من قبل، ومن ثم فقد خرج عليهم حجر من تهامة -حيث كان يقيم- على رأس جيش كبير، وما أن وصل إلى ديار بني أسد في جنوب جبلي طيئ "أجأ وسلمى، ويعرفان اليوم بجبل شمر على جانبي وادي الرمة"، حتى قتل الكثير من أشرافهم، كما أخذ بعضا منهم -وعلى رأسهم عمرو بن مسعود الأسدي، والشاعر عبيد بن الأبرص- أسرى إلى تهامة، مما ترك أثرا سيئا في نفوس القوم، فعقدوا العزم على الانتقام- وما لبثوا   1 ابن الأثير 1/ 552-553، أيام العرب في الجاهلية ص99. 2 تاريخ ابن خلدون 2/ 274، المحبر ص370، عبد العزيز سالم: المرجع السابق ص423. 3 المفضليات ص429، 423، جواد علي 3/ 350، وكذا G. Olinder, Op. Cit., P.7 وكذا T. Noldeke, Funf Mo' Allaqat, I, P.80 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 553 أن نفذوا وعيدهم، وقتلوا الرجل1. وهناك رواية تذهب إلى أن حجرا لما علم أنه ميت، كتب وصيته ثم دفعها إلى رجل، أمره أن ينطلق إلى أكبر أولاده "نافع"، فإن بكى وجذع فليذهب إلى غيره، وهكذا حتى يصل إلى أصغرهم وهو امرؤ القيس، فإن لم يجزع دفع إليه الوصية، وتستطرد الرواية إلى أن الرجل إنما وجد امرأ القيس في "دمون" من أرض اليمن، يلعب النرد ويشرب الخمر مع بعض رفاقه، فلما دفع إليه الرسالة لم يجزع، وإنما سأل الرحل عن أمر أبيه كله، فلما أخبره بما حدث، انتوى الثأر قائلا: "الخمر والنساء على حرام، حتى أقتل من بني أسد مائة، وأطلق مائة"، ثم قال قولته المشهورة: "ضيعني صغيرا، وحملني دمه كبيرا، لا صحوا اليوم ولا سكر غد، اليوم خمر، وغدا أمر"2. وامرؤ القيس هذا، هو أصغر أولاد "حجر بن الحارث الكندي" من زوجه "فاطمة بنت ربيعة بن الحارث بن زهير التغلبية" وأخت "مهلهل وكليب بن وائل" على رأي3، و"تملك بنت عمرو بن زبيد بن مذجح" رهط عمرو بن يعد يكرب، على رأي آخر،4، وإن ذهب البعض إلى أن ذلك إنما كان لقبًا لها، وقد سمت العرب نساءها "تملك"5، ويعرف امرؤ القيس بالملك الضليل، وبذى القروح6،   1 ابن الأثير 1/ 514-515، الأغاني 2/ 63، 9/ 81، تاريخ اليعقوبي 1/ 217، خزانة الأدب 1/ 159 وما بعدها، المحبر ص370، تاريخ ابن خلدون 2/ 274، أيام العرب في الجاهلية ص112-114، شعراء النصرانية ص598، الشعر والشعراء ص50-51، محمد صالح سمك: أمير الشعراء في العصر القديم ص24-25، وانظر: ديوان عبيد بن الأبرص ص138-139، ثم قارن: ابن حزم: جمهرة أنساب العرب ص427 "دار المعارف 1962م". 2 ابن الأثير 1/ 515-516، نهاية الأرب 3/ 26، ياقوت 3/ 7، الأغاني 9/ 85-86 "دار الكتب المصرية"، أيام العرب في الجاهلية ص115-116، البكري 2/ 557، الهمداني: صفة جزيرة العرب ص85. 3 الأغاني 8/ 60، ابن الأثير 1/ 516، الشعر والشعراء ص57، تاريخ اليعقوبي 1/ 217، وكذا Ei, Ii, P.477 4 الأغاني 8/ 61، وكذا G. Olinder, Op. Cit., P.95 5 عمر فروخ: تاريخ الجاهلية ص92. 6 ابن كثير: البداية والنهاية 2/ 219، الأغاني 8/ 61، الشعر والشعراء ص50، خزانة الأدب للبغدادي 3/ 432، العمدة لابن رشيق 1/ 41-42، 97، وانظر: محمد فريد أبو حديد: الملك الضليل، القاهرة 1944، وكذا G. Olinder, Op. Cit., P.95 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 554 ويتجه بعض الباحثين إلى أنه قد ولد في حوالي عام "500م"1، وتوفي في أنقرة في أثناء عودته من القسطنطينية، فيما بين عام 530، 540م2، وإن ذهب البعض إلى أنه توفي في عام 565م3. وقد اختلف الباحثون في معتقد امرئ القيس الديني، فذهب البعض إلى أنه إنما كان وثنيا، شأنه في ذلك شأن معظم الجاهليين، كما كان يقسم بالقداح جريا على عادة الوثنيين، فضلا عن أن اسمه "امرؤ القيس" إنما يعني "مولى قيس"، وهو صن جاهلي، ولكن اللفظة إنما تعني كذلك "الشدة والبأس"، ومن ثم فالتسمية فروسية وليست دينية4، وذهب فريق آخر إلى إنما كان يعتنق المزدكية، بدليل إقباله على الملذات بطريقة تشبه أنصار المزدكية، وأن جده الحارث كان كذلك -كما أشرنا من قبل- غير أن خلق الشاعر العربي واعتزازه بشرفه، فضلا عن تمتعه بالصيد والقنص، ونذره قتل مائة من بني أسد، قد يتعارض مع اعتناقه المزدكية التي تحرم تلك الأشياء، وإن كان هذا لا يمنع من القول بأنها قد أثرت فيه، وبخاصة في جانب الإباحية والتهتك في طلب اللذة5. هذا إلى أن هناك من يرى أن الشاعر الكبير إنما كان نصرانيا، اعتمادا على خلو شعره من الشرك إلى حد كبير، وإقراره بالوحدانية، وذكره لأمور كثيرة خلو شعره من الشرك إلى حد كبير، وإقراره بالوحدانية، وذكره لأمور كثيرة خاصة بالنصارى، وانتشار النصرانية في كندة، ثم طلبه العون من القيصر النصراني، وأخيرا نصرانية أمه فاطمة أخت المهلهل، غير أن الإقرار بالوحدانية لا يعني اعتناق النصرانية، فقد يكون الرجل يهوديا، كما أن نصرانية أمه لا تستدعي بالضرورة نصرانيته هو، وأما التجاؤه للقيصر النصراني؛ فلأنه الباب الوحيد المفتوح أمامه، بعد أن سدت في وجهه كل سبل العون من الأكاسرة، فضلا عن أعدائه أمراء   1 G. Olinder, Op. Cit., P.95 2 Encyclopaedia Of Islam, Ii, P.477 3 صحيح الأخبار 1/ 16. 4 إيليا حاوي: امرؤ القيس ص24-26، رئيف خوري: امرؤ القيس، بيروت 1934 ص37-38. 5 إيليا حاوي: المرجع السابق ص26-27، رئيف خوري: المرجع السابق ص38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 555 الحيرة1. وعلى أي حال، فإن الروايات العربية تذهب إلى أن حجرا قد طرد ولده امرئ القيس، وأصر على أن لا يقيم معه، أنفة من قوله الشعر، على غير عادة أبناء الملوك، فضلا عن التغزل بالنساء غزلا، ربما كان غير بريء في كثير من الأحايين، بل إن البعض قد ذهب إلى أن الأمر قد وصل بامرئ القيس إلى أن يتغزل بامرأة من نساء أبيه، وهكذا أخذ امرؤ القيس يسير في أحياء العرب، ومعه أخلاط من شذاذ العرب، يشرب الخمر على الغدران، ويتغزل في النساء، وظل كذلك حتى أتاه خبر مقتل أبيه، فأقسم ألا يأكل لحما، ولا يشرب خمرا، ولا يدهن بدهن، ولا يصيب امرأة، ولا يغسل رأسه من جنابة حتى يدرك ثأره2. على أنه هناك من يرى أنه ليس في التاريخ الثابت ما يدل على أن أباه قد طرده من منزله، ولا أنه كان يوم مقتل أبيه يشرب الخمر في دمون، وإنما كان مع إخوته وأعمامه في المعركة التي قتل فيها أبوه، ثم فر منها معهم، حتى عيره بذلك شاعر بني أسد "عبيد بن الأبرص"3. وأيا ما كان الأمر، فلقد جد امرؤ القيس في أن يأخذ بثأر أبيه -بعد أن فشل أعمامه وإخوته في ذلك- ومن ثم فقد نزل بكر وتغلب، وسألهم النصر على بني أسد، وحين أجابه القوم إلى سؤاله، بث العيون على بني أسد، فعلم أنهم قد لجئوا إلى بني كنانة، ومن ثم فقد بدأ هجومه على بني كنانة -وهو يظنهم بني أسد- إلا أن القوم سرعان ما أخبروه أن بني هجومه على بني كنانة -وهو يظنهم بني أسد- إلا أن القوم سرعان ما أخبروه أن بني أسد قد ساروا بالأمس، فأسرع إليهم حتى إذا ما أدركهم أنزل بهم هزيمة قاسية، أدرك بها ثأره، ومن ثم فقد أبت بكر وتغلب   1 لويس شيخو: شعراء النصرانية 1/ 38-39، محمد صالح سمك: أمير الشعراء في العصر القديم ص211-214، إيليا حاوي: المرجع السابق ص27-33. 2 ابن الأثير 1/ 515-516، الشعر والشعراء لابن قتيبة 1/ 51-52، الأغاني 8/ 65، العمدة 1/ 41-42، إيليا حاوي: المرجع السابق ص38-82، معجم الشعراء للمزرباني ص9، وكذا G. Olinder, Op. Cit., P.96 3 عمر فروخ: تاريخ الجاهلية ص93، وكذا Gunner Olinder, The Kings Of Kindah, Of The Family Of Akil Al-Mirar, Lund, P.96. 1927, الجزء: 1 ¦ الصفحة: 556 أن تستمر في القتال بعد ذلك1. كان من المنتظر أن يستنجد امرؤ القيس بملوك اليمن من حمير، ولكننا نعلم أن ملك اليمن إنما كان وقت ذاك بيد الأحباش، ولم يكن للحبشة -ولا للروم من ورائهم- مصلحة في مساعدة امرئ القيس على الطلب بثأر أبيه؛ لأن المستعمر لا يأبه لأهل خدمته إلا إذا كانوا أقويا؛ لأنه يريدهم ليدافعوا عنه، لا ليدافع عنهم2، وهكذا اضطر امرؤ القيس إلى أن يطوف بقبائل العرب يستنصرها على قتله أبيه، فمنهم من كان يقف إلى جانبه، ومنهم من كان يرفض مساعدته خشية بني أسد، وخوفا من إغضاب المناذرة والفرس3، بخاصة وأن المنذر بن ماء السماء كان يسعى للإيقاع بامرئ القيس، الأمر الذي لم يكن له به طاقة، وكذا القبائل التي كان يرجو مساعدتها4. وأخيرا قرر امرؤ القيس أن يذهب إلى القسطنطينية ليستنجد بملك الروم، وقد دفعته حاجته إلى المال إلى أن يذهب إلى تيماء، وأن يرهن سلاحه ودروعه عن السموأل، أن أنه إنما تركها هناك وديعة عند الشاعر اليهودي5، الذي كتب له كتابا إلى الحارث بن أبي شمر الغساني، يطلب إليه فيه أن يتوسط لشاعر كندة عند الإمبرطور الروماني، ليساعده على الانتقام من قتلة أبيه، وخاصة وأن ملوك الحيرة، وهم   1 ابن الأثير 1/ 516-517، أيام العرب في الجاهلية ص116-120، نهاية الأرب 3/ 25، تاريخ ابن خلدون 2/ 274-275، إيليا حاوي: امرؤ القيس ص17-21، تاريخ اليعقوبي 1/ 217-219، الشعر والشعراء 1/ 52، 58. 2 عمر فروخ: تاريخ الجاهلية ص93. 3 أيام العرب في الجاهلية ص120-121، رئيف خوري: إمرئ القيس ص27، محمد مبروك نافع: عصر ما قبل الإسلام ص120، تاريخ اليعقوبي 1/ 219-220. 4 تاريخ ابن خلدون 2/ 275، الأغاني 9/ 91 "دار الكتب"، رئيف خوري: امرؤ القيس ص27 5 يذهب الباحثون إلى أن السمؤال بن عاديا شاعر يهودي الديانة مقره حصن الأبلق في غرب تيماء "طبقات فحول الشعراء ص235، الأغاني 19/ 98، وكذا Ei, 4, P.133." ولكنهم اختلفوا في جنسيته، فجعله بعضهم يهوديا من سلالة هارون بن عمران، وجعله آخرون عربيا غسانيا "الأمثال للميداني 2/ 276، المشرق، العدد 3 عام 1909م ص162، الاشتقاق 2/ 436، المحبر ص349، تاريخ الأمم الإسلامية 1/ 41، عبد الرحمن الأنصاري: المرجع السابق ص82، عبد اللطيف الطيباوي المرجع السابق ص14، P.K. Hitti, Op. Cit., P.107." الجزء: 1 ¦ الصفحة: 557 عمال الفرس أعداء الروم، قد مدوا لهم يد العون1. ويصل امرؤ القيس إلى القسطنطينية، ويستقبله الأمبراطور "جستنيان" "527-565م" استقبالا حسنا، وإن لم يقدم له المساعدة المطلوبة، فالنجدة التي طلبها امرؤ القيس كبيرة جدا، والجيش الرومي لم يكن مستعدا للقتال في الصحراء، ثم إن الغاية التي جاء من أجلها امرؤ القيس -وهي الأخذ بثأر رجل واحد- كانت بعيدة عن سياسة الروم ومألوفهم، فضلا عن أن الإمبراطورية الرومانية كانت مهددة بهجمات البرابرة، ومن ثم فالإمبراطور في حاجة إلى الدفاع عن إمبراطوريته نفسها2. وهناك رواية تذهب إلى أن الإمبراطور جستنيان قد أكرم امرأ القيس، وأصبحت للشاعر الكندي منزلة رفيعة عنده، وأنه كان يدخل معه الحمام، وأن امرأ القيس قد أحب ابنة القيصر وأنه كان يأتيها وتأتيه، فبلغ ذلك بني أسد، فأرسلوا رجلا منهم يدعى "الطماح"، وصل في وقت سير فيه القيصر مع امرئ القيس جيشا كثيفا، وهنا أعلم الطماح القيصر بقصة ابنته مع امرئ القيس، وأن الأخير قد قال فيها أشعارا أشهرها بها في العرب، فبعث القيصر إلى امرئ القيس بحلة مسمومة، ثم مات في أنقرة، حيث دفن بجوار قبر امرأة من بنات الملوك، في سفح جبل يقال له "عسيب"3. ويعترض الدكتور عمر فروخ على غضبة القيصر بسبب اتصال امرئ القيس بابنته، ويرى أن تلك رواية إسلامية متأخرة، وأن الحياة في البلاط الرومي مخالفة لما استنتجه المؤرخ المسلم، وأن الصلات الجنسية هناك أمرا مألوفا، حتى أن القياصرة   1 أبو الفداء 1/ 75، الأغاني 8/ 68-70، تاريخ اليعقوبي 1/ 220، المحبر ص349، الشعر والشعراء ص59-60، تاريخ ابن خلدون 2/ 276، ياقوت 4/ 124-125، محمد مبروك نافع: المرجع السابق ص120، سعد زغلول المرجع السابق ص237، محمد الخضري: المرجع السابق ص41. 2 عمر فروخ: تاريخ الجاهلية ص94. 3 ابن الأثير 1/ 518-519، الأغاني 8/ 141، الشعر والشعراء ص53، 61-63، أيام العرب في الجاهلية ص122-123، ابن خلدون 2/ 276، ياقوت 4/ 124-125، جواد علي 3/ 360، اليعقوبي 1/ 220، آمال المرتضى 1/ 591، إيليا حاوي: المرجع السابق ص21-22، وكذا P.K. Hitti, Op. Cit., P.85-86 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 558 كانوا يولون ويعزلون في ميادين الخيل، وفي مخادع النساء1، والرأي عندي أن تفسير الأمور بهذه البساطة وتوجيه التهم للآخرين أمر غير مقبول في البحث العلمي، ثم إن القيصر، ما أظن أنه كان على المستوى الخلقي الذي ذهب إليه الدكتور فروخ، فإذا أضفنا إلى ذلك أنه هو نفسه يرى أن الغساسنة -وهم أقوى بكثير من امرئ القيس وأهم منه بالنسبة للروم- لم يكونوا إلا جباة ضرائب للروم من العرب2، فضلا عن أن امرأ القيس، في ظروفه التي قدم من أجلها إلى القسطنطينية، لا يعدو أن يكون مستجيرا بالقيصر يطلب عونه في الأخذ بثأره، وفي أحسن الأحوال لاسترجاع ملكه، ليكون بعد ذلك صنيعة للروم، وفي كل ذلك ليس هناك ما يدعو القيصر لغض النظر عن فعلته هذه، إن كانت قد حدثت، وهذا ما نشك فيه؛ لأننا لا نملك دليلا واحدا على حدوثها، غير الروايات العربية، وما أكثر ما في هذه الروايات من جنوح إلى الخيال، حتى لو كان هذا الخيال، يتعارض مع الشرف، كما في روايتهم عن عملوق في جديس3، والفيطون في يثرب4، وابن عم بلقيس في سبأ5، ولختيعة أيم ذى نواس6، وعتودة مولى أبرهة الحبشي7، وغير ذلك من الروايت الخيعة، والتي تعد رواية ابنة القيصر وامرئ القيس، هينة بسيطة بالنسبة إليها. أضف إلى ذلك أن هناك رواية أخرى تذهب إلى أن "الطمح الأسدي" قد اتصل بجماعة من رجال القيصر بعد خروج امرئ القيس مع الجيش الذي أعانه به القيصر ليأخذ بثأره، وطلب منهم أن يبلغوا القيصر: "إن العرب قوم غدر، ولا نأمن أن يظفر امرؤ القيس بما يريد، ثم يغزوك بمن بعثت معه"8، كما أن الحلة   1 عمر فروخ: تاريخ الجاهلية ص94. 2 نفس المرجع السابق ص68. 3 ابن الأثير 1/ 352-354، تاريخ الطبري 1/ 629-632، مروج الذهب 2/ 111-119، تاريخ ابن خلدون 2/ 24-25. 4 ابن الأثير 1/ 656-658، السمهودي: وفاء الوفا 1/ 629-632، ابن خلدون 2/ 287، 289، ياقوت 84-87، الدرر الثمينة ص327، الاشتقاق ص270. 5 تاريخ الخميس ص276، ابن الأثير 1/ 232-233. 6 ابن هشام 1/ 31-32، ابن الأثير 1/ 425-426، تاريخ الطبري 2/ 118-119، المحبر ص268. 7 تاريخ الطبري 2/ 128-129، ابن الأثير 8/ 432-433. 8 ابن قتيبة: الشعر والشعراء ص46، الأغاني 8/ 70، جواد علي 3/ 371، إيليا حاوي: امرؤ القيس ص21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 559 المسمومة التي زعم الرواة أنها كانت سبب وفاة امرئ القيس، ينفيها أن هناك رواية أخرى تزعم أنه كان مصابا بداء قديم كان مستكنا، ثم اتفق أن هاج في ديار الروم، ومن ثم فإنهم ينسبون إلى امرئ القيس أنه قال: "تأويني دائي القديم فغلسا"، وأن الدكتور فروخ نفسه، إنما يفترض أنه مات بالجدري في أنقرة زمن الشتاء القارص1. وأيا ما كان الأمر، فلقد مات امرؤ القيس، وانقطع آخر أمل في استعادة "بني آكل المرار" لملكهم في كندة، وأسرع الحارث بن أبي شمر الغساني، على رواية، والحارث بن ظالم على رواية أخرى، وبأمر من المنذر ملك الحيرة، إلى السموأل بن عاديا في حصنه الأبلق في تيماء، وطالبه بدروع امرئ القيس، وما تكر عنده من ودائع، غير أن السموأل أبى التفريط في دروع الشاعر الكندي وودائعه، ومن ثم فقد ذبح ابنه أمام عينيه2، على أن هناك من يشك في نسب السموأل أولا، وفي صحة قصته مع امرئ القيس ثانيا، ويرى "هوجوفنكلر" أن قصة الوفاء هذه أسطورة استمدت مادتها من سفر صموئيل الأول، ومن الأساطير العربية التي تحدثت عن الوفاء3. وهكذا انتهت أول محاولة في داخل بلاد العرب لتوطيد مجموعة من القبائل حول سلطة مركزية واحدة، لها زعيم واحد، الأمر الذي لم ينجح إلا على يد مولانا وسيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبصورة منقطعة النظير، ثم سرعان ما عادت عشائر كندة إلى الجنوب، حيث ساد منهم "قيس بن معد يكرب" ثم ابنه "الأشعث" الذي وفد إلى المصطفى -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في ستين   1 عمر فروخ: تاريخ الجاهلية ص94. 2 ابن الأثير 1/ 519، تاريخ ابن خلدون 2/ 275، الأغاني 19/ 99، نهاية الأرب 1/ 136، ياقوت الحموي: معجم البلدان 3/ 442: أمراء غسان ص22، محمد بن سلام الجمحي: المرجع السابق ص235، سعد زغلول: المرجع السابق ص237، جواد علي 3/ 377-378، المحبر ص349، ديوان الأعشي ص126. 3 الأغاني 19/ 98، الاشتقاق ص259، جواد علي 3/ 378، وكذا H. Winckler, Arabisch-Semitisch, In Mavg, 1901, P.112 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 560 أو سبعين من أشراف كندة، فأسلموا على يديه الشريفتين في المدينة المنورة1، وعلى أي حال، فلقد تكونت بعد نهاية دولة بني آكل المرار، إمارة كندية في حضرموت، فضلا عن إمارات أخرى حكمها أمراء صغار، لا تتجاوز سلطة الواحد منهم مدينة أو واديا، وأشهرها تلك كانت في دومة الجندل والبحرين ونجران وغمر ذى كندة2.   1 يذهب ابن خلدون إلى أن الأشعب قد ارتد في عهد أبي بكر، غير أنه قد هزم بعد ذلك، ثم جئ به إلى المدينة أسيرا، فمن الخليفة عليه وزوجه أخته وخرج من نسله بنو الأشعث المذكورون في الدولة الأموية "تاريخ ابن خلدون 2/ 276". 2 جواد علي 3/ 378، 382، المحبر ص370، جرجي زيدان: المرجع السابق ص228، سعد زغلول: المرجع السابق ص237، وكذا P.K. Hitti, Op. Cit., P.86 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 561 المراجع المختارة المراجع العربية ... المراجع المختارة أولا: المراجع العربية 1- القرآن الكريم. 2 صحيح البخاري. 3 صحيح مسلم. 4- التوراة. 5- ابن الأثير "عز الدين أبو الحسن علي الشيباني": الكامل في التاريخ. "الجزء الأول والثاني" - بيروت 1965. 6- ابن العبري "أبو الفرج جريجورس بن هارون الملطي": تاريخ مختصر الدول - بيروت 1958. 7- ابن الكلبي "أبو المنذر هشام بن محمد": كتاب الأصنام -الدار القومية - القاهرة 1965. 8 ابن النديم "أبو الفرج محمد بن إسحاق": كتاب الفهرست - القاهرة 1348هـ. 9- ابن بلهيد "محمد بن عبد الله": صحيح الأخبار عما في بلاد العرب من الآثار "خمسة أجزاء" - القاهرة 1951-1953. 10- ابن تيمية "أحمد بن عبد الحليم": مقدمة في أصول التفسير -دمشق 1936. 11- ابن تيمية "أحمد بن عبد الحليم": مجموع فتاوي ابن تيمية "الأجزاء من 1 إلى 35" - الرياض 1381-1383هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 563 12- ابن حبيب "أبو جعفر محمد بن أمية بن عمرو الهاشمي": كتاب المحبر -حيدر أباد الدكن 1942. 13- ابن حجر العسقلان "أحمد بن علي": فتح الباري بشرح صحيح البخاري القاهرة 1380هـ. 14- ابن حجر العسلاني "أحمد بن علي": الإصابة في تمييز الصحابة - القاهرة 1939. 15- ابن حزم "أبو محمد علي بن أحمد": جمهرة أنساب العرب - القاهرة 1962. 16- ابن خلدون "عبد الرحمن بن محمد": مقدمة ابن خلدون - القاهرة 1957. 17- ابن خلدون "عبد الرحمن بن محمد": تاريخ ابن خلدون - بيروت 1971. 18- ابن دريد "أبو بكر محمد بن الحسن": الاشتقاق "جزءان" - القاهرة 1958. 19- ابن رسته "أبو علي أحمد بن عمر": الأعلاق النفيسة - ليدن 1892. 20- ابن سعد "أبو عبد الله محمد بن سعد بن منيع الزهري": الطبقات الكبرى - الجزء الأول - القاهرة 1968. 21- ابن عبد ربه "أبو عمر أحمد بن محمد الأندلسي": العقد الفريد - القاهرة 1953. 22- ابن قتيبة "أبو محمد عبد الله بن مسلم الدينوري": المعارف - القاهرة 1934. 23- ابن قتيبة "أبو محمد عبد الله بن مسلم": عيون الأخبار "4 أجزاء" - القاهرة 1963. 24- ابن قتيبة "أبو محمد عبد الله بن مسلم": الشعر والشعراء "جزءان" - بيروت 1964. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 564 25- ابن كثير "عماد الدين أبو الفداء إسماعيل": البداية والنهاية في التاريخ "الأجزاء 1-4" بيروت 1966. 26- ابن كثير "عماد الدين أبو الفداء إسماعيل": قصص الأنبياء "جزءان" - القاهرة 1968. 27- ابن كثير "عماد الدين أبو الفداء إسماعيل": تفسير القرآن العظيم "ثمانية أجزاء" - القاهرة 1971-1974. 28 ابن منظور "أبو الفضل محمد بن مكرم": لسان العرب - بيروت 1955. 29- ابن هشام "أبو محمد عبد الملك بن أيوب الحميري": سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- القاهرة 1325هـ. 30- أبو الفداء "الملك المؤيد عماد الدين إسماعيل": المختصر في أخبار البشر- الجزء الأول - القاهرة 1325هـ. 31- إيليا حاوي: امرؤ القيس - بيروت 1970. 32- الدكتور أحمد إبراهيم الشريف: مكة والمدينة في الجاهلية وعصر الرسول، القاهرة 1965. 33 أحمد السباعي: تاريخ مكة - الجزء الأول - مكة المكرمة 1387هـ. 34- أحمد أمين: فجر الإسلام - بيروت 1969. 35- أحمد بن عبد الحميد العباسي: عمدة الأخبار في مدينة المختار - القاهرة. 36- أحمد حسين شرف الدين: اللغة العربية في عصور ما قبل الإسلام - القاهرة 1975. 37- الدكتور أحمد فخري: اليمن ماضيها وحاضرها - القاهرة 1957. 38- الدكتور أحمد فخري: معبد المساجد ببلاد مراد "المؤتمر الثالث للآثار في البلاد العربية المنعقد في فاس في نوفمبر 1959" - القاهرة 1961. 39- الدكتور أحمد فخري: دراسات في تاريخ الشرق القديم - القاهرة 1963. 40- الدكتور أحمد فخري: مصر الفرعونية - القاهرة 1971. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 565 41- الدكتور إسرائيل ولفنسون: تاريخ اليهود في بلاد العرب - القاهرة 1927. 42- الدكتور إسرائيل ولفنسون: تاريخ اللغات السامية - القاهرة 1929. 43- الأصفهاني "أبو الفرج علي بن الهيثم": الأغاني - القاهرة 1929. 44- الأصفهاني "الحسن بن عبد الله": بلاد العرب: تحقيق حمد الجاسر، وصالح العلي - الرياض 1968. 45- الأصفهاني "حمزة بن الحسن": تاريخ سني ملوك الأرض والأنبياء - برلين 1340هـ. 46- الأزرقي "أبو الوليد محمد بن عبد الله": أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار "جزءان" - بيروت 1969. 47- الألوسي "السيد محمود شكري": بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب "3 أجزاء" - القاهرة 1924-1925. 48- الألوسي" أبو الفضل شهاب الدين السيد محمود": روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني - القاهرة. 49- البكري "أبو عبيد، عبد الله بن عبد العزيز" معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع "4 أجزاء" - القاهرة 1945-1951. 50- البلاذري "أحمد بن يحيى": فتوح البلدان، "3 أجزاء" - القاهرة 1957. 51- البلاذري "أحمد بن يحيى": أنساب الأشراف - القاهرة 1959. 52- البيضاوي "ناصر الدين أبو الخير عبد الله بن عمر": أنوار التنزيل وأسرار التأويل "جزءان" - القاهرة 1968. 53 - البيهقي "أبو بكر أحمد بن الحسين": دلائل النبوة - الجزء الأول - القاهرة 1970. 54 - الجاحظ "أبو عثمان عمرو بن بحر": البيان والتبيين - القاهرة 1948. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 566 55- الجمحي "محمد بن سلام": طبقات فحول الشعراء - تحقيق محمود محمد شاكر - القاهرة 1952. 56- الحربي "أبو إسحاق إبراهيم": كتاب المناسك وأماكن طرق الحج ومعالم الجزيرة - الرياض 1969. 57- الديار بكري "حسين بن محمد الحسن": تاريخ الخميس في أنفس نفيس - القاهرة 1302هـ. 58- الدينوري "أبو حنيفة أحمد بن داود" الأخبار الطوال - تحقيق عبد المنعم عامر، مراجعة الدكتور جمال الدين الشيال القاهرة 1960. 59- الزبيدي "أبو الفيض مرتضى بن محمد": تاج العروس - الكويت. 60- الزبير بن بكار: جمهرة نسب قريش - تحقيق محمود محمد شاكر - القاهرة 1381هـ. 61- الزركشي "بدر الدين محمد بن عبد الله": البرهان في علوم القرآن - القاهرة 1957. 62- الزمخشري "أبو القاسم جاد الله محمود بن عمر": الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل - القاهرة 1966. 63- السجستاني "الحافظ أبو بكر عبد الله بن أبي داود": كتاب المصاحف - صححه ونشره وكتب مقدمته الدكتور آرثر جفري - القاهرة 1966. 64- السمهودي "نور الدين علي" وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى "جزءان" - القاهرة 1326هـ. 65- السمهودي "نور الدين علي": خلاصة الوفا بأخبار دار المصطفى - المدينة المنورة 1972. 66- السهيلي "عبد الرحمن بن عبد الله":الروض الأنف - القاهرة 1971. 67- الدكتور السيد عبد العزيز سالم: دراسات في تاريخ العرب - الجزء الأول - عصر ما قبل الإسلام - الإسكندرية 1967. 68- السيوطي "جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر": المزهر في علوم اللغة - القاهرة 1942. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 567 69- السيوطي "جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر": الاتفاق في علوم القرآن "جزءان" - القاهرة 1278هـ. 70- السيوطي "جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر": الدر المنثور في التفسير بالمأثور - طهران 1377هـ. 71- الطبرسي "أبو علي الفضل بن الحسن": مجمع البيان في تفسير القرآن - بيروت 1961. 72- الطبري "أبو جعفر محمد بن جرير": تاريخ الرسل والملوك "الأجزاء 1-4" - دار المعارف - القاهرة 1967-1969. 73- الطبري "أبو جعفر محمد بن جرير": جامع البيان عن تأويل آي القرآن - دار المعارف - القاهرة 1957-1969. 74- العمري "شهاب الدين بن فضل الله": مسالك الأبصار في ممالك الأمصار - الجزء الأول - نشره وحققه أحمد زكي باشا - القاهرة 1924. 75- الفاسي "أبو الطيب تقي الدين محمد بن أحمد": شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام "جزءان" القاهرة 1956. 76- الفاسي "أبو الطيب تقي الدين محمد بن أحمد": العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين - الجزء الأول - القاهرة 1959. 77- الفخر الرازي: أبو عبد الله محمد بن عمر بن حسين القرشي" التفسير الكبير - القاهرة. 78- الفيروز أبادي: "محمد بن يعقوب" القاموس المحيط - القاهرة 1955. 79- القرطبي: "أبو عبد الله محمد بن أحمد": الجامع لأحكام القاهرة - دار الشعب - القاهرة 1969-1970. 80- القلقشندي "أبو العباس أحمد بن علي": صبح الأعشى في صناعة الإنشا "14 جزءا" - القاهرة - 1913-1914. 81- القلقشندي "أبو العباس أحمد بن علي": نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب - القاهرة 1959. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 568 82- المسعودي "أبو الحسن علي بن الحسين": التنبيه والإشراف - القاهرة 1968. 83- المسعودي "أبو الحسن علي بن الحسين": أخبار الزمان - بيروت 1966. 84- المسعودي "أبو الحسن علي بن الحسين": مروج الذهب ومعادن الجوهر "الجزء الأول والثاني" - بيروت 1973. 85- المفضل بن محمد الضبي: المفضليات - دار المعارف - القاهرة 1952. 86- المقدسي "المطهر بن طاهر": كتاب البدء والتأريخ - الجزء الثالث والرابع - باريس 1903-1907. 87- الميداني "أبو الفضل أحمد بن محمد بن أحمد": مجمع الأمثال "جزءان" - القاهرة 1955. 88- النويري "شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب": نهاية الأرب في فنون الأدب "14 جزءا" - القاهرة 1943. 89- الهمداني "أبو محمد الحسن بن أحمد بن يعقوب": الإكليل - الجزء الأول - تحقيق محمد بن علي الأكوع - القاهرة 1963. 90- الهمداني "أبو محمد الحسن بن أحمد بن يعقوب": الإكليل - الجزء الثاني - تحقيق محمد بن علي الأكوع - القاهرة 1966. 91- الهمداني "أبو محمد الحسن بن أحمد بن يعقوب": الإكليل - الجزء الثامن - نشره: نبيه فارس - بغداد 1931. 92- الهمداني "أبو محمد الحسن بن أحمد بن يعقوب": الإكليل - الجزء العاشر - نشره: محب الدين الخطيب - القاهرة 1368هـ. 93- الهمداني "أبو محمد الحسن بن أحمد بن يعقوب": صفة جزيرة العرب - تحقيق: محمد بن علي الأكوع - الرياض 1974. 94- اليعقوبي "أحمد بن أبي يعقوب بن جعفر": تاريخ اليعقوبي - الجزء الأول والثاني - بيروت 1960. 95- أمين مدني: العرب في أحقاب التاريخ - الجزء الأول - التاريخ العربي وبدايته - القاهرة 1967. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 569 96- أمين مدني: العرب في أحقاب التاريخ - الجزء الثاني - التاريخ العربي ومصادره - القاهرة 1971. 97- جرجي زيدان: العرب قبل الإسلام - بيروت 1968. 98- جرجي زيدان: تاريخ التمدن الإسلامي - القاهرة 1922. 99- الدكتور جمال حمدان: أنماط من البيئات - القاهرة. 100- الدكتور جواد علي: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام "عشرة أجزاء" بيروت 1968-1971". 101- حاجي خليفة "مصطفى بن عبد الله": كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون - إستنبول 1321هـ. 102- حافظ وهبة: جزيرة العرب في القرن العشرين - القاهرة 1946. 103- حافظ وهبة: خمسون عاما في جزيرة العرب - القاهرة 1950. 104- الدكتور حسن إبراهيم: تاريخ الإسلام السياسي - الجزء الأول - القاهرة 1966. 105- الدكتور حسن ظاظا: الساميون ولغاتهم - الإسكندرية 1971. 106- حسين عب الله باسلامه: تاريخ الكعبة المعظمة - القاهرة 1964. 107- الدكتور خليل يحيى نامي: نشر نقوش سامية قديمة من جنوب بلاد العرب وشرحها - القاهرة 1943. 108- الدكتور خليل يحيى نامي: أصل الخط العربي وتطوره إلى ما قبل الإسلام مجلة كلية الآداب - جامعة القاهرة - العدد الأول - القاهرة 1935. 109- الدكتور خليل يحيى نامي: نقوش عربية - المجموعة الأولى - مجلة كلية الآداب - جامعة القاهرة - المجلد الأول - القاهرة 1947. 110- الدكتور خليل نامي: نقوش عربية - المجموعة الثانية - مجلة كلية الآداب - جامعة القاهرة - العدد السادس عشر - القاهرة 1954. 111- الدكتور خليل يحيى نامي، نقوش خربة معين - القاهرة 1952. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 570 112- الدكتور رشيد الناضوري: جنوب غربي آسيا وشمال إفريقيا- الكتاب الأول والثالث - بيروت 1968-1969. 113- رئيف خوري: امرؤ القيس- بيروت 1934. 114- الدكتور سامي أحمد: نظرة في جغرافية شبه جزيرة العرب- مجلة العرب - العدد السابع - الرياض 1969. 115- الدكتور سعد زغلول عبد الحميد: في تاريخ العرب قبل الإسلام - بيروت 1975. 116- سيد قطب: في ظلال القرآن - بيروت 1967-1970. 117- الدكتور صالح أحمد العلي: محاضرات في تاريخ العرب- الجزء الأول - بغداد 1959. 118- الدكتور صبري جرجس: التراث اليهودي الصهيوني- القاهرة 1970. 119- صلاح البكري: تاريخ حضرموت السياسي- الجزء الأول - القاهرة 1354هـ. 120- الدكتور صلاح الدين الشامي: المواني السودانية- القاهرة 1961. 121- طه باقر: مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة- الجزء الأول - بغداد 1955. 122- الدكتور طه حسين: في الشعر الجاهلي: القاهرة 1926. 123- الدكتور طه حسين: في الأدب الجاهلي: القاهرة 1933. 124- عباس العقاد: إبراهيم أبو الأنبياء- دار الهلال - القاهرة. 125- عباس العقاد: الثقافة العربية أسبق من ثقافة اليونان والعبريين - القاهرة 1960. 126- عباس العقاد: مطلع النور- أو طوالع البعثة المحمدية - دار الهلال - القاهرة 1968. 127- عباس العقاد: الإسلام دعوة عالمية- القاهرة 1970. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 571 128- عبد الحميد العبادي: صور من التاريخ الإسلامي- الإسكندرية 1948. 129- الدكتور عبد الحميد زايد: الشرق الخالد- القاهرة 1966. 130- الدكتور عبد الستار الحلوجي: مدخل لدراسة المراجع- القاهرة 1974. 131- عبد الرحمن البرقوقي: شرح ديوان حسان بن ثابت- القاهرة 1929. 132- الدكتور عبد الرحمن الأنصاري: لمحات عن القبائل البائدة في الجزيرة العربية- كلية الآداب- جامعة الرياض- الرياض 1969. 133- الدكتور عبد الرحمن الأنصاري: كتابات من قرية الفاو- مجلة كلية الآداب- جامعة الرياض- العدد الثالث- الرياض 1974. 134- الدكتور عبد الرحمن الأنصاري: لمحات عن بعض المدن القديمة في شمال غربي الجزيرة العربية- مجلة الدارة، العدد الأول - الرياض 1975. 135- عبد الرحمن فوده: من معاني القرآن - القاهرة. 136- الدكتور عبد العزيز صالح: الشرق الأدنى القديم - الجزء الأول - مصر والعراق - القاهرة 1973. 137- الدكتور عبد الفتاح شحاتة: تاريخ الأمة العربية قبل ظهور الإسلام- الجزء الثاني- القاهرة 1960. 138- عبد القدوس الأنصاري: بين التاريخ والآثار- بيروت 1969. 139- عبد القدوس الأنصاري: آثار المدينة المنورة- المدينة المنورة 1973. 140- الدكتور عبد اللطيف الطيباوي: محاضرات في تاريخ العرب والإسلام - الجزء الثاني- بيروت 1966. 141- عبد المجيد عابدين: بين الحبشة والعرب- دار الفكر العربي- القاهرة 1947. 142- الدكتور عبد المنعم ماجد: التاريخ السياسي للدولة العربية- الجزء الأول- القاهرة 1967. 143- عبد الوهاب النجار: قصص الأنبياء- القاهرة 1966. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 572 144- الدكتور علي حسني الخربوطلي: الكعبة على مر العصور- مجموعة اقرأ- القاهرة 1967. 145- الدكتور عبد الله حسن مصري: آثار شرق الجزيرة العربية ودورها في نشأة حضارة سومر -مجلة الدارة- العدد الأول -السنة الثانية- الرياض 1967. 146- الدكتور عمر فروخ: تاريخ الجاهلية- بيروت 1964. 147- فؤاد حمزة: قلب جزيرة العرب- الرياض 1968. 148- الأب لويس شيخو: شعراء النصرانية - الجزء الأول- بيروت 1890. 149- الأب لويس شيخو: النصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية- بيروت 1933. 150- الدكتور محمد أبو المحاسن عصفور: معالم تاريخ الشرق الأدنى القديم - الإسكندرية. 151- محمد أبو زهرة: القرآن، دار الفكر العربي، القاهرة 1970. 152- محمد أحمد جاد المولى وآخرون: أيام العرب في الجاهلية- القاهرة 1942. 153- الدكتور محمد السيد الذهبي: التفسير والمفسرون- القاهرة 1961. 154- الدكتور محمد السيد الذهبي: الإسرائيليات في التفسير والحديث- القاهرة 1971. 155- الإمام محمد بن عبد الوهاب: مختصر زاد المعاد- بيروت 1391هـ. 156- محمد الخضري: تاريخ الأمم الإسلامية- الجزء الأول- القاهرة 1376هـ. 157- محمد بن محمود النجار: الدرر الثمينة في تاريخ المدينة- القاهرة 1957. 158- الدكتور محمد بيومي مهران: التوراة "1" - مجلة الأسطول: العدد 63 - الإسكندرية 1970. 159- الدكتور محمد بيومي مهران: التوراة "2" - مجلة الأسطول، العدد 64 - الإسكندرية 1970. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 573 160- الدكتور محمد بيومي مهران: التوراة "3" - مجلة الأسطول، العدد 65 - الإسكندرية 1971. 161- الدكتور محمد بيومي مهران: التلمود - مجلة الأسطول، العدد 70 - الإسكندرية 1972. 162- الدكتور محمد بيومي مهران: دراسات في تاريخ الشرق الأدنى القديم - الجزء الثاني - إسرائيل - القاهرة 1973. 163- الدكتور محمد بيومي مهران: الساميون والآراء التي دارت حول موطنهم الأصلي - مجلة كلية اللغة العربية - العدد الرابع - الرياض 1974. 164- الدكتور محمد بيومي مهران: قصة الطوفان بين الآثار والكتب المقدسة - مجلة كلية اللغة العربية والعلوم الاجتماعية - العدد الخامس - الرياض 1975. 165- الدكتور محمد بيومي مهران: العرب وعلاقاتهم الدولية في العصور القديمة - مجلة كلية اللغة العربية والعلوم الاجتماعية - العدد السادس - الرياض 1976. 166- الدكتور محمد بيومي مهران: دراسات في تاريخ الشرق الأدنى القديم - الجزء الثالث - حركات التحرير في مصر القديمة - دار المعارف - القاهرة 1976. 167- الدكتور محمد بيومي مهران: دراسات في التاريخ القرآني - الجزء الأول - في بلاد العرب - "تحت الطبع - جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية". 168- محمد توفيق: آثار معين في جوف اليمن: منشورات المعهد الفرنسي للآثار الشرقية - القاهرة 1951. 169- محمد توفيق: نقوش خربة معين: منشورات المعهد الفرنسي للآثار الشرقية - القاهرة 1952. 170- الدكتور محمد حسين هيكل: حياة محمد صلى الله عليه وسلم - القاهرة 1970. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 574 171- محمد رشيد رضا: تفسير المنار - الهيئة المصرية العامة للكتاب - القاهرة 1973-1975. 172- الدكتور محمد عبد القادر: الساميون في العصور القديمة - القاهرة 1968. 173- الدكتور محمد عبد الله دراز: مدخل إلى القرآن الكريم - الكويت 1974. 174- محمد لبيب البتنوني: الرحلة الحجازية - القاهرة 1329هـ. 175- محمد مبروك نافع: تاريخ العرب - عصر ما قبل الإسلام - القاهرة 1952. 176- محمود أبو رية: أضواء على السنة المحمدية - القاهرة 1960. 177- محمود شاكر: شبه جزيرة العرب - الجزء الأول – عسير - بيروت 1976. 178- الدكتور محمود طه أبو العلا: جغرافية شبه الجزيرة الغربية - الجزء الأول - القاهرة 1965. 179- الدكتور محمود طه أبو العلا: جغرافية شبه الجزيرة العربية - الجزء الثالث والرابع - القاهرة 1972. 180- مصطفى السباعي: السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي - القاهرة 1961. 181- الدكتور مصطفى محمد حسنين: نظام المسئولية عند العشائر العراقية العربية المعاصرة القاهرة 1967. 182- الدكتور مصطفى محمد مسعد: الإسلام والنوبة في العصور الوسطى - القاهرة 1960. 183- مظهر علي الإرياني: في تاريخ اليمن - القاهرة 1973. 184- الدكتور ناصر الدين الأسد: مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية - القاهرة 1966. 185- الدكتور نجيب ميخائيل - مصر والشرق الأدنى القديم - الجزء الخامس - دار المعارف - الإسكندرية 1963. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 575 186- نزيه مؤيد العظم: رحلة في بلاد العرب السعيدة "جزءان" - القاهرة 1938. 187- نشوان بن سعيد الحميري: ملوك حمير وأقيال اليمن - القاهرة 1378هـ. 188- وهب بن منبه: كتاب التيجان في ملوك حمير - حيدر أباد الدكن 1347هـ. 189- ياقوت الحموي "شهاب الدين أبو عبد الله": معجم البلدان "خمسة أجزاء" بيروت 1955-1957. 190- يوسف أحمد: الإسلام في الحبشة - القاهرة 1935. 191- يوسف رزق الله غنيمة: الحيرة: المدينة والمملكة العربية - بغداد 1936. 192- قاموس الكتاب المقدس - الجزء الأول والثاني - بيروت 1964-1967. 193- مقدمتان في علوم القرآن - صححه ونشره آرثر جفري - القاهرة 1954 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 576 ثانيا: المراجع المترجمة إلى اللغة العربية 194- إدوار جيبون: اضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها، ترجمة محمد علي أبو ريدة - القاهرة 1969. 195- آرثر كريستنس: إيران في عهد الساسانيين، ترجمة الدكتور يحيى الخشاب - القاهرة 1957. 196- أرنولد ويلسون: الخليج العربي، ترجمة الدكتور عبد القادر يوسف - الكويت. 197- الويس موسل: شمال الحجاز، ترجمة الدكتور عبد المحسن الحسيني - الإسكندرية 1952. 198- اليزابيث مونرو: الجزيرة العربية بين البخور والبترول، ترجمة محمود محمود - مجلة الدارة - العدد الأول - السنة الثانية - الرياض 1976. 199- أ. ي. فنسنك: مفتاح كنوز السنة، ترجمة محمد فؤاد عبد الباقي - القاهرة 1934. 200- برنارد لويس: العرب في التاريخ، ترجمة نبيه فارس ومحمود يوسف - بيروت 1954. 201- تيودور نولدكه: أمراء غسان من آل جفنة، ترجمة قسطنطين زريق وبندلي خوري - بيروت 1933. 202- جاكين بيرين: اكتشاف جزيرة العرب، ترجمة قدري قلعجي - بيروت 1963. 203- جورج فضلو حوراني: العرب والملاحة في المحيط الهندي - ترجمه وزاد عليه الدكتور السيد يعقوب بكر - القاهرة 1958. 204- جون إلدر: الأحجار تتكلم، ترجمة الدكتور عزت زكي - القاهرة 1960. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 577 205- ديتلف نلسن وآخرون: التاريخ العربي القديم، ترجمه وزاد عليه الدكتور فؤاد حسنين - القاهرة 1958. 206- ريجيس بلاشير: تاريخ الأدب العربي - العصر الجاهلي - ترجمة الدكتور إبراهيم كيلاني - بيروت 1956. 207- رينيه ديسو: العرب في سورية قبل الإسلام - ترجمة عبد الحميد الدواخلي - القاهرة 1959. 208- سبتينو موسكاتي: الحضارات السامية القديمة، ترجمة وزاد عليه الدكتور السيد يعقوب بكر - القاهرة 1968. 209- فيليب حتى: تاريخ سورية ولبنان وفلسطين، الجزء الأول - ترجمة جورج حداد، وعبد الكريم رافق - بيروت 1958. 210- فيليب حتى: تاريخ العرب - الجزء الأول "مطول" - ترجمة إدوارد جرجي، جبرائيل جبور - بيروت 1965. 212- لانكستر هاردنج: آثار الأردن، ترجمة سليمان موسى - عمان 1965. 213- ول ديورانت: قصة الحضارة - الجزء الثاني - ترجمة محمد بدران - القاهرة 1961. 214- وندل فيليبس: كنوز مدينة بلقيس، قصة اكتشاف مدينة سبأ الأثرية في اليمن، ترجمة عمر الديرادي - بيروت 1961. 215- يوسبيوس القيصري: تاريخ الكنيسة، ترجمة مرقص داود - القاهرة 1960. 216- يوسفيوس: تاريخ يوسفيوس - دار صادر - بيروت. 217- دائرة المعارف الإسلامية - دار الشعب - القاهرة 1969. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 578 ثالثا: المراجع الأجنبية 218- Abbot (Nabia) , The Rise Of The North Arabic Scripts., Chicago, 1939 219- Abbot (Nabia) , Pre-Islamic Arab Queens, Ajsl, 58, 1941 220- Albright, (W.F.) , The Chronology Of Ancient South Arabia In The Light Of The First Campaign Of Excavation In Qataban, In Basor, 119, 1950 221- Albright, (W.F.) , The Chaldaean Inscriptions In Proto-Arabic Script, In Basor, 128, 1952, 222- Albright, (W.F.) , New Light On Early Recensions Of The Hebrew Bible, In Basor, 140, 1955 223- Albright, (W.F.) , A Note On Early Sabaean Chronology, In Basor, 143, 1956. 224- Albright, (W.F.) , From The Stone Age To The Christianity,N.Y., 1957 225- Albright (W.F.) , The Bible And The Ancient Near East, London, 1961 226- Altheim, (F.) And Stiehl (R.) , Die Araber In Der Alten Welt, Berlin, 1964-8 227- Amer, (M.) , The Ancient Trans-Peninsular Routes Of Arabia, Cairo, 1926 228- Anati, (E.) , Ancient Rock-Drawings In The Central Negev,Peq, April, 1955 229- Barton, (G.A.) , The Royal Inscriptions Of Sumer And Akkad, New Haven, 1924. 230- Barton, (G.A.) , Semitic And Hamitic Origins, London, 1934 231- Beeston, (A.F.L.) , Notes On The Muraighan Inscriptions, In Bsoas, 16, 1954. 232- Beeston, (A.F.L.) , Sculptures And Inscriptions From Shabwa, Injras, 1954 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 579 233- Beeston, (A.F.L.) , Problems Of Sabaean Chronology, In Basor, 16, 1954 234- Beeston, (A.F.L.) , Epigraphic South Arabian Calendares And Dating, London, 1956 235- Beeston (A.F.L.) , Epigraphic Archaeological Cleanings Frorr South Arabia, Oriens Antiquis, I, 1962 236- Beeston (A.F.L.) , A Descriptive Grammar Of Epigrapchic South Arabian, London, 1962 237- Beek (G.W. Van) , Recovering The Ancient Civilization Arabia, 1952 238- Belgrave (J.H.D.) , Welcome To Bahrain, London, 1965 239- Bell (R.) , The Origin Of Islam In Its Christian Environment, London, 1926 240- Bent (T.) And Mrs Bent, Southern Arabia, Sudan And Socotra, London, 1900. 241- Blachere (R.) , Introduction Au Coran, Paris, 1959 242- Blunt (Lady Anne) , A Pilgrimage To Najd, 2 Vols., London,.1883 243- Branden (A. Van Den) , Les Inscriptions Thamoudeens, Lou Vain, 1950 244- Branden (A. Van Den) , Une Inscriptions Thamoudeens, Le Museon, Lxiii, 1950. 245- Branden (A. Van Den) , Essai De Solution De Probleme Thamoudeens, Bior, 15, 1958 246- Bowen (R.L.) And Albright (F.) , Archaeological Discoveries In South Arabia, Baltimore, 1958 247- Burckbardt, (J.L.) , Travels In Syria And The Holy Land, London, 1822 248- Burckhardt (J.L.) , Travels In Arabia, London, 1829 249- Burton (R.F.) , Personal Narrative Of A Pilgrimage To El-Medina And Meccah, London, 1857 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 580 250- Burton (R.F.) , Royal Inscriptions Of Sumer And Akkad, London, 1929 251- Bury (J.B.) , A History Of The Eastern Roman Empire, The Fall Of Irene To The Accession Of Basil, I (802-867) , London, 1912 252- Bury (J.B.) , A History Of The Later Roman Empire, From Areadius To Irene (395-800) , 2 Vols., London, 1931 253- Buxton, (L.H.D.) , The People Of Asia, London, 1925 254- Cantineau (J.) , Le Nabat^En, 2 Vols., Paris, 1930, 1932 255- Cantineau (J.) , Inventaire Des Inscriptions De Palmyra, Paris, 1936 256- Cuassin De Perceval, Essai Sur L'histoire Des Arabes Avant L'islamisme, 3 Vols. Paris, 1847-8 257- Cook (S.A.) , In The Cambridge Ancient History, Iii, Cambridge 1965 258- Cooke (G.A.) , A Text-Book Of North-Semitic Inscriptions, Moabite, Hebrew, Phoenician, Aramaic, Nabataean, Palmyrene, Jewish, Oxford, 1903 259- Cooke (G.A.) , Palmyra, In Eb, 17, 1964 260- Caskel (W.) , Lihyan Und Lihyanisch, Koin, 1954 261- Cheesman (R.E.) , In Unknown Arabia, London, 1925 262- Conti Rossini (C.) 5 Expeditions Et Possessions Des Habasat En Arable, In Ja, 1921 263- Cornwall (P.B.) , Ancient Arabia, Explorations In Hasa, 1940-1941 264- Cornwall (P.B.) , On The Location Of Dihnun, In Boas, 103, 1946 265- Cornwall (P.B.) , Ancient Arabia, In Gj, Cvii, 1946 266- Cruttenden (C.J.) , Journey Of An Excursion To San'a, The Capital Of Yemen, Jrgsl, L, Iii, Bombay, 1838 267- De Gaury, (G.) , Rulers Of Mecca, London, 1951 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 581 268- De Gaury (G.) , Arabia Phoenix, London, 1940 269- Dhrome (E.) , Palmyra Dans Les Textes Assyriens, Rb, 1924 270- Dougherty (R.P.) , The Sealand Of Ancient Arabia, New Haven, 1932 271- Dougherty (R.P.) , Nabonidus And Belshazzar, New Haven, Ly^Y.1929 272- Doughty (C.m.) , Travels In Arabia Deserta, 2 Vols., N.Y.1946 273- Dozy (R.) , Die Israeliten Zu Mekka, 1864 274- Driver (G.R.) , Semitic Writing, London, 1954 275- Driver (S.R.) , An Introduction To The Literature Of The Old Testament, Edinburgh, 1950. , 276- Dussaud (R.) , Les Arabes En Syrie Avant Ltslam, Paris,.1907 277- Dussaud (R.) , La Penetration Des Arabes En Syrie Avant L'lslam, Paris, 1955. 278- Daniel (G.) , The First Civilisations, The Archaeology Of Their Origins, London, 1968 279- Epstein (I.) , Judaism, (Penguin Books) , 1970 280- Fakhry (A.) , An Archaeological Journey To Yemen, 3 Vols.Cairo, 1952 281- Field (H.) , Ancient And Modern Man In Southwestern Asia, Coral Gables, 1956. 282- Field (H.) , Racial Types From South Arabia, 1936 283- Fleisch (H.) , Introduction A L'etude Des Langues Semitiques, Paris, 1947 284- Finegan (J.) , Light From The Ancient Past, The Archaeological Background From Judaism And Christianity, I, Princeton, 1969 285- Forster (C) , The Historical Geography Of Arabia, 2 Vols.London الجزء: 1 ¦ الصفحة: 582 286- Friedlander, The Jews Of Arabia And The Rechabites, In Jqr, 1910-1911 287- Gadd (C.J.) , The Harran Inscriptions Of Nabonidus, Anatolian Studies 8, 1958. 288- Ganneau (C) , Les Nabatiens En Egypte, 1924 289- Gardiner (A.H.) , Egypt Of The Pharaohs, Oxford, 1964 290- Garnett (E.) , Passage From Arabia Deserta, London, 1949 291- Glob (P.V.) , Archaeological Investigation In Four Arab States, 1959 292- Gibbon (E.) , The Decline And Fall Of The Roman Empire, London, 1950 293- Glueck (N.) , The Other Side Of The Jordan, New Haven, 1945 294- Glueck (N.) , The Story Of Nabataeans, N.Y., 1965 295- Glueck (N.) Explorations In Eastern Palestine, Iii, New Haven, 1939 296- Glueck (N.) The Excavations Of Solomon's Seaport, Eziongeber, Siar, 1941, 297- Goitein (S.D.) Jews And Arabes, N.Y., 1955 298- Goldziher (I.) , History Of Classical Arabic Literature, 1966 299- Grant (C.P.) , The Syrian Desert, London, 1947 300- Gray (J.) , Near Eastern Mythology, N.Y., 1969 301- Grohman (A.) , Arabien, Munchen, 1963. 302- Guillaume (A.) , Islam, (Penguin Books) , 1964 303- Guillaume (A.) , Prophecy And Divination Among The Hebrews And Other Semites, London, 1938 304- Hastings (J.) , Dictionary Of The Bible, Edinburgh, 1936 305- Hastings (J.) , Encyclopaedia Of Religion And Ethics, Edinburgh, 1908-1921 306- Halevy (J.) , Rapport Sur Une Mission Archeologique Dans Le Yemen, Ja, Vi, Paris, 1872 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 583 307- Hamilton (R.A.B.) , Six Weeks In Shabwa, In Gj, 1942 308- Hamilton (R.A.B.) , Archaeological Sites In The Western Aden Protectorate, Gj, 101, 1943 309- Hardings (G.) , Some Thamudic Inscription From The Hashmite Kingdom Of The Jordan, Leiden, 1952 310- Hill (G.) , Catalogue Of The Greek Coins Of Arabia, Mesopotamia And Persia, London, 1922 311- Hirschfeld (H.) , Essai De L'histoire Des Juives De Medine, Revue Etudes Juives 7, 1883 312- Hitti (P.K.) , History Of The Arabs, London, 1960 313- Hogarth (D.G.) , The Penetration Of Arabia, London, 1922 314- Hogarth (D.G.) , A History Of Arabia, Oxford, 1922 315- Hommel (F.) , Explorations In Arabia, Philadelphia, 1903 316- Hornell (J.) , Sea-Trade In Early Times, In Antiquity, 15,.1941 317- Horovity (J.) , Judaeo-Arabic Relations In Pre-Islames Times, Ic, Iii, 1929 318- Huber (C) , Voyage Dans L'arabie Centrale, Paris, 1885 319- Hunt (G.) , Himyaric Inscriptions Of Hisn Ghurab, 1848 320- Huart (C) , Une Nouveue Source Du Koran, Paris, 1904 321- Huart (C) , Histoire Des Arabes, 2 Vols., Paris, 1912-1913 322- Huzayyin (S.A.) , Arabia And The Far East, Cairo, 1942 323- Ingramz (H.) , Arabic And The Isles, London, 1942 324- Jamme (A.) , A New Chronology Of The Qatabanian Kingdom, Basor, 120, 1950. 325- Jamme (A.) , South Arabian Inscription, Princeton, 1955 326- Jamme (A.) , Thamudic Studies, Washington, D.C., 1967 327- Jamme (A.) , A New Sabaean Inscription From South Arabia, 1968 328- Jamme (A.) , Sabaean Inscriptions From Mahram Bilqis (Marib) , Baltimore, 1961. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 584 329- Jamrae (A.) ,La Dynastie Des Sharahbi'll Yakuf Et La Docu- Mentation Epigraphique Sud-Arabe, Istanbul, 1961 330- Jamme (A.) , Sabaean Rocki Inscriptions From Qaryat Al-Faw, Washington. 1973. 331- Jaussen (A.J.) And Savignac (R.) , Mission Archeologique En Arable, 4 Vols., Paris, 1904, 1911, 1914, 1920 332- Jones (A.H.M.) And Monroe (E.) , A History Of Abyssinia, Oxford, 1965 333- Kammerer (A.) , Petra Et La Nabatene, Paris, 1929 334- Kappers (C.U.A.) , An Introduction To The Anthropology Of The Near East In Ancient And Recent Times, Amesterdam, 1934 335- Katsh (A.T.) , Judaism In Islam, N.Y., 1954 336- Keller (W.) , The Bible As History (Hodder And Stoughton) , 1967 337- Kennedy (A.B.W.) , Petra, Its History And Monuments, London, 1925 338- Kensdale (E.N.) , Three Thamudic Inscriptions From The Nile Deltra, Le Museon, 65, 1952 339- Lammens (H.) Le Berceau De 1'islam, Rome, 1914 340- Lammens (H.) , Farabie Occidental Avant Fhegire, Beyrouth, 1928 341- Levi Delia Vida, Pre-Islamic Arabia, Princeton, 1944 342- Littmann (E.) , Nabataen Inscriptions From The Southern Hauran, 1914 343- Littmann (E.) ; Nabataen Inscriptions From Egypt, Bsoas,1953 344- Littmann (E.) , Safitic Inscriptions, Leyden, 1943 345- Littmann (E.) , Thamud And Safa, Leipzig, 1940 346- Lods (A.) , Israel, From Its Beginnings To The Middle Of The Eighth Century, London, 1962 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 585 347- Luckenbill (D.D.) , Ancient Records Of Assyria And Babylonia, Chicago, 1927. 348- Malamat (A.) The Last Wars Of The Kingdom Of Judah, Jnes, 9, 1950 349- Margoliouth (D.S.) , The Origins Of Arabic Poetry, Jras, 1925 350- Margoliouth (D.S.) , Lectures On Arabic Historians, Calcutta, 1930 351- Margoliouth (D.S.) , The Relations Between Arabs And Israelites Prior To The Rise Of Islam, London, 1924 352- Masry (A.H.) , Prehistory In Northeastern Arabia, The Problem Of Interregional Interaction, Miami, Florida, 1974 353- Moberg (A.) , The Book Of The Himyarites, Lund, 1924 354- Monroe (E.) , Arabia, From Incense To Oil, In Addarah, I, Riyadh,1976 355- Montagne (R.) , La Civilisation Du Desert, Paris, 1947 356- Montgomery (J.A.) , Arabia And The Bible, Philadelphia,1934 357- Moritz (B.) , Arabien, Hanover, 1923 358- Moscati (S.) , The Semites In Ancient History, Cardiff, 1959 359- Moscati (S.) , Ancient Semitic Civilizations, London, 1957 360- Moss (G.) , Jews And Judaism In Palmyra, Pefq, 60, 1928 361- Muelen (Van Der) And Wissmann (Hermann Von) , Hadramaut, Some Of Its Mysteries Unveiled, Leiden, 1964 362- Musil (A.) , The Northern Hegas N.Y, 1926 363- Musil (A.) , The Middle Euphrates, N.Y., 1927 364- Musil (A.) , The Northern Nejd, N.Y., 1928 365- Musil (A.) , Palmyrena, N.Y., 1928 366- Musil (A.) , In The Arabia Desert, N.Y., 1930 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 586 367- Nicholson (R.A.) , A Literary History Of The Arabs, Cambridge, 1962 368- Niebuhr (C) , Description De 1'arabic, Paris, 1779 369- Noldeke (D.) , Semitic Languages, Eb, 24, 1911 370- Noth (M.) , The History Of Israel, London, 1965 371- Oesterlcy (W.O.E.) And Robinson (T.H.) , A History Of Israel, 2 Vols., Oxford, 1932 372- O'leary (De Lacy D.D.) , Arabia Before Muhammad, London, 1927 373- Olmstead (A.T.) , Ahistory Of Assyria, Chicago, 1933 374- Olinder (G.) , The Kings Of Kindah, Of The Family Of Akil Al-Mirar, Lund, 1927. 375- Oppenheim (A.L.) , Babylonian And Assyrian Historical Texts, Anet, 1966 376- Palgrave (W.G.) , Observation Made In Centeral, Eastern And Southern Arabia, Jrgs, 34, 1864 377- Palgrave (W.G.) , Travels In Arabia, London, 1865 378- Parr (P.J.) , And Others, Preliminary Survey In N.W. Arabia, 1968 379- Parr (L.W.) , An Introduction To The Anthropology Of The A Near East, Amesterdam, 1934 380- Philby (J.B.) , The Heart Of Arabia, 2 Vols., London, 1922 381- Philby (J.B.) , The Empty Quarter, N.Y., 1933 382- Philby (J.B.) , Arabian Highlands, N.Y., 1952 383- Philby (J.B.) , The Land Of Midian, Mej, 9, 1955 384- Philby (J.B.) , Sheba's Daughters, London, 1939 385- Philby (J.B.) , The Last Ruins Of Quraiya, Gj, Cxvii, 1951 386- Philby (J.B.) - The Land Of Sheba, Gj, 92, 1938 387- Philby (J.B.) , The Background Of Islam, Alexandria, 1947 388- Philby (J.B.) , Three New Inscriptions From Hadhramaut, Jas, 1954 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 587 389- Philby (J.B.) , South Arabian Chronology, Le Museon, Lxii, 1949 390- Phiiby (J.B.) , Qataban And Sheba, London, 1955 391- Philby (J.B.) , Saudi-Arabia, London, 1955 392- Pirenne (J.) , A La Decouverte De L'arabie, Paris, 1958 393- Pirenne (J.) , La Grece Et Saba, Paris, 1955 394- Pirenne (J.) , Le Royaume Sud-Arabe Des Qataban Et Sa Datation, Louvain, 1961. 395- Pliny, Natural History, Trans, By H. Rackham, London, 1954-7 . 396- Ptolemy, Geographia, Edited By C.F. Nobbe, 3 Vols, Leipzig, 1843-1845 397- Rawbinson (G.) The History Of Herodotus, 2 Vols., London, 1929 398- Renan (E.) , Histoire Generale Et Systeme Compare Des Langues Semitiques, Paris, 1855 399- Rice (D.T.) , The Oxford Excavation At Hira, In Aj, I 400- Rostovtzeff (M.) F Caravan Cities, Oxford, 1932 401- Roth (C) , A Short History Of The Jewish People, London, 1969. 402- Ryckmans (G.) , Inscriptions Sud-Arabes, Le Museon, Xii, 1942 403- Ryckmans (G.) , Publication Of The Inscriptions, Iii, 1951 404- Ryckmans (G.) , On Some Problems Of South Arabian Epigraphy, Bsoas, 1952. 405- Ryckmans (J.) , Chronologie Sabeenne, Orients Antiquis, Iii, 1964 406- Sanger (R.H.) , The Arabian P Ainsula, Cornell University Press, 1954 407- Schort (W.) , The Periplus Of The Erythraean Sea, London, 1912 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 588 408- Scott (H.) , In The High Yemen, London, 1947 409- Sedilbot (L.B.) , Histoire Generaie Des Arabs, Paris, 1877 410- Smith (S.) , Events In Arabia In The 6th Century A.D., Bsoas, 1954 411- Smith (W.) , A Dictionary Of The Bible, 3 Vols. London 412- Smith (W.R.) , Kinship And Marriage In Early Arabia, London, 1907 413- Smith (W.R.) , Lectures On The Religion On The Semites, London, 1927 414- Shahid (I.) , Pre-Islamic Arabia, In Chi, I, Cambridge, 1970 415- Sprenger (A.) , Das Leben Und Die Lehre Des Mohammad, Berlin, 1861 416- Sprenger (A.) , The Campaign Of Aelius Gallus, Jras, London, 1873 417- Stark (R.F.) , An Exploration In The Hadhramaut And Journey To Coast, In Gj, Xciii, 1939 418- Starcky (J.) , The Nabataeans, A Historical Sketch, Ba, 18, 1955 419- Strabo, The Geography Of Strabo, Trans, By H.L. Jones, 8 Vols., London, 1949. 420- Tarn (W.W.) , Ptolemy Ii And Arabia, Jea, 15, 1929 421- Thesiger (W.) , Arabian Sands, N.Y., 1959 422- Thomas (Betram) , Arabia Felix, Across The Empty Quarter Of Arabia, N.Y., 1932. 423- Thompson (G. Caton) , Climate, Irrigation And Early Man In The Hadhramaut, Gj, 93, 1939 424- Thompson, (G. Caton) , The Tombs And Moon Temple Of Hureidha, Hadhramaut, Oxford, 1944 425- Twitcheh (K.S.) , Saudi Arabia With An Account Of DevelopMent Of Its Natural Resources, Princeton, 1943 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 589 426- Unger (M.F.) , Unger.htm's Bible Dictionary, Chicago, 1970 427- Vincent (W.) The Periplus Of The Erythraean Sea, London, 1805 428- Warrell (F.W.) , A Study Of Races In Ancient Near East, Cambridge, 1927 429- Watt (W.M.) , Muhammad At Mecca, Oxford, 1953 430- Wellhausen (J.) , Reste Arabischen Heidentums, Berlin, 1927 431- Wilson, (A.) The Persian Gulf, London, 1928 432- Winckler (H.) , Musri, Meluhha, Main, Mvg, I, Berlin, 1898 433- Winnett (F.V.) And Reed (W.) , Ancient Records From North Arabia, Toronto, 1970 434- Winnett (F.V.) , A Study Of The Lihyanite And Thamudic Inscriptions, Toronto, 1937 435- Winnett (F.V.) , Notes On The Lihyanite And Thamudic Inscriptions, Le Museon, 51, 1938 436- Wissmann (H. Von) And Hofner (M.) , Beitr&Ge; Zur Historischen Geographie Des Vorislamischen Sudarabien, Wiesbaden, 1953 437- Wright (E.) , The Bible And The Ancient Near East, N.Y., 1965 438- Wright (E.) , An Account Of Palmyra And Zenibia With Travels And Adventures In Bashan And Desert, 1896 439- Woolley (L.) The Beginnings Of Civilization, N.Y., 1965 440- Encyclopaedia Biblica 441- Encyclopaedia Britannica 442- Encyclopaedia Of Religion And Ethics 443- Encyclopaedia Of Islam 444- The Jewish Encyclopaedia الجزء: 1 ¦ الصفحة: 590 اختصارات Abbreviations ADAJ Annals Of The Department Of Antiquities Of Jordan. AJA American Journal Of Archaeology. AJSL American Journal Of Semitic Languages And Literatures AFSM The American Foundation For The Study Of Man. ANET Ancient Near Eastern Texts. BA The Biblical Archaeologist. BASOR Bulletin Of The American Schools Of Oriental Research. BHFAO Bulletin De I'lnstitut Francais D'archeoiogie Orientale Du Caire. BSOAS Bulletin Of The Schools Of Oriental And African Studies. CAH The Cambridge Ancient History. CHI The Cambridee History Of Islam. DB ictionary Of The Bible. CIS Corpus Inscriptionum Semiticarum. DI Dictionary Of Islam. EB Encyclopaedia Biblica. EI Encyclopaedia Of Islam. ERE Encyclopaedia Of Religion And Ethics. GJ Geographical Journal. IC Islamic Culture JA Journal Asiatique. JAOS Journal Of The American Orientale Society. JAECE Journal Of The American Research Center In Egypt. JBR Journal Of Bible And Religion. JA The Jewish Encyclopaedia. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 591 JEA The Journal Of Egyptian Archaeology. JESHO Journal Of Economic And Social History Of The Orient. JNES Journal Of Near Eastern Studies. JRAS Journal Of The Royal Asiatic Society. JRGS Journal Of The Royal Geographical Society. JQR Jews Quarterly Review. KTB Katabanische Texte Zur Bodenwirtschaft. MEJ The Middle East Journal. MVG Mitteilungen Der Vorderstatischen Gesellschaft. BEFQ Palestine Exploration Fund Quarterly. BSBA Proceeding Of The Society Of Biblical Archaeology. REI Revue Des Etudes Islamiques. REJ Revue Des Etudes Juives. RHR Revue De L.htm'histoire Des Religions. UJE The Universal Jewish Encyclopaedia. ZDMG Zeitschrift Der Deutschen Morgenlandischen Gesellschaft. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 592 فهرس الموضوعات الموضوع الصفحة تقديم 3 الفصل الأول: مصادر التاريخ العربي القديم 22 أولا: المصادر الأثرية 22 ثانيا: المصادر غير العربية 62 1- الكتابات اليهودية 62 2- كتابات الرحالة اليونان والرومان 82 3- الكتابات المسيحية 23 ثالثا: المصادر العربية 33 1- القرآن الكريم 33 2- الحديث 37 3- كتب التفسير 38 4- كتب السير والمغازي 40 5- الأدب الجاهلي 41 6- كتب اللغة 46 7- كتب التاريخ والجغرافية 47 الفصل الثاني: تاريخ البحث العلمي في العصر الحديث في التاريخ العربي القديم 53 أولا: في جنوب شبه الجزيرة العربية 54 ثانيا: في شمال شبه الجزيرة العربية 76 ثالثا: في شرق شبه الجزيرة العربية 77 الفصل الثالث: جغرافية شبه الجزيرة العربية 81 1- موقع بلاد العرب 81 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 593 الموضوع الصفحة 2- التقسيم اليوناني والروماني لبلاد العرب: العربية الصحراوية - العربية 82 الصخرية - العربية السعيدة 3- التقسيم العربي: اليمن - تهامة - الحجاز - نجد - العروض 85 4- مظهر السطح: الحرار - الدهناء - النفود 93 5- التضاريس: الجبال - الأنهار والأودية 97 6- المناخ 105 7- الموارد الطبيعية: المعادن - النبات - الحيوان 107 8- طرق القوافل 117 الفصل الرابع: لفظة العرب: مدلوها وتطورها التاريخي 121 كلمة العرب: أصلها والآراء التي دارت حولها، مدلولها وتطورها التاريخي، رأي الإسلام الفصل الخامس: العرب البائدة 137 أولا: طبقات العرب 137 ثانيا: العرب البائدة 144 1- عاد 145 2- ثمود 146 3- طسم وجديس 147 4- أميم 153 5- عبيل 154 6- جرهم 155 7- العمالقة 156 8- حضوراء 162 9- المديانيون 170 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 594 الفصل السادس: بلاد العرب فيما قبل العصر التاريخي 173 أسبقية الحضارة العربية، الهجرات العربية إلى الحبشة، آثار ما قبل التاريخ، الحضارة العربية وعلاقتها بحضارة العبيد في العراق القديم، بلاد العرب موطن الساميين، الهجرات العربية إلى مصر والشام والعراق القديم الفصل السابع: دولة معين 189 1- معين والمعينيون 189 2- عصر دولة معين 194 3- ملوك معين 198 4- أهم المدن المعينية 205 الفصل الثامن: دولة حضرموت 209 - موقع حضرموت، حضرموت في الكتابات الكلاسيكية، تاريخ حضرموت - أهم مدن حضرموت 215 الفصل التاسع: دولة قتبان 219 موقع قتبان، قتبان في الكتابات الكلاسيكية، عصر دولة قتبان، عصور التاريخ القتباني، أهم مدن قتبان. الفصل العاشر: دولة سبأ 231 1- سبأ 231 2- السبئيون والآراء التي دارت حول موطنهم الأصلي 233 3- أدوار التاريخ السبئي 239 أ- عصر المكاربة 241 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 595 الموضوع الصفحة ب- عصر ملوك سبأ 254 جـ- عصر ملوك سبأ وذي ريدان 266 4- دويلات أوسان وسمعاي وأربع وجبان ومهأمر 292 الفصل الحادي عشر: عصر الدولة الحميرية 299 أهم سمات العصر الحميري، الحميريون في الكتابات الكلاسيكية، ملوك حمير. - الاحتلال الحبشي لليمن 329 - اليمن في العهد الحبشي 335 - حركة التحرير والسيطرة الفارسية 343 الفصل الثاني عشر: مكة المكرمة 349 1- مكة: نشأتها وتطورها 349 2- مكة في عصر قصي 357 3- مكانة مكة 372 الفصل الثالث عشر: المدينة المنورة 383 يثرب: نشأتها وتطورها 1- سكان المدينة المنورة 389 - اليهود 389 - العرب 406 2- غلبة الأوس والخزرج على يهود يثرب 424 3- من مدن الحجاز: 431 1- الطائف 431 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 596 الموضوع الصفحة 2- تيماء 433 3- دومة الجندل 435 4- الحجر "مدائن صالح" 438 الفصل الرابع عشر: الأنباط 441 أصل الأنباط والآراء التي دارت حوله، الخط النبطي وأثره في الخط العربي، الكتابات النبطية: علاقة الأنباط بخلافاء الإسكندر الأكبر. - ملوك الأنباط 454 - البتراء 466 الفصل الخامس عشر: اللحيانيون 469 الفصل السادس عشر: التدمريون 477 1- مدينة تدمر وتطورها التاريخي 477 2- أذينة 484 3- الزباء 489 الفصل السابع عشر: الغساسنة 503 - ملوك الغساسنة 508 الفصل الثامن عشر: المناذرة 517 1- مدينة الحيرة 517 2- ملوك الحيرة 520 الفصل التاسع عشر: مملكة كندة 537 1- كندة قبل عهد الملكية 537 2- ملوك كندة 541 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 597 للمؤلف أولا: في التاريخ المصري القديم 1- الثورة الاجتماعية الأولى في مصر الفرعونية - الإسكندرية 1966. 2- مصر والعالم الخارجي في عصر رعمسيس الثالث - الإسكندرية 1969. 3- حركات التحرير في مصر القديمة - دار المعارف - القاهرة 1976. "وهو الجزء الثالث من سلسلة دراسات في تاريخ الشرق الأدنى القديم" 4- أخناتون: عصره ودعوته - تحت الطبع. "وهو الجزء الرابع من سلسلة دراسات في تاريخ الشرق الأدنى القديم". ثانيا: في تاريخ اليهود القديم 1- دراسات في تاريخ اليهود القديم - التوراة "1" - مجلة الأسطول، العدد 63 الإسكندرية 1970. 2- دراسات في تاريخ اليهود القديم - التوراة "2" - مجلة الأسطول، العدد 64 الإسكندرية 1970. 3- دراسات في تاريخ اليهود القديم "3" - مجلة الأسطول، العدد 6 الإسكندرية 1970. 4- قصة أرض الميعاد بين الحقيقة والأسطورة 1 - مجلة الأسطول، العدد 66 الإسكندرية 1971. 5- قصة أرض الميعاد بين الحقيقة والأسطورة 2 - مجلة الأسطول، العدد 67 الإسكندرية 1971. 6- النقاوة الجنسية عند اليهود - مجلة الأسطول، العدد 68 - الإسكندرية 1971. 7- اخلاقيات الحرب عند اليهود - مجلة الأسطول، العدد 69 - الإسكندرية 1971. 8- التلمود - مجلة الأسطول، العدد 70 - الإسكندرية 1972. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 599 9- إسرائيل - القاهرة 1973. "وهو الجزء الثاني من سلسلة دراسات في تاريخ الشرق الأدنى القديم" 10- النبوة والأنبياء عند بني إسرائيل - مع المقارنة بالنبوة في القرن الكريم - تحت الطبع. ثالثا: في تاريخ العرب القديم: 1- الساميون والآراء التي دارت حول موطنهم الأصلي مجلة كلية اللغة العربية - العدد الرابع - الرياض 1974. 2- العرب وعلاقاتهم الدولية في العصور القديمة. مجلة كلية اللغة العربية والعلوم الاجتماعية - جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية - العدد السادس - الرياض 1976. 3- العرب والفرس في العصور القديمة. مجلة الدارة - العدد الثاني - السنة الثالثة - الرياض 1977. 4- مركز المرأة في الحضارة العربية القديمة مجلة كلية العلوم الاجتماعية - جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية - العدد الأول - الرياض 1977 5- دراسات في تاريخ العرب القديم "أصدرته جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية - تحت رقم "1" من المكتبة التاريخية" - الرياض 1977. 6- دراسات في التاريخ القرآني - الجزء الأول: في بلاد العرب - "جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية - تحت الطبع". 7- دراسات في الحضارة العربية القديمة - تحت الطبع. رابعا: في تاريخ العراق القديم: 1- قصة الطوفان بين الآثار والكتب المقدسة. مجلة كلية اللغة العربية والعلوم الاجتماعية - العدد الخامس - الرياض 1975م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 600